تفسير الماوردي = النكت والعيون

الماوردي

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لدينه القويم ومن علينا بكتابه المبين، وخصه بمعجز دل على تنزيله، ومنع من تبديله، وبين به صدق رسوله، وجعل ما استودعه على نوعين: ظاهراً جلياً وغامضاً خفياً يشترك الناس في علم جلية ويختص العلماء بتأويل خفية حتى يعم الإعجاز، ثم يحصل التفاضل والامتياز. ولما كان ظاهر الجلي مفهوما بالتلاوة، وكان الغامض الخفي لا يعلم إلا من وجهين: نقل واجتهاد جعلت كتابي هذا مقصورا على تأويل ما خفي علمه، وتفسير ما غمض تصوره وفهمه، وجعلته جامعاً بين أقاويل السلف والخلف، وموضحاً عن المؤتلف والمختلف، وذاكراً ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل، عبرت عنه بأنه محتمل، ليتميز ما قيلب مما قلته ويعلم ما استخرج مما استخرجته. وعدلت عما ظهر معناه من فحواه اكتفاء بفهم قارئه وتصور تالية، ليكون أقرب مأخذاً وأسهل مطلباً. وقدمت لتفسيره فصولا، تكون لعمله أصولا، يستوضح منها ما اشتبه تأويله، وخفي دليله، وأنا أستمد الله حسن معونته، وأسأله الصلاة على محمد وآله وصحابته.

أسماء القرآن سمى الله القرآن في كتابه بأربعة أسماء: أحدها: القرآن، قال الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا الْقُرآنَ}. والثاني: الفرقان قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}. والثالث: الكتاب قال الله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}. والرابع: الذكر قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ}. فأمَّا تسميته بالقرآن ففيه تأويلان: أحدهما: وهو قول عبد الله بن عباس، مصدر من قولك قَرَأْتُ أي بينت، استشهاداً بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأَناهُ فَاتِّبِعْ قُرْآنَهُ} يعني إذا بيناه فاعمل به.

والتأويل الثاني: وهو قول قتادة، أنه مصدر من قولك قرأت الشيء، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض، لأنه آي مجموعة، مأخوذ من قولهم: ما قرأت هذه الناقة سلى قط، أي لم ينضم رحمها على ولد، كما قال عمرو بن كلثوم: (تريك إذا دخلت على خلاء ... وقد أمنت عيون الكاشحينا) (ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنبينا) أي لم تضم رحما على ولد، ولذلك سمي قرء العدوة قرءاً لاجتماع دم الحيض في الرحم. فأما تسيمته بالفرقان، فلأن الله عز وجل فرق بين الحق والباطل، وهو قول الجماعة، لأن أصل الفرقان هو الفرق بين شيئين. وأمَّا تسميته بالكتاب، فلأنه مصدر من قولك كتبت كتابا، والكتاب هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة ومتفرقة، وسمي كتاباً وإن كان مكتوباً، كما قال الشاعر: (تؤمل رجعة مني وفيها ... كتاب مثل ما لصق الغراء) يعني مكتوبا، والكتابة مأخوذة من الجمع من قولهم: كتبت السقاء، إذا جمعته بالخرز قال الشاعر: (لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسياد) وأما تسميته بالذكر، ففيه تأويلان: أحدهما: أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده، وعرفهم فيه فرائضه وحدوده. والثاني: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به، وصدق بما جاء فيه، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني أن شرف له ولقومه.

أما التوارة، فإن الفراء يجعلها مشتقة من قولهم: وري الزند إذا خرج ناره، يريد أنها ضياء. وأما الزبور، فإنه مشتق من قولهم: زَبَرَ الكتاب يزبُره إذا كتبه، ومنه قول الشاعر: (عرفت الديار كرقم الكتا ... ب يزبره الكاتب الحميري) وأما الإنجيل، فهو مأخوذ من نجلت الشيء، إذا أخرجته، ومنه قيل لنسل الرجل نجله، كأنه هو استخرجهم، قال الشاعر: (أنجبت أيام والديه معا ... إذ نجلاه فنعم ما نجلا) فصل روى أبو بردة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعطاني ربي مكان التوراة السبع الطول، ومكان الإنجيل المثاني، ومكان الزبور المئين، وفضلني ربي بالمفصل ". فأما السبع الطول، فالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف

ويونس، في قول سعيد بن جبير ونحوه، عن ابن عباس، وهو الصحيح، وإنما سميت السبع الطول لطولها على سائر القرآن. أما (المئون) فهي ما كان من سور القرآن عدد آية مائة آية أو تزيد عليها شيئاً أو تنقص عنها شيئاً. وأما المثاني، ففيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها السور التي عني الله فيها القصص والأمثال والفرائض والحدود، وهذا قول عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير. والثاني: أنها فاتحة الكتاب، وهو قول الحسن البصري، قال الراجز: (نشدتكم بمنزل القرآن ... أم الكتاب السبع من مثاني) (نثين من آي من القرآن ... والسبع سبع الطول الدواني) والثالث: أن المثاني ما ثنيت المائة فيها من السور، فبلغ عددها مائتي آية أو ما قاربها، فكأن المائتين لها أوائل، والثاني ثواني، وقال بعض الشعراء: (حلفت بالسبع اللواتب طولت ... ومائتين بعدها قد أمنت) (وبمثاني ثنيت وكررت ... وبالطواسين التي قد ثلثت) (وبالحواميم التي قد سبقت ... وبالتفاصيل التي قد فصلت) وأما المفصل، فإنما سمي مفصلا لكثرة الفصول التي بين سوره، وهو بسم الله الرحمن الرحيم، وسمي المفصل محكما، لما قيل إنه لم ينسخ شيء منه. واختلفوا في أول المفصل على ثلاثة أقوال: أحدها: وهو قول الآكثرين: أنه سورة محمد صلى الله عليه وسلم إلى سورة الناس.

والثاني: من سورة ق إلى الناس، حكاه عيسى بن عمر، عن كثير من الصحابة. والثالث: وهو قول ابن عباس: من سورة الضحى إلى الناس، وكان يفصل في الضحى بين كل سورتين بالتكبير، وهو رأي قراء مكة. فصل وأما السورة من سورة القرآن، وتجمع سورا ففيها لغتان: إحداهما: بهمز. والأخرى: بغير همز. فأما السورة بغير همز، فهي المنزلة من منازل الارتفاع، ومن ذلك سمي سور المدينة لارتفاعه على ما يحويه، ومنه قول نابغة بني ذبيان: (ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب) يعني منزلة من منازل الشرف، التي قصرت عنها منازل الملوك، فسميت السورة لارتفاعها وعلو قدرها. وأما السورة بالهمزة، فهي القطعة، التي قد فضلت من القرآن على سواها وأبقيت منه، لأن سؤر كل شيء بقيته بعدما يؤخذ منه ولذلك سمي ما فضل في الإناء بعد الشرب منه سؤرا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا شربتم فأسئروا " يعني

فأبقوا فضلة في الإناء، ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة يصف امرأة فارقته، فأبقت في قلبه بقية من حبها: (فبانت قد أسأرت في الفؤا ... د صدعا على نأيها مستطيرا) والأول من القولين أصح. وأما الآية من القرآن، ففيها تأويلان: أحدهما: إنما سميت آية لأنها علامة يعرف بها تمام ما قبلها، لأن الآية العلامة، ومنه قول الله تعالى: {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عبدا لأولنا وآخرنا وآية منك} يعني علامة منك لإجابتك دعاءنا. وقال الشاعر، وهو عبد بني الحسحاس: (ألكني إليها - عمرك الله - يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا) والتأويل الثاني: أن الآية في كلامهم، القصة والرسالة، كما قال كعب بن زهير: (ألا أبلغا هذا المعرض آية ... أيقظان قال القول أو قال ذو حلم) فيكون معنى الآية القصة، التي تتلو قصة بفصول ورسول وأصول. وروي أبو حازم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نزل القُرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر (ثلاث

مرات)، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه ". وروى محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليم حكيم غفور رحيم ". اختلف المفسرون في تأويل السبعة الأحرف، التي نزل القرآن بها على أربعة أقاويل: أحدها: معناه على سبعة معان، وهي أمر ونهي ووعد ووعيد وجدل وقصص ومثل. روى عون، عن أبي قلابة قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، ونهي، وترغيب، وترهيب، وجدل، ومثل، وقصص ". والثاني: يعني سبع لغات مختلفة، لا مما يغير حكماً في تحليل ولا

تحريم، مثل هل وتعال وأقبل، هي مختلفة ومعانيها مؤتلفة، فكانوا في صدر الإسلام مخَّيرين فيها ثم اجتمعت الصحابة، عند جمع القرآن على أحدها، فصار ما أجمعوا عليه مانعاً مما أعرضوا عنه. والثالث: يريد على سبع لغات من اللغات الفصيحة، لأن بعض قبائل العرب أفصح من بعض لبعدهم من بلاد العجم، فكان من نزل القرآن بلغتهم من فصحاء العرب سبع قبائل. والرابع: يريد على سبع لغات للعرب في صيغة الألفاظ، وإن وافقه في معناه، كالذي اختلف القراء فيه من القراءات والله أعلم. فصل فأما إعجاز القرآن الذي عجزت به العرب عن الإتيان بمثله، فقد اختلف العلماء فيه على ثمانية أوجه: أحدها: أن وجه إعجازه، هو الإعجاز والبلاغة، حتى يشتمل يسير لفظه على كثير المعاني، مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ} فجمع في كلمتين، عدد حروفهما عشرة أحرف، معاني كلام كثير. والثاني: أن وجه إعجازه، هو البيان والفصاحة، التي عجز عنها الفصحاء، وقصّر فيها البلغاء، كالذي حكاه أبو عبيد، أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: {فاصدع بما تؤمر} فسجد، وقال سجدت لفصاحة هذا الكلام، وسمع آخر رجلا يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِياً} فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام.

وحكى الأصمعي قال: رأيت بالبادية جارية خماسية أو سداسية وهي تقول: (أستغفر الله لذنبي كله ... قتلت إنسانا لغير حله) (مثل غزال ناعم في دله ... فانتصف الليل ولم أصله) فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت: أتعد فصاحة بعد قول الله عزَّ وجلَّ: {وَأْوْحَيْنَا إِلَى أُمَّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمَّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِ] إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكَ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فجمع في آية واحدة، بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وإنشاءين. والثالث: أن وجه إعجازه، هو الوصف الذي تنقضي به العادة، حتى صار خارجا عن جنس كلام العرب، من النظم، والنثر، والخطب، والشعر، والرجز، والسجع، والمزدوج، فلا يدخل في شيء منها ولا يختلط بها، مع كون ألفاظه وحروفه في كلامهم، ومستعمله في نظمهم ونثرهم. حكي أن ابن المقفع طلب أن يعارض القرآن، فنظم كلاما، وجعله مفصلا، وسماه سورا، فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِيِ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فرجع، ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا، وما هو من كلام البشر، وكان فصيح أهل عصره. والرابع: أن وجه إعجازه، هو أن قارئه لا يكل، وسامعه لا يمل، وإكثار

تلاوته تزيده حلاوةً في النفوس، وميلاً إلى القلوب، وغيره من الكلام، وإن كان مستحسن النظمن مستعذب النثر، يمل إذا أعيد ويستثقل إذا ردد. والخامس: أن وجه إعجازه، هو ما فيه من الإخبار بما كان مما علموه، أو لم يعلموه، فإذا سألوا عنه، عرفوا صحته، وتحققوا صدقه، كالذي حكاه من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر، وحال ذي القرنين، وقصص الأنبياء مع أممها، والقرون الماضية في دهرها. والسادس: أن وجه إعجازه، هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يكون، فيوجد صدقه وصحته، مثل قوله لليهود: {قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِّنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ} ثم قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّمْوهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أيدِيِهِمْ} فما تمناه واحد منهم، ومثل قوله تعالى لقريش: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} فقطع بأنهم لا يفعلون، فلم يفعلوا. والسابع: أن وجه إعجازه، هو كونه جامعاً لعلوم لم تكن فيهم آلاتها، ولا تتعاطى العرب الكلام فيها، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد، ولا يشتمل عليها كتاب وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال: {تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم هو الحق ليس بالهزل من طلب الهدى من غيره ضل " وهذا لا يكون إلا عند الله الذي أحاط بكل شيء علماً.

والثامن: أن إعجازه هو الصرفة، وهو أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، فلم تحركهم أنفه التحدي، فصبروا على نقص العجز، فلم يعارضوه، وهم فصحاء العرب مع توفر دواعيهم على إبطاله، وبذل نفوسهم في قتاله، فصار بذلك معجزا لخروجه العادة كخروج سائر المعجزات عنها. واختلف من قال بهذه الصرفة على وجهين: أحدهما: أنهم صرفوا عن القدرة عليه، ولو تعرضوا لعجزوا عنه. والثاني: أنهم صرفوا عن التعرض له، مع كونه في قدرتهم ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه. فهذه ثمانية أوجه، يصح أن يكون كل واحدٍ منها إعجازاً، فإذا جمعها القرآن وليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزاً بأولى من غيره، صار إعجازه من الأوجه الثمانية، فكان أبلغ في الإعجاز، وأبدع في الفصاحة والإيجاز. فصل وإذا كان القرآن بهذه المنزلة من الإعجاز في نظمه ومعانيه، احتاجت ألفاظه

في استخراج معانيها إلى زيادة التأمل لها وفضل الرويَّة فيها، ولا يقتصر فيها على أوائل البديهة، ولا يقنع فيها بمبادئ الفكرة، ليصل بمبالغة الاجتهاد وإمعان النظر إلى جميع ما تضمنته ألفاظه من المعاني واحتملته من التأويل، لأن الكلام الجامع وجوهاً، قد تظهر تارة، وتغمض أخرى، وإن كان كلام الله منزها من الآفتين: الفكر والروية، ليعمل فيما احتمله ألفاظه من المعاني المختلفة، غير ما سنصفه من الأصل المعتبر في اختلاف التأويل عند احتمال وجوده. وقد روى سهل بن مهران الضبعين عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " فتمسك فيه بعض المتورعة ممن قلت في العلم طبقته، وضعفت فيه خبرته، واستعمل هذا الحديث على ظاهرهن وامتنع أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، عند وضوح شواهده، إلا أن يرد بها نقل صحيح، ويدل عليها

نص صريح، وهذا عدول عما تعبّد الله تعالى به خلقه في خطابهم بلسان عربي مبين، قد نبه على معانيه ما صرح من اللغز والتعمية، التي لا يوقف عليها إلا بالمواضعة إلى كلام حكيم، أبَان عن مراده، وقطع أعذار عباده، وجعل لهم سبلا إلى استنباط أحكامه، كما قال الله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ولو كان ما قالوه صحيحاً، لكان كلام الله غير مفهوم، ومراده بخطابه غير معلوم، ولصار كاللغز المعمَّى، فبطل الاحتجاج به، وكان ورود النص على تأويله، مغنياً عن الاحتجاج بتنزيله، وأعوذ بالله من قول في القرآن يؤدي إلى التوقف عنه، ويؤول إلى ترك الاحتجاج به. ولهذا الحديث - إن صح - تأويل، معناه: أن من حمل القرآن على رأيه، ولم يعلم على شواهد ألفاظه، فأصاب الحق، فقد أخطأ الدليل. وقد روى محمد بن عثمان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القرآن ذلول ذو وجوه فاحْمِلُوهُ عَلَى أحسن وجوهه ". وفي قوله: " ذلول " تأويلان: أحدهما: أنه مطيع لحامليه، حتى تنطلق فيه جميع الألسنة. والثاني: أنه موضع لمعانيه، حتى لا تقصر [عنه] أفهام المجتهدين فيه. وفي قوله: " ذو وجوه " تأويلان: أحدهما: أن ألفاظه تحمل من التأويل وجوها لإعجازه. الثاني: أنه قد جمع من الأوامر، والنواهي، والترغيب، والتحليل، والتحريم. وفي قوله: " فاحملوه على أحسن وجوهه " تأويلان:

أحدهما: أن تحمل تأويله على أحسن معانيه. والثاني: أن يعمل بأحسن ما فيه، من العزائم دون الرخص، والعفو دون الانتقام، وهذا دليل على أن تأويل القرآن مستنبط منه. فصل فإذا صح جواز الاجتهاد في إستخراج معاني القرآن من فحوى ألفاظه، وشواهد خطابه، فقد قسم عبد الله بن عباس رضي الله عنه وجوه التفسير على أربعة أقسام: فروى سفيان، عن أبي الزناد قال ابن عباس: " التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب بكلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل " وهذا صحيح. أما الذي تعرفه العرب بكلامها، فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم. وأما الذي لا يعذر أحد بجهالتهن فهو ما يلزم الكافة في القرآن من الشرائع وجملة دلائل التوحيد. وأما الذي يعلمه العلماء، فهو وجوه تأويل المتشابه وفروع الأحكام. وأما الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة. وهذا التقسيم الذي ذكره ابن عباس صحيح، غير أن ما لا يعذر أحد بجهالته

داخل في جملة ما يعلمه العلماء من الرجوع إليهم في تأويله، وإنما يختلف القسمان في فرض العلم به، فما لا يعذر أحد بجهله يكون فرض العلم به على الأعيان، وما يختص بالعلماء يكون فرض العلم به على الكفاية، فصار التفسير منقسما على ثلاثة أقسام: أحدهما: ما اختص الله تعالى بعلمه، كالغيوب فلا مساغ للإجتهاد في تفسيره ولا يجوز أن يؤخذ [إلا] عن توقيف، من أحد ثلاثة أوجه: إما من نصٌّ في سياق التنزيل. وإما عن بيان من جهة الرسول. وإما عن اجماع الأمة على ما اتفقوا عليه من تأويل. فإن لم يرد فيه توقيف، علمنا أن الله تعالى أراد لمصلحة استأثر بها، ألاَّ يطلع عباده على غييه. والقسم الثاني: ما يرجع فيه إلى لسان العرب، وذلك شئيئان، اللغة والإعراب: فأما اللغة، فيكون العلم بها في حق المفسر دون القارئ، فإن كان مما [لا] يوجب العمل، جاز أن يعمل فيه على خبر الواحد والإثنين، وأن يستشهد فيه من الشعر بالبيت والبيتين، وإن كان مما يوجب العمل، لم يعمل فيه على خبر الواحد والإثنين، ولا يستشهد فيه بالبيت والبيتين، حتى يكون نقله مستفيضًا، وشواهد الشعر فيه متناصرة. وقد روى أبو حاضر، عن ابن عباس: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، أي علم القرآن أفضل؟ قال: " غريبه، فالتمسوه في الشعر ". وإنما خص الغريب لاختصاصه بإعجاز القرآن، وأحال عن الشعر لأنه ديوان كلامهم،

وشواهد معانيهم، وقد قال ابن عباس: " إذا أشكل عليكم الشيء من كتاب الله، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب. وأما الإعراب، فإن كان اختلافه موجبا لاختلاف حكمه وتغيير تأويله، لزم العلم به في حق المفسر وحق القارئ، ليتوصل المفسر إلى معرفة حكمه، ويسلم القارئ من لحنه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ". وإن كان اختلاف إعرابه لا يوجب اختلاف حكمه، ولا يقتضي تغيير تأويله، كان العلم بإعرابه لازماً في حق القارئ ليسلم من اللحن في تأويلاته، ولم يلزم في حق المفسر لوصوله مع الجهل بإعرابه إلى معرفة حكمه، وإن كان الجهل بإعراب القرآن نقصاً عامّاً. والقسم الثالث: ما يرجع فيه إلى اجتهاد العلماء، وهو تأويل المتشابه، واستنباط الأحكام، وبيان المجمل، وتخصيص العموم، والمجتهدون من علماء الشرع أخص بتفسيره من غيرهم حملاً لمعاني الألفاظ على الأصول الشرعية، حتى لا يتنافى الجمع بين معانيها وأصول الشرع، فيعتبر فيه حال اللفظ، فإنه ينقسم قسمين: أحدهما: أن يكون مشتملاً على معنى واحد لا يتعداه، ومقصوراً عليه ولا يحتمل ما سواه، فيكون من المعاني [الجلية] والنصوص الظاهرة، التي يعلم مراد الله تعالى بها قطعا من صريح كلامه، وهذا قسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله. والقسم الثاني: أن يكون اللفظ محتملاً لمعنيين أو أكثر، وهذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون أحد المعنيين ظاهراً جليًّا، والآخر باطناً خفيّاً، فيكون محمولاً على الظاهر الجلي دون الباطن الخفي، إلا أن يقوم الدليل على أن الجليَّ غيرُ مُرَادٍ، فيحمل على الخفي. والضرب الثاني: أن يكون المعنيان [جليَّين، واللفظ مستعملاً فيهما حقيقةً، وهذا على ضربين: أحدهما: أن يختلف أصل الحقيقة فيهما، فهذا ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في اللغة، والآخر مستعملاً في الشرع، فيكون حملُه على المعنى الشرعيِّ أولى من حملِهِ على المعنى اللَّغَويِّ، لأن الشرع ناقل. والقسم الثاني: أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في اللغة، والآخر مستعملاً في العرف، فيكون حمله على المعنى العرفي أولى من حمله على معنى اللغة، لأنه أقرب معهود. والقسم الثالث: أن يكون أحد المعنيين مستعملاً في الشرع، والآخر مستعملاً في العرف، فيكون حمله على معنى الشرع أولى من حمله على معنى العرف لأن الشرع ألزم. والضرب الثاني: أن يتفق أصل الحقيقة فيهما فيكونا مستعملين في اللغة على سواء، أو في الشرع، أو في العرف فهذا على ضربيين: أحدهما: أن يتنافى اجتماعهما ولا يمكن استعمالهما كالأحكام الشرعية مثل القرء الذي هو حقيقة في الطهر، وحقيقة في الحيض، ولا يجوز للمجتهد أن يجمع بينهما، لتنافيهما، وعليه أن يجتهد رأيه في المراد فيهما بالأمارات الدالة عليه، فإذا وصل إليه، كان هو الذي أراده الله تعالى منه، وإن أدى اجتهاد غيره إلى الحكم الآخر، كان هو المراد منه فيكون مراد الله تعالى من كل واحد منهما، ما أداه اجتهاده إليه.

ولو لم يترجح للمجتهد أحد الحكمين، ولا غلب في نفسه أحد المعنيين لتكافؤ الأمارات عنده، فقيه للعلماء مذهبان: أحدهما: أن يكون مخيراً، للعمل في العمل على أيهما شاء. والضرب الثاني: أن يأخذ بأغلظ المذهبين حكماً. والضرب الثاني من اختلاف المعنيين: ألا يتنافيا ويمكن الجمع بينهما فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتساويا، ولا يترجح أحدهما على الآخر بدليل، فيكون المعنيان معاً مرادين، لأن الله تعالى لو أراد أحدهما النصب على مراده منهما دليلاً، وإن جاز أن يريد كل واحد من المعنيين بلفظين متغايرين لعدم التنافي بينهما، جاز أن يريدهما بلف واحد، يشتمل عليهما، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة. والضرب الثاني: أن يترجح أحدهما على الآخر بدليل، وهو على ضربين: أحدهما: أن يكون دليلاً على بطلان أحد المعنيين، فيسقط حكمهن ويصير المعنى الآخر هو المراد، وحكمه هو الثابت. والضرب الثاني: أن يكون دليلاً على صحة أحد المعنيين فيثبت حكمه ويكون مراداً ولا يقتضي سقوط المعنى الآخر، ويجوز أن يكون مراداً، وإن لم يكن عليه دليل، لأن موجب لفظه دليل، فاستويا في حكم اللفظ، وإن ترجح أحدهما بدليل، فصارا مرادين معاً. وذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى الذي يرجح بدليل أثبت حكماً من المعنى الذي تجرد عنه ولقوته بالدليل الذي ترجح به، فهذا أصل يعتبر [من] وجود التفسير، ليكون ما احتمله ألفاظ القرآن من اختلاف المعاني محمولاً عليه، فيعلم ما يؤخذ به ويعدل عنه. فإن قيل: فقد ورد الخبر بما يخالف هذا الأصل المقرر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما نزل القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن ولكل حرف

حد ولكل حد مطلع " قيل ليس هذا الحديث - مع كونه من أخبار الآحاد - منافيا لما قررناه من الأصول المستمرة، لما فيه من التأويلات المختلفة. أما قوله: " ما نزل من القرآن من آية إلا لها ظهر وبطن " ففيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه أنك إذا فتشت عن باطنها وقسته على ظاهرها، وقفت على معناها، وهو قول الحسن. والثاني: يعني أن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين، وباطنها عظة للآخرين، وهذا قول أبي عبيد. والثالث: معناه ما من آية إلا وقد عمل بها قوم، ولها قوم سيعملون بها، وهذا قول ابن مسعود. والرابع: يعنى أن ظاهرها لفظها، وباطنها تأويلها، وهذا قول الجاحظ. وأما قوله: " ولكل حرف حد " ففيه تأويلان: أحدهما: معناه أن لكل لفظ منتهى، فيما أراده الله تعالى من عباده. والثاني: أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب.

وأما قوله: " ولكل حد مطلع " ففيه تأويلان: أحدهما: معناه ولكل غامض من الأحكام مطلع يوصل منه إلى معرفته، ويوقف منه على المراد به. والثاني: معناه أن كل ما استحقه من الثواب والعقاب سيطلع عليه في الآخرة ويراه عند المجازاة. فصل الاستعاذة ثبت بالكتاب والسنة، أن يستعيذ القارئ لقراءة القرآن، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو نص الكتاب. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه ". وفي الاستعاذة وجهان: أحدهما: أنها الاستجارة بذي منعة. والثاني: أنها الاستعاذة عن خضوع.

وفي موضعها وجهان: أحدهما أنها خبر يخبر به المرء عن نفسه، بأنه مستعيذ بالله. والثاني: أنها في معنى الدعاء، وإن كانت بلفظ الخبر، كأنه يقول: أعذني يا سميع، يا عليم من الشيطان الرجيم، يعنى أنه سميع الدعاء، عليم بالإجابة. وفي قوله: " من الشيطان " وجهان: أحدهما: من وسوسته. والثاني: من أعوانه. وفي " الرجيم " وجهان: أحدهما: يعني الراجم، لأنه يرجمُ بالدواهي والبلايا. والثاني: أنه بمعنى المرجوم، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مرجوم بالنجوم. والثاني: أنه المرجوم بمعنى المشئوم. وفيه وجه ثالث: أن المرجوم الملعون والملعون المطرود. وقوله: " من نفخه ونفثه وهمزه " يعني بالنفخ: الكبر، وبالنفث: السحر، وبالهمز: الجنون، والله أعلم.

سورة الفاتحة قال قتادة: هي مكية، وقال مجاهد: هي مدينة. ولها ثلاثة أسماء: فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني. روى ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني ". فأما تسميتها بفاتحة الكتاب فلأنه يستفتح الكتاب بإثباتها خطاً وبتلاوتها لفظاً. فأما تسميتها بأم القرآن، فلتقدمها وتأخر ما سواها تبعاً لها، صارت أما لأنه

فأما تسميتها بأم القرآن، فلتقدمها وتأخر ما سواها تبعاً لها، صارت أما لأنه أمته أي تقدمته، وكذلك قيل لراية الحرب: أم لتقدمها واتباع الجيش لها، قال الشاعر: (على رأسه أم لها يقتدى بها ... جماع أمور لا يعاصى لها أمر) وقيل لما مضى على الإنسان من سني عمره، أم لتقدمها. قال الشاعر: (إذا كانت الخمسون أمك لم يكن ... لرأيك إلا أن يموت طبيب) واختلف في تسميتها بأم الكتاب، فجوزه الأكثرون، لأن الكتاب هو القرآن، ومنع منه الحسن، وابن سيرين، وزعما أن أم الكتاب، اسم اللوح المحفوظ، فلا يسمى به غيره لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمَّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌّ}. [الزخرف: 4]. وأما [تسمية] مكة بأم القرى، ففيه قولان: أحدهما: أنها سميت أم القرى، لتقدمها على سائر القرى. والثاني: أنها سميت بذلك، لأن الأرض منها دحيت، وعنها حدثت، فصارت أما لها لحدوثها عنها، كحدوث الولد عن أمه. وأما تسميتها بالسبع المثاني، فلأنها سبع آيات في قول الجميع. وأما الثاني، فلأنها تثنى في كل صلاة من فرض وتطوع، وليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من [تسميته] غيرها به قال أعشى همدان: (فلجوا المسجد وادعوا ربكم ... وارسوا هذي المثاني والطول) ذ

الفاتحة

{بسم الله الرحمن الرحيم} بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) قوله عز وجل: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} أجمعوا أنها من القرآن في سورة النمل , وإنما اختلفوا في إثباتها في فاتحة الكتاب , وفي أول كل سورة , فأثبتها الشافعي في طائفة , ونفاها أبو حنيفة في آخرين. واختُلِفَ في قوله: {بِسْمِ}: فذهب أبو عبيدة وطائفة إلى أنها صلة زائدة , وإنما هو اللهُ الرحمنُ الرحيمُ , واستشهدوا بقول لبيد: (إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُما ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذَرْ) فذكر اسم السلام زيادة , وإنما أراد: ثم السلام عليكما. واختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين: أحدهما: لإجلال ذكره وتعظيمه , ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين , وهذا قول قطرب. والثاني: ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرُّك , وهذا قول الأخفش. وذهب الجمهور إلى أن (بسم) أصل مقصود , واختلفوا في معنى دخول الباء عليه , فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر على قولين:

أحدهما: دخلت على معنى الأمر وتقديره: ابدؤوا بسم الله الرحمن الرحيم وهذا قول الفراء. والثاني: على معنى الإخبار وتقديره: بدأت بسم الله الرحمن الرحيم وهذا قولُ الزجَّاج. وحُذِفت ألف الوصل , بالإلصاق في اللفظ والخط , لكثرة الاستعمال كما حُذفت من الرحمن , ولم تحذف من الخط في قوله: {إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ} [العلق: آية 1] لقلَّة استعماله. الاسم: كلمة تدل على المسمى دلالة إشارةٍ , والصفة كلمة تدل على الموصُوف دلالة إفادة , فإن جعلت الصفة اسماً , دلَّت على الأمرين: على الإشارة والإفادة. وزعم قوم أن الاسم ذاتُ المسمى , واللفظ هو التسمية دون الاسم , وهذا فاسد , لأنه لو كان أسماءُ الذواتِ هي الذواتُ , لكان أسماءُ الأفعال هي الأفعال , وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات. واختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين: أحدهما: أنه مشتق من السمة , وهي العلامة , لما في الاسم من تمييز المسمى , وهذا قول الفرَّاء. والثاني: أنه مشتق من السمو , وهي الرفعة لأن الاسم يسمو بالمسمى

فيرفعه من غيره , وهذا قول الخليل والزجَّاج. وأنشد قول عمرو بن معدي كرب: (إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَمْراً فَدَعْهُ ... وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ) (وَصِلْهُ بِالدُّعَاءِ فَكُلُّ أَمْرٍ ... سَمَا لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لَهُ وُلُوعُ) وتكلف من رَاعَى معاني الحروف ببسم الله تأويلاً , أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية , حتى صار مقصوداً عند ذكر الله في كل تسمية , ولهم فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الباء بهاؤه وبركته , وبره وبصيرته , والسين سناؤه وسموُّه وسيادته , والميم مجده ومملكته ومَنُّه , وهذا قول الكلبي.

والثاني: أن الباء بريء من الأولاد , والسين سميع الأصوات والميم مجيب الدعوات , وهذا قول سليمان بن يسار. والثالث: أن الباء بارئ الخلق , والسين ساتر العيوب , والميم المنان , وهذا قول أبي روق. ولو أن هذا الاستنباط يحكي عمَّن يُقْتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره , لخروجه عما اختص الله تعالى به من أسمائه , لكن قاله متبوع فذكرتُهُ مَعَ بُعْدِهِ حاكياً , لا محققاً ليكون الكتاب جامعاً لما قيل. ويقال لمن قال (بسم الله) بَسْمَلَ على لُغَةٍ مُوَلَّدَةٍ , وقد جاءت في الشعر , قال عمر بن أبي ربيعة: (لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيْلَى غَدَاةَ لَقِيتُهَا ... فَيَا حَبَّذا ذَاكَ الْحَبِيبُ المُبَسْمِلُ) فأما قوله: (الله) , فهو أخص أسمائه به , لأنه لم يتسَمَّ باسمه الذي هو (الله) غيره. والتأويل الثاني: أن معناه هل تعلم له شبيهاً , وهذا أعمُّ التأويلين , لأنه يتناول الاسم والفعل. وحُكي عن أبي حنيفة أنه الاسم الأعظم من أسمائه تعالى , لأن غيره لا يشاركه فيه. واختلفوا في هذا الاسم هل هو اسم عَلَمٍ للذات أو اسم مُشْتَقٌّ من صفةٍ , على قولين: أحدهما: أنه اسم علم لذاته , غير مشتق من صفاته , لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات , فلم يكن بُدٌّ من أن يختص باسم ذاتٍ , يكون علماً لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعاً. والقول الثاني: أنه مشتق من أَلَهَ , صار باشتقاقه عند حذف همزِهِ , وتفخيم لفظه الله. واختلفوا فيما اشْتُقَ منه إله على قولين: أحدهما: أنه مشتق من الَولَه , لأن العباد يألهون إليه , أي يفزعون إليه في

أمورهم , فقيل للمألوه إليه إله , كما قيل للمؤتمِّ به إمام. والقول الثاني: أنه مشتق من الألوهية , وهي العبادة , من قولهم فلان يتألَّه , أي يتعبد , قال رؤبةُ بن العجاج: (لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ المُدَّهِ ... لَمَّا رَأَيْنَ خَلِقَ الْمُمَوَّهِ) 89 (سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألهِي} 9 أي من تعبد , وقد رُوي عن ابن عباس أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وءالِهَتَكَ} أي وعبادتك. ثم اختلفوا , هل اشتق اسم الإله من فعل العبادة , أو من استحقاقها , على قولين: أحدهما: أنه مشتق من فعل العبادة , فعلى هذا , لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته , لحدوث عبادته بعد خلق خلقه , ومن قال بهذا , منع من أن يكون الله تعالى إلهاً لم يزل , لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود. والقول الثاني: أنه مشتق من استحقاق العبادة , فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته , لأنه لم يزل مستحقّاً للعبادة , فلم يزل إلهاً , وهذا أصح القولين , لأنه لو كان مشتقّاً من فعل العبادة لا من استحقاقها , للزم تسمية عيسى عليه السلام إلهاً , لعبادة النصارى له , وتسمية الأصنام آلهة , لعبادة أهلها لها , وفي بطلان هذا دليل , على اشتقاقه من استحقاق العبادة , لا من فعلها , فصار قولنا (إله) على هذا القول صفة من صفات الذات , وعلى القول الأول من صفات الفعل.

وأما (الرحمن الرحيم) , فهما اسمان من أسماء الله تعالى , والرحيم فيها اسم مشتق من صفته. وأما الرحمن ففيه قولان: أحدهما: أنه اسم عبراني معرب , وليس بعربي , كالفسطاط رومي معرب , والإستبرق فارسي معرب , لأن قريشاً وهم فَطَنَةُ العرب وفُصَحَاؤهم , لم يعرفوهُ حتى ذكر لهم , وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم: { ... وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60] , وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير: (أو تتركون إلى القسّين هجرتكم ... ومسحكم صلبهم رحمن قربانا) قال: ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم , ليزول الالتباس , فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته , لكن قدَّم الرحمن لمبالغته. والقول الثاني: أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما , وقد ظهر ذلك في كلام العرب , وجاءت به أشعارهم , قال الشنفري: (أَلاَ ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا ... أَلاَ ضَرَبَ الرًّحْمنُ رَبِّي يَمِينَهَا) فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة , والرحمة هي النعمة على المحتاج , قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] , يعني نعمةً عليهم , وإنما سميت النعمةُ رحمةً لحدوثها عن الرحمة. والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم , لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه , والرحيم

لا يتعدى لفظه , وإنما يتعدى معناه , ولذلك سمي قوم بالرحيم , ولم يتَسَمَّ أحدٌ بالرحمن , وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللهَ تعالى به وعليه بيت الشنفرى , ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن , واقتطعه من أسماء الله تعالى , قال عطاء: فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم , لأن أحداً لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره , فيكون الفرق في المبالغة , وفرَّق أبو عبيدة بينهما , فقال بأن الرحمن ذو الرحمة , والرحيم الراحم. واختلفوا في اشتقاق الرحمن والرحيم على قولين: أحدهما: أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ , جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم. والقول الثاني: أنهما مشتقان من رحمتين , والرحمة التي اشتق منها الرحمن , غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم , ليصح امتياز الاسمين , وتغاير الصفتين , ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرحمن مشتق من رحمة الله لجميع خلقه , والرحيم مشتق من رحمة الله لأهل طاعته. والقول الثاني: أن الرحمن مشتق من رحمة الله تعالى لأهل الدنيا والآخرة , والرحيم مشتق من رحمتِهِ لأهل الدنيا دُون الآخرة. والقول الثالث: أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص الله تعالى بها دون عباده , والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلُها.

2

{الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم} قوله عز وجل: {الحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. أما {الحمد لله} فهو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله , والشكرُ الثناء عليه بإنعامه , فكلُّ شكرٍ حمدٌ , وليسَ كلُّ حمدٍ شكراً , فهذا فرقُ ما بين الحمد والشكر , ولذلك جاز أن يَحْمِدَ الله تعالى نفسه , ولم يَجُزْ أن يشكرها. فأما الفرق بين الحمد والمدح , فهو أن الحمد لا يستحق إلا على فعلٍ

حسن , والمدح قد يكون على فعل وغير فعل , فكلُّ حمدٍ مدحٌ وليْسَ كل مدحٍ حمداً , ولهذا جاز أن يمدح الله تعالى على صفته , بأنه عالم قادر , ولم يجز أن يحمد به , لأن العلم والقدرة من صفات ذاته , لا من صفات أفعاله , ويجوز أن يمدح ويحمد على صفته , بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته. وأما قوله: {رب} فقد اختُلف في اشتقاقه على أربعة أقاويل: أحدها: أنه مشتق من المالك , كما يقال رب الدار أي مالكها. والثاني: أنه مشتق من السيد , لأن السيد يسمى ربّاً قال تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: 41] يعني سيده. والقول الثالث: أن الرب المدَبِّر , ومنه قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ} وهم العلماء , سموا ربَّانيِّين , لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم , وقيل: ربَّهُ البيت , لأنها تدبره. والقول الرابع: الرب مشتق من التربية , ومنه قوله تعالى: {وَرَبَآئِبُكُمُ اللاَّتِي في حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] فسمي ولد الزوجة ربيبة , لتربية الزوج لها. فعلى هذا , أن صفة الله تعالى بأنه رب , لأنه مالك أو سيد , فذلك صفة من صفات ذاته , وإن قيل لأنه مدبِّر لخلقه , ومُربِّيهم , فذلك صفة من صفات فعله , ومتى أدْخَلت عليه الألف واللام. اختص الله تعالى به , دون عباده , وإن حذفتا منه , صار مشتركاً بين الله وبين عباده. وأما قوله: {العالمين} فهو جمع عَالم , لا واحد له من لفظه , مثل: رهط وقوم , وأهلُ كلِّ زمانٍ عَالَمٌ قال العجاج: ( ... ... ... ... ... ... ... ... فَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا الْعَالَمِ) واختُلِف في العالم , على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنّه ما يعقِل: من الملائكة , والإنس , والجنِّ , وهذا قول ابن عباس.

والثاني: أن العالم الدنيا وما فيها. والثالث: أن العالم كل ما خلقه الله تعالى في الدنيا والآخرة , وهذا قول أبي إسحاق الزجَّاج. واختلفوا في اشتقاقه على وجهين: أحدهما: أنه مشتق من العلم , وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لما يعقل. والثاني: أنه مشتق من العلامة , لأنه دلالة على خالقه , وهذا تأويل مَنْ جعل العالم اسماً لكُلِّ مخلوقٍ.

4

{مالك يوم الدين} قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قرأ عاصم والكسائي {مالِكِ} وقرأ الباقون {مَلِك} وفيما اشتقا جميعاً منه وجهان: أحدهما: أن اشتقاقهما من الشدة , من قولهم ملكت العجين , إذا عجنته بشدة.

والثاني: أن اشتقاقهما من القدرة , قال الشاعر: (مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا) والفرق بين المالك والملك من وجهين: أحدهما: أن المالك مَنْ كان خاصَّ المُلكِ , والملِك مَنْ كان عَامَّ المُلْك. والثاني: أن المالك من اختص بملك الملوك , والملك من اختص بنفوذ الأمر. واختلفوا أيهما أبلغ في المدح , على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المَلِك أبلغ في المدح من المالك , لأنَّ كلَّ مَلِكٍ مالِكٌ , وليسَ كلُّ مالِكٍ ملِكاً , ولأن أمر الملِكِ نافذ على المالِكِ. والثاني: أن مالك أبلغ في المدح من مَلِك , لأنه قد يكون ملكاً على من لا يملك , كما يقال ملك العرب , وملك الروم , وإن كان لا يملكهم , ولا يكون مالكاً إلا على من يملك , ولأن المَلِك يكون على الناس وغيرهم. والثالث: وهو قول أبي حاتم , أن مَالِك أبلغ في مدح الخالق من مَلِك , ومَلِك أبلغ من مدح المخلوق من مالك. والفرق بينهما , أن المالك من المخلوقين , قد يكون غير ملك , وإن كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً , فإن وُصف الله تعالى بأنه ملك , كان ذلك من صفات ذاته , وإن وصف بأنه مالك , كان من صفات أفعاله. وأما قوله تعالى: {يَوْمِ الدِّينِ} ففيه تأويلان: أحدهما: أنه الجزاء. والثاني: أنه الحساب. وفي أصل الدين في اللغة قولان:

أحدهما: العادة , ومنه قول المثقَّب العَبْدِي: (تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ... أَهذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي) أي عادته وعادتي. والثاني: أنَّ أصل الدين الطاعة , ومنه قول زهير بن أبي سُلمى: (لَئِن حَلَلْتَ بِجَوٍّ في بَنِي أَسَدٍ ... في دِينِ عَمْرٍو وَمَالتْ بَيْنَنَا فَدَكُ) أي في طاعة عمرو. وفي هذا اليوم قولان: أحدهما: أنه يوم , ابتداؤه طلوع الفجر , وانتهاؤه غروب الشمس. والثاني: أنه ضياء , يستديم إلى أن يحاسب الله تعالى جميع خلقه , فيستقر أهل الجنة في الجنة , وأهل النار في النار. وفي اختصاصه بملك يوم الدين تأويلان: أحدهما: أنه يوم ليس فيه ملك سواه , فكان أعظم من مُلك الدنيا التي تملكها الملوك , وهذا قوله الأصم. والثاني: أنه لما قال: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} , يريد به ملك الدنيا , قال بعده: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يريد به ملك الآخرة , ليجمع بين ملك الدنيا والآخرة.

5

{إياك نعبد وإياك نستعين} قوله عز وجل: {إِيَاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قوله: {إِيَّاكَ} هو كناية عن اسم الله تعالى , وفيه قولان: أحدهما: أن اسم الله تعالى مضاف إلى الكاف , وهذا قول الخليل. والثاني: أنها كلمة واحدة كُنِّيَ بها عن اسم الله تعالى , وليس فيها إضافة لأن المضمر لا يضاف , وهذا قول الأخفش. وقوله: {نَعْبُدُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن العبادة الخضوع , ولا يستحقها إلا الله تعالى , لأنها أعلى

مراتب الخضوع , فلا يستحقها إلا المنعم بأعظم النعم , كالحياة والعقل والسمع والبصر. والثاني: أن العبادة الطاعة. والثالث: أنها التقرب بالطاعة. والأول أظهرها , لأن النصارى عبدت عيسى عليه السلام , ولم تطعه بالعبادة , والنبي صلى الله عليه وسلم مطاع , وليس بمعبودٍ بالطاعة.

6

{اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قوله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم} إلى آخرها. أما قوله: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ} ففيه تأويلان: أحدهما: معناه أرْشُدْنا ودُلَّنَا. والثاني: معناه وفقنا , وهذا قول ابن عباس. وأما الصراط ففيه تأويلان: أحدهما: أنه السبيل المستقيم , ومنه قول جرير: (أَميرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِراطٍ ... إذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيم) والثاني: أنه الطريق الواضح ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُون} [الأعراف: 86] وقال الشاعر: ( ... ... ... ... ... ... . ... فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّرَاطِ الْقَاصِدِ) وهو مشتق من مُسْتَرَطِ الطعام , وهو ممره في الحلق. وفي الدعاء بهذه الهداية , ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم دعوا باستدامة الهداية , وإن كانوا قد هُدُوا. والثاني: معناه زدنا هدايةً

والثالث: أنهم دعوا بها إخلاصاً للرغبة , ورجاءً لثواب الدعاء. واختلفوا في المراد بالصراط المستقيم , على أربعة أقاويل: أحدها: أنه كتاب الله تعالى , وهو قول علي وعبد الله , ويُرْوَى نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه الإسلام , وهو قول جابر بن عبد الله , ومحمد بن الحنفية. والثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله تعالى , الذي لا عوج فيه , وهو قول ابن عباس. والرابع: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخيار أهل بيته وأصحابه , وهو قول الحسن البصري وأبي العالية الرياحي. وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ} خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الملائكة. والثاني: أنهم الأنبياء.

والثالث: أنهم المؤمنون بالكتب السالفة. والرابع: أنهم المسلمون وهو قول وكيع. والخامس: هم النبي صلى الله عليه وسلم , ومَنْ معه مِنْ أصحابه , وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير: (صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وأما قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فقد روى عن عديِّ بن حاتم قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم , عن المغضوب عليهم , فقال: (هُمُ اليَهُود) وعن الضالين فقال: (هُمُ النَّصارى).

وهو قول جميع المفسرين. وفي غضب الله عليهم , أربعة أقاويل: أحدها: الغضب المعروف من العباد. والثاني: أنه إرادة الانتقام , لأن أصل الغضب في اللغة هو الغلظة , وهذه الصفة لا تجوز على الله تعالى. والثالث: أن غضبه عليهم هو ذَمُّهُ لهم. والرابع: أنه نوع من العقوبة سُمِّيَ غضباً , كما سُمِّيَتْ نِعَمُهُ رَحْمَةً. والضلال ضد الهدى , وخصّ الله تعالى اليهود بالغضب , لأنهم أشد عداوة. وقرأ عمر بن الخطاب (غَيْرِ الْمغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِ الضَّآلِّين).

سورة البقرة

البقرة

{الم} قوله عز وجل: {الم} اختلف فيه المفسرون على ثمانية أقاويل: أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن كالفرقان والذكر , وهو قوله قتادة وابن جريج (88). والثاني: أنه من أسماء السور , وهو قول زيد ابن أسلم. والثالث: أنه اسم الله الأعظم , وهو قول السدي والشعبي.

والرابع: أنه قسم أقسم الله تعالى به , وهو من أسمائه , وبه قال ابن عباس وعكرمة. والخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال , فالألف من أنا واللام من الله , والميم من أعلم , فكان معنى ذلك: أنا الله أعلم , وهذا قول ابن مسعود وسعيد بن جبير , ونحوه عن ابن عباس أيضاً. والسادس: أنها حروف يشتمل كل حرف منها على معانٍ مختلفة , فالألف مفتاح اسمه الله , واللام مفتاح اسمه لطيف , والميم مفتاح اسمه مجيد , والألف آلاء الله , والميم مجدُه , والألِفُ سَنَةٌ , واللامُ ثلاثون سنة , والميم أربعون سنة , آجال قد ذكرها الله. والسابع: أنها حروف من حساب الجمل , لما جاء في الخبر عن (91) عن الكلبي , عن أبي صالح , عن ابن عباس وجابر بن عبد الله , قال: مَرَّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة: {الم. ذلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} فأتى أخاه حُيَيَّ بْنَ أَخْطبَ في رجال من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ألم تذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل اللهُ عليك: {الم. ذلك

الكِتَابُ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلى) , فقالوا: (أجاءك بها جبريل من عند الله). قال: (نعم) , قالوا: (لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلم أنه بُيِّنَ لنبي منهم مدة ملكه وما أُكل أمته غيرك) , فقال حُيَيُّ بن أخطب وأقبل على من كان معه , فقال لهم: (الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة) , ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم قال: (يا محمد هل كان مع هذا غيره)؟ , قال: (نعم) , قال: (ماذا)؟ قال: (المص) , قال هذه أثقل وأطول , الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون , والصاد تسعون , فهذه إحدى وستون ومائة سنة , فهل مع هذا يا محمد غيره (, قال:) نعم (, قال:) ماذا (قال:) الر (قال:) هذه أثقل وأطول , الألف واحد , واللام ثلاثون , والراء مائتان , فهذه إحدى وثلاثون ومائتان سنةٍ , فهل مع هذا يا محمد غيره (, قال:) نعم (قال:) ماذا (؟ , قال:) المر (, قال هذه أثقل وأطول , الألف واحدة , واللام ثلاثون , والميم أربعون , والراء مائتان , فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. . , ثم قال:) لقد التبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً (, ثم قاموا عنه , فقال أبو ياسر لأخيه حُيَيَّ بن أخطبَ ولمن معه من الأحبار:) ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون , وإحدى وستون ومائة , وإحدى وثلاثون ومائتان , وإحدى وسبعون ومائتان , فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة (, قالوا:) لقد تشابه علينا أمره (. فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم: {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. والثامن (92): أنه حروف هجاء أَعلم الله تعالى بها العَرَب حين تحداهم بالقرآن , أنه مُؤلَف من حروف كلام , هي هذه التي منها بناء كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم , إذ لم يخرج عن كلامهم. فأما حروف أبجدَ فليس بناء كلامهم عليها , ولا هي أصل , وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقاويل:

أحدها: أنها الأيام الستة , التي خلق الله تعالى فيها الدنيا , وهذا قول الضحاك بن مزاحم (93). والثاني: أنها أسماء ملوك مَدْيَن , وهذا قول الشعبي وفي قول بعض شعراء مَدْيَن دليل على ذلك قال شاعرهم: (أَلاَ يَا شُعَيْبٌ قَدْ نَطَقْتَ مَقَالةً ... سَبَبْتَ بِهَا عَمْراً وَحَيَّ بني عَمْرو) (مُلُوكُ بني حطّى وَهَوَّزُ مِنْهُمُ ... وَسَعْفَصُ أَصْلٌ لِلْمَكَارِمِ وَالْفَخْرِ) (هُمُ صَبَّحُوا أَهْلَ الحِجَازِ بغارَةٍ ... كَمِثْل شُعَاعِ الشَّمْسِ أَوْ مَطْلَعِ الْفَجْرِ) والثالث: ما روى ميمون بن مهران (94) , عن ابن عباس , أن لأبي جاد حديثاً عجباً: (أبى) آدمُ الطاعة , و (جد) في أكل الشجرة , وأما (هوّز) , فنزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض , وأما (حطي) فحطت خطيئته , وأما (كلمن) فأكل من الشجرة , ومَنَّ عليه بالتوبة , وأما (سعفص) فعصى آدم , فأُخرج من النعيم إلى النكد , وأما قرشت فأقرّ بالذنب , وسَلِمَ من العقوبة (95). والرابع: أنها حروف من أسماء الله تعالى , روى ذلك معاوية بن قرة (96) , عن أبيه , عن النبي صلى الله عليه وسلم (97).

2

{ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} قوله تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني التوراة والإنجيل , ليكون إخباراً عن ماضٍ. والثاني: يعني به ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة والمدينة , وهذا قول الأصم. والثالث: يعني هذا الكتاب , وقد يستعمل ذلك في الإشارة إلى حاضر , وإن كان موضوعاً للإشارة إلى غائب , قال خُفاف بن ندبة: (أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا) ومن قال بالتأويل الأول: أن المراد به التوراة والإنجيل , اختلفوا في المخاطب به على قولين: أحدهما: أن المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم , أي ذلك الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل , هو الذي أنزلته عليك يا محمد. والقول الثاني: أن المخاطب به اليهود والنصارى , وتقديره: أن ذلك الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب , الذي أنزلته على محمد عليه وعلى آله السلام. قوله عز وجل: {لاَ رَيْبَ فيهِ} وفيه تأويلان: أحدهما: أن الريب هو الشك , وهو قول ابن عباس , ومنه قول عبد الله بن الزِّبَعْرَى: (لَيْسَ في الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ ... إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْجَهُولُ) والتأويل الثاني: أن الريب التهمة ومنه قول جميل: (بُثَيْنَةُ قالتْ: يا جَمِيلُ أَرَبْتَنِيُ ... فَقُلْتُ: كِلاَنَا يَا بُثَيْنَ مُرِيب) قوله عزَّ وجلَّ: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} , يعني به هدىً من الضلالة. وفي المتقين ثلاثة تأويلات:

أحدها: أنهم الذين اتقوا ما حرم الله عليهم وأدَّوا ما افترض عليهم , وهذا قول الحسن البصري. والثاني: أنهم الذين يحذرون من الله تعالى عقوبته ويرجون رحمته وهذا قول ابن عباس. والثالث: أنهم الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق وهذا فاسد , لأنه قد يكون كذلك , وهو فاسق وإنما خص به المتقين , وإن كان هدىً لجميع الناس , لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه.

3

{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبَ} قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبَ} فيه تأويلان: أحدهما: يصدقون بالغيب , وهذا قول ابن عباس. والثاني: يخشون بالغيب , وهذا قول الربيع بن أنس (100). وفي الأصل الإيمان (101) ثلاثة أقوال: أحدها: أن أصله التصديق , ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدِّق لنا. والثاني: أن أصله الأمان فالمؤمن يؤمن نفسه من عذاب الله , والله المؤمِنُ لأوليائه من عقابه.

والثالث: أن أصله الطمأنينة , فقيل للمصدق بالخبر مؤمن , لأنه مطمئن. وفي الإيمان ثلاثة أقاويل: أحدها: أنّ الإيمان اجتناب الكبائر. والثاني: أن كل خصلة من الفرائض إيمان. والثالث: أن كل طاعةٍ إيمان. وفي الغيب ثلاثة تأويلات: أحدها: ما جاء من عند الله , وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه القرآن , وهو قول زر بن حبيش. والثالث: الإيمان بالجنة والنار والبعث والنشور. {وَيُقِيمونَ الصَّلوة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)} وفي قوله تعالى: {وَيُقِيمُون الصَّلاَةَ} تأويلان: أحدهما: يؤدونها بفروضها. والثاني: أنه إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع فيها , وهذا قول ابن عباس. واختُلف لِمَ سُمِّي فعل الصلاة على هذا الوجه إقامةً لها , على قولين: أحدهما: من تقويم الشيء من قولهم قام بالأمر إذا أحكمه وحافظ عليه. والثاني: أنه فعل الصلاة سُمِّي إقامة لها , لما فيها من القيام فلذلك قيل: قد قامت الصلاة. وفي قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ثلاثة تأويلات: أحدها: إيتاء الزكاة احتساباً لها , وهذا قول ابن عباس.

والثاني: نفقة الرجل على أهلِهِ , وهذا قول ابن مسعود. والثالث: التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى , وهذا قول الضحاك: وأصل الإنفاق الإخراج , ومِنْهُ قيل: نَفَقَتِ الدابة إذا خرجت رُوحها. واختلف المفسرون , فِيمَنْ نزلت هاتان الآيتان فيه , على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في مؤمني العرب دون غيرهم , لأنه قال بعد هذا: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني به أهْلَ الكتاب , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنها مع الآيتين اللتين من بعد أربع آيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب , لأنه ذكرهم في بعضها. والثالث: أن الآيات الأربع من أول السورة , نزلت في جميع المؤمنين , وروى ابن أبي نجيح (103) , عن مجاهد قال: (نزلت أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين , وآيتان في نعت الكافرين , وثَلاَث عَشْرَةَ في المُنافقين.

4

{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وما بعدها. أما قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني القرآن , {وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني به التوراة والإنجيل , وما تقدم من كتب الأنبياء , بخلاف ما فعلته اليهود والنصارى , في إيمانهم ببعضها دون جميعها. {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} فيه تأويلان:

أحدهما: يعني الدار الآخرة. والثاني: يعني النشأة الآخرة وفي تسميتها بالدار الآخرة قولان: أحدهما: لتأخرها عن الدار الأولى. والثاني: لتأخرها عن الخلق , كما سميت الدنيا لدنِّوها من الخلق. وقوله: {يُوقِنُونَ} أي يعلمون , فسمي العلم يقيناً لوقوعه عن دليل صار به يقيناً.

5

{أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} وقوله تعالى: {أُولئِكَ على هُدىً مِنْ رَبِّهُمْ} يعني بيان ورشد. {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم الفائزون السعداء , ومنه قول لبيد: (لَوْ أَنَّ حَيّاً مُدْرِكُ الْفَلاَحِ ... أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ) والثاني: المقطوع لهم بالخير , لأن الفلح في كلامهم القطع , وكذلك قيل للأكار فلاح , لأنه يشق الأرض , وقد قال الشاعر: (لَقَدْ عَلِمتَ يا ابنَ أُمِّ صحصحْ ... أن الحديدَ بالحديدِ يُفلحْ) واختلف فيمن أُرِيدَ بهم , على ثلاثة أوجه: أحدها: المؤمنون بالغيب من العرب , والمؤمنون بما أنزل على محمد , وعلى من قبله من سائر الأنبياء من غير العرب. والثاني: هم مؤمنو العرب وحدهم. والثالث: جميع المؤمنين.

6

{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَروا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} وأصل الكفر عند العرب التغطية , ومنه قوله تعالى: {أَعْجَبَ الكُفَّار نَبَاتُهُ} يعني الزُّرَّاع لتغطيتهم البذر في الأرض , قال لبيد:

(في لَيْلَةٍ كَفَّرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ) أي غطَّاها , فسمي به الكافر بالله تعالى لتغطيته نعم الله بجحوده. وأما الشرك فهو في حكم الكفر , وأصله في الإشراك في العبادة. واختلف فِيمَنْ أُرِيدَ بذلك , على ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم اليهود الذين حول المدينة , وبه قال ابن عباس , وكان يسميهم بأعيانهم. والثاني: أنهم مشركو أهل الكتاب كلهم , وهو اختيار الطبري. والثالث: أنها نزلت في قادة الأحزاب , وبه قال الربيع بن أنس.

7

{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} قوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ على قُلُوبِهِمْ} الختم الطبع , ومنه ختم الكتاب , وفيه أربعة تأويلات: أحدها: وهو قول مجاهد (105): أن القلب مثل الكف , فإذا أذنب العبْدُ ذنباً ضُمَّ منه كالإصبع , فإذا أذنب ثانياً ضم منه كالإصبع الثانية , حتى يضمَّ جميعه ثم يطبع عليه بطابع. والثاني: أنها سمة تكون علامة فيهم , تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين.

والثالث: أنه إخبار من الله تعالى عن كفرهم وإعراضهم عن سماع ما دعوا إليه من الحق , تشبيهاً بما قد انسدَّ وختم عليه , فلا يدخله خير. والرابع: أنها شهادة من الله تعالى على قلوبهم , بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحقَّ , وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إليه , والغشاوة: تعاميهم عن الحق. وسُمِّي القلب قلباً لتقلُّبِهِ بالخواطر , وقد قيل: (ما سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ ... وَالرَّأْيُ يَصْرِفُ , والإنْسَانُ أَطْوَارُ) والغشاوة: الغطاء الشامل.

8

{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ والَّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} يعني المنافقين يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين , بأن يُظهروا من الإيمان خلاف ما يبطنون من الكفر , لأن أصل الخديعة الإخفاء , ومنه مخدع البيت , الذي يخفى فيه , وجعل الله خداعهم لرسوله خداعاً له , لأنه دعاهم برسالته. {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} في رجوع وباله عليهم. {وَمَا يَشْعُرُون} يعني وما يفطنون , ومنه سُمِّي الشاعر , لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره , ومنه قولهم ليت شعري.

10

{في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} قوله تعالى: {في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: شك , وبه قال ابن عباس. والثاني: نفاق , وهو قول مقاتل , ومنه قول الشاعر: (أُجَامِلُ أَقْوَاماً حَيَاءً وَقَدْ أَرَى ... صُدُورَهُمُ تَغْلِي عَلَيَّ مِراضُها) والثالث: أن المرض الغمُّ بظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه , وأصل المرض الضعف , يقال: مرَّض في القول إذا ضعَّفه. {فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه دعاء عليهم بذلك. والثاني: أنه إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم عند نزول الفرائض , والحدود. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني مؤلم.

11

{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا في الأَرضِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الكفر. والثاني: فعل ما نهى الله عنه , وتضييع ما أمر بحفظه. والثالث: أنه ممالأة الكفار. وكل هذه الثلاثة , فساد في الأرض , لأن الفساد العدول عن الاستقامة إلى ضدها. واختلف فِيمَنْ أُريدَ بهذا القول على وجهين: أحدهما: أنها نزلت في قوم لهم يكونوا موجودين في ذلك الوقت , وإنما يجيئون بعد , وهو قول سليمان. والثاني: أنها نزلت في المنافقين , الذين كانوا موجودين , وهو قول ابن عباس ومجاهد.

{قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحاً لهم , وليس كما ظنوا , لأن الكفار لو يظفرون بهم , لم يبقوا عليهم , فلذلك قال: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ}. والثاني: أنهم أنكروا بذلك , أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار , وقالوا إنما نحن مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه. والثالث: معناه أن ممالأتنا الكفار , إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين , وهذا قول ابن عباس. والرابع: أنهم أرادوا أن ممالأة الكفار صلاح وهدى , وليست بفساد وهذا قول مجاهد. فإن قيل: فكيف يصح نفاقهم مع مجاهدتهم بهذا القول؛ ففيه جوابان: أحدهما: أنهم عرَّضوا بهذا القول , وكَنُّوا عنه من غير تصريح به. والثاني: أنهم قالوا سراً لمن خلوا بهم من المسلمين , ولم يجهروا به , فبقوا على نفاقهم.

13

{وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} قوله تعالى: {وإذا قيل لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {قَالُوا أَنُؤْمن كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم عنوا بالسفهاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنهم أرادوا مؤمني أهل الكتاب. والسفهاء جمع سفيه , وأصل السَّفَهِ الخِفَّةُ , مأخوذ من قولهم ثوب سفيه ,

وإذا كان خفيف النسيج , فسمَّي خفةُ الحلم سفهاً , قال السَمَوْأَلُ: (نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا ... فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ)

14

{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلى شَيَاطِينِهِمْ} في شياطينهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود , الذين يأمرونهم بالتكذيب , وهو قول ابن عباس. والثاني: رؤوسهم في الكفر , وهذا قول ابن مسعود. وفي قوله: {إلى شَيَاطِينِهِمْ} ثلاثة أوجه: أحدها: معناه مع شياطينهم , فجعل (إلى) موضع (مع) , كما قال تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إلى اللهِ} [آل عمران: 52] أي مع الله. والثاني: وهو قول بعض البصريين: أنه يقال خلوت إلى فلان , إذا جعلته غايتك في حاجتك , وخلوت به يحتمل معنيين: أحدهما: هذا. والآخر: السخرية والاستهزاء منه فعلى هذا يكون قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ} أفصح , وهو على حقيقته مستعمل. والثالث: وهو قول بعض الكوفيين: أن معناه إذا انصرفوا إلى شياطينهم فيكون قوله: {إلى} مستعملاً في موضع لا يصح الكلام إلا به. فأما الشيطان ففي اشتقاقه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه فيعال من شطن , أي بَعُدَ , ومنه قولهم: نوى شطون (108) أي

بعيدة , وشَطَنَتْ دارُه , أي بعدت , فسمي شيطاناً , إما لبعده عن الخير , وإما لبعد مذهبه في الشر , فعلى هذا النون أصلية. والقول الثاني: أنه مشتق من شاط يشيط , أي هلك يهلك كما قال الشاعر: ( ... ... ... ... ... ... ... . . ... وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا البَطَلُ) أي يهلك , فعلى هذا يكون النون فيه زائدة. والقول الفاصل: أنه فعلان من الشيط وهو الاحتراق , كأنه سُمِّي بما يؤول إليه حاله. {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} أي على ما أنتم عليه من التكذيب والعداوة , {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أي ساخرون بما نظهره من التصديق والموافقة. قوله تعالى: {اللهُ يَسْتَهْزئُ بِهِمْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: معناه أنه يحاربهم على استهزائهم , فسمي الجزاء باسم المجازى عليه , كما قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} , وليس الجزاء اعتداءً , قال عمرو بن كلثوم: (أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينا) ) والثاني: أن معناه أنه يجازيهم جزاء المستهزئين. والثالث: أنه لما كان ما أظهره من أحكام إسلامهم في الدنيا , خلاف ما أوجبه عليهم من عقاب الآخرة , وكانوا فيه اغترار به , صار كالاستهزاء [بهم].

والرابع: أنه لما حسن أن يقال للمنافق: {ذُقْ إِنًّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] , صار القول كالاستهزاء به. والخامس: ما حكي: أنهم يُفْتَح لهم باب الجحيم , فيرون أنهم يخرجون منها , فيزدحمون للخروج , فإذا انتهوا إلى الباب ضربهم الملائكة , بمقامع النيران , حتى يرجعوا , وهاذ نوع من العذاب , وإن كان كالاستهزاء. قوله عز وجل: {وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهم يَعْمَهُونَ} وفي يمدهم تأويلان: أحدهما: يملي لهم , وهو قول ابن مسعود. والثاني: يزيدهم , وهو قول مجاهد. يقال مددت وأمددت , فحُكِيَ عن يونس أنه قال: مددت فيما كان من الشر , وأمددت فيما كان من الخير , وقال بعض الكوفيين: يقال: مددتُ فيما كانت زيادته منه , كما يقال مَدّ النصر , وأَمَدَّه نهر آخر , وأمددت فيما حدثت زيادته من غيره , كقولك أمْدَدْتُ الجيش بمددٍ , وأمِد الجرح , لأن المدة من غيره. {في طغيانهم} يعني تجاوزهم في الكفر، والطغيان مجاوزة القدر، يقال طغى الماء، إذا جاوز قدره، قال الله تعالى: {إنك لما طغى الماء حملناكم في الجارية}. [الحاقة: 11]. {يعمهون} في ثلاثة أقوال: أحدها: يترددون، ومنه قول الشاعر: (حيران يعمه في ضلالته ... مستورد بشرائع) والثاني: معناه يتحيرون، قال رؤية بن العجاج: (ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالجاهلين العمه) والثالث: يعمهون عن رشدهم، فلا يبصرونه، لأن من عمه عن الشيء كمن كمه عنه، قال الأعشى: (أراني قد عمهت وشاب رأسي ... وهذا اللعب شين للكبير)

16

{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} قوله عز وجل: {أُولَئِكَ الِّذِينَ اشْتَرَوا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} الضلالة: الكفر , والهدى: الإيمان. وفي قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على حقيقة الشراء فكأنهم اشتروا الكفر بالإيمان. والثاني: أنه بمعنى استحبوا الكفر على الإيمان , فعبر عنه بالشراء , لأن الشراء يكون فيما يستحبه مشتريه , فإما أن يكون على معنى شراء المعاوضة فعلاً , لأن المنافقين لم يكونوا قد آمنوا , فيبيعوا إيمانهم. والثالث: أنه بمعنى أخذوا الكفر وتركوا الإيمان , وهذا قول ابن عباس وابن مسعود. {فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما كانوا مهتدين , في اشتراء الضلالة. والثاني: وما كانوا مهتدين إلى التجارة التي اهتدى إليها المؤمنون. والثالث: أنه لما كان التاجر قد لا يربح , ويكون على هدى في تجارته نفى الله عنهم الأمرين من الربح والاهتداء , مبالغة في ذمهم.

17

{مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون} قوله عز وجل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} المثل بالتحريك والتسكين , والمَثَل بالتحريك مستعمل في الأمثال المضروبة , والمِثْل بالتسكين مستعمل في الشيء المماثل لغيره. وقوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} فيه وجهان:

أحدهما: أنه أراد كمثل الذي أوقد , فدخلت السين زائدة في الكلام , وهو قول الأخفش. والثاني: أنه أراد استوقد مِنْ غيره ناراً للضياء , والنار مشتقة من النور. {فَلَمَّا أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ} يقال ضاءت في نفسها , وأضاءت ما حولها قال أبو الطمحان: (أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ ... دُجَى الَّليْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهْ) قوله عز وجل: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: نور المستوقِد , لأنه في معنى الجمع , وهذا قول الأخفش. والثاني: بنور المنافقين , لأن المثل مضروب فيهم , وهو قول الجمهور. وفي ذهاب نورهم وجهان: أحدهما: وهو قول الأصم ذهب الله بنورهم في الآخرة , حتى صار ذلك سمةً لهم يُعْرَفُونَ بها. والثاني: أنه عَنّى النور الذي أظهروه للنبي صلى الله عليه وسلم من قلوبهم بالإسلام. وفي قوله: {وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ} قولان: أحدهما: معناه لم يأتهم بضياء يبصرون به. والثاني: أنه لم يخرجهم منه , كما يقال تركته في الدار , إذا لم تَخرجْهُ منها , وكأنَّ ما حصلوا فيه من الظلمة بعد الضياء أسوأ حالاً , لأن من طُفِئَت عنه النار حتى صار في ظلمة , فهو أقل بصراً ممن لم يزل في الظلمة , وهذا مَثَل ضربه الله تعالى للمنافقين. وفيما كانوا فيه من الضياء , وجعلوا فيه من الظلمة قولان: أحدهما: أن ضياءهم دخولهم في الإسلام بعد كفرهم , والظلمة خروجهم منه بنفاقهم. والثاني: أن الضياء يعود للمنافقين بالدخول في جملة المسلمين , والظلمة زوالُهُ عنهم في الآخرة , وهذا قول ابنِ عباسٍ وقتادةَ.

قوله تعالى: {صَمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} وهذا جمع: أصم , وأبكم , وأعمى , وأصل الصَّمَمُ الإنسداد , يقال قناة صماء , إذا لم تكن مجوفة , وصممت القارورة , إذا سددتها , فالأصم: من انسدَّتْ خروق مسامعه. أما البَكَمُ , ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه آفة في اللسان , لا يتمكن معها من أن يعتمد على مواضع الحروف. والثاني: أنه الذي يولد أخرس. والثالث: أنه المسلوب الفؤاد , الذي لا يعي شيئاً ولا يفهمه. والرابع: أنه الذي يجمع بين الخَرَس وذهاب الفؤاد. ومعنى الكلام , أنهم صمٌّ عن استماع الحق , بكم عن التكلم به , عُمْيٌ عن الإبصار له , رَوَى ذلك قتادة , {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} يعني إلى الإسلام.

19

{أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير} قوله عز وجل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وبَرْقٌ} في الصيِّبِ تأويلان: أحدهما: أنه المطر , وهو قول ابن عباس وابن مسعود. والثاني: أنه السحاب , قال علقمة بن عبدة: (كَأَنَهَّمُ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ) (فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمِّرٍ ... سُقِيتِ غَوَادِي الْمُزنِ حِينَ تَصُوبُ)

وفي الرعد ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مَلَكٌ ينعق بالغيث , كما ينعق الراعي بغنمه , فَسُمِّيَ الصوتُ رعداً باسم ذلك المَلك , وبه قال الخليل. والثاني: أنه ريح تختنق تحت السحاب فَتُصَوِّبُ ذلك الصوت , وهو قول ابن عباس. والثالث: أنه صوت اصطكاك الأجرام. وفي البرق ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ضرب الملك الذي هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد , وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني: أنه ضربه بسوطٍ من نور , وهذا قول ابن عباس. والثالث: أنه ما ينفدح من اصطكاك الأجرام. والصواعق جمع صاعقة , وهو الشديد من صوت الرعد تقع معه قطعة نار , تحرق ما أتت عليه. وفي تشبيه المثل في هذه الآية أقاويل: أحدها: أنه مَثَلٌ للقرآن , شُبِّهَ المطرُ المُنَزَّلُ من السماء بالقرآن , وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء , وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر , وما فيه من البرق بما في القرآن من البيان , وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد الآجل , والدعاء إلى الجهاد في العاجل , وهذا المعنى عن ابن عباس. والثاني: أنه مَثَلٌ , لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم , وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحهم ومواريثهم , وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. والثالث: أنه ضَرَبَ الصيِّب مَثَلاً بظاهر إيمان المنافق , ومثل ما فيه من

الظلمات بصلابته , وما فيه من البرق بنور إيمانه , وما فيه من الصواعق بهلاك نفاقه. قوله عز وجل: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} معناه يستلبها بسرعة. {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِم قَامُوا} وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمنافقين , وفيه تأويلان: أحدهما: معناه كلما أضاء لهم الحق اتبعوه , وإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه. والثاني: معناه كلما غنموا وأصابوا من الإسلام خيراً , اتبعوا المسلمين , وإذا أظلم عليهم فلم يصيبوا خيراً , قعدوا عن الجهاد. قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فالمراد الجمع وإن كان بلفظ الواحد. كما قال الشاعر: (كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيصُ)

21

{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} قوله عز وجل: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أنْداداً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنَّ الأنداد الأكْفَاءُ , وهذا قول ابن مسعود. والثاني: الأشباه , وهو قول ابن عباس. والثالث: الأضداد , وهو قول المفضل.

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: وأنتم تعلمون أن الله خلقكم , وهذا قول ابن عباس وقتادة. والثاني: معناه وأنتم تعلمون أنه لا ندَّ له ولا ضد , وهذا قول مجاهد. والثالث: معناه وأنتم تعْقلون فعبر عن العقل بالعلم.

23

{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني في القرآن , على عبدنا: يعني محمداً صلى الله عليه وسلم , والعبد مأخوذ من التعبد , وهو التذلل , وسُمي المملوك من جنس ما يعقل عبداً , لتذلله لمولاه. {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني من مثله من القرآن , وهذا قول مجاهد وقتادة. والثاني: فأتوا بسورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم من البشر , لأن محمداً بشر مثلهم. {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني أعوانكم , وهذا قول ابن عباس. والثاني: آلهتكم , لأنهم كانوا يعتقدون أنها تشهد لهم , وهذا قول الفراء. والثالث: ناساً يشهدون لكم , وهذا قول مجاهد. قوله عز وجل: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الوَقود بالفتح الحطب , والوُقود بالضم التوقُّد , والحجارة من كبريتٍ أسود , وفيها قولان:

أحدهما: أنهم يعذبون فيها بالحجارة مع النار , التي وقودها الناس , وهذا قول ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أن الحجارة وقود النار مع الناس , ذكر ذلك تعظيماً للنار , كأنها تحرق الحجارة مع إحراقها الناس. وفي قوله: {أُعِدَّتْ للْكَافِرِينَ} قولان: الأول: أنها وإن أعدت للكافرين , فهي معدة لغيرهم من مستحقي العذاب من غير الكافرين , وهي نار واحدة , وإنما يتفاوت عقابهم فيها. والثاني: أن هذه النار معدة للكافرين خاصة , ولغيرهم من مستحقي العذاب نارٌ غيرها.

25

{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} قوله عز وجل: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} بشر من البشارة , أو خبر يرد عليك بما يَسُرُّ , وقيل بما يُسرُّ ويُغِمُّ , وإنما كثر استعماله فيما يَسُرُّ , حتى عُدِلَ به عما يُغِمُّ , وهو مأخوذ من البَشْرَةِ وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر [يرد عليه]. والجنات جمع جنة , وهي البستان ذو الشجر , وسمي جنة لأن ما فيه من الشجر يستره , وقال المفضل: الجنة كل بستان فيه نخل , وإن لم يكن فيه شجر غيره , فإن كان فيه كَرْمٌ فهو فردوس , كان فيه شجر غير الكرم أو لم يكن.

{تَجْرِي مِنْ تَحْتَها الأَنْهَارُ} يعني من تحت الشجر , وقيل: إن أنهار الجنة تجري من غير أخدود. قوله عز وجل: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هذا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} , يعني بقوله: {رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرةٍ رِزْقاً} أي من ثمار شجرها. {قَالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} فيه تأويلان: أحدهما: أن معناه: أن هذا الذي رُزِقْنَاهُ من ثمار الجنة , مثلُ الذي رُزِقْنَاهُ من ثمار الدنيا , وهذا قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة. والثاني: أن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها , استخلف مكانها مثلها , فإذا رأوا ما استخلف بعد الذي جُنِي , اشتُبِه عليهم , فقالوا: {هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل} , وهو قول أبي عبيد ويحيى بن أبي كثير. قوله عز وجل: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن معنى التشابه أن كله خيار يشبه بعضه بعضاً وليس كثمار الدنيا , التي لا تتشابه لأن فيها خياراً وغير خيار , وهذا قول الحسن وقتادة وابن جريج. والثاني: أن التشابه في اللون دون الطعم فكأن ثمار الجنة في ألوان ثمار الدنيا , وإن خالفتها في الطعم , وهذا قول ابن عباس وابن مسعود والربيع بن أنس. والثالث: أن التشابه في الأسماء دون الألوان والطعوم , فلا تشبه ثمار الجنة شيئاً من ثمار الدنيا في لون ولا طعم , وهذا قول ابن الأشجعي وليس بشيء.

قوله عز وجل: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} في الأبدان , والأخلاق , والأفعال , فلا يَحِضْن , ولا يلدْن , ولا يذهَبْن إلى غائطٍ ولا بولٍ , وهذا قول جميع أهل التفسير.

26

{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَة فما فوقها}. في قوله: {لاَ يَسْتَحْيِي} ثلاثةُ تأويلاتٍ: أحدها: معناه لا يترك (121). والثاني: [يريد] لا يخشى. والثالث: لا يمتنع , وهذا قول المفضل. وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من موَاقَعَةِ القبح. والبعوضة: من صفار البقِّ سُميت بعوضة , لأنها كبعض البقَّة لصِغَرِها. وفي قوله: {مَا بَعُوضَةً} ثلاثةُ أوجُهٍ:

أحدها: أن (ما) بمعنى الذي , وتقديره: الذي هو بعوضة. والثاني: أن معناه: ما بين بعوضة إلى ما فَوْقها. والثالث: أن (ما) صلةٌ زائدةٌ , كما قال النابغة: (قَالَتْ أَلاَ لَيْتُمَا هذَا الْحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفُهُ فَقَدِ) {فَمَا فَوْقَهَا} فيه تأويلان: أحدهما: فما فوقها في الكبر , وهذا قول قتادة وابنِ جُريجٍ. والثاني: فما فوقها في الصغر , لأن الغرض المقصود هو الصغر. وفي المثل ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وارد في المنافقين , حيث ضَرَبَ لهم المَثَلَيْنِ المتقدِّمين: مثَلَهُمْ كمثل الذي استوقد ناراً , وقوله: أو كصيِّب من السماء , فقال المنافقون: إن الله أعلى مِنْ أن يضرب هذه الأمثال , فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} , وهذا قول ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أن هذا مثلٌ مبتدأ ضَرَبَهُ الله تعالى مثلاً للدنيا وأهلها , وهو أن البعوضة تحيا ما جاعت , وإذا شبعت ماتت , كذلك مثل أهل الدنيا , إذا امتلأوا من الدنيا , أخذهم الله تعالى عند ذلك , وهذا قول الربيع بن أنس. والثالث: أن الله عز وجل حين ذكر في كتابه العنكبوت والذباب وضربهما مثلاً , قال أهل الضلالة: ما بال العنكبوت والذباب يذكران , فأنزل الله تعالى هذه الآية , وهذا قول قتادةَ , وتأويل الربيع أحسن , والأولُ أشبَهُ. قوله عز وجل: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} فيه ثلاثةُ تأويلات: أحدها: معناه بالتكذيب بأمثاله , التي ضربها لهم كثيراً , ويهدي بالتصديق بها كثيراً. والثاني: أنه امتحنهم بأمثاله , فَضَلَّ قوم فجعل ذلك إضلالاً لهم , واهتدى قوم فجعله هدايةً لهم. والثالث: أنه إخبار عمَّنْ ضلَّ ومن اهتدى. قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}.

أما النقض , فهو ضد الإبرام , وفي العهد قولان: أحدهما: الوصيَّة. والثاني: الموثق. والميثاق ما وَقَعَ التوثق به. وفيما تضمنه عهده وميثاقه أربعة أقاويل: أحدها: أن العهد وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعة , ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية في كتبه , وعلى لسان رسله , ونقضهم ذلك بترك العمل به. والثاني: أن عهده ما خلقه في عقولهم من الحجة على توحيده وصدق رسله بالمعجزات الدالة على صدقهم. والثالث: أن عهده ما أنزله على أهل الكتاب [من] , على صفة النبي صلى الله عليه وسلم , والوصية المؤكدة باتباعه , فذلك العهد الذي نقضوه بجحودهم له بعد إعطائهم الله تعالى الميثاق من أنفسهم , ليبينه للناس ولا يكتمونه , فأخبر سبحانه , أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً. والرابع: أن العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم , الذي وصفه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنا} [الأعراف: 172]. وفي هذه الكتابة التي في ميثاقه قولان: أحدهما: أنها كناية ترجع إلى اسم الله وتقديره من بعد ميثاق الله. والثاني: أنها كناية ترجع إلى العهد وتقديره من بعد ميثاق العهد. وفيمن عَنَاهُ الله تعالى بهذا الخطاب , ثلاثة أقاويل: أحدها: المنافقون. والثاني: أهل الكتاب. والثالث: جميع الكفار. قوله عز وجل: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: أن الذي أمر الله تعالى به أن يوصل , هو رسوله , فقطعوه بالتكذيب والعصيان , وهو قول الحسن البصري. والثاني: أنَّه الرحمُ والقرابةُ , وهو قول قتادة. والثالث: أنه على العموم في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. قوله عز وجلَّ: {وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ} وفي إفسادهم في الأرض قولان: أحدهما: هو استدعاؤهم إلى الكفر. والثاني: أنه إخافتهم السُّبُلَ وقطعهم الطريق. وفي قوله: {أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قولان: أحدهما: أن الخسران هو النقصان , ومنه قول جرير: (إِنَّ سليطاً في الْخَسَارِ إِنَّهُ ... أَوْلاَدُ قَوْمٍ حلفوا افنه) يعني بالخَسَار , ما ينقُصُ حظوظهم وشرفهم. والثاني: أن الخسران ها هنا الهلاك , ومعناه: أولئك هم الهالكون. ومنهم من قال: كل ما نسبه الله تعالى من الخسران إلى غير المسلمين فإنما يعني الكفر , وما نسبه إلى المسلمين , فإنما يعني به الذنب.

28

{كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} قوله عز وجل: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}. في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ} قولان: أحدهما: أنه خارج مخرج التوبيخ. والثاني: أنه خارج مخرج التعجب , وتقديره: اعجبوا لهم , كيف يكفرون!

وفي قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ستة تأويلات: أحدها: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} أي لم تكونوا شيئاً , {فَأَحْيَاكُمْ} أي خلقكم , {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم , {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يوم القيامة , وهذا قول ابن عباس وابن مسعود. والثاني: أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} يعني في القبور {فَأَحْيَاكُمْ} للمساءلة , {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في قبوركم بعد مساءلتكم , ثم يحييكم عند نفخ الصور للنشور , لأن حقيقة الموت ما كان عن حياةٍ , وهذا قول أبي صالح. والثالث: أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} يعني في أصلاب آبائكم , {فَأَحْيَاكُمْ} أي أخرجكم من بطون أمهاتكم , {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} الموتة التي لا بد منها , {ثُم يُحْيِيكُمْ} للبعث يوم القيامة , وهذا قول قتادة. والرابع: أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْواتاً} يعني: أن الله عز وجل حين أخذ الميثاق على آدم وذريته , أحياهم في صلبه وأكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق , ثم أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم , ثم أحياهم وأخرجهم من بطون أمهاتهم , وهو معنى قوله تعالى: {يَخْلُقْكُمْ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] فقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} يعني بعد أخذ الميثاق , {فَأَحْيَاكُمْ} بأن خلقكم في بطون أمهاتكم ثم أخرجكم أحياء , {ثم يُمِيتُكُمْ} بعد أن تنقضي آجالكم في الدنيا , {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالنشور للبعث يوم القيامة , [وهذا] قول ابن زيدٍ. والخامس: أن الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة , فهي مَيِّتَةٌ من حين فراقها من جسده إلى أن ينفخ الروح فيها , ثم يحييها بنفخ الروح فيها , فيجعلها بشراً سويّاً , ثم يميته الموتة الثانية بقبض الروح منه , فهو ميت إلى يوم ينفخ في الصور , فيرُد في جسده روحه , فيعود حياً لبعث القيامة , فذلك موتتان وحياتان. والسادس: أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} خاملي الذكر دارسي الأثر , {فَأَحْيَاكُمْ} بالظهور والذكر , {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجَالكم , {ثُمَّ يُحييكُمْ} للبعث , واستشهد من قال هذا التأويل بقول أبي بُجَيْلَةَ السَّعْدِيِّ:

(وَأَحْيَيْتَ مِنْ ذِكْرِي وَمَا كَانَ خامِلاً ... وَلكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أنْبَهُ مِنْ بَعْضِ) وفي قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تأويلان: أحدهما: إلى الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم. والثاني: إلى المجازاة على الأعمال.

29

{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} قوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ} فيه ستة أقاويل: أحدها: أن معنى قوله: {اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ} أي أقبل عليها , وهذا قول الفراء. والثاني: معناه: عمد إليها , وقصد إلى خلقها. والثالث: أنّ فِعْل الله تحوَّل إلى السماء , وهو قول المفضل. والرابع: معناه: ثم استوى أمره وصنعه الذي صَنَعَ به الأشياء إلى السماء , وهذا قول الحسن البصري. والخامس: معناه ثم استوت به السماء. السادس: أن الاستواء والارتفاع والعلوَّ , وممن قال بذلك: الربيع بن أنس , ثم اختلف قائلو هذا التأويل في الذي استوى إلى السماء فعلا عليها على قولين: أحدهما: أنه خالقها ومنشئها. والثاني: أنه الدخان , الذي جعله الله للأرض سماءً.

30

{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً} , في قوله: {وَإِذْ} وجهان: أحدهما: أنه صلة زائدة , وتقدير الكلام: وقال ربك للملائكة , وهذا قول أبي عبيدة , واستشهد بقول الأسود بن يعفر: (فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ ... وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحاً بِفَسَادِ) والوجه الثاني: أن (إذ) كلمة مقصورة , وليست بصلة زائدة , وفيها لأهل التأويل قولان: أحدهما: أن الله تعالى لما ذكَّر خلقه نِعَمَهُ عليهم بما خلقه لهم في الأرض , ذكّرهم نِعَمَهُ على أبيهم آدَمَ {إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} , وهذا قول المفضَّل. والثاني: أن الله تعالى ذكر ابتداء الخلق فكأنه قال: وابتدأ خلقكم {إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} , وهذا من المحذوف الذي دَلَّ عليه الكلام , كما قال النمر بن تَوْلَبَ (127): (فَإِنَّ الْمَنَّيةَ مَنْ يَخْشَهَا ... فَسَوفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا) يريد: أينما ذهب. فأما الملائكة فجمع مَلَكٍ , وهو مأخوذ من الرسالة , يقال: ألِكِني إليها أي أرسلني إليها , قال الهذلي: (ألِكْنِي وَخَيْرُ الرَّسُو ... لِ أَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ)

والألوك الرِّسالة , قال لبيد بن ربيعة: (وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ... بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَألْ) وإنما سميت الرسالة ألوكاً لأنها تُؤْلك في الفم , والفرس يألك اللجام ويعلكه , بمعنى يمضغ الحديد بفمه. والملائكة أفضل الحيوان وأعقل الخلق , إلا أنهم لا يأكلون , ولا يشربون , ولا ينكحون , ولا يتناسلون , وهم رسل الله , لا يعصونه في صغير ولا كبير , ولهم أجسام لطيفة لا يُرَوْنَ إلا إذا قوَّى الله أبصارنا على رؤيتهم. وقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً} اختلف في معنى {جاعل} على وجهين: أحدهما: أنه بمعنى خالق. والثاني: بمعنى جاعل , لأن حقيقة الجَعْل فِعْلُ الشيء على صفةٍ , وحقيقة الإحداث إيجاد الشيء بعد العدم. و {الأرض} قيل: إنها مكة , وروى ابن سابط , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دُحِيَت الأرضُ من مكةَ) ولذلك سميت أم القرى , قال: وقبر نوح , وهود ,

وصالح , وشعيب بن زمزم , والركن , والمقام. وأما (الخليفة) فهو القائم مقام غيره , من قولهم: خَلَفَ فلانٌ فلاناً , والخَلَفُ بتحريك اللام من الصالحين , والخَلْفُ بتسكينها من الطالحين , وفي التنزيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59] , وفي الحديث: (ينقل هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ). وفي خلافة آدم وذريته ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه كان في الأرض الجِنُّ , فأفسدوا فيها , سفكوا الدماء , فأُهْلِكوا , فَجُعِل آدم وذريته بدلهم , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه أراد قوماً يَخْلُفُ بعضهم بعضاً من ولد آدم , الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض , وهذا قول الحسن البصري. والثالث: أنه أراد: جاعل في الأرض خليفةً يخْلُفُني في الحكم بين خلقي , وهو آدم , ومن قام مقامه من ولده , وهذا قول ابن مسعود. قوله عز وجل: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} , وهذا جواب من الملائكة حين أخبرهم , أنه جاعل في الأرض خليفةً , واختلفوا في

جوابهم هذا , هل هو على طريق الاستفهام أو على طريق الإيجاب؟ على وجهين: أحدهما: أنهم قالوه استفهماً واستخباراً حين قال لهم: إني جاعلٌ في الأرض خليفة , فقالوا: يا ربنا أَعْلِمْنَا , أجاعل أنت في الأرض من يُفْسِدُ فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم: إني أعلم ما لا تعلمون , ولم يخبرهم. والثاني: أنه إيجاب , وإن خرجت الألف مَخْرج الاستفهام , كما قال جرير: (أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايا ... وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ) وعلى هذا الوجه في جوابهم بذلك قولان: أحدهما: أنهم قالوه ظناً وتوهُّماً , لأنهم رأوا الجن من قبلهم , قد أفسدوا في الأرض , وسفكوا الدماء , فتصوروا أنه إن استخلف استخلف في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء. وفي جوابهم بهذا وجهان: أحدهما: أنهم قالوه استعظاماً لفعلهم , أي كيف يفسدون فيها , ويسفكون الدماء , وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال: إني أعلم ما لا تعلمون. والثاني: أنهم قالوه تعجباً من استخلافه لهم أي كيف تستخلفهم في الأرض وقد علمت أنهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء فقال: {إني أعلم ما لا تعلمون}. وقوله: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} السفك صب الدم خاصةً دون غَيْرِهِ من الماء والمائع , والسفح مثله , إلا أنه مستعمل في كل مائع على وجه التضييع , ولذلك قالوا في الزنى: إنه سفاح لتضييع مائه فيه. قوله عز وجل: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}. والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على جهة التعظيم , ومنه قول أعشى بني ثعلبة:

(أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاجِرِ) أي براءةً من علقمة. ولا يجوز أن يسبَّحَ عَيْرُ اللهِ , وإن كان منزهاً , لأنه صار علَماً في الدين على أعلى مراتب التعظيم الَّتي لا يستحقها إلا اللهُ تعالى. وفي المراد بقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أربعة أقاويل: أحدها: معناه نصلي لك , وفي التنزيل: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] , أي من المصلين , وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.

والثاني: معناه نعظِّمك , وهذا قول مجاهد. والثالث: أنه التسبيح المعروف , وهذا قول المفضل , واستشهد بقول جرير: (قَبَّحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا ... سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إهْلاَلاَ) وأما قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} فأصل التقديس التطهير , ومنه قوله تعالى: {الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} أي المطهَّرة , وقال الشاعر: (فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ وَالنَّسَا ... كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ) أي المطهَّر. وفي المراد بقولهم: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} ثلاثةُ أقاويلَ: أحدها: أنه الصلاة. والثاني: تطهيره من الأدناس. والثالث: التقديس المعروف. وفي قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ} ثلاثةُ أقاويل: أحدها: أراد ما أضمره إبليس من الاستكبار والمعصية فيما أُمِرُوا به من السجود لآدم , وهذا قول ابن عباس وابن مسعود. والثاني: مَنْ في ذرية آدم في الأنبياء والرُّسُلِ الذين يُصْلِحُونَ في الأرض ولا يفسدون , وهذا قول قتادة. والثالث: ما اختص بعلمه من تدبير المصالح.

31

{وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} قوله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} في تسميته بآدم قولان: أحدهما: أنه سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض , وأديمها هو وجهها الظاهر , وهذا قول ابن عباس , وقد رَوَى أبو موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ , قَبَضَها مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ , فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ , جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ , وَالأَسوَدُ , وَالأبْيَضُ , وَالسَهْلُ , وَالخَبِيْثُ , وَالطَّيِّبُ).

والثاني: أنه مأخوذ من الأدمة , وهي اللون. وفي الأسماء التي علَّمها الله تعالى آدَمَ , ثلاثة أقْوَالٍ: أحدها: أسماء الملائكة. والثاني: أسماء ذريته. والثالث: أسماء جميع الأشياء , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , ومجاهد. ثم فيه وجهان: أحدهما: أن التعليم إنما كان مقصوراً على الاسم دون المعنى. والثاني: أنه علمه الأسماء ومعانيها , إذ لا فائدة في علم الأسماء بلا معاني , فتكون المعاني هي المقصودة , والأسماءُ دلائل عليها. وإذا قيل بالوجه الأول , أن التعليم إنما كان مقصوراً على ألفاظ الأسماء دون معانيها , ففيه وجهان: أحدهما: أنه علمه إياها باللغة , التي كان يتكلم بها. والثاني: أنه علمه بجميع اللغات , وعلمها آدمُ ولده , فلما تفرقوا تكلم كل قوم منهم بلسان استسهلوه منها وأَلِفُوه , ثم نسوا غيره فتطاول الزمن , وزعم قوم أنهم أصبحوا وكل منهم يتكلمون بلغةٍ قد نسوا غيرها في ليلة واحِدةٍ , ومثل هذا في العُرْفِ ممتنع. قوله عز وجلَّ: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ على الْمَلاَئِكَةِ} وفيما عرضه عليهم قولان: أحدهما: أنه عرض عليهم الأسماء دون المسميات. والثاني: أنه عرض عليهم المُسَمَّيْنَ بها. وفي حرف ابن مسعود: {وَعَرَضَهُنَّ} وفي حرف أُبَيٍّ: {وَعَرَضَهَا} فكان الأصح توجه العرض إلى المُسَمًّيْنَ.

ثم في زمان عرْضِهِم قولان: أحدهما: أنه عرضهم بعد أن خلقهم. والثاني: أنه صورهم لقلوب الملائكة , ثم عرضهم قبل خلقهم. {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ومعنى أنبئوني خبروني مأخوذ من الإنباء , وفي الإنباء قولان: أَظْهَرُهُمَا: أنه الإخبار , والنبأ الخبر , والنبيء بالهمز مشتق من هذا. والثاني: أن الإنباء الإعلام , وإنما يستعمل في الإخبار مجازاً. وقوله: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ} يعني الأسماءَ الَّتي علمها آدم. وفي قوله تعالى: {إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ستة أقاويل: أحدها: إن كنتم صادقين أني لا أخلق خَلْقاً إلا كنتم أعلم منه؛ لأنه هجس في نفوسهم أنهم أعلم من غيرهم. والثاني: إن كنتم صادقين فيما زعمتم أن خُلَفَائي يفسدون في الأرض. والثالث: إن كنتم صادقين أني إنِ استخلفتكم فيها سبَّحْتموني وقَدَّسْتُمُوني , فإن استخلفت غيركم فيها عصاني. والرابع: إن كنتم صادقين فيما وقع في نفوسكم , أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه. والخامس: معنى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي عالمين. والسادس: أن معناه إن كنتم صادقين. قوله عز وجل: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} العليم: هو العالم من غير تعليم , وفي (الحكيم) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المُحْكِمُ لأفعاله.

والثاني: أنه المانع من الفساد , ومنه سميت حَكَمَةُ اللجام , لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد , وقال جرير: (أبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إِنِّي أخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أغْضَبَا) أي امنعوهم. والثالث: أنه المُصِيبُ للحقِّ , ومنه سمي القاضي حاكماً , لأنه يصيب الحق في قضائه , وهذا قول أبي العباس المبرد. قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: {مَا تُبْدُونَ} هو قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} , وفي {مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قولان: أحدهما: ما أسرَّه إبليس من الكبر والعصيان , وهذا قول ابن عباس , وابن مسعود. والثاني: أن الذي كتموه: ما أضمروه في أنفسهم أن الله تعالى لا يخلق خلقاً إلاَّ كانوا أكرمَ عليه منه , وهو قول الحسن البصري.

34

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} وقوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ}. واختلف أهل التأويل في أمره الملائكة بالسجود لآدم , على قولين: أحدهما: أنه أمرهم بالسجود له تَكْرِمَةً وَتَعْظِيماً لشأنِهِ.

والثاني: أَنَّهُ جعله قِبْلَةً لهم , فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم , وفيه ضرب من التعظيم. وأصل السجود الخضوع والتطامن , قال الشاعر: (بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبَلْقُ في حُجُرَاتِهِ ... تَرَى الأَكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ) وسمى سجود الصلاة سجوداً , لما فيه من الخضوع والتطامن , فسجد الملائكة لآدم طاعةً لأمر الله تعالى إلا إبليس أَبَى أن يسجُدَ له حَسَداً واستكباراً. واختلفوا في إبليس , هل كان من الملائكة أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه كان من الملائكة , وهذا قول ابن عباس , وابن مسعود , وابن المسيب , وابن جريج , لأنه استثناء منهم , فَدَلَّ على دخوله منهم. والثاني: أنه ليس من الملائكة , وإنما هو أبو الجن , كما أن آدم أبو الإنس , وهذا قول الحسن وقتادة وابن زيد , ولا يمتنع جواز الاستثناء من غير جنسه , كما قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتَّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] وهذا استثناء منقطع. واختُلِفَ في تَسْمِيتِهِ بإبليس على قولين: أحدهما: أنه اسم أعجمي وليس بمشتقٍّ. والثاني: أنه اسمُ اشتقاق , اشتُقَّ من الإبلاس وهو اليأس من الخَيْرِ , ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] أي آيِسُونَ من الخير , وقال العجَّاجُ: (يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَساً ... قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ , وَأَبْلَسَا) فأمَّا من ذهب إلى أن إبليس كان من الملائكة , فاختلفوا في قوله تعالى:

{إِلاَّ إِبْلِيسَ كان مِنَ الْجِنِّ} [50 الكهف] لِمَ سماه الله تعالى بهذا الاسم , على أربعة أقاويل: أحدها: أنهم حي من الملائكة يُسَمَّوْن جنّاً كانوا من أشدِّ الملائكة اجتهاداً , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه جعل من الجنِّ , لأنه من خُزَّانِ الجنَّةِ , فاشتق اسمه منها , وهذا قول ابن مسعود. والثالث: أنه سمي بذلك لأنه جُنَّ عن طاعة ربِّه , وهذا قول ابن زيدٍ. والرابع: أن الجِنِّ لكلِّ ما اجْتَنَّ فلم يظهر , حتى إنهم سَمَّوُا الملائكة جناً لاستتارهم , وهذا قول أبي إسحاق , وأنشد قول أعشى بني ثعلبة: (لَوْ كَانَ حَيٌّ خَالِد أَوْ مُعَمَّراً ... لَكَانَ سُلَيْمَان البري مِنَ الدَّهْرِ) (بَرَاهُ إلهي وَاصْطَفَاهُ عِبَادُهُ ... وَمَلَّكَهُ ما بَيْنَ نُوبَا إلى مِصْرِ) (وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً ... قِيَاماً لَدَيْهِ يعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ) فسمَّى الملائكة جناً لاستتارهم. وفي قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ثلاثةُ أَقَاوِيلَ: أحدها: أنه قد كان قبله قوم كفار , كان إبليس منهم. والثاني: أن معناه: وصار من الكافرين. والثالث: وهو قول الحسن: انه كان من الكافرين , وليس قبله كافرا , كما كان من الجنِّ , وليس قبله جِنٌّ , وكما تقول: كان آدم من الإنس , وليس قبله إنسيٌّ.

35

{وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا

هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} قوله عز وجل: {وَقُلْنَا يا آدَمَ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}. إن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقى عليه النوم , ولذلك قيل للمرأة: ضلع أعوج. وسُمِّيت امرأةً لأنها خُلِقَتْ مِنَ المرءِ , فأما تسميتها حواء , ففيه قولان: أحدهما: أنها سميت بذلك لأنها خلقت من حَيٍّ , وهذا قول ابن عباسٍ , وابن مسعود. والثاني: أنها سميت بذلك , لأنها أم كل حيٍّ. واختُلِف في الوقت الذي خلقت فيه حواءُ على قولين: أحدهما: أن آدم أُدْخِلَ الجنَّةَ وَحْدَهُ , فَلَمَّا استوحش خُلِقَتْ حواءُ من ضِلْعِهِ بعد دخوله في الجنة , وهذا قول ابن عباسٍ , وابن مسعود. والثاني: أنها خلقت من ضلعه قبل دخوله الجنة , ثم أُدْخِلا معاً إلى الجنةِ , لقوله تعالى: {وَقُلْنَا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} , وهذا قول أبي إسحاق. واختلف في الجَنَّةِ التي أُسْكِنَاهَا على قولين: أحدهما: أنها جنةُ الخُلد. والثاني: أنها جنةٌ أعدها الله لهما , والله أعلم. قوله عز وجل: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}. في الرغدِ ثلاثةُ تأويلاتٍ:

أحدها: أنه العيش الهني , وهذا قول ابن عباس وابن مسعود , ومنه قول امرئ القيس: (بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِماً ... يَأْمِنُ الأحْدَاثَ في عَيْشٍ رَغَدْ) والثاني: أنه العيش الواسع , وهذا قول أبي عبيدة. والثالث: أنه أراد الحلال الذي لا حساب فيه , وهو قول مجاهد. قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ}. اختلف أهل التفسير في الشجرة التي نُهِيا عنها , على أربعةِ أقاويل: أحدها: أنها البُرُّ , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنها الكَرْمُ , وهذا قول السُّدِّيِّ , وجعدة بن هبيرة. والثالث: أنها التِّين , وهذا قول ابن جريجٍ , ويحكيه عن بعض الصحابة. والرابع: أنها شجرة الخلد التي تأكل منها الملائكة. وفي قوله تعالى: {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} قولان: أحدهما: من المعتدين في أكل ما لم يُبَحْ لكما. والثاني: من الظالمين لأنفسكما في أكلكما. واختلفُوا في معصية آدم بأكله من الشجرة , على أي وجهٍ وقعت منه , على أربعة أقاويل: أحدها: أنه أكل منها وهو ناسٍ للنهي لقولِهِ تعالى: {ولقد عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] وزعم صاحب هذا القول , أن الأنبياء يلزمهم التحفظ والتيقُّظُ لكثرة معارفهم وعُلُوِّ منازلهم ما لا يلزم غيرهم , فيكون تشاغله عن تذكُّر النهي تضييعاً صار به عاصياً.

والقول الثاني: أنه أكل منها وهو سكران فصار مؤاخذاً بما فعله في السُّكْرِ , وإن كان غير قاصدٍ له , كما يؤاخَذُ به لو كان صاحياً , وهو قول سعيد بن المسيب. والقول الثالث: أنه أكل منها عامداً عالماً بالنهي , وتأول قوله: {وَلَقَدْ عَهْدْنَا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] أي فَزَلَّ , ليكون العَمْدُ في معصيةٍ يستحق عليها الذمَّ. والرابع: أنه أكل منها على جهة التأويل , فصار عاصياً بإغفال الدليل , لأن الأنبياء لا يجوز أن تقع منهم الكبائر , ولقوله تعالى في إبليس: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] وهو ما صرفهما إليه من التأويل. واختلف من قال بهذا في تأويله الذي استجاز به الأكل , على ثلاثةِ أقاويلَ: أحدها: أنه تأويل على جهةِ التنزيه دون التحريم. والثاني: أنه تأويل النهي عن عين الشجرة دون جنسها , وأنه إذا أكل من غيرها من الجنسِ لم يعصِ. والثالث: أن التأويل ما حكاه الله تعالى عن إبليس في قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 23]. قوله عز وجل: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}. قرأ حمزة وحده: {فَأَزَالَهُمَا} بمعنى نحَّاهُما من قولك: زُلْتُ عن المكان , إذا تنحَّيْتَ عنه , وقرأ الباقون: {فَأَزَلَّهُمَا} بالتشديد بمعنى استزلَّهما من الزلل , وهو الخطأ , سمي زلَلاً لأنه زوال عن الحقَّ , وكذلك الزّلة زوال عن الحق , وأصله الزوال.

والشيطان الذي أزلهما هو إبليس. واختلف المفسرون , هل خلص إليهما حتى باشرهما بالكلام وشافههما بالخطاب أم لا؟ فقال عبد الله بن عباس , ووهب بن منبه , وأكثر المفسرين أنه خلص إليهما , واستدلُّوا بقوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] وقال محمد بن إسحاق: لم يخلص إليهما , وإنما أوقع الشهوة في أنفسهما , ووسوس لهما من غير مشاهدة , لقوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 20] , والأول أظهر وأشهر. وقوله تعالى: {فَأَخْرجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} يعني إبليس , سبب خروجهما , لأنه دعاهما إلى ما أوجب خروجهما. قوله عزَّ وجلَّ: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. الهُبوط بضم الهاء النزول , وبفتحها موضع النزول , وقال المفضل: الهبوط الخروج من البلدة , وهو أيضاً دُخولها , فهو من الأضداد , وإذا كان الهبوط في الأصل هو النزول , كان الدخُول إلى البلدة لسكناها نزولاً بها , فصار هُبوطاً. واختلفوا في المأمور بالهبوط , على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه آدم , وحواء , وإبليس , والحيَّةُ , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه آدم وذريته , وإبليس وذريته , وهذا قول مجاهد. والثالث: أنه آدم , وحواء , والمُوَسْوِسُ. والعدو اسم يستعمل في الواحد , والاثنين , والجمع , والمذكر ,

والمؤنث , والعداوة مأخوذة من المجاوزة من قولك: لا يَعْدوَنَّكَ هذا الأمْرُ , أيْ لا يُجاوِزَنَّكَ , وعداهُ كذا , أي جازوه , فَسُمِّيَ عَدُوّاً لمجاوزةِ الحدِّ في مكروه صاحبه , ومنه العَدْوُ بالقَدَم لمجاوزة المشْيِ , وهذا إخبار لهم بالعداوة وتحذير لهم , وليس بأمر , لأن الله تعالى لا يأمر بالعداوة. واخْتُلِفَ في الَّذينَ قِيلَ لهم: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عدُوٌّ} , على قولين: أحدهما: أنهم الذين قيل هلم اهبطوا , على ما ذكرنا من اختلاف المفسرين فيه. والثاني: أنهم بنو آدم , وبنو إبليس , وهذا قول الحسن البصري. قوله عز وجل: {وَلَكُمْ في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ} فيه تأويلان: أحدهما: أن المستقر من الأرض موضع مقامهم عليها , لقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً} [غافر: 64] , وهذا قول أبي العالية. والثاني: أنه موضع قبورهم منها , وهذا قول السُّدِّيِّ. قوله عز وجلَّ: {وَمَتَاعٌ إلى حينٍ}: والمتاع كل ما اسْتُمْتِعَ به من المنافع , ومنه سُمِّيَتْ متعة النكاح , ومنه قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] , أي ادفعوا إليْهِنَّ ما ينتفعْنَ به , قال الشاعر: (وَكُلُّ غَضَارَةٍ لَكَ من حَبِيب ... لها بِكَ , أو لَهَوْتَ بِهِ , مَتَاعُ) والحين: الوقت البعيد , ف (حِينئِذٍ) تبعيد قولِكَ: (الآن) , وفي المراد بالحين في هذا الموضع ثلاثة أقاويل: أحدها: إلى الموت , وهو قول ابن عباس والسُّدِّيِّ. والثاني: إلى قيام الساعة , وهو قول مجاهد. والثالث: إلى أجلٍ , وهو قول الربيع.

37

{فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم

يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجلَّ: {فَتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلَمَاتٍ فَتابَ عَلَيْهِ}: أما (الكلام) فمأخوذ من التأثير , لأن له تأثيراً في النفس بما يدلُّ عليه من المعاني؛ ولذلك سُمِّيَ الجُرْحُ كَلْماً لتَأْثِيره في البدن , واللفظُ مشتق من قولك: لفظت الشيء , إذا أخْرجْتَهُ من قلبك. واختُلِفَ في الكلمات التي تلقَّاها آدم من ربِّه على ثلاثة أقاويل: أحدها: قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وهذا قول الحسن , وقتادة , وابن زيد. والثاني: قول آدم: اللهم لا إله إلا أنت , سبحانك وبحمدك , ربِّ إني ظلمت نفسي , فاغفر لي , إنك خير الغافرين , اللهم لا إله إلا أنت , سبحانك وبحمدك , إنِّي ظلمت نفسي , فتُب عليَّ , إِنَّك أنت التوابُ الرحيم , وهذا قول مجاهد. والثالث: أن آدم قال لربِّه إذ عصاه: ربِّ أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال ربُّه: إني راجعك إلى الجنَّةِ , وكانت هي الكلمات التي تلقاها من ربه , وهذا قول ابن عباسٍ. قوله عز وجل: {فَتَابَ عَلَيْهِ} , أي قبل توبته , والتوبةُ الرجوع , فهي من العبد رجوعه عن الذنب بالندم عليه , والإقلاع عنه , وهي من الله تعالى على عبده , رجوع له إلى ما كان عليه.

فإن قيل: فِلمَ قال: {فَتَابَ عَلَيْهِ} , ولم يقُلْ: فتابَ علَيْهِما , والتوبة قد توجهت إليهما؟ قيل: عنه جوابان: أحدهما: لما ذكر آدم وحده بقوله: {فَتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} , ذكر بعده قبول توبته , ولم يذكر توبة حوَّاء وإن كانت مقبولة التوبة , لأنه لم يتقدم ذكرها. والثاني: أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحداً , جاز أن يذكرَ أحدهما , ويكونَ المعنى لهما , كما قال تعالى: {وَإذَا رَأَوا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] وكما قال عز وجل: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} , أي الكثيرُ القبولِ للتوبةِ , وعقَّبه بالرحمة , لئلا يخلِّيَ الله تعالى عباده من نِعَمِهِ. وقال الحسن: لم يخلق الله تعالى آدم إلا للأرض , فلو لم يعص لخرج على غير تلك الحال , وقال غيره: يجوز أن يكون خَلَقَهُ للأرض إن عَصَى , ولغيرها إن لم يعصِ. ولم يُخْرجِ اللهُ تعالى آدمَ من الجنة ويُهْبِطهُ على الأرض عقوبةً , لأمرين: أحدهما: أن ذنبه كان صغيراً. والثاني: أنه أُهْبِطَ بعد قبول توبته. وإنما أُهْبِطَ لأحد أمرين: إِمَّا تأديباً , وإمَّا تغليظاً للمحنة.

40

{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون} قوله عز وجل: {يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُا نعمتي الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}. وإسرائيل هو يعقوبُ بنُ إسحاقَ بن إبراهيمَ , قال ابنُ عباس: (إسرا) بالعبرانية: عبد , و (إيل) هو الله , فكان اسمه عبدَ الله.

وقوله: {اذْكُروا نِعْمَتِيَ} والذكر اسم مشترك , فالذكر بالقلب ضد النسيان , والذكر باللسان ضد الإنصات , والذكر الشرف , وقال الكسائي: ما كان بالقلب فهو مضموم الذال , وقال غيره: هو لغتان: ذِكر وذُكر , ومعناهما واحد. والمراد بالآية الذكر بالقلب , وتقديره: لا تغفلوا عن نعمتي , التي أنعَمْتُ عليكم ولا تَنَاسَوْها. وفي النعمة التي أنعمها عليهم قولان: أحدهما: عموم نِعَمِهِ الَّتي أنعم بها على خلْقِهِ , كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. والثاني: وهو قول الحسن البصري , أنه أراد نِعَمَهُ عَلَى آبائهم , إذ نجَّاهم من آل فرعون , وجعل منهم الأنبياء , وأنزل عليهم الكتب , وفجَّر لهم الحَجَرَ , وأنزل عليهم المنَّ والسلوى , والنعم على الآباء , نعم على الأبناء , لأنهم يَشْرُفون بشرف آبائهم. وفي قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قولان: أحدهما: أوفوا بعهدي الذي أخذتُ عليكم من الميثاق , أن تؤمنوا بي وتصدقوا رُسُلي , أُوفِ بعهدكم على ما وعدتكم من الجنة. والثاني: قاله عبد الله بن عباس: أَوْفُوا بما أَمَرْتُكم , أُوفِ بما وَعَدْتُكم إِيَّاهُ. وفي تسمية ذلك عهداً قولان: أحدهما: لأنه عَهْدُهُ في الكتب السالفةِ. والثاني: أنه جعله كالعهد , الذي هو يمين لِلُزُوم الوفاءِ بهما معاً. قوله عز وجل: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} يعني من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم , {مُصَدٍِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} يعني من التوراة , وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مصدقاً لما في التوراة , من توحيد الله وطاعته. والثاني: مصدقاً لما في التوراة , أنها من عند الله. والثالث: مصدقاً لما في التوراة من ذكر القرآن , وبَعْثِهِ مُحمداً صلى الله عليه وسلم نبيّاً.

وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا أُوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: ولا تكونوا أول كافرٍ بالقرآن من أهل الكتاب , وهو قول ابن جريجٍ. والثاني: ولا تكونوا أول كافر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم , وهذا قول أبي العالية. والثالث: ولا تكونوا أول كافرٍ بما في التوراة والإنجيل من ذكر محمدٍ وتصديقِ القرآن. وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} ثلاثةُ تأويلاتٍ: أحدها: لا تأخذوا عليه أجراً , وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: (يا ابن آدم علِّم مجَّاناً كما عُلِّمْتَ مجَّاناً) , وهذا قول أبي العالية. والثاني: لا تأخذوا على تغييره وتبديله ثمناً , وهذا قول الحسن البصري. والثالث: لا تأخذوا ثمناً قليلاً على كتم ما فيه من ذكر محمدٍ صلى الله عليه وسلم , وتصديق القرآن , وهذا قول السدي.

42

{ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} قوله عز وجل: {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِل} بعني لا تخلطوا الْحَقَّ بالباطلِ , واللبس خلط الأمور , وفيه قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] قال ابن عباسٍ: معناه: ولخلطنا عليهم ما كانوا يخلطون , ومنه قول العجاج: (لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي ... غَنِينَ واسْتَبْدَلْنَ زَيْداً مِنِّي) وفي قوله: {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الصدق , وهو قول ابن عباس. والثاني: اليهودية والنصرانية بالإسلام , وهو قول مجاهد. والثالث: الحقُّ: التوراةُ التي أُنْزِلَتْ على موسى , والباطلُ: الذي كتبوه بأيديهم.

وقوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} يعني محمداً , ومعرفة نبوَّته , {وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه في الكتب التي بأيديكم , وهذا قول الجميع. قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. أما الصلاة: فقد مضى الكلام فيها. وأما الزكاة: ففي تسمية صدقة الأموال بها , قولان: أحدهما: أنه من تثمير المال وزيادته , ومنه قولهم: زَكا الزرع , إذا زاد , ويقال: زكا الفرد إذا صار زوجاً بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعاً كما قال الشاعِرُ: (كَانُوا خَساً أَوْ زَكاً مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ ... لَمْ يُخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلِج) فخساً: الوِتر , وزكاً: الشفع , وقال الراجز: (فَلاَ خَساً عَدِيدُهُ وَلاَ زَكاً ... كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا) السَّفَا: شوك البهمي , والبهمي: الشوك الممدود مثل السبلى. والقول الثاني: أنَّها مأخوذة من التطهير , ومنه قوله تعالى: {أَقَتَلْتَ نَفَساً زَاكِيَةً} [الكهف: 74] أي طاهرة من الذنوب. وفيما يُطهَّر قولان: أحدهما: أنه تطهير المال حتى صار بأداء الحقِّ منه حلالاً ولولاه لخَبُثَ. الثاني: تطهير نفس المزكي , فكأن المزكي طهَّر نفسه من الشُحِّ والبخل. قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنه أراد جملة الصلاة , فعبر عنها بالركوع , كما يقول الإنسان: فَرَعْتُ من ركوعي , أي من صلاتي. والثاني: أنه أراد الركوع الذي في الصلاة , لأنه لم يكن في صلاة أهل

الكتاب ركوعٌ , فأَمَرَهُم بما لا يفعلونه في صلاتهم. وفي أصل الركوع قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من التطامن والانحناء , وهو قول الخليل , وابن زيدٍ , قال لبيد بنُ ربيعة: (أخبّر أخبار القرون التي مضت ... أدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ) والثاني: أنه مأخوذ من المذلَّة والخضوع , وهو قول الأصمعي والمفضل , قال الأضبطُ بنُ قريع السَّعْدِيُّ: (لاَ تُذِلَّ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ ... كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ)

44

{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} قوله عز وجلَّ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله , وهم يَعْصُونَهُ , وهو قولُ السدي , وقتادة , لأنه قد يعبر بالبر عن الطاعة , قال الشاعِرُ: (لاَهُمَّ إِنَّ آلَ بَكْرٍ دُونَكَا ... يَبرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا) أي يُطِيعونك. والثاني: أنهم كانوا يأمرون الناس بالتمسك بكتاب ربهم ويتركونه بجحود ما فيه من نبوَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم , وهو قول ابن عباس. والثالث: أنهم كانوا يأمرون بالصدقة ويضنون بها.

45

{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} قوله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}:

أما الصبر: فهو حبس النفس عما تُنازع إليه , ومنه صبر صاحب المصيبة , أن يحبس نفسه عن الجزع , وسُمِّي الصوم صبراً لحبس النفس عن الطعام والشراب , ولذلك سُمِّي شهرُ رمضانَ شهر الصبرِ , وجاء في الحديث: (اقْتُلُوا الْقَاتِلَ , وَاصْبِرُوا الصَّابِرَ) وذلك فيمن أمسك رجلاً حتى قتله آخر , فأمر بقتل القاتل , وحبس الممسك. وفي الصبر المأمور به , قولان: أحدهما: أنه الصبرُ على طاعته , والكف عن معصيته. والثاني: أنه الصوم , وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ استعان بالصلاة والصيام , ورُويَ أنه رأى سلمان منبطحاً على وجهه , فقال له: أشكو من بردٍ. قال: (قم فصلِّ الصلاة تُشْفَ). وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ على الْخَاشِعِينَ} ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني: وإن الصلاة لثقيلة إلا على المؤمنين , لعود الكناية إلى مؤنثِ اللفظِ.

والثاني: يعني الصبر والصلاة , فأرادهما , وإن عادت الكناية إلى الصلاة؛ لأنها أقرب مذكور , كما قال الشاعِرُ: (فَمَنْ يَكُ أَمْسَى في الْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ) والثالث: وإن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم لشديدة إلا على الخاشعين. والخشوع في الله: التواضع , ونظيره الخضوع , وقيل: إن الخضوع في البدن , والخشوعَ في الصوت , والبصر. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو ربِّهِمْ} فيه تأويلان: أحدهما: يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم , لإشفاقهم من المعاصي التي كانت منهم. والثاني: وهو قول الجمهور: أن الظن ها هنا اليقين , فكأنه قال: الذين يَتَيَقَّنُون أنهم ملاقو ربهم , وكذلك قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّي مُلاَقٍ حسَابِيَهْ} أي تيقَّنت , قال أبو داود: (رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتَهُ بِغَرِيمٍ ... وَغُيوبٍ كَشَفْتَهَا بِظُنُونِ) ) {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه أراد بالرجوع الموت. والثاني: أنهم راجعون بالإعادة في الآخرة , وهو قول أبي العالية. والثالث: راجعون إليه , أي لا يملك أحد لهم ضرّاً ولا نفعاً غيره كما كانوا في بدءِ الخلق.

48

{واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} قوله عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} فيه تأويلان:

أحدهما: معناه: لا تُغنِي , كما يقال: البقرة تَجْزِي عن سبعةٍ أي تُغِني , وهو قول السدي. والثاني: معناه لا تقضي , ومنه قولهم جزى الله فلاناً عني خيراً , أي قضاه , وهو قول المفضل. {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قال الحسن: معناه لا يجِيءُ بشفيعٍ تقبل شفاعته لعجزه عنه , وقال غيره: بل معناه , أن الشفيع لا يجيبه إلى الشفاعة له , وأنَّه لو شُفِّعَ لشَفَعَ. قوله عز وجل: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}: العَدْلُ بفتح العَيْنِ: الفِدْيَةُ , وبكسرِ العَيْنِ: المِثلُ. فأما قولهم: لا قَبل الله منه صرفاً , ولا عدلاً , ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الصرف العمل , والعدل الفدية , وهذا قول الحسن البصري. والثاني: أن الصرف الدية , والعدل رجل مكانه , وهذا قول الكلبي. والثالث: أن الصرف التطوع , والعدل الفريضة , وهذا قول الأصمعي. والرابع: أن الصرف الحِيلَةُ , والعدل الفدْية , وهذا قول أبي عبيدة.

49

{وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} قوله عز وجل: {وَإِذْ نَجَّيناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} يعني من قوم فرعون , وآل الرَّجُلِ: هم الَّذين تؤول أمورهم إليه , إما في نسب , أو في صحبة , وَاختُلِف في الآل والأهل على قولين: أحدهما: أنهما سواء. والثاني: وهو قول الكسائي: أنه يقال: آل الرجل , إذا ذكر اسمهُ , فإن

كُنَيَ عنه قيل أهله , ولم يُقَلْ آله , كما يقال: أهل العلم , وأهل البصرة , ولا يقال: آل العلم , وآل البصرة. وفِرْعَوْنُ: قيل إنه ذلك الرجل بعينه , وقيل إنه اسمُ كلِّ ملكٍ من ملوك العمالقة , مثل قيصر للروم , وكسرى للفرس , وأن اسْمَ فِرْعَوْنِ مَوسَى: الوليدُ بنُ مُصْعَبٍ. وفي قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ثلاثةُ تأويلاتٍ: أحدها: معناه يولونكم , مِنْ قولهم: سَامَهُ خطة خَسْفٍ , إذا أولاه. والثاني: يُجَشِّمُونَكُمُ الأعمال الشَّاقَّة. والثالث: يزيدونكم على سوء العذاب , ومنه مساومة البيع , إنما هو أن يزيد البائعُ المشتريَ على ثمنٍ , ويزيد المشتري على ثمنٍ , وهذا قول المفضل. قوله تعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي يستبقون , وهو استفعال من الحياة , لأنهم كانوا يُذَبِّحُونَ الذكور , ويستبقون الإناث. وأما اسم النساء , فقد قيل: إنه ينطلق على الصغار , والكبار , وقيل: بل ينطلق على الكبار , وإنما سَمَّي الصغار نساءً , على معنى أنهُنَّ يبقِين , حتَّى يصِرْنَ نساءً. وإنما كان استبقاءُ النساء من سوء العذاب , لأنهم كانوا يستبقونهن للاسترقاق والخدمة , فصار ذلك هو سُوءَ العذاب , لا الاستبقاء. وفي قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} تأويلان: أحدهما: أن فيما كانوا يفعلونه بهم: مِنْ سوء العذاب , وذبح الأبناء , واستحياء النساءِ شدةً وجهداً عظيماً. والثاني: أن في إنجائهم من آل فرعونَ , الذين كانوا يفعلون ذلك بهم نعمةٌ من ربِّهم عظيمةٌ , وهو قول ابن عباسٍ , ومجاهدٍ , والسدي. وأصل البلاء الاختبار في الخير والشر , كما قال عز وجل: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] لأن الاختبار قد يكون بالخير كما

يكون بالشر , غير أن الأكثر في الشر أن يقال: بَلَوْتُه أَبْلُوهُ بلاءً , وفي الخير: أَبْلَيْتُهُ أُبْلِيهِ إبْلاءً , ومن ذلك قولُ زُهَيْرٍ: (جَزَى اللهُ بِالإْحْسَانِ مَا فَعَلاَ بِكُمْ ... فَأَبْلاَهُمَا خَيْرَ الْبَلاءِ الَّذِي يَبْلُو) فجمع بين اللُّغَتين. قوله عز وجل: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} فيه تأويلان: أحدهما: وإذ فصلنا بكم البحر , لأن الفرْقَ: الفصل بين الشيئين , فَفَرَقَ البحر اثني عشر طريقاً , وكان عددهم ستمائة ألفٍ وعشرين ألفاً , لا يُعَدُّ فيهم ابن عشرين لصغره ولا ابن ستين لكبره , وكان على مقدمة فرعونَ هامانُ في ألْفِ ألْفٍ , وسبعمائة حصانٍ , وذلك قوله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ في الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْ ذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 53 , 54] وهذا قول السدي. والثاني: أن معناه: وإذ فرقنا بينكم وبين البحر , أي ميزنا , فأصل الفرق التمييز بين الشيئين , والفِرْقَةُ من الناس: الطائفة المتميزة من غيرهم. والبحر سُمِّيَ بحراً لسعته وانبساطه , ومنه قولهم: تبحَّر في العلم , إذا اتَّسع فيه , والبَحِيرَةُ: الناقةُ تُشَقُّ أُذُنُها شَقّاً واسعاً. قوله تعالى: {فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} فحذف ذِكْرَ فرْعَوْنَ وإن غَرِقَ معهم , لأنه قد عُلِمَ دخوله فيهم. قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} يعني إلى فَرْقِ البحر , حتى سلكوا فيه , وانطباقه على آل فرعون , حتى غرقوا فيه.

51

{وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} قوله تعالى: {وّإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}:

أما مُوسَى , فاسم يَجْمَعُ بين كلمتين بالقبطية وهما: ماء وشجر , ف: مُوهو الماء , و (سا) هو الشجر , وإنما سُمِّيَ بهذا الاسم الجامع لهاتين الكلمتين , لما ذكره السدي من أنَّ أمه لما خافت عليه جعلته في التابوت , وألقته في اليم , كما أُوحِيَ إليها , فألقاه بين أشجار عند بيت فرعون , فخرجت حَواريُّ آسيةَ امرأةِ فرعون يغتسلن , فوجدنه , فسُمِّيَ باسم المكان. قال ابن إسحاق: وهو موسى بنُ عمرانَ بنِ يصهر بنِ فاهت بنِ لاوى بن يعقوب (إسرائيل) بنِ إسحاق بنِ إبراهيم. وقوله تعالى: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قال ابنُ الكلبي: لما جاوز موسى ببني إسرائيل البحر , قال له بنو إسرائيل: أليس وعدتنا أن تأتينا بكتابٍ من الله تعالى؟ فوعده الله أربعين ليلة , ووعدها بني إسرائيل , قال أبو العالية: هي ذو القِعْدةِ وعَشْرٌ من ذي الحِجَّة , ثم اقتصر على ذكر الليالي دون الأيام , وإن كانت الأيام تبعاً معها , لأن أوَّلَ الشهورِ الليالي , فصارت الأيامُ لها تبعاً. قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} يعني اتخذتموه إلهاً من بعد خروج موسى إلى الميقات , واستخلافِهِ هارونَ عليهم. وسببُ ذلك فيما ذكر ابن عباسٍ , أنَّ السامِرِيَّ كان من قومٍ يعبدون البقر , فكان حبُّ ذلك في نفسه بعْدَ إظهاره الإسلام , وكان قد عَرَفَ جبريل لأن أمه حين خافت عليه أن يُذْبَحَ خَلَّفَتْهُ في غار , وأطبقت عليه , وكان جبريل يأتيه , فيغذوه بأصابعه , فلمَّا رآه حين عبر البحر عرفه , فقبض قبضةً من أثر فرسه , وكان ابن مسعودٍ يقرأ: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ} ولم تزل القبضة في يده , حتى فصل موسى إلى ربه , وخلَّف هارون في بني إسرائيل , فقال لهم هارون: قد تحمَّلْتُمْ أوزاراً من زينة القوم , يعني أمتعةً وحُلِيَاً , فَتَطهَّرُوا منها فإنها نَجَسٌ , فأوقد لهم ناراً , وأمرهم بقذف ما كان معهم ففعلوا , فأقبل السامِرِيُّ إلى النار وقال: يا نبيَّ الله أُلْقِي ما في يدي؟ قال: نعم , وهو يظن أنَّهُ حُلِيٌّ , فقذفه , وقال: كن عجلاً جسداً له خوار. واختلفوا: هل صار حيواناً لحماً ودماً أم لا؟

فقال الحسن: انقلب حيواناً لحماً ودماً , وقال غيره لا يجوز لأن ذلك من آيات الله عز وجل التي لا يُظْهِرُها إلاَّ لمعجزَةِ نبيٍّ , وإنما جعل فيه خروقاً تَدْخُلُها الرِّيحُ , فَيَحْدُثُ فيهِ صوتٌ كالخوار. ودافع من تابع الحسن على قوله هذا , بوجهين: أحدهما: أنه لما قال: هذا إلهكم وإلهُ موسى , فقد أبطل على نفسه أن يدَّعِيَ بذلك إعجاز الأنبياء , فجاز أن يصح ذلك منه امتحاناً. والثاني: أن ذلك لا يجوز في غير زمان الأنبياء , ويجوز في زمان الأنبياء , لأنهم يُظهِرُون إبطاله , وقد كان ذلك في زمان نبيَّيْنِ. واختلفوا في تسميته عجلاً: فقال أبو العالية: لأنهم عَجِلُوا , فاتخذوه إلهاً , قبل أن يأتيهم موسى , وقال غيره: بل سُمِّيَ بذلك , لأنه صار عجلاً جسداً له خُوَارٌ. ثُمَّ إنهم عكفوا على العجل يعبدونه , فقال لهم هارون من قبل: يا قومِ إنما فتنتم به , وإن ربكم الرحمن , فاتبعوني , وأطيعوا أمري , قالوا: لن نبرح عليه عاكفين , حتى يرجع إلينا موسى. قوله عز وجل: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [طه: 90؛ 91]: أما (إذ) فاسم للوقت الماضي , و (إذا) اسم للوقت المستقبل , و (الكتاب) هو التوراة. وفي الفرقان أربعةُ أقاويلَ: أحدها: أن الفُرْقان هو الكتاب فذكره باسمين تأكيداً , وهو قول الفراء. والثاني: أن الفُرْقَانَ: ما في التوراة من فَرْقٍ بني الحقِّ والباطلِ , فيكون ذلك نعتاً للتوراة , وهذا قول ابن عباس وأبي العالية. والثالث: أن الفرقان النصر , الذي فرَّق الله به بين موسى وفرعون , حتى أنجى موسى وقومَهُ , وأغرق فرعون وقومهُ , وهذا قول أبي زيدٍ.

والرابع: أن الفرقان: انفراق البحر لِبَنِي إسرائيلَ , حتى عبروا فيه.

54

{وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم} قوله عز وجل: {فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ} يعني: فارجعوا إلى طاعة خالقكم , والبارئ الخالق , والبريَّة الخلق , وهي فعيلة , بمعنى مفعولة , غير أنها لا تهمز. واختلفوا في هذه التسمية على أربعة أقاويل: أحدها: أنها مأخوذة من برأ اللهُ الخلْق , يبرَؤُهُم برءاً. والثاني: أنها فعلية من البرء , وهو التراب. والثالث: أنها مأخوذة من برئ الشيء من الشيء , وهو انفصاله عنه , ومنه البراءة من الدين لانفصاله عنه , وأبرأه الله من المرض , إذا أزاله عنه. وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه: ليقتل بعضكم بعضاً , وهذا قول ابن عباس , وسعيد بن جبيرٍ , ومجاهد. والثاني: استسلموا للقتل , وجعل ذلك بمنزلة القتل , وهذا قول أبي إسحاق. وأصل القتل: إماتةُ الحركة , ومنه: قتلت الخمر بالماء , إذا مَزَجتها , لأنك أمتَّ حركتها , وإنما جُعل القتل توبة , لأن من كفَّ عن الإنكار لعبادة العجل , إنما كف خوفاً من القتال والقتل , فجُعِلَت توبتهم بالقتل , الذي خافوه , هكذا قال ابن جريج. قال ابن عباسٍ: احْتَبَى الَّذِين عكفوا على العجل فجلسوا , وقام الذين لم يعكُفُوا عليه , وأخذوا الخناجر , وأصابتهم ظلمة فجعل بعضهم يقتل بعضاً , حتى

انجلت الظلمة من سبعين ألفَ قتيلٍ في ساعة من نهار , وكانوا ينادون في تلك الحال: رحم الله عبداً صبر حتى يبلغ الله رضاه , فحزِن موسى وبنو إسرائيل لذلك القتل , فأوحى الله عز وجل إلى موسى: لا تحزن , أَمَّا من قُتِل منكم فأحياء عندي يرزقون , وأَمًّا من بقِيَ فقد قُبِلَتْ توبته , فَبَشَّرَ بذلك بني إسرائيل.

55

{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} قوله عز وجل: { ... حَتَّى نَرى اللهَ جَهْرَةً} فيه تأويلان: أحدهما: علانية , وهو قول ابن عباس. والثاني: عياناً , وهو قول قتادة. وأصل الجهر الظهور , ومنه الجهر بالقراءة , إنما هو إظهارها , والمجاهرة بالمعاصي: المظاهرة بها. {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} يعني الموت , {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} ما نزل بكم من الموت. قوله عز وجل: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} يعني الذين ماتوا بالصاعقة , وهم السبعون الذين اختارهم موسى ليستمعوا مناجاة ربَّه له بعد أن تاب على من عبد العجل. وفي قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} تأويلان: أحدهما: أنه إحياؤهم بعد موتهم لاستكمال آجالهم , وهذا قول قتادة. والثاني: أنهم بعد الإحياء سألوا أن يبعثوا أنبياء فبعثهم الله أنبياء , وهذا قول السُّدِّيِّ. وأصل البعث الإرسال , وقيل: بل أصله: إثارة الشيء من محلِّه.

57

{وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما

رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} قوله عز وجل: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ}: والغمام: هو ما غَمَّ السماء , فغطَّاها من سحاب وقتام , وكلُّ مُغَطٍّ فهُو غمام , ومنه: غُمَّ الهلال , أي غطاه الغَيْمُ. وفي الغمام الذي ظلله الله عليهم تأويلان: أحدهما: أنه السحابة , وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه الذي أتى الملائكة في يوم بدر , مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ منَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] وهذا قول مجاهد. قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ والسَّلْوَى} فيه سبعة أقاويل: أحدها: أن المنَّ ما سقط على الشجر فيأكله الناس , وهو قول ابن عباس. والثاني: أن المنَّ صمغة , وهو قول مجاهد. والثالث: أن المنَّ شرابٌ , كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجِهِ بالماء , وهو قول الربيع بن أنس. والرابع: أن المنَّ عسل , كان ينزل عليهم , وهو قول ابن زيدٍ. والخامس: أن المن الخبز الرقاق , هو قول وهب. والسادس: أنه الزنجبيل , وهو قول السدي. والسابع: أنه الترنجين. وفي السلوى قولان: أحدهما: أنه السماني. والثاني: أنه طائر يشبه السماني كانت تحشره عليهم الريح الجنوب , وهذا قول ابن عباس , واشتقاقه من السلو , كأنَّه مُسَلِّي عن غيره. قال ابن جريج: كان الرجل منهم إن أخذ من المنِّ والسلوى زيادة على طعام يوم واحدٍ فسد , إلا يومَ الجمعة , فإنهم كانوا إذا أخذوا طعامَ يومَيْنِ لم يفسد. وفي قوله عز وجل: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثلاثة تأويلاتٍ:

أحدها: الشَّهيَّات اللذيذة. والثاني: أنه الحلال. والثالث: أنها المباح.

58

{وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون} قولُهُ عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ}: اختلفوا فيها على ثلاثةِ أقاويلَ: أحدها: أنها بيت المقدس , وهو قول قتادة , والربيع بن أنس. والثاني: أنها قريةٌ ببيت المقدس , وهو قول السدي. والثالث: أنها (أريحا) قرب بيت المقدس , وهو قول ابن زيد. قوله عز وجل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً}. اختلفوا في الباب على قولين: أحدهما: أنه باب حِطَّةَ وهو الباب الثامن ببيت المقدس , وهذا قول مجاهد , والسُّدِّيِّ. والثاني: أنه باب القرية , التي أمروا بدخولها. وفي قوله: {سُجَّداً} تأويلان: أحدهما: يعني: رُكَّعاً , وهذا قول ابن عباس. والثاني: معناه: خاضعين متواضعين. وأصل السجود الانحناء تعظيماً لمن يُسجَد له , وخضوعاً , ومنه قول الشاعر:

(بَجَمْعٍ تَضَلُّ الْبَلْقُ في حُجُرَاتِهِ ... تَرَى الأكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ) وقال أعشى قيس: (يُرَاوِحُ مِنْ صَلَواتِ الْمِلَي ... كِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً حِوَاراً) وفي قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أربعةُ تأويلاتٍ: أحدها: أنه قول: لا إله إلا الله , وهو قول عكرمة. والثاني: أن (حِطَّة) المغفرة , فكأنه أمر بالاستغفار , وهو رواية سعيد بن جبيرٍ , عن ابن عباسٍ. والثالث: هو قولهم: هذا الأمر حق كما قيل لكم , وهو رواية الضحاك , عن ابن عباسٍ. والرابع: معناه: حُطَّ عنا خطايانا , وهو قول الحسن , وقتادة , وابن زيدٍ , وهو أشبهُ بظاهر اللفظ. قوله عز وجل: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} أي نرحمْكم , ونسترها عليكم , فلا نفضحكم بالعقوبة عليها. والخطأ: العدولُ عن القصد , يقال خَطِئ الشيءَ خَطَأً , إذا أصابه ولم يُرِدْهُ , وأَخْطَأَ يُخْطِئُ , إذا أراده ولم يُصِبْهُ , فالأول خاطئ والثاني مُخطِئ. وأصل المغفرة: التغطية والستر؛ ولذلك قيل للبيضة من الحديد: مِغْفَرٌ , لأنها تُغَطِّي الرأسَ وتُغَطِّي الرأسَ وتُجِنُّهُ , ومنه قول أوسِ بنِ حجر: (وَلاَ أَعْتِبُ ابْنَ الْعَمِّ إِنْ كَانَ مُخْطِئاً ... وَأَغْفِرُ عَنْهُ الْجَهْلَ إِنْ كَانَ جَاهِلاً)

قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} يعني أنهم بَدَّلوا ما أمِروا به من قول وفعل , فأُمِرُوا أن يدخُلُوا الباب سُجَّداً , فَدَخَلُوا يزحفون على أستاهم , وأن يقولوا: حِطَّةٌ , فقالوا: حنطة في شعير , مستهزئين بذلك. {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً من السَّمَاءِ}: وفي الرجز ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العذاب , وهو قول ابن عباس وقتادة. والثاني: أنه الغضب , وهو قول أبي العالية. والثالث: أنه الطاعون , بعثه الله عليهم فأهلكهم , وبقي الأبناء , وهو قول ابن زيد.

60

{وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} تقديره: وإذ استسقانا موسى لقومه , والاستسقاء: طلب السَّقْيِ , والعربُ تقول: سَقَيْتُهُ , وأسقيتُه , فقيل: إنهما لغتان ومعناهما واحد , وقيل بل سقيته من سَقْيِ الشَّفةِ , وأسْقَيْتُهُ: دللته على الماء. {فَقُلْنَا اضْرِب بعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَا}: وفي الكلام محذوف , وتقديره: فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. والانفجارُ: الانشقاق , والأنبجاسُ أضيق منه , لأنه يكون انبجاساً ثم يصير انفجاراً. والعين من الأسماء المشتركة: فالعين من الماء مُشَبَّهَةٌ بالعين من الحيوان , لخروج الماء منها , كخروج الدمع من عين الحيوان.

فأمر موسى عند استسقائه , أن يضرب بعصاه حجراً مُرَبَّعاً طُورِيّاً (من الطور) , فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً , من كل جانب ثلاثةُ أعينٍ. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} يعني أن لكلِّ سبطٍ منهم عيناً , قد عرفها لا يشرب من غيرها , فإذا ارتحلوا انقطع ماؤه , وحُمِلَ في الجوالق , وكان بقدر الرأس. {وَلاَ تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لا تطغوا , وهذا قول ابن زيد. والثاني: معناه لا تسعوا في الأرض مفسدين , وهو قول ابن عباس , وأبي العالية الرياحي. والعيثُ: شدة الفساد , ومنه قول رؤبة: (وَعَاثَ فِينَا مُسْتَحِلٌّ عَائِثُ ... مُصَدِّقٌ أو فَاجِرٌ مُناكِثُ)

61

{وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} قوله تعالى: {وَفُومِهَا} فيه ثلاثةُ تأويلاتٍ: أحدها: أنه الحنطة , وهو قول ابن عباسٍ , وقتادة , والسدي , وأنشد ابن عباسٍ مَنْ سأله عن الفوم , وأنه الحُنْطة قَوْلَ أُحيحة بن الجُلاح: (قَدْ كُنْتُ أَغْنَىَ النَّاسِ شَخْصاً وَاحِداً ... وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومٍ) والثاني: أنَّه الخُبز , وهو قول مجاهد , وابن زيد , وعطاء.

والثالث: أنه الثومُ بالثاء , وذلك صريح في قراءة ابن مسعود , وهو قول الربيع بن أنس والكسائي. قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً}: قرأ عامةُ القُرّاءِ بالتنوين , وقرأ بعضهم بغير تنوين , وهي كذلك , وقراءة ابن مسعود بغير ألف. وفي المصر الذي عناه قولان: أحدهما: أنه أراد أيَّ مِصْرٍ , أرادوا من غير تعيين؛ لأنَّ ما سألوا من البقل والقثَّاء والفوم , لا يكون إلا في الأمصار , وهذا قول قتادة , والسدي ومجاهد , وابن زيد. والثاني: أنه أراد مصر فرعون , الذي خرجوا منه , وهذا قول الحسن , وأبي العالية والربيع. واختلف في اشتقاق المِصْرِ , فمنهم من قال: إنه مشتق من القطع , لانقطاعه بالعمارة , ومنهم من قال: إنه مشتق من الفصل بينه وبين غيره , قال عدي بن زيد: (وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لاَ خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ) وفي قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} تأويلان: أحدهما: أنَّه من الذِّلَّة والصغار. والثاني: أنَّه فَرَضَ الجِزْيَةَ عليهم , وهذا قول الحسن وقتادة. وفي (المسكنة) تأويلان: أحدهما: أنها الفاقة , وهو قول أبي العالية. والثاني: أنه الفقر , وهو قول السدي.

وفي قوله تعالى: {وَباءُو بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} ثلاثة تأويلات: أحدها: وهو قول أبي العباس المَبِّرد: أن أصل ذلك: المنزلة , ومعناه أنهم نزلوا بمنزلة غضب الله , ورُوي: أن رجلاً جاء برجلٍ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم , فقال: هذا قاتل أخي , قال (فَهُوَ بَوَاءٌ بِهِ) أي أنه مقتول , فيصير في منزلته , وتقول ليلى الأخيليَّةُ: (فَإِنْ يَكُنِ الْقَتْلَى بَوَاءً فَإِنَّكُمْ ... فَتىً مَا قَتَلْتُمْ آلَ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ) والثاني: وهو قول أبي إسحاق الزجّاج: أن أصل ذلك التسوية , ومعناه: أنهم تساووا بغضب من الله , ومنه ما يروى عن عبادة بن الصامت قال: (جعل الله الأنفال إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم , فقسمها بينهم على بَوَاءٍ) , أي على سواء بينهم في القسم. والثالث: وهو قول الكسائي , أن معناه أنهم رجعوا بغضب من الله , قال: البواء: الرجوع , إلا أنه لا يكون رجوعاً إلا بشيء: إمَّا بشرٍّ , وإِمَّا بخيرٍ. وفي قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} قولان: أحدهما: أن الله عز وجل؛ إنما جاز أن يُخَلِّيَ بين الكُفَّار وقتلِ الأنبياء , لينالوا من رفيع المنازل ما لا ينالونه بغيره , وليس ذلك بخذلان لهم , كما يفعل بالمؤمنين من أهل طاعته. والثاني: وهو قول الحسن , أن الله عز وجل , ما أمر نبيّاً بالحرب إلا نَصَرَهُ فلم يُقتَلْ , وإنما خلَّى بين الكفار وبين قتل مَنْ لم يؤمر بالقتال مِنَ الأنبياء. و (الأنبياء) جمعُ (نبيٍّ) وقد جاء في جمع (نبيٍّ): (نُبَّاء) , قال العباس ابن مرداس السُّلمي , يمدح النبيَّ صلى الله عليه وسلم:

(يَا خَاتَمَ النُّبِّاءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالْحَقِّ حَيْثُ هُدَى آلإْلهِ هَدَاكَا) وهو غير مهموز في قراءة الجمهور إلا نافعاً , فإنه قرأ الأنبياء , والنبيئين بالهمز. وفيما أُخذ منه اسمُ النبيِّ , ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مأخوذ من النبأ , وهو الخبر , لأنه يُنْبِئُ عن الله , أي يُخْبِرُ , ومنه قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا في صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36]. والثاني: أن أصل النبيِّ هو الطريق , قال القطامي: (لَمَّا وَرَدْنَا نبِيَاً وَاسْتَتَبَّ لَنَا ... مُسْتَحْفَرٌ بِخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَجِلُ) فَسُمِّيَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم نبيّاً , لأنه الطريق إليه. والثالث: أنه مأخوذ من النُّبُوَّةِ؛ لأن منزلة الأنبياء رفيعة.

62

{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} يعني: صدقوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم. {وَالَّذِينَ هَادُوا} هم اليهود , وفي تسميتهم بذلك , ثلاثة أقاويل: أحدها: نُسِبُوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب , فقلبت العربُ الذال دالاً , لأن الأعجمية إذا عُرِّبت , غيرت من لفظها.

والثاني: أنه مأخوذ من قولهم: هَادَ القومُ يَهُودُون هَوْدَةً وهِيَادةً , إذا تابوا , قال زهير: (سِوَى مَرْبَعٍ لَمْ تَأْتِ فِيهِ مَخَافَةً ... وَلاَ رَهَقاً مِنْ عَابِدٍ مُتَهَوِّدِ) يعني من عابد تائب , فسموا يهوداً لتوبتهم من عبادة العجل. والثالث: أنهم سُمُّوا يهوداً , من أجل قولهم: إِنَّا هُدْنا إليك , وهذا قول ابن جُرَيج. و {والنصارى} , جمع وواحده (نصرانيٌّ) , وقيل: (نصران) بإسقاط الياء , وهذا قول سيبويه , وقال الخليل بن أحمد: واحده نصْرِي , والأول هو المستعمل. وفي تسميتهم بذلك , ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم سُمُّوا بذلك , لقريةٍ تُسَمَّى (ناصرة) , كان ينزلها عيسى عليه السلام , فَنُسِبَ إليها , فقيل: عيسى الناصري , ثم نسب أصحابه إليه فقيل: النصارى , وهذا قول ابن عباس , وقتادة. والثاني: أنهم سُمُّوا بذلك , لنصرة بعضهم لبعضٍ , قال الشاعر: (لمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصَارَا ... شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإْزَارَا) 89 (كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا} 9 والثالث: أنهم سُمُّوا بذلك , لقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إلى اللهِ}. {والصابئين} , جمع , واحده: صابئ , واخْتُلِفَ في همزِهِ , فهمزه الجمهور إلا نافعاً. واخْتُلِف في المأخوذ منه هذا الاسم , على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مأخوذ من الطُّلُوعِ والظُّهُورٍ , من قولهم: صبأ نابُ البعير , إذا طلع , وهذا قول الخليل. والثاني: أن الصابِئ: الخارج من شيء إلى شيءٍ , فسُمِّي الصابئون بهذا

الاسم , لخروجهم من اليهودية والنصرانية , وهذا قول ابن زيدٍ. والثالث: أنه مأخوذ من قولهم: صبا يصبو , إذا مال إلى الشيء وأحبه , وهذا قول نافع؛ ولذلك لم يهمز. وَاخْتُلِفِ فيهم: فقال مجاهد , والحسن , وابن أبي نجيحٍ: الصابئون بين اليهود والمجوس , وقال قتادة: الصابئون قوم يعبدون الملائكة , ويصلون إلى القِبْلة , [ويقرأون الزبور ويصلون الخميس] وقال السدي: هم طائفة من أهل الكتاب , وقال الخليل: هم قوم شبيه دينهم بدين النصارى , إلا أن قبلتهم نَحْوَ مهب الجنوب حيال منتصف النهار , يزعمون أنهم على دين نوح. وفي قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قولان: أحدهما: أنها نزلت في سلمان الفارسيِّ وأصحابه النصارى الذين كان قد تنصَّر على أيديهم , قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكانوا قد أخبروه بأنه سيبعث , وأنهم مؤمنون به إن أدركوه , وهذا قول السدي. والثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] , وهو قول ابن عباس. فإن قيل: فَلِمَ قال: {وَعَمِلَ صَالِحاً} على التوحيد , ثم قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} على الجمع؟ قيل: لأن اللفظ (مَنْ) لفظ الواحد , ومعناه الجمع , فمرةً يجمع على اللفظ , ومرةً يجمع على المعنى , قال الشاعر: (أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إِنْ عَرَضْتُمَا ... وَقُولاَ: لَهَا عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا)

63

{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} قوله تعالى: { ... . وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} وفي الطور ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اسم الجبل , الذي كلم الله عليه موسى , وأنزلت عليه التوراة دون غيره , وهذه رواية ابن جريج عن ابن عباس. والثاني: أن الطور ما أَنْبَتَ من الجبال خاصة , دون ما لم ينبت , وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن الطور اسم لكل جبل , وهو قول مجاهد , وقتادة , إلا أن مجاهداً قال: هو اسم كل جبل بالسريانية , وقال قتادة: بل هو اسم عربي , قال العجاج: (داني جناحيه من الطور فمر ... تقضّي البازي إذا البازيُّ كر) قال مجاهد: رُفِعَ الجبل فوقهم كالظُّلة , فقيل: لتؤمِنُنَّ أو ليقعن عليكم , فآمنوا. وفي قوله تعالى: {خُذُواْ مَاءَآتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} ثلاثة تأويلات: أحدها: أن القوة الجِدّ والاجتهاد , وهو قول ابن عباس , وقتادة والسدي. والثاني: يعني بطاعة الله تعالى , وهو قول أبي العالية , والربيع بن أنس. والثالث: أنه العمل بما فيه , وهو قول مجاهد.

65

{ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ في السَّبْتِ} وفي اعتدائهم في السبت قولان:

أحدهما: أنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال , وهذا قول الحسن. والثاني: أنهم حبسوها في يوم السبت وأخذوها يوم الأحد , والسبت هو اليوم المعروف. وفي تسميته بذلك أربعة أقاويل: أحدها: أن السبت هو اسم للقطعة من الدهر فسمي ذلك اليوم به , وهذا قول الزجاج. والثاني: أنه سُمِّي بذلك لأنه سَبَت خَلْق كل شيء , أي قطع وفرغ منه , وهذا قول أبي عبيدة. والثالث: أنه سُمِّي بذلك , لأن اليهود يَسْبِتُون فيه , أي يقطعون فيه الأعمال. والرابع: أن أصل السبت , الهدوء والسكون في راحة ودعة , ولذلك قيل للنائم مسبوت لاستراحته وسكون جسده , كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُم سُبَاتَا}. فَسُمِّي به اليوم لاستراحة اليهود فيه. وفي قوله عز وجل: { ... فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} قولان: أحدهما: مُسِخُوا قردةً , فصاروا لأجل اعتدائهم في السبت في صورة القردة المخلوقين من قبل , في الأيام الستة. قال ابن عباس: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام , ولم يأكل ولم يشرب. والثاني: وهو قول مجاهد: أنهم لم يمسخوا قردة , وإنما هو مَثلَ ضربه الله لهم , كما قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً} [الجمعة: 5]. وفي قوله تعالى: {خاسئين} تأويلان: أحدهما: أن الخاسئ المُبْعَد المطرود , ومنه قولهم خسأت الكلب , إذا باعدته وطردته.

والثاني: أن معناه أذلاء صاغرون , وهذا قول مجاهد.

ورُوي عن ابن عباس: خاسئاً أي ذليلاً. قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} وفي المجعول نكالاً , ستة أقاويل: أحدها: أنها العقوبة. والثاني: أنها الحيتان. والثالث: أنها القرية التي اعتدى أهلها. والرابع: أنهم الأمة الذين اعتدوا , وهم أهل أيلة. والخامس: أنهم الممسوخون قردة. والسادس: أنهم القردة الممسوخ على صورهم. وفي قوله تعالى: {نَكَالاً} ثلاثة تأويلات: أحدها: عقوبة , وهو قول ابن عباس. والثاني: عبرة ينكل بها من رآها. والثالث: أن النكال الاشتهار بالفضيحة. وفي قوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} خمسة تأويلات: أحدها: ما بين يديها وما خلفها من القرى , وهذه رواية عكرمة عن ابن عباس. والثاني: ما بين يديها يعني من بعدهم من الأمم , وما خلفها , الذين كانوا معهم باقين , وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس. والثالث: ما بين يديها , يعني من دونها , وما خلفها , يعني لمن يأتي بعدهم من الأمم , وهذا قول السدي. والرابع: لما بين يديها من ذنوب القوم , وما خلفها للحيتان التي أصابوها , وهذا قول قتادة. والخامس: ما بين يديها ما مضى من خطاياهم , وما خلفها: خطاياهم التي أُهْلِكُوا بها , وهذا قول مجاهد.

67

{وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنًَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وكان السبب في أمر موسى لقومه بذلك , ما ذكره المفسرون: أن رجلاً من بني إسرائيل كان غنياً , ولم يكن له ولد , وكان له قريب يرثه , فاستبطأ موته , فقتله سراً وألقاه في موضع الأسباط , وادعى قتله على أحدهم , فاحتكموا إلى موسى , فقال: من عنده من ذلك علم؟ فقالوا: أنت نبي الله , وأنت أعلم منا , فقال: إن الله عز وجل يأمركم أن تذبحوا بقرة , فلما سمعوا ذلك وليس في ظاهره جواب عما سألوا عنه {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} والهزء: اللعب والسخرية. قال الراجز: (قَدْ هَزِئَتْ مَنِّيَ أُمُّ طَيْسَلَة ... قَالَتْ أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ شَيْءَ لَه) {قَالَ: أعُوذُ بِاللهِ أنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء , جهل , فاستعاذ منه موسى , لأنها صفة تنتفي مع الأنبياء , وإنما أمر والله أعلم بذبح البقرة دون غيرها , لأنها من جنس ما عبدوه من العجل , ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه , وليعلم بإجابتهم زوال ما كان في نفوسهم من عبادته. والقبرة اسم للأنثى , والثور للذكر , مثل ناقة وجمل , وامرأة ورجل , فيكون تأنيثه بغير لفظه. واسم البقرة مأخوذ من الشق من قولهم بقر بطنه إذا شقه , لأنها تشق الأرض في الحرث.

68

{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا

ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون} قوله عز وجل: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ} رَوَى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قال: (والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ , لَوِ اعْتَرَضُوا بقرة , فَذَبَحُوها , لأَجْزَأَتْ عَنْهُم , وَلكِنَّهُم , شَدًّدوا , فَشَدَّد الله عليهم). {قَالَ: إِنَّه يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} في الفارض تأويلان: أحدهما: أنها الكبيرة الهَرِمَة , وهو قول الجمهور. قال الراجز: (شيب أصداغي فرأسي أبْيضُ ... محامل فيها رجال فرض) يعني بقوله: فُرّض , أي هرمى.

والثاني: أنّ الفارض التي قد ولدت بطوناً كثيرة , فيتسع لذلك جوفها , لأن معنى الفارض في اللغة الواسع , وهذا قول بعض المتأخرين , واستشهد بقول الراجز: (يا رُبَّ ذي ضغن عليّ فارض ... له قروء كقروء الحائض) والبكر: الصغيرة التي لم تحمل , والبكر من إناث البهائم , وبني آدم , ما لم يفتحله الفحل , وهي مكسورة الباء , فأما البَكْر بفتح الباء , فهو الفتي من الإبل. وقوله تعالى: {عَوانٌ بَيْنَ ذلكَ} والعوان النَّصَفُ التي قد ولدت بطناً أو بطنين , {بين ذلك} يعني بين الصغيرة والكبيرة , وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه , قال الشاعر: (فرحن عليه بين بِكرٍ عزيزة ... وبين عَوانٍ كالغمامة ناصِفِ) قوله تعالى: { ... قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} حُكِيَ عن الحسن البصري , أن المراد بقوله صفراء , أي سوداء شديدة السواد , كما تقول العرب: ناقة صفراء أي سوداء , ومنه قول الشاعر: (تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هُنّ صفر أولادها كالزبيب) وقال الراجز: (وصفرٍ ليست بمصفرّة ... ولكنّ سوداءَ مثل الخُمُر) وقال سائر المفسرين: إنها صفراء اللون , من الصفرة المعروفة , وهو أصح , لأنه الظاهر , ولأنه قال: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} والفاقع من صفات الصفرة , وليس يوصف السواد بذلك , وإنما يقال: أسود حالكٌ , وأحمر قانٍ , وأبيضُ ناصعٌ , وأخضرُ ناضرٌ , وأصفرُ فاقعٌ.

ثم فيما أُرِيدَ بالصفرة قولان: أحدهما: صفراء القرن والظلف , وهو قول سعيد بن جبير. والثاني: صفراء اللون كله , وهذا قول مجاهد. وفي قوله تعالى: {فاقع لونها} ثلاثة تأويلات: أحدها: الشديدة الصفرة , وهذا قول ابن عباس , والحسن. والثاني: الخالص الصفرة , وهذا قول قطرب. والثالث: الصافي , وهذا قول أبي العالية , وقتادة. {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: تعجب الناظرين بصفرتها , فتعجب بالسرور , وهو ما يتأثر به القلب , والفرح ما فرحت به العين , ويحتمل قوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} وجهين: أحدهما: بحسن لونها فتكون ... . لصفرتها. والثاني: حسن سمتها , وصفت بذلك , ليكون ذلك زيادة شرط في صفتها , غير ما تقدم من ذكر صفرتها , فتصير البقرة على الوجه الأول , ذات وصف واحد , وعلى الوجه الثاني , ذات وصفين. قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ} فسألوا سؤالاً ثالثاً , ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان الثاني , فروى ابن جريج , عن قتادة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُمِرُوا بِأَدْنَى بَقَرةٍ وَلَكِنَّهُم لَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم شَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِم , وَأيمُ اللهِ لَو أَنَّهُم لَمْ يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُم آخرُ الأَبَدِ) يعني أنهم لو لم يقولوا: {وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} ما اهتدوا إليها أبداً. قوله عز وجل: {قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرةٌ لاَّ ذَلُولٌ} يعني لم يذللها العمل.

{تُثِيرُ الأَرْضَ} والإثارة تفريق الشيء , أي ليست مما يثير الأرض للزرع , ولا يسقى عليها الزرع. [وقيل يثير فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقى]. وليس هذا الوجه بشيء , بل نفي عنها جميع ذلك. {مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيها} وفي ذلك أربعة تأويلات: أحدها: مُسَلَّمَةٌ من العيوب , وهذا قول قتادة , وأبي العالية. والثاني: مُسَلَّمَةٌ من العمل. والثالث: مُسَلَّمَةٌ من غصب وسرقة , فتكون حلالاً. والرابع: مُسَلَّمَةٌ من ... . . . وفي {شِيَةَ} ثلاثة أوجه: أحدها: ليس فيها علامة خاصة , حكاه السدي. والثاني: أنه ليس فيها لون , يخالف لونها من سواد أو بياض. والثالث: أنه الوضَح وهو الجمع بين ألوان من سواد وبياض. وأصله من وشي الثوب , وهو تحسين عيوبه بألوان مختلفة , ومنه قيل للساعي بالرجل عند السلطان واشٍ , لأنه يحسّن كذبه عنده , حتى يقبله منه. {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ} فيه تأويلان: أحدهما: الآن بَيّنْت الحق , وهو قول قتادة. والثاني: معناه أنه حين بيّنها لهم , قالوا هذه بقرة فلان , الآن جئت بالحق فيها , وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. وفي قوله تعالى: {فَذَبَحُوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تأويلان: أحدهما: أنهم كادوا ألاّ يفعلوا لغلاء ثمنها , لأنهم اشتروها على ما حَكَى

ابن عباس , ومحمد بن كعب: بملء مَسْكها ذهباً من مال المقتول. وقيل بوزنها عشر مرات. والثاني: أنهم كادوا ألاّ يفعلوا خوفاً من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل , وهذا قول وهب , وقال عكرمة: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير. وقيل: كانت البقرة وحشية.

72

{وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} قوله عز وجل: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} يعني من قتل الإسرائيلي؟ الذي قتله ابن أخيه , وفي سبب قتله قولان: أحدهما: لبنت له حسناء , أحب أن يتزوجها. والثاني: طلباً لميراثه , وادعى قتله على بعض الأسباط. وفي قوله تعالى: { ... فَادَّارَأْتُم فيها} ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ الَّدْرءَ الاعوجاج , ومنه قول الشاعر: (أمسكت عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون) يعني اعوجاج الأعادي. والثاني: وهو المشهور , أن الدرء المدافعة , ومعناه أي تدافعتم في القتل , ومنه قول رؤبة بن العجاج: (أدركتها قدام كل مدره ... بالدفع عني درء كل منجه) والثالث: معناه اختلفتم وتنازعتم , قاله السدي , وقيل إن هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة , فهي متقدمة في الخطاب على قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مَوسَى لِقَومِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم} الآية. لأنهم أُمِرُوا بذبحها , بعد قتلهم , واختلفوا في قاتله.

قوله تعالى: {وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} أي والله مظهر ما كنتم تُسِرّون من القتل , فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَو أَنَّ أَحَدَكُم يَعْمَلُ في صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ , لأَخْرَجَ اللهُ عَمَلَهُ). قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} اختلف العلماء في البعض الذي ضُرِبَ به القتيلُ من البقرة , على خمسة أقاويل: أحدها: أنه ضُرِبَ بفخذ البقرة , وهذا قول مجاهد , وعكرمة وقتادة. والثاني: أنه ضُرِبَ بالبضعة التي بين الكتفين , وهذا قول السدي. والثالث: أنه ضُرِبَ بعظم من عظامها , وهذا قول أبي العالية. والرابع: أنه ضُرِبَ بأُذنها , وهذا قول ابن زيد. والخامس: أنه ضُرِبَ بعجب ذنبها , وهو الذي لا تأكله الأرض , وهذا قول الفراء. والبعض: يَقِلُّ عن النصف. {كَذلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى} يعني , أنه لما ضُرِبَ القتيل ببعض البقرة , أحياه الله وكان اسمه عاميل , فقال قتلني ابن أخي , ثم قبض , فقال بنو أخيه: والله ما قتلناه , فكذّبوا بالحق بعد معاينته. قال الفراء: وفي الكلام حذف , وتقديره: فقلنا اضربوه ببعضها , ليحيا

فضربوه , فَحَيِيَ. كذلك يحيي الله الموتى , فدل بذلك على البعث والنشور , وجعل سبب إحيائه الضرب بميت , لا حياة فيه , لئلا يلتبس على ذي شبهة , أن الحياة إنما انتقلت إليه مما ضرب به , لتزول الشبهة , وتتأكد الحجة. وفي قوله تعالى: {كَذلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى} وجهان: أحدهما: أنه حكاية عن قول موسى لقومه. والثاني: أنه خطاب من الله لمشركي قريش. {وَيُرِيكُمءَايَاتِهِ} فيه وجهان: أحدهما: علامة قدرته. والثاني: دلائل بعثكم بعد الموت. {لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تعملون. والثاني: تعتبرون.

74

{ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم} اختلف في المُشَار إليه بالقسوة , على قولين: أحدهما: بنو أخي الميت حين أنكروا قتله , بعد أن سمعوه منه عند إحياء الله له , وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه أشار إلى بني إسرائيل كلهم , ومن قال بهذا قال: من بعد ذلك: أي من بعد آياته كلها التي أظهرها على موسى. وفي قسوتها وجهان: أحدهما: صلابتها حتى لا تلين.

والثاني: عنفها حتى لا ترأف. وفي قوله تعالى: {مِّنْ بَعْدِ ذلِكَ} وجهان: أحدهما: من بعد إحياء الموتى , ويكون هذا الخطاب راجعاً إلى جماعتهم. والثاني: من بعد كلام القتيل , ويكون الخطاب راجعاً إلى بني أخيه. وقوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} يعني القلوب التي قست. واختلف العلماء في معنى {أَوْ} في هذا الموضع وأشباهه كقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوسَين أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] على خمسة أقاويل: أحدها: أنه إبهام على المخاطبين , وإن كان الله تعالى عالماً , أي ذلك هو , كما قال أبو الأسود الدؤلي: (أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة أو علياً) (فإن يك حبهم رشدا أُصِبه ... ولستُ بمخطئ إن كان غياً) ولا شَكَّ , أن أبا الأسود الدؤلي , لم يكن شاكّاً في حبِّهم , ولكن أَبْهَمَ على مَنْ خاطبه , وقد قِيل لأبي الأسود حين قال ذلك: شَكَكْتُ , فقال كلا , ثم استشهد بقوله تعالى: {وَإِنَّا إِيَّاكُم لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] وقال: أفكان شاكاً مَنْ أخبر بهذا؟ والثاني: أن {أَوْ} ها هنا بمعنى الواو , وتقديره فهو كالحجارة وأشد قسوة , ومثله قول جرير: (جاءَ الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ) والثالث: أن {أَوْ} في هذا الموضع , بمعنى بل أشد قسوة , كما قال

تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] يعني بل يزيدون. والرابع: أن معناها الإباحة وتقديره , فإن شبهتموها بالحجارة كانت مثلها , وإن شبهتموها بما هو أشد , كانت مثلها. والخامس: فهي كالحجارة , أو أشد قسوة عندكم. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ} يعني أن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية , لِتَفَجِّرِ الأنهار منها. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} فاختلفوا في ضمير الهاء في (منها) , إلى ماذا يرجع؟ على قولين: أحدهما: إلى القلوب لا إلى الحجارة , فيكون معنى الكلام: وإن من القلوب لما يخضع من خشية الله , ذكره ابن بحر. والقول الثاني: أنها ترجع إلى الحجارة , لأنها أقرب مذكور. واختلف من قال بهذا , في هذه الحجارة على قولين: أحدهما: أنها البرد الهابط من السَّحاب , وهذا قول تفرد به بعض المتكلمين. والثاني: وهو قول جمهور المفسرين: أنها حجارة الجبال الصلدة , لأنها أشد صلابة. واختلف من قال بهذا على قولين: أحدهما: أنه الجبل الذي جعله الله دَكاً , حين كلم موسى. والثاني: أنه عام في جميع الجبال. واختلف من قال بهذا , في تأويل هبوطها , على أربعة أقاويل: أحدها: إن هبوط ما هبط من حشية الله , نزل في ذلك القرآن. والثاني: ... ... ... والثالث: أن مِنْ عَظَّم مَنْ أمر الله , يُرَى كأنه هابط خاشع , كما قال جرير:

(لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشّع) والرابع: أن الله أعطى بعض الجبال المعرفة , فعقل طاعة الله , فأطاعه , كالذي رُوِيَ عن الجذع , الذي كان يستند إليه النبي صلى الله عليه وسلم , فلما تحول عنه حَنَّ , رُوِيَ عن النبي أنه قال: (إِنَّ حَجَراً كَانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ في الجاهِليَّةِ إِنِّي لأَعْرَفُهُ الآَنَ) ويكون معنى الكلام , إِنَّ من الجبال ما لو نزل عليه القرآن , لهبط من خشية الله تذللاً وخضوعاً.

75

{أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} قوله تعالى: { ... وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُم يَسْمَعُون كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} في ذلك قولان: أحدهما: أنهم علماء اليهود والذين يحرفونه التوراة فيجعلون الحلال حراماً والحرام حلالاً ابتاعاً لأهوائهم وإعانة لراشيهم وهذا قول مجاهد والسدي. والثاني: أنهم الذين اختارهم موسى من قومه , فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا

أمره وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم , وهذا قول الربيع بن أنس وابن إسحاق. وفي كلام الله الذي يسمعونه قولان: أحدهما: أنها التوراة التي عَلِمَها علماء اليهود. والثاني: الوحي الذي كانوا يسمعونه كما تسمعه الأنبياء. وفي قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلَوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وجهان: أحدهما: من بعد ما سمعوه , وهم يعلمون أنهم يحرفونه. والثاني: من بعد ما عقلوه , وهم يعلمون , ما في تحريفه من العقاب. قوله تعالى: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود , إذا خلوا مع المنافقين , قال لهم المنافقون: أتحدثون المسلمين , بما فتح الله عليكم. والثاني: أنهم اليهود , قال بعضهم لبعض: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيكُم} وفيه أربعة أقاويل: أحدها: بما فتح الله عليكم , أي مما أذكركم الله به , رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: بما أنزل الله عليكم في التوراة , من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعثه , {ليُحَآجُّوكم بَهِ عِنْدَ رَبِّكُم} رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس , وهو قول أبي العالية وقتادة. والثالث: أنهم أرادوا قول يهود بني قريظة , حين شبههم النبي صلى الله عليه وسلم , بأنهم إخوة القردة , فقالوا: من حدثك بهذا؟ وذلك حين أرسل إليهم , علي بن أبي طالب كرم الله وجهه , وهذا قول مجاهد. والرابع: أن ناساً من اليهود أسلموا , ثم نافقوا فكانوا يحدثون المسلمين من

العرب , بما عُذِّبَ به (آباؤهم) , فقال بعضهم لبعض , أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب , وهذا قول السدي. وفي {فتح الله} وجهان: أحدهما: بما علمكم الله. والثاني: بما قضاه الله , والفتح عند العرب القضاء والحكم , ومنه قول الشاعر: (ألا أبلغ بني عُصُم رسولاً ... بأني عن فِتاحِكُم غنيُّ) ويُقَالُ للقاضي: الفتّاح , ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَح بَيْنَنَا وَبَينَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]. قوله تعالى: {لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: {لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم} , فَحُذِفَ ذكُر الكتاب إيجازاً. والثاني: {لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم} فتظهر له الحُجَّة عليكم , فيكونوا أولى بالله منكم , وهذا قول الحسن. والثالث: {لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم} يوم القيامة , كما قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القيِامَةِ عِنْدَ رَبِّكُم تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31].

78

{ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} قوله تعالى: {وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ} فيه قولان: أحدهما: أن الأُمّي: الذي لا يكتب ولا يقرأ , وهو قول مجاهد وأظهرُ تأويله.

والثاني: أنَّ الأُمّيين: قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله , ولا كتاباً أنزله الله , وكتبوا كتاباً بأيديهم , وقال الجهال لقومهم: هذا من عند الله , وهذا قول ابن عباس. وفي تسمية الذي لا يكتب بالأمي قولان: أحدها: أنه مأخوذ من الأمة , أي على أصل ما عليه الأمّة , لأنه باق على خلقته من أنه لا يكتب , ومنه قول الأعشى: (وإنّ معاويةَ الأكرمين ... حسانُ الوجوه طوال الأمَمْ) والثاني: أنه مأخوذ من الأُم , وفي أخذه من الأُم تأويلان: أحدهما: أنه مأخوذ منها , لأنه على ما ولدته أُمُّهُ من أنه لا يكتب. والثاني: أنه نُسِبَ إلى أُمّهِ , لأن الكتاب في الرجال دون النساء , فنسب من لا يكتب من الرجال إلى أمه , لجهلها بالكتاب دونه أبيه. وفي قوله تعالى: {لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} أربعة تأويلات: أحدها: إِلاَّ أَمَانِيَّ: يعني: إلا كذباً , قاله ابن عباس ومجاهد , قال الشاعر: (ولكنما ذاك الذي كان منكما ... أمانّي ما لاقت سماء ولا أرضا) والثاني: إِلاَّ أَمَانِيَّ , يعني , أنهم يَتَمَنَّونَ على الله ما ليس لهم , قاله قتادة. والثالث: إِلاَّ أَمَانِيَّ , يعني [إلا أماني يعني إلا تلاوة من غير فهم قاله الفراء والكسائي ومنه قوله تعالى: {إلاَّ إذَا تَمَنَّى ألْقَى الشيْطَانُ في أمنيِّتِه} [سورة الحج: 52] يعني ألقى الشيطانُ في أُمنيِّتِه , وقال كعب بن مالك: (تمنّى كتاب الله أول ليلهِ ... وآخرَه لاقي حمام المقادر) والرابع: أنَّ الأَمَانِيَّ: التقدير , حكاه ابن بحر وأنشد قول الشاعر: (ولا تقولَنْ لشيء سوف أفعله ... حتى تَبَيّنَ ما يمني لك الماني) ) (وإلا): في هذا الموضع بمعنى (لكن) وهو عندهم من الاستثناء المنقطع

ومنه قوله تعالى: {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنَّ} [النساء: 157] قال النابغة: (حلفت يميناً غير ذي مثنوية ... ولا علم إلا حسن ظن بصاحب) {وَإِنْ هُم إِلاَّ يَظُنُّونَ} فيه وجهان: أحدهما: يكذبون , قاله مجاهد. والثاني: يحدثون , قاله البصريون. قوله تعالى: {فَوَيلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِم} في الويل ستة أقاويل: أحدها: أنه العذاب , قاله ابن عباس. والثاني: أنه التقبيح , وهو قول الأصمعي. ومنه قوله تعالى: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]. وقال الشاعر: (كسا اللؤم سهما خضرة في جلودها ... فويل لسهم من سرابيلها الخُضْرِ) والثالث: أنه الحزن , قاله المفضل. والرابع: أنه الخزي والهوان. والخامس: أن الويل وادٍ في جهنم , وهذا قول أبي سعيد الخدري. والسادس: أنه جبل في النار , وهو قول عثمان بن عفان. {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِم} أي يغيرون ما في الكتاب من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته. وفي قوله تعالى: {بِأَيدِيهِم} تأويلان: أحدهما: أنه أراد بذلك تحقيق الإضافة , وإن كانت الكتابة لا تكون إلا باليد , كقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}. والثاني: أن معنى {بِأَيْدِيهِم} أي من تلقاء أنفسهم , قاله ابن السراج.

وفي قوله تعالى: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً} تأويلان: أحدهما: ليأخذوا به عرض الدنيا , لأنه قليل المدة , كما قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} وهذا قول أبي العالية. والثاني: أنه قليل لأنه حرام. {وَوَيلٌ لَّهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من تحريف كتبهم. والثاني: من أيام معاصيهم.

80

{وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون} قوله تعالى: {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} والفرق بين اللمس والمس , أن مع اللمس إحساساً. وفي الأيام المعدودة قولان: أحدهما: أنها أربعون يوماً , وهذا قول قتادة , والسدي , وعكرمة , وأبي العالية , ورواه الضحاك عن ابن عباس , ومن قال بهذا اختلفوا في تقديرهم لها بالأربعين: فقال بعضهم: لأنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل. وقال ابن عباس: أن اليهود يزعمون أنهم , وجدوا في التوراة مكتوباً , أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة , وهم يقطعون مسيرة كل سنة في يوم , فإذا انقطع المسير انقضى العذاب , وهلكت النار , وهذا قول من قدر (المعدودة) بالأربعين. والقول الثاني: أن المعدودة التي تمسهم فيها النار سبعة أيام , لأنهم

زعموا , أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة , وأنهم يُعَذَّبُون عن كل ألف سنة يوماً , وهذا قول مجاهد , ورواية سعيد بن جبير , عن ابن عباس.

81

{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً}. أما (بلى) , فجوات النفي , وأما (نعم) فجواب الإيجاب , قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك عَليَّ شيء , فقال الآخر: نعم , كان ذلك تصديقاً أن لا شيء عليه , ولو قال بَلَى: كان رداً لقوله , وتقديره: بَلَى لِيَ عليك. وقوله: {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} اختلفوا في السيئة ها هنا , على قولين: أحدهما: أنها الشرك , وهذا قول مجاهد. والثاني: أنها الذنوب التي وعد الله تعالى عليها النار , وهذا قول السدي. وقوله تعالى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه مات عليها , وهذا قول ابن جبير. والثاني: أنها سَدَّتْ عليه المسالك , وهذا قول ابن السراج.

83

{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة

وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ} يعني في التوراة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم. ويقال الميثاق الأول (حين أُخرِجوا) من صلب آدم. {وَقُولُوا للِنَّاسِ حُسْناً} فمن قرأ حَسَناً , يعني قولاً صدقاً في بعث محمد صلى الله عليه وسلم , وبالرفع , أي قولوا لجميع الناس حسناً , يعني خالقوا الناس بِخُلُقٍ حسن.

84

{وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُ مِّن دِيَارِكُمْ} أما النفس فمأخوذة من النفاسة , وهي الجلالة , فنفس الإنسان أنفس ما فيه , وأما الديار فالمنزل , الذي فيه أبنية المقام , بخلاف منزل الارتحال , وقال الخليل: كل موضع حَلَّهُ قوم , فهو دار لهم , وإن لم يكن فيه أبنية. فإن قيل: فهل يسفك أحد دمه , ويخرج نفسه من داره؟ ففيه قولان:

أحدهما: معناه لا يقتل بعضكم بعضاً , ولا يخرجه من داره , وهذا قول قتادة , وأبي العالية. والثاني: أنه القصاص الذي يقتص منهم بمن قتلوه. وفيه قول ثالث: أن قوله (أنفسكم) أي إخوانكم فهو كنفس واحدة. قوله تعالى: {تَظَاهَرُونَ عَليْهِم بالإثْمِ وَالعُدْوَانِ} يعني تتعاونون , والإثم هو الفعل الذي يستحق عليه الذم , وفي العدوان قولان: أحدهما: أنه مجاوزة الحق. والثاني: أنه في الإفراط في الظلم. {وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُم} وقرأ حمزة {أُسْرَى}. وفي الفرق بين أَسْرَى وأُسَارَى قولان: أحدهما: أن أَسْرَى جمع أسير , وأُسَارَى جمع أَسْرَى. والثاني: أن الأَسْرى الذين في اليد وإنْ لم يكونوا في وَثَاق , وهذا قول أبي عمرو بن العلاء , والأُسارَى: الذين في وَثَاق.

87

{ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ} يعني التوراة. {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} والتَّقْفِيَةُ: الإتْباع , ومعناه: وأَتْبَعْنَا , يقال اسْتَقْفَيْتُهُ إِذَا جئت من خلفه , وسميت قافية الشعر قافية لأنها خلفه. {وَءاتينا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} وفيها ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن البينات الحجج. والثاني: أنها الإنجيل. والثالث: وهو قول ابن عباس , أن البينات التي أوتيها عيسى إحياء الموتى , وخلقه من الطين كهيئة الطير , فيكون طيراً بإذن الله , وإبراء الأسْقَام. {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدْسِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن روح القدس الاسم الذي يحيي به عيسى الموتى , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه الإنجيل , سماه روحاً , كما سمى الله القرآن روحاً في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا}. والثالث: وهو الأظهر , أنه جبريل عليه السلام , وهذا قول الحسن وقتادة , والربيع , والسدي , والضحاك. واختلفوا في تسمية جبريل بروح القدس , على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه سُمِّيَ رُوحاً , لأَنَّه بمنزلة الأرواح للأبدان , يحيي بما يأتي به من البينات من الله عز وجل. والثاني: أنه سمي روحاً , لأن الغالب على جسمه الروحانية , لرقته , وكذلك سائر الملائكة , وإنما يختص به جبريل تشريفاً. والثالث: أنه سمي روحاً , لأنه كان بتكوين الله تعالى له روحاً من عنده من غير ولادة. والقُدُس فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: هو الله تعالى , ولذلك سُمِّي عيسى عليه السلام روح القدس , لأن الله تعالى كوَّنه من غير أب , وهذا قول الحسن والربيع وابن زيد. قال ابن زيد: القدس والقدوس واحد. والثاني: هو الظهر , كأنه دل به على التطهر من الذنوب. والثالث: أن القدس البركة , وهو قول السدي.

88

{وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} قوله تعالى: {وَقَالُواْ: قُلُوبُنَا غُلْفٌ} فيه تأويلات: أحدهما: يعني في أَغْطِيَةٍ وَأَكِنَّةٍ لا تفقه , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد وقتادة , والسدي. والثاني: يعني أوعية للعلم , وهذا قول عطية , ورواية الضحاك عن ابن عباس. {بَّل لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ} وَاللَّعن: الطرد والإبعاد , ومنه قول الشماخ: (ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين) ووجه الكلام: مقام الذئب اللعين كالرجل. في قوله تعالى: {فَقَليلاً مَّا يُؤْمنُونَ} تأويلان: أحدهما: معناه فقليل منهم من يؤمن , وهذا قول قتادة , لأن مَن آمن من أهل الشرك أكثر ممن آمن مِنْ أهل الكتاب. والثاني: معناه فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم , وهو مروي عن قتادة. ومعنى {مَا} هنا الصلة للتوكيد كما قال مهلهل: (لو بأبانين جاء يخطبها ... خُضَّب ما أنف خاضب بدم)

89

{ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ} يعني القرآن {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} فيه تأويلان:

أحدهما: مصدق لما في التوراة والإنجيل من الأخبار التي فيهما. والثاني: مصدق بأن التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل. {وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني يستنصرون , قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه , فلما بعثه الله تعالى من العرب كفروا به , فقال لهم معاذ بن جبل , وبشر بن البراء بن معرور: أو ما كنتم تخبروننا أنه مبعوث؟ فقال سلام بن مشكم: ما جاءنا بشيء نعرفه , وما هو بالذي كنا نذكر لكم , فأنزل الله تعالى ذلك.

90

{بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين} قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} اشتروا بمعنى باعوا. {أن يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً} يعني حسداً , هكذا قال قتادة والسدي , وأبو العالية , وهم اليهود. والبغي شدة الطلب للتطاول , وأصله الطلب , ولذلك سميت الزانية بَغِياً , لأنها تطلب الزنى. وفي قوله تعالى: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الغضب الأول لكفرهم بعيسى , والغضب الثاني لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول الحسن , وعكرمة , والشعبي , وقتادة , وأبي العالية. والثاني: أنه ما تقدم من كفرهم في قولهم عُزير ابن الله , وقولهم يد الله مغلولة , وتبديلهم كتاب الله , ثم كفرهم بمحمد.

والثالث: أنه لما كان الغضب لازماً لهم كان ذلك توكيداً. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} المهين: المذل. والعذاب على ضربين: فالمهين منها عذاب الكافرين لأنه لا يمحص عنهم ذنوبهم. والثاني: غير مهين وهو ما كان فيه تمحيص عن صاحبه , كقطع يد السارق من المسلمين , وحد الزاني.

91

{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: ءَامِنُوا بِمَا أَنَزَلَ اللهُ} يعني القرآن. {قَالُواْ: نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعني التوراة. {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} يعني بما بعده. {وَهُوَ الْحَقُّ} يعني القرآن. {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} يعني التوراة , لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضاً. {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ} معناه فلم قتلتم , فعبر عن الفعل الماضي بالمستقبل , وهذا يجوز , فيما كان بمنزلة الصفة , كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} أي ما تلت , وقال الشاعر: (وإني لآتيكم بشكر ما مضى ... من الأمر واستحباب ما كان في غد) يعني ما يكون في غد , وقيل معناه: فلم ترضون بقتل أنبياء الله , إن كنتم مؤمنين؟

93

{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} قوله تعالى: { ... خُذُوا مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} يعني بجد واجتهاد. {وَاسْمَعُواْ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني فاعملوا بما سمعتم. الثاني: أي اقبلوا ما سمعتم , كما قيل سمع الله لمن حمده , أي قبل الله حمده , وقال الراجز: (السمعُ والطاعة والتسليم ... خير وأعفى لبني تميم) {قَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} فيه تأويلان: أحدهما: أنهم قالوا ذلك حقيقة , ومعناه سمعنا قولك وعصينا أمرك. والثاني: أنهم لم يقولوه ولكن فعلوا ما دل عليه , فقام الفعل منهم مقام القول كما قال الشاعر: (امتلأ الحوض وقال قَطْني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني) {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} فيه تأويلان: أحدهما: أن موسى برد العجل وذرّاه في الماء , فكان لا يشربه أحد يحب العجل إلا ظهرت نخالة الذهب على شفتيه , وهذا قول السدي , وابن جريج. والثاني: أنهم أُشربوا حب العجل في قلوبهم , يقال أُشرِبَ قلبه حبَّ كذا , قال زهير: (فصحوتُ عنها بعد حبٍّ داخل ... والحبُّ تُشربه فؤادَك: داءُ)

94

{قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون} قوله تعالى: {قُلْ: إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُون النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} يعني اليهود تزعم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس , وفيه قولان: أحدهما: من دون الناس كلهم. والثاني: من دون محمد وأصحابه الذين آمنوا به , وهذا قول ابن عباس.

فقيل: {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} لأنه من اعتقد أنه من أهل الجنة , كان الموت أحب إليه من الحياة , لما يصير إليه من نعم الجنة , ويزول عنه من أذى الدنيا , ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَو أَنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوُا المَوتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَامَهُم مِنَ النَّارِ). ثم قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوهُ أَبَدا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} تحقيقاً لكذبهم , وفي تركهم إظهار التمني قولان: أحدهما: أنهم علموا أنهم لو تمنوا الموت لماتوا , كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم , فلذلك لم يتمنوه وهذا قول ابن عباس. الثاني: أن الله صرفهم عن إظهار التمني , ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم. ثم قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} يعني اليهود. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني المجوس , لأن المجوس هم الذين {يَودُّ أَحَدُهُمْ لو يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} , كان قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تحيتهم (عش ألف سنة) حرصاً على الحياة , فهؤلاء الذين يقولون: أن لهم الجنة خالصة أحب في الحياة من جميع الناس ومن هؤلاء. {وَمَا هُو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} أي بمباعده من العذاب {أَن يُعْمَّرُ} لأنه لو عمَّر ما تمنى , لما دفعه طول العمر من عذاب الله على معاصيه.

97

{قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ} وسبب نزول هذه الآية , أن ابن صوريا وجملة من يهود (فدك) , لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سألوه , فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فإنه قد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان , فقال: (تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي يَقْظَانُ) قالوا: صدقت يا محمد , فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال: (أَمَّا العِظَامُ وَالعَصَبُ وَالعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُلِ , وَأَمَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالظُّفْر وَالشَّعْر فَمِنَ المَرْأَةِ) قالوا: صدقت يا محمد , فما بال الولد يشبه أعمامه , ليس فيه من شبه أخواله شيء , أو يشبه أخواله , ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال: (أيهما علا ماؤه كان الشبه له) قالوا: صدقت يا محمد , فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله

تعالى: قال {هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص الآية: 1] إلى آخر السورة , قال له ابن صوريا: خصلة إن قلتها آمنتُ بك واتبعتُك , أي ملك يأتيك بما يقول الله؟ قال: (جبريل) , قال: ذاك عدونا , ينزل بالقتال والشدة والحرب , وميكائيل ينزل بالبشر والرخاء , فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك , فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند ذلك: فإني أشهد أن من كان عدّواً لجبريل , فإنه عدو لميكائيل , فأنزل الله تعالى هذه الآية , فأما جبريل وميكائيل فهما اسمان , أحدهما عبد الله والآخر عبيد الله , لأن إيل هو الله وجبر هو عبد , وميكا هو عبيد , فكان جبريل عبد الله , وميكائيل عبيد الله , وهذا قول ابن عباس , وليس له من المفسرين مخالف. فإن قيل: فلم قال: {مَن كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرِينَ} وقد دخل جبريل وميكائيل في عموم الملائكة فلِمَ خصهما بالذكر؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنهما خُصَّا بالذكر تشريفاً لهما وتمييزاً. والثاني: أن اليهود لما قالوا جبريل عدوّنا , وميكائيل ولينا , خُصَّا بالذكر , لأن اليهود تزعم أنهم ليسوا بأعداء لله وملائكته , لأن جبريل وميكائيل مخصوصان من جملة الملائكة , فنص عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص , ثم قال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} , ولم يقل لهم , لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان.

99

{ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين

ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} قوله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} اختلف أهل التفسير في سبب ذلك , على قولين: أحدهما: أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويستخرجون السحر , فَأَطْلَعَ الله سليمان ابن داود عليه , فاستخرجه من أيديهم , ودفنه تحت كرسيه , فلم تكن الجن تقدر على أن تدنو من الكرسي , فقالت الإنس بعد موت سليمان: إن العلم الذي كان سليمان يُسَخِّر به الشياطين والرياح هو تحت كرسيه , فاستخرجوه وقالوا: كان ساحراً ولم يكن نبياً , فتعلموه وعلّموه , فأنزل الله تعالى براءة سليمان بهذه الآية. والثاني: أن (آصف بن برخيا) وهو كاتب سليمان وَاطَأَ نَفَراً من الشياطين على كتاب كتبوه سحراً ودفنوه تحت كرسي سليمان , ثم استخرجوه بعد موته وقالوا هذا سحر سليمان , فبرأه الله تعالى من قولهم , فقال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ} , وهم ما نسبوه إلى الكفر , ولكنهم نسبوه إلى السحر , لكن لما كان السحر كفراً صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر. قال تعالى: {وَلَكْنَّ الشَيَاطِينَ كَفَرُوا} فيه قولان: أحدهما: أنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر. والثاني: أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر. {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فيه وجهان:

أحدهما: أنهم ألقوه في قلوبهم فتعلموه. والثاني: أنهم دلوهم على إخراجه من تحت الكرسي فتعلموه. {وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وفي {مَا} ها هنا وجهان: أحدهما: بمعنى الذي , وتقديره الذي أنزل على الملكين. والثاني: أنها بمعنى النفي , وتقديره: ولم ينزل على الملكين. وفي الملكين قراءتان: إحداهما: بكسر اللام , كانا من ملوك بابل وعلوجها هاروت وماروت , وهذا قول أبي الأسود الدؤلي , والقراءة الثانية: بفتح اللام من الملائكة. وفيه قولان: أحدهما: أن سحرة اليهود زعموا , أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود , فأكذبهم الله بذلك , وفي الكلام تقديم وتأخير , وتقديره: وما كفر سليمان , وما أنزل على الملكين , ولكن الشياطين كفروا , يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت , وهما رجلان ببابل. والثاني: أن هاروت وماروت مَلَكان , أَهْبَطَهُما الله عز وجل إلى

الأرض , وسبب ذلك , أن الله تعالى لما أطلع الملائكة على معاصي بني آدم , عجبوا من معصيتهم له مع كثرة أَنْعُمِهِ عليهم , فقال الله تعالى لهم: أما أنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم , فقالوا: سبحانك ما ينبغي لنا , فأمرهم الله أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض , فاختاروا هاروت وماروت فأُهْبِطَا إلى الأرض , وأحل لهما كل شيء , على ألا يُشْرِكا بالله شيئاً , ولا يسرقا , ولا يزنيا , ولا يشربا الخمر , ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق , فعرضت لهما امرأة وكان يحكمان بين الناس تُخَاصِمُ زوجها واسمها بالعربية: الزهرة , وبالفارسية: فندرخت , فوقعت في أنفسهما , فطلباها , فامتنعت عليهما إلا أن يعبدا صنماً ويشربا الخمر , فشربا الخمر , وعبدا الصنم , وواقعاها , وقتلا سابلاً مر بهما خافا أن يشهر أمرهما , وعلّماها الكلام الذي إذا تكلم به المتكلم عرج إلى السماء , فتكلمت وعرجت , ثم نسيت ما إذا تكلمت به نزلت فمسخت كوكبا , قال: كعب فوالله ما أمسيا من يومهما الذي هبطا فيه , حتى استكملا جميع ما نهيا عنه , فتعجب الملائكة من ذلك. ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء , فكانا يعلّمان السحر. وذكر عن الربيع أن نزولهما كان في زمان (إدريس). وأما السحر فقد اختلف الناس في معناه: فقال قوم: يقدر الساحر أن يقلب الأعيان بسحره , فيحول الإنسان حماراً , وينشئ أعياناً وأجساماً. وقال آخرون: السحر خِدَع وَمَعَانٍ يفعلها الساحر , فيخيل إليه أنه بخلاف ما هو , كالذي يرى السراب من بعيد , فيخيل إليه أنه ماء , وكواكب السفينة السائرة سيراً حثيثاً , يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائرة معه.

وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يهوديٌ من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم , حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخيّل إليه أنه يفعل الشيءَ وما فعله. قالوا: ولو كان في وسع الساحر إنشاء الأجسام وقلب الأعيان عما هي به من الهيئات , لم يكن بين الباطل والحق فصل , ولجاز أن يكون جميع الأجسام مما سحرته السحرة , فقلبت أعيانها , وقد وصف الله تعالى سحرة فرعون { ... فَإِذَا حِبَالُهُمُ وَعِصِيُّهُمُ يُخَيَّلُ إِليْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى}. وقال آخرون: وهو قول الشافعي إن الساحر قد يوسوس بسحره فيمرض وربما قتل , لأن التخيل بدء الوسوسة , والوسوسة بدء المرض , والمرض بدء التلف. فأما أرض {ببابل} ففيها ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنها الكوفة وسوادها , وسميت بذلك حيث تبلبلت الألسن بها وهذا قول ابن مسعود. والثاني: أنها من نصيبين إلى رأس عين , وهذا قول قتادة. والثالث: أنها جبل نهاوند. وهي [فطر] من الأرض. {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ: إِنَّمَا نَحنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُر} بما تتعلمه من سحرنا. {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} في المراد بقوله (منهما) ثلاثة أوجه: أحدها: يعني من هاروت وماروت. والثاني: من السحر والكفر. والثالث: من الشيطان والملكين , فيتعلمون من الشياطين السحر , ومن الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه. {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} يعني السحر. {إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني بأمر الله. والثاني: بعلم الله. {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} يعني ما يضرهم في الآخرة , ولا ينفعهم في الدنيا. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يعني السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه. {مَا لهُ فِي الأَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن الخلاق النصيب , وهو قول مجاهد والسدي.

والثاني: أن الخلاق الجهة , وهو قول قتادة. والثالث: أن الخلاق الدين , وهو قول الحسن. قوله عز وجل: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَواْ بِهِ أَنفُسَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر في تعليمه وفعله. والثاني: من إضافتهم السحر إلى سليمان , وتحريضهم على الكذب.

104

{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لا تقولوا ... وهو قول عطاء. والثاني: يعني ارعنا سمعك , أي اسمع منا ونسمع منك , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد. واختلفوا لِمَ نُهِي المسلمون عن ذلك؟ على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها كلمة كانت اليهود تقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الاستهزاء والسب؛ كما قالوا سمعنا وعصينا , واسمع غير مسمع , وراعنا ليّاً بألسنتهم , فَنُهِيَ المسلمون عن قولها , وهذا قول ابن عباس وقتادة. والثاني: أن القائل لها , كان رجلاً من اليهود دون غيره , يقال له رفاعة بن زيد , فَنُهِيَ المسلمون عن ذلك , وهذا قول السدي. والثالث: أنها كلمة , كانت الأنصار في الجاهلية تقولها , فنهاهم الله في الإسلام عنها.

{وَقُولُوا انظُرْنَا} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه أَفْهِمْنَا وبين لنا , وهذا قول مجاهد. والثاني: معناه أَمْهِلْنا. والثالث: معناه أَقْبِلْ علينا وانظر إلينا. {وَاسْمَعُوا} يعني ما تؤمرون به.

106

{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْءَايَةٍ} في (معنى) نسخها ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه قبضها , وهو قول السدي. والثاني: أنه تبديلها , وهو قول ابن عباس. والثالث: أنه إثبات خطها وتبديل حكمها , وهو قول ابن مسعود. {أَوْ نُنسِهَا} فيه قراءتان: أحدهما: هذه , والثانية: {أو ننسأها}. فمن قرأ: {أو ننسها} ففي تأويله أربعة أوجه: أحدها: أنه بمعنى أو نمسكها , وقد ذكر أنها كانت في مصحف عبد الله ابن مسعود: {ما نُمْسِكُ مِنْءَايَةٍ أَوْ نَنْسَخْهَا نَجِيءُ بِخَيرٍ مِنْهَا أَو مِثْلِهَا} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم , كان يقرأ الآية , ثم يَنْسَى وَتُرْفَعُ , وكان سعد بن أبي وقاص

يقرأ: {مَا نَنْسَخْ مِنْءَايَةٍ نَنَسَهَا} , بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فيكون تقديره أو تنسى أنت يا محمد , وقال القاسم بن ربيعة لسعد بن أبي وقاص: فإن سعيد بن المسيب يقرأ: {أو ننسها} , فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على ابن المسيب , ولا على آل المسيب قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} [الأعلى: 6] {وآذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وهذا معنى قول مجاهد وقتادة. والثاني: أن ذلك بمعنى الترك , من قوله تعالى: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم} , أي تركوه فتركهم , فيكون تقدير الكلام: {ما ننسخ من آية} يعني نَرفَعُها ونبدِّلُها , {أو نُنْسِهَا} أي نتركها ولا نبدلها ولا ننسخها , وهذا قول ابن عباس والسدي. والثالث: أن قوله ما ننسخ من آية أو ننسها قال: الناسخ والمنسوخ , وهذا قول الضحاك. والرابع: أن معنى ننسها أي نَمْحُها , وهذا قول ابن زيد. وأما من قرأ: {أو نَنْسَأُهَا} فمعناه نؤخرها , من قولهم نَسَأْتُ هذا الأمر , إذا أخرته , ومن ذلك قولهم: بعت بنسَاءٍ أي بتأخير , وهذا قول عطاء وابن أبي نجيح. {نَأْتِ بِخَيرٍ مِّنْها أو مِثْلِهَا} فيه تأويلان: أحدهما: أي خير لكم في المنفعة , وأرفق بكم , وهذا قول ابن عباس: والثاني: أن معنى خير منها , أي أخف منها , بالترخيص فيها , وهذا معنى قول قتادة. فيكون تأويل الآية , ما نغير من حكم آية فنبدله , أو نتركه فلا نبدله , نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكماً منها , إما بالتخفيف في العاجل , كالذي كان من نسخ قيام الليل تخفيفاً , وإما بالنفع بكثرة الثواب في الآجل , كالذي كان من نسخ صيام أيام معدودات بشهر رمضان. وقوله تعالى: {أَوَ مِثْلِهَا} يعني مثل حكمها , في الخفة والثقل والثواب والأجر , كالذي كان من نسخ استقبال بيت المقدس , باستقبال الكعبة , وذلك

مثله في المشقة والثواب {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٌُ قَدِيرٌ}. {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ} فإن قيل: أو كان النبي صلى الله عليه وسلم غير عالم بأن الله على كل شيء قدير , وأن الله له ملك السموات والأرض؟ قيل: عن هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أن قوله ألم تعلم بمعنى أعلمت. والثاني: أنه خارج مخرج التقرير , لا مخرج الاستفهام. كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ: اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَم أَنتَ قُلْتَ لِلْنَّاسِ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} [المائدة: 116] خرج مخرج التقرير لا مخرج الاستفهام. والثالث: أن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , والمراد به أمته , ألا تراه قال بعد ذلك: {وَمَا لَكُم مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.

108

{أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يرُدَّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً} سبب نزولها , ما رُوِيَ أن نفراً من اليهود , منهم فنحاص , وزيد بن قيس , دعوا حذيفة وعمار إلى دينهما , وقالوا نحن أهدى منكم سبيلاً ,

فقال لهم عمار: وكيف نقض العهد عندكم؟ قالوا: شديد , قال عمار: فإني عاهدت ربي ألا أكفر بمحمد أبداً , ولا أتبع ديناً غير دينه , فقالت اليهود: أما عمار فقد صبأ وضل عن سواء السبيل , فكيف أنت يا حذيفة؟ فقال حذيفة: الله ربي , ومحمد نبيي , والقرآن إمامي , أطيع ربي , وأقتدي برسولي , وأعمل بكتاب ربي. فقالا: وإلهِ موسى , لقد أُشْرِبَتْ قلوبُكُما حبَّ محمد , فأنزل الله عز وجل هذه الآية. {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَق} يعني من بعد ما تبين لليهود , أن محمداً نبي صادق , وأن الإسلام دين حق. {فَاْعْفُوا وَاصْفَحُوا} يعني بقوله فاعفوا , أي اتركوا اليهود , واصفحوا عن قولهم {حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} يعني مَا أَذِنَ بِهِ في (بني قريظة) , من القتل والسبي , وفي (بني النضير) من الجلاء والنفي.

111

{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنَ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أما المساجد فهي مواضع العبادات , وفي المراد بها هنا قولان: أحدهما: ما نسب إلى التعبد من بيوت الله تعالى استعمالاً لحقيقة الاسم.

والثاني: أنَّ كُلَّ موضع من الأرض , أقيمت فيه عبادة من بيوت الله وغيرها مسجد , لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِداً). وفي المانع مساجد الله أن يُذْكَرَ فيها اسمه , أربعة أقاويل: أحدها: أنه بُخْتَ نصر وأصحابه من المجوس الذين خربوا بيت المقدس , وهذا قول قتادة. والثاني: أنهم النصارى الذين أعانوا (بُخْتَ نَصّر) على خرابه , وهذا قول السدي. والثالث: أنهم مشركو قريش , منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام عام الحديبية , وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. والرابع: أنه عَامٌّ في كل مشرك , منع من كل مسجد. وفي قوله تعالى: {وَسَعَى في خَرَابِهَا} تأويلان: أحدهما: بالمنع من ذكر الله فيها. والثاني: بهدمها. {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خَآئِفِينَ} فيه تأويلان: أحدهما: خائفين بأداء الجزية , وهذا قول السدي. والثاني: خائفين من الرعب , إن قُدر عليهم عوقبوا , وهذا قول قتادة.

114

{ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} {لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْيٌ} فيه تأويلان:

أحدهما: أنه قتل الحربي وجزية الذمي. والثاني: أنه فتح مدائنهم عمورية , وقسطنطينية , ورومية , وهذا قول ابن عباس. {وَلَهُمْ في الأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} هو أشد من كل عذاب , لأنهم أظلم من كل ظالم.

115

{ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم} قوله تعالى: {وَاللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} اختلف أهل التأويل في تأويلها , وسبب نزولها , على سبعة أقاويل: أحدها: أن سبب ذلك , أن النبي صلى الله عليه وسلم , كان يستقبل بصلاته بيت المقدس بعد هجرته ستة عشر شهراً , أو سبعة عشر شهراً , حتى قالت اليهود: إن محمداً وأصحابه , ما دروا أين قبلتهم حتى هديناهم , فأمرهم الله تعالى باستقبال الكعبة , فتكلمت اليهود , فأنزل الله تعالى هذه الآية , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض استقبال القبلة , فأباح لهم أن يتوجهوا بصلاتهم حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب , وهذا قول قتادة وابن زيد. والثالث: أنها نزلت في صلاة التطوع للسائر حيث توجه , وللخائف حيث تمكن من مشرق أو مغرب , وهذا قول ابن عمر , روى سعيد بن جبير عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية {فَأَينَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} أن تصلي أينما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعاً , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعاً , يومئ برأسه نحو المدينة. والرابع: أنها نزلت , فيمن خفيت عليهم القبلة , ولم يعرفوا جهتها , فَصَلُّوا إلى جهات مختلفة.

روى عاصم بن عبد الله , عن عبد الله بن عامر بن ربيعة , عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة , فنزلنا منزلاً , فجعل الرجل يأخذ الأحجار , فيعمل مسجداً يصلي فيه , فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة , فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه إلى غير القبلة , فأنزل الله تعالى هذه الآية. والخامس: أنها نزلت في النجاشي , وروى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَخَاكُم النَّجَاشِيّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ) قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم , قال فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا

أُنزِلَ إِلَيْهِم خَاشِعِينَ لِلُّه} [سورة آل عمران الآية: 199] قالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة , فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمغْرِبُ فَأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}. والسادس: أن سبب نزولها أن الله تعالى لما أنزل قوله: {ادعُوني أسْتَجِبْ لَكُم} قالوا إلى أين؟ فنزلت: {فأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [البقرة: 115]. والسابع: أن معناه وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب , فلكم قبلة تستقبلونها , يعني جهة إلى الكعبة , وهذا قول مجاهد. ويجيء من هذا الاختلاف في قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} تأويلان: أحدهما: معناه فثم قبلة الله. والثاني: فثم الله تعالى , ويكون الوجه عبارة عنه , كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]. وأما {ثَمَّ} فهو لفظ يستعلم في الإشارة إلى مكان , فإن كان قريباً قيل: (هنا زيد) , وإن كان بعيداً قيل: (هناك زيد).

116

{وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}

قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً} فيه قولان: أحدهما: أنهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله. والثاني: أنهم مشركو العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. {سُبْحَانَهُ , بَل لَّهُ مَا في السَّمَواتِ والأَرْضِ} قوله: {سُبْحَانَهُ} تنزيهاً له من قولهم {اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً}. قوله: {لَهُ مَا في السَّمَواتِ والأَرْضِ} أي خالق ما في السموات والأرض. {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أي مطيعون , وهذا قول قتادة , والسدي , ومجاهد. والثاني: أي مقرون له بالعبودية , وهو قول عكرمة. والثالث: أي قائمون , يعني يوم القيامة , وهذا قول الربيع , والقانت في اللغة القائم , ومنه القنوت في الصلاة , لأنه الدعاء في القيام. قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَواتِ والأَرْضِ} يعني منشئها على غير حد ولا مثال , وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه , يقال له مبدع , ولذلك قيل لمن خالف في الدين: مبتدع , لإحداثه ما لم يسبق إليه {وَإِذَا قَضَى أَمْراً} أي أحكمه وحتمه , وأصله الإحكام والفراغ , ومنه قيل للحاكم قاض , لفصله الأمور وإحكامه بين الخصوم , وقيل للميت قد قَضَى أي فرغ من الدنيا , قال أبو ذؤيب: (وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تُبّع) معنى قضاهما أي أحكمهما. وقال الشاعر في عمر بن الخطاب: (قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تفتق) {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فإن قيل في أي حال يقول له كن فيكون؟

أفي حالة عدمه أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه , استحال أن يأمر إلا مأموراً , كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر , وإن كان في حال وجوده , فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث , لأنه موجود حادث؟. قيل: عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة: أحدها: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود , كما أمر في بني إسرائيل , أن يكونوا قردة خاسئين , ولا يكون هذا وارداً في إيجاد المعدومات. الثاني: أن الله عز وجل عالم , بما هو كائن قبل كونه , فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه , قبل كونها مشابهة للأشياء التي هي موجودة , فجاز أن يقول لها كوني , ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود , لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم. والثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى , عامٌ عن جميع ما يُحْدِثُه , ويكوّنه , إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله , وإنما هو قضاء يريده , فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً , كقول أبي النجم: (قد قالت الأنساع للبطن الحق ... قدما فآضت كالغسق المحقق) ولا قول هناك , وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن , وكقوله عمرو بن حممة الدوسي. (فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ... إذا رام تطياراً يقال له قَعِ)

118

{وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون}

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِيَنَآءَايَةٌ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم النصارى , وهو قول مجاهد. والثاني: أنهم اليهود , وهو قول ابن عباس. والثالث: أنهم مشركو العرب , وهو قول قتادة والسدي. وقوله: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ} يعني هَلاَّ يكلمنا الله , كقول الأشهب بن رملية: (تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضَوْطَرَى لولا الكمى المقنعا) بمعنى هل لا تعدون الكمى المقنعا. {كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود , وهو قول مجاهد. والثاني: أنهم اليهود والنصارى , وهو قول قتادة. قوله تعالى: {تَشَابَهتْ قُلُوْبُهُمْ} يعني في الكفر , وفيه وجهان: أحدهما: تشابهت قلوب اليهود لقلوب النصارى , وهذا قول مجاهد. والثاني: تشابهت قلوب مشركي العرب لقلوب اليهود والنصارى , وهذا قول قتادة.

119

{إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم

} قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} يعني محمداً أرسله بدين الحق. {بَشِيراً وَنَذِيراً} يعني بشيراً بالجنة لمن أطاع , ونذيراً بالنار لمن عصى. {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} أي لا تكون مؤاخذاً بكفرةِ من كفر بعد البشرى والإنذار , وقرأ بعض أهل المدينة: ولا تَسَلْ عن أصحاب الجحيم , بفتح التاء وجزم اللام , وذكر أن سبب نزولها , ما رواه موسى بن عبيد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَيْتَ شِعري مَا فَعَلَ أَبَوَاي) فأنزل الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}.

120

{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} قوله تعالى: {الَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حقَّ تِلاَوَتِهِ} فيه قولان:

أحدهما: أنهم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم , والكتاب هو القرآن , وهذا قول قتادة. والثاني: أنهم علماء اليهود , والكتاب هو التوراة , وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. {يتلونه حق تلاوته} فيه تأويلان: أحدهما: يقرؤونه حق قراءة. والثاني: يتبعونه حق اتباعه , فيحللون حلاله , ويحرمون حرامه , وهذا قول الجمهور. {أولئك يؤمنون به} يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم , لأن من قرأ أحد الكتابين , آمن به , لِمَا فيهما من وجوب اتباعه.

122

{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن} فيه محذوف وتقديره: واذكر إذا ابتلى يعني اختبر , وإبراهيم بالسريانية أب رحيم , وفي الكلمات التي ابتلاه الله عز وجل بها , ثمانية أقاويل: أحدها: هي شرائع الإِسلام , قال ابن عباس: ما ابتلى الله أحداً بهن , فقام بها كلها , غير إبراهيم , ابتلي بالإِسلام فأتمه , فكتب الله له البراءة فقال: {وإبراهيم الذي وَفَّى} [النجم: 37] قال: وهي ثلاثون سهماً: عشرة منها في سورة براءة: {التائبون , العابدون , الحامدون , السائحون , الراكعون , الساجدون} [التوبة: 112].

وعشرة في الأحزاب: {إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ , وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ , وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ , وَالصَادِقينَ والصَادِقَاتِ , وَالصَابِرِينَ وَالصَابِرَاتِ , وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ , وَالْمُتَصَدِّقِينَ , واَلْمُتَصَدِّقَاتِ , وَالصَائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ , وَالْحَافِظِينَ فروجَهُم وَالْحافِظَاتِ , وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالْذَّاكِرَاتِ , أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغَفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35]. وعشرة في سورة المؤمنين: {قَدْ أفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ , الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ , وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغُوِ مُعْرِضُونَ , وَالَّذيِنَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ , إلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِم أوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ , فَمن ابتغى وَرَاءَ ذلِكَ فَأولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ , وَالَّذِينَ هُمُ لأَمَانَاتِهِم وَعَهْدِهِم رَاعُونَ , وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ , أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ , الَّذِينَ يَرِثُونِ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11] وفي سورة سأل سائل من {إلا المُصَلِّينَ , الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] , إلى {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِم يُحَافظُون} [المعارج: 34]. والقول الثاني: إنها خصال من سُنَنِ الإسلام , خمس في الرأس , وخمس في الجسد , فروى ابن عباس في الرأس: قص الشارب , والمضمضة , والاستنشاق , والسواك , وفرق الرأس. وفي الجسد تقليم الأظفار , وحلق العانة , والختان , ونتف الإبط , وغسل أثر البول والغائط بالماء. وهذا قول قتادة. والقول الثالث: إنها عشر خصال , ست في الإنسان وأربع في المشاعر , فالتي في الإنسان: حَلْقُ العانة , والختان , ونَتْفُ الإبط , وتقليم الأظفار , وقص الشارب , والغُسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر: الطواف , والسعي بين الصفا والمروة , ورمي الجمار , والإفاضة. روى ذلك الحسن عن ابن عباس. والقول الرابع: إن الله تعالى قال لإبراهيم: إني مبتليك يا إبراهيم , قال: تجعلني للناس إماماً؟ قال نعم , قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين , قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم , قال: وأمناً؟ قال: نعم , قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال: نعم , قال: وأرنا مناسكنا وتب علينا؟ قال: نعم , قال: وتجعل هذا البلد آمناً؟ قال: نعم ,

قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن؟ قال: نعم , فهذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم , وهذا قول مجاهد. والخامس: أنها مناسك الحج خاصة , وهذا قول قتادة. والقول السادس: أنها الخلال الست: الكواكب , والقمر , والشمس , والنار , والهجرة , والختان , التي ابتلي بهن فصبر عليهن , وهذا قول الحسن. والقول السابع: ما رواه سهل بن معاذ بن أنس عن أمه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: سبحان الله حين تُمْسُونَ وحينَ تُصْبِحُونَ , وله الحمْدُ في السّموَاتِ والأرْضِ وعَشِيّاً وحين تُظْهِرُونَ). والقول الثامن , ما رواه القاسم بن محمد , عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} قَالَ: أتَدْرُونَ مَا وَفَّى؟ قَالُوا: اللهُ

وَرَسُولُهُ أعْلَمُ , قَالَ: وَفّى عَمَلَ يَوْمٍ بِأرْبَعِ رَكْعَاتٍ فِي النَّهَارِ) {قَالَ إنَّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً} أي مقصوداً متبوعاً , ومنه إمام المصلين , وهو المتبوع في الصلاة. {قال ومن ذريتي} فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أنه طمع في الإمامة لذريته , فسأل الله تعالى ذلك لهم. والثاني: أنه قال ذلك استخباراً عن حالهم , هل يكونون أهل طاعة فيصيروا أئمة؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصياً وظالماً , لا يستحق الإمامة , فقال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. وفي هذا العهد , سبعة تأويلات: أحدها: أنه النبوة , وهو قول السدي. والثاني: أنه الإمامة , وهو قول مجاهد. والثالث: أنه الإيمان , وهو قول قتادة. والرابع: أنه الرحمة , وهو قول عطاء. والخامس: أنه دين الله وهو قول الضحاك. والسادس: أنه الجزاء والثواب. والسابع: أنه لا عهد عليك لظالم أنه تطيعه في ظلمة , وهو قول ابن عباس.

125

{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم}

قوله تعالى: {وَإذْ جَعَلْنَا مَثَابَةً لِلنَّاسِ} فيه قولان: أحدهما: مجمعاً لاجتماع الناس عليه في الحج والعمرة. والثاني: مرجعاً من قولهم قد ثابت العلة إذا رجعت. وقال الشاعر: (مثاباً لأفناءِ القبائل كلها ... تحب إليها اليعملات الذوامل) وفي رجوعهم إليه وجهان: أحدهما: أنهم يرجعون إليه المرة بعد المرة. والثاني: أنهم في كل واحد من نُسُكَيَ الحج والعمرة يرجعون إليه من حل إلى حرم؛ لأن الجمع في كل واحد من النسكين بين الحل والحرم شرط مستحق. قال تعالى: {وَأَمْناً} فيه قولان: أحدهما: لأمنه في الجاهلية من مغازي العرب , لقوله: {وءَامَنَهُم مِنْ خَوفٍ} [قريش: 4]. والثاني: لأمن الجناة فيه من إقامة الحدود عليهم حتى يخرجوا منه. {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} روى حماد , عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: قلت يا رسول الله , لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى , فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} بكسر الخاء

من قوله واتخذوا على وجه الأمر , وقرأ بعض أهل المدينة: {وَاتَّخّذُوا} بفتح الخاء على وجه الخبر. واختلف أهل التفسير في هذا المقام , الذي أُمِرُوا باتخاذه مصلى , على أربعة أقاويل: أحدها: الحج كله , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه عرفة ومزدلفة والجمار , وهو قول عطاء والشعبي. والثالث: أنه الحرم كله , وهو قول مجاهد. والرابع: أنه الحجر الذي في المسجد , وهو مقامه المعروف , وهذا أصح. وفي قوله: {مُصَلَّى} تأويلان: أحدهما: مَدْعَى يَدْعِي فيه , وهو قول مجاهد. والثاني: أنه مصلى يصلي عنده , وهو قول قتادة , وهو أظهر التأويلين. قوله تعالى: {وَعَهِدْنآ إِلى إبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ} فيه تأويلان: أحدهما: أي أَمَرْنَا.

والثاني: أي أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل. {أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الأصنام. والثاني: من الكفار. والثالث: من الأنجاس. وقوله تعالى: {بَيْتِيَ} يريد البيت الحرام. فإن قيل: فلم يكن على عهد إبراهيم , قبل بناء البيت بيت يطهر , قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: معناه وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطَهَّراً , وهذا قول السدي. والثاني: معناه أن طهرا مكان البيت. {لِلطَّائِفِينَ} فيهم تأويلان: أحدهما: أنهم الغرباء الذين يأتون البيت من غربة , وهذا قول سعيد بن جبير. والثاني: أنهم الذين يطوفون بالبيت , وهذا قول عطاء. {وَالْعَاكِفِينَ} فيهم أربعة تأويلات: أحدها: أنهم أهل البلد الحرام , وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة. والثاني: أنهم المعتكفون وهذا قول مجاهد. والثالث: أنهم المصلون وهذا قول ابن عباس. والرابع: أنهم المجاورون للبيت الحرام بغير طواف , وغير اعتكاف , ولا صلاة , وهذا قول عطاء. {والرُّكَّعِ السُّجُودِ} يريد أهل الصلاة , لأنها تجمع ركوعاً وسجوداً. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} يعني مكة {وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ليجمع لأهله الأمن والخصب , فيكونوا في رغد من العيش.

{مَنْءَآمَنَ مِنْهُم بِاللهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن هذا من قول إبراهيم متصلاً بسؤاله , أن يجعله بلداً آمناً , وأن يرزق أهله الذين آمنوا به من الثمرات , لأن الله تعالى قد أعلمه بقوله: {لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أن فيهم ظالماً هو بالعقاب أحق من الثواب , فلم يسأل أهل المعاصي سؤال أهل الطاعات. والوجه الثاني: أنه سؤاله كان عاماً مرسلاً , وأن الله تعالى خص الإجابة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر , ثم استأنف الإخبار عن حال الكافرين , بأن قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} يعني في الدنيا. {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ} يعني بذنوبه إن مات على كفره. واختلفوا في مكة , هل صارت حراماً آمناً بسؤال إبراهيم أو كانت فيه كذلك؟ على قولين: أحدهما: أنها لم تزل حرماً مِنَ الجَبَابِرَةِ والمُسَلَّطِينَ , ومن الخسوف والزلازل , وإنما سأل إبراهيم ربَّه: أن يجعله آمناً من الجذب والقحط , وأن يرزق أهله من الثمرات , لرواية سعيد بن المقبري , قال: سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة , قتلت خزاعة رجلاً من هذيل , فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: (يأَيُّهَا النَّاسُ , إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ , لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيها دَماً أَوْ يُعَضِّدُ بِهَا شَجَراً , وَأَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلاَّ هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَباً عَلَى أَهْلِهَا , ألاَ وَهِيَ قَدْ رَجِعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالأَمْسِ , ألاَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَتَلَ بِهَا فَقُولُوا: إنَّ الله تَعَالَى قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكْ) والثاني: أن مكة كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم , كسائر البلاد , وأنها

بدعوته صارت حرماً آمنا , وبتحريمه لها , كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم حراماً , بعد أن كانت حلالاً , لرواية أشعب , عن نافع , عن ابن عمر , أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللهِ وَخَلِيله , وَإِنِّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ , وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عَضَاهَا وَصَيْدُهَا , لاَ يُحْمَلُ فِيهَا سِلاَحٌ لِقِتَالٍ , وَلاَ يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ لَعَلَفٍ) قوله تعالى: {وَإَذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} أول من دله الله تعالى على مكان البيت إبراهيمُ , وهو أول من بناه مع إسماعيل , وأول من حجه , وإنما كانوا قَبْلُ يصلون نحوه , ولا يعرفون مكانه. والقواعد من البيت واحدتها قاعدة , وهي كالأساس لما فوقها. {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} والمعنى: يقولان ربنا تقبل منا , كما قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيكُم} أي يقولون سلام عليكم , وهي كذلك في قراءة أبيّ بن كعب: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولاَنِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}. وتفسير (إسماعيل): إسمع يا الله , لأن إيل بالسريانية هو الله , لأن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل , فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد , سمّى بما دعا. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ} على التثنية , وقرأ عوف

الأعرابي: {مُسْلِمِينَ لك} على الجمع. ويقال: أنه لم يدع نَبيُّ إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} والمسلم هو الذي استسلم لأمر الله وخضع له , وهو في الدين القابل لأوامر الله سراً وجهراً. {وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} أي عرفنا مناسكنا , وفيها تأويلان: أحدهما: أنها مناسك الحج ومعالمه , وهذا قول قتادة والسدي. والثاني: أنها مناسك الذبائح التي تنسك لله عز وجل , وهذا قول مجاهد وعطاء. والمناسك جمع منسك , واختلفوا في تسميته منسكاً على وجهين: أحدهما: لأنه معتاد ويتردد الناس إليه في الحج والعمرة , من قولهم إن لفلان منسكاً , إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر , فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها. والثاني: أن النسك عبادة الله تعالى , ولذلك سُمِّي الزاهد ناسكاً لعبادة ربه , فسميت هذه مناسك لأنها عبادات.

129

{ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِم} يعني في هذه الأمة {رَسُولاً مِنْهُم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم , وقيل في قراءة أبيّ بن كعب {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِي آخِرِهِم رَسُولاً مِنْهُم}. وقد روى خالد بن معدان: أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا:

يا رسول الله أخبرنا عن نفسك , قال: (نَعَم , أَنَا دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى). {يَتْلُو عَلَيْهِمْءَايَاتِكَ} فيه تأويلان: أحدهما: يقرأ عليهم حجتك. والثاني: يبين لهم دينك. {ويُعَلِّمُهُم الْكِتَابَ} يعني القرآن. {وَالْحِكْمَة} فيها تأويلان: أحدهما: أنها السنة , وهو قول قتادة. والثاني: أنها المعرفة بالدين , والفقه فيه , والاتباع له , وهو قول ابن زيد. {وَيُزَكِّيهِم} فيه تأويلان: أحدهما: معناه يطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان. والثاني: يزكيهم بدينه إذا اتبعوه فيكونون به عند الله أزكياء.

130

{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: أن ذلك سفّه نفسه , أي فَعَلَ بها من السفه ما صار به سفيهاً , وهذا قول الأخفش. والثاني: أنها بمعنى سفه في نفسه , فحذف حرف الجر كما حذف من قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} أي عَلَى عقدة النكاح , وهذا قول الزجَّاج. والثالث: أنها بمعنى أهلك نفسه وأوْبَقَهَا , وهذا قول أبي عبيدة. قال المبرِّد وثعلب: سَفِه بكسر الفاء يتعدى , وسفُه بضم الفاء لا يتعدى. {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} أي اخترناه , ولفظه مشتق من الصفوة , فيكون المعنى: اخترناه في الدنيا للرسالة. {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} لنفسه في إنجائها من الهلكة. قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} الهاء كناية ترجع إلى الملة لتَقَدُّم قولهِ: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهيمَ} ووصّى أبلغ من أوصى , لأن أوصى يجوز أن يكون قاله مرة واحدة , وَوَصَّى لا يكون إلا مراراً. {وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} والمعنى أن إبراهيم وَصَّى , ثم وَصَّى بعده يعقوبُ بَنِيهِ , فقالا جميعاً: {يَا بَنِيَّ إنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} يعني اختار لكم الدين , أي الإسلام , {فَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُمْ مُسْلِمُونَ} فإن قيل: كيف يُنْهَونَ عن الموت وليس من فعلهم , وإنما يُمَاتُون؟ قيل: هذا في سعة اللغة مفهوم المعنى , لأن النهي تَوَجَّهَ إلى مفارقة الإسلام , لا إلى الموت , ومعناه: الزموا الإسلام ولا تفارقوه إلى الموت.

133

{أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها

واحدا ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} قوله تعالى: {وَقَالُوا: كُونُوا هُوداً أوْ نَصَارى تَهْتَدُوا} يعني أن اليهودَ قالوا: كونوا هوداً تهتدوا , وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا , فرد الله تعالى ذلك عليهم , فقال: {قُلْ: بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وفي الكلام حذف , يحتمل وجهين: أحدهما: أن المحذوف بل نتبع ملة إبراهيم , ولذلك جاء به منصوباً. والثاني: أن المحذوف بل نهتدي بملة إبراهيم , فلما حذف حرف الجر , صار منصوباً , والملة: الدين , مأخوذ من الإملاء , أي ما يُمْلُون من كتبهم. وأما الحنيف , ففيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه المخلص , وهو قول السدي. والثاني: أنه المتَّبع , وهو قول مجاهد. والثالث: الحاج , وهو قول ابن عباس , والحسن. والرابع: المستقيم. وفي أصل الحنيف في اللغة وجهان: أحدهما: الميل , والمعنى أن إبراهيم حَنَفَ إلى دين الله , وهو الإسلام فسمي حنيفاً , وقيل للرجل أحْنَف لميل كل واحدة من قدميه إلى أختها. والوجه الثاني: أن أصله الاستقامة , فَسُمِّي دين إبراهيم (الحنيفية) لاستقامته وقيل للرجل أحنف , تطيّراً من الميل وتفاؤلاً بالاستقامة , كما قيل لِلًّدِيغ سليم , وللمُهْلِكةِ من الأرض مفازة.

136

{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب

والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون} قوله تعالى: {فَإِنْءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} فإن قيل: فهل للإيمان مثل لا يكون إيماناً؟ قيل معنى الكلام: فإن آمنوا مثل إيمانكم , وصدَّقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا , وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف. {وَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} يعني في مشاقة وعداوة , وأصل الشِّقَاقِ البُعْدُ , من قولهم قد أخذ فلان في شِقٍّ , وفلان في شِقٍّ آخر , إذا تباعدوا. وكذلك قيل للخارج عن الجماعة , قد شَقَّ عصا المسلمين لبُعْدِهِ عنهم. قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} فيه تأويلان: أحدهما: معناه دين الله , وهذا قول قتادة. وسبب ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء لهم , ويقولون هذا تطهير لهم كالختان , فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال: {صِبْغَةَ اللهِ} أي صبغة الله أحسن صبغة , وهي الإسلام. والثاني: أن صبغة الله , هي خلقة الله , وهذا قول مجاهد. فإن كانت الصبغة هي الدين , فإنما سُمِّيَ الدين صبغة , لظهوره على صاحبه , كظهور الصِّبْغِ عَلَى الثوبِ , وإن كانت هي الخلقة فلإحداثه كإحداث اللون على الثوب.

139

{قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {أَمْ تَقُولُونَ إنَّ إبْرَاهِيمَ} يعني قالوا: {إنَّ إبْرَاهِيمَ وإِسْمَاعِيلَ وَإِسَحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ} وهم إثنا عشر سَبْطاً من ولد يعقوب , والسَبْطُ الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد , والسَبْطُ في اللغة: الشجر الذي يرجع بعضه إلى بعض {كَانُوا هُوداً أوْ نَصَارَى قُلْ: أَأَنْتُم أَعْلَمُ أمِ اللهُ} يعني اليهود تزعم أن هؤلاء كانوا هوداً , والنصارى تزعم أنهم كانوا نصارى , فرد الله عليهم بأن الله تعالى أعلم بهم منكم , يعني بأنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى. {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} من كتمان الشهادة , والارتشاء عليها من أغنيائهم وسفائهم.

142

{سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم} قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} السُّفَهَاءُ: واحده سَفِيه , والسَّفِيهُ: الخفيف الحلم , من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج , ورمح سفيه إذا أسرع نفوذه.

وفي والمراد بالسفهاء هَا هُنَا ثلاثة أقاويل: أحدها: اليهود , وهو قول مجاهد. والثاني: المنافقون , وهو قول السدي. والثالث: كفار قريش وحكاه الزجاج. {مَا ولاَّهم عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يعني ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها , وهي بيت المقدس , حيث كان يستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة , بعد هجرته إلى المدينة بستة عشر شهراً في رواية البراء بن عازب , وفي رواية معاذ بن جبل: ثلاثة عشر شهراً , وفي رواية أنس بن مالك تسعة أشهر أو عشرة أشهر , ثم نُسِخَتْ قبلةُ بيت المقدس باستقبال الكعبة , ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في صلاة الظهر وقد صلى منها ركعتين نحو بيت المقدس , فانصرف بوجهه إلى الكعبة , هذا قول أنس بن مالك , وقال البراء بن عازب: كنا في صلاة العصر بقباء , فمر رجل على أهل المسجد وهم ركوع في الثانية , فقال: أشهد لقد صَلَّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة , فداروا كما هم قِبَلَ البيت , وقِبَلُ كل شيءٍ: ما قَابَل وَجْهَه.

واختلف أهل العلم في استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس , هل كان برأيه واجتهاده , أو كان عن أمر الله تعالى لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التَّي كُنْتَ عَلَيْهَا إلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُوُلَ} , وهذا قول ابن عباس وابن جريج. والقول الثاني: أنه كان يستقبلها برأيه واجتهاده , وهذا قول الحسن , وعكرمة , وأبي العالية , والربيع. واختلفوا في سبب اختياره بيت المقدس على قولين: أحدهما: أنه اختار بيت المقدس ليتألَّف أهل الكتاب , وهذا قول أبي جعفر الطبري. والثاني: لأن العرب كانت تحج البيت غير آلفة لبيت المقدس , فأحب الله أن يمتحنهم بغير ما ألفوه , ليعلم من يتبع ممن ينقلب على عَقِبَيْهِ , وهذا قول أبي إسحاق الزجاج , فلما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة , قال ابن عباس: أتى رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف والربيع وكنانة بن أبي الحُقَيْقِ , فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملةِ إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها , نتبعك ونصدقك. وإنما يريدون فتنته عن دينه , فأنزل الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيها؟ قُل: لِلَّهِ الْمَشْرِقْ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ} يعني حيثما أمر الله تعالى باستقباله من مشرق أو مغرب والصراط: الطريق: والمستقيم: المستوي. قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}. فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني خياراً , من قولهم فلان وسط الحَسَبِ في قومه , إذا أرادوا بذلك الرفيع في حسبه , ومنه قول زهير:

(هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الإلهُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نَزَلَت إِحْدَى اللَّيالي بِمُعَظَّمِ) والثاني: أن الوسط من التوسط في الأمور , لأن المسلمين تَوَسَّطُوا في الدين , فلا هم أهل غلوٍّ فيه , ولا هم أهل تقصير فيه , كاليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتَّلوا أنبياءهم وكَذَبوا على ربهم , فوصفهم الله تعالى بأنهم وسط , لأن أحب الأمور إليه أوسطها. والثالث: يريد بالوسط: عدلاً , لأن العدل وسط بين الزيادة والنقصان , وقد روى أبو سعيد الخدري , عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً} أي عَدْلاً. {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لتشهدوا على أهل الكتاب , بتبليغ الرسول إليهم رسالة ربهم. والثاني: لتشهدوا على الأمم السالفة , بتبليغ أنبيائهم إليهم رسالة ربهم , وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم , أن الأمم السالفة تقول لهم: كيف تشهدون علينا ولم تشاهدونا , فيقولون أعْلَمَنَا نبيُّ الله بما أُنْزِلَ عليه من كتاب الله. والثالث: أن معنى قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي لتكونوا مُحْتَجِّينَ على الأمم كلها , فعبر عن الاحتجاج بالشهادة , وهذا قول حكاه الزجاج.

{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يكون الرسول شهيداً على أمته أنْ قد بلّغ إليهم رسالة ربه. والثاني: أنّ معنى ذلك أنْ يكون شهيداً لهم بإيمانهم , وتكون (عليهم) بمعنى (لهم). والثالث: أن معنى قوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيداً} أي مُحْتَجّاً. {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} أي بيت المقدس , {إلاّ لِنَعَلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} فإن قيل: الله أعلم بالأشياء قبل كونها , فكيف جعل تحويل القِبْلة طريقاً إلى علمه؟ قيل: في قوله: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} أربعة تأويلات: أحدها: يعني إلا ليعلم رسولي , وحزبي , وأوليائي؛ لأن من شأن العرب إضافة ما فعله أتْباعُ الرئيس إليه , كما قالوا: فتح عمرُ بنُ الخطاب سوادَ العراق وجبي خَرَاجَهَا. والثاني: أن قوله تعالى: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} بمعنى: إلا لنرى , والعرب قد تضع العلمَ مكان الرؤية , والرؤية مكان العلم , كما قال تعالى {ألَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] يعني: ألم تعلم. والثالث: قوله تعالى: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} بمعنى إلا لتعلموا أننا نعلم , فإنّ المنافقين كانوا في شك من علم الله بالأشياء قبل كونها. والرابع: أن قوله: {إلاَّ لِنَعْلَمَ} بمعنى إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك , وهذا قول ابن عباس. قوله تعالى: {مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ} بمعنى فيما أمر به من استقبال الكعبة {مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} بمعنى: ممن يَرْتَدُّ عن دينه , لأن المرتد راجع مُنْقَلِب عما كان عليه , فشبهه بالمُنْقلِب على عقبه , لأن القبلة لمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ من المسلمين قَوْمٌ , ونافق قوم , وقالت اليهود: إن محمداً قد اشتاق إلى بلد أبيه , وقالت قريش: إن محمداً قد علم أننا على هدى وسَيُتَابِعُنَا.

ثم قال تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه وإن التولية عن بيت المقدس إلى الكعبة والتحويل إليها لكبيرةٌ , وهذا هو قول ابن عباس , ومجاهد , وقتادة. والثاني: إن الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل , وهذا قول أبي العالية الرياحي. والثالث: أن الكبيرة هي الصلاة , التي كانوا صَلَّوْهَا إلى القبلة الأولى , وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُم} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس , فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل , وسبب ذلك أن المسلمين لما حُوِّلُوا عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة , قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف من مات من إخواننا؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُم}. فإن قيل: هم سألوه عن صلاةِ غيرهم , فأجابهم بحال صلاتهم؟ قيل: لأن القوم أشفقوا , أن تكون صلاتهم إلى بيت المقدس مُحْبَطةً لمنْ مات ومن بقي , فأجابهم بما دَلَّ على الأمرين , على أنه قد روى قوم أنهم قالوا: كيف تضيع صلاتنا إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى ذلك. {إنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} الرأفة: أشد من الرحمة , وقال أبو عمر عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة.

144

{قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك

شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون} قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَآءِ} هذه الآية متقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِن النَّاسِ}. وفي قوله: {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ} تأويلان: أحدهما: معناه: تحول وجهك نحو السماء , وهذا قول الطبري. والثاني: معناه: تقلب عينيك في النظر إلى السماء , وهذا قول الزجاج. {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبلةً تَرضاها} يعني الكعبة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضاها ويختارها ويسأل [ربه] أن يُحوَّل إليها. واختُلِفَ في سبب اختياره لذلك على قولين: أحدهما: مخالفة اليهود وكراهة لموافقتهم , لأنهم قالوا: تتبع قبلتنا وتخالفنا في ديننا؟ وبه قال مجاهد , وابن زيد. والثاني: أنه اختارها , لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم , وبه قال ابن عباس. فإن قيل: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راض ببيت المقدس أن يكون له قبلة , حتى قال تعالى له في الكعبة {فَلَنُوَلِّيَنَّكْ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}؟ قيل: لا يجوز أن يكون رسول الله غير راض ببيت المقدس , لَمَّا أمره الله تعالى به , لأن الأنبياء يجب عليهم الرضا بأوامر الله تعالى , لكن معنى ترضاها: أي تحبها وتهواها , وإنما أحبها مع ما ذكرنا من القولين الأولين , لما فيها من تآلف قومه وإسراعهم إلى إجابته , ويحتمل أن يكون قوله: {تَرْضَاهَا} محمولاً على الحقيقة بمعنى: ترضى ما يحدث عنها من التأليف , وسرعة الإجابة , ثم قال تعالى مجيباً لرغبته وآمراً بطَلِبَتِه: {فَولِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي حَوِّلْ وجهك في الصلاة , شطر المسجد الحرام أي: نحو المسجد الحرام , كما قال الهذلي:

(إنَّ العسير بها دَاءٌ يُخَامِرُها ... فشطرُهَا نظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ) أي نحوها , والشطر من الأضداد , يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه , وشطر عن كذا إذا بَعُدَ منه وأعرض عنه , وشِطْرُ الشيء: نصفه , فأما الشاطر من الرجال فلأنه قد أخذ في نحوٍ غير الإِستواء. قوله تعالى: {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني به الكعبة , لأنها فيه فعبر به عنها. واختلف أهل العلم في المكان , الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه: فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: {فَلَنُولِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال: حيال ميزاب الكعبة. وقال عبد الله بن عباس: البيت كله , وقبلة البيت الباب. ثم قال تعالى: {وَحَيْثُمَا كَنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطْرَهُ} يعني نحو المسجد الحرام أيضاً تأكيداً للأمر الأول لأن عمومه يقتضيه , لكن أراد بالتأكيد احتمال التخصيص , ثم جعل الأمر الأول مواجهاً به النبي صلى الله عليه وسلم , والثاني مواجهاً به جميع الناس , فكلا الأمرين عام في النبي صلى الله عليه وسلم وجميع أمته , لكن غاير بين الأمرين ليمنع من تغيير الأمر في المأمور به , وليكون كل واحد منهما جارياً على عمومه. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى. {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يعني تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة. {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} من الخوض في إِفْتَانِ المسلمين عن دينهم بذلك.

145

{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين}

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّءَايَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} يعني استقبال الكعبة. {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُم} يعني استقبال بيت المقدس , بعد أن حُوِّلَتْ قِبْلَتُك إلى الكعبة. {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابٍعِ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يعني أن اليهود لا تتبع النصارى في القبلة , فهم فيها مختلفون , وإن كانوا على معاندة النبي صلى الله عليه وسلم متفقين. {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} يعني في القبلة. {مَن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} يعني في تحويلها عن بيت المقدس إلى الكعبة. {إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} وليس يجوز أن يفعل النبي ما يصير به ظالماً. وفي هذا الخطاب وجهان: أحدهما: أن هذه صفة تنتفي عن النبي , وإنما أراد بذلك بيان حكمها لو كانت. والوجه الثاني: أن هذا خطاب للنبي والمراد به أمته.

146

{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} قوله تعالى: {الَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى , أوتوا التوراة , والإنجيل. {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنآءَهُمُ} فيه قولان: أحدهما: يعرفون أن تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة حق كما يعرفون أبناءهم. والثاني: يعرفون الرسول وصدق رسالته كما يعرفون أبناءهم. {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ} يعني علماءهم وخواصَّهمْ.

{لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} فيه قولان: أحدهما: أن الحق هو استقبال الكعبة. والثاني: أن الحق محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول مجاهد وقتادة. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعلمون أنه حق متبوع. والثاني: يعلمون ما عليه من العقاب المستحق. {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} يعني استقبال الكعبة , لا ما أخبرتك به شهود من قبلتهم. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكِّين يقال: امترى فلان في كذا إذا اعترضه اليقين مَرَّةً , والشك أخرى , فدافع أحدهما بالآخر. فإن قيل: أفكان شاكّاً حين نهى عنه؟ قيل: هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره من أمته.

148

{ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير} قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} يعني ولكل أهل ملة من سائر الملل وجهة هو مولِّيها. وفيه قولان: أحدهما: قبلة يستقبلونها , وهو قول ابن عباس وعطاء والسدي. والثاني: يعني صلاة يصلونها , وهو قول قتادة. وفي قوله تعالى: {هُوَ مُوَلِّيها} قولان: أحدهما: أن أهل كل وجهة هم الذين يَتَوَلَّونَهَا ويستقبلونها. والثاني: أن أهل كل وجهةٍ الله تعالى هو الذي يوليهم إليها ويأمرهم

باستقبالها , وقد قرئ {هُوَ مَوْلاها} وهذا حسن يدل على الثاني من القولين. {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه فسارعوا إلى الأعمال الصالحة , وهو قول عبد الرحمن بن زيد. والثاني: معناه: لا تُغلَبوا على قبلتكم بما تقول اليهود من أنكم إذا اتبعتم قبلتهم اتبعوكم , وهذا قول قتادة. { ... يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً} إلى الله مرجعكم جميعاً , يعني يوم القيامة. {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني على إعادتكم إليه أحياء بعد الموت والبلى.

149

{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} ثم أكد الله أمره في استقبال الكعبة , لما جرى من خوض المشركين ومساعدة المنافقين , بإعادته فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تبييناً لِنَبِيِّهِ وصرفاً له عن الاغترار بقول اليهود: أنهم يتبعونه إن عاد. {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقول ذلك ترغيباً لهم في الخير.

والثاني: تحذيراً من المخالفة. ثم أعاد الله تعالى تأكيد أمره , ليخرج من قلوبهم ما استعظموه من تحويلهم إلى غير ما أَلِفُوه , فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فأفاد كل واحد من الأوامر الثلاثة مع استوائها في التزام الحكم فائدة مستجده: أما الأمر الأول فمفيد لنسخ غيره , وأما الأمر الثاني فمفيد لأجل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} أنه لا يتعقبه نسخ. وأما الأمر الثالث فمفيد أن لا حجة عليهم فيه , لقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}. ثم قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ} ليس يريد أن لهم عليكم حجة. وفيه قولان: أحدهما: أن المعنى , ولكن الذين ظلموا قد يحتجون عليكم بأباطيل الحجج , وقد ينطلق اسم الحجة على ما بطل منها , لإقامتها في التعلق بها مقام الصحيح حتى يظهر فسادها لمن علم , مع خفائها على من جهل , كما قال تعالى {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} فَسَمَّاهَا حجة , وجعلها عند الله دَاحِضَةْ. والقول الثاني: أن المعنى لِئَلاَّ يكون للناس عليكم حُجَّةٌ بعد الذين ظلموا , فتكون (إلاّ) بمعنى (بعد)] كما قيل في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكَحُوا مَا نَكَحَءَابَاءُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي بعدما قد سلف. وكما قيل في قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلاَّ المَوتَةَ الأولى} [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى. وأراد بالذين ظلموا قريشاً واليهود , لقول قريش حين استقبل الكعبة: قد علم أننا على هُدًى , ولقول اليهود: إن رَجَعَ عنها تابعناه. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَونِي} في المخالفة {وَلأُتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: فيما هديناكم إليه من القبلة. والثاني: ما أعددته لكم من ثواب الطاعة.

151

{كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} يعني من العرب {رَسُولاً مِّنكُمْ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {يَتْلُوا عَلَيْكُمْءَآيَاتِنَا} يعني القرآن. {وَيُزَكِّيكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني يطهركم من الشرك. والثاني: أن يأمركم بما تصيرون به عند الله أزكياء. {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكَتَابَ} فيه تأويلان: أحدهما: القرآن. والثاني: الإخبار بما في الكتب السالفة من أخبار القرون الخالية. {وَالحِكْمَةَ} فيها تأويلان: أحدهما: السنّة. والثاني: مواعظ القرآن. {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} يعني من أحكام الدين وأمور الدنيا. {فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: اذكروني بالشكر أذكركم بالنعمة. والثاني: اذكروني بالقبول أذكركم بالجزاء.

153

{يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاَةِ} أما الصبر ها هنا ففيه قولان:

أحدهما: الثبات على أوامر الله تعالى. والثاني: الصيام المقصود به وجه الله تعالى. وأما الاستعانة بالصلاة فتحتمل وجهين: أحدهما: الاستعانة بثوابها. والثاني: الاستعانة بما يُتلى في الصلاة ليعرف به فضل الطاعة فيكون عوناً على امتثال الأوامر. قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} وسبب ذلك أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحُد: مات فلان , ومات فلان , فنزلت الآية وفيها تأويلان: أحدهما: أنهم ليسوا أمواتاً وإن كانت أجسامهم أجسام الموتى بل هم عند الله أحياء النفوس منعّمو الأجسام. والثاني: أنهم ليسوا بالضلال أمواتاً بل هم بالطاعة والهدى أحياء , كما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] فجعل الضالَّ ميتاً , والمُهْتَدي حياً. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنهم ليسوا أمواتاً بانقطاع الذكر عند الله وثبوت الأجر.

155

{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} يعني أهل مكة , لما تقدم من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها عليهم سنين كسني يوسفَ حين قحطوا سبع سنين , فقال الله تعالى مجيباً لدعاء نبيه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالجُوعِ} الخوف يعني الفزع في القتال , والجوع يعني المجاعة بالجدب. {وَنَقْصٍ مِّنَ الأمَوَالِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: نقصها بالجوائح المتلفة. والثاني: زيادة النفقة في الجدب. {وَالأَنفُسِ} يعني ونقص الأنفس بالقتل والموت. {وَالثَّمَرَاتِ} قلة النبات وارتفاع البركات. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: وبشر الصابرين على الجهاد بالنصر. والثاني: وبشر الصابرين على الطاعة بالجزاء. والثالث: وبشر الصابرين على المصائب بالثواب , وهو أشبه لقوله من بعد: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني: إذا أصابتهم مصيبة في نفس أو أهل أو مال قالوا: إنا لله: أي نفوسنا وأهلونا وأموالنا لله , لا يظلمنا فيما يصنعه بنا {وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} يعني بالبعث في ثواب المحسن ومعاقبة المسيء. ثم قال تعالى في هؤلاء: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الصلاة اسم مشترك المعنى فهي من الله تعالى الرحمة , ومن الملائكة الاستغفار , ومن الناس الدعاء , كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً}. وقال الشاعر: (صلّى على يحيى وأشياعه ... رَبٌّ كريمٌ وشفيع مطاع) قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي رحمة , وذكر ذلك بلفظ الجمع لأن بعضها يتلو بعضاً. ثم قال: {وَرَحْمَةٌ} فأعادها مع اختلافها للفظين لأنه أوكد وأبلغ كما قال: {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}. وفي قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وجهان محتملان: أحدهما: المهتدون إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن. والثاني: المهتدون إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر.

158

{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ} أما الصفا والمروة فهما مبتدأ السعي ومنتهاه. وفيه قولان: أحدهما: أن الصفا: الحجارة البيض , والمروة الحجارة السود. واشتقاق الصفا من قولهم صفا يصفو إذا خَلَص , وهو جمع واحده صفاة. والثاني: أن الصفا: الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئاً , والمروة الحجارة الرخوة , وهذا أظهر القولين في اللغة. يدل على الصفا قول الطرماح: (أبت لي قوتي والطول إلاّ ... يؤيسَ حافراً أبداً صفاتي) ويدل على المروة قول الكميت: (ويُوَلّي الأرضَ خفاً ذابلاً ... فإذا ما صادف المَرْوَ رضخ) وحُكِيَ عن جعفر بن محمد قال: نزل آدم على الصفا , وحواء على المروة , فَسُمِّي الصفا باسم آدم المصطفى وسميت المروة باسم المرأة. وقيل إن اسم الصفا ذكّر بإساف وهو صنم كان عليه مذكر الاسم , وأنثت المروة بنائلة وهو صنم كان عليه مؤنث الاسم. وفي قوله: {مِن شَعَائِرِ اللهِ} وجهان: أحدهما: يعني من معالم الله التي جعلها لعباده معلماً , ومنه قول الكميت: (نقتّلهم جيلاً فجيلاً تراهُمُ ... شعائر قربان بها يُتَقَرَّبُ)

والثاني: إن الشعائر جمع شعيرة وهو الخبر الذي أخبر الله تعالى عنه , وهي من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة وما عليهم من الطواف بهما , وهذا قول مجاهد. ثم قال تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} أما الحج ففيه قولان: أحدهما: أنه القصد , سمي به النسك لأن البيت مقصود فيه , ومنه قول الشاعر: (وأشهد من عوف حلولاً كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا) يعني بقوله يحجون أي يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته , فسمي الحج حجاً لأن الحاج يأتي قِبَلَ البيت ثم يعود إليه لطواف الإفاضة , ثم ينصرف إلى منى ويعود إليه لطواف الصدر , فلتكرر العَوْد إليه مرة بعد أخرى قيل له: حاجّ. وأما العمرة ففيها قولان: أحدهما: أنها القصد أيضاً , وكل قاصد لشيء فهو معتمر , قال العجاج: (لقد غزا ابن معمر حين اعتمر ... مَغْزىً بعيداً من بعيد وصَبَر) يعني بقوله حين اعتمر أي حين قصد. والقول الثاني: أنها الزيارة ومنه قول الشاعر: (وجاشت النفسُ لمَّا جاءَ فَلُّهم ... وراكب جاءَ من (تثليث) معتمرا) أي زائراً. ثم قال تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ورفع الجناح من أحكام المباحث دون الواجبات.

فذهب أبو حنيفة على أنّ السعي بين الصفا والمروة غير واجب في الحج والعمرة منسكاً بأمرين: أحدهما: قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ورفع الجناح من أحكام المباحات دون الواجبات. والثاني: أن ابن عباس وابن مسعود قَرَء: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن لاَّ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وذهب الشافعي , ومالك , وفقهاء الحرمين , إلى وجوب السعي في النسكين تمسكاً بفحوى الخطاب ونص السنة , وليس في قوله: {فَلاَ جُنَاحَ} دليل على إباحته دون وجوبه , لخروجه على سبب , وهو أن الصفا كان عليه في الجاهلية صنم اسمه إساف , وعلى المروة صنم اسمه نائلة , فكانت الجاهلية إذا سعت بين الصفا والمروة طافوا حول الصفا والمروة تعظيماً لإساف ونائلة , فلما جاء الإسلام وألغيت الأصنام تَكَرَّهَ المسلمون أن يُوَافِقُوا الجاهلية في الطواف حول الصفا والمروة , مجانبةً لما كانوا عليه من تعظيم إساف ونائلة , فأباح الله تعالى ذلك لهم في الإسلام لاختلاف القصد فقال: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وأما قراءة ابن مسعود , وابن عباس: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن لاَّ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} , فلا حجة فيها على سقوط فرض السعي بينهما لأن (لا) صلة في الكلام إذا تقدمها جَحْد , كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] بمعنى ما منعك أن تسجد , وكما قال الشاعر: (ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والطيبان أبو بكر ولا عُمَرُ) {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ومن تطوع بالسعي بين الصفا والمروة , وهذا قول مَنْ أسقط وجوب السعي. والثاني: ومن تطوع بالزيادة على الواجب , وهذا قول من أوجب السعي. والثالث: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد أداء فرضهما.

{فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} يحتمل تأويلين: أحدهما: شاكر للعمل عليم بالقصد. والثاني: شاكر للقليل عليم بالثواب.

159

{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا} قيل: هم رؤساء اليهود , كعب ابن الأشرف , وكعب بن أسد , وابن صوريا , وزيد بن التابوت , هم الذين كتموا ما أنزل الله. {مَنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} فيه قولان: أحدهما: أن البينات هي الحجج الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , والهدى: الأمر باتباعه. والثاني: أن البينات والهدى واحد , والجمع بينهما تأكيد , وذلك ما أبان عن نبوته وهدى إلى اتباعه. {مَنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الْكِتَابِ} يعني القرآن. {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} فيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم كل شيء في الأرض من حيوان وجماد إلا الثقلين الإنس والجن , وهذا قول ابن عباس والبراء بن عازب.

والثاني: اللاعنون: الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة مستحقها منهما , فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت اللعنة على اليهود , وهذا قول ابن مسعود. والثالث: أنهم البهائم , إذا يبست الأرض قالت البهائم هذا من أجل عُصاةِ بني آدم , وهذا قول مجاهد وعكرمة. والرابع: أنهم المؤمنون من الإنس والجن , والملائكة يَلعنون مَنْ كَفَر بالله واليوم الآخر , وهذا قول الربيع بن أنس. {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} يعني بالإسلام من كفرهم {وَأَصْلَحُوا} يحتمل وجهين: أحدهما: إصلاح سرائرهم وأعمالهم. والثاني: أصلحوا قومهم بإرشادهم إلى الإسلام {وَبَيَّنُوا} يعني ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتَباعه {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِم} والتوبة من العباد: الرجوع عن الذنب , والتوبة من الله تعالى: قبولها من عباده. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} وإنما شرط الموت على الكفر لأن حُكْمَهُ يستقر بالموت عليه ويرتفع بالتوبة منه. {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ} واللعنة من العباد: الطرد , ومن الله تعالى: العذاب. {وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقرأ الحسن البصري: {وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعُونَ} بالرفع , وتأويلها: أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله وتلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون. فإن قيل: فليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم , قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة جميع الناس , فغلب حكم الأكثر على الأقل. والثاني: أن المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس كما قال تعالى: {يَومَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضِ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]. ثم قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} فيه تأويلان:

أحدهما: لا يخفف بالتقليل والاستراحة. والثاني: لا يخفف بالصبر عليه والاحتمال له. {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يؤخرون عنه ولا يمهلون. والثاني: لا ينظر الله عز وجل إليهم فيرحمهم.

163

{وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أراد بذلك أمرين: أحدهما: أن إله جميع الخلق واحد , لا كما ذهبت إليه عبدة الأصنام من العرب وغيرهم أن لكل قوم إلَهاً غير إله من سواهم. والثاني: أن الإله وإنْ كان إلهاً لجميع الخلق فهو واحد لا ثاني له ولا مثل له. ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {لآَّ إِلّهَ إِلاَّ هُوَ} , ثم وصف فقال: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ترغيباً في عبادته وحثاً على طاعته.

164

{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} ثم دل على ما ذكرهم من وحدانيته وقدرته , بقوله تعالى: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: فآية السماء: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها , ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة. وآية الأرض: بحارها , وأنهارها , ومعادنها , وشجرها , وسهلها , وجبلها. وآية الليل والنهار: اختلافها بإقبال أحدهما وإدبار الآخر , فيقبل الليل من

حيث لا يعلم , ويدبر النهار إلى حيث لا يعلم , فهذا اختلافهما. ثم قال: {وَالْفُلْكِ الَّتي تَجْرِي في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} الفلك: السفن , الواحدُ والجمع بلفظ واحد , وقد يذكر ويؤنث. والآية فيها: من وجهين: أحدهما: استقلالها لحملها. والثاني: بلوغها إلى مقصدها. ثم قال تعالى: {وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ} يعني به المطر المنزل منها , يأتي غالباً عند الحاجة , وينقطع عند الاستغناء عنه , وذلك من آياته. ثم قال تعالى: {فَأَحْيَا الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وإحياؤها بذلك قد يكون من وجهين: أحدهما: ما تجري به أنهارها وعيونها. والثاني: ما ينبت به من أشجارها وزروعها , وكلا هذين سبب لحياة الخلق من ناطق وبُهْم. ثم قال تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} يعني جميع الحيوان الذي أنشأه فيها , سماه (دابة) لدبيبه عليها , والآية فيها مع ظهور القدرة على إنشائها من ثلاثة أوجه: أحدها: تباين خلقها. والثاني: اختلاف معانيها. والثالث: إلهامها وجوه مصالحها. ثم قال تعالى: {وَتَصْرِيفَ الرِّيَاحِ} والآية فيها من وجهين: أحدهما: اختلاف هبوبها في انتقال الشمال جنوبها , والصبا دبوراً , فلا يعلم لانتقالها سبب , ولا لانصرافها جهة. والثاني: ما جعله في اختلافها من إنعام ينفع , وانتقام يؤذي. وقد روى سعيد بن جبير عن شريح قال: ما هاجت ريح قط إلا لسُقْمِ صحيح أو لشفاء سقيم والرياح جمع ريح وأصلها أرواح. وحكى أبو معاذ أنه كان في مصحف حفصة: {وَتَصْرِيفِ الأرْوَاحِ}. وقال ابن عباس: سميت الريح لأنها تريح ساعة بعد ساعة. قال ذو الرمة:

(إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... به آل مَيٍّ هاج شوقي هبوبها) ثم قال تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} المسخر: المذلل , والآية فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: ابتداء نشوئه وانتهاء تلاشيه. والثاني: ثبوته بين السماء والأرض من غير عَمَد ولا علائق. والثالث: تسخيره وإرساله إلى حيث يشاء الله عز وجل. وهذه الآية قد جمعت من آياته الدالة على وحدانيته وقدرته ما صار لذوي العقول مرشداً وإلى الحق قائداً. فلم يقتصر الله بنا على مجرد الإخبار حتى قرنه بالنظر والاعتبار.

165

{ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار} ثم أخبر أن مع هذه الآيات الباهرة لذوي العقول {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً} والأنداد الأمثال , واحدها ند , والمراد به الأصنام التي كانوا يتخذونها آلهة يعبدونها كعبادة الله تعالى مع عجزها عن قدرة الله في آياته الدالة على وحدانيته. ثم قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} يعني أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب الله مع قدرته. {وَالَّذِينَءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} يعني من حب أهل الأوثان لأوثانهم , ومعناه أن المخلصين لله تعالى هم المحبون حقاً.

قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} فيهم قولان: أحدهما: أن الذين اتبعوا هم السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر , وهذا قول عطاء. والثاني: أنهم الشياطين تبرؤوا من الإنس , وهذا قول السدي. {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} يعني به المتبوعين والتابعين. وفي رؤيتهم للعذاب وجهان محتملان: أحدهما: تيقنهم له عند المعاينة في الدنيا. والثاني: أن الأمر بعذابهم عند العرض والمساءلة في الآخرة. {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن الأسباب تواصلهم في الدنيا , وهو قول مجاهد وقتادة. والثاني: المنازل التي كانت لهم في الدنيا , وهو قول ابن عباس. والثالث: أنها الأرحام , وهو رواية ابن جريج عن ابن عباس. والرابع: أنها الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا , وهو قول السدي. والخامس: أنها العهود والحلف الذي كان بينهم في الدنيا. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مَنْهُم كَمَا تَبَرَّءُوا مَنَّا} يريد بذلك أن الأتباع قالوا للمتبوعين لو أن لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا فنتبرأ منكم فيها كما تبرأتم منا في الآخرة. {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} يريد المتبوعين والأتباع , والحسرة شدة الندامة على محزون فائت. وفي {أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} وجهان: أحدهما: برهم الذي حبط بكفرهم , لأن الكافر لا يثاب مع كفره. والثاني: ما نقصت به أعمارهم في أعمال المعاصي أن لا تكون مصروفة إلى طاعة الله. {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} يريد به أمرين: أحدهما: فوات الرجعة.

والثاني: خلودهم في النار.

168

{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا في الأَرْضِ حَلَلاً طَيِّباً} قيل إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام والزرع , فأباح لهم الله تعالى أكله وجعله لهم حلالاً طيباً. {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وهي جمع خطوة , واختلف أهل التفسير في المراد بها على أربعة أقاويل: أحدها: أن خطوات الشيطان أعماله , وهو قول ابن عباس. والثاني: أنها خطاياه وهو قول مجاهد. والثالث: أنها طاعته , وهو قول السدي. والرابع: أنها النذور في المعاصي. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي ظاهر العداوة. {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالفَحْشَآءِ} قال السدي: السوء في هذا الموضع معاصي الله , سميت سوءاً لأنها تسوء صاحبها بسوء عواقبها. وفي الفحشاء ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: الزنى. والثاني: المعاصي. والثالث: كل ما فيه الحد , سمي بذلك لفحش فعله وقبح مسموعه. {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فيه قولان: أحدهما: أن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرمه الله عليكم. والثاني: أن تجعلوا له شريكاً.

170

{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتٌّبِعُوا مَا أَنَزَلَ اللهُ} يعني في تحليل ما حرموه من الأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام {قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِءَابَآءَنَا} يعني في تحريم ذلك عليهم. قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} فيه قولان: أحدهما: أن مثل الكافر فيما يوعظ به مثل البهيمة التي ينعق بها تسمع الصوت ولا تفهم معناه , وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: مثل الكافر في دعاء آلهته التي يعبدها من دون الله كمثل راعي البهيمة يسمع صوتها ولا يفهمه , وهذا قول ابن زيد. {صُمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي صم عن الوعظ فلا يسمعونه , بكم عن الحق فلا يذكرونه , عمي عن الرشد فلا يبصرونه فهم لا يعقلونه , لأنهم إذا لم يعملوا بما يسمعونه ويقولونه ويبصرونه كانوا بمثابة من فقد السمع والنطق والبصر. والعرب تقول لمن سمع ما لا يعمل به: أصم. قال الشاعر: (. . . . . . . . . . . . . . ... أصمُّ عَمّا ساءَه سميعُ) {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} أخبر الله تعالى بما حرم بعد

قوله: {كُلُوا مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ليدل على تخصيص التحريم من عموم الإباحة , فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} وهو ما فات روحه بغير ذكاة. {وَالدَّمَ} هو الجاري من الحيوان بذبح أو جرح. {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} فيه قولان: أحدهما: التحريم مقصور على لحمه دون غيره اقتصاراً على النص , وهذا قول داود بن علي. والثاني: أن التحريم عام في جملة الخنزير , والنص على اللحم تنبيه على جميعه لأنه معظمه , وهذا قول الجمهور. {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} يعني بقوله: {أُهِلَّ} أي ذبح وإنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم ذكروا عنده اسم آلهتهم وجهروا به أصواتهم , فسمي كل ذابح جَهَر بالتسمية أو لم يجهر مُهِلاً , كما سمي الإحرام إهلالاً لرفع أصواتهم عنده بالتلبية حتى صار اسماً له وإن لم يرفع عنده صوت. وفي قوله تعالى: {لِغَيْرِ اللهِ} تأويلان: أحدهما: ما ذبح لغير الله من الأصنام وهذا قول مجاهد وقتادة. والثاني: ما ذكر عليه اسم غير الله , وهو قول عطاء والربيع. {فَمَنِ اضَطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} اضطر افتُعل من الضرورة , وفيه قولان: أحدهما: معناه: فمن أكره على أكله فلا إثم عليه , وهو قول مجاهد. والثاني: فمن احتاج إلى أكله لضرورة دعته من خوف على نفس فلا إثم عليه , وهو قول الجمهور. وفي قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} ثلاثة أقاويل: أحدها: غير باغ على الإمام ولا عاد على الأمة بإفساد شملهم , فيدخل الباغي على الإمام وأمته والعادي: قاطع الطريق , وهو معنى قول مجاهد وسعيد بن جبير.

والثاني: غير باغ في أكله فوق حاجته ولا عاد يعني متعدياً بأكلها وهو يجد غيرها , وهو قول قتادة , والحسن , وعكرمة , والربيع , وابن زيد. والثالث: غير باغٍ في أكلها شهوة وتلذذاً ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع , وهو قول السدي. وأصل البغي في اللغة: قصد الفساد يقال بغت المرأة تبغي بِغَاءً إذا فَجَرَتْ. وقال الله عز وجل: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد , والعرب تقول خرج الرجل في بغاء إبلٍ له , أي في طلبها , ومنه قول الشاعر: (لا يمنعنّك من بغا ... ء الخير تعقادُ التمائم) (إن الأشائم كالأيا ... من , والأيامن كالأشائم)

174

{إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ} يعني علماء اليهود كتموا ما أنزل الله عز وجل في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته. {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً} يعني قبول الرُشَا على كتم رسالته وتغيير صفته , وسماه قليلاً لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل: لأن ما كانوا يأخذون من الرُشا كان قليلاً. {أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} فيه تأويلان: أحدهما: يريد أنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار فصار ما يأكلون ناراً , فسماه في الحال بما يصير إليه في ثاني الحال , كما قال الشاعر: (وأمّ سماك فلا تجزعي ... فللموت ما تلد الوالدة) {وَلاَ يُكْلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: معناه يغضب عليهم , من قولهم: فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه. والثاني: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية. والثالث: معناه لا يسمعهم كلامه. {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} فيه قولان: أحدهما: يعني لا يصلح أعمالهم الخبيثة. والثاني: لا يثني عليهم , ومن لا يثني الله عليه فهو معذب {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم موجع. قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} يعني من تقدم ذكره من علماء اليهود اشتروا الكفر بالإيمان {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} يعني النار بالجنة. {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: معناه ما أجرأهم على النار , وهذا قول أبي صالح. والثاني: فما أصبرهم على عمل يؤدي بهم إلى النار. والثالث: معناه فما أبقاهم على النار , من قولهم: ما أصبر فلاناً على الحبس , أي ما أبقاه فيه. والرابع: بمعنى أي شيء صبّرهم على النار؟

177

{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام

الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الآية , فيها قولان: أحدهما: أن معناها ليس البر الصلاة وحدها , ولكن البر الإيمان مع أداء الفرائض التي فرضها الله , وهذا بعد الهجرة إلى المدينة واستقرار الفروض والحدود , وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: أن المعنَّي بذلك اليهود والنصارى , لأن اليهود تتوجه إلى المغرب , والنصارى تتوجه إلى المشرق في الصلاة , ويرون ذلك هو البر , فأخبرهم الله عز وجل , أنه ليس هذا وحده هو البر , حتى يؤمنوا بالله ورسوله , ويفعلوا ما ذَكَرَ , وهذا قول قتادة , والربيع. وفي قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْءَامَنَ بِاللهِ} قولان: أحدهما: معناه ولكن ذا البر من آمن بالله. والثاني: معناه ولكن البرَّ بِرُّ مَنْ آمن بالله , يعني الإقرار بوحدانيته وتصديق رسله , حكاهما الزَّجَّاجُ. وقوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يعني التصديق بالبعث والجزاء. {والْمَلاَئِكَةِ} يعني فيما أُمِروا به , مِنْ كَتْبَ الأعمال , وتولي الجزاء. {وَالْكِتَابِ} يعني القرآن , وما تضمنه من استقبال الكعبة , وأن لا قبلة سواها. {وَالنَّبِيِّينَ} يعني التصديق بجميع الأنبياء , وأن لا يؤمنوا ببعضهم ويكفروا ببعض. {وَءَاتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ} يعني على حب المال. قال ابن مسعود: أن يكون صحيحاً شحيحاً يطيل الأمل ويخشى الفقر. وكان الشعبي يروي عن فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ فِي المَالِ حَقاً سِوَى الزَّكَاةِ) وتلا هذه الآية

{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ} إلى آخرها , فذهب الشعبي والسدي إلى إيجاب ذلك لهذا الخبر , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: (جُهْدٌ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ الْكَاشِحِ). وذهب الجمهور إلى أنْ ليس في المال حق سوى الزكاة وأن ذلك محمول عليها أو على التطوع المختار. وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} يريد قرابة الرجل من طرفيه من قِبَل أبويه , فإن كان ذلك محمولاً على الزكاة , روعي فيهم شرطان: أحدهما: الفقر. والثاني: سقوط النفقة. وإن كان ذلك محمولاً على التطوع لم يعتبر واحد منهما , وجاز مع الغنى والفقر , ووجوب النفقة وسقوطها , لأن فيهم مع الغنى صلة رحم مبرور.

{والْيَتَامَى} وهم من اجتمع فيهم شرطان: الصغر وفقد الأب , وفي اعتبار الفقر فيهم قولان كالقرابة. {وَالْمَسَاكِينَ} وهم من عُدِمَ قدرُ الكفاية وفي اعتبار إسلامهم قولان: {وابْنَ السَّبِيلِ} هم فقراء المسافرين {والسَّائِلِينَ وهم الذين ألجأهم الفقر إلى السؤال. {وَفِي الِّرقَابِ} وفيهم قولان: أحدهما: أنهم عبيد يعتقون , وهو قول الشافعي رحمه الله. والثاني: أنهم مُكَاتَبُونَ يعانون في كتابتهم بما يعتقدون , وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. {وَأَقَامَ الصَّلاَةَ} يعني إلى الكعبة على شروطها وفي أوقاتها. {وآتَى الزَّكَاةَ} يعني إلى مستحقها عند وجوبها. {وَالْمُوفُونَ بِعَهدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا} وذلك من وجهين: أحدهما: النذور التي بينه وبين الله تعالى. والثاني: العقود التي بينه وبين الناس , وكلاهما يجب عليه الوفاء به. {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قال ابن مسعود: البأساء الفقر , والضراء السقم. {وَحِينَ الْبَأْسِ} أي القتال. وفي هذا كله قولان: أحدهما: أنه مخصوص في الأنبياء عليهم السلام لأنه لا يقدر على القيام بهذا كله على شروطه غيرهم. والثاني: أنه عامٌّ , في الناس كلهم لإرسال الكلام وعموم الخطاب. {أولَئِكَ الَّذينَ صَدَقُوا} فيه وجهان:

أحدهما: طابقت نياتهم لأعمالهم. والثاني: صدقت أقوالهم لأفعالهم. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أن تخالف سرائرهم لعلانيتهم. والثاني: أن يحمدهم الناس بما ليس فيهم.

178

{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} معنى قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أي فرض عليكم , ومنه قول نابغة بني جعدة: (يا بنت عمي كتاب الله أخرجني ... عنكم فهل أمنعن الله ما فعلا) وقول عمر بن أبي ربيعة: (كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول) والقصاص: مقابلة الفعل بمثله مأخوذ من قص الأثر. ثم قال تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} فاختلف أهل التأويل في ذلك على أربعة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في قوم من العرب كانوا أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلا سيداً وبالمرأة منهم إلا رجلاً , استطالة بالقوة وإدلالاً بالعزة , فنزلت هذه الآية فيهم , وهذا قول الشافعي , وقتادة. والثاني: أنها نزلت في فريقين كان بينهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال ,

فقتل من الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد فنزلت هذه الآية فيهم , فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الرجل قصاصاً بدية الرجل , ودية المرأة قصاصاً بدية المرأة , ودية العبد قصاصاً بدية العبد ثم أصلح بينهم. وهذا قول السدي وأبي مالك. والثالث: أن ذلك أمر من الله عز وجل بمقاصة دية القاتل المُقْتَص منه بدية المقتول المقتص له واستيفاء الفاضل بعد المقاصة , وهذا قول عليّ كان يقول في تأويل الآية: أيما حر قتل عبداً فهو به قود , فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه وقاصّوهم بثمن العبد من دية الحر وأدوا إلى أولياء الحر بقية دِيته , وأيما عبد قتل حراً فهو به قود , فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وقاصّوهم بثمن العبد وأخذوا بقية دية الحر , وأيما رجل قتل امرأة فهو بها قود , فإن شاء أولياء المرأة قتلوه , وأدوا بقية الدية إلى أولياء الرجل , وأيما امرأة قتلت رجلاً فهي به قود , فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية. والرابع: أن الله عز وجل فرض بهذه الآية في أول الإسلام أن يُقْتَلَ الرجل بالرجل , والمرأة بالمرأة والعبد بالعبد , ثم نَسَخَ ذلك قولُه في سورة المائدة {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وهذا قول ابن عباس. ثم قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإحْسَانٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: فمن عفي له عن القصاص منه فاتّباع بمعروف وهو أن يطلب الولي الدية بمعروف ويؤدي القاتلُ الدية بإحسان , وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: أن معنى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} بمعنى فمن فضل له فضل وهذا تأويل من زعم أن الآية نزلت في فريقين كانا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل من كلا الفريقين قتلى فتقاصّا ديات القتلى بعضهم من بعض , فمن بقيت له

بقية فليتبعها بمعروف , وليرد من عليه الفاضل بإحسان , ويكون معنى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي فضل له قِبل أخيه القاتل شيء , وهذا قول السدي. والثالث: أن هذا محمول على تأويل عليّ (رضي الله عنه) في أول الآية؟ في القصاص بين الرجل والمرأة والحر والعبد وأداء ما بينهما من فاضل الدية. ثم في الاتباع بالمعروف والأداء إليه بإحسان وجهان ذكرهما الزَّجَّاج: أحدهما: أن الاتباع بالمعروف عائد إلى ولي المقتول أن يطالب بالدية بمعروف , والأداء عائد إلى القاتل أن يؤدي الدية بإحسان. والثاني: أنهما جميعاً عائدان إلى القاتل أن يؤدي الدية بمعروف وبإحسان. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يعني خيار الولي في القود أو الدية , قال قتادة: وكان أهل التوراة يقولون: إنما هو قصاص أو عفو ليس بينهما أرش , وكان أهل الإنجيل يقولون: إنما هو أرش أو عفو ليس بينهما قود , فجعل لهذه الأمة القود والعفو والدية إن شاءوا , أحلها لهم ولم تكن لأمة قبلهم , فهو قوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِكُم وَرَحْمَةٌ}. ثم قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني مَنْ قَتَلَ بعد أَخْذِهِ الدية فله عذاب أليم , وفيه أربعة تأويلات: أحدها: أن العذاب الأليم هو أن يقتل قصاصاً , وهو قول عكرمة , وسعيد بن جبير , والضحاك. والثاني: أن العذاب الأليم هو أن يقتله الإمام حتماً لا عفو فيه , وهو قول ابن جريج , وروي أن النبي الله عليه وسلم كان يقول: (لاَ أُعَافِي رَجُلاً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَّةِ).

والثالث: أن العذاب الأليم هو عقوبة السلطان. والرابع: أن العذاب الأليم استرجاع الدية منه , ولا قود عليه , وهو قول الحسن البصري. قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فيه قولان: أحدهما: إذا ذكره الظالم المعتدي , كف عن القتل فحيي , وهذا قول مجاهد وقتادة. والثاني: أن إيجاب القصاص على القاتل وترك التعدي إلى من ليس بقاتل حياة للنفوس , لأن القاتل إذا علم أن نفسه تؤخذ بنفس من قتله كف عن القتل فَحِيِيَ أن يقتل قوداً , أو حَيِيَ المقتول أن يقتل ظلماً. وفي المعنيين تقارب , والثاني أعم , وهو معنى قول السدي. وقوله تعالى: {يَا أُولِي الألْبَابِ} يعني يا ذوي العقول , لأن الحياة في القصاص معقولة بالاعتبار. وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال ابن زيد: لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به.

180

{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي فرض عليكم , وقوله: {إِذَا حَضَرَ} ليس يريد به ذكر الوصية عند حلول الموت , لأنه في شغل عنه , ولكن تكون العطية بما تقدم من الوصية عند حضور الموت , ثم قال تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} , والخير: المال في قول الجميع , قال مجاهد: الخير في القرآن كله المال. {إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}

[العاديات: 8] أي المال , {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبَّي} [ص: 32] {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمِْ خَيْراً} [النور: 33] وقال شعيب: {إِنِّي أرَاكُم بِخَيْرٍ} [هود: 84] يعني الغنى والمال. واختلف أهل العلم في ثبوت حكم هذه الآية , فذهب الجمهور من التابعين والفقهاء إلى أن العمل بها كان واجباً قبل فرض المواريث لئلا يضع الرجل ماله في البُعَدَاء طلباً للسمعة والرياء , فلما نزلت آية المواريث في تعيين المستحقين , وتقدير ما يستحقون , نسخ بها وجوب الوصية ومنعت السنّة من جوازها للورثة , وقال آخرون: كان حكمها ثابتاً في الوصية للوالدين , والأقربين حق واجب , فلما نزلت آي المواريث وفرض ميراث الأبوين نسخ بها الوصية للوالدين وكل وارث , وبقي فرض الوصية للأقربين الذين لا يرثون على حالة , وهذا قول الحسن , وقتادة , وطاوس , وجابر بن زيد. فإن أوصى بثُلُثهِ لغير قرابته , فقد اختلف قائلو هذا القول في حكم وصيته على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن يرد ثلث الثلث على قرابته ويكون ثلثا الثلث لمن أوصى له به , وهذا قول قتادة. والثاني: أن يرد ثلثا الثلث على قرابته ويكون ثلثا الثلث لمن أوصى له به , وهذا قول جابر بن زيد. والثالث: أنه يريد الثلث كله على قرابته , وهذا قول طاوس. واختلف في قدر المال الذي يجب عليه أن يوصي منه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ألف درهم , تأويلاً لقوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً} أن الخير ألف درهم وهذا قول عليّ. والثاني: من ألف درهم إلى خمسمائة درهم , وهذا قول إبراهيم النخعي. والثالث: أنه غير مقدر وأن الوصية تجب في قليل المال وكثيره , وهذا قول الزهري. ثم قال تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} يحتمل قوله بالمعروف وجهين:

أحدهما: بالعدل الوسط الذي لا بخس فيه ولا شطط. والثاني: يعني بالمعروف من ماله دون المجهول. وقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} يعني بالتقوى من الورثة أن لا يسرف , والأقربين أن لا يبخل , قال ابن مسعود: الأجل فالأجل , يعني الأحوج فالأحوج. وغاية ما لا سرف فيه: الثلث , لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير). وروى الحسن أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وصّياً بالخمس وقالا يوصي بما رضي الله لنفسه ,: بالخمس , وكان يقول: الخمس معروف , والربع جهد , والثلث غاية ما تجيزه القضاة. ثم قال تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} يعني فَمَنْ غَيَّرَ الوَصِيَّةَ بعدما سمعها , وإنما جُعِلَ اللفظ مذكراً وإن كانت الوصية مؤنثة لأنه أراد قول المُوصِي , وقوله مذكر. {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} أي يسمعونه ويَعْدِلون به عن مستحقه , إما ميلاً أو خيانة , وللميت أجر قصده وثواب وصيته , وإن غُيّرت بعده. قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلَيمٌ} أي سميع لقول الموصِي , عليم بفعل الوصي. قوله عز وجل: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَينَهُم} اختلف المفسرون في تأويل ذلك , على خمسة أقاويل: أحدها: أن تأويله فمن حضر مريضاً , وهو يوصي عند إشرافه على الموت , فخاف أن يخطئ في وصيته , فيفعل ما ليس له أو أن يتعمد جَوْراً فيها , فيأمر بما ليس له , فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه , أن يصلح بينه وبين ورثته , بأن يأمره بالعدل في وصيته , وهذا قول مجاهد.

والثاني: أن تأويلها فمن خاف من أوصياء الميت جنفاً في وصيته , فأصلح بين ورثته وبين المُوصَى لهم فيما أُوصِيَ به لهم حتى رد الوصية إلى العدل , فلا إثم عليه , وهذا قول ابن عباس , وقتادة. والثالث: أن تأويلها فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً في عطيته لورثته عند حضور أجله , فأعطى بعضاً دون بعض , فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك , وهذا قول عطاء. والرابع: أن تأويلها فمن خاف من موصٍ جنفاً , أو إثماً في وصيته لغير ورثته , بما يرجع نفعه إلى ورثته فأصلح بين ورثته , فلا إثم عليه , وهذا قول طاووس. والخامس: أن تأويلها فمن خاف من موصٍ لآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض , فأصلح بين الآباء والأقرباء , فلا إثم عليه , وهذا قول السدي. وفي قوله تعالى: {جَنَفاً أَوْ إِثْماً} تأويلان: أحدهما: أن الجنف الخطأ , والإثم العمد , وهذا قول السدي. والثاني: أن الجنف الميل , والإثم أن يكون قد أثم في أَثَرةِ بعضهم على بعض , وهذا قول عطاء وابن زيد. والجنف في كلام العرب هو الجَوْرُ والعُدُولِ عن الحق , ومنه قول الشاعر: (هم المولى وهمْ جنفوا علينا ... وإنا من لقائهمُ لَزُورُ)

183

{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام

مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} بمعنى فرض عليكم الصيام , والصيام من كل شيء الإمساك عنه , ومن قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} أي صمتاً , لأنه إمساك عن الكلام , وذم أعرابي قوماً فقال: يصومون عن المعروف ويقصون على الفواحش , وأصله مأخوذ من صيام الخيل , وهو إمساكها عن السير والعلف , قال النابغة الذبياني: (خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما) ولذلك قيل لقائم الظهيرة: قد صام النهار , لإبطاء الشمس فيه عن السير , فصارت بالإبطاء كالممسكة عنه , قال الشاعر: (فدعها وسَلِّ الهمَّ عنك بجَسْرةٍ ... ذمولٍ إذا صام النهار وهجّرا) إلا أن الصيام في الشرع: إنما هو إمساك عن محظورات الصيام في زمانه , فجعل الصيام من أوكد عباداته وألزم فروضه , حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّومَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ , وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِندَ اللهِ مَن رِيحِ المِسْكَ). وإنما اختص الصوم بأنه له , وإن كان كل العبادات له , لأمرين بَايَنَ الصومُ بِهِمَا سائِرَ الْعِبَادَاتِ: أحدهما: أن الصوم منع من مَلاَذِّ النفس وشهواتها , ما لا يمنع منه سائر العبادات. والثاني: أن الصوم سر بين العبد وربه لا يظهر إلا له , فلذلك صار مختصاً به , وما سواه من العبادات ظاهر , ربما فعله تصنّعاً ورياء , فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.

ثم قال تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم النصارى , وهو قول الشعبي والربيع وأسباط. والثاني: أنهم أهل الكتاب , وهو قول مجاهد. والثالث: أنهم جميع الناس , وهو قول قتادة. واختلفوا في موضع التشبيه بين صومنا , وصوم الذين من قبلنا , على قولين: أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته , لا في عدده لأن اليهود يصومون من العتمة إلى العتمة , ولا يأكلون بعد النوم شيئاً , وكان المسلمون على ذلك في أول الإسلام , لا يأكلون بعد النوم شيئاً حتى كان من شأن عمر بن الخطاب وأبي قيس بن صرمة ما كان , فأجلّ الله تعالى لهم الأكل والشرب , وهذا قول الربيع بن أنس , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بَيْنَ صَومِنَا وَصَومِ أهلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ). والقول الثاني: أن التشبيه في عدد الصوم , وفيه قولان: أحدهما: أن النصارى كان الله فرض عليهم صيام ثلاثين يوماً كما فرض علينا , فكان ربما وقع في القيظ , فجعلوه في الفصل بين الشتاء والصيف , ثم كفّروه بصوم عشرين يوماً زائدة , ليكون تمحيصاً لذنوبهم وتكفيراً لتبديلهم , وهذا قول الشعبي. والثاني: أنهم اليهود كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل يوم عاشوراء , وثلاثة أيام من كل شهر , فكان على ذلك سبعة عشر شهراً إلى أن نسخ بصوم رمضان , قال ابن عباس: كان أول ما نسخ شأن القبلة والصيام الأول. وفي قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قولان: أحدهما: لعلكم تتقون ما حرم عليكم في الصيام , من أكل الطعام , وشرب الشراب , ووطء النساء , وهو قول أبي جعفر الطبري.

والثاني: معناه أن الصوم سبب يؤول بصاحبه إلى تقوى الله , لما فيه من قه النفس , وكسر الشهوة , وإذهاب الأشر , وهو معنى قول الزجاج. قوله عز وجل: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها أيام شهر رمضان التي أبانها من بعد , وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين. والثاني: أنها صيام ثلاثة أيام من كل شهر , كانت مفروضة قبل صيام شهر رمضان , ثم نسخت به , وهو قول ابن عباس , وقتادة وعطاء , وهي الأيام البيض من كل شهر , وفيها وجهان: أحدهما: أنه الثاني عشر وما يليه. الوجه الثاني: أنها الثالث عشر وما يليه , وهو أظهر الوجهين , لأن أيام الشهر مجزأة عند العرب عشرة أجزاء , كل جزء منها ثلاثة أيام , تختص باسم , فأولها ثلاث غرر , ثم ثلاث شهب , ثم ثلاث بهر , ثم ثلاث عشر , ثم ثلاث بيض , ثم ثلاث درع , والدرع هو سواد مقدم الشاة , وبياض مؤخرها , فقيل لهذه الثلاث درع , لأن القمر يغيب في أولها , فيصير ليلها درعاً , لسواد أوله , وبياض آخره , ثم ثلاث خنس , لأن القمر يخنس فيها , أي يتأخر , ثم ثلاث دهم , وقيل حنادس لإظلامها , ثم ثلاث فحم , لأن القمر يتفحم فيها , أي يطلع آخر الليل , ثم ثلاث رادي , وهي آخر الشهر , مأخوذة من الرادة , أن تسرع نقل أرجلها حتى تضعها في موضع أيديها. وقد حكى أبو زيد , وابن الأعرابي , أنهم جعلوا للقمر في كل ليلة من ليالي العشر اسماً , فقالوا ليلة عتمة سخيلة حل أهلها برميلة , وابن ليلتين حديث مين مكذب ومبين , ورواه ابن الأعرابي كذب ومين , وابن ثلاث قليل اللباث , وابن أربع عتمة ربع لا جائع ولا مرضع , وابن خمس حديث وأنس , وابن ست سِرْ وبِتْ , وابن سبع دلجة الضبع , وابن ثمان قمر إضحيان , وابن تسع انقطع الشسع. وفي رواية غير أبي زيد: يلتقط فيه الجزع , وابن عشر ثلث الشهر , عن أبي زيد وعن غيره , ولم يجعل له فيما زاد عن العشر اسماً مفرداً.

واختلفوا في الهلال متى يصير قمراً , فقال قوم يسمى هلالا لليلتين , ثم يُسَمَّى بعدها قمراً , وقال آخرون يسمى هلالاً إلى ثلاث , ثم يسمى بعدها قمراً , وقال آخرون يسمى هلالاً إلى ثلاث , ثم يسمى بعدها قمراً , وقال آخرون يسمى هلالاً حتى يحجر , وتحجيره أن يستدير بِخَطَّةٍ دقيقة , وهو قول الأصمعي , وقال آخرون يسمى هلالاً إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل , فإذا بهر ضوؤه يسمى قمراً , وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة. [ثم عدنا إلى تفسير ما بقي من الآية]. قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} يعني مريضاً لا يقدر مع مرضه على الصيام , أو على سفر يشق عليه في سفره الصيام. {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فيه قولان: أحدهما: أنه مع وجود السفر , يلزمه القضاء سواء صام في سفره أو أفطر , وهذا قول داود الظاهري. والثاني: أن في الكلام محذوفاً وتقديره: فأفطر فعدة من أيام أخر , ولو صام في مرضه وسفره لم يعد , لكون الفطر بهما رُخْصَة لا حتماً , وهذا قول الشافعي , ومالك , وأبي حنيفة , وجمهور الفقهاء. ثم قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهٌ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هكذا قرأ أكثر القراء , وقرأ ابن عباس , ومجاهد: {وَعَلَى الَّذِينَ لاَ يَطِيقُونَهُ فدية} , وتأويلها: وعلى الذين يكلفونه , فلا يقدرون على صيامه لعجزهم عنه , كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع , فدية طعام مسكين , ولا قضاء عليهم لعجزهم عنه. وعلى القراءة المشهورة فيها تأويلان: أحدهما: أنها وردت في أول الإسلام , خيّر الله تعالى بها المطيقين للصيام من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا , وبين أن يفطروا ويكفروا كل يوم بإطعام مسكين , ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , وقيل بل نسخ بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَّكُم} , وهذا قول ابن عمر , وعكرمة , والشعبي , والزهري , وعلقمة , والضحاك.

والثاني: أن حكمها ثابت , وأن معنى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي كانوا يطيقونه في حال شبابهم , وإذا كبروا عجزوا عن الصوم لكبرهم أن يفطروا , وهذا سعيد بن المسيب , والسدي. ثم قال تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خيراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} فيه تأويلان: أحدهما: فمن تطوع بأن زاد على مسكين واحد فهو خير له وهذا قول ابن عباس ومجاهد وطاووس والسدي. والثاني: فمن تطوع بأن صام مع الفدية فهو خير له وهذا قول الزهري ورواية ابن جريج عن مجاهد. ثم قال تعالى: {وَاَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُم} يحتمل تأويلين: أحدهما: أن الصوم في السفر خير من الفطر فيه والقضاء بعده. والثاني: أن الصوم لمطيقه خير وأفضل ثواباً من التكفير لمن أفطر بالعجز. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: إن كنتم تعلمون ما شَرَّعْتُه فيكم وَبَيَّنْتُه من دينكم. والثاني: إن كنتم تعلمون فضل أعمالكم وثواب أفعالكم.

185

{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} أما الشهر فمأخوذ من الشهرة , ومنه قيل قد شهر فلان سيفه , إذا أخرجه , وأما رمضان فإن بعض أهل اللغة يزعم أنه سمي بذلك , لشدة ما كان يوجد فيه من الحر حتى ترمض فيه الفصال , كما قيل لشهر الحج ذو الحجة , وقد كان شهر رمضان يسمى في الجاهلية ناتقاً.

وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان , ويقول لعله من أسماء الله عز وجل. وفي إنزاله قولان: أحدهما: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر منه , ثم أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم , على ما أراد إِنْزَالَهُ عليه. روى أبو مسلم عن وائلة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان , وأُنْزِلتِ التوراةُ لست مضين من رمضان , وأُنْزِلَ الإنجيلُ لثلاث عشرة خلت من رمضان , وأُنْزِلَ القرآن لأربع وعشرين من رمضان. والثاني: أنه بمعنى أنزل القرآن في فرض صيامه , وهو قول مجاهد. قوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ} يعني رشاداً للناس. {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} أي بينات من الحلال والحرام , وفرقان بين الحق والباطل. {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الشهر لا يغيب عن أحد , وفي تأويله ثلاثة أقاويل: أحدها: فمن شهد أول الشهر , وهو مقيم فعليه صيامه إلى آخره , وليس له

أن يفطر في بقيته , وهذا قول عليّ , وابن عباس , والسدي. والثاني: فمن شهد منكم الشهر , فليصم ما شهد منه وهو مقيم دون ما لم يشهده في السفر , وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن البصري. والثالث: فمن شهد بالغاً عاقلاً مُكَلَّفاً فليصمه , ولا يسقط صوم بقيته إذا جُن فيه , وهذا قول أبي حنيفة , وصاحبيه. {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرْ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وإنما أعاد ذكر الفطر بالمرض والسفر مع قرب ذكره من قبل , لأنه في حكم تلك الآية منسوخاً , فأعاد ذكره , لِئَلاَّ يصير بالمنسوخ مقروناً , وتقديره فمن كان مريضاً أو على سفر في شهر رمضان فأفطر , فعليه عدة ما أفطر منه , أن يقضيه من بعده. واختلفوا في المرض الذي يجوز معه الفطر في شهر رمضان , على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كل مرضٍ لم يطق الصلاة معه قائماً , وهذا قول الحسن البصري. والثاني: أنه المرض الذي الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة , وهو قول الشافعي. والثالث: أنه كل مرض انطلق عليه اسم المرض , وهو قول ابن سيرين. فأما السفر , فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه ما انطلق اسم السفر من طويل أو قصير , وهذا قول داود. والثاني: أنه مسيرة ثلاثة أيام , وهو قول أبي حنيفة. واختلفوا في وجوب الفطر فيه على قولين: أحدهما: أنه واجب وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه مباح , وهو قول الجمهور. ثم قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال ابن

عباس: اليسر الإفطار , والعسر الصيام في السفر , ونحوه عن مجاهد وقتادة. {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة} يعني عدة ما أفطر ثم في صيام شهر رمضان بالقضاء في غيره. {ولِتُكّبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} قيل إنه تكبير الفطر من أول الشهر. وقوله: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} يعني من صيام شهر رمضان , ويحتمل أن يكون على عموم ما هدانا إليه من دينه. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تشكرون على هدايته لكم. والثاني: على ما أنعم به من ثواب طاعته , والله أعلم.

186

{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} قوله تعالى: {وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية , على أربعة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقريبٌ ربنا فنناجيه , أم بعيد فنناديه؟ فأُنْزِلَتْ هذه الآية , وهو قول الحسن البصري. والثاني: أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أي ساعة يدعون الله فيها , وهذا قول عطاء والسدي. والثالث: أنها نزلت جواباً لقوم قالوا: كيف ندعو؟ , وهذا قول قتادة. والرابع: أنها نزلت في قوم حين نَزَلَ قولُه تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: إلى أين ندعوه؟ , وهذا قول مجاهد.

وفي قوله تعالى: {قَرِيبٌ} تأويلان: أحدهما: قريب الإجابة. والثاني: قريب من سماع الدعاء. وفي قوله تعالى: {أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ} تأويلان: أحدهما: معناه أسمع دعوة الداعي إذا دعاني , فعبر عن السماع بالإجابة , لأن السماع مقدمة الإجابة. والثاني: أنه أراد إجابة الداعي إلى ما سأل , ولا يخلو سؤال الداعي أن يكون موافقاً للمصلحة أو مخالفاً لها , فإن كان مخالفاً للمصلحة لم تجز الإجابة إليه , وإن كان موافقاً للمصلحة , فلا يخلو حال الداعي من أحد أمرين: إما أن يكون مستكملاً شروط الطلب أو مقصوراً فيها: فإن استكملها جازت إجابته , وفي وجوبها قولان: أحدهما: أنها واجبة لأنها تجري مجرى ثواب الأعمال , لأن الدعاء عبادة ثوابها الإجابة. والثاني: أنها غير واجبة لأنها رغبة وطلب , فصارت الإجابة إليها تفضلاً. وإن كان مقصوراً في شروط الطلب لم تجب إجابته , وفي جوازها قولان: أحدهما: لا تجوز , وهوقول من أوجبها مع استكمال شروطها. والثاني: تجوز , وهو قول من لم يوجبها مع استكمال شروطها. وفي قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أربعة تأويلات: أحدها: أن الإستجابة بمعنى الإجابة , يقال استجبت له بمعنى أجبته , وهذا قول أبي عبيدة , وأنشد قول كعب بن سعد الغنوي: (وداعٍ دَعَا: يا من يجيب إلي الندا ... فلم يستجبه عند ذلك مجيب) أي فلم يجبه. والثاني: أن الإستجابة طلب الموافقة للإجابة , وهذا قول ثعلب.

والثالث: أن معناه فليستجيبوا إليَّ بالطاعة. والرابع: فليستجيبوا لي , يعني فليدعوني.

187

{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَآئِكُمْ} كان ابن مسعود يقرأ الرفث والرفوث جميعاً , وهو الجماع في قوله , وأصله فاحش القول , كما قال العجاج: ( ... ... ... ... ... ... ... ... . . ... عن اللغا ورفث الكلام) فيكنى به عن الجماع , لأنه إذا ذُكِرَ في غير موضعه كان فحشاً. وفي قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} ثلاث تأويلات: أحدها: بمنزلة اللباس , لإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه , يستتر به كالثوب الملبوس , كما قال النابغة الجعدي: (إذا ما الضجيج ثنى عطفها ... تثنت عليه فصارت لباساً) والثاني: أنهم لباس يعني السكن لقوله تعالى {وجعلنا الليل لباساً} [النبأ: 10] أي سكناً , وهذا قول مجاهد وقتادة والسدي.

قوله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} سبب هذه الخيانة التي كان القوم يختانون أنفسهم , شيئان: أحدهما: إتيان النساء. الثاني: الأكل والشرب , وذلك أن الله تعالى أباح في أول الإسلام الأكل والشرب والجماع في ليل الصيام قبل نوم الإنسان , وحرّمه عليه بعد نومه , حتى جاء عمر بن الخطاب ذات ليلة من شهر رمضان , يريد امرأته , فقالت له: إني قد نمتُ , وظن أنها تعتل عليه , فوقع بها , وجاء أبو قيس ابن صرمة , وكان يعمل في أرض له , فأراد الأكل , فقالت له امرأته: نسخّر لك شيئاً , فغلبته عيناه , ثم أحضرت إليه الطعام , فلم يأكل منه فلما أصبح لاقى جهداً. وأخبر عمر وأبو قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان منهما , فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ}. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: العفو عن ذنوبهم. والثاني: العفو عن تحريم ذلك بعد النوم. ثم قال تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} يريد به الجماع , لأن أصل المباشرة من إلصاق البشرة بالبشرة , وكان ذلك منه بياناً لما كان في جماع عمر. وفي قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} ثلاثة أقوال: أحدها: طلب الولد , وهو قول مجاهد , وعكرمة , والسدي. والثاني: ليلة القدْر , وهو قول ابن عباس , وكان يقرأ {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}. والثالث: ما أحل الله تعالى لكم ورخص فيه , وهذا قول قتادة. ثم قال تعالى فيما كان من شأن أبي قيس بن صرمة: {وَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ

لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} اختلف في المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود , على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما رواه سهل بن سعد قال: لما نزلت {فَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} , فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود , فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما , فأنزل الله تعالى بعدُ {مِنَ الْفَجْرْ} , فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار. والقول الثاني: أنه يريد بالخيط الأبيض ضوء النهار , وهو الفجر الثاني , وبالخيط الأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني. وروى الشعبي عن عدي بن حاتم: أنه عند إلى خيطين أبيض وأسود , وجعلهما تحت وسادته , فكان يراعيهما في صومه , ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِةِ , إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيلِ). وسُمِّيَ خيطاً , لأن أول ما يبدو من البياض ممتد كالخيط , قال الشاعر: (الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق ... والخيط الأسْودُ لون الليل مكتومُ) والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والثالث: ما حكي عن حذيفة بن اليمان أن الخيط الأبيض ضوء الشمس , ورويَ نحوُهُ عن عليّ وابن مسعود. وقد روى زَرٌ بن حبيش عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل , قال: قلت بعد الصبح؟ قال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس , وهذا قول قد انعقد الإجماع على خلافه , وقد روى سوادة بن حنظلة عن سَمُرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَمْنَعَنَّكُم مِنْ سُحُورِكُم أذانُ بِلالٍ وَلاَ الفَجْرُ المُسْتَطِيلُ وَلَكِن الفَجْرُ المُسْتَطِيرُ فِي الأُفُقِ). وروى الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان

قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الفَجْرُ فَجْرَانِ , فَالَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السرحانِ لاَ يُحرِّمُ شَيْئاً , وَأَمَّا الْمُسْتَطِيرُ الّذِي يَأْخُذُ الأُفُقَ فَإِنَّهُ يُحِلُّ الصَّلاَةَ وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ). فأما الفجر , فإنه مصدر من قولهم فَجَرَ الماءُ يَفْجُرُ فَجْراً , إذا جرى وانبعث , فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: (فجر) لانبعاث ضوئه , فيكون زمان الصوم المجمع على تحريم الطعام والشراب فيه وإباحته فيما سواه: ما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس. روى عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَعْظَمُ الصَّائِمينَ أَجْراً أَقْرَبُهُم منَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ إِفْطَاراً). {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ} يعني به غروب الشمس. وفي قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنََّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} تأويلان: أحدهما: عني بالمباشرة الجماع , وهو قول الأكثرين.

والثاني: ما دون الجماع من اللمس والقبلة , قاله ابن زيد ومالك. {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي ما حرم , وفي تسميتها حدود الله وجهان: أحدهما: لأن الله تعالى حدها بالذكر والبيان. والثاني: لما أوجبه في أكثر المحرمات من الحدود. وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُءَيَاتِهِ لِلنَّاسِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بآياته علامات متعبداته. والثاني: أنه يريد بالآيات هنا الفرائض والأحكام.

188

{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} فيه تأويلان: أحدهما: بالغصب والظلم. والثاني: بالقمار والملاهي. {وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ} مأخوذ من إدلاء الدلو إذا أرسلته. ويحتمل وجهاً ثانياً معناه: وتقيموا الحجة بها عند الحاكم , من قولهم: قد أدلى بحجته إذا قام بها. وفي هذا المال قولان: أحدهما: أنه الودائع وما لا تقوم به بينة من سائر الأموال التي إذا جحدها , حكم بجحوده فيها. والثاني: أنها أموال اليتامى التي هو مؤتمي عليها. {لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِاْلإِثْمِ} يحتمل وجهين: أحدهما: لتأكلوا بعض أموال الناس بالإثم , فعبر عن البعض بالفريق. والثاني: على التقديم والتأخير , وتقديره: لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم.

وفي (أكله) ثلاثة أوجه: أحدها: بالجحود. والثاني: بشهادة الزور. والثالث: برشوة الحكام. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: وأنتم تعلمون أنها للناس. والثاني: وأنتم تعلمون أنها إثم. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في امرئ القيس الكندي , وعبدان بن ربيعة الحضرمي , وقد اختصما في أرض كان عبدان فيها ظالماً وامرؤ القيس مظلوماً , فأراد أن يحلف , فنزلت هذه الآية , فكفّ عن اليمين.

189

{يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون} قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَيِ الأَهِلَّةِ} سبب نزولها , أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غَنَمة , وهما من الأنصار , سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن زيادة الأهلة ونشأتها , فنزلت هذه الآية , وأُخِذَ اسم الهلال من استهلال الناس برفع أصواتهم عند رؤيته , والمواقيت: مقادير الأوقات لديونهم وحجهم , ويريد بالأهلة وشهورها , وقد يعبّر عن الهلال بالشهر لحوله فيه , قال الشاعر: (أخوان من نجدٍ على ثقةٍ ... والشهرُ مثلُ قلامةِ الظُّفرِ) (حتى تكامل في استدارته ... في أربع زادت على عشر) ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِّرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فيه ستة أقاويل: أحدها: أن سبب نزول ذلك , ما روى داود عن قيس بن جبير: أن

الناس كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطاً من بابه , فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داراً , وكان رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن أيوب , فجاء فتسور الحائط على رسول الله , فلما خرج من باب الدار خرج رفاعة , فقال رسول الله: (مَا حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْتُكَ خَرَجْتَ مِنْهُ فَخَرَجْتُ مِنْهُ , فَقَالَ رَسُولُ اللهٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: إنّي رَجُلٌ أَحْمَسُ فَقَالَ: إِنْ تَكُنْ أَحْمَسَ فَدِيْنُنَا وَاحِدٌ) فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ البِرُّ} الآية , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , وعطاء , وقوله: أحمس يعني من قريش , كانوا يُسَمَّونَ (الحُمْسَ) لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا , والحَمَاسَةُ الشدة , قال العجاج: 89 (وكمْ قَطَعْنا مِنْ قِفافٍ حُمْسِ} 9 أي شداد. والقول الثاني: عنى بالبيوت النساء , سُمِّيَتْ بيوتاً للإيواء إليهن , كالإيواء إلى البيوت , ومعناه: لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن , وأتوهن من حيث يحل من قُبُلهن , قاله ابن زيد. والثالث: أنه في النسيء وتأخير الحج به , حين كانوا يجعلون الشهر الحلال حراماً بتأخير الحج , والشهر الحرام حلالاً بتأخير الحج عنه , ويكون ذكر البيوت وإتيانها من ظهورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج وشهوره , والمخالفة إتيان الأمر من خلفه , والخلف والظهر في كلام العرب واحد , حكاه ابن بحر. والرابع: أن الرجل كان إذا خرج لحاجته , فعاد ولم ينجح لم يدخل من بابه , ودخل من ورائه , تطيراً من الخيبة , فأمرهم الله أن يأتوا بيوتهم من أبوابها. والخامس: معناه ليس البر أن تطلبوا الخير من غير أهله , وتأتوه من غير بابه , وهذا قول أبي عبيدة.

والقول السادس: أنه مثلٌ ضَربه الله عز وجل لهم , بأن يأتوا البر من وجهه , ولا يأتوه من غير وجهه.

190

{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فيها قولان: أحدهما: أنها أول آية نزلت بالمدينة في قتال المشركين , أُمِرَ المسلمون فيها بقتال مَنْ قاتلهم من المشركين , والكف عمن كف عنهم , ثم نُسِخَتْ بسورة براءة , وهذا قول الربيع , وابن زيد. والثاني: أنها ثابتة في الحكم , أُمِرَ فيها بقتال المشركين كافة , والاعتداء الذي نهوا عنه: قتل النساء والولدان , وهذا قول ابن عباس , وعمر بن عبد العزيز , ومجاهد. وفي قوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الاعتداء قتال من لم يقاتل. والثاني: أنه قتل النساء والولدان. والثالث: أنه القتال على غير الدِّين. قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يعني حيث ظفرتم بهم , {وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يعني من مكة. {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني بالفتنة الكفر في قول الجميع , وإنما سمي الكفر فتنة , لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة.

{وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن ذلك منسوخ لأن الله تعالى قد نَهَى عن قتال أهل الحرم إلا أن يبدؤا بالقتال , ثم نُسِخَ ذلك بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} , وهذا قول قتادة. والقول الثاني: أنها محكمة وأنه لا يجوز أن نبدأ بقتال أهل الحرم إلا أن يبدأوا بالقتال , وهذا قول مجاهد.

194

{الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان قد أحرم بالعمرة في ذي القعدة سنة ست , فصدّه المشركون عن البيت , فصالحهم على أن يقضي في عامه الآخر , فحل ورجع , ثم اعتمر قاضياً في ذي القعدة سنة سبع , وأحلّت له قريش مكة حتى قضى عمرته. فنزل قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} يعني ذا القعدة الذي قضى فيه العمرة من عامه وهو من الأشهر الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه , وهو ذو القعدة في العام الماضي , سمي ذو القعدة لقعود العرب فيه عن القتال لحرمته. ثم قال تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} لأن قريشاً فخرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدّته , فاقتص الله عز وجل له , وهذا قول قتادة والربيع بن زيد. والقول الثاني: أن سبب نزولها أن مشركي العرب , قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أَنُهِيتَ يا محمد عن قتالنا في الشهر الحرام؟ فقال نعم , فأرادوا أن يقاتلوه في الشهر الحرام , فأنزل الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام , فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم , وهذا قول الحسن البصري.

195

{وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني الجهاد. {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَةِ} وفي الباء قولان: أحدهما: أنها زائدة , وتقديره ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة. والقول الثاني: أنها غير زائدة أي ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة , والتهلكة والهلاك واحد. وفي: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَةِ} ستة تأويلات: أحدها: أن تتركوا النفقة في سبيل الله تعالى , فتهلكوا بالإثم , وهذا قول بن عباس , وحذيفة. والثاني: أي لا تخرجوا بغير زاد , فتهلكوا بالضعف , وهذا قول زيد ابن أسلم.

والثالث: أي تيأسوا من المغفرة عند ارتكاب المعاصي , فلا تتوبوا , وهذا قول البراء بن عازب. والرابع: أن تتركوا الجهاد في سبيل الله , فتهلكوا , وهذا قول أبي أيوب الأنصاري. والخامس: أنها التقحم في القتال من غير نكاية في العدو , وهذا قول أبي القاسم البلخي. والسادس: أنه عام محمول على جميع ذلك كله , وهو قول أبي جعفر الطبري. ثم قال تعالى: {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه عنى به الإحسان في آداء الفرائض , وهو قول بعض الصحابة. والثاني: وأحسنوا الظن بالقَدَرِ , وهو قول عكرمة. والثالث: عُودُوا بالإحسان على مَنْ ليس بيده شيء , وهذا قول زيد بن أسلم.

196

{وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ} وقرأ ابن مسعود فيما رواه عنه علقمة: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ بِالْبَيتِ} واختلفوا في تأويل إتمامها على خمسة أقاويل: أحدها: يعني وأتموا الحج لمناسكه وسننه , وأتموا العمرة بحدودها وسنتها , وهذا قول مجاهد , وعلقمة بن قيس. والثاني: أن إتمامهما أَنْ تُحْرِمَ بهما من دُوَيْرَةِ أهلك , وهذا قول علي , وطاوس , وسعيد بن جبير. والثالث: أن إتمام العمرة , أن نخدم بها في غير الأشهر الحرم , وإتمام الحج أن تأتي بجميع مناسكه , حتى لا يلزم دم لجبران نقصان , وهذا قول قتادة. والرابع: أن تخرج من دُوَيْرَةِ أهلك , لأجلهما , لا تريد غيرهما من تجارة , ولا مكسب , وهذا قول سفيان الثوري. والخامس: أن إتمامهما واجب بالدخول فيهما , وهذا قول الشعبي , وأبي بردة , وابن زيد , ومسروق. ثم قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} في هذا الإحصار قولان: أحدهما: أنه كل حابس من عدوّ , أو مرض , أو عذر , وهو قول مجاهد , وقتادة , وعطاء , وأبي حنيفة.

والثاني: أنه الإحصار بالعدوّ , دون المرض , وهو قول ابن عباس , وابن عمر , وأنس بن مالك , والشافعي. وفي {فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قولان: أحدهما: شاةُ , وهو قول ابن عباس , والحسن , والسدي , وعلقمة , وعطاء , وأكثر الفقهاء. والثاني: بدنة , وهو قول عمر , وعائشة , ومجاهد , وطاوس , وعروة , وجعلوه فيما استيسر من صغار البُدْن وكبارها. وفي اشتقاق الهدي قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الهدية. والثاني: مأخوذ من قولهم هديتُه هَدْياً , إذا سقته إلى طريق سبيل الرشاد. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. وفي محل هدي المحصر , ثلاثة أقاويل: أحدها: حيث أُحْصِر من حِلٍ أو حَرَم , وهذا قول ابن عمر , والمِسْوَر بن مخرمة , وهارون بن الحكم , وبه قال الشافعي. والقول الثاني: أنه الحَرَم , وهو قول عليّ , وابن مسعود ومجاهد , وبه قال أبو حنيفة. والقول الثالث: أن مَحِلّهُ أن يتحلل من إحرامه بادئاً نسكه , والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره , وليس للمحرم أن يتحلل بالاحصار بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فإن كان إحرامُه بعمرة لم يَفُتْ وإن كان بحج قضاه بالفوات بعد الإحلال منه , وهذا مروي عن ابن عباس , وعائشة , وبه قال مالك. ثم قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} معناه: فحلَقَ , فعليه ذلك.

أما الصيام ففيه قولان: أحدهما: صيام ثلاثة أيام , وهذا قول مجاهد , وعلقمة , وإبراهيم , والربيع , وبه قال الشافعي. والقول الثاني: صيام عشرة أيام كصيام المتمتع , وهو قول الحسن وعكرمة. وأما الصدقة ففيها قولان: أحدهما: ستة مساكين , وهو قول من أوجب صيام ثلاثة أيام. والقول الثاني: إطعام عشرة مساكين , وهو قول من أوجب صيام عشرة أيام. وأما النسك فشاة. ثم قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُم} وفيه تأويلان: أحدهما: من خوفكم. والثاني: من مرضكم. {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} اختلفوا في هذا المتمتع على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المُحْصَرُ بالحج , إذا حَلَّ منه بالإحصار , ثم عاد إلى بلده متمتعاً بعد إحلاله , فإذا قضى حجَّه في العام الثاني , صار متمتعاً بإحلالٍ بيْن الإحْرَامَين , وهذا قول الزبير. والثاني: فمن نسخ حَجَّهُ بعمرة , فاستمتع بعمرة بعد فسخ حَجِّهِ , وهذا قول السدي. والثالث: فمن قَدِمَ الحرم معتمراً في أشهر الحج , ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامِهِ , وهذا قول ابن عباس , وابن عمر , ومجاهد , وعطاء , والشافعي. وفي {فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ما ذكرناه من القولين. ثم قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّمٍ فِي الْحَجِّ} اختلفوا في زمانها من الحج على قولين:

أحدهما: بعد إحرامه وقبل يوم النحر , وهذا قول علي , وابن عباس , والحسن , ومجاهد , وقتادة , وطاوس , والسدي , وسعيد بن جبير , وعطاء , والشافعي في الجديد. والثاني: أنها أيام التشريق , وهذا قول عائشة , وعروة , وابن عُمر في رواية سالم عنه , والشافعي في القديم. واختلفوا في جواز تقديمها قبل الإحرام بالحج على قولين: أحدهما: لا يجوز , وهذا قول ابن عمر , وابن عباس. والثاني: يجوز. واختلف قائلو ذلك في زمان تقديمه قبل الحج على قولين: أحدهما: عشر ذي الحجة , ولا يجوز قبلها , وهو قول مجاهد , وعطاء. والثاني: في أشهر الحج , ولا يجوز قبلها , وهو قول طاوس. ثم قال تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وفي زمانها قولان: أحدهما: إذا رجعتم من حجكم في طريقكم , وهو قول مجاهد. والثاني: إذا رجعتم إلى أهليكم في أمصاركم , وهو قول عطاء , وقتادة , وسعيد بن جبير , والربيع. ثم قال تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنها عشرة كاملة في الثواب كمن أهدى , وهو قول الحسن. والثاني: عشرة كَمَّلَت لكم أجر من أقام على إحرامه فلم يحل منه ولم يتمتع. والثالث: أنه خارج مخرج الخبر , ومعناه معنى الأمر , أي تلك عشرة , فأكملوا صيامها ولا تفطروا فيها. والرابع: تأكيد في الكلام , وهو قول ابن عباس.

ثم قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وفي حاضريه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم أهل الحرم , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , وقتادة , وطاوس.

والثاني: أنهم مَن بيْن مكة والمواقيت , وهو قول مكحول , وعطاء. والثالث: أنهم أهل الحَرَمِ ومَنْ قرُب منزله منه , كأهل عرفة , والرجيع , وهو قول الزهري , ومالك. والرابع: أنهم مَن كان على مسافة لا يقصر في مثلها الصلاة , وهو قول الشافعي.

197

{الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُوماتٌ} اختلفوا في تأويله على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه شوال , وذو القعدة , وذو الحجة بأسرها , وهذا قول قتادة , وطاوس , ومجاهد , عن ابن عمر وهو مذهب مالك. والثاني: هو شوال , وذو القعدة , وعشرة أيام من ذي الحجة , وهذا قول أبي حنيفة. والثالث: هن شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة , إلى طلوع الفجر من يوم النحر , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , والشعبي , والسدي , ونافع , عن ابن عمر , وعطاء , والضحاك , والشافعي. ثم قال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الإهلال بالتلبية , وهو قول عمر ومجاهد وطاوس. والثاني: أنه الإحرام , وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وعطاء , والشافعي. {فَلاَ رَفَثَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الجماع , وهو قول ابن عمر , والحسن , ومجاهد , وسعيد بن جبير , وعكرمة , وقتادة , والزهري. والثاني: أنه الجماع أو التعرض له بمُوَاعَدَةٍ أو مُدَاعَبَةٍ , وهو قول الحسن البصري. والثالث: أنه الإفْحَاشُ للمرأة في الكرم , كقولك إذا أحللنا فعلنا بك كذا من غير كناية , وهو قول ابن عباس , وطاوس. {وَلاَ فُسُوقَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه فِعْلُ ما نُهِيَ عنه في الإحرام , من قتل صيد , وحلق شَعْر , وتقليم ظفر , وهو قول عبد الله بن عمر. والثاني: أنه السباب , وهو قول عطاء , والسدي. والثالث: أنه الذبح للأصنام , وهو قول عبد الرحمن بن زيد. والرابع: التنابز بالألقاب , وهو قول الضحاك. والخامس: أنه المعاصي كلها , وهو قول ابن عباس , والحسن , ومجاهد , وطاووس. {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِ} فيه ستة تأويلات: أحدها: هو أن يجادل الرجل صاحبه , يعني يعصيه , وهذا قول ابن عباس ومجاهد. الثاني: هو السباب , وهو قول ابن عمر وقتادة. والثالث: أنه المِرَاءُ والاختلاف فِيمَنْ هو أَبَرُّهُم حَجّاً , وهذا قول محمد بن كعب. والرابع: أنه اختلاف كان يقع بينهم في اليوم الذي يكون فيه حجهم , وهذا قول القاسم بن محمد.

والخامس: أنه اختلافهم في مواقف الحج , أيهم المصيب موقف إبراهيم , وهذا قول ابن زيد. والسادس: أن معناه ألاّ جدال في وقته لاستقراره , وإبطال الشهر الذي كانوا ينسؤونه في كل عام , فربما حجوا في ذي القعدة , وربما حجوا في صفر , وهذا قول أبي جعفر الطبري. وفي قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} تأويلان: أحدهما: تزوّدوا بالأعمال الصالحة , فإن خير الزاد التقوى. والثاني: أنها نزلت في قوم من أهل اليمن , كانوا يحجون ولا يتزودون , ويقولون: نحن المتوكلون , فنزلت فيهم: {وَتَزَوَّدُوا} , يعني من الطعام.

198

{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين} قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِكُمْ} روى ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجرين للناس في الجاهلية , فلما جاء الإسلام تركوا ذلك , حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِكُمْ} وكان ابن الزبير يقرأ {فِي مَواقِيتِ الْحَجِّ}. {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه فإذا رجعتم من حيث بَدَأْتُم. والثاني: أن الإفاضة: الدفع عن اجتماع , كفيض الإناء عن امتلاء. والثالث: أن الإفاضة الإسراع من مكان إلى مكان. وفي {عَرَفَاتٍ} قولان: أحدهما: أنها (جمع) عرفة. والثاني: أنها اسم واحد وإن كان بلفظ الجمع. وهذا قول الزجاج.

واختلفوا في تسمية المكان عرفة على أربعة أقاويل: أحدها: أن آدم عرف فيه حواء بعد أن أُهْبِطَا من الجنة. والثاني: أن إبراهيم عرف المكان عند الرؤية , لما تقدم له في الصفة. والثالث: أن جبريل عرَّف فيه الأنبياء مناسكهم. والرابع: أنه سُمِّيَ بذلك لعلو الناس فيه , والعرب تسمي ما علا (عرفة) و (عرفات) , ومنه سُمِّيَ عُرف الديك لعلوه. {فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} والمَشْعَرُ المَعْلَمُ , سُمِّيَ بذلك , لأن الدعاء عنده , والمقام فيه من معالم الحج , وحد المشعر ما بين منى ومزدلفة مِنْ حَد مفضي مَأزمَي عرفة إلى محسر , وليس مأزماً عرفة من المشعر.

199

{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} فيه قولان: أحدهما: أنها نزلت في قريش , وكانوا يسمون الحمس , لا يخرجون من الحرم في حجهم , ويقفون مزدلفة , ويقولون نحن من أهل الله , فلا نخرج من حرم الله , وكان سائر العرب يقفون بعرفات , وهي موقف إبراهيم عليه السلام , فأنزل الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} يعني جميع العرب , وهذا قول عائشة , وعروة , ومجاهد , وقتادة. والقول الثاني: أنها أمر لجميع الخلق من قريش وغيرهم , أن يفيضوا من حيث أفاض الناس , يعني بالناس إبراهيم , وقد يعبر عن الواحد باسم الناس , قال الله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران: 173] وكان القائل واحداً , وهو نعيم بن مسعود الأشجعي , وهذا قول الضحاك. وفي قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تأويلان: أحدهما: استغفروه من ذنوبكم. والثاني: استغفروه مما كان من مخالفتكم في الوقت والإفاضة.

200

{فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} قوله تعالى: {فَإذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُمْ} أما المناسك , فهي المتعبدات , وفيها ها هنا تأويلان: أحدهما: أنها الذبائح , وهذا قول مجاهد. والثاني: ما أمروا بفعله في الحج , وهذا قول الحسن البصري. وفي قوله تعالى: {فَاذْكُرُواْ اللهَ} تأويلان: أحدهما: أن هذا الذكر هو التكبير في أيام مِنى. والثاني: أنه جميع ما سُنَّ من الأدعية في مواطن الحج كلها. وفي قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} ثلاثة تأويلات:

أحدها: أنهم كانوا إذا فرغوا من حجهم في الجاهلية جلسوا في منى حَلَقاً وافتخروا بمناقب آبائهم , فأنزل الله تعالى ذكره {فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} , وهذا قول مجاهد , وقتادة. والثاني: أن معناه , فاذكروا الله كذكركم الأبناء الصغار للآباء , إذا قالوا: أبَهْ أُمَّه , وهذا قول عطاء , والضحاك. والثالث: أنهم كانوا يدعون , فيقول الواحد منهم: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة , عظيم القبّة , كثير المال , فاعطني مثل ما أعطيته , فلا يذكر غير أبيه , فأُمِرُوا بذكر الله , كذكرهم آباءهم , أو أشد ذكراً , وهو قول السدي. قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأَخِرَةِ حَسَنَةً} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أنه الحسنة العافية في الدنيا والآخرة , وهو قول قتادة. والثاني: أنها نِعَمُ الدنيا ونِعَمُ الآخرة , وهو قول أكثر أهل العلم. والثالث: أن الحسنة في الدنيا العلمُ , والعبادة , وفي الآخرة الجنة , وهو قول الحسن , والثوري. والرابع: أن الحسنة في الدنيا المال , وفي الآخرة الجنة , وهو قول ابن زيد , والسدي.

203

{واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون} قوله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} هي أيام منى قول جميع المفسرين , وإن خالف بعض الفقهاء في أن أشرك بين بعضها وبين الأيام المعلومات. {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني تعجل النفْر الأول في اليوم الثاني من أيام منى. {وَمَن تَأَخَّرَ} يعني إلى النفْر الثاني , وهو الثالث من أيام منى. {فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ} وفي الإثم ها هنا , خمسة تأويلات: أحدها: أن من تعجل فلا إثم عليه في تعجله , ومن تأخر فلا إثم عليه في تأخره , وهذا قول عطاء.

والثاني: أن من تعجل في يومين , فمغفور له , لا إثم عليه , ومن تأخر فمغفور له , لا إثم عليه , وهذا قول ابن مسعود. والثالث: فلا إثم عليه , إن اتّقى فيما بقي من عمره , وهذا قول أبي العالية , والسدي. والرابع: فلا إثم عليه , إن اتقى في قتل الصيد في اليوم الثالث , حتى يحلّوا أيام التشريق , وهذا قول ابن عباس. والخامس: فلا إثم عليه , إن اتقى إصابة ما نُهِي عنه , فيغفر له ما سلف من ذنبه , وهذا قول قتادة. فأما المراد بذكر الله تعالى في الأيام المعدودات , فهو التكبير فيها عقب الصلوات المفروضات , وَاخْتُلِفَ فيه على أربعة مذاهب: أحدها: أنه تكبير من بعد صلاة الصبح , يوم عرفة , إلى بعد صلاة العصر , من آخر أيام التشريق , وهذا قول علي رضي الله عنه , وبه قال من الفقهاء أبو يوسف , ومحمد. والثاني: أنه تكبير من صلاة الفجر , من يوم عرفة , إلى صلاة العصر , من يوم النحر , وهذا قول ابن مسعود , وبه قال من الفقهاء أو حنيفة. والثالث: أنه يكبر من بعد صلاة الظهر , من يوم النحر , إلى بعد صلاة العصر , من آخر أيام التشريق , وهذا قول زيد بن ثابت. والرابع: أنه يكبر من بعد صلاة الظهر , من يوم النحر , إلى آخر صلاة الصبح , من آخر التشريق , وهذا قول عبد الله بن عباس , وعبد الله بن عمر , وبه قال من الفقهاء الشافعي.

204

{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة

بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد} قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةٍ الدُّنْيَا} فيه قولان: أحدهما: يعني من الجميل والخير. والثاني: من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم , والرغبة في دينه. {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يقول: اللهم اشهد عليّ فيه , وضميره بخلافه. والثاني: معناه: وفي قلبه ما يشهد الله أنه بخلافه. والثالث: معناه: ويستشهد الله على صحة ما في قلبه , ويعلم أنه بخلافه. وهي في قراءة ابن مسعود {وَيَسْتَشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} والألد من الرجال الشديد الخصومة , وفي الخصام قولان: أحدهما: أنه مصدر , وهو قول الخليل. والثاني: أنه جمع خصيم , وهو قول الزجاج. وفي تأويل: {أَلَدُّ الْخِصَامِ} هنا أربعة أوجه: أحدها: أنه ذو جدال , وهو قول ابن عباس. والثاني: يعني أنه غير مستقيم الخصومة , لكنه معوجها , وهذا قول مجاهد , والسدي. والثالث: يعني أنه كاذب , في قول الحسن البصري. والرابع: أنه شديد القسوة في معصية الله , وهو قول قتادة. وقد روى ابن أبي مليكة , عن عائشة , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الأَلَدُّ الخَصَمُ).

وفيمن قصد بهذه الآية وما بعدها قولان: أحدهما: أنه صفة للمنافق , وهذا قول ابن عباس , والحسن. والثاني: أنها نزلت في الأخنس بن شريق , وهو قول السدي. قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ} في قوله تولى تأويلان: أحدهما: يعني غضب , حكاه النقاش. والثاني: انصرف , وهو ظاهر قول الحسن. وفي قوله تعالى: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} تأويلان: أحدهما: يفسد فيها بالصد. والثاني: بالكفر. {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} فيه تأويلان: أحدهما: بالسبي والقتل. والثاني: بالضلال الذي يؤول إلى السبي والقتل. {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} معناه لا يحب أهل الفساد. وقال بعضهم لا يمدح الفساد , ولا يثني عليه , وقيل أنه لا يحب كونه ديناً وشرعاً , ويحتمل: لا يحب العمل بالفساد. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه دعته العزة إلى فعل الإثم. والثاني: معناه إذا قيل له اتق الله , عزت نفسه أن يقبلها , للإثم الذي منعه منها. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ} يشري نفسه أي يبيع , كما قال تعالى: {وَشَرَوهُ بثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي باعوه , قال

الحسن البصري: العمل الذي باع به نفسه الجهاد في سبيل الله. واخْتُلِفَ فيمن نزلت فيه هذه الآية , على قولين: أحدهما: نزلت في رجل , أمر بمعروف ونهى عن منكر , وقتل , وهذا قول علي , وعمر , وابن عباس. والثاني: أنها نزلت في صُهيب بن سنان اشترى نفسه من المشركين بماله كله , ولحق بالمسلمين , وهذا قول عكرمة.

208

{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السلْمِ كَآفَّةً} قرأ ابن كثير , ونافع , والكسائي بفتح السين , والباقون بكسرها , واختلف أهل اللغة في الفتح والكسر , على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان تستعمل كل واحدة منهما في موضع الأخرى. والثاني: معناهما مختلف , والفرق بينهما أن السِّلم بالكسر الإسلام , والسَّلم بالفتح المسالمة , من قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] وفي المراد بالدخول في السلم , تأويلان: أحدهما: الدخول في الإسلام , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , والضحاك. والثاني: معناه ادخلوا في الطاعة , وهو قول الربيع , وقتادة. وفي قوله: {كَافَّةً} تأويلان: أحدهما: عائد إلى الذين آمنوا , أن يدخلوا جميعاً في السلم. والثاني: عائد إلى السلم أن يدخلوا في جميعه. {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ} يعني آثاره.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فيه تأويلان: أحدهما: مبين لنفسه. والآخر: مبين بعدوانه. واختلفوا فيمن أبان به عدوانه على قولين: أحدهما: بامتناعه من السجود لآدم. والثاني: بقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62]. واختلفوا فيمن أمر بالدخول في السلم كافة , على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المأمور بها المسلمون , والدخول في السلم العمل بشرائع الإسلام كلها , وهو قول مجاهد , وقتادة. والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب , آمنوا بمن سلف من الأنبياء , فأُمِروا بالدخول في الإسلام , وهو قول ابن عباس , والضحاك. والثالث: أنها نزلت في ثعلبة , وعبد الله بن سلام , وابن يامين , وأسد , وأسيد ابني كعب , وسعيد بن عمرو , وقيس بن زيد , كلهم من يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم السبت كنا نعظمه ونَسْبِتُ فيه , وإن التوراة كتاب الله تعالى , فدعنا فلنصم نهارنا بالليل , فنزلت هذه الآية , وهو قول عكرمة. قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه عصيتم. والثاني: معناه كفرتم. والثالث: إن ضللتم وهذا قول السدي. {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنها حجج الله ودلائله.

والثاني: محمد , وهو قول السدي. والثالث: القرآن , وهو قول ابن جريج. والرابع: الإسلام. {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يعني عزيز في نفسه , حكيم في فعله.

210

{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور} قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةُ} , قرأ قتادة {فِي ظِلاَلٍ الغَمَامِ} وفيه تأويلان: أحدهما: أن معناه إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام , وبالملائكة. والثاني: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.

211

{سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب} قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَآءِيل كَمْءَاتَيْنَاهُم منْءَايَةِ بَيِّنَةٍ} ليس السؤال على وجه الاستخبار , ولكنه على وجه التوبيخ. وفي المراد بسؤاله بني إسرائيل , ثلاثة أقاويل: أحدها: أنبياؤهم. والثاني: علماؤهم. والثالث: جميعهم. والآيات البينات: فَلْقُ البحر , والظلل من الغمام , وغير ذلك.

{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} يعني بنعمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في الدنيا وتزيينها لهم , ثلاثة أقاويل: أحدها: زينها لهم الشيطان , وهو قول الحسن. والثاني: زينها لهم الذين أغووهم من الإنس والجن , وهو قول بعض المتكلمين. والثالث: أن الله تعالى زينها لهم بالشهوات التي خلقها لهم. {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَءَامَنُواْ} لأنهم توهموا أنهم على حق , فهذه سخريتهم بضعفة المسلمين. وفي الذي يفعل ذلك قولان: أحدهما: أنهم علماء اليهود. والثاني: مشركو العرب. {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني أنهم فوق الكفار في الدنيا. {وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. فإن قيل: كيف يرزق من يشاء بغير حساب وقد قال تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ: 36] ففي هذا ستة أجوبة: أحدها: أن النقصان بغير حساب , والجزاء بالحساب. والثاني: بغير حساب لسعة ملكه الذي لا يفنى بالعطاء , لا يقدر بالحساب. والثالث: إن كفايتهم بغير حساب ولا تضييق. والرابع: دائم لا يتناهى فيصير محسوباً , وهذا قول الحسن. والخامس: أن الرزق في الدنيا بغير حساب , لأنه يعم به المؤمن والكافر فلا يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا الكافر على قدر كفره. والسادس: أنه يرزق المؤمنين في الآخرة وأنه لا يحاسبهم عليه ولا يَمُنُ عليهم به.

213

{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} خمسة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا على الكفر , وهذا قول ابن عباس والحسن. والثاني: أنهم كانوا على الحق , وهو قول قتادة والضحاك. والثالث: أنه آدم كان على الحق إماماً لذريته فبعث الله النبيين في ولده , وهذا قول مجاهد. والرابع: أنهم عشر فرق كانوا بين آدم ونوح على شريعة من الحق فاختلفوا , وهذا قول عكرمة. والخامس: أنه أراد جميع الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج الله ذرية آدم من صلبه , فعرضهم على آدم , فأقروا بالعبودية والإسلام , ثم اختلفوا بعد ذلك. وكان أُبيّ بن كعب يقرأ: {كَانَ الْبَشَرُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}. وهذا قول الربيع وابن زيد. وفي قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} قولان: أحدهما: في الحق. والثاني: في الكتاب وهو التوراة. {إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ} يعني اليهود. {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يعني الحجج والدلائل {بَغْيَا بَيْنَهُمْ} مصدر من قول القائل: بغى فلان على فلان , إذا اعتدى عليه. {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: أراد الجمعة , لأن أهل الكتاب اختلفوا فيها فضلوا عنها , فجعلها اليهود السبت , وجعلها النصارى الأحد , فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه , فهدى الله الذين آمنوا إليها , وهذا قول أبي هريرة. والثاني: أنهم اختلفوا في الصلاة , فمنهم من يصلي إلى الشرق ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس , فهدانا الله للقبلة , وهذا قول ابن زيد. والثالث: أنهم اختلفوا في الكتب المنزلة , فكفر بعضهم بكتاب بعض فهدانا الله للتصديق بجميعها.

214

{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ , قُلْ: مَآأَنفَقْتُم مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فيها قولان: أحدهما: أنها نزلت قبل آية الزكاة في إيجاب النفقة على الأهل والصدقة ثم نسختها آية الزكاة , وهذا قول السدي. والثاني: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن أموالهم أين يضعونها , فأنزل الله هذه الآية , وهذا قول ابن زيد.

216

{كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} بمعنى فرض. وفي فرضه ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه خطاب لكل أحد من الناس كلهم أبداً حتى يقوم به من فيه كفاية , وهذا قول الفقهاء والعلماء. والثالث: أنه فرض على كل مسلم في عينه أبداً , وهذا قول سعيد بن المسيب. ثم قال تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} والكرْهُ بالضم إدخال المشقة على النفس من غير إكراه أحد. والكَره بالفتح إدخال المشقة على النفس بإكراه غيره له. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه فيه حذفاً وتقديره: وهو ذو كره لكم وهذا قول الزجاج. والثاني: معناه وهو مكروه لكم , فأقام المقدّر مُقامه. ثم في كونه كرهاً تأويلان: أحدهما: وهو كره لكم قبل التعبد وأما بعده فلا. الثاني: وهو كره لكم في الطباع قبل الفرض وبعده. وإنما يحتمل بالتعبد. ثم قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} وفي عسى ها هنا قولان: أحدهما: أنه طمع المشفق مع دخول الشك. والثاني: أنها بمعنى قد. وقال الأصم: {وَعَسَى أن تَكْرَهُوا شَيئاً} من القتال {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني في الدنيا بالظفر والغنيمة , وفي الآخرة بالأجر والثواب , {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} يعني من المتاركة والكف {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} , يعني في الدنيا بالظهور عليكم وفي الآخرة بنقصان أجوركم. {وَاللهُ يَعْلَمُ} ما فيه مصلحتكم {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

217

{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة

أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قَتَالٍ فِيهِ , قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} والسبب في نزول هذه الآية أن عبد الله بن جحش خرج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعة نفر من أصحابه وهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة , عكاشة بن محصن , وعتبة بن غزوان , وسهيل بن البيضاء , وخالد ابن البكير , وسعد بن أبي وقاص , وواقد بن عبد الله , وعبدُ الله بن جحش كان أميرهم , فتأخر عن القوم سعد وعتبة ليطلبا بعيراً لهما ضَلَّ , فلقوا عمرو بن الحضرمي فرماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان , وغُنِمت العير , وكان ذلك في آخر ليلة من جمادى الآخِرة أو أول ليلة من رجب , فعيرت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقدم عبد الله بن جحش فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامه المسلمون حتى أنزل الله فيه هذه الآية. واختلفوا فيمن سأل عن ذلك على قولين: أحدهما: أنهم المشركون ليعيّروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , واستحلوا قتاله فيه , وهو قول الأكثر. والثاني: أنهم المسلمون سألوا عن القتال في الشهر الحرام ليعلموا حكم ذلك. فأخبرهم الله تعالى: أن الصد عن سبيل الله وإخراج أهل الحرم منه والفتنة أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي الحرم , وهذا قول قتادة. واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم هل نسخ أم لا؟ فقال الزهري: هو منسوخ بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}. وقال عطاء: هو ثابت الحكم , وتحريم القتال فيه باقٍ غير منسوخ , والأول أصح لما

تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزا هوازن بحنين , وثقيفاً بالطائف , وأرسل أبا العاص إلى أوطاس لحرب مَنْ بها من المشركين في بعض الأشهر الحرم , وكانت بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة. وقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} أي يرجع , كما قال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] أي رجعا , ومن ذلك قيل: استرد فلان حقه. {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت , وأصل الحبوط الفساد , فقيل في الأعمال إذا بطلت حبطت لفسادها. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} الآية. وسبب نزولها أن قوماً من المسلمين قالوا في عبد الله بن جحش ومن معه: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم وزْراً فليس فيه أجر , فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ} يعني بالله ورسوله , {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} يعني عن مساكنة المشركين في أمصارهم , وبذلك سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين لهجرهم دورهم ومنازلهم كراهة الذل من المشركين وسلطانهم , {وَجَاهَدُواْ} يعني قاتلوا , وأصل المجاهدة المفاعلة من قولهم جهد كذا إذا أكدّه وشق عليه , فإن كان الفعل من اثنين كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة قيل فلان يجاهد فلاناً. وأما {فِي سَبِيلِ اللهِ} فطريق الله , وطريقه: دينه. فإن قيل: فكيف قال: {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ} ورحمة الله للمؤمنين مستحقة؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنهم لما لم يعلموا حالهم في المستقبل جاز أن يرجوا الرحمة خوفاً أن يحدث من مستقبل أمورهم مالا يستوجبونها معه. والجواب الثاني: أنهم إنما رجوا الرحمة لأنهم لم يتيقنوها بتأدية كل ما أوجبه الله تعالى عليهم.

219

{يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك

يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية: يعني يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر والميسر وشربها , وهذه أول آية نزلت فيها. والخمر كل ما خامر العقل فستره وغطى عليه , من قولهم خَمَّرتُ الإناء إذا غطيته , ويقال هو في خُمار الناس وغمارهم يراد به دخل في عُرضهم فاستتر بهم , ومن ذلك أُخذ خمار المرأة لأنه يسترها , ومنه قيل هو يمشي لك الخمر أي مستخفياً , قال العجاج: (في لامع العِقْبان لا يأتي الخَمَرْ ... يُوجّهُ الأرضَ ويستاق الشّجَرْ) يعني بقوله لا يأتي الخمر أي لا يأتي مستخفياً لكن ظاهراً برايات وجيوش. فأما الميسر فهو القمار من قول القائل يَسر لي هذا الشيء يَسْراً ومَيْسِراً , فالياسر اللاعب بالقداح ثم قيل للمقامر ياسر ويَسَر كما قال الشاعر: (فبت كأنني يَسَرٌ غبينٌ ... يقلب بعدما اختلع القداحا) {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ} قرأ حمزة والكسائي { ... . . كَثِيرٌ} بالثاء. وفي إثمهما تأويلان: أحدهما: أن شارب الخمر يسكر فيؤذي الناس , وإثم الميسر: أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم , وهذا قول السدي. والثاني: أن إثم الخمر زوال عقل شاربها إذا سكر حتى يغْرُب عنه معرفة

خالقه. وإثم الميسر: ما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن الصلاة , ووقوع العداوة والبغضاء كما وصف الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمً الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ فِي الْخمر والْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ} [المائدة: 90] وهذا قول ابن عباس.

وأما قوله تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فمنافع الخمر أثمانها وربح تجارتها , وما ينالونه من اللذة بشربها , كما قال حسان بن ثابت: (ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأُسْداً ما ينهنهنا اللقاءُ) وكما قال آخر: (فإذا شربت فإنني ... رَبُّ الخَورْنق والسدير) (وإذا صحوتُ فإنني ... ربُّ الشويهة والبعير) وأما منافع الميسر ففيه قولان: أحدهما: اكتساب المال من غير كدّ. والثاني: ما يصيبون من أنصباء الجزور , وذلك أنهم كانوا يتياسرون على الجزور فإذا أفلح الرجل منهم على أصحابه نحروه ثم اقتسموه أعشاراً على عدة القداح , وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة: (وجزور أيسار دعوت إلى الندى ... أوساط مقفرة أخف طلالها) وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي. ثم قال تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعْهِمَا} فيه تأويلان: أحدهما: أن إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما بعد التحريم , وهو قول ابن عباس. والثاني: أن كلاهما قبل التحريم يعني الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما , وهو قول سعيد بن جبير. وفي قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ستة تأويلات: أحدها: بما فضل عن الأهل , وهو قول أبن عباس. والثاني: أنه الوسط في النفقة ما لم يكن إسرافاً أو إقتاراً , وهو قول الحسن. والرابع: إن العفو أن يؤخذ منهم ما أتوا به من قليل أو كثير , وهو قول مروي عن ابن عباس أيضاً. والخامس: أنه الصدقة عن ظهر غِنى , وهو قول مجاهد. والسادس: أنه الصدقة المفروضة وهو مروي عن مجاهد أيضاً. واختلفوا في هذه النفقة التي هي العفو هل نسخت؟ فقال ابن عباس نسخت بالزكاة. وقال مجاهد هي ثابتة. واختلفوا في هذه الآية هل كان تحريم الخمر بها أو بغيرها؟ فقال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية. وقال قتادة وعليه أكثر العلماء: أنها حرمت بأية المائدة. وروى عبد الوهاب عن عوف عن أبي القُلوص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث آيات فأول ما أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمْرِ

والْمِيِسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَاقِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} , فشربها قوم من المسلمين أو من شاء الله منهم حتى شربها رجلان ودخلا في الصلاة وجعلا يقولان كلاماً لا يدري عوف ما هو , فأنزل الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الَّصلاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فشربها من شربها منهم وجعلوا يتوقّونها عند الصلاة , حتى شربها فيما زعم أبو القلوص رجل فجعل ينوح على قتلى بدر , وجعل يقول: (تحيي بالسلامة أم بكرٍ ... وهل لي بعد قومي من سلام) (ذريني اصطبحْ بكراَ فإني ... رأيت الموت نبّث عن هشام) (ووديني المغيرة لو فدوه ... بألف من رجال أو سوام) (وكائن بالطَويَّ طويَّ بدرٍ ... من الشيزي تُكَلّلُ بالسنامَ) (وكائن بالطَويَّ طويَّ بدر ... من الفتيان والحلل الكرامِ) قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فزعاً يجر رداءه من الفزع حتى انتهى إليه , فلما عاينه الرجل ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كان بيده ليضربه , فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله , لا أطعمها أبداً , فأنزل الله في تحريمها {يَا أَيَّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيِسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ} [المائدة: 90 91] فقالوا: انتهينا. وروى موسى عن عمرو عن أسباط عن السدي قال: نزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمْرِ والْمِيِسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فلم يزالوا يشربونها حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , منهم علي بن أبي طالب وعمر رضي الله عنهما , فشربوا حتى سكروا , فحضرت الصلاة فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقرأ: {قُلْ يَأَيُّها الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] فلم يُقِمْها , فأنزل الله تعالى يشدد في الخمر {يا أيُّهَا الَّذِينَءَآمَنْوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ} إلى قوله: {مَا تَقُولُونَ} فكانت لهم حلالاً يشربونها من صلاة الغداة حتى يرتفع النهار أو ينتصف فيقومون إلى صلاة الظهر وهم صاحون , ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة , ثم يشربونها حتى ينتصف الليل , وينامون ويقومون إلى صلاة الفجر وقد أصبحوا , فلم يزالوا كذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاماً ودعا

ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار , فسوى لهم رأس بعير ثم دعاهم إليه , فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري فرفع لحى البعير وكسر أنف سعد , فأنزل الله تعالى نسخ الخمر وتحريمها , فقال تعالى: {يَا أَيَّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيِسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ}. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ: إِصْلاَحٌ لَهُم خَيرٌ} قال المفسرون: لمّا نزلت سورة بني إسرائيل , وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَّلتِي هيَ أَحْسَنُ} , وفي سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نَاراً} تحرج المسلمون أن يخلطوا طعامهم بطعام من يكون عندهم من الأيتام , وكانوا يعزلون طعامهم هم طعامهم , وشرابهم عن شرابهم , حتى ربما فسد طعامهم , فشق ذلك عليهم , فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ تُخَالِطوهُم فَإِخْوَانَكُم} , يعني في الطعام , والشراب , والمساكنة , وركوب الدابة , واستخدام العبد قال الشعبي: فمن خالط يتيماً , فليوسع عليه , ومن خالط بأكل فلا يفعل. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} قال ابن زيد: الله يعلم حين تخلط مالك بماله , أتريد أن تصلح ماله أو تفسد ماله بغير حق. {وَلَو شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُم} فيه تأويلان: أحدهما: لَشدّد عليكم , وهو قول السدي. والثاني: لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً , وهو قول ابن عباس. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يعني عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات , حكيم فيما صنع من تدبيره وتركه الإعنات.

221

{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه

ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشرِكاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ} اختلفوا فيها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها في جميع المشركات الكتابيات وغير الكتابيات , وأن حكمها غير منسوخ , فلا يجوز لمسلم أن ينكح مشركة أبداً , وذكر أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية , ونكح حذيفة نصرانية , فغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً , حتى كاد يبطش بهما , فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب , فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن , ولكن ينزعن منكم صغرَةً قمأةً. والثاني: أنها نزلت مراداً بها مشركات العرب , ومن دان دين أهل الكتاب , وأنها ثابتة لم نسخ شيء منها , وهذا قول قتادة , وسعيد بن جبير. والثالث: أنها عامة في جميع المشركات , وقد نسخ منهن الكتابيات , بقوله تعالى في المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم} وقد روى الصلت بن بهرام , عن سفيان قال: تزوج حذيفة بن اليمان يهودية , فكتب إليه عمر ابن الخطاب , خلِّ سبيلها , فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام , ولكني أخاف أن تقاطعوا المؤمنات منهن , والمراد بالنكاح التزويج , وهو حقيقة في اللغة , وإن كان مجازاً في الوطء , قال الأعشى: (ولا تقربن جارةً إنّ سِرّها ... عليك حرام فانكحن أو تأبّدا) أي فتزوج أو تعفف. قوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُؤمِنَةُ خَيرٌ مِنَ مُشرِكَةٍ} يعني ولنكاح أمة مؤمنة , خير من نكاح حرة مشركة من غير أهل الكتاب وإنْ شَرُف نسبها وكَرُم أصلها , قال السدي: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة , كانت له أمة سوداء , فلطمها في غضب , ثم ندم , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: (ما هي يا عبد الله) قال: تصوم , وتصلي , وتحسن الوضوء , وتشهد الشهادتين , فقال رسول الله: (هَذِه

مُؤمِنَةٌ). فقال ابن رواحة: لأعتقنها ولأتزوجها , ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين , فأنزل الله تعالى هذا. {وَلَو أَعجَبَتكُم} يعني جمال المشركة وحسبها ومالها. {وَلاَ تُنكِحُوا المُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا} هذا على عمومه إجماعاً , لا يجوز لمسلمة أن تنكح مشرك أبداً. روى الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أهْلِ الكِتَابِ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا) وفي هذا دليل على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.

222

{ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} قوله تعالى: {وَيَسئَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُل هُوَ أَذَىً} قال السدي: السائل كان ثابت بن الدحداح الأنصاري , وكانت العرب ومن في صدر الإسلام من المسلمين يجتنبون مُساكنة الحُيَّض ومؤاكلتهن ومشاربتهن , فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنزلت هذه الآية , وهذا قول قتادة. وقال مجاهد: كان يعتزلون الحُيَّض في الفرج , ويأتونهن في أدبارهن مدة حيضهن , فأنزلت هذه الآية , والأذى هو ما يؤذي من نتن ريحه ووزره ونجاسته.

{فَاعتَزِلُوا النِسَآءَ فىِ المَحِيضِ} اختلفوا في المراد بالإعتزال على ثلاثة أقاويل: أحدها: اعتزل جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه , وهذا قول عبيدة السلماني. والثاني: ما بين السرة والركبة , وهذا قول شريح. والثالث: الَفرِج وهذا قول عائشة وميمونه وحفصة وجمهور المفسرين. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطهُرنَ} فيه قراءتان: إحداهما: التخفيف وضم الهاء , وهي قراءة الجمهور , ومعناه بانقطاع الدم وهو قول مجاهد وعكرمة. والثانية: بالتشديد وفتح الهاء , قرأ بها حمزة , والكسائي وعاصم , وفي رواية أبي بكر عنه , ومعناها حتى تغتسل. ثم قال تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} يعني بالماء , فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه إذا اغتسلن وهو قول ابن عباس وعكرمة والحسن. والثاني: الوضوء , وهو قول مجاهد , وطاوس. والثالث: غسل الفرج. وفي قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} أربعة تأويلات: أحدها: القُبُل الذي نهى عنه في حال الحيض , وهو قول ابن عباس. الثاني: فأتوهن من قِبَل طهرهن , لا من قِبَل حيضهن , وهذا قول عكرمة , وقتادة. والثالث: فأتوا النساء من قِبَل النكاح لا من قِبَل الفجور , وهذا قول محمد ابن الحنفية. والرابع: من حيث أحل لكم , فلا تقربوهن محرمات , ولا صائمات ولا معتكفات , وهذا قول الأصم. {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُطَهَرِينَ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: المتطهرين بالماء , وهذا قول عطاء. والثاني: يحب المتطهرين من أدبار النساء أن يأتوها , وهذا قول مجاهد. والثالث: يحب المتطهرين من الذنوب , أن لا يعودوا فيها بعد التوبة منها , وهو محكي عن مجاهد أيضاً. قوله تعالى: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ} أي مزدرع أولادكم ومحترث نسلكم , وفي الحرث كناية عن النكاح , {فَأتُوا حَرثَكُمْ} فانكحوا مزدرع أولادكم. {أَنَّى شِئتُمْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني كيف شئتم في الأحوال , روى عبد الله بن علي أن أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , جلسوا يوماً ويهودي قريب منهم , فجعل بعضهم يقول: إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة , ويقول الآخر إني لآتيها وهي قائمة , ويقول الآخر: إني لآتيها وهي على جنبها , ويقول الآخر إني لآتيها وهي باركة , فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة , فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول عكرمة. والثاني: يعني من أي وجه أحببتم في قُبِلها , أو من دُبْرِها في قُبلها. روى جابر أن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من أعجازهن , فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول , فَأَكْذَبَ الله حديثهم وقال: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ} , وهذا قول ابن عباس , والربيع. والثالث: يعني من أين شئتم وهو قول سعيد بن المسيب وغيره. والرابع: كيف شئتم أن تعزلوا أو لا تعزلوا , وهذا قول سعيد بن المسيب. والخامس: حيث شئتم من قُبُلٍ , أو من دُبُرٍ , رواه نافع , عن ابن عمر وروى عن غيره.

وروى حبيش بن عبد الله الصنعاني , عن ابن عباس أن ناساً من حِمْير أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء , فقال رجل منهم: يا رسول الله: إني رجل أحب النساء , فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله تعالى في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه , فأنزل فيما سأل عنه الرجل: {نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ} , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مُقْبِلةً وَمُدْبِرةً إِذا كان في الفرج). {وَقَدمِوُاْ لأَنفُسِكم} الخير , وهو قول السدي. والثاني: وقدموا لأنفسكم ذكر الله عز وجل عند الجماع , وهو قول ابن عباس.

224

{ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم} قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أما العرضة في كلام العرب , فهي القوة والشدة , وفيها ها هنا تأويلان: أحدهما: أن تحلف بالله تعالى في كل حق وباطل , فتتبذل اسمه , وتجعله عُرضة. والثاني: أن معنى عُرضة , أي علة يتعلل بها في بِرّه , وفيها وجهان: أحدهما: أن يمتنع من فعل الخير والإصلاح بين الناس إذا سئل , فيقول عليّ يمين أن لا أفعل ذلك , أو يحلف بالله في الحال فيعتلّ في ترك الخير باليمين , وهذا قول طاووس , وقتادة , والضحاك , وسعيد بن جبير. والثاني: أن يحلف بالله ليفعلن الخير والبر , فيقصد في فعله البر في يمينه , لا الرغبة في فعله.

وفي قوله: {أَن تَبَرُّواْ} قولان: أحدهما: أن تبروا في أيمانكم. والثاني: أن تبروا في أرحامكم. {وَتَتَقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ} هو الإصلاح المعروف {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع لأيمانكم , عليم باعتقادكم. قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغوِ فيِ أَيْمانِكُم} أما اللغو في كلام العرب , فهو كل كلام كان مذموماً , وفضلا لا معنى له , فهو مأخوذ من قولهم لغا فلان في كلامه إذا قال قبحاً , ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55]. فأما لغو اليمين التي لا يؤاخذ الله تعالى بها , ففيها سبعة تأويلات: أحدها: ما يسبق به اللسان من غير قصد كقوله: لا والله , وبلى والله , وهو قول عائشة , وابن عباس , وإليه ذهب الشافعي , روى عبد الله بن ميمون , عن عوف الأعرابي , عن الحسن بن أبي الحسن قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينضلون يعني يرمون , ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه , فرمى رجل من القوم , فقال أصاب والله , أخطأت والله , فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله , فقال: (كَلاَّ أَيْمَانُ الرَُمَاةِ لَغُّوٌ وَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ عُقٌوبَةَ). والثاني: أن لغو اليمين , أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف عليه , ثم يتبين أنه بخلافه , وهو قول أبي هريرة. والثالث: أن لغو اليمين أن يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم , ولكن صلة للكلام , وهو قول طاوس.

وقد روى يحيى بن أبي كثير عن طاووس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَمِينَ فِي غَضَبٍ). والرابع: أن لغو اليمين أن يحلف بها في المعصية , فلا يكفر عنها , وهو قول سعيد بن جبير , ومسروق , والشعبي , وقد روى عمرو بن شعيب , عن أبيه , عن عبد الله بن عمرو , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ نَذَرَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ فَلاَ نَذْرَ لَهُ , وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ , وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ). والخامس: أن اللغو في اليمين , إذا دعا الحالف على نفسه , كأن يقول: إن لم أفعل كذا فأعمى الله بصري , أو قلل من مالي , أو أنا كافر بالله , وهو قول زيد بن أسلم. والسادس: أن لغو اليمين هو ما حنث فيه الحالف ناسياً , وهذا قول النخعي. ثم قوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يحلف كاذباً أو على باطل , وهذا قول إبراهيم النخعي. والثاني: أن يحلف عمداً , وهذا قول مجاهد. والثالث: أنه اعتقاد الشرك بالله والكفر , وهذا قول ابن زيد. {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} غفور لعباده , فيما لغوا من أيمانهم , حليم في تركه مقابلة أهل حسنته بالعقوبة على معاصيهم.

226

{للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} معنى قوله تعالى: {يُؤْلُونَ} أي يقسمون , والألية: اليمين , قال الشاعر: (كُفِينا مَنْ تعنّت من نِزَار ... وأحلَلْنا إليه مُقسِمينا) وفي الكلام حذف , تقديره: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم لكنه إنما دل عليه ظاهر الكلام. واختلفوا في اليمن التي يصير بها مولياً على قولين: أحدهما: هي اليمين بالله وحده. والثاني: هل كل عين لزم الحلف في الحنث بها ما لم يكن لازماً له وكلا القولين عن الشافعي. واختلفوا في الذي إذا حلف عليه صار مُولياً على ثلاثة أقاويل: أحدها: هو أن يحلف على امرأته في حال الغضب على وجه الإضرار بها , أن لا يجامعها في فرجها , وأما إن حلف على غير وجه الإضرار , وعلى غير الغضب فليس بمولٍ , وهو قول عليّ , وابن عباس وعطاء. والثاني: هو أن يحلف أن لا يجامعها في فرجها , سواء كان في غضب أو غير غضب , وهو قول الحسن , وابن سيرين , والنخعي , والشافعي. والثالث: هو كل يمين حلف بها في مساءة امرأته على جماع أو غيره , كقوله والله لأسوءنك أو لأغيظنك , وهو قول ابن المسيب , والشعبي , والحكم. ثم قال تعالى: {فَإِن فَاؤُوا} يعني رجعوا , والفيء والرجوع من حال إلى حال , لقوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] أي ترجع , ومنه قول الشاعر: (ففاءَتْ ولم تَقْضِ الذي أقبلت له ... ومِنْ حَاجَةِ الإنسانِ ما ليْسَ قاضيا)

وفي الفيء ثلاثة تأويلات: أحدها: الجماع لا غير , وهو قول ابن عباس , ومن قال إن المُوِلَي هو الحالف على الجماع دون غيره. والثاني: الجماع لغير المعذور , والنية بالقلب وهو قول الحسن وعكرمة. والثالث: هو المراجعة باللسان بكل غالب أنه الرضا , قاله ابن مسعود , ومن قال إن المُولي هو الحالف على مساءة زوجته. ثم قال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أراد غفران الإثم وعليه الكفارة , قاله عليّ وابن عباس وسعيد بن المسيب. والثاني: غفور بتخفيف الكفارة إسقاطها , وهذا قول من زعم أن الكفارة لا تلزم فيما كان الحنث براً , قاله الحسن , وإبراهيم. والثالث: غفور لمأثم اليمين , رحيم في ترخيص المخرج منها بالتفكير , قاله ابن زيد. ثم قال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ} الآية. قرأ ابن عباس وإن عزموا السّراح , وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن عزيمة الذي لا يفيء حتى تمضي أربعة أشهر فتطلق بذلك. واختلف من قال بهذا في الطلاق الذي يلحقها على قولين: أحدهما: طلقة بائنة , وهو قول عثمان , وعليّ , وابن زيد , وزيد بن ثابت , وابن مسعود , وابن عمر , وابن عباس. والثاني: طلقة رجعية , وهو قول ابن المسيب , وأبي بكر بن عبد الرحمن , وابن شبرمة. الثاني: أن تمضي الأربعة الأشهر , يستحق عليها أن يفيء , أو يطلق , وهو قول عمر , وعلي في رواية عمرو بن سلمة , وابن أبي ليلى عنه , وعثمان في رواية طاووس عنه , وأبي الدرداء وعائشة وابن عمر في رواية نافع عنه. روى سُهَيْلُ بن أبي صالح عن أبيه قال: (سألت اثني عشر رجلاً من

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُولي من امرأته فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف , فإن فاء وإلاّ طلق) وهو قول الشافعي , وأهل المدينة. والثالث: ليس الإيلاء بشيء , وهو قول سعيد بن المسيب , في رواية عمرو ابن دينار عنه. وفي قوله تعالى: {فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تأويلان: أحدهما: يسمع إيلاءه. والثاني: يسمع طلاقه. وفي {عَلِيمٌ} تأويلان: أحدهما: يعلم نيته. والثاني: يعلم صبره.

228

{والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} قوله عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} يعني المخليات , والطلاق: التخلية كما يقال للنعجة المهملة بغير راع: طالق , فسميت المرأة المَخْلي سبيلها بما سميت به النعجة المهمل أمرها , وقيل إنه مأخوذ من طلق الفرس , وهو ذهابه شوطاً لا يمنع , فسميت المرأة المُخْلاَةُ طالقاً لأنها لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة , ولذلك قيل لذات الزوج إنها في حباله لأنها كالمعقولة بشيء , وأما قولهم طَلَقَتْ المرأة فمعناه غير هذا , إنما يقال طَلَقَتْ المرأة إذا نَفَسَتْ , هذا من الطلْق وهو وجع الولادة , والأول من الطَّلاَقِ. ثم قال تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} أي مدة ثلاثة قروء , واختلفوا في الأقراء على قولين: أحدهما: هي الحِيَضُ , وهو قول عمر , وعليّ , وابن مسعود , وأبي

موسى , ومجاهد , وقتادة , والضحاك , وعكرمة , والسدي , ومالك , وأبي حنيفة , وأهل العراق , استشهاداً بقول الشاعر: (يا رُبَّ ذي صغن عليّ فارض ... له قروءٌ كقروءِ الحائض) والثاني: هي الأطهار , وهو قول عائشة , وابن عمر , وزيد بن ثابت , والزهري , وأبان بن عثمان , والشافعي , وأهل الحجاز , استشهاداً بقول الأعشى: (أفي كلِّ عامٍ أنتَ جَاشِمُ غزوةً ... تَشُدُّ لأقصاها عزِيمَ عزائِكَا) (مُوَرّثَةً مالاً وفي الحيِّ رِفعَةٌ ... لِمَا ضاعَ فيها من قروءِ نِسائكا) واختلفوا في اشتقاق القرء على قولين: أحدهما: أن القرء الاجتماع , ومنه أخذ اسم القرآن لاجتماع حروفه , وقيل: قد قرأ الطعام في شدقه وقرأ الماء في حوضه إذا جمعه , وقيل: ما قرأتِ الناقة سَلَى قط , أي لم يجتمع رحمها على ولد قط , قال عمرو بن كلثوم: (تُرِيكَ إذا دَخَلْتَ على خَلاءٍ ... وقد أمنَتْ عُيونُ الكَاشِحِينا) (ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بكرِ ... هَجَانَ اللون لم تقرَأْ جَنِينَا) وهذا قول الأصمعي , والأخفش , والكسائي , والشافعي , فمن جعل القروء اسماً للحيض سماه بذلك , لاجتماع الدم في الرحم , ومن جعله اسماً للطهر فلاجتماعه في البدن. والقول الثاني: أن القرء الوقت , لمجيء الشيء المعتاد مجِيؤه لوقت معلوم , ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم , وكذلك قالت العرب: أَقْرأَتْ حاجة فلان عندي , أي دنا وقتها وحان قضاؤها. وأَقْرَأَ النجم إذا جاء وقت أُفوله , وقرأ إذا جاء وقت طلوعه , قال الشاعر: (إذا ما الثُّرَيَّا وقد أقَرْأَتْ ... ... ... ... ... ... ... ... )

وقيل: أقرأت الريح , إذا هبت لوقتها , قال الهذلي: (كَرِهتُ العقْرَ عَقْرَ بني شليل ... إذا لِقَارئِهَا الرِّياح) يعني هبت لوقتها , وهذا قول أبي عمرو بن العلاء. فمن جعل القرْء اسماً للحيض , فلأنه وقت خروج الدم المعتاد , ومن جعله اسماً للطهر , فلأنه وقت احتباس الدم المعتاد. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الحيض , وهو قول عكرمة , والزهري , والنخعي. والثاني: أنه الحمل , قاله عمر وابن عباس. والثالث: أنه الحمل والحيض قاله عمر ومجاهد. {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وعيد من الله لهن , واختلف في سبب الوعيد على قولين: أحدهما: لما يستحقه الزوج من الرجعة , وهو قول ابن عباس. والثاني: لإلحاق نسب الوليد بغيره كفعل الجاهلية , وهو قول قتادة. ثم قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ} البعل: الزوج , سُمِّيَ بذلك , لعلوه على الزوجة بما قد ملكه عن زوجيتها ومنه قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [الصافات: 125] أي رَبّاً لعلوه بالربوبية , {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ} أي برجعتهن , وهذا مخصوص في الطلاق الرجعي دون البائن. {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحاً} يعني إصلاح ما بينهما من الطلاق. ثم قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن , مثل الذي عليهن من الطاعة , فيما أوجبه الله تعالى عليهن لأزواجهن , وهو قول الضحاك.

والثاني: ولهن على أزواجهن من التصنع والتزين , مثل ما لأزواجهن , وهو قول ابن عباس. والثالث: أن الذي لهن على أزواجهن , ترك مضارتهن , كما كان ذلك لأزواجهن , وهو قول أبي جعفر. ثم قال تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ} وفيه خمسة تأويلات: أحدها: فضل الميراث والجهاد , وهو قول مجاهد. والثاني: أنه الإمْرَةُ والطاعة , وهو قول زيد بن أسلم , وابنه عبد الرحمن. والثالث: أنه إعطاء الصداق , وأنه إذا قذفها لاعنها , وإن قذفته حُدَّتْ , وهو قول الشعبي. والرابع: أفضاله عليها , وأداء حقها إليها , والصفح عما يجب له من الحقوق عليها , وهو قول ابن عباس وقتادة. والخامس: أن جعل له لحْية , وهو قول حميد.

229

{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه بيان لعدد الطلاق وتقديره بالثلاث , وأنه يملك في الاثنين الرجعة ولا يملكها في الثالثة , وهو قول عروة وقتادة , وروى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ناسياً , إنْ راجع امرأته قبيل أن تنقضي عدتها كانت

امرأته , فغضب رجل من الأنصار على امرأته , فقال لها: لا أقربك ولا تختلين مني , قالت له كيف؟ أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك , فشكت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} الآية. والتأويل الثاني: أنه بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قول طلقة واحدة , وهو قول عبد الله بن مسعود , وعبد الله بن عباس , ومجاهد. قوله تعالى: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} فيه تأويلان: الأول: هذا في الطلقة الثالثة , روى سفيان , عن إسماعيل بن سميع , عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} , وهذا قول عطاء , ومجاهد. والثاني: {فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ} الرجعة بعد الثانية {أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} والإمساك عن رجعتها حتى تنقضي العدة , وهو قول السدي , والضحاك. الإحسان هو تأدية حقها , والكف عن أذاها. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} يعني من الصداق {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ} قرأ حمزة بضم الياء من يخافا , وقرأ الباقون بفتحها , والخوف ها هنا بمعنى الظن , ومنه قول الشاعر: (أتاني كلامٌ عن نصيبٍ يقوله ... وما خِفْتُ بالإسلامِ أنك عائبي) يعني وما ظننت. وفي {أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ} أربعة تأويلات: أحدها: أن يظهر من المرأة النُّشُوز وسوء الخُلُق , وهو قول ابن عباس.

والثاني: أن لا تطيع له أمراً , ولا تبرّ له قَسَماً , وهو قول الحسن , والشعبي. والثالث: هو أن يبدي لسانها أنها له كارهة , وهو قول عطاء. والرابع: أن يكره كل واحد منهما صاحبه , فلا يقيم كل واحد منهما ما أوجب الله عليه من حق صاحبه , وهو قول طاووس , وسعيد بن المسيب , والقاسم بن محمد , روى ثابت بن يزيد , عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المُخْتِلعَاتُ والمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ). يعني التي تخالع زوجها لميلها إلى غيره. ثم قال تعالى: {فإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَليهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فيه قولان: أحدهما: افتدت به نفسها من الصداق وحده من غير زيادة , وهو قول عليّ , وعطاء , والزهري , وابن المسيب , والشعبي , والحكم , والحسن. والقول الثاني: يجوز أن تُخَالِعَ زوجها بالصداق وبأكثر منه , وهذا قول عمر , وابن عباس , ومجاهد , وعكرمة , والنخعي , والشافعي. رَوَى عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الرُّبَيِّعَ بنت مُعَوّذ بن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يُقِلُّ عليَ الخبز إذا حضر , ويحرمني إذا غاب , قالت: وكانت مني زَلَّةٌ يوماً فقلت: أنْخَلِعُ منك بكل شيء أملكه , قال: نعم , قالت ففعلت , قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان , فأجاز الخلع , وأمره أن يأخذ ما دون عقاص الرأس. واختلفوا في نسخها , فَحُكِيَ عن بكر بن عبد الله أن الخلع منسوخ بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَءَاتَيتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئاً} [النساء: 20] وذهب الجمهور إلى أن حكمها ثابت في جواز الخلع.

وقد روى أيوب , عن كثير مولى سَمُرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتِيَ بامرأة ناشزة , فأمر بها إلى بيت كثير , فحبسها ثلاثاً , ثم دعاها فقال: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما وجدتُ راحة منذ كنت إلا هذه الليالي التي حبستني , فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها. وقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا} فيه قولان: أحدهما: أنها الطلقة الثالثة وهو قول السدي. والثاني: أن ذلك تخيير لقوله تعالى: {أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} , وهو قول مجاهد. {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوجاً غَيرَهُ} يعني أنها لا تحل للزوج المطلق ثلاثاً حتى تنكح زوجاً آخر , وفيه قولان: أحدهما: أن نكاح الثاني إذا طلقها منه أحلها للأول سواء دخل بها أو لم يدخل , وهو قول سعيد بن المسيب. والثاني: أنها لا تحل للأول بنكاح الثاني , حتى يدخل بها فتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها , للسنّة المروية فيه , وهو قول الجمهور.

231

{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربْن انقضاء

عِدَدهن , كما يقول المسافر: بلغت بلد كذا إذا قاربه. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} هو المراجعة قبل انقضاء العدة {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وهو تركها حتى تنقضي العدة. {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ} هو أن يراجع كلما طلّق حتى تطول عدتها إضراراً بها. {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يعني في قصد الإضرار , وإن صحت الرجعة , والطلاق. رَوَى حميد بن عبد الرحمن , عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين , قالوا: يقول أحدهم قد طلقت , قد راجعت , ليس هذا بطلاق المسلمين , طلقوا المرأة في قبل عدتها ولا تتخذوا آيات الله هزواً. وروى سليمان بن أرقم: أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطَلّق أو يعتق , فيقال: ما صنعت؟ فيقول: كنت لاعباً , قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (مَنْ طَلَّقَ لاَعِباً أَو أعْتَقَ لاَعِباً جَازَ عَليهِ). قال الحسن: وفيه نزلت: {وَلاَ تَتَّخِذُواءَايَاتِ اللهِ هُزُواً}.

232

{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا

بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون} قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} بلوغ الأجل ها هنا [تناهيه] , بخلاف بلوغ الأجل في الآية التي قبلها , لأنه لا يجوز لها أن تنكح غيره قبل انقضاء عدتها , قال الشافعي: فدخل اختلاف المعنيين على افتراق البلوغين. ثم قال تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} وفي العضل قولان: أحدهما: أنه المنع , ومنه قولهم: داء عضال إذا امتنع من أن يُداوَى , وفلان عُضَلَةٌ أي داهية , لأنه امتنع بدهائه. والقول الثاني: أن العضل الضيق , ومنه قولهم: قد أعضل بالجيش الفضاء , إذا ضاق بهم. وقال عمر بن الخطاب: قد أعضل بي أهل العراق , لا يرضون عن والٍ , ولا يرضى عنهم والٍ , وقال أوس بن حجر. (وليس أخُوكَ الدَّائِمُ العَهْدِ بالَّذِي ... يذُمُّك إن ولَّى وَيُرْضِيك مُقبِلاً) (ولكنه النَّائي إذا كُنتَ آمِناً ... وصاحِبُكَ الأدْنَى إذا الأمْرُ أعْضَلاَ) فنهى الله عز وجل أولياء المرأة عن عضلها ومنعها من نكاح مَنْ رضيته من الأزواج. وفي قوله عز وجل: {إِذَا تَرَاضَوا بَينَهُم بِالْمَعْرُوفِ} تأويلان: أحدهما: إذا تراضى الزوجان. والثاني: إذا رضيت المرأة بالزوج الكافي. قال الشافعي: وهذا بيّن في كتاب الله تعالى يدل على أن ليس للمرأة أن تنكح بغير وليّ. واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنها نزلت في معقل بن يسار زوّج أخته , ثم طلقها زوجها وتراضيا بعد العدة أن يتزوجها , فَعَضَلَهَا معقل , وهذا قول الحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني: أنها نزلت في جابر بن عبد الله مع بنت عم له , وقد طلقها زوجها , ثم خطبها فأبى أن يزوجه بها , وهذا قول السدي. والثالث: أنها نزلت عموماً في نهي كل ولي عن مضارة وليّته من النساء أن يعضلها عن النكاح , وهذا قول ابن عباس , والضحاك , والزهري.

233

{والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {وَالْوَلِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَيْنِ} والحول السنة , وفي أصله قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من قولهم: حال الشيء إذا انقلب عن الوقت الأول , ومنه استحالة الكلام لانقلابه عن الصواب. والثاني: أنه مأخوذ من التحول عن المكان , وهو الانتقال منه إلى المكان الأول. وإنما قال حولين كاملين , لأن العرب تقول: أقام فلان بمكان كذا حولين وإنما أقام حولاً وبعض آخر , وأقام يومين وإنما أقام يوماً وبعض آخر , قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيهِ} [البقرة: 203] ومعلوم أن التعجل في يوم وبعض يوم. واختلف أهل التفسير فيما دلت عليه هذه الآية من رضاع حولين كاملين , على تأويلين:

أحدهما: أن ذلك في التي تضع لستة أشهر فإن وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرين شهراً , استكمالاً لثلاثين شهراً , لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وهذا قول ابن عباس. والثاني: أن ذلك أمر برضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه أن يرضع حولين كاملين , وهذا قول عطاء والثوري. ثم قال تعالى: {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يريد بالمولود له الأب عليه في ولده للمرضعة له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وفيه قولان: أحدهما: أن ذلك في الأم المطلقة إذا أرضعت ولدها فلها رزقها من الغذاء , وكسوتها من اللباس. ومعنى بالمعروف أجرة المثل , وهذا قول الضحاك. والثاني: أنه يعني به الأم ذات النكاح , لها نفقتها وكسوتها بالمعروف في مثلها , على مثله من يسار , وإعسار. ثم قال تعالى: {لاَ تُضَار وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أي لا تمتنع الأم من إرضاعه إضراراً بالأب , وهو قول جمهور المفسرين. وقال عكرمة: هي الظئر المرضعة دون الأم. ثم قال تعالى: {وَلاَ مَولُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} وهو الأب في قول جميعهم , لا ينزع الولد من أمه إضراراً بها. ثم قال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الوارث هو المولود نفسه , وهذا قول قبيصة بن ذؤيب. والثاني: أنه الباقي من والدي بعد وفاة الآخر منهما , وهو قول سفيان. والثالث: أنه وارث الولد , وهذا قول الحسن , والسدي. والرابع: أنه وارث الولد , وفيه أربعة أقاويل: أحدها: وارثه من عصبته إذا كان أبوه ميتاً سواء كان عماً أو أخاً أو ابن أخ أو

ابن عم دون النساء من الورثة , وهذا قول عمر بن الخطاب , ومجاهد. والثاني: ورثته من الرجال والنساء , وهو قول قتادة. والثالث: هم مِنْ ورثته من كان منهم ذا رحم محرم , وهذا قول أبي حنيفة. والرابع: أنهم الأجداد ثم الأمهات , وهذا قول الشافعي. وفي قوله تعالى: {مثل ذلك} تأويلان: أحدهما: أن على الوارث مثل ما كان على والده من أجرة رضاعته ونفقته , وهو قول الحسن , وقتادة , وإبراهيم. والثاني: أن على الوارث مثل ذلك في ألاَّ تضار والدة بولدها , وهذا قول الضحاك , والزهري. ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِمَا} والفصال: الفصام , سمي فصالاً لانفصال المولود عن ثدي أمه , من قولهم قد فاصل فلان فلاناً إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. والتشاور: استخراج الرأي بالمشاورة. وفي زمان هذا الفِصال عن تراض قولان: أحدهما: أنه قبل الحولين إذا تراضى الوالدان بفطام المولود فيه جاز , وإن رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجز , وهذا قول مجاهد , وقتادة , والزهري , والسدي. والقول الثاني: أنه قبل الحولين وبعده , وهذا قول ابن عباس. ثم قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُم} يعني لأولادكم , فحذف اللام اكتفاء بأن الاسترضاع لا يكون للأولاد , وهذا عند امتناع الأم من إرضاعه , فلا جناح عليه أن يسترضع له غيرها ظِئْراً. {إذا سَلَّمْتُم مَّاءَاتَيتُم بِالْمَعْرُوفِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إذا سلمتم أيها الآباء إلى الأمهات أجور ما أرضعن قبل امتناعهن , وهذا قول مجاهد , والسدي. والثاني: إذا سلّمتم الأولاد عن مشورة أمهاتهم إلى من يتراضى به الوالدان في إرضاعه , وهذا قول قتادة , والزهري.

والثالث: إذا سلّمتم إلى المرضعة التي تستأجر أجرها بالمعروف , وهذا قول سفيان.

234

{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} يعني بالتربص زمان العِدّة في المتوَّفى زوجُها , وقيل في زيادة العشرة على الأشهر الأربعة ما قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية أن الله تعالى ينفخ الروح في العشرة , ثم ذكر العشر بالتأنيث تغليباً لليالي على الأيام إذا اجتمعت لأن ابتداء الشهور طلوع الهلال ودخول الليل , فكان تغليب الأوائل على الثواني أوْلى. واختلفوا في وجوب الإِحْدَادِ فيها على قولين: أحدهما: أن الإِحْدَاد فيها واجب , وهو قول ابن عباس , والزهري. والثاني: ليس بواجب , وهو قول الحسن. روى عبد الله ابن شداد بن الهاد , عن أسماء بنت عُمَيس قالت: لمّا أصيب جعفر بن أبي طالب , قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَسَلَّبي ثَلاَثاً ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ). والإِحْدَادُ: الامتناع من الزينة , والطيب , والترجل , والنُّقْلة.

ثم قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم فِيمَا فَعَلنَّ فِي أَنْفُسِهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فإن قيل: فما المعنى في رفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهن؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن الخطاب تَوَجّه إلى الرجال فيما يلزم النساء من أحكام العِدّة , فإذا بلغن أجلهن ارتفع الجناح عن الرجال في الإنكار عليهن وأخذهن بأحكام عددهن. والثاني: أنه لا جناح على الرجال في نكاحهن بعد انقضاء عِدَدِهن. ثم قوله تعالى: {فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} تأويلان: أحدهما: من طيب , وتزْين , ونقلة من مسكن , وهو قول أبي جعفر الطبري. والثاني: النكاح الحلال , وهو قول مجاهد. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَتَاعاً إِلَى الْحَولِ غَيرَ إِخْرَاج} [البقرة: 240] فإن قيل: فهي متقدمة والناسخ يجب أن يكون متأخراً , قيل هو في التنزيل متأخر , وفي التلاوة متقدم. فإن قيل: فَلِمَ قُدِّم في التلاوة مع تأخره في التنزيل؟ قيل: ليسبق القارىء إلى تلاوته ومعرفة حكمه حتى إن لم يقرأ ما بعده من المنسوخ أجزأه.

235

{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم}

قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} أما التعريض , فهو الإشارة بالكلام إلى ما ليس فيه ذكر النكاح , وأما الخِطبة بالكسر فهي طلب النكاح , وأما الخُطبة بالضَّمِ فهي كلام يتضمن وعْظاً أو بلاغاً. والتعريض المباح في العدة أن يقول لها: ما عليك أَيْمة ولعل الله أن يسوق إليك خيراً , أو يقول: رُبَّ رجلٍ يَرْغب فيك , غلى ما جرى مجرى هذه الألفاظ. ثم قال تعالى: {أو أكننتم في أنفسكم} يعني ما أسررتموه من عقدة النكاح. ثم قال تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} في السر خمسة تأويلات: أحدها: أنه الزنى , وهو قول الحسن , وأبي مجلز , والسدي , والضحاك وقتادة. والثاني: ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عِددهن ألا ينكحن غيركم , وهذا قول ابن عباس , وسعيد بن جبير , والشعبي. والثالث: ألا تنكحوهن في عِددهن سراً , وهو قول عبد الرحمن بن زيد. والرابع: أن يقول لها: لا تفوتني نفسك , وهو قول مجاهد. والخامس: الجماع , وهو قول الشافعي. ثم قال تعالى: {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} معناه: قولوا قولاً معروفاً , وهو التعريض. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحَ حَتَى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}. وفي الكلام حذف وتقديره: ولا تعزموا على عقدة النكاح , يعني التصريح بالخطبة. وفي {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قولان: أحدهما: معناه فرض الكتاب أجله , يريد انقضاء العدّة , فحذف الفرض اكتفاء بما دل عليه الكلام. والثاني: أنه أراد بالكتاب الفرض تشبيهاً بكتاب.

236

{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} قوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيكُم إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وقرأ حمزة والكسائي: {تُمَاسُّوهُنَّ}. {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. وفيه قولان: أحدهما: معناه ولم تفرضوا لهن فريضة. والثاني: أن في الكلام حذفاً وتقديره: فرضتم أو لم تفرضوا لهن فريضة. والفريضة: الصدق وسمي فريضة لأنه قد أوجبه لها , وأصل الفرض: الواجب , كما قال الشاعر: (كانت فريضة ما أتيت كما ... كان الزِّناءُ فَريضةَ الرجْمِ) وكما يقال: فرض السلطان لفلان في الفيء , يعني أوجب له ذلك. ثم قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسر قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِر قَدَرُهُ} أي أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على حسب أحوالكم في الغنى والإقتار. واختلف في قدر المتعة على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المتعة الخادم , ودون ذلك الوَرِق , ودون ذلك الكسوة , وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه قدر نصف صداق مثلها , وهو قول أبي حنيفة. والثالث: أنه مُقَدَّر باجتهاد الحاكم , وهو قول الشافعي. ثم قال تعالى: {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقَّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} واختلفوا في وجوبها على أربعة أقاويل: أحدها: أنها واجبة لكل مطلقة , وهو قول الحسن , وأبي العالية.

والثاني: أنها واجبة لكل مطلقة إلا غير المدخول بها , فلا متعة لها , وهو قول ابن عمر , وسعيد بن المسيب. والثالث: أنها واجبة لغير المدخول بها إذا لم يُسمّ لها صداق , وهو قول الشافعي. والرابع: أنها غير واجبة , وإنما الأمر بها ندب وإرشاد , وهو قول شريح , والحكم.

237

{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وهو أول الطلاقين لمن كان قبل الدخول كارهاً , لرواية سعيد , عن قتادة , عن شهر بن حوشب , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُحِبُّ الذوَّاقِينَ وَلا الذَّوَّاقَاتِ). يعني الفراق بعد الذوق. ثم قال تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُم لَهُنَّ فَرِيضَةً} يعني صداقاً {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم} فيه قولان: أحدهما: معناه فنصف ما فرضتم لهن ليس عليكم غيره لهن , {إلاَّ أَن يَعْفُونَ} يعني به عفو الزوجة , ليكون عفوها أدعى إلى خِطْبَتِها , ويرغّب الأزواج فيها.

ثم قال تعالى: {أَو يَعفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , وطاووس , والحسن , وعكرمة , والسدي. الثاني: هو الزوج , وبه قال علي , وشريح , وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم , ومجاهد , وأبو حذيفة. والثالث: هو أبو بكر , والسيد في أمته , وهو قول مالك. ثم قال تعالى: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وفي المقصود بهذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه خطاب للزوج وحده , وهو قول الشعبي. والثاني: أنه خطاب للزوج والزوجة , وهو قول ابن عباس. وفي قوله: {أَقْرَبُ لِلتَّقوَى} تأويلان: أحدهما: أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظُلْمَ صاحبه. والثاني: أقرب إلى اتقاء معاصي الله.

238

{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} قوله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} وفي المحافظة عليها قولان: أحدهما: ذكرها. والثاني: تعجيلها. ثم قال تعالى: {وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} وإنما خص الوسطى بالذكر وإن دخلت في جملة الصلوات لاختصاصها بالفضل , وفيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها صلاة العصر , وهو قول عليّ , وأبي هريرة , وأبي سعيد

الخدري , وأبي أيوب , وعائشة , وأم سلمة , وحفصة , وأم حبيبة. روى عمرو بن رافع , عن نافع , عن ابن عمر , عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغتَ مواقيت الصلاة فأخبرني , حتى أخبرك بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما أخبرها قالت: أكتب , فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَهِيَ صَلاَةُ الْعَصْرِ). وروى محمد بن سيرين , عن عبيدة السلماني , عن عليّ رضي الله عنه قال: لم يُصَلِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلا بعدما غربت الشمس فقال: (مَا لَهُم مَلأَ اللهُ قُلُوبَهُم وَقُبُورَهُم نَاراً شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ). وروى التيمي , عن أبي صالح , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصَّلاَةُ الوُسْطَى صَلاَةُ الْعَصْرِ). والقول الثاني: أنها صلاة الظهر , وهو قول زيد بن ثابت , وابن عمر. قال ابن عمر: هي التي توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة.

وروى ابن الزبير عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة , ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها , قال فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى} وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين. والقول الثالث: أنها صلاة المغرب , وهو قول قبيصة بن ذؤيب لأنها ليست بأقلها ولا بأكثرها ولا تقصر في السفر , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها. والقول الرابع: أنها صلاة الصبح , وهو قول ابن عباس , وأبي موسى الأشعري , وجابر بن عبد الله , قال ابن عباس يصليها بين سواد الليل وبياض النهار , تعلقاً بقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ولا صلاة مفروضة يقنت فيها إلا الصبح , ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار. والقول الخامس: أنها إحدى الصلوات الخمس ولا تعرف بعينها , ليكون أبعث لهم على المحافظة على جميعها , وهذا قول نافع , وابن المسيب , والربيع ابن خثيم. وفيها قول سادس: أن الصلاة الوسطى صلاة الجمعة خاصة. وفيها قول سابع: أن الصلاة الوسطى صلاة الجماعة من جميع الصلوات. وفي تسميتها بالوسطى ثلاثة أوجه: أحدها: لأنها أوسط الصلوات الخمس محلاً , لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار. والثاني: لأنها أوسط الصلاة عدداً , لأن أكثرهن أربع وأقلهن ركعتان. والثالث: لأنها أفضل الصلوات ووسط الشيء ووسطاه أفضله , وتكون الوُسْطَى بمعنى الفُضْلَى. ثم قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وفيه ستة تأويلات:

أحدها: يعني طائعين , قاله ابن عباس , والضحاك , والشعبي , وسعيد بن جبير , والحسن , وعطاء. والثاني: ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم , وهو قول ابن مسعود , وزيد بن أرقم , والسدي , وابن زيد. والثالث: خاشعين , نهيأ عن العبث والتفلت , وهو قول مجاهد , والربيع بن أنس. والرابع: داعين , وهو مروي عن ابن عباس. والخامس: طول القيام في الصلاة , وهو قول ابن عمر. والسادس: ... . وهو مروي عن ابن عمر أيضا. واختلف في أصل القنوت , على ثلاثة أوجه: أحدها: أن أصله الدوام على أمر واحد. والثاني: أصله الطاعة. والثالث: أصله الدعاء. قوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُم فَرِجَالاً أَو رُكْبَاناً} الرجال جمع راجل , والركبان جمع راكب , مثل قائم وقيام. يعني فإن خفتم من عدوّكم , فصلوا على أرجلكم أو ركائبكم , وقوفاً ومشاة , إلى القبلة وغير القبلة , مومئاً أو غير مومىء , على حسب قدرته. واختلف في قدر صلاته , فذهب الجمهور إلى أنها على عددها تُصَلَّى ركعتين , وقال الحسن: تُصَلَّى ركعة واحدة إذا كان خائفاً. واختلفوا في وجوب الإِعادة عليه بعد أمنه , فذهب أهل الحجاز إلى سقوط الإِعادة عنه لعذره. وذهب أهل العراق إلى وجوب الإِعادة عليه لأن مشيه فيها عمل ليس منها. ثم قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} وفيه تأويلان: أحدهما: معناه فإذا أمنتم فصلّوا كما علّمكم , وهو قول ابن زيد.

والثاني: يريد فاذكروه بالثناء عليه والحمد له , كما علمكم من أمر دينكم ما لم تكونوا تعلمون.

240

{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم} الآية. أما الوصية فقد كانت بدل الميراث , ثم نسخت بآية المواريث , وأما الحَوْل فقد كانت عِدّة المتوفى عنها زوجها , ونسخت بأربعة أشهر وعشر. قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ... . . والثاني: أنها لكل مطلقة , وهذا قول سعيد بن جبير وأحد قولي الشافعي. وقيل إن هذه الآية نزلت على سبب وهو أن الله عز وجل لمّا قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} فقال رجل: إنْ أحسنتُ فعلت , وإن لم أرد ذلك لم أفعل , فقال الله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِين} , وهذا قول ابن زيد , وإنما خص المتقين بالذكر - وإن كان عاماً - تشريفاً لهم.

243

{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر

الناس لا يشكرون وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ} يعني ألم تعلم. {وَهُمْ أُلُوفٌ} فيه قولان: أحدهما: يعني مُؤْتَلِفِي القلوب وهو قول ابن زياد. والثاني: يعني ألوفاً في العدد. واختلف قائلو هذا في عددهم على أربعة أقاويل: أحدها: كانوا أربعة آلاف , رواه سعيد بن جبير , عن ابن عباس. والثاني: كانوا ثمانية آلاف. والثالث: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً , وهو قول السدي. والرابع: كانوا أربعين ألفاً , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً , والألوف تستعمل فيما زاد على عشرة آلاف. ثم قال تعالى: {حَذَرَ الْمَوتِ} وفيه قولان: أحدهما: أنهم فرّوا من الطاعون , وهذا قول الحسن , ورَوَى سعيد بن جبير قال: كانوا أربعة آلاف , خرجوا فراراً من الطاعون , وقالوا نأتي أرضاً ليس بها موت , فخرجوا , حتَّى إذا كانوا بأرض كذا , قال الله لهم: موتوا فماتوا , فمر عليهم نبي , فدعا ربه أن يحييهم , فأحياهم الله. القول الثاني: أنهم فروا من الجهاد , وهذا قول عكرمة والضحاك. {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} فيه قولان: أحدهما: يعني فأماتهم الله , كما يقال: قالت السماء فمطرت , لأن القول مقدمة الأفعال , فعبر به عنها. والثاني: أنه تعالى قال قولاً سمعته الملائكة.

{ثُمَّ أَحْيَاهُمُ} إنما فعل ذلك معجزة لنبي من أنبيائه كان اسمه شمعون من أنبياء بني إسرائيل , وأن مدة موتهم إلى أن أحياهم الله سبعة أيام. قال ابن عباس , وابن جريج: رائحة الموت توجد في ولد ذلك السبط من اليهود إلى يوم القيامة. قوله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهُ قَرْضاً حَسَناً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الجهاد , وهو قول ابن زيد. والثاني: أبواب البر , وهو قول الحسن , ومنه قول الشاعر: (وإذا جُوزِيتَ قَرضاً فاجْزِه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل) قال الحسن: وقد جهلت اليهود لما نزلت هذه الآية فقالوا: إن الله يستقرض منا , فنحن أغنياء , وهو فقير , فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنحَنْ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]. قوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} فيه قولان: أحدهما: سبعمائة ضعف , وهو قول ابن زيد. والثاني: لا يعلمه أحد إلا الله , وهو قول السدي. {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني في الرزق , وهو قول الحسن وابن زيد. والثاني: يقبض الصدقات ويبسط الجزاء , وهو قول الزجاج.

246

{ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا

من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين} قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ} الملأ: الجماعة. {مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِّيٍ لَهُم} اختلف أهل التأويل فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه سمويل , وهو قول وهب بن منبه. والثاني: يوشع بن نون , وهو قول قتادة. والثالث: شمعون , سمّتْه أُمّه بذلك لأن الله سمع دعاءها فيه , وهو قول السدي. {ابْعَثْ لَنَا مَلَكاً نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سبب سؤالهم لذلك قولان: أحدهما: أنهم سألوا ذلك لقتال العمالقة , وهو قول السدي. والثاني: أن الجبابرة الذين كانوا في زمانهم استزلوهم , فسألوا قتالهم , وهو قول وهب والربيع.

247

{وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُم إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلِكاً} إلى قوله: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} قال وهب , والسدي: إنما أنكروا أن يكون ملكاً عليهم , لأنه لم يكن من سبط النبوة , ولا من سبط المملكة , بل كان من أخمل سبط في بني إسرائيل.

{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} يعني زيادة في العلم وعظماً في الجسم. واختلفوا هل كان ذلك فيه قبل الملك؟ فقال وهب بن منبه , والسدي: كان له ذلك قبل الملك , وقال ابن زيد: زيادة ذلك بعد الملك. {واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وفي واسع ثلاثة أقاويل: أحدها: واسع الفضل , فحذف ذكر الفضل اكتفاء بدليل اللفظ , كما يقال فلان كبير , بمعنى كبير القَدْر. الثاني: أنه بمعنى مُوسِع النعمة على مَنْ يشاء من خلقه. والثالث: أنه بمعنى ذو سعة.

248

{وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} قوله عز وجل: {وَقَالَ لَهُم نَبِيُّهُم: إِنَّءَايَةَ مُلْكِهِ} أي علامة ملكه {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} قال وهب ابن منبه: كان قدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين. {فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَّبِّكُم} وفي السكينة ستة تأويلات: أحدها: ريح هفَافة لها وجه كوجه الإِنسان , وهذا قول عليّ عليه السلام.

والثاني: أنها طست من ذهبٍ من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء , وهذا قول ابن عباس والسدي. والثالث: أنها روح من الله تعالى يتكلم , وهذا قول وهب بن منبه. والرابع: أنها ما يعرف من الآيات فيسكنون إليها , وهذا قول عطاء بن أبي رباح. والخامس: أنها الرحمة , وهو قول الربيع ابن أنس. والسادس: أنها الوقار , وهو قول قتادة. ثم قال تعالى: {وَبَقِيِّةٌ مِمَّا تَرَكَءَالُ مُوسَى وءَالُ هَارُونَ} وفيها أربعة تأويلات: أحدها: أن البقية عصا موسى ورُضاض الألواح , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنها العلم والتوراة , وهو قول عطاء. والثالث: أنها الجهاد في سبيل الله , وهو قول الضحاك. والرابع: أنها التوراة وشيء من ثياب موسى , وهو قول الحسن. {تَحْمِلُهُ الْمْلاَئِكَةُ} قال الحسن: تحمله الملائكة بين السماء والأرض , ترونه عياناً , ويقولون: إن آدم نزل بالتابوت , وبالركن. واختلفوا أين كان قبل أن يرد إليهم , فقال ابن عباس , ووهب كان في أيدي العمالقة , غلبوا عليه بني إسرائيل , وقال قتادة كان في بريّة التيه , خَلَّفَه هناك يوشع بن نون , قال أبو جعفر الطبري: وبلغني أن التابوت وعصا موسى وبحيرة الطبرية , وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.

249

{فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه

قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} قوله تعالى: {فَلمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} وهو جمع جند , والأجناد للقليل , وقيل: إنهم كانوا ثمانين ألف مقاتل. {قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهْرٍ} اختلفوا في النهر , فَحُكِيَ عن ابن عباس والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين , وقيل إنه نهر فلسطين , قال وهب بن منبه: السبب الذي ابتلوا لأجله بالنهر , شِكَايَتُهم قِلةَ الماء وخوف العطش. {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيسَ مِنِّي} أي ليس من أهل ولايتي. {ومَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} قرأ نافع , وابن كثير , وأبو عمرو بالفتح , وقرأ الباقون (غرفة) بالضم , والفرق بينهما أن الغرفة بالضم اسم للماء المشروب , والغرفة بالفتح اسم للفعل. {فَشَرِبُوا مِنهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنهُم} قال عكرمة: جاز معه النهر أربعة آلاف , ونافق ستة وسبعون ألفاً , فكان داود ممن خلص لله تعالى. قال ابن عباس: إن من استكثر منه عَطِش , ومن اغترف غرفة منه رُوِيَ. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَءَامَنُوا مَعَهُ} قيل: كان المؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً عدة أهل بدر. واختلفوا , هل تجاوزه معهم كافر أم لا؟ فَحُكِيَ عن البراء , والحسن , وقتادة: أنه ما تجاوزه إلا مؤمن , وقال ابن عباس , والسدي: تجاوزه الكافرون , إلا أنهم انخذلوا عن المؤمنين. {قَالُوا: لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} اختلفوا في تأويل ذلك على قولين: أحدهما: أنه قال ذلك مَنْ قلّت بصيرته من المؤمنين , وهو قول الحسن , وقتادة , وابن زيد. والثاني: أنهم أهل الكفر الذين انخذلوا , وهو قول ابن عباس , والسدي ,

قال عكرمة: فنافق الأربعة الآلاف إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر , وداود فيهم. {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ اللهِ} وهم المؤمنون الباقون من الأربعة الآلاف. وفي الظن ها هنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين , ومعناه الذين يستيقنون أنهم ملاقوا الله كما قال دريد بن الصُّمّة: (فقلت لهم ظُنّوا بِأَلْفَيْ مُدَجج ... سَراتُهُمُ في الفارسيّ المسَرّدِ) أي تيقنوا. والثاني: بمعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في الوقعة. {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} والفئة: الفرقة {بِإِذْنِ اللهِ} قال الحسن: بنصر الله , وذلك لأن الله إذا أذن في القتال نصر فيه على الوجه الذي وقع الإِذن فيه. {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} يعني بالنصرة والمعونة , وهذا تفسير الآية عند جمهور المفسرين. وذكر بعض من يتعاطى غوامض المعاني , أن هذه الآية مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله للدنيا يشبهها بالنهر , والشارب منه بالمائل إليها والمستكثر منها , والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها , والمغترف منه بيده بالآخذ منها قدر حاجته , وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة.

250

{ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه

مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ} في الهزيمة قولان: أحدهما: أنها ليست من فعلهم وإنما أضيفت إليهم مجازاً. والثاني: أنهم لما ألجئوا إليها صارواْ سبباً لها , فأضيفت إليهم لمكان الإلجاء. ويحتمل قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} وجهين: أحدهما: بأمر الله لهم بقتالهم. الثاني: بمعونة الله لهم على قتالهم. {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} حكي أن جالوت خرج من صفوف عسكره يطلب البِراز؟ فلم يخرج إليه أحد , فنادى طالوت في عسكره: مَنْ قتل جالوت فلهُ شطر مُلكي وأزوّجه ابنتي , فجاء داود وقد أخذ ثلاثة أحجار , وكان قصيراً يرعى الغنم , وقد ألقى الله في نفسه أنه سيقتل جالوت , فقال لطالوت: أنا أقتل جالوت , فازدراه طالوت حين رآه , وقال له: هل جربت نفسك بشيء؟ قال نعم , قال: بماذا؟ قال: وقع ذئب في غنمي فضربته , ثم أخذت رأسه فقطعته في جسمه , فقال طالوت: الذئب ضعيف , فهل جربت نفسك في غيره؟ قال: نعم , دخل الأسد في غنمي , فضربته ثم أخذت بِلَحْيَيْه فشققتها , أفترى هذا أشد من الأسد , قال: لا , وكان عند طالوت درع سابغة لا تستوي إلا على من يقتل جالوت , فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت , وسار إلى جالوت فرماه بحجر فوقع بين عينيه وخرج من قفاه , فأصاب جماعة من عسكره فقتلهم وانهزم القوم عن آخرهم , وكانوا على ما حكاه عكرمة تسعين ألفاً. واختلفواْ , هل كان داود عند قتله جالوت نبياً؟ ذهب بعضهم أنه كان نبياً , لأن هذا الفعل الخارج عن العادة , لا يكون إلا من نبي , وقال الحسن: لم يكن نبياً , لأنه لا يجوز أن يُوَلي مَنْ ليس بنبي على نبي. قال ابن السائب وإنما كان

راعياً فعلى هذا يكون ذلك من توطئة لنبوته من بعد. ثم إن طالوت ندم على ما بذله لداود من مشاطرته ملكه وتزويجه ابنته , واختلفوا هل كان ندمه قبل تزويجه ومشاطرته , أم بعد , على قولين: أحدهما: أن طالوت وَفَّى بشرطه , وزوج داود بإبنته , وخلطه في ملكه بنفسه ثم حسده , فندم , وأراد قتله , فعلمت بنته بأنه يريد قتل زوجها , وكانت من أعقل النساء , فنصبت له زِق خمر بالمسك , وألقت عليه ليلاً ثياب داود , فأقبل طالوت , وقال لها: أين زوجك؟ فأشارت إلى الزق , فضربه بالسيف , فانفجر منه الخمر وسطع ريح المسك , فقال يرحمك الله يا داود طبت حياً وميتاً , ثم أدركته الندامة , فجعل ينوح عليه ويبكي , فلما نظرت الجارية إلى جَزَعِ أبيها , أخبرته الخبر , ففرح , وقاسم داود على شطر ملكه , وهذا قول الضحاك , فعلى هذا يكون طالوت على طاعته حين موته , لتوبته من معصيته. والقول الثاني: أنه ندم قبل تزويجه على شرطه وبذله , وعرّض داود للقتل , وقال له إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق أمثالهن , وأنت رجل جريء , فاجعل صداقها قتل ثلاثمائة من أعدائنا , وكان يرجو بذلك أن يقتل , فغزا داود وأسر ثلاثمائة , فلم يجد طالوت بداً من تزويجه , فزوجه بها , وزاد ندامة فأراد قتله , وكان يدس عليه حتى مات , وهذا قول وهب بن منبه , فعلى هذا مات طالوت على معصيته لأنه لم يتب من ذنبه. وروى مكحول , عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ المُلُوكَ قَدْ قَطَعَ اللهُ أَرْحَامَهُم فَلاَ يَتَوَاصَلُونَ حُبَّاً لِلْمُلْك حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُم لَيَقْتُلَ الأَبَ وَالإِبْنَ وَالأَخَ وَالعَمَّ , إِلاَّ أَهْلُ التَّقْوَى وَقَلِيلٌ مَّا هُم , وَلَزوَالُ جَبَلٍ عَن مَّوضِعِهِ أَهْوَنُ مِنْ زَوَالِ مُلْكِ لَمْ يَنْقَضِ). {وَءَاتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} يعني داود , يريد بالملك السلطان وبالحكمة النبوة وكان ذلك عند موت طالوت بعد سبع سنين من قتل جالوت على ما حكاه ابن السائب.

ويحتمل وجهاً ثانياً: أن الملك الانقياد إلى طاعته , والحكمة: العدل في سيرته ويكون ذلك بعد موت طالوت عند تفرده بأمور بني إسرائيل. {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ} فيه وجهان: أحدهما: صنعة الدروع والتقدير في السرد. والثاني: كلام الطير وحكمة الزبور. ويحتمل ثالثاً: أنه فعل الطاعات والأمر بها , واجتناب المعاصي والنهي عنها , فيكون على الوجه الأول {مِمَّا يَشَاءُ} داود , وعلى الثاني: {مِمَّا يَشَاءُ} الله , وعلى الثالث {مِمَّا يَشَاءُ} الله ويشاء داود. {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرضُ}. في الدفع قولان: أحدهما: أن الله يدفع الهلاك عن البر بالفاجر , قاله عليّ كرم الله وجهه. والثاني: يدفع بالمجاهدين عن القاعدين قاله ابن عباس. وقوله تعالى: {لَّفَسَدَتِ الأرْضُ} فيه وجهان: أحدهما: لفسد أهل الأرض. والثاني: لعم الفساد في الأرض. وفي هذا الفساد وجهان: أحدهما: الكفر. والثاني: القتل.

253

{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا

فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون} {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فيه وجهان: أحدهما: في الآخرة , لتفاضلهم في الأعمال , وتحمل الأثقال. والثاني: في الدنيا بأن جعل بعضهم خليلاً , وبعضهم كليماً , وبعضهم مَلِكاً , وسَخَّر لبعضهم الريح والشياطين , وأحيا ببعضهم الموتى , وأبرأ الأكمه , والأبرص. ويحتمل وجهاً ثالثاً: بالشرائع , فمنهم من شرع , ومنهم من لم يشرع. {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن أوحى إلى بعضهم في منامه , وأرسل إلى بعضهم الملائكة في يقظته. والثاني: أن بعث بعضهم إلى قومه , وبعث بعضهم إلى كافة الناس. {وَءَاتَينَا عيسَى ابْنَ مَرْيَم الْبَيِّنَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: الحُجَجُ الواضحة , والبراهين القاهرة. والثاني: أن خلقه من ذكر. {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} فيه وجهان: أحدهما: بجبريل. والثاني: بأن نفخ فيه من رُوحه. {وَلَو شَآءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} فيه وجهان: أحدهما: ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة. والثاني: ولو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان , ولما حصل فهيم خيار.

255

{الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم} قوله تعالى: {اللهُ لآَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ} الآية. مُخْرَجة مخرج النفي أن يصح إله سوى الله , وحقيقته إثبات إله واحد وهو الله , وتقديره: الله الإله دون غيره. {الْحَيُّ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه سمى نفسه حياً لصَرْفِه الأمور مصارِفها , وتقدير الأشياء مقاديرها , فهو حي بالتقدير لا بحياة. والثاني: أنه حي بحياة هي له صفة. والثالث: أنه اسم من أسماء الله تَسَمَّى به , فقلناه تسليماً لأمره. والرابع: أن المراد بالحي الباقي , قاله السدي , ومنه قول لبيد: (إذا ما تَرَيَنِّي اليومَ أصْبَحْتُ سَالِماً ... فَلَسْتُ بِأحْيَا مِن كِلابٍ وَجَعْفَرِ) {الْقَيُّومُ} قرأ عمر بن الخطاب القيام. وفيه ستة تأويلات: أحدها: القائم بتدبير خلقه , قاله قتادة. والثاني: يعني القائم على كل نفس بما كسبت , حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم به , لا يخفى عليه شيء منه , قاله الحسن. والثالث: معنى القائم الوجود , وهو قول سعيد بن جبير. والرابع: أنه الذي لا يزول ولا يحول , قاله ابن عباس. والخامس: أنه العالم بالأمور , من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب , أي هو عالم به.

والسادس: أنه اسم من أسماء الله , مأخوذ من الاستقامة , قال أمية بن أبي الصلت: (لم تُخلَق السماءُ والنجوم ... والشمسُ معها قمر يقوم) (قدّرهَا المهيمن القيوم ... والحشر والجنة والحميم) 89 (إلاّ لأمرٍ شأنه عظيم} 9 {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السِّنةُ: النعاس في قول الجميع , والنعاس ما كان في الرأس , فإذا صار في القلب صار نوماً , وفرَّق المفضل بينهما , فقال: السِّنة في الرأس , والنعاس في العين , والنوم في القلب. وما عليه الجمهور من التسوية بين السِّنة والنعاس أشبه , قال عدي بن الرقاع: (وسْنَانُ أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم) {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: ما بين أيديهم: هو ما قبل خلقهم , وما خلفهم: هو ما بعد موتهم. والثاني: ما بين أيديهم: ما أظهروه , وما خلفهم: ما كتموه. {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} أي من معلومه إلا أن يطلعهم عليه ويعلمهم إياه. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} في الكرسي قولان: أحدهما: أنه من صفات الله تعالى. والثاني: أنه من أوصاف ملكوته. فإذا قيل إنه من صفات ففيه أربعة أقاويل:

أحدها: أنه علم الله , قاله ابن عباس. والثاني: أنه قدرة الله. والثالث: ملك الله. والرابع: تدبير الله. وإذا قيل إنه من أوصاف ملكوته ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العرش , قاله الحسن. والثاني: أنه سرير دون العرش. والثالث: هو كرسي تحت العرش , والعرش فوق الماء. وأصل الكرسي العلم , ومنه قيل للصحيفة فيها علم مكتوب: كراسة , قال أبو ذؤيب: (مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه ... ولا بكرسيّ عليم الغيب مخلوق) وقيل للعلماء: الكراسي , لأنهم المعتمد عليهم كما يقال لهم: أوتاد الأرض , لأنهم الذين بهم تصلح الأرض , قال الشاعر: (يحف بهم بيضُ الوجوه وعُلية ... كراسيُّ بالأحداث حين تنوبُ) أي علماء بحوادث الأمور , فدلت هذه الشواهد , على أن أصح

تأويلاته , ما قاله ابن عباس , أنه علم الله تعالى. وقرأ يعقوب الحضرمي: وُسْعُ كرسيِّه السمواتُ والأرضُ بتسكين السين من وسع وضم العين ورفع السموات والأرض على الابتداء والخبر , وفي تأويله وجهان: أحدهما: لا يثقله حفظهما في قول الجمهور. والثاني: لا يتعاظمه حفظهما , حكاه أبان بن تغلب. وأنشد: (ألا بكِّ سلمى اليوم بت جديدها ... وضَنّت وما كان النوال يؤودها) واختلفوا في الكناية بالهاء إلى ماذا تعود؟ على قولين: أحدهما: إلى اسم الله , وتقديره ولا يُثقل الله حفظ السموات والأرض. والثاني: تعود إلى الكرسي , وتقديره ولا يثقل الكرسيَّ حفظهما. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} في العلي تأويلان: أحدهما: العلي بالاقتدار ونفوذ السلطان. والثاني: العلي عن الأشباه والأمثال. وفي الفرق بين العلي والعالي , وجهان محتملان: أحدهما: أن العالي هو الموجود في محل العلو , والعلي هو مستحق العلو. والثاني: أن العالي هو الذي يجوز أن يُشَارَكَ في علوه , والعلي هو الذي لا يجوز أن يُشَارَكَ في علوه , فعلى هذا الوجه , يجوز أن نصف الله بالعليّ , ولا يجوز أن نصفه بالعالي , وعلى الوجه الأول يجوز أن نصفه بهما جميعاً.

256

{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن

بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} قوله تعالى: {لآَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن ذلك في أهل الكتاب , لا يُكْرَهُون على الدين إذا بذلوا الجزية , قاله قتادة. والثاني: أنها نزلت في الأنصار خاصة , كانت المرأة منهم تكون مِقْلاَةً لا يعيش لها ولد , فتجعل على نفسها , إن عاش لها ولد أن تهوّده , ترجو به طول العمر , وهذا قبل الإسلام , فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير , كان فيهم من أبناء الأنصار , فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية , قاله ابن عباس. والثالث: أنها منسوخة بفرض القتال , قاله ابن زيد. {فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ} فيه سبعة أقوال: أحدها: أنه الشيطان وهو قول عمر بن الخطاب. والثاني: أنه الساحر , وهو قول أبي العالية. والثالث: الكاهن , وهو قول سعيد بن جبير. والرابع: الأصنام. والخامس: مَرَدَة الإنس والجن. والسادس: أنه كل ذي طغيان طغى على الله , فيعبد من دونه , إما بقهر منه لمن عبده , أو بطاعة له , سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً , وهذا قول أبي جعفر الطبري. والسابع: أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء , كما قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].

واختلفوا في {الطَّاغُوتِ} على وجهين: أحدهما: أنه اسم أعجمي معرّب , يقع على الواحد والجماعة. والثاني: أنه اسم عربي مشتق من الطاغية , قاله ابن بحر. {وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فيها أربعة أوجه: أحدها: هي الإيمان الله , وهو قول مجاهد. والثاني: سنة الرسول. والثالث: التوفيق. والرابع: القرآن , قاله السدي. {لاَ انفِصَامَ لَهَا} فيه قولان: أحدهما: لا انقطاع لها , قاله السدي. والثاني: لا انكسار لها , وأصل الفصم: الصدع.

257

{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَءَامَنُوا} يحتمل وجهين: أحدهما: يتولاهم بالنصرة. والثاني: بالإرشاد. {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فيه وجهان: أحدهما: من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى , قاله قتادة. والثاني: يخرجهم من ظلمات العذاب في النار , إلى نور الثواب في الجنة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} يكون على وجهين: أحدهما: يخرجونهم من نور الهدى إلى ظلمات الضلالة.

والثاني: يخرجونهم من نور الثواب إلى ظلمة العذاب في النار. وعلى وجه ثالث لأصحاب الخواطر: أنهم يخرجونهم من نور الحق إلى ظلمات الهوى. فإن قيل: فكيف يخرجونهم من النور , وهم لم يدخلوا فيه؟ فعن ذلك جوابان: أحدهما: أنها نزلت في قوم مُرْتَدِّين , قاله مجاهد. والثاني: أنها نزلت فيمن لم يزل كافراً , وإنما قال ذلك لأنهم لو لم يفعلوا ذلك بهم لدخلوا فيه , فصاروا بما فعلوه بمنزلة من قد أخرجهم منه. وفيه وجه ثالث: أنهم كانوا على الفطرة عند أخذ الميثاق عليهم , فلما حَمَلُوهم على الكفر أخرجوهم من نور فطرتهم.

258

{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ} هو النمرود بن كنعان , وهو أول من تجبّر في الأرض وادّعى الربوبية. {أَنْءَاتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ} فيه قولان: أحدهما: هو النمرود لما أوتي الملك حاجَّ في الله تعالى , وهو قول الحسن. والثاني: هو إبراهيم لما آتاه الله الملك حاجّه النمرود , قاله أبو حذيفة. وفي المحاجّة وجهان محتملان: أحدهما: أنه معارضة الحجة بمثلها. والثاني: أنه الاعتراض على الحجة بما يبطلها.

{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ: أَنَا أُحْي وَأُمِيتُ} يريد أنه يحيي من وجب عليه القتل بالتخلية والاستبقاء , ويميت بأن يقتل من غير سبب يوجب القتل , فعارض اللفظ بمثله , وعدل عن اختلاف الفعلين في علتهما. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ} فإن قيل: فَلِمَ عَدَل إبراهيم عن نصرة حجته الأولى إلى غيرها , وهذا يضعف الحجة ولا يليق بالأنبياء؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنه قد ظهر من فساد معارضته ما لم يحتج معه إلى نصرة حجته ثم أتبع ذلك بغيره تأكيداً عليه في الحجة. والجواب الثاني: أنه لمّا كان في تلك الحجة إشغاب منه بما عارضها به من الشبهة أحب أنه يحتج عليه بما لا إشغاب فيه , قطعاً له واستظهاراً عليه قال: {فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ} فإن قيل فَهَلاَّ عارضه النمرود بأن قال: فليأت بها ربك من المغرب؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن الله خذله بالصرف عن هذه الشبهة. والجواب الثاني: أنه علم بما رأى معه من الآيات أنه يفعل فخاف أن يزداد فضيحة. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} فيه قولان: أحدهما: يعني تحيّر. والثاني: معناه انقطع , وهو قول أبي عبيدة. وقرئ: فَبَهَت الذي كفر بفتح الباء والهاء بمعنى أن الملك قد بهت إبراهيم بشبهته أي سارع بالبهتان. {واللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعينهم على نصرة الظلم. والثاني: لا يُخلِّصُهم من عقاب الظلم. ويحتمل الظلم هنا وجهين: أحدهما: أنه الكفر خاصة. والثاني: أنه التعدي من الحق إلى الباطل.

259

{أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} اختلفوا في الذي مر على قرية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عزيز , قاله قتادة. والثاني: أنه إرْمياء , وهو قول وهب. والثالث: أنه الخَضِر , وهو قول ابن إسحاق , واختلفوا في القرية على قولين: أحدهما: هي بيت المقدس لما خرّبه بُخْتنصَّر , وهذا قول وهب وقتادة. والربيع بن أنس. والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت , قاله ابن زيد. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} في الخاوية قولان: أحدهما: الخراب , وهو قول ابن عباس , والربيع , والضحاك. والثاني: الخالية. وأصل الخواء الخلو , يقال خوت الدار إذا خلت من أهلها , والخواء الجوع لخلو البطن من الغذاء {عَلَى عُرُوشِهَا}: على أبنيتها , والعرش: البناء. {قَالَ أَنَّى يَحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فيه وجهان: أحدهما: يعمرها بعد خرابها. والثاني: يعيد أهلها بعد هلاكهم.

{فَأَمَاتَهُ اللهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ: كَمْ لَبِثْتَ} أي مكث. {قَالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأن الله تعالى أماته في أول النهار , وأحياه بعد مائة عام آخر النهار , فقال: يوماً , ثم التفت فرأى بقية الشمس فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}. {قَالَ: بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لم يتغير , من الماء الآسن وهو غير المتغير , قال ابن زيد: والفرق بين الآسن والآجن أن الآجن المتغير الذي يمكن شربه والآسن المتغير الذي لا يمكن شربه. والثاني: معناه لم تأتِ عليه السنون فيصير متغيراً , قاله أبو عبيد. قيل: إن طعامه كان عصيراً وتيناً وعنباً , فوجد العصير حلواً , ووجد التين والعنب طرياً جنيّاً. فإن قيل: فكيف علم أنه مات مائة عام ولم يتغير فيها طعامه؟ قيل: إنه رجع إلى حاله فعلم بالآثار والأخبار , وأنه شاهد أولاد أولاده شيوخاً , وكان قد خلف آباءهم مُرْداً أنه مات مائة عام. وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أن عزيراً خرج من أهله وخلف امرأته حاملاً وله خمسون سنة , فأماته الله مائة عام , ثم بعثه فرجع إلى أهله , وهو ابن خمسين سنة , وله ولد هو ابن مائة سنة , فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة , وهو الذي جعله الله آية للناس. وفي قوله تعالى: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} قراءتان: إحداهما: ننشرُها بالراء المهملة , قرأ بذلك ابن كثير ونافع وأبو عمرو , ومعناه نحييها. والنشور: الحياة بعد الموت , مأخوذ من نشر الثوب , لأن الميت

كالمطوي , لأنه مقبوض عن التصرف بالموت , فإذا حَيِيَ وانبسط بالتصرف قيل: نُشِرَ وأُنشِر. والقراءة الثانية: قرأ بها الباقون ننشِزُها بالزاي المعجمة , يعني نرفع بعضها إلى بعض , وأصل النشوز الارتفاع , ومنه النشز اسم للموضع المرتفع من الأرض , ومنه نشوز المرأة لارتفاعها عن طاعة الزوج. وقيل إِنَّ الله أحيا عينيه وأعاد بصره قبل إحياء جسده , فكان يرى اجتماع عظامه واكتساءها لحماً , ورأى كيف أحيا الله حماره وجمع عظامه. واختلفوا في القائل له: كم لبثت على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ملك. والثاني: نبي. والثالث: أنه بعض المؤمنين المعمرين ممن شاهده عند موته وإحيائه.

260

{وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي الْمَوْتَى} اختلفوا لِمَ سأله عن ذلك؟ على قولين: أحدهما: أنه رأى جيفة تمزقها السباع فقال ذلك , وهذا قول الحسن , وقتادة , والضحاك. والثاني: لمنازعة النمرود له في الإحياء , قاله ابن إسحاق. ولأي الأمرين كان , فإنه أحب أن يعلم ذلك علم عيان بعد علم الاستدلال. ولذلك قال الله تعالى له: {أَوَلَمْ تُؤْمِن؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: يعني ليزداد يقيناً إلى يقينه , هكذا قال الحسن , وقتادة , وسعيد بن جبير , والربيع , ولا يجوز ليطمئن قلبي بالعلم بعد الشك , لأن الشك في ذلك كفر لا يجوز على نبي. والثاني: أراد ليطمئن قلبي أنك أجبت مسألتي , واتخذتني خليلاً كما وعدتني , وهذا قول ابن السائب. والثالث: أنه لم يرد رؤية القلب , وإنما أراد رؤية العين , قاله الأخفش. ونفر بعض من قال بغوامض المعاني من هذا الالتزام وقال: إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب بالإيمان , وهذا التأويل فاسد بما يعقبه من البيان. وليست الألف في قوله: {أَوَ لَمْ تُؤْمِن} ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب كقول جرير: (ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح) {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} فيها قولان: أحدهما: هن: الديك , والطاووس , والغراب , والحمام , قاله مجاهد. والثاني: أربعة من الشقانين , قاله ابن عباس. {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قرأت الجماعة بضم الصاد , وقرأ حمزة وحده بكسرها , واختلف في الضم والكسر على قولين: أحدهما: أن معناه متفق ولفظهما مختلف , فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أقاويل: أحدها: معناه انْتُفْهُنَّ بريشهن ولحومهن , قاله مجاهد. والثاني: قَطِّعْهُن , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , والحسن. قال الضحاك: هي بالنبطية صرتا , وهي التشقق.

والثالث: اضْمُمْهُن إليك , قاله عطاء , وابن زيد. والرابع: أَمِلْهُن إليك , والصور: الميل , ومنه قول الشاعر في وصف إبل: (تظَلُّ مُعقّلات السوق خرساً ... تصور أنوفها ريح الجنوب) والقول الثاني: أن معنى الضم والكسر مختلف , وفي اختلافهما قولان: أحدهما: قاله أبو عبيدة أن معناه بالضم: اجْمَعْهن , وبالكسر: قَطِّعْهُنّ. والثاني: قاله الكسائي ومعناه بالضم أَمِلْهُنّ , وبالكسر: أقْبِلْ بهن. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها كانت أربعة جبال , قاله ابن عباس , والحسن , وقتادة. والثاني: أنها كانت سبعة , قاله ابن جريج , والسدي. والثالث: كل جبل , قاله مجاهد. والرابع: أنه أراد جهات الدنيا الأربع , وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب , فمثّلها بالجبال , قاله ابن بحر. واختلفوا هل قطّع إبراهيم الطير أعضاء صرن به أمواتاً , أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه قطَّعَهُن أعضاء صرن به أمواتاً , ثم دعاهن فعدْن أحياء ليرى كيف يحيي الله الموتى كما سأل ربه , وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه فَرَّقَهُن أحياء , ثم دعاهن فأجبنه وعدن إليه , يستدل بعودهن إليه بالدعاء , على عَوْد الأموات بدعاء الله أحياءً , ولا يصح من إبراهيم أن يدعو أمواتاً له , قاله ابن بحر. والجزء من كل شيء هو بعضه سواءً كان منقسماً على صحة أو غير منقسم , والسهم هو المنقسم عليه جميعه على صحة. فإنْ قيل: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فعنه جوابان: أحدهما: أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف , وما سأله إبراهيم خاص يصح.

والثاني: أن الأحوال تختلف , فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة , وفي بعض وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. قال ابن عباس: أمر الله إبراهيم بهذا قبل أن يولد له , وقبل أن يُنَزِّلَ عليه الصُّحُف. وحُكِيَ: أن إبراهيم ذبح الأربعة من الطير , ودق أجسامهن في الهاون لا روحهن , وجعل المختلط من لحومهن عشرة أجزاء على عشرة جبال , ثم جعل مناقيرها بين أصابعه , ثم دعاهن فأتين سعياً , تطاير اللحم إلى اللحم , والجلد إلى الجلد , والريش إلى الريش , فذهب بعض من يتفقه من المفسرين إلى من وصّى بجزء من ماله لرجل أنها وصية بالعُشْر , لأن إبراهيم وضع أجزاء الطير على عشرة جبال.

261

{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني في الجهاد , قاله ابن زيد. والثاني: في أبواب البر كلها. {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِاْئَةُ حَبَّةٍ} ضرب الله ذلك مثلاً في أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف , وفي مضاعفة ذلك في غير ذلك من الطاعات قولان: أحدهما: أن الحسنة في غير ذلك بعشرة أمثالها , قاله ابن زيد. والثاني: يجوز مضاعفتها بسبعمائة ضعف , قاله الضحاك. {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} يحتمل أمرين: أحدهما: يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء. والثاني: يضاعف الزيادة على ذلك لمن يشاء.

{وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ} فيه قولان: أحدهما: واسع لا يَضِيق عن الزيادة , عليم بمن يستحقها , قاله ابن زيد. والثاني: واسع الرحمة لا يَضِيق عن المضاعفة , عليم بما كان من النفقة. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: واسع القدرة , عليم بالمصلحة.

262

{الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين} قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنِفقُونَ أَمْوَلَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّاً وَلآَ أَذىً} المَنّ في ذلك أن يقول: أحسنت إليك ونعّشتك , والأذى أن يقول: أنت أباداً فقير , ومن أبلاني بك , مما يؤذي قلب المُعْطَى. {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} يعني ما استحقوه فيما وعدهم به على نفقتهم. {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيه تأويلان: أحدهما: لا خوف عليهم في فوات الأجر. والثاني: لا خوف عليهم في أهوال الآخرة. {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يحزنون على ما أنفقوه. والثاني: لا يحزنون على ما خلفوه. وقيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما أنفقه على جيش العسرة في غزاة تبوك.

قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} يعني قولاً حسناً بدلاً من المن والأذى ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يدني إن أعطى. والثاني: يدعو إن منع. {وَمَغْفِرَةٌ} فيها أربعة تأويلات: أحدها: يعني العفو عن أذى السائل. والثاني: يعني بالمغفرة السلامة من المعصية. والثالث: أنه ترك الصدقة والمنع منها , قاله ابن بحر. والرابع: هو يستر عليه فقره ولا يفضحه به. {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً} يحتمل الأذى هنا وجهين: أحدهما: أنه المنّ. والثاني: أنه التعيير بالفقر. ويحتمل قوله: {خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً} وجهين: أحدهما: خير منها على العطاء. والثاني: خير منها عند الله. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المنّانُ بِمَا يُعْطِي لاَ يُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ القَيَامَةِ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِ وَلاَ يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} يريد إبطال الفضل دون الثواب. ويحتمل وجهاً ثانياً: إبطال موقعها في نفس المُعْطَى. {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الأَخِرِ} القاصد بنفقته

الرياء غير مُثَابٍ , لأنه لم يقصد وجه الله , فيستحق ثوابه , وخالف صاحب المَنِّ والأذى القاصِدَ وجه الله المستحق ثوابه , وإن كرر عطاءَه وأبطل فضله. ثم قال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الصفوان: جمع صفوانة , وفيه وجهان: أحدهما: أنه الحجر الأملس سُمِّيَ بذلك لصفائه. والثاني: أنه أَلْيَنُ مِنَ الحجارة , حكاه أبان بن تغلب. {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر العظيم القَطْرِ , العظيم الوَقْع. {فَتَرَكَهُ صَلْداً} الصلد من الحجارة ما صَلُبَ , ومن الأرض مَا لَمْ ينبت , تشبيهاً بالحجر الذي لا ينبت. {لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ} يعني مما أنفقوا , فعبَّر عن النفقة بالكسب , لأنهم قصدوا بها الكسب , فضرب هذا مثلاً للمُرَائِي في إبطال ثوابه , ولصاحب المَنِّ والأَذَى في إبطال فضله.

265

{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: في نُصرة أهل دينه من المجاهدين. والثاني: في معونة أهل طاعته من المسلمين. {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: تثبيتاً من أنفسهم بقوة اليقين , والنصرة في الدين , وهو معنى قول الشعبي , وابن زيد , والسدي.

والثاني: يتثبتون أين يضعون صدقاتهم , قاله الحسن , ومجاهد. والثالث: يعني احتساباً لأنفسهم عند الله , قاله ابن عباس , وقتادة. والرابع: توطيناً لأنفسهم على الثبوت على طاعة الله , قاله بعض المتكلمين. {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} في الربوة قولان: أحدهما: هي الموضع المرتفع من الأرض , وقيل المُسْتَوِي في ارتفاعه. والثاني: كل ما ارتفع عن مسيل الماء , قاله اليزيدي. {أَصَابَهَا وَابِلٌ} في الوابل وجهان: أحدهما: المطر الشديد. والثاني: الكثير , قال عدي بن زيد: (قليل لها مني وإن سخطت بأن ... أقول سقيت سقيت الوابل الغدقا) {فآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} وإنما خص الربوة لأن نبتها أحسن , وريعها أكثر , قال الأعشى: (ما روضة من رياض الحزن معيشة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل) والأُكُل , بالضم: الطعام لأن من شأنه أن يؤكل. ومعنى ضعفين: مثلين , لأن ضعف الشيء مثله زائداً عليه , وضعفاه: مثلاه زائداً عليه , وقيل ضعف الشيء مثلاه , والأول قول الجمهور. {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} الطل: الندى , وهو دون المطر , والعرب تقول: الطل أحد المطرين , وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعاً , وفيه وإن قل تماسكٌ ونَفْعٌ , فأراد بهذا ضرب المثل أن كثير البِر مثل زرع المطر كثير النفع , وقليل البِر مثل زرع الطل قليل النفع , ولا تدع قليل البر إذا لم تفعل كثيره , كما لا تدع زرع الطل إذا لم تقدر على زرع المطر.

266

{أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها

الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} وهي البستان. {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} لأنه من أنفس ما يكون فيها. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأْنْهَارُ} لأن أنفسها ما كان ماؤها جارياً. {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} لأن الكِبَر قد يُنسِي من سعى الشباب في كسبه , فكان أضعف أملاً وأعظم حسرة. {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} لأنه على الضعفاء أحَنّ , وإشفاقه عليهم أكثر. {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} وفي الإعصار قولان: أحدهما: أنه السَّمُوم الذي يقتل , حكاه السدي. والثاني: الإعصار ريح تهب من الأرض إلى السماء كالعمود تسميها العامة الزوبعة , قال الشاعر: ( ... ... ... ... ... ... ... ... إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً) وإنما قيل لها إعصار لأنها تَلْتَفُّ كالتفاف الثوب المعصور. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآْيَاتِ} يحتمل وجهين: أحدهما: يوضح لكم الدلائل. والثاني: يضرب لكم الأمثال. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تعتبرون , لأن المفكر معتبر. والثاني: تهتدون , لأن الهداية التَّفَكُّر. واختلفوا في هذا المثل الذي ضربه الله في الحسرة لسلب النعمة , من المقصود به؟ على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه مثل للمرائي في النفقة ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها , قاله السدي. والثاني: هو مثل للمفرِّط في طاعة الله لملاذّ الدنيا يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى , قاله مجاهد. والثالث: هو مثل للذي يختم عمله بفساد , وهو قول ابن عباس.

267

{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني به الذهب والفضة , وهو قول عليّ عليه السلام. والثاني: يعني التجارة , قاله مجاهد. والثالث: الحلال. والرابع: الجيد. {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} من الزرع والثمار. وفي الكسب وجهان محتملان: أحدهما: ما حدث من المال المستفاد. والثاني: ما استقر عليه المِلك من قديم وحادث. واختلفوا في هذه النفقة على قولين: أحدهما: هي الزكاة المفروضة قاله عبيدة السلماني.

والثاني: هي في التطوع , قاله بعض المتكلمين. {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} التيمم: التعمد , قال الخليل: تقول أَمَمْتُه إذا قصدت أَمَامَه , ويَمَّمْتُه إذا تعمدته من أي جهة كان , وقال غيره: هما سواء , والخبيث: الرديء من كل شيء , وفيه هنا قولان: أحدهما: أنهم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصدقة , فنزلت هذه الآية , وهو قول عليٍّ , والبراء بن عازب. والثاني: أن الخبيث هو الحرام , قاله ابن زيد. {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: إلا أن تتساهلوا , وهو قول البراء بن عازب. والثاني: إلا أن تحطوا في الثمن , قاله ابن عباس. والثالث: إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة قاله الزجاج. والرابع: إلا أن ترخصوا لأنفسكم فيه , قاله السدي , وقال الطِّرِمّاح: (لم يفتنا بالوِتر قوم وللضيْ ... م رجال يرضون بالإغماضِ) قوله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} وهو ما خوّف من الفقر إن أنفق أو تصدق. {وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالشح. والثاني: بالمعاصي. {وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: ... . لكم. والثاني: عفواً لكم. {وَفَضْلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: سعة الرزق.

والثاني: مضاعفة العذاب. {وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ لِلشَّيطَانِ لَمَّةً مِن ابن آدَم , وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً , فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ , وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ , فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ وَلْيَحْمِدِ اللهَ , وَمَنْ وَجَدَ الأخَرَ فَلْيَتَعَوَّذ بِاللهِ). ثم تلا هذه الآية. قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} في الحكمة سبعة تأويلات: أحدها: الفقه في القرآن , قاله ابن عباس. والثاني: العلم بالدين , قاله ابن زيد. والثالث: النبوّة. والرابع: الخشية , قاله الربيع. والخامس: الإصابة , قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسادس: الكتابة , قاله مجاهد.

والسابع: العقل , قاله زيد بن أسلم. ويحتمل ثامناً: أن تكون الحكمة هنا صلاح الدين وإصلاح الدنيا.

270

{وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} قوله عز وجل: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} يعني أنه ليس في إبدائها كراهية. {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه يعود إلى صدقة التطوع , يكون إخفاؤها أفضل , لأنه من الرياء أبعد , فأما الزكاة فإبداؤها أفضل , لأنه من التهمة أبعد , وهو قول ابن عباس , وسفيان. والثاني: أن إخفاء الصدقتين فرضاً ونفلاً أفضل , قاله يزيد بن أبي حبيب , والحسن , وقتادة. {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن (مِنْ) زائدة تقديرها: ويكفر عنكم سيئاتكم. والثاني: أنها ليست زائدة وإنما دخلت للتبعيض , لأنه إنما يكفر بالطاعة من غير التوبة الصغائر , وفي تكفيرها وجهان: أحدهما: يسترها عليهم. والثاني: يغفرها لهم.

272

{ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا

من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قوله عز وجل: {لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} قيل هم فقراء المهاجرين , وفي أحصروا أربعة أقاويل: أحدها: أنهم منعوا أنفسهم من التصرف للمعاش خوف العدو من الكفار , قاله قتادة , وابن زيد. والثاني: منعهم الكفار بالخوف منهم , قاله السدي. والثالث: منعهم الفقر من الجهاد. والرابع: منعهم التشاغل بالجهاد عن طلب المعاش. {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: يعني تصرفاً , قاله ابن زيد. والثاني: يعني تجارة , قاله قتادة , والسدي. {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} يعني من قلة خبرته بهم , ومن التعفف: يعني من التقنع والعفة والقناعة. {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} السمة: العلامة , وفي المارد بِهَا هُنَا قولان: أحدهما: الخشوع , قاله مجاهد. والثاني: الفقر , قاله السدي. {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} فيه وجهان: أحدهما: أن يسأل وله كفاية.

والثاني: أنه الاشتمال بالمسألة , ومنه اشتق اسم اللحاف. فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير إلحاف؟ قيل: لا؛ لأنهم كانوا أغنياء من التعفف , وإنما تقدير الكلام لا يسألون فيكون سؤالهم إلحافاً. قال ابن عباس في أهل الصُفَّة من المهاجرين: لم يكن لهم بالمدينة منازل ولا عشائر وكانوا نحو أربعمائة. قوله عز وجل: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} اختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في عليٍّ كرم الله وجهه , كانت معه أربعة دراهم فأنفقها على أهل الصفّة , أنفق في سواد الليل درهماً , وفي وضح النهار درهماً , وسراً درهماً , وعلانية درهماً , قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في النفقة على الخيل في سبيل الله لأنهم ينفقون بالليل والنهار سِرّاً وعلانية , قاله أبو ذر , والأوزاعي. والثالث: أنها نزلت في كل مَنْ أنفق ماله في طاعة الله. ويحتمل رابعاً: أنها خاصة في إباحة الارتفاق بالزروع والثمار , لأنه يرتفق بها كل مار في ليل أو نهار , في سر وعلانية , فكانت أعم لأنها تؤخذ عن الإرادة وتوافق قدر الحاجة.

275

{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} يعني يأخذون الربا فعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأخذ إنما يراد للأكل , والربا: هو الزيادة من قولهم: ربا السويق يربو إذا زاد , وهو الزيادة على مقدار الدَّيْنِ لمكان الأجل.

{لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} يعني من قبورهم يوم القيامة , وفيه قولان: أحدهما: كالسكران من الخمر يقطع ظهراً لبطن , ونسب إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره. والثاني: قاله ابن عباس , وابن جبير , ومجاهد , والحسن: لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ , يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس , يعني الجنون , فيكون ذلك في القيامة علامة لأكل الربا في الدنيا. واختلفوا في مس الجنون , هل هو بفعل الشيطان؟ فقال بعضهم: هذا من فعل الله بما يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه , ينسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله من إغوائه الذي يصرعه. وقال آخرون: بل هو من فعل الشيطان بتمكين الله له من ذلك في بعض الناس دون بعض , لأنه ظاهر القرآن وليس في العقل ما يمنعه. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} قيل إنه يعني ثقيفاً لأنهم كانوا أكثر العرب رباً , فلمّا نهوا عنه قالوا: كيف ننهى عن الربا وهو مثل البيع فحكى الله تعالى ذلك عنهم , ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع فقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وللشافعي في قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من العامِّ الذي يجري على عمومه في إباحة كل بيع وتحريم كل ربا إلا ما خصهما دليل من تحريم بعض البيع وإحلال بعض الربا , فعلى هذا اختلف في قوله , هل هو من العموم الذي أريد به العموم , أو من العموم الذي أريد به الخصوص على قولين: أحدهما: أنه عموم أريد به العموم وإن دخله دليل التخصيص. والثاني: أنه عموم أريد به الخصوص.

وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن العموم الذي أريد به العموم: أن يكون الباقي من العموم من بعد التخصيص أكثر من المخصوص , والعموم الذي أريد به الخصوص أن يكون الباقي منه بعد التخصيص أقل من المخصوص. والفرق الثاني: أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدِّم على اللفظ , وأن ما أريد به العموم متأخِر عن اللفظ ومقترن به , [هذا] أحد أقاويله: والقول الثاني: أنه المجمل الذي لا يمكن [أن] يستعمل في إحلال بيع أو تحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنّة الرسول , وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل. وهذا فرق ما بين العموم والمجمل , أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة ولا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان. فعلى هذا القول أنها مجملة اختلف في إجمالها , هل هو لتعارض فيها أو لمعارضة غيرها لها على وجهين: أحدهما: أنه لمَّا تعارض ما في الآية من إحلال البيع وتحريم الربا وهو بيع صارت بهذا التعارض مجملة وكان إجمالها منها. والثاني: أن إجمالها بغيرها لأن السنّة منعت من بيوع وأجازت بيوعاً فصارت بالسنة مجملة. وإذا صح إجمالها فقد اختلف فيه: هل هو إجمال في المعنى دون اللفظ , لأن لفظ البيع معلوم في اللغة وإنما الشرع أجمل المعنى والحكم حين أحل بيعاً وحرّم بيعاً. والوجه الثاني: أن الإجمال في لفظها ومعناها , لأنه لما عدل بالبيع عن إطلاقه على ما استقر عليه في الشرع فاللفظ والمعنى محتملان معاً , فهذا شرح القول الثاني. والقول الثالث: أنها داخلة في العموم والمجمل , فيكون عموماً دخله التخصيص , ومجملاً لحقه التفسير , لاحتمال عمومها في اللفظ وإجمالها في

المعنى , فيكون اللفظ عموماً دخله التخصيص , والمعنى مجملاً لحقه التفسير. والوجه الثاني: أن عمومها في أول الآية من قوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} , وإجمالها في آخرها من قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} , فيكون أولها عاماً دخله التخصيص , وآخرها مجملاً لحقه التفسير. والوجه الثالث: أن اللفظ كان مجملاً , فلما بَيَّنَهُ الرسول صار عاماً , فيكون داخلاً في المجمل قبل البيان , في العموم بعد البيان. ثم قال تعالى: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّه فَانتَهَى} في الموعظة وجهان: أحدهما: التحريم. والثاني: الوعيد. {فَلَهُ مَا سَلَفَ} قاله السدي: يعني ما أكل من الربا لا يلزمه رَدُّه. {وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: في المحاسبة والجزاء. والثاني: في العفو والعقوبة. وقيل فيه وجه ثالث: في العصمة والتوفيق. وقيل فيه وجه رابع: فأمره إلى الله والمستقل في تثبيته على التحريم أو انتقاله إلى الاستباحة.

276

{يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا} أي ينقصه شيئاً بعد شيء , مأخوذ من محاق الشهر لنقصان الهلال فيه , وفيه وجهان: أحدهما: يبطله يوم القيامة إذا تصدق به في الدنيا. والثاني: يرفع البركة منه في الدنيا مع تعذيبه عليه في الآخرة.

{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} فيه تأويلان: أحدهما: يثمر المال الذي خرجت منه الصدقة. والثاني: يضاعف أجر الصدقة ويزيدها , وتكون هذه الزيادة واجبة بالوعد لا بالعمل. {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} في الكَفَّار وجهان: أحدهما: الذي يستر نعم الله ويجحدها. والثاني: هو الذي يكثر فعل ما يكفر به. وفي الأثيم وجهان: أحدهما: أنه من بَّيت الإِثم. والثاني: الذي يكثر فعل ما يأثم به.

278

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يأ أيها الذين أمنوا بألسنتهم اتقوا الله بقلوبكم. والثاني: يأيها الذين أمنوا بقلوبهم اتقوا الله في أفعالكم. {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} فيمن نزلت هذه الآية قولان: أحدهما: أنها نزلت في ثقيف وكان بينهم وبين عامر وبني مخزوم , فتحاكموا فيه إلى عتاب بن أسيد بمكة وكان قاضياً عليها من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: دخلنا في الإسلام على أن ما كان لنا من الربا فهو باق , وما كان علينا فهو موضوع , فنزل ذلك فيهم وكتب به رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.

والثاني أنها نزلت في بقية من الربا كانت للعباس ومسعود وعبد ياليل وحبيب بن ربيعة عند بني المغيرة. قوله عز وجل: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} محمول على أن مَنْ أربى قبل إسلامه , وقبض بعضه في كُفْرِه وأسلم وقد بقي بعضه , فما قبضه قبل إسلامه معفو عنه لا يجب عليه رد , وما بقي منه بعد إسلامه , حرام عليه لا يجوز له أخذه , فأما المراباة بعد الإسلام فيجب رَدُّه فيما قبض وبقي , فيرد ما قبض ويسقط ما بقي , بخلاف المقبوض في الكفر , لأن الإسلام يجبُّ ما قبله. وفي قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قولان: أحدهما: يعني أن من كان مؤمنا فهذا حكمه. والثاني: معناه إذا كنتم مؤمنين. قوله عز وجل: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا} يعني ترك ما بقي من الربا. {فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر فآذنوا بالمد , بمعنى: فأعلِموا غيركم , وقرأ الباقون بالقَصْر بمعنى فاعلموا أنتم , وفيه وجهان: أحدهما: إن لم تنتهوا عن الربا أموت النبي بحربكم. والثاني: إن لم تنتهوا عنه فأنتم حرب الله ورسوله , يعني أعداءه. {وَإِن تُبْتُم فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} يعني التي دفعتم {لاَ تَظْلِمُونَ} بأن تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم , {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بأن تمنعوا رؤوس أموالكم. قوله عز وجل: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} قيل إن في قراءة أُبَيٍّ {ذَا عُسْرَةٍ} وهو جائز في العربية. وفيه قولان: أحدهما: أن الإِنظار بالعسرة واجب في دَيْن الربا خاصّة , قاله ابن عباس , وشريح. والثاني: أنه عام يجب إنظاره بالعسرة في كل دَيْن , لظاهر الآية , وهو قول

عطاء , والضحاك , وقيل إن الإِنظار بالعسرة في دَيْن الربا بالنص , وفي غيره من الديون بالقياس. وفي قوله: {إِلَى مَيْسَرَةٍ} قولان: أحدهما: مفعلة من اليسر , وهو أن يوسر , وهو قول الأكثرين. والثاني: إلى الموت , قاله إبراهيم النخعي. {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدّيْن خير لكم من أن تُنظروه , روى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا , فدعوا الربا والرُّبْية , وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها. قوله عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} أي اتقوا بالطاعة فيما أمرتم به من ترك الربا وما بقي منه. و {يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: يعني إلى جزاء الله. والثاني: إلى ملك الله. {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فيه تأويلان: أحدهما: جزاء ما كسبت من الأعمال. والثاني: ما كسبت من الثواب والعقاب. {وهم لا يظلمون} يعني بنقصان ما يستحقونه من الثواب , ولا بالزيادة على ما يستحقونه من العقاب.

روى ابن عباس أن آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية. قال ابن عباس: مكث بعدها سبع ليال.

282

{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} إلى آخر الآية. في {تداينتم} تأويلان: أحدهما: تجازيتم. والثاني: تعاملتم. وفي {فَاكْتُبُوهُ} قولان: أحدهما: أنه ندب , وهو قول أبي سعيد الخدري , والحسن , والشعبي.

والثاني: أنه فرض , قاله الربيع , وكعب. {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وعَدْل الكاتب ألاّ يزيد [فيه] إضراراً بمن هو عليه , ولا ينقص منه , إضراراً بمن هو له. {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} وفيه أربعة أقاويل: أحدهما: أنه فرض على الكفاية كالجهاد , قاله عامر. والثاني: أنه واجب عليه في حال فراغه , قاله الشعبي أيضاً. والثالث: أنه ندب , قاله مجاهد. والرابع: أن ذلك منسوخ بقوله تعالى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} , قاله الضحاك. {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يعني على الكاتب , ويقرُّ به عند الشاهد. {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لا ينقص منه شيئاً. {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه الجاهل بالصواب فيما عليه أن يملّه على الكاتب , وهو قول مجاهد. والثاني: أنه الصبي والمرأة , قاله الحسن. والثالث: أنه المبذر لماله , المُفْسِد في دينه , وهو معنى قول الشافعي. والرابع: الذي يجهل قدر المال , ولا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره. {أَوْ ضَعِيفاً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الأحمق , قاله مجاهد , والشعبي. والثاني: أنه العاجز عن الإِملاء إما بِعيٍّ أو خُرْسٍ , قاله الطبري. {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه العييّ الأخرس , قاله ابن عباس. والثاني: أنه الممنوع عن الإِملاء إما بحبس أو عيبة.

والثالث: أنه المجنون. {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فيه تأويلان: أحدهما: وليّ مَنْ عليه الحق , وهو قول الضحاك , وابن زيد. والثاني: وليّ الحق , وهو صاحبه , قاله ابن عباس , والربيع. {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَينِ مِن رِّجَالِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: من أهل دينكم. والثاني: من أحراركم , قاله مجاهد. {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} يعني فإن لم تكن البينة برجلين , فبرجل وامرأتين {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم الأحرار المسلمون العدول , وهو قول الجمهور. والثاني: أنهم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا , وهو قول شريح , وعثمان البتّي , وأبي ثور. {تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} فيه وجهان: أحدهما: لئلا تضل , قاله أهل الكوفة. والثاني: كراهة أن تضل , قاله أهل البصرة. وفي المراد به وجهان: أحدهما: أن تخطىء. والثاني: أن تَنْسَى , قاله سيبويه. {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} فيه تأويلان: أحدهما: أنها تجعلها كَذَكَرٍ من الرجال , قاله سفيان بن عيينة. والثاني: أنها تذكرها إن نسيت , قاله قتادة , والسدي , والضحاك , وابن زيد. {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: لتحَمُّلها وإثباتها في الكتاب , قاله ابن عباس , وقتادة , والربيع. والثاني: لإِقامتها وأدائها عند الحاكم , قاله مجاهد , والشعبي , وعطاء. والثالث: أنها للتحمل والأداء جميعاً , قاله الحسن. واختلفوا فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ندب وليس بفرض , قاله عطاء , وعطية العوفي. والثاني: أنه فرض على الكفاية , قاله الشعبي. والثالث: أنه فرض على الأعيان , قاله قتادة , والربيع. {وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} وليس يريد بالصغير ما كان تافهاً حقيراً كالقيراط والدانق لخروج ذلك عن العرف المعهود. {ذلكم أقسط عند الله} أي أعدل , يقال: أَقْسَطَ إِذا عَدَلَ فهو مُقْسِط , قال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] وقَسَطَ إذا جار , قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 14]. {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} فيه وجهان: أحدهما: أصحُّ لها , مأخوذ من الاستقامة. والثاني: أحفظ لها , مأخوذ من القيام , بمعنى الحفظ. {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ألا ترتابوا بِمَنْ عليه حق أن ينكره. والثاني: ألاّ ترتابوا بالشاهد أن يضل. {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الحاضرة ما تعجّل ولم يداخله أجل في مبيع ولا ثمن. والثاني: أنها ما يحوزه المشتري من العروض المنقولة. {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: تتناقلونها من يد إلى يد.

والثاني: تكثرون تبايعها في كل وقت. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} يعني أنه غير مأمور بكتْبِه وإن كان مباحاً. {وَأَشَهِدُوآ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه فرض , وهو قول الضحاك , وداود بن علي. والثاني: أنه ندب , وهو قول الحسن , والشعبي , ومالك , والشافعي. {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن المضارة هو أن يكتب الكاتب ما لم يُمْل عليه , ويشهد الشاهد بما لم يُستشهد , قاله طاووس , والحسن , وقتادة. والثاني: أن المضارّة أن يمنع الكاتب أن يكتب , ويمنع الشاهد أن يشهد , قاله ابن عباس , ومجاهد , وعطاء. والثالث: أن المضارّة أن يدعى الكاتب والشاهد وهما مشغولان معذوران , قاله عكرمة , والضحاك , والسدي , والربيع. ويحتمل تأويلاً رابعاً: أن تكون المضارّة في الكتابة والشهادة. {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: أن الفسوق المعصية , قاله ابن عباس , ومجاهد , والضحاك. والثاني: أنه الكذب , قاله ابن زيد. ويحتمل ثالثاً: أن الفسوق المأثم.

283

{وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم} قوله عز وجل: {وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} قرأ ابن كثير , وأبو عمرو: فرُهُن , وقرأ الباقون فرِهَانٌ ,

وفيها قولان: أحدهما: أن الرُّهُن في الأموال , والرِّهَان في الخيل. والثاني: أن الرِّهَان جمع , والرُهُن جمع الجمع مثل ثمار وثمر , قاله الكسائي , والفراء. وفي قوله: {مَّقْبُوضَةٌ} وجهان: أحدهما: أن القبض من تمام الرهن , وهو قبل القبض غير تام , قاله الشافعي , وأبو حنيفة. والثاني: لأنه من لوازم الرهن , وهو قبل القبض التام , قاله مالك. وليس السفر شرطاً في جواز الرهن , لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَهَنَ دِرْعَه عند أبي الشحم اليهودي بالمدينة وهي حَضَرٌ , ولا عَدَمُ الكاتب والشاهد شرطاً فيه لأنه زيادة وثيقة. {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} يعني بغير كاتب ولا شاهد ولا رهن. {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} يعني في أداء الحق وترك المُطْل به. {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} في ألا يكتم من الحق شيئاً. {وَلاَ تَكْتُمُوا الشِّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ قَلْبُهُ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه فاجر قلبه , قاله السدي. والثاني: مكتسب لإِثم الشهادة.

284

{لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء

قدير آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قوله عز وجل: {للهِ مَا فِي السَّمَواتِ وما في الأرض} في إضافة ذلك إلى الله تعالى قولان: أحدهما: أنه إضافة تمليك تقديره: الله يملك ما في السماوات وما في الأرض. والثاني: معناه تدبير ما في السماوات وما في الأرض. {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} إبداءُ ما في النفس هو العمل بما أضمروه , وهو مُؤَاخَذ به ومُحَاسَب عليه , وأما إخفاؤه فهو ما أضمره وحدّث به نفسه ولم يعمل به. وفيما أراد به قولان: أحدهما: أن المراد به كتمان الشهادة خاصة , قاله ابن عباس , وعكرمة , والشعبي. والثاني: أنه عام في جميع ما حدَّث به نفسه من سوء , أو أضمر من معصية , وهو قول الجمهور. واختلف في هذه الآية , هل حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره وحدَّث به نفسه؟ أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أن حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره , واختلف فيه من قال بثبوته على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن حكمها ثابت على العموم فيما أضمره الإِنسان فيؤاخِذ به من يشاء , ويغفر لمن يشاء , قاله ابن عمر , والحسن. والثاني: حكمها ثابت في مؤاخذة الإِنسان بما أضمره وإن لم يفعله , إلا أنَّ الله يغفره للمسلمين ويؤاخذ به الكافرين والمنافقين , قاله الضحاك , والربيع ,

ويكون {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} محمولاً على المسلمين , {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} محمولاً على الكافرين والمنافقين. والثالث: أنها ثابتة الحكم على العموم في مؤاخذته المسلمين بما حدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزنون لها , ومؤاخذة الكافرين والمنافقين بعذاب الآخرة , وهذا قول عائشة رضي الله عنها. والقول الثاني: أن حكم الآية في المؤاخذة بما أضمره الإنسان وحدث به نفسه وإن لم يفعله منسوخ. واختلف من قال بنسخها فيما نسخت به على قولين: أحدهما: بما رواه العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة قال: انزل الله {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُم أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} فاشتد ذلك على القوم فقالوا: يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نُحَدِّثُ به أنفسنا , هلكنا , فأنزل الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وهو أيضاً قول ابن مسعود. والثاني: أنها نسخت بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ} دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا). قال: فألقى الله الإيِمان في قلوبهم , قال: فأنزل الله: {ءَامَنَ الرَّسُولُ} الآية. فقرأ: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأَنَا}. فقال تعالى: قد فعلت. {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}. قال: قد فعلت {ربنا ولا تحملنا ما لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. قال: قد فعلت. {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قال: قد فعلت.

والذي أقوله فيما أضمره وحدّث به نفسه ولم يفعله إنه مُؤَاخَذ بمأثم الإعتقاد دون الفعل , إلا أن يكون كَفُّه عن الفعل ندماً , فالندم توبة تمحص عنه مأثم الإعتقاد. قوله عز وجل: {ءَامَنَ الرَّسُولُ} إلى قوله: {وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} أما إيمان الرسول فيكون بأمرين: تحمُّل الرسالة , وإِبْلاَغ الأمة , وأما إيمان المؤمنين فيكون بالتصديق والعمل. {كُلٌّءَامَنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}. والإِيمان بالله يكون بأمرين: بتوحيده , وقبول ما أنزل على رسوله. وفي الإِيمان بالملائكة وجهان: أحدهما: الإِيمان بأنهم رسل الله إلى أنبيائه. والثاني: الإِيمان بأن كل نفس منهم رقيب وشهيد. {وَكُتُبِهِ} قراءة الجمهور وقرأ حمزة: {وكِتَابِهِ} فمن قرأ {وَكُتُبِهِ} فالمراد به جميع ما أنزل الله منها على أنبيائه. ومن قرأ: {وَكِتَابِهِ} ففيه وجهان: أحدهما: أنه عنى القرآن خاصة. والثاني: أنه أراد الجنس , فيكون معناه بمعنى الأول وأنه أراد جميع الكتب والإِيمان بها والاعتراف بنزولها من الله على أنبيائه. وفي لزوم العمل بما فيها ما لم يرد نسخ قولان: ثم فيما تقدم ذكره من إيمان الرسول والمؤمنين - وإن خرج مخرج الخبر - قولان: أحدهما: أن المراد به مدحهم بما أخبر من إيمانهم. والثاني: أن المراد به أنه يقتدي بهم مَنْ سواهم. ثم قال تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} يعني في أن يؤمن ببعضهم

دون بعض , كما فعل أهل الكتاب , فيلزم التسوية بينهم في التصديق , وفي لزوم التسوية في التزام شرائعهم ما قدمناه من القولين , وجعل هذا حكاية عن قولهم وما تقدمه خبراً عن حالهم ليجمع لهم بين قول وعمل وماض ومستقبل. {وَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعنا قوله وأطعنا أمره. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يراد بالسماع القبول , وبالطاعة العمل. {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} معناه نسألك غفرانك , فلذلك جاء به منصوباً. {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} يعني إلى جزائك. ويحتمل وجهاً ثانياً: يريد به إلى لقائك لتقدم اللقاء على الجزاء. {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فأنصرنا على القوم الكافرين}. قوله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} يعني طاقتها، وفيه وجهان: أحدهما: وعدٌ من الله ورسوله وللمؤمنين بالتفصل على عباده ألا يكلف نفساً إلا وسعها. والثاني: أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين عن الله، على وجه الثناء عليه، بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. ثم قال: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} يعني لها ما كسبت من الحسنات، وعليها ما اكتسبت يعني من المعاصي. وفي كسبت واكتسبت وجهان: أحدهما: أن لفظهما مختلف ومعناهما واحد. والثاني: أن كسبت مستعمل في الخير خاصة، واكتسبت مستعمل في الشر خاصّة.

{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا} قال الحسن: معناه: قولوا ربنا لا تؤاخذنا. {إن نسينا} فيه تأويلان: أحدهما: يعني إن تناسينا أمرك. والثاني: تركنا، والنسيان: بمعنى الترك كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67]، قاله قطرب. {أو أخظأنا} فيه تأويلان: أحدهما: ما تأولوه من المعاصي بالشبهات. والثاني: ما عمدوه من المعاصي التي هي خطأ تخالف الصواب. وقد فرَّقَ أهل اللسان بين " أخطأ " وخطيء، فقالوا: " أخطأ " يكون على جهة الإثم وغير الإثم، وخطىء: لا يكون إلا على جهة الإثم، ومنه قول الشاعر: (والناس يلحون الأمير إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يُلام المرشد) {ربنا ولا تحمل علينا إصراً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: إصراً أي عهداً نعجز عن القيام به، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. الثاني: أي لا تمسخنا قردة وخنازير، وهذا قول عطاء. الثالث: أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة، قاله ابن زيد. الرابع: الإصر: الثقل العظيم، قاله مالك، والربيع، قال النابغة: (يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم ... والحامل الإصر عنهم بعدما عرضوا) {كما حملته على الذين من قبلنا} يعني بني إسرائيل فيما حملوه من قتل أنفسهم.

{. . ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فيه قولان: أحدهما: ما لا طاقة لنا به مما كلفه بنو إسرائيل. الثاني: ما لا طاقة لنا به من العذاب. {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا} فيه وجهان: أحدهما: مالكنا. الثاني: ولينا وناصرنا. {فانصرنا على القوم الكافرين} روى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {آمن الرسول بما أنزلنا إليه من ربه} فلما انتهى إلى قوله تعالى: {غفرانك ربنا} قال الله تعالى: قد غفرت لكم، فلما قرأ: {ربنا لا تؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال الله تعالى: لا أؤخذكم. فلما قرأ: {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال الله تعالى: لا أحمل عليكم. فلما قرأ: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال الله تعالى: لا أحملكم. فلما قرأ: {واعف عنا} قال الله تعالى: قد عفوت عنكم. فلما قرأ: (واغفر لنا} قال الله تعالى: قد غفرت لكم. فلما قرأ: {وارحمنا} قال الله تعالى: قد رحمتكم. فلما قرأ: {فانصرنا على القوم الكافرين} قال الله تعالى: قد نصرتكم. وروى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا هاتين الآيتين من خاتمة البقرة فإن الله تعالى أعطانيها من تحت العرش ". وروى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السورة التي

تذكر فيها البقرة فسطاطا القرآن، فتعلموها فإن تعليمها بركة وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة قيل: ومن البطلة؟ قال: السحرة ".

سورة آل عمران

آل عمران

{الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام} {الم اللهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقد ذكرنا تفسير ذلك من قبل. فإن قيل: {الم} اسم من أسماء الله تعالى كان قوله: {اللهَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} نعتاً للمسمى به , وتفسيره أن {الم} هو الله لا إله إلا هو. وإن قيل: إنه قسم كان واقعاً على أنه سبحانه لا إله إلا هو الحي القيوم , إثباتاً لكونه إلهاً ونفياً أن يكون غيره إلهاً. وإن قيل بما سواهما من التأويلات كان ما بعده مبتدأ موصوفاً , وأن الله هو الذي لا إله إلا هو الحي القيوم. ونزلت هذه الآية إلى نيف وثمانين آية من السورة في وفد نجران من النصارى لما جاؤوا يحاجّون النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أربعة عشر رجلاً من أشرافهم. {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: بالعدل مما استحقه عليك من أثقال النبوة.

والثاني: بالعدل فيما اختصك به من شرف الرسالة. وإن قيل بأنه الصدق ففيه وجهان: أحدهما: بالصدق فيما تضمنه من أخبار القرون الخالية والأمم السالفة. والثاني: بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على طاعته , والوعيد بالعقاب على معصيته. {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لما قبله من كتاب ورسول , وإنما قيل لما قبله {بَيْنَ يَدَيْهِ} لأنه ظاهر له كظهور ما بين يديه. وفي قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قولان: أحدهما: معناه مخبراً بما بين يديه إخبار صدق دل على إعجازه. والثاني: معناه أنه يخبر بصدق الأنبياء فيما أتوا به على خلاف من يؤمن ببعض ويكفر ببعض. قوله عز وجل: { ... إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ} فيه وجهان: أحدهما: بدلائله وحججه. والثاني: بآيات القرآن , قال ابن عباس يريد وفد نجران حين قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحاجّته. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يعني عذاب جهنم. {وَاللهُ عَزِيزٌ} فيه وجهان: أحدهما: في امتناعه. الثاني: في قدرته. {ذُو انتِقَامٍ} فيه وجهان: أحدهما: ذو سطوة. والثاني: ذو اقتضاء.

5

{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم هو الذي أنزل عليك

الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد} قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} يعني القرآن. {مِنْهُءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} اختلف المفسرون في تأويله على سبعة أقاويل: أحدها: أن المحكم الناسخ , والمتشابه المنسوخ , قاله ابن عباس , وابن مسعود. والثاني: أن المحكم ما أحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه , قاله مجاهد. والثالث: أن المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً , والمتشابه ما احتمل أوجهاً , قاله الشافعي ومحمد بن جعفر بن الزبير. والرابع: أن المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه , والمتشابه الذي تكررت ألفاظه , قاله ابن زيد. والخامس: أن المحكم الفرائض والوعد والوعيد , والمتشابه القصص والأمثال. والسادس: أن المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه وتفسيره , والمتشابه ما لم يكن إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه , كقيام الساعة , وطلوع الشمس من مغربها , وخروج عيسى ونحوه , وهذا قول جابر بن عبد الله. والسابع: أن المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال.

ويحتمل ثامناً: أن المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة , والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة , كأعداد الصلوات , واختصاص الصيام بشهر رمضان دون شعبان. وإنما جعله محكماً ومتشابهاً استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر , وقد روى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القرآن على ثلاثة أجزاء: حلال فاتبعه , وحرام فاجتنبه , ومتشابه يشكل عليك فَكِلْه إلى عالمه). وأما قوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَاِب}. ففيه وجهان: أحدهما: أصل الكتاب. والثاني: معلوم الكتاب. وفيه تأويلان: أحدهما: أنه أراد الآي التي فيها الفرائض والحدود , قاله يحيى بن يعمر. والثاني: أنه أراد فواتح السُّوَر التي يستخرج منها القرآن , وهو قول أبي فاختة. ويحتمل ثالثاً: أن يريد به أنه معقول المعاني لأنه يتفرع عنه ما شاركه في معناه , فيصير الأصل لفروعه كالأم لحدوثها عنه , فلذلك سماه أم الكتاب. {فَأََمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} فيه تأويلان: أحدهما: ميل عن الحق. والثاني: شك , قاله مجاهد. {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من الحروف المقطعة من حساب الجُمّل في انقضاء مدة النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته.

والثالث: أن ذلك نزل في وفد نجران لمَّا حاجّوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسيح , فقالوا: أليس كلمة الله وروحه؟ قال: (بلى) فقالوا: حسبنا , فأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وابْتَغَآءَ تَأْوِيلِهِ} وهو قول الربيع. وفي قوله تعالى: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أربعة تأويلات: أحدها: الشرك , قاله السدي. والثاني: اللّبْس , قاله مجاهد. الثالث: الشبهات التي حاجّ بها وفد نجران. والرابع: إفساد ذات البَيْن. {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} في التأويل وجهان: أحدهما: أنه التفسير. والثاني: أنه العاقبة المنتظرة. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تأويل جميع المتشابه , لأن فيه ما يعلمه الناس , وفيه ما لا يعلمه إلا الله , قاله الحسن. والثاني: أن تأويله يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد , كما قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَومَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] يعني يوم القيامة , قاله ابن عباس.

والثالث: تأويله وقت حلوله , قاله بعض المتأخرين. {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني الثابتين فيه , العاملين به. والثاني: يعني المستنبطين للعلم والعاملين , وفيهم وجهان: أحدهما: أنهم داخلون في الاستثناء , وتقديره: أن الذي يعلم تأويله الله والراسخون في العلم جميعاً. روى ابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله. الثاني: أنهم خارجون من الاستثناء , ويكون معنى الكلام: ما يعلم تأويله إلا الله وحده , ثم استأنف فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. {يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: علم ذلك عند ربنا. والثاني: ما فصله من المحكم والمتشابه , فنزل من عند ربنا.

10

{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب} قوله عز وجل: {كَدَأْبِءَالِ فِرْعَوْنَ} فيه وجهان: أحدهما: أن الدأب: العادة , (أي) كعادة آل فرعون والذين من قبلهم. والثاني: أن الدأب هنا الاجتهاد , مأخوذ من قولهم: دأبت في الأمر , إذا اجتهدت فيه. فإذا قيل إنه العادة ففيما أشار إليه من عادتهم وجهان: أحدهما: كعادتهم في التكذيب بالحق. والثاني: كعادتهم من عقابهم على ذنوبهم.

وإذا قيل إنه الاجتهاد , احتمل ما أشار إليه من اجتهادهم وجهين: أحدهما: كاجتهادهم في نصرة الكفر على الإِيمان. والثاني: كاجتهادهم في الجحود والبهتان. وفيمن أشار إليهم أنهم كدأب آل فرعون قولان: أحدهما: أنهم مشركو قريش يوم بدر , كانوا في انتقام الله منهم لرسله والمؤمنين , كآل فرعون في انتقامه منهم لموسى وبني إسرائيل , فيكون هذا على القول الأول تذكيراً للرسول والمؤمنين بنعمة سبقت , لأن هذه الآية نزلت بعد بدر استدعاء لشكرهم عليها , وعلى القول الثاني وعداً بنعمة مستقبلة لأنها نزلت قبل قتل يهود بني قينقاع , فحقق وعده وجعله معجزاً لرسوله.

12

{قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} قوله عز وجل: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرواْ سَتُغْلَبُونَ} الآية. في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في قريش قبل بدر بسنة , فحقق الله قوله , وصدق رسوله , وأنجز وعده بمن قتل منهم يوم بدر , قاله ابن عباس , والضحاك. والثاني: أنها نزلت في بني قينقاع لمَّا هلكت قريش يوم بدر , فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام , وحذرهم مثل ما نزل بقريش , فأبوا وقالوا: لسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون الناس , فأنزل الله فيهم هذه الآية , قاله قتادة , وابن إسحاق. والثالث: أنها نزلت في عامة الكفار. وفي الغلبة هنا قولان: أحدهما: بالقهر والاستيلاء , إن قيل إنها خاصة.

والثاني: بظهور الحجة , إن قيل إنها عامة. وفي {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} قولان: أحدهما: بئس ما مهدوا لأنفسهم , قاله مجاهد. والثاني: معناه بئس القرار , قاله الحسن. وفي بئس وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من البأس , وهو الشدة. والثاني: أنه مأخوذ من البأساء وهو الشر. قوله عز وجل: {قَدْ كَانَ لَكُمْءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني المؤمنين من أهل بدر. {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} يعني مشركي قريش. {يَرَونَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} وفي مثليهم قولان: أحدهما: أنهم مثلان زائدان على العدد المُتَحَقِّق , فيصير العدد ثلاثة أمثال , قاله الفراء. والثاني: هو المزيد في الرؤية , قاله الزجاج. اختلفوا في المخاطب بهذه الرؤية على قولين: أحدهما: أنها الفئة المؤمنة التي تقاتل في سبيل الله , بأن أراهم الله مشركي قريش يوم بدر مثلي عدد أنفسهم , لأن عدة المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً , وعدة المشركين في رواية عليٍّ وابن مسعود ألف , وفي رواية عروة , وقتادة , والربيع ما بين تسعمائة إلى ألف , فقلَّلهم الله في أعينهم تقوية لنفوسهم , قاله ابن مسعود , والحسن. والثاني: أن الفئة التي أراها الله ذلك هي الفئة الكافرة , أراهم الله المسلمين مثلي عددهم مكثراً لهم , لتضعف به قلوبهم. والآية في الفئتين هي تقليل الكثير في أعين المسلمين , وتكثير القليل في أعين المشركين , وما تقدم من الوعد بالغلبة , فتحقق , قتلاً , وأسراً , وسبياً.

{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ} يعني من أهل طاعته. وفي التأييد وجهان: أحدهما: أنه المعونة. والثاني: القوة. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ} فيه وجهان: أحدهما: أن في نصرة الله لرسوله يوم بدر مع قلة أصحابه عبرة لذوي البصائر والعقول. والثاني: أن فيما أبصره المشركون من كثرة المسلمين مع قلتهم عبرة لذوي الأعين والبصائر.

14

{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد} قوله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} معنى زين: أي حُسِّن حب الشهوات , والشهوة من خَلْق الله في الإنسان , لأنها ضرورة لا يقدر على دفعها. وفي المُزّيِّن لحب الشهوات ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الشيطان , لأنه لا أحد أشد ذَمًّا لها من الله تعالى الذي خَلَقَها , قاله الحسن. الثاني: تأويل أن الله زين حب الشهوات لِمَا جعله في الطبائع من المنازعة كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا} [الكهف: 7] , قاله الزجاج. والثالث: أن الله زين من حبها ما حَسُن , وزين الشيطان من حبها ما قَبُح.

{وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} اختلفوا في مقدار القنطار على سبعة أقاويل: أحدها: أنه ألف ومائتا أوقية , وهو قول معاذ بن جبل , وأبي هريرة ورواه زر بن حبيش عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القِنْطَارُ أَلفٌ وَمِائَتا أُوقِيَّةٍ). والثاني: أنه ألف ومائتا دينار , وهو قول الضحاك , والحسن , وقد رواه الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثالث: أنه اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار , وهو قول ابن عباس. والرابع: أنه ثمانون ألفاً من الدراهم , أو مائة رطل من الذهب , وهو قول سعيد بن المسيب , وقتادة. والخامس: أنه سبعون ألفاً , قاله ابن عمر , ومجاهد. والسادس: أنه ملء مسك ثور ذهباً , قاله أبو نضرة. والسابع: أنه المال الكثير , وهو قول الربيع. وفي {المُقَنْطَرَةِ} خمسة أقاويل: أحدها: أنها المضاعفة , وهو قول قتادة. والثاني: أنها الكاملة المجتمعة. والثالث: هي تسعة قناطير , قاله الفراء. والرابع: هي المضروبة دراهم أو دنانير , وهو قول السدي. والخامس: أنها المجعولة كذلك , كقولهم دراهم مدرهمة. ويحتمل وجهاً سادساً: أن القناطير المذكورة مأخوذة من قنطرة الوادي , إما لأنها بتركها مُعَدَّة كالقناطر المعبورة , وإما لأنها معدة لوقت الحاجة , والقناطير

مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه كالقنطرة. {وَالْخَيلِ الْمُسَوَّمَةِ} فيها خمسة تأويلات: أحدها: أنها الراعية , قاله سعيد بن جبير , والربيع , ومنه قوله تعالى: {وفيه تسيمون} أي ترعون. والثاني: أن المسومة الحسنة , قاله مجاهد , وعكرمة , والسدي. والثالث: أنها المعلَّمة , قاله ابن عباس , وقتادة. والرابع: أنها المعدة للجهاد , قاله ابن زيد. والخامس: أنها من السيما مقصورة وممدود , قاله الحسن , قال الشاعر: (غلامٌ رماه اللهُ بالحُسْن يافعاً ... له سيمياء لا تَشُقُّ على البصر) {والأنْعَامِ} هي الإِبل , والبقر , والغنم من الضأن والمعز , ولا يقال النعم لجنس منها على الإِنفراد إلا للإِبل خاصة. {والْحَرْثِ} هو الزرع. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يريد أرض الحرث لأنها أصل , ويكون الحرث بمعنى المحروث.

16

{الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} قوله عز وجل: {الصَّابِرِينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الصابرين عما نهوا عنه من المعاصي. والثاني: يعني في المصائب.

والثالث: الصائمين. ويحتمل رابعاً: الصابرين عما زُيِّن للناس من حب الشهوات. {وَالصَّادِقِينَ} فيه وجهان: أحدهما: في قولهم. والثاني في القول والفعل والنيَّة , والصدق في القول: الإخبار بالحق , والصدق في الفعل: إتمام العمل , والصدق في النية: إمضاء العزم. {وَالْقَانِتِينَ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني المطيعين , قاله قتادة. والثاني: معناه القائمون على العبادة , قاله الزجاج. {والْمُنفِقِينَ} فيه تأويلان: أحدهما: في الجهاد. والثاني: في جميع البِرِّ. {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بالأْسْحَارِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها يعني المصلين بالأسحار , قاله قتادة. والثاني: أنهم المستغفرون قولاً بالأسحار يسألون الله تعالى المغفرة , قاله ابن عمر , وابن مسعود وأنس بن مالك. والثالث: أنهم يشهدون الصبح في جماعة , قاله زيد بن أسلم. والسحر من الليل هو قبيل الفجر.

18

{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن

أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} قوله عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} في هذه الشهادة من الله ثلاثة أقاويل: أحدها: بمعنى قضى الله أنه لا إله إلا هو. والثاني: يعني بَيَّنَ الله أنه لا إله إلا هو. والثالث: أنها الشهادة من الله بأنه لا إله إلا هو. ويحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون معناها الإِخبار بذلك , تأكيداً للخبر بالمشاهدة , كإخبار الشاهد بما شاهد , لأنه أوكد للخبر. والثاني: أنه أحدث من أفعاله المشاهدة ما قامت مقام الشهادة بأن لا إله إلا هو , فأما شهادة الملائكة وأولي العلم , فهي اعترافهم بما شاهدوه من دلائل وحدانيته. {قَآئِماً بِالْقِسْطِ} أي بالعدل. ويحتمل قيامه بالعدل وجهين: أحدهما: أن يتكفل لهم بالعدل فيهم , من قولهم قد قام فلان بهذا الأمر إذا تكفل به , فيكون القيام بمعنى الكفالة. والثاني: معناه أن قيام ما خلق وقضى بالعدل أي ثباته , فيكون قيامه بمعنى الثبات. قوله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} فيه وجهان: أحدهما: أن المتدين عند الله بالإِسلام من سلم من النواهي. والثاني: أن الدين هنا الطاعة , فصار كأنه قال: إن الطاعة لله هي الإِسلام. وفي أصل الإسلام قولان:

أحدهما: أن أصله مأخوذ من السلام وهو السلامة , لأنه يعود إلى السلامة. والثاني: أن أصله التسليم لأمر الله في العمل بطاعته. {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} في أهل الكتاب الذين اختلفوا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم أهل التوراة من اليهود , قاله الربيع. والثاني: أنهم أهل الإِنجيل من النصارى , قاله محمد بن جعفر بن الزبير. والثالث: أنهم أهل الكتب كلها , والمراد بالكتاب الجنس من غير تخصيص , وهو قول بعض المتأخرين. وفيما اختلفوا فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: في أديانهم بعد العلم بصحتها. والثاني: في عيسى وما قالوه فيه من غلو وإسراف. والثالث: في دين الإِسلام. وفي قوله تعالى: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} وجهان: أحدهما: طلبهم الرياسة. والثاني: عدولهم عن طريق الحق. قوله عز وجل: {فَإِنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: أي أسلمت نفسي , ومعنى أسلمت: انقدت لأمره في إخلاص التوحيد له. والثاني: أن معنى أسلمت وجهي: أخلصت قصدي إلى الله في العبادة , مأخوذ من قول الرجل إذا قصد رجلاً فرآه في الطريق هذا وجهي إليك , أي قصدي. {وَالأُمِّيِّينَ} هم الذين لا كتاب لهم , مأخوذ من الأمي الذي لا يكتب , قال ابن عباس: هم مشركو العرب. {ءَأَسْلَمْتُمْ} هو أمر بالإِسلام على صورة الاستفهام.

فإن قيل: في أمره تعالى عند حِجَاجِهمْ بأن يقول: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} عدول عن جوابهم وتسليم لحِجَاجِهم , فعنه جوابان: أحدهما: ليس يقتضي أمره بهذا القول النهي عن جوابهم والتسليم بحِجَاجِهم , وإنما أمره أن يخبرهم بما يقتضيه معتقده , ثم هو في الجواب لهم والاحْتِجَاج على ما يقتضيه السؤال. والثاني: أنهم ما حاجُّوه طلباً للحق فيلزمه جوابهم , وإنما حاجُّوه إظهاراً للعناد , فجاز له الإِعراض عنهم بما أمره أن يقول لهم.

21

{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِّيِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} قرأ حمزة: ويقاتلون الذين يأمرون , وقيل: إنها كذلك في مصحف ابن مسعود. وفي {الْقِسْطِ} هنا وجهان: أحدهما: العدل. والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. {فَبَشِّرْهُم بِعَذابٍ أَلِيمٍ} رُوِيَ عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف أو نهى عن منكر , ثم قرأ هذه الآية , ثم قال: (يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر , فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم).

{فَبَشِّرْهُم} أي فأخبرهم , والأغلب في البشارة إطلاقها على الإِخبار بالخير , وقد تستعمل في الإِخبار بالشّر كما استعملت في هذا الموضع وفي تسميتها بذلك وجهان: أحدهما: لأنها تغير بَشْرَةَ الوجه بالسرور في الخير , وبالغم في الشر. والثاني: لأنها خبر يستقبل به البشرة.

23

{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ} يعني حظاً لأنهم علموا بعض ما فيه. {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} في الكتاب الذي دعوا إليه قولان: أحدهما: أنه التوراة , دعي إليها اليهود فأبوا , قاله ابن عباس. والثاني: القرآن , لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الدين , قاله الحسن وقتادة. وفي قوله تعالى: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} ثلاثة أقاويل: أحدها: نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أمر إبراهيم وأن دينه الإِسلام. والثالث: أنه حد من الحدود. {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} قال ابن عباس: هذا الفريق

المتولي هم زعماء يهود بني قينقاع: النعمان بن أوفى , وبحري بن عمرو بن صوريا تولوا عنه في حد الزنى لما أخبرهم أنه الرجم , ورجم اليهوديين الزانيين. فإن قيل: التولِّي عن الشيء هو الإعراض عنه , قيل: معناه يتولَّى عن الداعي ويعرض عما دُعِيَ إليه. قوله عز وجل: { ... قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} هذا من قول اليهود , واختلفوا فيها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل وهي أربعون يوماً , قاله قتادة , والربيع. والثاني: أنها سبعة أيام , وهذا قول الحسن. والثالث: أنها متقطعة لانقضاء العذاب فيها , وهذا قول بعض المتأخرين. {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} فيه قولان: أحدهما: هو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه , قاله قتادة. والثاني: هو قولهم لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات , قاله مجاهد.

26

{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} قوله عز وجل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلكِ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: يريد به ملك أمر الدنيا والآخرة. والثاني: مالك العباد وما ملكوه , قاله الزجاج. والثالث: مالك النبوة , قاله مجاهد. {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن المُلك هنا النبوة , قاله مجاهد. والثاني: أنه الإيمان. والثالث: أنه السلطان. روى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل مُلْك فارس والروم في أمته , فأنزل الله هذه الآية. {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تعز من تشاء بالطاعة , وتذل من تشاء بالمعصية. والثاني: تعز من تشاء بالنصر , وتذل من تشاء بالقهر. والثالث: تعز من تشاء بالغنى , وتذل من تشاء بالفقر. {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي أنت قادر عليه , وإنما خَصَّ الخير بالذكر وإن كان قادراً على الخير والشر , لأنه المرغوب في فعله. قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} فيه قولان: أحدهما: معناه تدخل نقصان الليل في زيادة النهار , ونقصان النهار في زيادة الليل , وهو قول جمهور المفسرين. والثاني: أن معناه تجعل الليل بدلاً من النهار , وتجعل النهار بدلاً من الليل , وهو قول بعض المتأخرين. {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} قرأ نافع وحمزة والكسائي: الميّت بالتشديد , وقرأ الباقون بالتخفيف.

واختلفوا في معناه بالتخفيف والتشديد , فذهب الكوفيون إلى أن الميْت بالتخفيف الذي قد مات , وبالتشديد الذي لم يمت بعد. وحكى أبو العباس عن علماء البصريين بأسرهم أنهما سواء , وأنشد لابن الرعلاء القلابي: (ليس من مات فاستراح بميت ... إنما المْيتُ ميّت الأحياء) (إنما الميْتُ من يعيش كئيباً ... كاسفاً بالُه قليل الرجاء) وفي تأويل إخراج الحي من الميت قولان: أحدهما: أنه يخرج الحيوان الحي في النطفة الميتة , ويخرج النطفة الميتة من الحيوان الحي , وهذا قول ابن مسعود , ومجاهد , وقتادة , والسدي. والثاني: أنه يخرج المؤمن من الكافر , ويخرج الكافر من المؤمن , وهذا قول الحسن. وقال قتادة: وإنما سَمَّى الله يحيى بن زكريا بيحيى لأن الله عز وجل أحياه بالإيمان. {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيه ثلاثة أقاويل مضت.

28

{لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله

والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم} قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىءَادَمَ وَنُوحاً وءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} في آل عمران قولان: أحدهما: أنه موسى وهارون ابنا عمران. والثاني: أنه المسيح , لأن مريم بنت عمران , وهذا قول الحسن. وفيما اصطفاهم به ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اصطفاهم باختيار دينهم لهم , وهذا قول الفراء. والثاني: أنه اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم. والثالث: أنه اصطفاهم باختيارهم للنبوة , وهذا قول الزجاج. قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} فيه قولان: أحدهما: أنهم صاروا ذرية بالتناصر لا بالنسب , كما قال تعالى: {المُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] يعني في الاجتماع على الضلال , وهذا قول الحسن , وقتادة. والثاني: أنهم في التناسل والنسب , إذ جميعهم من ذرية آدم , ثم من ذرية نوح , ثم من ذريةإبراهيم , وهذا قول بعض المتأخرين.

35

{إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} فيه ثلاثة أقاويل: - أحدها: محرراً أي مُخْلَصاً للعبادة , وهذا قول الشعبي. والثاني: يعني خادماً للبيعة , وهذا قول مجاهد. والثالث: يعني عتيقاً من الدنيا لطاعة الله , وهذا قول محمد بن جعفر بن الزبير. قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ: ربِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} إنما قالت ذلك اعتذاراً من العدول عن نذرها لأنها أنثى. ثم قال تعالى: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التاء , فيكون ذلك راجعاً إلى اعتذارها بأن الله أعلم بما وضعت , وقرأ الباقون بجزم التاء , فيكون ذلك جواباً من الله تعالى لها بأنه أعلم بما وضعت منها. ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} لأن الأُنثى لا تصلح لما يصلح له الذكر من خدمة المسجد المقدس , لما يلحقها من الحيض , ولصيانة النساء عن التبرج , وإنما يختص الغلمان بذلك. {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه: من طعن الشيطان الذي يستهل به المولود صارخاً , وقد روى ذلك أبو هريرة مرفوعاً. والثاني: معناه من إغوائه لها , وهذا قول الحسن , ومعنى الرجيم المرجوم بالشهب.

37

{فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها

زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} قوله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} معناه أنه رضيها في النذر الذي نذرته بإخلاص العبادة في بيت المقدس. {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} يعني أنشأها إنشاءً حسناً في غذائها وحسن تربيتها. {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} قرأ أهل الكوفة {وَكَفَّلَهَا} بالتشديد , ومعنى ذلك أنه دفع كفالتها إلى غيره. وقرأ الباقون: {كفَلَهَا} بالتخفيف , ومعنى ذلك أنه أخذ كفالتها إليه. {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وهو معروف , وأصله أنه أكرم موضع في المجلس. {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} فيه قولان: أحدهما: أن الرزق الذي أتاها فاكهة الصيف في الشتاء , وفاكهة الشتاء في الصيف , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد , والضحاك , وقتادة , والسدي. والثاني: أنها لم تطعم ثدياً قط حتى تكلمت في المهد , وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة , وهذا قول الحسن. واختلف في السبب الذي يأتيها هذا الرزق لأجله على قولين: أحدهما: أنه كان يأتيها بدعوة زكريا لها. والثاني: أنه كان ذلك يأتيها لنبوة المسيح عليه السلام. {قَالَ: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: أن الله تعالى كان يأتيها بالرزق. والثاني: أن بعض الصالحين من عباده سخره الله تعالى لها لطفاً منه بها حتى يأتيها رزقها. والأول أشبه.

{إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه حكاية عن قول مريم بعد أن قالت هو من عند الله. والقول الثاني: أنه قول الله تعالى بعد أن قطع كلام مريم.

38

{هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار} قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} اختلف في سبب دعائه على قولين: أحدهما: أن الله تعالى أذن له في المسألة لأن سؤال ما خالف العادة يُمْنَع منه إلا عن إذن لتكون الإجابة إعجازاً. والثاني: أنه لما رآى فاكهة الصيف في الشتاء , وفاكهة الشتاء في الصيف طمع في رزق الولد من عاقر. {قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} يعني هب لي من عندك ولداً مباركاً , وقصد بالذرية الواحد. {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ} أي تجيب الدعاء , لأن إجابة الدعاء بعد سماعه. قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ} قرأ حمزة , والكسائي: {فَنَادَاه الْمَلآئِكَةُ} , وفي مناداته قولان: أحدهما: أنه جبريل وحده , وهو قول السدي. والثاني: جماعة من الملائكة. {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} قيل إنما سمّاه

يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان , وسماه بهذا اسم قبل مولده. {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: بكتاب من الله , وهذا قول أبي عبيدة وأهل البصرة. والثاني: يعني المسيح , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , والربيع , والضحاك , والسدي. واختلفوا في تسميته كلمة من الله على قولين: أحدهما: أنه خلقه بكلمته من غير أب. والثاني: أنه سُمِيَ بذلك لأن الناس يهتدون به في دينهم كما يهتدون بكلام الله عز وجل. {وَسَيِّداً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الخليفة , وهو قول قتادة. والثاني: أنه التقي , وهو قول سالم. والثالث: أنه الشريف , وهو قول ابن زيد. والرابع: أنه الفقيه العالم , وهو قول سعيد بن المسيب. والخامس: سيد المؤمنين , يعني بالرياسة عليهم , وهذا قول بعض المتكلمين. {وَحَصُوراً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه كان عِنَّيناً لا ماء له , وهذا قول ابن مسعود , وابن عباس , والضحاك. والثاني: أنه كان لا يأتي النساء , وهو قول قتادة , والحسن.

والثالث: أنه لم يكن له ما يأتي به النساء , لأنه كان معه مثل الهْدبة , وهو قول سعيد بن المسيب. قوله عز وجل: {قَالَ: رَبِّ أَنَّى يِكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} وإنما جاز له أن يقول: وقد بلغني الكبر لأنه بمنزلة الطالب له. {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} أي لا تلد. فإن قيل: فَلِمَ راجع بهذا القول بعد أن بُشَّرَ بالولد , ففيه جوابان: أحدهما: أنه راجع ليعلم على أي حال يكون منه الولد , بأن يُرّدّ هو وامرأته إلى حال الشباب , أم على حال الكبر , فقيل له: كذلك الله يفعل ما يشاء , أي على هذه الحال , وهذا قول الحسن. والثاني: أنه قال ذلك استعظاماً لمقدور الله وتعجباً. قوله عز وجل: {قَالَ: رَبِّ اجْعَل لِّيءَايَةً} أي علامة لوقت الحمل ليتعجل السرور به. {قَالَ: ءَايَتُكَ ألاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تحريك الشفتين وهو قول مجاهد. والثاني: الإشارة , وهو قول قتادة. والثالث: الإيماء , وهو قول الحسن. {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً} لم يمنع من ذكر الله تعالى , وذلك هي الآية. {وَسَبِّحْ بِالْعَشِّيِ وَالإِبْكَارِ} والعشي: من حين زوال الشمس إلى أن تغيب , وأصل العشي الظلمة , ولذلك كان العشى ضعف البصر , فَسُمَّي ما بعد الزوال عِشاءً لا تصاله بالظلمة. وأما الإبكار فمن حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى , وأصله التعجيل , لأنه تعجيل الضياء.

42

{وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين

ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصطفاك} فيه قولان: أحدهما: اصطفاها على عالمي زمانها , وهذا قول الحسن. والثاني: أنه اصطفاها لولادة المسيح , وهو قول الزجاج. {وَطَهَّرَكِ} فيه قولان: أحدهما: طهرك من الكفر , وهو قول الحسن ومجاهد. والثاني: طهرك من أدناس الحيض والنفاس , وهو قول الزجاج. {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ} فيه قولان: أحدهما: انه تأكيد للاصطفاء الأول بالتكرار. والثاني: أن الاصطفاء الأول للعبادة , والاصطفاء الثاني لولادة المسيح. قوله عز وجل: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني أخلصي لربك , وهو قول سعيد. والثاني: معناه أديمي الطاعة لربك , وهو قول قتادة. والثالث: أطيلي القيام في الصلاة , وهو قول مجاهد. {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} وفي تقديم السجود على الركوع قولان: أحدهما: أنه كان مقدماً في شريعتهم وإن كان مؤخراً عندنا. والثاني: أن الواو لا توجب الترتيب , فاستوى حكم التقديم في اللفظ وتأخيره , وأصل السجود والانخفاض الشديد والخضوع , كما قال الشاعر: (فكلتاهما خَرّت وأسجّدّ رأسُها ... كما سَجَدتْ نصرانةٌ لم تحنف) وكذلك الركوع إلا أن السجود أكثر إنخفاضاً. وفي قوله تعالى: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} قولان: أحدهما: معناه وافعلي كفعلهم.

والثاني: يعني مع الراكعين في صلاة الجماعة. قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ} يعني ما كان من البشرى بالمسيح. {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} وأصل الوحي إلقاء المعنى إلى صاحبه , والوحي إلى الرسل الإلقاء بالإنزال , وإلى النحل بالإلهام , ومن بعض إلى بعض بالإشارة , كما قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيٍّا}. قال العجاج: (. ... أوحى لها القرار فاستقرّت) {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم تشاجروا عليها وتنازعوا فيها طلباً لكفالتها , فقال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي , وقال القوم: نحن أحق بها لأنها بنت إمامنا وعالمنا , فاقترعوا عليها بإلقاء أقلامهم وهي القداح مستقبلة لجرية الماء , فاستقبلت عصا زكريا لجرية الماء مصعدة , وانحدرت أقلامهم فقرعهم زكريا , وهو معنى قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا} وهذا قول ابن عباس , وعكرمة , والحسن , والربيع. والقول الثاني: أنهم تدافعوا كفالتها لأن زكريا قد كان كفل بها من غير اقتراع , ثم لحقهم أزمة ضعف بها عن حمل مؤونتها , فقال للقوم: ليأخذها أحدكم فتدافعوا كفالتها وتمانعوا منها , فأقرع بينهم وبين نفسه فخرجت القرعة له , وهذا قول سعيد.

45

{إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وفي تسميته بالمسيح قولان:

أحدهما: لأنه مُسِحَ بالبركة , وهذا قول الحسن وسعيد. والثاني: أنه مُسِحَ بالتطهر من الذنوب. قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} وفي سبب كلامه في المهد قولان: أحدهما: لتنزيه أمه مما قُذِفَتْ به. والثاني: لظهور معجزته. واختلفوا هل كان في وقت كلامه في المهد نبياً على قولين: أحدهما: كان في ذلك الوقت نبياً لظهور المعجزة منه. والثاني: أنه لم يكن في ذلك الوقت نبياً وإنما جعل الله ذلك تأسيساً لنبوتّه. والمهد: مضجع الصبي , مأخوذ من التمهيد. ثم قال تعالى: {وَكَهْلاً} وفيه قولان: أحدهما: أن المراد بالكهل الحليم , وهذا قول مجاهد. والثاني: أنه أراد الكهل في السنّ. واختلفوا: بلوغ أربع وثلاثين سنة. والثاني: أنه فوق حال الغلام ودون حال الشيخ , مأخوذ من القوة من قولهم اكتهل البيت إذ طال وقوي. فإن قيل فما المعنى في الإخبار بكلامه كهلاً وذلك لا يستنكر؟ ففيه قولان: أحدها: أنه يكلمهم كهلاً بالوحي الذي يأتيه من الله تعالى. والثاني: انه يتكلم صغيراً في المهد كلام الكهل في السنّ.

48

{ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص

وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عَيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: يعني من أنصاري مع الله. والثاني: معناه من أنصاري في السبيل إلى الله , وهذا قول الحسن. والثالث: معناه من ينصرني إلى نصر الله. وواحد الأنصار نصير. {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} اخْتُلِف في تسميتهم بالحواريين على ثلاثة أقاويل: أحدها: انهم سُمُّوا بذلك لبياض ثيابهم , وهذا قول سعيد بن جبير. والثاني: أنهم كانوا قَصَّارين يبيضون الثياب , وهذا قول ابن أبي نجيح. والثالث: أنهم خاصة الأنبياء , سموا بذلك لنقاء قلوبهم , وهذا قول قتادة , والضحاك. وأصل الحواري: الحَوَر وهو شدة البياض , ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه , والحَوَر نقاء بياض العين. واختلفوا في سبب استنصار المسيح بالحواريين على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه استنصر بهم طلباً للحماية من الكفار الذين أرادوا قتله حين أظهر دعوته , وهذا قول الحسن , ومجاهد. والثاني: أنه استنصر بهم ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق. والثالث: لتمييز المؤمن الموافق من الكافر المخالف. قوله تعالى: { ... فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} فيه قولان: أحدهما: يعني صِلْ ما بيننا وبينهم بالإخلاص على التقوى. والثاني: أثْبِتْ أسماءنا مع أسمائهم لننال ما نالوا من الكرامة. قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم مكروا بالمسيح عليه السلام بالحيلة عليه في قتله , ومكر الله في ردهم بالخيبة لإلقاء شبه المسيح على غيره , وهو قول السدي. والثاني: مكروا بإضمار الكفر , ومكر الله بمجازاتهم بالعقوبة , وإنما جاز قوله: {وَمَكَرَ اللَّهُ} على مزواجة الكلام وإن خرج عن حكمه , نحو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وليس الثاني اعتداءً , وأصل المكر: الالتفاف , ولذلك سمي الشجر الملتف مكراً , والمكر هو الاحتيال على الإنسان لالتفاف المكروه به. والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إلى الإضرار , والمكر: التوصل إلى إيقاع المكروه به.

55

{إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين

آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم} قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: معناه إني قابضك برفعك إلى السماء من غير وفاة بموت , وهذا قول الحسن , وابن جريج , وابن زيد. والثاني: متوفيك وفاة نوم للرفع إلى السماء , وهذا قول الربيع. والثالث: متوفيك وفاة بموت , وهذا قول ابن عباس. والرابع: أنه من المقدم والمؤخر بمعنى رافعك ومتوفيك بعده , وهذا قول الفراء. وفي قوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} قولان: أحدهما: رافعك إلى السماء. والثاني: معناه رافعك إلى كرامتي. {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فيه قولان: أحدهما: أن تطهيره منهم هو منعهم من قتله. الثاني: أنه إخراجه من بينهم. {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فيه تأويلان: أحدهما: فوقهم بالبرهان والحجة. والثاني: بالعز والغلبة. وفي المعنيّ بذلك قولان:

أحدهما: أن الذين آمنوا به فوق الذين كذّبوه وكذَبوا عليه , وهذا قول الحسن , وقتادة , والربيع , وابن جريج. والثاني: أن النصارى فوق اليهود , لأن النصارى أعز واليهود أذل , وفي هذا دليل على أنه لا يكون مملكة إلى يوم القيامة بخلاف الروم.

59

{إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين} قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ} فيه تأويلان: أحدهما: في عيسى. والثاني: في الحق. {مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ: تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} والذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة هم نصارى نجران. وفي قوله: {نَبْتَهِلْ} تأويلان: أحدهما: معناه نلتعن. والثاني: ندعو بهلاك الكاذب , ومنه قول لبيد: ( ... نظر الدهر إليهم فابتهل) أي دعا عليهم بالهلاك. فلما نزلت هذه الآية أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم

السلام ثم دعا النصارى إلى المباهلة , فأحجموا عنها , وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً.

64

{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} قوله تعالى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية وفي المقصود بذلك قولان: أحدهما: أنهم نصارى نجران , وهذا قول الحسن والسدي وابن زيد. والثاني: انهم يهود المدينة , وهذا قول قتادة , والربيع , وابن جريح. {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} فيه تأويلان: أحدهما: هو طاعة الاتباع لرؤسائهم في أوامرهم بمعاصي الله , وهذا قول ابن جريح. والثاني: سجود بعضهم لبعض , هذا قول عكرمة.

65

{يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} قوله تعالى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} وسبب نزول هذه الآية أن اليهود والنصارى اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , فتنازعوا في أمره فقالت

اليهود: ما كان إلا يهودياً , وقالت النصارى: ما إلا نصرانياً , فنزلت هذه الآية تكذيباً للفريقين بما بيَّنه من نزول التوراة والإنجيل من بعده. قوله تعالى: {هَأَنتُمْ هَؤُلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ} يعني ما وجدوه في كتبهم. {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ} يعني من شأن إبراهيم. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} يعني شأن إبراهيم. {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فالتمسوه من عِلَلِه.

69

{ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} قوله تعالى: {يَأَهل الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة بها , وهذا قول قتادة , والربيع , والسدي. والثاني: وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها. والثالث: وأنتم تشهدون بما عليكم فيه الحجة. قوله تعالى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} فيه تأويلان:

أحدهما: تحريف التوارة والإنجيل , وهذا قول الحسن , وابن زيد. والثاني: الدعاء إلى إظهار الإسلام في أول النهار والرجوع عنه في آخره قصداً لتشكيك الناس فيه , وهذا قول ابن عباس , وقتادة. والثالث: الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} يعني ما وجدوه عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم , والبشارة به في كتبهم عناداً من علمائهم. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني الحق بما عرفتموه من كتبكم. قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبعَ دِينَكُمْ} فيه قولان: أحدهما: معناه لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم. والثاني: لا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم. واخْتُلِفَ في تأويل ذلك على قولين: أحدهما: أنهم كافة اليهود , قال ذلك بعضهم لبعض , وهذا قول السدي , وابن زيد. والثاني: أنهم يهود خبير قالوا ذلك ليهود المدينة , وهذا قول الحسن. واختلف في سبب نهيهم أن يؤمنوا إلا لِمَنْ تَبعَ دينهم على قولين: أحدهما: أنهم نُهُوا عن ذلك لِئَلاً يكون طريقاً لعبدة الأوثان إلى تصديقه , وهذا قول الزجاج. والثاني: أنهم نُهُوا عن ذلك لِئَلاَّ يعترفوا به فيلزمهم العمل بدينه لإقرارهم بصحته. {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن في الكلام حذفاً , وتقديره: قل إن الهدى هدى الله ألاَّ يُؤْتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم أُّيها المسلمون , ثم حذف (لا) من الكلام لدليل الخطاب

عليها مثل قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي لا تضلوا , وهذا معنى قول السدى , وابن جريج. والثاني: أن معنى الكلام: قل إن الهدى هدى الله فلا تجحدوا أن يُؤْتى أحد مثل ما أوتيتم. {أَوْ يُحَآجُّوكُم عِندَ رَبِّكُم} فيه قولان: أحدهما: يعني ولا تؤمنوا أن يُحَاجّوكم عند ربكم لأنه لا حجة لهم , وهذا قول الحسن , وقتادة. والثاني: إن معناه حتى يُحَاجُّوكم عند ربكم , على طريق التبعيد , كما يقال: لا تلقاه أو تقوم الساعة , وهذا قول الكسائي , والفراء. قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} فيه قولان: أحدهما: أنها النبوة , وهو قول الحسن , ومجاهد , والربيع. والثاني: القرآن والإسلام , وهذا قول ابن جريج. واختلفوا في النبوة هل تكون جزاءً على عمل؟ على قولين: أحدهما: أنها جزاء عن استحقاق. والثاني: أنها تفضل لأنه قال: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ}.

75

{ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} قوله تعالى: {وَمِن أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّه إِلَيكَ} اختلفوا في دخول الباء على القنطار والدينار على قولين: أحدهما: أنها دخلت لإلصاق الأمانة كما دخلت في قوله تعالى: {وَلِيَطَّوَّفُوا بِالْبَيتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].

والثاني: أنها بمعنى (على) وتقديره: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه على قنطار. {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيهِ قَائِماً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إلا ما دمت عليه قائماً بالمطالبة والإقتضاء , وهذا قول قتادة , ومجاهد. والثاني. بالملازمة. والثالث: قائماً على رأسه , وهو قول السدي. {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا: لَيسَ عَلَينَا فِي الأُمِّيِينَ سَبِيلٌ} يعني في أموال العرب , وفي سبب استباحتهم له قولان: أحدهما: لأنهم مشركون من غير أهل الكتاب , وهو قول قتادة , والسدي. والثاني: لأنهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه , وهذا قول الحسن وابن جريج , وقد روى سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَذَّبَ اللهُ أَعْدَاءَ اللهِ , مَا مِن شَيءٍ كَانَ في الجَاهِليَّةِ إلاَّ وَهُوَ تَحتَ قَدَميَّ إلاَّ الأمَانَةَ فَإنَّها مُؤَدَّاةٌ إِلَى الَبرِّ وَالفَاجِرِ).

77

{إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيمَانِهِم ثَمَناً قَلِيلاً} وفي العهد قولان: أحدهما: ما أوجب الله تعالى على الإنسان من طاعته وكَفَّه عن معصيته.

والثاني: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق. {أَولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُم فِي الآخِرةِ}. وفي أصل الخلاق قولان: أحدهما: أن أصله من الخّلق بفتح الخاء وهو النفس , وتقدير الكلام لا نصيب لهم. والثاني: أن أصله الخُلق بضم الخاء لأنه نصيب مما يوجبه الخُلُق الكريم. {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} فيه قولان: أحدهما: لا يكلمهم الله بما يسرهم , لكن يكلمهم بما يسوءهم وقت الحساب لأنه قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُم}. والثاني: لا يكلمهم أصلاً ولكن يرد حسابهم إلى الملائكة. {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِم يَومَ الْقِيَامَةِ} فيه قولان: أحدهما: لا يراهم. والثاني: لا يَمِنُ عليهم. {وَلاَ يُزَكِّيهِم} أي لا يقضي بزكاتهم. واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود: أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق , وكعب بن الأشرف , وحيي بن أخطب كتبوا كتاباً بأيديهم , ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا به ليس عليهم في الأميين سبيل , وهو قول الحسن , وعكرمة. والثاني: أنها نزلت في الأشعث وخصيم له تنازعاً في أرض , فقام ليحلف , فنزلت هذه الآية , فنكل الأشعث واعترف بالحق.

والثالث: أنها نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته في البيع , وهذا قول عامر , ومجاهد.

78

{وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ} سبب نزولها ما روى ابن عباس أن قوماً من اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلى عبادتك كما دعا المسيح النصارى , فنزلت هذه الآية. {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فقهاء علماء , وهو قول مجاهد. والثاني: حكماء أتقياء , وهو قول سعيد بن جبير. والثالث: أنهم الولاة الذين يربّون أمور الناس , وهذا قول ابن زيد. وفي أصل الرباني قولان: أحدها: أنه الذي يربُّ أمور الناس بتدبيره , وهو قول الشاعر: (وكنت امرءَاً أفضت إليك ربابتي ... وقبلك ربتني - فضعت - ربوبُ)

فسمي العالم ربّانياً لأنه بالعلم يدبر الأمور. والثاني: أنه مضاف إلى عالم الرب , وهو علم الدين , فقيل لصاحب العلم الذي أمر به الرب ربّاني.

81

{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَآءَاتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} في الميثاق قولان: أحدهما: أنه أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا على قومهم بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول علي , وابن عباس , وقتادة , والسدي. والثاني: أنه أخذ ميثاقهم ليؤمنن بالآخرة , وهذا قول طاووس. {ثُمَّ جَآءَكُم رَسُولٌ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} يعني من التوارة , والإنجيل. {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَءَأَقْرَرْتُم وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} والإصر: العهد , وفيه تأويلان: أحدهما: معناه: قبلتم على ذلك عهدي. والثاني: أخذتم على المُتَّبِعِين لكم عهدي. {قَالُوا: أَقْرَرْنَا. قَالَ: فَاشْهَدُواْ} يعني على أممكم بذلك. {وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} عليكم , وعليهم.

83

{أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} قوله تعالى: {وَلَهُ أَسَلَمَ مَن فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: أن المؤمن أسلم طوعاً والكافر أسلم عند الموت كَرْهاً , وهذا قول قتادة. والثاني: أنه الإقرار بالعبودية وإن كان فيه من أشرك في العبادة , وهذا قول مجاهد. والثالث: أنه سجود المؤمن طائعاً وسجود ظل الكافر كرهاً , وهو مروي عن مجاهد أيضاً. والرابع: طوعاً بالرغبة والثواب. وكرهاً بالخوف من السيف , وهو قول مطر. والخامس: أن إسلام الكاره حين أخذ منه الميثاق فأقر به , وهذا قول ابن عباس. والسادس: معناه أنه أسلم بالانقياد والذلة , وهو قول عامر الشعبي , والزجاج.

86

{كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم

لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين} قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوبَتُهُمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنهم اليهود كفروا بالمسيح ثم ازدادوا كفراً بمحمد لن تقبل توبتهم عند موتهم , وهذا قول قتادة. والثاني: أنهم أهل الكتاب لن تقبل توبتهم من ذنوب ارتكبوها مع الإقامة على كفرهم , وهذا أبي العالية. والثالث: أنهم قوم ارتدوا ثم عزموا على إظهار التوبة على طريق التورية , فأطلع الله نبيهَّ وعلى سريرتهم , وهذا قول ابن عباس. والرابع: أنهم اليهود والنصارى كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه , ثم ازدادوا كفراً إلى حضور آجالهم , وهذا قول الحسن.

92

{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون} في البر ثلاثة تأويلات: أحدهما: أن البر ثواب الله تعالى. والثاني: أنه فعل الخير الذي يستحق به الثواب.

والثالث: أن البر الجنة , وهو قول السدي. وفي قوله تعالى: {حَتَّى تُنفِقُواْ} ثلاثة أقاويل: أحدها: في الصدقات المفروضات , وهو قول الحسن. والثاني: في جميع الصدقات فرضاً وتطوعاً , وهو قول ابن عمر. والثالث: في سبيل الخير كلها من صدقة وغيرها. وروى عمرو بن دينار قال: لما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها (سَبَل) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تَصَدَّقْ بهذه يا رسول الله , فأعطاها ابنه أسامة , فقال: يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ قُبِلَتْ صَدَقَتُك).

93

{كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} {كلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَآئِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الإبل , فأخبر الله تعالى بتحليلها لهم حين حرَّمها إسرائيل على نفسه , لأنه لما أصابه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا , نذر تحريم العروق على نفسه , وأحب الطعام إليه , وكانت لحوم الإبل من أحب الطعام إليه. واختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه هل كان بإذن الله تعالى أم لا _ على اختلافهم في اجتهاد الأنبياء على قولين: أحدهما: لم يكن إلا بإذنه وهو قول من زعم أن ليس لنبي أن يجتهد.

والثاني: باجتهاده من غير إذن , وهو قول من زعم أن للنبي أن يجتهد. واختلفوا في تحريم اليهود ذلك على أنفسهم على قولين: أحدهما: أنهم حرموه على أنفسهم اتباعاً لإسرائيل. والثاني: أن التوراة نزلت بتحريمها فحرموها بعد نزولها , والأول أصح.

96

{إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} لا اختلاف بين أهل التفسير أنه أول بيت وضع للعبادة , وإنما اختلفوا هل كان أول بيت وضع لغيرها على قولين: أحدهما: أنه قد كانت قْبْله بيوت كثيرة , وهو قول الحسن. والثاني: أنه لم يوضع قبله بيت , وهذا قول مجاهد , وقتادة. وفي {بَكَّة} ثلاثة أقاويل: أحدها: أن بكة المسجد , ومكة: الحرم كله , وهذا قول ابن شهاب , وضمرة بن ربيعة. والثاني: أن بكة هي مكة , وهو قول أبي عبيدة. والثالث: أن بكة موضع البيت , ومكة غيره في الموضع يريد القرية , وروي ذلك عن مالك. وفي المأخوذ منه بكة قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الزحمة , يقال تَبَاّك القوم بعضهم بعضاً إذا ازدحموا , فبكة مُزْدَحَمُ الناس للطواف. والقول الثاني: أنها سميت بكة , لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة , إذ ألحدواْ فيها بظلم لم يمهلواْ.

وفي قوله: {مُبَارَكاً} تأويلان: أحدهما: أن بركته ما يستحق من ثواب القصد إليه. والثاني: أنه آمن لمن دخله حتى الوحش , فيجتمع فيه الصيد والكلب. {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} الآية في مقام إبراهيم أثر قدميه وهو حجر صلد؟ والآية في غير المقام: أمن الخائف , وهيبة البيت وامتناعه من العلو عليه , وتعجيل العقوبة لمن عتا فيه , وما كان في الجاهلية من أصحاب الفيل. {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} معناه أنه عطَّف عليه قلوب العرب في الجاهلية فكان الجاني إذا دخله أمِنَ. وأما في الإسلام ففيه قولان: أحدهما: أنه من النار , وهذا قول يحيى بن جعدة. والثاني: من القتال بحظر الإيجال على داخليه , وأما الحدود فتقام على من جنى فيه. واختلفواْ في الجاني إذ دخله في إقامة الحد عليه فيه قولان: أحدهما: تقام عليه , وهو مذهب الشافعي. والثاني: لا تقاوم حتى يُلجأ إلى الخروج منه , وهو مذهب أبي حنيفة. {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً} وفي الاستطاعة ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها بالمال , وهي الزاد والراحلة , وهو قول الشافعي. والثاني: أنها بالبدن , وهو قول مالك. والثالث: أنها بالمال والبدن , وهو قول أبي حنيفة. {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني [من كفر] بفرض الحج فلم يره واجباً , وهو قول ابن عباس. والثاني: هو لا يرى حَجَّهُ براً ولا تركه مأثماً , وهو قول زيد بن أسلم.

والثالث: اليهود , لأنه لما نزل قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنهُ} فقالواْ نحن مسلمون فأُمِرُوا بالحج فلم يحجوا , فأنزل الله هذه الآية.

98

{قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون} {قُلْ يَا أهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} فيه قولان: أحدهما: أن صدهم عن سبيل ما كانوا عليه من الإغراء بين الأوس والخزرج حتى يتذكروا حروب الجاهلية فيتفرقوا , وذلك من فعل اليهود خاصة , وهو قول ابن زيد. والثاني: أنه تكذيبهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم ثبوت صفته في كتبهم , وذلك من فعل اليهود والنصارى , وهذا قول الحسن. {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي تطلبون العِوَجَ وهو بكسر العين العدول عن طرائق الحق , والعَوَج بالفتح ميلُ منتصب من حائط أو قناة. {وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ} فيه قولان: أحدهما: يعني عقلاء , مثل قوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. والثاني: يعني شهوداً على ما كان من صَدّهم عن سبيل الله , وقيل من عنادهم وكذبهم.

100

{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا} يعني الأوس والخزرج.

{إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني اليهود في إغرائهم بينكم. {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}.

102

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} فيه أربع أقاويل: أحدها: هو أن يُطَاع فلا يُعْصى , ويُشْكَر فلا يكفر ويُذْكَر فلا يُنْسى , وهو قول ابن مسعود , والحسن , وقتادة. والثاني: هو اتقاء جميع المعاصي , وهو قول بعض المتصوفين. والثالث: هو أن يعترفواْ بالحق في الأمن والخوف. والرابع: هو أن يُطَاع , ولا يُتَّقى في ترك طاعته أحدٌ سواه. واختلفواْ في نسخها على قولين: أحدهما: هي محكمة , وهو قول ابن عباس , وطاووس. والثاني: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} [التغابن: 16] وهو قول قتادة , والربيع , والسدي , وابن زيد. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: الحبل: كتاب الله تعالى , وهو قول ابن مسعود , وقتادة , والسدي , روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كِتَابُ اللهِ هُوَ حَبْلُ اللهِ المَمْدُودُ مِنَ السَّماءِ إَلى الأرْضِ).

والثاني: أنه دين الله وهو الإسلام , وهذا قول ابن زيد. والثالث: أنه عهد الله , وهو قول عطاء. والرابع: هو الإخلاص لله والتوحيد , وهو قول أبي العالية. والخامس: هو الجماعة , وهو مروي عن ابن مسعود. وسُمَّي ذلك حبلاً لأن المُمْسِكَ به ينجو مثل المتمسك بالحبل ينجو من بئر أو غيرها. {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} فيه قولان: أحدهما: عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة , وهذا قول ابن مسعود , وقتادة. والثاني: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُمْ} وفيمن أريد بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم مشركو العرب لِمَا كان بينهم من الصوائل , وهذا قول الحسن. والثاني: أنهم الأوس والخزرج لِمَا كان بينهم من الحروب في الجاهلية حتى تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألَّفَ الله بين قلوبهم بالإسلام فتركت تلك الأحقاد , وهذا قول ابن إسحاق.

104

{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر

وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور} {يَومَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} يعني به يوم القيامة , لأن الناس فيه بين مُثَابٌ بالجنة ومُعاقَبٌ بالنار فوصِف وجه المُثَاب بالبياض لإسفاره بالسرور , ووصف وجه المُعَاقَب بالسواد لإنكسافه بالحزن. {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُم تَكْفُرُونَ} وفي هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم أربعة أقاويل: الأول: أنهم الذين كفرواْ بعد إظهار الإيمان بالنفاق , وهو قول الحسن. والثاني: أنهم الذين كفروا بالارتداد بعد إسلامهم , وهو قول مجاهد. والثالث: هم الذين كفروا من أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بِنَعْتِهِ ووصفه , وهو قول الزجاج. والرابع: هم جميع الكفار لإعراضهم عما يوجبه الإقرار بالتوحيد حين أَشْهَدَهُم الله تعالى على أنفسهم {أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] وهو قول أبي بن كعب.

110

{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أين

ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فإن قيل: فَلِمَ قال كنتم خير أمة ولم يقل أنتم خير أمة؟ ففيه أربعة أجوبة: أحدها: أن الله تعالى قد كان قدم البشارة لهم بأنهم خير أمة , فقال: {كُنْتُمْ} يعني إلى ما تقدم في البشارة , وهذا قول الحسن البصري. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَنتُم تُتِمَّونَ سَبْعِن أُمةً أَنْتُم خَيرُها وأَكْرمُها عَلَى اللهِ). والثاني: أن ذلك لتأكيد الأمر لأن المتقدم مستصحب وليس الآنف متقدماً , وذلك مثل قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً}. والثالث: معناه خلقهم خير أمّة. والرابع: كنتم خير أمّة في اللوح المحفوظ.

113

{ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف

وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون} {لَيْسُوا سَوَاءً , مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَةٌ قَآئِمَةٌ} روي عن ابن عباس أن سبب نزولها أنه أسلم عبد الله ابن سلام وجماعة معه , فقالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلاّ شرارنا , فأنزل الله تعالى: {لَيسُوا سَوَاءً} إلى قوله: {وأولئك مِنَ الصَّالِحِينَ}. {أمةٌ قَائِمَةٌ} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: عادلة , وهو قول الحسن , وابن جريج. والثاني: قائمة بطاعة الله , وهو قول السدي. والثالث: يعني ثابتة على أمر الله تعالى , وهو قول ابن عباس , وقتادة , والربيع. {يَتْلُونَءَايَاتِ اللهِءَانآءَ اللَّيْلِ} فيه تأويلان: أحدهما: ساعات الليل , وهو قول الحسن , والربيع. والثاني: جوف الليل , وهو قول السدي. واختلف في المراد بالتلاوة في هذا الوقت على قولين: أحدهما: صلاة العَتْمَة , وهو قول عبد الله بن مسعود. والثاني: صلاة المغرب والعشاء , وهو قول الثوري.

{وَهُمْ يَسْجُدُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني سجود الصلاة. والثاني: يريد الصلاة لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع , وهذا قول الزجاج , والفراء. والثالث: معناه يتلون آيات الله أناء الليل وهم مع ذلك يسجدون. {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} اختلفواْ في سبب نزولها على قولين: أحدهما: أنها نزلت في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حرب المشركين على جهة النفاق. وفي الصّرِّ تأويلان: أحدهما: هو البرد الشديد , وهو قول ابن عباس , والحسن , وقتادة , والسدي. والثاني: أنه صوت لهب النار التي تكون في الريح , وهو قول الزجاج , وأصل الصّر صوت من الصرير. {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه أن ظلمهم اقتضى هلاك زرعهم. والثاني: يعني أنهم ظلموا أنفسهم بأن زرعواْ في غير موضع الزرع وفي غير وقته فجاءت ريح فأهلكته فضرب الله تعالى هذا مثلاً لهلاك نفقتهم.

118

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم

وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} قيل إنها نزلت في قوم من المسلمين صافوا بعض المشركين من اليهود والمنافقين المودة لمصاحبة في الجاهلية فَنُهُوا عن ذلك. والبطانة هم خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره , والأصل البطن , ومنه بطانة الثوب لأنها تلي البطن. {لاَ يِأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي لا يقصرون في أمركم. والخبال: النَّكال , وأصله الفساد ومنه الخبل الجنون. {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} فيه تأويلان: أحدهما: ودوا إضلالكم عن دينكم , وهو قول السدي. والثاني: ودوا أن تعنتوا في دينكم أي تحملون على المشقة فيه , وهو قول ابن جريج , وأصل العنت المشقة. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي بدا منها ما يدل عليها. {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُم أَكْبَرُ} مما بدا.

121

{وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} واختلفوا في أي مكان كان على قولين:

أحدهما: أنه كان يوم أُحد , وهو قول ابن عباس , والربيع , وقتادة , والسدي , وابن اسحاق. والثاني: أنه كان يوم الأحزاب , وهو قول الحسن , ومجاهد. {تُبَوِّىءُ} أي تتخد منزلاً تبوىء فيه المؤمنين. ومعنى الآية: أنك ترتب المؤمنين في مواضعهم. {وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: سميع بما يقوله المنافقون , عليم بما يضمرونه من التهديد. والثاني: سميع لما يقوله المشيرون عليك , عليم بما يضمرون من نصيح الرأي وغش القلوب. والثالث: سميع لما يقوله المؤمنون عليم بما يضمرون من خلوص النية. {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنْكُمْ أَن تَفْشَلاَ} اختلف فيها على قولين: أحدهما: أنهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار , وهو قول ابن عباس , وجابر بن عبد الله , الحسن , وقتادة. والثاني: أنهم قوم من المهاجرين والأنصار. وفي سبب همّهم بالفشل قولان: أحدهما: أن عبد الله بن أبي سلول دعاهما إلى الرجوع عن لقاء المشركين يوم أحد , فهمّا به ولم يفعلا , وهذا قول السدي وابن جريج. والثاني: أنهم اختلفوا في الخروج في الغدو والمقام حتى همّا بالفشل , والفشل الجبن. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلّةٌ} وبدر ماءٌ نزلوا عليه كان لرجل يسمى بدر , قال الزبير بن بكار هو بدر بن النضر بن كنانة فسمي باسم صاحبه , وهذا قول الشعبي , وقال غيره بل هو اسم له من غير إضافة إلى اسم صاحب. {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} قولان: أحدهما: الضعف عن مقاومة العدو.

والثاني: قلة العدد وضعف الحال. قال ابن عباس: كان المهاجرين يوم بدر سبعة وسبعين رجلاً , والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً , وكان المشركون ما بين تسعمائة وألف.

124

{إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم} {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} يعني يوم بدر. {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِءَالآفٍ مِنَ الْمَلآَئِكَةِ مُنزَلِينَ} والكفاية مقدار سد الخلة , والاكتفاء الاقتصار عليه , والإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال , والأصل في الإمداد هو الزيادة ومنه مد الماء وهو زيادته. {بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيِأْتُوكُم مِّن فَورِهِم هَذَا} فيه تأويلان: أحدهما: يعني من وجههم هذا , وهو قول ابن عباس , والحسن , وقتادة. والثاني: من غضبهم هذا , وهو قول مجاهد والضحاك وأبي صالح , وأصل الفور فور القِدْر , وهو غليانها عند شدة الحمى , ومنه فَوْرُ الغضب لأنه كَفَوْرِ القِدْر. {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسِةِ ءالآفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} قرأ بكسر الواو ابن كثير , وعاصم , وأبو عمرو , ومعناها: أنهم سوّموا خليهم بعلامة , وقرأ الباقون بفتح الواو , ومعناها: أنها سائمة وهي المرسلة في المرعى.

واختلفوا في التسويم على قولين: أحدهما: أنه كان بالصوف في نواصي الخيل وآذانها , وهو قول ابن عباس , والحسن , وقتادة , ومجاهد , والضحاك. الثاني: أن الملائكة نزلت يوم بدر على خيل بلق وعليهم عمائم صفر , وهو قول هشام بن عروة. واختلفواْ في عددهم فقال الحسن: كانواْ خمسة آلاف , وقال غيره كانواْ ثمانية آلاف. قال ابن عباس لم يقاتل الملائكة إلا يوم بدر. {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَروا} فيه قولان: أحدهما: أنه كان يوم بدر بقتل صناديدهم وقادتهم إلى الكفر , وهذا قول الحسن وقتادة. والثاني: أنه كان يوم أحد , كان الذي قتل منهم ثمانية عشر رجلاً , وهذا قول السدي. {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} ولم يقل وسطاً لأن الطرف أقرب للمؤمنين من الوسط , فاختص القطع بما هو إليهم أقرب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] {أَوْ يَكْبِتَهُم فَيَنقَلِبُوا خَآئِبِينَ} , وفي {يَكْبِتَهُم} قولان: أحدهما: يحزنهم , وهو قول قتادة , والربيع. والثاني: الكبت: الصرع على الوجه , وهو قول الخليل. والفرق بين الخائب والآيس أن الخيبة لا تكون إلا بعد أمل , واليأس قد يكون قبل أمل. {لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ليس لك من الأمر شيء في عقابهم واستصلاحهم , وإنما ذلك إلى الله تعالى في أن يتوب عليهم أو يعذبهم. والثاني: ليس لك من الأمر شيء فيما تريده وتفعله في أصحابك وفيهم ,

وإنما ذلك إلى الله تعالى فيما يفعله من اللطف بهم في التوبة والاستصلاح أو في العذاب والانتقام. والثالث: أنزلت على سبب لما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم. واختلفوا في السبب فيه على قولين: أحدهما: أن قوماً قالوا بعد كسر رباعيته: كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم , وهو حريص على هدايتهم فنزلت هذه الآية , وهذا قول ابن عباس , وأنس بن مالك , والحسن وقتادة , والربيع. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم هَمَّ بعد ذلك بالدعاء فأستأذن فيه , فنزلت هذه الآية فكف وإنما لم يؤذن فيه لما في المعلوم من توبة بعضهم.

130

{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} يريد بالأكل الأخذ , والربا زيادة القدر مقابلة لزيادة الأجل , وهو ربا الجاهلية المتعارف بينهم بالنساء. {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} وهو أن يقول له بعد حلول الأجل: إما أن تَقْضِيَ وإمَّا

أَنْ تُرْبِيَ , فإن لم يفعله ضاعف ذلك عليه ثم يفعل كذلك عند حلوله من بعد حتى تصير أضعافاً مضاعفة. {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ} فدل أن الربا من الكبائر التي يستحق عليها الوعيد بالنار. واختلفوا في نار آكل الربا على قولين: أحدهما: أنها كنار الكافرين من غير فرق تمسكاً بالظاهر. والثاني: أنها ونار الفجار أخف من نار الكفار , لما بينهما من تفاوت المعاصي. {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُم} أما الفاحشة ها هنا ففيها قولان: أحدهما: الكبائر من المعاصي. والثاني: الربا وهو قول جابر والسدي. {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُم} قيل المراد به الصغائر من المعاصي. {ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِم} فيه قولان: أحدهما: أنهم ذكروه بقلوبهم فلم ينسوه , ليعينهم ذكره على التوبة والاستغفار. والثاني: ذكروا الله قولاً بأن قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا , فإن الله قد سهل على هذه الأمة ما شدد على بني إسرائيل , إذ كانوا إذا أذنب الواحد منهم أصبح مكتوباً على بابه من كفارة ذنبه: إجدع أنفك , إجدع أذنك ونحو ذلك , فجعل الاستغفار , وهذا قول ابن مسعود وعطاء بن أبي رباح. {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُواْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه الإصرار على المعاصي , وهو قول قتادة. والثاني: أنه مواقعة المعصية إذا هم بها , وهو قول الحسن. والثالث: السكوت على المعصية وترك الاستغفار منها , وهو قول السدي.

والرابع: أنه الذنب من غير توبة. {وَهُم يَعْلَمُونَ} أنهم قد أتوا معصية ولا ينسونها , وقيل: معناه وهم يعلمون الجهة في أنها معصية.

137

{قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} {قَد خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: أنه سنن من الله في الأمم السالفة أهلكهم بها. والثاني: يعني أنهم أهل سنن كانوا عليها في الخير والشر , وهو قول الزجاج , وأصل السنة الطريقة المتبعة في الخير والشر , ومنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم , قال لبيد بن ربيعة: (من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سُنَّةٌ وإمامها) وقال سليمان بن فيد: (فإن الألى بالطف من آل هاشمٍ ... تآسَواْ فسنوا للكرام التآسيا)

{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن , وهذا قول الحسن , وقتادة. والثاني: أنه ما تقدم ذكره في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} الآية , وهذا قول ابن إسحاق. {وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} نور وأدب. {إِن يَمْسَسْكُم قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} يعني أن يصيبكم قرح , قرأ أبو بكر عن عاصم , وحمزة , والكسائي بضم القاف , وقرأ الباقون بفتحها , وفيها قولان: أحدهما: أنها لغتان ومعناهما واحد. والثاني: أن القرح بالفتح: الجراح , وبالضم ألم الجراح , وهو قول الأكثرين. وأما الفرق بيت المس واللمس فهو أن اللمس مباشرة بإحساس , والمس مباشرة بغير إحساس , وهذا ما ذكره الله تعالى للمؤمنين تسلية لهم فإن أصابهم يوم أحد قرح فقد أصاب المشركين يوم بدر مثله. {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُها بَينَ النَّاسِ} قال الحسن , وقتادة: أي تكون مرة لفرقة , ومرة عليها والدولة: الكرة , يقال أدال الله فلاناً من فلان بأن جعل الكرة له عليه. {وَليُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَءَآمَنُوا} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: معناه ليبتلي , وهذا قول ابن عباس. والثاني: يعني بالتمحيص تخليصه من الذنوب , وهو قول أبي العباس والزجاج , أصل التمحيص عندهما التخليص. والثالث: معناه وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا , وهو قول الفراء {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} قال ابن عباس: ينقصهم.

{وَلَقَدْ كُنتُم تَمنَّونَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} قيل تمنى الموت بالجهاد من لم يحضر بدراً , فلما كان أحد أعراض كثير منهم فعاتبهم الله تعالى على ذلك , هكذا قال الحسن وقتادة ومجاهد. {فَقَدْ رَأَيتُمُوهُ وَأَنتُم تَنظُرُونَ} فيه قولان: أحدهما: يعني فقد علمتموه. والثاني: فقد رأيتم أسبابه.

144

{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين} {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرَّسُلُ}. سبب نزولها أنه لما أشيع يوم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل , قال أناس: لو كان نبياً ما قتل , وقال آخرون: نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به. {أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} يعني رجعتم كفاراً بعد إيمانكم. {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْدُّنيا نُؤْتِهِ مِنهَا} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي ما يصيبه من الغنيمة , وهذا قول بعض البصريين. والثاني: من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة , وهذا قول ابن إسحاق. والثالث: من أراد ثواب الدنيا بالنهوض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا دون الآخرة. {وَكَأّيِّن مِن نَّبِيٍ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قرأ بذلك ابن كثير , ونافع , وأبو عمرو , وقرأ الباقون {قَاتَلَ} , وفي {رِبِّيُّونَ} أربعة أقاويل: أحدها: أنهم الذين يعبدون الرب وأحدهم رِبّيُّ , وهو قول بعض نحْويي البصرة. الثاني: انهم الجماعات الكثيرة , وهو قول ابن مسعود وعكرمة ومجاهد. والثالث: انهم العلماء الكثيرون , وهو قول ابن عباس , والحسن. والرابع: أن (الربيون) الأتباع. والربانيون: الولاة , والربيون الرعية , وهو قول أبي زيد , قال الحسن: ما قُتِلَ نبي قط إِلاَّ في معركة. {فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُواْ} الوهن: الانكسار بالخوف. الضعف نقصان القوة , الاستكانة الخضوع , ومعناه فلم يهنوا بالخوف , ولا ضعفوا بنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع. وقال ابن إسحاق: فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانواْ لما أصابهم. {فَآتَاهُم اللهُ ثَوَابَ الدُّنيَا وَحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ} في ثواب الدنيا قولان: أحدهما: النصر على عدوهم , وهو قول قتادة , والربيع. والثاني: الغنيمة , وهو قول ابن جريج {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} الجنة , في قول الجميع.

149

{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على

أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون} {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ} أي تقتلونهم في قول الجميع , يقال حَسه حَسّاً إذا قتله , لنه أبطل بمعونته. {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} والفرق بين الإِصعاد والصعود أن الإِصعاد في مستوى الأرض , والصعود في ارتفاع , وهذا قول الفراء , وأبي العباس , والزجاج , وروي عن ابن عباس أنهم صعدوا في جبل أُحُد فراراً. {وَالرَّسُوْلُ يَدْعُوكُم فِي أُخْرَاكُم} قيل إنه كان يقول: (يَا عِبَادَ اللهِ ارْجِعُواْ) ذكر ذلك عن ابن عباس , والسدي , والربيع. {فَأَثَابَكُم غَماً بِغَمٍّ} فيه قولان:

أحدهما: غماً على غم. والثاني: غمّاً مع غم. وفي الغم الأول والثاني تأويلان: أحدهما: أن الغم الأول القتل والجراح , والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا قول قتادة , والربيع. والثاني: غماً يوم أحد بغم يوم بدر , وهو قول الحسن.

154

{ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيكُم مِنْ بَعدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ , وطَآئِفَةً قَدْ أَهَمَّتُهُمْ أَنفُسُهُمْ} وسبب ذلك أن المشركين يوم أُحد توعدوا المؤمنين بالرجوع , فكان من أخذته الأمَنَةُ من المؤمنين متأهبين للقتال , وهم أبو طلحة , وعبد الرحمن بن عوف , والزبير بن العوام , وغيرهم فنامواْ حتى أخذتهم الأمَنَةُ. {وطآئِفَةٌ قَدْ أَهَم َّتْهُمْ أَنفسُهُمْ} من الخوف وهم من المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول , ومعتب بن قشير , ومن معهما أخذهم الخوف فلم يناموا لسوء الظن. {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} يعني في التكذيب بوعده. {يَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا مِنَ الأَمرِ شَيءٌ ما قُتِلْنَا هَا هُنَا} فيه قولان:

أحدهما: أناّ أخرجنا كرهاً ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا , وهذا قول الحسن. والثاني: أي ليس لنا من الظفر شيء , كما وعدنا , على جهة التكذيب لذلك. {قُلْ لَّو كُنتُم فِي بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم} فيه قولان: أحدهما: يعني لو تخلفتم لخرج منكم المؤمنون ولم يتخلفوا بتخلفكم. والثاني: لو تخلفتم لخرج منكم الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم , ولم ينجهم قعودهم. {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُم} فيه تأويلان: أحدهما: ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر. والثاني: معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم فأضاف الابتلاء إليه تفخيماً لشأنه. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّواْ مِنكُم يَومَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} فيهم تأويلان: أحدهما: هم كل من ولّى الدبر من المشركين بأحد وهذا قول عمر , وقتادة , والربيع. والثاني: أنهم من هرب إلى المدينة وقت الهزيمة , وهذا قول السدي. {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} فيه قولان: أحدهما: أنه محبتهم للغنيمة وحرصهم على الحياة. والثاني: استذلَّهم بذكر خطايا سلفت لهم , وكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة منها والخروج من المظلمة فيها , وهذا قول الزجاج. {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنهُم} فيه قولان: أحدهما: حلم عنهم إذ لم يعاجلهم بالعقوبة , وهذا قول ابن جريح وابن زيد. والثاني: غفر لهم الخطيئة ليدل على أنهم قد أخلصواْ التوبة.

وقيل: إن الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهزموا ثلاثة عشر رجلاً , منهم خمسة من المهاجرين: أبو بكر , وعلي , وطلحة , وعبد الرحمن , وعبد الرحمن , وسعد بن أبي وقاص , والباقون من الأنصار.

156

{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُم} يعني فبرحمة من الله , و {مَا} صلة دخلت لحسن النظم.

{وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الفظ: الجافي , والغليظ القلب: القاسي , وجمع بين الصفتين , وإن كان معناهما واحداً للتأكيد. {فَاعْفُ عَنهُم وَاسْتَغْفِرْ لَهُم وَشَاوِرْهُم فِي الأمْرِ} وفي أمره بالمشاورة أربعة أقاويل: أحدها: أنه أمره بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيه , قال الحسن: ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم. والثاني: أنه أمره بِمشاورتهم تأليفاً لهم وتطيباً لأنفسهم , وهذا قول قتادة , والربيع. والثالث: أنه أمره بمشاورتهم لِمَا علم فيها من الفضل , ولتتأسى أمته بذلك بعده صلى الله عليه وسلم , وهذا قول الضحاك. والرابع: أنه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنياً , وهذا قول سفيان. {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} قرأ ابن كثير , وعاصم , وأبو عمرو بفتح الياء وضم العين , وقرأ الباقون يغل بضم الياء وفتح الغين. ففي تأويل من قرأ بفتح الياء وضم الغين ثلاثة أقاويل: أحدها: أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر , فقال بعض الناس أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم , فانزل الله تعالى هذه الآية , وهذا قول عكرمة , وسعيد بن جبير. والثاني: أنها نزلت في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجههم في وجه , ثم غنم الرسول فلم يقسم للطلائع فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} أي يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم , وهذا قول ابن عباس , والضحاك. والثالث: أن معناه وما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله إليهم لرهبة منه ولا رغبة فيهم , وهذا قول ابن إسحاق. وأما قراءة من قرأ يُغّل بضم الياء وفتح الغين ففيها قولان: أحدهما: يعني وما كان لنبي أن يتهمه أصحابه ويخوَّنوه.

والثاني: معناه وما كان لنبي أن يغل أصحابه ويخونهم , وهذا قول الحسن , وقتادة. وأصل الغلول الغلل وهو دخول الماء في خلال الشجر , فسميت الخيانة غلولاً لأنها تجري في المال على خفاء كجري الماء , ومنه الغل الحقد لأنه العداوة تجري في النفس مجرى الغلل. {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِن أَنُفُسِهِمْ} وفي وجه المنة بذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: ليكون ذلك شرفاً لهم. والثاني: ليسهل عليهم تعلم الحكمة منه لأنه بلسانهم. والثالث: ليظهر لهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفة والطهارة. {يَتْلُو عَلَيهِمْءَآيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: أنه يشهد لهم بأنهم أزكياء في الدين. والثاني: أن يدعوهم إلى ما يكونون به أزكياء. والثالث: أنه يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها , وهو قول الفراء.

165

{أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} {أَوَ لَمّآ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا} يعني بالمصيبة التي أصابتهم يوم أحد , وبالتي أصابوها يوم بدر.

{قُلْتُمْ: أَنَّى هَذَا , قُلْ: هُوَ مِن عِنْدِ أَنفُسِكُمْ} في الذي هو من عند أنفسهم ثلاثة أقاويل: أحدها: خلافهم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد , وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتحصنواْ بها , وهذا قول قتادة , والربيع. والثاني: اختيارهم الفداء من السبعين يوم بدر على القتل , وقد قيل لهم إن فعلتم ذلك قُتِلَ منكم مثلُهم , وهذا قول علي , وعبيدة السلماني. والثالث: خلاف الرماة يوم أحد لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ملازمة موضعهم. {وَمَا أَصَابَكُمْ يَومَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبإِذْنِ اللهِ ولِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} فيه قولان: أحدهما: ليرى المؤمنين. والثاني: ليُمَيَّزُوا من المنافقين. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} يعني عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه. {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ} يعني جاهدواْ. {أَوِ ادْفَعُوا} فيه قولان: أحدهما: يعني تكثير السواد وإن لم يقاتلواْ وهو قول السدي وابن جريج. والثاني: معناه رابطواْ على الخيل إن لم تقاتلواْ , وهو قول ابن عوف الأنصاري. {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لآَّتَّبَعْنَاكُمْ} قيل إن عبد الله بن عمرو ابن حزام قال لهم: [اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم فقال له ابن أبي]: عَلاَمَ نقتل أنفسنا؟ ارجعواْ بنا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. {هُمْ لِلْكُفْرِ يَؤمَئِذٍ أَقْربُ مِنهُم لِلإِيمَانِ} لأنهم بإظهار الإيمان لا يحكم عليهم بحكم الكفار , وقد كانوا قبل ذلك بإظهار الإيمان أقرب إلى الإيمان , ثم صارواْ بما فعلوه أقرب إلى الكفر من الإيمان. {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} يعني ما يظهرونه من الإسلام وليس في قلوبهم منه شيء.

وإنما قال: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} وإن كان القول لا يكون إلا به لأمرين: أحدهما: التأكيد. والثاني: أنه ربما نسب القول إلى الساكت مجازاً إذ كان به راضياً. {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِم وَقَعَدُواْ: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ} يعني عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه حين انخذلوا وقعدوا , وكانوا نحو ثلثمائة وتخلف عنهم من قُتل منهم (فقالواْ) لو أطاعونا وقعدواْ معنا ما قُتِلواْ. {قُلْ فَادْرَؤُواْ عَن أَنفُسِكُم الْمَوتَ} أي ادفعواْ عن أنفسكم الموت , ومنه قول الشاعر: (تقول وقد درأتُ لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني) {إِن كُنتُم صَادِقِينَ} فيه قولان: أحدهما: يعني في خبركم أنهم لو أطاعواْ ما قُتِلواْ. والثاني: معناه إن كنتم محقين في تثبيطكم عن الجهاد فراراً من القتل.

169

{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَآءٌ} يعني أنهم في الحال وبعد القتل بهذه الصفة , فأما في الجنة فحالهم في ذلك معلومة عند كافة المؤمنين , وليس يمتنع إحياؤهم في الحكمة. وقد روى ابن مسعود وجابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُم بِأُحدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُم فِي حَوَاصِلِ طَيْر خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهارَ الجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِن ثِمَارِها). وفي {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} تأويلان: أحدهما: أنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضراً إلا ربُّهُم. والثاني: انهم أحياء عند ربهم من حيث يعلم أنهم أحياء دون الناس. {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ} فيه قولان: أحدهما: يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا , وهو قول قتادة , وابن جريج. والثاني: أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه فيبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب في الدنيا بقدومه , وهذا قول السدي. {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوهُم} أما الناس في الموضعين وإن كان بلفظ الجمع فهو واحد لأنه تقدير الكلام جاء القول من قِبَل الناس , والذين قال لهم الناس هم المسلمون وفي الناس القائل قولان:

أحدهما: هو أعرابي جُعِل له على ذلك جُعْل , وهذا قول السدي. والثاني: هو نعيم بن مسعود الأشجعي , وهذا قول الواقدي. والناس الثاني أبو سفيان وأصحابه. واختلفوا في الوقت الذي أراد أبو سفيان أن يجمع لهم هذا الجمع على قولين: أحدهما: بعد رجوعه على أُحُد سنة ثلاث حتى أوقع الله في قلوب المشركين الرعب كفّوا , وهذا قول ابن عباس , وابن إسحاق , وقتادة. والثاني: أن ذلك في بدر الصغرى سنة أربع بعد أحد بسنه , وهذا قول مجاهد. {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} التخويف من الشيطان والقول من الناس , وفي تخويف أولياءئه قولان: أحدهما: أنه يخوف المؤمنين من أوليائه المشركين , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد , وقتادة. والثاني: أنه يخوف أولياءَه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين , وهذا قول الحسن , والسدي.

176

{ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله

ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير} {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} فيهم قولان: أحدهما: هم المنافقون وهو قول مجاهد وابن إسحاق. والثاني: قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام. {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيئاً , يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرةِ} في إرادته لذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: أن يحكم بذلك. والثاني: معناه أنه سيريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط إيمانهم بكفرهم. والثالث: يريد أن يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم , وهذا قول ابن إسحاق. {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الطيب المؤمنون , والخبيث فيه ها هنا قولان: أحدهما المنافق , وهو قول مجاهد. والثاني: الكافر , وهو قول قتادة , والسدي. واختلفوا في الذي وقع به التمييز على قولين: أحدهما: بتكليف الجهاد , وهذا قول من تأوّل الخبيث بالمنافق. والثاني: بالدلائل التي يستدل بها عليهم وهذا قول من تأوله للكافر. {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيبِ} قيل إن سبب نزول هذا أن قوماً من المشركين قالواْ: إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن ومن لا يؤمن , فنزلت هذه الآية.

قال السدي: ما أطلع الله نبيه على الغيب , ولكنه اجتباه فجعله رسولاً. قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَاءَآتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرُ لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُم} فيه قولان. أحدهما: أنهم مانعو الزكاة , وهو قول السدي. والثاني: أنهم أهل الكتاب وبخلواْ أن يُبيِّنوا للناس ما في كتبهم من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , وهو قول ابن عباس , قال ألم تسمع أنه قال: {يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} , أي يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان. {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَومَ الْقِيَامَةِ} فيه قولان: أحدهما: أن الذي يطوَّقونه شجاع أقرع , وهذا قول ابن مسعود. والثاني: أنه طوق من النار , وهذا قول إبراهيم.

181

{لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن

الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفِسُكُمْ وَلَتْسَمُعنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً}. وفي هذا الأذى ثلاثة أقاويل: أحدها: ما روي أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويحرض عليهم المشركين حتى قتله محمد بن مسلمة , وهذا قول الزهري. والثاني: أن فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع لما سئل الإمداد قال: احتاج ربكم إلى أن نمده , وهذا قول عكرمة. والثالث: أن الأذى ما كانوا يسمعونه من الشرك كقول اليهود: عزيز ابن الله , وكقول النصارى: المسيح ابن الله وهذا قول ابن جريج.

187

{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير} قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} الميثاق: اليمين. وفي الذين أتوا الكتاب هاهنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود خاصة , وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي.

والثاني: أنهم اليهود والنصارى. والثالث: انهم كل من أوتى علم شيءٍ من كتاب فقد أخذ أنبياؤهم ميثاقهم. {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} فيه قولان: أحدهما: ليبين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول سعيد بن جبير , والسدي. والثاني: ليبين الكتاب الذي فيه ذكره , وهذا قول الحسن , وقتادة. قوله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب فرحوا بالاجتماع على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وإخفاء أمره , وأحبواْ أن يحمدواْ بما ليس فيهم من أنهم أهل نسك وعلم , وهذا قول ابن عباس , والضحاك. والثاني: أنهم أهل النفاق فرحوا بقعودهم عن القتال وأحبواْ أن يحمدوا بما ليس فيهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول أبي سعيد الخدري , وابن زيد.

190

{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنءَامِنُوا ِبربِّكُمْ فَآمنّا} في المنادي قولان: أحدهما: أنه القرآن وهو قول محمد بن كعب القرظي قال: ليس كل الناس سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثاني: انه النبي صلى الله عليه وسلم , وهو قول ابن جريج وابن زيد. {يُنَادِي لِلإِيمَانِ} أي إلى الإيمان , كقوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا} [الأعراف: 43] بمعنى إلى هذا. ومنه قول الراجز: (أوحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثُّبّتِ) يعني أوحى إليها كما قال تعالى: {بِأنَّ ربكَ أوحى لها} [الزلزلة: 5] أي إليها. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} فإن قيل فقد علمواْ أن الله تعالى منجز وعده فما معنى هذا الدعاء والطلب , ففي ذلك أربعة أجوبة: أحدها: أن المقصود به , مع العلم بإنجاز وعده , الخضوع له بالدعاء والطلب. والثاني: أن ذلك يدعو إلى التمسك بالعمل الصالح. والثالث: معناه أجعلنا ممن وعدته ثوابك. والرابع: يعني عّجل إلينا إنجاز وعدك وتقديم نصرك.

195

{فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب} قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} حكى مجاهد , وعمرو بن دينار أن سبب نزول هذه الآية أم سلمة قالت: يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فنزلت هذه الآية. {بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ} أي الإناث من الذكور , والذكور من الإناث.

196

{لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار} قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ} فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه الاغترار فكيف خوطب بهذا , فعنه جوابان: أحدهما: أن الله عز وجل إنما قال له ذلك تأديباً وتحذيراً. والثاني: أنه خطاب لكل من سمعه , فكأنه قال: لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد. وفي تقلبهم قولان: أحدهما: يعني تقلبهم في نعيم البلاد. والثاني: تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم.

199

{وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} اختلفوا في سبب نزولها على قولين: أحدهما: أنها نزلت في النجاشي , روى سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أُخْرُجُوا فَصَلُّواْ عَلَى أخٍ لَكُم فَصَلَّى بِنَا أَرْبَعَ تَكْبِيراتٍ , فَقَالَ هَذَا النَجَّاشِيُّ أصحمة) فَقَالَ المْنَافِقُونَ: انظرواْ إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى هذه الآية , وهو قول قتادة.

والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من مُسلمة أهل الكتاب , وهذا قول مجاهد , وابن جريج. قوله تعالى: {يَاَ أيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُوا} فيه أربعة تأويلات: - أحدها: اصبرواْ على طاعة الله , وصابرواْ أعداء الله , ورابطواْ في سبيل الله , وهو قول الحسن , وقتادة , وابن جريج , والضحاك. والثاني: اصبرواْ على دينكم , وصابرواْ الوعد الذي وعدكم , ورابطواْ عدوي وعدوكم , وهو قول محمد بن كعب. والثالث: اصبرواْ على الجهاد , وصابرواْ العدو , ورابطواْ بملازمة الثغر , وهو مأخوذ من ربط النفس , ومنه قولهم ربط الله على قلبه بالصبر , وهو معنى قول زيد بن أسلم. والرابع: رابطوا على الصلوات بانتظارها واحدة بعد واحدة: روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ أَدُلَّكُم عَلَى مَا يَحِطُّ بِه اللهُ الخَطَايَا ويَرْفُعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُواْ بَلَى يَا رَسُولَ الله , قَالَ: إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ , وَكَثْرةُ الخُطَا إلىَ المَسَاجِدِ وَانتِظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ , فَذّلِكُمُ الرَّباط). انتهت سورة آل عمران

سورة النساء

النساء

{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُم الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم , وفي ذلك نعمة عليكم لأنه أقرب إلى التعاطف بينكم. {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء , قال ابن عباس , ومجاهد , والحسن خلقت من ضلع آدم , وقيل الأيسر , ولذلك قيل للمرأة: ضلع أعوج. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثيراً وَنِسَاءً} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها عليه: (خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فَهَمَّهَا فِي الرَّجُلُ مِنَ التَّرابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرابِ).

{وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ} ومعنى قوله تساءلون به , هو قولهم أسألك بالله وبالرحم , وهذا قول مجاهد وإبراهيم , وقرأ حمزة والأرحام بالكسر على هذا المعنى. وفي الأرحام قولٌ آخر: أنه أراد صِلُوها ولا تقطعوها , وهو قول قتادة , والسدي , لأن الله تعالى قصد بأول السورة حين أخبرهم أنهم من نفس واحدة أن يتواصلواْ ويعلمواْ أنهم إخوة وإن بعدواْ. {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيباً} فيه تأويلان: أحدهما: حفيظاً , وهو قول مجاهد. والثاني: عليماً , وهو قول ابن زيد.

2

{وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} قوله تعالى: {وَءَاتُواْ اليَتَامَى أَمْوَالَهُم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: الحرام بالحلال , وهو قول مجاهد. والثاني: هو أن يجعل الزائف بدل الجيد , والمهزول بدل السمين ويقول درهم بدرهم , وشاة بشاة , وهو ابن المسيب والزهري والضحاك والسدي. والثالث: هو استعجال أكل الحرام قبل إتيان الحلال , وهو معنى قول مجاهد. والرابع: أن أهل الجاهلية كانواْ لا يورثون الصغار والنساء ويأخذه الرجل

الأكبر , فكان يستبدل الخبيث بالطيب لأن نصيبه من الميراث طيب , وأخذه الكل خبيث , وهو قول ابن زيد. {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي مع أموالكم , وهو أن يخلطوها بأموالهم لتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها. {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} والحُوب: الإثم , ومنه قولهم تحوّب فلانٌ من كذا , إذا توقى , قال الشاعر: (فإن مهاجرين تكنفاهُ ... غداة إذٍ لقد خطئنا وحَابَا) قال الحسن البصري: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل ماله عن ماله فشكواْ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُم فَإِخْوَانُكُم} [البقرة: 220] أي فخالطوهم واتقوا إثمه. {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَآءِ} فيه أربع تأويلات: أحدها: يعني إن خفتم ألا تعدلواْ في نكاح اليتامى , فانكحوا ما حَلَّ لكم من غيرهن من النساء , وهو قول عائشة رضي الله عنها. والثاني: أنهم كانواْ يخافون ألاّ يعدلوا في أموال اليتامى , ولا يخافون أن لا يعدلواْ في النساء , فأنزل الله تعالى هذه الآية , يريد كما خفتم ألاّ تعدلواْ في أموال اليتامى , فهكذا خافوا ألا تعدلوا في النساء , وهذا قول سعيد بن جبير , والسدي , وقتادة. والثالث: أنهم كانوا يتوقَّون أموال اليتامى ولا يتوقَّون الزنى , فقال كما خفتم في أموال اليتامى , فخافواْ الزنى , وانحكوا ما طاب لكم من النساء , وهذا قول مجاهد. والرابع: إن سبب نزولها , أن قريشاً في الجاهلية كانت تكثر التزويج بغير عدد محصور , فإذا كثر على الواحد منهم مؤن زوجاته , وقَلَّ مالُه , مدّ يده إلى ما

عنده من أموال الأيتام , فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَاءِ}. وفي قوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَاءِ} قولان: أحدهما: أن ذلك عائد إلى النساء وتقديره فانحكوا من النساء ما حلَّ. وهذا قول الفراء. والثاني: أن ذلك عائد إلى النكاح وتقديره فانحكوا النساء نكاحاً طيباً. وهذا قول مجاهد. {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} تقديراً لعددهن وحصراً لمن أبيح نكاحه منهن وهذا قول عكرمة. {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} معدول به عن اثنين وثلاث وأربع , وكذلك أُحاد وموحد , وثناء ومثنى , وثلاث ومثلث , ورباع ومربع , وهو اسم للعدد معرفة , وقد جاء الشعر بمثل ذلك , قال تميم بن أبي مقبل: (ترى العثرات الزُّرْق تحت لَبَانِه ... أُحاد ومثْنى أضعفتها كواهِله) وقال آخر: (قتلنا به من بين مَثْنى وموحد ... بأربعة منكم وآخر خامس) قال أبو عبيدة: ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز الرباع والمربع عن

جهته إلا في بيت للكميت , فإنه قال في العشرة عُشار وهو قوله: (فلم يَسْتَرِيَثُوكَ حتى رَمِدْ ... ت فوق الرجال خِصالاً عشاراً) وقال أبو حاتم: بل قد جاء في كلامهم من الواحد إلى العشرة , وأنشد قول الشاعر: (ضربت خماس ضربة عبشمي ... أدار سداس ألاَّ يستقيما) {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا} يعني في الأربع , {فَوَاحِدَةً} يعني من النساء. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني في الإماء. {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أَلاَّ يكثر مَنْ تعولون , وهو قول الشافعي. والثاني: معناه ألاّ تضلواْ , وهو قول ابن إسحاق , ورواه عن مجاهد. والثالث: ألا تميلوا عن الحق وتجوروا وهو قول ابن عباس , وقتادة , وعكرمة. وأصل العول الخروج عن الحد ومنه عول الفرائض لخروجها عن حد السهام المسمّاة , وأنشد عكرمة بيتاً لأبي طالب: (بميزان قسط لا يَخيسُ شعيرةً ... ووازن صِدْقٍ وزنهُ غير عائل) أي غير مائل. وكتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: إني لست بميزان قسطٍ لا أعول.

قوله تعالى: {وءَآتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ ... } اختلف فِيمَنْ توجَّه إليه هذا الخطاب على قولين: أحدهما: أنه متوجه إلى الأزواج , وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه متوجه إلى الأولياء , لأنهم كانواْ يتملكون في الجاهلية صداق المرأة , فأمر الله بدفع صدقاتهن إليهن , وهو قول أبي صالح. وأما النَّحلة فهي العطية من غير بدل , وسمي الدين نِحْلَةَ , لنه عطية من الله , وفي تسميه النّحْل بذلك قولان: أحدهما: أنه سمي نحلاً لما يعطي من العسل. والثاني: لأن الله تعالى نَحَلهُ عباده. وفي المراد بالنَّحلة في الصداق أربعة تأويلات: أحدها: يعني فريضة مُسَمَّاة , وهو قول قتادة , وابن جريج. والثاني: أنه نحلة من الله عز وجل لهن بعد أن كان ملكاً للأولياء , وهو قول أبي صالحٍ. والثالث: انه نهى لِما كانوا عليه من خِطْبة الشغار , والنكاح بغير صداق , وهو قول سليمان بن جعفر بن أبي المعتمر. والرابع: انه أراد أن يطيبوا نفساً بدفعه , كما يطيبون نفساً بالنحل والهبة , وهو قول بعض المتأخرين. {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} يعني الزوجات إن طبن نفساً عن شيء من صداقهن لأزواجهن في قول من جعله خطاباً للأزواج , ولأوليائهن في قول من جعله خطاباً للأولياء. {فَكُلُوهُ هُنِيئاً مَّرِيئاً} الهنيء ما أعقب نفعاً وشفاء , ومنه هنأ البعير للشفاء , قال الشاعر: (متبدلاً تَبْدُو مَحاسنه ... يَضَعُ الهناءَ مَواضِعَ النُّقبِ)

5

{ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا} قوله عز وجل {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} اختلفوا في المراد بالسفهاء في هذا الموضع على أربعة أقاويل: أحدها: أنهم الصبيان , وهو قول سعيد بن جبير , والحسن. والثاني: أنهم النساء , وهو قول ابن عمر. والثالث: أنه عنى الأولاد المسرفين أن يقسم ماله فيهم فيصير عيالاً عليهم , وهو قول ابن عباس , وابن زيد وأبي مالك. والرابع: أنه أراد كل سفيه استحق في المال حَجْراً , وهو معنى ما رواه الشعبي عن أبي بردة , عن أبي موسى الأشعري أنه قال: ثلاثة يَدْعون فلا يستجيب الله لهم: رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها , ورجل أعطى مالاً سفيهاً وقد قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} , ورجل له على رجل دين لم يُشْهِد عليه.

وأصل السفيه خفة الحِلْم فلذلك وصف به الناقص العقل. ووصف به المفسد لماله لنقصان تدبيره , ووصف به الفاسق لنقصانه عند أهل الدين , والعلم. {أَمْوَالَكُمُ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني أموال الأولياء , وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه عنى به أموال السفهاء , وهو قول سعيد بن جبير. {الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً} قرأ نافع وابن عُمر {قِيَماً} ومعناهما واحد , يريد أنها قُوامُ معايشكم سفائكم. {وَارْزُقُوهُمْ فيها وأكسوهم} فيه قولان: أحدهما: أي أنفقوا أيها الأولياء على السفهاء من أموالهم. {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الوعد بالجميل , وهو قول مجاهد. والثاني: الدعاء له كقوله بارك الله فيك , وهو قول ابن زيد. {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى} أي اختبروهم في عقولهم وتمييزهم وأديانهم. {حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} يعني الحُلُم في قول الجميع. {فَإِنْءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً} فيه أربع تأويلات: أحدها: أن الرشد العقل , وهو قول مجاهد , والشعبي. والثاني: أنه العقل والصلاح في الدين , وهو قول السدي. والثالث: أنه صلاح في الدين وإصلاح في المال , وهو قول ابن عباس , والحسن , والشافعي. والرابع: أنه الصلاح والعلم بما يصلحه , وهو قول ابن جريج. {فَادْفَعُواْ إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ} يعني التي تحت أيديكم أيها الأولياء عليهم. {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا} يعني لا تأخذوها إسرافاً على غير ما أباح الله لكم , وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما ليس بمباح , فربما

كان في الإفراط , وربما كان في التقصير , غير أنه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال أسرف إسرافاً , وإذا كان في التقصير قيل سرف يسرف. قوله تعالى: {وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} قال ابن عباس: وهو أن تأكل مال اليتيم تبادر أن يكبر , فيحول بينك وبين ماله. {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} يعني بماله عن مال اليتيم. {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه القرض يستقرض إذا احتاج ثم يرده إذا وجد , وهو قول عمر , وابن عباس , وجمهور التابعين. والثاني: أنه يأكل ما يسد الجوعة , ويلبس ما يواري العورة , ولا قضاء , وهو قول الحسن , وإبراهيم , ومكحول , وقتادة. روى شعبة عن قتادة أن عم ثابت بن رفاعة _ وثابت يومئذ يتيم في حجره , أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إن ابن أخي يتيم في حجري , فما يحل لي من ماله؟ قال: (أَنْ تَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيرِ أن تقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ وَلاَ تَتَّخِذْ مِنْ مَالِهِ وَقْراً). والثالث: أن يأكل من ثمره , ويشرب من رِسْلِ ماشيته من غير تعرض لِمَا سوى ذلك من فضة أو ذهب , وهو قول أبي العالية , والشعبي. روى القاسم بن محمد قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاماً , وإن لهم إبلاً , فماذا يحل لي منها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها , وتهنأ جرباءَها , وتلوط حوضها , وتفرط عليها يوم وِرْدِهَا , فاشرب من ألبانها غير مُضِرِّ بنسل , ولا بأهل في الحلب. والرابع: أن يأخذ إذا كان محتاجاً أجرةً معلومة على قدر خدمته , وهو قول عطاء. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس

لي مال ولي يتيم , فقال: (كُلْ مِنْ مَالِ يَتيمِكَ غَيرَ مُسْرِفٍ وَلاَ وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ). {فَإِذَا دَفَعْتُم إِلَيْهِم أَمْوَالَهُم فَأَشْهِدُواْ عَلَيهِم} ليكون بيِّنةَ في دفع أموالهم إليهم. {وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً} فيه قولان: أحدهما: يعني شهيداً. والثاني: كافياً من الشهود.

7

{للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا} قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَاِلدَانِ والأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ} وسبب نزول هذه الآية , في الجاهلية كانواْ يُوَرِّثُونَ الذكور دون الإناث , فروى ابن جريج عن عكرمة قال: نزلت في لأم كُجَّة وبناتها وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار , وكان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها , فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وبنيه ولم نُورَّث , فقال عم ولدها: يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاُّ , ولا ينكأ عدواً يكسب عليها ولا تكسب , فنزلت هذه الآية.

{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمُ مِّنْهُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ثابتة الحكم. قال سعيد بن جبير: هما وليان , أحدهما يرث وهو الذي أمر أن يرزقهم أي يعطيهم , والآخر لا يرث وهو الذي أُمر أن يقول لهم قولاً معروفاً , وبإثبات حكمها قال ابن عباس , ومجاهد , والشعبي , والحسن , والزهري. ورُوْي عن عبيدة أنه وَليَ وصية فأمر بشاة فذبحت , وصنع طعاماً لأجل هذه الآية وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. والقول الثاني: أنها منسوخة بآية المواريث , وهذا قول قتادة , وسعيد بن المسيب , وأبي مالك , والفقهاء. والثالث: أن المراد بها وصية الميت التي وصَّى بها أن تفرق فِيْمَنْ ذُكِرَ وفِيمَنْ حَضَرَ , وهو قول عائشة. فيكون ثبوت حكمها على غير الوجه الأول. واختلف مَنْ قال: بثبوت حكمها على الوجه الأول في الوارث إذا كان صغيراً هل يجب على وليَّه إخراجها من سهمه على قولين: أحدهما: يجب , وهو قول ابن عباس , وسعيد , ويقول الولي لهم قولاً معروفاً. والثاني: أنه حق واجب في أموال الصغار على الأولياء , وهو قول عبيدة , والحسن. {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للورثة وأوليائهم أن يقولوا لمن حضر من أولي القربى , واليتامى , والمساكين قولاً معروفاً عند إعطائهم المال , وهذا قول ابن عباس , وسعيد بن جبير. والثاني: خطاب للآخرين أن يقولوا للدافعين من الورثة قولاً معروفاً , وهو الدعاء لهم بالرزق والغنى.

{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن معناه وليحذر الذين يحضرون مَّيتاً يوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ماله وصية فيمن لا يرثه ولكن ليأمروه أن يبقى ماله لولده , كما لو كان هو الموصي لآثر أن يبقة ماله لولده , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد , والسدي. والثاني: أن معناه وليحذر الذين يحضرون الميت وهو يوصي أن ينهوه عن الوصية لأقربائه , وأن يأمره بإمساك ماله والتحفظ به لولده , وهم لو كانوا من أقرباء الموصى لآثروا أن يوصي لهم , وهو قول مقسم , وسليمان بن المعتمر. والثالث: أن ذلك أمر من الله تعالى لِوُلاَةِ الأيتام , أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم , كما يحبون أن يكون ولاة أولادهم الصغار من بعدهم في الإحسان إليهم لو ماتوا وترمواْ أولادهم يتامى صغاراً , وهو مروي عن ابن عباس. والرابع: أن من خشي على ذريته من بعده , وأحب أن يكف الله عنهم الأذى بعد موته , فليتقوا الله وليقولا قولاً سديداً , وهو قول أبي بشر بن الديلمي. {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} عبر عن الأخذ بالأكل لأنه مقصود الأخذ. {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نَاراً} فيه قولان: أحدهما: يعني انهم يصيرون به إلى النار. والثاني: أنه تمتلىء بها بطونهم عقاباً يوجب النار. {وَسَيَصْلَونَ سَعِيراً} الصلاء لزوم النار , والسعير إسعار النار , ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير: 12].

11

{يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه

فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} روى السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان , لا يورثون الرجل من ولده إلاّ من أطاق القتال , فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كُجّة , وترك خمس أخوات , فجاءت الورثة فأخذوا ماله , فشكت أم كجة ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى هذه الآية. {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ففرض للثلاث من البنات , إذا انفردت عن ذَكَرٍ , الثلثين , وفَرْضُ الواحدة إذا انفردت النصف , واختلف في الثنتين , فقال ابن عباس النصف , من أجل قوله تعالى: {فَوقَ اثْنَتَيْنِ} وذهب الجماعة إلى أن فرضهما الثلثان كالثلاث فصاعداً اعتباراً بالأخوات. ثم قال تعالى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} قال ابن عباس: كان المال للولد , وكانت الوصية للوالدين والأقربين , فنسخ الله تعالى ذلك , فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين , وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس. ثم قال: {مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فسّوى بين كل واحد من الوالدين مع وجود الولد في أن لكل واحد منهما السدس , ثم فاضل بينهما مع عدم الولد مع أن جعل للأم الثلث والباقي للأب , وإنما كان هكذا لأن الأبوين مع الولد يرثان فرضاً بالولادة التي قد استويا فيها , فسوّى بين فرضهما , وإذا عَدِمَ الولد ورثت الأم فرضاً لعدم التعصب فيها , وورث الأب بالتعصيب , لأنه أقوى ميراثاً , وجعل فرضها شطر ما حازه الأب بتعصيبه , ليصير للذكر مثل حظ الأنثيين. {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} فلا خلاف أن الثلاثة من الأخوة يحجبونها من الثلث الذي هو أعلى فرضها إلى السدس الذي هو أقله , ويكون الباقي بعد سدسها للأب.

وحُكِيَ عن طاووس أنه يعود على الإِخوة دون الأب ليكون ما حجبوها عنه عائداً عليهم لا على غيرهم. وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن الأب يُسقِط من أدلى به كالجد. والثاني: أن العصبة لا يتقدر لهم في الميراث فرض كالأبناء. فأما حجب الأم بالأخوين , فقد منع منه ابن عباس تمسكاً بظاهر الجمع في قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} وخالفه سائر الصحابة مُحَجِّبُوا الأم بالأخوين فصاعداً , وإن لم تحجب بالأخ الواحد لأن لفظ الجمع لا يمنع أن يوضع موضع التثنية نحو قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] مع أن الاثنتين تقومان في الفرائض مقام الجمع الكامل , كالأخوات , وولد الأم. {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَينٍ} فقدم الدين والوصية على الميراث , لأن الدين حق على الميت , والوصية حق له , وهما مقدمان على حق ورثته , ثم قدم الدين على الوصية وإن كان في التلاوة مؤخراً , لأن ما على الميت من حق أولى أن يكون مقدماً على ما له من حق. وقد روى ابن إسحاق عن الحارث الأعور عن علي عليه السلام قال: إنكم تقرؤون هذه الآية {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَينٍ} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية فإن قيل: فَلِمَ قدم ذكر الوصية على الدين إن كان في الحكم مؤخراً؟ قيل لأن {أَوْ} لا توجب الترتيب وإنما توجب إثبات أحد الشيئين مفرداً أو مصحوباً , فصار كأنه قال: من بعد أحدهما أو من بعدهما. {ءَابآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} يعني في الدين أو الدنيا.

12

{ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين

بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم} قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} اختلفوا في الكلالة على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم من عدا الولد , وهو مروي عن ابن عباس , رواه طاووس عنه. والثاني: أنهم من عدا الوالد , وهو قول الحكم بن عيينة. والثالث: أنهم من عدا الولد والوالد , وهو قول أبي بكر , وعمر , والمشهور عن ابن عباس.

وقد روى الشعبي قال: قال أبو بكر: قد رأيت في الكلالة رأياً , فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له , وإن يك خطأ فمنِّي والله منه بريء , إن الكلالة ما خلا الوالد والولد. فلما اسْتُخْلِفَ عمر قال: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. ثم اختلفواْ في المُسَمَّى كلالة على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الكلالة الميت , وهو قول ابن عباس , والسدّي. والثاني: أنه الحي الوارث , وهو قول ابن عمر. والثالث: أنه الميت والحي , وهو قول ابن زيد. وأصل الكلالة الإِحاطة , ومنه الإكليل سمي بذلك لإِحاطته بالرأس فكذلك الكلالة لإِحاطتها بأصل النسب الذي هو الوالد والولد.

13

{تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} قوله تعالى: {تَلْكَ حُدُودُ اللهِ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: شروط الله , وهو قول السدي. والثاني: طاعة الله , وهو قول ابن عباس. والثالث: سُنّة الله وأمرُه. والرابع: فرائض الله التي حدها لعباده. والخامس: تفصيلات الله لفرائضه.

15

{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن

تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما} قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ} يعني بالفاحشة: الزنى. {فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ} يعني بيِّنة يجب بها عليهن الحد. {فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} اختلفوا في إمساكهن في البيوت هل هو حد أو مُوعد بالحد على قولين: {أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} يعني بالسبيل الحد , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خُذُواْ عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ , وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّب جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ). واختلفوا في نسخ الجَلْدِ من حد الثيِّب على قولين: أحدهما: أنه منسوخ , وهو قول الجمهور من التابعين والفقهاء. والثاني: أنه ثابت الحكم , وبه قال قتادة , وداود بن علي , وهذه الآية عامة في البكر والثيب , واخْتُلِفَ في نسخها على حسب اختلافهم فيها هل هو حد أو موعد بالحد , فمن قال: هي حد , جعلها منسوخة بآية النور , ومن قال: هي مُوعد بالحد , جعلها ثابتة. قوله عز وجل: {وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا منكُم فَئَاذُوهُمَا} فيها قولان: أحدهما: أنها نزلت في الأبكار خاصة , وهذا قول السدي , وابن زيد. والثاني: أنها عامة في الأبكار والثيِّب , وهو قول الحسن , وعطاء. واختلف في المعنى بقوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يِأْتِيَانِهَا مِنكُم} على قولين:

أحدهما: الرجل والمرأة , وهو قول الحسن , وعطاء. والثاني: البكران من الرجال والنساء , وهو قول السدي , وابن زيد. وفي الأذى المأمور به ثلاثة أقاويل:

أحدها: التعيير والتوبيخ باللسان , وهو قول قتادة , والسدي , ومجاهد. والثاني: أنه التعيير باللسان , والضرب بالنعال. والثالث: أنه مجمل أخذ تفسيره في البكر من آية النور , وفي الثيِّب من السُّنّة. فإن قيل كيف جاء ترتيب الأذى بعد الحبس؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن هذه الآية نزلت قبل الأولى , ثم أمر أن توضع في التلاوة بعدها , فكان الأذى أولاً , ثم الحبس , ثم الجلد أو الرجم , وهذا قول الحسن. والثاني: أن الأذى في البكرين خاصة , والحبس في الثَّيِّبين , وهذا قول السدي. ثم اختلف في نسخها على حسب الاختلاف في إجمالها وتفسيرها. {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} يعني تابا من الفاحشة وأصلحا دينهما , فأعرضواْ عنهما بالصفح والكف عن الأذى.

17

{إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} اختلف في المراد بالجهالة على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن كل ذنب أصابه الإِنسان فهو بجهالة , وكل عاص عصى فهو جاهل , وهو قول أبي العالية. والثاني: يريد يعملون ذلك عمداً , والجهالة العمد , وهو قول الضحاك , ومجاهد. والثالث: الجهالة عمل السوء في الدنيا , وهو قول عكرمة. {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ثم يتوبون في صحتهم قبل موتهم , وقبل مرضهم , وهذا قول ابن عباس , والسدي. والثاني: قبل معاينة مَلَكِ الموت , وهو قول الضحاك , وأبي مجلز. والثالث: قبل الموت , قال عكرمة: الدنيا كلها قريب. وقد روى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوبَةَ الْعَبْد ما لَمْ يُغَرْغِرْ). {وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ} إلى قوله: {وَهُمْ كُفَّارٌ} فيه قولان: أحدهما: وهو قول الجمهور أنها نزلت في عُصَاةِ المسلمين. والثاني: أنها نزلت في المنافقين , وهو قول الربيع.

فَسَوّى بين مَن لَمْ يتب حتى مات , وبين من تاب عند حضور الموت وهي [حالة] يعرفها مَنْ حَضَرها. ويحتمل أن يكون عند المعاينة في حال يعلم بها وإن منع من الإِخبار بها.

19

{يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً}. وسبب ذلك أن أهل المدينة في الجاهلية كانوا إذا مات أحدهم عن زوجة , كان ابنه وقريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها , فإن شاء نكحها كأبيه بالصداق الأول , وإن شاء زوجها وملك صداقها , وإن شاء عضلها عن النكاح حتى تموت فيرثها أو تَفْتَدِي منه نفسها بصداقها , إلى أَنْ تُوفِّيَ أبو قيس بن الأسلت عن زوجته كبيشة بنت معن بن عاصم فأراد ابنه أن يتزوجها فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت

يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي , ولا أنا تُرِكْتُ فأُنْكَح , فنزلت هذه الآية. {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآءَاتَيْتُمُوهُنَّ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه خطاب لورثة الأزواج أن [لا] يمنعوهن من التزويج كما ذكرنا , وهذا قول ابن عباس , والحسن , وعكرمة. والثاني: أنه خطاب للأزواج أن [لا] يعضلوا نساءهم بعد الطلاق , كما كانت قريش تفعل في الجاهلية وهو قول ابن زيد. والثالث: أنه خطاب للأزواج أن [لا] يحبسواْ النساء كرهاً ليفتدين نفوسهن أو يَمُتْنَ فيرثهن الزوج , وهذا قول قتادة , والشعبي , والضحاك. والرابع: أنه خطاب للأولياء وهذا قول مجاهد. {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبِّينَةٍ} فيها ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الزنى , وهو قول الحسن , وأبي قلابة والسدي. والثاني: أنها النشوز , وهو قول ابن عباس , وعائشة. والثالث: أنها البذاء والأذى. وقد روي عن مقسم في قراءة ابن مسعود (وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَاءَاتَيتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يُفْحِشْنَ). {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً} قال ابن عباس: يعني الولد الصالح. قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيئاً} يعني أنهن قد ملكن الصداق , وليس مِلْكُهُنَّ للصداق موقوفاً على التمسك بهن , بل ذلك لهن مع إمساكهن , وفراقهن. {أَتَأْخُذُونُه بُهْتَاناً} فيه قولان: أحدهما: ظلماً بالبهتان.

والثاني: أن يبهتها أن جعل ذلك ليسترجعه منها. وإنما منع من ذلك مع الاستبدال بهن وإن كان ممنوعاً منه وإن لم يستبدل بهن أيضاً لِئَلا يتوهم متوهم أنه يجور مع استبدال غيرها بها أن يأخذ ما دفعه إليها ليدفعه إلى من استبدل بها منه وإن كان ذلك عموماً. قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} فيه قولان: أحدهما: أن (الإفضاء) الجماع , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , والسدي. والثاني: أنه الخلوة , وهو قول أبي حنيفة. {وَأَخَذْنَ مِنكم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عقد النكاح الذي استحل به الفرج , وهو قول مجاهد. والثاني: أنه إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان , وهو قول الضحاك , والسدي , والحسن , وابن سيرين , وقتادة. والثالث: أنه ما رواه موسى بن عبيدة , صعدة بن يسار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النِّسَاءَ عِندَكُم عَوانٌ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ فَلَكُم عَلَيهِنَّ حَقٌ وَلَهُنَّ عَلَيكُم حَقٌ , وَمِنْ حَقِّكُم عَلَيهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فَرشَكُم أَحدَاً وَلاَ يَعْصِينَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ , فَإنْ فَعَلْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). واختلف في ثبوت حكمها أو نسخه على قولين: أحدهما: أنها محكمة , لا يجوز له أن يْأخذ منها شيئاً مما أعطاها سواء

كانت هي المريدة للطلاق أو هو , وهو قول بكر بن عبد الله المزني. والثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّاءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} , وهذا قول ابن زيد. وقال أبو جعفر الطبري وغيره: حكمها ثابت عند عن خوف النشوز فيجوز أن يفاديها. قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في قوم كانوا يَحْلُفْون الآباء على نسائهم , فجاء الإسلام بتحريم ذلك وعفا عما كان منهم في الجاهلية أن يؤاخذواْ به إذا اجتنبوه في الإسلام , وهذا قول ابن عباس , وقتادة وعطاء , وعكرمة. والثاني: يعني لا تنكحواْ كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد , إلا ما سلف منكم في جاهليتكم فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز الإقرار عليه , وهذا قول بعض التابعين. والثالث: معناه: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز , إلا ما قد سلف منهم بالزنى والسفاح , فإن نكاحهن حلال لكم , لأنهن لم يَكُنَّ حلالاً , وإنما كان نكاحهن فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً , وهذا قول ابن زيد. والرابع: إلا ما قد سلف فدعوه فإنكم تؤاخذون به , قالوه وهذا من الاستثناء المنقطع , ومنهم من جعله بمعنى لكن. {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} والمقت شدة البغض لقبح مرتكبه , ومنه قولهم قد مقته الناس إذا أبغضوه , ورجل مقيت , وكان يقال لولد الرجل من امرأة أبيه المقتي. {وَسَاءَ سَبِيلاً} يعني طريقاً.

23

{حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم

وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما} قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: والمحصنات من النساء يعني ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي , وهذا قول علي , وابن عباس , وأبي قلابة , والزهري , ومكحول , وابن زيد. وقد روى عثمان البَتّي عن أبي خليل عن أبي سعيد الخدري قال: لما سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل أوطاس , قلنا: يا نبي الله كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهن؟ قال: فنزلت هذه الآية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}. والثاني: أن المحصنات ذوات الأزواج حرام على غير أزواجهن إلا ما

ملكت أيمانكم من الإِماء , إذا اشتراها مشترٍ بطل نكاحها وحلت لمشتريها ويكون بيعها طلاقها , وهذا قول ابن مسعود , وأُبي بن كعب , وجابر بن عبد الله , وأنسٍ ابن مالك , وابن عباس في رواية عكرمة عنه وسعيد بن المسيب , والحسن , قال الحسن: طلاق الأَمة يثبت نسبها , وبيعها , وعتقها , وهبتها , وميراثها , وطلاق زوجها. الثالث: أن المحصنات من النساء العفائف إلا ما ملكت أيمانكم بعقد النكاح , أو ملك اليمين , وهذا قول عمر , وسعيد بن جبير , وأبي العالية , وعبيدة السلماني , وعطاء , والسدي. والرابع: أن هذه الآية نزلت في نساءٍ كُنَّ هَاجَرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج , فتزوجهن المسلمون , ثم قدم أزواجهن مهاجرين , فنهي المسلمون عن نكاحهن , وهذا قول أبي سعيد الخدري. وأصل الإِحصان المنع , ومنه حصن البلد , لأنه يمنع من العدو , ودرع حصينة أي منيعة , وفرس حَصان , لأن صاحبه يمتنع به من الهلكة , وامرأة حصان , وهي العفيفة لأنها تمتنع من الفاحشة , ومنه {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم: 12]. {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن معناه: حرم ذلك عليكم كتاباً من الله. والثاني: معناه ألزموا كتاب الله. والثالث: أن كتاب الله قيم عليكم فيما تستحلِّونه وتحرمونه. {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن معناه ما دون الخمس , وهو قول السدي. والثاني: ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم , وهو قول عطاء. والثالث: ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم , وهو قول قتادة. {أّن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم} يعني أن تلتمسوا بأموالكم إما شراء بثمن , أو نكاحاً بصداق.

{مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} يعني متناكحين غير زانين , وأصل السفاح صب الماء , ومنه سَفَح الدمع إذا صبَّه , وسَفْح الجبل أسفله لأنه مصب الماء فيه , وسِفَاح الزنى لصب مائه حراماً. {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} أي آتوهن صدقاتهن معلومة , وهذا قول مجاهد , والحسن , وأحد قولي ابن عباس. والقول الثاني: أنها المتعة إلى أجل مسمى من غير نكاح , قال ابن عباس كان في قراءة أُبيّ: {فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى} , وكان ابن عباس كذلك يقرأ , وسعيد بن جبير , وهذا قول السدي , وقال الحكم: قال عليّ: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي , وهذا لا يثبت , والمحكي عن ابن عباس خلافه , وأنه تاب من المتعة وربا النقد. {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه لا حرج عليكم أيها الأزواج إن أعسرتم بعد أن فرضتم لِنِسَائكم مهراً عن تراض أن ينقصنكم منه ويتركنكم , وهذا قول سليمان بن المعتمر. والثاني: لا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضتيم أنتم والنساء اللواتي استمتعتم بهن إلى أجل مسمى , إذا انقضى الأجل بينكم أن يزدنكم في الأجل وتزيدوهن في الأجر قبل أن يستبرئن أرحامهن , وهذا قول السدي. والثالث: لا جناح عليكم فيما تراضيتم به ودفعتموه أن يعود إليكم عن تراض , وهذا قول ابن عباس. {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كان عليماً بالأشياء قبل خلقها , حكيماً في تقديره وتدبيره لها , وهذا قول الحسن. والثاني: أن القوم شاهدواْ عِلماً وحكمة فقيل لهم إن كان كذلك لم يزل , وهذا قول سيبويه. والثالث: أن الخبر عن الماضي يقوم مقام الخبر عن المستقبل وهذا مذهب الكوفيين.

25

{ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم} قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتَ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} في الطوْل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغنى والسعة الموصل إلى نكاح الحرّة , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , ومجاهد , وسعيد بن جبير , والسدي , وابن زيد , والشافعي , ومالك. والقول الثاني: هو أن تكون تحته حرة , وهو قول أبي حنيفة.

والقول الثالث: هو الهوى وهو أن يهوى أَمَةً فيجوز أن يتزوجها , إن كان ذا يسار وكان تحته حرة , وهذا قول جابر , وابن مسعود , والشعبي , وربيعة , وعطاء. وأصل الطَوْل الفضل والسعة , لأن المعنى كالطول في أنه ينال به معالي الأمور , ومنه قولهم ليس فيه طائل أي لا ينال به شيء من الفوائد , فكان هو الأصح من تأويلاته. واختلف في إيمان الأمَةِ هل هو شرط في نكاحها عند عدم الطَوْل على قولين: أحدهما: أنه شرط لا يجوز نكاح الأَمَةِ نكاح الأَمَةِ إلا به , وهو قول الشافعي. والثاني: أنه ندب وليس بشرط , فإن تزوج غير المؤمنة جاز , وهو قول أبي حنيفة. قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} يعني بالمسافحة: المعلنة بالزنى. {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} هو أن تتخذ المرأة خدناً وصديقاً ولا تزني بغيره , وقد كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى , ويستحلون ما بطن , فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}. {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قرأ بفتح الألف حمزة , والكسائي , وأبو بكر عن عاصم , ومعنى ذلك أسلمن , فيكون إحصانها ها هنا إسلامها , وهذا قول ابن مسعود , والشعبي , وروى الزهري قال: جَلَدَ عمر ولائد أبكاراً من ولائد الإمارة في الزنى. وقرأ الباقون بضم الألف , ومعنى ذلك تزوجن , فيكون إحصانها ها هنا تزويجها , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد , والحسن. {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} يعني بها ها هنا الزنى. {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} يعني نصف حد الحرة. {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: الزنى , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , وسعيد بن جبير , والضحاك , وابن زيد , وبه قال الشافعي. والثاني: أن العنت الإثم. والثالث: أنه الحد الذي يصيبه. والرابع: هو الضرر الشديد في دين أو دنيا. وهو نحو قوله تعالى: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118]. {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرُ لَّكُمْ} يعني الصبر عن نكاح الأمَةِ لئلا يكون ولده عبداً.

26

{يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد

الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الزناة , وهو قول الضحاك. والثاني: أنهم اليهود والنصارى , وهو قول السدي. والثالث: كل متبع شهوة غير مباحة , وهو قول ابن زيد. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} يخفف عنكم في نكاح الإماء , وخُلِقَ الإنسان ضعيفاً عن احتمال الصبر عن جماع النساء.

29

{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تِأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الزنى , والقمار , والبخس , والظلم , وهو قول السدي. والثاني: العقود الفاسدة , وهو قول ابن عباس. والثالث: أنه نهى أن يأكل الرجل طعام قِرى وأَمَر أن يأكله شِرى ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة النور: {وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلى قوله: {أَوْ أَشْتَاتاً} وهو قول الحسن , وعكرمة.

{إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن التراضي هو أن يكون العقد ناجزاً بغير خيار , وهو قول مالك , وأبي حنيفة. والثاني: هو أن يخير أحدهما صاحبه بَعد العقد وقبل الافتراق , وهو قول شريح , وابن سيرين , والشعبي. وقد روى القاسم بن سليمان الحنفي عن أبيه عن ميمون بن مهران قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ وَالخِيَارُ بَعْدَ الصَّفْقَةِ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلمٍ أَنْ يَغِشَّ مٌسْلِماً). {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} فيه قولان: أحدهما: يعني لا يقتل بعضكم بعضاً , وهذا قول عطاء , والسدي , وإنما كان كذلك لأنهم أهل دين واحد فصاروا كنفس واحدة , ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور: 61]. والثاني: نهى أن يقتل الرجل نفسه في حال الغضب والضجر. قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} فيما توجه إليه هذا الوعيد بقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أكل المال بالباطل , وقتل النفس بغير حق. والثاني: أنه متوجه إلى كل ما نهى عنه من أول سورة النساء. والثالث: أنه متوجه إلى قوله تعالى: {لاَ َيحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء: 19]. {عُدْوَاناً وَظُلْماً} فيه قولان: أحدهما: يعني تعدياً واستحلالاً. والثاني: أنهما لفظتان متقاربتا المعنى فحسن الجمع بينهما مع اختلاف اللفظ تأكيداً.

{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} في الكبائر سبعة أقاويل: أحدها: أنها كل ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها , وهذا قول ابن مسعود في رواية مسروق , وعلقمة , وإبراهيم. والثاني: أن الكبائر سبع: الإشراك بالله , وقتل النفس التي حرم الله , وقذف المحصنة , وأكل مال اليتيم , وأكل الربا , والفرار من الزحف , والتعرب بعد الهجرة , وهذا قول عليّ , وعمرو بن عبيد. والثالث: أنها تسع: الإشراك بالله , وقذف المحصنة , وقتل النفس المؤمنة , والفرار من الزحف , والسحر , وأكل مال اليتيم , وعقوق الوالدين المسلمين , وأكل الربا , وإلحاد بالبيت الحرام , وهذا قول ابن عمر. والرابع: أنها أربع: الإشراك بالله , والقنوط من رحمة الله , واليأس من رَوْح الله , والأمن من مكر الله , وهذا قول ابن مسعود في رواية أبي الطفيل عنه. والخامس: أنها كل ما أوعد الله عليه النار , وهذا قول سعيد بن جبير , والحسن , ومجاهد , والضحاك. والسادس: السبعة المذكورة في المقالة الثانية وزادوا عليها الزنى , والعقوق , والسرقة , وسب أبي بكر وعمر. والسابع: أنها كل ما لا تصح معه الأعمال , وهذا قول زيد بن أسلم. {نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} يعني من الصغائر إذا اجتنبتم الكبائر , فأما مع ارتكاب الكبائر , فإنه يعاقب على الكبائر والصغائر.

32

{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما} (إسْألُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وإِنَّ أَفْضَلَ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَجِ). {إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أنه قسَّم الأرزاق على ما علم وشاء فينبغي أن ترضوا بما قسم وتسألوه من فضله غير متأسفين لغيركم في عطية. والنهي تحريم عند أكثر العلماء , لأنه ليس لأحد أن يقول: ليت مال فلان لي , وإنما يقول ليت مثله

لي، ومن قال بهذا اختلفوا في النهي هل هو تحريم أم أدب، فقال الفراء هو أدب، وقال غيره هو تحريم. والقول الثاني: وهو الأشهر - أنها نزلت في نساء تمنين كالرجال في فضلهم ومالهم، فروى عكرمة أنها نزلت في أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فنزلت: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}. {للرجال نصيب مما اكتسبوا، وللنساء نصيب مما اكتسبن} من الثواب على طاعة الله والعقاب على معصيته، وللنساء نصيب مثل ذلك، ليعني أن للمرأة بالحسنة عشر أمثالها كالرجل، وهو قول قتادة. والثاني: أن معنى ذلك للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم، وللنساء نصيب منه، لأن أهل الجاهلية لم يكونوا يورثون النساء، وهذا قول ابن عباس. {وسألوا الله من فضله} فيه قولان:

أحدهما: إن احتجتم إلى مال غيركم فاسألوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله ولا تتمنوا مال غيركم. والثاني: العبادة التي تكتسب الثواب في الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إسألوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج ". {إن الله كان بكل شيء عليماً} أنه قسم الأرزاق على ما علم وشاء فينبغي أن ترضوا بما قسم وتسألوه من فضله غير متأسفين لغيركم في عطية. والنهي تحريم عند أكثر العلماء، لأنه ليس لأحد أن يقول: ليت مال فلان مالي، وإنما يقول ليت مثله لي.

33

{ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا} قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَلِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} وفي الموالي قولان: أحدهما: أنهم العصبة , وهو قول ابن عباس , وقتادة , ومجاهد , وابن زيد. والثاني: هم الورثة , وهو قول السدي , وهو أشبه بقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} قال الفضل بن عباس: (مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنشبواْ بيننا ما كان مَدْفوناً) {وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} هي مفاعلة من عقد الحلف , ومعناه: والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم بالحلف بينكم وبينهم , فآتوهم نصيبهم. وفي المراد بهذه المعاقدة وبالنصيب المستحق خمسة أقاويل: أحدها: أن حلفهم في الجاهلية كانوا يتوارثون به في الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وهذا قول ابن عباس , وعكرمة , وقتادة. والثاني: أنها نزلت في الذين آخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم , من المهاجرين والأنصار , فكان بعضهم يرث بعضاً بتلك المؤاخاة بهذه الآية , ثم نسخها ما تقدم من قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانَ والأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] , وهذا قول سعيد بن جبير , عن ابن عباس , وابن زيد. والثالث: أنها نزلت في أهل العقد بالحلف ولكنهم أُمِرُوا أن يؤتوا بعضهم

بعضاً من النصرة والنصيحة والمشورة والوصية دون الميت , وهذا قول مجاهد , وعطاء , والسدي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله قيس بن عاصم عن الحِلف فقال: (لاَ حِلْفَ في الإْسلاَمِ , وَمَا كَانَ مِنْ حِلفِ الجاهِلِيَّةِ فَلَمْ يُزِدْهُ الإِسْلاَمُ الإَِّ شِدَّةً). والرابع: أنها نزلت في الذين يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية , فَأُمِرُوا في الإِسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصية , وهذا قول سعيد بن المسيب. والخامس: أنها نزلت في قوم جعل لهم نصيب من الوصية , ثم هلكوا فذهب نصيبهم بهلاكهم , فَأُمِرُوا أن يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم , وهذا قول الحسن البصري.

34

{الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا} قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النَّسَآءِ} يعني أهل قيام على نساءهم , في تأديبهن , والأخذ على أيديهن , فيما أوجب الله لهم عليهن. {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني في العقل والرأي. {وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أِمْوَالِهِمْ} يعني به الصداق والقيام بالكفاية. وقد روى

جرير بن حازم عن الحسن أن سبب ذلك أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص , فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص فنزلت: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] ونزلت {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} , وكان الزهري يقول: ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس. {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} يعني المستقيمات الدين العاملات بالخير , والقانتات يعني المطيعات لله ولأزواجهن. {حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} يعني حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن , ولما أوجبه الله من حقه عليهن. {بِمَا حَفِظَ اللهُ} فيه قولان: أحدهما: يعني يحفظ الله لهن إذ صيّرهن كذلك , وهو قول عطاء. والثاني: بما أوجبه الله على أزواجهن من مهورهن ونفقتهن حتى صرن بها محفوظات , وهذا قول الزجاج. وقد روى ابن المبارك , سعيد بن أبي سعيد أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّساءِ امْرَأَةً إِذا نَظَرْتَ إِلَيهَا سَرَّتْكَ , وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ , وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في مالِهَا ونَفْسِهَا) قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} إلى آخر الآية. {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} في {تَخَافُونَ} تأويلان: أحدهما: أنه العلم , فعبر عنه بالخوف , كما قال الشاعر: (ولا تدفنيني بالفلاة فإنني ... أخافُ إذا ما مِتُّ أن لا اذُوقَها) يعني فإنني أعْلَمُ

والتأويل الثاني: أنه الظن , كما قال الشاعر. (أتاني عن نصر كلام يقوله ... وما خفت يا سلامُ أنك عائبي) وهو أن يستر على نشوزها بما تبديه من سوء فعلها. والنشوز: هو معصية الزوج والامتناع من طاعته بغضاً وكراهة - وأصل النشوز: الارتفاع , ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض نُشز , فسميت الممتنعة عن زوجها ناشزاً لبعدها منه وارتفاعها عنه. {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} أما وعظها فهو أن يأمرها بتقوى الله وطاعته , ويخوفها استحقاق الوعيد في معصيته وما أباحه الله تعالى من ضربها عند مخالفته , وفي المراد بقوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} خمسة أقاويل: أحدها: ألا يجامعها , وهو قول ابن عباس , وسعيد بن جبير. والثاني: أن لا يكلمها ويوليها ظهره في المضجع , وهو قول الضحاك , والسدي. والثالث: أن يهجر فراشها ومضاجعتها وهو قول الضحاك , والسدي. والرابع: يعني وقولوا لهن في المضاجع هُجراً , وهو الإغلاظ في القول , وهذا قول عكرمة , والحسن. والخامس: هو أن يربطها بالهجار وهو حبل يربط به البعير ليقرها على الجماع , وهو قول أبي جعفر الطبري. واستدل براوية ابن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال:

قلت يا رسول الله نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: (حَرثَكَ فَأْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ غَيرَ أَلاَّ تَضْرِبَ آلْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ إلاَّ في البًيْتِ , وأطْعِمْ إِذا طَعِمْتَ وَاكْسِ إِذّا اكْتَسَيْتَ , كَيْفَ وَقْدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) وليس في هذا الخبر دليل على تأويله دون غيره. وأصل الهجر: الترك على قلى , والهُجر: القبيح من القول لأنه مهجور. {وَآضْرِبُوهُنَّ} فجعل الله تعالى معاقبتها على النشوز ثلاثة أشياء: وَعْظُها وهَجْرُها وضَرْبُها. وفي ترتبيها إذا نشزت قولان: أحدهما: أنه إذا خاف نشوزها وعظها وهجرها , فإن أقامت عليه ضربها. والثاني: أنه إذا خاف نشوزها وعظها , فإذا أبدت المشوز هجرها , فإن أقامت عليه ضربها , وهو الأظهر من قول الشافعي. والذي أبيح له من الضرب ما كان تأديباً يزجرها به عن النشوز غير مبرح ولا منهك , روى بشر عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اضْرِبُوهُنَّ إِذَا عَصَينَكُمْ فِي المَعْرُوفِ ضَرْباً غير مُبَرِّحٍ). {فَإِن أَطَعْنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} يعني أطعنكم في المضجع والمباشرة. {فلا تبغوا عليهن سبيلاً} فيه تأويلان: أحدهما: لا تطلبواْ لهن الأذى. والثاني: هو أن يقول لها لست تحبينني وأنت تعصيني , فيصيّرها على ذلك وإن كانت مطيعة: قال سفيان: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه لأن قلبها ليس في يدها.

35

{وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا} {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَينِهِمَا} يعني مشاقة كل واحد منهما من صاحبه , وهو إتيان ما يشق عليه من أمور أما من المرأة فنشوزها عنه وترك ما لزمها من حقه , وأما

من الزوج فعدوله عن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان , والشقاق مصدر من قول القائل شاق فلان فلاناً إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه بما يشق عليه , وقيل لأنه قد صار في شق بالعداوة والمباعدة. {فَابْعَثْواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وفي المأمور بإيفاد الحكمين ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه السلطان إذا تراجع إليه الزوجان , وهو قول سعيد بن جبير , والضحاك. والثاني: الزوجان , وهو قول السدي. والثالث: أحد الزوجين وإن لم يجتمعا. {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً} يعني الحَكَمَين. {يُوَفِقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} يحتمل وجهين: أحدهما: يوفق الله بين الحكمين في الصلاح بين الزوجين. والثاني: يوفق الله بينهما بين الزوجين بإصلاح الحَكَمَين , والحكمين للإصلاح. وفي الفُرْقَةِ إذا رأياها صلاحاً من غير إذن الزوجين قولان: أحدهما: ليس ذلك إليها لأن الطلاق إلى الزوج. والثاني: لهما ذلك لأن الحَكَم مشتق من الحُكم فصار كالحاكم بما يراه صلاحاً.

36

{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا}

{وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} معناه واستوصوا بالوالدين إحساناً. {وَبِذِي الْقُرْبَى} هم قرابة النسب من ذوي الأرحام. {وَالْيَتَامَى} جمع يتيم وهو من مات أبوه لم يبلغ الحلم. {وَالْمَسَاكِينِ} جمع مسكين وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة فيتمسكن لذلك. {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} فيه قولان: أحدهما: بمعنى ذي القرابة والرحم وهم الذين بينك وبينهم قرابة نسب , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد. والثاني: يعني الجار ذي القربى بالإسلام. {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} فيه قولان: أحدهما: الجار البعيد في نسبه الذي ليس بينك وبينه قرابة , وهو قول ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنه المشرك البعيد في دينه. والجنب في كلام العرب هو البعيد , ومنه سُمي الجنب لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل , قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة: (أتيت حُريثاً زائراً عن جنابةٍ ... فكان حريث في عطائي جامداً) {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الرفيق في السفر , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , وقتادة. والثاني: أنها زوجة الرجل التي تكون في جنبه , وهو قول ابن مسعود. والثالث: أنه الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك , وهو قول ابن زيد. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كُلُّ صَاحبٍ يَصْحَبُ صَاحِباً مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ سَاعةً مِن نَّهَارٍ).

وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خَيرُ الأَصْحَابِ عِندَ اللَّهِ خَيرُهُمْ لِصَاحِبِهِ , وَخَيرُ الجيرانِ عِندَ اللَّهِ خَيرُهُمْ لِجَارِهِ). {وَابْنِ السَّبِيلِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المسافر المجتاز مَارّاً , وهذا قول مجاهد , وقتادة , والربيع. والثاني: هو الذي يريد سفراً ولا يجد نفقة , وهذا قول الشافعي. والثالث: أنه الضعيف , وهو قول الضحاك. والسبيل الطريق , ثم قيل لصاحب الطريق ابن السبيل , كما قيل لطير الماء ابن ماء. قال الشاعر: (وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماءٍ مُلحقُ) {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني المملوكين , فأضاف الملك إلى اليمين لاختصاصها بالتصرف كما يقال تكلم فُوك , ومشت رجلُك. {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} المختال: من كان ذا خيلاء , مفتعل من قولك: خالَ الرجل يَخُول خُيلاء , وخالاً , قال العجاج: (والخال ثوب من ثياب الجهال (والدهْرُ فيه غَفْلةٌ للغفال)) والفخور: المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه وبسط عليه من رزقه.

37

{الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا من ما رزقهم الله وكان الله بهم عليما} {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فيهم قولان: أحدهما: أنها نزلت في اليهود , بخلوا بما عندهم من التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه وأمرواْ الناس بكتمه. {وَيَكْتُمُونَ مَآءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} يعني نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول مجاهد , وقتادة , والسدي. والثاني: يبخلون بالإنفاق في طاعة الله عز وجل ويأمرون الناس بذلك , وهو قول طاووس , والبخل أن يبخل بما في يديه , والشح أن يشح على ما في أيدي الناس يحب أن يكون له. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود , وهو قول مجاهد. والثاني: هم المنافقون , وهو قول الزجاج. {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِيناً} القرين هو الصاحب الموافق , كما قال عدي بن زيد: (عن المرءِ لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مُقتدي) وأصل القرين من الأقران , والقِرن بالكسر المماثل لأقرانه في الصفة , والقَرْن بالفتح: أهل العصر لاقترانهم في الزمان , ومنه قَرْن البهيمة لاقترانه بمثله. وفي المراد يكون قريناً للشيطان قولان:

أحدهما: أنه مصاحبِهُ في أفعاله. والثاني: أن الشيطان يقترن به في النار.

40

{إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أصل المثقال الثقل , والمثقال مقدار الشيء في الثقل. والذرة: قال ابن عباس هي دودة حمراء , قال يزيد بن هارون: زعمواْ أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن. قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} وشهيد كل أمة نبيُّها , وفي المراد بشهادته عليها قولان: أحدهما: أن يشهد على كل أمّته بأنه بلغها ما تقوم به الحجة عليها , وهو قول ابن مسعود وابن جريج , والسدي. والثاني: أن يشهد عليها بعملها , وهو قول بعض البصريين. {وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً} يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهادة على أُمته , روى ابن مسعود أنه قرأ على رسول الله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً} ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} فيه قولان: أحدهما: أن الذين تمنوه من تسوية الأرض بهم , أن يجعلهم مثلها , كما

قال تعالى في موضع أخر {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40]. والثاني: أنهم تمنواْ لو انفتحت لهم الأرض فصاروا في بطنها.

43

{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا} {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فيه قولان: أحدهما: سكارى من الخمر , وهو قول ابن عباس , وقتادة , وقد روى عطاء ابن السائب عن عبد الله بن حبيب: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً ودعا نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأكلوا وشربوا حتى ثملوا , ثم قدّموا عمر فصلى بهم المغرب فقرأ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُم عَابِدُونَ مَا أَعْبُد وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} لَكُمْ دِينُكُم وَلِيَ دِينٌ} فأنزل الله تعالى هذه الآية {لاَ تَقْربُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}. والقول الثاني: وأنتم سكارى من النوم , وهو قول الضحاك , وأصل السُكر: السَكْر , وهو سد مجرى الماء , فالسُّكر من الشراب يسد طريق المعرفة. فإن قيل فكيف يجوز نهي السكران , ففيه جوابان: أحدهما: أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج إلى حد لا يحتمل معه الأمر. والثاني: أنه نهي عن التعرض للسكر وعليه صلاة. {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} فيه قولان:

أحدهما: أراد سبيل المسافر إذا كان جنباً لا يصلي حتى يتيمم , وهذا قول ابن عباس في رواية أبي مجلز عنه , ومجاهد , والحكم , وابن زيد. والثاني: لا يقرب الجنب مواضع الصلاة من المساجد إلا مارّاً مجتازاً , وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك , وابن يسار عنه , وهو قول جابر , والحسن , والزهري , والنخعي. {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما انطلق عليه اسم المرض من مستضرٍّ بالماء وغير مستضرٍّ , وهذا قول داود بن علي. الثاني: ما استضر فيه باستعمال الماء دون ما لم يستضر , وهذا قول مالك , وأحد قولي الشافعي. والثالث ما خيف من استعمال الماء فيه التلف دن ما لم يُخفْ , وهو القول الثاني من قولي الشافعي. {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما انطلق عليه اسم السفر من قليل وكثير , وهو قول داود. والثاني: مسافة يوم وليلة فصاعداً , وهو قول مالك , والشافعي رحمهما الله. والثالث: مسافة ثلاثة أيام , وهو مذهب أبي حنيفة. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغآئِطِ} هو الموضع المطمئن من الأرض كان الإنسان يأتيه لحاجته , فكنى به عن الخارج مجازاً , ثم كثر استعماله حتى صار كالحقيقة , والدليل على أن الغائط حقيقة في اسم المكان دون الخارج , قول الشاعر: (أما أتاك عني الحديث ... إذ أنا بالغائط أستغيث) 89 (وصِحت في الغائط يا خبيث} 9 {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} فيه قراءتان: إحداهما: {لَمَسْتُمُ} بغير ألف , قرأ بها حمزة والكسائي.

والأخرى: {لاَمَسْتُمُ} , وهي قراءة الباقين. وفي هذه الملامسة قولان: أحدهما: الجماع , وهو قول عليّ , وابن عباس , والحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني: أن الملامسة باليد والإفضاء ببعض الجسد , وهو قول ابن مسعود , وابن عمر , وعبيدة , والنخعي , والشعبي , وعطاء , وابن سيرين , وبه قال الشافعي. وفي اختلاف القراءتين في {لَمَسْتُمْ} أو {لاَمَسْتُمُ} قولان: أحدهما: أن {لاَمَسْتُمُ} أبلغ من {لَمِسْتُمُ}. والثاني: أن {لاَمَسْتُمُ} يقتضي وجوب الوضوء على اللامس والملموس. {وَلَمَسْتُمُ} يقتضي وجوبه على اللامس دون الملموس. {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ} فيه قولان: أحدهما: أنه التعبد والتحري , وهو قول سفيان. والثاني: أنه القصد , وذكر أنها في قراءة ابن مسعود: فأتوا صعيداً طيباً. وفي الصعيد أربعة أقاويل: أحدها: أنها الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غِراس , وهو قول قتادة. والثاني: أنها الأرض المستوية , وهو قول ابن زيد. والثالث: هو التراب , وهو قول عليّ , وابن مسعود , والشافعي. والرابع: أنه وجه الأرض ذات التراب والغبار , ومنه قول ذي الرُّمة: (كأنه بالضحى ترمي الصعيدَ به ... دَبّابةٌ في عظام الرأس خُرْطوم) وفي قوله تعالى: {طَيِّباً} أربعة أقاويل: أحدها: حلالاً , وهو قول سفيان. والثاني: طاهراً , وهو قول أبي جعفر الطبري. والثالث: تراب الحرث , وهو قول ابن عباس.

والرابع: أنه مكان حَدِرٌ غير بَطِحٍ , وهو قول ابن جريج. {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}. فالوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في غسل الوضوء. فأما مسح اليدين ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الكفان إلى الزندين دون الذراعين , وهو قول عمار بن ياسر , ومكحول , وبه قال مالك في أحد قوليه , والشافعي في القديم. والثاني: الذراعان مع المرفقين , وهو قول ابن عمر , والحسن , والشعبي , وسالم بن عبد الله , والشافعي في الجديد. والثالث: إلى المنكبين والإبطين , وهو قول الزهري , وحكي نحوه عن أبي بكر. واختلفوا في جواز التيمم في الجنابة على قولين: أحدهما: يجوز , وهو قول الجمهور. والثاني: لا يجوز وهو قول عمر , وابن مسعود , والنخعي. واختلفوا في سبب نزول هذه الآية على قولين: أحدهما: نزلت في قوم من الصحابة أصابتهم جراح , وهذا قول النخعي. والثاني: أنها نزلت في إعواز الماء في السفر , وهو قول عائشة رضي الله عنها.

44

{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم قد صاروا لجحودهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كمشتري الضلالة بالهدى. والثاني: أنهم كانوا يعطون أحبارهم أموالهم على ما كانواْ يصنعونه من التكذيب بالرسول صلى الله عليه وسلم. والثالث: أنهم كانوا يأخذون الرشا , وقد روى ثابت البناني عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي , والمرتشي , والرائش , وهو المتوسط بينهما. قوله تعالى: {وَاسْمَعَ غَيْرَ مُسْمَعٍ} فيه قولان: إحداهما: معناه: اسمع لا سمعت , وهو قول ابن عباس , وابن زيد. والثاني: أنه غير مقبول منك , وهو قول الحسن , ومجاهد. {وَرَاعِنَا لَيَّاً بِأَلْسِنَتِهِم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن هذه الكلمة كانت سَبّاً في لغتهم , فأطلع الله نبيّه عليها فنهاهم عنها. والثاني: أنها كانت تجري مجرى الهُزْءِ. والثالث: إنها كانت تخرج مخرج الكِبْر.

47

{يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن

نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى. {ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} يعني القرآن. {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} يعني كتبكم. {مِّن قَبْلِ أَن نِّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهآ} فيه قولان: أحدهما: أن طمس الوجوه هو محو آثارها حتى تصير كالأقفاء ونجعل عيونها في أقفائها حتى تمشي القهقرى , وهو قول ابن عباس , وقتادة. والثاني: أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها , أي في ضلالها ذمّاً لها بأنها لا تصلح أبداً , وهذا قول الحسن , والضحاك , ومجاهد , وابن أبي نجيح , والسدي. {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ} أي نمسخهم قردة , وهو قول الحسن , وقتادة , والسدي.

49

{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم , بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} يعني اليهود في تزكيتهم أنفسهم أربعة أقاويل: أحدها: قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه , وهذا قول قتادة , والحسن.

والثاني: تقديمهم أطفالهم لإمامتهم زعماً منهم أنه لا ذنوب لهم , وهذا قول مجاهد , وعكرمة. والثالث: هو قولهم إن أبناءنا يستغفرون لنا ويزكوننا , وهذا قول ابن عباس. والرابع: هو تزكية بعضهم لبعض لينالوا به شيئاً من الدنيا , وهذا قول ابن مسعود. {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} فيه قولان: أحدهما: أي الفتيل الذي شق النواة , وهو قول عطاء , وقتادة , ومجاهد , والحسن , وأحد قولي ابن عباس. قال الحسن: الفتيل ما في بطن النواة , والنقير ما في ظهرها , والقطمير قشرها. والثاني: أنه ما انفتل بين الأصابع من الوسخ , وهذا قول السدي , وأحد قولي ابن عباس. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنهما صنمان كان المشركون يعبدونهما , وهذا قول عكرمة. والثاني: أن الجبت: الأصنام , والطاغوت: تراجمة الأصنام , وهذا قول ابن عباس. والثالث: أن الجبت السحر , والطاغوت: الشيطان , وهذا قول عمر , ومجاهد. والرابع: أن الجبت الساحر , والطاغوت الكاهن , وهذا قول سعيد بن جبير. والخامس: أن الجبت حُيي بن أخطب , والطاغوت كعب بن الأشرف , وهو قول الضحاك.

53

{أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا} قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبُ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} وفي النقير ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الذي يكون في ظهر النواة , وهذا قول ابن عباس , وعطاء , والضحاك. والثاني: أنه الذي يكون في وسط النواة , وهو قول مجاهد. والثالث: أنه نقر الرجل الشيء بطرفِ إبهامه , وهو رواية أبي العالية عن ابن عباس. قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَاءاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} يعني اليهود. وفي الناس الذين عناهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم العرب , وهو قول قتادة. والثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم خاصة , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , والضحاك , والسدي , وعكرمة. والثالث: أنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه , وهو قول بعض المتأخرين. وفي الفضل المحسود عليه قولان: أحدهما: النبوة , حسدواْ العرب على أن كانت فيهم , وهو قول الحسن , وقتادة. والثاني: أنه إباحته للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح من شاء من النساء من غير عدد , وهو قول ابن عباس , والضحاك , والسدي.

{فَقَدْءَاتَيْنَاءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} في الملك العظيم أربعة أقاويل: أحدها: أنه ملك سليمان بن داود , وهو قول ابن عباس. والثاني: النبوة , وهو قول مجاهد. والثالث: ما أُيِّدُوا به من الملائكة والجنود , وهو قول همام بن الحارث. والرابع: من أباحه الله لداود وسليمان من النساء من غير عدد , حتى نكح داود تسعاً وتسعين امرأة , ونكح سليمان مائة امرأة , وهذا قول السدي.

56

{إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بئَايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِم نَاراً} إلى قوله: {لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} فإن قيل وكيف يجوز أن يُبدّلواْ جلوداً غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا فيعذبوا فيها؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يُبدَّلواْ أجساماً , وأرواحاً , غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت في الدنيا , ولو جاز ذلك لجاز أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين وعدهم الله في الدنيا على كفرهم بالعذاب بالنار. وقد أجاب أهل العلمِ عنه بثلاثة أجوبة: أحدها: أن ألم العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم , وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب , فأما الجلد واللحم فلا يألمان فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان عليه وجلدٌ غَيْرُهُ. والجواب الثاني: أنه تُعَادُ تلك الجلود الأولى جديدة [غير] محترقة.

والجواب الثالث: أن الجلود المُعادَةَ إنما هي سرابيلهم من قبل أن جعلت لهم لباساً , فسماها الله جلوداً , وأنكر قائل هذا القول أن تكون الجلود تحترق وتعاد غير محترقة , لأن في حال احتراقها إلى حال إعادتها فناءَها , وفي فنائها راحتها , وقد أخبر الله تعالى: أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب.

58

{إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا} قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} في المعني بذلك أربعة أقاويل: أحدها: أنه عَنَى وُلاَةَ أمور المسلمين , وهذا قول شهر بن حَوْشَبٍ , ومكحول , وزيد بن أسلم. والثاني: أنه أمر السلطان أن يعظ النساء , وهذا قول ابن عباس. والثالث: أنه خُوْطِبَ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عثمان بن أبي طلحة , أن يرد عليه مفاتيح الكعبة , وهذا قول ابن جريج. والرابع: أنه في كل مَؤْتَمنٍ على شيء , وهذا قول أُبَيّ بن كعب , والحسن , وقتادة. وقد روى قتادة عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَك).

59

{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الْرَّسُولَ وِأُولي الأَمْرِ مِنكُمْ} يعني أطيعوا الله في أوامره ونواهيه , وأطيعوا الرسول. روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَطَاَعنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَا اللهَ , وَمَنْ عَصَا أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي). وفي طاعة الرسول قولان: أحدهما: اتباع سنته , وهو قال عطاء. والثاني: وأطيعوا الرسول إن كان حياً , وهو قول ابن زيد. وفي أولي الأمر أربعة أقاويل: أحدها: هم الأمراء , وهو قول ابن عباس , وأبي هريرة , والسدي , وابن زيد. وقد روى هشام عن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سَيَلِيكُم بَعْدِي وُلاَةٌ , فَيَلِيكُمُ البَرُّ بِبِرِّهِ , وَبَلِيكُمُ الفَاجِرُ بِفجُورِهِ , فَاسْمَعُوا لَهُم وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الحَقَّ , وَصَلُّوا وَرَاءَهُم , فإِن أَحْسَنٌواْ فَلَكُم وَلَهُم , وإنْ أَساءُوا فَلَكُم وَعَليهُم).

واختلف قائلو هذا القول في سبب نزولها في الأمراء , فقال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية. وقال السدي: نزلت في عمار بن ياسر , وخالد بن الوليد حين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية. والقول الثاني: هم العلماء والفقهاء , وهو قول جابر بن عبد الله , والحسن , وعطاء , وأبي العالية. والثالث: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهو قول مجاهد. والرابع: هم أبو بكر وعمر , وهو قول عكرمة. وطاعة وَلاَةِ الأمر تلزم في طاعة الله دون معصيته , وهي طاعة يجوز أن تزول , لجواز معصيتهم , ولا يجوز أن تزول طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم , لامتناع معصيته. وقد روى نافع عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عَلَى المرَءِ المُسْلِمِ الطَّاعةُ فِيمَا أَحبَّ أو كَرِهَ إلاََّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيةٍ فَلاَ طَاعَةَ). قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} قال مجاهد , وقتادة: يعني إلى كتاب الله وسنة رسوله. {إِن كُنتُم تُؤُمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأْوِيلاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أَحْمَدُ عَاقِبَةً , وهذا قول قتادة , والسدي , وابن زيد.

والثاني: أَظَهَرُ حَقاً وأَبْيَنُ صَواباً , وهو معنى قول مجاهد. والثالث: أحسن من تأويلكم الذي لا يرجع إلى أصل ولا يفضي إلى حق , وهذا قول الزجاج.

60

{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوآ أَن يَكْفُرواْ بِهِ} اختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في رجل من المنافقين ورجل من اليهود كان بينهما خصومة , فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك لأني أعلم أنهم لا يقبلون الرشوة , وقال المنافق: أحاكمك إلى اليهود منهم كعب بن الأشرف , لأنه علم أنهم يقبلون الرشوة , فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة , فأنزل الله فيهما هذه الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} يعني المنافق {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يعني اليهودي. {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} يعني الكاهن , وهذا قول الشعبي ومجاهد. والثاني: أنها نزلت في رجلين من بني النضير وبني قريظة , وكانت بنو

قريظة في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني النضير أقادوا من القاتل , وكانت بنو النضير في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني قريظة لم تَقُد من القاتل وأعطوا ديته ستين وَسْقاً من تمر , فلما أسلم ناس من بني قريظة وبني النضير , قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة فتحاكمواْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فقال النَّضِيِرِيُّ لرسول الله: إنا كنَّا في الجاهلية نعطيهم الدية ستين وَسَقاً من تمر , فنحن نعطيهم اليوم ذلك , وقالت بنو قريظة: نحن إخوان في النسب والدين وإنما كان ذلك عليه الجاهلية وقد جاء الإسلام , فأنزل الله تعالى يعيِّرهم بما فعلواْ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] , ثم ذكر قول بني النضير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] ثم أَخَذَ النَّضِيرِيَّ فقتله بالقرظي , فتفاخرت النضير وقريظة ودخلواْ المدينة , فتحاكموا إلى أبي بردة الأسلمي الكاهن , فأنزل الله في ذلك {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ} [النساء: 60] يعني في الحال , {وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يعني حين كانوا يهوداً. {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} يعني أبا بردة الأسلمي الكاهن , وهذا قول السدي. قوله تعالى: {فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ. .} الآية في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن عمر قتل منافقاً لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم , فجاء إخوانه من المنافقين يطالبون بدمه , وحلفواْ بالله أننا ما أردنا في المطالبة بدمه إلا إحساناً إلى النساء , وما يوافق الحق في أمرنا. والثاني: أن المنافقين بعد القَوَدِ من صاحبهم اعتذرواْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاكمتهم إلى غيره بان قالواْ ما أردنا في عدولنا عنك إلا توفيقاً بين الخصوم وإحساناً بالتقريب في الحكم دون الحمل على مُرّ الحق , فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِم} يعني من النفاق الذي يضمرونه. {فَأَعْرِضْ عَنهُم وَعِظْهُم} وفي الجمع بين الإعراض والوعظ مع تنافي اجتماعهما في الظاهر - ثلاثة أوجه: أحدها: أعرض عنهم بالعداوة لهم وعِظهم فيما بدا منهم. والثاني: أعرض عن عقابهم وعظهم.

والثالث: أعرض عن قبول الأعذار منهم وعظهم. {وَقُل لَّهُم فِي أَنْفُسِهِم قَوْلاً بَلِيغاً} فيه قولان: أحدهما: أن يقول لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلكم , فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ , وهذا قول الحسن. والثاني: أن يزجرهم عما هم عليه بأبلغ الزواجر.

64

{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ومعنى {شَجَرَ بَينَهُم} أي وقع بينهم من المشاجرة وهي المنازعة والاختلاف , سُمِّيَ ذلك مشاجرة , لتداخل بعض الكلام كتداخل الشجر بالتفافها. {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ} وفي الحرج تأويلان: أحدهما: يعني شكّاً وهو قول مجاهد. والثاني: يعني إثماً , وهو قول الضحاك. واختلف في سبب نزولها على قولين. أحدهما: أنها نزلت في المنافق واليهودي اللَّذين احتكما إلى الطاغوت , وهذا قول مجاهد , والشعبي. والثاني: أنها نزلت في الزبير ورجل من الأنصار قد شهد بدراً , تخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرّة كانا يسقيان به نخلاً , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اسْقِ يا زُبَيرُ ثُمَّ أَرسِل المَاءَ إلَى جَارِكَ) فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله آن كان ابن عمتك , فَتَلَوِّنَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف أن قد ساءه , ثم قال يا

زبير: (احْبسِ المَاءَ إلَى الجُدُرِ أو الكَعْبَينِ ثَمَّ خَلِّ سَبِيلَ المَاءِ) فنزلت هذه الآية , وهذا قول عبد الله بن الزبير , وعروة , وأم سلمة.

66

{ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما} قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اولَئِكَ رَفِيقاً} أما الصديقون فهو جمع صديق , وهم أتباع الأنبياء. وفي تسمية الصديق قولان: أحدهما: أنه فِعِّيل من الصِّدْقِ. والثاني: أنه فِعّيل من الصَدَقَة. وأما الشهداء فجمع شهيد , وهو المقتول في سبيل اللَّه تعالى. وفي تسمية الشهيد قولان: أحدهما: لقيامه بشهادة الحق , حتى قتل في سبيل الله.

والثاني: لأنه يشهد كرامة الله تعالى. في الآخرة. ويشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة إذا ختم له بالقتل في سبيل الله. وأما الصالحون فجمع صالح وفيه قولان: أحدهما: أنه كل من صلح عمله. والثاني: هو كل من صلحت سريرته وعلانيته. وأما الرفيق ففيه قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من الرفق في العمل. والثاني: أنه مأخوذ من الرفق في السير. وسبب نزول هذه الآية على ما حكاه الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والسدي أنَّ ناساً توهموا أنهم لا يرون الأنبياء في الجنة لأنهم في أعلى عليين , وحزنوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.

71

{يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما} قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُم} فيه قولان: أحدهما: يعني احذرواْ عَدُوَّكم. والثاني: معناه خذواْ سلاحكم فسماه حذراً لأنه به يتقي الحذر. {فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرو جَمِيعاً} والثُّبات: جمع ثُبة , والثُبةُ العُصْبة , ومنه قول زهير: (لقد أغدو على ثُبةٍ كرام ... نشاوَى واجدين لما نشاء)

فيكون معنى لآية فانفروا عُصَباً وفِرقاً أو جميعاً. قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الْدُّنْيَا بِالأَخِرةِ} يعني يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة , فعبر عن البيع بالشراء. {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} فإن قيل فالوعد من الله تعالى على القتال فكيف جعل على القتل أو الغلبة؟ قيل لأن القتال يفضي غالباً إلى القتل فصار الوعد على القتال وعداً على من يفضي إليه , والقتال على ما يستحقه من الوعد إذا أفضى إلى القتل والغلبة أعظم , وهكذا أخبر.

75

{وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا} قوله تعالى: {رَبَّنآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} هي مكة في قول جميع المفسرين , لما كانواْ عليه , كما أخبر الله به عنهم , من استضعاف الرجال والنساء والولدان وإفتانهم عن دينهم بالعذاب والأذى.

77

{ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا

هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيَل لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} فيمن نزلت هذه الآية فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في قتال المشركين فلم يأذن لهم , فلما كُتِبَ عليهم القتال وهم بالمدينة قال فريق منهم ما ذكره الله عنهم , وهذا قول ابن عباس , وعكرمة , وقتادة , والسدي. والثاني: أنها نزلت في المنافقين , وهو قول بعض البصريين.

والثالث: أنها نزلت في اليهود. والرابع: أنها من صفة المؤمن لما طُبعَ عليه البشر من المخافة , وهذا قول الحسن. {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} في البروج ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها القصور , وهو قول مجاهد , وابن جريج. والثاني: أنها قصور في السماء بأعيانها تسمى بهذا الاسم , وهو قول السدي , والربيع. والثالث: أنها البيوت التي في الحصون وهو قول بعض البصريين.

وأصل البروج الظهور , ومنه تبرج المرأة إذا أظهرت نفسها. وفي المُشّيَّدَةِ ثلاثة أقاويل: أحدها: المجصصة , والشيد الجص , وهذا قول بعض البصريين. والثاني: أن المُشّيَّدَ المطول في الارتفاع , يقال شاد الرجل بناءه وأشاده إذا رفعه , ومنه أَشدت بذِكِرْ الرجل إذا رَفَعْتَ منه , وهذا قول الزجاج. والثالث: أن المُشّيَّد , بالتشديد: المُطَّول , وبالتخفيف: المجصَّص. قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ} في القائلين ذلك قولان: أحدهما: أنهم المنافقون , وهو قول الحسن. والثاني: اليهود , وهو قول الزجاج. وفي الحسنة والسيئة ها هنا ثلاثة تأويلات: أحدها: البؤس والرخاء. والثاني: الخصب والجدب , وهو قول ابن عباس , وقتادة. والثالث: النصر والهزيمة , وهو قول الحسن , وابن زيد. وفي قوله: {مِنْ عِندِكَ} تأويلان: أحدهما: أي بسوء تدبيرك , وهو قول ابن زيد. والثاني: يعنون بالشؤم الذي لحقنا منك على جهة التطُّير به , وهذا قول الزجاج , ومثله قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131]. قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك} اختلف في المراد بهذا الخطاب على ثلاثة أقاويل. أحدها: أن الخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو المراد به. والثاني: أنه متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره , وهو قول الزجاج. والثالث: أنه متوجه إلى الإنسان , وتقديره: ما أصابك أيها الإنسان من حسنة فمن الله , وهذا قول قتادة. وفي الحسنة والسيئة ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الحسنة النعمة في الدين والدنيا , والسيئة المصيبة في الدين والدنيا , وهذا قول بعض البصريين. والثاني: أن الحسنة ما أصابه يوم بدر , والسيئة ما أصابه يوم أحد من شج رأسه وكسر رباعيته , وهو قول ابن عباس , والحسن. والثالث: أن الحسنة الطاعة , والسيئة المعصية , وهذا قول أبي العالية. قوله تعالى: {فَمِن نَّفْسِكَ} قولان: أحدهما: يعني فبذنبك. والثاني: فبفعلك.

80

{من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} قوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} وإنما كانت طاعة لله لأنها موافقة لأمر الله تعالى. {وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} فيه تأويلان: أحدهما: يعني حافظاً لهم من المعاصي حتى لا تقع منهم. والثاني: حافظاً لأعمالهم التي يقع الجزاء عليها فتخاف ألاّ تقوم بها , فإن الله تعالى هو المجازي عليها. {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني المنافقين , أي أمرنا طاعة. {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} والتبييت كل عمل دُبِّر ليلاً , قال عبيد بن همام: (أتوني فلم أرض ما بيّتوا ... وكانواْ أتوْني بأمرٍ نُكُر) (لأُنْكِحَ أَيِّمَهُمْ منذراً ... وهل يُنْكِحُ الْعَبْدُ حُرٌّ لحُرْ؟)

وفي تسمية العمل بالليل بياتاً قولان: أحدهما: لأن الليل وقت المبيت. والثاني: لأنه وقت البيوت. وفي المراد بقوله تعالى: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} قولان: أحدهما: أنها غيّرت ما أضمرت من الخلاف فيما أمرتهم به أو نهيتهم عنه , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , والسدي. والثاني: معناه فدبَّرت غير الذي تقول على جهة التكذيب , وهذا قول الحسن. {وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} فيه قولان: أحدهما: يكتبه في اللوح المحفوظ ليجازيهم عليه. والثاني: يكتبه بأن ينزله إليك في الكتاب , وهذا قول الزجاج.

82

{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرءَآنَ} أصل التدبر الدبور , لأنه النظر في عواقب الأمور. {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} في الاختلاف ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: تناقض من جهة حق وباطل , وهذا قول قتادة , وابن زيد.

والثاني: من جهة بليغ ومرذول , وهو قول بعض البصريين. والثالث: يعني اختلافاً في الأخبار عما يُسِرُّونَ , وهذا قول الزجاج. قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ} في المعني بهذا قولان: أحدهما: المنافقون , وهو قول ابن زيد والضحاك. والثاني: أنهم ضعفة المسلمين , وهو قول الحسن , والزجاج. {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الأمراء , وهذا قول ابن زيد , والسدي. والثاني: هم أمراء السرايا. والثالث: هم أهل العلم والفقه , وهذا قول الحسن , وقتادة , وابن جريج , وابن نجيح , والزجاج. {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أولو الأمر. والثاني: أنهم المنافقون أو ضعفة المسلمين المقصودون بأول الآية , ومعنى يستنبطونه: أي يستخرجونه , مأخوذ من استنباط الماء , ومنه سُمِّي النبط لاستنباطهم العيون. {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لآتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} في فضل الله ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: القرآن. والثالث: اللطف والتوفيق. وفي قوله تعالى: {لآتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} أربعة أقاويل: أحدها: يعني لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم فإنه لم يكن يتبع الشيطان. والثاني: لعلمه الذين يستنبطون إلا قليلاً منكم وهذا قول الحسن وقتادة.

والثالث: أذاعوا به إلا قليلاً , وهذا قول ابن عباس , وابن زيد. والرابع: لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً مع الاتباع.

84

{فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا} قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِنْهَا} في الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة قولان: أحدهما: أنه مسألة الإنسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته أو شر بمسألته , وهذا قول الحسن , ومجاهد , وابن زيد. والثاني: أن الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمنين , والشفاعة السيئة الدعاء عليهم , لأن اليهود كانت تفعل ذلك فتوعَّدَهُم الله عليه. وفي الكِفْلِ تأويلان: أحدها: أنه الوِزر والإثم , وهو قول الحسن , وقتادة. والثاني: أنه النصيب , كما قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] وهو قول السدي , والربيع , وابن زيد. {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني مقتدراً , وهو قول السدي , وابن زيد. والثاني: حفيظاً , وهو قول ابن عباس , والزجاج.

والثالث: شهيداً , وهو قول مجاهد. والرابع: حسيباً , وهو قول ابن الحجاج , ويحكى عن مجاهد أيضاً. والخامس: مجازياً , وأصل المقيت القوت , فَسُمِّي به المقتدر لأنه قادر على إعطاء القوت , ثم صار اسماً في كل مقتدر على كل شيءٍ من قوت غيره , كما قال الزبير ابن عبد المطلب: (وذي ضَغَنٍ كَففْتُ النَّفْسَ عنه ... وكنتُ على مَسَاءَتِهِ مُقِيتاً) قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَا} في المراد بالتحية ها هنا قولان: أحدهما: أنه الدعاء بطول الحياة. والثاني: السلام تطوع مستحب , ورده فرض , وفيه قولان: أحدهما: أن فرض رّدِّهِ عَامٌّ في المسلم والكافر , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , وابن زيد. والثاني: أنه خاص في المسلمين دون الكافر , وهذا قول عطاء. وقوله تعالى: {بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} يعني الزيادة في الدعاء. {أَوْ رُدُّوهَا} يعني بمثلها , وروى الحسن أن رجلاً سلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ) ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وًبَرَكاَتُهُ) ثم جاء آخر فقال: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم:) وَعَلَيْكُم (فقيل: يا رسول الله رددت على الأول والثاني وقلت للثالث وعليكم , فقال:) إِنَّ الأَوَّلَ سَلّمَ وَأَبْقَى مِنَ التَّحِيَّةِ شَيئاً , فَرَدَدْتُ عَلَيهِ بِأَحْسَنَ مِمَّا جَاءَ بِهِ , كَذَلِكَ الثَّانِي , وإنَّ الثَّالِثَ جَاءَ بِالتَّحِيَّةِ كُلِّهَا , فَرَدَدْتُ عَلَيهِ مِثْلَ ذَلِكَ (.

وقد قال ابن عباس: ترد بأحسن منها على أهل الإِسلام , أو مثلها على أهل الكفر , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:) لا تَبْدَأُواْ اليَهُودُ بِالسَّلاَمِ فَإِنْ بَدَأُوكُم فَقُولُواْ: عَلَيكُم (. {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني حفيظاً , وهو قول مجاهد. والثاني: محاسباً على العمل للجزاء عليه , وهو قول بعض المتكلمين. والثالث: كافياً , وهو قول البلخي. قوله تعالى: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ} وفي تسمية القيامة قولان: أحدهما: لأن الناس يقومون فيه من قبورهم. والثاني: لأنهم يقومون فيه للحساب.

88

{فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} قوله تعالى: {فَمَا لَكُم فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ} اختلف فيمن نزلت هذه الآية بسببه على خمسة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في الذين تخلَّفُواْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد , وقالواْ: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم , وهذا قول زيد بن ثابت. والثاني: أنها نزلت في قوم قَدِمُواْ المدينة فأظهروا الإسلام , ثم رجعواْ إلى مكة فأظهروا الشرك , وهذا قول الحسن , ومجاهد. والثالث: أنها نزلت في قوم أظهرواْ الإِسلام بمكة وكانواْ يعينون المشركين على المسلمين , وهذا قول ابن عباس , وقتادة. والرابع: أنها نزلت في قوم من أهل المدينة أرادوا الخروج عنها نفاقاً , وهذا قول السدي. والخامس: أنها نزلت في قوم من أهل الإفك , وهذا قول ابن زيد. وفي قوله تعالى: {وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا} خمسة تأويلات: أحدها: معناه ردهم , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أوقعهم , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أهلكهم , وهذا قول قتادة. والرابع: أَضَلَّهم , وهذا قول السدي. والخامس: نكسهم , وهذا قول الزجاج. {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ} فيه قولان: أحدهما: أن تُسَمُّوهم بالهُدى وقد سمّاهم الله بالضلال عقوبة لهم. والثاني: تهدوهم إلى الثواب بمدحهم والله قد أَضَلَّهم بذمهم. { ... . إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} أي يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لكم. قال عكرمة: نزلت في الهلال بن عويمر الأسلمي , وسراقة بن مالك بن جُعْثَم , وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. قال الحسن: هؤلاء بنو مُدْلِج كان بينهم وبين قريش عهد , وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم [وقريش] عهد , فحرم الله من بني مُدْلِجِ ما حرّم من قريش. {أَوْ جَآؤُكُمْ حَصِرتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} معنى حصرت أي ضاقت , ومنه حُصِرَ العدو وهو الضيق , ومنه حصر العداة لأنهم قد ضاقت عليهم مذاهبهم. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه إخبارٌ من الله عنهم بأن صدورهم حَصِرتْ. والثاني: أنه دعاء من الله عليهم بأن تُحصَرَ صدورهم , وهذا قول أبي العباس. {وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} وفي تسليطهم قولان: أحدهما: بتقوية قلوبهم. والثاني: بالإذن في القتال ليدافعواْ عن أنفسهم. {فَإِن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} فيه قولان: أحدهما: الصلح , وهو قول الربيع. والثاني: الإِسلام , وهو قول الحسن. {فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} قال الحسن , وقتادة , وعكرمة: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. قوله تعالى: {سَتَجِدُونَءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} هم قوم يُظْهِرُونَ لقومهم الموافقة ليأمنوهم , وللمسلمين الإسلام ليأمنوهم , وفيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم أهل مكة , وهذا قول مجاهد. والثاني: أنهم من أهل تهامة , وهذا قول قتادة. والثالث: قوم من المنافقين , وهذا قول الحسن. والرابع: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي , وهذا قول السدي. {كُلَّ مَا ردُوُّاْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا} أي كلما رُدُّوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعواْ فيه.

91

ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل

ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا قوله تعالى: {فما لكم في المنافقين فئتين} اختلف فيمن نزلت هذه الآية بسببه على خمسة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وهذا قول زيد بن ثابت. والثاني: أنها نزلت في قوم قدموا المدينة فأظهروا الإسلام، ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك، وهذا قول الحسن، ومجاهد. والثالث: أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، وهذا قول ابن عباس، وقتادة. والرابع: أنها نزلت في قوم من أهل المدينة أرادوا الخروج عنها نفاقاً، وهذا قول السدي. والخامس: أنها نزلت في قوم من أهل الإفك، وهذا قول ابن زيد. وفي قوله تعالى: {والله أركسهم بما كسبوا} خمسة تأويلات: أحدها: معناه ردهم، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أوقعهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أهلكهم، وهذا قول قتادة. والرابع: أضلهم، وهذا قول الزجاج. {أتريدون أن تهدوا من أضل الله} فيه قولان: أحدهما: أن تُسَمُّوهم بالهُدى وقد سمّاهم الله بالضلال عقوبة لهم. والثاني: تهدوهم إلى الثواب بمدحهم والله قد أضلهم بذمهم.

{ ... . إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} أي يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لكم} أي يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان منه مثل ما لكم. قال عكرمة: نزلت في الهلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعثم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. قال الحسن: هؤلاء بنو مدلج كان بينهم وبين قريش عهد، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم [قريش] عهد، فحرم الله من بين مدلج ما حرم من قريش. {أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم} معنى حصرت أي ضاقت، ومنه حصر العدو وهو الضيقن ومنه حصر العداة لأنهم قد ضاقت عليهم مذاهبهم. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه إخبارٌ من الله عنهم بأن صدورهم حصرت. والثاني: أنه دعاء من الله عليهم بأن تحصر صدورهم، وهذا قول أبي العباس. {ولقد شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} وفي تسليطهم قولان: أحدهما: بتقوية قلوبهم. والثاني: بالإذن في القتال ليدفعوا عن أنفسهم. {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم} فيه قولان: أحدهما: الصلح، وهو قول الربيع. والثاني: الإسلام، وهو قول الحسن. {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} قال الحسن، وقتادةن وعكرمة: هي منسوخة بقوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]. قوله تعالى: {ستجدون ءاخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم} هم

قوم يظهرون لقومهم الموافقة ليأمنوهم، وللمسلمين الإسلام ليأمنوهم، وفيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم أهل مكة، وهذا قول مجاهد. والثاني: أنهم من أهل تهامة، وهذا قول قتادة. والثالث: قوم من المنافقين، وهذا قول الحسن. والرابع: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي. وهذا قول السدي. {كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها} أي كلما ردوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعوا فيه.

92

{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا أبي جهل لأمه قتل الحارث بن زيد من بني عامر بن لؤي , لأنه كان يعذب عياشاً مع أبي جهل واختلف أين قتله , فقال عكرمة ومجاهد: قتله بالحرّة بعد هجرته إلى المدينة وهو لا يعلم بإسلامه , وقال السدي: قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة وهو لا يعلم بإسلامه.

والقول الثاني: أنها نزلت في أبي الدرداء حين قتل رجلاً بالشعب فحمل عليه بالسيف , فقال: لا إله إلا الله , فبدر فضربه ثم وجد في نفسه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أّلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ) وهذا قول ابن زيد. فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً} يعني وما أّذِنَ الله لمؤمن أن يقتل مؤمناً. ثم قال: {إلاَّ خَطَأ} يعني أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس مما جعله الله له , وهذا من الاستثناء الذي يسميه أهل العربية: الاستثناء المنقطع , ومنه قول جرير: (من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ ... على الأرض إلاّ ريْط بُردٍ مرحّلِ) يعني ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد وليس البرد من الأرض. {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} وفيها قولان: أحدهما: أنها لا يجزىء عتقها في الكفارة إلا أن تكون مؤمنة بالغة قد صلت وصامت , وهذا قول ابن عباس , والشعبي , والحسن , وقتادة , وإبراهيم. والقول الثاني: أن الصغيرة المولودة من أبوين مسلمين تكون مؤمنة تجزىء في الكفارة , وهذا قول عطاء , والشافعي. {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} في الدية وجهان: أحدهما: أنها مجملة أخذ بيانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنها معهودة تقدم العمل بها ثم توجه الخطاب إليها فجعل الله الرقبة تكفيراً للقاتل في ماله والدية بدلاً من نفس المقتول على عاقلته. {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} فيه قولان: أحدهما: أي إن كان قومه كفاراً وهو مؤمن ففي قتله تحرير رقبة مؤمنة وليس فيه ديةُ , وهو قول ابن عباس , والحسن , وقتادة , وابن زيد. قال ابن زيد: لا تؤدى إليهم لأنهم يَتَقوُّونَ بها.

والثاني: معناه فإن كان من قومٍ عدو لكم يعني أهل حرب إذا كان فيهم مؤمن فَقُتِلَ من غير علم بإيمانه ففيه الكفارة دون الدية سواء كان وارثه مسلماً أو كافراً وهذا قول الشافعي , ويكون معنى قوله: {من قوم إلى قوم} , وعلى القول الأول هي مستعملة على حقيقتها. ثم قال تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنةٍ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: هم أهل الذمة من أهل الكتاب , وهو قول ابن عباس , يجب في قتلهم الدية والكفارة. والثاني: هم أهل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة , وهذا قول الحسن. والثالث: هم كل من له أمان بذمة أو عهد فيجب في قتله الدية والكفارة , وهو قول الشافعي. ثم قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} فيه قولان: أحدهما: أن الصوم بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها دون الدية , وهذا قول الجمهور. والثاني: أنه بدل من الرقبة والدية جميعاً عند عدمها , وهذا قول مسروقٍ. قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} قال ابن جريج: نزلت في مقيس بن صبابة , وقد كان رجل من بني فهر قتل أخاه , فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية وضربها علي بني النجار , فقبلها , ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيس بن صبابة ومعه الفهري في حاجة فاحتمل مقيس الفهريَّ وكان أَيِّدا فضرب به الأرض ورضخ رأسه بين حجرين ثم ألقى يغني: (قتلت به فِهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع)

) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَظُنُّهُ أَحْدَثَ حَدَثاً , أَمَا وَاللَّهِ لَئِن كَانَ فَعَلَ لاَ أُؤَمِّنْهُ فِي حِلٍ وَلاَ حَرمٍ فَقُتِلَ عَامَ الفَتْحِ). وروى سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَن يَقْتُلْ مَؤْمِناً مُّتَعمِدّاً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ) الآية , فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحاً. قال وأنَّى له التوبة. قال زيد بن ثابت. فنزلت الشديدة بعد الهدنة بستة أشهر , يعني قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} بعد قوله: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاًءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68].

94

{يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا} قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُم فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ}. الآية. قيل إنها نزلت في رجل كانت معه غُنَيْمَاتُ لقيته سريَّة لرسول الله صلى الله عليهم وسلم , فقال لهم: السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله , فبدر إليه بعضهم فقتله , فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (لِمَ قَتَلْتَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ) قال إنما قالها تعوذاً , قال: (هَلاَّ شَقَقْتَ عَن قَلْبِهِ) ثم حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله وردّ عليهم غنمه.

واختلف في قاتله على خمسة أقاويل: أحدها: أنه أسامة بن زيد , وهو قول السدي. والثاني: أنه المقداد , وهو قول سعيد ابن جبير. والثالث: أبو الدرداء , وهو قول ابن زيد. والرابع: عامر بن الأضبط الأشجعي , وهو قول ابن عمر. والخامس: هو محلِّم بن جثامة الليثي. ويقال إن القاتل لفظته الأرض ثلاث مرات , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِّنهُ وَلَكنَّ اللَّهَ جَعَلهُ لَكُم عِبْرَةً , ثُمَّ أَمَرَ بِأَن تُلْقْى عَلَيهِ الحِجَاَرةُ). {كَذَلِكَ كنتُم مِّن قَبْلُ} أي كفاراً مثلهم. {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ} يعني بالإسلام.

95

{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما}

قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}. في المراغم خمسة تأويلات: أحدها: أنه المتحوَّل من أرض إلى أرض , وهذا قول ابن عباس والضحاك. ومنه قول نابغة بني جعدة: (كطْودٍ يُلاذ بأركانه ... ... عزيز المراغم والمطلب) والثاني: مطلب المعيشة , وهو قول السدي , ومنه قول الشاعر: (إلى بلدٍ غير داني المحل ... ... بَعيد المُراغم والمطلب) والثالث: أن المراغم المهاجر , وهو قول ابن زيد: والرابع: يعني بالمراغم مندوحة عما يكره. والخامس: أن يجد ما يرغمهم به , لأن كل من شخص عن قومه رغبة عنهم فقد أرغمهم , وهذا قول بعض البصريين. وأصل ذلك الرغم وهو الذل. والرّغام: التراب لأنه ذليل , والرُّغام بضم الراء ما يسيل من الأنف. وفي قوله تعالى: {وَسَعَةً} ثلاث تأويلات: أحدها: سعة في الرزق وهو قول ابن عباس. والثاني: يعني من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى , وهو قول قتادة. والثالث: سعة في إظهار الدين.

101

{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا} قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُم فِي الأَرْضِ} أي سرتم , لأنه يضرب الأرض

برجله في سيره كضربه بيده , ولذلك سُمِّيَ السفر في الأرض ضَرْباً. {فَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِن الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} اختلف في هذا القصر المشروط بالخوف على قولين: أحدهما: أنه قَصَرَ أركانها إذا خاف , مع استيفاء أعدادها فيصلي عند المسايفة والتحام القتال كيف أمكنه قائماً وقاعداً ومومياً , وهي مثل قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فِرجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه قصر أعدادها من أربع إلى ما دونها , وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن هذا مشروط بالخوف من أربع إلى ركعتين , فإن كان آمناً مقيماً لم يقصر , وهذا قول سعد بن أبي وقاص , وداود بن علي. والثاني: أنه قَصْران , فقصر الأمَنْ , من الأربع إلى ركعتين , وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة , وهذا قول جابر بن عبد الله والحسن. وقد روى مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله عز وجل على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين , وفي الخوف ركعة. والثالث: أنه يقصر في سفر خائفاً وآمناً من أربع إلى ركعتين لا غير. روي عن أبي أيوب عن علي عليه السلام قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِن الصَّلاَةِ} ثم انقطع الوحي , فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر , فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أُخرى مثلها في أثرها , فأنزل الله تعالى بين الصلاتين {إِن خِفْتُم أَن يَفْتِنَكُم الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُم عَدُوّاً مُبِيْناً} إلى قوله: {عَذَاباً مُّهِيناً} فنزلت صلاة الخوف.

102

{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا} قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في الخوف بأصحابه. واختلف أهل العلم فيه هل خص به النبي صلى الله عليه وسلم؟ على قولين: أحدهما: أنه خاص له وليس لغيره من أمته أن يصلي في الخوف كصلاته , لأن المشركين عزموا على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم , فاطلع الله نبيه على سرائرهم وأمره بالتحرز منهم , فكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد , فلذلك صار هذا خاصاً للنبي صلى الله عليه وسلم , وهذا القول محكي عن أبي يوسف. والقول الثاني: أن ذلك عام للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من أمته إذا كان على مثل حاله في خوفه , لأن ذكر السبب الذي هو الخوف يوجب حمله عليه متى وجد كما فعل الصحابة بعده حين خافوا وهو قول الجمهور. وقوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة , وطائفة بإزاء العدو. ثم قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن المأمورين بأخذ السلاح هم الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهذا قول الشافعي. والثاني: هم الذين بإزاء العدو يحرسون , وهذا قول ابن عباس.

ثم قال تعالى: {فَإِذَا سَجَدُواْ} يعني فإذا سجدت الطائفة التي معك في الصلاة. {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} يعني بإزاء العدو. واختلفوا في قوله تعالى: {مِن وَرَآئِكُمْ} هل ذلك بعد فراغهم من الصلاة وتمامها بالركعة التي أدركوها معه؟ على قولين: أحدهما: قد تمت بالركعة حتى يصلوا معها بعد فراغ الإمام ركعة أخرى , وهذا قول من أوجب عليه الخوف ركعتين. ومن قال بهذا اختلفوا هل يتمون الركعة الباقية عليهم قبل وقوفهم بإزاء العدو أو بعده؟ على قولين: أحدهما: قبل وقوفهم بإزاء العدو , وهو قول الشافعي. والثاني: بعده وهو قول أبي حنيفة. ثم قال تعالى: {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَك} يريد الطائفة التي بإزاء العدو تأتي فتصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة التي بقيت عليه , وتمضي الطائفة التي صلّت فتقف موضعها بإزاء العدو. وإذا صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الباقية عليه ففيه قولان: أحدهما: أن ذلك فرضها وتسلم بسلامه , وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعة. والقول الثاني: أن عليها ركعة أخرى , وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعتين كالأمن , فعلى هذا متى تفارقه؟ فعلى قولين: أحدهما: قبل تشهده. والثاني: بعده , وقد روى القولين معاً سهل بن أبي حَثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهل تتم ركعتها الباقية وقوفها بإزاء العدو؟ على قولين: أحدهما: تتمها قبل الوقوف بإزائه , وهو قول الشافعي. والثاني: تقف بإزائه قبل إتمامها حتى إذا أتمت الطائفة الأولى ركعتها عادت فوقفت بإزاء العدو , ثم خرجت هذه فأتمت ركعتها , وهذا قول أبي حنيفة. وهذه الصلاة هي نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع.

103

{فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما} قوله تعالى: {فَإذَا قَضَيتُمُ الصَلاَّةَ فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} يعني ذكر الله بالتعظيم والتسبيح والتقديس بعد صلاته في خوفٍ وغيره: قال ابن عباس: لم يعذر أحد في تركه إلا مغلوباً على عقله. {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني فإذا أقمتم بعد السفر فأتموا الصلاة من غير قصر , وهذا قول الحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني: معناه فإذا أمِنْتم بعد خوفكم فأتموا الركوع والسجود من غير إيماء ولا مشي , وهذا قول السدي. {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} فيه تأويلان: أحدهما: أي فرضاً واجباً , وهو قول ابن عباس , والحسن. والثاني: يعني مؤقتة في أوقاتها ونجومها , كلما مضى نجم جاء نجم , وهو قول ابن مسعود , وزيد بن أسلم. {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَومِ} أي لا تضعفواْ في طلبهم لحربهم.

{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} أي ما أصابهم منكم فإنهم يألمون به كما تألمون بما أصابكم منهم. ثم قال تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} أي هذه زيادة لكم عليهم وفضيلة خُصِصْتُم بها دونهم مع التساوي في الألم. وفي هذا الرجاء اثنان من التأويلات: أحدهما: معناه أنكم ترجون من نصر الله ما لا يرجون. والثاني: تخافون من الله لا يخافون , ومنه قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً} [نوح: 31] أي لا تخافون لله عظمة. ومنه قول الشاعر: (لا ترتجي حين تلاقي الذائدا ... أسبعةً لاقت معاً أم واحداً)

105

{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة

منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الكتاب حق. والثاني: أن فيه ذكر الحق. والثالث: أنك به أحق. {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: بما أعلمك الله أنه حق. والثاني: بما يؤديك اجتهادك إليه أنه حق. {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خصيماً} أي مخاصماً عنهم , وهذه الآية نزلت في طعمة بن أبيرق , واختلف في سبب نزولها فيه , فقال السدي: كان قد أودع درعاً وطعاماً فجحده ولم تقم عليه بينه , فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدفع عنه , فبين الله تعالى أمره. وقال الحسن: إنه كان سرق درعاً وطعاماً فأنكره واتهم غيره وألقاه في منزله , وأعانه قوم من الأنصار , وخاصم النبي صلى الله عليه وسلم عنه أو هَمّ بذلك , فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية إلى قوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} يعني الذي اتهمه السارق وألقى عليه السرقة. وقيل: إنه كان رجلاً من اليهود يقال له يزيد بن السمق.

وقيل: بل كان رجلاً من الأنصار يُقال له لبيد بن سهل. وقيل: طعمة بن أبيرق فارتد فنزلت فيه هذه الآية. ولحق بمشركي أهل مكة فأنزل الله تعالى فيه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [النساء: 115].

116

{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا} قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الإناث اللات والعزى ومَناة , وهو قول السدي وابن زيد وأبي مالك. والثاني: أنها الأوثان , وكان في مصحف عائشة: {إِن تَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً}. والثالث: الملائكة , لأنهم كانواْ يزعمون أنهم بنات الله , وهذا قول الضحاك.

والرابع: الموات الذي لا روح فيه , لأن إناث كل شيء أرذله , وهو قول ابن عباس , وقتادة. قوله تعالى: {ولأُضِلَّنَّهُمْ} يعني الإيمان. {ولأُمَنِّيَنَّهُمْ} يعني بطول الأمل في الدنيا ليؤثروها على الآخرة. {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّءَاذَانَ الأَنْعَامِ} أي لَيُقَطِّعُنَّهَا نُسكاً لأوثانهم كالبحيرة والسائبة. {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} فيه ثلاث تأويلات. أحدها: يعني دين الله , وهذا قول الحسن , وقتادة , ومجاهد , وإبراهيم. والثاني: أنه أراد به خصاء البهائم , وهذا قول ابن عباس , وأنس , وعكرمة. والثالث: أنه الوشم , وهو قول ابن مسعود , والحسن. قال ابن مسعود: (لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ والمتنمِّصَاتِ والمُتَفَلِّجَاتِ للحسُنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ).

123

{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا} قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيَّ أَهْلِ الْكِتَابِ} في الكلام مضمر

محذوف وتقديره ليس الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب , على قولين: أحدهما: أنهم عبدة الأوثان , وهو قول مجاهد. والثاني: أنهم أهل الإسلام , وهو قول مسروق , والسدي. {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} السوء ما يسوء من القبائح , وفيه ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الشرك بالله تعالى , وهو قول ابن عباس. الثاني: أنه الكبائر , وهذا قول أُبَيِّ بن كعب. والثالث: أنه ما يلقاه الإنسان في الدنيا من الأحزان والمصائب جزاءً عن سيئاته كما روى محمد بن قيس بن مخرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْرَ بِهِ} شقت على المسلمين وبلغت بهم ما شاء الله أن تبلغ فَشَكو ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (قَارِبُوا وَسدِّدُواْ فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبةُ يُنْكَبُهَا أو الشَّوْكِةُ يُشَاكُهاَ). وروى الأعمش عن مسلم قال: قال أبو بكر: يا رسول الله ما أشَدَّ هذه الآية {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْرَ بِهِ} فقال: (يَا أَبَا بَكْر إِنَّ المُصِيْبَةَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ).

127

{ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما} قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} الآية. اختلف في سبب نزول هذه الآية على قولين: أحدهما: هو أن سبب نزولها أنهم في الجاهلية كانواْ لا يورثون النساء ولا

الأطفال , فلما فرض الله تعالى المواريث في هذه السورة شق ذلك على الناس , فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله تعالى: {اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} فيه قولان. أحدهما: يعني المواريث , وهذا قول ابن عباس بن جبير وقتادة مجاهد وابن زيد. والثاني: أنهم كانواْ لا يؤتون النساء صدقاتهن ويتملكها أولياؤهن , فلما نزل قوله تعالى: {وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله تعالى: {اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} يعني ما فرض لهن من الصداق وهو قول عائشة. {وترغبون أن تنكحوهن} فيه تأويلان: أحدهما: ترغبون عن نكاهن لقبحهن. والثاني: تمسكونهن رغبة في أموالهن وجمالهن , وهو قول عائشة.

128

{وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما} قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً} الآية اختلف في سبب نزول هذه الآية على قولين:

أحدهما: أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هم بطلاق سودة بنت زمعة فجعلت يومها لعائشة على ألا يطلقها , فنزلت هذه الآية فيها. وهذا قول السدي. والقول الثاني: أنها عامة في كل امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً. والنشوز: الترفع عنها لبغضها , والإعراض: أن ينصرف عن الميل إليها لمؤاخذة أو أثرة. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} إمَّا من تَرْكِ مهرٍ أو إسقاط قَسَم. {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني خيراً من النشوز والإعراض , وهو قول بعض البصريين. والثاني: خير من الفرقة , وهو قول الزجاج. {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} فيه تأويلان: أحدهما: أنفس النساء أحضرت الشح عن حقوقهن من أزواجهن وأموالهن , وهذا قول ابن عباس , وسعيد بن جبير. والثاني: أحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه , وهو قول الحسن. قوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ} يعني بقلوبكم ومحبتكم. {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: ولو حرصتم أن تعدلوا في المحبة , وهو قول مجاهد. والثاني: ولو حرصتم في الجماع , وهو قول ابن عباس. {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ} أي فلا تميلواْ بأفعالكم فتُتْبِعُوهَا أهواءَكم. {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} يعني لا أيِّماً ولا ذات زوْج. قوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} يعني الزوجين إن تفرقا بالطلاق.

{يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: يغني الله كل واحد منهما بالقناعة والصبر عن صاحبه , ومعنى قوله: {من سعته} أي من رحمته , لأنه واسع الرحمة. والثاني: يغني الله كل واحد منهما عن صاحبه بمن هو خير منه , ومعنى قوله: {من سعته} أي من قدرته لأنه واسع القدرة. والثالث: يغني الله كل واحد منهما بمال يكون أنفع له من صاحبه. ومعنى قوله: {من سعته} أي من غناه لأنه واسع الغنى.

131

{ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا} قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بأَخَرِينَ} روى سهل بن أبي صالح عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت ضرب بيده على ظهر سلمان وقال: (هُمْ قَوْمُ هّذا) يعني عجم الفرس. قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ} ثواب الدنيا النعمة , وثواب الآخرة الجنة.

135

{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم

أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} يعني بالعدل {شُهَدَآءَ للهِ} يعني بالحق. {وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراراه بما عليه من الحق لخصمه. {أَوِ الْوَالِدَينِ وَالأَقْرَبِينَ} أن يشهد عليهم لا لهم. {إِن يَكُنْ غَنِّياً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} قال السدي: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختصم إليه رجلان: غني وفقير , فكان ميله مع الفقير , يرى أن الفقير لا يظلم الغني , فأمره الله عز وجل أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال: {إِن يَكُنْ غَنِّياً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ}. وقال ابن عباس: نزلت في الشهادة لهم وعليهم. {وَإِن تَلوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ} قرأ ابن عباس وحمزة بواو واحدة , وهي من الولاية أي تلوا أمور الناس أو تتركواْ , وهذا للولاة والحكام. وقرأ الباقون: {تَلْوُواْ} بواوين. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هو أن يلوي الإنسان لسانه بالشهادة كما يلوي الرجل ديْن الرجل إذا مطله , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (ولَيُّ الْوَاجِدِ يُبِيْحُ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ) وقال الأعشى: (يلوونني ديني النهار وأقتضى ... ديني إذا وقذ النعاس الرُّقدا) وتكون على هذه القراءة والتأويل هذا خطاب الشهود.

136

{يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْءَامِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} فإن قيل فكيف قيل لهم {ءَامِنُواْ} وحُكِي عنهم أنهم آمنوا؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: يا أيها الذين آمنواْ بمن قبل محمد من الأنبياء آمنواْ بالله ورسوله ويكون ذلك خطاباً ليهود والنصارى. الثاني: معناه يا أيها الذين آمنوا بأفواههم أمنواْ بقلوبكم , وتكون خطاباً للمنافقين. والثالث: معناه يا أيها الذين آمنوا داومواْ على إيمانكم , ويكون هذا خطاباً للمؤمنين , وهذا قول الحسن.

137

{إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} فيه ثلاثة أقاويل: فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم آمنواْ بموسى ثم كفرواْ بعبادة العجل , ثم آمنوا بموسى بعد عوده ثم كفرواْ بعيسى , ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليهم وسلم , وهذا قول قتادة.

والثاني: أنهم المنافقون آمنوا ثم ارتدواْ , ثم آمنوا ثم ارتدواْ , ثم ماتواْ على كفرهم , وهذا قول مجاهد. والثالث: أنهم قوم من أهل الكتاب قصدواْ تشكيك المؤمنين فكانواْ يظهرون الإيمان ثم الكفر ثم ازدادواْ كفراً بثبوتهم عليه , وهذا قول الحسن. واختلف لمكان هذه الآية في استتابة المرتد على قولين: أحدهما: أن المرتد يستتاب ثلاث مرات بدلالة الآية , فإن ارتد بعد الثلاث قتل من غير استتابة , وهذا قول علي. والثاني: يستتاب كلما ارتد , وهو قول الشافعي والجمهور.

141

{الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} يعني المنافقين. {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} أي فأعطونا من الغنيمة. {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: معناه ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة ونمنعكم من المؤمنين بالتخذيل عنكم. والثاني: معناه ألم نبين لكم أننا على دينكم , وهذا قول ابن جريج. والثالث: معناه ألم نغلب عليكم , وهو قول السدي. وأصل الاستحواذ الغلبة , ومنه قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيهُمُ الشَّيْطَانُ} يعني غلب عليهم. وفي قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيْلاً} فيه قولان:

أحدهما: يعني حُجّة , وهذا قول السدي. والثاني: سبيلاً في الآخرة , وهذا قول عليّ , وابن عباس.

142

{إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} معنى {يُخَادِعُونَ اللهَ} أي يخادعون نبي الله بما يظهرونه من الإيمان ويبطنونه من الكفر , فصار خداعهم لرسول الله صلى الله عليهم خداعاً لله عز وجل. {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} يعني الله تعالى , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني يعاقبهم على خداعهم , فسمى الجزاء على الفعل باسمه. والثاني: أنه أمر فيهم بأمر المُخْتَدِع لهم بما أمر به من قبول إيمانهم وإن علم ما يبطنون من كفرهم. والثالث: ما يعطيهم في الآخرة من النور الذي يمشون به مع المؤمنين , فإذا جاؤواْ إلى الصراط طفىء نورهم , فتلك خديعة الله إياهم. {وَإِذَا قَاموا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى} يحتمل قولين: أحدهما: متثاقلين. والثاني: مقصَّرين. {يُرَآؤُونَ النَّاسَ} يعني أنهم يقصدون بما يفعلونه من البر رياء الناس دون طاعة الله تعالى. {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} فيه قولان: أحدهما: الرياء , لأنه لا يكون إلا ذِكراً حقيراً , وهو قول قتادة.

والثاني: يسيراً لاقتصاره على ما يظهر من التكبير دون ما يخفي من القراءة والتسبيح , وإنما قّلَّ من أجل اعتقادهم لا من قلة ذكرهم. قال الحسن: لأنه كان لغير الله تعالى.

144

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما} قوله عز وجل: {لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني إلا أن يكون مظلوماً فيدعو على من ظلمه , وهذا قول ابن عباس.

والثاني: إلا أن يكون مظلوماً فيجهر بظلم من ظلمه , وهذا قول مجاهد. والثالث: إلا من ظلم فانتصر من ظالمه , وهذا قول الحسن , والسدي. والرابع: إلا أن يكون ضيفاً , فينزل على رجل فلا يحسن ضيافته , فلا بأس أن يجهر بذمه , وهذه رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. ثم قال بعد أن أباح بالسوء من القول لمن كان مظلوماً: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ} يعني خيراً بدلاً من السوء , أو تخفوا السوء , وإن لم تبدوا خيراً اعفوا عن السوء , كان أولى وأزكى , وإن كان غير العفو مباحاً.

153

{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنْ السَّمَاءِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم , أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً , كما نزل على موسى الألواح , والتوراة مكتوبة من السماء , وهذا قول السدي , ومحمد بن كعب. والثاني: أنهم سألوه نزول ذلك عليهم خاصة , تحكماً في طلب الآيات , وهذا قول الحسن , وقتادة. والثالث: أنهم سألوه أن ينزِّل على طائفة من رؤسائهم كتاباً من السماء بتصديقه , وهذا قول ابن جريج. {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله تعالى بيَّن بذلك أن سؤالهم للإعْنَاتِ لا للاستبصار كما

أنهم سألوا موسى أن يريهم الله جهرة , ثم كفروا بعبادة العجل. والثاني: أنه بيَّن بذلك أنهم سألوا ما ليس لهم , كما أنهم سألوا موسى من ذلك ما ليس لهم. {فَقَالُواْ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} فيه قولان: أحدهما: أنهم سألوه رؤيته جهرة , أي معاينة. والثاني: أنهم قالوا: جهرة من القول أّرِنا الله , فيكون على التقديم والتأخير , وهذا قول ابن عباس. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} فيه قولان: أحدهما: بظلمهم لأنفسهم. والثاني: بظلمهم في سؤالهم. قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِم} يعني: بالعهد الذي أخذ عليهم بعد تصديقهم بالتوراة ان يعملوا بما فيها , فخالفوا بعبادة العجل ونقضوه , فرفع الله عليهم الطور , ليتوبوا , وإلاَّ سقط عليهم فتابوا حينئذ. {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} فيه قولان: أحدهما: أنه باب الموضع الذي عبدوا فيه العجل , وهو من أبواب بيت المقدس , وهذا قول قتادة. والثاني: باب حِطَّة فأمروا بدخوله ساجدين لله عز وجل. {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ} قرأ ورش عن نافع {تَعَدُّوا} بفتح العين وتشديد الدال , من الاعتداء , وقرأ الباقون بالتخفيف من عَدَوت. وعدوهم فيه تجاوزهم حقوقه , فيكون تعديهم فيه - على تأويل القراءة الثانية - ترك واجباته. {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} وهو ميثاق آخر بعد رفع الطور عليهم , غير الميثاق الأول. وفي قوله تعالى: {غَلِيظاً} قولان: أحدهما: أنه العهد بعد اليمين. والثاني: أن بعض اليمين ميثاق غليظ.

155

{فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} قوله تعالى: { ... وَقَولِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} فيه قولان: أحدهما: أنها محجوبة عن فهم الإعجاز ودلائل التصديق , كالمحجوب في غلافة , وهذا قول بعض البصريين. والثاني: يعني أنها أوعية للعلم وهي لا تفهم احتجاجك ولا تعرف إعجازك , وهذا قول الزجاج , فيكون ذلك منهم على التأويل الأول إعراضاً , وعلى التأويل الثاني إبطالاً. {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه جعل فيها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع , وهو قول بعض البصريين. الثاني: ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرشداً , وهذا قول الزجاج. {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فيه تأويلان:

أحدهما: أن القليل منهم يؤمن بالله. الثاني: لا يؤمنون إلا بقليل , وهو إيمانهم ببعض الأنبياء دون جميعهم. قوله عز وجل: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ} , أما قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} فهو من قول اليهود , أخبر الله به عنهم. أما {رَسُولَ اللهِ} ففيه قولان: أحدهما: أنه من قول اليهود بمعنى رسول الله في زعمه. والثاني: أنه من قول الله تعالى لا على وجه الإخبار عنهم , وتقديره: الذي هو رسولي. {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم كانوا يعرفونه فألقى شبهه على غيره , فظنوه المسيح فقتلوه , وهذا قول الحسن , وقتادة , ومجاهد , ووهب , والسدي. والثاني: أنهم ما كانوا يعرفونه بعينه , وإن كان مشهوراً فيهم بالذكر , فارتشى منهم يهودي ثلاثين درهماً , ودلهم على غيره مُوهِماً لهم أنه المسيح , فشُبِّهَ عليهم. والثالث: أنهم كانوا يعرفونه , فخاف رؤساؤهم فتنة عوامِّهم , فإن الله منعهم عنه , فعمدوا إلى غيره , فقتلوه وصلبوه , ومَوَّهُوا على العامة أنه المسيح , ليزول افتتانهم به. {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} فيه قولان: أحدهما: أنهم اختلفوا فيه قبل قتله , فقال بعضهم: هو إله , وقال بعضهم: هو ولد , وقال بعضهم: هو ساحر , فشكوا {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاَع الظَّنِّ} الشك الذي حدث فيهم بالاختلاف. والثاني: ما لهم بحاله من علم - هل كان رسولاً أو غير رسول؟ - إلا اتباع الظن. {وَمَا قَتَلُوهُ يَقْيناً} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: وما قتلوا ظنَّهم يقيناً كقول القائل: ما قتلته علماً , وهذا قول ابن عباس , وجويبر. والثاني: وما قتلوا أمره يقيناً أن الرجل هو المسيح أو غيره , وهذا قول السدي. والثالث: وما قتلوه حقاً , وهو قول الحسن. {بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} فيه قولان: أحدهما: أنه رفعه إلى موضع لا يجري عليه حكم أحد من العباد , فصار رفعه إلى حيث لا يجري عليه حكم العباد رفعاً إليه , وهذا قول بعض البصريين. والثاني: أنه رفعه إلى السماء , وهو قول الحسن. قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح , إذا نزل من السماء , وهذا قول ابن عباس , وأبي مالك , وقتادة , وابن زيد. والثاني: إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت الكتابي عند المعاينة , فيؤمن بما أنزل الله من الحق وبالمسيح عيسى ابن مريم , وهذا قول الحسن , ومجاهد , والضحاك , وابن سيرين , وجويبر. والثالث: إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي , وهذا قول عكرمة. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} يعني المسيح , وفيه قولان: أحدهما: أنه يكون شهيداً بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه من أهل عصره. والثاني: يكون شهيداً أنه بلَّغ رسالة ربه , وأقر بالعبودية على نفسه , وهذا قول قتادة , وابن جريج.

160

{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا

لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للنصارى خاصة. والثاني: أنه خطاب لليهود والنصارى , لأن الفريقين غلوا في المسيح , فقالت النصارى: هو الرب , وقالت اليهود: هو لغير رشدة , وهذا قول الحسن. والغلو: مجاوزة الحد , ومنه غلاء السعر , إذا جاوز الحد في الزيادة , وغلا في الدين , إذا فرط في مجاوزة الحق. {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} يعني في غلوهم في المسيح. {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ} رداً على مَنْ جعله إلهاً , أو لغير رشدة [أو] ساحراً. {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَآ إِلَى مَرْيَمَ} في كلمته ثلاثة أقاويل: أحدها: لأن الله كَلَّمَه حين قال له كن , وهذا قول الحسن , وقتادة. الثاني: لأنه بشارة الله التي بشر بها , فصار بذلك كلمة الله. والثالث: لأنه يهتدى به كما يُهْتَدَى بكلام الله. {وَرُوحٌ مِّنْهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: سُمِّي بذلك لأنه رُوح من الأرواح , وأضافه الله إلى نفسه تشريفاً له. والثاني: أنه سُمِّي روحاً؛ لأنه يحيا به الناس كما يُحْيَون بالأرواح. والثالث: أنه سُمِّي بذلك لنفخ جبريل عليه السلام , لأنه كان ينفخ فيه الروح بإذن الله , والنفخ يُسَمَّى في اللغة روحاً , فكان عن النفخ فسمي به {فَئآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ: ثَلاَثَةٌ , انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ} في الثلاثة قولان:

أحدهما: هو قول النصارى أب وابن وروح القدس , وهذا قول بعض البصريين. والثاني: هو قول من قال: آلهتنا ثلاثة , وهو قول الزجاج.

172

{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} هو النبي صلى الله عليه وسلم , لِمَا معه من المعجز الذي يشهد بصدقه. {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} يعني القرآن سُمِّي نوراً لأنه يظهر به الحق , كما تظهر المرئيات بالنور. قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ} فيه قولان: أحدهما: اعتصموا بالقرآن , وهذا قول ابن جريج. والثاني: اعتصموا بالله من زيغ الشيطان وهوى الإنسان. {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} في الهداية قولان: أحدهما: أن يعطيهم في الدنيا ما يؤديهم إلى نعيم الآخرة , وهذا قول الحسن.

والثاني: هو الأخذ بهم في الآخرة إلى طريق الجنة , وهو قول بعض المفسرين البصريين. {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن أمرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} قوله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} الآية. قال البراء ابن عازب: آخر سورة نزلت كاملة سورة براءة، وآخر آية أنزلت خاتمة، سورة النساء {يستفتونك. .} وقال جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية فيَّ، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عادني في مرضي، ولي تسع أخوات، كيف أصنع بمالي؟ فلم يجبني بشيء، حتى نزلت {يستفتونك} إلى آخر السورة. وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم هو في مسيرة، وإلى جبنه حذيفة بن اليمان، فبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب، وهو يسير خلفه.

سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم

المائدة

{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها عهود الله , التي أخذ بها الإِيمان , على عباده فيما أحله لهم , وحرمه عليهم , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب أن يعملوا بما في التوراة , والإِنجيل من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول ابن جريج. والثالث: أنها عهود الجاهلية وهي الحلف الذي كان بينهم , وهذا قول قتادة.

الرابع: عهود الدين كلها , وهذا قول الحسن. والخامس: أنها العقود التى يتعاقدها الناس بينهم من بيع , أو نكاح , أو يعقدها المرء على نفسه من نذر , أو يمين , وهذا قول ابن زيد. {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الأنعام كلها , وهي الإِبل , والبقر , الغنم , وهذا قول قتادة , والسدي. والثاني: أنها أجنة الأنعام التى توجد ميتة فى بطون أمهاتها , إذا نحرت أو ذبحت , وهذا قول ابن عباس , وابن عمر. والثالث: أن بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش , ولا يدخل فيها الحافر , لأنه مأخوذ من نعمة الوطء. قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ} أى معالم الله , مأخوذ من الإِشعار وهو الإِعلام. وفي شعائر الله خمسة تأويلات: أحدها: أنها مناسك الحج , وهو قول ابن عباس , ومجاهد. والثاني: أنها ما حرمه الله فى حال الإحرام , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها حرم الله , وهو قول السدي. والرابع: أنها حدود الله فيما أحل وحرَّم وأباح وحظَّر , وهو قول عطاء. والخامس: هي دين الله كله , وهو قول الحسن , كقوله تعالى: {ذّلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 22] أى دين الله. {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي لا تستحلوا القتال فيه , وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه رَجَبُ مُضَر.

والثاني: أنه ذو العقدة , وهو قول عكرمة. والثالث: أنها الأشهر الحرم , وهو قول قتادة. {وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ} أما الهدي ففيه قولان: أحدهما: أنه كل ما أهداه من شيء إلى بيت الله تعالى. والثاني: أنه ما لم يقلّد من النعم , وقد جعل على نفسه , أن يُهديه ويقلده , وهو قول ابن عباس. فأما القلائد ففيها ثلاثة أقاويل: أنها قلائد الهدْي , وهو قول ابن عباس , وكان يرى أنه إذا قلد هديه صار مُحرِماً. والثاني: أنها قلائد من لحاء الشجر , كان المشركون إذا أرادوا الحج قلدوها فى ذهابهم إلى مكة , وعَوْدهم ليأمنوا , وهذا قول قتادة. والثالث: أن المشركين كانوا يأخذون لحاء الشجر من الحرم إذا أرادوا الخروج منه , فيتقلدونه ليأمنوا , فَنُهوا أن ينزعوا شجر الحرم فيتقلدوه , وهذا قول عطاء. {وَلاَءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ} يعنى ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام , يقال أممت كذا إذا قصدته , وبعضهم يقول يممته , كقول الشاعر: (إني لذاك إذا ما ساءني بلد ... يممت صدر بعيري غيره بلداً) {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} فيه قولان: أحدهما: الربح فى التجارة , وهو قول ابن عمر. والثاني: الأجر , وهو قول مجاهد {وَرِضْوَاناً} يعني رضي الله عنهم بنسكهم. {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} وهذا وإن خرج مخرج الأمر , فهو بعد حظر ,

فاقتضى إباحة الاصطياد بعد الإِحلال دون الوجوب. {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَان قَوْمٍ} في يجرمنكم تأويلان. أحدهما: لا يحملنكم , وهو قول ابن عباس , والكسائي , وأبي العباس المبرد يقال: جرمني فلان على بغضك , أى حملني , قال الشاعر: (ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا) والثاني: معناه ولا يكسبنكم , يقال جرمت على أهلي , أي كسبت لهم , وهذا قول الفراء. وفي {شَنَئَانُ قَوُمٍ} تأويلان: أحدهما: معناه بغض قوم , وهذا قول ابن عباس. والثاني: عداوة قوم , وهو قول قتادة. وقال السدي: نزلت هذه الآية فى الحُطَم بن هند البكري أَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم , إِلاَمَ تَدعو؟ فأخبره , وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (يَدْخُلُ اليَوْمَ عَلَيكُم رَجُلٌ مِن رَّبِيعةَ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ) فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنظرني حتى أشاور , فخرج من عنده , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ , وَخَرجَ بِقَفَا غَادِرٍ) فمر بسرح من سرح المدينة , فاستقاه وانطلق وهو يرتجز ويقول:

(لقد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم) (ولا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياماً وابن هند لم ينم) (بات يقاسيها غلام كالزلم ... خدلج الساقين ممسوح القدم) ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد الهدي , فاستأذن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتلوه , فنزلت هذه الآية حتى بلغ {ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} فقال له ناس من أصحابه: يا رسول الله خلّ بيننا وبينه , فإنه صاحبنا , فقال: (إنه قد قلد). ثم اختلفوا فيما نسخ من هذه الآية بعد إجماعهم على أن منها منسوخاً على ثلاثة أقاويل: أحدهما: ان جميعها منسوخ , وهذا قول الشعبي , قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية. والثاني: أن الذى نسخ منها {وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَءَآمِّينَ الْبَيتَ الْحَرَامَ} وهذا قول ابن عباس , وقتادة. والثالث: أن الذي نسخ منها ما كانت الجاهلية تتقلده من لحاء الشجر , وهذا قول مجاهد.

3

{حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}

قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} فيها تأويلان. أحدهما: أنه كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره. والثاني , أنه كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير ذكاة. {وَالدَّمُ} فيه قولان: أحدهما: أن الحرام منه ما كان مسفوحاً كقوله تعالى: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} الثاني: أنه كل دم مسفوح وغير مسفوح , إلا ما خصته اسنة من الكبد والطحال , فعلى القول الأول لا يحرم السمك , وعلى الثاني يحرم. {وَلَحْمُ الْخِنزيرِ} فيه قولان: أحدهما: أن التحريم يختص بلحم الخنزير دون شحمه , وهذا قول داود. والثاني: أنه يعم اللحم وما خالطه من شحم وغيره , وهو قول الجمهور , ولا فرق بين الأهلي منه والوحشي. {وَمآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يعني ما ذبح ليغر الله من الأصنام والأوثان , أصله من استهلال الصبي إذا صاح حين يسقط من بطن أمه , ومنه أهلال المُحْرِم بالحج والعمرة , قال ابن أحمر:

(يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر) {وَالْمُنْخَنِقَةُ} فيها قولان: أحدهما: أنها تخنق بحبل الصائد وغيره حتى تموت , وهو قول السدي , والضحاك. والثاني: أنها التي توثق , فيقتلها خناقها. {وَالْمَوقُوذَةُ} هي التي تضرب بالخشب حتى تموت , يقال: (وقذتها أقذها وقذاً , وأوقذها أيقاذاً , إذا أثخنتها ضرباً) , ومنه قول الفرزدق: (شغارة تقذ الفصيل برجلها ... فطَّارة لقوادم الأبكار) {وَالْمُتَردِيَةُ} هي التي تسقط من رأس جبل , أو بئر حتى تموت. {وَالنَّطِيحَةُ} هي الشاة التي تنطحها أخرى حتى تموت. {وَمآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فيه قولان: أحدهما: يعنى من المنخنقة وما بعدها , وهو قول علي رضي الله عنه , وابن عباس , وقتادة , والحسن , والجمهور. والثاني: أنه عائد إلى ما أكل السبع خاصة , وهو محكي عن الظاهرية. وفى مأكولة السبع التي تحل بالذكاة قولان: أحدهما: أن تكون لها عين تطرف أو ذنب يتحرك. والثاني: أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح , وهو قول الشافعي , ومالك. { ... . وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} معناه أن تطلبوا علم ما قُسِّمَ أو لم يُقَسَّم من رزق أو حاجة بالأزلام , وهي قداح ثلاثة مكتوبة على أحدها: أمرني ربي , والآخر: نهاني ربي , والثالث: غفل لا شيء عليه , فكانوا إذا أرادوا سفراً , أو

غزواً , ضربوا بها واستسقسموا , فإن خرج أمرني ربي فعلوه , وإن خرج نهاني ربي تركوه , وإن خرج الأبيض أعادوه , فنهى الله عنه , فَسُمِّي ذلك استقساماً , لأنهم طلبوا به علم ما قُسِمَ لهم. وقال أبو العباس المبرد: بل هو مشتق من قَسَم اليمين , لأنهم التزموا ما يلتزمونه , باليمين. {ذَالِكُمْ فِسْقٌ} أى خروج عن أمر الله وطاعته , وفعل ما تقدم نهيه عنه , {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن ترتدوا عنه راجعين إلى دينهم. والثاني: أن يقدروا على إبطاله ويقدحوا فى صحته. قال مجاهد: كان ذلك يوم عرفة حين حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع , بعد دخول العرب الإِسلام حتى لم ير النبي صلى الله عليه وسلم مشركاً. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أى لا تخشوهم أن يظهروا عليكم , واخشونِ , أن تخالفوا أمري. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه يوم عرفة فى حجة الوداع ولم يعش [الرسول صلى الله عليه وسلم] بعد ذلك إلاَّ إحدى وثمانين ليلة , وهذا قول ابن عباس، والسدي.

والثاني: أنه زمان النبي صلى الله عليه وسلم كله إلى أنْ نَزَل ذلك عليه يوم عرفة , وهذا قول الحسن. وفي إكمال الدين قولان: أحدهما: يعني أكملت فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي , ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض من تحليل ولا تحريم , وهذا قول ابن عباس والسدي. والثاني: يعني اليوم أكملت لكم حجتكم , أن تحجوا البيت الحرام , ولا يحج معكم مشرك , وهذا قول قتادة , وسعيد ابن جبير. {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بإكمال دينكم. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} أي رضيت لكم الاستسلام لأمري ديناً , اي طاعة. روى قبيصة قال: قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية , لعظموا اليوم , الذى أُنْزِلت فيه عليهم , فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه , فقال عمر: قد علمت اليوم الذى أُنزلت فيه , والمكان الذي نزلت فيه , نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة , وكلاهما - بحمد الله - لنا عيد. {فَمَنِ آضْطُرَّ} أي أصابه ضر الجوع. {فِي مَخْمَصَةٍ} أي في مجاعة , وهي مَفْعَلة مثل مجهلة ومبخلة ومجبنة ومخزية من خمص البطن , وهو اصطباره من الجوع , قال الأعشى: (تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرقى يبتن خماصا) {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثمٍ} فيه قولان: أحدهما: غير متعمد لإِثم , وهذا قول ابن عباس , والحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني: غير مائل إلى إثم , وأصله من جنف القوم إذا مالوا , وكل أعوج عند العرب أجنف. وقد روى الأوزاعي عن حسان عن عطية عن أبي واقد الليثي قال: قلنا

يا رسول الله إنا بأرض يصيبنا فيها مخمصة , فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: (إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَجْنِفُوا بها , فَشَأْنُكُم بِّهَا) واختلف فى وقت نزول هذه السورة على ثلاثة أقاويل. أحدها: أنها نزلت في يوم عرفة , روى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: نزلت سورة المائدة جميعاً وأنا آخذة بزمان ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء وهو واقف بعرفة فكادت من ثقلها أن تدق عضد الناقة. والثاني: أنها نزلت فى مسيره صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع , وهو راكب , فبركت به راحلته من ثقلها. والثالث: أنها نزلت يوم الاثنين بالمدينة , وهو قول ابن عباس , وقد حُكِيَ عنه القول الأول.

4

{يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} يعني بالطيبات الحلال , وإنما سمي الحلال طيباً , وإن لم يكن مستلذاً تشبيهاً بما يستلذ.

{وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} يعني وصيد ما علمتم من الجوارح , وهي الكواسب من سباع البهائم والطير , سميت جوارح لكسب أهلها بها من قولهم: فلان جارحة أهله أي كاسبهم , ومنه قول أعشى بني ثعلبة: (ذا جبار منضجاً ميسمه ... يذكر الجارح ما كان اجترح) أي ما اكتسب. وفي قوله: {مُكَلِّبِينَ} ثلاثة أقاويل. أحدها: يعني من الكلاب دون غيرها , وأنه لا يحل إلا صيد الكلاب وحدها , وهذا قول ابن عمر , والضحاك , والسدي. والثاني: أن التكليب من صفات الجوارح من كلب وغيره , ومعناه مُضْرِين على الصيد كما تَضْرِي الكلاب , وهو قول ابن عباس , وعلي بن الحسين , والحسن , ومجاهد. والثالث: أن معنى التكليب من صفات الجارح: التعليم. {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا علَّمَكُمُ اللَّهُ} أى تعلمونهن من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي أدبكم وصفات التعليم التي بيَّن حكمها لكم. فأما صفة التعليم , فهو أن يُشلَى إذا أُشلي , ويجيب إذا دعي ويمسك إذا أخذ. وهل يكون إمساكه عن الأكل شرطاً فى صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه شرط في كل الجوارح , فإن أكلت لم تؤكل , وهذا قول ابن عباس , وعطاء. والثاني: أنه ليس بشرط فى كل الجوارح ويؤكل وإن أكلت , وهذا قول ابن عمر , وسعد بن أبي وقاص , وأبي هريرة , وسلمان.

والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم فلا يؤكل ما أكلت , وليس بشرط في جوارح الطير , فيؤكل وإن أكلت , وهذا قول الشعبي , والنخعي , والسدي. واختلف فى سبب نزول هذه الآية على قولين: أحدهما: ما روى القعقاع بن حكيم عن سليمان بن أبي رافع عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه , فقال إذِنَّا لك , فقال أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب , قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته , فأمرني بقتله , فرجعت إلى الكلب فقتلته , فجاؤوا , فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها , قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ} الآية. والثاني: ما حكي أن زيد الخيل لَمَّا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه من الخير ما قال فسماه زيد الخير , فقال: يا رسول الله فينا رجلان , يقال لأحدهما دريح , والآخر يكنى أبا دجانة , لهما أَكْلُب خمسة تصيد الظباء , فما ترى في صيدها؟ وحكى هشام عن ابن عباس أن أسماء هذه الكلاب الخمسة التي لدريح وأبي دجانة: المختلس وغلاب والغنيم وسهلب والمتعاطي , قال: فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} الآية.

5

{اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}

قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب حِلٌّ لَّكُمْ} يعني ذبائحهم. {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} يعني ذبائحنا. {وَالْمُحصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} يعني نكاح المحصنات , وفيهن قولان: أحدهما: أنهن الحرائر من الفريقين , سواء كن عفيفات أو فاجرات , فعلى هذا , لا يجوز نكاح إمائهن , وهذا قول مجاهد , والشعبي , وبه قال الشافعي. والثاني: أنهن العفائف , سواءٌ كن حرائر أم إماءً , فعلى هذا , يجوز نكاح إمائِهن , وهذا قول مجاهد , والشعبي أيضاً , وبه قال أبو حنيفة. وفي المحصنات من الذين أوتوا الكتاب قولان: أحدهما: المعاهدات دون الحربيات , وهذا قول ابن عباس. والثاني: عامة أهل الكتاب من معاهدات وحربيات , وهذا قول الفقهاء وجمهور السلف. {إِذَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يعني صداقهن. {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحينَ} يعني أَعفّاء غير زُناة. {وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} هي ذات الخليل الواحد تقيم معه على السفاح.

6

{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون}

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِذَا قَمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُواْ وَجُوهَكُمْ} يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة , فاغسلوا وجوهكم , فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين , فاغسلوا , فصار الحدث مُضْمَراً. وفي وجوب الوضوء شرطاً , وهو قول عبد الله بن عباس , وسعد بن أبي وقاص , وأبي موسى الأشعري , والفقهاء. والثاني: أنه واجب على كل من أراد القيام إلى الصلاة , أن يتوضأ , ولا يجوز أن يجمع بوضوء واحد بين فرضين , وهذا مروي عن علي وعمر. والثالث: أنه كان واجباً على كل قائمٍ إلى الصلاة , ثم نسخ إلاَّ على المحدث , روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة , فلما كان عام الفتح , صلى الصلوات كلها بوضوء واحد , ومسح على خفيه , فقال عمر: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله , قال: (عمداً فعلته يا عمر) وروى عبد الله بن حنظلة بن عامر الغسيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه , فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء.

7

{واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما

تعملون وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُونُوا قوَّامِينَ لِلَّهِ} يعني بالحق فيما يلزم من طاعته. {شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل. وفى هذه الشهادة ثلاثة أقاويل. أحدها: أنها الشهادة بحقوق الناس , وهذا قول الحسن. والثاني: الشهادة بما يكون من معاصي العباد , وهذا قول بعض البصريين. الثالث: الشهادة لأمر الله تعالى بأنه حق. وهذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم , واختلف المفسرون فى سبب نزولها فيه على قولين: أحدهما: أن النبي خرج إلى يهود بني النضير , يستعين بهم في دية , فهمّوا أن يقتلوه , فنزل ذلك فيه , وهذا قول قتادة , ومجاهد. ثم إن الله تعالى ذكرهم نِعَمَهُ عليهم بخلاص نبيهم بقوله تعالى: {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَومٌ أَن يبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} والقول الثاني: أن قريشاً بعثت رجلاً , ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم , فَأَطْلَعَ الله نَبِيَّهُ على ذلك , فنزلت فيها هاتان الآيتان , وهذا قول الحسن. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخْذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} يعني بإخلاص العبادة لله ولزوم طاعته. {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} أخذ من كل سبط منهم نقيباً , وفى النقيب ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه الضمين , وهو قول الحسن. الثاني: الأمين , وهو قول الربيع. والثالث: الشهيد على قومه , وهو قول قتادة. وأصله فى اللغة: النقيب الواسع , فنقيب القوم هو الذي ينقب أحوالهم. وفيما بعث فيه هؤلاء النقباء قولان: أحدهما: أنهم بُعِثُوا إلى الجبارين , ليقفوا على أحوالهم ورجعوا بذلك إِلى موسى , فرجعوا عن قتالهم , لمَّا رأوا من شدة بأسهم , وعظم خلقهم , إلا اثنين منهم , وهذا قول مجاهد , والسدي. والثاني: أنهم بعثوا لقومهم بما أخذ به ميثاقهم منهم , وهذا قول الحسن.

12

{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} وفي قوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} تأويلان:

أحدهما: يعني نصرتموهم , وهذا قول الحسن , ومجاهد. الثاني: عظمتموهم , وهذا قول أبي عبيدة. وأصله المنع , قال الفراء: عزرته عزراً إذا رددته عن الظلم , ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبح. قوله تعالى: {فَبِمَا نَقَْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} وتقديره: فبنقضهم ميثاقهم لعنَّاهم , و (ما) صلة زايدة. {وَجَعَلْنَا قَلُوبَهُمْ قَاسيَةً} من القسوة وهي الصلابة. وقرأ حمزة والكسائي {قَسِيّةً} وفيه تأويلان: أحدهما: أنها أبلغ من قاسية. والثاني: أنها بمعنى قاسية. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} يعني بالتغيير والتبديل , وسوء التأويل. {وَنَسُواْ حَظّاً مِّمََّا ذُكِّرُواْ بِهِ} يعني نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم. {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} فيه تأويلان. أحدهما: يعني خيانة منهم. والثاني: يعني فرقة خائنة. {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحُ} فيها قولان: أحدهما: أن حكمها ثابت فى الصفح والعفو إذا رآه. والثاني: أنه منسوخ , وفى الذي نسخه قولان: أحدهما: قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَومِ الآخِرِ} [التوبة: 29] وهذا قول قتادة. والثاني: قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافُنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيهِم عَلَى سَوَآءٍ} [الأنفال: 58].

15

{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم

من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} قوله تعالى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} يعني: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , ورجم الزانين. {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} مما سواه. {قَدْ جَآءَكم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} فى النور تأويلان: أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم , وهو قول الزجاج. الثاني: القرآن وهو قول بعض المتأخرين. قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبِعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} فيه تأويلان: أحدهما: سبيل الله , لأن الله هو السلام , ومعناه دين الله , وهذا قول الحسن. والثاني: طريق السلامة من المخافة , وهو قول الزجاج. {وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} يعني: من الكفر إلى الإِيمان بلطفه. {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فيه تأويلان: أحدهما: طريق الحق وهو دين الله , وهذا قول الحسن. والثاني: طريق الجنة فى الآخرة , وهو قول بعض المتكلمين.

17

{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق

ما يشاء والله على كل شيء قدير وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير} قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآءُ اللَّهِ وَأَحِبّآؤُهُ} في قولهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه قول جماعة من اليهود حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم عقاب الله , وخوفهم به , فقالوا لا تخوفنا: {نَحنُ أَبْنآءُ اللَّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ} , وهذا قول ابن عباس. والثاني: أن اليهود تزعم أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بِكْري من الولد , فقالوا , {نَحنُ أَبْنآءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وهذا قول السدي. وقال الحسن: أنهم قالوا ذلك على معنى قرب الولد من والده , وهو القول الثالث. وأما النصارى , ففي قولهم لذلك قولان: أحدهما: لتأويلهم ما في الإِنجيل من قوله: اذهب إلى أبي وأبيكم , فقالوا لأجل ذلك {نَحنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الثاني: لأجل قولهم في المسيح: ابن الله , وهم يرجعون إليه , فجعلوا نفوسهم أبناء الله وأجباءه , فرد الله منطقهم ذلك بقوله: { ... فَلِمَ يُعَذّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} لأن الأب لإِشفاقه لا يعذب ابنه , ولا المحب حبيبه.

20

{وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء

وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين} قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ} فيهم قولان. أحدهما: أنهم الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى. والثاني: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى. {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: لأنهم مَلَكوا أنفسهم بأن خلصهم من استعباد القبط لهم , وهذا قول الحسن. والثاني: لأن كل واحد ملك نفسه وأهله وماله , وهذا قول السدي. والثالث: لأنهم كانوا أول من ملك الخدم من بني آدم , وهو قول قتادة. والرابع: أنهم جُعِلُوا ملوكاً بالمَنِّ والسَّلْوَى والحَجَر , وهذا قول ابن عباس.

والخامس: أن كل من ملك داراً وزوجة وخادماً , وفهو ملك من سائر الناس , وهذا قول عبد الله بن عمرو بن العاص , والحسن , وزيد بن أسلم. وقد روى زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له بيت [يأوي إليه وزوجة] وخادم , فهو ملك). {وءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} فيه قولان: أحدهما: المن والسلوى والغمام والحجر , وهو قول مجاهد. الثاني: كثرة الأنبياء فيهم والآيات التي جاءتهم. قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُواْ الأرْضَ الْمُقدَّسَةَ الَّتِي كتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أرض بيت المقدس , وهذا قول ابن عباس , والسدي. والثاني: دمشق وفلسطين وبعض الأردن , وهذا قول الزجاج. والثالث: هي الشام , وهذا قول قتادة , ومعنى المقدسة: المطهرة. وقوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وإن قال: {إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم} لأنها كانت هبة من الله تعالى لهم ثم حرَّمها عليهم بعد معصيتهم. {وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته. والثاني: لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها. قوله تعالى: {قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} والجبار: هو الذي يَجْبُر الناس على ما يريد إكراههم عليه , ومنه جَبْرُ العظم , لأنه كالإكراه على

الصلاح , ويقال [للأعواد التي] تحمله جُبَارة , إذا قامت اليد طولاً , لأنها امتنعت كامتناع الجبار من الناس. وقيل بلغ من جبروت هؤلاء القوم , أن واحداً منهم , أخذ الاثني عشر نقيباً , الذين بعثهم موسى , ليخبروه بخربهم , فحملهم مع فاكهة حملها من بستانه , وجاء فنشرهم بين يدي الملك , وقال: هؤلاء يريدون أن يقاتلونا , فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا. قوله تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} فيه قولان: أحدهم: يخافون الله , وهو قول قتادة. الثاني: يخافون الجبارين , ولم يمنعهم خوفهم من قول الحق. {أَنْعََمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} فيه تأويلان: أحدهما: بالتوفيق للطاعة. والثاني: بالإِسلام , وهو قول الحسن. وفي هذين الرجلين قولان: أحدهما: أنهما من النقباء يوشع بن نون , وكالب بن يوقنا , وهذا قول ابن عابس , ومجاهد , وقتادة , والسدي. والثاني: أنهما رجلان , كانا في مدينة الجبارين أنعم الله عليهما بالإِسلام , وهذا مروي عن ابن عباس. {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} فيه تأويلان: أحدهما: إنما قالوه لعلمهم بأن الله كتبها لهم. والثاني: لعلمهم بأن الله ينصرهم على أعادئه , ولم يمنعهم خوفهم من القول الحق , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الحَقَّ إِذَا رَآهُ أَوْ عَلِمَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُبْعِدُ مِنْ رِزْقٍ وَلاَ يُدْنِي مِنْ أَجَلٍ).

27

{واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين} قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ ابْنَيْءَادَمَ بِالْحَقِّ} فيهما قولان: أحدهما: أنهما من بني إسرائيل , وهذا قول الحسن. والثاني: أنهما ابنا آدم لصلبه , وهما هابيل وقابيل , وهو قول ابن عباس , وابن عمر , ومجاهد , وقتادة. {إِذْ قَرَّبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} والقربان: هو البر الذي يقصد من رحمة الله , وهو فعلان من القرب. واختلف فى السبب الذي قربا لأجله قرباناً على قولين: أحدهما: أنهما فعلاه لغير سبب. والثاني: وهو أشهر القولين أن ذلك لسبب , وهو أن حواء كانت تضع

في كل عام غلاماً وجارية , فكان الغلام يتزوج من أحد البطنين بالجارية من البطن الآخر , وكان لكل واحد من ابني آدم هابيل وقابيل توأمة , فأراد هابيل أن يتزوج بتوأمة قابيل فمنعه , وقال أنا أحق بها منك. واختلف فى سبب منعه على قولين: أحدهما: أن قابيل قال لهابيل أنا أحق بتوأمتي منك , لأننا من ولادة الجنة وأنت من ولادة الأرض. الثاني: أنه منعه منها لأن توأمته كانت أحسن من هابيل ومن توأمته , فقربا قرباناً وكان قابيل حراثاً , وهابيل راعياً , فقرب هابيل سخلة سمينة من خيار ماله , وقرب قابيل حزمة سنبل من شر ماله , فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل وتركت قربان قابيل , وكان ذلك علامة القبول ولم يكن فيهم مسكين يتقرب بالصدقة عليه وإنما كانت قُرَبُهُم هكذا. قال أبو جعفر الطبري: وكانت سخلة هابيل المقبولة ترعى فى الجنة حتى فَدَى الله تعالى بها إٍحاق بن إبراهيم الذبيح. واختلف في سبب قبول قربان هابيل على وجهين: أحدهما: لأنه كان أتقى لله من قابيل لقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} , والتقوى ها هنا الصلاة , على ما ذكره المفسرون. الثاني: لأن هابيل تقرب بخيار ماله فَتُقُبِّل منه , وقابيل تقرب بشر ماله , فلم يُتَقَبَّل منه , وهذا قول بعد الله بن عمر , وأكثر المفسرون. واختلف في قربانهما هل كان بأمر آدم , أو من قبل أنفسهما على قولين: أحدهما: أنهما قربا بأمر آدم حين اختصما إليه. والثاني: أنهما قربا من قِبَل أنفسهما.

وكان آدم قد توجه إلى مكة , ليراها ويزور البيت بها عن أمر به , وكان قد عرض الأمانة في حفظ أهله على السموات فأبت , فعرضها على الأرض فأبت , فعرضها على الجبال فأبت , فعرضها على قابيل فقبلها , ثم توجه وعاد فوجد قابيل قد قتل هابيل وشربت الأرض دمه , فبكى ولعن الأرض لشربها دمه , فأنبتت الشوك , ولم تشرب بعده دماً. روى غياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمداني عن علي قال: لما قتل قابيل بن آدم هابيل أخاه بكاه آدم عليه السلام فقال: (تَغَيَّرَتِ البِلادُ ومَنْ عليها ... فوَجْهُ الأرْضِ مُغْبَرٌ قبيحٌ) (تَغَيَّرَ كلُّ ذِي لَوْنٍ ... وقَلَّ بَشَاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحْ) قال فأجيب آدم: (أبا هابيل قد قُتِلا جَمِيعاً ... وصارَ الحَيُّ كالمَيِّتِ الذَّبِيحْ) (وجَاءَ بِشَرِّ ما قَدْ كانَ منه ... على خَوْفٍ فَجَاءَ بها تَصِيحْ) واختلف في قابيل هل كان عند قتل أخيه كافراً أو فاسقاً؟ فقال قوم كان كافراً , وقال آخرون بل كان رجل سوء فاسقاً. قال ابن جريج: لم يزل بنو آدم فى نكاح الأخوات حتى مضي أربعة آباء , فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات. قوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} معناه لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك بمثله , وفي امتناعه من دفعه قولان: أحدهما: منعه منه التحرج مع قدرته عليه وجوازه له , وهذا قول ابن عباس , وعبد الله بن عمر. والثاني: أنه لم يكن له الامتناع ممن أراد إذ ذاك , وهذا قول مجاهد والحسن.

قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} معناه ترجع , وفيه تأويلان: إحدهما: أن تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي عليك من معاصيك وذنوبك , وهذا قول ابن عباس , وابن مسعود. والثاني: يعني أن تبوء بإثمي فى خطاياي , وإثمك بقتلك لي , فتبوء بهما جميعاً , وهذا قول مجاهد. وروى الأعمش , عند عبد الله بن مرة , عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلْماً إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ). قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} معنى طوعت أي فعلت من الطاعة , وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعنى شجعت , وهو قول مجاهد. والثاني: يعني زينت , وهو قول قتادة. والثالث: يعني فساعدته. وكان هابيل أول من قُتِلَ في الأرض , وقيل إن قابيل لم يدر كيف يقتله حتى ظهر له إبليس فعلمه , وقيل إنه قتله غيلة , بأن ألقى عليه وهو نائم صخرة , شدخه بها. قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني عورة أخيه. والثاني: جيفة أخيه لأنه تركه حتى أنتن , فقيل لجيفته سوأة. وفي الغراب المبعوث قولان:

أحدهما: أنه كان ملكاً على صورة الغراب , فبحث الأرض على سوأة أخيه حتى عرف كيف يدفنه. والثاني: أنه كان غراباً بحث الأرض على غراب آخر. {قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخَي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قيل إنه ندم علىغير الوجه الذي تصح منه التوبة , فلذلك لم تقبل منه , ولو ندم على الوجه الصحيح لقبلت توبته. وروى معمر , عن قتادة , عن الحسن , عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قال: (إِنَّ ابْنَي آدَمَ ضَرَبَ مَثَلاً لِهَذِهِ الأَمَّةِ , فَخُذُوا مِنْ خَيرِهِمَا , وَدَعُوا شَرَّهُمَا).

32

{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ} يعني من أجل أن ابن آدم قتل أخاه ظلماً. {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} يعني من قتل نفساً ظلماً بغير نفس قتلت , فيقتل قصاصاً , أو فساد فى الأرض استحقت به القتل , الفساد فى الأرض يكون بالحرب لله ولرسوله وإخافة السبيل.

{فَكَأَنَّمَ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} فيه ستة تأويلات: أحدها: يعني من قتل نبياً أو إمام عدل , فكأنما قتل الناس جميعاً , ومن شد على يد نبى أو إمام عدل , فكأنما أحيا الناس جميعاً , وهذا قول ابن عباس. والثاني: معناه فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول , ومن أحياها فاستنفذها من هلكة , فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنفذ , وهذا قول ابن مسعود. والثالث: معناه أن قاتل النفس المحرمة يجب عليه من القود والقصاص مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعاً , ومن أحياها بالعفو عن القاتل , أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعاً , وهذا قول ابن زيد وأبيه. والرابع: معناه أن قاتل النفس المحرمة يَصْلَى النار كما يَصْلاها لو قتل الناس جيمعاً , ومن أحياها , يعني سلم من قتلها , [فكأنما] سلم من قتل الناس جميعاً , وهذا قول مجاهد. والخامس: أن على جميع الناس (جناية القتل) كما لو قتلهم جميعاً , ومن أحياها بإنجائها من غرق أو حرق أو هلكة , فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً. والسادس: أن الله تعالى عظم أجرها ووزرها فإحياؤها [يكون] بمالك أو عفوك , وهذا قول الحسن , وقتادة. قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً} اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت فى قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض , فعرف الله نبيه الحكم فيهم , وهذا قول ابن عباس. الثاني: أنها نزلت فى العُرَنِيِّينَ ارتدوا عن الإِسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبله , وهذا قول أنس بن مالك , وقتادة. والثالث: أنها نزلت إخباراً من الله تعالى بحكم من حارب الله ورسوله , وسعى في الأرض فساداً.

واختلف في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه الآية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الزنى والقتل والسرقة , وهذا قول مجاهد. والثاني: أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية فى المِصْر وغيره , وهذا قول الشافعي , ومالك , والأوزاعي. والثالث: أنه المجاهر بقطع الطريق دون المكابر فى المِصْر , وهذا قول أبي حنيفة , وعطاء الخراساني. {أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْض} جعل الله هذا حكم المحارب , وفيه قولان: أحدهما: أنها على التخيير وأن الإِمام فيهم بالخيار بين أن يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفي , وهذا قول سعيد بن المسيب , ومجاهد , وعطاء , وإبراهيم. والثاني: أنها مرتبة تختلف على قدر اختلاف الأفعال: أن يقتلوا إذا قتلوا , أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال , أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا , وهذا قول ابن عباس , والحسن , وقتادة , والسدي. وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك العرنيين وهم من بجيلة , فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القصاص فيمن حارب , فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإِخافته , ومن قتل فاقتله , ومن قتل وأخاف السبيل واستحل افرج فاصلبه. أما قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوا مِنَ الأَرْضِ} فقد اختلف أهل التأويل فيه على أربعة أوجه:

أحدها: أنه نفيهم وإبعادهم من بلاد الإِسلام إلى بلاد الشرك , وهو قول أنس: والحسن , وقتادة , السدي , والزهري , والضحاك , والربيع. والثاني: أنه إخراجهم من مدينة إلى أخرى , وهو قول عمر بن عبد العزيز , وسعيد بن جبير. والثالث: أنه الحبس , وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. والرابع: هو أن يطلبوا لتقام الحدود عليهم فيُبْعَدُوا , وهذا قول ابن عباس , والشافعي , والليث بن سعد. قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فيه ستة أقاويل , أحدها: إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم فى الأرض فساداً بإسلامهم , فأما المسلمون فلا يتسقط التوبة عنهم حداً وجب عليهم , وهذا قول ابن عباس , والحسن , ومجاهد , وقتادة. الثاني: إلا الذين تابوا من المسلمين المحاربين بأمان من الإِمام قبل القدرة عليهم , فأما التائب بغير أمان فلا , وهذا قول عليّ عليه السلام , والشعبي , وروى الشعبي أن خارجة بن زيد خرج محارباً فأخاف السبيل , وسفك الدماء , وأخذ الأموال , وجاء تائباً من قبل القدرة عليه , فقبل عليّ توبته وجعل له أماناً منشوراً على ما كان أصاب من دم ومال. والثالث: إلا الذين تابوا بعد أن لحقوا بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه , وهذا قول عروة بن الزبير. والرابع: إن كان في دار الإٍسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها وتاب قبل القدرة عليه قبلت توبته , وإن لم يكن له فئة يمتنع بها [وتاب] لم [تسقط] عنه توبته شيئاً من عقوبته , وهذا قول ابن عمر , وربيعة , والحكم بن عيينة. والخامس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه حدود الله تعالى دون حقوق الآدميين , وهذا قول الشافعي. والسادس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه سائر الحقوق والحدود إلا الدماء , وهذا مذهب مالك.

35

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير} قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} وهي في قراءة عبد الله ابن مسعود: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما. إنما بدأ الله تعالى في السرقة بالسارق قبل السارقة , وفي الزنى بالزانية قبل الزاني , لأن حب المال على الرجال أغلب , وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب , ثم جعل حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها , ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به , لثلاثة معانٍ: أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية , وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه. والثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره , وقطع اليد في السرقة ظاهر , وقطع الذكر فى الزنى باطن , والثالث: أن فى قطع الذكر إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله. وقد قطع السارق في الجاهلية , وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد ابن المغيرة , فأمر الله تعالى بقطعه فى الإِسلام , فكان أول سارق قطعه رسول الله

صلى الله عليه وسلم في الإِسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف , ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم , وقال: (لَو كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ). وقطع عمر ابن سمرة أخا عبد الرحمن بن سمرة. والقطع في السرقة حق الله تعالى لا يجوز العفو عنه بعد علم الإِمام به , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سارق رداء صفوان حين أمر بقطعه , فقال صفوان: قد عفوت عنه , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ لاَ عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوتُ). وروي أن معاوية بن أبي سفيان أُتِيَ بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد منهم فقدم ليقطع فقال: (يميني أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها) (يدي كانت الحسناء لو تم سبرها ... ولا تعدمُ الحسناءُ عابا يعيبها) (فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها) فقال معاوية: كيف أصنع وقد قطعت أصحابك , فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين اجعلها من ذنوبك التي تتوب منها , فَخَلَّى سبيله , فكان أول حد ترك في الإٍسلام. ولوجوب القطع مع ارتفاع الشبهة شرطان هما: الحرز والقدر , وقد اختلف الفقهاء فى قدر ما تقطع فيه اليد خلافاً , كُتُبُ الفقه أولى. واختلف أهل التأويل حينئذ لأجل استثناء القطع وشروطه عمن سرق من غير حرز أو سرق من القدر الذي تقطع فيه اليد في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} هل هو عام خُصّ؟ أو مجمل فُسِّر على وجهين. أحدهما: أنه العموم الذي خُصّ. والثاني: أنه المجمل الذي فُسِّر.

ثم قال تعالى: {جَزَآءً بِمَا كَسَبا} فاختلفوا هل يجب مع القطع غُرْم المسروق إذا استهلك على مذهبين: أحدهما: أنه لا غرم , وهذا قول أبي حنيفة. والثاني: يجب فيه الغرم , وهو مذهب الشافعي. وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت فى طعمة بن أبيرق سارق الدرع. قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} في التوبة ها هنا قولان: أحدهما: أنها كالتوبة من سائر المعاصي والندم على ما مضى والعزم على ترك المعاودة. والثاني: أنها الحد , وهو قول مجاهد. وقد روى عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حلياً فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقْطَعُوا يَدَهَا الْيُمْنَى) فقالت المرأة: هل لي من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ) فأنزل الله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}. قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ويَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} فيه تأويلان: أحدهما: يغفر لمن تاب من كفره , ويعذب من مات على كفره , وهذا قول الكلبي. الثاني: يعذب من يشاء فى الدنيا على معاصيهم بالقتل والخسف والمسخ والآلام وغير ذلك من صنوف عذابه , ويغفر لمن يشاء منهم فى الدنيا بالتوبة واستنقاذهم بها من الهلكة وخلاصهم من العقوبة.

41

{يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِن الَّذِينَ قَالُواءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} يعني به المنافقين المظهرين للإِيمان المبطنين للكفر. {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ} يعني اليهود. {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} ليكذبوا عليك عندهم إذا أتوا من بعدهم , وهذا قول الحسن , والزجاج.

والثاني: أن معنى قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أى قائلون للكذب عليك. و {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} يعني فى قصة الزاني المحصن من اليهود الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكروه , وهذا قول ابن عباس. {يُحرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضَعِهِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم غيروه بالكذب عليه , وهذا قول الحسن. والثاني: هو تغيير حكم الله تعالى في جَلْد الزاني بدلاً من رجمه , وقيل في إسقاط القود عند استحقاقه. {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ} فيه قولان: أحدهما: أنه يريد بذلك حين زنى رجل منهم بامرأة فأنفذوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم وقالوا: إن حكم عليكم بالجلد فاقبلوه وإن حكم عليكم بالرجم فلا تقبلوه , فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدارس توارتهم وفيها أحبارهم يتلون التوراة , فأتى عبد الله بن صوريا , وكان أعور , وهو من أعلمهم فقال له أسألك بالذي أنزل التوراة بطور سيناء على موسى بن عمران هل فى التوراة الرجم؟ فأمسك , فلم يزل به حتى اعترف , فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا , قال عبد الله: وكنت فيمن رجمه وأنه ليقيها الأحجار بنفسه حتى ماتت , ثم إن ابن صوريا أنكر وفيه أنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول ابن عباس , وجابر , وسعيد بن المسيب , والسدي , وابن زيد. والقول الثاني: أن ذلك في قتيل منهم , قال الكلبي: قتلت بنو النضير رجلاً من بني قريظة وكانوا يمتنعون بالاستطالة عليهم من القود بالدية , وإذا قتلت بنو قريظة منهم رجلاً لم يقنعوا إلا بالقود دون الدية , قالوا: إن أفتاكم بالدية فاقبلوه وإن أفتاكم بالقود فردوه , وهذا قول قتادة. {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} فيه ثلاث تأويلات. أحدها: عذابه , وهذا قول الحسن. والثاني: إضلاله , وهو قول السدي.

والثالث: فضيحته , وهو قول الزجاج. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} فيه قولان: أحدهما: لم يطهرها من الضيق والحرج عقوبة لهم. والثاني: لم يطهرها من الكفر. قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فيه أربعة تأويلات. أحدهما: أن السحت الرشوة , وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه الرشوة فى الحكم , وهو قول علي. والثالث: هو الاستعجال فى القضية , وهو قول أبي هريرة. والرابع: ما فيه الغارّ من الأثمان المحرمة: كثمن الكلب , والخنزير , والخمر وعسب افحل , وحلوان الكاهن. وأصل السحت الاستئصال , ومنه قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} أي يستأصلكم , وقال الفرزدق: (وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتاً أو مجلف) فسمي سحتاً لأنه يسحت الدين والمروءة. {فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَْعْرِضْ عَنْهُمْ} فيمن أريد بذلك قولان: أحدهما: اليهوديان اللذان زنيا خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما بالرجم أو يدع , وهذا قول الحسن , ومجاهد , والزهري. والثاني: أنها في نفسين من بني قريظة وبني النضير قتل أحدهما صاحبه فخّير رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احتكامهما إليه بين أن يحكم بالقود أو يدع , وهذا قول قتادة.

واختلفوا في التخيير في الحكم بينهم , هل هو ثابت أو منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أنه ثابت وأن كل حاكم من حكام المسلمين مخير فى الحكم بين أهل الذمة بين أن يحكم أو يدع , وهذا قول الشعبي , وقتادة , وعطاء , وإبراهيم. والقول الثاني: أن ذلك منسوخ , وأن الحكم بينهم واجب على من تحاكموا إليه من حكام المسلمين , وهذا قول ابن عباس , والحسن , ومجاهد , وعمر بن عبد العزيز , وعكرمة , وقد نسخه قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} قوله تعالى: {وَكَيفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ الْتَّورَاةُ فِيهَا حَكْمُ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: حكم الله بالرجم. والثاني: حكم الله بالقود. {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} فيه قولان: أحدهما: بعد حكم الله في التوراة. والثاني: بعد تحكيمك. {وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} فيه قولان: أحدهما: أي فى تحكيمك أنه من عند الله مع جحودهم نبوتك. والثاني: يعني فى توليهم عن حكم الله غير راضين به. قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} يعني بالهدى ادليل. وبالنور البيان. {يَحْكُمْ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فيهم قولان: أحدهما: أنهم جماعة أنبياء منهم محمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده وإن ذكر بلفظ الجمع.

وفي الذي يحكم به من التوراة قولان: أحدهما: أنه أراد رجم الزاني المحصن , والقود من القاتل العامد. والقول الثاني: أنه الحكم بجميع ما فيها من غير تخصيص ما لم يرد به نسخ. ثم قال تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُوا} يعني على الذين هادوا , وهم اليهود , وفي جواز الحكم بها على غير وجهان: على اختلافهم فى التزامنا شرائع من قبلنا إذا لم يرد به نص ينسخ. ثم قال تعالى: {وَالرَّبَانُّيِونَ والأَحْبَارُ} واحد الأحبار حَبْر بالفتح , قال الفراء , أكثر ما سمعت حِبْر بالكسر , وهو العالم , سُمِّي بذلك اشتقاقاً من التحبير , وهو التحسين لأن العالم يحسن الحسن ويقبح القبيح , ويحتمل أن يكون ذلك لأن العلم فى نفسه حسن. ثم قال تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: معناه يحكمون بما استحفظوا من كتاب الله. والثاني: معناه والعلماء استحفظوا من كتاب الله. وفي {اسْتُحْفِظُواْ} تأويلان: أحدهما: استودعوا , وهو قول الأخفش. والثاني: العلم بما حفظوا , وهو قول الكلبي. {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} يعني على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة. {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} فيه قولان: أحدهما: فلا تخشوهم فى كتمان ما أنزلت , وهذا قول السدي. والثاني: في الحكم بما أنزلت. {وَلاَ تَشْتَرُوا بِأَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لا تأخذوا على كتمانها أجراً. والثاني: معناه لا تأخذوا على تعليمها أجراً.

{وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} , ثم قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُونَ} , ثم قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وفي اختلاف هذه الآي الثلاث أربعة أقاويل: أحدها: أنها واردة في اليهود دون المسلمين , وهذا قول ابن مسعود , وحذيفة , والبراء , وعكرمة. الثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب , وحكمها عام في جميع الناس , وهذا قول الحسن , وإبراهيم. والثالث: أنه أراد بالكافرين أهل الإِسلام , وبالظالمين اليهود , وبالفاسقين النصارى , وهذا قول الشعبي. والرابع: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به , فهو كافر , ومن لم يحكم مقراً به فهو ظالم فاسق , وهذا قول ابن عباس.

45

{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية. نزلت في اليهود من بني قريظة والنضير , وقد ذكرنا قصتهما. ثم قال تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} فيه قولان: أحدهما: أنه كفارة للجروح , وهو قول عبد الله بن عمر , وإبراهيم ,

والحسن , والشعبي , روى الشعبي عن ابن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدَّقَ بِهَا كَفَّرَ عَنْهُ ذُنُوبَهُ بِمِثْلِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ). والثاني: أنه كفارة للجارح , لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد , وهذا محمول على من عفى عنه بعد توبته.

48

{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني القرآن. {مُصَدِّقَاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} يعني لما قبله من الكتاب وفيه وجهان: أحدهما: مصدقاً بها , وهو قول مقاتل.

والثاني: موافقاً لها , وهو قول الكلبي. {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني أميناً , وهو قول ابن عباس. والثاني: يعني شاهداً عليه , وهو قول قتادة , والسدي. والثالث: حفيظاً عليه. {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمآ أَنزَلَ اللَّهُ} هذا يدل على وجوب الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا , وألا نحكم بينهم بتوراتهم ولا بإنجيلهم. {وَلاَ تَتَّبعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والثاني: أمم جميع الأنبياء. {شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أما الشرعة فهي الشريعة وهي الطريقة الظاهرة , وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ومن قيل لشريعة الماء شريعة لأنها أظهر طرقه إليه , ومنه قولهم: أُشْرِعَتِ الأسنة إذا ظهرت. وأما المنهاج فهو الطريق الواضح , يقال طريق نهج ومنهج , قال الزاجر: (مَن يَكُ ذَا شَكٍّ فهذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رُوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ) فيكون معنى قوله شرعة ومنهاجاً أي سبيلاً وسنة , وهذا قول ابن عباس , والحسن , ومجاهد , وقتادة. {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدةً} فيه قولان: أحدهما: لجعلكم على ملة واحدة. الثاني: لجمعكم على الحق , وهذا قول الحسن.

51

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم

مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذينَءَامُنُوا لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيآءَ} اختلف أهل التفسير فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في عُبادة بن الصامت , وعبد بن أبي ابن سلول , حين تبرأ عُبادة من حِلْف اليهود وقال: أتولى الله ورسوله حين ظهرت عداوتهم لله ولرسوله. وقال عبد الله بن أبي: لا أتبرأ من حلفهم وأخف الدوائر , وهذا قول الزهري. والثاني: أنها نزلت فى أبي بلابة بن عبد المنذر حين بَعَثَه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لما نقضوا العهد أطاعوا بالنزول على حكم سعد أشار إلى حلقه إليهم أنه الذبح , وهذا قول عكرمة. والثالث , أنها نزلت فى رجلين من الأنصار خافا من وقعة أحد فقال أحدهما لصاحبه: أَلْحَقُ باليهود وأتهود معهم , وقال الآخر: ألحق بالنصارى فأتنصر معهم ليكون ذلك لهما أماناً من إدالة الكفار على المسلمين , وهذا قول السدي. {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فِإِنَّهُ مِنْهُم} يحتمل وجهين: أحدهما: موالاتهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر. والثاني: موالاتهم في الدين فإنه منهم في حكم الكفر , وهذا قول ابن عباس.

قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيه تأويلان: أحدهما: أن المرض الشك وهو قول مقاتل. والثاني: النفاق , وهو قول الكلبي. وفيهم قولان: أحدهما: المعنيّ به عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي سلول , وهذا قول عطية بن سعد. والثاني: أنهم قوم من المنافقين. { ... . يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} والدائرة ترجع عمن انتقلت إليه إلى من كانت له , سميت بذلك لأنها تدور إليه بعد زوالها عنه , ومنه قول الشاعر: (يَرُدُّ عَنَّا القَدَرَ الْمَقْدُورَا ... وَدَائرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا) {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يريد فتح مكة , قاله السدي. والثاني: فتح بلاد المشركين على المسلمين. والثالث: أن القضاء الفصل , ومنه قوله تعالى: {افْتَحْ بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] , قاله قتادة. {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: هو دون الفتح الأعظم. الثاني: أنه موت من تقدم ذكره من المنافقين. الثالث والرابع: أنه الجزية , قاله السدي.

54

{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك

فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله عنهم الذين قاتلوا معه أهل الردة , قاله: علي , والحسن , وابن جريج , والضحاك. والثاني: أنهم قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن لأنه كان لهم في نصرة الإِسلام أثر حسن , وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية إليه أَوْمَأَ إلى أبي موسى الأشعري بشيء كان فى يده وقال: (هُمْ قَوْمُ هَذَا) قاله: مجاهد وشريح. {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يعني أهل رقة عليهم. {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يعني أهل غلظة عليهم , يحكى ذلك عن علي , وابن عباس. وهي في قراءة عبد الله بن مسعود: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غُلُظٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}. قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَءَامَنُوا ... } الآية , وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من أصحابه حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظهره اليهود من عداوتهم لهم , قاله الكلبي.

والثاني: أنها نزلت فى عُبادة بن الصامت حين تبرأ من حلف اليهود وقال: أتولى الله ورسوله. وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} قولان: أحدهما: أنه علي , تصدق وهو راكع , قاله مجاهد. والثاني: أنها عامة في جميع المؤمنين , قاله الحسن , والسدي. وفي قوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم. والثاني: أنها نزلت فيهم وهم في ركوعهم. والثالث: أنه أراد بالركوع التنفل , وبإقامة الصلاة الفرض من قولهم فلان يركع إذا انتفل بالصلاة.

57

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون

وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ} يريد بالإِثم معصية الله تعالى. {وَالْعُدْوَانِ} أي ظلم الناس. {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} فيه تأويلان: أحدهما: الرُّشا. والثاني: الربا. {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الْرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أي لبئس صنيع الربانيين والأحبار إذ لم ينهوهم , قال ابن عباس والضحاك: ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية , وكان ابن عباس يقرؤها: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وقوله: {لَوْلاَ} بمعنى هلا. والربانيون: هم علماء الإِنجيل , والإحبار: هم علماء التوراة.

64

{وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم

لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فيه تأويلان: أحدهما: أي مقبوضة عن العطاء على جهة البخل , قاله ابن عباس وقتادة. والثاني: مقبوضة عن عذابهم , قاله الحسن. قال الكلبي ومقاتل: القائل لذلك فنحاس وأصحابه من يهود بني قينقاع. {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه قال ذلك إلزاماً لهم البخل على مطابقة الكلام , قاله الزجاج. والثاني: أن معناه غلت أيديهم في جهنم على وجه الحقيقة , قاله الحسن. {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} قال الكلبي: يعني يعذبهم بالجزية. ويحتمل أن يكون لَعْنُهم هو طردهم حين أجلوا من ديارهم. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن اليدين ها هنا النعمة من قولهم لفلان عندي يد أي نعمة , ومعناه بل نعمتاه مبسوطتان , نعمة الدين , ونعمة الدنيا. والثاني: اليد ها هنا القوة كقوله تعالى: {أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] ومعناه بل قوتان بالثواب والعقاب. والثالث: أن اليد ها هنا الملك من قولهم فى مملوك الرجل هو: ملك يمينه , ومعناه ملك الدنيا والآخرة. والرابع: أن التثنية للمبالغة فى صفة النعمة كما تقول العرب لبيك وسعديك , وكقول الأعشى:

(يداك يدا مجد فكف مفيدة ... وكف إذا ما ضنَّ بالزاد تنفق) {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} يحتمل وجهين: أحدهما: يمعنى أنه يعطي من يشاء من عباده إذا علم أن في إعطائه مصلحة دينه. والثاني: ينعم على من يشاء بما يصلحة في دينه. {ولَيزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} يعني حسدهم إياه وعنادهم له. {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ} فيه قولان: أحدهما: أنه عنى اليهود بما حصل منهم من الخلاف. والثاني: أنه أراد بين اليهود والنصارى في تباين قولهم في المسيح , قاله الحسن. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} فيه تأويلان: أحدهما: أقاموها نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من أحكام الله تعالى وأوامره لم يزلوا. والثاني: إن إقامتها العمل بما فيها من غير تحريف ولا تبديل. ثم قال تعالى: {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ} يعني القرآن لأنهم لما خوطبوا به صار منزلاً عليهم. {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} فيه تأويلان: أحدهما: أنه أراد التوسعة عليهم كما يقال هو في الخير من قرنه إلى قدمه. والثاني: لأكلوا من فوقهم بإنزال المطر , ومن تحت أرجلهم بإنبات الثمر. قاله ابن عباس.

{مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} فيه تأويلان: أحدهما: مقتصدة على أمر الله تعالى , قاله قتادة. الثاني: عادلة , قاله الكلبي.

67

{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أوجب الله تعالى بهذه الآية على رسوله تبليغ ما أنزل عليه من كتابه سواء كان حكماً , أو حداً , أو قصاصاً , فأما تبليغ غيره من الوحي فتخصيص وجوبه: بما يتعلق بالأحكام دون غيرها. ثم قال تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يعني إن كتمت آية مما أنزل عليك فما بلغت رسالته لأنه [يكون] , غير ممتثل لجميع الأمر. ويحتمل وجهين آخرين. أحدهما: أن يكون معناه بلغ ما انزل إليك من ربك فيما وعدك من النصر , فإن لم تفعل فما بلغت حق رسالته فيما كلفك من الأمر , لأن استشعار النصر يبعث على امتثال الأمر. والثاني: أن يكون معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك بلاغاً يوجب الانقياد إليه بالجهاد عليه , وإن لم تفعل ما يقود إليه من الجهاد عليه فما بلغت ما عليك من حق الرسالة إليك. {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} يعني أن ينالوك بسوء من قتل أو غيره. واختلف أهل التفسير في سبب نزول ذلك على قولين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً في سفره واستظل بشجرة يقيل تحتها , فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال: الله , فرعدت يد الأعرابي وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه , فأنزل الله تعالى:

{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مَنَ النَّاسِ} , قاله محمد بن كعب القرظي. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهاب قريشاً , فأنزل الله تعالى هذه الآية , قاله ابن جريج. وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} فيه تأويلان: أحدهما: لا يعينهم على بلوغ غرضهم. الثاني: لا يهديهم إلى الجنة.

68

{قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا

إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون} قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فيه تأويلان: أحدهما أن الميثاق آيات مبينة يقررها علم ذلك عندهم. والثاني: أن الميثاق أيمان أخذه أنبياء بني إسرائيل عليهم أن يعملوا بها وأمروا بتصيدق رسله. {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} يعني بعد أخذ الميثاق. {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ} هوى النفس مقصور , وهواء الجو ممدود , وهما يشتركان في معنى الاسم لأن النفس تستمتع بهواها كما تستمتع بهواء الجو. {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} يعني أن الأنبياء إذا لم يحلوا لهم ما يَهْوُونَه في الدين كذبوا فريقاً في الدين , كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً , وهم قد كذبوا من قتلوه ولكن تقدير الكلام أنهم اقتصروا على تكذيب فريق وتجاوزوا إلى قتل فريق. {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: أنها العقوبة التي تنزل من السماء. والثاني: ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم. والثالث: ما بلوا به من جهة المتغلبين عليهم من الكفار. {فَعَمُواْ وَصَمُّوا} يعني , فعموا عن المرشد وصموا عن الموعظة حتى تسرعوا إلى قتل أنبيائهم حين حسبوا ألا تكون فتنة. {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يعني أنهم تابوا بعد معاينة الفتنة فقبل الله توبتهم. {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} يعني أنهم عادوا بعد التوبة إلى ما كانوا عليه قبلها , والعود إنما كان من أكثرهم لا من جميعهم.

72

{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} رد الله بذلك على اليهود والنصارى , فرده على اليهود فى تكذيبهم لنبوته ونسبتهم له إلى غير رِشْدة , ورده على النصارى في قولهم إنه ابن الله. {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} رد على اليهود في نسبتها إلى الفاحشة. وفي قوله: {صِدِّيقَةٌ} تأويلان: أحدهما: أنه مبالغة فى صدقها ونفي الفاحشة عنها. والثاني: أنها مصدقة بآيات ربها فهي بمنزلة ولدها , قاله الحسن. {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} فيه قولان: أحدهما: أنه كنى بذلك عن الغائط لحدوثه منه , وهذه صفة تُنْفَى عن الإِله. والثاني: أنه أراد نفس الأكل لأن الحاجة إليه عجز والإِله لا يكون عاجزاً. {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآْيَاتِ} يعني الحجج والبراهين.

{ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني يصرفون , من قولهم أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر. والثاني: يعني يقلبون , والمؤتفكات: المنقلبات من الرياح وغيرها. والثالث: يكذبون , من الإفك , وهو الكذب.

76

{قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا

ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} يعني عبدة الأوثان من العرب , تَمَالأَ الفريقان على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. {وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَءَامنواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارى} ليس هذا على العموم , وإنما هو خاص , وفيه قولان: أحدهما: عنى بذلك النجاشي وأصحابه لَمَّا أَسْلَمُوا , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير. والثاني: أنهم قوم من النصارى كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام , فَلَمَّا بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به , قاله قتادة. {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} واحد القسيسين قس , من قس وهم العباد. وواحد الرهبان راهب , وهم الزهاد. {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يعني عن الإِذعان للحق إذا لزم , وللحجة إذا قامت. وفي قوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} وجهان: أحدهما: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق , كما قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] , قاله ابن عباس , وابن جريج. والثاني: يعني الذين يشهدون بالإِيمان , قاله الحسن.

87

{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}

قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذينَءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه اغتصاب الأموال المستطابة , فتصير بالغصب حراماً , وقد كان يمكنهم الوصول إليها بسبب مباح , قاله بعض البصريين. والثاني: أنه تحريم ما أبيح لهم من الطيبات , وسبب ذلك أن جماعة من أًصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي , وعثمان بن مظعون , وابن مسعود , وابن عمر , هموا بصيام الدهر , وقيام الليل , واعتزال النساء , وجَبِّ أنفسهم , وتحريم الطيبات من الطعام عليهم , فأنزل الله تعالى فيهم {لاَ تَحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم}. {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحبُّ الْمُعْتَدِينَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لا تعتدوا بالغصب للأموال التي هي حرام عليكم. والثاني: أنه أراد بالاعتداء ما هَمَّ به عثمان بن مظعون من جبِّ نفسه , قاله السدي. والثالث: أنه ما كانت الجماعة هَمَّت به من تحريم النساء والطعام , واللباس , والنوم , قاله عكرمة. والرابع: هو تجاوز الحلال إلى الحرام , قاله الحسن.

89

{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون} قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قد ذكرنا اختلاف المفسرين والفقهاء في لغو اليمين. {وَلَكِنَ يُؤَاخِذُوكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} اختلف فى سبب نزولها على قولين:

أحدهما: أنها نزلت في عثمان بن مظعون , حين حرَّم على نفسه الطعام , والنساء , بيمين حَلَفَهَا , فأمره النبي صلى الله عليه وسلم , قاله السدي. والثاني: أنها نزلت فى عبد الله بن رَوَاحة , وكان عنده ضيف فأَخَّرَتْ زوجته قِرَاهُ فَحَلَفَ لا يَأكل من الطعام شيئاً , وَحَلَفَتِ الزوجة لا تأكل منه إن لم يأكل , وحَلَفَ الضيف لا يأكل منه إن لم يأكلا , فأكل عبد الله وأكلا معه , فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك , فقال: (أَحْسَنْتَ) ونزلت فيه هذه الآية , قاله ابن زيد. وقوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ} وعقدها هو لفظ باللسان وقصد بالقلب , لأن ما لم يقصده فى أَيمَانِهِ , فهو لغو لا يؤاخذ به. ثم في عقدها قولان: أحدهما: أن يكون على فعل مستقبل , ولا يكون على خبر ماض , والفعل المستقبل نوعان: نفي وإثبات , فالنفي أن يقول والله لا فعلت كذا , والإِثبات أن يقول: والله لأَفْعَلَنَّ كذا. وأما الخبر الماضي فهو أن يقول: والله ما فعلت , وقد فعل , أو يقول: والله لقد فعلت كذا , وما فعل , فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه. وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان. أحدهما: أنها لا تنعقد بالخبر الماضي , قاله أبو حنيفة وأهل العراق. والقول الثاني: أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماض يتعلق الحنث بهما , قاله الشافعي , واهل الحجاز. ثم قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مََساكِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان , قالته عائشة , والحسن , والشعبي , وقتادة. والثاني: أنها كفارة الحنث فيما عقدة منها , وهذا يشبه أن يكون قول ابن عباس , وسعيد بن جبير , والضحاك , وإبراهيم.

والأصح من إطلاق هذين القولين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها , فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون عقدها حلها معصية كقوله: والله لا قَتَلْتُ نفساً ولا شربت خمراً , فإذا حنث فقتل النفس , وشرب الخمر , كانت الكفار لتكفير مأثم الحنث. والحال الثالثة: أن يكون عقدها مباحاً , وحلها مباحاً كقوله: والله لا لبست هذا الثوب , فالكفارة تتعلق بهما وهي بالحنث أخص. ثم قال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمُ} فيه قولان: أحدهما: من أوسط أجناس الطعام , قاله ابن عمر , والحسن , وابن سيرين. والثاني: من أَوسطه في القدر , قاله علي , وعمر , وابن عباس , ومجاهد. وقرأ سعيد بن جبير {مِن وَسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلَيكُمْ} ثم اختلفوا في القدر على خمسة أقاويل: أحدها: أنه مُدٌّ واحد من سائر الأجناس , قاله ابن عمر , وزيد بن ثابت , وعطاء , وقتادة , وهو قول الشافعي. والثاني: أنه نصف صاع من سائر الأجناس , قاله علي , وعمر , وهو مذهب أبي حنيفة. والثالث: أنه غداء وعشاء , قاله علي في رواية الحارث عنه , وهو قول محمد بن كعب القرظي , والحسن البصري. والرابع: أنه ما جرت به عادة المكفر فى عياله , إن كان يشبعهم أشبع المساكين , وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير. والخامس: أنه أحد الأمرين من غداء أو عشاء , قاله بعض البصريين. ثم قال تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وفيها خمسة أقاويل: أحدها: كسوة ثوب واحد , قاله: ابن عباس , ومجاهد , وطاووس , وعطاء , والشافعي.

والثاني: كسوة ثوبين , قاله أبو موسى الأشعري , وابن المسيب , والحسن , وابن سيرين. والثالث: كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء , قاله إبراهيم. والرابع: كسوة إزار ورداء وقميص , قاله ابن عمر. والخامس: كسوة ما تجزىء فيه الصلاة , قاله بعض البصريين. ثم قال تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يعني أو فك رقبة من أسر العبودية إلى حال الحرية والتحرير , والفك: العتق , قال الفرزدق: (أبني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال) ويجزىء صغيرها , وكبيرها , وذكرها , وأنثاها , وفي استحقاق أَثمانها قولان: أحدهما: أنه مستحق ولا تجزىء الكفارة , قاله الشافعي. والثاني: أنه غير مستحق , قاله أبو حنيفة. ثم قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} فجعل الله الصوم بدلاً من المال عند العجز عنه , وجعله مع اليسار مخيراً بين التكفير بالإِطعام , أو بالكسوة , أو بالعتق , وفيها قولان: أحدهما: أن الواجب منها أحدها لا يعينه عند الجمهور من الفقهاء. والثاني: أن جميعها واجب , وله الاقتصار على أحدها , قاله بعض المتكلمين , وشاذ من الفقهاء. وهذا إذا حقق خلف في العبارة دون المعنى. واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل: أحدها: إذا لم يجد قوته وقوت من يقوت صام , قاله الشافعي. والثاني: إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام , قاله سعيد بن جبير. والثالث: إذا لم يجد درهمين , قاله الحسن.

والرابع: إذا لم يجد مائتي درهم صام , قاله أبو حنيفة. والخامس: إذا لم يجد فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف فيه لمعاشه صام. وفي تتابع صيامه قولان: أحدهما: يلزمه , قاله مجاهد , وإبراهيم , وكان أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود يقرآن: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} والثاني: إن صامها متفرقة جاز , قاله مالك , والشافعي في أحد قوليه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يعني وحنثتم , فإن قيل فلِمَ لَمْ يذكر مع الكفارة التوبة؟ قيل: لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة , فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم , وترك العزم على المعاودة. {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني احفظوها أن تحلفوا. والثاني: احفظوها أن تحنثوا.

90

{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} قوله تعالى: {يَا أْيُّهَا الَّذيِنَءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... .} الآية. اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل:

أحدها: ما روى ابن إسحاق عن أبي ميسرة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً , فزلت الآية التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فَدُعِيَ عمر فقرئت عليه , فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً , فنزلت الآية التي في سورة النساء: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُم سُكَارَى} وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة ينادي لا يقربن الصلاة سكران , فَدُعِيَ عمر فقرئت عليه , فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً , فنزلت التي في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} فقال عمر: انتهينا , انتهينا. والثاني: أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد لاحى رجلاً على شراب , فضربه الرجل بلحي جمل , ففزر قاله مصعب بن سعد. والثالث: أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشراب فعبث بعضهم ببعض , فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية , قاله ابن عباس. فأما {الْمَيْسِرُ} فهو القمار. وأما {الأنصَابُ} ففيها وجهان. أحدهما: أنها الأصنام تعبد , قاله الجمهور. والثاني: أنها أحجار حول الكعبة يذبحون لها , قاله مقاتل. وأما {الأَزْلاَمُ} فهي قداح من خشب يُسْتَقْسَمُ بها على ما قدمناه.

قوله تعالى: {رِجْسٌ} يعني حراماً , وأصل الرجس المستقذر الممنوع منه , فعبر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه. ثم قال تعالى: {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به لأنه لا يأمر إلا بالمعاصي , ولا ينهى إلا عن الطاعات. فلما حُرِّمَتِ الخمر قال المسلمون: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين شربوها وماتوا قبل تحريمها , فَأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَءَامَنُواْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} , يعني من الخمر قبل التحريم , {إِذَا مَا اتَّقَواْ} يعني فى أداء الفرائض {وَّءَامَنُواْ} يعني بالله ورسوله {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} يعني البر والمعروف , {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُّم اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} يعني بعمل النوافل , فالتقوى الأولى عمل الفرائض , والتقوى الثانية عمل النوفل.

94

{يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لَيَبْلَوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} في قوله ليبلونكم تأويلان: أحدهما: معناه لَيُكَلِّفَنَّكُمْ. الثاني: لَيَخْتَبِرَنَّكُم , قاله قطرب , والكلبي.

وفي قوله: {مِّنَ الصَّيْدِ} قولان: أحدهما: أن {مِّنَ} للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم متعلق بصيد البَرِّ دون البحر , وبصيد الحرم والإِحرام دون الحل والإِحلال. والثاني: أن {مِّنَ} في هذا الموضع داخلة لبيان الجنس نحو قوله تعالى: {اجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ} [الحج: 30] قاله الزجاج. {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: ما تناله أيدينا: البيض , ورماحنا: الصيد , قال مجاهد. والثاني: ما تناله أيدينا: الصغار , ورماحنا: الكبار , قاله ابن عباس. {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن معنى ليعلم الله: ليرى , فعبر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه , قاله الكلبي. والثاني: ليعلم أولياؤه من يخافه بالغيب. والثالث: لتعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب. والرابع: معناه لتخافوا الله بالغيب , والعلم مجاز , وقوله: {بِالْغَيْبِ} يعني بالسر كما تخافونه في العلانية. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} يعني فمن اعتدى في الصيد بعد ورود النهي. {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم , قال الكلبي: نزلت يوم الحديبية وقد غشي الصيد الناس وهم محرمون. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني الإِحرام بحج أو عمرة , قاله الأكثرون. والثاني: يعني بالحرم الداخل إلى الحرم , يقال أحرم إذا دخل في الحرم , وأَتْهَمَ إذا دخل تهامة , وأَنْجَدَ إذا دخل نجد , ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم. قاله بعض البصريين.

والثالث: أن اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل الحرم , وحكم قتل الصيد فيهما على سواء بظاهر الآية , قاله علي بن أبي هريرة. {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} فيه قولان: أحدهما: متعمداً لقتله , ناسياً لإحرامه , قاله مجاهد , وإبراهيم , وابن جريج. والثاني: متعمداً لقتله ذاكراً لإِحرامه , قاله ابن عباس , وعطاء , والزهري. واختلفوا في الخاطىء في قتله الناسي لإِحرامه على قولين. أحدهما: لا جزاء عليه , قاله داود. الثاني: عليه الجزاء , قاله مالك , والشافعي , وأبو حنيفة. {فَجَزآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} يعني أن جزاء القتل فى الحرم أو الإِحرام مثل ما قتل من النعم. وفي مثله قولان: أحدهما: أن قيمة الصيد مصروفة في مثله من النعم , قاله أبو حنيفة. والثاني: أن عليه مثل الصيد من النعم في الصورة والشبه قاله الشافعي. {يَحْكُمْ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} يعني بالمثل من النعم , فلا يستقر المثل فيه إلا بحكم عدلين فقيهين , ويجوز أن يكون القاتل أحدهما. {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} يريد أن مثل الصيد من النعم يلزم إيصاله إلى الكعبة , وعنى بالكعبة جميع الحرم , لأنها في الحرم. واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الحرم ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين: أحدهما: لا يجوز قاله: أبو حنيفة. الثاني: يجوز , قاله الشافعي. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامٌ مَسَاكِينَ} فيه قولان:

أحدهما: أنه يُقَوِّم المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً , قاله عطاء , والشافعي. الثاني: يقوِّم الصيد ويشتري بالغنيمة طعاماً , قاله قتادة , وأبو حنيفة. {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} يعني عدل الطعام صياماً , وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يصوم عن كل مد يوماً , قاله عطاء , والشافعي. والثاني: يصوم عن كل مد ثلاثة أيام , قاله سعيد بن جبير. والثالث: يصوم عن كل صاع يومين , قاله ابن عباس. واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة , هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين: أحدهما: على الترتيب , إن لم يجد المثل فالإطعام , فإن لم يجد الطعام فالصيام , قاله ابن عباس , ومجاهد , وعامر , وإبراهيم , والسدي. والثاني: أنه على التخيير في التكفير بأي الثلاثة شاء , قاله عطاء , وهو أحد قولي ابن عباس , ومذهب الشافعي. {لِّيذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يعني في التزام الكفارة , ووجوب التوبة. {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} يعني قبل نزول التحريم. {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} فيه قولان: أحدهما: يعني ومن عاد بعد التحريم , فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً , وعقوبة المعصية آجلاً. والثاني: ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله , فينتقم الله منه. وعلى هذا التأويل قولان: أحدهما: فينتقم الله منه بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء , قاله ابن عباس , وداود. والثاني: بالجزاء مع العقوبة، قاله الشافعي، والجمهور.

96

{أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحرِ} يعني صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل. {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} في طعامه قولان: أحدهما: طافِيهِ وما لَفَظَه البحر , قاله أبو بكر , وعمر , وقتادة. والثاني: مملوحة , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , وسعيد بن المسيب. وقوله تعالى: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} يعني منفعة للمسافر والمقيم. وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في بني مدلج , وكانوا ينزلون بأسياف البحر , سألوا عما نضب عنه الماء من السمك , فنزلت هذه الآية فيهم. قوله تعالى: {جَعلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} في تسميتها كعبة قولان: أحدهما: سميت بذلك لتربيعها , قاله مجاهد. والثاني: سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم: قد كعب ثدي المرأة إذا علا ونتأ، وهو قول الجمهور. وسميت الكعبة حراماً لتحريم الله تعالى لها أن يصاد صيدها، أو يختلى خلاها، أو يعضد شجرها.

وفي قوله تعالى: {قِيَاماً لِّلنَّاسِ} ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني صلاحاً لهم , قاله سعيد بن جبير. والثاني: تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم. والثالث: قياماً في مناسكهم ومتعبداتهم.

100

{قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} قوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: يعني الحلال والحرام , قاله الحسن. والثاني: المؤمن والكافر , قاله السدي. والثالث: الرديء والجيد. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخبِيثِ} يعني أن الحلال والجيد مع قلتهما خير وأنفع من الحرام والرديء مع كثرتهما. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في حُجَّاجِ اليمامة وقد هَمَّ المسلمون بأحدهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: ما روى أنس بن مالك قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى

ألحفوه بالمسألة , فصعد المنبر ذات يوم فقال: (لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُ لَكُمْ) قال أنس: فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فأرى كل الناس لاق ثوبه فى رأسه يبكي , فسأل رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله مَنْ أبي؟ فقال: (أَبُوكَ حُذَافَةُ) فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد عليه السلام رسولاً عائذاً بالله من سوء الفتن , فأنزل الله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. والثاني: ما روى الحسن بن واقد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ كَتبَ اللَّهُ عَلَيكُمُ الحَجَّ فَحِجُّوا) فقام محصن الأسدي وقال: في كل عام يا رسول الله؟ فقال: (أَمَا إِنِّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ , وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُم لَضَلِلْتُمْ , اسْكَتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ , فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبَْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ واخْتِلاَفِهِم عَلَى أَنْبِيائِهِمْ) فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُوا ... }. والثالث: أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحيرة والسائبة والوصيلة والحام , قاله ابن عباس. {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرءَانُ تُبْدَ لَكُمْ} جعل نزول القرآن عند السؤال موجباً بتعجيل الجواب. {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} فيها قولان: أحدهما: عن المسألة. والثاني: عن الأشياء التي سألوا عنها. قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} فيه أربعة تأويلات:

أحدها: قوم عيسى سألوه المائدة , ثم كفروا بها , قاله ابن عباس. والثاني: أنهم قوم صالح سألوا الناقة , ثم عقروها وكفروا به. والثالث: أنهم قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصفا ذهباً , قاله السدي. والرابع: أنهم القوم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أبي؟ ونحوه , فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به , قاله بعض المتأخرين.

103

{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} يعني ما بحر الله من بحيرة , ولا سيب سائبة , ولا وصل وصيلة , ولا حمى حامياً. روى أبو صالح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم ابن جون: (يَا أَكْثَمُ رَأَيْتُ عَمْرو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خَنْدَف يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ , فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ , وَلاَ بِهِ مِنْكَ) فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله , فقال: (لاَ إِنَّكَ مُؤْمِنٌ , وَهُوَ كَافِرٌ , إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ , وَبَحَرَ البَحِيرَةَ , وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ , وحَمَى الحَامِي). ومعنى قوله يجر قصبه في النار , يعني أمعاءه , والبحيرة: الفصلة من قول القائل , بحرت أذن الناقة إذا شقها , ومنه قول الأبيرد: (وأمسى فيكم عمران يمشي ... ... كأنه جمل بحير)

وقد روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: (أَرَأَيْتَ إِبلَكَ تَكُونَ مُسَلَّمَةً آذَانُهَا فَتَأْخُذَ المُوسَى فَتَجْدَعَهَا تَقُولُ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ , وَتَشُقُّونَ آذَانَهَا تَقُولُونَ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ) قال: فإن ساعِدَ الله أشدُّ , وموسى الله أحد , كل مالك لك حلال لا يحرم عليك منه شيء. وفي البحيرة ثلاثة أقاويل: أحدها: أن البحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن , فإن كان الخامس ذكراً أكلته الرجال دون النساء , وإن كانت أنثى بحروا أذنها أي شقوها , وتركت , فلا يشرب لها لبن , ولا تنحر , ولا تركب , وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء , قاله عكرمة. والقول الثاني: البحيرة الناقة التي تنجب خمسة أبطن , فكان آخرها ميتاً ذكراً شقوا أذن الناقة وخلوا عنها , فلا تُحْلَب وَلاَ تُرْكَب تحرجاً , قاله أبو عبيدة. والقول الثالث: أن البحيرة بنت السائبة , قاله أبو إسحاق , وأما السائبة , فإنها المسيبة المخلاة وكانت العرب تفعل ذلك ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها على أنفسها تقرباً إلى الله تعالى , قال الشاعر: (عقرتم ناقة كانت لربي ... وسائبة فقوموا للعقاب) وكذا كان بعض أهل الإِسلام يعتق عبده سائبة , ولا ينتفع به ولا بولائه , وكان أبو العالية سائبة فلما أُتِي مولاه بميراثه فقال: هو سائبة وأبى أن يأخذه. وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة , كما قيل في عيشة راضية يعني مرضية , وفي السائبة قولان: أحدهما: أنها الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سُيِّبَتْ فلم يُرْكَب ظهرها ولم يُجَزّ وبرها ولم يَشْرَب لبنَها إلا ضيفٌ , وما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أُذُنُها , وسميت بحيرة , وخُلِّيَتْ مع أمها , قاله محمد بن إسحاق. والقول الثاني: أنهم كانوا ينذرون السائبة عند المرض فيسيب الرجل بعيره

ولا يركب , ولا يجلى عن ماء كالبحيرة , قاله أبو عبيدة. أما الوصيلة فأجمعوا على أنها من الغنم , وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نُظِرَ في البطن السابع فإن كان جَدْياً ذبحوه , فأكل الرجال دون النساء , فقالوا هذا حلال لذكورنا , حرام على أزواجنا ونسائنا , وإن كان عناقاً سرحت في غنم الحي , وإن كان جَدْياً وعناقاً , قالوا وصلت أخاها فسميت وصيلة , قاله عكرمة. القول الثاني: أنها الشاة إذا أتأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر , جعلت وصيلة , فقالوا قد وصلت , وكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإِناث قاله محمد بن إسحاق. والقول الثالث: أن العرب كانت إذا ولدت الشاة لهم ذكراً قالوا هذا لآلهتنا فيتقربون به , وإذا ولدت أنثى قالوا هذه لنا , وإذا ولدت ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها , قاله أبو عبيدة. وأما الحام ففيه قول واحد أجمعوا عليه وهو البعير ينتج من صلبه عشرة أبطن , فيقال حمى ظهره ويخلَّى.

105

{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك

أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ... } في قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ثلاثة تأويلات: أحدها: أنها الشهادة بالحقوق عند الحكام. والثاني: أنها شهادة الحضور للوصية. والثالث: أنها أيمان , ومعنى ذلك أيمان بينكم , فعبر عن اليمين بالشهادة كما قال في أيمان المتلاعنين: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ}. وفي قوله تعالى: { ... اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مَِّنكُمْ} تأويلان: أحدهما: يعني من المسلمين , قاله ابن عباس , ومجاهد. والثاني: من حي المُوصِي , قاله الحسن , وسعيد بن المسيب , وعكرمة وفيهما قولان: أحدهما: أنهما شاهدان يشهدان على وصية المُوصِي. والثاني: أنهما وصيان. {أَوْءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: من غير دينكم من أهل الكتاب , قاله ابن عباس , وأبو موسى , وسعيد بن جبير , وإبراهيم , وشريح. والثاني: من غير قبيلتكم وعشيرتكم , قاله الحسن , وعكرمة , والزهري , وعبيدة. وفي {أَوْ} في هذا الموضع قولان: أحدهما: أنها للتخيير في قبول اثنين منا أو آخرين من غيرنا. والثاني: أنها لغير التخيير , وإن معنى الكلام , أو آخران من غيركم إن لم تجدوا , منكم , قاله ابن عباس وشريح , وسعيد بن جبير والسدي. {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} يعني سافرتم.

{فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} وفي الكلام محذوف تقديره: فأصابتكم مصيبة الموت , وقد أسندتم الوصية إليهما. ثم قال تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ} يعني تستوقفونهما للأيمان وهذا خطاب للورثة , وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: بعد صلاة العصر , قاله شريح , والشعبي , وسعيد بن جبير وقتادة. والثاني: من بعد صلاة الظهر , والعصر , قاله الحسن. والثالث: من بعد صلاة أهل دينهما ومِلَّتِهِمَا من أهل الذمة , قاله ابن عباس , والسدي. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ أَرْتَبْتُمْ لاَ تَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} معناه فيحلفان بالله إن ارتبتم بهما , وفيهما قولان:

أحدهما: أنهما الوصيان إن ارتبتم بهما في الخيانة أَحْلَفَهُمَا الورثة. والثاني: أنهما الشاهدان إن ارتبتم بهما , ولم تُعْرَفْ عدالتهما , ولا جرحهما , أحلفهما الحاكم ليزول عنه الارتياب بهما , وهذا إنما جوزه قائل هذا القول في السفر دون الحضر. وفي قوله تعالى: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} تأويلان: أحدهما: لا نأخذ عليه رشوة , قاله ابن زيد. والثاني: لا نعتاض عليه بحق. {وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى} أي لا نميل مع ذي القربى في قول الزور , والشهادة بغير حق. {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} يعني عندنا فيما أوجبه علينا. قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يعني فإن ظهر على أنهما كَذَبَا وخَانَا , فعبر عن الكذب بالخيانة والإِثم لحدوثه عنهما. وفي الذين: {عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اْسْتَحَقَّا إِثْماً} قولان: أحدهما: أنهما الشاهدان , قاله ابن عباس. والثاني: أنهما الوصيان , قاله سعيد بن جبير. {فَئَاخَرَان} يعني من الورثة. {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} في اليمين , حين ظهرت الخيانة. {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهُمُ الأَوْلَيَانِ} فيه تأويلان: أحدهما: الأوليان بالميت من الورثة , قاله سعيد بن جبير. والثاني: الأوليان بالشهادة من المسلمين , قاله ابن عباس وشريح. وكان سبب نزول هذه الآية ما روى عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء , فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم , فلما قدما بتركته , فقدوا جاماً من فضة مُخَوَّصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم وجد الجام بمكة , وقالوا اشتريناه من تميم الداري , وعدي بن بدّاء , فقام رجلان من أولياء السهمي فَحَلَفَا: {لَشَهَادَتُنا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} وأن الجام لصاحبهم قال: وفيهم نزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُِوا شَهَادَةُ بَينِكُمْ} إلى قوله: {واتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. ثم اختلفوا في حكم هاتي الآيتين هل هو منسوخ أو ثابت. فقال ابن عباس حكمهما منسوخ. قال ابن زيد: لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب وهو اليوم طبق الأرض. وقال الحسن: حكمهما ثابت غير منسوخ.

109

{يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب}

قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنآ}. في قوله: {لاَ عِلْمَ لَنآ} خمسة تأويلات: أحدها: لم يكن ذلك إنكاراً لِمَا علموه ولكن ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم ثم أجابوا بعدما ثابت عقولهم , قاله الحسن , والسدي. والثاني: لا علم لنا إلا ما علمتنا , قاله مجاهد. والثالث: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا , قاله ابن عباس. والرابع: لا علم لنا بما أجاب به أممنا , لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء , وهو مروي عن الحسن أيضاً. والخامس: أن معنى قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} أي ماذا عملوا بعدكم {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ} قاله ابن جريج. وفي قوله: {عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ} تأويلان: أحدهما: أنه مبالغة. والثاني: أنه لكثير المعلومات. فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعليه جوابان: أحدهما: أنه إنما سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم. والثاني: أنه أراد أن يفضحهم بذلك على الأشهاد ليكون ذلك نوعاً من العقوبة لهم.

110

{إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم

بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ... } وإنما ذكَّر الله عيسى عليه السلام نعمته عليه على والدته , وإن كان لهما ذاكراً لأمرين: أحدهما: ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامة ومَيّزَه به من علو المنزلة. والثاني: ليؤكد به حجته ويرد به جاحده. ثم أخذ تعالى في تعديد نعمه فقال: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعني قويتك , مأخوذ من الأيد وهو القوة , وروح القدس جبريل , والقدس هو الله تعالى تقدست أسماؤه. وتأييده له من وجهين: أحدهما: تقويته على أمر دينه. والثاني: معونته على دفع ظلم اليهود والكافرين له. {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} أما كلامه لهم في المهد إنما اختص بتعريفهم حال نبوته , {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِءَاتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكَاً أَيَنَمَا كُنتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً} [مريم: 30 - 31]. وكلامه لهم كهلاً دعاؤهم إلى ما أمر الله به من الصلاة والزكاة , وذلك حين صار ابن ثلاثين سنة وإن كان مبعوثاً حين ولد , فمكث فيهم ثلاثين سنة ثم رفعه الله , ولم يبعث الله نبياً حين ولد غيره ولذلك خصه الله بالكلام في المهد صبياً. ثم قال تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُك الكِتَابَ} وفيه تأويلان: أحدهما: يريد الخط. والثاني: يريد الكتب فعبر عنها بالكتاب إرادة للجنس. ثم فصل فقال تعالى: {وَالْحِكْمَةَ} وفيها تأويلان: أحدهما: أنها العلم بما في تلك الكتب.

والثاني: أنها جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه. ثم قال تعالى: {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} يريد تلاوتهما وتأويلهما. ثم قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْرَاً بِإِذنِي} يعني بقوله: {تَخْلُقُ} أي تفعل وتصور من الطين مثل صورة الطير , لأن الخلق فعل لكن على سبيل القصد والتقدير من غير سهو ولا مجازفة ولذلك وُصِفَتْ أفعال الله تعالى بأنها مخلوقة لأنها لا تكون إلا عن قصد وتقدير ووصفت بعض أفعال العباد بأنها مخلوقة إذا كانت مقدرة مقصودة ولم توصف جميعها بهذه الصفة لجواز كون بعضها سهواً أو مجازفة. وقوله تعالى: {فَتَنفُخُ فِيهَا} يعني الروح , والروح جسم. وفي المُتَوَلِّي لنفخها وجهان: أحدهما: أنه المسيح ينفخ الروح في الجسم الذي صوره من الطين كصورة الطير. والثاني: أنه جبريل. وقوله تعالى: {فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} يعني أن الله تعالى يقلبها بعد نفخ الروح فيها لحماً ودماً , ويخلق فيها الحياة , فتصير طيراً بإذن الله تعالى وأمره , لا بفعل المسيح. ثم قال تعالى: {وَتُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي} أي تدعوني أن أبرىء الأكمه والأبرص , فأجيب دعاءك وأبرئهما , وهو فعل الله تعالى , وإنما نَسَبَهُ إلى المسيح مجازاً لأن فعله لأجل دعائه. ثم قال تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} يعني واذكر نعمتي عليك , إذ تدعوني أن أحيي الموتى , فأجيب دعاءك , حتى تخرجهم من القبور أحياء , ونسب إليه ذلك توسعاً أيضاً لأجل دعائه , ويجوز أن ينسب إخراجهم إليه حقيقة , لأن إخراجهم من قبورهم بعد إحياء الله لهم يجوز أن يكون من فعل المسيح. قال الكلبي: والذين أحياهم من الموتى رجلان وامرأة.

قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّيِنَ أَنْءَامِنُوا بِي ... } في وحيه إلى الحواريين وجهان: أحدهما: معناه أَلْهَمْتُهُم أن يؤمنوا بي , ويصدقوا أنك رسولي , كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. والثاني: يعني ألقيت إليهم بالآيات التي أريتهم أن يؤمنوا بي وبك. وفي التذكير بهذه النعمة قولان: أحدهما: أنها نعمة على الحواريين أن آمنوا , فذكر الله تعالى به عيسى لأنهم أنصاره. الثاني: أنها نعمة على عيسى , لأنه جعل له أنصاراً من الحواريين قد آمنوا به. والحواريون: هم خواص عيسى عليه السلام الذين استخلفهم من جملة الناس. {قَالُواءَامَنَّا} يعني بالله تعالى ربك. {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلامهم بالله تعالى وبه. والثاني: أنهم أشهدوا الله تعالى بذلك على أنفسهم.

112

{إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين}

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحوَارِيُّونَ يَا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} , قرأ الكسائي وحده {هل تَّستطيع ربَّك} بالتاء والإِدغام , وربك بالنصب , وفيها وجهان: أحدهما: معناه هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله , قاله الزجاج. والثاني: هل تستطيع أن تسأل ربك , قاله مجاهد , وعائشة. وقرأ الباقون {هل يستطيع ربك} بالياء والإِظهار , وفي ذلك التأويل ثلاثة أوجه: أحدها: هل يقدر ربك , فكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله تعالى. والثاني: معناه هل يفعل ربك , قاله الحسن , لأنهم سموا بالحواريين بعد إيمانهم. والثالث: معناه هل يستجيب لك ربك ويطيعك. {أَن يُنَزِّلَ عَلَينَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ} قاله السدي , قال قطرب: والمائدة لا تكون مائدة حتى يكون عليها طعام , فإن لم يكن قيل: خِوان , وفي تسميتها مائدة وجهان: أحدهما: لأنها تميد ما عليها أي تعطي , قال رؤبة: ( ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . ... إلى أمير المؤمنين الممتاد) أي المستعطي. والثاني: لحركتها بما عليها من قولهم: مَادَ الشيء إذا مال وتحرك , قال الشاعر: (لعلك باك إن تغنت حمامة ... يميد غصن من الأيك مائل) {قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فيه قولان:

أحدهما: يعني اتقوا معاصي الله إن كنتم مؤمنين به , وإنما أمرهم بذلك لأنه أولى من سؤالهم. والثاني: يعني اتقوا الله فى سؤال الأنبياء إما طلباً لِعَنَتِهِم وإما استزادة للآيات منهم , إن كنتم مؤمنين بهم ومصدقين لهم لأن ما قامت به دلائل صدقهم يغنيكم عن استزادة الآيات منهم. قوله تعالى: {قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} وهذا اعتذار منهم بَيَّنُوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه فقالوا: {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا}. يحتمل وجهين:

أحدهما: أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها. والثاني: أنهم أرادوه تبركاً بها لا لحاجة دعتهم إليها , وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال. {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبياً. والثاني: تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لك أعواناً. والثالث: تطمئن إلى أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا. {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} في أنك نبي إلينا , وذلك على الوجه الأول. وعلى الوجه الثاني: صدقتنا في أننا أعوان لك. وعلى الوجه الثالث: أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا. وفي قولهم {وَنَعْلَمَ} وجهان: أحدهما: أنه علم مستحدث لهم بهذه الآية بعد أن لم يكن , وهذا قول من زعم أن السؤال كان قبل استحكام المعرفة. والثاني: أنهم استزادوا بذلك علماً إلى علمهم ويقيناً إلى يقينهم , وهذا قول من زعم أن السؤال كان بعد التصديق والمعرفة. {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} يحتمل وجهين. أحدهما: من الشاهدين لك عند الله بأنك قد أديت ما بعثك به إلينا. والثاني: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدناه من الآيات الدالة على أنك نبي إليهم وإلينا. قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ} إنما زيدت الميم في آخر اللهم مثقلة عوضاً عن حرف النداء , فلم يجز أن يدخل عليه حرف النداء فلا يقال يا اللهم لأن الميم المُعَوِّضة منه أغنت عنه , فأما قول الشاعر: (وما عليك أن تقولي كلما ... سبحت أو هللت يا اللهم) (أردد علينا شيخنا مسلما ... فإننا من خيره لن نعْدَما) فلأن ضرورة الشعر جوزته. سأل عيسى ربه , أن ينزل عليهم المائدة التي سألوه , وفي سؤاله وجهان: أحدهما: أنه تفضل عليهم بالسؤال , وهذا قول من زعم أن السؤال بعد استحكام المعرفة. والثاني: أنه رغبة منه إلى الله تعالى في إظهار صدقه لهم , وهذا قول من زعم أن السؤال قبل استحكام المعرفة. {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا قاله قتادة والسدي. وقيل: إن المائدة أنزلت عليهم في يوم الأحد غداة وعشية , ولذلك جعلوا الأحد عيداً. والثاني: معناه عائدة من الله تعالى علينا , وبرهاناً لنا ولمن بعدنا. والثالث: يعني نأكل منها جميعاً , أولنا وآخرنا , قاله ابن عباس. {وَءَايَةً مِّنكَ} يعني علامة الإِعجاز الدالة على توحيدك وقيل التي تدل على صدق أنبيائك.

الشكر على ما أنعمت به علينا من إجابتك , وقيل: أرزقنا ذلك من عندك. قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} وهذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين. واختلفوا في نزول المائدة على ثلاثة أقاويل. أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى لخلقه , ينهاهم به عن مسألة الآيات لأنبيائه , قاله مجاهد. والثاني: أنهم سألوا ووعدهم بالإِجابة , فلما قال لهم: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} استعفوا منها فلم تنزل عليهم , قاله الحسن. والثالث: أنهم سألوا فأجابهم , ولم يستعفوا , لأنه ما حكى الاستعفاء عنهم , ثم أنزلها عليهم , لأنه قد وعدهم , ولا يجوز أن يخلف وعده. ومن قال بهذا اختلفوا في الذي كان عليها حين نزلت على ستة أقاويل: أحدها: أنه كان عليها ثمار الجنة , قاله قتادة. والثاني: أنه كان عيها خبز ولحم , قاله عمار بن ياسر. والثالث: أنه كان عليها سبعة أرغفة , قاله إسحاق بن عبد الله. والرابع: كان عليها سمكة فيها طعم كل الطعام , قاله عطاء , وعطية. والخامس: كان عليها كل طعام إلا اللحم , قاله ميسرة. والسادس: رغيفان وحوتان , أكلو منها أربعين يوماً في سفرة , وكانوا ومن معهم نحو خمسة آلاف , قاله جويبر. وأُمِرُوا أن يأكلوا منها ولا يخونوا ولا يدخروا , فخانوا وادخروا فَرُفِعَتْ. وفي قوله تعالى: { ... عَذَاباً لاَّأُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} قولان: أحدهما: يعني من عالمي زمانهم.

والثاني: من سائر العالمين كلهم. وفيهم قولان: أحدهما: هو أن يمسخهم قردة , قاله قتادة. والثاني: أنه جنس من العذاب لا يعذب به غيرهم لأنهم كفروا بعد أن رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم , فكانوا أعظم كفراً فصاروا أعظم عذاباً. وهل هذا العذاب في الدنيا أو في الآخرة؟ قولان: وفي الحواريين قولان: أحدهما: أنهم خواص الأنبياء. والثاني: أنهم المندوبون لحفظ شرائعهم إما بجهاد أو علم. وفي تسميتهم بذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: لبياض ثيابهم , وهذا قول ابن عباس , تشبيهاً بما هم عليه من نقاء سرائرهم , قاله الضحاك , وهو بلغة القبط حواري. والثاني: لنظافة ثيابهم وطهارتها بطهارة قلوبهم. والثالث: بجهادهم عن أنبيائهم , قال الشاعر: (ونحن أناس نملأ البيد مأمنا ... ونحن حواريون حين نزاحف)

116

{وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد

إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ... } الآية. {إِذْ} ها هنا بمعنى (إذا) كما قال أبو النجم: (ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السموات العلا) يعني إذا جزى , فأقام الماضي مقام المستقبل وهذا جائز في اللغة كما قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]. واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين: أحدهما: أنه تعالى سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادعى ذلك عليه , ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ فى التكذيب وأشد فى التوبيخ والتقريع. والثاني: أنه قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غُيِّرُوا بعده وادعوا عليه ما لم يقله. فإن قيل: فالنصارى لم تتخذ مريم إلهاً , فكيف قال تعالى فيهم ذلك؟ قيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشراً وإنما ولدت إِلَهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضي بمثابة من ولدته , فصاروا حين لزمهم ذلك كالقائلين له. وفي زمان هذا السؤال قولان: أحدهما: أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا , قاله السدي وميسرة. والثاني: أن الله تعالى يقول له ذلك يوم القيامة , قاله ابن جريج وقتادة وهو أصح القولين. {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ} أي أدعي لنفسي ما ليس من شأنها , يعني أنني مربوب ولست برب , وعابد ولست بمعبود.

وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين: أحدهما: تنزيهاً له عما أضيف إليه. الثاني: خضوعاً لعزته وخوفاً من سطوته. ثم قال: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فرد ذلك إلى علمه تعالى , وقد كان الله عالماً به أنه لم يقله , ولكن قاله تقريعاً لمن اتخذ عيسى إلهاً. {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فيه وجهان. أحدهما: تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه. والثاني: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وفي النفس قولان: أحدهما: أنها عبارة عن الجملة كلها. والثاني: أنها عبارة عن بعضه , كقولهم قتل فلان نفسه. {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} يحتمل وجهين: أحدهما: عالم السر والعلانية. والثاني: عالم ما كان وما يكون. وفي الفرق بين العالم والعلام وجهان: أحدهما: أن العلام الذي تقدم علمه , والعالم الذي حدث علمه. والثاني: أن العلام الذي يعلم ما كان وما يكون , والعالم الذي يعلم ما كان ولا يعلم ما يكون.

قوله عز وجل: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} لم يذكر عيسى ذلك على وجه الإِخبار به لأن الله عالم به , ويحتمل وجهين: أحدهما: تكذيباً لمن اتخذ إلهاً معبوداً. والثاني: الشهادة بذلك على أمته فيما أمرهم به من عبادة ربه. قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: إعلامهم أن الله ربه وربهم واحد. والثاني: أن عليه وعليهم أن يعبدوا رباً واحداً حتى لا يخالفوا فيما عبدوه. {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيِهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني شاهداً. والثاني: شاهداً عليهم. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} فيه وجهان: أحدهما: أنه الموت. والثاني: أنه رفعه إلى السماء. { ... الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: الحافظ عليهم. والثاني: العالم بهم. {وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: شاهداً لما حضر وغاب. والثاني: شاهداً على من عصى , وأطاع. قوله عز وجل: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف العبد سيده. والثاني: أنه قاله على وجه التسليم لأمر ربه والاستجارة من عذابه.

119

{قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} يعني يوم القيامة , وإنما نفعهم الصدق في ذلك اليوم لوقوع الجزاء فيه وإن كان في كلِّ الأيام نافعاً , وفي هذا الصدق قولان: أحدهما: أن صدقهم الذي كان منهم في الدنيا نفعهم في الآخرة جُوزُوا عليه من الثواب , فعلى هذا المراد بهذا الصدق وجهان محتملان: أحدهما: أنه صدقهم في عهودهم. والثاني: أنه تصديقهم لرسل الله وكتبه. والقول الثاني: أنه صدق يكون منهم في الآخرة ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله. فعلى هذا في المراد بهذا الصدق وجهان محتملان: أحدهما: أنه صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ. والثاني: صدقهم فيما شهدوا به على أنفسهم عن أعمالهم , ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة , فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم. وهل هم مصروفون عنه قبل موقف العرض؟ على قولين. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

سورة الأنعام

الأنعام

{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ ... } الآية قال وهب بن منبه: فاتحة التوارة فاتحة الأنعام إلى قوله: {يَعْدِلُونَ} , وخاتمة التوراة خاتمة هود. وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر , وذلك أولى

من أن يجيء بلفظ الأمر فيقول احْمِدِ الله , لأمرين: أحدهما: أنه يتضمن تعليم اللفظ والمعنى , وفي الأمر المعنى دون اللفظ. والثاني: أن البرهان إنما يشهد بمعنى الخبر دون الأمر. {الَّذِي خَلَقَ السَمَوَاتِ والأرضَ} لأن خلق السموات والأرض نِعَمٌ تستوجب الحمد , لأن الأرض تقل , والسماء تظل , وهي من أوائل نعمه على خلقه , ولذلك استحمد بخلقها وأضاف خلقها إلى نفسه عند حمده , على أن مستحق الحمد هو خالق السموات والأرض , ليكون باستحقاق الحمد منفرداً لانفراده بخلق السموات والأرض. وفي جمع السموات وتوحيد الأرض وجهان: أحدهما: لأن السموات أشرف من الأرض , والجمع أبلغ في التفخيم من الوحيد كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9]. والثاني: لأن أوامره إلى الأرض تخترق جميع السماوات السبع. وفي تقديم السموات على الأرض وجهان: أحدهما: لتقدم خلقها على الأرض. والثاني: لشرفها فقدمها على ذكر الأرض وإن كانت مخلوقة بعد الأرض. وهذان الوجهان من اختلاف العلماء أيهما خُلِقَ أولاً. {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} يعني وخلق , فغاير بين اللفظ ليكون أحسن في النظم , والمراد بالظلمات والنور هنا ثلاثة أوجه: أحدها: وهو المشهور من قول قتادة , قدم الظلمة على النور لأنه قدم خلق الظلمة على خلق النور , وجمع الظلمات ووحد النور لأن الظلمات أعم من النور. والثاني: أن الظلمات: الليل , والنور: النهار. والثالث: أن الظلمات: الكفر , والنور: الإِيمان , قاله السدي. ولأصحاب الخواطر , فيه ثلاثة أوجه أُخَر:

أحدها: أن الظلمات: الأجسام , والنور: الأرواح. الثاني: أن الظلمات: أعمال الأبدان , والنور: ضمائر القلوب. والثالث: أن الظلمات: الجهل , والنور: العلم. {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له مع هذه النَّعَمْ عِدْلاً , يعني مثلاً. وفيه قولان: أحدهما: أنهم يعدلون به الأصنام التي يعبدونها. والثاني: أنهم يعدلون به إلهاً غيره لم يُخْلَق مثل خلقه. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمَّى عِندَهُ} في هذين الأجلين أربعة أقاويل: أحدها: أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الحياة إلى الموت , والأجل الثاني المسمى عنده أجل الموت إلى البعث , قاله الحسن , وقتادة. الثاني: أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الدنيا , والأجل الثاني المسمى عنه ابتداء الآخرة , قاله ابن عباس , ومجاهد. والثالث: أن الأجل الأول الذي قضاه هو حين أخذ الميثاق على خلقه في ظهر آدم , والأجل الثاني المسمى عنده الحياة في الدنيا , قاله ابن زيد. والرابع: أن الأجل الذي قضاه أجل من مات , والأجل المسمى عنده أجل من يموت بعد , قاله ابن شجرة. {تَمْتَرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تشكون , والامتراء: الشك. والثاني: تختلفون , مأخوذ من المراء وهو الاختلاف.

قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن معنى الكلام وهو اله المُدَبِّر في السموات وفي الأرض. {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي ما تخفون , وما تعلنون. والثاني: وهو الله المعبود في السموات , وفي الأرض. والثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً , وتقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض , لأن في السموات الملائكة , وفي الأرض الإِنس والجن , قاله الزجاج. {وََيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تعلمون من بعد , ولا يخفى عليه ما كان منكم , ولا ما سيكون , ولا ما أنتم عليه في الحال من سر , وجهر.

4

{وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا

منهم ما كانوا به يستهزؤون قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} قوله عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} لأن مشركي قريش لما أنكروا نزول القرآن أخبر الله أنه لو أنزله عليهم من السماء لأنكروه وكفروا به لغلبة الفساد عليهم , فقال: {ولَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} واسم القرطاس لا ينطلق إلا على ما فيه كتابة , فإن لم يكن فيه كتابة قيل طرس ولم يقل قرطاس. قال زهير بن أبي سلمى: (بها أخاديد من آثار ساكنها ... كما تردد في قرطاسه القلم) {فَلَمَسُوهُ بِأَيِدِيهِمْ} قال ذلك تحقيقاً لنزوله عليهم. ويحتمل بلمس اليد دون رؤية العين ثلاثة أوجه: أحدها: أن نزوله مع الملائكة وهم لا يرون بالأبصار , فلذلك عَبَّر عنه باللمس دون الرؤية. والثاني: لأن الملموس أقرب من المرئي. والثالث: لأن السحر يتخيل في المرئيات , ولا يتخيل في الملموسات. {لَقَالَ الََّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} تكذيباً لليقين بالعناد , والمبين: ما دل على بيان بنفسه , والبيِّن: ما دل على بيانه , فكان المبين أقوى من البيِّن. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي ملك يشهد بتصديقه {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ} أي لو أنزلنا ملكاً فلم يؤمنوا لقضي الأمر وفيه تأويلان: أحدهما: لقضي عليهم بعذاب الاستئصال , قاله الحسن , وقتادة , لأن الأمم السالفة كانوا إذا اقترحوا على أنبيائهم الآيات فأجابهم الله تعالى إلى الإِظهار فلم يؤمنوا استأصلهم بالعذاب. والثاني: أن معنى لقضي الأمر لقامت الساعة , قاله ابن عباس.

{ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} أي لا يُمْهَلُون ولا يُؤَخَّرون , يعني عن عذاب الاستئصال. على التأويل الأول , وعن قيام الساعة على التأويل الثاني. {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} يعني ولو جعلنا معه ملكاً يدل على صدقه لجعلناه في صورة رجل. وفي وجوب جعله رجلاً وجهان: أحدهما: لأن الملائكة أجسامهم رقيقة لا تُرَى , فاقتضى أن يُجْعَل رجلاً لكثافة جسمه حتى يرى. والثاني: أنهم لا يستطيعون أن يروا الملائكة على صورهم , وإذا كان في صورة الرجل لم يعلموا ملك هو أو غير ملك. {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه ولخلطنا عليهم ما يخلطون , قاله الكلبي. والثاني: لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم , قال الزجاج: كما يشبهون على ضعفائهم واللبس في كلامهم هو الشك ومنه قول الخنساء: (أصدق مقالته واحذر عداوته ... والبس عليه بشك مثل ما لبسا) والثالث: وللبسنا على الملائكة من الثبات ما يلبسه الناس من ثيابهم , ليكونوا على صورهم وعلى زِيِّهم , قاله جويبر. قوله تعالى: { ... كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي أوجبها ربكم على نفسه , وفيها أربعة أوجه: أحدها: أنها تعريض خلقه لما أمرهم به من عبادته التي تفضي بهم إلى جنته. والثاني: ما أراهم من الآيات الدالة على وجوب طاعته.

والثالث: إمهالهم عن معالجة العذاب واستئصالهم بالانتقام. والرابع: قبوله توبة العاصي والعفو عن عقوبته. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهذا توعد منه بالعبث والجزا أَخَرجَه مَخْرَج القسم تحقيقاً للوعد والوعيد , ثم أكده بقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}.

12

{قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين} قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} من أجسام الحيوان , لأن من الحيوان ما يسكن ليلاً , ومنه ما يسكن نهاراً. فإن قيل: فلم قال {مَا سَكَنَ} ولم يقل ما تحرك؟ قيل لأمرين: أحدهما: أن ما يَعُمُّه السكون أكثر مما يَعُمُّه الحركة. والثاني: لأن كل متحرك لا بد أن تنحل حركته سكوناً , فصار كل متحرك ساكناً , وقد قال الكلبي: معناه وله ما استقر في الليل والنهار , وهما الزمان كله , لأنه لا زمان إلا ليل أو نهار , ولا فصل بينهما يخرج عن واحد منهما. قوله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيَّاً} يعني إلهاً يَتَولاَّنِي. {فَاطِر السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي خالق السموات والأرض ومبتدئها , قال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر , فقال

أحدهما لصاحبه: أنا فَطَرْتُهَا , أي ابتدأتها , وأصل الفطر الشق , ومنه {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3] أي شقوق. {وَهُوَ يَطْعمُ وَلاَ يُطْعَمُ} معناه يَرْزُقُ ولا يُرْزَق , قرأ بعضهم {وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ} معناه على هذه القراءة: وهو يطعم خلقه ولا يأكل. {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} يعني من أمته , وفي إسلامه هذا ثلاثة أوجه: أحدها: استسلامه لأمر الله , ومثله قول الشاعر: (طال النهار على من لقاح له ... إلا الهديّة أو ترك بإسلام) أي باستسلام. والثاني: هو دخوله في سِلْمِ الله وخروجه من عداوته. والثالث: دخوله في دين إبراهيم كقوله تعالى: {مِلَّهَءَابِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} [الحج: 78] ويكون المراد به أول من أَسْلَم من قريش , وقيل: من أهل مكة. {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يحتمل أن يكون هذا خطاباً من الله لنبيه يَنْهَاهُ به عن الشرك , ويُحْتَمَل أن يكون المراد به جميع أمته , وإن توجه الخطاب إليه.

17

{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين

خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون} قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} فيه وجهان: أحدهما: معناه إن أَلْحَقَ الله بك ضُراً , لأن المس لا يجوز على الله. والثاني: معناه وإن جعل الضُرَّ يمسك. وكذلك قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ}. وفي الضُرِّ والخير وجهان: أحدهما: أن الضُرَّ السُقْمُ , والخير العافية. والثاني: أن الضُرَّ الفقر , والخير الغنى. قوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فيه قولان: أحدهما: أن معناه القاهر لعباده , وفوق صلة زائدة. والثاني: أنه بقهره لعباده مستعلٍ عليهم , فكان قوله فوق مستعملاً على حقيقته كقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِم} [الفتح: 10] لأنها أعلى قوة. ويحتمل ثالثاً: وهو القاهر فوق قهر عباده , لأن قهره فوق كل قهر. وفي هذا القهر وجهان: أحدهما: أنه إيجاد المعدوم.

والثاني: أنه لا راد لأقداره ولا صَادَّ عن اختياره. قوله عز وجل: {قَلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} الآية , في سبب [نزول] ذلك قولان: أحدهما: أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشهد لك النبوة , فأنزل الله تعالى هذه الآية يأمره فيها أن يقول لهم: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} , ثم أجابه عن ذلك فقال: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يعني: بصدقي وصحة نبوتي وهي أكبر الشهادات , قاله الحسن. والثاني: أن الله تعالى أمره أن يشهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم فقال ذلك ليشهده عليهم. {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} فيه وجهان: أحدهما: لأنذركم [يا] أهل مكة ومن بلغه القرآن من غير أهل مكة. والثاني: لأنذركم به: [أيها] العربُ ومن بُلِّغ من العَجَم. قوله عز وجل: {الَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} فيه قولان: أحدهما: أنه التوراة والإِنجيل , قاله الحسن , وقتادة , والسدي , وابن جريج. والثاني: أنه القرآن. {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنآءَهُم} فيه قولان: أحدهما: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم , لأن صفته موجودة في كتابهم , قاله الحسن , وقتادة , ومن زعم أن الكتاب هو التوراة والإِنجيل.

والثاني: يعرفون الكتاب الدال على صفته , وصدقه , وصحة نبوته , وهذا قول من زعم أن الكتاب هو القرآن. وعنى بقوله: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} تثبيتاً لصحة المعرفة. وحكى الكلبي والفراء: أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام حين أسلم: ما هذه المعرفة التي تعرفون بها محمداً صلى الله عليه وسلم كما تعرفون أبناءكم؟ قال: والله لأنا به إذا رأيته أعرف مني بابني وهو يلعب مع الصبيان , لأني لا أشك أنه محمد , وأشهد أنه حق , ولست أدري ما صنع النساء في الابن. {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: أنهم خسروا بالكفر منازلهم وأزواجهم في الجنة , لأنه ليس أحد من مؤمن ولا كافر إلا وله منازل وأزواج , فإن أسلموا كانت لهم , وإن كفروا كانت لمن آمن من أهلهم , وهو معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] , قاله الفراء. والثاني: معناه غبنوها فأهلكوها بالكفر والتكذيب , ومنه قول الأعشى: (لا يأخذ الرِّشْوَة في حُكْمِهِ ... ولا يُبالي خُسْرَ الخاسر)

22

{ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم

أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون} {ثُمَّ لَمْ تَكُن فَتْنَتُهُمْ ... } الآية. في الفتنة هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني معذرتهم , فسماها فتنة لحدوثها عن الفتنة , قاله قتادة. والثاني: عاقبة فتنتهم وهو شركهم. والثالث: يعني بَلِيَّتُهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة , قاله أبو عبيد القاسم بن سلام. {إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} تبدأوا بذلك من شركهم , فإن قيل: كيف كذبوا في الآخرة بجحود الشرك ولا يصح منهم الكذب في الآخرة لأمرين: أحدهما: أنه لا ينفعهم. والثاني: أنهم مصروفون عن القبائح ملجؤون إلى تركها لإِزالة التكليف عنهم , ولو لم يلجؤوا إلى ترك القبيح ويصرفوا عنه مع كما عقولهم وجب تكليفهم ليقلعوا به عن القبيح , وفي عدم تكليفهم دليل على إلجائهم إلى تركه. قيل: عن ذلك جوابان. أحدهما: أن قولهم {وَاللَّهِ رَبِّنآ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي في الدنيا عند أنفسنا لاعتقادنا فيها أننا على صواب , وإن ظهر لنا خطؤه الآن , فلم يكن ذلك منهم كذباً , قاله قطرب. والثاني: أن الآخرة مواطن , فموطن لا يعلمون ذلك فيه ولا يضطرون إليه , وموطن يعلمون ذلك فيه ويضطرون إليه , فقالوا ذلك في الموطن الأول , قاله بعض متأخري المتكلمين.

وهذا ليس بصحيح لأنه يقتضي أن يكونوا في الموطن الأول مكلفين لعدم الإِلجاء والاضطرار , وفي الموطن الثاني غير مكلفين. وقد يعتل الجواب الأول بقوله تعالى بعد هذه الآية: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} فأخبر عنهم بالكذب , وهم على الجواب الأول غير كاذبين. وقد أُجِيب عن هذا الاعتراض بجواب ثالث , وهو أنهم أنكروا بألسنتهم , فلما نطقت جوارحهم أقروا , وفي هذا الجواب دخل لأنه قد كذبوا نُطْقَ الجوارح. {وَضَلَّ عَنهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: بسوء كذبهم وجحودهم. والثاني: فضلت عنهم أوثانهم التي افتروا على الله بعبادتها , والافتراء: تحسين الكذب. قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} قيل إنهم كانوا يستمعون في الليل قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته. وفيه وجهان: أحدهما: يستمعون قراءته ليردوا عليه. والثاني: ليعلموا مكانه فيؤذوه , فصرفهم الله عن سماعه , بإلقاء النوم عليهم , بأن جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه. والأكنة الأغطية واحدها كِنان , يقال: كَنَتْتُ الشيء إذا غطيته , وأكننته في نفسي إذا أخفيته , وفي قراءة علي , وابن مسعود: على أعينهم غطاء. {وَفِيءَاذَانِهِمْ وَقْراً} والوقر: الثقل , ومنه الوَقَار إذا ثقل في المجلس. {وَإِن يَرَوْاْ كَلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بها} يعني بالآية علامة الإعجاز لما قد استحكم في أنفسهم من حسده وبغضه , وذلك صرفهم عن سماع القرآن , لأنهم قصدوا بسماعه الأذى والافتراء. {حَتَّىَ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ

الأَوَّلِينَ} فيما كانوا يجادلون به النبي صلى الله عليه وسلم قولان: أحدهما: أنهم كانوا يجادلونه بما ذكره الله تعالى من قوله عنهم: {إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} , قال الحسن. والثاني: هو قولهم: تأكلون ما قتلتم ولا تاكلون ما قتل ربكم , قاله ابن عباس. ومعنى {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها في كتبهم , وقيل: إن جادلهم بهذا النضر بن الحارث. قوله عز وجل: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأوْنَ عَنْهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يَنْهَون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم , ويتباعدون عنه فراراً منه , قاله محمد ابن الحنفية , والحسن , والسدي. والثاني: يَنْهَون عن القرآن أن يُعْمَل بما فيه , ويتباعدون من سماعه كيلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته , قاله مجاهد , وقتادة. والثالث: ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم , ويتباعدون عن اتباعه , قال ابن عباس: نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم , ويتباعد عما جاء به , فلا يؤمن به مع وضوح صدقه في نفسه. واستشهد مقاتل بما دل على ذلك عن شعر أبي طالب بقوله: (ودعوتني وزَعَمْتَ أنَّكَ ناصِحِي ... فلقَدْ صَدَقْت وكُنْتَ ثَمَّ أميناً) (وعرضتَ ديناً قد علِمْتُ بأنه ... من خيْرِ أَدْيانِ البَرِيةِ دِيناً)

(لولا الذَّمَامَةُ أو أُحَاذِرُ سُبَّةً ... لَوَجَدْتَني سَمْحاً بذالك مُبِيناً) (فاذهب لأمرك ما عليك غَضَاضَةٌ ... وابشِرْ بذاك وقَرَّ مِنَكَ عيوناً) (والله لن يَصِلُوا إيك بِجَمْعِهم ... حتى أُوسَّدَ في التُّرابِ دَفِيناً) فنزلت هذه الآية , فقرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم , فقال له أبو طالب: أما أن أدخل في دينك فلا , قال ابن عباس: لسابق القضاء في اللوح المحفوظ , وبه قال عطاء , والقاسم.

27

{ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عاينوها , ومن عاين الشيء فقد وقف عليه. والثاني: أنها كانت من تحتهم وهم فوقها , فصاروا وقوفاً عليها. والثالث: أنهم عرفوها بالدخول فيها , ومن عرف الشيء فقد وقف عليه. وذكر الكلبي وجهاً رابعاً: أن معناه ولو ترى إذ حُبِسُوا على النار. {فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} تمنوا الرد إلى الدنيا التي هي دار التكليف ليؤمنوا ويصدقوا , والتمني لا يدخله صدق ولا كذب , لأنه ليس بخبر.

ثم قال تعالى: {بلْ بَدَالَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بدا لهم وبال ما كانوا يخفون. والثاني: بدا لهم ما كان يخفيه بعضهم عن بعض , قاله الحسن. والثالث: بدا للأتباع مما كان يخفيه الرؤساء. {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} يعني ولو ردوا إلى ما تمنوا من الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر. {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيه قولان: أحدهما: أنه خبر مستأنف أخبر الله به عن كذبهم لا أنه عائد إلى ما تقدم من تمنّيهم , لعدم الصدق والكذب في التمنِّي. والثاني: {إِنَّهُمْ لَكَاذِبونَ} يعني في الإِخبار عن أنفسهم بالإِيمان إِن رُدُّوا.

31

{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} قوله عز وجل: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو , فأما عمل الصالحات فيها فهو من عمل الآخرة , فخرج من أن يكون لعباً ولهواً.

والثاني: وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها , قاله الحسن. والثالث: أنهم كأهل اللعب واللهو لانقطاع لذاتهم وقصور مدتهم , وأهل الآخرة بخلافهم لبقاء مدتهم واتصال لذتهم , وهو معنى قوله تعالى: {وَلَلدَّارُ الأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} لأنه قَدْ دام لهم فيها ما كان منقطعاً في غيرها. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أن ذلك خير لكم. وذكر بعض الخاطرية قولاً رابعاً: أنها لعب لمن جمعها , لهو لمن يرثها.

33

{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} قوله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} يعني من التكذيب. لك , والكفر بي. {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكّذَّبونَكَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فإنهم لا يكذبونك بحجة , وإنما هو تكذيب بهت وعناد , فلا يحزنك , فإنه لا يضرك , قاله أبو صالح , وقتادة , والسدي. والثاني: فإنهم لا يكذبون قولك لعلمهم بصدقك , ولكن يكذبون ما جئت به , قاله ناجية بن كعب. والثالث: لا يكذبونك في السر لعلمهم بصدقك , ولكنهم يكذبونك في العلانية لعداوتهم لك , قاله الكلبي.

والرابع: معناه أن تكذيبهم لقولك ليس بتكذيب لك , لأنك رسول مُبَلّغ , وإنما هو تكذيب لآياتي الدالة على صدقك والموجبة لقبول قولك , وقد بين ذلك بقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بئَأَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي يكذبون. وقرأ نافع والكسائي: {لاَ يُكَذِّبُونَكَ} وهي قراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتأويلها: لا يجدونك كاذباً. قوله عز وجل: { ... وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} يحتمل أربعة تأويلات: أحدها: معناه لا مُبطِل لحُجَّتِهِ ولا دافع لبرهانه. والثاني: معناه لا رَادَّ لأمره فيما قضاه من نصر أوليائه , وأوجبه من هلاك أعدائه. والثالث: معناه لا تكذيب لخبره فيما حكاه من نصر مَنْ نُصِرَ وهلاك مَنْ أُهْلِكَ. والرابع: معناه لا يشتبه ما تخرّصه الكاذبون عليه بما بلَّغه الأنبياء عنه. {وَلَقْدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ} فيما صبروا عليه من الأذى , وقُوبلوا عليه من النصر. قوله عز وجل: {وَإِن كَانَ كَبُرَ إِعْرَاضُهُمْ} فيه قولان: أحدهما: [إعراضهم] عن سماع القرآن. والثاني: عن استماعك. {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ} أي سرباً , وهو المسلك فيها , مأخوذ من نافقاء اليربوع. {أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: مصعداً , قاله السدي. والثاني: دَرَجاً , قاله قتادة. والثالث: سبباً , قاله الكلبي وقد تضمن ذلك قول كعب بن زهير. (ولا لَكُمَا مَنْجىً عَلَى الأرْضِ فَابْغِيَا ... به نَفَقاً أوْ في السَّمَوَات سُلَّماً) {فَتَأْتِيَهُم بئَايَةٍ} يعني أفضل من آيتك ولن تستطيع ذلك , لم يؤمنوا لك , فلا يحزنك تكذيبهم وكفرهم , قال الفراء: وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره: فتأتيهم بآية فافعل. {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} يعني بالإلجاء والاضطرار. قال ابن عباس: كل موضع قال الله فيه {ولو شاءَ اللهُ} فإنه لم يشأ. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ} يعني تجزع في مواطن الصبر , فتصير بالأسف والتحسر مقارباً لأحوال الجاهلين. قوله عز وجل: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} الاستجابة هي القبول , والفرق بينها وبين الجواب: أن الجواب قد يكون قبولاً وغير قبول. وقوله: {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني الذين يعقلون , قاله الكلبي. والثاني: الذين يسمعون طلباً للحق , لأن الاستجابة قد تكون من الذين يسمعون طلباً للحق , فأما من لا يسمع , أو يسمع لكن لا بقصد طلب الحق , فلا يكون منه استجابة. {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} فيه قولان: أحدهما: أن المراد بالموتى هنا الكفار , قاله الحسن , وقتادة ومجاهد.

ويكون معنى الكلام: إنما يستجيب المؤمنون الذين يسمعون , والكفار لا يسمعون إلا عند معاينة الحق اضطراراً حين لا ينفعهم حتى يبعثم الله كفاراً ثم يحشرون كفاراً. والقول الثاني: أنهم الموتى الذين فقدوا الحياة , وهو مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم , ويكون معنى الكلام: كما أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله فكذلك الذين لا يسمعون.

37

{وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} قوله عز وجل: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ} يعني آية تكون دليلاً على صدقه وصحة نبوته. {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَءَايَةً} يعني آية يجابون بها إلى ما سألوا. {وَلَكِنَّ أَكْثرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين. أحدهما: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية. الثاني: لا يعلمون أن زيادة الآيات إذا لم يؤمنوا بها , توجب الزيادة من عذابهم , لكثرة تكذيبهم. فإن قيل: فهذه الآية لا تدل على أن الله لم ينزل عليهم آية تقودهم إلى التصديق فلم يلزمهم الإِيمان , قيل: هذا خطأ , لأن ما أظهره الله من الآيات

الدالة على صدق رسوله وصحة نبوته , أظهر من أن يُخْفَى , وأكثر من أن ينكر , وأن القرآن مع عجز من تحداهم الله من الآيات بمثله , وما تضمنه من أخبار الغيوب وصدق خبره عما كان ويكون أبلغ الآيات وأظهر المعجزات. وإنما اقترحوا آية سألوها إعناتاً , فلم يجابوا مع قدرة الله تعالى على إنزالها , لأنه لو أجابهم إليها لاقترحوا غيرها إلى ما لا نهاية له , حتى ينقطع الرسول بإظهار الآيات عن تبليغ الرسالة. وإنما يلزمه إظهار الآيات في موضعين: أحدهما: عند بعثه رسولاً ليكون مع استدعائه لهم دليل على صدقه. والثاني: أن يسألها من يعلم الله منه أنه إن أظهرها له آمن به , وليس يلزمه إظهارها في غير هذين الموضعين. قوله عز وجل: {وَمَا من دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} دابة بمعنى ما يدب على الأرض من حيوان كله. {وَلاَ طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} يعني في الهواء , جميع بين ما هو على الأرض وفيها وما ارتفع عنها. {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} في الأمم تأويلان: أحدهما: أنها الجماعات. والثاني: أنها الأجناس , قاله الفراء. وليس يريد بقوله: {أَمْثَالُكُم} في التكليف كما جعل قوم اشتبه الظاهر عليهم وتعلقوا مع اشتباه الظاهر برواية أبي ذر , قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا؟ قلت: لا , قال: (لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا) قال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكّرنا منه علماً , لأنه إذا كان العقل سبباً للتكليف كان عدمه لارتفاع التكليف.

والمراد بقوله: {أَمْثَالُكُم} وجهان: أحدهما: أنها أجناس وتتميز في الصور والأسماء. والثاني: أنها مخلوقة لا تُظْلَم , ومرزوقة لا تُحْرَم. ثم قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} فيه تأويلان: أحدهما: ما تركنا خلقاً إلا أوجبنا له أجلاً , والكتاب هنا هو إيجاب الأجل كما قال تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ} [الرعد: 38] قاله ابن بحر وأنشد لنابغة بني جعدة: (بلغو الملوك وأدركوا ال ... كتاب وانتهى الأجل) والتأويل الثاني: وهو قول الجمهور: أن الكتاب هو القرآن الكريم الذي أنزله , ما أخل فيه بشيء من أمور الدين , إما مُفَصَّلاً يَسْتَغْنِي عن التفسير , أو مجْمَلاً جعل إلى تفسيره سبيلاً. يحتمل تأويلاً ثالثاً: ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه , أو وجود نقص فيه , فكتاب الله سليم من النقص والخلل. {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرْونَ} فيه تأويلان: أحدهما: أن المراد بالحشر الموت , قاله ابن عباس. والثاني: أن الحشر الجمع لبعث الساعة. فإن قيل: فإذا كانت غير مُكَلَّفَةٍ فلماذا تبعث يوم القيامة؟ قيل: ليس التكليف علة البعث , لأن الأطفال والمجانين يبعثون وإن كانوا في الدنيا غير مكلفين , وإنما يبعثها ليعوض ما استحق العوض منها بإيلام أو ظلم , ثم

يجعل ما يشاء منها تراباً , وما شاء من دواب الجنة يتمتع المؤمنون بركوبه ورؤيته.

40

{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} قوله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكَّرُوا بِهِ} معنى ذلك أنهم تركوا ما ذَكَّرَهُم الله من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله. {فَتَحْنَا عَلَيْهِمُ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} يعني من نِعَمِ الدنيا وسَعَة الرزق. وفي إنعامه عليهم مع كفرهم وجهان: أحدهما: ليكون إنعامه عليهم داعياً إلى إيمانهم. والثاني: ليكون استدراجاً وبلوى , وقد روى ابن لهيعة بإسناده عن عقبة ابن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا رَأَيْتَ اللَّه يعِطي العِبَادَ مَا يَشَاءُونَ عَلَى

مَعَاصِيهِم إِيَّاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ) ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ}. {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} يعني من النِّعَمْ فلم يؤمنوا. {أَخَذَنَاهُم بَغْتَةً} يحتمل وجهين. أحدهما: أنه تعجيل العذاب المُهْلِك جزاء لأمرين. أحدهما: لكفرهم به. والثاني: لكفرهم بنِعَمِهِ. والوجه الثاني: هو سرعة الموت عند الغفلة عنه بالنِّعَمِ قَطْعاً للذة , وتعذيباً للحسرة. ثم قال تعالى: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} وفيه خمسة تأويلات: أحدها: أن الإِبلاس: الإِياس قال عدي بن زيد: (ملك إذا حل العفاة ببابه ... غبطوا وأنجح منهم المستبلس) يعني الآيس. والثاني: أنه الحزن والندم. والثالث: الخشوع. والرابع: الخذلان. والخامس: السكوت وانقطاع الحجة , ومنه قول العجاج: (يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً ... قال نعم أعرفه وأبلسا)

46

{قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون

وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} قوله عز وجل: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزآئِنُ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: الرزق , أي لا أقدر على إغناء فقير , ولا إفقار غني , قاله الكلبي. والثاني: مفاتيح خزائن العذاب لأنه خَوَّفهُم منه , فقالوا متى يكون هذا؟ قاله مقاتل. {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فيه وجهان: أحدهما: علم الغيب في نزول العذاب عليهم متى يكون؟ , قاله مقاتل. والثاني: علم جميع ما غاب من ماض ومستقبل , إلا أن المستقبل لا

يعلمه إلا الله أو من أطلعه الله تعالى على علمه من أنبيائه , وأما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من أحد الوجهين: إما من معاينة أو خبر , فإن كان الإِخبار عن مستقبل , فهو من آيات الله المعجزة , وإن كان عن ماض فإن علم به غير المخبر والمخبر لم يكن معجزاً , وإن لم يعلم به أحد وعلم به المخبِر وحده كان معجزاً , فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه علم الغيب , لأنه لا يعلمه غير الله تعالى , وإن ما أخبر به من غيب فهو عن الله ووحيه. {َوَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} فيه وجهان: أحدهما: أنه يريد أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد , وإن قدرت عليه الملائكة. والثاني: أنه يريد بذلك أنه من جملة البشر وليس بمَلَك , لينفي عن نفسه غُلُوَّ النصارى في المسيح وقولهم: إنه ابن الله. ثم في نفيه أن يكون ملكاً وجهان: أحدهما: أنه بَيَّنَ بذلك فضل الملائكة على الأنبياء , لأنه دفع عن نفسه منزلة ليست له. والثاني: أنه أراد إني لست ملكاً في السماء , فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة ويغيب عن البشر , وإن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما تشاهده الملائكة. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن أخبركم إلا بما أخبرني الله به.

والثاني: أن أفعل إلا ما أمرني الله به. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ} يحتمل وجهين: أحدهما: الجاهل والعالم. والثاني: الكافر والمؤمن. {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: فيما ضربه الله من مثل الأعمى والبصير. الثاني: فيما بينه من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله. قوله عز وجل: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِّي}. روي أن سبب نزول هذه الآية أن الملأ من قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من ضعفاء المسلمين مثل بلال , وعمار , وصهيب , وخباب بن الأرت , وابن مسعود , فقالوا: يا محمد اطرد عنا موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا , فلعلك إن طردتهم نتبعك , فقال عمر: لو فعلت ذلك حتى نعلم ما الذي يريدون وإِلاَمَ يصيرون , فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى نزلت هذه الآية. ونزل في الملأ من قريش {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} الآية , فأقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله فيه: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمَنُونَ بِئَأَيَاتِنا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} الآية. وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم} أربعة تأويلات: أحدها: أنها الصلوات الخمس , قاله ابن عباس , ومجاهد. والثاني: أنه ذكر الله , قاله إبراهيم النخعي. والثالث: تعظيم القرآن , قاله أبو جعفر.

والرابع: أنه عبادة الله , قاله الضحاك. ومعنى قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} فيه قولان: أحدهما: يريدون بدعائهم , لأن العرب تذكر وجه الشيء إرادة له مثل قولهم: هذا وجه الصواب تفخيماً للأمر وتعظيماً. والثاني: معناه يريدون طاعته لقصدهم الوجه الذي وجَّهَهُم إليه. {مَا عَلَيكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} فيه ثلاث أقوال: أحدها: يعني ما عليك من حساب عملهم من شيء من ثواب أو عقاب. {وَمَا مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ} يعني وما من حساب عملك عليهم من شيء , لأن كل أحد مؤاخذ بحساب عمله دون غير , قاله الحسن. والثاني: معناه ما عليك من حساب رزقهم وفقرهم من شيء. والثالث: ما عليك كفايتهم ولا عليهم كفايتك , والحساب الكفاية كقوله تعالى: {عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ: 36] أي تاماً كافياً , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} يعني لاختلافهم في الأرزاق , والأخلاق , والأحوال. وفي إفتان الله تعالى لهم قولان: أحدهما: أنه ابتلاؤهم واختبارهم ليختبر به شكر الأغنياء وصبر الفقراء , قاله الحسن , وقتادة. والثاني: تكليف ما يشق على النفس مع قدرتها عليه. {لَّيَقُولُواْ أَهَؤُلآءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} وهذا قول الملأ من قريش

للضعفاء من المؤمنين , وفيما مَنَّ الله تعالى به عليهم قولان: أحدهما: ما تفضل الله به عليهم من اللطف في إيمانهم. والثاني: ما ذكره من شكرهم على طاعته. قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بئَأَيَاتِنَا} يعني به ضعفاء المسلمين وما كان من شأن عمر. {فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه أمر بالسلام عليهم من الله تعالى , قاله الحسن. والثاني: أنه أمر بالسلام عليهم من نفسه تكرمة لهم , قاله بعض المتأخرين. وفي السلام قولان: أحدهما: أنه جمع السلامة. والثاني: أنه السلام هو الله ومعناه ذو السلام. {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فيه قولان: أحدهما: معناه أوجب الله على نفسه. والثاني: كتب في اللوح المحفوظ على نفسه. و {الرَّحْمَةَ} يحتمل المراد بها هنا وجهين: أحدهما: المعونة. والثاني: العفو. {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءَاً بِجَهَالَةٍ} في الجهالة تأويلان:

أحدهما: الخطيئة , قاله الحسن , ومجاهد , والضحاك. والثاني: ما جهل كراهية عاقبته , قاله الزجاج. ويحتمل ثالثاً: أن الجهالة هنا ارتكاب الشبهة بسوء التأويل. {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} يعني تاب من عمله الماضي وأصلح في المستقبل.

55

{وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} قوله عز وجل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي} في البينة هنا قولان: أحدهما: الحق الذي بان له. والثاني: المُعْجِزُ في القرآن. {وَكَذَّبْتُم بِهِ} فيه وجهان: أحدهما: وكذبتم بالبينة. والثاني: وكذبتم بربكم.

{مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ} فيه قولان: أحدهما: ما يستعجلون به من العذاب الذي أُوعِدُوا به قبل وقته , كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} , قاله الحسن. والثاني: ما استعجلوه من اقتراح الآيات لأنه طلب الشيء فى غير وقته , قاله الزجاج. {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} فيه تأويلان: أحدهما: الحكم في الثواب والعقاب. والثاني: الحكم في تمييز الحق من الباطل. {يَقُصُّ الْحَقَّ} قرأ ابن كثير ونافع وعاصم {يَقُصُّ} بصاد غير معجمة من القَصَص وهو الإِخبار به , وقرأ الباقون {يَقْضِي} بالضاد معجمة من القضاء , وهو صنع الحق وإتمامه. قوله عز وجل: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} فيه وجهان: أحدهما: خزائن غيب السموات والأرض والأرزاق والأقدار , وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: الوصول إلى العلم بالغيب. {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فيه وجهان: أحدهما: أن ما في البّر ما على الأرض , وما في البحر ما على الماء , وهو الظاهر , وبه قال الجمهور. والثاني: أن البَرّ القفر , والبحر القُرى لوجود الماء فيها , فلذلك سميت بحراً , قاله مجاهد. {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} يعني قبل يبسها وسقوطها. {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: ما في بطنها من بذر. والثاني: ما تخرجه من زرع. {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الرطب النبات واليابس الجواهر. والثاني: أن الرطب الحي , واليابس الميت. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} يعني في اللوح المحفوظ.

60

{وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيلِ} يعني به النوم , لأنه يقبض الأرواح فيه عن التصرف , كما يقبضها بالموت , ومنه قول الشاعر: (إنَّ بَنِي الأَدْرَدِ لَيْسوا مِن أَحَدْ ... وَلاَ تَوَفَّاهُم قَرَيْشٌ في العَدَدْ) أي لا تقبضهم. {وََيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} أي ما كسبتم لأنه مستفاد بعمل الجارحة , ومنه جوارح الطير لأنها كواسب بجوارحها , وجَرْحُ الشهادة هو الطَّعْن فيها لأنه مكسب الإثم , قاله الأعشى:

(وهوَ الدَّافِعُ عن ذي كُرْبَةٍ ... أيْدِي القَوْمِ إذا الْجَانِي اجْتَرَحْ) {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} يعني في النهار باليقظة , وتصرف الروح بعد قبضها بالنوم. {لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً} يعني استكمال العمر وانقضاء الأجل بالموت. {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} يعني بالبعث والنشور في القيامة. {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من خير وشر. قوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أعلى قهراً , فلذلك قال: {فَوْقَ عِبَادِهِ}. والثاني: أن الأقدر إذا استحق صفة المبالغة عبَّر عنه بمثل هذه العبارة , فقيل: هو فوقه في القدرة أي أقدر , وفوقه في العلم أي أعلم. {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} فيه وجهان: أحدهما: أنه جوارحهم التي تشهد عليهم بما كانوا يعملون. والثاني: الملائكة. ويحتمل {حَفَظَةً} وجهين: أحدهما: حفظ النفوس من الآفات. والثاني: حفظ الأعمال من خير وشر , ليكون العلم بإتيانها أزجر عن الشر , وأبعث على الخير. {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} يعني أسباب الموت , بانقضاء الأجل. فإن قيل: المتولِّي لقبض الروح مَلَك الموت , وقد بين ذلك بقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم} [السجدة: 11] فكيف قال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} والرسل جمع.

قيل: لأن الله أعان مَلَك الموت بأعوان من عنده يتولون ذلك بأمره , فصار التوفِّي من فعل أعوانه , وهو مضاف إليه لمكان أمره , كما يضاف إلى السلطان فعل أعوانه من قتل , أو جلد , إذا كان عن أمره. {وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} فيه وجهان: أحدهما: لا يؤخرون. الثاني: لا يُضَيِّعُونَ , قاله ابن عباس. قوله عز وجل: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُم الْحَقِّ} وفي متولِّي لرد قولان: أحدهما: أنهم الملائكة التي توفتهم. والثاني: أنه الله بالبعث والنشور. وفي ردهم إلى الله وجهان: أحدهما: معناه ردهم إلى تدبير الله وحده , لأن الله دبرهم عند خلقهم وإنشائهم , مكَّنهم من التصرف فصاروا في تدبير أنفسهم , ثم كَفَّهم عنه بالموت فصاروا في تدبير الله كالحالة الأولى , فصاروا بذلك مردودين إليه. والثاني: أنهم ردوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله , فجعل الرد إلى ذلك الموضع رداً إليه. فإن قيل: فكيف قال: {مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} وقد قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم} [محمد: 11]. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنه قال هذا لأنهم دخلوا في جملة غيرهم من المؤمنين المردودين فعمَّهم اللفظ. والثاني: أن المولى قد يعبر به عن الناصر تارة وعن السيد أخرى , والله لا يكون ناصراً للكافرين , وهو سيد الكافرين والمؤمنين.

و {الْحَقِّ} هنا يحتمل ثلاثة أوجه: أحدهما: أن الحق هو من أسمائه تعالى. والثاني: لأنه مستحق الرد عليه. والثالث: لحُكْمِهِ فيهم بالرد. {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} يعني القضاء بين عباده. فإن قيل: فقد جعل لغيره الحكم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن له الحكم في يوم القيامة وحده. والثاني: أن غيره يحكم بأمره فصار الحكم له. ويحتمل قوله: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} وجهاً ثانياً: أن له أن يحكم لنفسه فصار بهذا الحكم مختصاً. {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني سرعة الحكم بين العباد لتعجيل الفصل , وعبر عن الحكم بالحساب من تحقيق المستوفِي بهما من قليل وكثير. والثاني: وهو الظاهر أنه أراد سرعة محاسبة العباد على أعمالهم. ويحتمل مراده بسرعة حسابه وجهين. أحدهما: إظهار قدرته بتعجيل ما يعجز عنه غيره. والثاني: أنه يبين به تعجيل ما يستحق عليه من ثواب , وتعجيل ما يستحق على غيره من عقاب جمعاً بين إنصافه وانتصافه.

63

{قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}

قوله عز وجل: {قَلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن العذاب الذي من فوقهم الرجم , والذي من تحت أرجلهم الخسف , قاله ابن جبير , ومجاهد , وأبو مالك. والثاني: أن العذاب الذي من فوقهم أئمة السوء , والعذاب الذي من تحت أرجلهم عبيد السوء , قاله ابن عباس. والثالث: أن الذي من فوقهم الطوفان , والذي من تحت أرجلهم الريح , حكاه علي بن عيسى. ويحتمل أن العذاب الذي من فوقهم طوارق السماء التي ليست من أفعال العباد لأنها فوقهم , والتي من تحت أرجلهم ما كان من أفعال العباد لأن الأرض تحت أرجل جميعهم. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} فيه تأويلان: أحدهما: أنها الأهواء المُخْتَلَقَة , قاله ابن عباس. والثاني: أنها الفتن والاختلاف , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أي يسلط عليكم أتباعكم الذين كانوا أشياعكم , فيصيروا لكم أعداء بعدما كانوا أولياء , وهذا من أشد الانتقام أن يستعلي الأصاغر على الأكابر. روي أن موسى بن عمران عليه السلام دعا ربه على قوم فأوحى الله إليه: أو ليس هذا هو العذاب العاجل الأليم. هذا قول المفسرين من أهل الظاهر , وَتَأَوَّلَ بعض المتعمقين في غوامض

المعاني {عَذَاباً مِن فَوقِكُمْ} معاصي السمع والبصر واللسان {أَوْمِن تَحْتِ أَرْجلِكُمْ} المشي إلى المعاصي حتى يواقعوها , وما بينهما يأخذ بالأقرب منهما {أَوَيَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} يرفع من بينكم الأُلفة. {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} تكفير أهل الأهوال بعضهم بعضاً , وقول الجمهور: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} يعني بالحروب والقتل حتى يفني بعضهم بعضاً , لأنه لم يجعل الظفر لبعضهم فيبقى. {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ} يحتمل وجهين: أحدهما: نفصل آيات العذاب وأنواع الانتقام. والثاني: نصرف كل نوع من الآيات إلى قوم ولا يعجزنا أن نجمعها على قوم. {لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ} أي يتعظون فينزجرون. واختلف أهل التأويل في نزول هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها في أهل الصلاة , قاله ابن عباس , والحسن , وقتادة , وأن نزولها شق على النبي صلى الله عليه وسلم , [فقام] فصلى صلاة الضحى وأطالها فقيل له: ما أطلت صلاة كاليوم , فقال: (إِنَّهَا صَلاَةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ , إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُجِيرَنِي مِنْ أَرْبعٍ فَأَجَارَنِي مِنْ خَصْلَتِينِ وَلَمْ يُجِرْنِي مِنْ خَصْلَتَينِ: سَأَلْتُهُ أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِعَذَابٍ مِنْ فَوقِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَومِ نُوْحٍ , وَبِقَومِ لُوطٍ فَأَجَارَنِي , وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يَهْلِكَ أُمَّتِي بعذَاب مِنْ تَحْتِ أَرْجلِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ فَأَجَارنِي , وَسَأَلْتُهُ أََلاَّ يُفَرِّقَهُمْ شِيَعاً فَلَمْ يُجِرْنِي , وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يُذِيقَ بَعْضَهُم بَأْسَ بَعْضٍ فَلَمْ يُجِرْنِي) وَنَزَلَ عَلَيهِ قَولُه تعالى: {الم أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 221]

والقول الثاني: أنها نزلت في المشركين , قاله بعض المتأخرين.

66

{وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون} قوله عز وجل: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} وفيما كذَّبوا به قولان: أحدهما: أنه القرآن , قاله الحسن , والسدي. والثاني: تصريف الآيات , قاله بعض المتأخرين. {وَهُوَ الْحَقُّ} يعني ما كذَّبوا به , والفرق بين الحق والصواب أن الحق قد يُدْرَكُ بغير طلب , والصواب لا يُدْرَكُ إلا بطلب. {قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه لست عليكم بحفيظ لأعمالكم لأجازيكم عليها , وإنما أنا منذر , قاله الحسن. والثاني: لست عليكم بحفيظ أمنعكم من أن تكفروا , كما يمنع الوكيل على الشيء من إلحاق الضرر به , قاله بعض المتأخرين. والثالث: معناه لست آخذكم بالإِيمان اضطراراً وإجباراً , كما يأخذ الوكيل بالشيء , قاله الزجاج.

{لِّكُلِ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: معناه أن لكل خَبَرٍ أَخْبَرَ الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقراً في مستقبل الوقت أو ماضيه أو حاضره في الدنيا وفي الآخرة , وهذا معنى قول ابن عباس , ومجاهد. والثاني: أنه وعيد من الله للكافرين في الآخرة لأنهم لا يقرون بالبعث , قاله الحسن. والثالث: أنه وعيد لهم بما ينزل بهم في الدنيا , قاله الزجاج. قوله عز وجل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: وما على الذين يتقون الله في أوامره ونواهيه من حساب الكفار فيما فعلوه من الاستهزاء والتكذيب مآثم يؤاخذون بها , ولكن عليهم أن يذكروهم بالله وآياته لعلهم يتقون ما هم عليه من الاستهزاء والتكذيب , قاله الكلبي. والثاني: وما على الذين يتقون الله من الحساب يوم القيامة ما على الكفار في الحساب من التشديد والتغليظ لأن محاسبة المتقين ذكرى وتخفيف , ومحاسبة الكفار تشديد وتغليظ لعلهم يتقون إذا علموا ذلك. والثالث: وما على الذين يتقون الله فيما فعلوه من رد وصد حساب , ولكن اعدلوا إلى الذكرى لهم بالقول قبل الفعل , لعلهم يتقون إذا علموا. ويحتمل هذا التأويل وجهين: أحدهما: يتقون الاستهزاء والتكذيب. والثاني: يتقون الوعيد والتهديد.

70

{وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم

شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} قوله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار الذين يستهزئون بآيات الله إذا سمعوها , قاله علي بن عيسى. والثاني: أنه ليس قوم لهم عيد يلهون فيه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم , فإن أعيادهم صلاة وتكبير وبر وخير , قاله الفراء. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} يحتمل وجهين: أحدهما: معناه وغرتهم الحياة الدنيا بالسلامة فيها , ونيل المطلوب منها. والثاني: معناه وغرتهم الدنيا بالحياة والسلامة منها , فيكون الغرور على الوجه الأول بالحياة , وعلى الثاني بالدنيا. {وَذَكَّرَ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} قيل معناه أن لا تبسل كما قال تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] بمعنى أن لا تضلوا. وفي قوله: {أَن تُبْسَلَ} ستة أوجه: أحدها: أن تسلم , قاله الحسن , وعكرمة , ومجاهد , والسدي. والثاني: أن تُحْبَس , قاله قتادة. والثالث: أن تُفْضح , قاله ابن عباس. والرابع: أن تُؤْخَذ بما كسبت , قاله ابن زيد. والخامس: أن تُجْزَى , قاله الكلبي. والسادس: أن تُرْتَهن , قاله الفراء , من قولهم أسد باسل لأن فريسته مُرْتَهَنَة معه لا تَفْلِت منه , ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي:

(وإبسالي بني بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق) وقوله: بعوناه أي جنيناه , وأصل الإبسال التحريم من قولهم: شراب بَسْل اي حرام , قال الشاعر: (بَكَرت تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ في النَّدى ... بسلٌ عليكِ مَلاَمَتِي وَعِتَابي) أي حرام عليك. وفي قوله تعالى: { ... وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} تأويلان: أحدهما: معناه وإن تفد كل فدية من جهة المال والثروة , قاله قتادة , والسدي , وابن زيد. والثاني: من جهة الإِسلام والتوبة , قاله الحسن. واختلف في نسخها على قولين: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم} [التوبة: 5] قاله قتادة. والثاني: أنها ثابتة على جهة التهديد كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر: 11] , قاله مجاهد.

71

{قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين

وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير} قوله تعالى: {قَلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} يعني الأصنام , وفي دعائها في هذا الموضع تأويلان: أحدهما: عبادتها. والثاني: طلب النجاح منها. فإن قيل: فكيف قال ولا يضرنا؟ ودعاؤها لما يستحق عليه من العقاب ضارٌّ؟ قيل: معناه ما لا يملك لنا ضراً ولا نفعاً. {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} بالإِسلام. {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ ... } فيه قولان: أحدهما: أنه استدعاؤها إلى قصدها واتباعها , كقوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيهِم} [إبراهيم: 37] أي تقصدهم وتتبعهم. والثاني: أنها أَمْرُهَا بالهوى. وحكى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وامرأته حين دعَوا ابنهما عبد الرحمن إلى الإِسلام والهدى أن يأتيهما. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ} في الحق الذي خلق به السموات والأرض أربعة أقاويل: أحدها: أنه الحكمة. والثاني: الإِحسان إلى العباد. والثالث: نفس خلقها فإنه حق.

والرابع: يعني بكلمة الحق. {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} فيه قولان: أحدهما: أن يقول ليوم القيامة: كن فيكون , لا يثنِّي إليه القول مرة بعد أخرى , قاله مقاتل. والثاني: أنه يقول للسموات كوني صوراً يُنْفَخ فيه لقيام الساعة , فتكون صوراً مثل القرآن , وتبدل سماءً أخرى , قاله الكلبي. وفي قوله تعالى: { ... وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} قولان: أحدهما: أن الصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء , والثانية للإِنشاء علامة للانتهاء والابتداء , وهو معنى قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68]. والثاني: أن الصور جمع صورة تنفخ فيها روحها فتحيا. ثم قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ... } فيه قولان: أحدهما: أنه عائد إلى خلق السموات والأرض , والغيب ما يغيب عنكم , والشهادة ما تشاهدون. والثاني: أنه عائد إلى نفخ الصور هو عالم الغيب والشهادة المتولي للنفخة.

74

{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في

ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِءَازَرَ ... } فيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: أن آزر اسم أبيه , قاله الحسن , والسدي , ومحمد بن إسحاق , قال محمد: كان رجلاً من أهل كوتى قرية من سواد الكوفة. والثاني: أن آزر اسم صنم , وكان اسم أبيه تارح , قال مجاهد. والثالث: أنه ليس باسم , وإنما هو صفة سب بعيب , ومعناه معوج , كأنه عابه باعوجاجه عن الحق , قاله الفراء. فإن قيل: فكيف يصح من إبراهيم - وهو نبي - سبَّ أباه؟ قيل: لأنه سبّه بتضييعه حق الله تعالى , وحق الوالد يسقط في تضييع حق الله.

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ} ذلك وذاك وذا: إشارات , إلا أن ذا لما قَرُبَ , وذلك لما بَعُد , وذاك لتفخيم شأن ما بَعُدَ. وفي المراد بملكوت السموات والأرض خمسة أوجه: أحدها: أنه خلق السموات والأرض , قاله ابن عباس. والثاني: مُلْك السموات والأرض. واختلف من قال بهذا فيه على وجهين: أحدهما: أن الملكوت هو المُلْك بالنبطية , قاله مجاهد. والثاني: أنه المُلْك بالعربية , يقال مُلْك وملكوت كما يقال رهبة ورهبوت , ورحمة ورحموت , والعرب تقول: رهبوت خير من رحموت , أي أن نُرْهَب خير من أن نُرْحَم , قاله الأخفش. والثالث: معناه آيات السموات والأرض , قاله مقاتل. والرابع: هو الشمس والقمر والنجوم , قاله الضحاك. والخامس: أن ملكوت السماوات: القمر , والنجوم , والشمس , وملكوت الأرض: الجبال , والشجر , والبحار , قاله قتادة. {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: من الموقنين لوحدانية الله تعالى وقدرته.

والثاني: من الموقنين نبوته وصحة رسالته. قوله عز وجل: {فَلمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيلُ رَءَا كَوْكَباً} قال مجاهد: ذكر لنا أنه رأى الزهرة طلعت عشاءً. {قَالَ هَذَا رَبِّي} ومعنى جَنَّ عليه الليل , أي ستره , ولذلك سمي البستان جَنَة لأن الشجر يسترها , والجِنُّ لاستتارهم عن العيون , والجُنُون لأنه يستر العقل , والجَنِين لأنه مستور في البطن , والمِجَنّ لأنه يستر المتترس , قال الهذلي: (وماء وردت قيل الكرى ... وقد جنه السدف الأدهم) وفي قوله تعالى: {هَذَا رَبِّي} خمسة أقاويل: أحدها: أنه قال: هذا ربي في ظني , لأنه في حال تقليب واستدلال. والثاني: أنه قال ذلك اعتقاداً أنه ربه , قاله ابن عباس. والثالث: أنه قال ذلك في حال الطفولية والصغر , لأن أمه ولدته في مغارة حذراً عليه من نمرود , فلما خرج عنه قال هذا القول قبل قيام الحجة عليه , لأنها حال لا يصح فيها كفر ولا إيمان , ولا يجوز أن يكون قال ذلك بعد البلوغ. والرابع: أنه لم يقل ذلك قول معتقد , وإنما قاله على وجه الإِنكار لعبادة

الأصنام , فإذا كان الكوكب والشمس القمر وما لم تصنعه يد ولا عَمِلَه بشر لم تكن معبودة لزوالها , فالأصنام التي هي دونها أولى ألاّ تكون معبودة. والخامس: أنه قال ذلك توبيخاً على وجه الإِنكار الذي يكون معه ألف الاستفهام وتقديره: أهذا ربي , كما قال الشاعر: (رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجه هم هم) بمعنى أهم هم؟ {فَلَمَّا أَفَلَ} أي غاب , قال ذو الرمة: (مصابيح ليست باللواتي يقودها ... نجوم ولا بالآفلات الدوالك) {قَالَ لاَ أُحِبُّ الأفِلِينَ} يعني حُبَّ رَبٍّ معبود , وإلا فلا حرج في محبتهم غير حب الرب. {فَلمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً} أي طالعاً , وكذلك بزغت الشمس أي طلعت. فإن قيل: فَلِمَ كان أفولها دليلاً على أنه لا يجوز عبادتها وقد عبدها مع العلم بأفولها خلق من العقلاء؟ قيل لأن تغيرها بالأفول دليل على أنها مُدَبَّرة محدثة , وما كان بهذه الصفة استحال أن يكون إلهاً معبوداً.

80

{وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل

به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم} قوله تعالى: {الَّذِينَءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلمٍ} في الظلم ها هنا قولان: أحدهما: أنه الشرك , قاله ابن مسعود , وأُبَيّ بن كعب , روى ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين فقالوا: ما منَّا من أحد إلا وهو يظلم نفسه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَيسَ كَمَا تَظُنُّونَ , وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لَقْمَانُ لابْنِه} {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الْشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. والثاني: أنه سائر أنواع الظلم. ومن قال بهذا اختلفوا في عمومها وخصوصها على قولين: أحدهما: أنها عامة. والثاني: أنها خاصة. واختلف من قال بتخصيصها فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أن هذه الآية نزلت في إبراهيم خاصة وليس لهذه الأمة منها شيء , قاله علي كرّم الله وجهه. والثاني: أنها فيمن هاجر إلى المدينة , قاله عكرمة.

واختلفوا فيمن كانت هذه الآية جواباً منه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جواب من الله تعالى فصل به بين إبراهيم ومن حَاجّه من قومه , قاله ابن زيد , وابن إسحاق. والثاني: أنه جواب قومه لما سألهم {أَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ}؟ فأجاوبا بما فيه الحجة عليهم , قاله ابن جريج. والثالث: أنه جواب إبراهيم كما يسأل العالم نفسصه فيجيبها , حكاه الزجاج. قوله تعالى: {وَتَلْكَ جُجَّتُنآءَاتَينَاهآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وفي هذه الحجة التي أوتيها ثلاثة أقاويل: أحدها: قوله لهم: {أَتَعُْبدُونَ مِنْ دِونِ اللَّهِ مَا لاَ يمْلِكُ لَكُم ضَراً وَلاَ نَفْعاً} أم تعبدون من يملك الضر والنفع؟ فقالوا: مالك الضر والنفع أحق. والثاني: أنه لما قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ} عبادة إله واحد أم آلهة شتى؟ فقالوا: عبادة إله واحد فأقروا على أنفسهم. والثالث: أنهم لما قالوا لإِبراهيم ألا تخاف أن تخبلك آلهتنا؟ فقال: أما تخافون أن تخبلكم آلهتكم بجمعكم للصغير مع الكبير في العبادة. واختلفوا في سبب ظهور الحجَّة لإبراهيم على قولين: أحدهما: أن الله تعالى أخطرها بباله حتى استخرجها بفكره. والثاني: أنه أمره بها ولقنه إياها. {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَشَاءُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: عند الله بالوصول لمعرفته. والثاني: على الخلق بالاصطفاء لرسالته. والثالث: بالسخاء. والرابع: بحسن الخلق. وفيه تقديم وتأخير , وتقديره: نرفع من نشاء درجات.

84

{ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن

ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} قوله عز وجل: { ... فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} فيهم خمسة أقاويل: أحدها: فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الأنصار , قاله الضحاك. والثاني: فإن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا بها أهل المدينة , قاله ابن عباس. والثالث: فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة , قاله أبو رجاء. والرابع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى من قبل بقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} , قاله الحسن , وقتادة. والخامس: أنهم كل المؤمنين , قاله بعض المتأخرين. ومعنى قوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي أقمنا بحفظها ونصرتها , يعني: كتب الله وشريعة دينه.

91

{وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} قوله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: وما عظموه حق عظمته , قاله الحسن , والفراء , والزجاج. والثاني: وما عرفوه حق معرفته , قاله أبو عبيدة. والثالث: وما وصفوه حق صفته , قاله الخليل. والرابع: وما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير , قاله ابن عباس. {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ} يعني من كتاب من السماء. وفي هذا الكتاب الذي أنكروا نزوله قولان: أحدهما: أنه التوراة , أنكر حبر اليهود فيما أنزل منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى هذا الحبر اليهودي سميناً , فقال له: (أَمَا تَقْرَءُونَ فِي التَّورَاةِ: أَنَّ اللَّه يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَ) فغضب من ذلك وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء , فتبرأت منه اليهود ولعنته , حكاه ابن بحر. والقول الثاني: أنه القرآن أنكروه رداً لأن يكون القرآن مُنَزَّلاً. وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: قريش. والثاني: اليهود. فرد الله تعالى عليهم بقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى} يعني التوراة لاعترافهم بنزولها.

ثم قال: {نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ} لأن المنزل من السماء لا يكون إلا نوراً وهدىً. ثم قال: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} يعني أنهم يخفون ما في كتابهم من بنوة محمد صلى الله عليه وسلم , وصفته وصحة رسالته. قوله عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلَنَاهُ مُبَارَكٌ} يعني القرآن , وفي {مُبارَكٌ} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه العظيم البركة لما فيه من الاستشهاد به. والثاني: لما فيه من زيادة البيان لأن البركة هي الزيادة. والثالث: أن المبارك الثابت. {مُّصَدِقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} فيه قولان: أحدهما: الكتب التي قبله من التوراة , والإِنجيل , وغيرهما , قاله الحسن البصري. والثاني: النشأة الثانية , قاله علي بن عيسى. {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} يعني أهل أم القرى , فحذف ذكر الأهل إيجازاً كما قال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]. و {أُمَّ الْقُرَى} مكة وفي تسميتها بذلك أربعة أقاويل: - أحدها: لأنها مجتمع القرى , كما يجتمع الأولاد إلى الأم. والثاني: لأن أول بيت وضع بها , فكأن القرى نشأت عنها , قاله السدي. والثالث: لأنها معظمة كتعظيم الأم , قاله الزجاج. والرابع: لأن الناس يؤمونها من كل جانب , أي يقصدونها. ثم قال: {وَمَنْ حَوْلَهَا} قال ابن عباس: هم أهل الأرض كلها.

{وَالَّذِينَ يَؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وفيما ترجع إليه هذه الكناية قولان: أحدهما: إلى الكتاب , وتقديره: والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بهذا الكتاب , قاله الكلبي. والثاني: إلى محمد صلى الله عليه وسلم , وتقديره: والذين يؤمنون بالآخرة , يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لِمَا قد أظهر الله تعالى من معجزته وأَبَانَه الله من صدقه , قاله الفراء. فإن قيل: فيمن يؤمن بالآخرة من أهل الكتاب لا يؤمنون به؟ قيل: لا اعتبار لإِيمانهم بها لتقصيرهم في حقها , فصاروا بمثابة من لم يؤمن بها.

93

{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون} قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيْءٌ} فيمن نزل فيه ذلك قولان: أحدهما: أنه مسيلمة الكذاب , قاله عكرمة. والثاني: مسيلمة والعنسي , قاله قتادة. وقد روى معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ كَأَنَّ

فِي يَديَّ سُوَارَينِ مِن ذَهبٍ , فَكَبُرَ عليَّ , فَأُوحِي إِلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا , فَأَوَّلْتُ ذَلِكََ كَذَّابَ اليَمَامَةِ وَكَذَّابَ صَنْعَاءَ العَنَسِي). {وَمَن قَالَ سَأُنزِلَ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: من تقدم ذكره من مدعي الوحي والنبوة. والثاني: أنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح , قاله السدي , قال الفراء: كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال النبي: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} كتب {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} و {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (هُمَا سَوَاء) حتى أملى عليه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ} إلى قوله: {خَلْقاً أَخَرَ} فقال ابن أبي السرح: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَْحْسَنُ الْخَالِقِينَ} تعجباً من تفصيل خلق الإِنسان , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هَكَذَا نَزَلَتْ) فشك وارتد. والثالث: ما حكاه الحكم عن عكرمة: أنها نزلت في النضر بن الحارث , لأنه عارض القرآن , لأنه قال: والطاحنات طحناً , والعاجنات عجناً , والخابزات خبزاً , فاللاقمات لقماً. وفي قوله: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} قولان: أحدهما: باسطوا أيديهم بالعذاب , قاله الحسن , والضحاك. والثاني: باسطو أيديهم لقبض الأرواح من الأجساد , قاله الفراء. ويحتمل ثالثاً: باسطوا أيديهم بصحائف الأعمال. {أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ} فيه قولان: أحدهما: من أجسادكم عند معاينة الموت إرهاقاً لهم وتغليظاً عليهم , وإن كان إخراجها من فعل غيرهم.

والثاني: أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم , تقريعاً لهم وتوبيخاً بظلم أنفسهم , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: أن يكون معناه خلصوا أنفسكم بالاحتجاج عنها فيما فعلتم. {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} والهون بالضم الهوان , قاله ذو الأصبع العدواني: (أذهب إليك أمي براعية ... ترعى المخاض ولا أغضي على الهون) وأما الهَوْن بالفتح فهو الرفق ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوناً} يعني برفق وسكينة , قال الراجز: (هونكما لا يرد الدهر ما فاتا ... لا تهلكن أسى في أثر من ماتا) قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الفرادى الواحدان , ويحتمل وجهين: أحدهما: فرادى من الأعوان. والثاني: فرادى من الأموال. {وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ} يعني ما ملكناكم من الأموال , والتخويل تمليك المال , قال أبو النجم: (أعطى فلم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول) {وَمَا نَرَى مَعَكُم شُفعاءَكُمُ} فيه وجهان: أحدهما: آلهتهم التي كانوا يعبدونها , قاله الكلبي. والثاني: الملائكة الذين كانوا يعتقدون شفاعتهم , قاله مقاتل.

{الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ} فيه وجهان: أحدهما: يعني شفعاء , قاله الكلبي. والثاني: أى متحملين عنكم تحمل الشركاء عن الشركاء. {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: تفرق جمعكم في الآخرة. والثاني: ذهب تواصلكم في الدنيا , قاله مجاهد. ومن قرأ {بَيْنَكُمْ} بالفتح , فمعناه تقطع الأمر بينكم. {وَضَلَّ عَنَكُم مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من عدم البعث والجزاء. والثاني: من شفعائكم عند الله. فإن قيل: فقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} خبر عن ماض , والمقصود منه الاستقبال؟ فعن ذلك جوابان. أحدهما: أنه يقال لهم ذلك في الآخرة فهو على الظاهر إخبار. والثاني: أنه لتحققه بمنزلة ما كان , فجاز , وإن كان مستقبلاً أن يعبر عنه بالماضي.

95

{إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} قوله عز وجل: { ... فَالِقُ الْحَبِّ وَالْنُّوَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني فالق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة , قاله الحسن. وقتادة , والسدي , وابن زيد.

والثاني: أن الفلق الشق الذي فيهما , قال مجاهد. والثالث: أنه يعني خالق الحب والنوى , قاله ابن عباس. وذكر بعض أصحاب الغوامض قولاً رابعاً: أنه مُظْهِرُ ما في حبة القلب من الإخلاص , والرياء. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الَحيِّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة , والنخلة الحية من النواة الميتة , ويعني بإخراج الميت من الحي أن يخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية , والنواة الميتة من النخلة الحية , قاله السدي. والثاني: أن يخرج الإِنسان من النطفة , والنطفة من الإِنسان , قاله ابن عباس. والثالث: يخرج المؤمن من الكافر , والكافر من المؤمن , قاله الحسن. وقد ذكرنا فيه احتمالاً , أنه يخرج الفَطِن الجَلْد من البليد العاجز , ويخرج البليد العاجز من الفَطِن الجَلْد. {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي تصرفون عن الحق. {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: فالق الإِصباح , قاله قتادة. والثاني: أنه إضاءة الفجر , قاله مجاهد. والثالث: أن معناه خالق نور النهار , وهذا قول الضحاك. والرابع: أن الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل , قاله ابن عباس. {وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً} فيه قولان:

أحدهما: أنه سُمِّي سكناً لأن كل متحرك بالنهار يسكن فيه. والثاني: لأن كل حي يأوي فيه إلى مسكنه. {وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه يجريان في منازلهما بحساب وبرهان فيه بدء ورد إلى زيادة ونقصان , قاله ابن عباس والسدي. والثاني: أي جعلهما سبباً لمعرفة حساب الشهور والأعوام. والثالث: أي جعل الشمس والقمر ضياء , قاله قتادة , وكأنه أخذه من قوله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَآءِ} [الكهف: 40] قال: ناراً.

98

{وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِّن نَّفْسِ وَاحِدَةٍ} يعني آدم عليه السلام. {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَودَعٌ} فيه ستة تأويلات: أحدها: فمستقر في الأرض ومستودع في الأصلاب , قاله ابن عباس. والثاني: فمستقر في الرحم ومستودع في القبر , قاله ابن مسعود. والثالث: فمستقر في أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال , قاله عطاء , وقتادة.

والرابع: فمستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة , قاله مجاهد. والخامس: فمستقر في الأرض ومستودع في القبر , قاله الحسن. والسادس: أن المستقر ما خُلِق , والمستودع ما لم يُخلق , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} فيه قولان: أحدهما: معناه رزق كل شيء من الحيوان. والثاني: نبات كل شيء من الثمار. {فَأَخْرجْنَا مِنهُ خَضِراً} يعني زرعاً رطباً بخلاف صفته عند بذره. {نُّخْرِجُ مِنهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} يعني السنبل الذي قد تراكب حبه. {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيةٌ} القنوان جمع قنو وفيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: أنه الطلع , قاله الضحاك. والثاني: أنه الجمار. والثالث: هي الأعذاق , قال امرؤ القيس (أثت أعاليه وآدت أصوله ... ومال بقنوان من البسر أحمرا) {دَانِيَةٌ} فيه قولان: أحدهما: دانية من المجتني لقصر نخلها وقرب تناولها , قاله ابن عباس. والثاني: داينة بعضها من بعض لتقاربها , قاله الحسن. {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} يعني بساتين من أعناب. {مُشْتَبِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ} فيه وجهان: أحدهما: مشتبها ورقه مختلفاً ثمره , قال قتادة.

والثاني: مشتبهاً لونه مختلفاً طعمه , قاله الكلبي. {انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قرأ حمزة والكسائي بالضم , وقرأ الباقون بالفتح , وفي اختلافه بالضم والفتح قولان: أحدهما: أن الثُّمُر بالضم جمع ثمار , وبالفتح جمع ثمرة , قاله علي بن عيسى. والثاني: أن الثُّمُر بالضم: المال , وبالفتح: ثمر النخل , قاله مجاهد , وأبو جعفر الطبري. {وَيَنْعِهِ} يعني نضجة وبلوغه.

100

{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المجوس نسبت الشر إلى إبليس , وتجعله بذلك شريكاً لله. والثاني: أن مشركي العرب جعلوا الملائكة بنات الله وشركاء له , قاله قتادة , والسدي , وابن زيد كقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَينَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} فَسَمَّى الملائكة لاختفائهم عن العيون جنة. والثالث: أنه أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان حتى جعلوها شركاء لله في العبادة , قاله الحسن , والزجاج. {وَخَلَقَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه خلقهم بلا شريك [له] , فَلِمَ جعلوا له في العبادة شريكاً؟. والثاني: أنه خلق من جعلوه شريكاً فكيف صار في العبادة شريكاً.

وقرأ يحيى بن يعمر {وَخَلْقَهُمْ} بتسكين اللام. ومعناه أنهم جعلوا خلقهم الذي صنعوه بأيديهم من الأصنام لله شريكاً. {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} في خرقوا قراءتان بالتخفيف والتشديد , وفيه قولان: أحدهما: أن معنى خرقوا كذبوا , قاله مجاهد , وقتادة , وابن جريج , وابن زيد. والثاني: معناه وخلقوا له بنين وبنات , والخلق والخرق واحد , قاله الفراء. والقول الثاني: أن معنى القراءتين مختلف , وفي اختلافهما قولان: أحدهما: أنها بالتشديد على التكثير. والثاني: أن معناها بالتخفيف كذبوا , وبالتشديد اختلفوا. والبنون قول النصارى في المسيح أنه ابن الله , وقول اليهود أن عزيراً ابن الله. والبنات قول مشركي العرب في الملائكة أنهم بنات الله. {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: بغير علم منهم أن له بنين وبنات. والثاني: بغير حجة تدلهم على أن له بنين وبنات.

101

{بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} قوله عز وجل: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فيه لأهل التأويل خمسة أقاويل:

أحدها: معناه لا تحيط به الأبصار , وهو يحيط بالأبصار , واعتل قائل هذا بقوله: {فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} فوصف الله الغرق بأنه أدرك فرعون , وليس الغرق موصوفاً بالرؤية , كذلك الإدراك هنا , وليس ذلك بمانع من الرؤية بالإِبصار , غير أن هذا اللفظ لا يقتضيه وإن دل عليه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. والقول الثاني: معناه لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار , واعتل قائلو ذلك بأمرين: أحدهما: أن الأبصار ترى ما بينها ولا ترى ما لاصقها , وما بين البصر فلا بد أن يكون بينهما فضاء , فلو رأته الأبصار لكان محدوداً ولخلا منه مكان , وهذه صفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان. والثاني: أن الأبصار تدرك الألوان كما أن السمع يدرك الأصوات , فلما امتنع أن يكون ذا لون امتنع أن يكون مرئياً , كما أن ما امتنع أن يكون ذا صوت امتنع أن يكون مسموعاً. والقول الثالث: لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا بدليل قوله: {لاَ تَدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وتدركه في الآخرة بدليل قوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة. والرابع: لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة , وتدركه أبصار المؤمنين , وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة , لأن الإِدراك له كرامة تنتفي عن أهل المعاصي.

والقول الخامس: أن الأبصار لا تدركه في الدنيا والآخرة , ولكن الله يحدث لأوليائه حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس يرونه بها , اعتِلاَلاً بأن الله أخبر برؤيته , فلو جاز أن يُرَى في الآخرة بهذه الأبصار وإن زِيْدَ في قواها جاز أن يرى بها في الدنيا وإن ضعفت قواها بأضعف من رؤية الآخرة , لأن ما خُلِقَ لإِدراك شيء لا يُعْدَمُ إدراكه , وإنما يختلف الإِدراك بحسب اختلاف القوة والضعف , فلما كان هذا مانعاً من الإدراك - وقد أخبر الله تعالى بإدراكه - اقتضى أن يكون ما أخبر به حقاً لا يدفع بالشبه , وذلك بخلق حاسة أخرى يقع بها الإِدراك. ثم قال: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} فاحتمل وجهين من التأويل: أحدهما: لطيف بعباده في الإِنعام عليهم , خبير بمصالحهم. والثاني: لطيف في التدبير خبير بالحكمة.

104

{قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون} قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل. والثاني: أن الآية تنصرف في معان متغايرة مبالغة في الإِعجاز ومباينة لكلام البشر. والثالث: أنه اختلاف ما تضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي , ليكون أبلغ في الزجر , وأدعى إلى الإِجابة , وأجمع للمصلحة. ثم قال تعالى: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} وفي الكلام حذف , وتقديره: ولئلا يقولوا درست , فحذف ذلك إيجازاً كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 167] أي لئلا تضلوا. وفي {دَرَسْتَ} خمس قراءات يختلف تأويلها بحسب اختلافها:

إحداهن: {َدَرَسْتَ} بمعنى قرأت وتعلمت , تقول ذلك قريش للنبي صلى الله عليه وسلم , قاله ابن عباس , والضحاك , وهي قراءة حمزة , والكسائي. والثانية: {دَارَسْتَ} بمعنى ذاكرت وقارأت , قاله مجاهد , وسعيد بن جبير , ومروي عن ابن عباس , وهي قراءة ابن كثير , وأبي عمرو. وفيها على هذه القراءة تأويل ثانٍ , أنها بمعنى خاصمت وجادلت. والثالثة: {دَرَسَتْ} بتسكين التاء بمعنى انمحت وتقادمت , قاله ابن الزبير , والحسن , وهي قراءة ابن عامر. والرابعة: {دُرِسَتْ} بضم الدال لما لم يسم فاعله تليت وقرئت , قاله قتادة. والخامسة: {دَرَسَ} بمعنى قرأ النبي صلى الله عليه وسلم وتلا , وهذا حرف أبي بن كعب , وابن مسعود. {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لقوم يعقلون. والثاني: يعلمون وجوه البيان وإن لم يعلموا المبين.

106

{اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا

لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَاْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني اعتداء , وقرأ أهل مكة عَدُوّاً بالتشديد بمعنى أنهم اتخذوه عدوّاً. وفيه قولان: أحدهما: لا تسبوا الأصنام فتسب عبدة الأصنام من يسبها , قاله السدي. والثاني: لا تسبوها فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سَبَبْتم ما يعبدون. {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كما زينا لكم فعل ما أمرناكم به من الطاعات كذلك زينا لمن تقدم من المؤمنين فعل ما أمرناهم به من الطاعات , قاله الحسن. والثاني: كذلك شبهنا لكل أهل دين عملهم بالشبهات ابتلاء لهم حتى قادهم الهوى إليها وعَمُوا عن الرشد فيها. والثالث: كما أوضحنا لكم الحِجج الدالة على الحق كذلك أوضحنا لمن قبلكم من حِجج الحق مثل ما أوضحنا لكم.

109

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} هؤلاء قوم من مشركي أهل مكة حلفوا بالله لرسوله صلى الله عليه وسلم لئن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها , قال ابن جريج: هم المستهزئون. واختلف في الآية التي اقترحوها على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن تجعل لنا الصفا ذهباً. والثاني: ما ذكره الله في آخر: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسِقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَينَا كِسَفَاً} إلى قوله: {كِتَاباً نَقْرؤُهُ} فأمر الله نبيه حين أقسموا له أن يقول لهم {قُلْ إِنَّمَا الأَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}. والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى في الشعراء: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُم لَهَا خَاضِعِينَ} قال المشركون: أنزلها علينا حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين , فقال المؤمنون: يا رسول الله أنزلها عليهم ليؤمنوا , فأنزل الله تعالى هذه الآية , قاله الكلبي: وليس يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم لا سيما إذا علم أنهم لا يؤمنون بها , واختلف في وجوبها عليه إذا علم إيمانهم بها على قولين وقد أخبر أنهم لا يؤمنون بقوله: {وَمَا يُشْعُرِكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}. ثم قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم وَأَبْصَارَهُم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهذا من الله عقوبة لهم , وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عقوبة من الله في الآخرة يقلبها في النار. والثاني: في الدنيا بالحيرة حتى يزعج النفس ويغمها. والثالث: معناه أننا نحيط بذات الصدور وخائنة الأعين منهم. وفي قوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} تأويلان: أحدهما: أول مرة جاءتهم الآيات. والثاني: أن الأول أحوالهم في الدنيا كلها , ثم أكد الله تعالى حال عنتهم.

111

{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون}

فقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} فيه قراءاتان: إحداهما: {قِبَلا} بكسر القاف وفتح الباء , قرأ بها نافع , وابن عامر , ومعنى ذلك معاينة ومجاهرة , قاله ابن عباس وقتادة. والقراءة الثانية: بضم القاف والباء وهي قراءة الباقين , وفي تأويلها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن القُبُل جمع قبيل وهو الكفيل , فيكون معنى {قُبُلاً} أي كُفَلاء. والثاني: أن معنى ذلك قبيلة قبيلة وصفاً صفاً , قاله مجاهد. والثالث: معناه مقابلة , قاله ابن زيد , وابن إسحاق. ثم قال: {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} يعني بهذه الآيات مع ما اقترحوها من قبل. ثم قال: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} فيه قولان: أحدهما: أن يعينهم عليه. والثاني: إلا أن يشاء أن يجبرهم عليه , قاله الحسن البصري. ثم قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يجهلون فيما يقترحونه من الآيات. والثاني: يجهلون أنهم لو أجيبوا إلى ما اقترحوا لم يؤمنوا طوعاً.

112

{وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً} أي جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء. وفي {جَعَلْنَا} وجهان:

أحدهما: معناه حكمنا بأنهم أعداء. والثاني: معناه تركناهم على العداوة , فلم نمنعهم منها. وفي {شَيَاطِينَ الإْنسِ وَالْجِنِّ} ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني شياطين الإنس الذين مع الإنس , وشياطين الجن الذين مع الجن , قاله عكرمة , والسدي. والثاني: شياطين الإنس كفارهم , وشياطين الجن كفارهم , قاله مجاهد. والثالث: أن شياطين الإنس والجن مردتهم , قاله الحسن , وقتادة. {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} في يوحي ثلاثة أوجه: أحدها: يعني يوسوس بعضهم بعضاً. والثاني: يشير بعضهم إلى بعض , فعبر عن الإشارة بالوحي كقوله: {فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 11] و {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ما زينوه لهم من الشبه في الكفر وارتكاب المعاصي. والثالث: يأمر بعضهم بعضاً كقوله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] أي أمر. ثم قال: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما فعلوه من الكفر. والثاني: ما فعلوا من زخرف القول. وفي تركهم على ذلك قولان: أحدهما: ابتلاء لهم وتمييزاً للمؤمنين منهم. والثاني: لا يلجئهم إلى الإيمان فيزول التكليف.

قوله عز وجل: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ} أي تميل إليه قلوبهم , والإصغاء: الميل , قال الشاعر: (ترى السفيه به عن كل محكمة ... زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء) وتقدير الكلام , يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ليغروهم ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة , وقال قوم: بل هي لام أمر ومعناها الخبر. {وَلِيَرْضَوْهُ} لأن من مَالَ قلبه إلى شيء رضيه وإن لم يكن مرضياً. {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وليكتسبوا من الشرك والمعاصي ما هم مكتسبون , قاله جويبر. والثاني: وليكذبوا على الله ورسوله ما هم كاذبون , وهو محتمل.

114

{أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} فيه وجهان: أحدهما: معناه هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله حتى أعدل عنه. والثاني: هل يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحتكم إليه. والفرق بين الحَكَم والحَاكِم , أن الحَكَمَ هو الذي يكون أهلاً للحُكْم فلا يَحْكُمُ إلا بحق , والحَاكِمُ قد يكون من غير أهله فَيَحْكُمُ بغير حق , فصار الحَكَم من صفات ذاته , والحَاكِم من صفات فعله , فكان الحَكَم أبلغ في المدح من الحَاكِم.

ثم قال: {وُهُوَ الَّذِيِّ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} في المفصَّل أربعة تأويلات: أحدها: تفصيل آياته لتبيان معانيه فلا تُشْكِل. والثاني: تفصيل الصادق من الكاذب. والثالث: تفصيل الحق من الباطل , والهدى من الضلال , قاله الحسن. والرابع: تفصيل الأمر من النهي , والمستحب من المحظور , والحلال من الحرام. وسبب نزول هذه الآية أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حَكَماً إن شئت من أحبار اليهود وإن شئت من أحبار النصارى , ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك , فنزلت عليه هذه الآية. قوله عز وجل: {وَتَمَّتَ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} يعني القرآن , وفي تمامه أربعة أوجه محتملة: أحدها: تمام حُجَجِهِ ودلائله. والثاني: تمام أحكامه وأوامره. والثالث: تمام إنذاره بالوعد والوعيد. والرابع: تمام كلامه واستكمال صوره. وفي قوله: {صِدْقاً وَعَدْلاً} وجهان: أحدهما: صدقاً في وعده ووعهده , وعدلاً في أمره ونهيه , قاله ابن بحر. والثاني: صدقاً فيما حكاه , عدلاً فيما قضاه , وهو معنى قول قتادة. وقد مضى تفسير {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}.

116

{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما

حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} قوله عز وجل: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإْثْمِ وَبَاطِنهُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: سره وعلانيته , قاله مجاهد , وقتادة. والثاني: ظاهر الإثم: ما حرم من نكاح ذوات المحارم بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ ... } الآية. وباطنه الزِّنى , قاله سعيد بن جبير. والثالث: أن ظاهر الإثم أُوْلاَت الرايات من الزواني , والباطن ذوات الأخدان , لأنهن كُنَّ يستحللنه سراً , قاله السدي , والضحاك. والرابع: أن ظاهر الإثم العِرية التي كانو يعملون بها حين يطوفون بالبيت عراة , وباطنه الزِّنى , قاله ابن زيد. ويحتمل خامساً: أن ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح , وباطنه ما يعتقده بالقلب.

121

{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} قوله عز وجل: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: المراد بها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها , قاله عطاء. والثاني: أنها الميتة , قاله ابن عباس. والثالث: أنه صيد المشركين الذين لا يذكرون اسم الله , ولا هم من أهل التسمية , يَحْرُمُ على المسلمين أن يأكلوه حتى يكونوا هم الذين صادوه , حكاه ابن بحر.

والرابع: أنه ما لم يُسَمَّ اللَّهُ عند ذبحه. وفي تحريم أكله ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يحرم [سواء] تركها عامداً أو ناسياً , قاله الحسن , والشافعي. والثاني: يحرم إن تركها عامداً , ولا يحرم إن تركها ناسياً , قاله أبو حنيفة. والثالث: يحرم سواء تركها عامداً أو ناسياً , قاله ابن سيرين , وداود. {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فيه تأويلان: أحدهما: أن المراد به المعصية , قاله ابن عباس. والثاني: المراد به الإِثم. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوْحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} يعني المجادلة في الذبيحة , وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى بالشياطين قوماً من أهل فارس كتبوا إلى أوليائهم من قريش أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله , ولا يأكلون ما ذبح الله يعني الميتة , ويأكلون ما ذبحوه لأنفسهم , فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية , قاله عكرمة. والثاني: أن الشياطين قالوا ذلك لأوليائهم من قريش , قاله ابن عباس. والثالث: أن قوماً من اليهود قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , وهذا مروي عن ابن عباس. وفي وحيهم إليهم وجهان: أحدهما: أنها إشارتهم. والثاني: رسالتهم. {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} يعني في أكل الميتة , إنكم لمشركون إن استحللتموها.

122

{أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}

قوله عز وجل: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كان ميتاً حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح [فيه] , حكاه ابن بحر. والثاني: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالهداية إلى الإيمان , حكاه ابن عيسى. والثالث: كان ميتاً بالجهل فأحييناه بالعمل , أنشدني بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة. (وفي الجهل قبل الموت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور) (وإن امرءا لم يحيى بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور) {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن النور القرآن , قاله الحسن. والثاني: انه العلم الذي يهدي إلى الرشد. والثالث: أنه حُسْنُ الإيمان. وقوله: {يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ينشر به ذكر دينه بين الناس في الدنيا حتى يصير كالماشي. والثاني: يهتدي به بين الناس إلى الجنة فيكون هو الماشي. {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} فيه قولان: أحدهما: أن الظلمات الكفر. والثاني: الجهل , وشبهه بالظلمة لأن صاحبه في حيرة تفضي به إلى الهلكة كحيرة الماشي في الظلمة. واختلفوا في هذه الآية على قولين. أحدهما: أنها على العموم في كل مؤمن وكافر , قاله الحسن وغيره من أهل العلم. والثاني: أنها على الخصوص في مُعَيَّن. وفيمن تعين نزول ذلك فيه قولان: أحدهما: أن المؤمن عمر بن الخطاب , والكافر أبو جهل , قاله الضحاك. ومقاتل.

والثاني: أن المؤمن عمار بن ياسر , والكافر أبو جهل , قاله عكرمة , والكلبي.

123

{وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} قوله عز وجل: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْءَايَةٌ} يعني علامة تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته. {قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لن نؤمن بالآية. والثاني: لن نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم. {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: مثل ما أوتي رسل الله من الكرامة. الثاني: مثل ما أوتوا من النبوة. {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قصد بذلك أمرين: أحدهما: تفرد الله تعالى بعلم المصلحة فيمن يستحق الرسالة. والثاني: الرد عليهم في سؤال ما لا يستحقونه , والمنع مما لا يجوز أن يسألوه. {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجرَمُواْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} الصَّغَار: الذل سمي صَغَاراً لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه. وفي قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} ثلاثة أوجه: أحدها: من عند الله , فحذف (من) إيجازاً. والثاني: أن أنفتهم من اتباع الحق صَغَار عند الله وذل إن كان عندهم تكبراً وعزاً , قاله الفراء. والثالث: صَغَار في الآخرة , قاله الزجاج.

125

{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} قوله عز وجل: {فَمَن يُرِِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} فيه قولان: أحدهما: يهديه إلى نيل الثواب واستحقاق الكرامة.

والثاني: يهديه إلى الدلائل المؤدية إلى الحق. {يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} يعني بشرح الصدر سعته لدخول الأسلام إيه وثبوته فيه كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشَرْحْ لَكَ صَدْرَك} [الشرح: 1]. روى عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكْيَس؟ قال: (أَكْثَرُهُم ذِكْراً لِلْمَوتِ وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَاداً) قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: (نُوْرٌ يُقْذَفُ فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنفَسِحُ) قالوا: فهل لذلك أمارة يُعْرَفُ بها؟ قال: (الإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرورِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوتِ قَبْلَ لِقَاءِ المَوتِ) وروى ابن مسعود مثل ذلك. ثم قال: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} فيه قولان: أحدهما: يضله عن الهداية إلى الحق. والثاني: عن نيل الثواب واستحقاق الكرامة. {يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} يعني ضيقاً لا يتسع لدخول الإسلام. {حَرَجاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون شديد الصلابة حتى لا يثبت فيه شيء. والثاني: شديد الضيق حتى لا يدخله شيء. والثالث: أن موضعه مُبْيَض. {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: كأنه كُلِّف الصعود إلى السماء في امتناعه عليه وبعده منه. والثاني: كأنه لا يجد مسلكاً لضيق المسالك عليه إلا صعوداً في السماء يعجز عنه. والثالث: كأنه قلبه بالنبو عنه والنفور منه صاعداً إلى السماء. والرابع: كأن قلبه يصعد إلى السماء بمشقته عليه وصعوبته عنده. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} في الرجس خمسة تأويلات: أحدها: أنه ما لا خير فيه , قاله مجاهد. والثاني: أنه العذاب , قاله ابن زيد. والثالث: السخط , قاله ابن بحر. والرابع: انه الشيطان , قاله ابن عباس. والخامس: أن الرجس والنجس واحد , وهو قول بعض نحويي الكوفة , وحكاه عَلِيُّ بن عيسى. وقد روى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل الخلاء قال:

(اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ وَالنَّجَسِ الهَبِيثِ الخَبِيثِ الشِّيْطَانِ الرَّجِيمِ).

126

{وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {وَهَذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} قد ذكرنا أن الصراط هو الطريق , ومنه قول عامر ابن الطفيل: (شحنا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذل من الصراط) وفيه ها هنا قولان: أحدهما: يريد أن الإِسلام هو الصراط المستقيم إلى الله تعالى , قاله الكلبي. والثاني: يريد أن ما في القرآن من البيان هو الصراط المستقيم. {قَدْ فَصَّلْنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: بيَّنَّا. والثاني: ميَّزنا. قوله عز وجل: {لَهُم دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ} وهي الجنة , وفي تسميتها دار السلام وجهان: أحدهما: لأنها دار السلامة الدائمة من كل آفة , قاله الزجاج. والثاني: أن السلام هو الله , والجنة داره , فلذلك سُمِّيَتْ دار السلام , وهذا معنى قول الحسن , والسدي. وفي قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} وجهان: أحدهما: أن دار السلام عند ربهم في الآخرة لأنها أخص به. والثاني: معناه أن لهم عن ربهم أن ينزلهم دار السلام. {وُهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: وهو ناصرهم في الدنيا على إيمانهم. والثاني: وهو المتولِّي لثوابهم في الآخرة على أعمالهم.

128

{ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم} قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني يحشر الجن والإنس جميعاً يوم القيامة. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنسِ} فيه قولان: أحدهما: قد استكثرتم من إغوئهم وإضلالهم , قاله ابن عباس , والحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني قد استكثرتم من الإنس بإغوائكم لهم. {وَقَالَ أَولِيَاؤُهُمْ مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَغْضٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه استمتع بعضنا بصحبة بعض في التعاون والتعاضد. والثاني: استمتع بعضنا ببعض فيما زينوه من اتباع الأهواء وارتكاب المعاصي. والثالث: أن الاستمتاع بهم ما كانوا عليه من التعوذ بهم كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ} , قال الحسن , وابن جريج. ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه استمتاع الإنس بالجن. والثاني: أنه استمتاع الإنس بعضهم ببعض. وفيه وجه ثالث: أن الإنس استمتعوا بالجن , والجن استمتعوا بالإنس في اعتقادهم أنهم يقدرون على النفع. {وَبَلَغْنآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} فيه قولان: أحدهما: أنه الموت , قاله الحسن , والسدي. والثاني: الحشر. {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} أي منزل إقامتكم , لأن المثوى الإقامة , ومنه قول الشاعر: (لقد كان في حول ثواءً ثويته ... تقضي لبانات وتسأم سائم)

{خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} في {إِلاَّ} في هذا الموضوع ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بمعنى لكن , قاله سيبويه. والثاني: أنها بمعنى سوى , قاله الفراء. والثالث: أنها مستعملة على حقيقتها , وهو قول الجمهور. وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقاويل. أحدها: أن مدة الاستثناء هي مدة العرض في القيامة وذلك ما بين بعثهم من قبورهم إلى حين مصيرهم إلى جهنم , فكأنه قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا هذه المدة التي ذكرها , فإنهم فيها غير خالدين في النار. والثاني: معناه خالدين فيها إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم بعد إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب أو تركهم فيها على حالتهم الأولى , فيكون الاستثناء في صفة العذاب لا في الخلود في النار. والثالث: أنه جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدته إلى مشيئته تعالى , قاله ابن عباس , قال: ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه , ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.

129

{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِِمِينَ بَعْضاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: معناه وكذلك نَكِلُ بعضهم إلى بعض , فلا نعينهم , ومن سُلِبَ معونة الله كان هالكاً.

والثاني: وكذلك نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر. والثالث: وكذلك نولِّي بعضهم عذاب بعض في النار. والرابع معناه أن بعضهم يتبع بعضاً في النار من الموالاة وهي المتابعة , قاله قتادة. والخامس: تسليط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي , قاله ابن زيد.

130

{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} قوله عز وجل: {يَا مَعشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} المعشر: الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف , ومنه قيل للعَشَرَة لأنها تمام العِقْد. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلُ مِنْكُمْ يَقُصُّون عَلَيْكُمْءَايَاتِي} اختلفوا في الرسالة إلى الجن على ثلاثة أقاويل. أحدها: ان الله بعث إلى الجن رسلاً منهم , كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم , قاله الضحاك وهو ظاهر الكلام. والثاني: أن الله لم يبعث إليهم رسلاً منهم , وإنما جاءتهم رسل الإنس , قاله ابن جريج , والفراء , والزجاج , ولا يكون الجمع في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنُكُمْ} مانعاً من أن يكون الرسل من أحد الفريقين , كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما هو خارج من أحدهما. والثالث: أن رسل الجن هم الذين لمَّا سمعوا القرآن {وَلَّواْ إِلَى قَومِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] , قاله ابن عباس. وفي دخولهم الجنة قولان: أحدهما: قاله الضحاك.

والثاني: أن ثوابهم أن يجاروا من النار , ثم يُقَال لهم كونوا تراباً كالبهائم , حكاه سفيان عن ليث. {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} يحتمل وجهين: أحدهما: ينذرونكم خذلان بعضكم لبعض وتبرؤ بعضكم من بعض في يوم القيامة. والثاني: ينذرونكم ما تلقونه فيه من العذاب على الكفر , والعقاب على المعاصي. {قالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: إقرارهم على أنفسهم بأن الرسل قد أنذروهم. والثاني: شهادة بعضهم على بعض بإنذار الرسل لهم. {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فيه وجهان:

أحدهما: وغرتهم زينة الحياة الدنيا. والثاني: وغرتهم الرياسة في الدنيا. ويحتمل ثالثاً: وغرتهم حياتهم في الدنيا حين أمهلوا. {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم} وفي هذه الشهادة أيضاً الوجهان المحتملان إلا أن تلك شهادة بالإنذار وهذا بالكفر.

131

{ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون} قوله تعالى: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وما كان ربك مهلك القرى بظلم منه ولكن بحق استوجبوا به الهلكة , وهو معنى قول مقاتل. والثاني: وما كان ربك مهلك القرى بظلم أهلها حتى يقدم إنذارهم ويرفع أعذارهم ويخرجوا من حكم الغافلين فيما ينزل بهم , وهو معنى قول مجاهد. قوله عز وجل: {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} معناه ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته درجات , يعني منازل , وإنما سُمِّيت درجات لتفاضلها كتفاضل الدَرَجِ في الارتفاع والانحطاط. وفيها وجهان: أحدهما: أن المقصود بها الأعمال المتفاضلة. والثاني: أن المقصور بها الجزاء المتفاضل. ويحتمل هذا التفضيل بالدرجات على أهل الجنة , وأهل النار , لأن أهل النار يَتفاضلون في العقاب بحسب تفاضلهم في السيئات , كما يتفاضل أهل الجنة في الثواب لتفاضلهم في الحسنات , لكن قد يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدَرَج , وعن تفاضل أهل النار بالدرك , فإذا جمع بينهما بالتفاضل عبر عن تفاضلهما بالدرج تغليباً لصفة أهل الجنة.

133

{وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون} قوله عز وجل: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُم} فيه خمسة تأويلات: أحدها: على طريقتكم. والثاني: على حالتكم.

والثالث: على ناحيتكم , قاله ابن عباس , والحسن. والرابع: على تمكنكم , قاله الزجاج. والخامس: على منازلكم , قاله الكلبي. {إِنِّي عَامِلٌ} يعني أنذركم من جزاء المطيع بالثواب , والعاصي بالعقاب. {فَسَوفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونَ لَهُ عاقِبَةٌ الدَّارِ} فيه وجهان: أحدهما: تعلمون ثواب الآخرة بالإيمان , وعقابها بالكفر ترغيباً منه في ثوابه وتحذيراُ من عقابه. والثاني: تعلمون نصر الله في الدنيا لأوليائه , وخذلانه لأعدائه , قاله ابن بحر.

136

{وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون} قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً}. . {مِمَّا ذَرَأَ} مما خلق , مأخوذ من الظهور , ومنه قيل ملح ذُرْ أي لبياضه , وقيل لظهور الشيب ذُرْأَة , والحرث: الزرع , والأنعام: الإبل والبقر والغنم , مأخوذ من نعمة الوطء. وهذا إخبار منه عن كفار قريش ومن تابعهم من مشركي العرب , كانوا يجعلون لله في زروعهم ومواشيهم نصيباً , ولأوثانهم وأصنامهم نصيباً , فجعل الله أوثانهم شركاءهم؛ لأنهم قد أشركوهم في أموالهم بالنصيب الذي قد جعلوه فيها لهم , ونصيبهم في الزرع جزء منها يجعلونه مصروفاً في النفقة عليها وعلى خدامها. وفي نصيبهم من الأنعام ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه كنصيبهم من الزرع مصروف في النفقة عليها وعلى خدامها. والثاني: أنه قربان لأوثانهم كانوا يتقربون به إليها.

والثالث: أنه البحيرة , والسائبة , والوصيلة , والحام. ثم قال تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} فاختلف أهل التأويل في المراد بذلك على أربعة أوجه: أحدها: أنه كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما جعلوه لأوثانهم , ردوه , وإذا اختلط بها ما جعلوه لله لم يردوه , قاله ابن عباس , وقتادة. والثاني: أنه كان إذا هلك ما لأوثانهم غرموه , وإذا هلك ما لله لم يغرموه , قاله الحسن , والسدي. والثالث: أنهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة على أوثانهم ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه لأوثانهم , قاله بعض المتأخرين. والرابع: أن كل شيء جعلوه لله من ذبائحهم لم يأكلوه حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم , ولا يذكرون اسم الله فيما جعلوه لأوثانهم , قاله ابن زيد.

137

{وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون} قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} أما شركاؤهم ها هنا ففيهم أربعة أقاويل: أحدها: الشياطين , قاله الحسن , ومجاهد , والسدي. والثاني: أنهم قوم كانوا يخدمون الأوثان , قاله الفراء , والزجاج. والثالث: أنهم الغواة من الناس. وفي الذي زينوه لهم من قتل أولادهم قولان: أحدهما: أنه كان أحدهم يحلف إن وُلِدَ له كذا وكذا غلام ان ينحر أحدهم كما

حلف عبد المطلب في نحر ابنه عبد الله , قاله الكلبي. والثاني: أنه وَأَدُ البنات أحياءً خِيْفَة الفقر , قاله مجاهد. {لِيُرْدُوهُمْ} أي ليهلكوهم , ومنه قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11] يعني إذا هلك. وفي ذلك وجهان: أحدهما: أنهم قصدوا أن يردوهم بذلك كما قصدوا إغواءَهم. والثاني: أنهم لم يقصدوا ذلك وإنما آلَ إليه فصارت. هذه لام العاقبة كقوله: {فَالْتَقَطَهُءَالُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] لأن عاقبته صارت كذلك وإن لم يقصدوها.

138

{وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون} قوله عز وجل: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان: 22] أي حراماً , قال الشاعر: (قبت مرتفقاً والعين ساهرة ... كأن نومي عليَّ الليل محجور) {لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} قال الكلبي: جعلوها للرجال دون النساء. وفي الأنعام والحرث التي قالوا إنه لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم قولان. أحدهما: أن الأنعام التي يحكمون فيها بهذا الحكم عندهم هي البَحِيْرَة والحام خاصة , والحرث ما جعلوه لأوثانهم , قاله الحسن , ومجاهد. والثاني: أن الأنعام هي ذبائح الأوثان , والحرث ما جعلوه لها. ثم قال تعالى: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} فيها قولان:

أحدهما: أنها السائبة. والثاني: أنها التي لا يحجون عليها , قاله أبو وائل. {وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} وهي قربان أوثانهم يذكرون عليها اسم الأوثان , ولا يذكرون عليها اسم الله تعالى. {افْتِرَآءً عَلَيْهِ} أي على الله وفيه قولان: أحدهما: أن إضافتهم ذلك إلى الله هو الافتراء عليه. والثاني: أن ذكرهم أسماء أوثانهم عند الذبيحة بدلاً من اسم الله هو الافتراء عليه.

139

{وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} , قرأ الأعمش {خَالِصٌ} , وفي {خَالِصَةٌ} وفي {خَالِصٌ} وجهان: أحدهما: أن {خَالِصَةٌ} أبلغ من {خَالِصٌ} وإن كانت في معناه فدخلت الهاء للمبالغة كقولهم: علاَّمة , ونسَّابة , قاله الكسائي. والثاني: أن دخول الهاء يوجب عوده إلى الأنعام لتأنيثها , وحذف الهاء , يوجب عوده إلى ما في بطونها لتذكيره , قاله الفراء. وفي ذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: أن ما في بطونها الأجنة , قاله: مجاهد. والثاني: الألبان , قاله قتادة.

والثالث: الجميع: الأجنة والألبان , قاله مقاتل. وفي جعلهم ذلك لذكورهم دون إناثهم وأزواجهم قولان: أحدهما: لأن الذكور هم خدام الأوثان. والثاني: تفضيلاً للذكور على الإناث. وأصل الذكور من الذِّكْر , وفي أخذه من الذِّكْر وجهان: أحدهما: لأنه المذكور بين الناس فكان أنبه ذِكْراً من الأنثى. والثاني: لأنه أشرف , والذِّكْر هو الشرف , قاله الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] أي شرف.

141

{وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْروشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ... } أما الجنات فهي البساتين يحفها الشجر , وأما الروضة فهي الخضراء بالنبات , وأما الزهرة فهي باختلاف الألوان الحسنة. وفي قوله: {مَعْرُوشَاتٍ} أربعة أقاويل: أحدها: أنه تعريش الناس الكروم وغيرها , بأن ترفع أغصانها , قاله ابن عباس , والسدي. والثاني: أن تعريشها هو رفع حظارها وحيطانها.

والثالث: أنها المرتفعة عن الأرض لعلو شجرها , فلا يقع ثمرها على الأرض , لأن أصله الارتفاع ولذلك سُمِّيَ السرير عرشاً لارتفاعه , ومنه قوله تعالى: {خاوية على عروشها} [الكهف: 42] و [الحج: 45] أي على أعاليها وما ارتفع منها. والرابع: أن المعروشات ما عرشه الناس , وغير المعروشات ما نبت في البراري والجبال. {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وإنما قدم ذكر الأكل لأمرين: أحدهما: تسهيلاً لإيتاء حقه. والثاني: تغليباً لحقهم وافتتاحاً بنفعهم بأموالهم. وفي قوله: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: الصدقة المفروضة فيه: العُشْر فيما سقي بغير آلة , ونصف العشر فيما سقي بآلة , وهذا قول الجمهور. والثاني: أنها صدقة غير الزكاة , مفروضة يوم الحصاد والصرام وهي إطعام من حضر وترك ما تساقط من الزرع والثمر , قاله عطاء ومجاهد. والثالث: أن هذا كان مفروضاً قبل الزكاة ثم نسخ بها , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , وإبراهيم. {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن هذا الإسراف المنهي عنه هو أن يتجاوز رب المال إخراج القدر المفروض عليه إلى زيادة تجحف به , قاله أبو العالية , وابن جريج. وقد روى سعد بن سنان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المُعْتَدِي فِي

الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا) وقيل: إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تصدق بجميع ثمرته حتى لم يبق فيها ما يأكله. والثاني: هو أن يأخذ السلطان منه فوق الواجب عليه , قاله ابن زيد. والثالث: هو أن يمنع رب المال من دفع القدر الواجب عليه , قاله سعيد بن والمسيب. والرابع: أن المراد بهذا السرف ما كانوا يشركون آلهتهم فيه من الحرث والأنعام , قاله الكلبي. والخامس: هو أن يسرف في الأكل منها قبل أن يؤدي زكاتها , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الحمولة كبار الإبل التي يُحْمَلُ عليها , والفرش صغارها التي لا يحمل عليها , مأخوذ من افتراش الأرض بها على الاستواء كالفرش. وقال ابن بحر الافتراش الإضجاع للنحر , فتكون الحمولة كبارها , والفرش صغارها , قال الراجز: (أورثني حمولة وفرشا ... أمشّها في كل يوم مشّا) أي أمسحها , قاله ابن مسعود , والحسن , ومجاهد. والثاني: أن الحَمُولة ما حُمِلَ عليه من الإبل والبقر , والفرش: الغنم , قاله ابن عباس , وقتادة , ومنه قول ابن مسلمة: (وحوينا الفرش من أنعامكم ... والحمولات وربات الحجل) والثالث: أن الحملة ما حمل من الإبل , والبقر , والخيل , والبغال , الحمير , والفرش ما خلق لهم من أصوافها وجلودها. {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: من الحمولة ليبين أن الانتفاع بظهرها لا يمنع من جواز أكلها. والثاني: أنه إذن منه في عموم أكل المباح من أموالهم , ونهى عن أكل ما لا يملكونه.

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فيها قولان: أحدهما: أنها طريقه التي يدعوكم إليها من كفر وضلال. والثاني: أنها تخطيه إلى تحريم الحلال وتحريم الحرام , وقد ذكرنا ما في ذلك من زيادة التأول ومن الاحتمال , وأنه الانتقال من معصية إلى أخرى حتى يستوعب جميع المعاصي , مأخوذ من خطو القدم: انتقالها من مكان إلى مكان. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فيه قولان: أحدهما: أنه ما بان لكم من عداوته لأبيكم آدم. والثاني: ما بان لكم من عداوته لأوليائه من الشياطين , قاله الحسن.

143

{ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} قوله عز وجل: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أما الزوج فاسم ينطلق على الواحد وعلى الاثنين , يقال للاثنين زوج , ويقال للواحد زوج لأنه لا يكون زوجاً إلا ومعه آخر له مثل اسمه , قال لبيد: (من كل محفوف يظل عصيه ... زوج عليه كلة وقرامها) فلذلك قال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} لأنها ثمانية آحاد. ثم فسرها فقال: {مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} يعني ذكراً وأنثى.

{وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} يعني ذكراً وأنثى. {قُلُءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ} إبطالاً لما حرمته الجاهلية منها في البحيرة , والسائبة , والوصيلة , والحام. {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} يعني قولهم: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَرْحَامِ خالصةً لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}. ثم قال تعالى: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} يريد به ما أراده في الضأن والمعز وأن هذه الثمانية أزواج حلال لا يحرم منها شيء بتحريمكم. حكى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه عوف بن مالك , فقال له: أَحَلَّلْتَ ما حرمه أباؤنا , يعني من البحيرة , والسائبة , والوصيلة , والحام , فأنزل الله تعالى هذه الآية , وقال: {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ} فسكت عوف لظهور الحجة عليه.

145

{قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} قوله عز وجل: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} يعني أن ما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لم يحرمه الله تعالى ولا أوحى إليَّ بتحريمه , ثم بيَّن المحرَّم على وجه الاستثناء لأن نفي التحريم خرج مخرج العموم , فقال: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} وهي التي خرجت روحها بغير ذكاة. {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} يعني مهراقاً مصبوباً ومنه سمي الزنا سفاحاً لصب الماء فيه ضائعاً , وقال طرفة بن العبد: (إني وجدَّك ما هجوتك والأن ... صاب يسفح فوقهن دم) فأما الدم غير مسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال

لقوله صلى الله عليه وسلم: (أُحِلَّتْ لَنَا مِيْتَتَانِ وَدَمَانِ , فَالمِيْتَتَانِ: الحُوتُ وَالجَرَادُ , وَالدَّمَانِ: الكَبِدُ وَالطُّحَالُ). وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها وإنما هو مع اللحم وفيه , ففي تحريمه قولان: أحدهما: لا يحرم لتخصيص التحريم بالمسفوح , وهو قول عائشة , وعكرمة , وقتادة , قال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود. والثاني: أنه حرام لأنه من جملة المسفوح وبعضه , وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه. {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} يعني نجساً حراماً. {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} يعني ما ذبح للأوثان والأصنام , سماه فسقاً لخروجه عن أمر الله. فإن قيل: لم اقتصر هنا على تحريم هذه الأربعة وقد ذكر في المائدة غيرها من المنخنقة والموقوذة والمتردية؟ قيل: لأن هذا كله من جملة الميتة فذكره هناك مفصلاً وها هنا في الجملة. وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها مشتملة على جميع المحرمات فلا يحرم من الحيوان ما عدا هذا المذكور فيها , وهذا قول ابن عباس , وعائشة. والثاني: أنا تشتمل على تحريم ما تضمنها وليست مستوعبة لجميع

المحرمات لما جاءت به السنة من تحريم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير , وهذا قول الجمهور.

146

{وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} قوله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} هذا التحريم على الذين هادوا إنما هو تكليف بلوى وعقوبة , فأول ما ذكره من المحرمات عليهم {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , ومجاهد , وقتادة , والسدي. والثاني: أنه عنى أنواع السباع كلها. والثالث: أنه كل ذي مخلب من الطير , وكل ذي حافر من الدواب. ثم قال: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها شحوم الثّرْب خاصة , قاله قتادة. والثاني: أنه كل شحم لم يكن مختلطاً بعظم ولا على عظم , قاله ابن جريج. والثالث: أنه شحم الثرب والكلى , قاله السدي وابن زيد.

ثم قال: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يعني شحم الجنب وما علق بالظهر فإنه لم يحرم عليهم. ثم قال: {أَوْ الْحَوَايَآ} وفيها أربعة تأويلات: أحدها: أنها المباعر , قاله ابن عباس , والحسن , وسعيد بن جبير , وقتادة , ومجاهد , والسدي. والثاني: أنها بنات اللبن , قاله عبد الرحمن بن زيد. والثالث: أنها الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها , قاله بعض المتأخرين. والرابع: أنها كل ما تحوّى في البطن واجتمع واستدار , قاله علي بن عيسى. {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه شحم الجنب. والثاني: أنه شحم الجنب والأليه , لأنه على العصعص , قاله ابن جريج , والسدي. {ذَالِكَ جَزَيْنَاهُم ببَغْيِهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ببغيهم على موسى عليه السلام فيما اقترحوه وعلى ما خالفوه. والثاني: ببغيهم على أنفسهم في الحلال الذي حرموه. {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما حكاه عنهم وحرمه عليهم.

147

{فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد

معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} قوله عز وجل: {قُلْ تَعَالَواْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمُ عَلَيْكُمُ} وهذا أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم , أن يدعو الناس إليه ليتلو عليهم ما حرمه الله عليهم , وما أحله لهم ليقلعوا عما كانت الجاهلية عليه من تحريم المباح وإباحة الحرام. والتلاوة: هي القراءة , والفرق بين التلاوة والمتلو , والقراءة والمقروء أن التلاوة والقراءة للمرة الأولى , والمتلو والمقروء للثانية وما بعدها , ذكره علي بن عيسى , والذي أراه من الفرق بينهما أن التلاوة والقراءة يتناول اللفظ , والمتلو والمقروء يتناول الملفوظ. ثم إن الله أخذ فيا حرم فقال: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: ألا تشركوا بعبادته عبادة غيره من شيطان أو وثن. والثالث: أن يحمل الأمرين معاً. ثم قال: {وَبَالْوَالِدَينَ إِحْسَاناً} تقديره: وأوصيكم بالوالدين إحساناً , والإحسان تأدية حقوقهما ومجانبة عقوقهما والمحافظة على برهما. {وَلاَ تَقْتُلُوْاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقَكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق. وفي الإملاق قولان:

أحدهما: أنه الإفلاس , ومنه الملق لأنه اجتهاد المفلس في التقريب إلى الغنى طمعاً في تأجيله. والثاني: أن الإملاق ومعناهما قريب وإن كان بينهما فرق , وهذا قول ابن عباس , وقتادة , والسدي , والضحاك , وابن جريج. ثم ذكر فساد اعتقادهم في الإملاق بأن قال: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لأن رزق العباد كلهم , من كفيل ومكفول , على خالقهم. ثم قال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وفيها أربعة تأويلات: أحدها: أن ذلك عام في جميع الفواحش سرها وعلانيتها , قاله قتادة. والثاني: أنه خاص في الزنى , ما ظهر منها: ذوات الحوانيت , وما بطن: ذوات الاستسرار , قاله ابن عباس , والحسن , والسدي. والثالث: ما ظهر منها: نكاح المحرمات , وما بطن: الزنى , قاله مجاهد , وابن جبير. والرابع: أن ما ظهر منها: الخمر , وما بطن منها: الزنى , قاله الضحاك. وقد ذكرنا فيه احتمال تأويل خامس: أن ما ظهر منها أفعال الجوارح , وما بطن منها اعتقاد القلوب. ثم قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} والنفوس المحرمة: نفس مسلم , أو معاهد , والحق الذي تقتل به النفس ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ , أَوْزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ , أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ). ثم قال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} يعني أن الله وصى عباده بذلك , ووصية الله واجبة.

ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تعقلون تحريم ذلك عليكم وتعلمونه. والثاني: تعملون عمل من يعقل وهو ترك ما أوجب العقاب من هذه المحرمات.

152

{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إنما خص مال اليتيم بالذكر وإن كان مال غيره في التحريم بمثابته , لأن الطمع فيه لقلة مراعيه أقوى , فكان بالذكر أولى. وفي قوله: {إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أربعة تأويلات: أحدها: حفظ ماله عليه إلى أن يكبر ليتسلمه , قاله الكلبي. والثاني: أن ذلك هو التجارة به , قاله مجاهد. والثالث: هو ألا يأخذ من الربح إذا اتجر له بالمال شيئاً , قاله الضحاك. والرابع: هو أن يأكل الولي بالمعروف من ماله إن افتقر , ويترك إن استغنى , ولا يتعدى من الأكل إلى الباس ولا غيره , قاله ابن زيد. ويحتمل خامساً: أن التي هي أحسن: حفظ أصوله وتثمير فروعه. ثم قال: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} والأشُد القوة والشباب. وفي حدها ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه الحلم حين تكتب له الحسنات وعليه السيئات , قاله ربيعة , وزيد بن أسلم , ومالك. والثاني: أن الأَشُد ثلاثون سنة , قاله السدي. والثالث: أن الأشد ثماني عشرة سنة , ذكره علي بن عيسى وفيه وجوه أُخَر نذكرها من بعد. ثم قال تعالى: {وَأَوْفُواْ الْكَيلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يعني بالعدل , أمر في مال البائع من تأدية بمثل ما أُمِر به في مال اليتيم. ثم قال: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يعني أنه لما كان العدل في الوزن والكيل مستحقاً , وكان تحديد أقل القليل متعذراً , كان ذلك عفواً , لأنه لا يدخل في الوسع فلم يكلفه. ثم قال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: إذا حكمتم فأنصفوا. الثاني: إذا شهدتم فاصدقوا. الثالث: إذا توسطتم فلا تميلوا. ثمَ قال: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} فيه قولان: أحدهما: أن عهد الله كل ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره. الثاني: أنه الحلف بالله أن يلزم الوفاء به إلا في معصية. {ذَالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى الذين هادوا وما أوصاهم به في التوراة. والثاني: أنه راجع إلى المسلمين وما وصاهم به في القرآن. قوله عز وجل: {وََأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} فيه قولان: أحدهما: القرآن. والثاني: الشرع وسُمِّيَ ذلك صراطاً , والصراط هو الطريق لأنه يؤدي إلى الجنة فصار طريقاً إليها. {فَاتَّبِعُوهُ} يعني في العمل به.

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما تقدم من الكتب المنزلة نسخها بالقرآن , وهو محتمل. والثاني: ما تقدم من الأديان المتقدمة نسخها بالإسلام وهو محتمل. والثالث: البدع والشبهات. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} يعني عن طريق دينه. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يكون سبيله نصرة دينه وجهاد أعدائه , فنهى عن التفرق وأمر بالأجتماع.

154

{ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} قوله عز وجل: {ثُمَّءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} وفي قوله: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} خمسة أقاويل: أحدها: تماماً على إحسان موسى بطاعته , قاله الربيع , والفراء. والثاني: تماماً على المحسنين , قاله مجاهد , وكان ابن مسعود. يقرأ: {تَمَاماً عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ}. والثالث: تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه , قاله ابن زيد. والرابع: تماماً لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا , قاله الحسن وقتادة. والخامس: تماماً لنعمة الله على إبراهيم لأنه من ولده , قاله ابن بحر.

156

{أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا

يصدفون هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون} قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ} فيه وجهان: أحدهما: هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة رسلاً , يعني الكفار الذين يتوقفون عن الإيمان مع ظهور الدلائل. والثاني: هي ينظرون يعني في حُجَج الله ودلائله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم , قاله جويبر. {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} فيه وجهان: أحدهما: أمر ربك بالعذاب , قاله الحسن. والثاني: قضاء ربك في القيامة , قاله مجاهد. {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ} فيه قولان: أحدهما: أنه طلوع الشمس من مغربها , قاله مجاهد , وقتادة , والسدي , قال ابن مسعود: مع القمر في وقت واحد وقرأ: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9]. والثاني: طلوع الشمس من مغربها , والدجال , ودابة الأرض , قاله أبو هريرة.

{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ ... } في أول آيات الساعة وآخرها قولان: أحدهما: أن أولها الدجال , ثم الدخان , ثم يأجوج ومأجوج , ثم الدابة , ثم طلوع الشمس من مغربها , {لاَ يَنْفَعُ نَفْسَاً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِِن قَبْلُ} هذا قول معاذ بن جبل. والثاني: أن أولها خروج الدجال , ثم خروج يأجوج ومأجوج , ثم طلوع الشمس من مغربها {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مَن قَبْلُ} ثم خروج الدابة , وهذا قول حذيفة بن اليمان ورواه مرفوعاً. ثم اختلفوا في ألا ينفعها إيمانها بظهور أول الآيات أو بظهور آخرها على قولين: أحدهما: إذا خرج أول الآيات , طرحت الأقلام , وجلست الحفظة , وشهدت الأجساد على الأعمال. والقول الثاني: أن ذلك يكون بخروج آخر الآيات ليكون لنا فيها أثر في الإنذار. ثم قال: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيَمَانِهَا خَيْراً} أما إيمانها قبل هذه الآيات فمُعْتَدٌّ به , وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً لم يُعْتَدّ به , وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان: أحدهما: يُعْتَدُّ به , وهو ظاهر الآية أن يكون قبل الآيات أو بعده. والثاني: لا يُعْتَدُّ به , ويكون معناه: لم تكن آمنت من قبل وكسب في إيمانها خيراً , وهذا قول السدي. وفي الخير الذي تكسبه وجهان: أحدهما: تأدية الفروض على أكمل أحوالها. والثاني: التطوع بالنوافل بعد الفروض.

روى مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحُ مِن قِبَلِ المَغْرِبِ , فَالتَّوْبَةُ مَقْبَولَةٌ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: مِنْ إِبْلِيس رَأْسِ الكُفْرِ , وَمِنْ قَابِيل قَاتِلِ هَابِيلَ , وَمَنْ قَتَلَ نَبِيَّا لاَ تَوْبَةَ لَهُ , فَإِذَا طَلَعَت الشَّمْسُ مِن ذَلِكَ البَابِ كَالعَكَرِ الأَسْوَدِ لاَ نَورَ لَهَا حَتَّى تَتَوَسَّطَ السَّماءَ ثُمَّ تَرْجِعُ فِيُغْلَقُ البَابُ وَتُرَدُّ التَّوبَةُ فَلاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيراً , ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى مَشَارِقَهَا , فَتَطْلُعُ بَعْدَ ذلِكَ عِشْرِينَ وَمِائَة سَنَة إِلاَّ أَنَّهَا سُنُونَ تَمُرُّ مَراً).

159

{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمُ وَكَانُواْ شِيَعاً} فيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود خاصة , قاله مجاهد. والثاني: اليهود والنصارى , قاله قتادة. والثالث: أنهم جميع المشركين , قاله الحسن. والرابع: أهل الضلالة من هذه الأمة , قاله أبو هريرة. وفي تفريقهم الذي فرقوه قولان: أحدهما: أنه الدين الذي أمر الله به , فرقوه لاختلافهم فيه باتباع الشبهات. والثاني: أنه الكفر الذي كانوا يعتقدونه ديناً لهم. ومعنى قوله: {وَكَانُواْ شيَعاً} يعني فرقاً. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون الشيع المتفقين على مشايعة بعضهم لبعض , وهو الأشبه , لأنهم يتمالأون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره.

وفي أصله وجهان: أحدهما: أصله الظهور , من قولهم شاع الخبر إذا ظهر. والثاني: أصله الاتباع , من قولهم شايعه على الأمر إذا اتبعه , قاله الزجاج. ثم قال تعالى: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} فيه قولان: أحدهما: لست من قتالهم في شيء , ثم نسخها بسورة التوبة , قاله الكلبي. والثاني: لست من مخالطتهم في شيء , نَهْيٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن مقاربتهم , وأمر له بمباعدتهم , قاله قتادة , كما قال النابغة: (إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لست منك ولست مني.)

160

{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} قوله عز وجل: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} في الحسنة والسيئة هنا قولان: أحدهما: أن الحسنة الإيمان , والسيئة الكفر , قاله أبو صالح. والثاني: أنه على العموم في الحسنات والسيئات أن جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها تفضلاً , وجعل جزاء السيئة مثلها عدلاً , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ غَلَبَتْ وَاحِدَتُهُ عَشْراً). ثم في ذلك قولان: أحدهما: أنه عام في جميع الناس. والثاني: أنه خاص في الأعراب إذا جاء أحدهم بحسنة فله عشر أمثالها , فأما غيرهم من المهاجرين فلمن جاء منهم بحسنة سبعمائة , قاله ابن عمر , وأبو سعيد الخدري.

فأما مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها فلأن الله فرض عُشْر أموالهم , وكانوا يصومون في كل شهر ثلاثة أيام وهي البيض منه , فكان آخر العُشْر من المال آخر جميع المال , وآخر الثلاثة الأيام آخر جميع الشهر. وأما مضاعفة ذلك بسبعمائة ضعف فلقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلِةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لَمَنْ يَشَآءُ} [البقرة: 261] , فضاعف الله الحسنة بسبعمائة ضعف , وكان الحسن البصري يقرأ: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالُهَا} بالتنوين , وَوَجْهُهُ في العربية صحيح. وحكى ابن بحر في الآية تأويلاً يخرج عن عموم الظاهر , وهو أن الحسنة اسم عام يطلق على كل نوع من الإيمان وينطلق على عمومه , فإن انطلقت الحسنة على نوع واحد منه , فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد , وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين , كان الثواب عليها مثلين كقوله: {اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُم كفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] , والكفل: النصيب كالمثل , فجعل لمن اتقى وآمن بالرسول نصيبين , نصيباً لتقوى الله , ونصيباً لإيمانه برسوله , فدل على أن الحسنة التي جعلت لها عشر أمثالها هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات , وهو الإيمان الذي جمع الله في صفته عشرة أنواع بقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {وَأَجْراً عَظِيماً} [الاحزاب: 35] , فكانت هذه الأنواع العشرة التي ثوابها عشرة أمثالها , فيكون لكل نوع منها مثل , وهذا تأويل فاسد , لخروجه عن عموم الظاهر , لما لا يحتمله تخصيص العموم , لأن ما جمع عشرة أنواع فهو عشر حسنات , فليس يجزي عن حسنة إلا مثلها , وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها. وذكر بعض المفسرين تأويلاً ثالثاً: أن له عشر أمثالها في النعيم والزيادة لا في عظيم المنزلة , لأن منزلة التعظيم لا تنال إلا بالطاعة , وهذه مضاعفة تفضيل كما قال: {لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30].

161

{قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من

المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر للناس حال عبادته ومن له الأمر في حياته ومماته. فقال {إِنَّ صَلاَتِي} وهي الصلاة المشروعة ذات الركوع والسجود المشتملة على التذلل والخضوع لله تعالى دون غيره من وثن أو بشر. ثم قال: {وَنُسُكِي} وفيه هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الذبيحة في الحج والعمرة , قاله سعيد بن جبير , ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك. والثاني: معناه ديني , قاله الحسن. والثالث: معناه عبادتي , قاله الزجاج , من قولهم فلان ناسك أي عابد , والفرق بين الدين والعبادة: أن الدين اعتقاد , والعبادة عمل. قوله تعالى: {وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن حياته ومماته بيد الله تعالى لا يملك غيره له حياة ولا موتاً , فلذلك كان له مصلياً وناسكاً. والثاني: أن حياته لله في اختصاصها بطاعته , ومماته له في رجوعه إلى مجازاته. ووجدت فيها وجهاً ثالثاً: أن عملي في حياتي ووصيتي عند مماتي لله. ثم قال: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} صفة الله تعالى أنه مالك العالم دون غيره , فلذلك كان أحق بالطاعة والتعبد من غيره. ثم قال تعالى: {لاَ شَرِيكَ لَهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا شريك له في ملك العالمين. والثاني: لا شريك له في العبادة.

{وَبِذَالِكَ أُمِرْتُ} يعني ما قدم ذكره. {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} يعني من هذه الأمة حثّاً على اتباعه والمسارعة بالإٍسلام.

164

{قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} قوله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} وسبب [نزول] ذلك أن كفار قريش دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه في عبادة اللات والعزى , وقالوا: يا محمد إن كان وزراً فهو علينا دونك , فنزلت هذه الآية عليه. {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} يعني إلا عليها عقاب معصيتها ولها ثواب طاعتها. {َوَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا يتحمل أحد ذنب غيره فيأثم به ويعاقب عليه , ولا يحمل ذنبه غيره , فيبرأ منه ويسلم من عقابه. وفي أصل الوزر وجهان: أحدهما: أصله الثقل , من قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2 - 3] ومنه سمي وزير الملك لتحمله القل عنه. والثاني: أن أصله الملجأ من قوله: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11] ومنه سُمِّي وزير المَلِكِ لأنه يلجأ إليه في الأمور. {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ماء ءاتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} قوله عز وجل: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه جعلهم خلفاً من الجان سكاناً للأرض، قاله ابن عباس. والثاني: أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله، كما مضى أهل عصر خلفه أهل عصر بعده على انتظام، حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا

يخلق عصر، فصارت هذه الأمة خلفاً للأمم الماضية. والثالث: جعل بعضهم خليفة لبعض ليتآلفوا بالتعاون. والرابع: لأنهم آخر الأمم وكانوا خلفاً لمن تقدمهم، قال الشماخ: (تصيبكم وتخطئى المنايا ... وأخلق في ربوع عن ربوع) {ورفع بعضكم على بعض درجات} يعني ما خالف بينهم في الغنى بالمال وشرف الآباء وقوة الأجسام، وهذا، وإن ابتدأه تفضلاً من غير جزاء ولا استحقاق، لحكمه منه تضمنت ترغيباً في الأعلى وترهيباً من الأدنى، لتدم له الرغبة والرهبة. وقد نبه على ذلك بقوله: {ليبلوكم فيما ءاتاكم} يعني من الغنى والقوة وفيه وجهان: أحدهما: ليختبركم بالاعتراف. {إن ربك سريع العقاب} فإن قيل: فكيف جعله سريعاً وهو في الآخرة. فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن كل آت قريب، كقوله: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [النحل: 77]. والثاني: إن ربك سريع العقاب في الدنيا لمن استحق منه تعجيل العقاب فيها. والثالث: أنه إذا شاء عاقب، فصار عقابه سريعاً لأنه يقترن بمشيئته، وهذا قول ابن بحر. {وإنه لغفور رحيم} جمعاً منه بين ما يقتضي الرهبة من سرعة العقاب وبين ما يقتضي الرغبة من الغفران والرحمة، لأن الجمع بين الرغبة والرهبة أبلغ في الإنقياد إلى الطاعة والإقلاع عن المعصية، والله عز وجل أعلم.

سورة الأعراف مكية كلها في قول الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر، وقال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا خمس آيات وهي قوله: {واسألهم عن القربة} [الأعراف: 163] إلى آخر الخمس. بسم الله الرحمن الرحيم

الأعراف

{المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} قوله عز وجل: {المص} فيه لأهل التأويل تسعة أقاويل: أحدها: معناه: أنا الله أُفَضِّل , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير. والثاني: أنه [حرف] هجاء [من] المصور , قاله السدي. والثالث: أنه اسم السورة من أسماء القرآن , قاله قتادة. والرابع: أنه اسم السورة مفتاح لها , قاله الحسن. والخامس: أنه اختصار من كلام يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. والسادس: هي حروف هجاء مقطعة نبه بها على إعجاز القرآن. والسابع: هي من حساب الجمل المعدود استأثر الله بعلمه.

والثامن: هي حروف تحوي معاني كثيرة دل الله تعالى خلقه بها على مراده من كل ذلك. والتاسع: هي حروف اسم الله الأعظم. ويحتمل عندي قولاً عاشراً: أن يكون المراد به: المصير إلى كتاب أنزل إليك من ربك , فحذف باقي الكلمة ترخيماً وعبر عنه بحروف الهجاء لأنها تذهب بالسامع كل مذهب , وللعرب في الاقتصار على الحروف مذهب كما قال الشاعر: (قلت لها قفي فقالت قاف ... ... ... ... ) أي وقفت. قوله عز وجل {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} يعني القرآن. {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} وفي الحرج ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الضيق , قاله الحسن , وهو أصله. قال الشماخ بن ضرار: (ولو ردت المعروف عندي رددتها ... لحاجة لا العالي ولا المتحرج) ويكون معناه: فلا يضيق صدرك خوفاً ألا تقوم بحقه. والثاني: أن الحرج هنا الشك , قاله ابن عباس , ومجاهد , وقتادة , والسدي. قال الراجز: (آليت لولا حرج يعروني ... ما جئت أغزوك ولا تغزوني) ومعناه: فلا تشك فيما يلزمك فيه فإنما أنزل إليك لتنذر به. والثالث: فلا يضيق صدرك بأن يكذبوك , قاله الفراء. ثم قال: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فجعله إنذاراً للكافرين وذكرى للمؤمنين ليعود نفعه على الفريقين.

4

{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} قوله عز وجل: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} الآية , هذا إخبار من الله تعالى عن حال من أهلكه بكفر تحذيراً للمخاطبين به عن مثله , وقوله: {وَكَم} هي كلمة توضع للتكثير , (ورُب) موضوعة للتقليل , وذلك هو الفرق بين كم ورب. قال الفرزدق: (كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت على عشاري) فدل ذلك على تكثير العمات والخالات: وفي قوله: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتَاً} وإنما الهلاك بعد مجيء البأس أربعة أوجه: أحدها: معناه أهلكناها حكماً فجاءها بأسنا فعلاً. والثاني: أهلكناها بإرسال الملائكة إليها بالعذاب فجاءها بأسنا بوقوع العذاب لهم. والثالث: أهلكناها بخذلاننا لها عن الطاعة فجاءها بأسنا عقوبة على المعصية. والرابع: أن البأس والهلاك وقعا معاً في حال واحدة , لأن الهلاك كان بوقوع البأس فلم يفترقا , وليس دخول الفاء بينهما موجبة لافتراقهما بل قد تكون بمعنى الواو كما يقال أعطيت وأحسنت , فكان الإحسان بالعطاء ولم يكن بعد العطاء , قاله الفراء. وقوله: {بَيَانَاً} يعني في نوم الليل. {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} يعني في نوم النهار وقت القائلة. فإن قيل: فلم جاءهم بالعذاب في وقت النوم دون اليقظة؟ قيل: لأمرين: أحدهما: لأن العذاب في وقت الراحة أشد وأغلظ.

والثاني: لئلا يتحرزوا منه ويهربوا عنه , لاستسلام النائم وتحرز المستيقظ , والبأس: شدة العذاب , والبؤس: شدة الفقر. قوله عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْْأَلَنَّ الْمُرسَلِينَ} فيه وجهان: أحدهما: لنسألن الذين أرسل إليهم عن قبول الرسالة والقيام بشروطها , ولنسألن المرسلين عن أداء الرسالة والأمانة فيها. والثاني: لنسألن الذين أرسل إليهم عن حفظ حرمان الرسل , ولنسألن المرسلين عن الشفقة على الأمم.

8

{والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} قوله عز وجل: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الوزن ها هنا هو القضاء بالحق , أي بالعدل , قاله مجاهد. والثاني: أنه موازنة الحسنات والسيئات بعلامات يراها الناس يوم القيامة. والثالث: أنه موازنة الحسنات والسيئات بميزان له كفتان , قاله الحسن وطائفة. واختلف من قال بهذا في الذي يوزن على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي يوزن هوالحسنات والسيئات بوضع إحداهما في كفة والأخرى في كفة , قاله الحسن والسدي. والثاني: أن الذي يوزن صحائف الأعمال , فأما الحسنات والسيئات فهي أعمال , والوزن إنما يمكن في الأجسام , قاله عبد الله بن عمر. والثالث: أن الذي يوزن هو الإنسان , قال عبيد بن عمير , قال يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة.

{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه فمن قُضي له بالطاعة. والثاني: معناه فمن كانت كفة حسناته أثقل من كفة سيئاته. والثالث: معناه فمن زادت حسناته على سيئاته. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يعني بما لهم من الثوب , وبضده إذا خفت.

10

{ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: سهلنا عليكم التصرف فيها حتى وصلتم إلى مرادكم منها. والثاني: ملكناكم إياها حتى صرتم أحق بها. {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} فيه وجهان: أحدهما: ما تعيشون به من نبات وحيوان. والثاني: ما تتوصلون به إلى معايشكم فيها من زراعة أو عمل.

11

{ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فيه لأهل التأويل أربعة أقاويل: أحدها: ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء , قاله عكرمة. والثاني: ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم في ظهره , قاله مجاهد. والثالث: خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء , ثم صورناكم عند اجتماع النطفتين في الأرحام , وهو معنى قول الكلبي.

والرابع: خلقناكم في بطون أمهاتكم , ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر , قاله معمر. {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ} فإن قيل فالسجود عبادة لا تجوز إلا الله تعالى , فكيف أمر به لآدم عليه السلام؟ قيل: فيه لأهل العلم قولان: أحدهما: أنه أمرهم بالسجود له تكرمة وهو لله تعالى عبادة. والثاني: أنه جعله قبلة سجودهم لله تعالى. فإن قيل: فالأمر بالسجود لآدم قبل تصوير ذريته , فكيف قال: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ}؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه صورهم في صلب آدم ثم قال للملائكة: اسجدوا. والثاني: معناه ثم صورناكم ثم أخبرناكم بِأَنَّا قلنا للملائكة: اسجدوا. والثالث: اي في الكلام تقديماً وتأخيراً , وتقديره: ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ثم صورناكم. وفيه جواب رابع أنكره بعض النحويين وهو: أن {ثُمَّ} هنا بمعنى الواو , قاله الأخفش.

12

{قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين}

قوله عز وجل: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: أنه أُهْبِط من السماء لأنه كان فيها , قاله الحسن. والثاني: من الجنة. والثالث: أنه أهبط من المنزلة الرفيعة التي استحقها بطاعة الله إلى المنزلة الدَّنِيَّةِ التي استوجبها لمعصيته , قاله ابن بحر. {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} وليس لأحد من المخلوقين أن يتكبر فيها ولا في غيرها , وإنما المعنى: فما لمن يتكبر أن يكون فيها وإنما المتكبر في غيرها. وفي التكبر وجهان: أحدهما: تكبر عن الله أن يمتثل له. والثاني: تكبر عن آدم أن يسجد له. {فَاخْرُجْ} فيها قولان: أحدهما: من المكان الذي كان فيه من السماء أو الجنة. والثاني: من جملة الملائكة الذين كان منهم أو معهم. {إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: بالمعصية في الدنيا لأن العاصي ذليل عند من عصاه. والثاني: بالعذاب في الآخرة لأن المعذب ذليل بالعذاب. وفي هذا القول من الله تعالى لإبليس وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك على لسان بعض الملائكة. والثاني: أنه أراه معجزة تدله على ذلك. قوله عز وجل: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فيه قولان: أحدهما: أنه سأله الإنظار بالعقوبة إلى البعث وهو يوم القيامة. والثاني: أنه سأله الإنظار بالحياة إلى يوم يبعثون وهو يوم القيامة لئلا يذوق

الموت , فَأُجِيْبَ بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهي النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين وهو أربعون سنة , قاله الكلبي. فإن قيل: فكيف قدر الله مدة أجله وفي ذلك إغواؤه بفعل المعاصي تعويلاً على التوبة في آخر الأجل؟ قيل: قد علم الله من حاله أنه لا يتوب من معصيته بما أوجبه من لعنته بقوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَومِ الدَّينِ} فجاز مع علمه بهذه أن يقدر له مدة أجله ولو كان كغيره ما قدرت له مدة أجله. فإن قيل: كيف أقدم إبليس على هذا السؤال مع معصيته؟ قيل: كما ينبسط الجاهل في سؤال ما لا يستحقه. فإن قيل: فكيف أجاب الله سؤاله مع معصيته؟ قيل: في إجابته دعاء أهل المعاصي قولان: أحدهما: لا تصح إجابتهم لأن إجابة الدعاء تكرمة للداعي وأهل المعاصي لا يستحقون الكرامة , فعلى هذا إنما أنظره الله تعالى وإن كان عقيب سؤاله ابتداء منه لا إجابه له. والثاني: أنه قد يجوز أن تجاب دعوة أهل المعاصي على وجه البلوى وتأكيد الحجة , فتكون إجابة المطيعين تكرمة , وإجابة العصاة بلوى. فإن قيل: فهل ينظر غير إبليس إلىالوقت الذي سأل وقد قال من المنظرين؟ قيل: نعم وهو من لم يقض الله تعالى عليه الموت من عباده الذين تقوم عليهم الساعة.

16

{قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} قوله عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} اختلف أهل العربية في معنى قوله: {فبما أغويتني} على قولين:

أحدهما: أنه على معنى القسم وتقديره: فبإغوائك لي لأقعدن لهم صراطك المستقيم. والثاني: أنه على معنى المجازاة , تقديره: فلأنك أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. واختلف أهل العلم في قوله: {أَغْوَيْتَنِي} على أربعة أقاويل: أحدها: معناه أضللتني , قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: معناه خيبتني من جنتك , ومنه قول الشاعر: (فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً) أي ومن يخب. والثالث: معناه عذبتني كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَياً} [مريم: 59] أي عذاباً , قاله الحسن. والرابع: معناه أهلكتني بلعنك لي , يقال غوى الفصيل إذا أشفى على الهلاك بفقد اللبن , قال الشاعر: (معطفة الأثناء ليس فصيلها ... برازئها دراً ولا ميِّت غوى) وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي على صراطك المستقيم , وفيه تأويلان: أحدهما: طريق مكة ليصد عن قصدها في الحج والعمرة , قاله ابن مسعود. والثاني: طريق الحق ليصد عنها بالإغواء , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {ثُمَّ لأَتِيَنَّهُم مِّنَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ... } الآية. فيه أربعة تأويلات: أحدها: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أي أشككهم في آخرتهم , {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}

أرغبهم في دنياهم , {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: أي من قبل حسناتهم , {وَعَن شَمَآئِلِهِم} من قبل سيئاتهم , قاله ابن عباس. والثاني: {مِنّ بَيْنِ أيْدِيهِمْ}: من قبل , دنياهم , {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: من قبل آخرتهم , {وَعَنْ أَيْمَأنِهِمْ}: الحق أشككهم فيه , {وَعَن شَمَآئِلِهِم}: الباطل أرغبهم فيه , قاله السدي وإبراهيم. والثالث: {مِنّ بَيْنِ أَيْدِيهِم} {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من حيث ينظرون , {وَمِنْ خَلْفِهِم} {وَعَنْ شَمَائِلِهِم}: من حيث لا يبصرون , قاله مجاهد. والرابع: أراد من كل الجهات التي يمكن الاحتيال عليهم منها , ولم يذكر من فوقهم لأن رحمة الله تصده , ولا من تحت أرجلهم لما فيه التنفير , قاله بعض المتأخرين. ويحتمل تأويلاً خامساً: {مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم}: فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون على طاعة , {وَمِنْ خَلْفِهِم}: فيما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عن معصية , {وَعَنْ أَيْمَانِهِم}: من قبل غناهم فلا ينفقونه في مشكور , {وَعَن شَمَائِلِهِمِ}: من قبل فقرهم فلا يمتنعون فيه عن محظور. ويحتمل سادساً: {مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم}: بسط أملهم , {وَمِنْ خَلْفِهِم} تحكيم جهلهم , {وعن أيمانهم}: فيما ييسر لهم , {وَعَن شَمَائِلِهِم}: فيما تعسر عليهم , ثم قال: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: شاكرين لنعمك. والثاني: مقيمين على طاعتك. فإن قيل: فكيف علم إبليس ذلك؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه ظن ذلك فصدق ظنه , كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنَّهُ} [سبأ: 20] وسبب ظنه أنَّه لما أغوى آدم واستزله قال: ذرية هذا أضعف منه , قاله الحسن. والثاني: أنه يجوز أن يكون علم ذلك من جهة الملائكة بخبر من الله.

18

{قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} قوله عز وجل: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا} يحتمل وجهين: أحدهما: من حيث كان من جنة أو سماء. والثاني: من الطاعة , على وجه التهديد. {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} في قوله: {مَذْءُوماً} خمسة تأويلات: أحدها: يعني مذموماً , قاله ابن زيد , وقرأ الأعمش {مذوماً} والثاني: لئيماً , قاله الكلبي. والثالث: مقيتاً , قاله ابن عباس. والرابع: منفياً , قاله مجاهد. والخامس: أنه شدة العيب وهو أسوأ حالاً من المذموم , قاله الأخفش , قال عامر بن جذامة: (جذامة لم يأخذوا الحق بل ... زاغت قلوبهم قبل القتال ذأماً) وأما المدحور ففيه قولان: أحدهما: المدفوع. الثاني: المطرود , قاله مجاهد والسدي.

19

{ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} قوله عز وجل: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزُوْجُكَ الْجَنَّةَ} يعني حواء , وفي الجنة التي أمر بسكناها قولان:

أحدهما: في جنة الخلد التي وعد المتقون , وجاز الخروج منها لأنها لم تجعل ثواباً فيخلد فيها ولا يخرج منها. والثاني: أنها جنة من جنات الدنيا لا تكليف فيها وقد كان مكلفاً. {فَكُلاَ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتَمُا} يحتمل وجهين: أحدهما: من حيث شئتما من الجنة كلها. والثاني: ما شئتما من الثمار كلها لأن المستثنى بالنهي لمَّا كان ثمراً كان المأمور به ثمراً. {وَلاَ تَقَْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} قد ذكرنا اختلاف الناس فيها على ستة أقاويل: أحدها: أنه البُرّ , قاله ابن عباس. والثاني: الكَرْم , قاله السدي. والثالث: التين , قاله بان جريج. والرابع: شجرة الكافور , قاله علي بن أبي طالب. والخامس: شجرة العلم , قاله الكلبي. والسادس: أنها شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة , قاله ابن جدعان , وحكى محمد بن إسحاق عن أهل الكتابين أنها شجرة الحنظل ولا أعرف لهذا وجهاً. فإذا قيل: فما وجه نهيهما عن ذلك مع كمال معرفتهما؟ قيل: المصلحة في استدامة , المعرفة , والابتلاء بما يجِب فيه الجزاء. قوله عز وجل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الْشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا ... } أما الوسوسة فهي إخفاء الصوت بالدعاء , يقال وسوس له إذا أوهمه النصيحة , ووسوس إليه إذا ألقى إليه المعنى , وفي ذلك قول رؤبة بن العجاج: (وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... سراً وقد أوّن تأوين العقق)

فإن قيل: فكيف وسوس لهما وهما في الجنة وهو خارج عنها؟ فعنه ثلاثة أجوبة هي أقاويل اختلف فيها أهل التأويل: أحدها: أنه وسوس إليها وهما في الجنة في السماء , وهو في الأرض , فوصلت وسوسته بالقوة التي خلقها الله له إلى السماء ثم الجنة , قاله الحسن. والثاني: أنه كان في السماء وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك. والثالث: أنه خاطبهما من باب الجنة وهما فيها. { ... وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الْشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} وهذا هو الذي ألقى به من الوسوسة إليهما استغواءً لهما بالترغيب في فضل المنزلة ونعيم الخلود. فإن قيل: هل تصورا ذلك مع كمال معرفتهما؟ قيل: إنما كملت معرفتهما بالله تعالى لا بأحكامه. وفي قول إبليس ذلك قولان: أحدهما: أنه أوهمهما أن ذلك في حكم الله جائز أن يقلب صورتهما إلى صور الملائكة وأن يخلدهما في الجنة. والثاني: أنه أوهمهما أنهما يصيران بمنزلة الملائكة في علو المنزلة مع علمهما بأن قلب الصور لا يجوز. قوله عز وجل: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} أي حلق لهما على صدقه في خبره ونصحه في مشورته , فقبلا قوله وتصورا صدقه لأنهما لم يعلما أن أحداً يجترىء على الحلف بالله كاذباً. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون معنى قوله: {وَقَاسَمَهُمَا} أي قال لهما: إن كان ما قلته خيراً فهو لكما دوني وإن كان شراً فهو عليّ دونكما ومن فعل ذلك معكما فهو من الناصحين لكما , فكانت هذه مقاسمتهما أن قسم الخير لهما والشر له على وجه الغرور لتنتفي عنه التهمة ويسرع إليه القبول.

22

{فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} قوله عز وجل: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} معناه فحطهما بغرور من منزلة الطاعة إلى حال المعصية. فإن قيل: فهل علما عند أكلهما أنها معصية؟ قيل: لا , لأن إقدامهما عليها مع العلم بأنها معصية يجعلها كبيرة , والأنبياء معصومون من الكبائر , وإنما أقدما عليها لشبهة دخلت عليهما بالغرور. {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} فإن قيل: فلم بدت لهما سوآتهما ولم تكن بادية لهما من قبل؟ ففي ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنهما كانا مستورين بالطاعة فانكشف الستر عنهما بالمعصية. والثاني: أنهما كانا مستورين بنور الكرامة فزال عنهما بذلك المهانة. والثالث: أنهما خرجا بالمعصية من أن يكونا من ساكني الجنة , فزال عنهما ما كانا فيه من الصيانة. {وَطَفِقَا يخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} في {وَطَفِقَا} وجهان: أحدهما: قاما يخصفان , قاله ابن بحر. والثاني: جعلا يخصفان , أي قطعان. {مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} وفيه قولان: أحدهما: ورق الموز. والثاني: ورق التين , قاله ابن عباس.

24

{قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين

قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} قوله عز وجل: {قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فإن قيل: فالمأمور بالهبوط آدم وحواء لأن إبليس قد كان أهبط من قبل حين امتنع عن السجود لآدم , فكيف عبر عنهما بلفظ الجمع؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه خبر عن هبوطهم مع تفرقهم وإن خرج مخرج الأمر , قاله السدي. والثاني: أنهم آدم وحواء والحية , فكانوا جماعة , قاله أبو صالح. والثالث: أنهم آدم وحواء والوسوسة , قاله الحسن. فهبط آدم بأرض الهند على جبل يقال له واسم , وهبطت حواء بجدة , وهبطت الحية بأصفهان. وفي مهبط إبليس قولان. أحدهما بالأبلة. والثاني: بالمدار. وقيل أسكنهما الجنة لئلا ساعات خلت من يوم الجمعة , وأخرجهما لتسع ساعات خلت من ذلك اليوم. {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أما المستقر ففيه وجهان: أحدهما: أنه فعل الاستقرار. والثاني: أنه موضع الاستقرار , قاله أبو صالح. وأما المتاع فهو المنتفع به من عروض الدنيا التي يستمتع بها. وقوله: {إِلَى حِينٍ} يعني إلى انقضاء الدنيا , والحين وقت مجهول القدر ينطلق على طويل الزمان وقصيره وإن كان موضوعاً في الأغلب للتكثير.

قال الشاعر: (وما مزاحك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين) أي وقت لا وقت.

26

{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون} قوله عز وجل: {يَا بَنِيَءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوُءَاتِكُمْ} نزلت هذه الآية في قوم من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك أبلغ في الطاعة وأعظم في القربة. وفي دخول الشبهة عليهم في ذلك وجهان: أحدهما: أن الثياب قد دنستها المعاصي فخرجوا عنها. والثاني: تفاؤلاً بالتعري من الذنوب فقال الله تعالى: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} أي ما تلبسون من الثياب. فإن قيل: فليس ذلك بمنزل من السماء. فعنه جوابان: أحدهما: أنه لما كان ينبت من المطر الذي نزل من السماء صار كالمنزل من السماء , قاله الحسن. والثاني: أن هذا من بركات الله , والبركة تنسب إلى أنها تنزل من السماء , كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25]. ثم قال: {يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} أي يستر عوراتكم , وسميت العورة سوأة لأنه يسوء صاحبها انكشافها. ثم قال: {وَرِيشاً} وهذه قراءة أهل الأمصار وكان الحسن يقرأ: {وَرِيَاشاً} وفيه أربعة تأويلات:

أحدهما: أنه المعاش , قاله معبد الجهني. والثاني: أنه اللباس والعيش والنعيم , قاله ابن عباس. والثالث: أنه الجمال والزينة , قاله ابن زيد , ومنه قوله رؤبة: (إليك أشكو شدة المعيش ... وجهد أعوام نتفن ريشي) يريد أذهبن جمالي وزينتي. والرابع: أنه المال: قاله ابن الزبير ومجاهد , قال الشاعر: (فريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما) وفي الريش والرياش وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما. والوجه الثاني: أن معناهما مختلف , فالريش ما بطن , والرياش ما ظهر. ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} وفي لباس التقوى سبعة تأويلات: أحدها: أنه الإيمان , قاله قتادة والسدي. الثاني: الحياة , قاله معبد الجهني. والثالث: أنه العمل الصالح , قاله ابن عباس. والرابع: أنه السمت الحسن , قاله عثمان بن عفان. والخامس: خشية الله , قاله عروة بن الزبير. السادس: ستر العورة للصلاة التي هي التقوى , قاله ابن زيد. والسابع: لبس ما يُتَّقَى به الحر والبرد , قاله ابن بحر.

وفي قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى لباس التقوى ومعنى الكلام أن لباس التقوى خير من الرياش واللباس , قاله قتادة والسدي. والثاني: أنه راجع إلى جميع ما تقدم من {قَدْ أَنزَلْنَا علَيكُمْ لِبَاساً يُوارِي سَوْءَاتِكُم وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوى} , ثم قال: {ذَلِكَ} الذي ذكرته هو {خَيْرٌ} كله.

27

{يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} قوله عز وجل: {يَا بَنِيءَادَمَ لاَ يَفتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} وهذا خطاب توجه إلى من كان من العرب يطوف بالبيت عرياناً , فقيل لهم لا يفتننكم الشيطان بغروره كما فتن أبويكم من قبل حتى أخرجهما من الجنة , ليكون إِشعارهم بذلك أبلغ في الزجر من مجرد النهي. {ينزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن لباسهما كان أظفاراً تستر البدن فنزعت عنهما وتركت زينة وتبصرة , قاله ابن عباس. الثاني: أن لباسهما كان نوراً , قاله وهب بن منبه. والثالث: أن نزع عنهما لباسهما من تقوى الله وطاعته , قاله مجاهد. {لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} فيه قولان: أحدهما: أجسادهما من العورة حين خرجا من لباسهما , وهو مقتضى قول ابن عباس. والثاني: سوأة معصيتهما حتى خرجا من تقوى الله وطاعته , وهو معنى قول مجاهد. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنَ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: قومه , وهو قول الجمهور.

والثاني: جيلُهُ , قاله السدي. {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: من حيث لا تبصرون أجسادهم. والثاني: من حيث لا تعلمون مكرهم وفتنتهم.

28

{وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} قوله عز وجل: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَاءَابَآءَنَا} في هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها وردت في العرب الذين كانوا يطوفون عراة , والفاحشة التي فعلوها كشف العورة , وهذا قول أكثر المفسرين. والثاني أنها في عبدة الأوثان , والفاحشة التي فعلوها الشرك , قاله الحسن. والثالث أنها اتخاذ البَحِيْرَةِ والسائبة والوصيلة والحام , قاله الكلبي. قوله عز وجل: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} فيه وجهان: أحدهما: بالصدق. والثاني: بالعدل. {وَأقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة , قاله مجاهد. والثاني: معناه اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون ما سواه من الأوثان والأصنام , قاله الربيع بن أنس.

والثالث: معناه اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة , أمراً بالجماعة لها , ندباً عند الأكثرين , وحتماً عن الأقلين. والرابع: أن أي موضع أدركت فيه وقت الصلاة فصل فيه فإنه مسجد ولا تؤخرها إلى حضور المسجد. {وَاْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني أقروا له بالوحدانية وإخلاص الطاعة. والثاني: ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له الدين. {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: كما بدأكم شقياً وسعيداً , كذلك تبعثون يوم القيامة , قاله ابن عباس. الثاني: كما بدأكم فآمن بعضكم وكفر بعضكم , كذلك تبعثون يوم القيامة. روى أبو سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تُبْعَثُ كُلُّ نَفْسٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ). والثالث: كما خلقكم ولم تكونوا شيئاً , كذلك تعودون بعد الفناء أحياء , قاله الحسن , وابن زيد. والرابع: كما بدأكم لا تملكون شيئاً , كذلك تبعثون يوم القيامة. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرلاً وَأَوَّلُ مَنْ يُكَسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيهِ السَّلاَمُ) ثم قرأ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلينَ} [الأنبياء: 104].

31

{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} قوله عز وجل: {يَا بِنِيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمُ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن ذلك وارد في ستر العورة في الطواف على ما تقدم ذكره , قاله ابن

عباس , والحسن , وعطاء , وقتادة , وسعيد بن جبير , وإبراهيم. والثاني: أنه وارد في ستر العورة في الصلاة , قاله مجاهد , والزجاج. والثالث: أنه وارد في التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد. والرابع: أنه أراد به المشط لتسريح اللحية. {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ} يعني ما أحله الله لكم. ويحتمل أن يكون هذا أمر بالتوسع في الأعياد. {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسُرِفِينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تسرفوا في التحريم , قاله السدي. والثاني: معناه لا تأكلوا حراماً فإنه إسراف , قاله ابن زيد. والثالث: لا تسرفوا في أكل ما زاد على الشبع فإنه مضر , وقد جاء في الحديث: (أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ البردة) , يعني التخمة. ويحتمل تأويلاً رابعاً: لا تسرفوا في الإنفاق. وقوله: {إِنَّهُ لاَ يحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يحب أفعالهم في السرف. والثاني: لا يحبهم في أنفسهم لأجل السرف.

32

{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} قوله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِّي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} يعني ستر العورة ردا على تركها من العرب في الطواف. ويحتمل ثانياً: أن يريد زينتها في اللباس. ثم قال: {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يحرمون في الإحرام أكل السمن واللبن , قاله ابن زيد , والسدي.

والثاني: أنها البحَيْرَةُ والسائبة التي حرموها على أنفسهم , قاله الحسن , وقتادة. وفي طيبات الرزق قولان: أحدهما: أنه المستلذ. والثاني: أنه الحلال. {قُلْ هِيَ للَّذِينَءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني أن الذين آمنوا في الحياة الدنيا له الطيبات من الرزق يوم القيامة لأنهم في القيامة يختصون بها وفي الدنيا قد يشركهم الكفار فيها. وفي قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وجهان: أحدهما: خالصة لهم من دون الكفار. والثاني: خالصة من مضرة أو مأثم.

33

{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} فيه وجهان: أحدهما: أن الفواحش: الزنى خاصة , وما ظهر منها: المناكح الفاسدة , وما بطن: الزنى الصريح. والثاني: أن الفواحش: جميع المعاصي , وما ظهر منها: أفعال الجوارح , وما بطن: اعتقاد القلوب. {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: أن الإثم الخيانة في الأمور , والبغي: التعدي في النفوس.

والثاني: الإثم: الخمر , والبغي: السكر , قال الشاعر: (شربت الإثم حتى ضَلَّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول) وسمي الخمر بالإثم , والسكر بالبغي لحدوثه عنهما.

34

{ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {وَلِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ولكل أمة كتاب فيما قضاه الله عليهم من سعادة أو شقاوة , من عذاب أو رحمة , قاله جويبر. الثاني: ولكلٍ نبي يدعوهم إلى طاعته وينهاهم عن معصيته , قاله معاذ بن جبل. والثالث: لكل أمة أجل فيما قدره الله من حياة , وقضاه عليهم من وفاة. ويحتمل رابعاً: ولكل أمة مدة يبقون فيها على دينهم أن يحدثوا فيه الاختلاف. {فِإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أجل موتهم. الثاني: أجل عذابهم , قاله جويبر. {لاَ يَسْتَأَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يزيد أجل حياتهم ولا ينقص. والثاني: لا يتقدم عذابهم ولا يتأخر.

37

{فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} قوله عز وجل: { ... أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: هو عذاب الله الذي أعده لمن أشرك , قاله الحسن , والسدي. والثاني: ما سبق لهم من الشقاء والسعادة , قاله ابن عباس. والثالث: نصيب من كتابهم الذي كتبنا لهم أو عليهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير أو شر , قاله قتادة. والرابع: نصيبهم مما كتب لهم من العمر والرزق والعمل , قاله الربيع بن أنس , وابن زيد. والخامس: نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر , قاله الضحاك. {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} في توفي الرسل هنا قولان: أحدهما: أنها وفاة الموت في الدنيا التي توبخهم عندها الملائكة. والثاني: أنها وفاة الحشر إلى النار يوم القيامة , قاله الحسن.

38

{قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} قوله عز وجل: { ... حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جِمِيعاً} يعني في النار أدرك بعضهم بعضاً حتى استكملوا فيها.

{قَالَتْ أُخْرَاهُمُ لأُولاَهُمْ} يعني الأتباع للقادة لأنهم بالاتباع لهم متأخرون عنهم , وكذلك في دخول النار تقدم القادة على الأتباع. {رَبَّنَا هَؤُّلآءِ أَضَلُّونَا فئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} يريد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر , وبالآخر عذابهم على الإغواء. ويحتمل هذا القول من الأتباع وجهين: أحدهما: تخفيف العذاب عنهم. والثاني: الانتقام من القادة بمضاعفة العذاب عليهم. فأجابهم الله قال: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ} يعني أنه وإن كان للقادة ضعف العذاب , لأن أحدهما بالكفر , والآخر بالإغواء , فلكم أيها الأتباع ضعف العذاب , وهذا قول الجمهور , وإن ضعف الشيء زيادة مثله. وفيه وجه ثان: قاله مجاهد: أن الضعف من أسماء العذاب.

40

{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أي لا تفتح لأرواحهم لأنها تفتح لروح الكافر وتفتح لروح المؤمن , قاله ابن عباس , والسدي. والثاني: لا تفتح لدعائهم , قاله الحسن. والثالث: لا تفتح لأعمالهم , قاله مجاهد , وإبراهيم. والرابع: لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة لأن الجنة في السماء , وهذا قول بعض المتاخرين. والخامس: لا تفتح لهم أبواب السماء لنزول الرحمة عليهم , قاله ابن بحر.

{وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يِلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيه قولان: أحدهما: سم الخياط: ثقب الإبرة , قاله ابن عباس , الحسن , ومجاهد , وعكرمة , والسدي. والثاني: أن سم الخياط هو السم القاتل الداخل في مسام الجسد أي ثقبه. وفي {الْجَمَلِ} قراءتان: إحداهما: وعليها الجمهور , الجَمَل بفتح الجيم وتخفيف الميم وهو ذو القوائم الأربع. والثانية الجُمَّل بضم الجيم وتشديد الميم وهو القلس الغليظ , وهذه قراءة سعيد بن جبير , وإحدى قراءتي ابن عباس , وكان ابن عباس يتأول أنه حبل السفينة. ومعنى الكلام أنهم لا يدخلون الجنة أبداً كما لا يدخل الجمل في سم الخياط أبداً , وضرب المثل بهذا أبلغ في إياسهم من إرسال الكلام وإطلاقه في النفي , والعرب تضرب هذا للمبالغة , قال الشاعر: (إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وعاد القار كاللبن الحليب) قوله عز وجل: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} قال الحسن: فراش من نار , والمهاد: الوِطَاء , ومنه أخذ مهد الصبي. {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها اللحف. والثاني: اللباس. والثالث: الظلل , قاله الحسن.

والمراد بذلك أن النار من فوقهم ومن تحتهم , فعبر عما تحتهم بالمهاد , وعما فوقهم بالغواش.

42

{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِلٍّ ... } فيه أربعة أوجه: أحدها: الأهواء والبدع , قاله سهل بن عبد الله. والثاني: التباغض والتحاسد. والثالث: الحقد. والرابع: نزع من نفوسهم أن يتمنوا ما لغيرهم. وفي نزعه وجهان: أحدهما: أن الله نزع ذلك من صدورهم بلطفه. والثاني: ان ما هداهم إليه من الإيمان هو الذي نزعه من صدورهم. وفي هذا الغل قولان: أحدهما: أنه غل الجاهلية , قاله الحسن. والثاني: أنهم لا يتعادون ولا يتحاقدون بعد الإيمان , وقد روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}.

وقيل: إنها نزلت في أهل بدر. ويحتمل قوله: {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا} وجهين: أحدهما: هدانا لنزع من صدورنا. والثاني: هدانا لثبوت الإيمان في قلوبنا حتى نزع الغل من صدورنا. وفيه وجه ثالث: قال جويبر: هدانا لمجاوزة الصراط ودخول الجنة.

44

{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} قوله عز وجل: { ... وَعَلَى الأَعَرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمُ} أما الأعراف فسور بين الجنة والنار , قاله مجاهد , والسدي , وهو جَمْعٌ وَاحِدُهُ عُرْف وهو ما ارتفع عن غيره , ومنه عرف الديك وعرف الفرس , قال الراجز: (كل كتاب لجمعه موافي ... كالعلم الموفي على الأعراف.) وفي الذين على الأعراف خمسة أقاويل: أحدها: أنهم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم , قاله الحسن , ومجاهد , قال أمية بن أبي الصلت: (وآخرون على الأعراف قد طمعوا ... بجنة حفها الرمان والخضر.)

وهذا وإن كان شعراً جاهلياً وحال الأعراف منقول عن خبر يروى فيحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون أمية قد وصل إلى علمه من الصحف الشرعية. والثاني: أن يكون الله قد انطق به أمية إلهاماً لتصديق ما جاء به القرآن. والثاني: أنهم ملائكة يُرَون في صور الرجال , قاله أبو مجلز. والثالث: أنهم قوم بطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس , قاله حذيفة. والرابع: أنه قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك حتى يقضى الله من أمرهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة , قاله ابن مسعود. والخامس: أنهم قوم قتلوا في سبيل الله وكانوا عصاة لآبائهم , قيل إنهم غزوا بغير إذنهم , وقد روى محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: (هُمْ قَومٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَعْصِيةِ آبَائِهِمْ , فَمَنَعَهُمْ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنِ النَّارِ ومنعهم مَعْصِيَةُ آبَائِهِم أَنْ يَدْخُلُواْ الجَنَّةَ) ومعنى قوله: {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} يعني يعرفون أهل النار وأهل الجنة بعلامتهم التي يتميزون بها , وعلامتهم في وجوههم وأعينهم , قال الحسن البصري: علامة أهل النار سواد الوجوه وزرقة العيون , وعلامة أهل الجنة بياض الوجوه وحسن العيون. فإن قيل في أصحاب الأعراف: إنهم فضلاء المؤمنين كان ذلك زيادة في ثوابهم ومبالغة في كرامتهم لأنهم يرون منازلهم في الجنة فيستمتعون بها , ويرون عذاب النار فيفرحون بالخلاص منها.

وإن قيل: إنهم المفضلون وأصحاب الصغائر من المؤمنين كان ذلك لنقص ثوابهم عن استحقاق الدخول للجنة. وإن قيل: إنهم الملائكة , احتمل أمرهم ثلاثة أوجه: أحدها: أن يؤمروا بذلك حمداً لأهل الجنة وذماً لأهل النار وزيادة في الثواب والعقاب. والثاني: أن يكونوا حفظة الأعمال في الدنيا الشاهدين بها عند الله في الآخرة أمروا بذلك , ما أدوه من الشهادة تبشيراً لأهل الجنة وتوبيخاً لأهل النار. والثالث: أن يكونوا خزنه الجنة والنار , فإن من الملائكة من أفرد لخزنة الجنة , ومنهم من أفرد لخزنة النار , ويكون هؤلاء قد جمع لهم بين الأمرين , والله أعلم بغيب ذلك. وحكى ابن الأنباري أن قوله: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} معناه على معرفة أهل الجنة والنار رجال , وأن قوله: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوفٌ عَلَيكُم} الآية من قول أصحاب الأعراف , وهو مخالف لقول جميع المفسرين.

48

{ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} وفي قوله: {وَنَادَى} وجهان: أحدهما: أنه بمعنى ينادي , لأنه في المستقبل. والثاني: أنه على الحذفِ وتقديره: إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الأعراف.

50

{ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون}

قوله عز وجل: { ... أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فيه وجهان: أحدهما: من ماء الرحمة ومما رزقكم الله من القربة. والثاني: من ماء الحياة ومما رزقكم الله من النعم.

52

{ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ} يعني القرآن. {فصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} فيه وجهان: أحدهما: بيَّنَّا ما فيه من الحلال والحرام على علم بالمصلحة. والثاني: ميزنا به الهدى من الضلالة على علم بالثواب والعقاب. {هُدىً وَرَحْمَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الهدى البرهان. والثاني: أن الهدى الإرشاد , والرحمة: اللطف. قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي هل ينظرون , فعبر عن الانتظار بالنظر , {إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي تأويل القرآن , وفيه وجهان: أحدهما: عاقبته من الجزاء , قاله الحسن. والثاني: ما فيه من البعث والنشور والحساب. {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} فيه وجهان: أحدهما: القضاء به , قاله الحسن. الثاني: عاقبة ما وعدهم الله به في الدنيا والآخرة , قال الكلبي. {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ} فيه قولان: أحدهما: معنى نسوه أعرضوا عنه فصار كالمنسي , قاله أبو مجلز.

والثاني: تركوا العمل به , قاله الزجاج. {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنبياء الله في الدنيا بكتبه المنذرة. والثاني: الملائكة عند المعاينة بما بشروهم به من الثواب العقاب.

54

{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} قوله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وفي ترك تعجيل خلقها في أقل الزمان مع قدرته على ذلك أربعة أوجه: أحدها: أن إنشاءها شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال أبلغ في الحكمة وأدل على صحة التدبير ليتوالى مع الأوقات بما ينشئه من المخلوقات تكرار المعلوم بأنه عالم قادر يصرف الأمور على اختياره ويجريها على مشيئته. والثاني: أن ذلك لاعتبار الملائكة , خلق شيئاً بعد شيء. والثالث: أن ذلك ترتب على الأيام الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهي ستة أيام فأخرج الخلق فيها , قاله مجاهد. والرابع: ليعلمنا بذلك , الحساب كله من ستة ومنه يتفرع سائر العدد قاله ابن بحر. {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} فيه قولان: أحدهما: معناه استوى أمره على العرش , قاله الحسن. والثاني: استولى على العرش , كما قال الشاعر: (قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ ... مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودم مُهْرَاقٍ)

وفي {الْعَرْشِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المُلْك كني عنه بالعرش والسرير كعادة ملوك الأرض في الجلوس على الأسرة , حكاه ابن بحر. والثاني: أنه السموات كلها لأنها سقف , وكل سقف عند العرب هو عرش , قال الله تعالى: {خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] [الحج: 45] أي على سقوفها. والثالث: أنه موضع في السماء في أعلاها وأشرفها , محجوب عن ملائكة السماء. {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي يغشي ظلمة الليل ضوء النهار. {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} لأن سرعة تعاقب الليل والنهار تجعل كل واحد منهما كالطالب لصاحبه. {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: مذللات بقدرته. والثاني: جاريات بحكمه. {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مالك الخلق وتدبيرهم. والثاني: إليه إعادتهم وعليه مجازاتهم.

55

{ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين} قوله عز وجل: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فيه وجهان: أحدهما: في الرغبة والرهبة , قاله ابن عباس.

والثاني: التضرع: التذلل والخضوع , والخفية: إخلاص القلب. ويحتمل أن التضرع بالبدن , والخفية إخلاص القلب. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يعني في الدعاء , والاعتداء فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء , قاله أبو مجلز. والثاني: أنه يدعو باللعنه والهلاك على من لا يستحق , قاله مقاتل. والثالث: أن يرفع صوته بالدعاء , روى أبو عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأشرفوا واد , فجعل الناس يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنفُسكُم إِنَّكُم لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً إِنَّكُم تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وَهُوَ مَعَكُمْ). قوله عز وجل: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} فيه أربعة أقاويل: أحدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل. والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة , قاله الكلبي. والرابع: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه , قاله الحسن. {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} يحتمل وجهين: أحدهما: خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه. والثاني: خوفاً من الرد وطمعاً في الإجابة. {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} فإن قيل: فلم أسقط الهاء من قريب والرحمة مؤنثة؟ فعن ذلك جوابان. أحدهما: أن الرحمة من الله إنعام منه فَذُكِّرَ على المعنى , وهو أن إنعام الله قريب من المحسنين , قاله الأخفش.

والثاني: أن المراد به مكان الرحمة , قاله الفراء , كما قال عروة بن حزام: (عَشِيَّة لاَ عَفْرَاءَ مِنكِ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكِ بَعِيدُ) فأراد بالبعد مكانها فأسقط الهاء , وأرادها هي بالقريبة فأثبت الهاء.

57

{وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون} قوله عز وجل: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} يعني طيب التربة. {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} يعني يخرج نباته حسناً جيداً. {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} فيه قولان: أحدهما: أن النكد القليل الذي لا ينتفع به , قاله السدي. والثاني: أنه العسر بشدته المانع من خيره , قال الشاعر: (وَأَعْطِ مَا أَعَطْيتَهُ طَيِّباً ... لاَ خَيْرَ فِي الْمَنْكُودِ وَالنَّاكِد) وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر , فجعل المؤمن كالأرض الطيبة والكافر كالأرض الخبيثة السبخة , قاله ابن عباس , والحسن , ومجاهد , وقتادة , والسدي.

59

{لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين

أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون} قوله عز وجل: { ... وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} فيها قولان: أحدهما: القوة , قاله ابن زيد. والثاني: بسط البدن وطول الجسد , قيل: إنه كان أقصرهم طولاً اثني عشر ذراعاً. {فَاذْكُرُواءَالآءَ اللَّهِ} معناه نعم الله , وقال الشاعر: (أَبْيَضُ لاَ يَرْهَبُ الهزَالَ وَلاَ ... يَقْطَعُ رَحِمَاً وَلاَ يَخُونُ إِلَى)

70

{قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما

نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين} قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} في الرجس ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العذاب , قاله زيد بن أسلم. والثاني: السخط , قاله ابن عباس. والثالث: أن الرجس والرجز بمعنى واحد إلا أن الزاي قلبت سيناً كما قلبت السين تاء في قول الشاعر: (أَلاَ لَحَى اللَّهُ بَنِي السَّعْلاَةِ ... عَمْرِو بنِ يَرْبُوعَ لِئَامَ النَّاتِ) 89 (لَيْسَوا بِأَعْفَافٍ وَلاَ أَكْيَاتِ} 9 يريد الناس , وأكياس. قوله عز وجل: { ... فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} يعني الأصنام , وفي مراده بتسميتهم وجهان: أحدهما: في تسميتها آلهة يعبدونها. والثاني: أنه تسميتهم لبعضها أنه يسقيهم المطر , والآخرة أنه يأتيهم بالرزق , والآخر أنه يشفي المريض , والآخر يصحبهم في السفر. وقيل: إنه ما أمرهم هود إلا بتوحيد الله والكف عن ظلم الناس فأبوا وقالوا: من أشد منا قوة , فأهلكوا.

73

{وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا

إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} قوله عز وجل: { ... هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْءَايَةً} في الآية هنا وجهان: أحدهما: أن الآية الفرض كما قال تعالى: {وَأَنَزَلْنَا فِيهَاءَايَاتٍ} [النور: 1] أي فرضاً , ويكون معنى الكلام هذه ناقة الله عليكم فيها فرض أن تذروها {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي لا تعقروها. والثاني: أنها العلامة الدالة على قدرته. والآية فيها آيتان: إحداهما: أنها خرجت من صخرة ملساء تمخضت بها كما تتمخض المرأة ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها. والثانية: أنه كان لها شرب يوم , ولهم شرب يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم , حكي ذلك عن أبي الطفيل والسدي وابن إسحاق. قوله عز وجل: { ... وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني أنزلكم في الأرض وهي أرض الحجر بين الشام والمدينة. والثاني: فيها من منازل تأوون إليها , ومنه قولهم: بوأته منزلاً , إذا أمكنته منه ليأوي إليه , قال الشاعر: (وَبُوِّئَتْ فِي صَمِيمِ مَعْشَرِهَا ... فَتَمَّ فِي قَوْمِهَا مَبْوَؤُهَا)

أي مكنت من الكرم في صميم النسب. {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً} والقصور ما شيد وعلا من المنازل اتخذوها في سهول الأرض ليصيِّفوا فيها. {وَتَنْحِتَونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} لتكون مساكنهم في الشتاء لأنها أحصن وأبقى وأدفأ فكانوا طوال الآمال طوال الأعمار. {فَاْذْكُرُواءَالآءَ اللَّهِ} فيه ما قدمنا , أي نعمه أو عهوده. {ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفسِدِينَ} فيه وجهان: أحدهما: لا تعملوا فيها بالمعاصي. والثاني: لا تدعوا إلى عبادة غير الله. وفي العبث وجهان: أحدهما: أنه السعي في الباطل. والثاني: أنه الفعل المؤدي لضير فاعله. قوله عز وجل: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها حركة الأرض تضطرب من تحتهم. والثاني: أنها الصيحة , قاله مجاهد , والسدي. والثالث: أنها زلزلة أهلكوا بها , قاله ابن عباس. {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِم جَاثِمِينَ} قال محمد بن مروان السدي: كل ما في القرآن من {دَارِهِمْ} فالمراد به مدينتهم , وكل ما فيه من {دِيَارِهِم} فالمراد به مساكنهم , وفي الجاثم قولان: أحدهما: أنه البارك على ركبتيه لأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال. والثاني: معناه أنهم أصبحوا كالرماد الجاثم لأن الصاعقة أحرقتهم. وقيل: إنه كان بعد العصر. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي خرج من بين أظهرهم , وقيل إن صالحاً خرج عنهم إلى رملة فلسطين بمن آمن معه من قومه وهم مائة وعشرة , وقيل إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرها.

79

{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} قوله عز وجل: { ... إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَّهَّرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من إتيان الأدبار. والثاني: يتطهرون بإتيان النساء في الأطهار , قال الشاعر: (قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا سَدُّوا مَآزِرَهُم ... دَونَ النِّسَاءِ وَلَو بَانَتْ بِأَطْهَارِ)

83

{فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} فيه وجهان: أحدها: فخلصناه. والثاني: على نجوة من الأرض , وقيل: إن أهله ابنتاه واسمهما زينا ورميا. {مِنَ الْغَابِرِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الباقين في الهلكى , والغابر الباقي , ومنه قول الراجز: (فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَر ... لَهُ الإِلَهُ مَا مَضَى وَمَا غَبَر)

والثاني: من الغابرين في النجاة , من قولهم: قد غبر عنا فلان زماناً إذا غاب , قال الشاعر: (أَفَبَعْدَنَا أو بَعْدَهُمْ ... يُرْجَى لِغَابِرِنَا الْفَلاَحُ) والثالث: من الغابرين في الغم , لأنها لقيت هلاك قومها , قاله أبو عبيدة.

85

{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين} قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوِعَدُونَ} الصراط: الطريق , قال الشاعر: (شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ) وفي المراد به ثلاثة أقاويل: أحدهما: أنهم كانوا يقعدون على الطريق إلى شعيب يؤذون من قصده للإيمان به ويخوفونه بالقتل , قاله ابن عباس , ومجاهد , وقتادة. والثاني: أنه نهاهم عن قطع الطريق , قاله أبو هريرة. والثالث: أنهم العشارون نهاهم عن تعشير أموال الناس.

{وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِهِ} ويحتمل وجهين: أحدهما: تصدون المؤمنين عن طاعة الله وعبادته. والثاني: تصدون من أراد الإيمان بإغوائه ومخادعته. {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} قال قتادة: يعني تبغون السبيل عوجاً عن الحق. والفرق بين العوج بالكسر وبالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين , ولا يُرَى , والعوج بفتح العين ما كان في العود , وما يرى. {وَاذْكُرواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} حكى الزجاج فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كثر عددكم بعد القلة قال ابن عباس: وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج زينا بنت لوط وولد آل مدين منها. والثاني: كثركم بالغنى بعد الفقر. والثالث: كثركم بالقوة بعد الضعف. وذكر بعض المفسرين وجهاً رابعاً: أنه كثرهم بطول الأعمار بعد قصرها من قبل.

88

{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} قوله عز وجل: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجّانَا اللَّهُ مِنْهَا} والفرق بين الملة والدين أن الملة ما شرعه الله , والدين ما اعتقده الناس تقرباً إلى الله , فصار كل دين ملة وليس كل ملة ديناً. فإن قيل: فالعود إلى الشيء الرجوع إليه بعد الخروج منه فهل كان شعيب على ملة قومه من الكفر حتى يقول: {إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم}. في الجواب عنه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن هذه حكاية عمن اتبع شعيباً من قومه الذين كانوا قبل اتباعه على ملة الكفر. الثاني: أنه قال ذلك على التوهم أنه لو كان عليها لم يعد إليها. والثالث: أنه يطلق ذكر العَود على المبتدىء بالفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله سن قولهم: قد عاد عليّ من فلان مكروه وإن لم يسبقه بمثله كقول الشاعر: (لَئِن كَانَت الأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ... إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ) (أَتَى دَونَ حُلْوِ الْعَيْشِ شَيْءٌ أُمِرُّهُ ... كُرُوبٌ عَلَى آثَارِهِنّ كُرُوبُ) ثم قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} فيه قولان: أحدهما: أن نعود في القرية إلاّ أن يشاء الله , قاله بعض المتكلمين. والثاني: وهو قول الجمهور أن نعود في ملة الكفر وعبادة الأوثان. فإن قيل فالله تعالى لا يشاء عبادة الأوثان فما وجه هذا القول من شعيب؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قد كان في ملتهم ما يجوز التعبد به. والثاني: أنه لو شاء عبادة الوثن لكانت عبادته طاعة لأنه شاءه كتعبده بتعظيم الحجر الأسود. والثالث: أن هذا القول من شعيب علىالتعبيد والامتناع كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وكقولهم: حتى يشيب الغراب. ثم قال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَومِنَا بِالْحَقِّ وََأَنتَ خَيرُ الْفَاتِحِينَ} فيه وجهان: أحدهما: اكشف بيننا وبين قومنا , قاله قتادة. والثاني: احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين. وذكر الفراء , أن أهل عُمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح. وقال غيره: إنه لغة مراد , قال الشاعر: (أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصَمَ رَسُولاً ... بِأَنِّي عَنْ فَتَّاحِكُمُ غَنِي)

وقد قال ابن عباس: كنت لا أدري ما قوله: {رَبَّنَا افتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} حتى سمعت بنت ذي يزن تقول: تعالَيْ أفاتحك , يعني أقاضيك. وقيل: إنه سمي بذلك لأنه يفتح باب العلم الذي قد انغلق على غيره. فإن قيل: فما معنى قوله {بِالْحَقِّ} ومعلوم أن الله لا يحكم إلا بالحق؟. ففي الجواب عنه أربعة أوجه: أحدها: أنه قال ذلك صفة لحكمه لا طلباً له. والثاني: أنه سأل الله أن يكشف لمخالفه من قومه أنه على حق. والثالث: أن معناه احكم بيننا الذي هو الحق , قاله ابن بحر. والرابع: احكم في الدنيا بنصر الحق , قاله السدي.

90

{وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين} قوله عز وجل: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيبَاً كَأنَ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} فيه أربعة تأويلات: أحدها: كأنك لم يقيموا فيها , قاله ابن قتيبة. والثاني: كأن لم يعيشوا فيها , قاله الأخفش. والثالث: كأن لم ينعموا فيها , قاله قتادة. والرابع: كأن لم يعمروا فيها , قاله ابن عباس. {الَّذِينَ كَذَّبُوْا شُعَيْباً كَانُواْ هَمُ الخَاسِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: بالكفر. والثاني: بالهلاك , قاله ابن عباس.

93

{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها

بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} قوله عز وجل: {وَمَآ أرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِّيٍ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَها بِالبَأْسآءِ وَالضَّرَّآءِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن البأساء: القحط , والضراء: الأمراض والشدائد , قاله الحسن. والثاني: أن البأساء الجوع , والضراء: الفقر , قاله ابن عباس. والثالث: أن البأساء: البلاء , والضراء الزمانة. والرابع: أن البأساء: ما نالهم من الشدة في أنفسهم. والضراء: ما نالهم في أموالهم , حكاه علي بن عيسى. ويحتمل قولاً خامساً: أن البأساء الحروب. {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يتوبون. الثاني: يدعون , قاله ابن عباس. قوله عز وجل: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} فيه وجهان: أحدهما: مكان الشدة الرخاء , قاله ابن عباس , والحسن , وقتادة , ومجاهد. والثاني: مكان الخير والشر. {حَتَّى عَفَواْ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: حتى كثروا , قاله ابن عباس , ومجاهد , والسدي , قال لبيد: (وَأنَاسٌ بَعْدَ قَتْلٍ قَدْ عَفَواْ ... وَكَثِيرٌ زَالَ عَنْهُمْ فَانْتَقَلْ) والثاني: حتى أعرضواْ , قاله ابن بحر. والثالث: حتى سُرّوا , قاله قتادة. والرابع: حتى سمنوا , قاله الحسن , ومنه قول بشر بن أبي حازم: (فَلَمَّا أَنْ عَفَا وَأَصَابَ مَالاً ... تَسَمَّنَ مَعْرِضاً فِيهِ ازْوِرَارُ)

{وَّقَالُوْا قَدْ مَسَّءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ والسَّرَّآءُ} أي الشدة والرخاء يعنون ليس البأساء والضراء عقوبة على تكذيبك وإنما هي عادة الله في خلقه أن بعد كل خصب جدباً وبعد كل جدب خصباً.

96

{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} قوله عز وجلَّ: { ... لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم} فيه وجهان: أحدهما: لرزقنا , قاله السدي. والثاني: لوسعنا. {بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ}: (بركات السماء: القطر. وبركات الأرض. النبات والثمار ويحتمل أن تكون بركات السماء قبول الدعاء. وبركات الأرض: تسهيل الحاجات.

100

{أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون} وفي قوله تعالى: {فَهُم لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يقبلون , كما قال في الصلاة , سمع الله لمن حمده , أي قبل الله ممن حمده , وقال الشاعر: (دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ ... يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ) أي يقبل.

101

{تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا

ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} قوله عز وجل: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِّنْ عَهْدٍ} في قوله: {مِنْ عَهْدٍ} قولان: أحدهما: أن العهد الطاعة , يريد: ما وجدنا لأكثرهم من طاعة لأنبيائهم , لأنه قال بعده {وَإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمُ لَفَاسِقِينَ} وتكون {مِنْ} في هذا الموضع على هذا التأويل زائدة. والثاني: أنه محمول على ظاهر العهد أي من وفاء بعهده. وفي المراد بالعهد هنا ثلاثة أقاويل. أحدها: الميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظهر آدم قاله أبو جعفر الطبري. والثاني: ما جعله الله في عقولهم من وجوب شكر النعمة , وأن الله هو المنعم , قاله علي بن عيسى. والثالث: أنه ما عهد إليهم مع الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً , قاله الحسن {وإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُم لَفَاسِقِينَ} في قوله {لَفَاسِقِينَ} وجهان: أحدهما: خارجين عن طاعته. والثاني: خائنين في عهده , وهذا يدل على أن العصاة أكثر من المطيعين.

103

{ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين}

قوله عز وجل: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} في {حَقِيقٌ} وجهان: أحدهما: حريص , قاله أبو عبيدة. والثاني: واجب , مأخوذ من وجوب الحق. وفي قوله: {إلاَّ الْحَقَّ} وجهان: أحدهما: إلا الصدق. والثاني: إلا ما فرضه الله عليّ من الرسالة.

109

{قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين} قوله عز وجل: {قَالُواْ أَرْجِه وَأَخَاهُ} فيه قولان: أحدهما: معناه أخِّرْهُ , قاله ابن عباس والحسن. والثاني: أحبسه , قاله قتادة والكلبي. {وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ} قال ابن عباس: هم أصحاب الشُرَط وهو قول الجماعة أرسلهم في حشر السحرة وكانوا اثنين وسبعين رجلاً.

115

{قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون}

قوله عز وجل: {وَأَوْحِيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} قال ابن عباس: العصا أول آيات موسى وكانت من آس الجنة , طولها عشرة أذرع بطول موسى , قصد باب فرعون فألقى عليه الفزع , فشاب فخضب بالسواد استحياء من قومه , فكان فرعون أول من خضب بسواد. {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} معنى تلقف هو سرعة التناول إلا أن المراد هنا سرعة ابتلاعه بالفم. قال أبو حاتم: وهي في بعض القراءات تلقم بالميم والتشديد , قال الشاعر: (أَنْتَ عَصَا مُوسَى الَّتِي لَمْ تَزَلْ ... تَلْقَمُ مَا يَأْفِكُهُ السَّاحِرُ) وفي قوله: {مَا يأْفِكُونَ} وجهان: أحدهما: معناه يقلبون , ومنه المؤتفكات أي المنقلبات , قاله ابن عيسى. والثاني: معناه يكذبون لأن الإفك هو الكذب , قاله مجاهد. فإن قيل: فلم أمر موسى السحرة أن يلقو وذلك منهم كفر ولا يجوز أن يأمر به نبي؟ قيل عن ذلك جوابان. أحدهما: أن مضمون أمره إن كنتم محقين فألقوا. والثاني: القول على ما يصح ويجوز لا على ما يفسد ويستحيل. قوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} أي ظهر الحق , قاله الحسن , ومجاهد , وفي الحق الذي ظهر فيه قولان: أحدهما: ظهرت عصا موسى على حبال السحرة. والثاني: ظهرت نبوة موسى على ربوبية فرعون. قوله عز وجل: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} في سجودهم قولان: أحدهما: أنهم سجدوا لموسى تسليماً له وإيماناً به. والثاني: أنهم سجدوا لله إقراراً بربوبيته , لأنهم {قَالُواءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}. وفي سجودهم قولان: أحدهما: أن الله ألهمهم ذلك لطفاً بهم. والثاني: أن موسى وهارون سجدا شكراً لله عند ظهور الحق على الباطل فاقتدوا بهما في السجود لله طاعة.

123

{قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ ... } الآية: {الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أشرافهم. والثاني: رؤساؤهم. والثالث: أنهم الرهط والنفر الذين آمنوا معهم. والفرق بين الرهط والنفر من وجهين: أحدهما: كثرة الرهط وقلة النفر. والثاني: قوة الرهط وضعف النفر , وفي تسميتهم بالملأ وجهان: أحدهما: أنهم مليئون بما يراد منهم. والثاني: لأنهم تملأ النفوس هيبتهم. وفيه وجه ثالث: لأنهم يملأون صدور المجالس. فإن قيل: فما وجه إقدامهم على الإنكار على فرعون مع عبادتهم له؟ قيل:

لأنهم رأوا منه خلاف عادته وعادة الملوك في السطوة بمن أظهر العناد وخالف , وكان ذلك من لطف الله بموسى. وفي قوله: {لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} وجهان: أحدهما: ليفسدوا فيها بعبادة غيرك والدعاء إلى خلاف دينك. والثاني: ليفسدوا فيها بالغلبة عليها وأخذ قومه منها. ثم قالوا: {وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ} فإن قيل: فما وجه قولهم ذلك له وهم قد صدقوه على قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]. قيل الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان يعبد الأصنام وكان قومه يعبدونه , قاله الحسن. والثاني: أنه كان يعبد ما يستحسن من البقر ولذلك أخرج السامري عجلاً جسداً له خوار وقال هذا إلهكم وإله موسى , وكان معبوداً في قومه , قاله السدي. والثالث: أنها كنت أصناماً يعبدها قومه تقرباً إليه , قاله الزجاج. وقرأ ابن عباس {وَيَذَرَكَ وَإِلاَهَتَكَ} أي وعبادتك. قال الحسن: وكان فرعون يَعبُد ويُعبَد. وعلى هذه القراءة يسقط السؤال. وذكر ابن قتيبة في هذه القراءة تأويلاً ثانياً؛ أن الإلاهة الشمس , والعرب تسمي الشمس الإلاهة واستشهد بقول الأعشى: (وَلَمْ أَذْكُرِ الرُّعْبَ حَتَّى انْتَقَلْتُ ... قُبَيْلَ الإِلاَهَةِ مِنْهَا قرِيباً) يعني الشمس , فيكون تأويل الآية: ويذرك والشمس حتى تعبد فعلى هذا يكون السؤال متوجهاً عنه ما تقدم. {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ} وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لأنه علم أنه لا يقدر عل قتل موسى إما لقوته وإما تصوره أنه مصروف عن قتله , فعدل إلى قتل الأبناء ليستأصل قوم موسى من بني إسرائيل فيضعف عن فرعون {وَنَسْتَحِيي نِسَاءَهُمُ} فيه قولان:

أحدهما: أن نفتش أرحامهن فننظر ما فيهن من الولد , مأخوذ من الحياء وهو اسم من أسماء الفرج , حكاه ابن بحر. والثاني: الأظهر أن معناه: نستبقيهن أحياء لضعفهن عن المنازعة وعجزهن عن المحاربة. قوله عز وجل: {قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أمرهم بذلك تسلية لهم من وعيد فرعون كما يقول من نالته شدة: استعنت بالله. والثاني: أنه موعد منه بأن الله سيعينهم على فرعون إن استعانوا به. ثم قال: {وَاصْبِرُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: واصبروا على ما أنتم فيه من الشدة طمعاً في ثواب الله. والثاني: أنه أمرهم بالصبر انتظاراً لنصر الله. {إنَّ الأَرْضِ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك تسلية لقومه في أن الدنيا لا تبقي على أحد فتبقي على فرعون لأنها تنتقل من قوم إلى قوم. والثاني: أنه أشعرهم بذلك أن الله يورثهم أرض فرعون. {وَالْعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يريد في الآخرة بالثواب. والثاني: في الدنيا بالنصر. قوله عز وجل: {قالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الأذى من قبل ومن بعد أخذ الجزية. قاله الحسن. والثاني: أن الأذى من قبل: تسخيرهم بني إسرائيل في أعمالهم لنصف النهار وإرسالهم في بقيته ليكسبوا لأنفسهم. والأذى من بعد: تسخيرهم في جميع النهار بلا طعام ولا شراب , قاله جويبر. والثالث: أن الأذى الذي كان من قبل: الاستعباد وقتل الأبناء , والذي كان من بَعد: الوعيد بتجديد ذلك عليهم , حكاه ابن عيسى.

والرابع: أن الأذى الذي كان من قبل أنهم كانوا يضربون اللبن ويعطيهم التبن , والأذى من بعد أن صاروا يضربون اللبن ويجعل عليهم التبن , قاله الكلبي , وفي قولهم: {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} قولان: أحدهما: من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعد ما جئتنا بها , قاله ابن عباس. والثاني: من قبل أن تأتينا بعهد الله إليك أنه يخلصنا ومن بعد ما جئتنا به. وفي هذا القول منهم وجهان: أحدهما: أنه شكوى ما أصابهم من فرعون واستعانة بموسى. والثاني: أنهم قالوه استبطاء لوعد موسى , حكاه ابن عيسى. {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِك عَدُوَّكُمْ} {عَسَى} في اللغة طمع وإشفاق. قال الحسن عسى من الله واجبة , وقال الزجاج: {عَسَى} من الله يقين. {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في قوله: {فَينظُرَ} وجهان: أحدهما: فيرى. والثاني: فيعلم وفي قول موسى ذلك لقومة أمران: أحدهما: الوعد بالنصر والاستخلاف في الأرض. والثاني: التحذير من الفساد فيها لأن الله تعالى ينظر كيف يعملون.

130

{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ بالسِّنِينَ} فيه قولان: أحدهما: يعني بالجوع , قاله مجاهد , وقتادة. والثاني: أن معنى السنين الجدوب , قاله الحسن. والعرب تقول: أخذتهم السنة إذا قحطوا وأجدبوا. وقال الفراء: المراد بالسنين الجدب والقحط عاماً بعد عام.

قوله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَعَهُ} في الحسنة والسيئة هنا وجهان: أحدهما: أن الحسنة الخصب , السيئة القحط. والثاني: أن الحسنة الأمن , والسيئة , الخوف. {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي كانت حالنا في أوطاننا وقبل اتباعنا لك , جهلاً منهم بأن الله تعالى هو المولى لها. {وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} أي يتشاءَمون بموسى ويقولون هذا من اتباعنا إياك وطاعتنا لك , على ما كانت العرب تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وهو الذي يأتي من جهة الشمال , وتتبرك بالسانح وهو الذي يأتي من جهة اليمين , ثم قال رداً لقولهم. {أَلآ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ} أي طائر البركة وطائر الشؤم.

132

{وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون} قوله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ ... } أما الطوفان ففيه ستة أقاويل: أحدها: أنه الغرق بالماء الزائد , قاله ابن عباس. والثاني: أنه الطاعون , قاله مجاهد. والثالث: أنه الموت , قاله عطاء. وروت عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطُّوفَانُ الْمَْوتُ).

والرابع: أنه أمر من الله طاف بهم , وهو مروي أيضاً عن ابن عباس. والخامس: أنه كثرة المطر والريح , واستدل قائل ذلك بقول الحسن بن عرفطة: (غَيَّرَ الْجِدَّةَ مِنْ عِرْفَانِهِ ... خُرُقُ الرِّيحِ وَطُوفَانُ الْمَطَرِ) والسادس: أنه عذاب من السماء , واستدل قائل ذلك بقول أبي النجم: (وَمَرَّ طُوفَانٌ فِبِتُّ شَهْراً ... فَرْداً شَآبِيبَ وَشَهْراً مدراً) {وَالْقُمَّلَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الدَبَى وهو صغار الجراد لا أجنحة له. والثاني: أنه السوس الذي في الحنطة قاله ابن عباس. والثالث: البراغيث , قاله ابن زيد. والرابع: القردان , قاله أبو عبيدة. والخامس: هو دواب سود صغار , قاله الحسن , وسعيد بن جبير , وشاهده قول الأعشى. (قَوْماً تُعَالِجُ قُمَّلاً أَبْنَاؤهُهُمْ ... وَسَلاَسِلاً أُجُداً وَبَاباً مُؤْصَداً) وواحد القمل قملة. وأما الضفادع فواحدها ضفدع وهو مشهور. وقيل إنه كان يوجد في فراشهم وآنيتهم , ويدخل في ثيابهم فيشتد أذاه لهم. وأما الدم ففيه قولان:

أحدهما: أن ماء شربهم كان يصير دماً عبيطاً , فكان إذا غرف القبطي من الماء صار دماً وإذا غرف الإسرائيلي كان ماء. والثاني: أنه رعاف كان يصيبهم , قاله زيد بن أسلم. {ءَاياتٍ مُّفَصَّلاَتٍ} فيها قولان: أحدهما: مبينات لنبوة موسى. والثاني: مفصل بعضها عن بعض لأن هذه الآيات لم تجتمع في وقت واحد بل كانت تأتي شهراً بعد شهر فيكون في تفرقتها مع الإنذار إعذار , وكان بين كل آيتين شهر. {فَاسْتَكْبَرُواْ} فيه وجهان: أحدهما: عن الانزجار بالآيات. والثاني: عن الإيمان بموسى. {وَكَانُواْ قَوماً مُجْرِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: كافرين. والثاني: متعدّين. قوله عز وجل: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيهِمُ الرّجْزُ} - فيه قولان: أحدهما: أنه العذاب , قاله الحسن , ومجاهد , وقتادة , وابن زيد. والثاني: هو الطاعون أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان , قاله سعيد بن جبير. {قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بما تقدم إليك به أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك. والثاني: ما هداك به أن تفعله في قومك , قاله السدي. والثالث: أن ذلك منهم على معنى القسم كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم. {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} هذا قول قوم فرعون , ويحتمل وجهين: أحدهما: لنصدقنك يا موسى أنك نبي. والثاني: لنؤمنن بك يا الله أنك إله واحد.

136

{فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} قوله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يستقلون. والثاني: يستذلون وهم بنو إِسرائيل. {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يريد الشرق والغرب , قاله ابن عيسى. والثاني: أرض الشام ومصر , قاله الحسن. والثالث: أرض الشام وحدها شرقها وغربها , قاله قتادة. {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} فيه قولان: أحدهما: بالخصب. والثاني: بكثرة الأنهار والأشجار والثمار. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} فيها قولان: أحدهما: أن تمام كلمة الحسنى ما وعدهم من هلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض بقوله: {عَسَى رَبُّكُم أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُم وَيَسْتَخْلِفَكُم} وسماها الحسنى لأنه وعد بما يحبون. والثاني: هو قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِنَ لَهُم فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5 , 6]. وفي قوله: {بِمَا صَبَرُواْ} وجهان: أحدهما: بما صبروا على أذى فرعون. والثاني: بما صبروا على طاعة الله.

138

{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} في {متبر} ثلاثة أوجه: أحدها: باطل , قاله الكلبي. والثاني: ضلال , حكاه أبو اليسع. والثالث: مهلك , ومنه التبر , الذهب. وفي تسميته بذلك قولان: أحدهما: لأن موسى يهلكه. والثاني: لكسره , وكل إناء مكسور متبّر قاله الزجاج. وقال الضحاك هي كلمة نبطية لما ذكرنا.

140

{قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} قوله عز وجل: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْءَآلِ فِرْعَوْنَ} قال هذا يذكر بالنعمة. {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذابِ} أي أشد العذاب. {يُقَتّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أي يقتلون أبناءكم صغاراً ويستحيون نساءكم للاسترقاق والاستخدام كباراً. {وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن ما فعله فرعون بكم من قتل الأبناء واسترقاق النساء بلاء عليكم عظيم , قاله الكلبي. والثاني: أنه ابتلاء لكم واختبار عظيم , قاله الأخفش. والثالث: أن في خلاصكم من ذلك بلاء عظيم , أي نعمة عظيمة , قاله ابن قتيبة.

142

{وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} قوله عز وجل: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} فيها قولان: أحدهما: أن الثلاثين ليلة شهرٌ أمر بصيامه , والعشر بعدها أجل لمناجاة ربه. والثاني: أن الأربعين كلها أجل لمناجاة ربه , أجل في الأول ثلاثين ليلة ثم زيدت عشراً بعدها. وقد قيل إنه ذو القعدة وعشر من ذي الحجة , حكي ذلك عن مجاهد , وابن جريج , ومسروق. {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} يعني أن اجتماع الأجلين تمام أربعين ليلة , ليدل بذلك على أن العشر هي ليال وليست ساعات. فإن قيل: فمعلوم أن العشر مع الثلاثين مستكملة أربعين , فما معنى قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيلَةً}. فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه تأكيد في الذرك فلم يمتنع. والثاني: كان وعده إلى الجبل الذي كلمه فيه. والثالث: لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن يكون من جملة الثلاثين لأن تمام الشيء بعض منه. فإن قيل: فلم زاد في أجل وعده بعد الثلاثين عشراً جعلها أجلاً ثانياً فأخر بها موعده؟ قيل عن ذلك جوابان: أحدهما: أن قومه تأخروا عنه في الأجل الأول فزاده الله لتأخرهم عنه أجلاً ثانياً ليحضروا. والثاني: لأن قومه عبدوا العجل بعده فزاده الله أجلاً ثانياً عقوبة لهم. ويحتمل جواباً ثالثاً: أن الله فعل ذلك به اختباراً لقومه ليتميز به المؤمن من المنافق ويعرف به المتيقن من المرتاب.

والفرق بين الميقات والوقت وإن كانا من جنس واحد أن الميقات ما قدر لعمل , والوقت قد لا يتقدر لعمل.

143

{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين} قوله عز وجل: { ... قَالَ رَبِّ أَرِني أَنظُرُ إِلَيْكَ} الآية , في سؤال موسى ذلك لربه ثلاثة أقاويل: أحدها: ليرد عليه من جواب الله ما يحتج به على قومه حين قالوا: {لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] مع علم موسى بأنه لا يجوز أن يراه في الدنيا. والثاني: أنه كان يعلم ذلك باستدلال فأجب أن يعلمه ضرورة. والثالث: أنه جوّز ذلك وظنه وأن رؤيته في الدنيا ممكنة , قاله الحسن , والربيع , والسدي. فأجابه الله بأن {قَالَ لَن تَرَانِي}. ثم أظهر في الجواب ما يعلم به استحالة مسألته فقال: {وَلَكِن انظُرْ إلىَ

الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} لأن الجبل إذا لم يستقر لرؤيته فالإنسان بذلك أولى. {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ للِجَبَلِ} معنى تجلى ظهر مأخوذ من جلاء العروس إذا ظهرت , ومن جلاء المرآة إذا أضاءت. وفي تجليه أربعة أقاويل: أحدها: أنه ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل. والثاني: أنه أظهر للجبل من ملكوته ما تدكدك به , لأن الدنيا لا تقوم لما يبرز من ملكوت السماء. والثالث: أنه أبرز قدر الخنصر من العرش. والرابع: ظهر أمره للجبل. {جَعَلَهُ دَكّاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني مستوياً بالأرض , مأخوذ من قولهم ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام , قاله ابن قتيبة وابن عيسى. والثاني: أنه ساخ في الأرض , قاله الحسن وسفيان. والثالث: أنه صار تراباً , قاله ابن عباس. والرابع: أنه صار قطعاً. قال مقاتل: وكان أعظم جبل بمدين تقطع ست قطع تفرقت في الأرض , صار منها بمكة ثلاثة أجبل: ثبير وغار ثور وحراء. وبالمدينة ثلاثة أجبل: رضوى وأحد وورقان. والله أعلم. {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} فيه قولان: أحدهما: ميتاً , قاله قتادة. والثاني: مغشياً عليه , قاله ابن عباس , والحسن , ابن زيد.

قال ابن عباس: أخذته الغشية الخميس من يوم عرفة وأفاق عشية الجمعة وفيه نزلت عليه التوراة وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة , وفيها عشر آيات أنزلها الله في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في ثماني عشرة من سورة بني إسرائيل. {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه تاب من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها. والثاني: أنه تاب من اعتقاده جواز رؤيته في الدنيا. والثالث: أنه قال ذلك على جهة التسبيح وعادة المؤمنين عند ظهور الآيات. الدالة على عظيم قدرته. {وَأَنَّاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} فيه قولان: أحدهما: أول المؤمنين بأنه لا يراك شيء من خلقك , قاله ابن عباس , والحسن: والثاني: وأنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية.

144

{قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين} قوله عز وجل: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ ... } الآية في {وَكَتَبْنَا لَهُ} قولان: أحدهما: فرضنا , كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] أي فرض. والثاني: أنه كتابة خط بالقلم في ألواح أنزلها الله عليه. واختلفوا في الألواح من أي شيء كانت على أربعة أقاويل:

أحدها: أنها كانت من زمرد أخضر , قاله مجاهد. والثاني: أنها كانت من ياقوت , قاله ابن جبير. والثالث: أنها كانت من زبرجد , قاله أبو العالية. والرابع: قاله الحسن كانت الألواح من خشب , واللوح مأخوذ من أن المعاني تلوح بالكتابة فيه. وفي قوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} قولان: أحدهما: من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والمباح والمحظور والواجب وغير الواجب. والثاني: كتب له التوراة فيها من كل شيء من الحكم والعبر. وفي قوله: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً ... } تأويلان: أحدهما: أن الموعظة النواهي , والتفصيل: الأوامر , وهو معنى قول الكلبي. والثاني: الموعظة: الزواجر , والتفصيل: الأحكام , وهو معنى قول مقاتل. قال: وكانت سبعة ألواح. {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: بجد واجتهاد قاله السدي. والثاني: بطاعة , قاله الربيع بن أنس. والثالث: بصحة عزيمة , قاله علي بن عيسى. والرابع: بشكر , قاله جويبر. {وَأمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} لم يقل ذلك لأن فيها غير حسن , وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن أحسنها: المفروضات , وغير الأحسن: المباحات. والثاني: أنه الناسخ دون المنسوخ.

والثالث: أن فعل ما أمر به أحسن من ترك ما نهي عنه لأن العمل أثقل من الترك وإن كان طاعة. {سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ} فيها أربعة أقاويل: أحدها: هي جهنم , قاله الحسن , ومجاهد. والثاني: هي منازل من هلك بالتكذيب من عاد وثمود والقرون الخالية , لتعتبروا بها وبما صاروا إليه من النكال , قاله قتادة. والثالث: أنها منازل سكان الشام الجبابرة والعمالقة. والرابع: أنها دار فرعون وهي مصر. وقرأ قسامة بن زهير {سَأُوْرِثُكُمْ}.

146

{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْءَاياتي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: سأمنعهم من فهم القرآن , قاله سفيان بن عيينة. والثاني: سأجعل جزاءهم على كفرهم ضلالهم عن الاهتداء بما جاء به من الحق. والثالث: سأصرفهم عن دفع الانتقام عنهم. وفي {يَتَكَبَّرُونَ} وجهان: أحدهما: يحقرون الناس ويرون أن لهم عليهم فضلاً.

والثاني: يتكبرون عن الإيمان واتباع الرسول. {وَإن يَرَوْاْ كُلَّءَآيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بها وإن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشُدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: أن الرشد الإيمان , والغي: الكفر. والثاني: أن الرشد الهداية. والغي: الضلال. {ذَلَكَ بِأَنَّهُمْ كذَّبُواْ بِآَيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنَها غَافِلِينَ} فيه وجهان: أحدهما: غافلين عن الإيمان. والثاني: غافلين عن الجزاء.

148

{واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} قوله عز وجل {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} في الأسف خمسة أقاويل: أحدها: أنه المتأسف على فوت ما سلف قاله علي بن عيسى. والثاني: أنه الحزين , قاله ابن عباس. والثالث: هو الشديد الغضب , قاله الأخفش. والرابع: المغتاظ , قاله السدي.

والخامس: النادم , قاله ابن قتيبة. وفي غضبه وأسفه قولان: أحدهما: غضبان من قومه على عبادة العجل؟ أسفاً على ما فاته من مناجاة ربه. والثاني: غضبان على نفسه في ترك قومه حتى ضلوا , أسفاً على ما رأى في قومه من ارتكاب المعاصي. وقال بعض المتصوفة إن غضبه للرجوع عن مناجاة الحق إلى مخاطبة الخلق. {قَالَ بِئْسَ مَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدي} يعني بعباة العجل. {أَعَجِلْتُم أَمْرَ رَبِّكُمْ} فيه قولان: أحدهما: يعني وعد ربكم الذي وعدني به من الأربعين ليلة , وذلك أنه قَدَّروا أنه قد مات لمَّا لم يأت على رأس الثلاثين ليلة , قاله الحسن , والسدي. والثاني: وعد ربكم بالثواب على عبادته حتى عدلتم إلى عبادة غيره , قاله بعض المتأخرين. والفرق بين العجلة والسرعة أن العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته , والسرعة: عمله في أقل أوقاته. {وَأَلْقَى الألْوَاحَ} وفي سبب إلقائها قولان: أحدهما: غضباً حين رأى عبادة العجل , قاله ابن عباس. والثاني: أنه ألقاها لما رأى فيها فضائل غير قومه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله , قال: رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد , فاشتد عليه فألقاها , قاله قتادة. وكانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح فتكسرت رفع منها ستة أسباعها وكان فيما رفع تفصيل كل شيء الذي قال الله {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ من كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْضِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي , وهو الذي قاله الله: {أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ}.

وقال ابن عباس: ألقى موسى الألواح فتكسرت ورفعت إلا سدُسها. {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} فيه قولان: أحدهما: أنه أخذ بأذنه. والثاني: أخذ بجملة رأسه. فإن قيل: فلم قصده بمثل هذا الهوان ولا ذنب له؟ فعن ذلك جوابان. أحدهما: أن هذا الفعل مما قد يتغير حكمه بالعادة فيجوز أن يكون في ذلك الزمان بخلاف ما هو عليه الآن من الهوان. والثاني: أن ذلك منه كقبض الرجل منا الآن على لحيته وعضه على شفته {قَالَ ابْنَ أُمَّ} فيه وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك لأنه كان أخاه لأمه , قاله الحسن. والثاني: أنه قال ذلك على عادة العرب استعطافاً بالرحم , كما قال الشاعر: (يَا ابْنَ أُمِّي وَيَا شقيقَ نَفْسِي ... أَنْتَ خَلَّيْتَنِي لأَمْرٍ شَدِيدٍ) {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} يعني من خالفه في عبادة العجل لأنهم قد صاروا لمخالفتهم له أعداء. {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَومِ الظَّالِمِينَ} أي لا تغضب عليّ كغضبك عليهم ولست منهم فأدركته الرقة: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لَي ولأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

152

{إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها

وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ} أما التوبة من السيئات فهي الندم على ما سلف والعزم على ألاّ يفعل مثلها. فإن قيل فالتوبة إيمان فما معنى قوله: {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُواْ} فالجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أنهم تابوا من المعصية واستأنفوا عمل الإيمان بعد التوبة. والثاني: يعني أنهم تابوا بعد المعصية وآمنوا بتلك التوبة. والثالث: وآمنوا بأن الله قابل التوبة.

155

{واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} قوله عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا} وفي الكلام محذوف وتقديره: واختار موسى من قومه سبعين رجلاً. وفي قوله: {لِّمِيقَاتِنَا} قولان: أحدهما: أنه الميقات المذكور في سؤال الرؤية. والثاني أنه ميقات غير الأول وهو ميقات التوبة من عبادة العجل. {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ} وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها الزلزلة , قاله الكلبي. والثاني: أنه الموت. قال مجاهد: ماتوا ثم أحياهم. والثالث: أنها نار أحرقتهم فظن موسى أنهم قد هلكوا ولم يهلكوا , قاله الفراء. {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} وفي سبب أخذها لهم قولان: أحدهما: لأنهم سألوا الرؤية , قاله ابن إِسحاق.

والثاني: لأنهم لم ينهوا عن عبادة العجل قاله ابن عباس. { ... أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَل السُّفَهَاءُ مِنَّآ} فيه قولان: أحدهما: أنه سؤال استفهام خوفاً من أن يكون الله قد عمهم بانتقامه كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. والثاني: أنه سؤال نفي , وتقديره: إنك ل تعذب إلاَّ مذبناً فكيف تهلكنا بما فعل السفهاء منا. فحكى أن الله أمات بالرجفة السبعين الذين اختارهم موسى من قومه , لا موت فناء ولكن موت ابتلاء ليثبت به من أطاع وينتقم به ممن عصى وأخذت موسى غشية ثم أفاق موسى وأحيا الله الموتى , فقال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ} فيه وجهان: أحدهما: أن المراد بالفتنة العذاب , قاله قتادة. والثاني: أن المراد بها الابتلاء والاختبار.

156

{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} قوله عز وجل: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدَّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأَخِرَةِ} في الحسنة هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها النعمة سميت حسنة لحسن موقعها في النفوس. والثاني: أنها الثناء الصالح. والثالث: أنها مستحقات الطاعة. {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه تبنا إليك , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , ومجاهد , وقتادة , وإبراهيم. والثاني: رجعنا بالتوبة إليك , لأنه من هاد يهود إذا رجع , قاله علي بن عيسى.

والثالث: يعني تقربنا بالتوبة إليك من قولهم: ما له عند فلان هوادة , أي ليس له عنده سبب يقربه منه , قاله ابن بحر. {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} وفيه قولان: أحدهما: من أشاء من خلقي كما أصيب به قومك. الثاني: من أشاء في التعجيل والتأخير. {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: أن مخرجها عام ومعناها خاص , تأويل ذلك: ورحمتي وسعت المؤمنين بي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية قاله ابن عباس. والثاني: أنها على العموم في الدنيا والخصوص في الآخرة , وتأويل ذلك: ورحمتي وسعت في الدنيا البر والفاجر , وفي الآخرة هي للذين اتقوا خاصة , قاله الحسن , وقتادة. والثالث: أنها التوبة , وهي على العموم , قاله ابن زيد. {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فيه قولان: أحدهما: يتقون الشرك , قاله ابن عباس. والثاني: يتقون المعاصي , قاله قتادة. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فيها قولان: أحدهما: أنها زكاة أموالهم لأنها من أشق فرائضهم , وهذا قول الجمهور. والثاني: معناه أي يطيعون الله ورسوله , قاله ابن عباس والحسن , وذهبا إلى أنه العمل بما يزكي النفس ويطهرها من صالحات الأعمال. فأما المكنّى عنه بالهاء التي في قوله: {فَسَأَكْتُبُهَا} فقد قيل إن موسى لما انطلق بوفد بني إسرائيل كلّمه الله وقال: إني قد بسطت لهم الأرض طهوراً ومساجد يصلون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلا عند مرحاض أو قبر أو حمّام , وجعلت السكينة في قلوبهم , وجعلتهم يقرؤون التوراة عن ظهر ألسنهم , قال فذكر موسى ذلك لبني إسرائيل , فقالوا لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا فاجعلها لنا في تابوت , ولا نقرأ التوراة إلا نظراً , ولا نصلي إلا في السكينة , فقال الله تعالى {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} يعني ما مضى من السكينة والصلاة والقراءة , ثم بيَّن من هم فقال:

157

{الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمّيَّ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وفي تسميته بالأمي ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه لا يكتب. الثاني: لأنه من أم القرى وهي مكة. الثالث: لأن من العرب أمة أمية. {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبَاً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} لأن في التوراة في السفر الخامس: إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك , واجعل كلامي في فيه فيقول لهم كل ما أوصيته به. وفيها: وأما ابن الأمة فقد باركت عليه جداً جداً وسأدخره لأمة عظيمة. وفي الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع: يعطيكم فارقليط آخر يكون معكم الدهر كله. وفيها قول المسيح للحواريين: أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه , إنه نذيركم يجمع بين الحق ويخبركم بالأمور المزمعة ويمدحني ويشهد لي. فهذا تفسير {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ}. ثم قال: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ}. وهو الحق. {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الُْنكَرِ} وهو الباطل وإنما سمي الحق معروفاً لأنه معروف الصحة في العقول، وسمي الباطل منكراً لأنه منكر الصحة في العقول.

ثم قال: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّباتِ} يعني ما كانت الجاهلية تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} يعني ما كانوا يستحلونه من لحم الخنزير والدماء. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: أنه عهدهم الذي كان الله تعالى أخذه على بني إسرائيل. والثاني: أنه التشديد على بني إٍسرائيل الذي كان في دينهم من تحريم السبت وتحريم الشحوم والعروق وغير ذلك من الأمور الشاقة , قاله قتادة. {والأَغْلاَلَ التَّي كَانَتْ عَلَيهِمْ} فيها تأويلان: أحدهما: أنه الميثاق الذي أخذه عليهم فيما حرمه عليهم , قاله ابن أبي طلحة. والثاني: يعني ما بيَّنه الله تعالى في قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيِهِمْ} [المائدة: 64]. {فَالَّذِينَ أَمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ... } فيه وجهان: أحدهما: يعني عظموه , قاله علي بن عيسى. والثاني: منعوه من أعدائه , قاله أبو جعفر الطبري. ومنه تعزير الجاني لأنه يمنعه من العود إلى مثله. {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} يعني القرآن , آمنوا به من بعده فروى قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أَيُّ الخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيكُم إِيماناً؟) قالوا: الملائكة فقال نبي اللَّه (ص): (المَلائِكةُ عِندَ رَبِّهم فَمَا لَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ.) فقالوا: النبيون , فقال: (يُوحَى إِلَيهِم فَمَا لَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ) قالوا: نحن يا نبي الله. فقال (أَنَا فِيكُم فَمَا

لَكُم لاَ تُؤْمِنونَ ,) فقالوا: يا نبي الله فمن هم؟ قال: (هُم قَومٌ يَكُونُونَ بَعْدَكُم يَجِدُونَ كِتاباً فِي وَرَقٍ فَيُؤُمِنُونَ بِهِ) فهو معنى قوله: {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ}.

158

{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} قوله عز وجل: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يهْدُونَ بِالْحَقِّ} فإن قيل فهذا يدل على أن في اليهود من هم على حق. الجواب عند ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الذين تمسكوا بالحق في وقت ضلالتهم بقتل أنبيائهم , ولا يدل هذا على استدامة حاله على الأبد. والثاني: أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام , قاله ابن عباس , والسدي. والثالث: أنهم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وابن صوريا وغيرهما , قاله الكلبي.

160

{وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين

ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون} قوله عز وجل: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ} اختلف في المأخوذ منه تسمية القرية على وجهين: أحدهما: لأن الماء يقرى إليها أي يجمع , من قولهم قرى الماء في حوضه إذا جمعه. والثاني: لأن الناس يجتمعون إليها كما يجتمع الماء فى الحوض. واختلف في هذه القرية على قولين: أحدهما: أنها بيت المقدس , قاله قتادة. والثاني: هي أرض الشام , قاله الحسن. فإنه قيل: فكيف سمى المأوى مسكناً والإنسان في مسكنه متحرك؟ قيل لأنه يترك فيه التصرف فصار في أكثر أحواله ساكناً وإن كان في بعضها متحركاً.

163

{واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} قوله عز وجل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَتُ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها أيلة , قاله ابن عباس , وعكرمة , والسدي. والثاني: أنها بساحل مدين , قاله قتادة. والثالث: أنها مدين قرية بين أيلة والطور , حكاه أبو جعفر الطبري. والرابع: أنها قرية يقال لها مقتا بين مدين وعينونا , قاله ابن زيد.

والخامس: ما قاله ابن شهاب أن القرية التي كانت حاضرة البحر طبرية , والقرية التي قال فيها {وَاضْرِبْ لَهَم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس: 13]. أنطاكية. وسؤالهم عن هذه القرية إنما هو سؤال توبيخ على ما كان منهم فيها من سالف الخطيئة وقبيح المعصية. {إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} هو تعديهم فيه بفعل ما نهوا عنه. {إِذْ تَأْتِيهِم حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِم شُرَّعاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن معنى {شُرَّعاً} أي طافية على الماء ظاهرة , قاله ابن عباس , ومنه شوارع البلد لظهورها. والثاني: أنها تأتيهم من كل مكان , قاله عطية العوفي. والثالث: أنها شرّع على أبوابهم كأنها الكباش البيض رافعة رؤوسها حكاه بعض المتأخرين فتعدَّوا فأخذوها في السبت , قاله الحسن.

164

{وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} قوله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُوا بِهِ} نسوا يعني تركوا , والذي ذكروا به أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَونَ عَنِ السُّوءِ} وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ} وهم الذين تركوا المعروف وفعلوا المنكر. {بِعَذَابٍ بَئِيَس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: شديد , قاله مجاهد. والثاني: رديء , قاله الأخفش. الثالث: أنه العذاب المقترن بالفقر وهو البؤس.

وأما الفرقة الثالثة التي لم تنه ولم تفعل ففيها قولان: أحدهما: أنها نُجِّيَتْ مع الذين نهوا. والثاني: ما قاله ابن عباس: لا أدري ما فعل بها.

167

{وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} قوله عز وجل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} فيه قولان: أحدهما: أنه تفعُّل من الإذن ومعناه أعلم , قاله الحسن , ومنه قول الأعشى: (أَذَّنَ الْقَوْمُ جِيرَتِي بِخُلُوفِ ... صَرَمُوا حَبْلَ آلِفٍ مَأْلُوفِ) والثاني: معناه نادى وأقسم , قاله الزجاج. {ليَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} يعني على اليهود. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} والمبعوثون هم العرب , وسوء العذاب هو الذلة وأخذ الجزية , قاله ابن عباس , والحسن , وسعيد بن جبير , وقتادة. ويقال إن أول من وضع الخراج وجباه من الأنبياء موسى , فجبى الخراج سبع سنين وقيل ثلاث عشرة ثم أمسك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سعيد بن المسيب: استحب أن أبعث في الجزية الأنباط. ولا أعلم لاستحبابه ذلك وجهاً إلا أن يكون لأنهم من قوم بختنصر فهم أشد انتقاماً , أو لأنها قد كانت تؤخذ منهم على استيفائها لأجل المقابلة أحرص.

168

{وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك

وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} قوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً ... } أي فرقناهم فيها فرقاً. وفي تفريقهم فيها ثلاثة أوجه: أحدها: زيادة في الانتقام منهم. والثاني: ليذهب تعاونهم. والثالث: ليتميز الصالح من المفسر لقوله تعالى: {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دَونَ ذَلِكَ} ثم قال: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالثواب والعقاب. والثاني: بالنعم والنقم. والثالث: بالخصب والجدب. قوله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} معناه فخلفهم خلف , والخلف بتسكين اللام مستعمل في الذم. وبفتح اللام مستعمل في الحمد. وقال أبو عبيدة. معناها [واحد] مثل الأثر والإثر , والأول أظهر وهو في قول الشعراء أشهر , قال بعضهم: (خلفت خلفاً ليت بهم ... كان , لا بِكَ التلف) وفي الخلف وجهان: أحدهما: القرن , قاله الفراء. والثاني: أنه جمع خالف. {وَرِثُواْ الْكِتَابَ} يعني انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف وفيهم قولان:

أحدهما: أنهم من خلف اليهود من أبنائهم. والكتاب الذي ورثوه التوراة لانتقالها لهم. والثاني: أنهم النصارى: لأنهم خلف من اليهود. والكتاب الذي ورثوه: الإنجيل لحصوله معهم , قاله مجاهد. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} يعني الرشوة على الحكم في قول الجميع وسماه عرضاً لقلة بقائه. وفي وصفه بالأدنى وجهان: أحدهما: لأخذه في الدنيا الدانية. والثاني: لأنه من المحرمات الدنية. {وَيَقُولُونَ: سَيُغْفرُ لَنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مغفور , لا نؤاخذ به. والثاني: أنه ذنب لكن الله قد يغفره لنا تأميلاً منهم لرحمته. {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم أهل إصرار على الذنوب , قاله مجاهد وقتادة والسدي. والثاني: أنهم لا يشبعهم شيء , فهم لا يأخذونه لحاجة , قاله الحسن. {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: ألا يقولوا على الله إلا الحق في تحريم الحكم بالرشا. والثاني: في جميع الطاعات والمعاصي والأوامر والنواهي. {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} فيه تأويلان: أحدهما: تركوا ما فيه أن يعملوا به حتى صار دارساً. والثاني: أنهم قد تلوه ودرسوه فهم لا يجهلون ما فيه ويقومون على مخالفته مع العلم به.

171

{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون}

قوله عز وجل: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ... } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: زعزعناه , قاله ابن قتيبة , ومنه قول العجاج: (قد جرّبوا أخلاقنا الجلائلا. . ... ونتقوا أحلامنا الأثاقلا) والثاني: بمعنى جذبناه , والنتق: الجذب ومنه قيل للمرأة الولود ناتق , قال النابغة: (لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتقٍ مذكار.) واختلف في سبب تسميتها ناتقاً , فقيل لأن: خروج أولادها بمنزلة الجذب. وقيل: لأنها تجذب ماء الفحل تؤديه ولداً. والثالث: معناه ورفعناه عليهم من أصله. قال الفراء: رفع الجبل على عسكرهم فرسخاً في فرسخ. قال مجاهد: وسبب رفع الجبل عليهم أنهم أبوا أن يقبلوا فرائض التوراة لما فيها من المشقة , فوعظهم موسى فلم يقبلوا , فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم: إن أخذتموه بجد واجتهاد وإلا ألقي عليكم. قال ابن عباس , ومجاهد , وقتادة: فأخذوه بقوة ثم نكثوا بعد. واختلف في سبب رفع الجبل عليهم هل كان انتقاماً منهم أو إنعاماً عليهم؟ على قولين: أحدهما: أنه كان انتقاماً بالخوف الذي دخل عليهم. والثاني: كان إنعاماً لإقلاعهم به عن المعصية. { ... وَظّنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه غلب في نفوسهم انه واقع بهم على حقيقة الظن. والثاني: أنهم تيقنوه لما عاينوا من ارتفاعه عليهم , قاله الحسن.

{خُذُواْ مَاءَاتَيْنَاكُمْ} يعني التوارة. {بِقُوَّةٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: بجد واجتهاد. والثاني: بنية صادقة وطاعة خالصة.

172

{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون} قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمْ} أُختلف في الذين أخرجهم وأخذ ذلك عليهم على قولين: أحدهما: أنه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وجعل فيها من المعرفة ما علمت به من خاطبها. واختلف من قال بهذا هل كان ذلك قبل نزوله إلى الأرض على قولين: أحدهما: أنه كان في الجنة قبل هبوطه إلى الأرض. والثاني: أنه فعل ذلك بعد هبوطه إليها.

والقول الثاني: في الأصل أنه خلق الأرواح والأجساد معاً وذلك في الأرض عند جميع من قال بهذا التأويل. فعلى هذا فيه قولان:

أحدهما: أنه أخرجهم كالذر وألهمهم هذا فقالوه , قال الكلبي ومقاتل: وذلك أن الله مسح ظهر آدم بين مكة والطائف فخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية كالذر بيض , فهم أصحاب الميمنة. وخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية كالذر سود , فهم أصحاب المشأمة , فلما شهدوا على أنفسهم جميعاً من آمن منهم ومن كفر أعادهم. والثاني: أنه أخرج الذرية قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر. وفي {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قولان: أحدهما: هو أنه دلهم على أنفسهم بما شهدوه من قدرته , قاله بعض المتكلمين. والثاني: هو إشهادهم على أنفسهم بما اعترفوا من ربوبيته ووحدانيته. وفيه على التأويل قولان: أحدهما: أنه قال ذلك للآباء من بني آدم حين أخرج من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ليعلمهم أنه خلق ذرياتهم بعد أن لم يكونوا كان هو الخالق لهم لأنهم كانوا ذرية مثلهم لمن تقدمهم كما صار هؤلاء ذرية لهم فاعترفوا بذلك حين ظهرت لهم الحجة , قاله ابن بحر. والقول الثاني: أنه قال ذلك للذرية حين أخذهم من ظهور آبائهم , وهذا قول الأكثرين فعلى هذا فيه قولان: أحدهما: أنه قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} على لسان الأنبياء بعد أن كملت عقولهم. والثاني: أنه جعل لهم عقولاً علموا بها ذلك فشهدوا به على أنفسهم. وفي أصل الذرية قولان: أحدهما: لأنهم يخرجون من الأصلاب كالذر. والثاني: أنه مأخوذ من ذَرَأ الله الخلق إذا أحدثهم وأظهرهم.

175

{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون} قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ اْلَّذِيّ ءاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانَسَلَخَ مِنْهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه بلعام بن عوراء , واختلفوا فيه فقيل كان من اليمن , وقيل كان من الكنعانيين , وقيل من بني صال بن لوط , قاله ابن عباس , وابن مسعود. والثاني: أنه أمية بن أبي الصلت الثقفي , قاله عبد الله بن عمرو. والثالث: أنه من أسلم من اليهود والنصارى ونافق , قاله عكرمة. وفي الآيات التي أوتيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اسم الله الأعظم الذي تجاب به الدعوات , قاله السدي وابن زيد. والثاني: أنها كتاب من كتب الله. قاله ابن عباس. والثالث: أنه أوتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه , قاله مجاهد , وهو غير صحيح لأن الله لا يصطفي لنبوته إلا من يعلم أن لا يخرج عن طاعته إلى معصيته.

وفي قوله: {فَانسَلَخَ مِنهَا} وجهان: أحدهما: فانسلخ من العلم بها لأنه سيسلب ما أوتي منها بالمعصية. والثاني: أنه انسلخ منها أي من الطاعة بالمعصية مع بقاء علمه بالآيات حتى حكي أن بلعام رُيثي على أن يدعو على قوم موسى بالهلاك فسها فدعا على قومه فهلكوا. {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشيطان صيره لنفسه تابعاً بإجابته له حين أغواه. والثاني: أن الشيطان متبع من الإنس على ضلالته من الكفر. والثالث: أن الشيطان لحقه فأغواه , يقال اتبعت القوم إذا لحقتهم , وتبعتهم إذا سرت خلفهم , قاله ابن قتيبة. {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} فيه وجهان: أحدهما: من الهالكين. الثاني: من الضالين. قوله عز وجل: {وَلَو شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فيه وجهان: أحدهما: يعني لأمتناه فلم يكفر. والثاني: لحلنا بينه وبين الكفر فيصير إلى المنزلة المرفوعة معصوماً , قاله مجاهد. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} أي ركن إليها. وفي ركونه إليها وجهان: أحدهما: أنه ركن إلى أهلها في استنزالهم له ومخادعتهم إياه. والثاني: أنه ركن إلى شهوات الأرض فشغلته عن طاعة الله , وقد بين ذلك قوله تعالى {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}. ثم ضرب مثله بالكلب { ... إِن تَحْمِْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} وفي تشبيهه بالكلب اللاهث وجهان: أحدهما: لدناءته ومهانته. الثاني: لأن لهث الكلب ليس بنافع له.

178

{من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} , {ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} أي خلقنا ممن يصير إلى جهنم بكفره ومعصيته. و {كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} فيه قولان: أحدهما: أراد أولاد الزنى لأنهم من النطف الخبيثة مخلوقين , فهم أكثر الناس إسراعاً إلى الكفر والمعصية فيصيرون جامعين بين [سوء] المعتقد وخبث المولد. والقول الثاني: أنه على العموم في أولاد الزنى والرِشدة فيمن ولد من نكاح أو سفاح لأنهم مؤاخذون على أفعالهم لا على مواليدهم التي خبثت بأفعال غيرهم. {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} الحق. {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الرشد. {وَلَهُمْءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} الوعظ , فصاروا بترك استعمالها بمثابة من عَدِمها , قال مسكين الدرامي: (أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يُواري جارتي الجدر) (وأصم عما كان بينهما ... سمعي وما في سمعي الوقر)

180

{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}

قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} قال ابن عباس: كل أسمائه حسنى وفي المراد بالحسنى ها هنا وجهان: أحدهما: ما مالت إليه القلوب من ذكره بالعفو والرحمة دون السخط والنقمة. والثاني: أسماؤه التي يستحقها لنفسه ولفعله ومنها صفات هي طريقة المعرفة به , وهي تسعة: القديم الأول قبل كل شيء. والباقي بعد فناء كل شيء. والقادر الذي لا يعجزه شيء والعالم الذي لا يخفى عليه شيء. والحي الذي لا يموت. والواحد الذي ليس كمثله شيء والسميع البصير الذي لا يعزب عنه شيء والغني بنفسه عن كل شيء. وفي دعائه بها وجهان: أحدهما: نداؤه بها عند الرغبة إليه في الدعاء والطلب. والثاني: تعظيمه بها تعبداً له بذكرها. {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه يكذبون , قاله ابن عباس. والثاني: يشركون , قاله قتادة. والثالث: يحوّرون , قاله الأخفش. وفي إلحادهم فيها قولان: أحدهما: اشتقاقهم آلهتهم من أسماء الله , كما سموا بعضها باللات اشتقاقاً من الله , وبعضها بالعزى اشتقاقاً من العزيز , قاله ابن عباس , ومجاهد. والثاني: تسميتهم الأوثان آلهة والله عز وجل أبا المسيح وعزير.

181

{وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}

قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ خَلَقَنْآ أُمَّةٌ يَهُدُونَ بِالْحَقِّ} فيهم قولان: أحدهما: العلماء. والثاني: أنهم هذه الأمة. روى ذلك قتادة , وابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم.

182

{والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} والاستدراج أن تنطوي على حالة منزلة بعد منزلة. وفي اشتقاقه قولان: أحدهما: أنه مشتق من الدرج لانطوائه على شيء بعد شيء. والثاني: أنه مشتق من الدرجة لانحطاطه من منزلة بعد منزلة. وفي المشار إليه باستدراجهم قولان: أحدهما: استدراجهم إلى الهلكة. والثاني: الكفر. وقوله: {مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعلمون بالاستدراج. والثاني: لا يعلمون بالهلكة.

184

{أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} قوله عز وجل: {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِي لَهُ} فيه قولان:

أحدهما: معنى يضله يحكم بضلالته في الدين. والثاني: يضله عن طريق الجنة إلى النار. {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} والطغيان إفراط العدوان. وفي {يَعْمَهُونَ} وجهان: أحدهما: يتحيرون , والعمه في القلب كالعمى في العين. والثاني: يترددون , قاله قطرب واستشهد بقول الشاعر: (متى يعمه إلى عثمان يعمه ... إلى ضخم السرادق والقطار.)

187

{يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} فيه قولان: أحدهما: أن السائل عنها اليهود , قاله ابن عباس. والثاني: أن السائل عنها قريش , قاله الحسن , وقتادة. {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أما {أَيَّانَ} فمعنى متى , ومنه قول الراجز: (أيان تقضي حاجتي أيانا ... أما ترى لنجحها أوانا) وأما {مُرْسَاهَا} ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: قيامها , قالها السدي. والثاني: منتهاها , قاله ابن عباس. والثالث: ظهورها , قاله الأخفش.

{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّيِ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} لا يعلم وقتها إلا هو , نفياً أن يعلمها غير الله {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: كبر على أهل السموات والأرض مجيء الساعة , قاله الحسن. والثاني: ثقل عليهم قيام الساعة , قاله السدي. والثالث: معناه عظم وصفها على أهل السموات والأرض , قاله ابن جريج. {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} يعني على غفلة لأنه لا يعلمها غير الله , ولم ترد الأخبار عنها من جهة الله فصار مجيئها بغتة وذلك أشد لها كما قال الشاعر: 89 (وأنكأ شيء حين يفجؤك البغتُ} 9 {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} فيه تأويلان: أحدهما: معناه عالِمٌ بها , قاله مجاهد , والضحاك , وابن زيد , ومعمر. والثاني: معنى الكلام يسألونك عنها كأن حفي بهم , على التقديم والتأخير , أي كأنك بينك وبينهم مودة توجب برهم , من قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 46] قاله ابن عباس.

188

{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} أي لا أملك القدرة عليهما من غير مانع ولا صاد. {إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ} أن يملكني إياه فأملكه بمشيئته. {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لاستكثرت من العمل الصالح , قاله الحسن , وابن جريج. والثاني: لأعددت من السنة المخصبة للسنة المجدبة , قاله الفراء. والثالث: وهو شاذ: لاشتريت في الرخص وبعْت في الغلاء.

{وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: ما بي جنون كما زعم المشركون , قاله الحسن. والثاني: ما مسني الفقر لاستكثاري من الخير. والثالث: ما دخلت على شبهة.

189

{هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} {فَلَمَّاءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَاءَاتَاهُمَا} وذلك أن إبليس قال لحواء سَمِّيه: عبد الحارث , يعني نفسه لأنه اسمه في السماء كان (الحارث) فسمته عبد الله فمات , ثم حملت ولداً ثانياً فقال لها ذلك فلم تقبل , فمات , ثم حملت ثالثاً فقال لها ولآدم , أتظنان الله تارك عبده عندكما؟ لا والله ليذهبن به كما ذهب بالآخرين فسمياه بذلك فعاش , فهذا معنى قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَاءَاتَاهُمَا} أي في الاسم , فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض.

وقال الحسن وقتادة: إن المكنّى عنه بقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَاءَاتَاهُمَا} ابن آدم وزوجته , وليس براجع إلى آدم وحواء.

191

{أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} قوله عز وجل: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} يعني الأصنام , يعني أرجل يمشون بها في مصالحكم. {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} يعني في الدفع عنكم. {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} يعني مضاركم من منافعكم. {أَمْ لَهُمْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} دعاءَكم وتضرعكم. فإن قيل فلم أنكر عبادة من لا رجل له ولا يد ولا عين؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أن من عبد جسماً لا ينفع كان ألوم ممن عبد جسماً ينفع. والثاني: أنه عرفهم أنهم مفضلون عليها , فكيف يعبدون من هم أفضل منه.

199

{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من

الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} قوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: العفو من أخلاق الناس وأعمالهم , قاله ابن الزبير , والحسن , ومجاهد. الثاني: خذ العفو من أموال المسلمين , وهذا قبل فرض الزكاة ثم نسخ بها , قاله الضحاك والسدي وأحد قولي ابن عباس. والثالث: خذ العفو من المشركين , وهذا قبل فرض الجهاد , قاله ابن زيد. {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} فيه قولان: أحدهما: معناه بالمعروف , قاله عروة وقتادة. والثاني: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل حين نزلت عليه هذه الآية {خُذِ الْعَفْوَ وَأَْمُرْ بِالْعُرْفِ}: (يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا) قال: لا أدري أسأل العالم , قال (ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ فَقَالَ) (يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك , وتعفو عمَّن ظلمك) قاله ابن زيد. {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فإن قيل فكيف أمر بالإعراض مع وجوب الإنكار عليهم؟ قيل: إنما أراد الإعراض عن السفهاء استهانة بهم. وهذا وإن كان خطاباً لنبيِّه عليه السلام فهو تأديب لجميع خلقه. قوله عز وجل: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْعٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن النزغ الانزعاج. والثاني: الغضب. والثالث: الفتنة , قاله مقاتل.

{فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع بجهل من جهل , عليم بما يزيل عنك النزغ.

201

{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة {طَآئِفٌ} , وقرأ الباقون {طَيْفٌ} واختلف في هاتين القراءتين على قولين: أحدهما: أن معناهما واحد وإن اختلف اللفظان , فعلى هذا اختلف في تأويل ذلك على أربعة تأويلات: أحدها: أن الطيف اللمم كالخيال يلم بالإنسان. والثاني: أنه الوسوسة , قاله أبو عمرو بن العلاء. والثالث: أنه الغضب , وهو قول مجاهد. والرابع , أنه الفزع , قاله سعيد بن جبير. والقول الثاني: أن معنى الطيف والطائف مختلفان , فالطيف اللمم , والطائف كل شيء طاف بالإنسان. {تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: علموا فإذا هم منتهون. والثاني: اعتبروا فإذا هم مهتدون.

203

{وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا

بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه هلا أتيتنا بها من قبل نفسك , وهذا قول مجاهد , وقتادة. والثاني: معناه هلا اخترتها لنفسك. والثالث: معناه هلا تقبلتها من ربك , قاله ابن عباس.

204

{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} قوله عز وجل {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَآنُ فِاسْتَمِعُوا لَهُ} أي لقراءته. {وَأَنصِتُواْ} أي لا تقابلوه بكلام ولا إعراض {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. واختلفوا في موضع هذا الإنصات على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في المأموم خلف الإمام ينصت ولا يقرأ , قاله مجاهد. والثاني: أنها نزلت في خطبة الجمعة ينصت الحاضر لاستماعها ولا يتكلم , قالته عائشة , وعطاء. والثالث: ما قاله ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة , سلام على فلان , سلام على فلان , فجاء القرآن من {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ}.

205

{واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} قوله عز وجل: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} وفي هذا الذكر ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ذكر القرءاة في الصلاة خلف الإمام سراً في نفسه قاله قتادة. والثاني: أنه ذكر بالقلب باستدامة الفكر حتى لا ينسى نعم الله الموجبة لطاعته.

والثالث: ذكره باللسان إما رغبة إليه في دعائه أو تعظيماً له بالآية. وفي المخاطب بهذا الذكر قولان: أحدهما: أنه المستمع للقرآن إما في الصلاة أو الخطبة , قاله ابن زيد. والثاني: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه عام في جميع المكلفين. ثم قال: {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} أما التضرع فهو التواضع والخشوع , وأما الخيفة فمعناه مخافة منه. {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} يعني أسرَّ القول إما بالقلب أو باللسان على ما تقدم من التأويلين. ثم قال تعالى: {بالْغُدُوِّ وَالأَصْالِ} فيه وجهان: أحدهما: بالبكر والعشيات. والثاني: أن الغدو آخر الفجر صلاة الصبح , والآصال آخر العشي صلاة العصر , قاله مجاهد , ونحوه عن قتادة. {وَلاَ تَكُنِ مِّنَ الْغَافِلِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: عن الذكر. والثاني: عن طاعته في كل أوامره ونواهيه , قاله الجمهور. {وَيُسَبِّحُونَهُ وََلَهُ يَسْجُدُونَ} وهذا أول سجدات التلاوة في القرآن. وسبب نزولها ما قاله كفار مكة {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60]. فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن الملائكة المقربين إذا كانوا على هذه الحال في الخضوع والرغبة فأنتم بذلك أولى والله أعلم بالصواب.

سورة الأنفال

الأنفال

{يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله أصحابه يوم بدر عن الأنفال. وفي هذه الأنفال التي سألوه عنها خمسة أقاويل: أحدها: أنها الغنائم , وهذا قول ابن عباس , وعكرمة , وقتادة , والضحاك , الثاني: أنها السرايا التي تتقدم الجيش , وهذا قول الحسن. الثالث: الأنفال ما ندّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من دابة أو عبد , وهذا أحد قولي ابن عباس. الرابع: أن الأنفال الخمس من الفيء والغنائم التي جعلها الله تعالى لأهل الخمس , وهذا قول مجاهد.

الخامس: أنها زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش لما قد يراه من الصلاح. والأنفال جمع نَفَل , وفي النفل قولان: أحدهما: أنه العطية , ومنه قيل للرجل الكثير العطاء: نوفل , قال الشاعر: 89 (يأتي الظلامة منه النوفل الزُّفَرُ} 9 فالنوفل: الكثير العطاء. والزفر: الحمال للأنفال , ومنه سمي الرجل زفر. والقول الثاني: أن النفل الزيادة من الخير ومنه صلاة النافلة. قال لبيد بن ربيعة: (إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل) واختلفوا في سبب نزول هذه الآية على أربعة أقاويل: أحدها: ما رواه ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكذَا) فسارع إليه الشبان وبقي الشيوخ تحت الرايات , فلما فتح الله تعالى عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم , فأنزل الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} الآية. الثاني: ما روى محمد بن عبيد بن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميةَ وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هبه لي يا رسول الله , فقال: (اطْرَحْهُ فِى

القَبض) فطرحته ورجعت وبي من الغم ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي , قال: فما تجاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال فقال: (اذْهَبْ فُخُذْ سَيْفَك). الثالث: أنها نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً فاختلفوا وكانوا أثلاثاً فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} الآية. فملّكه الله رسوله فقسمه كما أراه الله , قاله عكرمة والضحاك وابن جريج. والرابع: أنهم لم يعلموا حكمها وشكّوا في إحلالها لهم مع تحريمها على من كان قبلهم فسألوا عنها ليعلموا حكمها من تحليل أو تحريم فأنزل الله تعالى هذه الآية. ثم اختلف أهل العلم في نسخ هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الانفال: 41]. الآية , قاله عكرمة , ومجاهد , والسدي. والقول الثاني: أنها ثابتة الحكم ومعنى ذلك؛ قل الأنفال لله , وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة , والرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها , قاله ابن زيد. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فيه وجهان:

أحدهما: أن يرد أهل القوة على أهل الضعف. الثاني: أن يسلِّموا لله وللرسول ليحكما في الغنيمة بما شاء الله.

2

{إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: خافت. الثاني: رَقّتْ. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيهِمْءَايَاتُهُ} يعني آيات القرآن بما تضمنته من أمر ونهي. {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} فيه وجهان: أحدهما: تصديقاً. الثاني: خشية. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: فيما يخافونه من الشدة في الدنيا. الثاني: فيما يرجونه من ثواب أعمالهم في الآخرة.

5

{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} قوله عز وجل: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} فيه قولان: أحدهما: كما أخرجك ربك من مكة إلى المدينة بالحق مع كراهه فريق من المؤمنين كذلك ينجز وعدك في نصرك على أعدائك بالحق. والثاني: كما أخرجك ربك من بيتك مِن المدينة إلى بدر بالحق كذلك جعل لك غنيمة بدر بالحق. وفي قوله: {بِالْحَقِّ} وجهان: أحدهما: أنك خرجت ومعك الحق. الثاني: أنه أخرجك بالحق الذي وجب عليك. {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} فيه وجهان: أحدهما: كارهون خروجك.

الثاني: كارهون صرف الغنيمة عنهم لأنهم لم يعلموا أن الله تعالى قد جعلها لرسوله دونهم. قوله عز وجل: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} يعني في القتال يوم بدر. و {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} يحتمل وجهين: أحدهما: بعد ما تبين لهم صوابه. الثاني: بعد ما تبين لهم فرضه. وفي المجادل له قولان: أحدهما: أنهم المشركون , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم طائفة من المؤمنين وهو قول ابن عباس , وابن إسحاق , لأنهم خرجوا لأخذ العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان فلما فاتهم ذلك أمروا بالقتال فجادلوا طلباً للرخصة وقالوا ما تأهبنا في الخروج لقتال العدو , فأنزل الله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} يعني كأنهم في قتال عدوهم يساقون إلى الموت , رعباً وأسفاً لأنه أشد لحال من سيق إلى الموت أن يكون ناظراً له وعالماً به. قوله عز وجل: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الآية. وسبب ذلك أن عير قريش لما أقبلت من الشام مع أبي سفيان همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لأخذها , وسار فبلغ ذلك قريشاً فخرجت للمنع عنها , فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها شاور أصحابه , فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة , فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك , فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد وقال: (سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الْطَّائِفَتَينِ وَاللَّهِ لَكَأَنِي أَنْظُرُ الآنَ إِلَى مَصَارِعِ الْقَومِ) فذلك معنى قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ} يعني العير التي مع أبي سفيان أو الظفر بقريش الخارجين للمنع منها.

{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي غير ذات الحرب وهي العير لأن نفوسهم في لقائها أسكن , وهم إلى ما فيها من الأموال أحوج. وفي الشوكة التي كُني بها عن الحرب وجهان: أحدهما: أنها الشدة فكُني بها عن الحرب لما فيها من الشدة , وهذا قول قطرب. والثاني: أنها السلاح , وكُني بها عن الحرب لما فيها من السلاح , من قولهم رجل شاكٍ في السلاح , قاله ابن قتيبة. {وَيُريدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} فيه قولان: أحدهما: إظهار الحق بإعزاز الدين في وقته على ما تقدم من وعده. والثاني: أن الحق في أمره لكم أن تجاهدوا عدوكم. وفي صفة ذلك وجهان لأصحاب الخواطر. أحدهما: يحق الحق بالإقبال عليه ويبطل الباطل بالإعراض عنه. الثاني: يحق الحق بالقبول ويبطل الباطل بالرد. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} معناه ليظهر الحق يعني الإسلام. {ويُبْطِلَ الْبَاطِلَ} أي يذهب بالباطل يعني الشرك. قال الحسن. هذه الآية نزلت قبل قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} وهي في القراءة بعدها. روى سماك عن عكرمة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فقال له العباس وهو أسير في أيديهم: ليس لك ذلك , فقال: (لم؟) فقال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك.

9

{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم}

قوله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: تستنصرون. الثاني: تستجيرون. والفرق بين المستنصر والمستجير أن المستنصر: طالب الظفر , والمستجير: طالب الخلاص. والفرق بين المستغيث والمستعين أن المستغيث: المسلوب القدرة , والمستعين الضعيف القدرة. {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} أي فأعانكم. والفرق بين الاستجابة والإجابة أن الإجابة ما لم يتقدمها امتناع. {أَنَِّي مُمِدُّكُم بَأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مع كل ملك ملك , وهو قول ابن عباس فتكون الألف ألفين. قال الشاعر: (إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا) الثاني: معناه متتابعين , قاله السدي , وقتادة. الثالث: معنى مردفين أي ممدّين , والإرداف إمداد المسلمين بهم , قاله مجاهد. {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى} فيه وجهان: أحدهما: أن البشرى هي في مددهم بألف من الملائكة بشروهم بالنصر فكانت هي البشرى التي ذكرها الله تعالى. والثاني: البشرى النصرة التي عملها الله لهم. {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: بالبشرى. والثاني: بالملائكة. واختلفوا في قتال الملائكة معهم على قولين:

أحدهما: لم يقاتلوا وإنما نزلوا بالبشرى لتطمئن به قلوبهم , وإلا فملك واحد يهلك جميع المشركين كما أهللك جبريل قوم لوط. الثاني: أن الملائكة قاتلت مع النبي صلى الله عليه وسلم كما روى ابن مسعود أنه سأله أبو جهل: من أين كان يأتينا الضرب ولا نرى الشخص؟ قال: (مِن قِبَلِ الْمَلاَئِكَةِ) فقال: هم غلبونا لا أنتم. وقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} لئلا يتوهم أن النصر من قبل الملائكة لا من قبل الله تعالى.

11

{إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسُ أَمَنَةً مِّنْهُ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وكثيراً من أصحابه غشيهم النعاس ببدر. قال سهل بن عبد الله: النعاس يحل في الرأس مع حياة القلب , والنوم يحل في القلب بعد نزول من الرأس , فهوَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ناموا فبشر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر فأخبر به أبا بكر. وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أن أمَّنَهم بزوال الرعب من قلوبهم , كما قال: الأمن منيم , والخوف مسهر.

وقوله تعالى: {أََمَنَةً مِّنْهُ} يعني به الدعة وسكون النفس من الخوف وفيه وجهان: أحدهما: أمنة من العدو. الثاني: أمنة من الله سبحانه وتعالى. {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} لأن الله تعالى أنزل عليهم ماء السماء معونة لهم بثلاثة أمور: أحدها: الشرب وإن كانوا على ماء. الثاني: وهو أخص أحواله بهم في ذلك المكان وهو أن الرمل تلبد بالماء حتى أمكن المسلمين القتال عليه. والثالث: ما وصفه الله تعالى به من حال التطهير. وفي تطهيرهم به وجهان: أحدهما: من وساوس الشيطان التي ألقى بها في قلوبهم الرعب , قاله زيد بن أسلم. والثاني: من الأحداث والأنجاس التي نالتهم , قاله الجمهور. قال ابن عطاء: أنزل عليهم ماءً طهر به ظواهر أبدانهم , وأنزل عليهم رحمة نقّى بها سرائر قلوبهم. وإنما خصه الله تعالى بهذه الصفة لأمرين. أحدهما: أنها أخص صفاته. والثاني: أنها ألزم صفاته. ثم قال: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيَطانِ} فيه قولان: أحدهما: وسوسته أن المشركين قد غلبوهم على الماء , قاله ابن عباس. والثاني: كيده وهو قوله: ليس لكم بهؤلاء القوم طاقة , قاله ابن زيد. {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ثقة بالنصر. والثاني: باستيلائهم على الماء.

{وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} فيه قولان: أحدهما: بالصبر الذي أفرغه الله تعالى حتى يثبتوا لعدوهم , قاله أبو عبيدة. والثاني: تلبيد الرمل بالمطر الذي لا يثبت عليه قدم , وهو قول ابن عباس , ومجاهد , والضحاك. قوله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} معناه معينكم ويحتمل أن يكون معناه إني معكم في نصرة الرسول , فتكون الملائكة لتثبيت المؤمنين , والله تعالى متولي النصر بما ألقاه من الرعب في قلوب المشركين. {فَثَبِّتُوا الَّذِينَءَامَنُواْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: فثبوتهم بحضوركم معهم في الحرب. والثاني: بقتالكم معهم يوم بدر , قاله الحسن. والثالث: بإخبارهم أنه لا بأس عليهم من عدوهم. {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} يعني الخوف , ويحتمل أحد وجهين: إما أن يكون إلقاء الرعب بتخاذلهم , وإما أن يكون بتكثير المسلمين في أعينهم. وفي ذلك وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك للملائكة معونة لهم. والثاني: أنه قال ذلك له ليثبتوا به الذين آمنوا. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: فاضربوا الأعناق , وفوق صلة زائدة في الكلام , قاله عطية والضحاك. وقد روى المسعودي عن القاسم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لأُُعَذِّبَ بَعَذَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ بِضَرْبِ الأَعْنَاقِ وَشَدِّ الْوَثَاقِ). والثاني: معناه واضربوا الرؤوس فوق الأعناق , قاله عكرمة.

والثالث: فاضربوا على الأعناق. والرابع: فاضربوا على الأعناق. والخامس: فاضربوا فوق جلدة الأعناق. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يعني المفاصل من أطراف الأيدي والأرجل والبنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين.

15

{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً} والزحف: الدنو قليلاً قليلاً. {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} يعني بالهزيمة منهم والانصراف عنهم. وفيه قولان: أحدهما: أن هذا على العموم في تحريم الهزيمة بعد لقاء العدو. والثاني: مخصوص وهو أن الله تعالى أوجب في أول الإِسلام على كل رجل من المسلمين أن يقف بإزاء عشرة من المشركين لا يحل له بعد اللقاء أن ينهزم عنهم وذلك بقوله: {إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَينِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةُ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِنَ الَّذينَ كَفرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] وفيه وجهان: أحدهما: لا يعلمون ما فرضه الله تعالى عليه من الإسلام. الثاني: لا يعلمون ما فرضه الله تعالى عليهم من القتال. ثم نسخ ذلك عنهم بعد كثرتهم واشتداد شوكتهم فأوجب الله تعالى على كل رجل لاقى المشركين محارباً أن يقف بإزاء رجلين بعد أن كان عليه أن يقف بإزاء عشرة تخفيفاً ورخصة وذلك قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُم ضَعْفاً}.

قرىء بضم الضاد وفتحها , وفي اختلاف القراءتين وجهان: أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد , قاله الفراء. والثاني: معناهما مختلف. وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: أنها بالفتح: الضعف في الأموال , وبالضم: الضعف في الأحوال. الثاني: أنها بالفتح: الضعف في النيات , وبالضم: الضعف في الأبدان. وقيل بعكس الوجهين في الوجهين. ثم قال: {فَإِن يَكُن مِّنكم مَّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَينِ بِإِذنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فيه تأويلان: أحدهما: مع الصابرين على القتال في معونتهم على أعدائهم. الثاني: مع الصابرين على الطاعة في قبول عملهم وإجزال ثوابهم , فصار حتماً على من لاقى عدوه من المشركين زحفاً أن لا ينهزم مع القوة على المصابرة حتى يقضي الله من أمره ما شاء فأما الهزيمة مع العجز عن المصابرة فإن قاتله أكثر من مثليه جاز أن يُولي عنهم منهزماً , وإن قاتله مثلاه فمن دون حرم عليه أن يوليّ عنهم منهزماً على صفتين: إما أن يتحرف لقتال وهو أن يهرب ليطلب , ويفر ليكر فإن الحرب كرٌ وفرٌ , وهرب وطلب , وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى ليقاتل معها , قربت الفئة أو بعدت , وذلك ظاهر في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} أي صار بالمكان الذي يحق عليه غضب الله , مأخوذ من المبوأ وهو المكان. ومذهب الشافعي وأصحابه وموافقيه أن هذا على العموم , محكوم به في كل مسلم لاقى عدواً , وبه قال عبد الله بن عباس.

وحكي عن الحسن , وقتادة , والضحاك: أن ذلك خاص في أهل بدر , وبه قال أبو حنيفة.

17

{فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} قوله عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم. والثاني: ولكن الله قتلهم بمعونته لكم حين ألقى في قلوبهم الرعب وفي قلوبكم النصر. وفيه وجه ثالث قاله ابن بحر: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم. وقيل لم تقتلوهم بقوتكم وسلاحكم ولكن الله قتلهم بخذلانهم وقبض أرماحهم. {وَمَا رَمَيْتَ إذَ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: ما حكاه ابن عباس , وعرة , والسدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض يوم بدر قبضة من تراب رماهم بها وقال: (شَاهَتِ الْوُجُوهُ) أي قبحت ومنه قول الحطيئة: (أرى لي وجهاً شوه الله خلقه. . ... فقُبح من وجهٍ وقبح حامله.) فألقى الله تعالى القبضة في أبصارهم حتى شغلتهم بأنفسهم وأظفر الله المسلمين بهم , فهو معنى قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إذَ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى}. الثاني: معناه وما ظفرت إذ رميت ولكن الله أظفرك , قاله أبو عبيدة.

الثالث: وما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ولكن الله ملأ قلوبهم رعباً. والقول الرابع: أنه أرد رمى أصحابه بالسهم فأصاب رميهم. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} يعني بما أرسله من الريح المعينة لسهامهم حتى سددت وأصابت. والمراد بالرمي الإصابة لأن معى الرمي محمول على الإصابة , فإن لم يصب قيل رمى فأخطأ. وإذا قيل مطلقاً: قد رمى , لم يعقل منه إلا الإصابة. ألا ترى إلى قول امرىء القيس: 89 (فرماها في فرائصها.} 9 فاستغنى بذكر الرمي عن وصفه بالإصابة. وقال ذو الرمة في الرأي: (رمى فأخطأ والأقدار غالبةٌ. . ... فانصاع والويل هجيراه والحربُ) قوله عز وجل: {وَليُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً} قال أصحاب الخواطر: البلاء الحسن ما يورثك الرضا به والصبر عليه. وقال المفسرون: البلاء الحسن ها هنا النعمة بالظفر والغنيمة.

19

{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين} قوله عز وجل: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} في قولان: أحدهما: إن تستنصروا الله , فالفتح النصر , فقد جاءكم فضل الله بنصرنا , حكاه ابن الأنباري. والثاني: معناه إن تستنصروا الله , والفتح النصر , فقد جاءكم نصر الله لنا عليكم , وفي هذا الخطاب قولان. أحدهما: أنه خطاب للمشركين لأنهم استنصروا يوم بدر بأن قالوا: اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصره عليه , فنصر الله تعالى نبيه والمسلمين عليهم.

ثم قال {وَإن تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ} لأن الاستنصار كان عليهم لا لهم. {وَإن تَعُودُواْ نَعُدْ} فيه وجهان: أحدهما: وإن تعودوا إلى مثل هذا التكذيب نعد إلى مثل هذا التصديق. والثاني: وإن تعودوا إلى مثل هذا الاستفتاح نعد إلى مثل هذا النصر. والقول الثاني: أنه خطاب للمؤمنين نصرهم الله تعالى يوم بدر حين استنصروه {وَإن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني عما فعلتموه في الأسرى والغنيمة. {وإن تَعودوا نعد} فيه وجهان: أحدهما: وإن تعودوا إلى الطمع نعد إلى المؤاخذة. الثاني: وإن تعودوا إلى مثل ما كان منكم في الأسرى والغنيمة نعد إلى الإنكار عليكم.

20

{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} قوله عز وجل: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} أما الدواب فاسم لكل ما دب على الأرض من حيوانها لدبيبه عليها مشياً , وكان بالخيل أخص. والمراد بِشَرِّ الدواب الكفار لأنهم شر ما دبّ على الأرض من الحيوان. ثم قال: {الصُّمُّ} لأنهم لا يسمعون الوعظ. {الْبُكْمُ} والأبكم هو المخلوق أخرس , وإنما وصفهم بالبكم لأنهم لا يقرون بالله تعالى ولا بلوازم طاعته. {الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعقلون عن الله تعالى أمره ونهيه. والثاني: لا يعتبرون اعتبار العقلاء. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في بني عبد الدار. قوله عز وجل: {وَلَو عَلِمَ اللَّهُ فِيهِم خَيْراً} يحتمل وجهين:

أحدهما: اهتداء. الثاني: إصغاء. {لأَسْمَعَهُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: لأسمعهم الحجج والمواعظ سماعَ تفهيم وتعليم , قاله ابن جريج وابن زيد. الثاني: لأسمعهم كلام الذين طلبوا إحياءهم من قصي بن كلاب وغيره يشهدون بنبوتك قاله بعض المتأخرين. والثالث: لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه , قاله الزجاج. {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: ولو أسمعهم الحجج والمواعظ لأعرضوا عن الإصغاء والتفهم. والثاني: ولو أجابهم إلى ما اقترحوه لأعرضوا عن التصديق.

24

{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} قوله عز وجل: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} يعني أجيبوا الله والرسول قال كعب ابن سعد الغنوي. (وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب) وإجابة الله تعالى هي طاعة أمره , وإنما خرجت عن هذا اللفظ لأنها في مقابلة الدعاء إليها فصارت إجابة لها. {إذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} فيه سبعة أقاويل: أحدها: إذا دعاكم إلى الإيمان , قاله السدي. والثاني: إذا دعاكم إلى الحق , قاله مجاهد. والثالث: إذا دعاكم إلى ما في القرآن , قاله قتادة. والرابع: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو , قاله ابن إسحاق.

والخامس: إذا دعاكم إلى ما فيه دوام حياتكم في الآخرة , ذكره علي بن عيسى. والسادس: إذا دعاكم إلى ما فيه إحياء أمركم في الدنيا , قاله الفراء. والسابع: أنه على عموم الدعاء فيما أمرهم به. روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبيّ وهو قائم يصلي فصرخ به قال: (يَاأُبيّ) قال فعجل في صلاته , ثم جاء , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مَنَعَكَ إذْ دَعَوتُكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟) قال: يا رسول الله كنت أصلي , فقال: (أَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ {اسْتَجِيْبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْْ}) قال بلى يا رسول الله , لا أعود. {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فيه لأهل التأويل سبعة أقاويل: أحدها: يحول بين الكافر والإيمان , وبين المؤمن والكفر , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير والضحاك. والثاني: يحول بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل , قاله مجاهد. والثالث: يحول بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه , قاله السدي. والرابع: معناه أنه قريب من قلبه يحول بينه وبين أن يخفى عليه شيء من سره أو جهره فصار أقرب من حبل الوريد , وهذا تحذير شديد , قاله قتادة. والخامس: معناه يفرق بين المرء وقلبه بالموت فلا يقدر على استدراك فائت. ذكره علي بن عيسى. والسادس: يحول بين المرء وما يتمناه بقلبه من البقاء وطول العمر والظفر والنصر , حكاه ابن الأنباري.

والسابع: يحول بين المرء وما يوقعه في قلبه من رعب خوف أو قوة وأمن , فيأمن المؤمن من خوفه , ويخاف الكافر عذابه.

25

{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} قوله عز وجل: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} فيها أربعة أقاويل: أحدها: أنه المنكر , أمر الله تعالى المؤمنين ألا يقروه بين أظهرهم فيعمهم العذاب قاله ابن عباس. والثاني: أنها الفتنة بالأموال والأولاد كما قال تعالى {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُم فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] قاله عبد الله بن مسعود. والثالث: أن الفتنة ها هنا البلية التي يبلى الإنسان بها , قاله الحسن. والرابع: أنها نزلت في النكاح بغير وليّ , قاله بشر بن الحارث. ويحتمل خامساً: أنها إظهار البدع. وفي قوله تعالى: {لاَ تُصِيَبنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُم خَاصَّةً} وجهان: أحدهما: لا تصيبن الفتنة الذين ظلموا. الثاني: لا يصيبن عقابُ الفتنة , فتكون لأهل الجرائم عقوبة , ولأهل الصلاح ابتلاء. وفيه وجه ثالث: أنه دعاء للمؤمن أن لا تصيبه فتنة , قاله الأخفش.

26

{واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} قوله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ إذْ أنتُم قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ} يريد بذلك قلتهم إذ كانوا بمكة وذلتهم باستضعاف قريش لهم. وفي هذا القول وجهان:

أحدهما: أن الله ذكّرهم بذلك نعمه عليهم. والثاني: الإخبار بصدق وعده لهم. {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} فيه قولان: أحدهما: يعني بالناس كفار قريش , قاله عكرمة وقتادة. والثاني: فارس والروم , قاله وهب بن منبه. ثم بيّن ما أنعم به عليهم فقال {فَئَاوَاكُمْ} وفيه وجهان: أحدهما: أي جعل لكم مأوى تسكنون فيه آمنين. والثاني: فآواكم بالهجرة إلى المدينة , قاله السدي. {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} أي قواكم بنصره لكم على أعدائكم يوم بدر. {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني من الحلال , وفيه قولان: أحدهما: ما مكنكم فيه من الخيرات. والثاني: ما أباحكم من الغنائم , قاله السدي. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية في المهاجرين خاصة بعد بدر.

27

{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} قوله عز وجل: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَآمَنُواْ لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فيه قولان: أحدهما: لا تخونوا الله سبحانه والرسول عليه السلام كما صنع المنافقون في خيانتهم , قاله الحسن والسدي. والثاني: لا تخونوا الله والرسول فيما جعله لعباده من أموالكم. ويحتمل ثالثاً: أن خيانة الله بمعصية رسوله , وخيانة الرسول , بمعصية كلماته. {وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فيما أخذتموه من الغنيمة أن تحضروه إلى المغنم. الثاني: فيما ائتمن الله العباد عليه من الفرائض والأحكام أن تؤدوها بحقها ولا تخونوها بتركها.

والثالث: أنه على العموم في كل أمانة أن تؤدى ولا تخان. {وَأَنتُم تَعْلَمُونَ} فيه قولان: أحدهما: وأنتم تعلمون أنها أمانة من غير شبهة. والثاني: وأنتم تعلمون ما في الخيانة من المأثم بخلاف من جهل. قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية في أبي لُبابَة بن عبد المنذر أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لنزلوا على حكم سعد فاستشاروه وكان قد أحرز أولاده وأمواله عندهم فأشار عليهم أن لا يفعلوا وأومأ بيده إلى حلقة أنه الذبح فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُم فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن ما عند الله تعالى من الأجر خير من الأموال والأولاد. والثاني: أن ما عند الله تعالى من أجر الحسنة التي يجازي عليها بعشر أمثالها أكثر من عقوبة السيئة التي لا يجازي عليها إلا بمثلها.

29

{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِنَّ تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معنى فرقاناً أي هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل , قاله ابن زيد وابن إسحاق. والثاني: يعني مخرجاً في الدنيا والآخرة , قاله مجاهد. والثالث: يعني نجاة , قاله السدي. والرابع: فتحاً ونصراً , قاله الفراء. ويحتمل خامساً: يفرق بينكم وبين الكافر في الآخرة.

30

{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} قوله عز وجل {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} وذلك أن قريشاً تآمروا في دار الندوة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمرو بن هشام: قيدوه واحبسوه في بيت نتربص به ريب المنون. وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم على بعير مطرود تستريحوا منه ومن أذاه لكم. قال أبو جهل: ما هذا برأي ولكن اقتلوه وليجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية. فأوحى الله عز وجل بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الغار مع أبي بكر رضي الله عنه ثم هاجر منه إلى المدينة , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. فهذا بيان قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ليثبتوك في الوثاق , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. والثاني: ليثبتوك في الحبس , قاله عطاء وعبد الله بن كثير والسدي. والثالث: معنى يثبتوك أي يخرجوك , كما يقال قد أثبته في الحرب إذا أخرجته , قاله بعض المتأخرين. {أَوْ يُخْرِجُوكَ} فيه وجهان: أحدهما: أو يخرجوك من مكة إلى طرف من أطراف الأرض كالنفي. والثاني: أو يخرجوك على بعير مطرود حتى تهلك , أو يأخذك بعض العرب فتقتلك فتريحهم منك , قاله الفراء.

31

{وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}

قوله عز وجل {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: قد سمعنا هذا منكم ولا نطيعكم. والثاني: قد سمعنا قبل هذا مثله فماذا أغناكم. {لَوْ نَشَآءَ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} يحتمل وجهين: أحدهما: مثل هذا في النظم والبيان معارضة له في الإعجاز. والثاني: مثل هذا في الاحتجاج معارضة له في الاستدعاء إلى الكفر. {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني أحاديث الأولين ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه قصص من مضى وأخبار من تقدم. والثاني: أنه مأخوذ عمن تقدم وليس بوحي من الله تعالى. وقيل إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة , وقد قلته النبي صلى الله عليه وسلم صبراً في جملة ثلاثة من قريش: عقبه بن أبي معيط , والمطعم بن عدي , والنضر بن الحارث وكان أسير المقداد , فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل النضر قال المقداد: أسيري يا رسول الله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمْ أَعِنِ المِقْدَادَ) , فقال: هذا أردت. وفيه أنزل الله تعالى الآية التي بعدها. {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّْ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حَجَارَةً مِنَ السَّمَآءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي هذا القول وجهان: أحدهما: أنهم قالوا ذلك عناداً للحق وبغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنهم قالوا ذلك اعتقاداً أنه ليس بحق. وفيهم نزل قوله تعالى {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] وفيهم نزل قوله تعالى: {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16]. قال عطاء: لقد نزلت في النضر بضع عشرة آية من كتاب الله تعالى. قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِم} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قال ذلك إكراماً لنبيه وتعظيماً لقدره أن يعذب قوماً هو بينهم. تعظيماً لحرمته.

والثاني: إرساله فيهم رحمة لهم ونعمة عليهم فلم يجز أن يعذبهم وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة بإخراجه عنهم. {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: وما كان الله ليعذب مشركي أهل مكة وقد بقي فيهم من المسلمين قوم يستغفرون وهذا قول الضحاك وأبي مالك وعطية. والثاني: لا يعذبهم في الدنيا وهم يستغفرون فيها فيقولون: غفرانك. قال ابن عباس: كان المشركون بمكة يطوفون بالبيت ويقولون: لبيك لبيك لا شريك لك , فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قَدْ قَدْ) فيقولون: إلا شريكاً هو لك , تملكه وما ملك , ويقولون غفرانك , فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قاله أبو موسى ويزيد بن رومان ومحمد بن قيس. والثالث: أن الاستغفار في هذا الموضع الإسلام , ومعنى الكلام: وما كان الله معذبهم وهم يسلمون , قاله عكرمة ومجاهد. والرابع: وما كان الله معذب من قد سبق له من الله الدخول في الإسلام , قاله ابن عباس. والخامس: معناه أنهم لو استغفروا لم يعذبوا استدعاء لهم إلى الاستغفار , قاله قتادة والسدي وابن زيد. والسادس: وما كان الله معذبهم أي مهلكهم وقد علم أن لهم أولاد وذرية يؤمنون ويستغفرون.

34

{وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وما

كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} قوله عز وجل {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ البَيتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} في المكاء قولان: أحدهما: أنه إدخال أصابعهم في أفواههم , قاله مجاهد. والثاني: هو أن يشبك بين أصابعه ويصفر في كفه بفيه فيكون المكاء هو الصفير , ومنه قول عنترة: (وحليل غنيةٍ تركت مُجدّلا ... تمكو فريصته بشدق الأعلم) أي تصفر بالريح لما طعنته. وأما التصدية ففيها خمسة أقاويل: أحدهما: أنه التصفيق , قاله ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وقتادة والسدي ومنه قول عمرو بن الإطنابة: (وظلواْ جميعاً لهم ضجة ... مكاء لدى البيت بالتصدية) والثاني: أنه الصد عن البيت الحرام , قاله سعيد بن جبير وابن زيد. والثالث: أن يتصدى بعضهم لبعض ليفعل مثل فعله , ويصفر له إن غفل عنه , قاله بعض المتأخرين. الرابع: أنها تفعلة من صد يصد , وهو الضجيج , قاله أبو عبيدة. ومنه قوله تعالى: {إِذَا قَومُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] أي يضجون. الخامس: أنه الصدى الذي يجيب الصائح فيرد عليه مثل قوله , قاله ابن بحر. فإن قيل: فلم سمَّى الله تعالى ما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية صلاة وليس منها؟

قيل عن ذلك جوابان: أحدهما: أنهم كانوا يقيمون التصفيق والصفير مقام الدعاء والتسبيح فجعلوا ذلك صلاة وإن لم يكن في حكم الشرع صلاة. والثاني: أنهم كانوا يعملون كعمل الصلاة. {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ} فيه قولان: أحدهما: عذاب السيف يوم بدر , قاله الحسن الضحاك وابن جريج وابن إسحاق. والثاني: أنه يقال لهم في الآخرة {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وفيه وجهان: أحدهما: فالقوا. الثاني: فجربوا. وحكى مقاتل في نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد الحرام قام من كفار بني عبد الدار بن قصي رجلان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم يصفران كما يصفر المكاء والمكاء طائر , ورجلان منهم عن يساره يصفقان بأيديهما ليخلطوا عليه صلاته وقراءته , فنزلت هذه الآية فيهم.

36

{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} قوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: أنها نفقة قريش في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر , قاله الضحاك. والثاني: أنه أبو سفيان استأجر معه يوم أُحد ألفين من الأحابيش ومنه كنانة

ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم , سوى من انحاز إليه من العرب , قاله سعيد ومجاهد والحكم بن عيينة , وفي ذلك يقول كعب بن مالك: (وجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسرٌ ومقنع) (ثلاثة آلافٍ ونحن نَصِيَّة ... ثلاثُ مئينٍ إن كثرنا فأربع) {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسْرَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: يكون إنفاقها عليهم حسرة وأسفاً عليها. والثاني: تكون خيبتهم فيما أملوه من الظفر عليهم حسرة تحذرهم بعدها. {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} وعد بالنصر فحقق وعده. قوله عز وجل {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فيه وجهان: أحدهما: الحلال من الحرام. الثاني: الخبيث ما لم تخرج منه حقوق الله تعالى , والطيب: ما أخرجت منه حقوق الله تعالى. يحتمل ثالثاً: أن الخبيث: ما أنفق في المعاصي , والطيب: ما أنفق في الطاعات. {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} أي يجمعه في الآخرة وإن تفرق في الدنيا {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي يجعل بعضه فوق بعض , ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43]. وفي قوله تعالى {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} وإن كانت الأموال لا تعذّب وجهان: أحدهما: أن يجعلها عذاباً في النار يعذبون بها , كما قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] الآية. الثاني: أنه يجعل أموالهم معهم في جهنم لأنهم استطالوا بها وتقووا على معاصي الله فجعلها معهم في الذل والعذاب كما كانت لهم في الدنيا عزاً ونعيماً.

38

{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} قوله عز وجل {قَل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يَغْفِرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} يحتمل وجيهن: أحدهما: إن ينتهوا عن المحاربة إلى الموادعة يغفر لهم ما قد سلف من المؤاخذة والمعاقبة. والثاني: إن ينتهوا عن الكفر بالإسلام يغفر لهم ما قد سلف من الآثام. {وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأُوَّلِينَ} تأويله على احتمال الوجهين الأولين: فعلى الوجه الأول: تأويله: وإن يعودواْ إلى المحاربة فقد مضت سنة الأولين فيمن قتل يوم بدر وأسر , قاله الحسن ومجاهد والسدي. وعلى الوجه الثاني: فقد مضت سنة الأولين من الأمم السالفة فيما أخذهم الله به في الدنيا من عذاب الاستئصال. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل مكة بعد أن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقال لهم: (ما ظَنُّكُم بِي وَمَا الَّذِي تَرَونَ أَنِّي صَانِعُ بِكُم؟) قالوا: ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك وإن تنتقم فقد أسأنا , فقال صلى الله عليه وسلم: (أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لإخْوَتِهِ: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}) [يوسف: 92] فأنزل الله تعالى هذه الآية.

41

{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول

ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير} قوله عز وجل: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ذكر الله تعالى الفيء في سورة الحشر والغنيمة في هذه السورة. واختلفوا في الفيء والغنيمة على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الغنيمة ما ظهر عليه من أموال المشركين والفيء ما ظهر عليه من الأرض , قاله عطاء بن السائب. والثاني: أن الغنيمة ما أخذ عنوة , والفيء ما أخذ عن صلح , قاله الشافعي وسفيان الثوري. والثالث: أن الفيء والغنيمة سواء وهو كل مال أخذ من المشركين , وآية الفيء التي هي في سور الحشر منسوخة بآية الغنيمة التي في سورة الأنفال , قاله قتادة. وقوله تعالى {مِّن شَيْءٍ} يريد جميع ما وقع عليه اسم شيء مباح حواه المسلمون من أموال المشركين. {فإن لِلَه خُمُسَهُ} أحدهما: أنه استفتاح كلام , فلله الدنيا والآخرة وما فيهما , ومعنى الكلام فأن للرسول خمسه , قاله الحسن وعطاء وقتادة وإبراهيم والشافعي , وروى نهشل عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرّية فغنموا خمّس الغنيمة فصرف ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ {وَاعلَمُواْ أَنَّمَا مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} وإنما قوله {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسهُ} مفتاح كلام , ولله ما في السموات وما في الأرض فجعل سهم الله وسهم الرسول واحد. والثاني: أن سهم الله مستحق لبيته , ومعناه فإن لبيت الله خمسه وللرسول وقد روى الربيع بن أنس عن أبي العالية الرياحي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى

بالغنيمة فيقسمها على خمسة تكون أربعة أخماس لمن شهدها , ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول , وسهم لذي القربى , وسهم لليتامى , وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل. وقوله تعالى {وَلِلرَّسُولِ} فيه قولان: أحدهما: أنه مفتاح كلام اقترن بذكر الله وليس للرسول من ذلك شيء كما لم يكن لله من ذلك شيء , وأن الخمس مقسوم على أربعة أسهم , وهذا قول ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة. والثاني: أن ذلك للرسول وهو قول الجمهور. واختلفوا في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على خمسة أقاويل: أحدها: أنه للخليفة بعده , قاله قتادة. والثاني: أنه لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم إرثاً , وهذا قول من جعل النبي موروثاً. والثالث: أن سهم الرسول صلى الله عليه وسلم مردود على السهام الباقية ويقسم الخمس على أربعة. والرابع: أنه مصروف في مصالح المسلمين العامة , قاله الشافعي. والخامس: أن ذلك مصروف في الكراع والسلاح , وروي أن ذلك فعل أبي بكر وعمر , رواه النخعي. أما قوله تعالى {وَلِذِي الْقُرْبَى} فاختلف فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم بنو هاشم , قاله مجاهد. والثاني: أنهم قريش كلها , روى سعيد المقري قال: كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن ذي القربى , قال: فكتب إليه عبد الله بن عباس: كنا نقول إننا هم فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلها ذوو قربى. الثالث: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب , قاله الشافعي والطبري. واختلفوا في سهمهم اليوم على أربعة أقاويل:

أحدها: أنه لهم أبداً كما كان لهم من قبل , قاله الشافعي. والثاني: أنه لقرابة الخليفة القائم بأمور الأمة. والثالث: أنه إلى الإمام يضعه حيث شاء. والرابع: أن سهمهم وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود على باقي السهام وهي ثلاثة , قاله أبو حنيفة. وأما {وَالْيَتَامَى} فهم من اجتمعت فيهم أربعة شروط: أحدها: موت الأب وإن كانت الأم باقية , لأن يتم الآدميين بموت الآباء دون الأمهات ويتم البهائم بموت الأمهات دون الآباء. والثاني: الصغر , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يُتْمَ بَعْدَ حُلُمٍ). والثالث: الإٍسلام لأنه مال المسلمين. والرابع: الحاجة لأنه معد للمصالح. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنه لأيتام أهل الفيء خاصة. والثاني: أنه لجميع الأيتام. وأما {الْمَسَاكِينِ} فهم الذين لا يجدون ما يكفيهم. وأما أبناء السبيل فهم المسافرون من ذوي الحاجات , والإٍسلام فيهم معتبر. وهل يختص بأله الفيء؟ على القولين. وقال مالك: الخمس موقوف على رأي الإمام فيمن يراه أحق به , وإنما ذكرت هذه الأصناف لصدق حاجتها في وقتها. قوله عز وجل {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَومَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وهو يوم بدر فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل.

42

{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان

مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم} قوله عز وجل: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} يعني شفير الوادي ببدر , الأدنى إلى المدينة. {وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} يعني شفير الوادي الأقصى إلى مكة. وقال الأخفش: عدوه الوادي هو ملطاط شفيره الذي هو أعلى من أسفله , وأسفل من أعلاه. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} يعني عير أبي سفيان أسفل الوادي , قال الكلبي: على شاطىء البحر بثلاثة أميال. {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتََلْفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ولو تواعدتم أن تتفقوا مجتمعين لاختلفتم في الميعاد , بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان من غير قصد لذلك. والثاني: ولو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عدوكم مع قلة عددكم لتأخرتم فنقضتم الميعاد , قاله ابن إٍسحاق. والثالث: ولو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عدوكم من غير معونة الله لكم لأخلفتم بالقواطع والعوائق في الميعاد. قوله عز وجل { ... لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فيه وجهان: أحدهما: ليقتل ببدر من قتل من مشركي قريش عن حجة , وليبقى من بقي عن قدرة. والثاني: ليكفر من قريش من كفر بعد الحجة ببيان ما وعدوا , ويؤمن من آمن بعد العلم بصحة إيمانهم.

43

{إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم

في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور} قوله عز وجل: {إذْ يُرِيكُهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: أن الله أرى نبيه صلى الله عليه وسلم قلة المشركين عياناً , وقوله {فِي مَنَامِكَ} يريد في عينيك التي هي محل النوم , قاله الحسن. والثاني: أنه ألقى عليه النوم وأراه قلتهم في نومه , وهو الظاهر , وعليه الجمهور. وإنما أراه ذلك على خلاف ما هو به لطفاً أنعم به عليه وعلى أمته , ليكون أثبت لقلوبهم وأقدم لهم على لقاء عدوهم , ولولا ذلك لما جازت هذه الحالة من الله تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلم. {وَلَوْ أَرَاكَهُمُ كَثِيراً لَّفِشِلْتُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لاختلفتم في لقائهم أو الكف عنهم. والثاني: لجبنتم عنهم وانهزمتم منهم. { ... وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} يحتمل وجهين: أحدهما: سلّم من الفشل. والثاني: لجبنتم عنهم وانهزمتم منهم ولكن الله سلم من العدو. وفيه ثالث: ولكن الله سلم أمره فيهم حتى نفذ ما حكم فيهم به من هلاكهم.

45

{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم

تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} قوله عز وجل { ... وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} والفشل هو التقاعد عن القتال جبناً. {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يريد بالريح القوة , وضرب الريح لها مثلاً. والثاني: يريد بالريح الدولة. ومعناه فتذهب دولتكم , قاله أبو عبيدة. والثالث: يريد ريح النصر التي يرسلها الله عز وجل لنصر أوليائه وهلاك أعدائه قاله قتادة وابن زيد. ويحتمل رابعاً , أن الريح الهيبة , وريح القوم هيبتهم التي تتقدمهم كتقدم الريح. ويكون معنى الكلام. فتذهب ريحكم وهيبتكم.

47

{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ} هم قريش حين خرجوا في حماية العير فنجا بها أبو سفيان , فقال لهم أبو جهل: لا نرجع حتى نرِد بدراً وننحر جزوراً ونشرب خمراً وتعزف علينا القيان , فكان من أمر الله فيهم ما كان. قوله عز وجل {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ أَعْمَالَهُمْ} قال المفسرون: ظهر لهم في

صورة سراقة بن جعشم من بني كنانة فزين للمشركين أعمالهم. يحتمل وجهين: أحدهما: زين لهم شركهم. والثاني: زين لهم قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه وجه ثالث: أنه زين لهم قوتهم حتى اعتمدوها. {وَقَالَ: لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} يعني أنكم الغالبون دون المؤمنين. {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني أني معكم. وفي جواركم ينالني ما نالكم. الثاني: مجير لكم وناصر. فيكون على الوجه الأول من الجوار , وعلى الوجه الثاني من الإجارة. {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ} يحتمل وجهين: أحدهما: فئة المسلمين وفئة المشركين. والثاني: المسلمون ومن أمدوا به من الملائكة. فكانوا فئتين. {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} والنكوص أن يهرب ذليلاً خازياً , قال الشاعر: (وما ينفعل المستأخرين نكوصهم ... ولا ضَرّ أهل السابقات التقدم.) {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} يعني من الملائكة الذين أمد الله بهم رسوله والمؤمنين. {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} وإنما ذكر خوفه من الله تعالى في هذا الموضع ولم يذكره في امتناعه من السجود لآدم لأنه قد كان سأل الإنظار إلى قيام الساعة فلما رأى نزول الملائكة ببدر تصور قيام الساعة فخاف فقال {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. قوله عز وجل {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم قوم في قلوبهم شك كانوا تكلموا بالإسلام وهم بمكة , قاله ابن عباس ومجاهد.

والثاني: أنهم المشركون , قاله الحسن. والثالث: أنهم قوم مرتابون لم يظهروا العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف المنافقين. والمرض في القلب كله هو الشك , وهو مشهور في كلام العرب , قال الشاعر: (ولا مرضاً أتقيه إني لصائن ... لعرضي ولي في الأليّة مفخر) وقوله تعالى {غَرَّ هَؤُلآءِ} يعني المسلمين. {دينُهُمْ} يعني الإسلام , لأن الله تعالى قلل المشركين في أعين المسلمين ليتقدموا عليهم , وقلَّل المسلمين في أعين المشركين ليستهينوا بهم حتى أظفر بهم المسلمين فقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا.

50

{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} قوله عز وجل {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وَجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} فيه قولان: أحدهما: يتوفاهم ملك الموت عند قبض أرواحهم , قاله مقاتل. والثاني: قتل الملائكة لهم حين قاتلوهم يوم بدر. {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدبَارَهُمْ} تأويله على القول الأول: يضربون وجوههم يوم القيامة إذا واجهوهم , وأدبارهم إذا ساقوهم إلى النار. وتأويله على القول الثاني يحتمل وجهين: أحدهما: يضربون وجوههم ببدر لما قاتلوا , وأدبارهم لما انهزموا. والثاني: أنهم جاءوهم من أمامهم وورائهم , فمن كان من أمامهم ضرب وجوههم , ومن كان من ورائهم ضرب أدبارهم.

52

{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة

أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين} قوله عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} يحتمل خمسة أوجه: أحدها: لم يك مغيراً نعمة أنعمها عليهم بالنصر لهم على أعدائهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الثقة به والتوكل عليه. والثاني: لم يك مغيراً نعمته عليهم في كف أعدائهم عنهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته والكف عن معصيته. والثالث: لم يك مغيراً نعمته عليهم في الغنى والسعة حتى يغيروا ما بأنفسهم. من تأدية حق الله تعالى منه. والرابع: لم يك مغيراً نعمته في الثواب والجزاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان. والخامس: لم يك مغيراً نعمته عليهم في الإرشاد حتى يغيروا ما بأنفسهم من الانقياد.

55

{إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون} قوله عز وجل: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} فيه وجهان: أحدهما: تصادفهم. والثاني: تظفر بهم. {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنذر بهم من خلفهم , قال الشاعر من هذيل: (أطوِّف في الأباطح كلَّ يوم ... مخافة أن يشرِّد بي حكيم.)

58

{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} قوله عز وجل {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} يعني في نقض العهد. {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ} أي فألق إليهم عهدهم حتى لا ينسبوك إلى الغّدر. بهم. والنبذ هو الإلقاء. قال الشاعر: (فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي) وفي قوله تعالى {عَلَى سَوَآءٍ} خمسة أوجه: أحدها: على مهل , قال الوليد بن مسلم. والثاني: على محاجزة مما يفعل بهم , قاله ابن بحر. والثالث: على سواء في العلم حتى لا يسبقوك إلى فعل ما يريدونه بك. والرابع: على عدل من غير حيف , واستشهد بقول الراجز: (فاضرب وجوه الغد والأعداء ... حتى يجيبوك إلى السواء) أي إلى العدل. والخامس: على الوسط واستشهد قائله بقول حسان: (يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد) وذكر مجاهد أنها نزلت في بني قريظة.

59

{ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون وأعدوا لهم ما استطعتم

من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} قوله عز وجل {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن القوة ذكور الخيل , ورباط الخيل إناثها , وهذا قول عكرمة. والثاني: القوة السلاح , قاله الكلبي. والثالث: القوة التصافي واتفاق الكلمة. والرابع: القوة الثقة بالله تعالى والرغبة إليه. والخامس: القوة الرمي. روى يزيد بن أبي حبيب عن أبي عليّ الهمزاني عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: ({وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قوة} أَلاَ إِنَّ القُوةَ الرميُ) قالها ثلاثاً.

{وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} على قول عكرمة إناثها خاصة , وعلى قول الجمهور على العموم الذكور والإناث. وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارتبطوا الخيل فَإِنَّ ظُهُورَهَا لَكُم عِزٌّ , وَأَجْوَافَهَا لَكُم كَنزٌ). {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: عدو الله بالكفر وعدوكم بالمباينة. والثاني: عدو الله هو عدوكم لأن عدو الله عدو لأوليائه. والإرهاب: التخويف. {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: هم بنو قريظة , قاله مجاهد. والثاني: أهل فارس والروم قاله السدي. والثالث: المنافقون؛ قاله الحسن وابن زيد. والرابع: الشياطين , قاله معاذ بن جبل. والخامس: كل من لا تعرفون عداوته , قاله بعض المتأخرين.

61

{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} قوله عز وجل {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وإن مالوا إلى الموادعة فَمِلْ إليها.

والثاني: وإن توقفوا عن الحرب مسالمة لك فتوقف عنهم مسالمة لهم. والثالث: وإن أظهروا الإسلام فاقبل منهم ظاهر إسلامهم وإن تخلف باطن اعتقادهم. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عامة في موادعة كل من سألها من المشركين ثم نسخت بقوله تعالى {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم} [التوبة: 5] قاله الحسن وقتادة وابن زيد. والثاني: أنها في أهل الكتاب خاصة إذا بذلوا الجزية. والثالث: أنها في قوم معينين سألوا الموادعة فأمر بإجابتهم.

64

{يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين الله , قاله الكلبي ومقاتل. والثاني: حسبك الله أن تتوكل عليه والمؤمنون أن تقاتل بهم. قال الكلبي: نزلت هذه الآية بالبيداء من غزوة بدر قبل القتال.

قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرَّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلفاً} يعين يقاتلوا ألفاً قال مجاهد: وهذا يوم بدر جعل على كل رجل من المسلمين قتال عشرة من المشركين فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله تعالى: {الأَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُم}. وقال ابن بحر: معناه أن الله تعالى ينصر كل رجل من المسلمين على عشرة من المشركين , وقد مضى تفسير هاتين الآيتين من قبل.

67

{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} وهذا نزل في أسرى بدر حين استقر رأي النبي صلى الله عليه وسلم فيهم بعد مشاورة أصحابه على الفداء بالمال , كل أسير بأربعة آلاف درهم , فأنكر الله تعالى ذلك عليه وأنه ما كان له أن يفادي الأسرى. {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ} فيه وجهان: أحدهما هو الغلبة والاستيلاء , قاله السدي. والثاني: هو كثرة القتل ليُعزَّ به المسلمون ويذل به المشركين. قاله مجاهد. {يُرِيدُونَ عَرَضَ الْدُّنْيَا} يعني المال , سماه عرضاً لقلة بقائه. {وَاللَّهُ يُرِيدُ الأَخِرَةَ} يعني العمل بما يوجب ثواب الآخرة. {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني ما أخذتموه من المال في فداء أسرى بدر. وفي قوله {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} أربعة أقاويل: أحدها: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر أن يعذبهم لمسهم فيما أخذوه من فداء أسرى بدر عذاب عظيم , قاله مجاهد وسعيد بن جبير.

والثاني: لولا كتاب من الله سبق في أنه سيحل لكم الغنائم لمسكم في تعجلها من أهل بدر عذاب عظيم , قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وعبيدة. والثالث: لولا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحداً بعمل أتاه على جهالة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم , قاله ابن اسحاق. والرابع: لولا كتاب من الله سبق وهو القرآن الذي آمنتم به المقتضي غفران الصغائر لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. وكان النبي صلى الله عليه وسلم شاور أبا بكر وعمر في أسرى بدر فقال أبو بكر: هم قومك وعشيرتك فاستبقهم لعل الله أن يهديهم , وقال عمر: هم أعداء الله وأعداء رسوله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم , فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم , بعد انصرافه عنهم إلى قول أبي بكر وأخذ فدء الأسرى ليتقوى به المسلمون , وقال: (أَنتُم عَالَةٌ بعيني المُهَاجِرِينَ) فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَو عُذِّبْنَا فِي هَذَا الأمْرِ يَا عُمَرُ لَمَا نَجَا غَيْرُكَ) ثم إن الله تعالى بيَّن تحليل الغنائم والفداء بقوله {فَكُلُوْا مِمَّا غَنِمْتُمْ حََلاَلاً طَيِّباً}.

70

{يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم} قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مَِّمَّآ أُخِذَ مِنْكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أحل مما أخذ منكم. الثاني: أكثر مما أخذ منكم. قيل إن هذه الآية نزلت لما أسر العباس بن عبد المطلب مع أسرى بدر وأخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء نفسه وابني أخويه عقيل ونوفل فقال: يا رسول الله كنت

مسلماً وأخرجت مكرهاً ولقد تركتني فقيراً أتكفف الناس. قال: (فَأَيْنَ الأَمْوَالُ الَّتِي دَفَعْتَهَا إِلَى أُمِّ الْفَضْلِ عِنْدَ خُرُوجِكَ) فقال: إن الله لزيدنا ثقة بنبوتك. قال العباس. فصدق الله وعده فيما آتاني وإن لي لعشرين مملوكاً كل مملوك يضرب بعشرين الفاً في التجارة فقد أعطاني الله عز وجل خيراً مما أخذ مني يوم بدر.

72

{إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ} يعني بالله. {وَهَاجَرُواْ} يعني هاجروا وتركوا ديارهم في طاعة الله. {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِم وَأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمجاهدة بالمال: النفقة , والمجاهدة بالنفس القتال , وهؤلاء هم المهاجرون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ثم قال {وَالَّذِينَءَاوَواْ وَنَصَرُواْ} يعني الأنصار الذين آووا المهاجرين في منازلهم ونصروا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروهم. {أَوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فيه تأويلان: أحدهما: أولئك بعضهم أعوان بعض , قاله الجمهور. والثاني: أولئك بعضهم أولى بميراث بعض. قال ابن عباس: جعل الله تعالى الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام. ثم قال تعالى {وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ} يعني ما لكم من ميراثهم من شيء حتى يهاجروا فكانوا يعلمون ذلك حتى أنزل الله تعالى {وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كَتَابِ اللَّهِ} يعني في الميراث فنسخت التي قبلها وصار التوارث لذوي الأرحام , قاله مجاهد وعكرمة والحسن والسدي.

73

{والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم} قوله عز وجل {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فيه وجهان: أحدهما: بعضهم أنصار بعض , قاله قتادة وابن إسحاق. والثاني: بعضهم وارث بعض , قاله ابن عباس وأبو مالك. {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ ... } فيه تأويلان: أحدهما: إلاَّ تناصروا أيها المؤمنون {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} يعني بغلبة الكفار. {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بضعف الإيمان , قاله ابن اسحاق وابن جرير. والثاني: إلاّ تتوارثوا بالإسلام والهجرة {تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} باختلاف الكلمة. {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بتقوية الخارج على الجماعة , قاله ابن عباس وابن زيد والله أعلم. {وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقَّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) والَّذِينَءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ (75)}

سورة التوبة

التوبة

{براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} قوله عز وجل {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} في ترك افتتاح هذه السورة ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قولان: أحدهما: أنها والأنفال كالسورة الواحدة في المقصود لأن الأولى في ذكر العهود , والثانية في رفع العهود , وهذا قول أُبي بن كعب قال ابن عباس: وكانتا تدعيان القرينتين , ولذلك وضعتا في السبع الطول. وحكاه عن عثمان بن عفان.

الثاني: أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أمان , وبراءة نزلت برفع الأمان , وهذا قول ابن عباس , ونزلت سنة تسع فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقرأها في الموسم بعد توجه أبي بكر رضي الله عنه إلى الحج , وكان أبو بكر صاحب الموسم , وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يُبِلِّغُ عَنِّي إِلاَّ رَجُلٌ مِنِّي) حكى ذلك الحسن وقتادة ومجاهد. وحكى الكلبي أن الذي أنفذه رسول الله صلى لله عليه وسلم من سورة التوبة عشر آيات من أولها. حكى مقاتل أنها تسع آيات تقرأ في الموسم , فقرأها علي رضي الله عنه في يوم النحر على جمرة العقبة. وفي قوله تعالى {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وجهان: أحدهما: أنها انقطاع العصمة منهما. والثاني: أنها انقضاء عهدهما. ثم قال تعالى {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} وهذا أمان. وفي قوله {فَسِيُحواْ فِي الأَرْضِ} وجهان: أحدهما: انصرفوا فيها إلى معايشكم. والثاني: سافروا فيها حيث أردتم. وفي السياحة وجهان: أحدهما: أنها السير على مهل. والثاني: أنها البعد على وجل. واختلفوا فيمن جعل له أمان هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقاويل: أحدها: أن الله تعالى جعلها أجلاً لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنه أقل من أربعة أشهر ولمن كان أجل أمانه غير محدود ثم هو بعد الأربعة حرب , فأما من لا أمان له فهو حرب , قاله ابن إٍسحاق.

والثاني: أن الأربعة الأشهر أمان أصحاب العهد من كان عهده أكثر منها حط إليها , ومن كان عهده أقل منها إليها , ومن لم يكن له من رسول الله عهد جعل له أمان خمسين ليلة من يوم النحر إلى سلخ المحرم لقوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} قاله ابن عباس والضحاك وقتادة. والثالث: أن الأربعة الأشهر عهد المشركين كافة , المعاهد منهم وغير المعاهد , قاله الزهري ومحمد بن كعب ومجاهد. والرابع: أن الأربعة ألاشهر عهد وأمان لمن لم يكن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ولا أمان , أما أصحاب العهود فهم على عهودهم إلى انقضاء مددهم , قاله الكلبي. واختلفوا في أول مَدَى الأربعة الأشهر على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن أولها يوم يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر , وآخرها انقضاء العاشر من شهر ربيع الآخر , قاله محمد بن كعب ومجاهد والسدي. والثاني: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم , قاله الزهري. والثالث: أن أولها يوم العشرين من ذي القعدة , وآخرها يوم العشرين من شهر ربيع الأول , لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك اليوم ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة وفيها حجة الوداع , لأجل ما كانوا عليه في الجاهلية من النسىء , فأقره النبي صلى الله عليه وسلم فيه حتى نزل تحريم النسىء وقال: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ} أي لا تعجزونه هرباً ولا تفوتونه طلباً. {وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الكَافِرِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالسيف لمن حارب والجزية لمن استأمن. والثاني: في الآخرة بالنار.

3

{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير

معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} قوله عز وجل {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} في الأذان ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه القصص , وهذا قول تفرد به سليمان بن موسى النشابي. والثاني: أنه النداء بالأمر الذي يسمع بالأذن , حكاه علي بن عيسى. الثالث: أنه الإعلام , وهذا قول الكافة. وفي {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يوم عرفة , قاله عمر بن الخطاب وابن المسيب وعطاء. وروى ابن جريج عن محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة وقال: (هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ) والثاني: أنه يوم النحر , قاله عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبه وسعيد بن جبير والشعبي والنخعي. وروي مرة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: خطبنا رسول الله صلى عليه وسلم على ناقته الحمراء وقال (أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟ يَوْمُ النَّحْرِ وَهَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ). والثالث: أنها أيام الحج كلها , فعبر عن الأيام باليوم , قاله مجاهد وسفيان , قال سفيان: كما يقال يوم الجمل ويوم صفين , أي أيامه كلها. أحدها: أنه سمي بذلك لأنه كان في سنة اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين , ووافق أيضاً عيد اليهود والنصارى , قاله الحسن. والثاني: أن الحج الأكبر القِران , والأصغر الإفراد , قاله مجاهد. والثالث: أن الحج الأكبر هو الحج , والأصغر هو العمرة , قاله عطاء والشعبي.

4

{إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل {فَإِذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} الآية. في الأشهر الحرم قولان: أحدهما: أنها رجب وذو العقدة وذو الحجة والمحرم , ثلاثة سرد وواحد فرد , وهذا رأي الجمهور. والثاني: أنها الأربعة الأشهر التي جعلها الله تعالى أن يسيحوا فيها آمنين وهي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع عشر من شهر ربيع الآخر , قاله الحسن. {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} فيه قولان: أحدهما: في حل أو حرم. والثاني: في الأشهر الحرم وفي غيرها. والقتل وإن كان بلفظ الأمر فهو على وجه التخيير لوروده بعد حظر اعتباراً بالأصلح. {وَخُذُوهُم} فيه وجهان: أحدهما: على التقديم والتأخير , وتقديره فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم. والثاني: أنه على سياقه من غير تقديم ولا تأخير , وتقديره: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم. {وَاحْصُرُوهُم} على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين. وفي قوله {وَاحْصُرُوهُم} وجهان: أحدهما: أنه استرقاقهم. والثاني: أنه الفداء بمال أو شراء.

{وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن يطلبوا في كل مكان فيكون القتل إذا وجدوا , والطلب إذا بعدوا. والثاني: أن يفعل بهم كل ما أرصده الله تعالى لهم فيما حكم به تعالى عليهم من قتل أو استرقاق أو مفاداة أو منٍّ ليعتبر فيها فعل الأَصلح منها. ثم قال تعالى {فَإِن تَابُواْ} أي أسلموا , لأن التوبة من الكفر تكون بالإسلام. {وَأَقَامُواْ الْصَلاَةَ} فيه وجهان: أحدهما: أي اعترفوا بإقامتها , وهو مقتضى قول أبي حنيفة , لأنه لا يقتل تارك الصلاة إذا اعترف بها. الثاني: أنه أراد فعل الصلاة , وهو مقتضى قول مالك والشافعي , لأنهما يقتلان تارك الصلاة وإن اعترف بها. {وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} يعني اعترفوا بها على الوجهين معاً , لأن تارك الزكاة لا يقتل مع الاعتراف بها وتؤخذ من ماله جبراً , وهذا إجماع.

6

{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} قوله عز وجل {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ... } الآية: وفي كلام الله وجهان أي إن استأمنك فأمِّنه. أحدهما: أنه عني سورة براءة خاصة ليعلم ما فيها من حكم المقيم على العهد. وحكم الناقض له والسيرة في المشركين والفرق بينهم وبين المنافقين. الثاني: يعني القرآن كله , ليهتدي به من ضلاله ويرجع به عن كفره. {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} يعني إن أقام على الشرك وانقضت مدة الأمان. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: الرشد من الغيّ. والثاني: استباحة رقابهم عند انقضاء مدة أمانهم.

7

{كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} قوله عز وجل {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِيْنَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ ... } الآية. يحتمل وجهين: أحدهما: إذا لم يعطوا أماناً. الثاني: إذا غدروا وقاتلوا. وفي قوله {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أربعة أقاويل: أحدها: أنهم قوم من بني بكر بن كنانة , قاله ابن إٍسحاق. والثاني: أنهم قريش , وهو قول ابن عباس. والثالث: خزاعة , قاله مجاهد. والرابع: بنو ضمرة , قاله الكلبي. {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} يعني فما أقاموا على الوفاء بالعهد فأقيموا عليه , فدل على أنهم إذا نقضوا العهد سقط أمانهم وحلّت دماؤهم.

8

{كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون} قوله عز وجل {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} يعني يقووا حتى يقدروا على الظفر بكم. وفي الكلام محذوف وتقديره: كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم. {لاَ يرْقُبُوْ فِيكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لا يخافوا: قاله السدي. الثاني: لا يراعوا.

{إِلأَ وَلاَ ذِمَّةً} وفي الإلّ سبعة تأويلات. أحدها: أنه العهد , وهوقول ابن زيد. والثاني: أنه اسم الله تعالى , قاله مجاهد , ويكون معناه لا يرقبون الله فيكم. والثالث: أنه الحلف , وهو قول قتادة. والرابع: أن الإل اليمين , والذمة العهد , قاله أبو عبيدة , ومنه قول ابن مقبل: (أفسد الناس خلوف خلفوا ... قطعوا الإلَّ وأعراق الرَّحِم) والخامس: أنه الجوار , قاله الحسن. والسادس: أنه القرابة , قاله ابن عباس والسدي , ومنه قول حسان: (وأُقسم إن إلَّك من قريش ... كإل السّقْبِ من رَأل النعام) والسابع: أن الإل العهد والعقد والميثاق واليمين , وأن الذمة في هذا الموضع التذمم ممن لا عهد له , قاله بعض البصريين. {وَلاَ ذِمَّةً} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: الجوار , قاله ابن بحر. الثاني: أنه التذمم ممن لا عهد له , قاله بعض البصريين. والثالث: أنه العهد وهو قول أبي عبيدة. {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: يرضونك بأفواههم في الوفاء وتأبى قلوبهم إلا الغدر. والثاني: يرضونكم بأفواههم في الطاعة وتأبى قلوبهم إلا المعصية. والثالث: يرضونكم بأفواهم في الوعد بالإيمان وتأبى قلوبهم إلا الشرك , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضيه من المشركين إلا بالإيمان. {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: في نقض العهد وإن كان جميعهم بالشرك فاسقاً.

والثاني: وأكثرهم فاسق في دينه وإن كان كل دينهم فسقاً.

9

{اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون} قوله عز وجل {اشْتَرَواْ بَئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} في آيات الله تعالى ها هنا وجهان: أحدهما: حججه ودلائله. والثاني: آيات الله التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثمن القليل: ما جعلوه من ذلك بدلاً. وفي صفته بالقليل وجهان: أحدهما: لأنه حرام , والحرام قليل. والثاني: لأنها من عروض الدنيا التي بقاؤها قليل. وفيمن أريد بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه , وهذا قول مجاهد ومن زعم أن الآيات حجج الله تعالى. والثاني: أنهم قوم من اليهود دخلوا في العهد ثم رجعوا عنه وهذا قول من زعم أنها آيات التوراة. {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: عن دين الله تعالى في المنع منه. والثاني: عن طاعة الله في الوفاء بالعهد. والثالث: عن قصد بيت الله حين أحصر بالحديبيّة.

12

{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}

قوله عز وجل {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي نقضوا عهدهم الذي عقدوه بأيمانهم. {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: إظهار الذم له. والثاني: إظهار الفساد فيه. {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم رؤساء المشركين. والثاني: أنهم زعماء قريش , قاله ابن عباس. والثالث: أنهم الذين كانوا قد هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله قتادة. {إِنَّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} قراءة الجمهور بفتح الألف , من اليمين لنقضهم إياها. وقرأ ابن عامر: {إِنَّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} بكسر الألف , وهي قراءة الحسن. وفيها إذا كسرت وجهان: أحدهما: أنهم كفرة لا إيمان لهم. والثاني: أنهم لا يعطون أماناً.

13

{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله

عليم حكيم أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون} قوله عز وجل: { ... وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الخيانة , قاله قتادة. والثاني: أنهم البطانة , قاله قطرب ومقاتل , ومنه قول الشاعر: (وجعلت قومك دون ذاك وليجة ... ساقوا إليك الخير غير مشوب) والثالث: أنه الدخول في ولاية المشركين , من قولهم ولج فلان في كذا إذا دخل فيه قال طرفة بن العبد: (رأيت القوافي يتلجن موالجاً ... تضايق عنها أن تولجها الإبر)

17

{ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} قوله عز وجل {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ} يعني المسجد الحرام. وفيه وجهان: أحدهما: ما كان لهم أن يعمروها بالكفر لأن مساجد الله تعالى تعمر بالإيمان. والثاني: ما كان لهم أن يعمروه بالزيارة له والدخول إليه. {شَاهِدِينَ عَلَى أنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن فيما يقولونه أو يفعلونه دليل على كفرهم كما يدل عليه إقرارهم،

فكأن ذلك منهم هو شهادتهم على أنفسهم , قاله الحسن. والثاني: يعني شاهدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر لأنهم كذبوه وأكفروه وهو من أنفسهم , قاله الكلبي. والثالث: أن النصراني إذا سئل ما أنت؟ قال: نصراني , واليهودي إذا سئل قال: يهودي , وعابد الوثن يقول: مشرك , وكان هؤلاء كفار وإن لم يقروا بالكفر , قاله السدي. ثم قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ} في هذه المساجد قولان: أحدهما: أنها مواضع السجود من المصلى , فعلى هذا عمارتها تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: بالمحافظة على إقامة الصلاة. والثاني: بترك الرياء. والثالث: بالخشوع والإعراض عما ينهى. والقول الثاني: أنها بيوت الله تعالى المتخذة لإقامة الصلوات , فعلى هذا عمارتها تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: إنما يعمرها بالإيمان من آمن بالله تعالى. والثاني: إنما يعمرها بالزيارة لها والصلاة فيها من آمن بالله تعالى. والثالث: إنما يرغب في عمارة بنائها من آمن بالله تعالى. {وَالْيَوْمِ الأَخِرِ وَأَقَامَ الْصَّلاَةَ وَءَاتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِن الْمُهْتَدِينَ} فيه وجهان:

أحدهما: أنه قال ذلك لهم تحذيراً من فعل ما يخالف هدايتهم. والثاني: أن كل {عَسَى} من الله واجبة وإن كانت من غيره ترجياً , قاله ابن عباس والسدي.

19

{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} قوله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني بعمارته السدانة والقيام به. {كَمَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الأخِر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ} لأن قريشاً فضلت ذلك على الإيمان بالله , فرد الله تعالى عليهم وأعلمهم أنهما لا يستويان , وأن ذلك مع الكفر محبط. وحكى مقاتل أن هذا الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب , وهو صاحب السقاية , وفي شيبة بن عثمان وهو صاحب السدانة وحاجب الكعبة أُسرا يوم بدر فعيرا بالمقام على الكفر بمكة وأغلظ لهما المهاجرون , فقالا نحن أفضل منكم أجراً نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج فنزل هذا فيهم.

23

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم

من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} قوله عز وجل {قُلْ إِن كَانَءَآبَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} يعني اكتسبتموها. {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} فيها وجهان: أحدهما: أنها أموال التجارات إذا نقص سعرها وكسد سوقها. والثاني: أنهن البنات الأيامى إذا كسدن عند آبائهن ولم يخطبن. {وَمَسَاكِنَ تَرْضَونَهَا} وهذا نزل في قوم أسلموا بمكة فأقاموا بها ولم يهاجروا إِشفاقاً على فراق ما ذكره الله تعالى ميلاً إليه وحبّاً له فذمهم الله تعالى على ذلك وقال: { ... فَتَربَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه فتح مكة , قاله مجاهد. والثاني: حتى يأتي الله بأمره من عقوبة عاجلة أو آجلة , قاله الحسن.

25

{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم} قوله عز وجل {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ. .} الآية , وفي السكينة ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الرحمة , قاله علي بن عيسى. والثاني: أنها الأمن والطمأنينة. والثالث: أنها الوقار , قاله الحسن.

{وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} فيه وجهان: أحدهما: الملائكة. والثاني: أنه تكثيرهم في أعين أعدائهم , وهو محتمل. {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فيه وجهان: أحدهما: بالخوف والحذر. والثاني: بالقتل والسبي.

28

{يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} قوله عز وجل {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخرِ} فإن قيل: فأهل الكتاب قد آمنوا بالله واليوم الآخر فكيف قال ذلك فيهم ,؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بجميع حقوقه , فكانوا بترك الإقرار بحقوقه كمن لا يقرّ به. والثاني: أنه ذمّهم ذم من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر للكفر بنعمته , وهم في الذم بالكفر كغيرهم. {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنه ما أمر الله سبحانه وتعالى بنسخه من شرائعهم. والثاني: ما أحله لهم وحرمه عليهم. {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ} والحق هنا هو الله تعالى , وفي المراد بدينه في هذا الموضع وجهان:

أحدهما: العمل بما في التوراة من اتباع الرسول , قاله الكلبي. والثاني: الدخول في دين الإسلام لأنه ناسخ لما سواه من الأديان , وهو قول الجمهور. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني من آباء الذين أوتوا الكتاب. الثاني: من الذين أوتوا الكتاب بين أظهرهم لأنه في اتباعه كآبائهم. {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} فيه تأويلان: أحدهما: حتى يضمنوا الجزية وهو قول الشافعي لأنه يرى أن الجزية تجب انقضاء الحول وتؤخذ معه. والثاني: حتى يدفعوا الجزية. وفي الجزية وجهان: أحدهما: أنها من الأسماء المجملة لا يوفق على علمها إلا بالبيان. والثاني: أنها من الأسماء العامة التي يجب إجراؤها على عمومها إلا ما خص بالدليل. ثم قال تعالى {عَن يَدٍ} وفيه أربعة تأويلات: أحدها: عن غنى وقدرة. والثاني: أنها من عطاء لا يقابله جزاء , قاله أبو عبيدة. والثالث: أن يروا أن لنا في أخذها منهم يداً عليهم بحقن دمائهم بها. والرابع: يؤدونها بأيديهم ولا ينفذونها مع رسلهم كما يفعله المتكبرون. {وَهُمْ صَاغِرُونَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن يكونوا قياماً والآخذ لها جالساً , قاله عكرمة. والثاني: أن يمشوا بها وهم كارهون , قاله ابن عباس. والثالث: أن يكونوا أذلاء مقهورين , قاله الطبري.

والرابع: أن دفعها هو الصَّغار بعينه. والخامس: أن الصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام , قاله الشافعي.

30

{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قوله عز وجل {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيرٌ ابْنُ اللَّهِ} الآية. أما قول اليهود ذلك فسببه أن بختنصر لما أخرب بيت المقدس أحرق التوراة حتى لم يبق بأيديهم شيء منها , ولم يكونوا يحفظونها بقلوبهم , فحزنوا لفقدها وسألوا الله تعالى ردها عليهم , فقذفها الله في قلب عزير , فحفظها وقرأها عليهم فعرفوها فلأجل ذلك قالوا إنه ابن الله. واختلف فيمن قال ذلك على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن ذلك كان قول جميعهم , وهو مروي عن ابن عباس.

والثاني: أنه قول طائفة من سلفهم. والثالث: أنه قول جماعة ممن كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلف فيهم على قولين: أحدهما: أنه فنحاص وحده , ذكر ذلك عبيد بن عمير وابن جريج. والثاني: أنهم جماعة وهم سلام ابن مشكم ونعمان بن أبي أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف , وهذا مروي عن ابن عباس. فإن قيل: فإذا كان ذلك قول بعضهم فلم أضيف إلى جميعهم؟ قيل: لأن من لم يقله عند نزول القرآن لم ينكره , فلذلك أضيف إليهم إضافة جمع وإن تلفظ به بعضهم. {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وهذا قول جميعهم , واختلف في سبب قولهم لذلك على قولين: أحدهما: أنه لما خلق من غير ذكر من البشر قالوا إنه ابن الله , تعالى الله عن ذلك. الثاني: أنهم قالوا ذلك لأجل من أحياه من الموتى وأبرأه من المرضى. {ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ} معنى ذلك: وإن كانت الأقوال كلها من الأفواه: أنه لا يقترن به دليل ولا يعضده برهان , فصار قولاً لا يتجاوز الفم فلذلك خص به. {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ من قبلُ} أي يشابهون , مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء إذا لم تحض تشبيهاً بالرجال ومنه ما جاء في الحديث: (أَجرَأُ النَّاسِ عَلى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ خَلْقَهُ) أي يشبهون به. وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أن قولهم ذلك يضاهي قول عبدة الأوثان في اللات والعزى ومناة وأن الملائكة بنات الله , قاله ابن عباس وقتادة. والثاني: أن قول النصارى المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله , قاله الطبري. والثالث: أنهم في تقليد أسلافهم يضاهون قول من تقدمهم , قاله الزجاج. {قَاتََلَهُمُ اللَّهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه لعنهم الله , قاله ابن عباس ومنه قول عبيد بن الأبرص:

(قاتلها الله تلحاني وقد علمت ... أني لنفسي إفسادي وإصلاحي) والثاني: معناه قتلهم الله , قاله بعض أهل العربية. والثالث: أن الله تعالى فيما أعده لعذابهم وبينه من عداوتهم التي هي في مقابلة عصيانهم وكفرهم كأنه مقاتل لهم. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} معناه كيف يُصرفون عن الحق إلى الإفك وهو الكذب. قوله عز وجل {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} أما الأحبار منهم العلماء , واحدهم حَبْر سمي بذلك لأنه يحبر المعاني أي يحسنها بالبيان عنها. وأما الرهبان فجمع راهب , مأخوذ من رهبة الله تعالى وخشيته , غير أنه صار بكثرة الاستعمال يتناول نُسّاك النصارى. وقوله {أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} يعني آلهة لقبولهم منهم تحريم ما يحرمونه عليهم وتحليل ما يحلونه لهم , فلذلك صاروا لهم كالأرباب وإن لم يقولوا إنهم أرباب , وقد روي مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

32

{يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} قوله عز وجل {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} وفي نوره قولان: أحدهما: أنه القرآن والإسلام , قاله الحسن وقتادة. والثاني: أنه آياته ودلائله لأنه يهتدى بها كما يهتدى بالأنوار. وإنما خص ذلك بأفواههم لما ذكرنا أنه ليس يقترن بقولهم دليل. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} وليس يريد تمامه من نقصان لأن نوره لم يزل تاماً. ويحتمل المراد به وجهين: أحدهما: إظهار دلائله. والثاني: معونة أنصاره. قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى خلقه بالهدى ودين الحق. وفيها أربعة تأويلات: أحدها: أن الهدى البيان , ودين الحق الإسلام , قاله الضحاك. والثاني: أن الهدى الدليل , ودين الحق المدلول عليه. والثالث: معناه بالهدى إلى دين الحق. والرابع: أن معناهما واحد وإنما جمع بينهما تأكيداً لتغاير اللفظين. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فيه ستة تأويلات: أحدها: يعني عند نزول عيسى عليه السلام فإنه لا يعبد الله تعالى إلاّ بالإٍسلام , قاله أبو هريرة.

والثاني: معناه أن يعلمه شرائع الدين كله ويطلعه عليه , قاله ابن عباس. والثالث: ليظهر دلائله وحججه , وقد فعل الله تعالى ذلك , وهذا قول كثير من العلماء. والرابع: ليظهره برغم المشركين من أهله. والخامس: أنه وارد على سبب , وهو أنه كان لقريش رحلتان رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن والعراق فلما أسلموا انقطعت عنهم الرحلتان للمباينة في الدين فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى عليه: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يعني في بلاد الرحلتين وقد أظهره الله تعالى فيهما. والسادس: أن الظهور الاستعلاء , ودين الإسلام أعلى الأديان كلها وأكثرها أهلاً , قد نصره الله بالبر والفاجر والمسلم والكافر , فروى الربيع بن أنس عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهِ يُؤَيِّدُ بِأَقْوَامٍ مَا لَهُم فِي الأَخِرَةِ مِن خَلاَقٍ).

34

{يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون

الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا الَّذِِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُون أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} الآية: في قولان: أحدهما: أنه أخذ الرشا في الحكم , قاله الحسن. والثاني: أنه على العموم من أخذه بكل وجه محرم. وإنما عبر عن الأخذ بالأكل لأن ما يأخذونه من هذه الأموال هي أثمان ما يأكلون , وقد يطلق على أثمان المأكول اسم الأكل , كما قال الشاعر: (ذر الآكلين الماء فما أرى ... ينالون خيراً بعد أكلهم الماء) أي ثمن الماء. {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه منعهم من الحق في الحكم بقبول الرشا. والثاني: أنه منعهم أهل دينهم من الدخول في الإسلام بإدخال الشبهة عليهم. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي هذا الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الكنز كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدَّ زكاته , سواء كان مدفوناً أو غير مدفون , قاله ابن عمر والسدي والشافعي والطبري. والثاني: أن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم , أديت منه الزكاة أم لم تؤد ,

قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة , وما فوقها كنز. والثالث: أن الكنز ما فضل من المال عن الحاجة إليه , روى عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزل قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... } الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تبّاً لِلذَهَبِ وَالْفِضَّةِ) قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر ابن الخطاب: أنا أعلم لكم ذلك , فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: (لِسَاناً ذَاكِراً وَقَلْباً شَاكِراً وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِه). وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: مات رجل من أهل الصفّة فوجد في مئزرة دينار , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كَيَّةٌ) ثم مات آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كَيَّتَانِ) والكنز في اللغة هو كل شيء مجموع بعضه إلى بعض سواء كان ظاهراً على الأرض أو مدفوناً فيها , ومنه كنز البُرّ , قال الشاعر: (لا دَرَّ دري إن أطعمت نازلهم ... قِرف الحتى وعندي البُرّ مكنوز) الحتى: سَويق المقل. يعني وعندي البُرّ مجموع. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فذكر جنسين ثم قال {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} والهاء كناية ترجع إلى جنس واحد , ولم يقل: وَلاَ يُنفِقُونَهَما لترجع الكناية إليهما.

فعن ذلك جوابان: أحدهما: أن الكناية راجعة إلى الكنوز , وتقديره: ولا ينفقون الكنوز في سبيل الله. والثاني: أنه قال ذلك اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر لدلالة الكلام على اشتراكهما فيه , كما قال تعالى {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} [الجمعة: 11] ولم يقل إليهما , وكقول الشاعر: 89 (إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يُعاص كان جنوناً} 9 ولم يقل يعاصيا. ثم إن الله تعالى غلَّظ حال الوعيد بما ذكره بعد هذا من قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} وإنما غلظ بهذا الوعيد لما في طباع النفوس من الشح بالأموال ليسهل لهم تغليظ الوعيد إخراجها في الحقوق.

36

{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} قوله عز وجل {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شهْراً} يعني شهور السنة , وإنما كانت اثني عشر شهراً لموافقة الأهلة ولنزول الشمس والقمر في اثني عشر برجاً يجريان فيها على حساب متفق كما قال الله تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]. { ... مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} يعني أن من الاثني عشر شهراً أربعة حرم , يعني

بالحرم تعظيم انتهاك المحارم فيها , وهو ما رواه صدقة بن يسار عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في وسط أيام التشريق فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ اليَومُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهراً مِنهَا أَرْبَعَةٌ حَرُمٌ , أَوّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ). {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} فيه وجهان: أحدهما: أي ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفي , قاله ابن قتيبة. والثاني: يعني القضاء الحق المستقيم , قاله الكلبي. {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فلا تظلموها بمعاصي الله تعالى في الشهور الاثني عشر كلها , قاله ابن عباس. والثاني: فلا تظلموها بمعاصي الله في الأربعة الأشهر , قاله قتادة. والثالث: فلا تظلموا أنفسكم في الأربعة الأشهر الحرم بإحلالها بعد تحريم الله تعالى لها , قاله الحسن وابن إسحاق. والرابع: فلا تظلموا فيها أنفسكم أي تتركوا فيها قتال عدوكم , قاله ابن بحر. فإن قيل: فلم جعل بعض الشهور أعظم حرمة من بعض؟ قيل: ليكون كفهم فيها عن المعاصي ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها توطئة للنفس على فراقها مصلحة منه في عباده ولطفاً بهم.

37

{إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين}

قوله عز وجل {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ... } أما النسيء في الأشهر فهو تأخيرها , مأخوذ من بيع النسيئة , ومنه قوله تعالى {مَا نَنسَخُ مِنْءَايَةٍ أَوْنُنسِهَا} أي نؤخرها. وفي نَسْء الأشهر قولان. أحدهما: أنهم كانوا يؤخرون السنة أحد عشر يوماً حتى يجعلوا المحرم صفراً , قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا يؤخرون الحج في كل سنتين شهراً. قال مجاهد: فحج المسلمون في ذي الحجة عامين , ثم حجوا في المحرم عامين: ثم حجوا في صفر عامين , ثم في ذي القعدة عامين الثاني منهما حجة أبي بكر قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة فذلك حين يقول: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) وكان المنادى بالنسيء في الموسم: من بني كنانة على ما حكاه أبو عبيدة , وقال شاعرهم عمير بن قيس: (ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ ... شهور الحل نجعلُها حَراماً) واختلف في أول من نسأ الشهور منهم , فقال الزبير بن بكار: أول من نسأ الشهور نعيم بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة. وقال أيوب بن عمر الغفاري: أول من نسأ الشهور القَلمّس الأكبر وهو عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة , وآخر من نسأ الشهور أبو ثمامة جنادة بن عوف إلى أن نزل هذا التحريم سنة عشر وكان ينادي إني أنسأ الشهور في كل عام , ألا أن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب , فحرم الله سبحانه بهذه الآية النسيء وجعله زيادة في الكفر.

ثم قال تعالى { ... لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي ليوافقوا فحرموا أربعة أشهر كما حرم الله تعالى أربعة أشهر. {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن الله تعالى زينها بالشهرة لها والعلامة المميزة بها لتجتنب. الثاني: أن أنفسهم والشيطان زين لهم ذلك بالتحسين والترغيب ليواقعوها , وهو معنى قول الحسن. وفي {سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} ها هنا وجهان: أحدهما: أنه ما قدمه من إحلالهم ما حرم الله تعالى وتحريمهم ما أحله الله. الثاني: أنه الرياء , قاله جعفر بن محمد.

38

{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلتُمْ إِلَى الأَرْضِ} قال الحسن ومجاهد: دُعوا إلى غزوة تبوك فتثاقلوا فنزل ذلك فيهم. وفي قوله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} ثلاثة أوجه: أحدها: إلى الإقامة بأرضكم ووطنكم. والثاني: إلى الأرض حين أخرجت الثمر والزرع. قال مجاهد: دعوا إلى ذلك أيام إدراك النخل ومحبة القعود في الظل. الثالث: اطمأننتم إلى الدنيا , فسماها أرضاً لأنها فيها , وهذا قول الضحاك. وقد بينه قوله تعالى {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الأَخَرَةِ} يعني بمنافع الدنيا بدلاً من ثواب الآخرة.

والفرق بين الرضا والإرادة أن الرضا لما مضى , والإرادة لما يأتي. {فَمَا مَتَاعُ الَْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الأخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} لانقطاع هذا ودوام ذاك. قوله عز وجل {إِلاَّ تَنفِرُواْ} يعني في الجهاد. {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} قال ابن عباس: احتباس القطر عنهم هو العذاب الأليم الذي أوعدتم ويحتمل أن يريد بالعذاب الأليم أن يظفر بهم أعداؤهم. {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} يعني ممن ينفر إذا دُعي ويجيب إذا أُمر. {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} فيه وجهان: أحدهما: ولا تضروا الله بترك النفير , قاله الحسن. والثاني: ولا تضرّوا الرسول , لما تكفل الله تعالى به من نصرته , قاله الزجاج.

40

{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} قوله تعالى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} يعني إلا تنصروا أيها الناس النبي صلى الله عليه وسلم بالنفير معه وذلك حين استنفرهم إلى تبوك فتقاعدوا فقد نصره الله. {إِذْ أَخَرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني من مكة ولم يكن معه من يحامي عنه ويمنع منه إلا الله تعالى , ليعلمهم بذلك أن نصره نبيه ليس بهم فيضره انقطاعهم وقعودهم , وإنما هو من قبل الله تعالى فلم يضره قعودهم عنه. وفي قوله {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} وجهان: أحدهما: بإرشاده إلى الهجرة حتى أغناه عن معونتهم. والثاني: بما تكفل به من إمداده بملائكته.

{ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحد اثنين , وللعرب في هذ مذهب أن تقول خامس خمسة أي أحد خمسة. {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر حين خرجا من مكة دخلا غاراً في جبل ثور ليخفيا على من خرج من قريش في طلبهم. والغار عمق في الجبل يدخل إليه. قال مجاهد: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار مع أبي بكر ثلاثاً. قال الحسن: جعل الله على باب الغار ثمامة وهي شجرة صغيرة , وقال غيره: ألهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار. وذهب بعض المتعمقة في غوامض المعاني إلى أن قوله تعالى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أي في غيرة على ما كانوا يرونه من ظهور الكفر فغار على دين ربه. وهو خلاف ما عليه الجمهور. {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبهِ لاَ تَحْزَنْ} يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحبة أبي بكر (لا تَحْزَنْ) فاحتمل قوله ذلك له وجهين: أحدهما: أن يكون تبشيراً لأبي بكر بالنصر من غير أن يظهر منه حزن. والثاني: أن يكون قد ظهر منه حزن فقال له ذلك تخفيفاً وتسلية. وليس الحزن خوفاً وإنما هو تألم القلب بما تخيله من ضعف الدين بعد الرسول فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) أي ناصرنا على أعدائنا. { ... فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فيها قولان: أحدهما: على النبي صلى الله عليه وسلم , قاله الزجاج. والثاني: على أبي بكر لأن الله قد أعلم نبيه بالنصر. وفي السكينة أربعة أقاويل: أحدها: أنها الرحمة , قاله ابن عباس. والثاني: أنها الطمأنينة , قاله الضحاك. والثالث: الوقار , قاله قتادة.

والرابع: أنها شيء يسكن الله به قلوبهم , قاله الحسن وعطاء. {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فيه وجهان: أحدهما: بالملائكة. والثاني: بالثقة بوعده واليقين بنصره. وفي تأييده وجهان: أحدهما: إخفاء أثره في الغار حين طلب. والثاني: المنع من التعرض له حين هاجر. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْسُّفْلَى} يحتمل وجهين: أحدهما: بانقطاع الحجة. والثاني: جعل كلمة الذين كفروا السفلى بذُلّ الخوف , وكلمة الله هي العليا بعز الظفر. {وَكَلِمَةُ اللهِ هيَ العُلْيَا} بظهور الحجة.

41

{انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} قوله عز وجل {انفِرُواْ خِفَافاً وثِقَالاً} فيه عشرة تأويلات: أحدها: يعني شباباً وشيوخاً , قاله الحسن وعكرمة ومجاهد. والثاني: في اليسر والعسر فقراء وأغنياء , قاله أبو صالح. والثالث: مشاغيل وغير مشاغيل , قاله الحكم. والرابع: نشاطاً وغير نشاط , قاله ابن عباس وقتادة. والخامس: ركباناً ومشاة , قاله أبو عمرو الأوزاعي. والسادس: ذا صنعة وغير ذي صنعة , قاله ابن زيد. والسابع: ذا عيال وغير ذي عيال , قاله زيد بن أسلم. والثامن: أصحاء وغير أصحاء ومرضى , قاله جويبر.

والتاسع: على خفة البعير وثقله , قاله علي بن عيسى والطبري. والعاشر: خفافاً إلى الطاعة وثقالاً عن المخالفة. ويحتمل حادي عشر: خفافاً إلى المبارزة , وثقالاً في المصابرة. {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أما الجهاد بالنفس فمن فروض الكفايات إلا عند هجوم العدو فيصير متعيناً. وأما بالمال فبزاده وراحلته إذا قدر على الجهاد بنفسه , فإن عجز عنه بنفسه فقد ذهب قوم إلى أن بذل المال يلزم بدلاً عن نفسه. وقال جمهورهم: لا يجب لأن المال في الجهاد تبع النفس إلا سهم سبيل الله من الزكاة. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن الجهاد خير لكم من تركه إلى ما أبيح من القعود عنه. والثاني: معناه أن الخير في الجهاد لا في تركه. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: إن كنتم تعلمون صدق الله تعالى فيما وعد به من ثوابه وجنته. والثاني: إن كنتم تعلمون أن الخير في الجهاد. ويحتمل وجهاً ثالثاً: إن كنتم تعلمون أن لله تعالى يريد لكم الخير.

42

{لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون}

قوله عز وجل {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أي لو كان الذي دُعيتم إليه عرضاً قريباً. وفيه وجهان: أحدهما: يعني بالعرض ما يعرض من الأمور السهلة. والثاني: يعني الغنيمة. {وَسَفَراً قَاصِداً} أي سهلاً مقتصداً. {لاَّتَّبُعُوكَ} يعني في الخروج معك. {وَلَكِنْ بَعْدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} والشقة هي القطعة من الأرض التي يشق ركوبها على صاحبها لبعدها. {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: لو استطعنا فراق أوطاننا وترك ثمارنا. والثاني: لو استطعنا مالاً نستمده ونفقةً نخرج بها لخرجنا معكم في السفر الذي دعوا إليه فتأخروا عنه وهو غزوة تبوك. ثم جاءوا بعد ذلك يحلفون بما أخبر الله عنهم من أنهم لو استطاعوا لخرجوا تصديقاً لقوله تعالى وتصحيحاً لرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم. {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يهلكون أنفسهم باليمين الكاذبة. والثاني: يهلكون أنفسهم بالتأخر عن الإجابة.

43

{عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا

فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين} قوله عز وجل {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} فيه وجهان: أحدهما: صدق العزم ونشاط النفس. والثاني: الزاد والراحلة في السفر , ونفقة الأهل في الحضر. {وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انْبَِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} وإنما كره انبعاثهم لوقوع الفشل بتخاذلهم كعبد الله بن أبي بن سلول , والجد بن قيس. {وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} فيه وجهان: أحدهما: مع القاعدين بغير عذر , قاله الكلبي. والثاني: مع القاعدين بعذر من النساء والصبيان , حكاه علي بن عيسى. وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: أنه النبي صلى الله عليه وسلم , غضباً عليهم , لعلمه بذلك منهم. والثاني: أنه قول بعضهم لبعض. قوله عز وجل {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} يعني اضطراباً حكاه ابن عيسى. والثاني: فساداً , قاله ابن عباس. فإن قيل: فلم يكونوا في خبال فيزدادوا بهؤلاء الخارجين خبالاً. قيل هذا من الاستثناء المنقطع , وتقديره: ما زادوكم قوة , ولكن أوقعوا بينكم خبالاً. {وَلأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أما الإيضاع فهو إسراع السير , ومنه قول الراجز: (يا ليتني فيها جذع ... أخُبّ فيها وأضَعْ)

وأما الخلال فهو من تخلل الصفوف وهي الفُرَج تكون فيها , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ وَلاَ يَتَخَلَّلْكُمْ , كَأَولاَدِ الحذف يَعْنِي الشَّيَاطِينَ) والخلال هو الفساد , وفيه ها هنا وجهان: أحدهما: لأسرعوا في إفسادكم. والثاني: لأوضعوا الخلف بينكم. وفي الفتنة التي يبغونها وجهان: أحدهما: الكفر. والثاني: اختلاف الكلمة وتفريق الجماعة. {وَفِيكُمْ سّمَّاعُونَ لَهُمْ} وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم , قاله قتادة وابن إسحاق. والثاني: وفيكم عيون منكم ينقلون إلى المشركين أخباركم , قاله الحسن.

48

{لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} قوله عز وجل {لَقَدْ ابْتَغَؤا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ} يعين إيقاع الخلاف وتفريق الكلمة. {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: معاونتهم في الظاهر وممالأة المشركين في الباطن. والثاني: قولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم. والثالث: توقع الدوائر وانتظار الفرص. والرابع: حلفهم بالله لو استطعنا لخرجنا معكم.

{حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ} يعني النصر. {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني الدين. {وَهُمْ كَارِهُونَ} يعني النصر وظهور الدين.

49

{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} قوله عز وجل {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي} يعني في التأخر عن الجهاد. {وَلاَ تَفْتِنِّي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تكسبني الإثم بالعصيان في المخالفة , قاله الحسن وقتادة وأبو عبيدة والزجاج. والثاني: لا تصرفني عن شغلي , قاله ابن بحر. والثالث: أنها نزلت في الجد بن قيس قال: ائذن لي ولا تفتني ببنات بني الأصفر فإني مشتهر بالنساء , قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد. {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} فيها وجهان: أحدهما: في عذاب جهنم لقوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} والثاني: في محنة النفاق وفتنة الشقاق.

50

{إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} قوله عز وجل {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} يعني بالحسنة النصر. {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَآ أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي أخذنا حذرنا فسلمنا. {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} أي بمصيبتك وسلامتهم. قال الكلبي: عنى بالحسنة النصر يوم بدر , وبالمصيبة النكبة يوم أحد.

قوله عز وجل {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} فيه وجهان: أحدهما: إلا ما كتب الله لنا في اللوح المحفوظ أنه يصيبنا من خير أو شر , لا أن ذلك بأفعالنا فنذمّ أو نحمد , وهو معنى قول الحسن. والثاني: إلا ما كتب الله لنا في عاقبة أمرنا أنه ينصرنا ويعز دينه بنا. {هُوَ مَوْلاَنَا} فيه وجهان: أحدهما: مالكنا. والثاني: حافظنا وناصرنا. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي على معونته وتدبيره.

52

{قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} قوله عز وجل {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} يعني النصر أو الشهادة وكلاهما حسنة لأن في النصر ظهور الدين , وفي الشهادة الجنة. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: عذاب الاستئصال في الدنيا. والثاني: عقاب العصيان في الآخرة. {أَوْ بِأَيْدِينَا} يعني بقتل الكافر عند الظفر والمنافق مع الإذن فيه.

55

{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ويحلفون بالله إنهم لمنكم

وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون} قوله عز وجل {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُم وَلآ أَوْلاَدُهُمْ ... } فيه خمسة أقاويل: أحدها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة , قاله ابن عباس وقتادة ويكون فيه تقديم وتأخير. والثاني: إنما يريد الله ليعذبهم بما فرضه من الزكاة في أموالهم , يعني المنافقين. وهذا قول الحسن. والثالث: ليعذبهم بمصائبهم في أموالهم أولادهم , قاله ابن زيد. والرابع: ليعذبهم ببني أولادهم وغنيمة أموالهم , يعني المشركين , قاله بعض المتأخرين. والخامس: يعذبهم بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والحزن عليها , وكل هذا عذاب. {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهمْ} أي تهلك بشدة , من قوله تعالى {وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإٍسراء: 81]. قوله عز وجل {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ ... } الآية , أما الملجأ ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الحرز , قاله ابن عباس. والثاني: الحصن , قاله قتادة. والثالث: الموضع الحريز من الجبل , قاله الطبري. والرابع: المهرب , قاله السدي. ومعاني هذه كلها متقاربة. وأما المغارات ففيها وجهان:

أحدهما: أنها الغيران في الجبال , قاله ابن عباس. والثاني: المدخل الساتر لمن دخل فيه , قاله علي بن عيسى. وأما المدَّخل ففيه وجهان: أحدهما: أنه السرب في الأرض , قاله الطبري. والثاني: أنه المدخل الضيق الذي يدخل فيه بشدة. {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} يعني هرباً من القتال وخذلاناً للمؤمنين. {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون , قال مهلهل: (لقد جمحت جماحاً في دمائهم ... حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا)

58

{ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} قوله عز وجل {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ... } الآية , فيه قولان: أحدهما: أنه ثعلبة بن حاطب كان يقول: إنما يعطي محمد من يشاء ويتكلم بالنفاق فإن أعطي رضي وإن منع سخط , فنزلت فيه الآية. الثاني: ما روى الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً إذ جاءه الخويصرة التميمي فقال: اعدْل يا رسول الله , فقال: (وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلْ إِن لَّمْ أَعْدِلْ)؟ (فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه , فقال) دَعْهُ (. فأنزل الله تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية. وفي معنى يلمزك ثلاثة أوجه:

أحدها: يروزك ويسألك , قاله مجاهد. والثاني: يغتابك , قاله ابن قتيبة. والثالث: يعيبك , قال رؤبة: (قاربت بين عَنَقي وحجزي ... في ظل عصري باطلي ولمزي)

60

{إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} قوله عز وجل {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرآءِ وَالْمَسَاكِينِ} اختلف أهل العلم فيها على ستة أقاويل: أحدها: أن الفقير المحتاج المتعفف عن المسألة. والمسكين: المحتاج السائل , قاله ابن عباس والحسن وجابر وابن زيد والزهري ومجاهد وزيد. والثاني: أن الفقير هو ذو الزمانة من أهل الحاجة , والمسكين: هو الصحيح الجسم منهم , قاله قتادة. والثالث: أن الفقراء هم المهاجرون , والمساكين: غير المهاجرين , قاله الضحاك بن مزاحم وإبراهيم. والرابع: أن الفقير من المسلمين , والمسكين: من أهل الكتاب , قاله عكرمة. والخامس: أن الفقير الذي لا شيء له لأن الحاجة قد كسرت فقاره , والمسكين الذي له ما لا يكفيه لكن يسكن إليه , قاله الشافعي. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس المسكين الذي لا مال له ولكن

المسكين الأخلق الكسب. قال ابن عليّة: الأخلق المحارف عندنا وقال الشاعر: (لما رأى لُبَدُ النُّسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل) والسادس: أن الفقير الذي له ما لا يكفيه , والمسكين: الذي ليس له شيء يسكن إليه قاله أبو حنيفة. ثم قال {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} وهم السعاة المختصون بجبايتها وتفريقها قال الشاعر: (إن السُّعاة عصوك حين بعثتهم ... لم يفعلوا مما أمرت فتيلا) وليس الإمام من العاملين عليها ولا والي الإقليم. وفي قدر نصيبهم منها قولان: أحدهما: الثمن , لأنهم أحد الأصناف الثمانية , قال مجاهد والضحاك. والثاني: قدر أجور أمثالهم , قاله عبد الله بن عمر. {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية , وهم صنفان: مسلمون ومشركون. فأما المسلمون فصنفان: صنف كانت نياتهم في الإسلام ضعيفة فتألفهم تقوية لنياتهم , كعقبة بن زيد وأبي سفيان بن حرب والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس. وصنف آخر منهم كانت نياتهم في الإسلام حسنة فأعطوا تألفاً لعشائرهم من المشركين مثل عدي بن حاتم. ويعطي كِلا الصنفين من سهم المؤلفة قلوبهم. وأما المشركون فصنفان: صنف يقصدون المسلمين بالأذى فيتألفهم دفعاً

لأذاهم مثل عامر بن الطفيل , وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام تألفهم بالعطية ليؤمنوا مثل صفوان بن أمية. وفي تألفهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسهم المسمى لهم من الصدقات قولان: أحدهما: يعطونه ويتألفون به , قاله الحسن وطائفة. والثاني: يمنعون منه ولا يعطونه لإعزاز الله دينه عن تألفهم , قاله جابر , وكلا القولين محكي عن الشافعي. وقد روى حسان بن عطية قال: قال عمر رضي الله عنه وأتاه عيينة بن حصن يطلب من سهم المؤلفة قلوبهم فقال قد أغنى الله عنك وعن ضربائك {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} {الكهف: 29) أي ليس اليوم مؤلفة. {وَفِي الرِّقابِ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم المكاتبون , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والشافعي. والثاني: أنهم عبيد يُشترون بهذا السهم قاله ابن عباس ومالك. {وَاْلْغَارِمِينَ} وهم الذين عليهم الدين يلزمهم غرمه , فإن ادّانوا في مصالح أنفسهم لم يعطوا إلا مع الفقر , وإن ادّانوا في المصالح العامة أعطوا مع الغنى والفقر. واختلف فيمن ادّان في معصية على ثلاثة أقاويل: أحدها لا يعطى لئلا يعان على معصية. والثاني: يعطى لأن الغرم قد وجب , والمعصية قد انقضت. والثالث: يعطى التائب منها ولا يعطى إن أصر عليها. {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله يعطون سهمهم من الزكاة مع الغنى والفقر. {وَابْنِ السَّبِيلِ} فيه قولان: أحدهما: هو المسافر لا يجد نفقة سفره , يعطى منها وإن كان غنياً في بلده , وهو قول الجمهور. والثاني: أنه الضيف , حكاه ابن الأنباري.

61

{ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم

يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} قوله عز وجل {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يصغي إلى كل أحد , فيسمع منه , قال عدي بن زيد: (أيها القلب تعلّل بددن ... إن همي من سماع وأذن) {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أي يسمع الخير ويعمل به , لا أذن شر يفعله إذا سمعه. قال الكلبي: نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين كانوا يعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون فيه ما لا يجوز , فنزلت هذه الآية فيهم. وفي تأويلها وجهان: أحدهما: أنهم كانوا يعيبونه بأنه أذن يسمع جميع ما يقال له , فجعلوا ذلك عيباً فيه. والثاني: أنهم عابوه فقال أحدهم: كفوا فإني أخاف أن يبلغه فيعاقبنا , فقالوا: هو أُذن إذا أجبناه وحلفنا له صدقنا , فنسبوه بذلك إلى قبول العذر في الحق والباطل , قاله الكلبي ومقاتل. وقيل إن قائل هذا نفيل بن الحارث.

62

{يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم} قوله عز وجل {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} فيها ثلاثة أقوال:

أحدها: من يخالف الله ورسوله , قاله الكلبي. والثاني: مجاوزة حدودها , قاله علي بن عيسى. والثالث: أنها معاداتها مأخوذ من حديد السلاح لاستعماله في المعاداة , قاله ابن بحر. {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وهذا وعيد , وإنما سميت النار جهنم من قول العرب بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر , فسميت نار الآخرة جهنم لبعد قعرها , قاله ابن بحر.

64

{يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون} {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ ... } الآية , فيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار من الله تعالى عن حذرهم , قاله الحسن وقتادة. والثاني: أنه أمر من الله تعالى لهم بالحذر , وتقديره ليحذر المنافقون , قاله الزجاج. وفي قوله تعالى { ... تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِم} وجهان: أحدهما: ما أسرّوه من النفاق. والثاني: قولهم في غزوة تبوك: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات. فأطلع الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا , قاله الحسن وقتادة. {قُلِ اسْتَهْزِئُواْ} هذا ويعد خرج مخرج الأمر للتهديد. {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: مظهر ما تسرون. والثاني: ناصر من تخذلون.

65

{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين

المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} قوله عز وجل {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن بعضهم يجتمع مع بعض على النفاق. والثاني: أن بعضهم يأخذ نفاقه من بعضٍ. وقال الكلبي: بعضهم على دين بعض. {يَأَمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} في المنكر والمعروف قولان: أحدهما: أن المنكر كل ما أنكره العقل من الشرك , والمعروف: كل ما عرفه العقل من الخير. والثاني: أن المعروف في كتاب الله تعالى كله الإيمان , والمنكر في كتاب الله تعالى كله الشرك , قاله أبو العالية. {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله تعالى , قاله الحسن ومجاهد. والثاني: يقبضونها عن كل خير , قاله قتادة. والثالث: يقبضونها عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم , قاله بعض المتأخرين. والرابع: يقبضون أيديهم عن رفعها في الدعاء إلى الله تعالى. {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي تركوا أمره فترك رحمتهم. قال ابن عباس: كان المنافقون بالمدينة من الرجال ثلاثمائة , ومن النساء سبعين ومائة امرأة.

وروى مكحول عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة المنافق: فقال: (إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا اؤتُمِنَ خَانَ , وَإِذا وَعَدَ أَخلَفَ , وَإِذَ خَاصَمَ فَجَرَ , وَإِذَا عَاهَدَ نَقَضَ , لاَ يَأْتِي الصَّلاَةَ إِلاَّ دُبُراً وَلاَ يَذْكُرِ اللَّهَ إِلاَّ هَجْراً).

69

{كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون} قوله عز وجل { ... فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاَقِهِمْ. .}. قيل بنصيبهم من خيرات الدنيا. ويحتمل استمتاعهم باتباع شهواتهم. وفيه وجه ثالث: أنه استمتاعهم بدينهم الذي أصروا عليه. {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوآ} فيه وجهان: أحدهما: في شهوات الدنيا. والثاني: في قول الكفر. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم فارس والروم. والثاني: أنهم بنو اسرائيل.

70

{ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما

كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} قوله عز وجل {. . وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن المساكن الطيبة قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر مبنية بهذه الجواهر. الثاني: أنها المساكن التي يطيب العيش فيها , وهو محتمل. وأما جنات عدن فيها خمسة أوجه: أحدها: أنها جنات خلود وإقامة , ومنه سمي المعدن لإقامة جوهره فيه , ومنه قول الأعشى: (فإن تستضيفوا إلى حِلمِه ... تضافوا إلى راجح قد عدَن) يعني ثابت الحلم. وهذا مروي عن ابن عباس. والثاني: أن جنات عدن هي جنات كروم وأعناب بالسريانية , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أن عدن اسم لبطنان الجنة اي وسطها , قاله عبد الله بن مسعود. والرابع: أن عدن اسم قصر في الجنة , قاله عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن.

والخامس: أن جنة عدن في السماء العليا لا يدخلها إلا نبيّ أو صديق أو شهيد أو إمام عدل. وجنة المأوى في السماء الدنيا تأوي إليها أرواح المؤمنين رواه معاذ بن جبل مرفوعاً.

73

{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} قوله عز وجل {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} أما جهاد الكفار فبالسيف وأما جهاد المنافقين ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: جهادهم بيده , فإن لم يستطع فبلسانه وقلبه , فإن لم يستطع فليكفهر في وجوههم , قاله ابن مسعود. والثاني: جهادهم باللسان , وجهاد الكفار بالسيف , قاله ابن عباس.

والثالث: أن جهاد الكفار بالسيف , وجهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم , قاله الحسن وقتادة. وكانوا أكثر من يصيب الحدود. {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمُ} يحتمل وجهين: أحدهما: تعجيل الانتقام منهم. والثاني: ألا يصدق لهم قولاً , ولا يبر لهم قسماً. قوله عز وجل {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الجلاس بن سويد بن الصامت , قال: إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن شر من الحمير , ثم حلف أنه ما قال , وهذا قول عروة ومجاهد وابن إسحاق. والثاني: أنه عبد الله بن أبي بن سلول. قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل , قاله قتادة. والثالث: أنهم جماعة من المنافقين قالوا ذلك , قاله الحسن. {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ} يعني ما أنكروه مما قدمنا ذكره تحقيقاً لتكذيبهم فيما أنكروه وقيل بل هو قولهم إن محمداً ليس بنبي. {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} يحتمل وجهين: أحدهما: كفروا بقلوبهم بعد أن آمنوا بأفواههم. والثاني: جرى عليهم حكم الكفر بعد أن جرى عليهم حكم الإيمان. {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المنافقين هموا بقتل الذي أنكر عليهم , قاله مجاهد. والثاني: أنهم هموا بما قالوه {لَئِن رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنهَا الأَذَلَّ} وهذا قول قتادة. والثالث: أنهم هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا مروي عن مجاهد أيضاً وقيل إنه كان ذلك في غزوة تبوك.

75

{ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون

فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب} قوله عز وجل {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ ... } الآية والتي بعدها نزلت في ثعلبة ابن حاطب الأنصاري. وفي سبب نزولها قولان: أحدهما: أنه كان له مال بالشام خاف هلاكه فنذر أن يتصدق منه , فلما قدم عليه بخل به , قاله الكلبي. والثاني: أن مولى لعمر قتل رجلاً لثعلبة فوعد إن أوصل الله الدية إليه أخرج حق الله تعالى منها , فلما وصلت إليه بخل بحق الله تعالى أن يخرجه , قاله مقاتل. وقيل إن ثعلبه لما بلغه ما نزل فيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فسأله أن يقبل منه صدقته فقال: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَنِي أَن أَقْبَلَ مِنكَ صَدَقَتَكَ) فجعل يحثي على رأسه التراب. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئاً.

79

{الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} قوله عز وجل {الَّذِينَ يَلْمزُونَ الْمُطَّوِِّعينَ مِنَ الْمُؤْمِنِيَن فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} قرىء بضم الجيم وفتحها وفيه وجهان: أحدهما: أنهما يختلف لفظهما ويتفق معناهما , قاله البصريون.

والثاني: أن معناهما مختلف , فالجهد بالضم الطاقة , وبالفتح المشقة , قاله بعض الكوفيين. وقيل: كان ذلك في غزاة تبوك نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي وأبي عقيل الأراشي وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ليتجهز للجهاد , فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال هذا شطر مالي صدقة , وجاء عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر , وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال: إني آجرت نفسي بصاعين فذهبت بأحدهما إلى عيالي وجئت بالآخر صدقة , فقال قوم من المنافقين حضروه: أما عبد الرحمن وعاصم فما أعطيا إلا رياءً , وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه , فنزلت فيهم هذه الآية. {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم أظهروا حمدهم واستبطنوا ذمهم. والثاني: أنهم نسبوا إلى الرياء وأعلنوا الاستهزاء. {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه ما أوجبه عليهم من جزاء الساخرين. والثاني: بما أمهلهم من المؤاخذة. قال ابن عباس: وكان هذا في الخروج إلى غزاة تبوك.

80

{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن

يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين} قوله عز وجل {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وهذا على وجه المبالغة في اليأس من المغفرة وإن كان على صيغة الأمر , ومعناه أنك لو طلبتها لهم طلب المأمور بها أو تركتها ترك المنهي عنها لكان سواء في أن الله تعالى لا يغفر لهم. قوله {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} ليس بحد لوقوع المغفرة بعدها , وإنما هو على وجه المبالغة بذكر هذا العدد لأن العرب تبالغ بالسبع والسبعين لأن التعديل في نصف العقد وهو خمسة إذا زيد عليه واحد كان لأدنى المبالغة , وإذا زيد عليه اثنان كان لأقصى المبالغة , ولذلك قالوا للأسد سبُع أي قد ضوعفت قوته سبع مرات , وهذا ذكره علي بن عيسى. وحكى مجاهد وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لُهُمْ أَكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً) فأنزل الله تعالى {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتُ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فكف.

81

{فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون} قوله عز وجل {فَرَحَ الْمُخَلَّفُونَ} أي المتروكون. {بِمَقْعَدِهْم خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول الأكثرين. والثاني: معناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله أبو عبيدة وأنشد.

(عفت الديار خلافهم فكانما ... بسط الشواطب بينهن حصيراً) أي بعدهم. {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} فيه وجهان: أحدهما: هذا قول بعضهم لبعض حين قعدوا. والثاني: أنهم قالوه للمؤمنين ليقعدوا معهم , وهؤلاء المخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك وكانوا أربعة وثمانين نفساً. قوله عز وجل {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} هذا تهديد وإن خرج مخرج الأمر , وفي قلة ضحكهم وجهان: أحدهما: أن الضحك في الدنيا لكثرة حزنها وهمومها قليل , وضحكهم فيها أقل لما يتوجه إليهم من الوعيد. الثاني: أن الضحك في الدنيا وإن دام إلى الموت قليل , لأن الفاني قليل. {وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} فيه وجهان: أحدهما: في الآخرة لأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة , وهم فيه يبكون , فصار بكاؤهم كثيراً , وهذا معنى قول الربيع بن خيثم. الثاني: في النار على التأبيد لأنهم إذا مسهم العذاب بكوا من ألمه , وهذا قول السدي. ويحتمل أن يريد بالضحك السرور , وبالبكاء الغم.

83

{فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين}

قوله عز وجل: { ... إِنَّكُم رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فيه قولان: أحدهما: أول مرة دعيتم. الثاني: يعني قبل استئذانكم. {فَاقْعُدُاْ مَعَ الْخَالِفِينَ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم النساء والصبيان , قاله الحسن وقتادة. الثاني: هم الرجال الذين تخلفوا بأعذار وأمراض , قاله ابن عباس.

84

{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} قوله عز وجل {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَّاتَ أَبَداً} لما احتضر عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنُه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يصلي عليه وأن يعطيه قميصه ليكفن فيه فأعطاه إياه وهو عرق فكفنه فيه وحضره , فقيل إنه أدركه حياً , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَهْلَكَهُمُ اليَهُودُ) فقال: يا رسول الله لا تؤنبني واستغفر لي , فلما مات ألبسه قميصه وأراد الصلاة عليه فجذبه عمر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله أليس الله قد نهاك عن الصلاة عليهم؟ فقال: (يَا عُمَرُ خَيَّرَنِي رَبِّي فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِر اللَّهُ لَهُمْ} لأَزِيدَنَّ عَلَى الْسَّبِعِينَ) فصلى عليه. فنزلت {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} الآية , فما صلى بعدها على منافق , وهذا قول ابن عباس وابن عمر وجابر وقتادة.

وقال أنس بن مالك: أراد أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه وقال {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُمْ مَّاتَ أَبَداً}. {وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} يعني قيام زائر ومستغفر.

85

{ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} قوله عز وجل {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيا} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: يعذبهم بحفظها في الدنيا والإشفاق عليها. والثاني: يعذبهم بما يلحقهم منها من النوائب والمصائب. والثالث: يعذبهم في الآخرة بما صنعوا بها في الدنيا عند كسبها وعند إنفاقها. وحكى ابن الأنباري وجهاً رابعاً: أنه على التقديم والتأخير , وتقديره: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الآخرة. قوله عز وجل {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْءَامِنُوا بِاللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: استديموا الإيمان بالله. والثاني: افعلوا فعل من آمن بالله. والثالث: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بأفواهكم , ويكون خطاباً للمنافقين. {وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوْا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أهل الغنى , قاله ابن عباس وقتادة. والثاني: أهل القدرة. وقال محمد بن إسحاق. نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس. قوله عز وجل {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: مع المنافقين , قاله مقاتل. والثاني: أنهم خساس الناس وأدناهم مأخوذ من قولهم فلان خالفه أهله إذا كان دونهم , قاله ابن قتيبة. والثالث: أنهم النساء , قاله قتادة والكلبي.

88

{لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} قوله عز وجل {وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} وهو جمع خيرة , وفيها أربعة أوجه: أحدها: أنها غنائم الدنيا ومنافع الجهاد. والثاني: فواضل العطايا. والثالث: ثواب الآخرة. والرابع: حُور الجنان , من قوله تعالى {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70].

90

{وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون} قوله عز وجل {وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} فيها وجهان:

أحدهما: أنهم المعتذرون بحق اعتذروا به فعذروا , قاله ابن عباس وتأويل قراءة من قرأها بالتخفيف. والثاني: هم المقصرون المعتذرون بالكذب , قاله الحسن وتأويل من قرأها بالتشديد , لأنه إذا خفف مأخوذ من العذر , وإذا شدد مأخوذ من التعذير , والفرق بينهما أن العذر حق والعذير كذب. وقيل إنهم بنو أسد وغطفان. قوله عز وجل {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى} الآية. وفي الضعفاء ها هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الصغار لضعف أبدانهم. الثاني: المجانين لضعف عقولهم. الثالث: العميان لضعف بصرهم. كما قيل في تأويل قوله تعالى في شعيب {إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} [هود: 91] أي ضريراً. {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} فيه وجهان: أحدهما: إذا برئوا من النفاق. الثاني: إذا قاموا بحفظ المخلفين من الذراري والمنازل. فإن قيل بالتأويل الأول كان راجعاً إلى جميع من تقدم ذكره من الضعفاء. والمرضى الذين لا يجدون ما ينفقون. وإن قيل بالتأويل الثاني كان راجعاً إلى الذين لا يجدون ما ينفقون خاصة. وقيل إنها نزلت في عائذ بن عمرو وعبد الله ابن مُغَفّل. {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه لم يجد لهم زاداً لأنهم طلبوا ما يتزودون به , قاله أنس بن مالك. والثاني: أنه لم يجد لهم نعالاً لأنهم طلبوا النعال , قاله الحسن.

روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الغزاة وهي تبوك (أَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَزَالُ رَاكباً مَا كَانَ مُنْتَعِلاً). وفيمن نزلت فيه خمسة أقاويل: أحدها: في العرباض بن سارية , قاله يحيى بن أبي المطاع. والثاني: في عبد الله بن الأزرق وأبي ليلى , قاله السدي. والثالث: في بني مقرّن من مُزينة , قاله مجاهد. والرابع: في سبعة من قبائل شتى , قاله محمد بن كعب. والخامس: في أبي موسى وأصحابه , قاله الحسن.

94

{يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} قوله عز وجل: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيآءُ} في السبيل ها هنا وجهان: أحدهما: الإنكار. الثاني: الإثم.

وقوله تعالى: {يَسْتَأْذِنُونَكَ} يعني في التخلف عن الجهاد. {وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} يعني بالمال والقدرة. {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم الذراري من النساء والأطفال. الثاني: أنهم المتخلفون بالنفاق.

97

{الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل: {الأعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون الكفر والنفاق فيهم أكثر منه في غيرهم لقلة تلاوتهم القرآن وسماعهم السنن. الثاني: أن الكفر والنفاق فيهم أشد وأغلظ منه في غيرهم لأنهم أجفى طباعاً وأغلظ قلوباً. {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} ومعنى أجدر أي أقرب , مأخوذ من الجدار الذي يكون بين مسكني المتجاورين. وفي المراد بحدود الله ما أنزل الله وجهان: أحدهما: فروض العبادات المشروعة. الثاني: الوعد والوعيد في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والتخلف عن الجهاد. قوله عز وجل {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} فيه وجهان: أحدهما: ما يدفع من الصدقات.

الثاني: ما ينفق في الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم مغرماً , والمغرم التزام ما لا يلزم , ومنه قوله تعالى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] أي لازماً , قال الشاعر: (فَمَا لَكَ مَسْلُوبَ العَزَاءِ كَأَنَّمَا ... تَرَى هَجْرَ لَيْلَى مَغْرَماً أَنْتَ غارِمُهُ) {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَآئِرَ} جمع دائرة وهي انقلاب النعمة إلى ضدها , مأخوذة من الدور ويحتمل تربصهم الدوائر وجهين: أحدهما: في إعلان الكفر والعصيان. والثاني: في انتهاز الفرصة بالانتقام. {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} رد لما أضمروا وجزاء لما مكروا. قوله عز وجل {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} قال مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة. {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنها تقربة من طاعة الله ورضاه. الثاني: أن ثوابها مذخور لهم عند الله تعالى فصارت قربات عند الله {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} فيها وجهان: أحدهما: أنه استغفاره لهم , قاله ابن عباس. الثاني: دعاؤه لهم , قاله قتادة. {أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون راجعاً إلى إيمانهم ونفقتهم أنها قربة لهم. الثاني: إلى صلوات الرسول أنها قربة لهم.

100

{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} قوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ} فيهم أربعة أقاويل:

أحدها: أنهم الذين صلّوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب. الثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان , قاله الشعبي وابن سيرين. الثالث: أنهم أهل بدر , قاله عطاء. الرابع: أنهم السابقون بالموت والشهادة من المهاجرين والأنصار سبقوا إلى ثواب الله تعالى وحسن جزائه. ويحتمل خامساً: أن يكون السابقون الأولون من المهاجرين هم الذين آمنوا بمكة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم , والسابقون الأولون من الأنصار هم الذين آمنوا برسول الله ورسوله قبل هجرته إليهم. {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بإِحْسَانٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: من الإيمان. الثاني: من الأفعال الحسنة. {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: رضي الله عنهم بالإيمان , ورضوا عنه بالثواب , قاله ابن بحر. الثاني: رضي الله عنهم في العبادة. ورضوا عنه بالجزاء , حكاه علي بن عيسى. الثالث: رضي الله عنهم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم , ورضوا عنه بالقبول.

101

{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} قوله عز وجل: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعْرابِ مُنَافِقُونَ} يعني حوله المدينة: قال ابن عباس: مزينة وجهينة وأسلم وغِفار وأشجع كان فيهم بعد إٍسلامهم منافقون كما كان من الأنصار لدخول جميعهم تحت القدرة فتميزوا بالنفاق وإن عمتهم الطاعة. {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أقاموا عليه ولم يتوبوا منه , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثاني: مردوا عليه أي عتوا فيه , ومنه قوله عز وجل {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} [النساء: 117]. الثالث: تجردوا فيه فظاهروا , مأخوذ منه تجرد خد الأمرد لظهوره وهو محتمل. {لاَ تَعْلَمُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لا تعلمهم حتى نعلمك بهم. الثاني: لا تعلم أنت عاقبة أمورهم وإنما نختص نحن بعلمها , وهذا يمنع أن يحكم على أحد بجنة أو نار. {سَنُعَذِّبُهُمْ مَّرَّتَيْنِ} فيه أربعة أوجه: أحدهما: أن أحد العذابين الفضيحة في الدنيا والجزع من المسلمين , والآخر عذاب القبر , قاله ابن عباس.

والثاني: أن أحدهما عذاب الدنيا والآخر عذاب الآخرة , قاله قتادة. والثالث: أن أحدهما الأسر والآخر القتل , قاله ابن قتيبة. والرابع: أن أحدهما الزكاة التي تؤخذ منهم والآخر الجهاد الذي يؤمرون به لأنهم بالنفاق يرون ذلك عذاباً. قال الحسن. {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدهما: أنه عذاب النار في الآخرة. الثاني: أنه إقامة الحدود في الدنيا. الثالث: إنه أخذ الزكاة منهم.

102

{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} قوله عز وجل: {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم سبعة من الأنصار منهم أو لبابة بن عبد المنذر , وأوس بن ثعلبة , ووديعة بن حزام , كانوا من جملة العشرة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك , فربطوا أنفسهم لما ندموا على تأخرهم إلى سواري المسجد ليطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عفا عنهم , فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بهم وكانوا على طريقة فسأل عنهم فأخبر بحالهم فقال: (لاَ أَعذُرُهُمْ وَلاَ أُطْلِقُهم حَتَّى يَكونَ اللَّهَ تَعالَى هُوَ الَّذِيَ يَعْذُرُهم وَيُطْلِقُهُمْ) فنزلت هذه الآية فيهم فأطلقهم , وهذا قول ابن عباس. الثاني: أنه أبو لبابة وحده قال لبني قريظة حين أرادوا النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم إنه ذابحكم إن نزلتم على حكمه , قاله مجاهد. {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحَاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الصالح: الجهاد , والسيء , التأخر عنه , قاله السدي. الثاني: أن السيىء: الذنب والصالح: التوبة , قاله بعض التابعين. الثالث: ما قاله الحسن: ذنباً وسوطاً لا ذهباً فروطاً , ولا ساقطاً سقوطاً.

103

{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} قال ابن عباس: لما نزل في أبي لبابة وأصحابه {وَءَاخَرُونَ اعْترَفُواْ بِذُنُوبِهِم} الآية. ثم تاب عليهم قالوا يا رسول الله خذ منا صدقة أموالنا لتطهرنا وتزكينا , قال: لا أفعل حتى أؤمر , فأنزل الله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وفيها وجهان: أحدهما: أنها الصدقة التي بذلوها من أموالهم تطوعاً , قاله ابن زيد. والثاني: أنها الزكاة التي أوجبها الله تعالى في أموالهم فرضاً , قاله عكرمة. ولذلك قال: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} لأن الزكاة لا تجب في الأموال كلها وإنما تجب في بعضها. {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي تطهر ذنوبهم وتزكي أعمالهم. {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: استغفر لهم: قاله ابن عباس. الثاني: ادع لهم , قاله السدي. {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} فيه خمسة تأويلات:

أحدها: قربة لهم , قاله ابن عباس في رواية الضحاك. الثاني: رحمة لهم , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس أيضاً. الثالث: وقار لهم , قاله قتادة. الرابع: تثبت لهم , قاله ابن قتيبة. الخامس: أمن لهم , ومنه قول الشاعر: (يَا جَارَةَ الحَيِّ كُنتِ لي سَكَناً ... إذْ ليْسَ بعضُ الجِيرَانِ بِالسَّكَنِ) وفي الصلاة عليهم والدعاء لهم عند أخذ الصدقة منهم ستة أوجه: أحدها: يجب على الآخذ الدعاء للمعطي اعتباراً بظاهر الأمر. الثاني: لا يجب ولكن يستحب لأن جزاءها على الله تعالى لا على الآخذ. والثالث: إن كانت تطوعاً وجب على الآخذ الدعاء , وإن كانت فرضاً استحب ولم يجب. والرابع: إن كان آخذها الوالي استحب له الدعاء ولم يجب عليه , وإن كان آخذها الفقير وجب عليه الدعاء له , لأن الحق في دفعها إلى الوالي معيّن , وإلى الفقير غير معيّن. والخامس: إن كان آخذها الوالي وجب , وإن كان الفقير استحب ولم يجب. لأنه دفعها إلى الوالي إظهار طاعة فقوبل عليها بالشكر وليس كذلك الفقير. والسادس: إن سأل الدافع الدعاء وجب , وإن لم يسأل استحب ولم يجب. روى عبد الله بن أبي أوفى قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقات قومي فقلت يا رسول الله صلِّ عليّ , فقال: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى).

106

{وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم} قوله عز وجل: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} وهم الثلاثة الباقون من العشرة المتأخرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك ولم يربطوا أنفسهم مع أبي لبابة , وهم هلال بن أمية , ومرارة بن الربيع , وكعب بن مالك.

{مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} أي مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله تعالى فيهم. {إِمَّا يُعَذِبُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يميتهم على حالهم , قاله السدي. الثاني: يأمر بعذابهم إذا لم يعلم صحة توبتهم. {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يعلم صدق توبتهم فيطهر ما فيهم. الثاني: أن يعفو عنهم ويصفح عن ذنوبهم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بما يؤول إليه حالهم , حكيم فيما فعله من إرجائهم.

107

{والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً} هؤلاء هم بنو عمرو بن عوف وهم اثنا عشر رجلاً من الأنصار المنافقين , وقيل: هم خذام بن خالد ومن داره أخرج مسجد الشقاق , وثعلبة بن حاطب , وَمُعَتِّب بن قشير , وأبو حبيبة بن الأزعر , وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف , وجارية بن عامر , وابناه مُجمِّع وزيد ابنا جارية , ونبتل بن الحارث , وبجاد بن عثمان , ووديعة بن ثابت , وبحرج وهو جد عبد الله بن حنيف , وله قال النبي صلى الله عليه وسلم (وَيْلَكَ يَا بَحْرَج مَاذَا أَرَدْتَ بِمَا أَرَى؟)

فقال يا رسول الله ما أردت إلا الحسنى , وهو كاذب , فصدقه , فبنى هؤلاء مسجد الشقاق والنفاق قريباً من مسجد قباء. {ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} يعني ضراراً , وكفراً بالله , وتفريقاً بين المؤمنين أن لا يجتمعوا كلهم في مسجد قباء فتجتمع كلمتهم , ويتفرقوا فتتفرق كلمتهم , ويختلفوا بعد ائتلافهم. {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } وفي الإرصاد وجهان: أحدهما: أنه انتظار سوء يتوقع. الثاني: الحفظ المقرون بفعل. وفي محاربة الله تعالى ورسوله وجهان: أحدهما: مخالفتهما. الثاني: عداوتهما. والمراد بهذا الخطاب أبو عامر الراهب والد حنظلة بن الراهب كان قد حزّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم خاف فهرب إلى الروم وتنصر واستنجد هرقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبنوا هذا المسجد له حتى إذا عاد من هرقل صلى فيه , وكانوا يعتقدون أنه إذا صلى فيه نُصِر , وكانوا ابتدأوا بنيانه ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارج إلى تبوك , فسألوه أن يصلي لهم فيه فقال: (أَنَا عَلَى سَفَرٍ وَلَو قَدِمْنَا إِن شَآءَ اللَّهُ أَتَينَاكُم وَصَلَّينَا لَكُم فِيهِ). فلما قدم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد , وقالوا قد فرغنا منه , فأتاه خبر المسجد وأنزل الله تعالى فيه ما أنزل. وحكى مقاتل أن الذي أمّهم فيه مجمع بن جارية وكان قارئاً , ثم حسن إٍسلامه بعد ذلك فبعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة يعلمهم القرآن , وهو علم ابن مسعود بقية القرآن. { ... وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: طاعة الله تعالى. والثاني: الجنة.

والثالث: فعل التي هي أحسن , من إقامة الدين والجماعة والصلاة , وهي يمين تحرُّج. {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: والله يعلم إنهم لكاذبون في قولهم خائنون في إيمانهم. والثاني: والله يعلمك أنهم لكاذبون خائنون. فصار إعلامه له كالشهادة منه عليهم. {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} أي لا تصلَّ فيه أبداً , يعني مسجد الشقاق والنفاق فعند ذلك أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم وعاصم بن عدي فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه. فذهبا إليه وأخذا سعفاً وحرقاه. وقال ابن جريج: بل انهار المسجد في يوم الاثنين ولم يُحرَّق. {لَّمَسْجِدٌ أسِسَّ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ} وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة , قاله أبو سعيد الخدري ورواه مرفوعاً. الثاني: أنه مسجد قباء , قاله الضحاك وهو أول مسجد بني في الإسلام , قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك.

الثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة أسس على التقوى , قاله محمد بن كعب {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: من المسجد الذي أسس على التقوى رجال يحبون أن يتطهروا من الذنوب والله يحب المتطهرين منها بالتوبة , قاله أبو العالية. والثاني: فيه رجال يحبون أن يتطهروا من البول والغائط بالاستنجاء بالماء. والله يحب المتطهرين بذلك. روى أبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار عند نزول هذه الآية: (يَا مَعْشَرَ الأَنصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنى عَلَيكُم خَيراً فِي الطَّهُورَ فَمَا طَهُورُكُم هَذَا) قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَهَلْ مَعَ ذلِكَ غَيرُهُ؟) قالوا لا , غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء , فقال: (هُوَ ذلِكَ فَعَلَيكُمُوهُ) الثالث: أنه عني المتطهرين عن إتيان النساء في أدبارهن , وهو مجهول , قاله مجاهد.

109

{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم} قوله عز وجل: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} يعني مسجد قباء والألف من {أَفَمَنْ} ألف إنكار. ويحتمل قوله {عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} وجهين:

أحدهما: أن التقوى اجتناب معاصيه , والرضوان فعل طاعته. الثاني: أن التقوى اتقاء عذابه , والرضوان طلب ثوابه. وكان عمر بن شبة يحمل قوله تعالى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} على مسجد المدينة , ويحتمل {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مَنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} على مسجد قباء , فيفرق بين المراد بهما في الموضعين. {أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} يعني شفير جرف وهو حرف الوادي الذي لا يثبت عليه البناء لرخاوته وأكل الماء له {هَارٍ} يعني هائر , والهائر: الساقط. وهذا مثل ضربه الله تعالى لمسجد الضرار. ويحتمل المقصود بضرب هذا المثل وجهين: أحدهما: أنه لم يبق بناؤهم الذي أسس على غير طاعة الله حتى سقط كما يسقط ما بني على حرف الوادي. الثاني: أنه لم يخف ما أسرُّوه من بنائه حتى ظهر كما يظهر فساد ما بنى على حرف الوادي بالسقوط. {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم ببنيانهم له سقطوا في نار جهنم. الثاني: أن بقعة المسجد مع بنائها وبُناتها سقطت في نار جهنم , قاله قتادة والسدي. قال قتادة: ذكر لنا أنه حفرت منه بقعة فرئي فيها الدخان وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار. قوله عزوجل {لاَ يََزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ} يعني مسجد الضرار. {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِم} فيه قولان: أحدهما: أن الريبة فيها عند بنائه. الثاني: أن الريبة عند هدمه.

فإن قيل بالأول ففي الريبة التي في قلوبهم وجهان: أحدهما: غطاء على قلوبهم , قاله حبيب بن أبي ثابت. الثاني: أنه شك في قلوبهم , قاله ابن عباس وقتادة والضحاك , ومنه قول النابغة الذبياني: (حَلَفْتُ فلم أترك لنَفْسِكَ ريبة ... وليس وراءَ الله للمرءِ مذهب) ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن تكون الريبة ما أضمروه من الإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وإن قيل بالثاني أن الريبة بعد هدمه ففيها وجهان: أحدهما: أنها حزازة في قلوبهم , قاله السدي. الثاني: ندامة في قلوبهم , قاله حمزة. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن تكون الريبة الخوف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين. {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إلا أن يموتوا , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. الثاني: إلا أن يتوبوا , قاله سفيان. الثالث: إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم , قاله عكرمة. وكان أصحاب ابن مسعود يقرأُونها: {وَلَوْ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ}.

111

{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في

التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} قوله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} اشترى أنفسهم بالجهاد , {وَأَمْوَالَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: نفقاتهم في الجهاد. والثاني: صدقاتهم على الفقراء. {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} قال سعيد بن جبير: يعني الجنة , وهذا الكلام مجاز معناه أن الله تعالى أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم بالجنة , فعبر عنه بالشراء لما فيه من عوض ومعوض مضار في معناه , ولأن حقيقة الشراء لما لا يملكه المشتري. {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأن الثواب على الجهاد إنما يستحق إذا كان في طاعته ولوجهه. {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} يعني أن الجنة عوض عن جهادهم سواء قَتَلُوا أو قُتِلُوا. فروى جابر بن عبد الله الأنصاري أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فكبّر الناس , فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرف ردائه على أحد عاتقيه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ فقال: نَعَم , فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقبل ولا نستقبل. وقال بعض الزهاد: لأنه اشترى الأنفس الفانية بالجنة الباقية.

112

{التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} قوله عز وجل: {التَّآئِبُونَ} يعني من الذنوب.

ويحتمل أن يراد بهم الراجعون إلى الله تعالى في فعل ما أمر واجتناب ما حظر لأنها صفة مبالغة في المدح , والتائب هو الراجع , والراجع إلى الطاعة أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين. {العَابِدُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: العابدون بتوحيد الله تعالى , قاله سعيد بن جبير.

والثاني: العابدون بطول الصلاة , قاله الحسن. والثالث: العابدون بطاعة الله تعالى , قاله الضحاك. {الحَامِدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: الحامدون لله تعالى على دين الإسلام , قاله الحسن. الثاني: الحامدون لله تعالى على السراء والضراء , رواه سهل بن كثير. {السَّآئِحُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: المجاهدون روى أبو أمامة أن رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي السياحة فقال: (إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبيلِ اللَّهِ) والثاني: الصائمون , وهو قول ابن مسعود وابن عباس , وروى أبو هريرة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سِيَاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ). الثالث: المهاجرون , قاله عبد الرحمن بن زيد. الرابع: هم طلبة العِلم , قاله عكرمة. {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} يعني في الصلاة. {الأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوْفِ} فيه وجهان: أحدهما: بالتوحيد , قاله سعيد بن جبير. الثاني: بالإسلام. {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكُرِ} فيه وجهان: أحدهما: عن الشرك , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنهم الذين لم ينهوا عنه حتى انتهوا قبل ذلك عنه , قاله الحسن. {وَاْلحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: القائمون بأمر الله تعالى. والثاني: الحافظون لفرائض الله تعالى من حلاله وحرامه , قاله قتادة. والثالث: الحافظون لشرط الله في الجهاد , قاله مقاتل بن حيان. {وَبَشّرِ الْمُؤْمنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني المصدقين بما وعد الله تعالى في هذه الآيات. قاله سعيد بن جبير. والثاني: العاملين بما ندب الله إليه في هذه الآيات , وهذا أشبه بقول الحسن. وسبب نزول هذه الآية ما روى ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} الآية. أتى رجل من المهاجرين فقال يا رسول الله وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر؟ فأنزل الله تعالى {التَّآئِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} الآية.

113

{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه

عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَءَآمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما روى مسروق عن ابن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلاً ثم بكى فبكينا لبكائه , ثم قام , فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فدعاه ثم دعانا فقال: (مَا أَبْكَاكُم؟) قلنا: بكينا لبكائك , قال: (إن القبر الذي جلست عنده قبر آمِنَةَ وَإِنِّي اسْتَأْذَنتُ رَبِّي فِي زيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي , وَإِنِّي استَأْذَنتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَن لِي , وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَءَآمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُربَى} الآية. {فأخذني ما يأخذ الولد للوالد , وكنتُ نَهَيتُكُم عن زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا فإنها تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ) (والثاني: أنها نزلت في أبي طالب , روى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال صلى الله عليه وسلم:) أَي عَمِّ قُلْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةٌ أُحَاج لَكَ بِهَا عِندَ اللَّهِ (فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء كلمهم به أن قال: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:) لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنكَ (فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَءَآمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلمُشْرِكِينَ} الآية. والثالث: أنها نزلت فيما رواه أبو الخليل عن عليّ بن أبي طالب رضي الله

عنه قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان , فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أو لم يستغفر إبراهيم لأبويه؟ فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم , فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءآمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}. قوله عز وجل {وَمَا كَانَ استِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهآ إِيَّاهُ} الآية. عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام في استغفاره لأبيه مع شركه لسالف موعده ورجاء إيمانه. وفي موعده الذي كان يستغفر له من أجله قولان: أحدهما: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن. والثاني: أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له لما كان يرجوه أنه يؤمن. {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ} وذلك بموته على شركه وإياسه من إيمانه {تَبَرَّأَ مِنْهُ} أي من أفعاله ومن استغفاره له , فلم يستغفر له بعد موته. {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} فيه عشرة تأويلات: أحدها: أن الأوّاه: الدعَّاء , أي الذي يكثر الدعاء , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه الرحيم , قاله الحسن. الثالث: أنه الموقن , قاله عكرمة وعطاء. الرابع: أنه المؤمن , بلغة الحبشة , قاله ابن عباس. الخامس: أنه المسبِّح , قاله سعيد بن المسيب. السادس: أنه الذي يكثر تلاوة القرآن , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. السابع: أنه المتأوّه , قاله أبو ذر. الثامن: أنه الفقيه , قاله مجاهد. التاسع: أنه المتضرع الخاشع , رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم.

العاشر: أنه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها , قاله أبو أيوب. وأصل الأواه من التأوه وهو التوجع , ومنه قول المثقب العبدي. (إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ)

115

{وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} الآية. سبب نزولها أن قوماً من الأعراب أسلموا وعادوا إلى بلادهم فعملوا بما شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمله من الصلاة إلى بيت المقدس وصيام الأيام البيض , ثم قدموا بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه يصلي إلى الكعبة ويصوم شهر رمضان: فقالوا: يا رسول الله أضلنا الله بعدك بالصلاة. إنك على أمر وإنا على غيره فأنزل الله تعالى هذه الآية.

117

{لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} قوله عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية. هي غزوة تبوك قِبل الشام , كانوا في عسرة من الظهر , كان الرجلان والثلاثة على بعير وفي عسرة من الزاد , قال قتادة حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما , وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها أحدهم ثم يشرب عليها من الماء , ثم يمصها الآخر , وفي عسرة من الماء , وكانوا في لهبان الحر وشدته.

قال عبد الله بن محمد بن عقيل: وأصابهم يوماً عطش شديد فجعلوا ينحرون إبلهم ويعصرون أكراشها فيشربون ماءها , قال عمر بن الخطاب فأمطر الله السماء بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فغشينا. وفي هذه التوبة من الله على النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار وجهان محتملان: أحدهما: استنقاذهم من شدة العسر. والثاني: أنها خلاصهم من نكاية العدوّ. وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحالة الأولى. {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: تتلف بالجهد والشدة. والثاني: تعدِل عن الحق في المتابعة والنصرة , قاله ابن عباس. {ثُمَّ تَابَ عَلَيهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وهذه التوبة غير الأولى , وفيها قولان: أحدهما: أن التوبة الأولى في الذهاب , والتوبة الثانية في الرجوع. والقول الثاني: أن الأولى في السفر , والثانية بعد العودة إلى المدينة. فإن قيل بالأول , أن التوبة الثانية في الرجوع , احتملت وجهين: أحدهما: أنها الإذن لهم بالرجوع إلى المدينة. الثاني: أنها بالمعونة لهم في إمطار السماء عليهم حتى حيوا , وتكون التوبة على هذين الوجهين عامة. وإن قيل إن التوبة الثانية بعد عودهم إلى المدينة احتملت وجهين: أحدهما: أنها العفو عنهم من ممالأة من تخلف عن الخروج معهم. الثاني: غفران ما همَّ به فريق منهم من العدول عن الحق , وتكون التوبة على هذين الوجهين خاصة.

118

{وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت

عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} قوله عز وجل: {وَعلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} يعني وتاب على الثلاثة الذين خلّفوا وفيه وجهان: أحدهما: خلفوا عن التوبة وأخرت عليهم حين تاب عليهم , أي على الثلاثة الذين لم يربطوا أنفسهم مع أبي لبابة , قاله الضحاك وأبو مالك. الثاني: خلفوا عن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله عكرمة. وهؤلاء الثلاثة هم: هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك. {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} لأن المسلمين امتنعوا من كلامهم. {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بما لقوه من الجفوة لهم. {وَظَنُّوآ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجؤون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه. {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} قال كعب بن مالك: بعد خمسين ليلة من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة تبوك. {لِيَتُوبُوآ} قال ابن عباس ليستقيموا لأنه قد تقدمت توبتهم وإنما امتحنهم بذلك استصلاحاً لهم ولغيرهم. قوله عز وجل: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها في أهل الكتاب , وتأويلها: يا أيها الذين آمنوا من اليهود بموسى , ومن النصارى بعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فآمنوا به , وكونوا مع الصادقين يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جهاد المشركين , قاله مقاتل بن حيان.

الثاني: أنها في المسلمين: وتأويلها: يا أيها الذين آمنوا من المسلمين اتقوا الله وفي المراد بهذه التقوى وجهان: أحدهما: اتقوا الله من الكذب , قال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جدٍّ ولا هزل , اقرأُوا إن شئتم {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وهي قراءة ابن مسعود هكذا: من الصادقين. والثاني: اتقوا الله في طاعة رسوله إذا أمركم بجهاد عدوِّه. {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فيهم أربعة أقاويل: أحدها: مع أبي بكر وعمر , قاله الضحاك. الثاني: مع الثلاثة الذين خُلفوا حين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخرهم ولم يكذبوا. قاله السدي. والثالث: مع من صدق في قوله ونيته وعمله وسره وعلانيته , قاله قتادة. والرابع: مع المهاجرين لأنهم لم يتخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن جريج.

120

{ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}

قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} فيه وجهان: أحدهما: وما كان عليهم أن ينفروا جميعاً لأن فرضه صار على الكفاية وهذا ناسخ لقوله تعالى {انفِرُو خِفَافاً وَثِقَالاً} قاله ابن عباس. والثاني: معناه وما كان للمؤمنين إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرية أن يخرجوا جميعاً فيها ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة حتى يقيم معه بعضهم , قاله عبد الله بن عبيد الله بن عمير. قال الكلبي: وسبب نزول ذلك أن المسلمين بعد أن عُيّروا بالتخلف عن غزوة تبوك توفروا على الخروج في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه وحده بالمدينة , فنزل ذلك فيهم. {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فيه قولان: أحدهما: لتتفقه الطائفة الباقية إما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاده , وإما مهاجرة إليه في إقامته , قاله الحسن. الثاني: لتتفقه الطائفة المتأخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفور في السرايا , ويكون معنى الكلام: فهلاَّ إذا نفروا أن تقيم من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين , قاله مجاهد. وفي قوله تعالى {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} تأويلان: أحدهما: ليتفقهوا في أحكام الدين ومعالم الشرع ويتحملوا عنه ما يقع به البلاغ وينذروا به قومهم إذا رجعوا إليهم. الثاني: ليتفقهوا فيما يشاهدونه من نصر الله لرسوله وتأييده لدينه وتصديق وعده ومشاهدة معجزاته ليقوى إيمانهم ويخبروا به قومهم.

123

{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين} قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَآمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ} فيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم الروم قاله ابن عمر.

الثاني: أنهم الديلم , قاله الحسن. الثالث: أنهم العرب , قاله ابن زيد. الرابع: أنه على العموم في قتال الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى , قاله قتادة.

124

{وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} قوله عز وجل: {وَإِذَا مَآ أُنْزِلَتُ سُورَةٌ فِمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيَُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً}. هؤلاء هم المنافقون. وفي قولهم ذلك عند نزول السورة وجهان: أحدهما: أنه قول بعضهم لبعض على وجه الإنكار , قاله الحسن. الثاني: أنهم يقولون ذلك لضعفاء المسلمين على وجه الاستهزاء. {فَأَمَّا الَّذِينَءَآمَنُوا فَزَادَتْهُمُ إيمَاناً} فيه تأويلان: أحدهما: فزادتهم خشية , قاله الربيع بن أنس. الثاني: فزادتهم السورة إيماناً لأنهم قبل نزولها لم يكونوا مؤمنين بها , قاله الطبري. {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك. {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إثماً إلى إثمهم , قاله مقاتل. الثاني: شكاً إلى شكِّهم , قاله الكلبي. الثالث: كفراً إلى كفرهم , قاله قطرب.

126

{أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل

يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} قوله عز وجل: {أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} الآية. في معنى الافتتان هنا ثلاثة أوجه: أحدها: يبتلون , قاله ابن عباس. الثاني: يضلون , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثالث: يختبرون , قاله أبو جعفر الطبري. وفي الذي يفتنون به أربعة أقاويل: أحدها: أنه الجوع والقحط , قاله مجاهد. الثاني: أنه الغزو والجهاد في سبيل الله , قاله قتادة. الثالث: ما يلقونه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله حذيفة بن اليمان. الرابع: أنه ما يظهره الله تعالى من هتك أستارهم وسوء نياتهم , حكاه علي بن عيسى. وهي في قراءة ابن مسعود: {أَوَ لاَ تَرَى أَنَّهُم يُفْتَنُونَ} خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

128

{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} قوله عز وجل: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} فيه قراءتان: إحداهما: من أنفسكم بفتح الفاء ويحتمل تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: من أكثركم طاعة لله تعالى. الثاني: من أفضلكم خلقاً. الثالث: من أشرفكم نسباً.

والقراءة الثانية: بضم الفاء , وفي تأويلها أربعة أوجه: أحدها: يعني من المؤمنين لم يصبه شيء من شرك , قاله محمد بن علي. الثاني: يعني من نكاح لم يصبه من ولادة الجاهلية , قاله جعفر بن محمد. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خَرَجْتُ مِن نِكَاحٍ وَلَمْ أَخَرُجْ مِنْ سِفَاحٍ) الثالث: ممن تعرفونه بينكم , قاله قتادة. الرابع: يعني من جميع العرب لأنه لم يبق بطن من بطون العرب إلا قد ولدوه , قاله الكلبي. {عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عنِتُّمُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: شديد عليه ما شق عليكم , قاله ابن عباس. الثاني: شديد عليه ما ضللتم , قاله سعيد بن أبي عروبة. الثالث: عزيز عليه عنت مؤمنكم , قاله قتادة. {حَرِيصٌ عَلَيكُمْ} قاله الحسن: حريص عليكم أن تؤمنوا. {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فيه وجهان:

أحدهما: بما يأمرهم به من الهداية ويؤثره لهم من الصلاح. الثاني: بما يضعه عنهم من المشاق ويعفو عنهم من الهفوات , وهو محتمل. قوله عز وجل {فَإِن تَوَلَّوْا} فيه وجهان: أحدهما: عن طاعة الله , قاله الحسن. الثاني: عنك , ذكره عليّ بن عيسى. {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ} يحتمل وجهين: أحدهما: حسبي الله معيناً عليكم. الثاني: حسبي الله هادياً لكم. {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيمِ} يحتمل وجهين: أحدهما: لسعته. الثاني: لجلالته. روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أن آخر ما أُنزل من القرآن هاتان الآيتان {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} وهذه الآية. وقال أُبي بن كعب: هما أحدث القرآن عهداً بالله وقال مقاتل: تقدم نزولهما بمكة , والله أعلم.

سورة يونس

يونس

{الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} قوله عز وجل: {الر} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه أنا الله أرى , قاله ابن عباس والضحاك. والثاني: هي حروف من اسم الله الذي هو الرحمن , قاله سعيد بن جبير والشعبي. وقال سالم بن عبد الله: {الر} و {حمٌ} و {ن} للرحمن مقاطع. الثالث: هو اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الرابع: أنها فواتح افتتح الله بها القرآن , قاله ابن جريج. {تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} يعني بقوله {تِلْكَءَايَاتُ} أي هذه آيات , كما قال الأعشى: (تلك خَيْلِي مِنْهُ وتلكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُها كالزَّبِيبِ)

أي هذه خيلي. وفي {الكِتَابِ الْحِكيمِ} ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثاني: الزبور , قاله مطر. الثالث: القرآن , قاله قتادة. وفي قوله {الحَكِيمِ} تأويلان: أحدهما: أنه بمعنى محكم , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه كالناطق بالحكمة , ذكره علي بن عيسى. قوله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} قال ابن عباس: سبب نزولها أن الله تعالى لما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أنكر العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد , فنزلت هذه الآية. وهذا لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الإنكار والتعجب مَن كفر من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه جاءهم رسول منهم , وقد أرسل الله إلى سائر الأمم رسلاً منهم. ثم قال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَءَآمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِهِّم} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن لهم ثواباً حسناً بما قدموا من صالح الأعمال , قاله ابن عباس. الثاني: سابق صدق عند ربهم أي سبقت لهم السعادة في الذكر الأول , قاله ابن أبي طلحة عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أن لهم شفيع صدق يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يشفع لهم , قاله مقاتل بن حيان. الرابع: أن لهم سلف صدق تقدموهم بالإيمان , قاله مجاهد وقتادة.

والخامس: أن لهم السابقة بإخلاص الطاعة , قال حسان بن ثابت: (لنا القدم العُلْيَا إليكَ خَلْفَنَا ... لأَوَّلنا في طَاعَةِ اللَّهِ تابعُ) ويحتمل سادساً: أن قدم الصدق أن يوافق الطاعة صدق الجزاء , ويكون القدم عبارة عن التقدم , والصدق عبارة عن الحق.

3

{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون} قوله عز وجل: {يُدَبِّرُ الأمْرَ} فيه وجهان: أحدهما: يقضيه وحده , قاله مجاهد. الثاني: يأمر به ويمضيه. {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما من شفيع يشفع إلا من بعد أن يأذن الله تعالى له في الشفاعة. الثاني: ما من أحد يتكلم عنده إلا بإذنه , قاله سعيد بن جبير. الثالث: لا ثاني معه , مأخوذ من الشفع الذي هو الزوج لأنه خلق السموات والأرض وهو واحد فرد لا حي معه , ثم خلق الملائكة والبشر.

وقوله {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} يعني من بعد أمره أن يكون الخلق فكان , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: { ... إِنَّهُ يَبْدَؤُأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يَعِيدُهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنه ينشئه ثم يفنيه. الثاني: ما قاله مجاهد: يحييه ثم يميته ثم يبيده ثم يحييه.

7

{إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} فيه تأويلان: أحدهما: لا يخافون عقابنا. ومنه قول الشاعر: (إِذَا لَسَعَتْهُ النّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ) الثاني: لا يطمعون في ثوابنا , ومنه قول الشاعر: (أَيَرْجُوا بَنُوا مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي ... وَقَوْمِي تَمِيْمٌ وَالْفَلاَةُ وَرَائِيَا)

9

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بإِيمَانِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يجعل لهم نوراً يمشون به , قاله مجاهد. الثاني: يجعل عملهم هادياً لهم إلى الجنة , وهذا معنى قول ابن جريج. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَتَلَقَّى الْمُؤْمِنَ عَمَلُهُ فِي أَحْسَنِ صُوَرَةٍ

فَيُؤْنِسُهُ وَيَهْدَيهِ , وَيَتَلَقَّى الْكَافِرَ عَمَلُهُ فِي أَقْبَحِ صُورَةٍ فَيُوحِشُهُ وَيُضِلُّهُ). الثالث: أن الله يهديهم إلى طريق الجنة. الرابع: أنه وصفهم بالهداية على طريق المدح لهم. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} فيه وجهان: أحدهما: من تحت منازلهم قاله أبو مالك. الثاني: تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو لقوله تعالى {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] يعني بين يدي. وحكى أبو عبيدة عن مسروق أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود. قوله عز وجل: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فيه وجهان: أحدهما: أن أهل الجنة إذا اشتهوا الشيء أو أرادوا أن يدعوا بالشيء قالوا سبحانك اللهم فيأتيهم , ذلك الشيء , قاله الربيع وسفيان. الثاني: أنهم إذا أرادوا الرغبة إلى الله في دعاء يدعونه كان دعاؤهم له: سبحانك اللهم: قاله قتادة. {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} فيه وجهان: أحدهما: معناه وملكهم فيها سالم. والتحية الملك , ومنه قول زهير بن جنان الكلبي: (ولكلُّ ما نال الفتى ... قد نِلتُه إلا التحية) الثاني: أن تحية بعضهم لبعض فيها سلام. أي: سلمت وأمنت مما بلي به أهل النار , قاله ابن جرير الطبري. {وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: أن آخر دعائهم: الحمد لله رب العالمين , كما كان أول دعائهم: سبحانك اللهم , ويشبه أن يكون هذا قول قتادة.

الثاني: أنهم إذا أجابهم فيما دعوه وآتاهم ما اشتهوا حين طلبوه بالتسبيح قالوا بعده: شكراً لله والحمد لله رب العالمين.

11

{ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} قوله عز وجل: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: ولو يعجل الله للكافر العذاب على كفره كما عجل له خير الدنيا من المال والولد لعجل له قضاء أجله ليتعجل عذاب الآخرة , قاله ابن إسحاق. الثاني: معناه أن الرجل إذا غضب على نفسه أو ماله أو ولده فيدعو بالشر فيقول: لا بارك الله فيه وأهلكه الله , فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب منه الخير لقضي إليهم أجلهم أي لهلكوا. فيكون تأويلاً على الوجه الأول خاصاً في الكافر , وعلى الوجه الثاني عاماً في المسلم والكافر. {فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} قال قتادة: يعني مشركي أهل مكة. {فِي طُغْيَانِهِمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في شركهم , قاله ابن عباس. الثاني: في ضلالهم , قاله الربيع بن أنس. الثالث: في ظلمهم , قاله عليّ بن عيسى. {يَعْمَهُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يترددون , قاله ابن عباس وأبو مالك وأبو العالية. الثاني: يتمادون , قاله السدي. الثالث: يلعبون , قاله الأعمش.

12

{وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ الإنسَانَ الضُّرُّ دََعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قآئِماً} فيه وجهان: أحدهما: أنه إذا مسه الضر دعا ربه في هذه الأحوال. الثاني: دعا ربه فيكون محمولاً على الدعاء في جميع أحواله.

13

{ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} قوله عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيهِمْءَآيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} يعني آيات القرآن التي هي تبيان كل شيء. {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقآءَنَا} يعني مشركي أهل مكة. {ائتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ} والفرق بين تبديله والإتيان بغيره أن تبديله لا

يجوز أن يكون معه , والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه. وفي قولهم ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم سألوه الوعد وعيداً , والوعيد وعداً , والحلال حراماً , والحرام حلالاً , قاله ابن جرير الطبري. الثاني: أنهم سألوه أن يسقط ما في القرآن من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم , قاله ابن عيسى. الثالث: أنه سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور , قاله الزجاج. {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءي نَفْسِي} أي ليس لي أن أتلقاه بالتبديل والتغيير كما ليس لي أَن أتلقاه بالرد والتكذيب. {إِنْ أَتَّبعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} فيما أتلوه عليكم من وعد ووعيد وتحليل وتحريم أو أمر أو نهي. {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} في تبديله وتغييره. {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة. قوله عز وجل: {قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} يعني القرآن: {وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ولا أعلمكم به , قاله ابن عباس. الثاني: ولا أنذركم به , قاله شهر بن حوشب. الثالث: ولا أشعركم به , قاله قتادة. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد ما تقدم من عمره قبل الوحي إليه لأن عمر الإنسان مدة حياته طالت أو قصرت. الثاني: أنه أربعون سنة , لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد الأربعين وهو المطلق من عمر الإنسان , قاله قتادة. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أني لم أدَّع ذلك بعد أن لبثت فيكم عمراً حتى أُوحِي إليّ , ولو كنت افتريته لقدمته.

18

{ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} قوله عز وجل: { ... قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلمُ فِي السَّمَواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: أتخبرونه بعبادة من لا يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض. الثاني: أتخبرونه بعبادة غيره وليس يعلم له شريكاً في السموات ولا في الأرض. قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدً} في الناس ها هنا أربعة أقاويل: أحدها: أنه آدم عليه السلام , قاله مجاهد والسدي. الثاني: أنهم أهل السفينة , قاله الضحاك. الثالث: أنهم من كان على عهد إبراهيم عليه السلام , قاله الكلبي. الرابع: أنه بنو آدم , قاله أُبي بن كعب. وفي قوله تعالى: {إِِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} ثلاثة أوجه: أحدها: على الإسلام حتى اختلفوا , قاله ابن عباس وأُبي بن كعب. الثاني: على الكفر حتى بعث الله تعالى الرسل , وهذا قول قد روي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: على دين واحد , قاله الضحاك. {فاخْتَلَفُواْ} فيه وجهان: أحدهما: فاختلفوا في الدين فمؤمن وكافر , قاله أبي بن كعب.

الثاني: هو اختلاف بني بن آدم حين قَتل قابيل أخاه هابيل , قاله مجاهد. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيه وجهان: أحدهما: ولولا كلمة سبقت من ربك في تأجيلهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم من تعجيل العذاب في الدنيا , قاله السدي. الثاني: ولولا كلمة سبقت من ربك في أن لا يعاجل العصاة إنعاماً منه يبتليهم به لقضى بينهم فيما فيه يختلفون بأن يضطرهم إلى معرفة المحق من المبطل , قاله عليّ بن عيسى.

20

{ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: رخاء بعد شدة. الثاني: عافية بعد سقم. الثالث: خصباً بعد جدب , وهذا قول الضحاك. الرابع: إسلاماً بعد كفر وهو المنافق , قاله الحسن.

{إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيءَايَاتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: أن المكر ها هنا الكفر والجحود , قاله ابن بحر. الثاني: أنه الاستهزاء والتكذيب , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن يكون المكر ها هنا النفاق لأنه يظهر الإيمان ويبطن الكفر. {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} يعني أسرع جزاء على المكر. وقيل إن سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على أهل مكة بالجدب فقحطوا سبع سنين كسني يوسف إجابة لدعوته , أتاه أبو سفيان فقال يا محمد قد كنت دعوت بالجدب فأجدبنا فادع الله لنا بالخصب فإن أجابك وأخصبنا صدقناك وآمنا بك , فدعا لهم واستسقى فسقوا وأخصبوا , فنقضوا ما قالوه وأقاموا على كفرهم , وهو معنى قوله {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيءَايَاتِنَا}.

24

{إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} قوله عز وجل: { ... فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} فيه وجهان: أحدهما: ذاهباً. الثاني: يابساً. {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِألأَمْسِ} فيه أربعه تأويلات: أحدها: كأن لم تعمر بالأمس , قاله الكلبي. الثاني: كأنه لم تعش بالأمس , قاله قتادة , ومنه قول لبيد:

(وغنيت سبتاً بعد مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود) الثالث: كأن لم تقم بالأمس , ومن قولهم غنى فلان بالمكان إذا أقام فيه , قاله عليّ بن عيسى. الرابع كأن لم تنعم بالأمس , قاله قتادة أيضاً. قوله عز وجل: {وَاللَّهَ يَدُعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} يعني الجنة. وفي تسميتها دار السلام وجهان: أحدهما: لأن السلام هو الله , والجنة داره. الثاني: لأنها دار السلامة من كل آفة , قاله الزجاج. {وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} في هدايته وجهان: أحدهما: بالتوفيق والمعونة. الثاني: بإظهار الأدلة وإقامة البراهين. وفي الصراط المستقيم أربعة تأويلات: أحدها: أنه كتاب الله تعالى , روى علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى). الثاني: أنه الإسلام , رواه النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثالث: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده أبو بكر وعمر , قاله الحسن وأبو العالية. الرابع: أنه الحق , قاله مجاهد وقتادة. روى جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله يوماً فقال: (رَأيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِندَ رَأْسِي وَمِيكآئِيلَ عِندَ رِجْلَيّ , فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبهِ: أضْرِبْ لَهُ مَثَلاً , فَقَالَ: اسْمَعْ سَمْعَتْ أُذُنُكَ , وَاعْقِلْ , عَقَلَ قَلْبُكَ , إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ أتَّخَذَ دَاراً ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيتاً ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَائِدَةً ثُمَّ بَعَثَ رَسُولاً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ فَمِنهُم مَّنْ أَجَابَ الرَّسُولَ وَمِنهُم مَّن تَرَكَهُ , فَاللَّهُ الْمَلِكُ , وَالدَّارُ الإسْلاَمُ , وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ , وََأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الرَّسُولُ فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ , وَمَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلاَمِ دَخَلَ الْجَنَّةَ , وَمَن دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مِمَّا فيهَا) ثم تلا قتادة ومجاهد. {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلاَمِ}.

26

{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} يعني عبادة ربهم. {الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن الحسنى الجنة , والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى. وهذا قول

أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري. والثاني: أن الحسنى واحدة من الحسنات , والزيادة مضاعفتها إلى عشر أمثالها , قاله ابن عباس. الثالث: أن الحسنى حسنة مثل حسنة. والزيادة مغفرة ورضوان , قاله مجاهد. والرابع: أن الحسنى الجزاء في الآخرة والزيادة ما أعطوا في الدنيا , قاله ابن زيد. والخامس: أن الحسنى الثواب , والزيادة الدوام , قاله ابن بحر. ويحتمل سادساً: أن الحسنى ما يتمنونه , والزيادة ما يشتهونه. {وَلاَ يَْرهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ} في معنى يرهق وجهان: أحدهما: يعلو. الثاني: يلحق , ومنه قيل غلام مراهق إذا لحق بالرجال. وفي قوله تعالى: {قَتَرٌ} أربعة أوجه: أحدها: أنه سواد الوجوه , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الحزن , قاله مجاهد. الثالث: أنه الدخان ومنه قتار اللحم وقتار العود وهو دخانه , قاله ابن بحر. الرابع: أنه الغبار في محشرهم إلى الله تعالى , ومنه قول الشاعر: (متوجٌ برداء الملك يتبعه ... موجٌ ترى فوقه الرايات والقترا) {وَلاَ ذِلَّةٌ} فيها ها هنا وجهان: أحدهما: الهوان. الثاني: الخيبة.

28

{ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم

إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} قوله عز وجل: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} فيه قراءتان: إحداهما: بتاءين قرأ بها حمزة والكسائي , وفي تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا , قاله السدي , ومنه قول الشاعر: (إن المريب يتبع المريبا ... كما رأيت الذيب يتلو الذيبا) الثاني: تتلو كتاب حسناتها وكتاب سيئاتها , ومن التلاوة. والثالث: تعاين كل نفس جزاء ما عملت. والقراءة الثانية: وهي قراءة الباقين تتلو بالباء وفي تأويلها وجهان: أحدهما: تسلم كل نفس. الثاني: تختبر كل نفس , قاله مجاهد. {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِ} أي مالكهم , ووصف تعالى نفسه بالحق , لأن الحق منه , كما وصف نفسه بالعدل , لأن العدل منه. فإن قيل فقد قال تعالى {وَأَنَّ الْكَافرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] فكيف صار ها هنا مولى لهم؟ قيل ليس بمولى في النصرة والمعونة , وهو مولى لهم في الملكية. {وَضلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي بطل عنهم ما كانوا يكذبون.

34

{قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى

تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون} قوله عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} هم رؤساؤهم. {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِ شَيْئاً} في الظن وجهان: أحدهما: أنه منزلة بين اليقين والشك , وليست يقيناً وليست شكاً. الثاني: إن الظن ما تردد بين الشك واليقين وكان مرة يقيناً ومرة شكاً.

37

{وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ} يعني أنه يختلق ويكذب. {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} فيه وجهان: أحدهما: شاهد بصدق ما تقدم من التوراة والإنجيل والزبور. الثاني: لما بين يديه من البعث والنشور والجزاء والحساب. ويحتمل ثالثاً: أن يكون معناه ولكن يصدقه الذي بين يديه من الكتب السالفة بما فيها من ذكره فيزول عنه الافتراء. قوله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} فيه وجهان:

أحدهما: لم يعلموا ما عليهم بتكذيبهم لشكهم فيه. الثاني: لم يحيطوا بعلم ما فيه من وعد ووعيد لإعراضهم عنه. {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} فيه وجهان: أحدهما: علم ما فيه من البرهان. الثاني: ما يؤول إليه أمرهم من العقاب.

41

{وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} قوله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} فيه وجهان: أحدهما: يستمعون الكذب عليك فلا ينكرونه. الثاني: يستمعون الحق منك فلا يَعُونَه. {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن من لا يعي ما يسمع فهو كمن لا يعقل. الثاني: معناه أنه كما لا يعي من لا يسمع كذلك لا يفهم من لا يعقل. والألف التي في قوله تعالى {أَفَأَنتَ} لفظها الاستفهام ومعناها معنى النفي.

45

{ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين}

قوله تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنَ لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ} فيه وجهان: أحدهما: كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار. الثاني: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من النهار لقربه. {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يعرف بعضهم بعضاً. قال الكلبي: يتعارفون إذا خرجوا من قبورهم ثم تنقطع المعرفة. الثاني: يعرفون أن ما كانوا عليه باطل.

46

{وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} يعني نبياً يدعوهم إلى الهدى ويأمرهم بالإيمان. {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم ليكون رسولهم شاهداً عليهم , قاله مجاهد. الثاني: فإذا جاء رسولهم يوم القيامة وقد كذبوه في الدنيا قضى الله تعالى بينهم وبين رسولهم في الآخرة , قاله الكلبي. الثالث: فإذا جاء رسولهم في الدنيا واعياً بعد الإذن له في الدعاء عليهم قضى الله بينهم بتعجيل الانتقام منهم , قاله الحسن.

50

{قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أثم

إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون} قوله عز وجل: {وَيَسْتَنْبئُونَكَ} أي يستخبرونك , وهو طلب النبأ. {أََحَقٌّ هُوَ} فيه وجهان: أحدهما: البعث , قاله الكلبي. الثاني: العذاب في الآخرة. {قُلْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} فأقسم مع إخباره أنه حق تأكيداً. {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} فيه وجهان: أحدهما: بممتنعين. الثاني: بسابقين , قاله ابن عباس. قوله عز وجل: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُْ الْعَذَابَ} فيه وجهان: أحدهما: أخفوا الندامة وكتموها عن رؤسائهم , وقيل بل كتمها الرؤساء عن أتباعهم. الثاني: أظهروها وكشفوها لهم. وذكر المبرد فيه وجهاً ثالثاً: أنه بدت بالندامة أَسِرّةُ وجوههم وهي تكاسير الجبهة. {وَقُضِيَ بَيْنَهُم} فيه وجهان: أحدهما: قضي بينهم وبين رؤسائهم , قاله الكلبي. الثاني: قضى عليهم بما يستحقونه من عذابهم.

57

{يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل

الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} قوله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن فضل الله معرفته , ورحمته توفيقه. الثاني: أن فضل الله القرآن , ورحمته الإسلام , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم والضحاك. الثالث: أن فضل الله الإسلام , ورحمته القرآن , قاله الحسن ومجاهد وقتادة. {فَبَذلِكَ فَلْيَفُرَحُواْ} يعين بالمغفرة والتوفيق على الوجه الأول , وبالإٍسلام والقرآن على الوجهين الآخرين. وفيه ثالث: فلتفرح قريش بأن محمداً منهم , قاله ابن عباس. {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يعني في الدنيا. روى أبان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ هَدَاهُ اللهُ لِلإِسْلاَمِ وَعَلَّمَهُ القُرآنَ ثُمَّ شَكَا الفَاقَةَ كَتبَ اللَّهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) ثم تلا {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.

62

{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون} قوله عز وجل: {أَلاَّ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} في {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} ها هنا خمسة أقاويل: أحدها: أنهم أهل ولايته والمستحقون لكرامته , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثاني: هم {الَّذِينَءَامَنُوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}. الثالث: هم الراضون بالقضاء , والصابرون على البلاء , والشاكرون على النعماء.

الرابع: هم من توالت أفعالهم على موافقة الحق. الخامس: هم المتحابون في الله تعالى. روى جرير عن عمارة بن غزية عن أبي زرعة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ أُنَاسَاً مَّا هُم بِأَنْبِيْآءٍ وَلاَ شُهَدَآءٍ يَغْبِطُهُم الأنبِياءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَمَكَانِهِم مِّن اللَّهِ) قالوا: يا رسول الله خبّرنا من هم وما أعمالهم فإنا نحبهم لذلك , قال: (هُمْ قَوْمٌ تَحآبُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُم وَلاَ أَمْوَالٍ يَتَعَاطَونَهَا. فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُم لَعَلَى مَنَابَرَ مِن نُّورٍ لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حِزَنَ النَّاسُ) وقرأ {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيهمِ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. وفيه وجهان: أحدهما: لا يخافون على ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم ولا هم يحزنون على دنياهم لأن الله تعالى يعوضهم عنها , وهو محتمل. الثاني: لا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون عند الموت. قوله عز وجل: {لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} فيه تأويلان: أحدهما: أن البشرى في الحياة الدنيا هي البشارة عند الموت بأن يعلم أين هو من قبل أن يموت , وفي الآخرة الجنة , قاله قتادة والضحاك , وروى علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إِنّ لِخَدِيجَةَ بِنتِ خُوَيِلدِ بَيْتاً مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَب). الثاني: أن البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى

له، وفي الآخرة الجنة , روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء وأبو هريرة وعبادة بن الصامت. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن البشرى في الحياة الدنيا الثناء الصالح , وفي الآخرة إعطاؤه كتابه بيمينه. {لاَ تَبْديلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: لا خلف لوعده. الثاني: لا نسخ لخيره.

71

{واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} قوله عز وجل: { ... فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكآءَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: فاجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم لنصرتكم , قاله الفراء. الثاني: فاجمعوا أمركم مع شركائكم على تناصركم , قاله الزجاج. وفي هذا الإجماع وجهان: أحدهما: أنه الإعداد.

الثاني: أنه العزم. {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} فيه تأويلان: أحدهما: أن الغمة ضيق الأمر الذي يوجب الغم. الثاني: أنه المغطى , من قولهم: قد غم الهلال إذا استتر. وفي المراد بالأمر ها هنا وجهان: أحدهما: من يدعونه من دون الله تعالى. الثاني: ما هم عليه من عزم. {ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ثم انهضوا , قاله ابن عباس. الثاني: ثم اقضوا إليّ ما أنتم قاضون , قاله قتادة. الثالث: اقضوا إليّ ما في أنفسكم , قاله مجاهد. {وَلاَ تُنظِرُونَ} قال ابن عباس: ولا تؤخروني. قوله عز وجل: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} يعني عن الإيمان. {فَمَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: فما سألتكم من أجر تستثقلونه فتمتنعون من الإجابة لأجله , {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ}. والثاني: فما سألتكم من أجر إن انقطع عني ثقُل علي. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} وقد حصل بالدعاء لكم إن أجبتم أو أبيتم. {أمِرتُ أن أكونَ مِنَ المُسْلِمينَ} أي من المستسلمين لأمر الله بطاعته. قوله عز وجل: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ في الْفُلْكِ} قال ابن عباس: كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً أحدهم جرهم وكان لسانه عربياً , وحمل فيها من كل زوجين اثنين , قال ابن عباس فكان أول ما حمل الذرة وآخر ما حمل الحمال ودخل معه إبليس يتعلق بذنبه. {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ} أي خلفاً لمن هلك بالغرق. {وَأَغْرَقُنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا} حكى أبو زهير أن قوم نوح عاشوا في الطوفان

أربعين يوماً. وذكر محمد بن إسحاق أن الماء بقي بعد الغرق مائة وخمسين يوماً , فكان بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن غاض الماء ستة أشهر وعشرة أيام وذلك مائة وتسعون يوماً. قال محمد بن إسحاق لما مضت على نوح أربعون ليلة فتح كوة السفينة ثم أرسل منها الغراب لينظر ما فعل الماء فلم يعد , فأرسل الحمامة فرجعت إليه ولم تجد لرجلها موضعاً , ثم أرسلها بعد سبعة أيام فرجعت حيث أمست وفي فيها ورقة زيتونة فعلم أن الماء قد قل على الأرض , ثم أرسلها بعد سبعة أيام فلم تعد فعلم أن الأرض قد برزت , وكان استواء السفينة على الجودي لسبع عشرة ليلة من الشهر السابع فيما ذكر , والله أعلم.

74

{ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} قوله عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِءَابَاءَنَا} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: لتلوينا , قاله قتادة. الثاني: لتصدنا , قاله السدي. الثالث: لتصرفنا , من قولهم لفته لفتاً إذا صرفه ومنه لفت عنقه أي لواها , قاله عليّ بن عيسى. {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ} فيه أربعة أوجه:

أحدها: الملك , قاله مجاهد. الثاني: العظمة , حكاه الأعمش. الثالث: العلو , قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. الرابع: الطاعة , قاله الضحاك.

79

{وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} قوله عز وجل: {فَمَاءَآمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذِرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الذرية القليل , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم الغلمان من بني إسرائيل لأن فرعون كان يذبحهم فأسرعوا إلى الإيمان بموسى , قاله زيد بن أسلم. الثالث: أنهم أولاد الزمن قاله مجاهد. الرابع: أنهم قوم أمهاتهم من بني إسٍرائيل وآباؤهم من القبط. ويحتمل خامساً: أن ذرية قوم موسى نساؤهم وولدانهم. {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِمْ} يعني وعظمائهم وأشرافهم. {أَنَ يَفْتِنَهُمْ} فيه وجهان:

أحدهما: أن يعذبهم , قاله ابن عباس. الثاني: أن يكرههم على استدامة ما هم عليه. {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: أي متجبر , قاله السدي. الثاني: باغ طاغ , قاله ابن إسحاق. {وِإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} يعني في بغيه وطغيانه.

84

{وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين} قوله عز وجل: { ... فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلَنْا} يحتمل وجهين: أحدهما: في الإسلام إليه. الثاني: في الثقة به. {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَومِ الظَّالِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا , قاله مجاهد. الثاني: لا تسلطهم علينا فيفتتنون بنا لظنهم أنهم على حق , قاله أبو الضحى وأبو مجلز. قوله عز وجل: {وَأوْحَيْنَآ إِلَى مَوسَى وَأخِيهِ أَن تَبَوَّءَاْ لِقَوْمِكُمَا بِمصْرَ بُيُوتاً}. يعني تخيّرا واتخذا لهم بيوتاً يسكنونها , ومنه قول الراجز: (نحن بنو عدنان ليس شك ... تبوَأ المجد بنا والملك) وفي قوله {بِمِصْرَ} قولان: أحدهما: أنها الإسكندرية , وهو قول مجاهد. الثاني: أنه البلد المسمى مصر , قاله الضحاك. وفي قوله {بُيُوتاً} وجهان:

أحدهما: قصوراً , قاله مجاهد.

الثاني: مساجد , قاله الضحاك. {وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: واجعلوها مساجد تصلون فيها , لأنهم كانوا يخافون فرعون أن يصلّوا في كنائسهم ومساجدهم , قاله الضحاك وابن زيد والنخعي. الثاني: واجعلوا مساجدكم قِبل الكعبة , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. الثالث: واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلة لكم في الصلاة فهي قبلة اليهود إلى اليوم قاله ابن بحر. الرابع: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً , قاله سعيد بن جبير. {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} فيه وجهان: أحدهما: في بيوتكم لتأمنوا فرعون. الثاني: إلى قبلة مكة لتصح صلاتكم. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} قال سعيد بن جبير: بشرهم بالنصر في الدنيا , وبالجنة في الآخرة.

87

{وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون} قوله عز وجل: { ... رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} أي أهلكها , قاله قتادة. فذكر لنا أن زروعهم وأموالهم صارت حجارة منقوشة , قاله الضحاك. {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بالضلالة ليهلكوا كفاراً فينالهم عذاب الآخرة , قاله مجاهد. الثاني: بإعمائها عن الرشد. الثالث: بالموت , قاله ابن بحر. الرابع: اجعلها قاسية. {فَلاَ يُؤْمنُوا حَتَّى يَرَُواْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} قال ابن عباس هو الغرق. قوله عز وجل: {قَالَ قَدْ أُجِيبت دَّعْوَتُكُمَا} قال أبو العالية والربيع: دعا موسى وأمَّن هارون فسمي هارون وقد أمّن على الدعاء داعياً , والتأمين على الدعاء أن يقول آمين. واختلف في معنى آمين بعد الدعاء وبعد فاتحة الكتاب في الصلاة على ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه اللهم استجب , قاله الحسن. الثاني: أن آمين اسم من أسماء الله تعالى , قاله مجاهد , قال ابن قتيبة وفيه حرف النداء مضمر وتقديره يا آمين استجب دعاءنا. الثالث: ما رواه سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آمين خَاتَمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ) يعني أنها تمنع من وصول الأذى والضرر كما يمنع الختم من الوصول إلى المختوم عليه. وفرق ابن عباس في معنى آمين بين وروده بعد الدعاء وبين وروده بعد فاتحة الكتاب فقال: معناه بعد الدعاء: اللهم استجب , ومعناه بعد الفاتحة: كذلك فليكن. قال محمد بن علي وابن جريج: وأخّر فرعون بعد إجابته دعوتهما أربعين سنة. {فَاسْتَقِيمَا} فيه وجهان: أحدهما: فامضيا لأمري فخرجا في قومهم , قاله السدي. الثاني: فاستقيما في دعوتكما على فرعون وقومه , وحكاه علي بن عيسى. وقيل: إنه لا يجوز أن يدعو نبي على قومه إلا بإذن لأن دعاءه موجب لحلول الانتقام وقد يجوز أن يكون فيهم من يتوب.

90

{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون} قوله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} معنى ننجيك نلقيك على نجوة من الأرض , والنجوة المكان المرتفع وقوله تعالى {بِبَدَنِكَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بجسدك من غير روح , قاله مجاهد. الثاني: بدرعك , وكان له درع من حديد يعرف بها , قاله أبو صخر , وكان من تخلف من قوم فرعون ينكر غرقه. وقرأ يزيد اليزيدي {نُنَجِّيكَ} بالحاء غير معجمة وحكاها علقمة عن ابن مسعود. أن يكون على ناحية من البحر حتى يراه بنو إسرائيل , وكان قصير أحمر كأنه ثور. {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَءَايَةً} يعني لمن بعدك عبرة وموعظة.

93

{ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه الشام وبيت المقدس , قاله قتادة. الثاني: أنه مصر والشام: قاله الضحاك. وفي قوله: {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} تأويلان: أحدهما: أنه كالصدق في الفضل. والثاني: أنه تصدق به عليهم.

ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنه وعدهم إياه فكان وَعْدُه وعْد صدق. {وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني وأحللنا لهم من الخيرات الطيبة. {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَآءَهُمُ العِلْمُ} يعني أن بني إسرائيل ما اختلفوا أن محمداً نبي. {حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} وفيه وجهان: أحدهما: حتى جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعلمون أنه نبي , وتقديره حتى جاءهم المعلوم , قاله ابن بحر وابن جرير الطبري. والثاني: حتى جاءهم القرآن , قاله ابن زيد.

94

{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} قوله عز وجل: {فَإن كُنتَ في شَكٍّ مِّمَّآ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ} هذا خطاب من الله لنبيه يقول: إن كنت يا محمد في شك مما أنزلنا إليك , وفيه وجهان: أحدهما: في شك أنك رسول. الثاني: في شك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل. {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكَتَابَ مِن قَبْلِكَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد مَنْ منهم مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار , قاله ابن زيد. الثاني: أنه عنى أهل الصدق والتقوى منهم , قاله الضحاك. فإن قيل: فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاً؟ قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لاَ أَشُكُ وَلاَ أَسْأَلُ)

وفي معنى الكلام وجهان: أحدهما: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من أمته , كما قال تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} الآية [الطلاق: 1]. والثاني: أنه خطاب ورد على عادة العرب في توليد القبول والتنبيه على أسباب الطاعة. كقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فبرّني , ولعبده إن كنت مملوكي فامتثل أمري , ولا يدل ذلك على شك الولد في أنه ابن أبيه ولا أن العبد شاك في أنه ملك لسيده. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكّين. قوله عز وجل: {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: إن الذين وجبت عليهم كلمة ربك بالوعيد والغضب لا يؤمنون أبداً. الثاني: إن الذين وقعت كلمته عليهم بنزول العذاب بهم لا يؤمنون أبداً.

98

{فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} قوله عز وجل: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌءَامَنَتُ فَنَفَعَهآ إيمَانُهَا} والمراد بالقرية أهل القرية. {إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} وهم أهل نينوى من بلاد الموصل فإن يونس عليه السلام وعدهم بالعذاب بعد ثلاثة أيام , فقالوا: انظروا يونس فإن خرج عنا فوعيده حق , فلما خرج عنهم تحققوه ففزعوا إلى شيخ منهم فقال: توبوا وادعوا وقولوا يا حي حين لاحي , ويا حي يا محيي الموتى , ويا حي لا إله إلا أنت , فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل والدة وولدها , وخرجوا من قريتهم تائبين داعين فكشف الله عنهم العذاب كما قال تعالى: { ... كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفيه وجهان: أحدهما: أنهم تابوا قبل أن يروا العذاب فلذلك قبل توبتهم , ولو رأوه لم يقبلها كما لم يقبل من فرعون إيمانه لما أدركه الغرق. الثاني: أنه تعالى خصهم بقبول التوبة بعد رؤية العذاب , قال قتادة: كشف

عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم ولم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل. {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حينٍ} فيه تأويلان: أحدهما: إلى أجلهم , قاله السدي. الثاني: إلى أن يصيرهم إلى الجنة أو النار , قاله ابن عباس. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن الحذر لا يرد القدر , وإن الدعاء يرد القدر , وذلك أن الله تعالى يقول: {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّاءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} قال عليّ رضي الله عنه ذلك يوم عاشوراء.

99

{ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين} قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه إلا بأمر الله تعالى , قاله الحسن. الثاني: إلا بمعونة الله. الثالث: إلا بإعلام الله سبل الهدى والضلالات. {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن الرجس السخط , قاله ابن عباس. الثاني: أنه العذاب , قاله الفراء. الثالث: أنه الإثم , قاله سعيد بن جبيرٍ. الرابع: أنه ما لا خير فيه , قاله مجاهد. الخامس: أنه الشيطان , قاله قتادة.

وقوله: {عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} يعني لا يعقلون عن الله تعالى أمره ونهيه ويحتمل أنهم الذين لا يعتبرون بحججه ودلائله.

104

{قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم} قوله عز وجل: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلِّدِينِ حَنِيفاً} أي استقم بإقبال وجهك على ما أمرت به من الدين حنيفاً , وقيل أنه أراد بالوجه النفس. و {حَنِيفاً} فيه ستة تأويلات: أحدها: أي حاجاً , قاله ابن عباس والحسن والضحاك وعطية والسدي. الثاني: متبعاً , قاله مجاهد. الثالث: مستقيماً , قاله محمد بن كعب. الرابع: مخلصاً , قاله عطاء. الخامس: مؤمناً بالرسل كلهم , قاله أبو قلابة قال حمزة بن عبد المطلب: (حمدت الله حين هدى فؤادي ... من الإشراك للدين الحنيف) السادس: سابقاً إلى الطاعة , مأخوذ من الحنف في الرجلين وهو أن تسبق إحداهما الأخرى.

108

{قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى

إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين} قوله عز وجل: {قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِنَّ ربِّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: القرآن. الثاني: الرسول صلى الله عليه وسلم. {فَمِنِ اهْتَدَى فإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} فيه وجهان محتملان: أحدهما: فمن اهتدى لقبول الحق فإنما يهتدي بخلاص نفسه. الثاني: فمن اهتدى إلى معرفة الحق فإنما يهتدي بعقله.

سورة هود

هود

{الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} قوله عز وجل: {الر كِتَابٌ} يعني القرآن. {أُحْكِمَتْءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أحكمت آياته بالأمر والنهي ثم فصلت بالثواب والعقاب , قاله الحسن. الثاني: أحكمت آياته من الباطل ثم فصلت بالحلال والحرام والطاعة والمعصية , وهذا قول قتادة.

الثالث: أحكمت آياته بأن جعلت آيات هذه السورة كلها محكمة ثم فصلت بأن فسرت , وهذا معنى قول مجاهد. الرابع: أحكمت آياته للمعتبرين , وفصلت آياته للمتقين. الخامس: أحكمت آياته في القلوب , وفصلت أحكامه على الأبدان. {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: من عند حكيم في أفعاله , خبير بمصالح عباده. الثاني: حكيم بما أنزل , خبير بمن يتقبل. قوله عز وجل {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} فيه وجهان: أحدهما: أن كتبت في الكتاب {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ} الثاني: أنه أمر رسوله أن يقول للناس {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ}. {إنَّنِي لَكُم مِّنُهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} قال ابن عباس: نذير من النار , وبشير بالجنة. قوله عز وجل: {وَأَنِ اسْتَغفْفِرُواْ رَبَّكمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} فيه وجهان: أحدهما: استغفروه من سالف ذنوبكم ثم توبوا إليه من المستأنف متى وقعت منكم. قال بعض العلماء: الإٍستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. الثاني: أنه قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب والتوبة هي السبب إليها , فالمغفرة أولٌ في الطلب وآخر في السبب. ويحتمل ثالثاً: أن المعنى استغفروه من الصغائر وتوبوا إليه من الكبائر {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً} يعني في الدنيا وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه طيب النفس وسعة الرزق. الثاني: أنه الرضا بالميسور , والصبر على المقدور. الثالث: أنه ترْك الخلق والإقبال على الحق , قاله سهل بن عبد الله ويحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الحلال الكافي. الثاني: أنه الذي لا كد فيه ولا طلب. الثالث: أنه المقترن بالصحة والعافية. {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: إلى يوم القيامة , قاله سعيد بن جبير. الثاني: إلى يوم الموت , قاله الحسن. الثالث: إلى وقت لا يعلمه إلا الله تعالى , قاله ابن عباس. {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فيه وجهان: أحدهما: يهديه إلىالعمل الصالح , قاله ابن عباس. الثاني: يجازيه عليه في الآخرة , على قول قتادة. ويجوز أن يجازيه عليه في الدنيا , على قول مجاهد. {وَإن تَوَلَّوْا} يعني عما أُمرتم له. {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وفيه إضمار وتقدير: فقل لهم إني أخاف عليكم عذاب يوم كبير يعني يوم القيامة وصفه بذلك لكبر الأمور التي هي فيه.

5

{ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} قوله عز وجل: {أَلاَ إنَّهُمُ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: يثنون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله تعالى , قاله مجاهد. الثاني: يثنونها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ليخفوها عنه , قاله الفراء والزجاج. الثالث: يثنونها على ما أضمروه من حديث النفس ليخفوه عن الناس , قاله الحسن. الرابع: أن المنافقين كانوا إذا مرّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم غطوا رؤوسهم وثنوا صدورهم ليستخفوا منه فلا يعرفهم , قاله أبو رزين. الخامس: أن رجلاً قال إذا أغلقت بابي وضربت ستري وتغشيت ثوبي وثنيت صدري فمن يعلم بي؟ فأعلمهم الله تعالى أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون. {أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمُ} يعني يلبسون ثيابهم ويتغطون بها، ومنه قول الخنساء:

(أرعى النجوم وما كُلّفتُ رعيتها ... وتارةً أتغشّى فضل أطماري) وفي المراد ب {حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أربعة أقاويل: أحدها: الليل يقصدون فيه إخفاء أسرارهم فيما يثنون صدورهم عليه. والله تعالى لا يخفى عليه ما يسرونه في الليل ولا ما يخفونه في صدروهم , فكنى عن الليل باستغشاء ثيابهم لأنهم يتغطون بظلمته كما يتغطون إذا استغشوا ثيابهم. الثاني: أن قوماً من الكفار كانوا لشدة بغضتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستغشون ثيابهم يغطون بها وجوههم ويصمون بها آذنهم حتى لا يروا شخصه ولا يسمعوا كلامه , وهو معنى قول قتادة. الثالث: أن قوماً من المنافقين كانوا يظهرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم أنهم على طاعته ومحبته , وتشتمل قلوبهم على بغضه ومعصيته , فجعل ما تشتمل عليه قلوبهم كالمستغشي بثيابه. الرابع: أن قوماً من المسلمين كانوا يتنسكون بستر أبدانهم ولا يكشفونها تحت السماء , فبين الله تعالى أن المنسك ما اشتملت قلوبهم عليه من معتقد وما أظهروه من قول وعمل. ثم بيَّن ذلك فقال: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما يسرون في قلوبهم وما يعلنون بأفواههم. الثاني: ما يسرون من الإيمان وما يعلنون من العبادات. الثالث: ما يسرون من عمل الليل وما يعلنون من عمل النهار , قاله ابن عباس. {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قيل بأسرار الصدور. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق الثقفي.

6

{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}

قوله عز وجل: {وَيَعْلَمُ مُستَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدعَهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مستقرها حيث تأوي , ومستودعها حيث تموت. الثاني: مستقرها في الرحم , ومستودعها في الصلب , قاله سعيد بن جبير. الثالث: مستقرها في الدنيا , ومستودعها في الآخرة. ويحتمل رابعاً: أن مستقرها في الآخرة من جنة أو نار , ومستودعها في القلب من كفر أو إيمان.

7

{وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون} قوله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني أيكم أتم عقلاً , قاله قتادة. الثاني: أيكم أزهد في الدنيا , وهو قول سفيان. الثالث: أيكم أكثر شكراً , قاله الضحاك. الرابع: ما روى كليب بن وائل عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَيُكُم أَحْسَنُ عَمَلاً) أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَقْلاً وَأَوْرَعُ عَن مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى , وَأَسَرَعُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ (.

قوله عز وجل: {ولئن أخْرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} فيه وجهان: أحدهما: يعني إلى فناء أمة معلومة , ذكره علي بن عيسى. الثاني: إلى أجل معدود , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. وتكون الأمة عبارة عن المدة , واصلها الجماعة فعبر بها عن المدة لحلولها في مدة. {ليقولن ما يحبسه} يعني العذاب. وفي قولهم ذلك وجهان: أحدهما: أنهم قالوا ذلك تكذيباً للعذاب لتأخره عنهم. الثاني: أنهم قالوا ذلك استعجالاً للعذاب واستهزاء , بمعنى ما الذي حبسه عنا؟

9

{ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن

يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} قوله عز وجل: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّه} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله مجاهد وعكرمة وأبو العالية وأبو صالح وقتادة والسري والضحاك. الثالث: الحجج الدالة على توحيد الله تعالى ووجوب طاعته , قاله ابن بحر. وذكر بعض المتصوفة قولاً رابعاً: أن البينة هي الإشراف على القلوب والحكمة على الغيوب. {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه لسانه يشهد له بتلاوة القرآن , قاله الحسن وقتادة , ومنه قول الأعشى: (فلا تحبسنّي كافراً لك نعمةً ... على شاهدي يا شاهد الله فاشهد.) ) الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم شاهد من الله تعالى , قاله علي بن الحسين. الثالث: أنه جبريل عليه السلام , قاله ابن عباس والنخعي وعكرمة والضحاك. الرابع: أنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه , روى المنهال عن عباد بن عبد الله قال: قال عليّ: ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية , قيل له: فما نزل فيك؟ قال {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنُهُ} الخامس: أنه ملك يحفظه , قاله مجاهد وأبو العالية.

ويحتمل قولاً سادساً: ويتلوه شاهد من نفسه بمعرفة حججه ودلائله وهو عقله ووحدته , قال ابن بحر. {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} فيه وجهان: أحدهما: ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة , قاله ابن زيد. الثاني: ومن قبل محمد كتاب موسى , قاله مجاهد. {إِمَاماً وَرَحْمَةًً} فيه وجهان: أحدهما يعني متقدماً علينا ورحمة لهم. الثاني: إماماً للمؤمنين لاقتدائهم بما فيه ورحمة لهم. {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني من كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الأديان كلها لأنهم يتحزبون: قاله سعيد بن جبير. الثاني: هم المتخزبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمعون على محاربته. وفي المراد بهم ثلاثة أوجه: أحدها: قريش , قال السدي. الثاني: اليهود والنصارى , قاله سعيد بن جبير. الثالث: أهل الملل كلها. {فَالْنَّارُ مَوْعِدُهُ} أي أنها مصيره , قال حسان بن ثابت: (أوردتموها حياض الموت ضاحيةً ... فالنار موعِدُها والموت لاقيها) {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ منه} فيه وجهان: أحدهما: في مرية من القرآن قاله مقاتل. الثاني: في مرية من أن النار موعد الكفار , قاله الكلبي , وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع المكلفين.

18

{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين

الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} قوله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} معناه ومن أظلم لنفسه ممن افترى على الله كذباً بأن يدعي إنزال ما لم ينزل عليه أو ينفي ما أنزل عليه. {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} وهو حشرهم إلى موقف الحساب كعرض الأمير لجيشه , إلا أن الأمير يعرضهم ليراهم وهذا لا يجوز على الله تعلى لرؤيته لهم قبل الحشر. {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هؤلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} والأشهاد جمع , وفيما هو جمع له وجهان: أحدهما: أنه جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. والثاني: جمع شهيد مثل شريف وأشراف. وفي الأشهاد أربعة أقاويل: احدها: أنه الأنبياء , قاله الضحاك. الثاني: أنهم الملائكة , قاله مجاهد. الثالث: الخلائق , قاله قتادة. الرابع: أن الأشهاد أربعة: الملائكة والأنبياء والمؤمنون والأجساد , قاله زيد بن أسلم. قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَصُّدُونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يعني قريشاً. وفي سبيل الله التي صدوا عنها وجهان: أحدهما: أنه محمد صلى الله عليه وسلم صدت قريش عنه الناس , قاله السدي. والثاني: دين الله تعالى , قاله ابن عباس.

{وَيَبْغُونَها عِوَجاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني يؤمنون بملة غير الإسلام ديناً , قاله أبو مالك. الثاني: يبغون محمداً هلاكاً , قاله السدي. الثالث: أن يتأولوا القرآن تاويلاً باطلاً , قاله عليّ بن عيسى. قوله عز وجل: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى لا جرم: لا بد. الثاني: أن {لا} عائد على الكفار , أي لا دافع لعذابهم , ثم استأنف فقال: جرم , أي كسب بكفره استحقاق النار , ويكون معنى جرم: كسب , أي بما كسبت يداه , قال الشاعر: (نَصَبنا رأسه في جذع نخل ... بما جَرَمت يداه وما اعتدينا) أي بما كسبت يداه. الثالث: أن {لا} زائدة دخلت توكيداً , يعني حقاً إنهم في الآخرة هم الأخسرون. قال الشاعر: (ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارُة بعدها أن يغضبوا.) أي أحقتهم الطعنة بالغضب.

23

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون} قوله عز وجل: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني خافوا ربهم , قاله ابن عباس. الثاني: يعني اطمأنوا , قاله مجاهد. الثالث: أنابوا , قاله قتادة.

الرابع: خشعوا وتواضعوا لربهم , رواه معمر. الخامس: أخلصوا إلى ربهم , قاله مقاتل.

25

{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} قوله عزوجل: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَك إلاَّ الَّذينَ هُمْ أرَاذِلُنا} الاراذل جمع أرذل , وارذل جمع رذل , والرذل الحقير , وعنوا بأراذلهم الفقراء وأصحاب المهن المتضعة. {باديَ الرأي} أي ظاهر الرأي , وفيه ثلاثة اوجه: احدها: إنك تعمل بأول الرأي من غير فكر , قاله الزجاج. الثاني: أن ما في نفسك من الرأي ظاهر , تعجيزاً له , قال ابن شجرة. الثالث: يعني ان أراذلنا اتبعوك بأقل الرأي وهم إذا فكروا رجعوا عن اتباعك , حكاه ابن الأنباري. {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنا مِن فَضْلٍ} يحتمل وجهين. أحدهما: من فضل تفضلون به علينا من دنياكم. والثاني: من فضل تفضلون به علينا في أنفسكم.

28

{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} قوله عز وجل: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي} فيه وجهان: أحدهما: يعني على ثقة من ربي , قاله أبو عمران الجوني. الثاني: على حجة من ربي , قاله عليّ بن عيسى.

{وَآتَانِي رَحْمَة مِنْ عِنْدِهِ} فيها وجهان: أحدهما: الإيمان. والثاني: النبوة , قاله ابن عباس. {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} يعني البينة في قوله {إنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةِ مِن رَبِّي} وإنما قال {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} وهم الذين عموا عنها , لأنها خفيت عليهم بترك النظر فأعماهم الله عنها. وقرأ حمزة والكسائي وحفص {فعميت عليكم} بضم العين وتشديد الميم , وفي قراءة أُبي {فعمّاها} وهي موافقة لقراءة من قرأ بالضم على ما لم يسم فاعله. وفي الذي عماها على هاتين القراءتين وجهان: أحدهما: أن الله تعالى عماها عليهم. الثاني: بوسوسة الشيطان. وما زينه لهم من الباطل حتى انصرفوا عن الحق. وإنما قصد نبي الله نوح بهذا القول لقومه أن يرد عيهم قولهم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} ليظهر فضله عليهم بأنه على بينة من ربه وآتاه رحمة من عنده وهم قد سلبوا ذلك , فأي فضل أعظم منه. ثم قال تعالى: {أَنُلْزِمْكَمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فيها وجهان: أنلزمكم الرحمة , قاله مقاتل. الثاني: أنلزمكم البينة وأنتم لها كارهون , وقبولكم لها لا يصح مع الكراهة عليها. قال قتادة والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.

29

{ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون}

قوله عز وجل: {. . وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَءَامَنُواْ} لأنهم سألوه طرد من اتبعه من أراذلهم , فقال جواباً لهم ورداً لسؤالهم: وما أنا بطارد الذين آمنوا. {إِنَّهُم مُّلاَقُوْا رَبِّهِم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قال ذلك على وجه الإعظام لهم بلقاء الله تعالى. الثاني: على وجه الاختصام , بأني لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله. {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تجهلون في استرذالكم لهم وسؤالكم طردهم. الثاني: تجلون في أنهم خير منكم لإيمانهم وكفركم.

31

{ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون} قوله عز وجل: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} احتمل هذا القول من نوح عليه السلام وجهين: أحدهما: أن يكون جواباً لقومه على قولهم {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا} الثاني: أن يكون جواباً لهم على قولهم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فقال الله تعالى له قل: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِن اللَّهِ} وفيها وجهان: أحدهما: أنها الرحمة أي ليس بيدي الرحمة فأسوقها إليكم , قاله ابن عباس. الثاني: أنها الأموال , أي ليس بيدي أموال فأعطيكم منها على إيمانكم. {وَلاَ أعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم بما في انفسكم. {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} يعني فأباين جنسكم.

{وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً} والازدراء الإحتقار. يقال ازدريت عليه إذاعبته , وزريت عليه إذا حقرته. وأنشد المبرد: (يباعده الصديق وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير.) {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً} أي ليس لاحتقاركم لهم يبطل أجرهم أو ينقص ثوابهم , وكذلك لستم لعلوكم في الدنيا تزدادون على أجوركم. {اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} يعني أنه يجازيهم عليه ويؤاخذهم به. {إِني إذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} يعني إن قلت هذا الذي تقدم ذكره.

35

{أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون} قوله عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم , افترى افتعل من قبل نفسه ما أخبر به عن نوح وقومه. {قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَليَّ إجرامي} وفي الإجرام وجهان: أحدهما: أنه الذنوب المكتسبة. حكاه ابن عيسى. الثاني: أنها الجنايات المقصودة , قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر: (طريد عشيرةٍ ورهين جرم ... بما جرمت يدي وجنى لساني.) ومعناه: فعلىّ عقاب إجرامي. {وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} أي وعليكم من عقاب جرمكم في تكذيبي ما أنا بريء منه.

36

{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا

منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} قوله عز وجل: {وَأوحِيَ إِلَى نُوحٍ أنه لن يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} حقق الله تعالى استدامة كفرهم تحقيقاً لنزول الوعيد بهم , قال الضحاك , فدعا عليهم لما أُخبر بهذا فقال: {ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديَّاراً. إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27: 26]. {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَ كَانُوا يَفْعَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فلا تأسف ومنه قول يزيد بن عبد المدان: (فارسُ الخيل إذا ما ولولت ... ربّهُ الخِدر بصوتٍ مبتئس) الثاني: فلا تحزن , ومنه قول الشاعر: (وكم من خليلٍ أو حميم رُزئته ... فلم أبتئس والرزءُ فيه جَليلُ) والأبتئاس: الحزن في استكانة , وأصله من البؤس , وفي ذلك وجهان: أحدهما: فلا تحزن لهلاكهم. الثاني: فلا تحزن لكفرهم المفضي إلى هلاكهم. قوله عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: بحيث نراك , فعبر عن الرؤية بالأعين لأن بها تكون الرؤية. الثاني: بحفظنا إياك حفظ من يراك.

الثالث: بأعين أوليائنا من الملائكة. ويحتمل وجهاً رابعاً: بمعونتنا لك على صنعها. {وَوَحْيِنَا} فيه وجهان: أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها. الثاني: تعليمنا لك كيف تصنعها. {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظلَمُواْ إِنَّهُمْ مُغْرَقونَ} نهاه الله عن المراجعة فيهم فاحتمل نهيه أمرين: أحدهما: ليصرفه عن سؤال ما لا يجاب إليه. الثاني: ليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة. قوله عز وجل: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} قال زيد بن أسلم: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها , ومائة سنة يعملها , واختلف في طولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما قاله الحسن كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع , وعرضها ستمائة ذراع , وكانت مطبقة. الثاني: ما قاله ابن عباس: كان طولها أربعمائة ذراع , وعلوها ثلاثون ذراعاً. وقال خصيف: كان طولها ثلاثمائة ذراع , وعرضها خمسون ذراعاً , وكان في أعلاها الطير , وفي وسطها الناس وفي أسفلها السباع. ودفعت من عين وردة في يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ورست بباقردي على الجودي يوم عاشوراء. قال قتادة وكان بابها في عرضها.

{وكلّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِّنْ قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} وفي سخريتهم منه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني في البر سفينة فيسخرون منه ويستهزئون به ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجاراً. الثاني: أنهم لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا يا نوح: ما تصنع؟ قال: أبني بيتاً يمشي علىالماء فعجبوا من قوله وسخروا منه. {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} فيه قولان: أحدهما: إن تسخروا من قولنا فسنسخر من غفلتكم. الثاني: إن تسخروا من فِعلنا اليوم عند بناء السفينة فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق. والمراد بالسخرية ها هنا الاستجهال. ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم. قال ابن عباس: ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر فلذلك سخروا منه. قال: ومياه البحار بقية الطوفان. فإن قيل: فلم جاز أن يقول فإنا نسخر منكم مع قبح السخرية؟ قيل: لأنه ذمٌّ جعله مجازاة على السخرية فجاء به على مزاوجة الكلام , وكان الزجاج لأجل هذا الاعتراض يتأوله على معنى إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلوننا.

40

{حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل}

قوله عز وجل: {حَتَّى إذا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ} فيه ستة أوجه: أحدها: وجه الأرض , والعرب تسمي وجه الأرض تَنُّوراً , قاله ابن عباس وقيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك. الثاني: أن التنور العين التي بالجزيرة (عين وردة) , رواه عكرمة. الثالث: أنه مسجد بالكوفة من قبل أبواب كندة , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الرابع: أن التنور ما زاد على وجه الأرض فأشرف منها , قاله قتادة. الخامس: أنه التنور الذي يخبز فيه , قيل له: إذا رأيت الماء يفور منه فاركب أنت ومن معك , قاله مجاهد. قال الحسن: كان تنوراً من حجارة وكان لحواء ثم صار لنوح , وقال مقاتل: فارَ من أقصى دار نوح بعين وردة من أرض الشام , قال أمية بن الصلت: (فار تنورهم وجاش بماءٍ ... صار فوق الجبال حتى علاها) السادس: أن التنور هو تنوير الصبح , من قولهم: نور الصبح تنويراً , وهو مروي عن علي رضي الله عنه. {قُلْنَا احِملْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجِيْن اثْنَينِ} يعني من الآدميين والبهائم ذكراً وأنثى. {وَأهْلَكَ} أي احمل أهلك. {إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} من الله تعالى أنه يهلكهم وهو ابنه كنعان وامرأته كانا كافرين: قاله الضحاك وابن جريج. {وَمَن آمَنَ} أي احمل من آمن. {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ} واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: ثمانون رجلاً منهم جرهم , قاله ابن عباس. الثاني: ثمانين , قاله ابن جريج. الثالث: سبعة , قاله الأعمش ومطر , وكان فيهم ثلاثة بنين: سام وحام

ويافث , وثلاث بنات له ونوح معهم فصاروا سبعة. وعلى القول الثاني: كانت فيهم امرأة نوح فصاروا ثمانية. قال محمد بن عباد بن جعفر: فأصاب حام امرأته في السفينة , فدعا نوح أن يغير الله نطفته فجاء السودان.

41

{وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} قوله عز وجل: {وقال اركبوا فيها بِاسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيمٌ} قال قتادة: ركب نوح عليه السلام في السفينة في اليوم العاشر من رجب , ونزل منها في اليوم العاشر من المحرم , وهو يوم عاشوراء , فقال لمن معه: من كان صائماً فليتم صومه , ومن لم يكن صائماً فليصمه. وقوله {بسم الله مجريها} أي مسيرها , {ومُرساها} أي مثبتها , فكان إذا أراد السير قال: بسم الله مجريها , فتجري , وإذا أراد الوقوف قال: بسم الله مرساها. فتثبت واقفة. قوله عز وجل: {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} قال ذلك لبقائه على كفره تكذيباً لأبيه , وقيل إن الجبل الذي أوى إليه طور زيتا. {قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} فيه وجهان: أحدهما: إلا من رحم الله وهم أهل السفينة. الثاني: إلا من رحم نوح فحمله في سفينته وقوله {لا عاصم} يعني لا معصوم. {من أمر الله} يعني الغرق.

44

{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} قوله عز وجل: {وقيل يا أرض ابلعي ماءَك} جعل نزول الماء فيها بمنزلة البلع , ومعناه ابلعي الماء الذي عليك , فروى الحسن والحسين عليهما السلام أن بعض البقاع امتنع أن يبلع ماءه فصار ماؤه مراً وترابه سبخا. {ويا سماء أقلعي} أي لا تمطري , من قولهم أقلع عن الشيء إذا تركه. {وغيض الماء} أي نقص حتى ذهبت زيادته عن الأرض. {وَقضي الأمر} يعني بهلاك من غرق من قوم نوح. {وَاستوت} يعني السفينة. {على الجودي} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جبل بالموصل , قاله الضحاك. الثاني: أنه جبل بالجزيرة , قاله مجاهد. قال قتادة. هو بباقردى من أرض الجزيرة. الثالث: أن الجودي اسم لكل جبل , ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل. (سبحانه ثم سُبحاناً يعود له ... وقبلنا سبح الجوديُّ والجمد)

45

{ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما

ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} قوله عز وجل: {ونادى نوحٌ ربه فقال رَبِّ إنَّ ابني من أهلي} وإنما قال {من أهلي} لأن الله تعالى وعده أن ينجي أهله معه. {وإن وعدك الحق} يحتمل وجهين: أحدهما الذي يحق فلا يخلف. الثاني: الذي يلزم كلزوم الحق. {وأنت أحكم الحاكمين} يعني بالحق: فاحتمل هذا من نوح أحد أمرين: إما أن يكون قبل علمه بغرق ابنه فسأل الله تعالى له النجاة , وإما أن يكون بعد علمه بغرقه فسأل الله تعالى له الرحمة. قوله عز وجل: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه وكان لغيره رشدة , قاله الحسن ومجاهد. الثاني: أنه ابن امرأته. الثالث: أنه كان ابنه , قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط.

وقيل إن اسمه كان كنعان , وقيل بل كان اسمه يام. قال الحسن: وكان منافقاً ولذلك استعجل نوح أن يناديه فعلى هذا يكون في تأويل قوله تعالى {إنه ليس من أهلك} وجهان: أحدهما: ليس من أهل دينك وولايتك , وهو قول الجمهور. الثاني: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك , قاله سعيد بن جبير. {إنه عملٌ غير صالحٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن مسألتك إياي أن أنجيه عمل غير صالح , قاله قتادة وإبراهيم وهو تأويل من قرأ عملٌ غير صالح بالتنوين. والثاني: معناه أن ابنك الذي سألتني أن أنجيه هو عملٌ غير صالحٍ , أي أنه لغير رشدة , قاله الحسن. والثالث: أنه عملٌ غير صالحٍ , قاله ابن عباس , وهو تأويل من لمن ينون. {فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: فيما نسبته إلى نفسك وليس منك. الثاني: في دخوله في جملة من وعدتك بإنجائهم من أهلك وليس منهم. {إني أعظُك أن تكون من الجاهلين} يحتمل وجهين: أحدهما: من الجاهلين بنسبك. الثاني: من الجاهلين بوعدي لك. وفي قوله {إني أعظك} تأويلان: أحدهما: معناه إني رافعك أن تكون من الجاهلين. الثاني: معناه أني أحذرك ومنه قوله تعالى {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً} أي يحذرّكم.

48

{قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة

للمتقين وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} قوله عز وجل: {يُرْسِلِ السماء عليكم مدراراً} فيه وجهان: أحدهما: أنه المطر في إبانه , قاله هارون التيمي. الثاني: المطر المتتابع , قاله ابن عباس. ويحتمل وجهين آخرين: أحدهما: يُدرُّه عند الحاجة. والثاني: يُدرُّ به البركة , وهو مأخوذ من درور اللبن من الضرع. {ويزدكم قوة إلى قوتكم} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني شدة إلى شدتك , قاله مجاهد. الثاني: خصباً إلى خصبكم , قاله الضحاك. الثالث: عزاً إلى عزكم بكثرة عددكم وأموالكم , قاله علي بن عيسى. الرابع: أنه ولد الولد , قاله عكرمة. ويحتمل خامساً يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوتكم في أبدانكم.

53

{قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون

إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود} قوله عز وجل: { ... إن ربي على صراط مستقيم} فيه وجهان: أحدهما: على الحق , قاله مجاهد. الثاني: على تدبير محكم , قاله علي بن عيسى. ويحتمل ثالثاً: أنه على طريق الآخرة في مصيركم إليه للجزاء وفصل القضاء.

61

{وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} قوله عز وجل: { ... هو أنشأكم من الأرض} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: خلقكم من الأرض لأنكم من آدم وآدم من الأرض , قاله السدي. والثاني: معناه أنشأكم في الأرض. والثالث: أنشأكم بنبات الأرض.

{واستعمركم فيها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أعمركم فيها بأن جعلكم فيها مدة أعماركم , قاله مجاهد , من قولهم أعمر فلان فلاناً داره فهي له عمرى. الثاني: امركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها بناء مساكن وغرس أشجار قاله علي بن عيسى. الثالث: أطال فيها أعمالكم , قال الضحاك , كانت أعماركم ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة.

62

{قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير} قوله عز وجل {قالوا يا صالحُ قد كنت فينا مرجُوّاً قَبل هذا} فيه وجهان: أحدهما: أي مؤملاً برجاء خيرك. الثاني: أي حقيراً من الإرجاء وهو التأخير , فيكون على الوجه الأول عتباً , وعلى الثاني زجراً. قوله عز وجل: {قال يا قوم أرأيتم إن كُنْتُ على بينةٍ من ربي} يحتمل وجهين: أحدهما: على حق بَيّن. الثاني: على حجة ظاهرةٍ. وقال الكلبي على دين من ربي. {وآتاني منه رحمة} قال ابن جرير الطبري يعني النبوة والحكمة.

{فمن ينصرني من الله إن عصيته} أي فمن يدفع عني عذاب الله إن عصيته بطاعتكم. {فما تزيدونني غير تخسير} فيه وجهان: أحدهما: يعني ما تزيدونني في احتجاجكم بتباع آبائكم إلا خساراً تخسرونه أنتم , قاله مجاهد. الثاني: فما تزيدونني مع الرد والتكذيب إن أجبتم إلى ما سألتم إلا خساراً لاستبدال الثواب بالعقاب.

64

{ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود} قوله عز وجل: {وأخذ الذين ظلموا الصيحةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن جبريل عليه السلام صاح بهم. الثاني: أن الله تعالى أحدثها في حيوان صاح بهم. الثالث: أن الله تعالى أحدثها من غير حيوان. {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} لأن الصيحة أخذتهم ليلاً فأصبحوا منها هلكى. {في ديارهم} فيه وجهان: أحدهما: في منازلهم وبلادهم , من قولهم هذه ديار بكر وديار ربيعة. الثاني: في دار الدنيا لأنها دار لجميع الخلق. وفي {جاثمين} وجهان: أحدهما: مبيتين , لأن الصحية كانت بياتاً في الليل , قاله عبد الرحمن بن زيد.

الثاني: هلكى بالجثوم. وفي الجثوم تأويلان: أحدهما: أنه السقوط على الوجه. الثاني: أنه القعود على الرُّكب. قوله عز وجل: {كأن لم يغنوا فيها} فيه وجهان: أحدهما: كأن لم يعيشوا فيها. الثاني: كأن لم ينعموا فيها. {ألا إنَّ ثمود كفروا ربهم} فيه وجهان: أحدهما: كذبوا وعيد ربهم. الثاني: كفروا بأمر ربهم. {ألا بُعْداً لثمود} فقضى عليهم بعذاب الاستئصال فهلكوا جيمعاً إلا رجلاً منهم وهو أبو رمحان كان في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى.

69

{ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} قوله عز وجل: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى}. أما إبراهيم ففيه وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي , قاله الأكثرون. وقيل معناه أب رحيم.

الثاني: أنه عربي مشتق من البرهمة وهي إدامة النظر. والرسل جبريل ومعه ملكان قيل إنهما ميكائيل وإسرافيل عليه السلام وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان المرسل مع جبريل اثني عشر ملكاً. وفي البشرى التي جاءوه بها أربعة أقاويل: أحدها: بشروه بنبّوته , قاله عكرمة. الثاني: بإسحاق , قاله الحسن. الثالث: بشروه بإخراج محمد صلى الله عليه وسلم من صلبه وأنه خاتم الأنبياء. الرابع: بشروه بهلاك قوم لوط , قاله قتادة. {قالوا سلاماً قال سلامٌ} فيه وجهان: أحدهما تحية من الملائكة لإبراهيم عليه السلام فحياهم بمثله فدل على أن السلام تحية الملائكة والمسلمين جميعاً. الثاني: سلمت أنت وأهلك من هلاك قوم لوط. وقوله {سلام} أي الحمد لله الذي سلّمني , فمعنى سلام: سلمت. وقرأ حمزة والكسائي {سِلم} بكسر السين وإسقاط الألف. واختلف في السلم والسلام على وجهين: أحدهما: أن السلم من المسالمة والسلام من السلامة. الثاني: أنهما بمعنى واحد , قال الشاعر , وقد أنشده الفراء لبعض العرب: (وقفنا فقلنا إيه سِلْم فسَلّمَتْ ... كما اكتلَّ بالبرْقِ الغمامُ اللوائحُ) {فما لبث أن جاء بعجل حنيذ} ظنَّ رُسُل ربه أضيافاً لأنهم جاؤُوه في صورة الناس فعجل لهم الضيافة فجاءهم بعجل حنيذ. وفي الحنيذ قولان:

أحدهما: أنه الحار , حكاه أبان بن تغلب عن علقمة النحوي. الثاني: هو المشوي نضيجاً وهو المحنوذ مثل طبيخ ومطبوخ وفيه قولان: أحدهما: هو الذي حُفر له في الأرض ثم غُمَّ فيها , قال الشاعر: (اذا ما اعتبطنا اللحم للطالب القِرى ... حنذناه حتى عَين اللحم آكله) الثاني: هو أن يوقد عل الحجارة فإذا اشتد حرها ألقيت في جوفه ليسرع نضجه , قال طرفة بن العبد: (لهم راحٌ وكافور ومسكٌ ... وعِقر الوحش شائله حنوذ) قوله عز وجل: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم} في نكرهم وأنكرهُم وجهان: أحدهما: أن معناهما مخلتف , فنكرهم إذا لم يعرفهم ونكرهم إذا وجدهم على منكر. الثاني: أنهما بمعنى واحد , قال الأعشى: (وأنكَرَتْني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصّلَعا) واختلف في سبب إنكاره لهم على قولين: أحدهما: أنهم لم يطعموا , ومن شأن العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم ظنوا به سوءاً وخافوا منه شراً , فنكرهم إبراهيم لذلك , قاله قتادة. والثاني: لأنه لم تكن لهم أيدي فنكرهم , قاله يزيد بن أبي حبيب. وامتنعوا من طعامه لأنهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون. {وَأَْوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} فيه وجهان: أحدهما: أضمر في نفسه خوفاً منهم. والثاني: أحسّ من نفسه تخوفاً منهم , كما قال يزيد بن معاوية: (جاء البريد بقرطاس يُخَبُّ به ... فأوجس القلبُ من قرطاسه جزعا) {قالوا لا تخف إنا أُرسلنا إلى قوم لوط} يعني بهلاكهم.

وفي إعلامهم إبراهيم بذلك وجهان: أحدهما: ليزول خوفه منهم. والثاني: لأن إبراهيم قد كان يأتي قوم لوط فيقول: ويحكم أينهاكم عن الله أن تتعرضوا لعقوبته فلا يطيعونه. {وَامْرأَتُهُ قَائِمَتٌ فَضَحِكَتْ} وفي قيامها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلامهم , قاله وهب. الثاني: أنها كانت قائمة تخدمهم , قاله مجاهد. الثالث: أنها كانت قائمة تُصَلّي , قاله محمد بن إسحاق. {فَضَحِكَتْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني حاضت , قاله مجاهد والعرب تقول ضحكت المرأة إذا حاضت , والضحك الحيض في كلامهم , قال الشاعر: (وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الخوف يوم اللّقا) والثاني: أن معنى ضحكت: تعجبت , وقد يسمى التعجب ضحكاً لحدوث الضحك عنه , ومنه قول أبي ذؤيب. (فجاء بمزجٍ لم ير الناس مثله ... هو الضحك إلاّ انه عمل النحل) ) الثالث: أنه الضحك المعروف في الوجه , وهو قول الجمهور. فإن حمل تأويله على الحيض ففي سبب حيضها وجهان: أحدهما: أنه وافق وقت عاتها فخافت ظهور دمها وأرادت شداده فتحيرت مع حضور الرسل. والقول الثاني: ذعرت وخافت فتعجل حيضها قبل وقته , وقد تتغير عادة الحيض باختلاف الأحوال وتغير الطباع. ويحتمل قولاً ثالثاً: أن يكون الحيض بشيراً بالولادة لأن من لم تحض لا تلد. وإن حمل تأويله على التعجب ففيما تعجب منه أربعة أقاويل:

أحدها: أنها تعجبت من أنها وزوجها يخدمان الأضياف تكرمة لهم وهم لا يأكلون , قاله السدي. الثاني: تعجبت من أن قوم لوط قد أتاهم العذاب وهم غافلون , قاله قتادة. الثالث: أنها عجبت من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها , قاله وهب بن منبه. الرابع: أنها تعجبت من إحياء العجل الحنيذ لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار , قاله عون بن أبي شداد. وإن حمل تأويله على ضحك الوجه ففيما ضحكت منه أربعة أقاويل: أحدها: ضحكت سروراً بالسلامة. الثاني: سروراً بالولد. الثالث: لما رأت ما بزوجها من الورع , قاله الكلبي. الرابع: أنها ضحكت ظناً بأن الرسل يعملون عمل قوم لوط , قاله محمد بن عيسى. {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} وفي {وراء} ها هنا قولان: أحدهما: أن الوراء ولد الولد , قاله ابن عباس والشعبي. الثاني: أنه بمعنى بعد , قاله مقاتل , وقال النابغة الذبياني: (حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراءَ اللهِ للمرء مذهبُ) فعجلوا لها البشرى بالولدين مظاهرة للنعمة ومبالغة في التعجب , فاحتمل أن يكون البشارة بهما باسميهما فيكون الله تعالى هو المسمى لهما , واحتمل أن تكون البشارة بهما وسماها أبوهما. فإن قيل: فلم خصت سارة بالبشرى من دون إبراهيم؟ قيل عن هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أنها لما اختصت بالضحك خصت بالبشرى.

الثاني: أنهم كافأُوها بالبشرى مقابلة على استعظام خدمتها. الثالث: لأن النساء في البشرى بالولد أعظم سروراً وأكثر فرحاً. قال ابن عباس: سمي إسحاق لأن سارة سحقت بالضحك حين بشرت به. قوله عز وجل: {قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شيخا} لم تقصد بقولها يا ويلتا الدعاء على نفسها بالويل ولكنها كلمة تخفُّ على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه , وعجبت من ولادتها وهي عجوز وكون بعلها شيخاً لخروجه عن العادة , وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. واختلف في سنها وسن إبراهيم حينئذ , فقال مجاهد: كان لسارة تسع وتسعون سنة وكان لإبراهيم مائة سنة. وقال محمد بن إسحاق: كانت سارة بنت تسعين سنة وكان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقال قتادة: كان كل واحد منهما ابن تسعين سنة. وقيل انها عرّضت بقولها {وهذا بعلي شيخاً} عن ترك غشيانه لها , والبعل هو الزوج في هذا الموضع , ومنه قوله تعالى {وبعولتهن أحق بردّهن في ذلك} [البقرة: 228]. والبعل: المعبود , ومنه قوله تعالى {أتدعون بعلاً} [الصافات: 125] أي اليها معبوداً. والبعل السيد , ومنه قول لبيد. (حاسري الديباج عن أذرعهم ... عند بعل حازم الرأي بَطل) فسمي الزوج بعلاً لتطاوله على الزوجة كتطاول السيد على المسود. {إن هذا لشيء عجيب} أي منكر , ومنه قوله تعالى {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} [ق: 2] أي أنكروا. ولم يكن ذلك منها تكذيباً ولكن استغراباً له.

74

{فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}

قوله عز وجل: {فلما ذهب عن إبراهيم الرّوع} يعني الفزع , والرُّوع بضم الراء النفس , ومنه قولهم ألقى في رُوعي أي في نفْسي. {وجاءتْهُ البشرى} أي بإسحاق ويعقوب. {يجادلنا في قوم لوط} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جادل الملائكة بقوله {إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينة وأهله} [العنكبوت: 32] قاله الحسن. الثاني: أنه سألهم أتعذبونهم إن كان فيها خمسون من المؤمنين؟ قالوا لا , قال: فإن كان فيها أربعون؟ قالوا: لا , إلى أن أنزلهم إلى عشرة , فقالوا: لا , قاله قتادة. الثالث: أنه سألهم عن عذابهم هل هو عذاب الاستئصال فيقع بهم لا محالة على سبيل التخويف ليؤمنوا , فكان هذا هو جداله لهم وإن كان سؤالاً لأنه خرج مخرج الكشف عن أمر غامض. قال أبو مالك: ولم يؤمن بلوط إلا ابنتاه رقية وهي الكبرى وعروبة وهي الصغرى.

77

{ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد} قوله عز وجل: {ولما جاءَت رُسُلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذراعاً} قال ابن عباس: ساء ظنه بقومه وضاق ذرعاً بأضيافه. ويحتمل وجهاً آخر أنه ساء ظنه برسل ربه , وضاق ذراعاً بخلاص نفسه لأنه نكرهم قبل معرفتهم. {وقال هذا يومٌ عصيب} أي شديد لأنه خاف على الرسل من قومه أن يفضحوهم على قول ابن عباس , وعلى الاحتمال الذي ذكرته خافهم على نفسه فوصف يومه بالعصيب وهو الشديد , قال الشاعر:

(وإنك إلاّ ترض بكر بن وائل ... يكن لك يومٌ بالعراق عصيب.) قال أبو عبيدة: وإنما قيل له عصيب لأنه يعصب الناس بالشر , قال الكلبي: كان بين قرية إبراهيم وقف لوط أربعة فراسخ. قوله عز وجل: {وجاءه قومُه يهرعون إليه} أي يسرعون , والإهراع بين الهرولة والحجزى. قال الكسائي والفراء: لا يكون الإهراع إلا سراعاً مع رعدة. وكان سبب إسراعهم إليه أن أمرأة لوط أعلمتهم بأضيافه وجَمالهم فأسرعوا إليه طلباً للفاحشة منهم. {ومن قبل كانوا يعملون السيئات} فيه وجهان: أحدهما: من قبل إسراعهم اليه كان ينكحون الذكور , قاله السدي. الثاني: أنه كانت اللوطية في قوم لوط في النساء قبل الرجال بأربعين سنة , قاله عمر بن أبي زائدة. {قال يا قوم هؤلاء بناتي هُنَّ أطهر لكم} قال لهم لوط ذلك ليفتدي أضيافه منهم. {هؤلاء بناتي} فيهن قولان: أحدهما: أنه أراد نساء أمته ولم يرد بنات نفسه. قال مجاهد وكل نبي أبو أمّته وهم أولاده. وقال سعيد بن جبير: كان في بعض القرآن: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزاجه أمهاتهم وهوأب لهم. الثاني: أنه أراد بنات نفسه وأولاد صلبه لأن أمره فيهن أنفذ من أمره في غيرهن , وهو معنى قول حذيفة بن اليمان. فإن قيل: كيف يزوجهم ببناته مع كفر قومه وإيمان بناته؟ قيل عن هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كان في شريعة لوط يجوز تزويج الكافر بالمؤمنة , وكان هذا في صدر الإسلام جائزاً حتى نسخ , قاله الحسن. الثاني: أنه يزوجهم على شرط الإيمان كما هو مشروط بعقد النكاح. الثالث: أنه قال ذلك ترغيباً في الحلال وتنبيهاً على المباح ودفعاً للبادرة من غير بذل نكاحهن ولا بخطبتهن , قاله ابن أبي نجيح.

{هن أطهر لكم} أي أحل لكم بالنكاح الصحيح. {فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تذلوني بعار الفضيحة , ويكون الخزي بمعنى الذل. الثاني: لا تهلكوني بعواقب فسادكم , ويكون الخزي بمعنى الهلاك. الثالث: أن معنى الخزي ها هنا الاستحياء , يقال خزي الرجل إذا استحى , قال الشاعر: (من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت ... بها مِرطها أو زايل الحلي جيدها) والضيف: الزائر المسترقد , ينطلق على الواحد والجماعة , قال الشاعر: (لا تعدمي الدهر شفار الجازر ... للضيف والضيف أحق زائر) {أليس منكم رجلٌ رشيد} فيه وجهان: أحدهما: أي مؤمن , قاله ابن عباس. الثاني: آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر , قاله أبو مالك. ويعني: رجل رشيد ليدفع عن أضيافه , وقال ذلك تعجباً من اجتماعهم على المنكر. قوله عز وجل: {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} فيه وجهان: أحدهما: ما لنا فيهن حاجة , قاله الكلبي. الثاني: ليس لنا بأزواج , قاله محمد بن إٍسحاق. {وإنك لتعلم ما نريد} فيه وجهان: أحدهما: تعلم أننا لا نتزوج إلا بامرأة واحدة وليس منا رجل إلا له امرأة , قاله الكلبي. الثاني: أننا نريد الرجال.

80

{قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} قوله عز وجل: {قال لو أن لي بكم قوة} يعني أنصاراً. وقال ابن عباس: أراد الولد. {أو آوي إلى رُكنٍ شديد} يعني إلى عشيرة مانعة. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد). يعني الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فما بعث الله بعده نبياً إلا في ثروة من قومه). قال وهب بن منبه: لقد وجدت الرسل على لوط وقالوا: إن ركنك لشديد. قوله عز وجل: {قالوا يا لوط إنا رُسُل ربِّك لن يصلوا إليك} وفي اسمه وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي وهو قول الأكثيرين. الثاني: أنه اسم عربي مأخوذ من قولهم: لطتُ الحوض إذا ملسته بالطين. وقيل إن لوطاً كان قائماً على بابه يمنع قومه من أضيافه , فلما أعلموه أنهم رسل ربه مكّن قومه من الدخول فطمس جبريل عليه السلام على أعينهم فعميت , وعلى أيديهم فجفت. {فأسْرِ بأهلك} أي فسِرْ بأهلك ليلاً , والسُري سير الليل , قال عبد الله بن رواحة: (عند الصباح يحمد القوم السُرَى ... وتنجلي عنهم غيابات الكرى) يقال وأسرى وفيها وجهان: أحدهما: أن معناهما في سير الليل واحد. الثاني: أن معناهما مختلف , فأسرى إذا سار من أول الليل , وسرى إذا سار في آخره , ولا يقال في النهار إلا سار , قال لبيد:

(إذا المرءُ أسرى ليلة ظن أنه ... قضى عملاً , والمرءُ ما عاش عامِلُ) {بقطعٍ من الليل} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه سواد الليل , قاله قتادة. الثاني: أنه نصف الليل مأخوذ من قطعه نصفين , ومنه قول الشاعر: (ونائحةٍ تنوح بقطع ليل ... على رجلٍ بقارعة الصّعيد) الثالث: أنه الفجر الأول , قاله حميد بن زياد. الرابع: أنه قطعة من الليل , قاله ابن عباس. {ولا يلتفت منك أحد} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا ينظر وراءه منكم أحد , قاله مجاهد. الثاني: يعني لا يتخلف منك أحد , قاله ابن عباس: الثالث: يعني لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو امتناع , حكاه علي بن عيسى. {إلا امرأتك إنّه مُصيبها ما أصابهم} فيه وجهان: أحدهما: أن قوله {إلا امرأتك} استثناء من قوله {فأسر بأهلك بقطع من الليل الا امرأتك} وهذا قول من قرأ {إلا امرأتك} بالنصب. الثاني: أنه استثناء من قوله {ولا يلتفت منك أحد إلا امرأتك} وهو على معنى البدل إذا قرىء بالرفع. {إنه مصيبها ما أصابهم} فذكره قتادة أنها خرجت مع لوط من القرية فسمعت الصوت فالتفتت , فأرسل الله عليهم حجراً فأهلكها. {إنّ موعدهم الصبح أليْسَ الصُّبحُ بقريبٍ} فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لوطاً لما علم أنهم رسل ربه قال: فالآن إذن فقال له جبريل عليه السلام {إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ويجوز أن يكون قد جعل الصبح ميقاتاً

لهلاكهم لأن النفوس فيه أودع والناس فيه أجمع.

82

{فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} قوله عز وجل: {فلمّا جاء أمرُنا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أمر الله تعالى للملائكة. الثاني: أنه وقوع العذاب بهم. الثالث: أنه القضاء بعذابهم. {جعلنا عاليَها سافلَها} قال محمد بن كعب القرظي إن الله تعالى بعث جبريل إلى مؤتفكات قوم لوط فاحتملها بجناحه ثم صعد بها حتى إن أهل السماء يسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم , ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأتبعها بحجارة من سجّيل حتى أهلكها وما حولها , وكن خمساً: صبغة ومقرة وعمرة ودوما وسدوم وهي القرية العظمى. وقال قتادة: كانوا في ثلاث قرى يقال لها سدوم بين المدينة والشام وكان فيها أربعة آلاف ألف. {وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أنه فارسي معرب وهو (سنك وكيل) فالسنك: الحجر , والكيل الطين , قاله ابن عباس. الثاني: أنه طين قد طبخ حتى صار كالأرحاء , ذكره ابن عيسى. الثالث: أنه الحجارة الصلبة الشديدة , قاله أبو عبيدة وأنشد قول ابن مقبل:

(ورحلة يضربون البيض عن عَرَضٍ ... ضربا تواصى به الأبطال سجّينا) إلا أن النون قلبت لاماً. الرابع: من سجيل يعني من سماء اسمها سجيل , قاله ابن زيد. الخامس: من سجيل من جهنم واسمها سجين فقلبت النون لاماً. السادس: أن السجيل من السجل وهو الكتاب وتقديره من مكتوب الحجارة التي كتب الله تعالى أن يعذب بها أو كتب عليها , وفي التنزيل {كلا إن كتاب الفجار لفي سجين. وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم} [المطففين: 7 - 9] السابع: أنه فِعِّيل من السجل وهو الإرسال , يقال أسجلته أي أرسلته , ومنه سمي الدلو سجلاً لإرساله فكان السجل هو المرسل عليهم. الثامن: أنه مأخوذ من السجل الذي هو العطاء , يقال سجلت له سجلاً من العطاء , فكأنه قال سُجلوا البلاء أي أعطوه. {منضود} فيه تأويلان: أحدهما: قد نُضَّد بعضه على بعض , قال الربيع. الثاني: مصفوف , قاله قتادة. قوله عز وجل: {مسومة عند ربك} والمسومة: المعلّمة , مأخوذ من السيماء وهي العلامة , قال الشاعر: (غُلامٌ رماه الله بالحُسْن يافعا ... له سيمياءٌ لا تشقُ على البصر) وفي علامنها قولان: أحدهما: أنها كانت مختمة , على كل حجر منها اسم صاحبه. الثاني: معلمة ببياض في حمرة , على قول ابن عباس , وقال قتادة: مطوقة بسواد في حمرة. {عند ربك} فيه وجهان:

أحدهما: في علم ربك , قال ابن بحر. الثاني: في خزائن ربك لا يملكها غيره ولا يتصرف فيها أحد إلا بأمره. {وما هي من الظالمين ببعيد} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه ذكر ذلك وعيداً لظالمي قريش , قاله مجاهد. الثاني: وعيد لظالمي العرب , قال عكرمة. الثالث: وعيد لظالمي هذه الأمة , قاله قتادة. الرابع: وعيد لكل ظالم , قاله الربيع. وفي الحجارة التي أمطرت قولان: أحدهما: أنه أمطرت على المدن حين رفعها. الثاني: أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها وكان خارجاً عنها.

84

{وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط} قوله عز وجل: {وإلى مَدِين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبُدوا الله ما لكم من إله غيره} ومدين هم قوم شعيب , وفي تسميتهم بذلك قولان: أحدهما: لأنهم بنو مدين بن إبراهيم , فقيل مدين والمراد بنو مدين , كما يقال مضر والمراد بنو مضر. الثاني: أن مدين اسم مدينتهم فنسبوا إليها ثم اقتصر على اسم المدينة تخفيفاً. ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي. الثاني: أنه اسم عربي وفي اشتقاقه وجهان: أحدهما: أنه من قولهم مدن بالمكان إذا أقام فيه , والياء زائدة , وهذا قول من زعم أنه اسم مدينة.

الثاني: أنه مشتق من قولهم دَيَنْت أي ملكت والميم زائدمة , وهذا قول من زعم أنه اسم رجل. وأما شعيب فتصغير شعب وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الطريق في الجبل. الثاني: أنه القبيلة العظيمة. الثالث: أنه مأخوذ من شَعْب الإناء المكسور. {ولا تنقصوا المكيال والميزان} كانوا مع كفرهم أهل بخس وتطفيف فأمروا بالإيمان إقلاعاً عن الشرك , وبالوفاء نهياً عن التطفيف. {إني أراكم بخير} فيه تأويلان: أحدهما: أنه رخص السعر , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: أنه المال وزينة الدنيا , قال قتادة وابن زيد. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أنه الخصب والكسب. {إني أخافُ عليكم عذاب يومٍ محيط} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: غلاء السعر , وهو مقتضى قول ابن عباس والحسن. الثاني: عذاب الاستصال في الدنيا. الثالث: عذاب النار بالآخرة.

85

{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} قوله عز وجل: {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين} فيها ستة أقاويل: أحدها: يعني طاعة الله تعالى خير لكم , قاله مجاهد. الثاني: وصية من الله , قاله الربيع. الثالث: رحمة الله , قاله ابن زيد. الرابع: حظكم من ربكم خير لكم , قاله قتادة. الخامس: رزق الله خير لكم , قاله ابن عباس.

السادس: ما أبقاه الله لكم بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان خير لكم , قاله ابن جرير الطبري. {وما أنا عليكم بحفيظ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: حفيظ من عذاب الله تعالى أن ينالكم. الثاني: حفيظ لنعم الله تعالى أن تزول عنكم. الثالث: حفيظ من البخس والتطفيف إن لم تطيعوا فيه ربكم.

87

{قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} قوله عز وجل: {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} في {صلاتك} ثلاثة أوجه: أحدها: قراءتك , قاله الأعمش. الثاني: صلاتك التي تصليها لله تعبّداً. الثالث: دينك الذي تدين به وأمرت باتباعه لأن أصل الصلاة الاتباع , ومنه أخذ المصلي في الخيل. {تأمرك} فيه وجهان: أحدهما: تدعوك إلى أمرنا. الثاني: فيها أن تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا يعني من الأوثان والأصنام. {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ما كانوا عليه من البخس والتطفيف. الثاني: الزكاة , كان يأمرهم بها فيمتنعون منها , قاله زيد بن أسلم وسفيان الثوري. الثالث: قطع الدراهم والدنانير لأنه كان ينهاهم عنه , قال زيد بن أسلم. {إنك لأنت الحليم الرشيد} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم قالوا ذلك استهزاء به , قاله قتادة.

الثاني: معناه أنك لست بحليم ولا رشيد على وجه النفي , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم اعترفوا له بالحلم والرشد على وجه والحقيقة وقالوا أنت حليم رشيد فلِم تنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ والحلم والرشد لا يقتضي منع المالك من فعل ما يشاء في ماله , قال ابن بحر.

88

{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} قوله عز وجل: {قال يا قوم أرأيتُم إن كُنتُ على بيِّنةٍ من ربي} قد ذكرنا تأويله. {ورزقني منه رِزقاً حسناً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه المال الحلال , قاله الضحاك. قال ابن عباس وكان شعيب كثير المال. الثاني: أنه النبوة , ذكره ابن عيسى , وفي الكلام محذوف وتقديره , أفأعدل مع ذلك عن عبادته. ثم قال {وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أي لا أفعل ما نهيتكم عنه كما لا أترك ما أمرتكم به. {إنْ أريد إلا الإصلاح ما استطعت} ومعناه ما أريد إلا فعل الصلاح ما استطعت , لأن الاستطاعة من شرط الفعل دون الإرادة. {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلْتُ وإليه أُنيب} فيه وجهان: أحدهما: أنّ الإنابة الرجوع ومعناه وإليه أرجع , قاله مجاهد. الثاني: أن الإنابة الدعاء , ومعناه وإليه أدعو , عبيد الله بن يعلى.

89

{ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} قوله عز وجل: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي} في {يجرمنكم} تأويلان: أحدهما: معناه لا يحملنكم , قاله الحسن وقتادة. والثاني: معناه لا يكسبنكم , قاله الزجاج. وفي قوله {شقاقي} ثلاثة تأويلات: أحدها: إضراري , قاله الحسن. الثاني: عداوتي , قاله السدي ومنه قول الأخطل: (ألا من مبلغ قيساً رسولاً ... فكيف وجدتم طعمَ الشقاق) الثالث: فراقي , قاله قتادة. {أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوحٍ} وهم أول أمة أهلكوا بالعذاب. {أو قوم هودٍ أو قوم صالحٍ وما قوم لوطٍ منكم ببعيدٍ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بعد الدار لقربهم منهم , قاله قتادة. الثاني: بعد العهد لقرب الزمان. ويحتمل أن يكون مراداً به قرب الدار وقرب العهد. وقد أهلك قوم هود بالريح العاصف , وقوم صالح بالرجفة والصيحة , وقوم لوط بالرجم.

91

{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط}

قوله عز وجل: {قالوا يا شعيبُ ما نفقهُ كثيراً مما تقول} أي ما نفهم , ومنه سمي عِلم الدين فقهاً لأنه مفهوم , وفيه وجهان: أحدهما: ما نفقه صحة ما تقول من العبث والجزاء. الثاني: أنهم قالوا ذلك إعراضاً عن سماعه واحتقاراً لكلامه. {وإنا لنراك ضعيفاً} فيه سبعة تأويلات: أحدها: ضعيف البصر , قاله سفيان. الثاني: ضعيف البدن , حكاه ابن عيسى. الثالث: أعمى , قاله سعيد بن جبير وقتادة. الرابع: قليل المعرفة وحيداً , قاله السدي. الخامس: ذليلاً مهيناً , قاله الحسن. السادس: قليل العقل. السابع: قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها. {ولولا رهطك} فيه وجهان: أحدهما: عشيرتك , وهو قول الجمهور. الثاني: لولا شيعتك , حكاه النقاش. {لرجمناك} فيه وجهان: أحدهما: لقتلناك بالرجم. الثاني: لشتمناك بالكلام , ومنه قول الجعدي.

(تراجمنا بمُرِّ القول حتى ... نصير كأننا فَرسَا رِهان) {وما أنت علينا بعزيز} فيه وجهان: أحدهما: بكريم. الثاني: بممتنع لولا رهطك. قوله عز وجل: {قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله} أي تراعون رهطي فيّ ولا تراعون الله فيّ. {واتخذتموه وراءَكم ظهرياً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: اطرحتم أمره وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تعملون به , قاله السدي , ومنه قول الشاعر: ( ... ... ... ... وجَدْنا بني البرصاءِ من وَلَدِ الظّهْرِ) أي ممن لا يلتفت إليهم ولا يعتد بهم. الثاني: يعني أنكم حملتم أوزار مخالفته على ظهوركم , قاله السدي , من قولهم حملت فلاناً على ظهري اذا أظهرت عناده. الثالث: يعني أنكم جعلتم الله ظهرياً إن احتجتم استعنتم به , وإن اكتفيتم تركتموه. كالذي يتخذه الجمَّال من جماله ظهرياً إن احتاج إليها حمل عليها وإن استغنى عنها تركها , قاله عبد الرحمن بن زيد. الرابع: إن الله تعالى جعلهم وراء ظهورهم ظهرياً , قاله مجاهد. {إنّ ربي بما تعملون محيط} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: حفيظ. الثاني: خبير. الثالث: مُجَازٍ.

93

{ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} قوله عز وجل: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم} فيه وجهان: أحدهما: على ناحيتكم , قاله ابن عباس. الثاني: على تمكنكم , قاله ابن عيسى. وقوله {اعملوا} يريد ما وعدوه من إهلاكه , قال ذلك ثقة بربة. ثم قال جواباً لهم فيه تهديد ووعيد {إني عاملٌ سوف تعلمون} فيه وجهان: أحدهما: تعلمون الإجابة. الثاني: عامل في أمر من يأتي بهلاككم ليطهر الأرض منكم , وسترون حلول العذاب بكم. {من يأتيه عذابٌ يخزيه} قال عكرمة: الغرق. وفي {يخزيه} وجهان: أحدهما: يذله. الثاني: يفضحه. {ومن هو كاذب} فيه مضمر محذوف تقديره: ومن هو كاذب يخزى بعذاب الله , فحذفه اكتفاء بفحوى الكلام. {وارتقبوا} أي انتظروا العذاب. {إني معكم رقيب} يحتمل وجهين: أحدهما: إني معكم شاهد.

الثاني: إني معكم كفيل. وفيه وجه ثالث: إني منتظر , قاله الكلبي.

96

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} قوله عز وجل: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة} فيه وجهان: أحدهما: أن اللعنة في الدنيا من المؤمنين وفي الآخرة من الملائكة. الثاني: أنه عنى بلعنة الدنيا الغرق , وبلعنة الآخرة النار , قاله الكلبي ومقاتل. {بئس الرِّفد المرفود} فيه ثلاث أوجه: أحدها: بئس العون المعان , قاله أبو عبيدة. الثاني: أن الرَّفد بفتح الراء: القدح , والرفد بكسرها ما في القدح من الشراب , حكي ذلك عن الأصمعي فكأنه ذم بذلك ما يُسقونه في النار. الثالث: أن الرفد الزيادة , ومعناه بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار , قاله الكلبي.

100

{ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب} قوله عز وجل: {ذلك من أنباء القُرى نقصُّه عليك} فيه وجهان: أحدهما: نخبرك. الثاني: نتبع بعضه بعضاً. {منها قائمٌ وحصيدٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن القائم: العامرة , والحصيد: الخاوية قاله ابن عباس.

الثاني: أن القائم: الآثار , والحصيد: الدارس , قاله قتادة , قال الشاعر: (والناس في قسم المنية بينهم ... كالزرع منه قائم وحصيد) قوله عز وجل: {وما زادوهم غير تتبيب} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن التتبيب الشر , قاله ابن زيد. الثاني: أنه الهلكة , قاله قتاة. قال لبيد: (فلقد بَليتُ وكلُّ صاحب جِدّةٍ ... لبِلىً يعودُ وذاكم التتبيب) ومنه قول جرير: (عرابة من بقية قوم لوطٍ ... ألا تباً لما فعلوا تبابا) الثالث: التخسير , وهو الخسران , قاله مجاهد وتأول قوله تعالى {تبَّتْ يدا أبي لهب} [المسد: 1] أي خسرت.

102

{وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد} قوله عز وجل: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: لا تشفع إلا بإذنه. الثاني: لا تتكلم إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام لأنهم ملجؤون إلى ترك القبيح. الثالث: أن لهم في القيامة وقت يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه. {فمنهم شقيٌ وسعيد} فيه وجهان: أحدهما: محروم ومرزوق , قاله ابن بحر.

الثاني: معذب ومكرم , قال لبيد. (فمنهم سعيد آخذٌ بنصيبه ... ومنهم شقي بالمعيشة قانعُ) ثم في الشقاء والسعادة قولان: أحدهما: أن الله تعالى جعل ذلك جزاء على عملهما فأسعد المطيع وأشقى العاصي , قاله ابن بحر. الثاني: أن الله ابتدأهما بالشقاوة والسعادة من غير جزاء. وروى عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال: لما نزلت {فمنهم شقي وسعيد} قلت: يا رسول الله فعلام نعمل؟ أعلى شيء قد فرغ منه أم على ما لم يفرغ منه؟ فقال: (بلى على شيء قد فرغ منه يا عمر , وجرت به الأقلام ولكن كل شيء ميسور لما خلق له).

106

{فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} قوله عز وجل: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الزفير الصوت الشديد , والشهيق الصوت الضعيف , قاله ابن عباس. الثاني: أن الزفير في الحلق من شدة الحزن , مأخوذ من الزفير , والشهيق في الصدر , قاله الربيع بن أنس. الثالث: أن الزفير تردد النفس من شدة الحزن , مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر الشدته , والشهيق النفس الطويل الممتد , مأخوذ من قولهم جبل شاهق أي طويل , قاله ابن عيسى. الرابع: أن الزفير أول نهيق الحمار , والشهيق آخر نهيقه , قال الشاعر:

(حشرج في الجوف سحيلاً أو شهق ... حتى يقال ناهق وما نهق) {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلى ما شاء ربك} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: خالدين فيها ما دامت سماء الدنيا وأرضها إلا ما شاء ربك من الزيادة عليها بعد فناء مدتها حكاه ابن عيسى. الثاني: ما دامت سموات الآخرة وأرضها إلا ما شاء ربك من قدر وقوفهم في القيامة , قاله بعض المتأخرين. الثالث: ما دامت السموات والأرض , أي مدة لبثهم في الدنيا , قاله ابن قتيبة. الرابع: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من أهل التوحيد أن يخرجهم منها بعد إدخالهم إليها , قاله قتادة , فيكونون أشقياء في النار سعداء في الجنة , حكاه الضحاك عن ابن عباس , وروى يزيد بن أبي حبيب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحمحمة أخرجوا منها وأدخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون) الخامس: إلا ما شاء من أهل التوحيد أن لا يدخلهم إليها , قاله أبو نضرة يرويه مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم. السادس: إلا ما شاء ربك من كل من دخل النار من موحد ومشرك أن يخرجه منها إذا شاء , قاله ابن عباس. السابع: أن الاستثناء راجع إلى قولهم {لهم فيها زفير وشهيق} إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي ليست بزفير ولا شهيق مما لم يسم ولم يوصف ومما قد

سمّي ووصف , ثم استأنف {ما دامت السموات والأرض} حكاه ابن الأنباري. الثامن: أن الاستثناء واقع على معنى لو شاء ربك أن لا يخلدهم لفعل ولكن الذي يريده ويشاؤه ويحكم به تخليدُهم وفي تقدير خلودهم بمدة السموات والأرض وجهان: أحدهما: أنها سموات الدنيا وأرضها , ولئن كانت فانية فهي عند العرب كالباقية على الأبد فذكر ذلك على عادتهم وعرفهم كما قال زهير: (ألا لا أرى على الحوادث باقيا ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا) والوجه الثاني: أنها سموات الآخرة وأرضها لبقائها على الأبد.

108

{وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} قوله عز وجل: {وأمّا الذين سُعدُوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} فيها خمسة تأويلات: أحدها: دامت سموات الدنيا وأرضها إلا ما شاء ربك من الزيادة عليها في الخلود فيها: الثاني: إلا ما شاء ربك من مدة يوم القيامة. الثالث: إلا ما شاء ربك من مدة مكثهم في النار إلى أن يخرجوا منها , قاله الضحاك.

الرابع: خالدين فيها يعني أهل التوحيد , إلا ما شاء ربك يعني أهل الشرك , وهو يشبه قول أبي نضرة. الخامس: خالدين فيها إلا ما شاء ربك أي ما شاء من عطاء غير مجذوذ , فتكون {إلا} هنا بمعنى الواو كقول الشاعر: (وكلُّ أخٍ مفارقُهُ أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان.) أي والفرقدان. {عطاءً غير مجذوذ} فيه وجهان: أحدهما: غير مقطوع. الثاني: غير ممنوع.

109

{فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير} قوله عز وجل: { ... وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نصيبهم من الرزق , قاله أبو العالية. الثاني: نصيبهم من العذاب , قاله ابن زيد. الثالث: ما وعدوا به من خير أو شر , قاله ابن عباس.

112

{فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} قوله عز وجل: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} فيه أربعة تأويلات:

أحدها: لا تميلوا , قاله ابن عباس. الثاني: لا تدنوا , قاله سفيان. الثالث: لا ترضوا أعمالهم , قاله أبو العالية. الرابع: لا تدهنوا لهم في القول وهو أن يوافقهم في السر ولا ينكر عليهم في الجهر. ومنه قوله تعالى {ودّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9] , قاله عبد الرحمن بن زيد. {فتمسكم النار} يحتمل وجيهن: أحدهما: فيمسكم عذاب النار لركونكم إليهم. الثاني: فيتعدى إليكم ظلمهم كما تتعدى النار إلى إحراق ما جاورها , ويكون ذكر النار على هذا الوجه استعارة وتشبيهاً , وعلى الوجه الأول خبراً ووعيداً.

114

{وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} قوله عز وجل: {وأقم الصلاة طرفي النهار} أما الطرف الأول فصلاة الصبح باتفاق وأما الطرف الثاني ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى صلاة الظهر والعصر , قاله مجاهد. الثاني: صلاة العصر وحدها , قاله الحسن. الثالث: صلاة المغرب , قاله ابن عباس. {وزلفاً من الليل} والزلف جمع زلفة , والزلفة المنزلة , فكأنه قال ومنازل من

الليل , أي ساعات من الليل , وقيل إنما سميت مزدلفة من ذلك لأنها منزل بعد عرفة , وقيل سميت بذلك لازدلاف آدم من عرفة إلى حواء وهي بها , ومنه قول العجاج في صفة بعير: (ناجٍ طواه الأين مما وجفا ... طيَّ الليالي زُلَفاً فزلفا) وفي معنى {زلفاً من الليل} قولان: أحدهما: صلاة العشاء الآخرة , قاله ابن عباس ومجاهد. الثانية: صلاة المغرب والعشاء والآخرة , قاله الضحاك ولحسن ورواه مرفوعاً. {إن الحسنات يذهبن السيئات} في هذا الحسنات أربعة أقاويل: أحدها: الصلوات الخمس , قاله ابن عباس والحسن وابن مسعود والضحاك. الثاني: هي قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر , قاله مجاهد قال عطاء: وهن الباقيات الصالحات. الثالث: أن الحسنات المقبولة يذهبن السيئات المغفورة. الرابع: أن الثواب الطاعات يذهبن عقاب المعاصي. {ذلك ذكرى للذاكرين} فيه وجهان: أحدهما: توبة للتائبين , قاله الكلبي. الثاني: بيان للمتعظين , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (واتبع السيئة الحسنة تمحها) وسبب نزول هذه الآية ما روى الأسود عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني عالجت امرأة في بعض أقطار المدينة فأصبت منها دون أن أمسّها وأنا هذا فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على

نفسك. ولم يردّ عليه النبي صلى الله عيله وسلم شيئاً. فنزلت هذه الآية: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذركى للذاكرين} فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه فقال عمر: يا رسول الله أله خاصة أم للناس كافة؟ فقال: (بل للناس كافة) قال أبو موسى طمحان: إن هذا الرجل أبو اليسر الأنصاري وقال ابن عابس هو عمرو بن غزية الأنصاري , وقال مقاتل: هو عامر بن قيس الأنصاري.

116

{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} قوله عز وجل: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أولو طاعة الثاني: أولو تمييز. الثالث: أولو حذر من الله تعالى. {ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكان مجرمين} يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم اتبعوا على ظلمهم ما أترفوا فيه من استدامة نعمهم استدراجاً لهم. الثاني: أنهم أخذوا بظلمهم فيما أترفوا فيه من نعمهم. والمترف: المنعّم. وقال ابن عباس: أترفوا فيه: معناه انظروا فيه.

118

{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} قوله عز وجل: {ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمّةً واحدةً} فيه وجهان: أحدهما: على ملة الإسلام وحدها , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أهل دين واحد , أهل ضلالة وأهل هدى , قاله الضحاك. {ولا يزالون مختلفين إلا من رَحِمَ ربّك} فيه ستة أقاويل: أحدها: مختلفين في الأديان إلا من رحم ربك من أهل الحق , قاله مجاهد وعطاء. الثاني: مختلفين في الحق والباطل إلا من رحم ربك من أهل الطاعة , قاله ابن عباس. الثالث: مختلفين في الرزق فهذا غني وهذا فقير إلا من رحم ربك من أهل القناعة. قاله الحسن. الرابع: مختلفين بالشقاء والسعادة إلا من رحم ربك بالتوفيق. الخامس: مختلفين في المغفرة والعذاب إلا من رحم ربك بالجنة. السادس: أنه معنى مختلفين أي يخلف بعضهم بعضاً , فيكون من يأتي خلفاً للماضي لأن سوءاً في كل منهم خلف بعضهم بعضاً , فاقتتلوا ومنه قولهم: ما اختلف الجديدان , أي جاء هذا بعد ذاك , قاله ابن بحر. {ولذلك خلقهم} فيه أربعة أقاويل: أحدها: للاختلاف خلقهم , قاله الحسن وعطاء. الثاني: للرحمة خلقهم , قاله مجاهد. الثالث: للشقاء والسعادة خلقهم , قاله ابن عباس.

الرابع: للجنة والنار خلقهم , قاله منصور بن عبد الرحمن.

120

{وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} قوله عز وجل: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبتُ به فؤادك} أي نقوّي به قلبك وتسكن إليه نفسك , لأنهم بُلُوا فصبروا , وجاهدوا فظفروا. {وجاءَك في هذه الحقُّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في هذه السورة , قاله ابن عباس وأبو موسى. الثاني: في هذه الدنيا , قاله الحسن وقتادة. الثالث: في هذه الأنباء , حكاه ابن عيسى.

121

{وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} وفي هذا {الحق} وجهان: أحدهما: صدق القصص وصحة الأنباء وهذا تأويل من جعل المراد السورة. الثاني: النبوة , وهذا تأويل من جعل المراد الدنيا. {وموعظةُ} يحتمل وجهين: أحدهما: القرآن الذي هو وعظ الله تعالى لخلقه. الثاني: الاعتبار بأنباء من سلف من الأنبياء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (والسعيد من وعظ بغيره).

سورة يوسف مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة إلاّ أربع آيات منها. بسم الله الرحمن الرحيم

يوسف

{الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} قوله عزوجل: {الر تلك آيات الكتاب المبين} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أنها الآيات المتقدم ذكرها في السورة التي قبلها. الثاني: الآيات التي في هذه السورة , ويكون معنى قوله تعالى {تلك آيات الكتاب المبين} أي هذه آيات الكتاب المبين. الثالث: أن تلك الآيات إشارة إلى ما افتتحت به السورة من الحروف وأنها علامات الكتاب العربي , قاله ابن بحر. وفي قوله تعالى: {الكتاب المبين} ثلاثة تأويلات: أحدها: المبين حلاله وحرامه , قاله مجاهد. الثاني: المبين هداه ورشده , قاله قتادة. الثالث: المبين للحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف , قاله معاذ.

قوله عز وجل: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} فيه وجهان: أحدهما: إنا أنزلنا الكتاب قرآناً عربياً بلسان العرب , وهو قول الجمهور. الثاني: إنا أنزلنا خبر يوسف قرآناً , أي مجموعاً عربياً أي يعرب عن المعاني بفصيح من القصص وهو شاذ. {لعلكم تعقلون}. {نحن نقص عليك أحسن القصص} أي نبين لك أحسن البيان , والقاصّ الذي يأتي بالقصة على حقيقتها.

4

{إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} قوله عز وجل: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحَدَ عشر كوكباً والشمس والقمر} فيه قولان: أحدهما: أنه رأى إخوته وأبويه ساجدين له فثنى ذكرهم , وعنى بأحد عشر كوكباً إخوته وبالشمس أباه يعقوب , وبالقمر أمه راحيل رآهم له ساجدين , فعبر عنه بما ذكره , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له فتأول الكواكب إخوته , والشمس أباه , والقمر أمه , وهو قول الأكثرين. وقال ابن جريج: الشمس أمه والقمر أبوه , لتأنيث الشمس وتذكير القمر. وروى السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم

رجلٌ من اليهود يقال له بستانة فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رأها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها , فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجب بشيء , فنزل عليه جبريل بأسمائها قال فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وقال (أنت تؤمن إن أخبرتك بأسمائها) فقال نعم , فقال: (جريان , والطارق والذيال وذو الكتفين وقابس والوثّاب والعمودان والفليق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور) فقال اليهودي: بلى والله إنها لأسماؤها. وفي إعادة قوله {رأيتهم لي ساجدين} وجهان: أحدهما: تأكيداً للأول لبعد ما بينهما قاله الزجاج. الثاني: أن الأول رؤيته لهم والثاني رؤيته لسجودهم. وفي قوله {ساجدين} وجهان: أحدهما: أنه السجود المعهود في الصلاة إعظاماً لا عبادة. الثاني: أنه رآهم خاضعين فجعل خضوعهم سجوداً , كقول الشاعر: ( ... ... ... ... ... ترى الأكم فيه سُجّداً للحوافر)

5

{قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين} وقيل إنه كان له عند هذه الرؤيا سبع عشرة سنة , قال ابن عباس: رأى هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر , فلما قصها على يعقوب أشفق عليه من حسد

إخوته فقال: يا بني هذه رؤيا الليل فلا يعول عليها , فلما خلا به {قا يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين}. وفي تسميته بيوسف قولان: أحدهما: أنه اسم أعجمي. الثاني: أنه عربي مشتق من الأسف , والأسف في اللغة الحزن.

6

{وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم} قوله عز وجل: {وكذلك يجتبيك ربك} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بحسن الخَلق والخُلق. الثاني: بترك الإنتقام. الثالث: بالنبوة , قاله الحسن. {ويعلمك من تأويل الأحاديث} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: عبارة الرؤيا , قاله مجاهد. الثاني: العلم والحكمة , قاله ابن زيد. الثالث: عواقب الأمور , ومنه قول الشاعر: (وللأحبة أيام تذكّرُها ... وللنوى قبل يوم البيْن تأويل) {ويتم نعمته عليك} فيه وجهان: أحدهما: باختيارك للنبوة. الثاني: بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك , قال مقاتل. وفيه وجه ثالث: أن أخرج إخوته إليه حتى أنعم عليهم بعد إساءتهم إليه. {وعلى آل يعقوب} بأن جعل فيهم النبوة.

{كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق} قال عكرمة: فنعمته على إبراهيم أن أنجاه من النار , وعلى إسحاق أن أنجاه من الذبح.

7

{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين} قوله عز وجل: {لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين} في هذه الآيات وجهان: أحدهما: أنها عِبَرٌ للمعتبرين. الثاني: زواجر للمتقين. وفيها من يوسف وإخوته أربعة أقاويل: أحدها: ما أظهره الله تعالى فيه من عواقب البغي عليه. الثاني: صدق رؤياه وصحة تأويله. الثالث: ضبط نفسه وقهر شهوته حتى سلم من المعصية وقام بحق الأمانة. الرابع: الفرج بعد شدة الإياس. قال ابن عطاء: ما سمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها. قوله عز وجل: {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا مِنّا} وأخوه بنيامين وهما أخوان لأب وأم , وكان يعقوب قد كلف بهما لموت أمهما وزاد في المراعاة لهما , فذلك سبب حسدهم لهما , وكان شديد الحب ليوسف , فكان الحسد له أكثر , ثم رأى الرؤيا فصار الحسد له أشد.

{ونحن عصبة} وفي العصبة أربعة أقاويل: أحدها: أنها ستة أو سبعة , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنها من عشرة إلى خمسة عشر , قاله مجاهد. الثالث: من عشرة إلى أربعين , قاله قتادة الرابع: الجماعة , قاله عبد الرحمن بن زيد. {إن أبانا لفي ضلال مبين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لفي خطأ من رأيه , قال ابن زيد. الثاني: لفي جور من فعله , قال ابن كامل. الثالث: لفي محبة ظاهرة , حكاه ابن جرير. وإنما جعلوه في ضلال مبين لثلاثة أوجه: أحدها: لأنه فضّل الصغير على الكبير. الثاني: القليل على الكثير. الثالث: من لا يراعي ما له على من يراعيه. واختلف فيهم هل كانوا حينئذ بالغين؟ فذهب قوم إلى أنهم كانوا بالغين مؤمنين ولم يكونوا أنبياء بعد لأنهم قالوا {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} وهذه

حالة لا تكون إلا من بالغ , وقال آخرون: بل كانوا غير بالغين لأنهم قالوا {أرسله معنا غداً نرتع ونلعب} وإنما استغفروه بعد البلوغ. قوله عز وجل: {اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً} فيه وجهان: أحدهما: اطرحوه أرضاً لتأكله السباع. الثاني: ليبعد عن أبيه. {يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين} فيه وجهان: أحدهما: أنهم أرادوا صلاح الدنيا لا صلاح الدين , قاله الحسن. الثاني: أنهم أرادوا صلاح الدين بالتوبة , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: أنهم أرادوا صلاح الأحوال بتسوية أبيهم بينهم من غير أثرة ولا تفضيل. وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. قوله عز وجل: {قال قائلٌ منهم لا تقتلوا يوسف} اختلف في قائل هذا منهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه روبيل وهو أكبر إخوة يوسف وابن خالته , قاله قتادة. الثاني: أنه شمعون , قاله مجاهد. الثالث: أنه يهوذا , قال السدي. {وألقُوه في غيابة الجُبِّ} فيه وجهان: أحدهما: يعني قعر الجب وأسفله. الثاني: ظلمه الجب التي تغيّب عن الأبصار ما فيها , قاله الكلبي. فكان رأس الجب ضيقاً وأسفله واسعاً. أحدهما: لأنه يغيب فيه خبره. وفي تسميته {غيابة الجب} وجهان: الثاني: لأنه يغيب فيه أثره , قال ابن أحمر:

(ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالثٍ ... إلى ذاك ما قد غيبتني غيابيا) وفي {الجب} قولان: أحدهما: أنه اسم بئر في بيت المقدس , قاله قتادة. الثاني: أنه بئر غير معينة , وإنما يختص بنوع من الآبار قال الأعشى: (لئن كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم) وفيما يسمى من الآبار جباً قولان: أحدهما: أنه ما عظم من الآبار سواء كان فيه ماء أو لم يكن. الثاني: أنه ما لا طيّ له من الآبار , قال الزجاج , وقال: سميت جبًّا لأنها قطعت من الأرض قطعاً ولم يحدث فيها غير القطع. {يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين} معنى يلتقطه يأخذه , ومنه اللقطة لأنها الضالة المأخوذة. وفي {السيارة} قولان: أحدهما: أنهم المسافرون سُموا بذلك لأنهم يسيرون. الثاني: أنهم مارة الطريق , قاله الضحاك.

11

{قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون} قوله عز وجل: {أرسله معنا غداً يرتع ويلعب} فيه خمسة أوجه: أحدها: نلهو ونلعب , قاله الضحاك. الثاني: نسعى وننشط , قاله قتادة. الثالث: نتحارس فيحفظ بعضنا بعضاً ونلهو , قاله مجاهد. الرابع: نرعى ونتصرف , قاله ابن زيد , ومنه قول الفرزدق. (راحت بمسلمة البغالُ مودعاً ... فارعي فزارة لا هناك المرتع)

الخامس: نطعم ونتنعم مأخوذ من الرتعة وهي سعة المطعم والمشرب , قاله ابن شجرة وأنشد قول الشاعر: (أكُفراً بعد رَدّ الموت عنّي ... وبعد عطائك المائة الرِّتاعا) أي الراتعة لكثرة المرعى. ولم ينكر عليهم يعقوب عليه السلام اللعب لأنهم عنوا به ما كان مباحاً.

13

{قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون} قوله عز وجل: {قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} فيه قولان: أحدهما: أنه قال ذلك لخوفه منهم عليه , وأنه أرادهم بالذئب , وخوفه إنما كان من قتلهم له فكنى عنهم بالذئب مسايرة لهم , قال ابن عباس فسماهم ذئاباً. والقول الثاني: ما خافهم عليه , ولو خافهم ما أرسله معهم , وإنما خاف الذئب لأنه أغلب ما يخاف منه من الصحارى. وقال الكلبي: بل رأى في منامه أن الذئب شَدّ على يوسف فلذلك خافه عليه.

15

{فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} {وأوحينا إليه} فيه وجهان:

أحدهما: يعني وألهمناه , كما قال تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7]. الثاني: أن الله تعالى أوحى إليه وهو في الجب , قاله مجاهد وقتادة. {لتنبئنهم بأمرهم هذا} فيه وجهان: أحدهما: أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا , فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تبشيراً له بالسلامة. الثاني: أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به , فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذاراً له. {وهم لا يشعرون} فيه وجهان: أحدهما: لا يشعرون بأنه أخوهم يوسف , قاله قتادة وابن جريج. الثاني: لا يشعرون بوحي الله تعالى له بالنبوة , قاله ابن عباس ومجاهد.

16

{وجاؤوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} قوله عز وجل: {قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق} وهو نفتعل من السباق وفيه أربعة أوجه: أحدها: معناه ننتصل , من السباق في الرمي , قاله الزجاج. الثاني: أنهم أرادوا السبق بالسعي على أقدامهم. الثالث: أنهم عنوا استباقهم في العمل الذي تشاغلوا به من الرعي والاحتطاب. الرابع: أي نتصيد وأنهم يستبقون على اقتناص الصيد. {وتركنا يوسف عند متاعنا} يحتمل أن يعنوا بتركه عند متاعهم إظهار الشفقة عليه , ويحتمل أن يعنوا حفظ رحالهم.

{فأكله الذئب} لما سمعوا أباهم يقول: وأخاف أن يأكله الذئب أخذوا ذلك من فيه وتحرّموا به لأنه كان أظهر المخاوف عليه. {وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق لنا. {ولو كنا صادقين} فيه وجهان: أحدهما: أنه لم يكن ذلك منهم تشكيكاً لأبيهم في صدقهم وإنما عنوا: ولو كنا أهل صدق ما صدقتنا , قاله ابن جرير. الثاني: معناه وإن كنا قد صدقنا , قاله ابن إسحاق. قوله عزوجل: {وجاءُوا على قميصه بدمٍ كذب} قال مجاهد: كان دم سخلة. وقال قتادة: كان دم ظبية. قال الحسن: لما جاءُوا بقميص يوسف فلم ير يعقوب فيه شقاً قال: يا بني والله ما عهدت الذئب حليماً أيأكل ابني ويبقي على قميصه. ومعنى قوله {بدم كذب} أي مكذوب فيه , ولكن وصفه بالمصدر فصار تقديره بدم ذي كذب. وقرأ الحسن {بدم كذب} بالدال غير معجمة , ومعناه بدم متغير قاله الشعبي. وفي القميص ثلاث آيات: حين جاءُوا عليه بدم كذب , وحين قُدَّ قميصه من دُبر , وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيراً. {قال بل سوَّلت لكن أنفسكم أمراً} فيه وجهان: أحدهما: بل أمرتكم أنفسكم , قاله ابن عباس. الثاني: بل زينت لكم أنفسكم أمراً , قاله قتادة. وفي ردّ يعقوب عليهم وتكذيبه لهم ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان ذلك بوحي من الله تعالى إليه بعد فعلهم.

الثاني: أنه كان عنده علم بذلك قديم أطلعه الله عليه. الثالث: أنه قال ذلك حدساً بصائب رأيه وصدق ظنه. قال ترضيه لنفسه {فصبر جميل} فاحتمل ما أمر به نفسه من الصبر وجهين: أحدهما: الصبر على مقابلتهم على فعلهم فيكون هذا الصبر عفواً عن مؤاخذتهم. الثاني: أنه أمر نفسه بالصبر على ما ابتُلي به من فقد يوسف. وفي قوله: {فصبرٌ جميل} وجهان: أحدهما: أنه بمعنى أن من الجميل أن أصبر. الثاني: أنه أمر نفسه بصبر جميل. وفي الصبر الجميل وجهان: أحدهما: أنه الصبر الذي لا جزع فيه قاله مجاهد. الثاني: أنه الصبر الذي لا شكوى فيه. روى حباب بن أبي حبلة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {فصبر جميل} فقال: (صبر لا شكوى فيه , ومن بث لم يصبر). {والله المستعان على ما تصفون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: والله المستعان على الصبر الجميل. الثاني: والله المستعان على احتمال ما تصفون. الثالث: يعني على ما تكذبون , قاله قتادة. قال محمد بن إسحاق: ابتلى الله يعقوب في كبره , ويوسف في صغره لينظر كيف عزمهما.

19

{وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين}

قوله عز وجل: {وجاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم} وهو الذي يرد أمامهم الماء ليستقي لهم. وذكر أصحاب التواريخ أنه مالك بن ذعر بن حجر بن يكه بن لخم. {فأدلى دلوه} أي أرسلها ليملأها , يقال أدلاها إذا أرسل الدلو ليملأها , ودلاّها إذا أخرجها ملأى. قال قتادة: فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو حين أرسلت. والبئر ببيت المقدس معروف مكانها. {قال يا بشرى هذا غلام} فيه قولان: أحدهما: أنه ناداهم بالبشرى يبشرهم بغلام , قاله قتادة. الثاني: أنه نادى أحدهم , كان اسمه بشرى فناداه باسمه يعلمه بالغلام , قاله السدي. {وأسرُّوه بضاعة} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن إخوة يوسف كانوا بقرب الجب فلما رأوا الوارد قد أخرجه قالوا هذا عبدنا قد أوثقناه فباعوه وأسرّوا بيعه بثمن جعلوه بضاعة لهم , قاله ابن عباس. الثاني: أن الواردين إلى الجُب أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم ليكون بضاعة لهم كيلا يشركوهم فيه لرخصه وتواصوا أنه بضاعة استبضعوها من أهل الماء , قاله مجاهد. الثالث: أن الذين شروه أسرُّوا بيعه على الملك حتى لا يعلم به أصحابهم وذكروا أنه بضاعة لهم. وحكى جويبر عن الضحاك أنه ألقيَ في الجب وهو ابن ست سنين , وبقي فيه إلى أن أخرجته السيارة منه ثلاثة أيام. وقال الكلبي: ألقي فيه وهو ابن سبع عشرة سنة.

قوله عزوجل: {وشروه بثمن بخسٍ} معنى شروه أي باعوه , ومنه قول ابن مفرغ الحميري. (وشريت برداً ليتني ... من بعدِ بُرْدٍ كنت هامه) واسم البيع والشراء يطلق على كل واحد من البائع والمشتري لأن كل واحد منهما بائع لما في يده مشتر لما في يد صاحبه. وفي بائعه قولان: أحدهما: أنهم إخوته باعوه على السيارة حين أخرجوه من الجب فادّعوه عبداً , قاله ابن عباس والضحاك ومجاهد. الثاني: أن السيارة باعوه عن ملك مصر , قاله الحسن وقتادة. {بثمن بخس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن البخس ها هنا الحرام , قاله الضحاك , قال ابن عطاء: لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها فكان ثمنه وإن جَلّ بخساً , وما هو وإن باعه أعداؤه بأعجب منك في بيع نفسك بشهوةٍ ساعةٍ من معاصيك. الثاني: أنه الظلم , قاله قتادة. الثالث: أنه القليل , قاله مجاهد والشعبي. {دراهم معدودة} اختلف في قدرها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه بيع بعشرين درهماً اقتسموها وكانوا عشرة فأخذ كل واحد منهم درهمين , قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة وعطية والسدي. الثاني: باثنين وعشرين درهماً , كانوا أحد عشر فأخذ كل واحد درهمين , قاله مجاهد. الثالث بأربعين

درهما , قاله عكرمة وابن إسحاق. وكان السدي يقول: اشتروا بها خفافاً ونِعالاً. وفي قوله تعالى {دراهم معدودة} وجهان: أحدهما: معدودة غير موزونة لزهدهم فيه. الثاني: لأنها كانت أقل من أربعين درهماً , وكانوا لا يَزِنُون أقل من أربعين درهماً , لأن أقل الوزن عندهم كان الأوقية , والأوقية أربعون درهماً. {وكانوا فيه من الزاهدين} وفي المعنيّ بهم قولان: أحدهما: أنهم إخوة يوسف كانوا فيه من الزاهدين حين صنعوا به ما صنعوا. الثاني: أن السيارة كانوا فيه من الزاهدين حين باعوه بما باعوه به. وفي زهدهم فيه وجهان: أحدهما: لعلمهم بأنه حرٌّ لا يبتاع. الثاني: أنه كان عندهم عبداً فخافوا أن يظهر عليه مالكوه فيأخذوه. وفيه وجه ثالث: أنهم كانوا في ثمنه من الزاهدين لاختبارهم له وعلمهم بفضله , وقال عكرمة أعتق يوسف حين بيع.

21

{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} قوله عزو جل: {وقال الذي اشتراه من مصر} وهو العزيز ملكها واسمه إظفير بن رويجب. {لامرأته} واسمها راعيل بنت رعاييل , على ما ذرك ابن اسحاق. وقال ابن عباس: اسمه قطفير وكان على خزائن مصر , وكان الملك يومئذ الوليد بن الرّيان من العماليق. قال مقاتل: وكان البائع له للملك مالك بن ذعر بعشرين ديناراً وزاده حُلة ونعلين. {أكرمي مثواه} فيه وجهان: أحدهما: أجملي منزلته.

الثاني: أجلي منزلته , قال كثير: (أريد ثواءً عندها وأظُنُّها ... إذا ما أطَلْنا عندها المكث ملَّت) وإكرام مثواه بطيب طعامه ولين لباسه وتوطئة مبيته. {عسى أن ينفعنا} قيل: في ثمنه إن بعناه. ويحتمل: ينفعنا في الخدمة والنيابة. {أو نتخذه ولداً} إن أعتقناه وتبنيناه. قال عبد الله بن مسعود: أحسن الناس في فراسة ثلاثة: العزيز في يوسف حين قال لامرأته {أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا} وابنة شعيب في موسى حين قالت لأبيها {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] وأبو بكر حين استخلف عمر. {وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: بإخراجه من الجب. الثاني: باستخلاف الملك له. {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} قد ذكرنا في تأويله وجهين. {والله غالبٌ على أمره} فيه وجهان: أحدهما: غالب على أمر يوسف حتى يبلغ فيه ما أراده له , قاله مقاتل. الثاني: غالب على أمر نفسه فيما يريده , أن يقول له كن فيكون. قوله عز وجل: {ولما بلغ أشدَّه} يعني منتهى شدته وقوة شبابه. وأما الأشدُّ ففيه ستة أقاويل:

أحدها: ببلوغ الحلم , قاله الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم. الثاني: ثماني عشرة سنة , قاله سعيد بن جبير. الثالث: عشرون سنة , قاله ابن عباس والضحاك. الرابع: خمس وعشرون سنة , قاله عكرمة. الخامس: ثلاثون سنة , قاله السدي. السادس: ثلاث وثلاثون سنة. قاله الحسن ومجاهد وقتادة. هذا أول الأشد , وفي آخر الأشد قولان: أحدهما: أنه أربعون سنة , قاله الحسن. الثاني: أنه ستون سنة , حكاه ابن جرير الطبري , وقال سُحَيْم بن وثيل الرياحي: (أخو خمسين مجتمع أشُدّي ... وتجذّني مداورة الشئون) وفي المراد ببلوغ الأشد في يوسف قولان: أحدهما: عشرون سنة , قاله الضحاك. الثاني: ثلاثون سنة , وهو قول مجاهد. {آتيناه حكماً وعلماً} في هذا الحكم الذي آتاه خمسة أوجه: أحدها: العقل , قاله مجاهد. الثاني: الحكم على الناس. الثالث: الحكمة في أفعاله. الرابع: القرآن , قاله سفيان. الخامس: النبوة , قاله السدي. وفي هذا العلم الذي آتاه وجهان: أحدهما: الفقه , قاله مجاهد. الثاني: النبوة , قاله ابن أبي نجيح. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أنه العلم بتأويل الرؤيا.

{وكذلك نجزي المحسنين} فيه وجهان: أحدهما: المطيعين. الثاني: المهتدين , قاله ابن عباس. والفرق بين الحكيم والعالم أن الحكيم هو العامل بعلمه , والعالم هو المقتصر على العلم دون العمل.

23

{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} وهي راعيل امرأة العزيز إظفير. قال الضحاك: وكان اسمها زليخا. قال محمد بن إسحاق: وكان إظفير فيما يحكى لنا رجلاً لا يأتي النساء وكانت امرأته حسناء , وكان يوسف عليه السلام قد أُعطي من الحسن ما لم يعطه أحد قبله ولا بعده كما لم يكن في النساء مثل حواء حسناً. قال ابن عباس: اقتسم يوسف وحواء الحسن نصفين. فراودته امرأة العزيز عن نفسه استدعاء له إلى نفسها. {وغلقت الأبواب} فيه وجهان: أحدهما: بتكثير الأغلاق. الثاني: بكثرة الإيثاق. {وقالت هيت لك} فيه وجهان: أحدهما: معناه تهيأت لك , قاله عكرمة وأبو عبد الرحمن السلمي , وهذا تأويل من قرأ بكسر الهاء وترك الهمز , وقال الشاعر: (قد رابني أن الكرى أسكتا ... لو كان معنياً بها لهيتا)

الثاني: هلم لك , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة: وأنشد أبو عمرو بن العلاء: (أبلغ أمير المؤمنين أخا ... العراق إذا أتيتا) (أن العراق وأهله ... عنق إليك , فهيت هيتا) وهذا تأويل من قرأ هيت لك بفتح الهاء وهي أصح وأفصح , قال طرفة بن العبد: (ليس قومي بالأبعدين إذا ما ... قال داع من العشيرة: هيتا) ثم اختلف قائلو هذا التأويل في الكلمة فحكى عطية عن ابن عباس أن {هيت لك} كلمة بالقبطية معناها هلم لك , وقال مجاهد بل هي كلمة عربية هذا معناها وقال الحسن: هي كلمة سريانية. {قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي} أي أعوذ بالله. وفي {إنه ربي أحسن مثواي} وجهان: أحدهما: إن الله ربي أحسن مثواي فلا أعصيه , قاله الزجاج. الثاني: أنه أراد العزيز إظفير إنه ربي أي سيدي أحسن مثواي فلا أخونه. قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي.

24

{ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} قوله عز وجل: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى بُرهان ربه} أما همها به ففيه قولان: أحدهما: أنه كان هَمَّ شهوة. الثاني: أنها استلقت له وتهيأت لمواقعته. وأما همّه بها ففيه ستة أقاويل:

أحدها: أنه همّ بها أن يضربها حين راودته عن نفسه ولم يهم بمواقعتها قاله بعض المتأخرين. الثاني: أن قوله ولقد همت به كلام تام قد انتهى , ثم ابتدأ الخبر عن يوسف فقال {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} ومعنى الكلام لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها , قاله قطرب. الثالث: أن همها كان شهوة , وهمه كان عفة. الرابع: أن همه بها لم يكن عزماً وإرادة وإنما كان تمثيلاً بين الفعل والترك , ولا حرج في حديث النفس إذا لم يقترن به عزم ولا فعل , وأصل الهم حديث النفس حتى يظهر فيصير فعلاً , ومنه قول جميل: (هممت بهمِّ من بثينة لو بدا ... شفيت غليلات الهوى من فؤاديا) الخامس: أنه همه كان حركة الطباع التي في قلوب الرجال من شهوة النساء وإن كان قاهراً له وهو معنى قول الحسن. السادس: أنه هم بمواقعتها وعزم عليه. قال ابن عباس: وحل الهميان

يعني السراويل وجلس بين رجليها مجلس الرجل من المرأة , وهو قول جمهور المفسرين. فإن قيل: فكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا الفعل وهو نبي الله عز وجل؟ قيل: هي منه معصية , وفي معاصي الأنبياء ثلاثة أوجه: أحدها: أن كل نبي ابتلاه الله بخطيئة إنما ابتلاء ليكون من الله تعالى على وجل إذا ذكرها فيجدّ في طاعته إشفاقاً منها ولا يتكل على سعة عفوه ورحمته. الثاني: أن الله تعالى ابتلاهم بذلك ليعرفهم موقع نعمته عليهم بصفحه عنهم وترك عقوبتهم في الآخرة على معصيتهم. الثالث: أنه ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك الإياس في عفوه عنهم إذا تابوا. وفي قوله تعالى {لولا أن رأى برهان ربه} ستة أقاويل: أحدها: أن برهان ربه الذي رآه أن نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة , قال ابن عباس: نودي اي ابن يعقوب تزني فيكون مثلك مثل طائر سقط ريشه فذهب يطير فلم يستطع. الثاني: أنه رأى صورة يعقوب وهو يقول: يا يوسف أتهمُّ بفعل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء؟ فخرجت شهوته من أنامله , قاله قتادة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير.

قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكراً إلا يوسف فلم يولد له إلا غلامان ونقص بتلك الشهوة ولده. الثالث: أن البرهان الذي رآه ما أوعد الله تعالى على الزنى , قال محمد بن كعب القرظي: رأى كتاباً على الحائط: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء: 32]. الرابع: أن البرهان الذي رآه. الملك إظفير سيده , قاله ابن إسحاق. الخامس: أن البرهان الذي رآه هو ما آتاه الله تعالى من آداب آبائه في العفاف والصيانة وتجنب الفساد والخيانة , قاله ابن بحر. السادس: أن البرهان الذي رآه أنه لما همت به وهم بها رأى ستراً فقال لها: ما وراء هذه الستر؟ فقالت: صنمي الذي أعبده أستره استحياء منه. فقال: إذا استحيت مما لا يسمع ولا يبصر فأنا أحق أن أستحي من إلهي وأتوقاه , قاله الضحاك. {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} فيها وجهان: أحدهما: أن السوء الشهوة , والفحشاء المباشرة. الثاني: أن السوء عقوبة الملك العزيز. والفحشاء مواقعة الزنى. {إنه من عبادنا المخلصين} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المخلصين بكسر اللام , وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله تعالى. وقرأ الباقون بفتح اللام , وتأويلها الذين أخلصهم الله برسالته , وقد كان يوسف عليه السلام بهاتين الصفتين لأنه كان مخلصاً في طاعة الله تعالى , مستخلصاً لرسالة الله.

25

{واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين} قوله عز وجل: {واستبقا الباب} أي أسرعا إليه , أما يوسف فأسرع إليه هرباً , وأما امرأة العزيز فأسرعت إليه طلباً. {وقَدت قميصه من دبر} لأنها أدركته وقد فتح بعض الأغلاق فجذبته من ورائه فشقت قميصه إلى ساقه , قال ابن عباس: وسقط عنه وتبعته. {وألفيا سيدها لَدى الباب} أي وجدا زوجها عند الباب. قال أبو صالح: والسيد هو الزوج بلسان القبط. {قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاّ أن يسجن أو عذابٌ أليمٌ} هذا قولها لزوجها لتدفع الريبة عن نفسها بإلقائها على يوسف , ولو صدق حبها لم تفعل ذلك به ولآثرته على نفسها , ولكنها شهوة نزعت ومحبة لم تصف. وذلك أنه لما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر بالتكذيب عليه , ولو خلص من الشهوة لطلبت دفع الضرر عنه بالصدق. {قال هي راودتني عن نفسي} لأنها لما برأت نفسها بالكذب عليه احتاج أن يبرىء نفسه بالصدق عليها , ولو كفت عن الكذب عليه لكف عن الصدق عليها. {وشهد شاهد من أهلها} لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى

شاهد يعلم به صدق الصادق منهما من الكاذب , فشهد شاهد من أهلها , أي حكم حاكم من أهلها لأنه حكم منه وليس شهادة. وفيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه صبي أنطقه الله تعالى في مهده , قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير والضحاك. الثاني: أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنس ولا جن , قاله مجاهد. الثالث: أنه رجل حكيم من أهلها , قاله قتادة. قال السدي وكان ابن عمها. الرابع: أنه عنى شهادة القميص المقدود , قاله مجاهد أيضاً. {إن كان قميصُه قد مِن قُبل فصدقت وهو من الكاذبين} {وإن كان قميصه قد من دُبر فكذبت وهو من الصادقين} لأن الرجل إذا طلب المرأة كان مقبلاً عليها فيكون شق قميصه من قبله دليلاً على طلبه. وإذا هرب من المرأة كان مدبراً عنها فيكون شق قميصه من دبره دليلاً على هربه. وهذه إحدى الآيات الثلاث في قميصه: إن كان قُدَّ من دبر فكان فيه دليل على صدقه , وحين جاءوا على قميصه بدم كذب , وحين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيراً. {فلما رأى قميصه قُدَّ من دُبُرٍ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} علم بذلك صدق يوسف فصدّقه وقال إنه من كيدكن. وفي الكيد هما وجهان: أحدهما: يعني به كذبها عليه.

الثاني: أنه أراد السوء الذي دعته إليه. وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: أنه الزوج , قاله محمد بن إسحاق. الثاني: أنه الشاهد , حكاه علي بن عيسى. قوله عزوجل: {يوسف أعرض عن هذا} فيه وجهان: أحدهما: أعرض عن هذا الأمر , قال قتادة: على وجه التسلية له في ارتفاع الإثم. الثاني: أعرض عن هذا القول , قاله ابن زيد على وجه التصديق له في البراءة من الذنب. {واستغفري لذنبك} هذا قول الملك لزوجه وهو القائل ليوسف أعرض عن هذا. وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيوراً فلذلك كان ساكتاً. الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفى بادرته وحلم عنها فأمرها بالاستغفار من ذنبها توبة منه وإقلاعاً عنه. {إنك كنت من الخاطئين} يعني من المذنبين , يقال لمن قصد الذنب خَطِىءَ , ولمن لم يقصده أخطأ , وكذلك في الصوب والصواب , قال الشاعر: (لعمرك إنما خطئي وصوبي ... عليّ وإنما أهلكت مالي) وقال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات لتغليب المذكر على المؤنث.

30

{وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل

ماء آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم} قوله تعالى: {وقال نسوة في المدينة} قال جويبر: كن أربعاً: امرأة الحاجب وامرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة القهرمان. قال مقاتل: وامرأة صاحب السجن وفي هذه المدينة قولان: أحدهما: مصر. الثاني: عين شمس. {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} قلن ذلك ذماً لها وطعناً فيها وتحقيقاً لبراءة يوسف وإنكاراً لذنبه. والعزيز اسم الملك مأخوذ من عزته , ومنه قول أبى داؤد: (درة غاص عليها تاجر ... جلبت عند عزيز يوم طل) {قد شغفها حبّاً} أي قد دخل حبه من شغاف قلبها. وفي شغاف القلب خمسة أقاويل: أحدها: أنه حجاب القلب , قاله ابن عباس. الثاني: أنه غلاف القلب وهو جلدة رقيقة بيضاء تكون على القلب وربما سميت لباس القلب , قاله السدي وسفيان. الثالث: أنه باطن القلب , قاله الحسن , وقيل هو حبة القلب. الرابع: أنه ما يكون في الجوف , قاله الأصمعي. الخامس: هو الذعر والفزع الحادث عن شدة الحب , قاله إبراهيم. وقد قرىء في الشواذ عن ابن محيصن: قد شعفها حباً (بالعين غير معجمة) واختلف في الفرق بينهما على قولين:

أحدهما: أن الشغف بالغين معجمة هو الجنون وبالعين غير معجمة هو الحب , قاله الشعبي. والثاني: أن الشغف بالإعجام الحب القاتل , والشعف بغير إعجام دونه , قاله ابن عباس وقال أبو ذؤيب: (فلا وجْدَ إلا دُون وجْدٍ وجَدته ... أصاب شغافَ القلب والقلبُ يشغف) {إنا لنراها في ضلال مبين} فيه وجهان: أحدهما: في ضلال عن الرشد وعدول عن الحق. الثاني: معناه في محبة شديدة. ولما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر عن نفسها بالكذب عليه , ولو خلص من الشهوة طلبت دفع الضرر عنه بالصدق على نفسها. قوله عز وجل: {فلما سمعت بمكرهن} فيه وجهان: أحدهما: أنه ذمهن لها وإنكارهن عليها. الثاني: أنها أسرت إليهن بحبها له فأشعْن ذلك عنها. {أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ} وفي {أعتدت} وجهان: أحدهما: أنه من الإعداد. الثاني: أنه من العدوان. وفي (المُتْكَأ) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المجلس , قاله ابن عباس والحسن. والثاني: أنه النمارق والوسائد يتكأ عليها , قاله أبو عبيدة والسدي. الثالث: أنه الطعام مأخوذ من قول العرب اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده , وأصله أن من دعي إلى طعام أُعد له متكأ فسمي الطعام بذلك متكأ على الاستعارة. فعلى هذا أي الطعام هو؟ فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه الزُّماورد , قاله الضحاك وابن زيد.

الثاني: أنه الأترج , قاله ابن عباس ومجاهد وهو وتأويل من قرأها مخففة غير مهموزة , والمتْك في كلامهم الأترج , قال الشاعر: (نشرب الإثم بالصُّواع جهارا ... وترى المتك بيننا متسعارا) والإثم: الخمر , والمتك: الأترج. الثالث: أنه كل ما يجز بالسكين وهو قول عكرمة لأنه في الغالب يؤكل على متكأ. الرابع: أنه كل الطعام والشراب على عمومه , وهو قول سعيد بن جبير وقتادة. {وآتت كلَّ واحدة منهن سكيناً وقالت اخرج عليهن} وإنما دفعت ذلك إليهن في الظاهر معونة على الأكل , وفي الباطن ليظهر من دهشتهن ما يكون شاهداً عليهن. قال الزجاج: كان كالعبد لها فلم تمكنه أن يخرج إلا بأمرها. {فلما رأينه أكبرنه} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه أعظمنه , قاله ابن عباس. الثاني: معناه وجدن شأنه في الحسن والجمال كبيراً , قال ابن بحر. الثالث: معناه: حضن عند رؤيته , وهو قول رواه عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس. وقيل: إن المرأة إذا جزعت أو خافت حاضت , وقد يسمى الحيض إكباراً , قال الشاعر: (نأتي النساء على أطهارهن ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً)

) {وقطعن أيديهن} دهشاً ليكون شاهداً عليهن على ما أضمرته امرأة العزيز فيهن. وفي قطع أيديهن وجهان: أحدهما: أنهن قطعن أيديهن حتى بانت. الثاني: أنهن جرحن أيديهن حتى دميت , من قولهم قطع فلان يده إذا جرحها. {وقلن حاش لله} بالألف في قراءة أبي عمرو ونافع في رواية الأصمعي وقرأ الباقون حاش لله بإسقاط الألف , ومعناهما واحد. وفي تأويل ذلك وجهان: أحدهما: معاذ الله , قاله مجاهد. الثاني: معناه سبحان الله , قاله ابن شجرة. وفي أصله وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من قولهم كنت في حشا فلا أي في ناحيته. والثاني: أنه مأخوذ من قولهم حاش فلاناً أى اعزله في حشا يعني في ناحية. {ما هذا بشراً} فيه وجهان: أحدهما: ما هذا أهلاً للمباشرة. الثاني: ما هذا من جملة البشر. وفيه وجهان: أحدهما: لما علمهن من عفته وأنه لو كان من البشر لأطاعها. الثاني: لما شاهدن من حسنه البارع وجماله البديع {إن هذا إلا ملك كريم} وقرىء ما هذا بشراً (بكسر الباء والشين) أى ما هذا عبداً مشترى إن هذا إلا ملك كريم , مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيماً لشأنه. قوله عزوجل {قال رب السجن أحب إلىَّ مما يدعونني إليه} وهذا يدل على أنها دعته إلى نفسها ثانية بعد ظهور حالهما , فقال: {رب السجن أحب إلىَّ} يعني

الحبس في السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه أراد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة وكنى عنها بخطاب الجمع إما تعظيماً لشأنها في الخطاب وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض. الثاني: أنه أراد بذلك جماعة النسوة اللاتي قطعن أيديهن حين شاهدنه لاستحسانهن له واستمالتهن لقلبه. {وإِلاَّ تصرف عني كيدهن} يحتمل وجهين: أحدهما: ما دعي إليه من الفاحشة إذا أضيف ذلك إلى امرأة العزيز. الثاني: استمالة قلبه إذا أضيف ذلك إلى النسوة. {أصْبُ إِليهن} فيه وجهان: أحدهما: أتابعهن , قاله قتادة. الثاني: أمل إليهن , ومنه قول الشاعر: (إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي)

35

{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} في الآيات التي رأوها وجهان: أحدهما: قدُّ القميص وحز الأيدي. الثاني: ما ظهر لهم من عفته وجماله حتى قلن {ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم}. {ليسجننه حتى حين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحين ها هنا ستة أشهر , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنه سبع سنين , قاله عكرمة.

الثالث: أنه زمان غير محدود , قاله كثير من المفسرين. وسبب حبسه بعد ظهور صِدْقه ما حكى السدي أن المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني وقال إني راودته عن نفسه , فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه مثل ما حبستني , فحبسه.

36

{ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} قوله عز وجل: {ودخَلَ معه السجن فتيان} قال ابن عباس: كان أحدهما خازن الملك على طعامه , وكان الآخر ساقي الملك على شرابه , وكان الملك وهو الملك الأكبر الوليد بن الرّيان قد اتهمهما بسمّه فحبسهما , فحكى مجاهد أنهما قالا ليوسف لما حُبسا معه: والله لقد أحببناك حين رأيناك , فقال يوسف: أنشدكما بالله أن أحببتماني فما أحبّني أحد إلا دخل عليّ من حبه

بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي العزيز فدخل عليّ من حبها بلاء، لا أريد أن يحبني إلا ربي. وقال {فتيان} لأنهما كان عبدين , والعبد يسمى فتى صغيراً كان أم كبيراً. {قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحملُ فوق رأسي خُبزاً تأكل الطير منه} وسبب قولهما ذلك ما حكاه ابن جرير الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال: إني أعبر الرؤيا , فسألاه عن رؤياهما وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها قال مجاهد وابن إسحاق: وكذلك صدق تأويلها. روى محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً). الثاني: أنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجربة , فلما أجابهما قالا: إنما كنا نلعب فقال {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} وهذا معنى قول ابن مسعود والسدي. الثالث: أن المصلوب منهما كان كاذباً , والآخر صادقاً , قاله أبو مجلز. وقوله {إني أراني أعصر خمراً} أي عنباً. وفي تسميته خمراً وجهان: أحدهما: لأن عصيره يصير خمراً فعبر عنه بما يؤول إليه. الثاني: أن أهل عُمان يسمون العنب خمراً , قال الضحاك. وقرأ ابن مسعود: إني أراني أعصر عنباً. {نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنهم وصفوه بذلك لأنه كان يعود مريضهم ويعزي حزينهم ويوسع على من ضاق مكانه منهم , قاله الضحاك. الثاني: معناه لأنه كان يأمرهم بالصبر ويعدهم بالثواب والأجر.

الثالث: إنا نراك ممن أحسن العلم. حكاه ابن جرير الطبري. الرابع: أنه كان لا يرد عذر معتذر. الخامس: أنه كان يقضي حق غيره ولا يقضي حق نفسه. السادس: إنا نراك من المحسنين إن أنبأتنا بتأويل رؤيانا هذه , قاله ابن إسحاق.

37

{قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} قوله عز وجل {قَال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة قاله السدي. الثاني: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يصلكما لأنه كان يخبر بما غاب مثل عيسى , قاله الحسن. الثالث: أن الملك كان من عادته إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً معروفاً وأرسل به إليه , فكره يوسف تعبير رؤيا السوء قبل الإياس من صاحبها لئلا يخوفه بها فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه , فلما ألحّ عليه عبرها , لئلا يخوفه بها فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه , فلما ألحَّ عليه عبرها , قاله ابن جريج. وكذلك روى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رأى رؤيا فلا يقصها إلا على حبيب أو لبيب).

{ذلكما مما علمنى ربي} يعني تأويل الرؤيا. {إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون}. وإنما عدل عن تأويل ما سألاه عنه لما كان فيها من الكرامة , وأخبر بترك ملة قوم لا يؤمنون تنبيهاً لهم على ثبوته وحثاً لهم على طاعة الله. قوله عز وجل: {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس} قال ابن عباس: من فضل الله علينا أن جعلنا أنبياء , وعلى الناس أن بعثنا إليهم رسلاً. ويحتمل وجهاً آخر ذلك من فضل الله علينا في أن برأنا من الزنى , وعلى الناس من أن خلصهم من مأثم القذف.

39

{يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل: {ذلك الدين القيم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ذلك الدين المستقيم , قاله السدي. الثاني: الحساب البيّن , قاله مقاتل بن حيان. الثالث: يعني القضاء الحق , قاله ابن عباس.

41

{يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}

قوله عز وجل: {يا صاحبي السجين أما أحدكما فيسقي ربه خمراً} وهو الذي قال: إني أراني أعصر خمراً , بشره بالنجاة وعوده إلى سقي سيده خمراً لأنه كان ساقيه. {وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه} وهو الذي قال {إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه} فأنذره بالهلكة وكان خباز الملك , قال ابن جرير: وكان اسمه مجلثاً , واسم الساقي نبواً. فلما سمع الهالك منهما تأويل رؤياه قال: إنما كنا نلعب. قال {قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان} فيه وجهان: أحدهما: قضي السؤال والجواب. الثاني: سيقضى تأويله ويقع. فإن قيل: فكيف قطع بتأويل الرؤيا وهو عنده ظن من طريق الاجتهاد الذي لا يقطع فيه؟ ففيه وجهان: أحدهما: يجوز أن يكون قاله عن وحي من الله تعالى. الثاني: لأنه نبي يقطع بتحقيق ما أنطقه الله تعالى وأجراه على لسانه , بخلاف من ليس بنبي.

42

{وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين} قوله عز وجل: {وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك} فيه قولان: أحدهما: يعني للذي علم أنه ناج , فعبر عن العلم بالظن , قاله ابن شجرة. الثاني: أنه ظن ذلك من غير يقين. وفي ظنه وجهان: أحدهما: لأن عبارة الرؤيا بالظن فلذلك لم يقطع به , قاله قتادة. الثاني: أنه لم يتيقن صدقهما في الرؤيا فكان الظن في الجواب لشكه في صدقهما.

{اذكرني عند ربك} أي عند سيدك يعني الملك الأكبر الوليد بن الريان تأميلاً للخلاص إن ذكره عنده. {فأنساه الشيطان ذكر ربِّه} فيه قولان: أحدهما: أن الذي نجا منهما أنساه الشيطان ذكر يوسف عند سيده حتى رأى الملك الرؤيا قاله محمد بن إسحاق. الثاني: أن يوسف أنساه الشياطن ذكر ربه في الاستغاثة به والتعويل عليه. روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث). {فلبث في السِّجن بضع سنين} قال ابن عباس: عوقب يوسف بطول السجن بضع سنين لما قال للذي نجا منهما اذكرني عند ربك , ولو ذكر يوسف ربه لخلصه. وفي (البضع) أربعة أقاويل: أحدها: من ثلاث إلى سبع , وهذا قول أبي بكر الصديق وقطرب. الثاني: من ثلاث إلى تسع , قاله مجاهد والأصمعي. الثالث: من ثلاث إلى عشر , قاله ابن عباس. الرابع: ما بين الثلاث إلى الخمس , حكاه الزجاج. قال الفراء: والبِضع لا يذكر إلا مع العشرة والعشرين إلى التسعين , ولا يذكر بعد المائة. وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجوناً ثلاثة أقاويل: أحدها: سبع سنين , قاله ابن جريج وقتادة. الثاني: أنه لبث اثنتي عشرة سنة , قاله ابن عباس. الثالث: لبث أربعة عشرة سنة , قاله الضحاك , وإنما البضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله.

وقال وهب: حبس يوسف سبع سنين , ومكث أيوب في البلاء سبع سنين. قال الكلبي: حبس سبع سنين بعد الخمس السنين التي قال فيها {اذكرني عند ربك}.

43

{وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} قوله عز وجل: {وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمان ... } الآية. وهذه الرؤيا رآها الملك الأكبر الوليد بن الريان وفيها لطف من وجهين: أحدهما: أنها كانت سبباً لخلاص يوسف من سجنه. الثاني: أنها كانت نذيراً بجدب أخذوا أهبته وأعدوا له عدته. {يا أيها الملأ افتوني في رؤياي} وذلك أن الملك لما لم يعلم تأويل رؤياه نادى بها في قومه ليسمع بها من يكون عنده عِلْمٌ بتأويلها فيعبرها له. قوله عز وجل: {قالوا أضغاث أحلام} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني أخلاط أحلام , قاله معمر وقتادة.

الثاني: ألوان أحلام , قاله الحسن. الثالث: أهاويل أحلام قاله مجاهد. الرابع: أكاذيب أحلام , قاله الضحاك. وفيه خامس: شبهة أحلام , قاله ابن عباس. قال أبو عبيدة: الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا , ومنه قول الشاعر: 89 (كضغث حلم عُزَّ منه حالمُه.} 9 وروى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب). وفي تقارب الزمان وجهان: أحدهما: أنه استواء الليل والنهار لأنه وقت اعتدال تنفتق فيه الأنوار وتطلع فيه الثمار فكان أصدق الزمان في تعبير الرؤيا. الثاني: أنه آخر الزمان وعند انتهاء أمده. والأضغاث جمع واحده ضغث والضغث الحزمة من الحشيش المجموع بعضه إلى بعض وقيل هو ملء الكف , ومنه قوله تعالى: {خذ بيدك ضغثاً} وقال ابن مقبل. (خَوْذٌ كَأَنَّ فِرَاشَهَا وُضِعَتْ بِهِ ... أَضْغَاثُ رَيْحَانٍ غَدَاةَ شَمَالِ) والأحلام جمع حُلم , والحُلم الرؤيا في النوم , وأصله الأناة , ومنه الحلم ضد الطيش فقيل لما يرى في النوم حلم لأنها حال أناة وسكون. {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين} فدل ذلك على أنه ليس التأويل الأول مما تؤؤل به الرؤيا هو الحق المحكوم به لأن يوسف عرفهم تأويلها بالحق , وإنما قال يوسف للغلامين {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} لأنه منه نذير نبوة. ويجوز أن يكون

الله تعالى صرف هؤلاء عن تفسير هذه الرؤيا لطفاً بيوسف ليتذكر الذي نجا منهما حاله فتدعوهم الحاجة إليه فتكون سبباً لخلاصه. قوله عز وجل: {وقال الذي نجا منهما وادّكر بَعْدَ أمة} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني بعد حين , قاله ابن عباس. الثاني: بعد نسيان , قاله عكرمة. الثالث: بعد أمة من الناس , قاله الحسن. قال الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة , وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة وجمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة. وقرىء {وادّكر بعد أمَةٍ} بفتح الألف وتخفيف الميم , والأمه: بالتخفيف النسيان. {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} أي أخبركم بمن عنده علم بتأويله ثم لم يذكره لهم. قال ابن عباس: لم يكن السجن بالمدينة فانطلق إلى يوسف حين أذن له وذلك بعد أربع سنين بعد فراقه. قوله عز وجل: {يوسف أيها الصديق أفتنا} احتمل تسميته بالصديق وجهين: أحدهما: لصدقه في تأويل رؤياهما. الثاني: لعلمه بنبوته. والفرق بين الصادق والصديق أن الصادق في قوله بلسانه , والصديق من تجاوز صدقه لسانه إلى صدق أفعاله في موافقة حاله لا يختلف سره وجهره , فصار كل صدّيق صادقاً وليس كل صادق صدّيقاً. {أفتنا في سبع بقرات سمان} قال قتادة: هي السنون المخصبات. {يأكلهن سبع عجافٌ} قال قتادة: هي السنون المجدبات. {وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات} والخضر الخصب لأن الأرض بنباتها

خضراء , واليابسات هي الجدب لأنّ الأرض فيه يابسة , كما أن ماشية الخصب سمان , وماشية الجدب عجاف. {لعلي أرجع إلى الناس} أي لكي أرجع إلى الناس وهو الملك وقومه , ويحتمل أن يريد الملك وحده فعبر عنه بالناس تعظيماً له. {ولعلهم يعلمون} لأنه طمع أن يعلموا وأشفق أن لا يعلموا , فلذلك قال {لعلهم يعلمون} يعني تأويلها. ولم يكن ذلك منه شكاً في علم يوسف. لأنه قد وقر في نفسه علمه وصدقه , ولكن تخوف أحد أمرين إما أن تكون الرؤيا كاذبةً , وإما ألاّ يصدقوا تأويلها لكراهتهم له فيتأخر الأمر إلى وقت العيان. قوله عز وجل: {قال تزرعون سبع سنين دأباً} فيه وجهان: أحدهما: يعني تباعاً متوالية. الثاني: يعني العادة المألوفة في الزراعة. {فما حصدتم فذروه في سُنْبُلهِ إلا قليلاً مما تأكلون} يعني فيخرج من سنبله لأن ما في السنبل مدخر لا يؤكل , وهذا القول منه أمر , والأول خبر , ويجوز لكونه نبياً أن يأمر بالمصالح , ويجوز أن يكون القول الأول أيضاً أمراً وإن كان الأظهر منه أنه خبر. قوله عز وجل: {ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد} يعني المجدبات لشدتها على أهلها. وحكى زيد بن أسلم عن أبيه أن يوسف كان يصنع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه ويدع نصفه , حتى إذا كان يوماً قربه له فأكله كله , فقال يوسف: هذا أول يوم السبع الشداد. {يأكلن ما قدمتم لهن} يعني تأكلون فيهن ما ادخرتموه لهن. {إلا قليلاً مما تحصنون} فيه وجهان: أحدهما: مما تدخرون , قاله قتادة. الثاني: مما تخزنون في الحصون. ويحتمل وجهاً ثالثاً: إلا قليلاً مما تبذرون لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات.

قوله عز وجل: {ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس} فيه وجهان: أحدهما: يغاثون بنزول الغيث , قاله ابن عباس. الثاني: يغاثون بالخصب , حكاه ابن عيسى. {وفيه يعصرون} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعصرون العنب والزيتون من خصب الثمار , قاله مجاهد وقتادة. الثاني: أي فيه يجلبون المواشي من خصب المراعي , قاله ابن عباس. الثالث: يعصرون السحاب بنزول الغيث وكثرة المطر , من قوله تعالى {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجاً} [النبأ: 14]. قاله عيسى بن عمر الثقفي. الرابع: تنجون , مأخوذ من العُصْرة وهي المنجاة , قاله أبو عبيدة والزجاج , ومنه قول الشاعر: (صادياً يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عُصْرَة المنجود) الخامس: تحسنون وتفضلون , ومنه قول الشاعر: (لو كان في أملاكنا ملك ... يعصر فينا مثل ما تعصر) أي يحسن: وهذا القول من يوسف غير متعلق بتأويل الرؤيا وإنما هو استئناف خبر أطلقه الله تعالى عليه من آيات نبوته.

50

{وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} قوله عز وجل: {وقال الملك ائتوني به} يعني يوسف عليه السلام.

{فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك} يعني الملك. {فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} وإنما توقف عن الخروج مع طول حبسه ليظهر للملك عذره قبل حضوره فلا يراه مذنباً ولا خائناً. فروى أبو الزناد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يرحم الله يوسف إنه كان ذا أناةٍ لو كنت أنا المحبوس ثم أُرسل لخرجت سريعاً). وفي سؤاله عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز ثلاثة أوجه: أحدها: أن في سؤاله عنها ظنَّةً ربما صار بها متهماً. والثاني: صيانة لها لأنها زوج الملك فلم يتبذلها بالذكر. الثالث: أنه أرادهن دونها لأنهن الشاهدات له عليها. {إن ربي بكيدهن عليم} فيه وجهان: أحدهما: معناه إن الله بكيدهن عليم. الثاني: أن سيدي الذي هو العزيز بكيدهن عليم. قوله عز وجل: {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} فهذا سؤال الملك قد تضمن تنزيه يوسف لما تخيله من صدقه لطفاً من الله تعالى به حتى لا تسرع واحدة منهن إلى التكذب عليه. وفي قوله: {راودتن} وإن كانت المراودة من إحداهن وجهان: أحدهما: أن المراودة كانت من امرأة العزيز وحدها فجمعهن في الخطاب وإن توجه إليها دونهن احتشاماً لها. الثاني: أن المراودة كانت من كل واحدة منهن. {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوءٍ} فشهدن له بالبراءة من السوء على علمهن لأنها شهادة على نفي , ولو كانت شهادتهن على إثبات لشهدن قطعاً، وهكذا

حكم الله تعالى في الشهادات أن تكون على العلم في النفي , وعلى القطع في الإثبات. {قالت امرأة العزيز الآنَ حصحص الحق} معناه الآن تبين الحق ووضح , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. وأصله مأخوذ من قولهم حَصّ شعره إذا استأصل قطعه فظهرت مواضعه ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. فمعنى حصحص الحق أي انقطع عن الباطل بظهوره وبيانه. وفيه زيادة تضعيف دل عليها الاشتقاق مثل قوله: (كبوا , وكبكبوا) قاله الزجاج. وقال الشاعر: (ألا مبلغ عني خداشاً فإنه ... كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم) {أنا راودته عن نفسه , وإنه لمن الصادقين} وهذا القول منها وإن لم تسأل عنه إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف ونزاهته لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه , فجمع الله تعالى ليوسف في إظهار صدقه الشهادة والإقرار حتى لا يخامر نفساً ظن ولا يخالجها شك. قوله عز وجل: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قول امرأة العزيز عطفاً على ما تقدم , ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب , يعني الآن في غيبه بالكذب عليه وإضافة السوء إليه لأن الله لا يهدي كيد الخائنين , حكاه ابن عيسى. الثاني: أنه قول يوسف بعد أن علم بظهور صدقه , وذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب عنه في زوجته , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي. {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} معناه وأن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.

53

{وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور

رحيم وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} قوله عز وجل: {وما أبرىء نفسي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قول العزيز أي وما أبرىء نفسي من سوء الظن بيوسف. {إنَّ النفس لأمارة بالسوء} يحتمل وجهين: أحدهما: الأمارة بسوء الظن. الثاني: بالاتهام عند الارتياب. {إلا ما رحم ربي} يحتمل وجهين: أحدهما: إلاَّ ما رحم ربي إن كفاه سوء الظن. الثاني: أن يثنيه حتى لا يعمل. فهذا تأويل من زعم أنه قول العزيز. الوجه الثاني: أنه قول امرأة العزيز وما أبرىء نفسي إن كنت راودت يوسف عن نفسه لأن النفس باعثة على السوء إذا غلبت الشهوة عليها. {إلا ما رحم ربي} يحتمل وجهين: أحدهما: إلا ما رحم ربي من نزع شهوته منه. الثاني: إلا ما رحم ربي في قهره لشهوة نفسه , فهذا تأويل من زعم أنه من قول امرأة العزيز. الوجه الثاني: أنه من قول يوسف , واختلف قائلو هذا في سببه على أربعة أقاويل: أحدها: أن يوسف لما قال {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قالت امرأة العزيز: ولا حين حللت السراويل؟ فقال: وما أبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء، قاله السدي.

الثاني: أن يوسف لما قال ذلك غمزه جبريل عليه السلام فقال: ولا حين هممت؟ فقال {وما أُبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء} قاله ابن عباس. الثالث: أن الملك الذي مع يوسف قال له: اذكر ما هممت به , فقال: {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء} قاله قتادة. الرابع: أن يوسف لما قال {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال {وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} قاله الحسن. ويحتمل قوله {لأمارة بالسوء} وجهين: أحدهما: يعني أنها مائلة إلى الهوى بالأمر بالسوء. الثاني: أنها تستثقل من عزائم الأمور ما إن لم يصادف حزماً أفضت إلى السوء. قوله عز وجل: {وقال الملك ائتوني به اسْتخلصه لنفسي} وهذا قول الملك الأكبر لما علم أمانة يوسف اختاره ليستخلصه لنفسه في خاص خدمته. {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} لأنه استدل بكلامه على عقله , وبعصمته على أمانته فقال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وهذه منزلة العاقل العفيف. وفي قوله {مكين} وجهان: أحدهما: وجيه , قاله مقاتل. الثاني: متمكن في المنزلة الرفيعة. وفي قوله {أمين} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بمعنى آمن لا تخاف العواقب , قاله ابن شجرة. الثاني: أنه بمعنى مأمون ثقة , قاله ابن عيسى. الثالث: حافظ , قاله مقاتل. قوله عز وجل: {قال اجعلني على خزائن الأرض} أي على خزائن أرضك , وفيها قولان:

أحدهما: هو قول بعض المتعمقة أن الخزائن ها هنا الرجال , لأن الأفعال والأقوال مخزونة فيهم فصاروا خزائن لها. الثاني: وهو قول أصحاب الظاهر أنها خزائن الأموال , وفيها قولان: أحدهما: أنه سأله جميع الخزائن , قاله ابن زيد. الثاني: أنه سأله خزائن الطعام , قاله شيبة بن نعامة الضبي. وفي هذا دليل على جواز أن يخطب الإنسان عملاً يكون له أهلاً وهو بحقوقه وشروطه قائم. فيما حكى ابن سيرين عن أبي هريرة قال: نزعني عمر بن الخطاب عن عمل البحرين ثم دعاني إليها فأبيت , فقال: لم؟ وقد سأل يوسف العمل. فإن كان المولي ظالماً فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما: جوازها إن عمل بالحق فيما تقلده , لأن يوسف عليه السلام ولي من قبل فرعون , ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني: لا يجوز ذلك له لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم وتزكيتهم بتنفيذ أعمالهم.

وأجاب من ذهب إلى هذا القول عن ولايته من قبل فرعون بجوابين: أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحاً , وإنما الطاغي فرعون موسى. الثاني: أنه نظر له في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه. والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات فيجوز توليته من جهة الظالمين لأن النص على متسحقيه قد أغنى عن الاجتهاد فيه , وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التنفيذ. والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الإجتهاد في مصرفه كأموال الفيء فلا يجوز توليته من جهة الظالم لأنه يتصرف بغير حقٍ ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام , فعقد التقليد فيه محلول , فإن كان النظر تننفيذاً لحكم بين متراضيين أو توسطاً بين مجبورين جاز , وإن كان إلزام إجبار لم يجز. {إني حفيظ عليم} فيه أربعة تأويلات: أحدها: حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني , قاله ابن زيد. الثاني: حفيظ بالكتاب , عليم بالحساب , حكاه ابن سراقة , وأنه أول من كتب في القراطيس. الثالث: حفيظ بالحساب , عليم بالألسن , قاله الأشجع عن سفيان. الرابع: حفيظ لما وليتني , قاله قتادة , عليم بسني المجاعة , قاله شيبة الضبي.

وفي هذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل , وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات ولكن مخصوص فيما اقترن بوصلة أو تعلق بظاهر من مكسب وممنوع منه فيما سواه لما فيه من تزكية ومراءاة , ولو تنزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله , فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله ولما يرجوه من الظفر بأهله.

56

{وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} قوله عز وجل: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} قال ابن جرير الطبري: استخلصه الملك الأكبر الوليد بن الريان على عمل إظفير وعزله. قال مجاهد: وأسلم على يده. قال ابن عباس: ملك بعد سنة ونصف. فروى مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن يوسف قال: إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ذلك). ثم مات إظفير فزوّجه الملك بامرأة إظفير راعيل , فدخل بها يوسف فوجدها عذراء وولدت له ولدين أفرائيم ومنشا ابني يوسف. ومن زعم أنها زليخا قال لم يتزوجها يوسف وأنها لما رأته في موكبه بكت , ثم قالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بالمعصية , وجعل العبيد بالطاعة ملوكاً , فضمها إليه فكانت في عياله حتى ماتت عنده ولم يتزوجها. {يتبوَّأ منها حيث يشاء} فيه وجهان:

أحدهما: يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء , قاله سعيد بن جبير. الثاني: يصنع في الدنيا ما يشاء لتفويض الأمر إليه , قاله عبد الرحمن بن زيد. {نصيب برحمتنا من نشاء} يعني في الدنيا بالرحمة والنعمة. {ولا نضيع أجر المحسنين} يعني في الآخرة بالجزاء. ومنهم من حملها على الدنيا , ومنهم من حملها على الآخرة , والأصح ما قدمناه. واختلف فيما أوتيه من هذا الحال على قولين: أحدهما: ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه. الثاني: أنه أنعم بذلك عليه تفضلاً منه , وثوابه باقٍ على حاله في الآخرة. قوله عز وجل {ولأجر الآخرة خيرٌ للذين آمنوا وكانوا يتقون} فيه وجهان: أحدهما: ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا من أجر الدنيا , لأن أجر الآخرة دائم , وأجر الدنيا منقطع. الثاني: ولأجر الآخرة خير ليوسف من التشاغل بملك الدنيا ونعيمها لما فيه من التبعة.

58

{وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون} قوله عز وجل: {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه} الآية. قال ابن إسحاق والسدي: وإنما جاءُوا ليمتاروا من مصر في سني القحط التي ذكرها يوسف في تفسير الرؤيا , ودخلوا على يوسف لأنه كان هو الذي يتولى بيع الطعام لعزته. {فعرفهم} فيه وجهان: أحدهما: أنه عرفهم حين دخلوا عليه من غير تعريف , قاله ابن عباس.

الثاني: ما عرفهم حتى تعرفوا إليه فعرفهم , قاله الحسن. وقيل بل عرفهم بلسانهم العبراني حين تكلموا به. قال ابن عباس: إنما سميت عبرانية لأن إبراهيم عليه السلام عبر بهم فلسطين فنزل من وراء نهر الأردن فسمّوا العبرانية. {وهم له منكرون} لأنه فارقوه صغيراً فكبر , وفقيراً فاستغنى , وباعوه عبداً فصار ملكاً , فلذلك أنكروه , ولم يتعرف إليهم ليعرفوه. قوله عز وجل: {ولمّا جهزهم بجهازهم} وذلك أنه كال لهم الطعام , قال ابن إسحاق: وحمل لكل رجل منهم بعيراً بعدَّتهم. {قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم} قال قتادة: يعني بنيامين وكان أخا يوسف لأبيه وأمه. قال السدي: أدخلهم الدار وقال: قد استربت بكم تنكر عليهم فأخبروني من أنتم فإني أخاف أن تكونوا عيوناً , فذكروا حال أبيهم وحالهم وحال يوسف وحال أخيه وتخلفه مع أبيه , فقال: إن كنتم صادقين فائتوني بهذا الأخ الذي لكم من أبيكم , وأظهر لهم أنه يريد أن يستبرىء به أحوالهم. وقيل: بل وصفوا له أنه أحَبُّ إلى أبيهم منهم , فأظهر لهم محبة رؤيته. {ألا تروْن أني أوفي الكيلَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أرخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل. الثاني: أنه كال لهم بمكيال واف. {وأنا خير المنزلين} فيه وجهان: أحدهما: يعني خير المضيفين , قاله مجاهد. الثاني: وهو محتمل , خير من نزلتم عليه من المأمونين. فهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام , وعلى التأويل الثاني مأخوذ من المنزل وهو الدار.

قوله عز وجل: {فإن لم تأتوني به فلا كيْل لكم عندي} يعني فيما بعد لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال. {ولا تقربون} أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب. ولم يُرد أن يبعدوا منه ولا يعودوا إليه لأنه على العود حثهم. قال السدي: وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا , فارتهن شمعون عنده. قال الكلبي: إنما اختار شمعون منهم لأنه يوم الجُبّ كان أجملهم قولاً وأحسنهم رأياً. قوله عز وجل: {قالوا سَنُرَاوِدُ عنه أباه} والمراودة الاجتهاد في الطلب , مأخوذ من الإرادة. {وَإِنَّا لَفَاعِلُون} فيه وجهان: أحدهما: وإنا لفاعلون مراودة أبيه وطلبه منه. الثاني: وإنا لفاعلون للعود إليه بأخيهم , قاله ابن إسحاق. فإن قيل: كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه؟ قيل عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: يجوز أن يكون الله عز وجل أمره بذلك ابتلاء ليعقوب ليُعظم له الثواب فاتّبع أمره فيه. الثاني: يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف. الثالث: لتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه. والرابع: ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته لميله إليه. قوله عز وجل: {وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم} قرأ حمزة والكسائي وحفص {لفتيانه} وفيهم قولان: أحدهما: أنهم غلمانه , قاله قتادة. الثاني: أنهم الذين كالوا لهم الطعام , قاله السدي.

وفي بضاعتهم قولان: أحدهما: أنها وَرِقهم التي ابتاعوا الطعام بها. الثاني: أنها كانت ثمانية جُرُب فيها سويق المقل , قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: نبه الله تعالى برد بضاعتهم إليهم على أن أعمال العباد تعود إليهم فيما يثابون إليه من الطاعات ويعاقبون عليه من المعاصي. {لعلهم يعرفونها} أي ليعرفوها. {وإذا انقلبوا إلى أهلهم} يعني رجعوا إلى أهلهم , ومنه قوله تعالى {فانقلبوا بنعمة من الله} [آل عمران: 174]. {لعلهم يرجعون} أي ليرجعوا. فإن قيل: فلم فعل ذلك يوسف؟ قيل: يحتمل أوجهاً خمسة: أحدها: ترغيباً لهم ليرجعوا , على ما صرّح به. الثاني: أنه علم منهم لا يستحلّون إمساكها , وأنهم يرجعون لتعريفها. الثالث: ليعلموا أنه لم يكن طلبه لعودهم طمعاً في أموالهم. الرابع: أنه خشي أن لا يكون عند أبيه غيرها للقحط الذي نزل به. الخامس: أنه تحرج أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن قوتهم مع شدة حاجتهم.

63

{فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين} قوله عز وجل: {فلمّا رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكيل} واختلفوا في نزلهم الذي رجعوا إليه إلى أبيهم على قولين: أحدهما: بالعربات من أرض فلسطين.

الثاني: بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من حمس , وكان صاحب بادية له شاءٌ وإبل. {قالوا يا أبانا منع منا الكيل} أي سيمنع منا الكيل إن عدنا بغير أخينا لأن ملك مصر ألزمنا به وطلبه منا إما ليراه أو ليعرف صدقنا منه. {فأرسل معنا أخانا نكتَل} أي إن أرسلته معنا أمكننا أن نعود إليه ونكتال منه. {وإنا له لحافظون} ترغيباً له في إرساله معهم. فلم يثق بذلك منهم لما كان منهم في يوسف. {قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} لأنهم ضمنوا له حفظ يوسف فأضاعوه , فلم يثق بهم فيما ضمنوه. {فالله خير حافظاً} قرأ حمزة والكسائي وحفص {حافظاً} يعني منكم لأخيكم. {وهو أرحم الراحمين} يحتمل وجهين: أحدهما: أرحم الراحمين في حفظ ما استودع. والثاني: أرحم الراحمين فيما يرى من حزني.

65

{ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل} قوله عز وجل: {ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدَّتْ إليهم} أي وجدوا التي كانت بضاعتهم وهو ما دفعوه في ثمن الطعام الذي امتاروه. {قالوا يا أبانا ما نبغي} فيه وجهان:

أحدهما: أنه على وجه الاستفهام بمعنى ما نبغي بعد هذا الذي قد عاملنا به , قاله قتادة. الثاني: معناه ما نبغي بالكذب فيما أخبرناك به عن الملك , حكاه ابن عيسى. {هذه بضاعتنا ردت إلينا} احتمل أن يكون قولهم ذلك له تعريفاً واحتمل أن يكون ترغيباً , وهو أظهر الاحتمالين. {ونمير أهلنا} أي نأتيهم بالميرة , وهي الطعام المقتات , ومنه قول الشاعر: (بعثتك مائراً فمكثت حولاً ... متى يأتي غياثك من تغيث.) {ونمير أهلنا} هذا ترغيب محض ليعقوب. {ونحفظ أخانا} وهذا استنزال. {ونزداد كيل بعير} وهو ترغيب وفيه وجهان: أحدهما: كيل البعير نحمل عليه أخانا. والثاني: كيل بعير هو نصيب أخينا لأن يوسف قسّط الطعام بين الناس فلا يعطى الواحد أكثر من حمل بعير. {ذلك كَيْلٌ يسير} فيه وجهان: أحدهما: أن الذي جئناك به كيل يسير لا ينفعنا. والثاني: أن ما نريده يسير على من يكيل لنا , قاله الحسن. فيكون على الوجه الأول استعطافاً , وعلى الثاني تسهيلاً. وفي هذا القول منهم وفاءٌ , ليوسف فيما بذلوه من مراودة في اجتذاب أخيهم لأنهم قد راودوه من سائر جهات المراودة ترغيباً واستنزالاً واستعطافاً وتسهيلاً. قوله تعالى: {قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله} في هذا الموثق ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إشهادهم الله على أنفسهم. الثاني: أنه حلفهم بالله , قاله السدي.

الثالث: أنه كفيل يتكفل بهم {لتأتنني به إلاَّ أن يحاط بكم} فيه وجهان: أحدهما: يعني إلا أن يهلك جميعكم , قاله مجاهد. الثاني: إلا أن تُغلَبوا على أمركم , قاله قتادة.

67

{وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل: {وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد ... } يعني لا تدخلوا مصر من باب واحد , وفيه وجهان: أحدها: يعني من باب واحد من أبوابها. {وادخلوا من أبواب متفرقة} , قاله الجمهور. الثاني: من طريق واحد من طرقها {وادخلوا من أبواب متفرقة} أي طرق , قاله السدي. وفيما خاف عليهم أن يدخلوا من باب واحد قولان: أحدهما: أنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي صور وجمال , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أنه خاف عليهم الملك أن يرى عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسداً أو حذراً , قاله بعض المتأخرين. {وما أغني عنكم من الله من شيءٍ} أي من أي شيء أحذره عليكم فأشار عليهم في الأول , وفوض إلى الله في الآخر.

قوله عز وجل: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيءٍ} أي لا يرد حذر المخلوق قضاءَ الخالق. {إلاَّ حاجة في نفس يعقوب قضاها} وهو حذر المشفق وسكون نفس بالوصية أن يتفرقوا خشية العين. {وإنه لذو علم لما علمناه} فيه ثلاثة أوجه. أحدها: إنه لعامل بما علم , قاله قتادة. الثاني: لمتيقن بوعدنا , وهو معنى قول الضحاك. الثالث: إنه لحافظ لوصيتنا , وهو معنى قول الكلبي.

69

{ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {ولما دخلوا على يوسف أوى إليه أخاه} قال قتادة: ضمّهُ إليه وأنزله معه. {قال إني أنا أخوك} فيه وجهان: أحدهما: أنه أخبره أنه يوسف أخوه , قاله ابن إسحاق. الثاني: أنه قال له: أنا أخوك مكان أخيك الهالك , قاله وهب. {فلا تبتئس بما كانوا يعملون} فيه وجهان: أحدهما: فلا تأسف , قاله ابن بحر. الثاني: فلا تحزن بما كانوا يعملون. وفيه وجهان: أحدهما: بما فعلوه في الماضي بك وبأخيك. الثاني: باستبدادهم دونك بمال أبيك.

70

{فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} قوله عز وجل: {فلما جهزهم بجهازهم} وهو كيل الطعام لهم بعد إكرامهم وإعطائه بعيراً لأخيهم مثل ما أعطاهم. {جعل السقاية في رحل أخيه} والسقاية والصواع واحد. قال ابن عباس. وكل شيء يشرب فيه فهو صواع , قال الشاعر: (نشرب الخمر بالصواع جهاراً ... وترى المتك بيننا مستعارا) قال قتادة: وكان إناء المتك الذي يشرب فيه. واختلف في جنسه , فقال عكرمة كان من فضة , وقال عبد الرحمن بن زيد: كان من ذهب , وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم. وقال السدي: هو المكوك العادي الذي يلتقي طرفاه. {ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون} أي نادى مناد فسمى النداء أذاناً لأنه إعلام كالأذان. وفي {العير} وجهان: أحدهما: أنها الرفقة. الثاني: أنها الإبل المرحولة المركوبة , قاله أبو عبيدة. فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه لسرقهم وهم برآء , وهذه معصية؟ قيل عن هذه أربعة أجوبة: أحدها: أنها معصية فعلها الكيال ولم يأمر بها يوسف.

الثاني: أن المنادي الذي كال حين فقد السقاية ظن أنهم سرقوها ولم يعلم بما فعله يوسف , فلم يكن عاصياً. الثالث: أن النداء كان بأمر يوسف , وعنى بذلك سرقتهم ليوسف من أبيه , وذلك صدق. الرابع: أنها كانت خطيئة من قبل يوسف فعاقبه الله عليها بأن قال القوم {إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل} يعنون يوسف. وذهب بعض من يقول بغوامض المعاني إلى أن معنى قوله {إنكم لسارقون} أي لعاقون لأبيكم في أمر أخيكم حيث أخذتموه منه وخنتموه فيه. قوله عز وجل: {قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون} لأنهم استنكروا ما قذفوا به مع ثقتهم بأنفسهم فاستفهموا استفهام المبهوت. {قالوا نفقد صواع الملك} والصواع واحد وحكى غالب الليثي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ صوغ الملك بالغين معجمة , مأخوذ من الصياغة لأنه مصوغ من فضة أو ذهب وقيل من نحاس. {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} وهذه جعالة بذلت للواجد. وفي حمل البعير وجهان: أحدهما: حمل جمل , وهو قول الجمهور. الثاني: حمل حمار , وهو لغة , قاله مجاهد. واختلف في هذا البذل على قولين: أحدهما: أن المنادي بذله عن نفسه لأنه قال {وأنا به زعيم} أي كفيل ضامن. فإن قيل: فكيف ضمن حمل بعير وهو مجهول , وضمان المجهول لا يصح؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أن حمل البعير قد كان عندهم معلوماً كالسوق فصح ضمانه.

الثاني: أنها جعالة وقد أجاز بعض الفقهاء فيها في الجهالة , ما لم يُجزْه في غيرها كما أجاز فيها ضمان ما لم يلزم , وإن منع منه في غيرها.

73

{قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم} قوله عز وجل: {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض} أي لنسرق , لأن السرقة من الفساد في الأرض. وإنما قالوا ذلك لهم لأنهم قد كانوا عرفوهم بالصلاح والعفاف. وقيل لأنهم ردّوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم , ومن يؤد الأمانة في غائب لا يقدم على سرقة مال حاضر. {وما كنا سارقين} يحتمل وجهين: أحدهما: ما كنا سارقين من غيركم فنسرق منكم. والثاني: ما كنا سارقين لأمانتكم فنسرق غير أمانتكم. وهذا أشبه لأنهم أضافوا بذلك إلى عملهم. قوله عز وجل: {قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين} أي ما عقوبة من سرق منكم إن كنتم كاذبين في أنكم لم تسرقوا منا. {قالوا جزاؤه مَن وُجِدَ في رحلِه فهو جزاؤه} أي جزاء من سرق إن يُسْترق. {كذلك نِجزي الظالمين} أي كذلك نفعل بالظالمين إذا سرقوا وكان هذا من دين يعقوب. {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاءِ أخيه} لتزول الريبة من قلوبهم لو بدىء بوعاء أخيه. {ثم استخرجها من وعاء أخيه} قيل عنى السقاية فلذلك أنّث , وقيل عنى الصاع , وهو يذكر ويؤنث في قول الزجاج.

{كذلك كدنا ليوسُف} فيه وجهان: أحدهما: صنعنا ليوسف قاله الضحاك. والثاني: دبّرنا ليوسف , قاله ابن عيسى. {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في سلطان الملك , قاله ابن عباس. والثاني: في قضاء الملك , قاله قتادة. والثالث: في عادة الملك , قال ابن عيسى: ولم يكن في دين الملك استرقاق من سرق. قال الضحاك: وإنما كان يضاعف عليه الغرم. {إلا أن يشاء الله} فيه وجهان: أحدهما: إلا أن يشاء الله أن يُسْتَرق من سرق. والثاني: إلا أن يشاء الله أن يجعل ليوسف عذراً فيما فعل.

77

{قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون} قوله عز وجل: {قالوا إن يسرق فقد سَرَق أخ له من قبلُ} يعنون يوسف. وفي هذا القول منهم وجهان: أحدهما: أنه عقوبة ليوسف أجراها الله تعالى على ألسنتهم , قاله عكرمة. والثاني: ليتبرأوا بذلك من فعله لأنه ليس من أمهم وأنه إن سرق فقد جذبه عِرق أخيه السارق لأن في الاشتراك في الأنساب تشاكلاً في الأخلاق. وفي السرقة التي نسبوا يوسف إليها خمسة أقاويل: أحدها: أنه سرق صنماً كان لجده إلى أمه من فضة وذهب , وكسره وألقاه في الطريق فعيّروه بذلك , قاله سعيد بن جبير وقتادة.

الثاني: كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق فخبأه , فعيّروه بذلك , قاله عطية العوفي. الثالث: أنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين , حكاه ابن عيسى. الرابع: أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق وإليها صارت منطقة إسحاق لأنها كانت في الكبير من ولده , وكانت تكفل يوسف , فلما أراد يعقوب أخذه منها جعلت المنطقة , واتهمته فأخذتها منه , فصارت في حكمهم أحق به , فكان ذلك منها لشدة ميلها وحبها له , قاله مجاهد. الخامس: أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه , قاله الحسن. {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} فيه وجهان: أحدهما: أنه أسر في نفسه قولهم {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} قاله ابن شجرة وعلي بن عيسى. الثاني: أسر في نفسه {أنتُمْ شَرٌّ مكاناً ... } الآية , قاله ابن عباس وابن إسحاق. وفي قوله: {قال أنتم شر مكاناً} وجهان: أحدهما: أنتم شر منزلة عند الله ممن نسبتموه إلى هذه السرقة. الثاني: أنتم شر صنعاً لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم. وفي قوله تعالى: {والله أعلم بما تصفون} تأويلان: أحدهما: بما تقولون , قاله مجاهد. الثاني: بما تكذبون , قاله قتادة. وحكى بعض المفسرين أنهم لما دخلوا عليه دعا بالصواع فنقره ثم أدناه من أذنه ثم قال: إن صواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً وأنكم انطلقتم بأخٍ لكم فبِعْتموه , فلما سمعها بنيامين قام وسجد ليوسف وقال أيها الملك سلْ صواعك هذا عن أخي أحيّ هو أم هالك؟ فنقره , ثم قال: هو حي وسوف تراه. قال: فاصنع بي ما شئت , فإنه إن علم بي سينقذني. قال: فدخل يوسف فبكى ثم توضأ وخرج , فقال بنيامين: افقر صواعك ليخبرك بالذي سرقه فجعله في رحلي، فنقره , فقال:

صواعي هذا غضبان وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت.

78

{قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون} قوله عز وجل: { ... يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً} لكن قالوا ذلك ترقيقاً واستعطافاً وفي قولهم {كبيراً} وجهان: أحدهما: كبير السن. الثاني: كبير القدر لأن كبر السن معروف من حال الشيخ. {فخذ أحدنا مكانه} أي عبْداً بدله. {إنا نراك من المحسنين} فيه وجهان: أحدهما: نراك من المحسنين في هذا إن فعلت , قاله ابن إسحاق. الثاني: نراك من المحسنين فيما كنت تفعله بنا من إكرامنا وتوفية كيلنا وبضاعتنا. ويحتمل ثالثاً: إنا نراك من العادلين , لأن العادل محسن. فأجابهم يوسف عن هذا {قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجَدْنا متاعنا عنده إنَّا إذًا لظالمون} إن أخذنا بريئاً بسقيم , وفيه وجه ثان: إنا إذاً لظالمون عندكم إذا حكمنا عليكم بغير حكم أبيكم أن من سرق استُرِقّ.

80

{فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى

أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون} قوله عز وجل: {فلما استيأسوا منه} أي يئسوا من رد أخيهم عليهم. الثاني: استيقنوا أنه لا يرد عليهم , قاله أبو عبيدة وأنشد قول الشاعر: (أقول لها بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم) {خلصوا نجيّاً} أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يختلط بهم غيرهم. {قال كبيرهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى كبيرهم في العقل والعلم وهو شمعون الذي كان قد ارتهن يوسف عنده حين رجع إخوته إلى أبيهم , قاله مجاهد. الثاني: أنه عنى كبيرهم في السن وهو روبيل ابن خالة يوسف , قاله قتادة. الثالث: أنه عنى كبيرهم في الرأي والتمييز وهو يهوذا , قاله مجاهد. {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله} يعني عند إيفاد ابنه هذا معكم. {ومن قبل ما فرَّطتم في يوسف} أي ضيعتموه. {فلن أبرح الأرض} يعني أرض مصر. {حتى يأذن لي أبي} يعني بالرجوع. {أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين} فيه قولان: أحدهما: يعني أو يقضي الله لي بالخروج منها , وهو قول الجمهور. الثاني: أو يحكم الله لي بالسيف والمحاربة لأنهم هموا بذلك , قاله أبو صالح. قوله عز وجل: {ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق} وقرأ ابن عباس

{سُرِق} بضم السين وكسر الراء وتشديدها. {وما شهدنا إلا بما علمنا} فيها وجهان: أحدهما: وما شهدنا عندك بأن ابنك سرق إلا بما علمنا من وجود السرقة في رحله , قاله ابن إسحاق. الثاني: وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يُسترقّ إلا بما علمنا من دينك , قاله ابن زيد. {وما كنا للغيب حافظين} فيه وجهان: أحدهما: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق , قاله قتادة. الثاني: ما كنا نعلم أن ابنك يسترقّ , وهو قول مجاهد. قوله عز وجل: {واسأل القرية التي كنا فيها} وهي مصر , والمعنى واسأل أهل القرية فحذف ذكر الأهل إيجازاً , لأن الحال تشهد به. {والعير التي أقبلنا فيها} وفي {العير} وجهان: أحدهما: أنها القافلة , وقافلة الإبل تسمى عيراً على التشبيه. الثاني: الحمير , قاله مجاهد , والمعنى أهل العير. وقيل فيه وجه ثالث: أنهم أرادوا من أبيهم يعقوب أن يسأل القرية وإن كانت جماداً , أو نفس العير وإن كانت حيواناً بهيماً لأنه نبي , والأنبياء قد سخر لهم الجماد والحيوان بما يحدث فيهم من المعرفة إعجازاً لأنبيائه , فأحالوه على سؤال القرية والعير ليكون أوضح برهاناً. {وإنا لصادقون} أي يستشهدون بصدْقنا أن ابنك سرق.

83

{قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتؤا

تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} قوله عز وجل: {قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً} فيه وجهان: أحدهما: بل سهلت. الثاني: بل زينت لكم أنفسكم أمراً في قولكم إن ابني سرق وهو لا يسرق , وإنما ذاك لأمر يريده الله تعالى. {فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} يعني يوسف وأخيه المأخوذ في السرقة وأخيه المتخلف معه فهم ثلاثة. {إنه هو العليم الحكيم} يعني العليم بأمركم , الحكيم في قضائه بما ذكرتم. قوله عز وجل: {وتولَّى عنهم وقال يا أسفَى على يوسف} فيه وجهان: أحدهما: معناه واجزعاه قاله مجاهد , ومنه قول كثير: (فيا أسفا للقلب كيف انصرافُه ... وللنفس لما سليت فتسلّتِ) الثاني: معناه يا جزعاه , قاله ابن عباس. قال حسان بن ثابت يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيا أسفا ما وارت الأرض واستوت ... عليه وما تحت السلام المنضد) وفي هذا القول وجهان: أحدهما: أنه أراد به الشكوى إلى الله تعالى ولم يرد به الشكوى منه رغباً إلى الله تعالى في كشف بلائه. الثاني: أنه أراد به الدعاء , وفيه قولان: أحدهما: مضمر وتقديره يا رب ارحم أسفي على يوسف. {وابيضت عَيْنَاه من الحزن} فيه قولان: أحدهما: أنه ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه.

الثاني: أنه ذهب بصره , قاله مجاهد. {فهو كظيم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الكمد , قاله الضحاك. الثاني: أنه الذي لا يتكلم , قاله ابن زيد. الثالث: أنه المقهور , قاله ابن عباس , قال الشاعر: (فإن أك كاظماً لمصاب شاسٍ ... فإني اليوم منطلق لساني) والرابع: أنه المخفي لحزنه , قاله مجاهد وقتادة , مأخوذ من كظم الغيظ وهو إخفاؤه , قال الشاعر: (فحضضت قومي واحتسبت قتالهم ... والقوم من خوفِ المنايا كظم) ) قوله عز وجل: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف} قال ابن عباس والحسن وقتادة معناه لا تزال تذكر يوسف , قال أوس بن حجر: (فما فتئت خيل تثوبُ وتدّعي ... ويلحق منها لاحق وتقطّعُ) أي فما زالت. وقال مجاهد: تفتأ بمعنى تفتر. {حتى تكون حرضاً} فيه ثلاثة تأويلات. أحدها: يعني هرماً , قاله الحسن. والثاني: دنفاً من المرض , وهو ما دون الموت , قاله ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه الفاسد العقل , قاله محمد بن إسحاق. وأصل الحرض فساد الجسم والعقل من مرض أو عشق , قال العرجي. (إني امرؤلجّ بي حُبٌّ فأحرضني ... حتى بَليتُ وحتى شفّني السقم) {أو تكون من الهالكين} يعني ميتاً من الميتين قاله الجميع.

فإن قيل: فكيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكاً متمكناً بمصر , وأبوه بحرّان من أرض الجزيرة؟ وهلاّ عجّل استدعاءه ولم يتعلل بشيء بعد شيء؟ قيل يحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن يكون فعل ذلك عن أمر الله تعالى , ابتلاء له لمصلحة علمها فيه لأنه نبيّ مأمور. الثاني: أنه بلي بالسجن , فأحب بعد فراقه أن يبلو نفسه بالصبر. الثالث: أن في مفاجأة السرور خطراً وأحب أن يروض نفسه بالتدريج. الرابع: لئلا يتصور الملك الأكبر فاقة أهله بتعجيل استدعائهم حين ملك. قوله عز وجل: {قال إنما أشكو بَثِّي وحزني إلى الله} في بثي وجهان: أحدهما: همّي , قاله ابن عباس. الثاني: حاجتي , حكاه ابن جرير. والبث تفريق الهم بإظهار ما في النفس. وإنما شكا ما في نفسه فجعله بثاً وهو مبثوث. {وأعلم من الله ما لا تعلمون} فيه تأويلان: أحدهما: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة , وأني ساجد له , قاله ابن عباس. والثاني: أنه أحست نفسه حين أخبروه فدعا الملك وقال: لعله يوسف , وقال لا يكون في الأرض صدّيق إلا نبي , قاله السدّي. وسبب قول يعقوب {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} ما حكي أن رجلاً دخل عليه فقال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني؟ فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وكان بعد ذلك يقول {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}.

87

{يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا

ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} قوله عز وجل: { ... اذهبوا فتحسَّسُوا مِن يوسُفَ وأخيه} أي استعملوا وتعرّفوا , ومنه قول عديّ بن زيد: (فإنْ حَييتَ فلا أحسسك في بلدي ... وإن مرضت فلا تحسِسْك عُوّادِي) وأصله طلب الشيء بالحس. {ولا تيأسوا من روح الله} فيه تأويلان: أحدهما: من فرج الله , قاله محمد بن إسحاق. والثاني: من رحمة الله , قاله قتادة. وهو مأخوذ من الريح التي بالنفع. وإنما قال يعقوب ذلك لأنه تنّبه على يوسف برد البضاعة واحتباس أخيه وإظهار الكرامة ولما حكي أن يعقوب سأل ملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا. قوله عز وجل: {فلمّا دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مَسّنا وأهلنا الضر} وهذا مِن ألطف ترفيق وأبلغ استعطاف. وفي قصدهم بذلك قولان: أحدهما: بأن يرد أخاهم عليهم , قاله ابن جرير. والثاني: توفية كيلهم والمحاباة لهم , قاله علي بن عيسى. {وجئنا ببضاعةٍ مزجاةٍ} وأصل الإزجاء السَوْق بالدفع , وفيه قول الشاعر عدي بن الرقاع. (تزجي أغَنّ كأن إبرَة روقِهِ ... قلمٌ أصاب من الدواة مدادها) وفي بضاعتهم هذه خمسة أقاويل: أحدها: أنها كانت دراهم، قاله ابن عباس.

الثاني: متاع الأعراب , صوف وسمن , قاله عبد الله بن الحارث. الثالث: الحبة الخضراء وصنوبر , قاله أبو صالح. الرابع: سويق المقل. قاله الضحاك. الخامس: خلق الحبْل والغرارة , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وفي المزجاة ثلاثة تأويلات: أحدها: أنها الرديئة , قاله ابن عباس. والثاني: الكاسدة , قاله الضحاك. الثالث: القليلة , قاله مجاهد. قال ابن إسحاق: وهي التي لا تبلغ قدر الحاجة ومنه قول الراعي: (ومرسل برسول غير متّهم ... وحاجة غير مزجاة من الحاج) وقال الكلبي: هي كلمة من لغة العجم , وقال الهيثمي: من لغة القبط. {فأوف لنا الكيل} فيه قولان: أحدهما: الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم , وهو قول ابن جريج. الثاني: مثل كيلهم الأول لأن بضاعتهم الثانية أقل , قاله السدي. {وتصدق علينا} فيه أربعة أقاويل: أحدهما: معناه تفضل علينا بما بين الجياد والرديئة , قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن , وذلك لأن الصدقة تحرم على جميع الأنبياء. الثاني: تصدق علينا بالزيادة على حقنا , قاله سفيان بن عيينة. قال مجاهد: ولم تحرم الصدقة إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وحده. الثالث: تصدق علينا برد أخينا إلينا , قاله ابن جريج , وكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم تصدّق عَليّ , لأن الصدقة لمن يبتغي الثواب.

الرابع: معناه تجوّز عنا , قاله ابن شجرة وابن زيد واستشهد بقول الشاعر: (تصدّق علينا يا ابن عفان واحتسب ... وأمر علينا الأشعري لياليا)

89

{قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} قوله عز وجل: {قال هَلْ علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} معنى قوله {هل علمتم ما فعلتم} أي قد علمتم , كقوله تعالى {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} أي قد أتى. قال ابن إسحاق: ذكر لنا أنهم لما قالوا {مسّنا وأهلنا الضر} رحمهم ورقَّ لهم , فقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ وعَدَّدَ عليهم ما صنعوا بهما. {إذ أنتم جاهلون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني جهل الصغر. الثاني: جهل المعاصي. الثالث: الجهل بعواقب أفعالهم. فحينئذ عرفوه. {قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي} وحكى الضحاك في قراءة عبد الله: وهذا أخي وبيني وبينه قربى {قد مَنّ الله علينا} يعني بالسلامة ثم بالكرامة , ويحتمل بالإجتماع بعد طول الفرقة. {إنه مَنْ يتّق ويصبرْ} فيه قولان: أحدهما: يتقي الزنى ويصبر على العزوبة , قاله إبراهيم.

الثاني: يتقي الله تعالى ويصبر على بلواه. وهو محتمل. {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فيه قولان: أحدهما: في الدنيا. الثاني: في الآخرة. قوله عز وجل: {قالوا تالله آثرك اللهُ علينا} مأخوذ من الإيثار , وهو إرادة تفضيل أحد النفسين على الآخر , قال الشاعر: (والله أسماك سُمًّا مباركاً ... آثرك الله به إيثارَكاً) {وإن كنا لخاطئين} أي فيما صنعوا بيوسف , وفيه قولان: أحدهما: آثمين. الثاني: مخطئين. والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن الخاطئ آثم. فإن قيل: فقد كانوا عند فعلهم ذلك به صغاراً ترفع عنهم الخطايا. قيل لما كبروا واستداموا إخفاء ما صنعوا صاروا حينئذ خاطئين. قوله عز وجل: {قال لا تثريب عليكم} فيه قولان أربعة تأويلات: أحدها: لا تغيير عليكم , وهو قول سفيان ابن عيينة. الثاني: لا تأنيب فيما صنعتم , قاله ابن إسحاق. الثالث: لا إباء عليكم في قولكم , قاله مجاهد. الرابع: لا عقاب عليكم وقال الشاعر: (فعفوت عنهم عفو غير مثربٍ ... وتركتهم لعقاب يومٍ سرمد) {اليوم يغفر الله لكم} يحتمل وجهين: أحدهما: لتوبتهم بالاعتراف والندم. الثاني: لإحلاله لهم بالعفو عنهم. {وهو أرحم الراحمين} يحتمل وجهين: أحدهما: في صنعه بي حين جعلني ملكاً.

الثاني: في عفوه عنكم عما تقدم من ذنبكم.

93

{اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} قوله عز وجل: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} وفيه وجهان: أحدهما: مستبصراً بأمري لأنه إذا شم ريح القميص عرفني. الثاني: بصيراً من العمى فذاك من أحد الآيات الثلاث في قميص يوسف بعد الدم الكذب وقدّه من دُبُره. وفيه وجه آخر لأنه قميص إبراهيم أنزل عليه من الجنة لما أُلقي في النار , فصار لإسحاق ثم ليعقوب , ثم ليوسف فخلص به من الجب وحازه حتى ألقاه أخوه على وجه أبيه فارتد بصيراً , ولم يعلم بما سبق من سلامة إبراهيم من النار ويوسف من الجب أن يعقوب يرجع به بصيراً. قال الحسن: لولا أن الله تعالى أعلم يوسف بذلك لم يعلم أنه يرجع إليه بصره ... وكان الذي حمل قميصه يهوذا بن يعقوب , قال ليوسف: أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته فأنا الآن أحمل قميصك لأسرّه وليعود إليه بصره فحمله , حكاه السدي. {وأتوني بأهلكم أجمعين} لتتخذوا مِصرَ داراً. قال مسروق فكانوا ثلاثة وتسعين بين رجل وامرأة. قوله عز وجل: {ولمّا فصلت العير} أي خرجت من مصر منطلقة إلى الشام. {قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف} فيها قولان: أحدهما: أنها أمارات شاهدة وعلامات قوي ظنه بها , فكانت هي الريح التي

وجدها ليوسف، مأخوذ من قولهم تنسمت رائحة كذا وكذا إذا قرب منك ما ظننت أنه سيكون. والقول الثاني: وهو قول الجمهور أنه شم ريح يوسف التي عرفها. قال جعفر بن محمد رضي الله عنه: وهي ريح الصبا. ثم اعتذر فقال: {لولا أن تفندّون} فيه أربعة أقاويل: أحدها: لولا أن تسفهون , قاله ابن عباس ومجاهد , ومنه قول النابغة الذبياني: (إلا سليمان إذ قال المليكُ له ... قم في البرية فا جددها عن الفنَد) أي عن السفة. الثاني: معناه لولا أن تكذبون , قاله سعيد بن جبير والضحاك , ومنه قول الشاعر: (هل في افتخار الكريم من أود ... أم هل لقول الصديق من فند) أي من كذب. الثالث: لولا أن تضعّفون , قاله ابن إسحاق. والتفنيد: تضعيف الرأي , ومنه قول الشاعر: (يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمري بمردود) وكان قول هذا لأولاد بنيه , لغيبة بنيه عنه , فدل هذا على أن الجدَّ أبٌ. الرابع: لولا أن تلوموني , قاله ابن بحر. ومنه قول جرير: (يا عاذليَّ دعا الملامة واقصِرا ... طال الهوى وأطلْتُما التفنيدا) واختلفوا في المسافة التي وجد ريح قميصه منها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وجدها من مسافة عشرة أيام. قاله أبو الهذيل.

الثاني: من مسيرة ثمانية أيام , قاله ابن عباس. الثالث: من مسيرة ستة أيام , قاله مجاهد. وكان يعقوب بأرض كنعان ويوسف بمصر وبينهما ثمانون فرسخاً , قاله قتادة. قوله عز وجل: {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أي في خطئك القديم , قاله ابن عباس وابن زيد. الثاني: في جنونك القديم , قاله سعيد بن جبير. قال الحسن: وهذا عقوق. الثالث: في محبتك القديمة , قاله قتادة وسفيان. الرابع: في شقائك القديم , قاله مقاتل , ومنه قول لبيد: (تمنى أن تلاقي آل سلمى ... بحطمة والمنى طرف الضِّلال) وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: بنوه , ولم يقصدوا بذلك ذماً فيأثموا. والثاني: بنو نبيه وكانوا صغاراً.

96

{فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} قوله عز وجل: {فلما أن جاء البشير} وفي قولان: أحدهما: شمعون , قاله الضحاك. الثاني: يهوذا. سمي بذلك لأنه أتاه ببشارة. {ألقاه على وجهه} يعني ألقى قميص يوسف على وجه يعقوب. {فارتدَّ بصيراً} أي رجع بصيراً , وفيه وجهان: أحدهما: بصيراً بخبر يوسف. الثاني: بصيراً من العمى. {قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إني أعلم من صحة رؤيا يوسف ما لا تعلمون.

الثاني: إني أعلم من قول ملك الموت أنه لم يقبض روح يوسف ما لا تعلمون. الثالث: إني أعلم من بلوى الأنبياء بالمحن ونزول العراج ونيل الثواب ما لا تعلمون. قوله عز وجل: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا} وإنما سألوه ذلك لأمرين: أحدهما: أنهم أدخلوا عليه من آلام الحزن ما لا يسقط المأثم عنه إلا بإجلاله. الثاني: أنه نبيُّ تجاب دعوته ويعطى مسألته , فروى ابن وهب عن الليث بن سعد أن يعقوب وإخوة يوسف قاموا عشرين سنة يطلبون التوبة فيما فعل إخوة يوسف بيوسف لا يقبل ذلك منهم حتى لقي جبريل يعقوب فعلمه هذا الدعاء: يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي , ويا غوث المؤمنين أغثني , ويا عَوْن المؤمنين أعني , ويا مجيب التّوابين تُبْ عليَّ فاستجيب لهم. فإن قيل قد تقدمت المغفرة لهم بقول يوسف من قبل {لا تثريب عليكم} الآية , فلمَ سألوا أباهم أن يستغفر لهم؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: لأن لفظ يوسف عن مستقبل صار وعداً , ولم يكن عن ماض فيكون خبراً. الثاني: أن ما تقدم من يوسف كان مغفرة في حقه , ثم سألوا أباهم أن يستغفر لهم في حق نفسه. الثالث: أنهم علموا نبوة أبيهم فوثقوا بإجابته , ولم يعلموا نبوة أخيهم فلم يثقوا بإجابته. قوله عز وجل: {قال سوف أستغفر لكم ربي} وفي تأخيره الاستغفار لهم وجهان: أحدهما: أنه أخره دفعاً عن العجيل ووعداً من بعد , فلذلك قال عطاء: طلب

الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ , ألا ترى إلى قول يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم} وإلى قول يعقوب: {سوف أستغفر لكم ربي}. الثاني: أنه أخّره انتظاراً لوقت الإجابة وتوقعاً لزمان الطلب. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: عند صلاة الليل , قاله عمرو بن قيس. الثاني: إلى السحَر , قاله ابن مسعود وابن عمر. روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجار). الثالث: إلى ليلة الجمعة قاله ابن عباس ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً. وإنما سألوه عن الاستغفار لهم وإن كان المستحق في ذنوبهم التوبة منها دون الاستغفار لهم ثلاثة أمور: أحدها: للتبرك بدعائه واستغفاره. الثاني: طلباً لاستعطافه ورضاه. الثالث: لحذرهم من البلوى والامتحان في الدنيا.

99

{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} قوله عز وجل: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه} اختلف في إجتماع يوسف مع أبويه وأهله , فحكى الكلبي والسدي أن يوسف خرج عن مصر وركب معه أهلها , وقيل خرج الملك الأكبر معه واستقبل يعقوب , قال الكلبي على يوم من مصر , وكان القصر على ضحوة من مصر , فلما دنا يعقوب متوكئاً على ابنه يهوذا يمشي , فلما نظر إلى الخيل والناس قال: يا يهوذا أهذا فرعون؟ قال: لا , هذا ابنك يوسف , فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان عني , فأجابه يوسف: {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} فيه وجهان: أحدهما: آمنين من فرعون , قاله أبو العالية. الثاني: آمنين من القحط والجدب , قاله السدي. وقال ابن جريج: كان اجتماعهم بمصر بعد دخولهم عليه فيها على ظاهر اللفظ , فعلى هذا يكون معنى قوله {ادخلوا مصر} استوطنوا مصر. وفي قوله: {إن شاء الله} وجهان: أحدهما: أن يعود إلى استيطان مصر , وتقديره استوطنوا مصر إن شاء الله. الثاني: أنه راجع إلى قول يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله آمنين إنه هو الغفور الرحيم , ويكون اللفظ مؤخراً , وهو قول ابن جريج.

فحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنساناً من رجل وامرأة , وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً. قوله عز وجل: {ورفع أبويه على العرش} قال مجاهد وقتادة: وفي أبويه قولان: أحدهما: أنهما أبوه وخالته راحيل , وكان أبوه قد تزوجها بعد أمه فسميت أُماً , وكانت أمه قد ماتت في نفاس أخيه بنيامين , قاله وهب والسدي. الثاني: أنهما أبوه وأمه وكانت باقيه إلى دخول مصر , قاله الحسن وابن إسحاق. {وخرّوا له سجداً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم سجدوا ليوسف تعظيماً له , قال قتادة: وكان السجود تحية من قبلكم وأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقال الحسن: بل أمرهم الله تعالى بالسجود له لتأويل الرؤيا. وقال محمد بن إسحاق: سجد له أبواه وإخوته الأحد عشر. والقول الثاني: أنهم سجدوا لله عز وجل , قاله ابن عباس , وكان يوسف في جهة القبلة فاستقبلوه بسجود , وكان سجودهم شكراً , ويكون معنى قوله {وخروا} أي سقطوا , كما قال تعالى {فخرّ عليهم السقف مِنْ فوقهم} أي سقط. والقول الثالث: أن السجود ها هنا الخضوع والتذلل , ويكون معنى قوله تعالى {خروا} أي بدروا. {وقال يا أبَتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} واختلف العلماء فيما بين رؤياه وتأويلها على خمسة أقاويل: أحدها: أنه كان بيهما ثمانون سنة , قاله الحسن وقتادة. الثاني: كان بينهما أربعون سنة , قاله سليمان. الثالث: ست وثلاثون سنة , قاله سعيد بن جبير.

الرابع: اثنتان وعشرون سنة. والخامس: أنه كان بينهما ثماني عشرة سنة , قاله ابن إسحاق. فإن قيل: فإن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة فهلاّ وثق بها يعقوب وتسلى؟ ولم {قال يا بُني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً} وما يضر الكيد مع سابق القضاء؟ قيل عن هذا جوابان: أحدهما: أنه رآها وهو صبي فجاز أن تخالف رؤيا الأنبياء المرسلين. الثاني: أنه حزن لطول المدة في معاناة البلوى وخاف كيد الإخوة في تعجيل الأذى. {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو} فإن قيل فلم اقتصر من ذكر ما بُلي به على شكر إخراجه من السجن دون الجب وكانت حاله في الجب أخطر؟ قيل عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كان في السجن مع الخوف من المعرة ما لم يكن في الجب فكان ما في نفسه من بلواه أعظم فلذلك خصه بالذكر والشكر. الثاني: أنه قال ذلك شكراً لله عز وجل على نقله من البلوى إلى النعماء , وهو إنما انتقل إلى الملك من السجن لا من الجب , فصار أخص بالذكر والشكر إذ صار بخروجه من السجن ملكاً , وبخروجه من الجب عبداً. الثالث: أنه لما عفا عن إخوته بقوله {لا تثريب عليكم اليوم} أعرض عن ذكر الجب لما فيه من التعريض بالتوبيخ وتأول بعض أصحاب الخواطر قوله: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن} أي من سجن السخط إلى فضاء الرضا. وفي قوله: {وجاء بكم من البدو} ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنهم كانوا في بادية بأرض كنعان أهل مواشٍ وخيام , وهذا قول قتادة. الثاني: أنه كان قد نزل (بدا) وبنى تحت جبلها مسجداً ومنها قصد , حكاه الضحاك عن ابن عباس. قال جميل: (وأنتِ التي حَبَبْتِ شغباً إلى بَدَا ... إليّ وأوطاني بلادٌ سِواهما) يقال بدا يبدو إذا نزل (بدا) فلذلك قال: وجاء بكم من البدو وإن كانوا سكان المدن. الثالث: لأنهم جاءُوا في البادية وكانوا سكان مدن , ويكون بمعنى في. واختلف من قال بهذا في البلد الذي كانوا يسكنونه على ثلاثة أقاويل. أحدها: أنهم كانوا من أهل فلسطين , قاله علي بن أبي طلحة. الثاني: من ناحية حران من أرض الجزيرة , ولعله قول الحسن. الثالث: من الأولاج من ناحية الشعب , حكاه ابن إسحاق. {من بَعْدِ أن نَزَغَ الشيطانُ بيني وبين إخوتي} وفي نزغه وجهان: أحدهما: أنه إيقاع الحسد , قاله ابن عباس. الثاني: معناه حرّش وأفسد , قاله ابن قتيبة. {إن ربي لطيف لما يشاء} قال قتادة: لطيف بيوسف بإخراجه من السجن , وجاء بأهله من البدو , ونزع عن يوسف نزغ الشيطان.

101

{رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} قوله عز وجل: {رب قد آتيتني من الملك} فيه أربعة أقاويل:

أحدها: أن الملك هو احتياج حساده إليه , قاله ابن عطاء. الثاني: أراد تصديق الرؤيا التي رآها. الثالث: أنه الرضا بالقضاء والقناعة بالعطاء. الرابع: أنه أراد مُلْك الأرض وهو الأشهر. وإنما قال من الملك لأنه كان على مصر من قبل فرعون. {وعلمتني من تأويل الأحاديث} فيه وجهان: أحدهما: عبارة الرؤيا. قاله مجاهد. الثاني: الإخبار عن حوادث الزمان , حكاه ابن عيسى. {فاطر السموات والأرض} أي خالقهما. {أنت وليّي في الدنيا والآخرة} يحتمل وجهين: أحدهما: مولاي. الثاني: ناصري. {توفني مسلماً} فيه وجهان: أحدهما: يعني مخلصاً للطاعة , قاله الضحاك. الثاني: على ملة الإسلام. حكى الحسن أن البشير لما أتى يعقوب قال له يعقوب عليه السلام: على أي دين خلفت يوسف؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة. {وألحقني بالصالحين} فيه قولان: أحدهما: بأهل الجنة , قاله عكرمة. الثاني: بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب , قاله الضحاك. قال قتادة والسدي: فكان يوسف أول نبي تمنى الموت. وقال محمد بن إسحاق: مكث يعقوب بأرض مصر سبع عشرة سنة. وقال ابن

عباس مات يعقوب بأرض مصر وحمل إلى أرض كنعان فدفن هناك. ودفن يوسف بأرض مصر ولم يزل بها حتى استخرج موسى عظامه وحملها فدفنها إلى جنب يعقوب عليهم السلام.

102

{ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين}

{ذلك من أنباء الغيب} يعني هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب. {نوحيه إليك} أي نعلمك بوحي منا إليك. {وما كنت لديهم} أي إخوة يوسف. {إذ أجمعوا أمرهم} في إلقاء يوسف في الجب. {وهم يمكرون} يحتمل وجهين: أحدهما: بيوسف في إلقائه في غيابة الجب. الثاني: يعقوب حين جاؤوا على قميصه بدم كذب.

105

{وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون} قوله عز وجل: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه قول المشركين الله ربنا وآلهتنا ترزقنا , قاله مجاهد. الثاني: أنه في المنافقين يؤمنون في الظاهر رياء وهم في الباطن كافرون بالله تعالى , قاله الحسن. الثالث: هو أن يشبه الله تعالى بخلقه , قاله السدي. الرابع: أنه يشرك في طاعته كقول الرجل لولا الله وفلان لهلك فلان , وهذا قول أبي جعفر. الخامس: أنهم كانوا يؤمنون بالله تعالى ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم , فلا يصح إيمانهم حكاه ابن الأنباري.

108

{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} قوله عز وجل: {قل هذه سبيلي} فيها تأويلان:

أحدهما: هذه دعوتي، قاله ابن عباس. الثاني: هذه سنتي، قاله عبد الرحمن بن زيد. والمراد بها تأويلان: أحدهما: الإخلاص لله تعالى بالتوحيد. الثاني: التسليم لأمره فيما قضاه. {أدْعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبَعَني} فيه تأويلان: أحدهما: على هدى , قاله قتادة. الثاني: على حق , وهو قول عبد الرحمن بن زيد. وذكر بعض أصحاب الخواطر تأويلاً (ثالثاً) أي أبلغ الرسالة ولا أملك الهداية.

109

{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون} قوله عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} قال قتادة: من أهل الأمصار دون البوادي لأنهم أعلم وأحلم. وقال الحسن: لم يبعث الله تعالى نبياً من أهل البادية قط , ولا من النساء , ولا من الجن. {ولدار الآخرة خير} يعني بالدار الجنة , وبالآخرة القيامة , فسمى الجنة داراً وإن كانت النار داراً لأن الجنة وطن اختيار , والنار مسكن اضطرار.

110

{حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}

قوله عز وجل: {حتى إذا استيأس الرسل} فيه وجهان: أحدهما: من قولهم أن يصدقوهم، قاله ابن عباس. الثاني: أن يعذب قومهم، قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: استيأسوا من النصر. {وظنوا أنهم قد كذبوا} في {كذبوا} قراءتان: أحدهما: بضم الكاف وكسر الذال وتشديدها، قرأ بها الحرميّان وأبو عمرو وابن عامر، وفي تأويلها وجهان: أحدهما: يعني أن قومهم ظنوا أن الرسل قد كذّبوهم، حكاه ابن عيسى. والقراءة الثانية {كُذِبوا} بضم الكاف وتخفيف الذال، قرأ بها الكوفيون، وفي تأويلها وجهان: أحدهما: فظن اتباع الرسل أنهم قد كذبوا فيما ذكروه لهم. الثاني: فظن الرسل أن ابتاعهم قد كذبوا فيما أظهروه من الإيمان بهم. {جاءهم نصرنا} فيه وجهان: أحدهما: جاء الرسل نصر الله تعالى قاله مجاهد. الثاني: جاء قومهم عذاب الله تعالى , وهو قول ابن عباس. {فنجي من نشاءُ} قيل الأنبياء ومَن آمن معهم. {ولا يُرَدُّ بأسُنا عن القومِ المجرمين} يعني عذابنا إذا نزل بهم. {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} يعني في قصص

يوسف وإخوته اعتبار لذوي العقول بأن من نقل يوسف من الجب والسجن وعن الذل والرق إلى أن جعله ملكاً مطاعاً ونبياً مبعوثاً، فهو على نصر رسوله وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه قادر، وإنما الإمهال إنذار وإعذار. {ما كان حديثاً يفتري} أن يختلف ويتخرّص، وفيه وجهان: أحدهما: يعني القرآن، قاله قتادة. الثاني: ما تقدم من القصص، قاله ابن إسحاق. {ولكن تصديق الذي بين يديه} فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدَّق لما قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى، وهذا تأويل من زعم أنه القرآن. الثاني: يعني ولكن يصدّقه ما قبله من كتب الله تعالى، وهذا قول من زعم أنه القصص. {وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} والله أعلم. تمت سورة يوسف بحمد الله وعونه وحسن توفيقه.

سورة الرعد مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول الكلبي ومقاتل. وقال ابن عباس مدنية إلا آيتين منها وهما قوله تعالى: {ولو أن قرآناً سيرتت به الجبال} إلى آخرهما. بسم الله الرحمن الرحيم

الرعد

{المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} قوله عز وجل: {المر تلك آيات الكتاب} وفي الكتاب ثلاثة أقاويل: أحدها: الزبور , وهو قول مطر. الثاني: التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثالث: القرآن , قال قتادة. فعلى هذا التأويل يكون معنى قوله {تلك آيات الكتاب} أي هذه آيات الكتاب. {والذي أنزل إليك من ربك الحق} يعني القرآن. {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} يعني بالقرآن أنه منزل بالحق. وفي المراد ب {أكثر الناس} قولان: أحدهما: أكثر اليهود والنصارى , لأن أكثرهم لم يسلم. الثاني: أكثر الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2

{الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} قوله عز وجل: {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها} فيه تأويلان: أحدهما: يعني بِعُمد لا ترونها , قاله ابن عباس. الثاني: أنها مرفوعة بغير عمد , قاله قتادة وإياس بن معاوية. وفي رفع السماء وجهان: أحدهما: رفع قدرهاا وإجلال خطرها , لأن السماء أشرف من الأرض. الثاني: سمكها حتى علت على الأرض.

3

{وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} قوله عز وجل: {وهو الذي مَدّ الأرض} أي بسطها للاستقرار عليها , رداً على من زعم أنها مستديرة كالكرة. {وجعل فيها رواسي} أي جبالاً , واحدها راسية , لأن الأرض ترسو بها , أي تثبت. قال جميل:

(أُحبُّهُ والذي أرسى قواعده ... حُبًّا إذا ظهرت آياتُه بطنا) قال عطاء: أول جبل وضع على الأرض أبو قبيس. {وأنهاراً} وفيها من منافع الخلق شرب الحيوان ونبات الأرض ومغيض الأمطار ومسالك الفلك. {ومِنْ كُلِّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أحد الزوجين ذكر وأنثى كفحول النخل وإناثها , كذلك كل النبات وإن خفي. والزوج الآخر حلو وحامض , أو عذب ومالح , أو أبيض وأسود , أو أحمر وأصفر , فإن كل جنس من الثمار ذو نوعين , فصار كل ثمر ذي نوعين زوجين , وهي أربعة أنواع. {يغشي الليل النهار} معناه يغشي ظلمةَ الليل ضوءَ النهار , ويغشي ضوء النهار ظلمة الليل. قوله عز وجل: {وفي الأرض قطعٌ متجاورات} فيه وجهان: أحدهما: أن المتجاورات المدن وما كان عامراً , وغير المتجاورات الصحارى وما كان غير عامر. الثاني: أي متجاورات في المدى , مختلفات في التفاضل. وفيه وجهان: أحدهما: أن يتصل ما يكون نباته مراً. الثاني: أن تتصل المعذبة التي تنبت بالسبخة التي لا تنبت , قاله ابن عباس. {وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الصنوان المجتمع , وغير الصنوان المفترق , قاله ابن جرير. قال الشاعر: (العلم والحلم خُلّتا كرَمٍ ... للمرءِ زين إذا هما اجتمعا) (صنوانٍ لا يستتم حسنها ... إلا بجمع ذا وذاك معا)

الثاني: أن الصنوان النخلات يكون أصلها واحداً , وغير صنوان أن تكون أصولها شتى , قاله ابن عباس والبراء بن عازب. الثالث: أن الصنوان الأشكال , وغير الصنوان المختلف , قاله بعض المتأخرين. الرابع: أن الصنوان الفسيل يقطع من أمهاته , وهو معروف , وغير الصنوان ما ينبت من النوى , وهو غير معروف حتى يعرف , وأصل النخل الغريب من هذا , قاله علي بن عيسى. {يسقى بماءٍ واحدٍ ونُفَضّلُ بعْضَها على بعضٍ في الأكل} فبعضه حلو , وبعضه حامض , وبعضه أصفر , وبعضه أحمر , وبعضه قليل , وبعضه كثير. {إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون} فيه وجهان: أحدهما: أن في اختلاف ذلك اعتبار يدل ذوي العقول على عظيم القدرة , وهو معنى قول الضحاك. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لبني آدم , أصلهم واحد وهم مختلفون في الخير والشر والإيمان والكفر كاختلاف الثمار التي تسقى بماء واحد , قاله الحسن.

5

{وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} قوله عز وجل: {وإن تعجب فعجَبٌ قولهم} الآية. معناه وإن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك فأعجبُ منه تكذيبهم بالبعث. والله تعالى لا يتعجب ولا يجوز

عليه التعجب , لأنه تغير النفس بما تخفى أسبابه , وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون.

6

{ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب} قوله عز وجل: {ويستعجلونَكَ بالسيئة قَبْل الحسنة} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني بالعقوبة قبل العافية , قاله قتادة. الثاني: بالشر قبل الخير , وهو قول رواه سعيد بن بشير. الثالث: بالكفر قبل الإجابة. رواه القاسم بن يحيى. ويحتمل رابعاً: بالقتال قبل الاسترشاد. {وقد خلت من قبلهم المثلاتُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الأمثال التي ضربها الله تعالى لهم , قاله مجاهد. الثاني: أنها العقوبات التي مثل الله تعالى بها الأمم الماضية , قاله ابن عباس. الثالث: أنها العقوبات المستأصلة التي لا تبقى معها باقية كعقوبات عاد وثمود حكاه ابن الأنباري والمثلات: جمع مثُلة. {وإن ربك لذو مغفرةٍ للناس على ظُلمِهم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يغفر لهم ظلمهم السالف بتوبتهم في الآنف , قاله القاسم بن يحيى. الثاني: يغفر لهم بعفوه عن تعجيل العذاب مع ظلمهم بتعجيل المعصية. الثالث: يغفر لهم بالإنظار توقعاً للتوبة. {وإنّ ربّك لشديد العقاب} فروى سعيد ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش , ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد. (

7

{ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قوله عز وجل: { ... إنما أنت منذر} يعني النبي صلى الله عليه وسلم نذير لأمته {ولكل قومٍ هادٍ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أنه الله تعالى , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثاني: ولكل قومٍ هادٍ أي نبي يهديهم , قاله مجاهد وقتادة. الثالث: ولكل قوم هاد معناه ولكل قوم قادة وهداة , قاله أبو صالح. الرابع: ولكل قوم هاد , أي دعاة , قاله الحسن. الخامس: معناه ولكل قوم عمل , قاله أبو العالية. السادس: معناه ولكل قوم سابق بعلم يسبقهم إلى الهدى , حكاه ابن عيسى.

8

{الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} قوله عز وجل: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} قال ابن أبي نجيح يعلم أذكر هو أم أنثى. ويحتمل وجهاً آخر: يعلم أصالح هو أَم طالح. {وما تغيض الأرحام وما تزداد} فيه خمسة تأويلات: أحدها: {وما تغيض الأرحام} بالسقط الناقص {وما تزداد} بالولد التام , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: {وما تغيض الأرحام} بالوضع لأقل من تسعة أشهر , {وما تزداد} بالوضع لأكثر من تسعة أشهر , قاله سعيد بن جبير والضحاك. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين وولدتني وق خرجت سني. الثالث: {وما تغيض الأرحام} بانقطاع الحيض في الحمل {ما تزداد} بدم النفاس بعد الوضع. قال مكحول: جعل الله تعالى دم الحيض غذاء للحمل. الرابع: {وما تغيض الأرحام} بظهور الحيض من أيام على الحمل , وفي ذلك

نقص في الولد {وما تزداد} في مقابلة أيام الحيض من أيام الحمل , لأنها كلما حاضت على حملها يوماً ازدادت في طهرها يوماً حتى يستكمل حملها تسعة أشهر طهراً , قال عكرمة وقتادة. الخامس: {وما تغيض الأرحام} من ولدته قبل {وما تزداد} من تلده من بعد , حكاه السدي وقتادة. {وكُلُّ شيءٍ عنده بمقدار} فيه وجهان: أحدهما: في الرزق والأجل , قاله قتادة. الثاني: فيما تغيض الأرحام وما تزداد , قاله الضحاك. ويحتمل ثالثاً: أن كل شيء عنده من ثواب وعقاب بمقدار الطاعة والمعصية.

10

{سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} قوله تعالى: {سواءٌ منكم مَن أسَرَّ القول ومَن جَهَرَ به} إسرار القول: ما حدّث به نفسه , والجهر ما حَدّث به غيره. والمراد بذلك أنه تعالى يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر. {ومَن هو مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار} فيه وجهان: أحدهما: يعلم من استخفى بعمله في ظلمة الليل , ومن أظهره في ضوء النهار. الثاني: يرى ما أخفته ظلمة الليل كما يرى ما أظهره ضوء النهار , بخلاف المخلوقين الذين يخفي عليهم الليل أحوال أهلهم. قال الشاعر: (وليلٍ يقول الناسُ في ظلُماتِه ... سَواءٌ صحيحات العُيون وعورها) والسارب: هو المنصرف الذاهب , مأخوذ من السُّروب في المرعى , وهو

بالعشي , والسروج بالغداة , قال قيس بن الخطيم: (أنَّى سَرَبْتِ وكُنْتِ غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب) قوله عز وجل: {له معقبات مِن بين يديه ومن خَلْفِه} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم حراس الأمراء يتعاقبون الحرس , قاله ابن عباس وعكرمة. الثاني: أنه ما يتعاقب من أوامر الله وقضائه في عباده , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثالث: أنهم الملائكة , إذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل , وإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار , قاله مجاهد وقتادة. قال الحسن: وهم أربعة أملاك: اثنان بالنهار , واثنان بالليل , يجتمعون عند صلاة الفجر. وفي قوله تعالى: {من بين يديه ومن خلفه} ثلاثة أوجه: أحدها: من أمامه وورائه , وهذا قول من زعم أن المعقبات حراس الأمراء. الثاني: الماضي والمستقبل , وهذا قول من زعم أن المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه. الثالث: من هُداه وضلالِه , وهذا قول من زعم أن المعقبات الملائكة. {يحفظونَه من أمر الله} تأويله يختلف بحسب اختلاف المعقبات , فإن قيل بالقول الأول أنهم حراس الأمراء ففي قوله {يحفظونه} أي عند نفسه من أمر الله ولا راد لأمره ولا دافع لقضائه , قاله ابن عباس وعكرمة. الثاني: أن في الكلام حرف نفي محذوفاً وتقديره: لا يحفظونه من أمر الله. وإن قيل بالقول الثاني , إن المعقبات ما يتعاقب من أمر الله وقضائه , ففي تأويل قوله تعالى {يحفظونه من أمر الله} وجهان: أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله , قاله الضحاك.

الثاني: يحفظونه من الجن والهوام المؤذية ما لم يأت قدر , قاله أبو مالك وكعب الأحبار. وإن قيل بالقول الثالث: وهو الأشبه: أن المعقبات الملائكة ففيما أريد بحفظهم له وجهان: أحدهما: يحفظون حسناته وسيئاته بأمر الله. الثاني: يحفظون نفسه. فعلى هذا في تأويل قوله تعالى {يحفظونه من أمر الله} ثلاثة أوجه: أحدها: يحفظونه بأمر الله , قاله مجاهد. الثاني: يحفظونه من أمر الله حتى يأتي أمر الله , وهو محكي عن ابن عباس. الثالث: أنه على التقديم والتأخير وتقديره: له معقبات من أمر الله تعالى يحفظونه من بين يديه ومن خلفه , قاله إبراهيم. وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها عامة في جميع الخلق , وهو قول الجمهور. الثاني: أنها خاصة نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أزمع عامر بن الطفيل وأريد بن ربيعة أخو لبيد على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله عز وجل منهما وأنزل هذه الآية فيه , قاله ابن زيد. {إنَّ الله لا يغيرُ ما بقومٍ حتى يغيِّرُوا ما بأنفسِهم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله لا يغير ما بقوم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من معصية. الثاني: لا يغير ما بهم من نعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة. {وإذا أراد الله بقومٍ سوءًا فلا مرد له} فيه وجهان:

أحدهما: إذا أراد الله بهم عذاباً فلا مرد لعذابه. الثاني: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه. {وما لهم مِن دونه من وال} فيه وجهان: أحدهما: من ملجأ وهو معنى قول السدي. الثاني: يعني من ناصر , ومنه قول الشاعر: 89 (ما في السماء سوى الرحمن من والِ} 9

12

{هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} قوله عز وجل: {هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: خوفاً للمسافر من أذيته , وطمعاً للمقيم في بركته , قاله قتادة. الثاني: خوفاً من صواعق البرق , وطمعاً في غيثه المزيل للقحط , قاله الحسن. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك). الثالث: خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه. {وينشىء السحاب الثقال} قال مجاهد: ثقال بالماء. قوله عز وجل: {ويسبِّح الرعد بحمده} وفي الرعد قولان: أحدهما: أنه الصوت المسموع , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الرعد وعيد من الله فإذا سمعتموه فأمسكوا عن الذنوب).

الثاني: أن الرعد ملك , والصوت المسموع تسبيحه , قاله عكرمة. {والملائكة مِن خيفته} فيه وجهان: أحدهما: وتسبح الملائكة من خيفة الله تعالى , قاله ابن جرير. الثاني: من خيفة الرعد , ولعله قول مجاهد. {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} اختلف فيمن نزل ذلك فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في رجل أنكر القرآن وكذب النبي صلى الله عليه وسلم فأخذته صاعقة , قاله قتادة. الثاني: في أربد بن ربيعة وقد كان همّ بقتل النبي صلى الله عليه وسلم مع عامر بن الطفيل فتيبست يده على سيفه , وعصمه الله تعالى منهما , ثم انصرف فأرسل الله تعالى عليه صاعقة أحرقته. قال ابن جرير: وفي ذلك يقول أخوه لبيد: (أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السِّماك والأسد) (فجّعني البرق والصواعق بالفا ... رسِ يوم الكريمة النَّجُدِ) الثالث: أنها نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن ربك من أي شيء , من لؤلؤ أو ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأخذته , قال علي وابن عباس ومجاهد. روى أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تأخذ الصاعقة ذاكراً لله عز وجل).

{وهم يجادلون في الله} فيه وجهان: أحدهما: يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله: من أي شيء هو؟ قاله مجاهد. الثاني: جدال أربد فيما همّ به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم , قاله ابن جريج. {وهو شديد المِحالِ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: يعني شديد العداوة , قاله ابن عباس. الثاني: شديد الحقد , قاله الحسن. الثالث: شديد القوة , قاله مجاهد. الرابع: شديد الغضب , قاله وهب بن منبه. الخامس: شديد الحيلة , قاله قتادة والسدي. السادس: شديد الحول , قاله ابن عباس أيضاً. السابع: شديد الإهلاك بالمحل وهو القحط , قاله الحسن أيضاً. الثامن: شديد الأخذ , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. التاسع: شديد الانتقام والعقوبة , قاله أبو عبيدة وأنشد لأعشى بني ثعلبة. (فرع نبع يهتز في غصن المج ... د كريم الندى عظيم المحال)

14

{له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} قوله عز وجل {له دعوة الحق} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن دعوة الحق لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الله تعالى هو الحق , فدعاؤه دعوة الحق. الثالث: أن الإخلاص في الدعاء هي دعوة الحق , قاله بعض المتأخرين. ويحتمل قولاً رابعاً: أن دعوة الحق دعاؤه عند الخوف لأنه لا يدعى فيه إلا إياه , كما قال تعالى {ضلّ من تدعون إلا إياه} [الإسراء: 67] هو أشبه بسياق الآية لأنه قال: {والذين يدعون مِن دونه} يعني الأصنام والأوثان. {لا يستجيبون لهم بشيء} أي لا يجيبون لهم دعاءً ولا يسمعون لهم نداء. {إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه} ضرب الله عز وجل الماء مثلاً لإياسهم من إجابة دعائهم لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقابض الماء باليد , كما قال أبو الهذيل: (فأصبحتُ مما كان بيني وبينها ... مِن الود مثل القابض الماء باليد) وفي معنى هذا المثل ثلاثة أوجه: أحدها: أن الذي يدعو إلهاً من دون الله كالظمآن الذي يدعو الماء ليبلغ إلى فيه من بعيد يريد تناوله ولا يقدر عليه بلسانه , ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبداً , لأن الماء لا يستجيب له وما الماء ببالغ إليه , قاله مجاهد. الثاني: أنه كالظمآن الذي يرى خياله في الماء وقد بسط كفر فيه ليبلغ فاه , وما هو ببالغه لكذب ظنه وفساد توهمه , قاله ابن عباس. الثالث: أنه كباسط كفه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفيه شيء منه. وزعم الفراء أن المراد بالماء ها هنا البئر لأنها معدن للماء , وأن المثل كمن مد

يده إلى البئر بغير رشاء , وشاهده قول الشاعر: (فإن الماء ماءُ أبي وجدي ... وبئري ذو حَفَرْتُ وذو طويت)

15

{ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} قوله عز وجل: {ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض طوعاً وكرهاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: طوعاً سجود المؤمن , وكرهاً سجود الكافر , قاله قتادة. الثاني: {طوعاً} من دخل في الإسلام رغبة , {وكرهاً} من دخل فيه رهبة بالسيف , قاله ابن زيد. الثالث: {طوعاً} من طالت مدة إسلامه فألف السجود , {وكرهاً} من بدأ بالإسلام حتى يألف السجود , حكاه ابن الأنباري. الرابع: ما قاله بعض أصحاب الخواطر أنه إذا نزلت به المصائب ذل , وإذا توالت عليه النعم ملّ. {وظلالهم بالغدو والآصال} يعني أن ظل كل إنسان يسجد معه بسجوده , فظل المؤمن يسجد طائعاً كما أن سجود المؤمن طوعاً , وظل الكافر يسجد كارهاً كما أن سجود الكافر كرهاً. والآصال جمع أصُل , والأصل جمع أصيل , والأصيل العشيّ وهو ما بين العصر والمغرب قال أبو ذؤيب: (لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائِه بالأصائل)

16

{قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم

نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} قوله عز وجل: {قل من رب السموات والأرض} أمر الله تعالى نبيه أن يقول لمشركي قريش {من رب السموات والأرض} ثم أمره أن يقول لهم: {قل الله} إن لم يقولوا ذلك إفهاماً قالوه تقريراً لأنه جعل ذلك إلزاماً. {قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً} ثم أمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا بعد اعترافهم بالله: أفاتخذتم من دون الخالق المنعم آلهة من أصنام وأوثان فعبدتموها من دونه , لا يملكون لأنفسهم نفعاً يوصلونه إليها ولا ضراً يدفعونه عنها , فكيف يملكون لكم نفعاً أو ضراً؟ وهذا إلزام صحيح. ثم قال تعالى {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور} وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر كالأعمى والبصير , والهدى والضلالة كالظلمات والنور , فالمؤمن في هُداه كالبصير يمشي في النور , والكافر في ضلاله كالأعمى يمشي في الظلمات , وهما لا يستويان , فكذلك المؤمن والكافر لا يتسويان , وهذا من أصح مثل ضربه الله تعالى وأوضح تشبيه. ثم قال تعالى: {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} ومعناه أنه لما لم يخلق آلهتهم التي عبدوها خلقاً كخلق الله فيتشابه عليهم خلقُ آلهتهم بخلق الله فلما اشتبه عليهم حتى عبدوها كعبادة الله تعالى؟ {قل الله خالق كل شيء} فلزم لذلك أن يعبدوه كل شيء. {وهو الواحد القهار}. وفي قوله {فتشابه الخلق عليهم} تأويلان: أحدهما: فتماثل الخلق عليهم. الثاني: فأشكل الخلق عليهم , ذكرهما ابن شجرة.

17

{أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما

يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} قوله عز وجل: {أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها} فيه وجهان: أحدهما: يعني بما قدر لها من قليل أو كثير. الثاني: يعني الصغير من الأودية سال بقدر صغره , والكبير منها سال بقدر كبره. وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن وما يدخل منه في القلوب , فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه , وشبه القلوب بالأودية يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية من الماء بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس: {أنزل من السماء ماءً} أي قرآناً {فسالت أودية بقدرها} قال: الأودية قلوب العباد. {فاحتمل السيل زبداً رابياً} الرابي: المرتفع. وهو مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل , فالحق ممثل بالماء الذي يبقى في الأرض فينتفع به , والباطل ممثل بالزبد الذي يذهب جُفاءً لا ينتفع به. ثم ضرب مثلاً ثانياً بالنار فقال {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية} يعني الذهب والفضة. {أو متاع} يعني الصُفر والنحاس. {زبد مِثله ... } يعني أنه إذا سُبِك بالنار كان له خبث كالزبد الذي على الماء يذهب فلا ينتفع به كالباطل , ويبقى صفوة فينتفع به كالحق. وقوله تعالى: { ... فيذهب جفاءً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني منشقاً قاله ابن جرير.

الثاني: جافياً على وجه الأرض , قاله ابن عيسى. الثالث: مرمياً , قاله ابن إسحاق. وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤية يقرأ: جفالاً. قال أبو عبيدة: يقال أجفلت القدر إذا قَذَفَت بزبدها.

18

{للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب} قوله عز وجل: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} فيها تأويلان: أحدهما: الجنة , رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنها الحياة والرزق , قاله مجاهد. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن تكون مضاعفة الحسنات. {والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعاًَ ومثلَهُ معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب}. في {سوء الحساب} أربعة تأويلات: أحدها: أن يؤاخذوا بجميع ذنوبهم فلا يعفى لهم عن شيء منها , قاله إبراهيم النخعي. وقالت عائشة رضي الله عنها: من نوقش الحساب هلك. الثاني: أنه المناقشة في الأعمال , قاله أبو الجوزاء.

الثالث: أنه التقريع والتوبيخ , حكاه ابن عيسى. الرابع: هو أن لا تقبل حسناتهم فلا تغفر سيئاتهم. ويحتمل خامساً: أن يكون سوء الحساب ما أفضى إليه حسابهم من السوء وهو العقاب.

20

{الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} قوله عز وجل: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الرحم التي أمرهم الله تعالى بوصلها. {ويخشون ربهم} في قطعها {ويخافون سُوءَ الحساب} في المعاقبة عليها , قاله قتادة. الثاني: صلة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن. الثالث: الإيمان بالنبيين والكتب كلها , قاله سعيد بن جبير. ويحتمل رابعاً: أن يصلوا الإيمان بالعمل.

{ويخشون ربهم} فيما أمرهم بوصله. {ويخافون سوءَ الحساب} في تركه. قوله عز وجل: {ويدرءُون بالحسنة السيئة} فيه سبعة تأويلات: أحدها: يدفعون المنكر بالمعروف , قاله سعيد بن جبير. الثاني: يدفعون الشر بالخير , قاله ابن زيد. الثالث: يدفعون الفحش بالسلام , قاله الضحاك. الرابع: يدفعون الظلم بالعفو , قاله جويبر. الخامس: يدفعون سفه الجاهل بالحلم , حكاه ابن عيسى. السادس: يدفعون الذنب بالتوبة , حكاه ابن شجرة. السابع: يدفعون المعصية بالطاعة. قوله عز وجل: {سلام عليكم بما صبرتم} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه بما صبرتم على أمر الله تعالى , قاله سعيد بن جبير. الثاني: بما صبرتم على الفقر في الدنيا , قاله أبو عمران الجوني. الثالث: بما صبرتم على الجهاد في سبيل الله , وهو مأثور عن عبد الله بن عمر. الرابع: بما صبرتم عن فضول الدنيا , قاله الحسن , وهو معنى قول الفضيل بن عياض. السادس: بما صبرتم عما تحبونه حين فقدتموه , قاله ابن زيد. ويحتمل سابعاً: بما صبرتم على عدم اتباع الشهوات. {فنعم عقبى الدار} فيه وجهان: أحدهما: فنعم عقبى الجنة عن الدنيا , قاله أبو عمران الجوني. الثاني: فنعم عقبى الجنة من النار , وهو مأثور.

25

{والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل

ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} قوله تعالى: {ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} وفيه وجهان: أحدهما: أي قليل ذاهب , قاله مجاهد. الثاني: زاد الراعي , قاله ابن مسعود. ويحتمل ثالثاً: وما جعلت الحياة الدنيا إلا متاعاً يتزود منها إلى الآخرة من التقوى والعمل الصالح.

28

{الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب} قوله عز وجل: {والذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} فيه أربعة أوجه: أحدها: بذكر الله بأفواههم، قاله قتادة. الثاني: بنعمة الله عليهم. الثالث: بوعد الله لهم، ذكره ابن عيسى. الرابع: بالقرآن، قاله مجاهد. {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: بطاعة الله. الثاني: بثواب الله. الثالث: بوعد الله تعالى لهم. قوله عز وجل: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب} فيه تسعة تأويلات: أحدها: أن طوبى اسم من أسماء الجنة، قاله مجاهد.

الثالث: معنى طوبى لهم حسنى لهم , قاله قتادة. الرابع: معناه نِعَم مالهم , قاله عكرمة. الخامس: معناه خير لهم , قاله إبراهيم. السادس: معناه غبطة لهم , قاله الضحاك. السابع: معناه فرح لهم وقرة عين , قاله ابن عباس. الثامن: العيش الطيب لهم , قاله الزجاج. التاسع: أن طوبى فُعلى من الطيب كما قيل أفضل وفضلى , ذكره ابن عيسى. وهذه معان أكثرها متقاربة. وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها كلمة حبشية , قاله ابن عباس. الثاني: كلمة هندية , قاله عبد الله بن مسعود. الثالث: عربية , قاله الجمهور.

30

{كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} قوله تعالى: { ... وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي} قال قتادة وابن جريج نزلت في قريش يوم الحديبية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتب القضية بينه وبينهم , فقال للكاتب: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فقالوا ما ندري ما الرحمن وما نكتب إلا: باسمك اللهم. وحكي عن ابن إسحاق أنهم قالوا: قد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا الذي تأتي به رجل من أهل اليمامة يقال له الرحمن , وإنا والله لن نؤمن به أبداً , فأنزل الله تعالى {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو} يعني أنه إله واحد وإن اختلفت أسماؤه. {عليه توكلت وإليه متاب} قال مجاهد يعني بالمتاب التوبة. ويحتمل ثانياً: وإليه المرجع.

31

{ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} قوله عز وجل: {ولو أن قرآناً سُيِّرت به الجبال أو قطعت به الأرض} الآية. وسبب ذلك ما حكاه مجاهد وقتادة أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن يسرَّك أن نتبعك فسيِّرْ جبالنا حتى تتسع لنا أرضنا فإنها ضيقة , وقرب لنا الشام فإننا نتَّجر إليها , وأخرج لنا الموتى من القبور نكلمها , فأنزل الله تعالى. {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} أي أُخرت. {أو قطعت به الأرض} أي قربت. {أو كُلِّم به الموْتَى} أي أُحيوا. وجواب هذا محذوف وتقديره لكان هذا القرآن , لكنه حذف إيجازاً لما في ظاهر الكلام من الدلالة على المضمر المحذوف. ثم قال تعالى: {بل للهِ الأمر جميعاً} أي هو المالك لجميع الأمور الفاعل لما يشاء منها. {أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} وذلك أن المشركين لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه استراب المؤمنون إليه فقال الله تعالى {أفلم ييأس الذين آمنوا}. وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه أفلم يتبين الذين آمنوا , قاله عطية , وهي في القراءة الأولى: أفلم يتبين الذين آمنوا. وقيل لغة جرهم {أفلم ييأس} أي يتبين.

الثاني: أفلم يعلم , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد , ومنه قول رباح ابن عدي: (ألم ييأس الأقوام أنِّي أنا ابْنُهُ ... وإن كنتُ عن أرض العشيرة نائيا) الثالث: أفلم ييأس الذين آمنوا بانقطاع طمعهم. وفيما يئسوا منه على هذا التأويل وجهان: أحدهما: ييأسوا مما سأله المشركون , قاله الفراء. الثاني: يئسوا أن يؤمن هؤلاء المشركون , قاله الكسائي. {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} فيه وجهان: أحدهما: لهداهم إلى الإيمان. الثاني: لهداهم إلى الجنة. {ولا يزال الذين كفروا تصيبهُم بما صنعوا قارعة} فيها تأويلان: أحدهما: ما يقرعهم من العذاب والبلاء , قاله الحسن وابن جرير. الثاني: أنها الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله عكرمة. {أو تحل قريباً من دارهم} فيه وجهان: أحدهما: أو تحل القارعة قريباً من دارهم , قاله الحسن. الثاني: أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم , قاله ابن عباس وقتادة {حتى يأتي وَعْدُ الله} فيه تأويلان: أحدهما: فتح مكة , قاله ابن عباس. الثاني: القيامة , قاله الحسن.

32

{ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين

كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد} قوله عز وجل: {أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الملائكة الذين وكلوا ببني آدم , قاله الضحاك. الثاني: هو الله القائم على كل نفس بما كسبت , قاله قتادة. الثالث: أنها نفسه. وفي قوله تعالى: {قائم} وجهان: أحدهما: يعني والياً , كما قال تعالى {قائماً بالقسط} أي والياً بالعدل. الثاني: يعني عالماً بما كسبت , قال الشاعر: (فلولا رجالٌ من قريش أعزةٌ ... سرقتم ثياب البيت والله قائم) ويحتمل {بما كسبت} وجهين: أحدهما: ما كسبت من رزق تفضلاً عليها فيكون خارجاً مخرج الامتنان. الثاني: ما كسبت من عمل حفظاً عليها , فيكون خارجاً مخرج الوعد والوعيد {وجعلوا لله شركاء} يعني أصناماً جعلوها آلهة. {قل سموهم} يحتمل وجهين: أحدهما: قل سموهم آلهة على وجه التهديد. الثاني: يعني قل صفوهم ليعلموا أنهم لا يجوز أن يكونوا آلهة. {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} أي تخبرونه بما لا يعلم أن في الأرض إلهاً غيره. {أم بظاهر مِن القول} فيها أربعة تأويلات: أحدها: معناه بباطل من القول , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر: (أعَيّرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عارٌ يا ابن ريطة ظاهر)

أي بالحل. الثاني: بظن من القول , وهو قول مجاهد. الثالث: بكذب من القول , قاله الضحاك. الرابع: أن الظاهر من القول هو القرآن , قاله السدي. ويحتمل تأويلاً خامساً: أن يكون الظاهر من القول حجة يظهرونها بقولهم , ويكون معنى الكلام: أتخبرونه بذلك مشاهدين أم تقولون محتجّين.

34

{لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار} قوله عز وجل: {مثل الجنة التي وُعِدَ المتقون} فيه قولان: أحدهما: يشبه الجنة , قاله علي بن عيسى. الثاني: نعت الجنة لأنه ليس للجنة مثل , قاله عكرمة. {تجري من تحتها الأنهار أكُلُها دائم} فيه وجهان: أحدهما: ثمرها غير منقطع , قاله القاسم بن يحيى. الثاني: لذتها في الأفواه باقية , قاله إبراهيم التيمي. ويحتمل ثالثاً: لا تمل من شبع ولا مرباد لمجاعة. {وظلها} يحتمل وجهين: أحدهما: دائم البقاء.

الثاني: دائم اللذة.

36

{والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق} قوله عز وجل: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا بما أنزل عليه من القرآن , قاله قتادة وابن زيد. الثاني: أنهم مؤمنو أهل الكتاب , قاله مجاهد. الثالث: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فرحوا بما أنزل عليه من تصديق كتبهم , حكاه ابن عيسى. {ومِن الأحزاب من ينكر بعضه} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى والمجوس , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم كفار قريش. وفي إنكارهم بعضه وجهان: أحدهما: أنهم عرفوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم وأنكروا نبوته. الثاني: أنهم عرفوا صِدْقه وأنكروا تصديقه.

38

{ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي

بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا رُسُلاً من قبلك وجعلنا لهم أزوجاً وذرية} يعني بالأزواج النساء , وبالذرية الأولاد. وفيه وجهان: أحدهما: معناه أن من أرسلناه قبلك من المرسلين بشر لهم أزواج وذرية كسائر البشر , فلمَ أنكروا رسالتك وأنت مثل من قبلك. الثاني: أنه نهاه بذلك عن التبتل , قاله قتادة. وقيل إن اليهود عابت على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج , فأنزل الله تعالى إلى ذلك فيهم يعلمهم أن ذلك سُنَّة الرسل قبله. {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} قيل إن مشركي قريش سألوه آيات قد تقدم ذكرها في هذه السورة فأنزل الله تعالى ذلك فيهم. {ولكل أجل كتابٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل. وهو من المقدِّم والمؤخر , قاله الضحاك. الثاني: معناه لكل أمر قضاه الله تعالى كتاب كتبه فيه , قاله ابن جرير. الثالث: لكل أجل من آجال الخلق كتاب عند الله تعالى , قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: لكل عمل خَبر. قوله عز وجل: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} فيه سبعة تأويلات: أحدها: يمحو الله ما يشاء من أمور عباده فيغيره إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران , قاله ابن عباس. الثاني: يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء في كتاب سوى أُم الكتاب , وهما كتابان أحدهما: أم الكتاب لا يغيره ولا يمحو منه شيئاً كما أراد , قاله عكرمة.

الثالث: أن الله عز وجل ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه , ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه , قاله قتادة وابن زيد. الرابع: أنه يمحو مَنْ قد جاء أجلُه ويثبت من لم يأت أجلُه , قاله الحسن. الخامس: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده , ويترك ما يشاء فلا يغفره , قاله سعيد بن جبير. السادس: أنه الرجل يقدم الطاعة ثم يختمها بالمعصية فتمحو ما قد سلف , والرجل يقدم المعصية ثم يختمها بالطاعة فتمحو ما قد سلف , وهذا القول مأثور عن ابن عباس أيضاً. السابع: أن الحفظة من الملائكة يرفعون جميع أقواله وأفعاله , فيمحو الله عز وجل منها ما ليس فيه ثواب ولا عقاب , ويثبت ما فيه الثواب والعقاب , قاله الضحاك. {وعنده أم الكتاب} فيه ستة تأويلات: أحدها: الحلال والحرام , قاله الحسن. الثاني: جملة الكتاب , قاله الضحاك. الثالث: هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق , قاله كعب الأحبار. الرابع: هو الذكر , قاله ابن عباس. الخامس: أنه الكتاب الذي لا يبدل , قاله السدي. السادس: أنه أصل الكتاب في اللوح المحفوظ , قاله عكرمة.

40

{وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب}

قوله عز وجل: {أوَلم يروا أنا نأتي الأرض ننقُصُها من أطرافها} فيه أربعة تأويلات: أحدها: بالفتوح على المسلمين من بلاد المشركين , قاله قتادة. الثاني: بخراجها بعد العمارة , قاله مجاهد. الثالث: بنقصان بركتها وتمحيق ثمرتها , قاله الكلبي والشعبي. الرابع: بموت فقهائها وخيارها , قاله ابن عباس. ويحتمل خامساً: أنه بجور ولاتها.

42

{وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} قوله عز وجل: {ويقول الذين كفروا لست مُرْسلاً} قال قتادة: هم مشركو العرب. {قلْ كفى بالله شهيداً بيني وبينكم} أي يشهد بصدقي وكذبكم. {ومن عنده علم الكتاب} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم عبد الله بن سلام وسلمان وتميم الداري , قاله قتادة. الثاني: أنه جبريل , قاله سعيد بن جبير. الثالث: هو الله تعالى , قاله الحسن ومجاهد والضحاك. وكانوا يقرأون {ومِن عنده علم الكتاب} أي من عِنْد الله علم الكتاب , وينكرون على من قال هو عبد الله بن سلام وسلمان لأنهم يرون السورة مكية , وهؤلاء أسلموا بالمدينة , والله تعالى أعلم بالصواب.

سورة إبراهيم مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها مدينة وهي {ألم تر بدّلوا نعمة الله كفراً} والتي بعدها. بسم الله الرحمن الرحيم

إبراهيم

{الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد} {الر كتاب أنزلناه إليك} يعني القرآن. {لتُخرِجَ الناسَ مِن الظلماتِ إلى النُّور} فيه أربعة أوجه: أحدها: من الشك إلى اليقين. الثاني: من البدعة إلى السنّة. الثالث: من الضلالة إلى الهدى الرابع: من الكفر إلى الإيمان {بإذن ربهم} فيه وجهان: أحدهما: بأمر ربهم , قاله الضحاك.

الثاني: بعلم ربهم. {إلى صراط العزيز الحميد} فروى مِقْسم عن ابن عباس قال: كان قوم آمنوا بعيسى , وقوم كفروا به , فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى , وكفر به الذين آمنوا بعيسى , فنزلت هذه الآية. قوله عز وجل: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} فيه وجهان: أحدهما: يختارونها على الآخرة , قاله أبو مالك. الثاني: يستبدلونها من الآخرة , ذكره ابن عيسى , والاستحباب هو التعرض للمحبة. ويحتمل ما يستحبونه من الحياة الدنيا على الآخرة وجهين: أحدهما: يستحبون البقاء في الحياة الدنيا على البقاء في الآخرة. الثاني: يستحبون النعيم فيها على النعيم في الآخرة. {ويصدون عن سبيل الله} قال ابن عباس: عن دين الله. ويحتمل: عن محمد صلى الله عليه وسلم. {ويبغونها غِوَجاً} فيه وجهان: أحدهما: يرجون بمكة غير الإسلام ديناً , قاله ابن عباس. الثاني: يقصدون بمحمد صلى الله عليه وسلم هلاكاً , قاله السدي. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن معناه يلتمسون الدنيا من غير وجهها لأن نعمة الله لا تستمد إلا بطاعته دون معصيته. والعِوَج بكسر العين: في الدين والأمر والأرض وكل ما لم يكن قائماً. والعوج بفتح العين: في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح.

4

{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}

قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} أي بحُججنا وبراهيننا وقال مجاهد هي التسع الآيات: {أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور} يحتمل وجهين: أحدهما: من الضلالة إلى الهدى. الثاني: من ذل الاستعباد إلى عز المملكة. {وذكِّرهم بأيام الله} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه وعظهم بما سلف من الأيام الماضية لهم , قاله ابن جرير. الثاني: بالأيام التي انتقم الله فيها من القرون الأولى , قاله الربيع وابن زيد. الثالث: أن معنى أيام الله أن نعم الله عليهم , قاله مجاهد وقتادة , وقد رواه أبيّ بن كعب مرفوعاً. وقد تسمَّى النعم بالأيام , ومنه قول عمرو بن كلثوم: (وأيام لنا غُرٍّ طِوالٍ ... عصينا الملْك فيها أن نَدِينا) ويحتمل تأويلاً رابعاً: أن يريد الأيام التي كانوا فيها عبيداًَ مستذلين لأنه أنذرهم قبل استعمال النعم عليهم. {إنَّ في ذلك لآيات لكُلِّ صبَّارٍ شكورٍ} الصبار: الكثير الصبر , والشكور: الكثير الشكر , قال قتادة: هو العبد إذا أعطي شكر , وإذا ابتلي صبر. وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان , والشكر نصف , وقرأ {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}. وتوارى الحسن عن الحجاج تسع سنين , فلما بلغه موته قال: اللهم قد أمته فأمت سنته وسجد شكراً وقرأ {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}. وإنما خص بالآيات كل صبار شكور , وإن كان فيه آيات لجميع الناس لأنه يعتبر بها ويغفل عنها.

6

{وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد} قوله عز وجل: { ... وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: نعمة من ربكم , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: شدة البلية , ذكره ابن عيسى. الثالث: اختبار وامتحان , قاله ابن كامل. قوله عز وجل: {وإذ تأذن ربُّكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه وإذ سمع ربكم , قاله الضحاك. الثاني: وإذا قال ربكم , قاله أبو مالك. الثالث: معناه وإذ أعلمكم ربكم , ومنه الأذان لأنه إعلام , قال الشاعر: (فلم نشعر بضوء الصبح حتى ... سَمِعْنا في مجالِسنا الأذينا) {لئن شكرتم لأزيدنكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي , قاله الربيع. الثاني: لئن شكرتم نعمتي لأزيدنكم من طاعتي , قاله الحسن وأبو صالح. الثالث: لئن وحّدتم وأطعتم لأزيدنكم , قاله ابن عباس. ويحتمل تأويلاً رابعاً: لئن آمنتم لأزيدنكم من نعيم الآخرة إلى نعيم الدنيا. وسُئِل بعض الصلحاء على شكر الله تعالى , فقال: أن لا تتقوى بنِعَمِهِ على معاصيه. وحكي أنَّ داود عليه السلام قال: أي ربِّ كيف أشكرك وشكري لك نعمة مجددة منك عليّ؟ قال: (يا داود الآن شكرتني). {ولئن كفرتم إن عذابي لشديدٌ} وعد الله تعالى بالزيادة على الشكر , وبالعذاب على الكفر.

9

{ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} قوله عز وجل: { ... والذين من بعدهم لا يَعْلمُهم إلا الله} فيها وجهان: أحدهما: يعني بعد من قص ذكره من الأمم السالفة قرون وأمم لم يقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمهم إلا الله عالم ما في السموات والأرض. الثاني: ما بين عدنان وإسماعيل من الآباء. قال ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون. وكان ابن مسعود يقرأ: لا يعلمهم إلا الله كذب النسّابون. {جاءَتهم رسلهم بالبينات} أي بالحجج. {فردُّوا أيديهم في أفواههم} فيه سبعة أوجه: أحدها: أنهم عضوا على أصابعهم تغيظاً عليهم , قاله ابن مسعود واستشهد أبو عبيدة بقول الشاعر: (لو أن سلمى أبصرت تخدُّدي ... ودقةً في عظم ساقي ويدي) (وبعد أهلي وجفاءَ عُوَّدي ... عضت من الوجد بأطراف اليد) الثاني: أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا منه ووضعوا أيديهم على أفواههم , قاله ابن عباس. الثالث: معناه أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم إني رسول الله إليكم , أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم بأن اسكت تكذيباً له ورداً لقوله , قاله أبو صالح.

الرابع: معناه أنهم كذبوهم بأفواههم , قاله مجاهد. الخامس: أنهم كانوا يضعون أيديهم على أفواه الرسل رداً لقولهم , قاله الحسن. السادس: أن الأيدي هي النعم , ومعناه أنهم ردوا نعمهم بأفواههم جحوداً لها. السابع: أن هذا مثل أريد به أنهم كفوا عن قبول الحق ولم يؤمنوا بالرسل , كما يقال لمن أمسك عن الجواب رَدّ في فيه.

10

{قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون} قوله عزوجل: {قالت رسلهم أفي الله شك} فيه وجهان: أحدهما: أفي توحيد الله شك؟ قاله قتادة. الثاني: أفي طاعة الله شك؟ ويحتمل وجهاً ثالثاً: أفي قدرة الله شك؟ لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها. {فاطر السموات والأرض} أي خالقهما , لسهوهم عن قدرته. {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} أي يدعوكم إلى التوبة ليغفر ما تقدمها من معصية. وفي قوله تعالى: {من ذنوبكم} وجهان: أحدهما: أن {من} زائدة , وتقديره , ليغفر لكم ذنوبكم، قاله أبو عبيدة.

الثاني: ليست زائدة , ومعناه أن تكون المغفرة بدلاً من ذنوبكم , فخرجت مخرج البدل. {ويؤخركم إلى أجل مسمى} يعني إلى الموت فلا يعذبكم في الدنيا. قوله عز وجل: {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن ينكر قومهم أن يكونوا مثلهم وهم رسل الله إليهم. الثاني: أن يكون قومهم سألوهم معجزات اقترحوها. وفي قوله تعالى: {ولكن الله يمنّ على مَنْ يشاء من عباده} ثلاثة أوجه: أحدها: بالنبوة. الثاني: بالتوفيق والهداية. الثالث: بتلاوة القرآن وفهم ما فيه , قاله سهل بن عبد الله. {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بكتاب. الثاني: بحجة. الثالث: بمعجزة.

13

{وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ} قوله عز وجل: {ذلك لمن خاف مقامي} أي المقام بين يدّي , وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به: والفرق بين المقام بالفتح وبين المقام بالضم أنه إذا ضم فهو فعل الإقامة، وإذا فتح فهو مكان الإقامة.

{وخاف وعيد} فيه وجهان: أحدهما: أنه العذاب. والثاني: أنه ما في القرآن من زواجر. {واستفتحوا} فيه وجهان: أحدهما: أن الرسل استفتحوا بطلب النصر , قاله ابن عباس. الثاني: أن الكفار استفتحوا بالبلاء , قاله ابن زيد. وفي الاستفتاح وجهان: أحدهما: أنه الإبتداء. الثاني: أنه الدعاء , قاله الكلبي. {وخاب كلُّ جبار عنيد} في {خاب} وجهان: أحدهما: خسر عمله. الثاني: بطل أمله. وفي {جبار} وجهان: أحدهما: أنه المنتقم. الثاني: المتكبر بطراً. وفي {عنيد} وجهان. أحدهما: أنه المعاند للحق. الثاني: أنه المتباعد عن الحق , قال الشاعر: (ولست إذا تشاجر أمْرُ قوم ... بأَوَّلِ مَنْ يخالِفهُم عَنيدا) قوله عز وجل: {مِن ورائه جهنم} فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه من خلفه جهنم. قال أبو عبيدة: وراء من الأضداد وتقع على خلف وقدام. جميعاً. الثاني: معناه أمامه جهنم , ومنه قول الشاعر: (ومن ورائك يومٌ أنت بالغه ... لا حاضرٌ معجز عنه ولا بادي)

الثالث: أن جهنم تتوارى ولا تظهر , فصارت من وراء لأنها لا ترى حكاه ابن الأنباري. الرابع: من ورائه جهنم معناه من بعد هلاكه جهنم , كما قال النابغة: (حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراءَ الله للمرْءِ مذهب) أراد: وليس بعد الله مذهب. {ويسقى من ماءٍ صديد} فيه وجهان: أحدهما: من ماء مثل الصديد كما يقال للرجل الشجاع أسد , أي مثل الأسد. الثاني: من ماء كرهته تصد عنه , فيكون الصديد مأخوذاً من الصد. قوله عز وجل: { ... ويأتيه الموت مِنْ كل مكان} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره , قاله إبراهيم التيمي , للآلام التي في كل موضع من جسده. الثاني: تأتيه أسباب الموت من كل جهة , عن يمينه وشماله , ومن فوقه وتحته , ومن قدامه وخلفه , قاله ابن عباس. الثالث: تأتيه شدائد الموت من كل مكان , حكاه ابن عيسى. {وما هو بميتٍ} لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه ليكون ذلك زيادة في عذابه. {ومن ورائه عذاب غليظ} فيه الوجوه الأربعة الماضية. والعذاب الغليظ هو الخلود في جهنم.

18

{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد} قوله عز وجل: {مثل الذين كفروا بربّهم أعمالُهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف} وهذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكافر في أنه لا يحصل على شيء منها , بالرماد الذي هو بقية النار الذاهبة لا ينفعه , فإذا اشتدت به الريح العاصف: وهي

الشديدة: فأطارته لم يقدر على جمعه , كذلك الكافر في عمله. وفي قوله {في يوم عاصف} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح , لأن الريح تكون فيه , كما يقال يوم بارد , ويوم حار , لأن البرد والحر يكونان فيه. الثاني: أن المراد به في يوم عاصف الريح , فحذف الريح لأنها قد ذكرت قبل ذلك. الثالث: أن العصوف من صفة الريح المقدم ذكرها , غير أنه لما جاء بعد اليوم ابتع إعرابه. {لا يقدرون مما كسَبَوا على شيءٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يقدرون في الآخرة على شيء من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا لإحباطه بالكفر. الثاني: لا يقدرون على شيء مما كسبوه من عروض الدنيا , بالمعاصي التي اقترفوها , أن ينتفعوا به في الآخرة. {ذلك هو الضلال البعيد} وإنما جعله بعيداً لفوات استدراكه بالموت.

19

{ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} قوله عز وجل: {وبرزوا لله جميعاً} أي ظهروا بين يديه تعالى في القيامة. {فقال الضعفاء} وهم الأتباع. {للذين استكبروا} وهم القادة المتبوعون. {إنا كُنّا لكم تبعاً} يعني في الكفر بالإجابة لكم. {فهل أنتم مغنون عَنّا مِن عذاب الله من شيء} أي دافعون عنا يقال أغنى عنه

إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع. {قالوا لو هَدانا الله لهديناكم} فيه ثلاثة أوجه أحدها: لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه. الثاني: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. الثالث: لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيصٍ} أي من منجى أو ملجأ , قيل إن أهل النار يقولون: يا أهل النار إن قوماً جزعوا في الدنيا وبكوا ففازوا , فيجزعون ويبكون. ثم يقولون: يا أهل النار إن قوماً صبروا في الدنيا ففازوا , فيصبرون. فعند ذلك يقولون {سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}.

22

{وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام} قوله عزوجل: {وقال الشيطان لمّا قضي الأمر} يعني إبليس. قال الحسن: يقف إبليس يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً. {إن الله وعدكم وعد الحق} يعني البعث والجنة والنار وثواب المطيع وعذاب العاصي. {ووعدتكم} أن , لا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب. {فأخلفتكم وما كان لي عليكم مِن سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيَّ} فيه وجهان:

أحدهما: معناه ما أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجيَّ , قاله الربيع بن أنس. الثاني: ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثي , قاله مجاهد. والمصرخ: المغيث. والصارخ: المستغيث. ومنه قول أمية بن أبي الصلت: (فلا تجزعوا إنّي لكم غير مُصْرخ ... فليس لكم عندي غناءٌ ولا صبر) {إني كفرتُ بما أشركتمون مِن قبل} فيه وجهان: أحدهما: إني كفرت اليوم بما كنتم في الدنيا تدعونه لي من الشرك بالله تعالى , قاله ابن بحر. الثاني: إني كفرت قبلكم بما أشركتموني من بعد , لأن كفر إبليس قبل كفرهم. قوله عز وجل: { ... تحيّتُهم فيها سلامٌ} فيها وجهان: أحدهما: أن تحية أهل الجنة إذا تلاقوا فيها السلامه , وهو قول الجمهور. الثاني: أن التحية ها هنا الملك , ومعناه أن ملكهم فيها دائم السلام , مأخوذ من قولهم في التشهد: التحيات لله , أي الملك لله , ذكره ابن شجرة. وفي المحيّي لهم بالسلام ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله تعالى يحييهم بالسلام. الثاني: أن الملائكة يحيونهم بالسلام. الثالث: أن بعضهم يحيي بعضاً بالسلام. وتشبيه الكلمة الطيبة بها لأنها ثابتة في القلب كثبوت أصل النخلة في الأرض , فإذا ظهرت عرجت إلى السماء كما يعلو فرع النخلة نحو السماء فكلما ذكرت نفعت , كما أن النخلة إذا أثمرت نفعت.

24

{ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}

قوله عز وجل: {ألم تَرَ كَيْفَ ضرب اللهُ مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ} في الكلمة الطيبة قولان: أحدهما: أنها الإيمان , قاله مجاهد وابن جريج. الثاني: أنه عنى بها المؤمن نفسه , قاله عطية العوفي والربيع بن أنس. وفي الشجرة الطيبة قولان: أحدهما: أنها النخلة , وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر وأنس بن مالك. الثاني: أنها شجرة في الجنة , قاله ابن عباس. وحكى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة: الإيمان , والشجرة الطيبة: المؤمن. {أصلها ثابت} يعني في الأرض. {وفرعها في السماء} أي نحو السماء. {تؤتي أكُلَها} يعني ثمرها. {كلَّ حين بإذن ربها} والحين عند أهل اللغة: الوقت. قال النابغة: (تناذرها الرّاقون من سُوءِ سُمِّها ... تُطلِّقُه حيناً وحيناً تُراجع) وفي {الحين} ها هنا ستة تأويلات: أحدها: يعني كل سنة , قاله مجاهد , لأنها تحمل كل سنة. الثاني: كل ثمانية أشهر , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه , لأنها مدة الحمل ظاهراً وباطناً. الثالث: كل ستة أشهر , قاله الحسن وعكرمة , لأنها مدة الحمل ظاهراً. الرابع: كل أربعة أشهر , قاله سعيد بن المسيب لأنها مدة يرونها من طلعها إلى جذاذها.

الخامس: كل شهرين , لأنها مدة صلاحها إلى جفافها. السادس: كل غدوة وعشية , لأنه وقت اجتنائها , قاله ابن عباس. وفي قوله تعالى {في الحياة الدنيا وفي الآخرة} وجهان: أحدهما: أن المراد بالحياة الدنيا زمان حياته فيها , وبالآخرة المساءلة في القبر , قاله طاوس وقتادة. الثاني: أن المراد بالحياة الدنيا المساءلة في القبر أن يأتيه منكر ونكير فيقولان له: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: إن اهتَدَى: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم. {ويضلُّ اللهُ الظالمين} فيه وجهان: أحدهما: عن حجتهم في قبورهم , كما ضلوا في الحياة الدنيا بكفرهم. الثاني: يمهلهم حتى يزدادوا ضلالاً في الدنيا. {ويفعل الله ما يشاء} فيه وجهان: أحدهما: مِن إمهال وانتقام. الثاني: من ضغطة القبر ومساءلة منكر ونكير. وروى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منه سعد بن معاذ , ولقد ضم ضَمّةً). وقال قتادة: ذكر لنا أنّ عذاب القبر من ثلاثة: ثلثٌ من البول. وثلثٌ من الغيبة , وثلثٌ من النميمة.

وسبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءَلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر: يا رسول الله أيكون معي عقلي:؟ قال: (نعم) قال. كُفيت إذن , فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله عز وجل: {ومثل كلمة خبيثة} فيها قولان: أحدهما: أنها الكفر. الثاني: أنها الكافر نفسه. {كشجرة خبيثةٍ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها شجرة الحنظل , قاله أنس بن مالك. الثاني: أنها شجرة لم تخلف , قاله ابن عباس. الثالث: أنها الكشوت. {اجتثت من فوق الأرض} أي اقتلعت من أصلها , ومنه قول لقيط:

(هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مِثل ذا يوماً ومَنْ سمعا) {ما لها من قرار} فيه وجهان: أحدهما: ما لها من أصل. الثاني: ما لها من ثبات. وتشبيه الكلمة الخبيثة بهذه الشجرة التي ليس لها أصل يبقى , ولا ثمر يجتنى أن الكافر ليس له عمل في الأرض يبقى , ولا ذكر في السماء يرقى.

27

{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} قوله عز وجل: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} فيه وجهان: أحدهما: يزيدهم الله أدلة على القول الثابت. الثاني: يديمهم الله على القول الثابت , ومنه قول عبد الله بن رواحة. (يُثبِّتُ الله ما آتاكَ من حسنٍ ... تثبيتَ موسى ونصراً كالذي نصِرا) وفي قوله: {بالقول الثابت} وجهان: أحدهما: أنه الشهادتان , وهو قول ابن جرير. الثاني: أنه العمل الصالح. ويحتمل ثالثاً: أنه القرآن.

28

{ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} قوله عز وجل: {ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً} فيهم خمسة أقاويل:

أحدهما: أنهم قريش بدلوا نعمة الله عليهم لما بعث رسوله منهم , كفراً به وجحوداً له , قاله سعيد بن جبير ومجاهد. الثاني: أنها نزلت في الأفجرين من قريش بني أميه وبني مخزوم فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين , وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر , قاله عليٌّ , ونحوه عن عمر رضي الله عنهما. الثالث: أنهم قادة المشركين يوم بدر , قاله قتادة. الرابع: أنه جبلة من الأيهم حين لُطم , فجعل له عمر رضي الله عنه القصاص بمثلها , فلم يرض وأنف فارتد متنصراً ولحق بالروم في جماعة من قومه , قاله ابن عباس. ولما صار إلى بلاد الروم ندم وقال: (تنصَّرت الأشْرافُ من عار لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضَرَرْ) (تكنفني منها لجاجٌ ونخوةٌ ... وبعث لها العين الصحيحة بالعور) (فيا ليتني أرْعَى المخاض ببلدتي ... ولم أنكِرِ القول الذي قاله عمر) الخامس: أنها عامة في جميع المشركين , قاله الحسن. ويحتمل تبديلهم نعمة الله كفراً وجهين: أحدهما: أنهم بدلوا نعمة الله عليهم في الرسالة بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنهم بدلوا نعم الدنيا بنقم الآخرة. {وأحلوا قومهم دار البوار} فيها قولان: أحدهما: أنها جهنم , قاله ابن زيد. الثاني: أنها يوم بدر , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد. والبوار في كلامهم الهلاك، ومنه قول الشاعر:

(فلم أر مثلهم أبطال حربٍ ... غداة الحرب إن خيف البَوارُ)

31

{قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال} قوله عز وجل: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصّلاة وينفقوا مما رزَقناهم سِرًّا وعلانية} فيه وجهان: أحدهما: يعني بالسر ما خفي , وبالعلانية ما ظهر , وهو قول الأكثرين. الثاني: أن السر التطوع , والعلانية الفرض , قاله القاسم بن يحيى. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن السر الصدقات , والعلانية النفقات. {مِنْ قبل أن يأتي يومٌ , لا بَيْعٌ فيه ولا خلالٌ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لا فِدية ولا شفاعة للكافر. الثاني: أن معنى قوله {لا بيع} أي لا تباع الذنوب ولا تشتري الجنة. ومعنى قوله {ولا خِلال} أي لا مودة بين الكفار في القيامة لتقاطعهم. ثم فيه وجهان: أحدهما: أن الخلال جمع خلة , مثل قِلال وقُلّة. الثاني: أنه مصدر من خاللت خِلالاً , مثل قاتلت قِتالاً. ومنه قول لبيد: (خالت البرقة شركاً في الهدى ... خلة باقية دون الخلل)

32

{الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وإذ قال إبراهيم رب

اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} قوله عز وجل: {رَبّنا إني أسكنت مِنْ ذُرِّيتي بوادٍ غير ذي زَرْعٍ} هذا قول إبراهيم عليه السلام. وقوله {مِن ذريتي} يريد بهم إسماعيل وهاجر أُمه. {بوادٍ غير ذي زرع} يعني مكة أسكنها في بطحائها , ولم يكن بها ساكن , ثقة بالله وتوكلاً عليه. {عند بيتك المحرم} لأنه قبلة الصلوات فلذلك أسكنهم عنده. وأضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره , ووصفه بأنه محرَّم لأنه يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال. {ربّنا ليقيموا الصلاة} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون سأل الله تعالى بذلك أن يهديهم إلى إقامة الصلاة. الثاني: أن يكون ذكر سبب تركهم فيه أن يقيموا الصلاة. {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} في {أفئدة} وجهان: أحدهما: أن الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب , وقد يعبر عن القلب بالفؤاد , قال الشاعر: (وإنّ فؤاداً قادَني بصبابةٍ ... إليك على طول الهوَى لصَبورُ) الثاني: أن الأفئدة جمع وفد , فكأنه قال: فاجعل وفوداً من الأمم تهوي إليهم. وفي قوله: {تهوي إليهم} أربعة أوجه: أحدها: أنه بمعنى تحن إليهم , الثاني: أنه بمعنى تنزل إليهم , لأن مكة في واد والقاصد إليها نازل إليها،

الثالث: ترتفع إليهم , لأن ما في القلوب بخروجه منها كالمرتفع عنها. الرابع: تهواهم. وقد قرىء تهْوَى. وفي مسألة إبراهيم عليه السلام أن يجعل اللهُ أفئدةً من الناس تهوي إليهم قولان: أحدهما: ليهووا السكنى بمكة فيصير بلداً محرّماً , قاله ابن عباس. الثاني: لينزعوا إلى مكة فيحجوا , قاله سعيد بن جبير ومجاهد. قال ابن عباس: لولا أنه قال من الناس لحجه اليهود والنصارى وفارس والروم. {وارزقهم من الثمرات} فيه وجهان: أحدهما: يريد ثمرات القلوب بأن تحببهم إلى قلوب الناس فيزوروهم. الثاني: ومن الظاهر من ثمرات النخل والأشجار , فأجابه بما في الطائف من الثمار , وما يجلب إلهم من الأمصار. {لَعَلَّهُمْ يشكرون} أي لكي يشكروك. قوله عز وجل: {ربنا اغفر لي ولوالديَّ وللمؤمنين} وفي استغفاره لوالديه مع شركهما ثلاثة أوجه: أحدهما: كانا حيين فطمع في إيمانهما. فدعا لهما بالاستغفار , فلما ماتا على الكفر لم يستغفر لهما. الثاني: أنه أراد آدم وحوّاء. الثالث: أنه أراد ولديه إسماعيل وإسحاق. وكان إبراهيم يقرأ: {رب اغفر لي ولوالدي} يعني ابنيه , وكذلك قرأ يحيى بن يعمر.

38

{ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} قوله عز وجل: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} قال ميمون بن مهران: وعيد للظالم وتعزية للمظلوم. قوله عز وجل: {مهطعين} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه مسرعين قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة , مأخوذ من أهطع يهطع إهطاعاً إذا أسرع , ومنه قوله تعالى: {مهطعين إلى الداع} أي مسرعين. قال الشاعر: (بدجلة دارُهُم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع) الثاني: أنه الدائم النظر لا يطرف , قاله ابن عباس والضحاك. الثالث: أنه المطرِق الذي لا يرفع رأسه , قاله ابن زيد. {مقنعي رءُوسهم} وإقناع الرأس فيه تأويلان: أحدهما: ناكسي رؤوسهم بلغة قريش , قاله مؤرج السدوسي وقتادة.

الثاني: رافعي رؤوسهم , وإقناع الرأس رفْعُه , قاله ابن عباس ومجاهد , ومنه قول الشاعر: (أنغض رأسه نحوي وأقنعا ... كأنما أبصَرَ شيئاً أطمعَا) {لا يرتد إليهم طرفهم} أي لا يرجع إليهم طرفهم , والطرف هو النظر وسميت العَيْن طرْفاً لأنها بها يكون , قال جميل: (وأَقْصِرُ طَرْفي دُون جُمْل كرامةً ... لجُمْلٍ وللطرْفِ الذي أنا قاصِر) {وأفئدتهم هواءٌ} والمراد بالأفئدة مواضع القلوب , وهي الصدور. وقوله: {هواء} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنها تتردد في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه فكأنها تهوي , قاله سعيد بن جبير ومجاهد. الثاني: أنها قد زالت عن أماكنها حتى بلغت الحناجر , فلا تنفصل ولا تعود , قاله قتادة. الثالث: أنها المتخرمَة التي لا تعي شيئاً , قاله مُرّة. الرابع: أنها خالية من الخير , وما كان خالياً فهو هواء , قاله ابن عباس ومنه قول حسان: (ألا أبلِغ أبا سفيان عني ... فأنتَ مُجوَّف نخب هواء)

44

{وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال وقد

مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} قوله عز وجل: {وأنذر النّاس يَوْمَ يأتيهم العذاب} معناه وأنذرهم باليوم الذي يأتيهم فيه العذاب , يعني يوم القيامة. وإنما خصه بيوم العذاب وإن كان يوم الثواب أيضاً لأن الكلام خرج مخرج التهديد للعاصي وإن تضمن ترغيباً للمطيع. {فيقول الذين ظلَموا ربّنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرُّسل} طلبوا رجوعاً إلى الدنيا حين ظهر لهم الحق في الآخرة ليستدركوا فارط ذنوبهم , وليست الآخرة دار توبة فتقبل توبتهم , كما ليست بدار تكليف فيستأنف تكليفهم. فأجابهم الله تعالى عن هذا الطلب فقال: {أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوالٍ} فيه وجهان: أحدهما: ما لكم من انتقال عن الدنيا إلى الآخرة , قاله مجاهد. الثاني: ما لكم من زوال عن العذاب , قاله الحسن. قوله عز وجل: {وقد مكروا مكرهم} فيه قولان: أحدهما: أنه عنى بالمكر الشرك , قاله ابن عباس. الثاني: أنه عنى به العتو والتجبّر , وهي فيمن تجبر في ملكه وصعد مع النسرين في الهواء , قاله علي رضي الله عنه. وقال ابن عباس: هو النمرود بن كنعان بن سنحاريب بن حام بن نوح بنى الصرح في قرية الرس من سواد الكوفة , وجعل طوله خمسة آلاف ذراع , وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعاً وصعد منه مع النسور , فلما علم أنه لا سبيل إلى السماء اتخذه حصناً وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه , فأتى الله بنيانه من القواعد , فتداعى الصرح عليهم , فهلكوا جميعاً، فهذا معنى قوله {وقد مكروا مكرهم}.

{وعند الله مكرهم} فيه وجهان: أحدهما: وعند الله مكرهم عالماً به لا يخفى عليه , قاله علي بن عيسى. الثاني: وعند الله مكرهم محفوظاً عليهم حتى يجازيهم عليه , قاله الحسن وقتادة. {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} فيه قراءتان. إحداهما: بكسر اللام الأولى وفتح الثانية , ومعناها وما كان مكرهم لتزول منه الجبال , احتقاراً له , قاله ابن عباس والحسن. الثانية: بفتح اللام الأولى وضم الثانية , ومعناها وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال استعظاماً له. قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم {وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال}. وفي {الجبال} التي عنى زوالها بمكرهم قولان: أحدهما: جبال الأرض. الثاني: الإسلام والقرآن , لأنه لثبوته , ورسوخه كالجبال.

47

{فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار} قوله عز وجل: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} فيه قولان: أحدهما: أنها تبدل بأرض غيرها بيضاء كالفضة , لم تعمل عليها خطيئة , قاله ابن مسعود. وقال ابن عباس: تبدل الأرض من فضة بيضاء. الثاني: أنها هي هذه الأرض , وإنما تبدل صورتها ويطهر دنسها , قاله الحسن. {السمواتُ} فيها ستة أقاويل:

أحدها: أن السموات تبدل بغيرها كالأرض فتجعل السماء من ذهب , والأرض من فضة , قاله علي بن أبي طالب. الثاني: أن السموات تبدل بغيرها كالأرض , فتصير السموات جناناً والبحار نيراناً وتبدل الأرض بغيرها , قاله كعب الأحبار. الثالث: أن تبديل السموات تكوير شمسها وتكاثر نجومها , قاله ابن عيسى. الرابع: أن تبديلها أن تطوى كطي السجل للكتب , قاله القاسم بن يحيى. الخامس: أن تبديلها أن تنشق فلا تظل , قاله ابن شجرة. السادس: أن تبديلها اختلاف أحوالها , تكون في حال كالمهل , وفي حال كالوردة , وفي حال كالدهان , حكاه ابن الأنباري. {وبرزوا لله الواحد القهار} أي صاروا إلى حكم الله تعالى وأمره فروى الحسن قال: قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله يوم تبدَّل الأرض غير الأرض أين الناس يومئذٍ؟ قال (إن هذا الشيء ما سألني عنه أحد ثم قال على الصراط يا عايشة).

49

{وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب} قوله عز وجل: {وترى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأصفاد} فيه قولان: أحدهما: أن الأصفاد الأغلال , واحدها صفد , ومنه قول حسان: (ما بين مأسورٍ يشد صِفادُهُ ... صقرٍ إذا لاقى الكريهة حامي)

الثاني: أنها القيود , ومنه قول عمرو بن كلثوم: (فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأُبنا بالملوكِ مُصَفّدينا) أي مقيّدين. وأما قول النابغة الذبياني: (هذا الثناء فإن تسمع لقائله ... فلم أعرض , أبيت اللعن , بالصفدِ) فأراد بالصفد العطية , وقيل لها صف لأنها تقيد المودة. وفي المجرمين المقرنين في الأصفاد قولان: أحدهما: أنهم الكفار يجمعون في الأصفاد كما اجتمعوا في الدنيا على المعاصي. الثاني: أنه يجمع بين الكافر والشيطان في الأصفاد. قوله عز وجل: {سرابيلهم مِن قطرانٍ} السرابيل: القمص , واحدها سربال , ومنه قول الأعشى: (عهدي بها في الحي قد سربلت ... صفراء مثل المهرة الضامر) وفي القطران ها هنا قولان: أحدهما: أنه القطران الذي تهنأ به الجمال , قاله الحسن , وإنما جعلت سرابيلهم من قطران لإسراع النار إليها. الثاني: أنه النحاس الحامي , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وقرأ عكرمة وسعيد بن جبير {من قطران} بكسر القاف وتنوين الراء وهمزآن لأن القطر النحاس , ومنه قوله تعالى {آتوني أفرغ عليه قطراً} [الكهف: 96] والآني: الحامي , ومنه قوله تعالى {وبين حَمِيمٍ آن} [الرحمن: 44].

{هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله وحدٌ وليذكرا أولوا الألباب} قوله عز وجل: {هذا بلاغ للناس} فيه قولان: أحدهما: هذا الإنذار كاف للناس، قاله ابن شجرة. الثاني: هذا القرآن كافٍ للناس، قاله ابن زيد. {ولينذروا به} فيه وجهان: أحدهما: بالرسول. الثاني: بالقرآن. {وليعلموا أنما هو إله واحدٌ} لما فيه من الدلائل على توحيده. {وليذكر أولوا الألباب} فيه وجهان: أحدهما: وليتغظ، قاله الكلبي. الثاني: ليسترجع يعني بما سمع من المواعظ. أولوا الألباب، أي ذوو العقول. وروى يمان بن رئاب أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

سورة الحجر مكية باتفاق إلا قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} فمدنية: بسم الله الرحمن الرحيم

الحجر

{الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} {ألر تلك أياتُ الكتاب وقرآن مبينٍ} فيه تأويلان: أحدهما: أن الكتاب هو القرآن , جمع له بين الاسمين. الثاني: أن الكتاب هو التوراة والانجيل , ثم قرنها بالقرآن بالقرآن المبين. وفي المراد بالمبين ثلاثة أوجه: أحدها: المبين إعجازه حتى لا يعارض. الثاني: المبين الحق من الباطل حتى لا يشكلا. الثالث: المبين الحلال من الحرام حتى لا يشتبها. قوله عز وجل: {رُبما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} وفي زمان هذا التمني ثلاثة أقاويل: أحدها: عند المعاينة في الدنيا حين يتبين لهم الهدى من الضلالة، قاله الضحاك.

الثاني: في القيامة إذا رأوا كرامة المؤمنين وذل الكافرين. الثالث: إذا دخل المؤمن الجنة , والكافر النار. وقال الحسن: إذا رأى المشركون المؤمنين وقد دخلوا الجنة وصاروا هم إلى النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين. وربما مستعملة في هذا الموضع للكثير , وإن كانت في الأصل موضوعة للتقليل , كما قال الشاعر: (ألا ربّما أهدت لك العينُ نظرة ... قصاراك مِنْها أنها عنك لا تجدي) وقال بعضهم هي للتقليل أيضاً في هذا الموضع , لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها.

4

{وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} قوله عز وجل: {وما أهلكنا من قرية} يعني من أهل قرية. {إلا ولها كتاب معلوم} يحتمل وجهين: أحدهما: أجل مقدر. الثاني: فرض محتوم. قوله عز وجل: {ما تسبق من أمةٍ أجَلَها وما يَستأخرون} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يتقدم هلاكهم عن أجله ولا يتأخر عنه. الثاني: لا يموتون قبل العذاب فيستريحوا , ولا يتأخر عنهم فيسلموا. وقال الحسن فيه تأويلاً ثالثاً: ما سبق من أمة رسولها وكتابها فتعذب قبلهما ولا يستأخر الرسول والكتاب عنها.

6

{وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}

قوله عز وجل: {ما ننزل الملائكة إلا بالحق} فيه أربعة أوجه: أحدها: إلا بالقرآن , قاله القاسم. الثاني: إلا بالرسالة , قاله مجاهد. الثالث: إلا بالقضاء عند الموت لقبض أرواحهم , قاله الكلبي. الرابع: إلا بالعذاب إذا لم يؤمنوا , قاله الحسن. {وما كانوا إذاً منظرين} أي مؤخَّرين. قوله عز وجل: {إنا نحن نزلنا الذكر} قال الحسن والضحاك يعني القرآن. {وإنا له لحافظون} فيه قولان: أحدهما: وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه , حكاه ابن جرير. الثاني: وإنا للقرآن لحافظون. وفي هذا الحفظ ثلاثة أوجه: أحدها: حفظه حتى يجزى به يوم القيامة , قاله الحسن. الثاني: حفظه من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً , أو يزيل منه حقاً , قاله قتادة. الثالث: إنا له لحافظون في قلوب من أردنا به خيراً , وذاهبوان به من قلوب من أردنا به شراً.

10

{ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين} قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشيع الأمم , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أن الشيع جمع شيعة , والشيعة الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة , فكأن الشيع الفرق , ومنه قوله تعالى {أو يلبسكم شيَعاً} [الأنعام: 65] أي فرقاً , وأصله مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد به الكبار , فهو عون النار.

الثالث: أن الشيع القبائل , قاله الكلبي. قوله عز وجل: {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} فيه أربعة أوجه: أحدها: كذلك نسلك الاستهزاء في قلوب المجرمين , وإن لم يعرفوا , قاله قتادة. الثاني: كذلك نسلك التكذيب في قلوب المجرمين , قاله ابن جريج. الثالث: كذلك نسلك القرآن في قلوب المجرمين , وإن لم يؤمنوا , قاله الحسن. الرابع: كذلك إذا كذب به المجرمون نسلك في قلوبهم أن لا يؤمنوا به. قوله عز وجل: {لا يؤمنون به} يحتمل وجهين: أحدهما: بالقرآن أنه من عند الله. الثاني: بالعذاب أن يأتيهم. {وقد خلت سنة الأولين} السنة: الطريقة , قال عمر بن أبي ربيعة: (لها من الريم عيناه وسُنّتُهُ ... ونحرُه السابق المختال إذ صَهَلا) فيه وجهان: أحدهما: قد خلت سنة الأولين بالعذاب لمن أقام على تكذيب الرسل. الثاني: بأن لا يؤمنوا برسلهم إذا عاندوا. ويحتمل ثالثاً: بأن منهم مؤمناً وكافراً. كما يحتمل رابعاً: من أقام على الكفر بالمعجزات بعد مجيء ما طلب من الآيات.

14

{ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} قوله عز وجل: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} فيه وجهان:

أحدهما: فظل هؤلاء المشركون يعرجون فيه , قاله الحسن وقتادة. الثاني: فظلت الملائكة فيه يعرجون وهم يرونهم , قاله ابن عباس والضحاك. قوله عز وجل: {لقالوا إنما سكرت أبصارنا} في {سكرت} قراءتان: إحداهما بتشديد الكاف , والثانية بتخفيفها , وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: معناهما واحد , فعلى هذا ستة تأويلات: أحدها: سُدّت , قاله الضحاك. الثاني: عميت , قاله الكلبي. الثالث: أخذت , قاله قتادة. الرابع: خدعت , قاله جويبر. الخامس: غشيت وغطيت , قاله أبو عمرو بن العلاء , ومنه قول الشاعر: (وطلعت شمسٌ عليها مغفر ... وجَعَلَتْ عين الحرورو تسكر) السادس: معناه حبست , قاله مجاهد. ومنه قول أوس بن حجر: (فصرن على ليلة ساهرة ... فليست بطلقٍ ولا ساكرة) والوجه الثاني: أن معنى سكرت بالتشديد والتخفيف مختلف , وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: أن معناه بالتخفيف سُحِرَتْ , وبالتشديد: أخذت. الثاني: أنه بالتخفيف من سُكر الشراب , وبالتشديد مأخوذ من سكرت الماء. {بل نحن مسحورون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي سحرنا فلا نبصر. الثاني: مضللون، حكاه ثعلب.

الثالث: مفسدون.

16

{ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} قوله عز وجل: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنها قصور في السماء فيها الحرس , قاله عطية. الثاني: أنها منازل الشمس والقمر , قاله علي بن عيسى. الثالث: أنها الكواكب العظام , قاله أبو صالح , يعني السبعة السيارة. الرابع: أنها النجوم , قاله الحسن وقتادة. الخامس: أنها البروج الاثنا عشر. وأصل البروج الظهور , ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت نفسها. {وزيناها للناظرين} أي حسنّاها. {وحفظناها من كل شيطان رجيم} يعني السماء. وفي الرجيم ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الملعون , قاله قتادة. الثاني: المرجوم بقول أو فعل , ومنه قول الأعشى: (يظل رجيماً لريب المنون ... والسقم في أهله والحزن) الثالث: أنه الشتيم. زعم الكلبي أن السموات كلها لم تحفظ من الشياطين إلى زمن عيسى , فلما بعث الله تعالى عيسى حفظ منها ثلاث سموات , إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظ جميعها بعد بعثه وحرسها منهم بالشهب. قوله عز وجل: {إلا من استرق السمع} ومسترق السمع من الشياطين يسترقه من أخبار الأرض دون الوحي , لأن الله تعالى قد حفظ وحيه منهم. ومن استراقهم له قولان:

أحدهما: أنهم يسترقونه من الملائكة في السماء. الثاني: في الهواء عند نزول الملائكة من السماء. وفي حصول السمع قبل أخذهم بالشهاب قولان: أحدهما: أن الشهاب يأخذهم قبل وصولهم إلى السمع , فيصرفون عنه. الثاني: أنه يأخذهم بعد وصول السمع إليهم. وفي أخذهم بالشهاب قولان: أحدهما: أنه يخرج ويحرق ولا يقتل , قاله ابن عباس. الثاني: أنه يقتل , قاله الحسن وطائفة. فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم , فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء , قاله ابن عباس: ولذلك انقطعت الكهانة. الثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن , ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الإستراق وانقطع الإحراق. وفي الشهب التي يرجمون بها قولان: أحدهما: أنها نور يمتد بشدة ضيائه فيحرقهم ولا يعود , كما إذا أحرقت النار لم تعد. الثاني: أنها نجوم يرجمون بها وتعود إلى أماكنها , قال ذو الرمة: (كأنه كوكب في إثر عفريةٍ ... مُسَوَّمٌ في سوادِ الليل منقضبُ) قوله عز وجل: {والأرض مددناها} أي بسطناها. قال قتادة. بسطت من مكة لأنها أم القرى. {وألقينا فيها رواسي} وهي الجبال. {وأنبتنا فيها من كل شيء موزون} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني مقدر معلوم , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. وإنما قيل

{موزون} لأن الوزن يعرف به مقدار الشيء. قاله الشاعر: (قد كنت قبل لقائكم ذا مِرّةٍ ... عندي لكل مُخاصِم ميزانُه) الثاني: يعني به الأشياء التي توزن في أسواقها , قاله الحسن وابن زيد. الثالث: معناه مقسوم , قاله قتادة. الرابع: معناه معدود , قاله مجاهد. ويحتمل خامساً: أنه ما يوزن فيه الأثمان لأنه أجل قدراً وأعم نفعاً مما لا ثمن له. قوله عز وجل: {وجعلنا لكم فيها معايش} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنها الملابس , قاله الحسن. الثاني: أنها المطاعم والمشارب التي يعيشون فيها , ومنه قول جرير: (تكلفني معيشة آل زيدٍ ... ومَن لي بالمرقق والصنابِ) الثالث: أنها التصرف في أسباب الرزق مدة أيام الحياة , وهو الظاهر. {ومن لستم له برازقين} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الدواب والأنعام , قاله مجاهد. الثاني: أنها الوحوش , قاله منصور. الثالث: العبيد والأولاد الذين قال الله فيهم {نحن نرزقهم وإياكم} [الإسراء: 31] قاله ابن بحر.

21

{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم}

قوله عز وجل: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} يعني وإن من شيء من أرزاق الخلق إلا عندنا خزائنه وفيه وجهان: أحدهما: يعني مفاتيحه لأن في السماء مفاتيح الأرزاق , وهو معنى قول الكلبي. الثاني: أنها الخزائن التي هي مجتمع الأرزاق. وفيها وجهان: أحدهما: ما كتبه الله تعالى وقدره من أرزاق عباده. الثاني: يعني المطر المنزل من السماء , لأنه نبات كل شيء , قال الحسن: المطر خزائن كل شيء. {وما ننزله إلا بقدر معلوم} قال ابن مسعود: ما كان عامٌ بأمطر من عام ولكن الله يقسمه حيث يشاء , فيمطر قوماً ويحرم آخرين. قوله عز وجل: {وأرسلنا الرياحَ لواقِحَ} فيه قولان: أحدهما: لواقح السحاب حتى يمطر , قاله الحسن وقتادة , وكل الرياح لواقح. غير أن الجنوب ألقح وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هبت ريح جنوب إلا أنبع الله تعالى بها عيناً غدقة). الثاني: لواقح للشجر حتى يثمر , قاله ابن عباس. وقال أبو عبيدة: لواقح بمعنى ملاقح. وقال عبيد بن عمير: يرسل الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قمّاً، ثم يرسل المثيرة فتثير السحاب , ثم يرسل المؤلفة فتؤلفه، ثم يرسل اللواقح فتلقح الشجر. قوله عز وجل: {فأنزلنا من السماء ماءً} يعني من السحاب مطراً. {فأسقيناكموه} أي مكناكم منه , والفرق بين السقي والشرب أن السقي بذل

المشروب , والشرب: استعمال المشروب , فصار الساقي باذلاً , والشارب مستعملاً. {وما أنتم له بخازنين} فيه وجهان: أحدهما: بخازني الماء الذي أنزلناه. الثاني: بمانعي الماء الذي أنزلناه. قوله عز وجل: {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد عَلِمنا المستأخرين} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أن المستقدمين الذين خلقوا , والمستأخرين الذين لم يخلقوا , قاله عكرمة. الثاني: المستقدمين الذين ماتوا , والمستأخرين الذين هم أحياء لم يموتوا , قاله الضحاك. الثالث: المستقدمين أول الخلق , والمستأخرين آخر الخلق , قاله الشعبي. الرابع: المستقدمين أول الخلق ممن تقدم على أمة محمد , والمستأخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله مجاهد. الخامس: المستقدمين في الخير , والمستأخرين في الشر , قاله قتادة. السادس: المستقدمين في صفوف الحرب , والمستأخرين فيها , قاله سعيد بن المسيب. السابع: المستقدمين من قتل في الجهاد , والمستأخرين من لم يقتل , قاله القرظي. الثامن: المستقدمين في صفوف الصلاة , والمستأخرين فيها. روى عمر بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت تصلي

خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةٌ من أحسن الناس , لا والله ما رأيت مثلها قط , فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها , ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطه في الصف , فأنزل الله تعالى في شأنها هذه الآية.

26

{ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم} قوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حَمَإٍ مسنون} أما الإنسان ها هنا فهو آدم عليه السلام في قول أبي هريرة والضحاك. أما الصلصال ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الطين اليابس الذي لم تصبه نار , فإذا نقرته صل فسمعت له صلصلة , قاله ابن عباس وقتادة , ومنه قول الشاعر: (وقاعٍ ترى الصَّلصال فيه ودونه ... بقايا بلالٍ بالقرى والمناكبِ) والصلصة: الصوت الشديد المسموع من غير الحيوان , وهو مثل القعقعة في الثوب. الثاني: أنه طين خلط برمل , قاله عكرمة. الثالث: أنه الطين المنتن , قاله مجاهد , مأخوذ من قولهم: صَلَّ اللحمُ وأصَلَّ إذا أنتن , قال الشاعر: (ذاك فتى يبذل ذا قدرِهِ ... لا يفسد اللحم لديه الصلول) والحمأ: جمع حمأة وهو الطين الأسود المتغير. وفي المسنون سبعة أقاويل:

أحدها: أن المسنون المنتن المتغير , من قولهم قد أسن الماء إذا تغير , قاله ابن عباس , ومنه قول أبي قيس بن الأسلت: (سَقَتْ صدايَ رضاباً غير ذي أَسَنٍ ... كالمسكِ فُتَّ على ماءٍ العناقيد) الثاني: أن المسنون المنصوب القائم , من قولهم وجه مسنون , قاله الأخفش. الثالث: أن المسنون المصبوب , من قولهم سنيتُ الماء على الوجه إذا صببته عليه , قاله أبو عمرو بن العلاء , ومنه الأثر المروي عن عمر أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنُّه , والشن تفريق الماء , والسن صبه. الرابع: أن المسنون الذي يحك بعضه بعضاً , من قولهم سننت الحجر على الحجر إذا حككت أحدهما بالآخر , ومنه سمي المسَنّ لأن الحديد يسن عليه , قاله الفراء. الخامس: أن المسنون المنسوب. السادس: أنه الرطب , قاله ابن أبي طلحة. السابع: أنه المخلص من قولهم سن سيفك أي اجلهُ. قوله عز وجل: {والجانَّ خلقناه من قبل من نار السموم} وفي الجان ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه إبليس , قاله الحسن. الثاني: أنهم الجن حكاه ابن شجرة. الثالث: أنه أبو الجن قاله الكلبي فآدم أبو الإنس , والجان: أبو الجن , وإبليس أبو الشياطين. قال ابن عباس: الجان أبو الجن وليسوا شياطين. والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. والجن يموتون , ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. {خلقناه من قبل} يعني من قبل آدم. قال قتادة: لأن آدم إنما خلق آخر الخلق.

وقوله تعالى: {من نار السّموم} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني من لهب النار , قاله ابن عباس. الثاني: يعني من نار الشمس , قاله عمرو بن دينار. الثالث: من حر السموم , والسموم: الريح الحارة. ذكره ابن عيسى. الرابع: أنه نار السموم نار الصواعق بين السماء وبين حجاب دونها , قاله الكلبي وسمي سموماً لدخوله في مسام البدن.

28

{وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} قوله عز وجل: {قال رَبِّ فأنظرني إلى يوم يبعثونَ} وهذا السؤال من إبليس لم يكن من ثقة منه بمنزلته عند الله تعالى وأنه أهل أن يجاب له دعاء , ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه كفعل الآيس من السلامة. وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون أن لا يموت , لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده. فقال الله تعالى: {فإنك من المنظرين} يعني من المؤجلين. {إلى يوم الوقت المعلوم} فلم يجبه إلى البقاء. وفي الوقت المعلوم وجهان: أحدهما: معلوم عند الله تعالى , مجهول عند إبليس.

الثاني: إلى يوم النفخة الأولى يموت إبليس. وبين النفخة والنفخة أربعون سنة. فتكون مدة موت إبليس أربعين سنة , وهو قول ابن عباس وسمي يوم الوقت المعلوم لموت جميع الخلائق فيه. وليس هذا من الله تعالى إجابة لسؤاله , لأن الإجابة تكرمة , ولكن زيادة في بلائه , ويعرف أنه لا يضر بفعله غير نفسه. وفي كلام الله تعالى له قولان: أحدهما: أنه كلمه على لسان رسول. الثاني: أنه كلمه تغليظاً في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب.

39

{قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} قوله عز وجل: {قال ربِّ بما أغوَيتني} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بما أضللتني , قاله ابن عباس. الثاني: بما خيبتني من رحمتك. الثالث: بما نسبتني إلى الإغواء. ويحتمل هذا من إبليس وجهين: أحدهما: أنه يقوله على وجه القسم وتقديره: وحق إغوائك لي. الثاني: أنه يقوله على وجه الجزاء , وتقديره لأجل إغوائك لي. {لأزينن لهم في الأرض} يحتمل وجهين: أحدهما: لأزينن لهم فعل المعاصي. الثاني: لأشغلنهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة.

{ولأغوينهم أجمعين} أي لأضلنهم عن الهدى. {إلاّ عبادك منهم المخلصين} وهم الذين أخلصوا العبادة من فساد أو رياء حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلص لله , فقال: الذي يعمل لله ولا يحب أن يحمده الناس. قوله عز وجل: {قال هذا صراطٌ عليَّ مستقيم} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة , قاله عمر رضي الله عنه. الثاني: هذا صراط إليَّ مستقيم , قاله الحسن فتكون عليَّ بمعنى إليَّ. الثالث: أنه وعيد وتهديد , ومعناه أن طريقه إليَّ ومرجعه عليَّ , كقول القائل لمن يهدده ويوعده: عليَّ طريقك , قاله مجاهد. الرابع: معناه هذا صراط , عليّ استقامته بالبيان والبرهان. وقيل بالتوفيق والهداية. وقرأ الحسن وابن سيرين: {عليٌّ مستقيم} برفع الياء وتنوينها , ومعناه رفيع مستقيم , أي رفيع أن ينال , مستقيم أن يمال.

45

{إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} قوله عز وجل: {ادخلوها بسلامٍ آمنين} في قوله {بسلام} ثلاثة أوجه: أحدها: بسلامة من النار , قاله القاسم ابن يحيى. الثاني: بسلامة تصحبكم من كل آفة , قاله علي بن عيسى. الثالث: بتحية من الله لهم , وهو معنى قول الكلبي. {آمنين} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: آمنين من الخروج منها. الثاني: آمنين من الموت. الثالث: آمنين من الخوف والمرض. قوله عز وجل: {ونزعنا ما في صدورهم مِنْ غِلٍّ} فيه وجهان: أحدهما: نزعنا بالإسلام ما في صدورهم من غل الجاهلية , قاله علي بن الحسين. الثاني: نزعنا في الآخرة ما في صدورهم من غل الدنيا , قاله الحسن , وقد رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. {إخواناً عَلَى سُرُرٍ متقابلين} في السرر وجهان: أحدهما: أنه جمع أسرة هم عليها. الثاني: أنه جمع سرورهم فيه. وفي {متقابلين} خمسة أوجه: أحدها: متقابلين بالوجوه يرى بعضهم بعضاً فلا يصرف طرفه عنه تواصلاً وتحابياً , قاله مجاهد. الثاني: متقابلين بالمحبة والمودة , لا يتفاضلون فيها ولا يختلفون , قاله علي بن عيسى. الثالث: متقابلين في المنزلة لا يفضل بعضهم فيها على بعض لاتفاقهم على الطاعة واستهوائهم في الجزاء , قاله أبو بكر بن زياد. الرابع: متقابلين في الزيارة والتواصل , قاله قتادة. الخامس: متقابلين قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهم بالود، حكاه القاسم.

قيل إن هذه الآية نزلت في العشرة من قريش. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير منهم. قوله عز وجل: {نَبِّىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم} سبب نزولها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يضحكون , فقال: (تضحكون وبين أيديكم الجنة والنار) فشق ذلك عليهم , فأنزل الله تعالى: {نَبِّىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم}.

51

{ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} قوله عز وجل: {قالوا لا توجل} أي لا تخف , ومنه قول معن بن أوس: (لعمرك ما أدري وأني لأوجل ... على أينا تعدو المنيةُ أوّلُ) {إنّا نبشِّرك بغلامٍ عليم} أي بولد هو غلام في صغره , عليم في كبره , وهو إسحاق. لقوله تعالى {فضحكت فبشرناها بإسحاق}. وفي {عليم} تأويلان: أحدهما: حليم , قاله مقاتل. الثاني: عالم , قاله الجمهور. فأجابهم عن هذه البشرى مستفهماً لها متعجباً منها {قال أبَشّرتموني على أن مسنيَ الكبر} أي علو السن عند الإياس من الولد. {فبم تبشرونَ} فيه وجهان:

أحدهما: أنه قال ذلك استفهاماً لهم , هل بشروه بأمر الله؟ ليكون أسكن لنفسه. الثاني: أنه قال ذلك تعجباً من قولهم , قاله مجاهد. {قالوا بشرناك بالحقّ} أي بالصدق , إشارة منهم إلى أنه عن الله تعالى. {فلا تكن مِنَ القانطين} أي من الآيسين من الولد.

57

{قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} قوله عز وجل: {قالوا إنا أُرسلنا إلى قومٍ مجرمين إلاّ آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين} آل لوط اتباعه ومؤمنو قومه , سمّاهم آلَهُ لنصرتهم له , وإيمانهم به , فاستثناهم من المجرمين المأمور بهلاكهم , فخرجوا بالاستثناء منهم. ثم قال تعالى {إلاّ امْراَته} فكانت مستثناة من آل لوط ولاحقة بالمجرمين , لأن كل استثناء يعود إلى ما تقدمه فيخالفه في حكمه. فإن عاد إلى إثبات كان الاستثناء نفياً , وإن عاد إلى نفي كان الاستثناء إثباتاً , فصارت امرأة لوط ملحقة بالمجرمين المهلكين. ومثال هذا في الإقرار أن يقول له: عليّ عشرة إلا سبعة إلا أربعة , فيكون عليه سبعة لأن الأربعة استثناء يرجع إلى السبعة التي قبلها , فصار الباقي منها ثلاثة. وتصير الثلاثة الباقية هي الاستثناء الراجع إلى العشرة , فيبقى منها سبعة. وهكذا في الطلاق لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثاً أو اثنتين إلا واحدة طلقت ثنتين لأن الواحدة ترجع إلى الثنتين , فتبقى منها واحدة فتصير الواحدة هي القدر المستثنى من الثلاثة فيصير الباقي منها ثنتين وهكذا حكم قوله: {إلا امرأته}. {قدرنا} فيه وجهان: أحدهما: معناه قضينا، قاله النخعي. الثاني: معناه كتبنا، قاله علي بن عيسى.

{إنها لَمِنَ الغابرين} فيه وجهان: أحدهما: أي من الباقين في العذاب مع المجرمين. الثاني: من الماضين بالعذاب.

61

{فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} قوله عز وجل: {فأسرِ بأهلك بقطع مِن الليل} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بآخر الليل , قاله الكلبي. الثاني: ببعض الليل , قاله مقاتل. الثالث: بظلمة الليل , قاله قطرب , ومنه قول الشاعر: (ونائحةٍ تنوحُ بقطع ليلٍ ... على رَجُلٍ بقارعةِ الصعيد) قوله عز وجل: {وقضينا إليه ذلك الأمر} أي أوحينا إليه ذلك الأمر. {أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين} فيه وجهان: أحدهما: آخرهم. الثاني: أصلهم. {مقطوع مصبحين} أي يستأصلون بالعذاب عند الصباح.

67

{وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أو لم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}

قوله عز وجل: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} لعمرك: قسم فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه وعيشك , وهذا مروي عن ابن عباس. الثاني: معناه وعملك , قاله قتادة. الثالث: معناه وحياتك , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً وقال: ما أقسم الله تعالى بحياة غيره. الرابع: وحقك , يعني الواجب على أمتك , والعمر الحق , ومنه قولهم: لعمر الله , أي وحق الله. وفي {سكرتهم} وجهان: أحدهما: في ضلالتهم , قاله قتادة. الثاني: في غفلتهم , قاله الأعمش. وفي {يعمهون} أربعة أوجه: أحدها: معناه يترددون , قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وأبو مالك. الثاني: يتمارون , قاله السدي. الثالث: يلعبون , قاله الأعمش. الرابع: يمنعون , قاله الكلبي.

73

{فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين}

قوله تعالى: {إنَّ في ذلك لآياتٍ للمتوسمين} فيه خمسة أوجه: أحدها: للمتفرسين , قاله مجاهد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ثم تلا هذه الآية ... الثاني: للمعتبرين , قاله قتادة. الثالث: للمتفكرين , قاله ابن زيد. الرابع: للناظرين , قاله الضحاك. قال زهير بن أبي سلمى: (وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيقٌ لعَيْنِ الناظر المتوسم) الخامس: للمبصرين , قاله أبو عبيدة. قال الحسن: هم الذين يتوسمون الأمور

فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أن يهلك الكفار , ومنه قول عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني توسمت فيك الخير أعرِفُه ... والله يعلم أني ثابت البصر) قوله عز وجل: {وإنها لبسبيل مقيم} فيه تأويلان: أحدهما: لهلاك دائم , قاله ابن عباس. الثاني: لبطريق معلم , قاله مجاهد. يعني بقوله {وإنما} أهل مدائن قوم لوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب.

78

{وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين} قوله عز وجل: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين} يعني في تكذيب رسول الله إليهم وهو شعيب , لأنه بعثَ إلى أمتين , أصحاب الأيكة وأهل مدين. فأما أهل مدين فأهلكوا بالصيحة , وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها , قاله قتادة. وفي {الأيكة} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الغيضة , قاله مجاهد. الثاني: أنه االشجر الملتف , وكان أكثر شجرهم الدوم وهو المقل , وهذا قول ابن جرير , ومنه قول النابغة الذبياني: (تجلو بِقادِمَتَي حمامةِ أيكة ... بَرَداص أُسفَّ لثاثُهُ الإثمدِ) الثالث: أن الأيكة اسم البلد، وليكة اسم المدينة بمنزلة بكة من مكة، حكاه ابن شجرة. قوله عز وجل: {فانتقمنا منهم وإنهما لبإمامٍ مبينٍ} فيه تأويلان: أحدهما: لبطريق واضح , قاله قتادة. وقيل للطريق إمام لأن المسافر يأتم به حتى يصل إلى مقصده.

الثاني: لفي كتاب مستبين , قاله السدي. وإنما سمي الكتاب إماماً لتقدمه على سائر الكتب , وقال مؤرج: هو الكتاب بلغة حِمْيَر. ويعني بقوله {وإنهما} أصحاب الأيكة وقوم لوط.

80

{ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} قوله عز وجل: {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين} وهم ثمود قوم صالح. وفي {الحجر} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الوادي , قاله قتادة. الثاني: أنها مدينة ثمود , قاله ابن شهاب. الثالث: ما حكاه ابن جرير أن الحجر أرض بين الحجاز والشام. وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ في غزاة تبوك بالحجر , فقال: (هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلاّ رجلاً كان في حَرَم الله , منعه حرمُ الله من عذاب الله). قيل: يا رسول الله من هو؟ قال: (أبو رغال). قوله عز وجل: {وكانوا ينحتون مِنَ الجبال بيوتاً آمنين} فيه أربعة أوجه: أحدها: آمنين أن تسقط عليهم. الثاني: آمنين من الخراب. الثالث: آمنين من العذاب. الرابع: آمنين من الموت.

85

{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم}

قوله عز وجل: {فاصفح الصفح الجميل} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الإعراض من غير جزع. الثاني: أنه صفح المنكر عليهم بكفرهم , المقيم على وعظهم , قاله ابن بحر. الثالث: أنه العفو عنهم بغير توبيخ ولا تعنيف. الرابع: أنه الرضا بغير عتاب , قاله علي بن أبي طالب. وفيه قولان: أحدهما: أنه أمر بالصفح عنهم في حق الله تعالى , ثم نسخ بالسيف , فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك , (لقد أتيتكم بالذبح , وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة) قاله عكرمة ومجاهد. الثاني: أنه أمره بالصفح في حق نفسه فيما بينه وبينهم , قاله الحسن.

87

{ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين} قوله عز وجل: {ولقد آتيناك سبعاً مِن المثاني والقرآن العظيم} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن السبع المثاني هي الفاتحة , سميت بذلك لأنها تثنى كلما قرىء القرآن وصُلّي , قاله الربيع بن أنس وأبو العالية والحسن. وقيل: لأنها يثني فيها الرحمن الرحيم , ومنه قول الشاعر: (نشدتكم بمنزل القرآن ... أمّ الكتاب السّبع من مثاني) (ثُنِّين مِن آيٍ مِن القرآن ... والسبع سبع الطول الدواني) الثاني: أنها السبع الطوَل: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس , قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد.

قال ابن عباس: سميت المثاني لما تردد فيها من الأخبار والأمثال والعبر وقيل: لأنها قد تجاوزت المائة الأولى إلى المائة الثانية. قال جرير: (جزى الله الفرزدق حين يمسي ... مضيعاً للمفصل والمثاني) الثالث: أن المثاني القرآن كله , قاله الضحاك , ومنه قول صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقد كان نوراً ساطعاً يهتدى به ... يخص بتنزيل المثاني المعظم) الرابع: أن المثاني معاني القرآن السبعة أمر ونهي وتبشير وإنذار وضرب أمثال وتعديد نعم وأنباء قرون , قاله زياد بن أبي مريم. الخامس: أنه سبع كرامات أكرمه الله بها , أولها الهدى ثم النبوة , ثم الرحمةِ ثم الشفقة ثم المودة ثم الألفة ثم السكينة وضم إليها القرآن العظيم , قاله جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما. قوله عز وجل: {لا تمدن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم} يعني ما متعناهم به من الأموال. وفي قوله: {أزواجاً منهم} ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الأشباه , قاله مجاهد. الثاني: أنهم الأصناف قاله أبو بكر بن زياد. الثالث: أنهم الأغنياء , قاله ابن أبي نجيح. {ولا تحزن عليهم} فيه وجهان: أحدهما: لا تحزن عليهم بما أنعمت عليهم في دنياهم. الثاني: لا تحزن بما يصيرون إليه من كفرهم. {واخفض جناحك للمؤمنين} فيه وجهان: أحدهما: اخضع لهم , قاله سعيد بن جبير. الثاني: معناه أَلِنْ جانبك لهم , قال الشاعر: (وحسبك فتيةٌ لزعيم قومٍ ... يمدّ على أخي سُقْم جَناحا)

وروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به ضيف فلم يلق عنده أمراً يصلحه , فأرسل إلى رجل من اليهود يستسلف منه دقيقاً إلى هلال رجب، فقال: لا إلاّ برهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أما والله إني لأمينٌ في السماء وأمين في الأرض، ولو أسلفني أو باعني لأدّيتُ إليه) فنزلت عليه {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم}.

89

{وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {كما أنزلنا على المقتسمين} فيهم سبعة أقاويل: أحدها: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى اقتسموا القرآن فجعلوه أعضاءً أي أجزاءً فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم أهل الكتاب اقتسموا القرآن استهزاءً به , فقال بعضهم: هذه السورة لي , وهذه السورة لك , فسموا مقتسمين , قاله عكرمة. الثالث: أنهم أهل الكتاب اقتسموا كتبهم , فآمن بعضهم ببعضها , وآمن آخرون منهم بما كفر به غيرهم وكفروا بما آمن به غيرهم , فسماهم الله تعالى مقتسمين , قاله مجاهد. الرابع: أنهم قوم صالح تقاسموا على قتله , فسموا مقتسمين , كما قال تعالى {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} [النمل: 49] قاله ابن زيد. الخامس: أنهم قوم من كفار قريش اقتسموا طرق مكة ليتلقوا الواردين إليها من القبائل فينفروهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون , حتى لا يؤمنوا به , فأنزل الله تعالى عليهم عذاباً فأهلكهم , قاله الفراء. السادس: أنهم قوم من كفار قريش قسموا كتاب الله , فجعلوا بعضه شعراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين , قاله قتادة.

السابع: أنهم قوم أقسموا أيماناً تحالفوا عليها , قاله الأخفش. وقيل إنهم العاص بن وائل وعبتة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث , وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج. قوله عز وجل: {الذين جعلوا القرآن عضين} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني فرقاً , فجعلوا بعضه شعراً , وبعضه سحراً , وبعضه كهانة , وبعضه أساطير الأولين , فجعلوه أعضاء كما يعضّى الجزور و {عضين} جمع عضو , مأخوذ من عضَّيت الشيء تعضية إذا فرقته كما قال رؤبة بن العجاج: 89 (وليس دينُ الله بالمعضى} 9 يعني بالمفرَّق , قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: أن العضين جمع عضه وهو البهت , ومن قولهم: عضهتُ الرجل أعضهه عضهاً إذا بهتّه , لأنهم بهتوا كتاب الله تعالى فيما رموه به , قاله قتادة. ومنه قول الشاعر: 89 (إن العضيهة ليستْ فعل أحرار} 9 الثالث: أن العضين المستهزئون , لأنه لما ذكر في القرآن البعوض والذباب والنمل والعنكبوت قال أحدهم: أنا صاحب البعوض , وقال آخر: أنا صاحب الذباب وقال آخر: أنا صاحب النمل. وقال آخر: أنا صاحب العنكبوت , استهزاء منهم بالقرآن , قاله الشعبي والسدي. الرابع: أنه عنى بالعضه السحر , لأنهم جعلوا القرآن سحراً , قاله مجاهد , قال الشاعر: 89 (لك من عضائهن زمزمة} 9 يعني من سحرهن. وقال عكرمة: العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة العاضهة , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن العاضهة والمستعضهه , يعني الساحرة والمستسحرة.

وفي اشتقاق العضين وجهان: أحدهما: أنه مشتق من الأعضاء , وهو قول عبيدة. الثاني: أنه مشتق من العضه وهو السحر , وهو قول الفراء. قوله عز وجل: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني عما كانوا يعبدون , قاله أبو العالية. الثاني: عما كانوا يعبدون , وماذا أجابوا المرسلين , رواه الربيع بن أنس.

94

{فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قوله عز وجل: {فاصدع بما تؤمر} فيه ستة تأويلات: أحدها: فامضِ بما تؤمر , قاله ابن عباس. الثاني: معناه فاظهر بما تُؤمر , قاله الكلبي. قال الشاعر: (ومَن صادعٌ بالحق يعدك ناطقٌ ... بتقوى ومَن إن قيل بالجوْر عيّرا) الثالث: يعني إجهر بالقرآن في الصلاة , قاله مجاهد. الرابع: يعني أعلن بما يوحى إليك حتى تبلغهم , قاله ابن زيد. الخامس: معناه افرق بين الحق والباطل , قاله ابن عيسى. السادس: معناه فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى , حكاه النقاش. وقال رؤية: ما في القرآن أعْرَبُ من قوله {فاصدع بما تؤمر} {وأعرض عن الجاهلين} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه منسوخ بقوله تعالى {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] قاله ابن عباس. الثاني: أعرض عن الاهتمام باستهزائهم. الثالث: معناه بالاستهانة بهم , قاله ابن بحر. ثم فيه وجهان: أحدهما: اصدع الحق بما تؤمر من اظهاره. الثاني: اصدع الباطل بما تؤمر من إبطاله. قوله تعالى: {إنّا كفيناكَ المستهزئينَ} وهم خمسة: الوليد بن المغيرة , والعاص بن وائل , وأبو زمعة , والأسود بن عبد يغوث , والحراث بن الطلاطلة. أهلكهم الله جميعاً قبل بدر لاتسهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب هلاكهم ما حكاه مقسم وقتادة أن الوليد بن المغيرة ارتدى فعلق سهم بردائه , فذهب فجلس فقطع أكحله فنزف فمات. وأما العاص بن وائل فوطىء على شوكة , فتساقط لحمه عن عظامه , فمات , وأما أبو زمعة فعمى. وأما الأسود بن عبد يغوث فإنه أتى بغصن شوك فأصاب عينيه , فسالت حدقتاه على وجهه , فكان يقول: [دعا] عليّ محمد فاستجيب له , ودعوت عليه فاستجيب لي , دعا عليّ أن أعمى فعميت , ودعوت عليه أن يكون طريداً بيثرب , فكان كذلك , وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه استسقى بطنه , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل [حين] نزل عليه بقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} (دع لي خالي) يعني الأسود بن الطلاطلة فقال له: كفيت. قوله عز وجل: {ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك} أي قلبك لأن الصدر محل القلب. {بما يقولون} يعني من الاستهزاء , وقيل من الكذب بالحق. {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين} فيه وجهان:

أحدهما: الخاضعين. الثاني: المصلين. {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} فيه وجهان: أحدهما: الحق الذي لا ريب فيه من نصرك على أعدائك , قاله شجرة. الثاني: الموت الذي لا محيد عنه , قاله الحسن ومجاهد وقتادة.

سورة النحل مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر: وقال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهي قوله {ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً} إلى قوله {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} نزلت بعد قتل حمزة بأحد. بسم الله الرحمن الرحيم

النحل

{أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون} قوله تعالى: {أتى أمرُ الله فلا تستعجلوهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه بمعنى سيأتي أمر الله تعالى. الثاني: معناه دنا أمر الله تعالى. الثالث: أنه مستعمل على حقيقة إتيانه في ثبوته واستقراره. وفي {أمر} أربعة أقاويل: أحدها: أنه إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو مسلم.

الثاني: أنه فرائضه وأحكامه , قاله الضحاك. الثالث: أنه وعيد أهل الشرك ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ابن جريج. الرابع: أنه القيامة , وهو قول الكلبي. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لما نزلت: {أتى أمر الله} رفعوا رؤوسهم فنزل {فلا تستعجلوه} أي فلا تستعجلوا وقوعه. وحكى مقاتل بن سليمان أنه لما قرأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {أتى أمر الله} نهض رسول الله خوفاً من حضورها حتى قرأ {فلا تستعجلوه}. ويحتمل وجهين: أحدهما: فلا تستعجلوا التكذيب فإنه لن يتأخر. الثاني: فلا تستعجلوا أن يتقدم قبل وقته , فإنه لن يتقدم.

2

{ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} قوله عز وجل: {ينزل الملائكة بالروحِ من أمره على من يشاء من عبادِهِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن الروح ها هنا الوحي , وهو النبوة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه كلام الله تعالى وهو القرآن , قاله الربيع ابن أنس. الثالث: أنه بيان الحق الذي يجب اتباعه , قاله ابن عيسى. الرابع: أنها أرواح الخلق. قال مجاهد لا ينزل ملك إلا ومعه روح. الخامس: أن الروح الرحمة , قاله الحسن وقتادة. ويحتمل تأويلاً سادساً: أن يكون الروح الهداية , لأنها تحيا بها القلوب كما تحيي الروح الأبدان.

3

{خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم} قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين}. الخصيم المحتج في الخصومة , والمبين هو المفصح عما في ضميره. وفي صفته بذلك ثلاثة أوجه: أحدها: تعريف قدرة الله تعالى في إخراجه من النطفة المهينة إلى أن صار بهذه الحال في البيان والمكنة. الثاني: ليعرفه نعم الله تعالى عليه في إخراجه إلى هذه الحال بعدما خلقه من نطفة مهينة. الثالث: يعرفه فاحش ما ارتكب من تضييع النعمة بالخصومة في الكفر , قاله الحسن. وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت في أُبي بن خلف الجمحي حين أخذ عظاماً نخرة فذراها وقال: أنُعادُ إذا صرنا هكذا. قوله عز وجل: {والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اللباس , قاله ابن عباس. الثاني: ما ستدفىء به من أصوافها وأوبارها وأشعارها , قاله الحسن. الثالث: أن الدفء صغار أولادها التي لا تركب , حكاه الكلبي. {ومنافِعُ} فيها وجهان: أحدهما: النسل , قاله ابن عباس. الثاني: يعني الركوب والعمل. {ومنها تأكلون} يعني اللبن واللحم.

قوله عز وجل: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الرواح من المراعي إلى الأفنية , والسراح انتشارها من الأفنية إلى المراعي. الثاني: أنه على عموم الأحوال في خروجها وعودها من مرعى أو عمل أو ركوب وفي الجمال بها وجهان: أحدهما: قول الحسن إذا رأوها: هذه نَعَمُ فلان , قاله السدي. الثاني: توجه الأنظار إليها , وهو محتمل. وقد قدم الرواح على السراح وإن كان بعده لتكامل درها ولأن النفس به أسَرُّ. {وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بِشِقِّ الأنفس} في البلد قولان: أحدهما: أنه مكة لأنها من بلاد الفلوات. الثاني: أنه محمول على العموم في كل بلد مسلكه على الظهر. {إلا بشق الأنفس} فيه وجهان: أحدهما: أنكم لولاها ما بلغتموه إلا بشق الأنفس. الثاني: أنكم مع ركوبها لا تبلغونه إلا بشق الأنفس , فكيف بكم لو لم تكن. وفي شق الأنفس وجهان: أحدهما: جهد النفس , مأخوذ من المشقة. الثاني: أن الشق النصف فكأنه يذهب بنصف النفس.

8

{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} قوله تعالى: { ... ويخلق ما لا تعلمُون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما لا تعلمون من الخلق , وهو قول الجمهور. الثاني: في عين تحت العرش، قاله ابن عباس.

الثالث: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض بيضاء مسيرة الشمس ثلاثين يوماً. مشحونة خلقاً لا يعلمون أن الله يعصى في الأرض , قالوا: يا رسول الله فأين إبليس عنهم؟ قال (لا يعلمون أن الله خلق إبليس) ثم تلا {ويخلق ما لا تعلمون}.

9

{وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} {وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر} يحتمل وجهين: أحدهما: وعلى الله قصد الحق في الحكم بين عباده ومنهم جائر عن الحق في حكمه. الثاني: وعلى الله أن يهدي إلى قصد الحق في بيان السبيل , ومنهم جائر عن سبيل الحق , أي عادل عنه لا يهتدي إليه. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الأهواء المختلفة , قاله ابن عباس. الثاني: ملل الكفر.

14

{وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله

ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} قوله عز وجل: {وَتَرَى الفلك مواخِرَ فيه} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن المواخر المواقر , قاله الحسن. الثاني: أنها التي تجري فيه معترضة , قاله أبو صالح. الثالث: أنها تمخر الريح من السفن , قاله مجاهد: لأن المخر في كلامهم هبوب الريح. الرابع: أنها تجري بريح واحدة مقبلة ومدبرة , قاله قتادة. الخامس: أنها التي تشق الماء من عن يمين وشمال , لأن المخر في كلامهم شق الماء وتحريكه قاله ابن عيسى. {ولتبتغوا من فضله} يحتمل وجهين: أحدهما: بالتجارة فيه. الثاني: بما تستخرجون من حليته , وتأكلونه من لحومه. قوله عز وجل: {وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون} في العلامات ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها معالم الطريق بالنهار , وبالنجوم يهتدون بالليل , قاله ابن عباس. الثاني: أنها النجوم أيضاً لأن من النجوم ما يهتدي بها , قاله مجاهد وقتادة والنخعي. الثالث: أن العلامات الجبال. وفي {النجم} قولان:

أحدهما: أنه جمع النجوم الثابتة , فعبر عنها بالنجم الواحد إشارة إلى الجنس. الثاني: أنه الجدي وحده لأنه أثبت النجوم كلها في مركزه. وفي المراد بالاهتداء بها قولان: أحدهما: أنه أراد الاهتداء بها في جميع الأسفار , قاله الجمهور. الثاني: أنه أراد الاهتداء به في القِبلة. قال ابن عباس: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {وبالنجم هم يهتدون} قال (هو الجدي يا ابن عباس عليه قبلتكم , وبه تهتدون في بركم وبحركم). قوله عز وجل: {وإن تعدوا نعمة اللهِ لا تحصوها} فيه وجهان: أحدهما: لا تحفظوها , قال الكلبي. الثاني: لا تشكروها وهو مأثور. ويحتمل المقصود بهذا الكلام وجهين: أحدهما: أن يكون خارجاً مخرج الامتنان تكثيراً لنعمته أن تحصى. الثاني: أنه تكثير لشكره أن يؤدى. فعلى الوجه الأول يكون خارجاً مخرج الامتنان. وعلى الوجه الثاني خارجاً مخرج الغفران.

19

{والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين

ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} قوله عز وجل: {وَإذَا قيل لهم ماذا أنزل ربُّكم} يعني وإذا قيل لمن تقدم ذِكره ممن لا يؤمن بالآخرة وقلوبهم منكرة بالبعث. {مَّاذَا أنزل ربكم} يحتمل القائل ذلك لهم وجهين: أحدهما: أنه قول بعض لبعض , فعلى هذا يكون معناه ماذا نسب إلى إنزال ربكم , لأنهم منكرون لنزوله من ربهم. والوجه الثاني: أنه من قول المؤمنين لهم اختباراً لهم , فعلى هذا يكون محمولاً على حقيقة نزوله منه. {قالوا أساطير الأولين} وهذا جوابهم عما سئلوا عنه ويحتمل وجهين: أحدهما: أي أحاديث الأولين استرذالاً له واستهزاءَ به. الثاني: أنه مثل ما جاء به الأولون , تكذيباً له ولجميع الرسل.

25

{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} قوله عز وجل: {ليحملوا أوزارهم} أي أثقال كفرهم وتكذيبهم. {كاملة يوم القيامة} يحتمل وجهين: أحدهما: أنها لم تسقط بالتوبة. الثاني: أنها لم تخفف بالمصائب. {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ} يعني أنه قد اقترن بما حملوه من أوزارهم ما يتحملونه من أوزار من أضلوهم. ويحتمل وجهين: أحدهما: أن المضل يتحمل أوزار الضال بإغوائه. الثاني: أن الضال يتحمل أوزار المضل بنصرته وطاعته. ويحتمل قوله تعالى {بغير علمٍ} وجهين: أحدهما: بغير علم المضلّ بما دعا إليه.

الثاني: بغير علم الضال بما أجاب إليه. ويحتمل المراد بالعلم وجهين: أحدهما: يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم لأنه تقليد بغير استدلال ولا شبهة. الثاني: أراد أنهم لا يعلمون بما تحملوه من أوزار الذين يضلونهم. {ألا ساءَ ما يزرون} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني أنهم يتحملون سوء أوزارهم. الثاني: معناه أنه يسوؤهم ما تحملوه من أوزارهم. فيكون على الوجه الأول معجلاً في الدنيا , وعلى الوجه الآخر مؤجلاً في الآخرة.

26

{قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} قوله عز وجل: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد} فيه قولان: أحدهما: أنه هدم بنيانهم من قواعدها وهي الأساس. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لاستئصالهم. {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} فيه وجهان: أحدهما: فخرّ أعالي بيوتهم وهم تحتها , فلذلك قال {من فوقهم} وإن كنا نعلم أن السقف عال إلا أنه لا يكون فوقهم إذ لم يكونوا تحته , قاله قتادة. الثاني: يعني أن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم , قاله ابن عباس. وفي الذين خر عليهم السقف من فوقهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه النمرود بن كنعان وقومه حين أراد صعود السماء وبنى الصرح.

فهدمه الله تعالى عليه , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم. الثاني: أنه بختنصر وأصحابه , قاله بعض المفسرين. الثالث: يعني المقتسمين الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الحجر , قاله الكلبي.

28

{الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}

قوله عز وجل: {. . ولدار الآخرة خيرٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الجنة خير من النار، وهذا وإن كان معلوماً فالمراد به تبشيرهم بالخلاص منها: الثاني: أنه أراد أن الآخرة خير من دار الدنيا، قاله الأكثرون. {ولنعم دار المتقين} فيه وجهان: أحدهما: ولنعم دار المتقين الآخرة. الثاني: ولنعم دار المتقين الدنيا، قال الحسن: لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة ودخول الجنة. قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} قيل معناه صالحين. ويحتمل طيبي الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله تعالى. ويحتمل - وجهاً ثالثاً - أن يكون وفاتهم وفاة طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض عليه روح الكافر. {يقولون سلام عليكم} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون السلام عليكهم إنذاراً لهم بالوفاة. الثاني: أن يكون تبشيراً لهم بالجنة، لأن السلام أمان. {ادخلوا الجنة} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه أبشروا بدخول الجنة. الثاني: أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة. {بما كنتم تعملون} يعني في الدنيا من الصالحات.

33

{هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من

دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} قوله عز وجل: {والذين هاجروا في الله من بَعْدِ ما ظُلِموا} يعني من بعد ما ظلمهم أهل مكة حين أخرجوهم إلى الحبشة بعد العذاب والإبعاد. {لنبوئنهم في الدنيا حسنة} فيه أربعة أقاويل: أحدها: نزول المدينة , قاله ابن عباس والشعبي وقتادة. الثاني: الرزق الحسن , قاله مجاهد. الثالث: أنه النصر على عدوهم , قاله الضحاك. الرابع: أنه لسان صدق , حكاه ابن جرير. ويحتمل قولاً خامساً: أنه ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات.

ويحتمل قولاً سادساً: أنه ما بقي لهم في الدنيا من الثناء , وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وقال داود بن إبراهيم: نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهل , وقال الكلبي: نزلت في بلال وعمار وصهيب وخباب بن الأرتّ عذبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا في الدنيا , فلما خلوهم هاجروا إلى المدينة. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا دفع إلى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا , وما خولكم في الآخرة أكثر , ثم تلا عليهم هذه الآية:

43

{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} قوله عز وجل: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} هذا خطابٌ لمشركي قريش. {فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن أهل الذكر العلماء بأخبار من سلف من القرون الخالية الذين يعلمون أن الله تعالى ما بعث رسولاً إلا من رجال الأمة , وما بعث إليهم ملكاً. الثاني: أنه عنى بأهل الذكر أهل الكتاب خاصة , قاله ابن عباس ومجاهد. الثالث: أنهم أهل القرآن , قاله ابن زيد. قوله تعالى: { ... وأنزلنا إليك الذِّكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم} تأويلان:

أحدهما: أنه القرآن. الثاني: أنه العلم.

45

{أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم} قوله عز وجل: {أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين} فيه أربعة أوجه: أحدها: في إقبالهم وإدبارهم , قاله ابن بحر. الثاني: في اختلافهم , قاله ابن عباس. الثالث: بالليل والنهار , قاله ابن جريج. الرابع: في سفرهم. {أو يأخذهم على تخوفٍ} فيه ستة أوجه: أحدها: يعني على تنقص بأن يهلك واحد بعد واحد فيخافون الفناء , قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك. الثاني: على تقريع بما قدموه من ذنوبهم , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: على عجل , وهذا قول الليث. الرابع: أن يهلك القرية فتخاف القرية الأخرى , قاله الحسن. الخامس: أن يعاقبهم بالنقص من أموالهم وثمارهم , قاله الزجاج. {فإن ربكم لرءُوف رحيم} أي لا يعاجل بل يمهل.

48

{أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}

قوله عز وجل: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظِلالُهُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يرجع ظلالُه , لأن الفيء الرجوع , ولذلك كان اسماً للظل بعد الزوال لرجوعه. الثاني: معناه تميل ظلاله , قاله ابن عباس. الثالث: تدور ظلاله , قاله ابن قتيبة. الرابع: تتحول ظلاله , قاله مقاتل. {عن اليمين والشمائل} فيه وجهان: أحدهما: يعني تارة إلى جهة اليمين , وتارة إلى جهة الشمال , قاله ابن عباس. لأن الظل يتبع الشمس حيث دارت. الثاني: أن اليمين أول النهار , والشمال آخر النهار , قاله قتادة والضحاك. {سجداً لله} فيه ثلاث تأويلات: أحدهما: أن ظل كل شيء سجوده , قاله قتادة. الثاني: أن سجود الظلال سجود أشخاصها , قاله الضحاك. الثالث: أن سجود الظلال كسجود الأشخاص تسجد لله خاضعة , قاله الحسن. ومجاهد. وقال الحسن: أما ظلك فيسجد لله , وأما أنت فلا تسجد لله , فبئس والله ما صنعت. {وهم داخرون} أي صاغرون خاضعون , قال ذو الرمة: (فلم يبق إلا داخرُ في مخيس ... ومنحجر في غير أرضك حُجر) قوله عز وجل: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة} أما سجود ما في السموات فسجود خضوع وتعبد , وأما سجود ما في الأرض من دابة فيحتمل وجهين: أحدهما: أن سجوده خضوعه لله تعالى. الثاني: أن ظهور ما فيه من قدرة الله يوجب على العباد السجود لله سبحانه.

وفي تخصيص الملائكة بالذكر , وإن دخلوا في جملة من في السموات والأرض وجهان: أحدهما: أنه خصهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة فميزهم من الجملة بالذكر وإن دخلوا فيها. الثاني: لخروجهم من جملة من يدب , لما جعل الله تعالى لهم من الأجنحة فلم يدخلوا في الجملة , فلذلك ذكروا. وجواب ثالث: أن في الأرض ملائكة يكتبون أعمال العباد لم يدخلوا في جملة ملائكة السماء فلذلك أفردهم بالذكر. {وهم لا يستكبرون} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يستكبرون عن السجود لله تعالى. الثاني: لا يستكبرون عن الخضوع لقدرة الله. {يخافون رَبَّهم من فوقهم} فيه وجهان: أحدهما: يعني عذاب ربهم من فوقهم لأن العذاب ينزل من السماء. الثاني: يخافون قدرة الله التي هي فوق قدرتهم وهي في جميع الجهات. {ويفعلون ما يؤمرون} فيه وجهان: أحدهما: من العبادة , قاله ابن عباس. الثاني: من الانتقام من العصاة.

51

{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون}

قوله تعالى: { ... وله الدين واصباً} في {الدين} ها هنا قولان: أحدهما: أنه الإخلاص , قاله مجاهد. الثاني: أنه الطاعة , قاله ابن بحر. وفي قوله تعالى: {واصباً} أربعة تأويلات: أحدها: واجباً , قاله ابن عباس. الثاني: خالصاً , حكاه الفراء والكلبي. الثالث: مُتعِباً , والوصب: التعب والإعياء , قال الشاعر: (لا يشتكي الساق مِن أين ولا وصَبٍ ... ولا يزال أمام القوم يقتَفِرُ) الرابع: دائماً , قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك , ومنه قوله تعالى {ولهم عذاب واصب} [الصافات: 9] أي دائم , وقال الدؤلي: (لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوماً بذم الدهر أجمع واصبا) قوله عز وجل: { ... ثم إذا مَسّكُم الضُّرُّ فإليه تجأرون} في {الضر} ها هنا ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه القحط , قاله مقاتل. الثاني: الفقر , قاله الكلبي. الثالث: السقم , قاله ابن عباس. {فإليه تجأرون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: تضجون , قاله ابن قتيبة. الثاني: تستغيثون. الثالث: تضرعون بالدعاء , وهو في اللغة الصياح مأخوذ من جؤار الثور وهو صياحه.

56

{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} قوله عز وجل: {وإذا بُشِّر أحَدُهُم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مسودّاً وهو كظيمٌ} في قوله {مسودّاً} ثلاثة أوجه: أحدها: مسود اللون , قاله الجمهور. الثاني: متغير اللون بسواد أو غيره , قاله مقاتل. الثالث: ان العرب تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسودّ وجهه غماً وحزناً , قاله الزجاج. ومنه: سَوَّدْت وجه فلان , إذا سُؤتَه. {وهو كظيم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الكظيم الحزين , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الذي يكظم غيظه فلا يظهر , قاله الأخفش. الثالث: أنه المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من الفم , مأخوذ من الكظامة وهو سد فم القربة , قاله ابن عيسى. { ... أيمسكُهُ على هُونٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو الهوان بلغة قريش , قاله اليزيدي. الثاني: هو القليل بلغة تميم , قاله الفراء. الثالث: هو البلاء والمشقة , قاله الكسائي. قالت الخنساء: (نهينُ النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها)

{أم يدُسُّهُ في التراب} فيه وجهان: أحدهما: أنها الموءُودة التي تدس في التراب قتلاً لها. الثاني: أنه محمول على إخفائه عن الناس حتى لا يعرفوه كالمدسوس في التراب لخفائه عن الأبصار. وهو محتمل. قوله عز وجل: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} يحتمل وجهين: أحدهما: صفة السوء من الجهل والكفر. الثاني: وصفهم الله تعالى بالسوء من الصاحبة والولد. {ولله المَثلُ الأعلى} فيه وجهان: أحدهما: الصفة العليا بأنه خالق ورزاق وقادر ومُجازٍ. الثاني: الإخالص والتوحيد , قاله قتادة.

61

{ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} قوله عز وجل: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} يعني في الدنيا بالانتقام لأنه يمهلهم في الأغلب من أحوالهم. {ما ترك عليها من دابّةٍ} يعني بهلاكهم بعذاب الاستئصال من أخذه لهم بظلمهم. {ولكن يؤخرهم إلى أجلٍ مسمى} فيه وجهان: أحدهما: إلى يوم القيامة. الثاني: تعجيله في الدنيا. فإن قيل: فكيف يعمهم بالهلاك مع أن فيهم مؤمناً ليس بظالم؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه يجعل هلاك الظالم انتقاماً وجزاء , وهلاك المؤمن معوضاً بثواب الآخرة.

الثاني: ما ترك عليها من دابة من أهل الظلم. الثالث: يعني أنه لو أهلك الآباء بالكفر لم يكن الأبناء ولا نقطع النسل فلم يولد مؤمن. قوله عز وجل: {ويجعلون لله ما يكرهون} يعني من البنات. {وتصف ألسنتهم الكذب أنّ لهم الحُسنَى} فيه وجهان: أحدهما: أن لهم البنين مع جعلهم لله ما يكرهون من البنات , قاله مجاهد. الثاني: معناه أن لهم من الله الجزاء الحسن , قاله الزجاج. {لا جرم أن لهم النار} فيه أربعة أوجه: أحدهما: معناه حقاً أن لهم النار. الثاني: معناه قطعاً أن لهم النار. الثالث: اقتضى فعلهم أن لهم النار. الرابع: معناه بلى إن لهم النار , قاله ابن عباس. {وأنهم مفرطون} فيه خمسة تأويلات: أحدها: معناه منسيون , قاله مجاهد. الثاني: مضيّعون , قاله الحسن. الثالث: مبعدون في النار , قاله سعيد بن جبير. الرابع: متروكون في النار , قاله الضحاك. الخامس: مقدَّمون إلى النار , قاله قتادة. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا فَرَطكم على الحوض) أي متقدمكم , وقال القطامي: (فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجّل فرّاطٌ لوُرّادِ) والفرّاط: المتقدمون في طلب الماء , والورّاد: المتأخرون. وقرأ نافع {مُفْرِطون} بكسر الراء وتخفيفها , ومعناه مسرفون في الذنوب , من الإفراط فيها.

وقرأ الباقون من السبعة {مفرطون} أي معجلون إلى النار متروكون فيها. وقرأ أبو جعفر القارىء {مفَرِّطون} بكسر الراء وتشديدها , ومعناه من التفريط في الواجب.

63

{تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} قوله عز وجل: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بُطونه} أي نبيح لكم شرب ما في بطونه , فعبر عن الإباحة بالسقي. {مِن بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً} فيه وجهان: أحدهما: خالصاً من الفرث والدم. الثاني: أن المراد من الخالص هنا الأبيض , قاله ابن بحر ومنه قول النابغة: (يصونون أجساداً قديمها نعيمُها ... بخالصةِ الأردان خُضْر المناكب) فخالصة الأردان أي بيض الأكمام , وخضر المناكب يعني من حمائل السيوف. {سائغاً للشاربين} فيه وجهان: أحدهما: حلال للشاربين. الثاني: معناه لا تعافه النفس. وقيل: إنه لا يغص أحد باللبن.

قوله عز وجل: {ومن ثَمَرات النخيل والأعناب تتخذون منه سَكراً ورزقاً حسَناً} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أن السكر الخمر , والرزق الحسن التمر والرطب والزبيب. وأنزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ثم حرمت من بعد. قال ابن عباس: السَّكر ما حرم من شرابه , والرزق الحسن ما حل من ثمرته , وبه قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومن ذلك قول الأخطل: (بئس الصُّحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاءُ والسكُرُ) والسكر: الخمر , والمزاء: نوع من النبيذ المسكر. واختلف من قال بهذا هل خرج مخرج الإباحة أو مخرج الخبر على وجهين: أحدهما: أنه خرج مخرج الإباحة ثم نسخ. قاله قتادة. الثاني: أنه خرج مخرج الخبر أنهم يتخذون ذلك وإن لم يحل , قاله ابن عباس. الثاني: أن السّكَر: النبيذ المسكر , والرزق الحسن التمر والزبيب , قاله الشعبي والسدي. وجعلها أهل العراق دليلاً على إباحة النبيذ. الثالث: أن السكر: الخل بلغة الحبشة , الرزق الحسن: الطعام. الرابع: أن السكر ما طعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن , وبه قال أبو جعفر الطبري وأنشد قول الشاعر: 89 (وَجَعلت عيب الأكرمين سكرا} 9

68

{وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي

من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} قوله عز وجل: {وأوحى ربك إلى النحل} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الوحي إليها هو إلهاماً , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: يعني أنه سخرها , حكاه ابن قتيبة. الثالث: أنه جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله على غيرها , قاله الحسن. {أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشُون} فذكر بيوتها لما ألهمها وأودعه في غرائزها من صحة القسمة وحسن المنعة. {ومما يعرشون} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الكرم , قاله ابن زيد. الثاني: ما يبنون , قاله أبو جعفر الطبري. {ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك} أي طرق ربك. {ذللاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: مذللة , قاله أبو جعفر الطبري. الثاني: مطيعة , قاله قتادة. الثالث: أي لا يتوعر عليها مكان تسلكه , قاله مجاهد. الرابع: أن الذلل من صفات النحل وأنها تنقاد وتذهب حيث شاء صاحبها لأنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا , قاله ابن زيد. {يخرج من بطونها شرابٌ} يعني العسل. {مختلف ألوانُهُ} لاختلاف أغذيتها. {فيه شفاءٌ للناس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك عائد إلى القرآن، وأن في القرآن شفاء للناس أي بياناً للناس، قاله مجاهد.

الثاني: أن ذلك عائد إلى الاعتبار بها أن فيه هدى للناس , قاله الضحاك. الثالث: أن ذلك عائد إلى العسل , وأن في العسل شفاء للناس , قاله ابن مسعود وقتادة. روى قتادة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر أن أخاه اشتكى بطنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فاسق أخاك عسلاً) ثم جاء فقال: ما زاده إلا شدة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اذهب فاسق أخاك عسلاً). ثم جاء فقال له: ما زاده إلا شدة , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهب فاسق أخاك عسلاً , صدق الله وكذب بطن أخيك , فسقاه فكأنه نشط من عِقال)

70

{والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير} قوله عز وجل: {ومنكم من يرد إلى أرذل العُمرِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أوضعه وأنقصة , قاله الجمهور. الثاني: أنه الهرم , قاله الكلبي. الثالث: ثمانون سنة , حكاه قطرب. الرابع: خمس وسبعون سنة , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. {لكيلا يعلم بعد عِلْمٍ شيئاً} يعني أنه يعود جاهلاً لا يعلم شيئاً كما كان في حال صغره. أو لأنه قد نسي ما كان يعلم , ولا يستفيد ما لا يعلم. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون معناه لكي لا يعمل بعد علم شيئاً , فعبر عن العمل

بالعلم لافتقاره إليه , لأن تأثير الكبر في عمله أبلغ من تأثيره في علمه.

71

{والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون} قوله عز وجل: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أغنى وأفقر , ووسّع وضيّق. الثاني: في القناعة والرغبة. الثالث: في العلم والجهل. قال الفضيل بن عياض: أجلُّ ما رزق الإنسان معرفة تدله على ربه , وعقل يدله على رشده. وفي التفضيل وجهان: أحدهما: أنه فضل السادة على العبيد , قاله ابن قتيبة ومن يرى أن التفضيل في المال. الثاني: أنه فضل الأحرار بعضهم على بعض , قاله الجمهور. {فما الذين فُضِّلُوا بِرادِّي رزقهم على ما ملكت أيمانُهم فهم فيه سواء} فيه وجهان: أحدهما: أن عبيدهم لما لم يشركوهم في أموالهم لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في ملكه , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة , وفي هذا دليل على أن العبد لا يملك. الثاني: أنهم وعبيدهم سواء في أن الله تعالى رزق جميعهم , وأنه لا يقدر أحد على رزق عبده إلا أن يرزقه الله تعالى إياه كما لا يقدر أن يرزق نفسه , حكاه ابن عيسى. {أفبنعمة الله يجحدون} وفيه وجهان: أحدهما: بما أنعم الله عليهم من فضله ورزقه ينكرون. الثاني: بما أنعم الله عليهم من حججه وهدايته يضلون.

72

{والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون} قوله عز وجل: {والّلهُ جَعَل لكُم مِن أنفسِكم أزواجاً} فيه وجهان: أحدهما: يعني جعل لكم من جنسكم مثلكم , فضرب المثل من أنفسكم , قاله ابن بحر. الثاني: يعني آدم خلق منه حوّاء , قاله الأكثرون. {وجعل لكم مِن أزواجكم بنين وحفدة} وفي الحفدة خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الأصهار أختان الرجل على بناته , قاله ابن مسعود وأبو الضحى. وسعيد بن جبير وإبراهيم , ومنه قول الشاعر: (ولو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حَفَدٌ مما يُعَدّث كثيرُ) (ولكنها نفس عليَّ أبيّة ... عَيُوفٌ لأَصهارِ للئام قَذور) الثاني: أنهم أولاد الأولاد , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم بنو امرأة الرجل من غيره , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الرابع: أنهم الأعوان , قاله الحسن. الخامس: أنهم الخدم , قاله مجاهد وقتادة وطاووس , ومنه قول جميل: (حفد الولائدُ حولهم وأسلمت ... بأكفهن أزِمّةَ الأجمال) وقال طرفة بن العبد: (يحفدون الضيف في أبياتهم ... كرماً ذلك منهم غير ذل) وأصل الحفد الإسراع , والحفدة جمع حافد , والحافد هو المسرع في العمل , ومنه قولهم في القنوت وإليك نسعى ونحفد , أي نسرع إلى العمل بطاعتك , منه قول الراعي:

(كلفت مجهولها نوقاً ثمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا) وذهب بعض العلماء في تفسير قوله تعالى {بنين وحفدة} البنين الصغار والحفدة الكبار. {ورزقكم من الطيبات} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الفيىء والغنيمة. الثاني: من المباحات في البوادي. الثالث: ما أوتيه عفواً من غير طلب ولا تعب. {أفبالباطِل يؤمنون} فيه وجهان: أحدهما: بالأصنام. الثاني: يجحدون البعث والجزاء. {وبنعمة الله يكفرون} فيها وجهان: أحدهما: بالإسلام. الثاني: بما رزقهم الله تعالى من الحلال آفة من أصنامهم. حكاه الكلبي.

73

{ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} قوله عز وجل: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يملك ما لم يؤذن وإن كان باقياً معه. الثاني: أن لسيده انتزاعه من يده وإن كان مالكاً له. {ومَن رزقناه مِنا رزقاً حسناً} يعني الحُرّ , وفيه وجهان: أحدهما: ملكه ما بيده. الثاني: تصرفه في الاكتساب على اختياره.

وفي هذا المثل قولان: أحدهما: أنه مثل ضربه الله للكافر لأنه لا خير عنده , ومن رزقناه منا رزقاً حسناً هو المؤمن , لما عنده من الخير , وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه والأوثان , لأنها لا تملك شيئاً , وإنهم عدلوا عن عبادة الله تعالى الذي يملك كل شيء , قاله مجاهد.

76

{وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} قوله عز وجل: {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكمُ لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأْتِ بخير هل يستوي هو ومن يأمُرُ بالعدل وهو على صراط مستقيم} اختلف المفسرون في المثل المضروب بهذه الآية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه وللوثن , فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن , والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى , وهذا معنى قول قتادة. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر , فالأبكم: الكافر , والذي يأمر بالعدل: المؤمن , قاله ابن عباس. الثالث: أن الأبكم: عبد كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه كان يعرض عليه الإسلام فيأبى. ومن يأمر بالعدل: عثمان , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.

77

{ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}

قوله عزوجل: {ولله غيب السموات والأرض} يحتمل خمسة أوجه: أحدها: ولله علم غيب السموات والأرض , لأنه المنفرد به دون خلقه. الثاني: أن المراد بالغيب إيجاد المعدومات وإعدام الموجودات. الثالث: يعني فعل ما كان وما يكون , وأما الكائن في الحال فمعلوم. الرابع: أن غيب السماء الجزاء بالثواب العقاب. وغيب الأرض القضاء بالأرزاق والآجال. {وما أمْرُ الساعة إلاَّ كلمح البصر أو هو أقرب} لأنه بمنزلة قوله: {كن فيكون} وإنما سماها ساعة لأنها جزء من يوم القيامة وأجزاء اليوم ساعاته. وذكر الكلبي ومقاتل: أن غيب السموات هو قيام الساعة. قال مقاتل: وسبب نزولها أن كفار قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة استهزاء بها , فأنزل الله تعالى هذه الآية.

80

{والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون} قوله عز وجل: {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً} فيه وجهان: أحدهما: البيوت , قاله الكلبي. الثاني: الشجر , قاله قتادة. {وجعل لكم من الجبال أكناناً} الأكنان: جمع كِنّ وهو الموضع الذي يستكن فيه، وفيه وجهان:

أحدهما أنه ظل الجبال. الثاني: أنه ما فيها من غار أو شَرَف. {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ} يعني ثياب القطن والكتان والصوف. {وسرابيل تقيكم بأسكم} يعني الدروع التي تقي البأس , وهي الحرب. قال الزجاج: كل ما لبس من قميص ودروع فهو سربال. فإن قيل: فكيف قال: {وجعل لكم من الجبال أكناناً} ولم يذكر السهل وقال {تقكيم الحر} ولم يذكر البرد؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أن القوم كانوا أصحاب جبال ولم يكونوا أصحاب سهل , وكانوا أهل حر ولم يكونوا أهل برد , فذكر لهم نعمه عليه مما هو مختص بهم , قاله عطاء. الثاني: أنه اكتفى بذكر احدهما عن ذكر الآخر , إذ كان معلوماً أن من اتخذ من الجبال أكناناً اتخذ من السهل , واسرابيل التي تقي الحر تقي البرد , قاله الفراء , ومثله قول الشاعر: (وما أدري إذا يممتُ أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني.) فكنى عن الشر ولم يذكره لأنه مدلول عليه. الثالث: أنه ذكر الجبال لأنه قدم ذكر السهل بقوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً} وذكر الحرَّ دون البرد تحذيراً من حر جهنم وتوقياً لاستحقاقها بالكف عن المعاصي. {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} أي تؤمنون بالله إذا عرفتم نعمه عليكم. وقرأ ابن عباس {لعلكم تسلمون} بفتح التاء أي تسلمون من الضرر , فاحتمل أن يكون عنى ضرر الحر والبرد واحتمل أن يكون ضرر القتال والقتل , واحتمل أن يريد ضرر العذاب في الآخرة إن اعتبرتم وآمنتم. قوله عز وجل: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} فيه خمسة تأويلات:

أحدها: أنه عنى النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون نبوته ثم ينكرونها ويكذبونه، قاله السدي. الثاني: أنهم يعرفون منا عدد الله تعالى عليهم في هذه السورة من النعم وأنها من عند الله وينكرونها بقولهم أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم , قاله مجاهد. الثالث: أن انكارها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا ولولا فلانٌ ما أصبت كذا , قاله عون بن عبد الله. الرابع: أن معرفتهم بالنعمة إقرارهم بأن الله رزقهم , وإنكارهم قولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا. الخامس: يعرفون نعمة الله بتقلبهم فيها , وينكرونها بترك الشكر عليها. ويحتمل سادساً: يعرفونها في الشدة , وينكرونها في الرخاء. ويحتمل سابعاً يعرفونها بأقوالهم , وينكرونها بأفعالهم. قال الكلبي: هذه السورة تسمى سورة النعم , لما ذكر الله فيها من كثرة نعمه على خلقه. {وأكثرهم الكفارون} فيه وجهان: أحدهما: معناه وجميعهم كافرون , فعبر عن الجميع بالأكثر , وهذا معنى قول الحسن. الثاني: أنه قال {وأكثرهم الكافرون} لأن فيهم من جرى عليه حكم الكفر تبعاً لغيره كالصبيان والمجانين , فتوجه الذكر إلى المكلفين.

84

{ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون}

قوله عز وجل: {وألقوا إلى الله يومئذ السلم} يحتمل وجهين: أحدهما: استسلامهم لعذابه , وخضوعهم لعزه. الثاني: إقرارهم بما كانوا ينكرون من طاعته. {وضَلَّ عنهم ما كانوا يفترون} يحتمل وجهين: أحدهما: وبطل ما كانوا يأملون. الثاني: خذلهم ما كانوا به يستنصرون. قوله عز وجل: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زِدناهُم عذاباً فوق العذاب} فيه وجهان: أحدهما: أن الزيادة هي عذاب الدنيا مع ما يستحق من عذاب الآخرة. الثاني: أن أحد العذابين على كفرهم , والعذاب الآخر على صدهم عن سبيل الله ومنعهم لغيرهم من الإيمان. {بما كانوا يفسدون} في الدنيا بالمعاصي.

89

{ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} قوله عز وجل: {ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيداً عليهم من أنفسِهم} وهم الأنبياء شهداء على أممهم يوم القيامة وفي كل زمان شهيد وإن لم يكن نبياً. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أئمة الهدى الذين هم خلفاء الأنبياء. الثاني: أنهم العلماء الذين حفظ الله بهم شرائع أنبيائه. {وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم شهيداً على أمته.

90

{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}

قوله عز وجل: {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان ... } الآية. في تأويل هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أن العدل: شهادة أن لا إله إلا الله , والإحسان: الصبر على أمره ونهيه وطاعة الله في سره وجهره {وإيتاء ذي القربى} صلة الرحم , {وينهى عن الفحشاء} يعني الزنى , {والمنكر} القبائح. {والبغي} الكبر والظلم حكاه ابن جرير الطبري. الثاني: أن العدل: القضاء بالحق , والإحسان: التفضل بالإنعام , وإيتاء ذي القربى: ما يستحقونه من النفقات. وينهى عن الفحشاء ما يستسر بفعله من القبائح. والمنكر: ما يتظاهر به منها فينكر. والبغي: منا يتطاول به من ظلم وغيره , وهذا معنى ما ذكره ابن عيسى. الثالث: أن العدل ها هنا استواء السريرة والعلانية في العمل لله. والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته , قاله سفيان بن عيينة. فأمر بثلاث ونهى عن ثلاث. {يعظكم لعلكم تذكرون} يحتمل وجهين: أحدهما: تتذكرون ما أمركم به وما نهاكم عنه. الثاني: تتذكرون ما أعده من ثواب طاعته وعقاب معصيته.

91

{وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} قوله عز وجل: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أنه النذور.

الثاني: ما عاهد الله عليه من عهد في طاعة الله. الثالث: أنه التزام أحكام الدين بعد الدخول فيه. {ولا تنقضوا الأيمان بَعْدَ توكيدها} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: لا تنقضوها بالامتناع بعد توكيدها بالالتزام. الثاني: لا تنقضوها بالعذر بعد توكيدها بالوفاء. الثالث: لا تنقضوها بالحنث بعد توكيدها بالِبّر. وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنها نزلت في الحلف الذي كان في الجاهلية بين أهل الشرك , فجاء الإسلام بالوفاء به. الثالث: أنها نزلت في كل عقد يمين عقده الإنسان على نفسه مختاراً يجب عليه الوفاء به ما لم تدع ضرورة إلى حله. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليأت الذي هو خير) محمول على الضرورة دون المباح. وأهل الحجاز يقولون. وكّدت هذه اليمين توكيداً , وأهل نجد يقولون أكدتها تأكيداً. قوله عز وجل: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً} وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن نقض عهده , وفيه قولان: أحدها: أنه عنى الحبْل , فعبر عنه بالغزل , قاله مجاهد. الثاني: أنه عنى الغزل حقيقة. {من بعد قوة} فيه قولان: أحدهما: من بعد إبرام. قاله قتادة.

الثاني: أن القوة ما غزل على طاق ولم يثن. {أنكاثاً} يعني أنقاضاً , واحده نكث , وكل شيء نقض بعد الفتل أنكاثٌ. وقيل أن التي نقضت غزلها من بعد قوة امرأة بمكة حمقاء , قال الفراء: إنها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة , سميت جعدة لحمقها , كانت تغزل الصوف ثم تنقضه بعدما تبرمه , فلما كان هذا الفعل لو فعلتموه سفهاً تنكرونه كذلك نقض العهد الذي لا تنكرونه. {تتخذون أيمانكُمْ دَخَلاً بينكُمْ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الدخل الغرور. الثاني: أن الدخل الخديعة. الثالث: أنه الغل والغش. الرابع: أن يكون داخل القلب من الغدر غير ما في الظاهر من لزوم الوفاء. الخامس: أنه الغدر والخيانة , قاله قتادة. السادس: أنه الحنث في الأيمان المؤكدة. {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أن أكثر عدداً وأزيد مدداً , فتطلب بالكثرة أن تغدر بالأقل بأن تستبدل بعهد الأقل عهد الأكثر. وأربى: أفعل الربا , قال الشاعر: (أسمر خطيّاً كأنّ كعوبه ... نوى القسب أو أربى ذراعاً على عشر)

93

{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}

قوله عز وجل: {ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ} فيه وجهان: أحدهما: يريد به أن الدنيا فانية , والآخرة باقية. الثاني: أن طاعتكم تفنى وثوابها يبقى.

97

{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينهُ حياةً طيبة} فيها خمسة تأويلات: أحدها: أنها الرزق الحلال , قاله ابن عباس. الثاني: أنها القناعة , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري. الثالث: أن يكون مؤمناً بالله عاملاً بطاعته , قاله الضحاك. الرابع: أنها السعادة , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الخامس: أنها الجنة , قاله مجاهد وقتادة. ويحتمل سادساً: أن تكون الحياة الطيبة العافية والكفاية. ويحتمل سابعاً: أنها الرضا بالقضاء. {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يجازى على أحسن الأعمال وهي الطاعة , دون المباح منها. الثاني: مضاعفة الجزاء وهو الأحسن , كما قال تعالى {من جاءَ بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160].

98

{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} قوله عز وجل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله تعالى، قاله الزجاج.

الثاني: فإذا كنت قارئاً فاستعذ بالله. الثالث: أنه من المؤخر الذي معناه مقدم , وتقديره: فإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم فاقرأ القرآن. والاستعاذة هي استدفاع الأذى بالأعلى من وجه الخضوع والتذلل والمعنى فاستعذ بالله من وسوسة الشيطان عند قراءتك لتسلم في التلاوة من الزلل , وفي التأويل من الخطأ. وقد ذكرنا في صدر الكتاب معنى الرجيم. قوله عز وجل: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ليس له قدرة على أن يحملهم على ذنب لا يغفر , قاله سفيان. الثاني: ليس له حجة على ما يدعوهم إليه من المعاصي , قاله مجاهد. الثالث: ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم باللَّه منه , لقوله تعالى {وإمّا ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [فصلت: 36]. الرابع: أنه ليس له عليهم سلطان بحال لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال عدو الله إبليس {ولأغوينهم أجميعن إلا عبادَك منهم المخلصين} [الحجر: 39 - 40] فقال الله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42] وفي معنى السلطان وجهان: أحدهما: الحجة , ومنه سمي الوالي سلطاناً لأنه حجة الله تعالى في الأرض. الثاني: أنها القدرة , مأخوذ من السُّلْطَة , وكذلك سمي السلطان سلطاناً لقدرته. {إنما سلطانه على الذين يتولونه} يعني يتبعونه. {والذين هُمْ به مشركون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: والذين هم بالله مشركون , قاله مجاهد. الثاني: والذين أشركوا الشيطان في أعمالهم , قاله الربيع بن أنس. الثالث: والذين هم لأجل الشيطان وطاعته مشركون , قاله ابن قتيبة.

101

{وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما

أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} قوله عز وجل: {وإذا بدّلنا آيةً مكان آيةٍ} فيه وجهان: أحدهما: شريعة تقدمت بشريعة مستأنفة , قاله ابن بحر. الثاني: وهو قول الجمهور أي نسخنا آية بآية , إما نسخ الحكم والتلاوة وإما نسخ الحكم مع بقاء التلاوة. {والله أعلم بما ينزل} يعني أعلم بالمصلحة فيه ينزله ناسخاً ويرفعه منسوخاً. {قالوا إنما مفْتَرٍ} أي كاذب. {بل أكثرهم لا يعلمون} فيه وجهان: أحدهما: لا يعلمون جواز النسخ. الثاني: لا يعلمون سبب ورود النسخ.

103

{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} قوله عز وجل: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمُه بشرٌ} اختلف في اسم من أراده المشركون فيما ذكروه من تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربعة أقاويل: أحدها: أنه بلعام وكان قيناً بمكة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه يعلمه , فاتهمته قريش أنه كان يتعلم منه , قاله مجاهد. الثاني: أنه كان عبداً أعجمياً لامرأة بمكة، يقال له أبو فكيهة، كان يغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرأ عليه ويتعلم منه، فقالوا لمولاته احبسيه فحبستْه، وقالت له: اكنس

البيت وكل كناسته، ففعل وقال: والله ما أكلت أطيب منه ولا أحلى، وكان يسأل مولاته بعد ذلك أن تحبسه فلا تفعل. الثالث: أنهما غلامان لبني الحضرمي , وكانا من أهل عين التمر صيقلين يعملان السيوف اسم أحدها يسار , والآخر جبر , وكانا يقرآن التوراة , وكان رسول الله ربما جلس إليهما , قاله حصين بن عبد الله بن مسلم. الرابع: أنه سلمان الفارسي , قاله الضحاك. {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} في يلحدون تأويلان: أحدهما: يميلون إليه. الثاني: يعترضون به , يعني أن لسان من نسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التعلم منه أعجمي. {وهذا لسانٌ عربيٌ مبين} يعني باللسان القرآن لأنه يقرأ باللسان , والعرب تقول: هذا لسان فلان , تريد كلامه , قال الشاعر: (لسان السوء تهديها إلينا ... وخُنْتَ وما حسبتُك أن تخونا)

106

{من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} قوله عز وجل: {مَن كفر بالله من بعد إيمانه} ذكر الكلبي أنها نزلت في

عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل وقيس بن الوليد بن المغيرة , كفروا بعد إيمانهم ثم قال تعالى: {إلا من أُكره وقلبُه مطمئن بالإيمان} قال الكلبي: نزل ذلك في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسُمية وبلال وصهيب وخبّاب , أظهروا الكفر بالإكراه وقلوبهم مطمئنة بالإيمان. ثم قال تعالى: {ولكن من شرح بالكُفْر صدراً} وهم من تقدم ذكرهم , فإذا أكره على الكفر فأظهره بلسانه وهو معتقد الإيمان بقلبه ليدفع عن نفسه بما أظهر , ويحفظ دينه بما أضمر فهو على إيمانه , ولو لم يضمره لكان كافراً. وقال بعض المتكلمين: إنما يجوز للمكرَه إظهارُ الكفر عل وجه التعريض دون التصريح الباتّ. لقبح التصريح بالتكذيب وخطره في العرف والشرع , كقوله إن محمداً كاذب في اعتقادكم , أو يشير لغيره ممن يوافق اسمه لاسمه إذا عرف منه الكذب , وهذا لعمري أولى الأمرين , ولم يَصِرِ المكرَه بالتصريح كافر.

110

{ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون} قوله تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنةً مطمئنةً} يريد بالقرية أهلها {آمنة} يعني من الخوف. {مطمئنة} بالخصب والدعة. {يأتيها رِزقُها} فيه وجهان: أحدهما: أقواتها.

الثاني: مرادها. {رغداً} فيه وجهان: أحدهما: طيباً. الثاني: هنيئاً. {من كُلِّ مكانٍ} يعني منها بالزراعة , ومن غيرها بالتجارة , ليكون اجتماع الأمرين لهم أوفر لسكنهم وأعم في النعمة عليها. {فكفرت بأنعم الله} يحتمل وجهين. أحدهما: بترك شكره وطاعته. الثاني: بأن لا يؤدوا حقها من مواساة الفقراء وإسعاف ذوي الحاجات. وفي هذه القرية التي ضربها الله تعالى مثلاً أقاويل: أحدها: أنها مكة , كان أمنها أن أهلها آمنون لا يتفاوزون كالبوادي. {فأذاقها اللهُ لباسَ الجوع والخوْف} وسماه لباساً لأنه قد يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس , وقيل إن القحط بلغ بهم إلى أن أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يخلط بالدم , والقِد أديم يؤكل , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. الثاني: أنها المدينة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم كفرت بأنعم الله بقتل عثمان بن عفان وما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها من الفتن , وهذا قول عائشة وحفصة رضي الله عنهما. الثالث: أنه مثل مضروب بأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى.

114

{فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام

لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} قوله عز وجل: {ثم إنّ ربّك للذين عملوا السُّوء بجهالةٍ} فيه وجهان: أحدها: بجهالة أنها سوء. الثاني: بجهالة لغلبة الشهوة عليهم مع العلم بأنها سوء. ويحتمل ثالثاً: أنه الذي يعجل بالإقدام عليها ويعد نفسه بالتوبة. {ثم تابوا مِنْ بعد ذلك وأصْلَحوا} لأنه مجرد التوبة من السالف إذا لم يصلح عمله في المستأنف لا يستحق ولا يستوجب الثواب.

120

{إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} قوله عز وجل: {إنّ إبراهيم كان أمّةً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يُعلّم الخير , قاله ابن مسعود وإبراهيم النخعي. قال زهير: (فأكرمه الأقوام من كل معشر ... كرام فإن كذبتني فاسأل الأمم) يعني العلماء. الثاني: أمة يقتدى به , قاله الضحاك. وسمي أمة لقيام الأمة به. الثالث: إمام يؤتم به , قاله الكسائي وأبو عبيدة. {قانتاً لله} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: مطيعاً لله , قاله ابن مسعود. الثاني: إن القانت هو الذي يدوم على العبادة لله. الثالث: كثير الدعاء لله عز وجل. {حنيفاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: مخلص , قاله مقاتل. الثاني: حاجّا , قاله الكلبي. الثالث: أنه المستقيم على طريق الحق , حكاه ابن عيسى. {ولم يَكُ من المشركين} فيه وجهان: أحدهما: لم يك من المشركين بعبادة الأصنام. الثاني: لم يك يرى المنع والعطاء إلا من اللَّه. {وآتيناه في الدنيا حسنة} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الحسنة النبوة , قاله الحسن. الثاني: لسان صدق , قاله مجاهد. الثالث: أن جميع أهل الأديان يتولونه ويرضونه , قاله قتادة. الرابع: أنها تنوية الله بذكره في الدنيا بطاعته لربه. حكاه ابن عيسى. ويحتمل خامساً: أنه بقاء ضيافته وزيارة الأمم لقبره. {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} فيه وجهان: أحدهما: في منازل الصالحين في الجنة. الثاني: من الرسل المقربين. قوله عز وجل: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} فيه قولان: أحدهما: اتباعه في جميع ملته إلا ما أمر بتركه , وهذا قول بعض أصحاب الشافعي , وهذا دليل على جواز الأفضل للمفضول لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء. الثاني: اتباعه في التبرؤ من الأوثان والتدين بالإسلام , قاله أبو جعفر الطبري.

124

{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} قوله عز وجل: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} وهم اليهود وفي اختلافهم في السبت ثلاثة أقاويل: أحدها: أن بعضهم جعله أعظم الأيام حُرْمَةً لأن الله فرغ من خلق الأشياء فيه. الثاني: أن بعضهم جعل الأحد أعظم حُرمة منه لأن الله ابتدأ خلق الأشياء فيه. الثالث: أنهم عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة تغليباً لحرمة السبت والأحد , قاله مجاهد وابن زيد.

125

{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} قوله عز وجل: {ادعُ إلى سبيل ربِّك} يعني إلى دين ربك وهو الإسلام. {بالحكمة} فيها تأويلان: أحدهما: بالقرآن , قاله الكلبي. الثاني: بالنبوة , وهو محتمل. {والموعظة الحسنة} فيها تأويلان: أحدهما: بالقرآن في لين من القول , قاله الكلبي. الثاني: بما فيه من الأمر والنهي , قاله مقاتل. {وجادلْهُم بالتي هي أحسنُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني بالعفو. الثاني: بأن توقظ القلوب ولا تسفه العقول. الثالث: بأن ترشد الخلف ولا تذم السلف. الرابع: على قدر ما يحتملون. روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم).

126

{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} قوله عز وجل: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به} فيها قولان: أحدهما: أنها نزلت في قتلى أحُد حين مثلت بهم قريش. واختلف قائل ذلك في نسخه على قولين: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله} الثاني: أنها ثابتة غير منسوخة فهذا أحد القولين. والقول الثاني: أنها نزلت في كل مظلوم ان يقتص من ظالمه , قاله ابن سيرين ومجاهد {واصبر} فيه وجهان: أحدهما: اصبر على ما أصابك من الأذى , وهو محتمل. الثاني: واصبر بالعفو عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا من المثلة بقتلى أُحد , قاله الكلبي. {وما صبر إلا بالله} يحتمل وجهين: أحدهما: وما صبر إلا بمعونة الله.

الثاني: وما صبرك إلا لوجه الله. {ولا تحزن عليهم} فيه وجهان: أحدهما: إن لم يقبلوا. الثاني: إن لم يؤمنوا. {ولا تك في ضيقٍ مما يمكرون} قرأ بن كثير {ضيق} بالكسر وقرأ الباقون بالفتح. وفي الفرق بينهما قولان: أحدهما: أنه بالفتح ما قل , وبالكسر ما كثر , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه بالفتح ما كان في الصدر، وبالكسر ما كان في الموضع الذي يتسع ويضيق، قاله الفراء. قوله عز وجل: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} اتقوا يعني فيما حرم الله عليهم. والذين هم محسنون فيما فرضه الله تعالى، فجمع في هذه الآية اجتناب المعاصي وفعل الطاعات. وقوله: {مع الذين اتقوا} أي ناصر الذي اتقوا. وقال بعض أصحاب الخواطر: من اتقى الله في أفعاله أحْسَنَ إليه في أحواله، والله أعلم.

سورة الإسراء

الإسراء

{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} قوله عز وجل: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} أما قوله {سبحان} ففيه تأويلان: أحدهما: تنزيه الله تعالى من السوء , وقيل بل نزه نفسه أن يكون لغيره في إسراء عبده تأثير. الثاني: معناه برأه الله تعالى من السوء , وقد قال الشاعر: (أقول لمّا جاءني فَخْرُه ... سبحان مِنْ علقمةَ الفاخِر) وهو ذكر تعظيم لله لا يصلح لغيره , وإنما ذكره الشاعر على طريق النادر، وهو

من السبح في التعظيم وهو الجري فيه إلى أبعد الغايات. وذكر أبان بن ثعلبة أنها كلمة بالنبطية (شبهانك). وقد ذكر الكلبي ومقاتل: إن {سبحان} في هذا الموضع بمعنى عجب , وتقدير الآية: عجب من الذي أسرى بعبده ليلاً , وقد وافق على هذا التأويل سيبويه وقطرب , وجعل البيت شاهداً عليه , وأن معناه عجبٌ من علقمة الفاخر. ووجه هذا التأويل أنه إذا كان مشاهدة العجب سبباً للتسبيح صار التسبيح تعجباً فقيل عجب , ومثله قول بشار: (تلقي بتسبيحةٍ مِنْ حيثما انصرفت ... وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد) وقد جاء التسبيح في الكلام على أربعة أوجه: أحدها: أن يستعمل في موضع الصلاة , من ذلك قوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبِّحينَ} [الصافات: 143] أي من المصلين. الثاني: أن يستعمل في الاستثناء , كما قال بعضهم في قوله تعالى: {ألم أقل لكم لولا تسبحون} [القلم: 28] أي لولا تستثنون. الثالث: النور , للخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (لأحرقت سبحات وجهه) أي نور وجهه. الرابع: التنزيه , روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التسبيح فقال: (تنزيه الله تعالى عن السوء). وقوله تعالى: {أسرى بعبده} أي بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم , والسُّرى: سير الليل , قال الشاعر: (وليلة ذا ندًى سَرَيت ... ولم يلتني مِنْ سُراها ليت) وقوله {من المسجد الحرام} فيه قولان:

أحدهما: يعني من الحرم , والحرم كله مسجد. وكان صلى الله عليه وسلم حين أُسرى به نائماً في بيت أم هانىء بنت أبي طالب , روى ذلك أبو صالح عن أم هانىء. الثاني: أنه أسرى به من المسجد , وفيه كان حين أسري به روى ذلك أنس بن مالك. ثم اختلفوا في كيفية إسرائه على قولين: أحدهما: أنه أسريَ بجسمه وروحه , روى ذلك ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان. واختلف قائلو ذلك هل دخل بيت المقدس وصلى فيه أم لا , فروى أبو هريرة أنه صلى فيه بالأنبياء , ثم عرج به إلى السماء , ثم رجع به إلى المسجد الحرام فصلى فيه صلاة الصبح من صبيحة ليلته. وروى حذيفة بن اليمان أنه لم يدخل بيت المقدس ولم يُصلّ فيه ولا نزل عن البراق حتى عرج به , ثم عاد إلى ملكه. والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه السلام أسري بروحه ولم يسر بجسمه , روى ذلك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما فُقِدَ جَسَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكن الله أسرى بروحه. وروي عن معاوية قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة , وكان الحسن

يتأول قوله تعالى {وما جَعَلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناس} [الإسراء: 60] أنها في المعراج , لأن المشركين كذبوا ذلك وجعلوا يسألونه عن بيت المقدس وما رأى في طريقه فوصفه لهم , ثم ذكر لهم أنه رأى في طريقه قعباً مغطى مملوءاً ماء , فشرب الماء ثم غطاه كما كان , ثم ذكر لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل متاعاً , وأنها تقدُم يوم كذا مع طلوع الشمس , يقدمها جمل أورق؛ فخرجوا في ذلك اليوم يستقبلونها , فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد أشرقت ولم تأت , وقال آخر: هذه والله العير يقدُمها جمل أورق كما قال محمد. وفي هذا دليل على صحة القول الأول أنه أسرى بجسمه وروحه. وقوله تعالى: {إلى المسجد الأقصى} يعني بيت المقدس , وهو مسجد سليمان بن داود عليهما السلام وسمي الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام. ثم قال تعالى: {الذي باركنا حوله} فيه قولان: أحدهما: يعني بالثمار ومجاري الأنهار. الثاني: بمن جعل حوله من الأنبياء والصالحين ولهذا جعله مقدساً. وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (يقول الله تعالى: يا شام

أنت صفوتي من بلادي وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي). {لنريه من آياتنا} فيه قولان: أحدهما: أن الآيات التي أراه في هذا المسرى أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة , وهي مسيرة شهر. الثاني: أنه أراه في هذا المسرى آيات. وفيها قولان: أحدهما: ما أراه من العجائب التي فيها اعتبار. الثاني: من أري من الأنبياء حتى وصفهم واحداً واحداً. {إنه هو السميع البصير} فيه وجهان: أحدهما: أنه وصف نفسه في هذه الحال بالسميع والبصير , وإن كانتا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها لأنه حفظ رسوله عند إسرائه في ظلمة الليل فلا يضر ألا يبصر فيها , وسمع دعاءه فأجابه إلى ما سأل , فلهذين وصف الله نفسه بالسميع البصير. الثاني: أن قومه كذبوه عن آخرهم بإسرائه , فقال: السميع يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب , البصير لما يفعله من الإسراء والمعراج.

2

{وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا} قوله عز وجل: {وآتينا موسى الكتاب} يعني التوراة. {وجعلناه هدًى لبني إسرائيل} يحتمل وجهين: أحدهما: أن موسى هدى لبني إسرائيل. الثاني: أن الكتاب هدى لبني إسرائيل. {ألاّ تتخذوا من دوني وكيلاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: شريكاً , قاله مجاهد. الثاني: يعني ربّاً يتوكلون عليه في أمورهم، قاله الكلبي. الثالث: كفيلاً بأمورهم، حكاه الفراء.

قوله عز وجل: {ذرية من حملنا مع نوح} يعني موسى وقومه من بني إسرائيل ذرية من حملهم الله تعالى مع نوح في السفينة وقت الطوفان. {إنّه كان عبداً شكوراً} يعني نوحاً , وفيه قولان: أحدهما: أنه سماه شكوراً لأنه كان يحمد الله تعالى على طعامه , قاله سلمان. الثاني: أنه كان يستجد ثوباً إلا حمد الله تعالى عند لباسه , قاله قتادة. ويحتمل وجهين: أحدهما: أن نوحاً كان عبداً شكوراً فجعل الله تعالى موسى من ذريته. الثاني: أن موسى كان عبداً شكوراً إذ جعله تعالى من ذرية نوح.

4

{وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب}. معنى قضينا ها هنا: أخبرنا. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن معناه حكمنا , قاله قتادة. ومعنى قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} أي قضينا عليهم. {لتفسدن في الأرض مرتين} الفاسد الذي فعلوه قتلهم للناس ظلماً وتغلبهم على أموالهم قهراً , وإخراب ديارهم بغياً. وفيمن قتلوه من الأنبياء في الفساد الأول قولان:

أحدهما: أنه زكريا قاله ابن عباس. الثاني: أنه شعياً , قاله ابن إسحاق , وأن زكريا مات حتف أنفه. أما المقتول من الأنبياء في الفساد الثاني فيحيى بن زكريا في قول الجميع قال مقاتل: وإن كان بينهما مائتا سنة وعشر. {فإذا جاء وعْد أولاهما} يعني أولى المرتين من فسادهم. {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ} في قوله بعثنا وجهان: أحدهما: خلينا بينكم وبينهم خذلاناً لكم بظلمكم , قاله الحسن. الثاني: أمرنا بقتالكم انتقاماً منكم. وفي المبعوث عليهم في هذه المرة الأولى خمسة أقاويل: أحدها: جالوت وكان ملكهم طالوت إلى أن قتله داود عليه السلام , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه بختنصر , وهو قول سعيد بن المسيب. الثالث: أنه سنحاريب , قاله سعيد بن جبير. الرابع: أنهم العمالقة وكانوا كفاراً , قاله الحسن. الخامس: أنهم كانوا قوماً من أهل فارس يتجسسون أخبارهم , وهو قول مجاهد. { ... فجاسوا خلال الديار} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني مشوا وترددوا بين الدور والمساكن , قال ابن عباس وهو أبلغ في القهر. الثاني: معناه فداسوا خلال الديار , ومنه قول الشاعر: 89 (إِلَيْكَ جُسْتُ اللَّيْلَ بِالمَطِيِّ} 9 الثالث: معناه فقتولهم بين الدور والمساكن , ومنه قول حسان بن ثابت: (ومِنَّا الَّذِي لاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ ... فَجَاس بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ العَسَاكر)

الرابع: معناه فتشوا وطلبوا خلال الديار , قاله أبو عبيدة. الخامس: معناه نزلوا خلال الديار , قاله قطرب , ومنه قول الشاعر: (فَجُسنا ديارهم عَنْوَةً ... وأبنا بساداتهم موثَقينا) قوله عز وجل: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} يعني الظفر بهم , وفي كيفية ذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: أن بني إسرائيل غزوا ملك بابل واستنقذوا ما فيه يديه من الأسرى والأموال. الثاني: أن ملك بابل أطلق من في يده من الأسرى , وردّ ما في يده من الأموال. الثالث: أنه كان بقتل جالوت حين قتله داود. {وأمددناكم بأموالٍ وبنين} بتجديد النعمة عليهم. {وجعلناكم أكثر نفيراً} فيه وجهان: أحدهما: أكثر عزاً وجاهاً منهم. الثاني: أكثر عدداً , وكثرة العدد تنفر عدوهم منهم , قال تُبع بن بكر: (فأكرِم بقحْطَانَ مِن وَالِدٍ ... وحِمْيَرَ أَكْرِم بقَوْمٍ نَفِيراً) قال قتادة: فكانوا بها مائتي سنة وعشر سنين , وبعث فيهم أنبياء. قوله عز وجل: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} لأن الجزاء بالثواب يعود إليها , فصار ذلك إحساناً لها. {وإن أسأتُم فلها} أي فإليها ترجع الإساءة لما يتوجه إليها من العقاب , فرغَّب في الإحسان وحذر من الإساءة. ثم قال تعالى: {فإذا جاءَ وعْدُ الآخرة ليسوءُوا وجُوهكم} يعني وعد المقابلة على فسادهم في المرة الثانية. وفيمن جاءهم فيها قولان: أحدهما: بختنصّر، قاله مجاهد.

الثاني: أنه انطياخوس الرومي ملك أرض نينوى، وهو قول مقاتل، وقيل إنه قتل منهم مائة ألف وثمانين ألفاً، وحرق التوراة وأخرب بيت المقدس , ولم يزل على خرابه حتى بناه المسلمون. {وليدخلوا المسجد كما دَخلوه أوّل مرّة} يعني بيت المقدس. {وليتبروا ما علوا تتبيراً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه الهلاك والدمار. الثاني: أنه الهدم والإخراب , قاله قطرب , ومنه قول لبيد: (وما النَّاسُ إلا عَامِلان فَعَامِلٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعٌ) ) قوله عز وجل: {عسى ربُّكم أن يرحمكم} يعني مما حل بكم من الانتقام منكم. {وإن عدتم عدنا} فيه تأويلان: أحدهما: إن عدتم إلى الإساءة عدنا إلى الانتقام , فعادوا. قال ابن عباس وقتادة: فبعث الله عليهم المؤمنين يذلونهم بالجزية والمحاربة إلى يوم القيامة. الثاني: إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى القبول , قاله بعض الصالحين. {وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً} فيه تأويلان: أحدهما: يعني فراشاً ومهاداً , قاله الحسن: مأخوذ من الحصير المفترش. الثاني: حبساً يحبسون فيه , قاله قتادة , مأخوذ من الحصر وهو الحبس. والعرب تسمي الملك حصيراً لأنه بالحجاب محصور , قال لبيد: (ومقامَةِ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الحَصِير قِيَامُ)

9

{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما} قوله عز وجل: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} فيها تأويلان:

أحدهما: شهادة أن لا إله إلا الله , قاله الكلبي والفراء. الثاني: ما تضمه من الأوامر والنواهي التي هي أصوب , قاله مقاتل.

11

{ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} قوله عز وجل: {ويدعو الإنسان بالشر دُعاءَه بالخير} فيه وجهان من التأويل: أحدها: أن يطلب النفع في العاجل بالضر العائد عليه في الآجل. الثاني: أن يدعوا أحدهم على نفسه أو ولده بالهلاك , ولو استجاب دعاءه بهذا الشر كما استجاب له بالخير لهلك. {وكان الإنسان عجولاً} فيه تأويلان: أحدهما: عجولاً في الدعاء على نفسه وولده وما يخصه , وهذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد. الثاني: أنه عنى آدم حين نفخ فيه الروح , حتى بلغت إلى سُرّته فأراد أن ينهض عجلاً , وهذا قول إبراهيم والضحاك.

12

{وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا} قوله عز وجل: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل} فيه قولان: أحدهما: أنها ظلمة الليل التي لا نبصر فيها الطرقات كما لا نبصر ما محي من الكتاب , وهذا من أحسن البلاغة , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: أنها اللطخة السوداء التي في القمر , وهذا قول علي وقتادة ليكون ضوء القمر أقل من ضوء الشمس فيميز به الليل من النهار. {وجعلنا آية النهار مبصرة} فيه قولان: أحدهما: أنها الشمس مضيئة للأبصار. الثاني: موقظة.

13

{وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} قوله عز وجل: {وكل إنسان ألزمنا طائره في عنقه} فيه قولان: أحدهما: ألزمناه عمله من خير أو شر مثل ما كانت العرب تقوله سوانح الطير وبوارحه , والسانح: الطائر يمر ذات اليمين وهو فأل خير , والبارح: الطائر يمر ذات الشمال وهو فأل شر , وأضيف إلى العنق. الثاني: أن طائره حظه ونصيبه , من قول العرب: طار سهم فلان إذا خرج سهمه ونصيبه منه , قاله أبو عبيدة. {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} يعني كتاب طائره الذي في عنقه من خير أو شر. ويحتمل نشر كتابه الذي يلقاه وجهين: أحدهما: تعجيلاً للبشرى بالحسنة , والتوبيخ بالسيئة. الثاني: إظهار عمله من خير أو شر. {اقرأ كتابك} يحتمل وجهين: أحدهما: لما في قراءته من زيادة التقريع والتوبيخ. والثاني: ليكون إقراره بقراءته على نفسه. {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} فيه قولان: أحدهما: يعني شاهداً. والثاني: يعني حاكماً بعملك من خير أو شر. ولقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك بعملك.

15

{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} قوله عز وجل: {مَن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} يعني لما يحصل له من ثواب طاعته. {ومَن ضلّ فإنما يضل عليها} يعني لما يحصل عليه من عقاب معصيته. {ولا تزر وازِرةٌ وزر أخرى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. الثاني: لا يجوز لأحد أن يعصى لمعصية غيره. الثالث: لا يأثم أحد بإثم غيره. ويحتمل رابعاً: أن لا يتحمل أحد ذنب غيره ويسقط مأثمه عن فاعله. {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} فيه وجهان: أحدهما: وما كنا معذبين على الشرائع الدينية حتى نبعث رسولاً مبيناً , وهذا قول من زعم أن العقل تقدم الشرع. الثاني: وما كنا معذبين على شيء من المعاصي حتى نبعث رسولاً داعياً , وهذا قول من زعم أن العقل والشرع جاءا معاً. وفي العذاب وجهان: أحدهما: عذاب الآخرة. وهو ظاهر قول قتادة. الثاني: عذاب بالاستئصال في الدنيا، وهو قول مقاتل.

16

{وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} قوله عز وجل: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها. .} الآية في قوله {وإذا أردنا أن نهلك قرية} ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه إذا أردنا أن نحكم بهلاك قرية. والثاني: معناه وإذا أهلكنا قرية , وقوله {أردنا} صلة زائدة كهي في قوله تعالى: {جداراً يريد أن ينقض} [الكهف: 77] الثالث: أنه أراد بهلاك القرية فناء خيارها وبقاء شرارها. {أمرنا مترفيها} الذي عليه الأئمة السبعة من القراء أن أمرنا مقصور مخفف , وفيه وجهان: أحدهما: أمرنا متفريها بالطاعة , لأن الله تعالى لا يأمر إلا بها , {ففسقوا فيها} أي فعصوا بالمخالفة , قاله ابن عباس. الثاني: معناه: بعثنا مستكبريها , قاله هارون , وهي في قراءة أبيِّ: بعثنا أكابر مجرميها. وفي قراءة ثانية {أمّرنا مترفيها} بتشديد الميم , ومعناه جعلناهم أمراء مسلطين , قاله أبو عثمان النهدي. وفي قراءة ثالثة {آمَرْنا مُترفيها} ممدود , ومعناه أكثرنا عددهم , من قولهم آمر

القوم إذا كثروا , لأنهم مع الكثرة يحتاجون إلى أمير يأمرهم وينهاهم , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (خير المال مهرة أو سُكة مأبورة) أي كثيرة النسل , وقال لبيد: (إن يغبطوا يهبطوا وإن أمِروا ... يوماً يصيروا إلى الإهلاك والنكد) وهذا قول الحسن وقتادة. وفي {مترفيها} ثلاثة تأويلات: أحدها جباروها , قاله السن. الثاني: رؤساؤها , قاله علي بن عيسى. الثالث: فساقها , قاله مجاهد.

17

{وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} قوله عز وجل: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نُوح} واختلفوا في مدة القرن على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مائة وعشرون سنة , قاله عبد الله بن أبي أوفى. الثاني: أنه مائة سنة , قاله عبد الله بن بُسْر المازني.

الثالث: أنه أربعون سنة , روى ذلك محمد بن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

20

{كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} قوله عز وجل: {كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربِّكَ} يعني البر والفاجر من عطاء ربك في الدنيا دون الآخرة. {وما كان عطاء ربك محظوراً} فيه تأويلان: أحدهما: منقوصاً , قاله قتادة. الثاني: ممنوعاً , قاله ابن عباس.

22

{لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} قوله عز وجل: {وقضى ربُّك ألاّ تبعدوا إلاّ إياه} معناه وأمر ربك , قاله ابن عباس والحسن وقتادة. وكان ابن مسعود وأبيّ بن كعب يقرآن {ووصى ربك} قاله الضحاك , وكانت في المصحف: {ووصى ربك} لكن ألصق الكاتب الواو فصارت {وقضى ربك}.

{وبالوالدين أحساناً} معناه ووصى بالوالدين إحساناً , يعني أن يحسن إليهما بالبر بهما في الفعل والقول. {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} فيه وجهان: أحدهما: يبلغن كبرك وكما عقلك. الثاني: يبلغان كبرهما بالضعف والهرم. {فلا تقل لهما أفٍّ} يعني حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما الخلا , وتزيل عنهما القذى فلا تضجر , كما كانا يميطانه عنك وأنت صغير من غير ضجر. وفي تأويل {أف} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح , قاله مقاتل. الثاني: أنه استقذار الشيء وتغير الرائحة , قاله الكلبي. الثالث: أنها كلمة تدل على التبرم والضجر , خرجت مخرج الأصوات المحكية. والعرب أف وتف , فالأف وسخ الأظفار , والتُّف ما رفعته من الأرض بيدك من شيء حقير. {وقل لهما قولاً كريماً} فيه وجهان: أحدهما: ليناً. والآخر: حسناً. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية والآية التي بعدها في سعد بن أبي وقاص.

25

{ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا} قوله عز وجل: { ... إنه كان للأوّابين غفوراً} فيهم خمسة أقاويل: أحدها: أنهم المحسنون، وهذا قول قتادة.

والثاني: أنهم الذين يصلّون بين المغرب والعشاء، وهذا قول ابن المنكدر يرفعه. الثالث: هم الذي يصلون الضحى، وهذا قول عون العقيلي. والرابع: أنه الراجع عن ذنبه الذي يتوب، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد. والخامس: أنه الذي يتوب مرة بعد مرة، وكلما أذنب بادر بالتوبة وهذا قول سعيد بن المسيب.

26

{وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} قوله عز وجل: {وإما تعرضَنَّ عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربّك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً} فيه تأويلان: أحدهما: معناه إذا أعرضت عمن سألك ممن تقدم ذكره لتعذره عندك {ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} أي انتظاراً للزرق منه {فقل لهم قولاً ميسوراً} أي عِدْهم خيراً ورد عليهم رداً جميلاً , وهذا قول الحسن ومجاهد. الثاني: معناه إذا أعرضت عمن سألك حذراً أن ينفقه في معصية فمنعته ابتغاء رحمة له فقل لهم قولاً ميسوراً , أي ليناً سهلاً , وهذا قول ابن زيد.

29

{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا} قوله عز وجل: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أي ويقتر ويقلل. {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} يحتمل وجهين: أحدهما: خبيراً بمصالحهم بصيراً بأمورهم. والثاني: خبيراً بما أضمروا بصيراً بما عملوا.

31

{ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} قوله عز وجل: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ} يعني وأد البنات أحياء خيفة الفقر. {نحن نرزقهم وإياكُم إنّ قتلهم كان خطئاً كبيراً} والخِطءُ العدول عن الصواب بعمد , والخطأ العدول عنه بسهو , فهذا الفرق بين الخِطْءِ والخطأ , وقد قال الشاعر: (الخِطْءُ فاحشةٌ والبِرُّ نافِلةٌ ... كعَجْوةٍ غرسَتْ في الأرض تؤتَبرُ) الثاني: أن الخطء ما كان إثماً , والخطأ ما لا إثم فيه , وقرأ الحسن خطاء بالمد.

33

{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} قوله عز وجل: {ولا تقتلوا النفس التي حَرَّم الله إلاَّ بالحق} يعني إلا بما تستحق به القتل. {ومَن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه القود , قاله قتادة. الثاني: أنه الخيار بين القود أو الدية أو العفو , وهذا قول ابن عباس والضحاك. الثالث: فقد جعلنا لوليه سلطاناً ينصره وينصفه في حقه. {فلا يُسْرِف في القَتل} فيه قولان: أحدهما: فلا يسرف القاتل الأول في القتل تعدياً وظلماً , إن وليّ المقتول كان منصوراً , قاله مجاهد. الثاني: فلا يسرف وليّ المقتول في القتل.

وفي إسرافه أربعة أوجه: أحدها: أن يقتل غير قاتله , وهذا قول طلق بن حبيب. الثاني: أن يمثل إذا اقتص , قاله ابن عباس. الثالث: أن يقتل بعد أخذ الدية , قاله يحيى. الرابع: أن يقتل جماعة بواحد , قاله سعيد بن جبير وداود. {إنه كان منصوراً} فيه وجهان: أحدهما: أن الولي كان منصوراً بتمكينة من القود , قاله قتادة. الثاني: أن المقتول كان منصوراً بقتل قاتله , قاله مجاهد.

34

{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا} قوله عز وجل: {ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن} وإنما خص اليتيم بالذكر لأنه إلى ذلك أحوج , والطمع في ماله أكثر. وفي قوله {إلاّ بالتي هي أحسن} قولان: أحدهما: حفظ أصوله وتثمير فروعه , وهو محتمل. الثاني: أن التي هي أحسن التجارة له بماله. {حتى يَبْلُغَ أَشدَّه} وفي الأشد وجهان: أحدهما: أنه القوة. الثاني: المنتهى. وفي زمانه ها هنا قولان: أحدهما: ثماني عشرة سنة. والثاني: الاحتلام مع سلامة العقل وإيناس الرشد. {وأوفوا بالعهد} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: أنها العقود التي تنعقد بين متعاقدين يلزمهم الوفاء بها , وهذا قول أبي جعفر الطبري. الثاني: أنه العهد في الوصية بمال اليتيم يلزم الوفاء به. الثالث: أنه كل ما أمر الله تعالى به أو نهى فهو من العهد الذي يلزم الوفاء به. {إن العهد كان مسئولاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن العهد كان مطلوباً , قاله السدي. الثاني: أن العهد كان مسئولا عنه الذي عهد به , فيكون ناقض العهد هو المسئول. الثالث: أن العهد نفسه هو المسئول بم نقِضت , كما تُسأل الموءُودة بأي ذنب قتلت. قوله عز وجل: { ... وزنُوا بالقسطاس المستقيم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه القبان. قاله الحسن. الثاني: أنه الميزان صغر أو كبر , وهذا قول الزجاج. الثالث: هو العدل. واختلف من قال بهذا على قولين: أحدهما: أنه رومي , قاله مجاهد. الثاني: أنه عربي مشتق من القسط , قاله ابن درستويه. {ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً} فيه وجهان: أحدهما: أحسن باطناً فيكون الخير ما ظهر , وحسن التأويل ما بطن. الثاني: أحسن عقابة , تأويل الشيء عاقبته.

36

{ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}

قوله عز وجل: {ولا تقف ما ليس لك به عِلْمٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه لا تقل ما ليس لك به علم فلا تقل رأيت , ولم تر , ولا سمعت , ولم تسمع , ولا علمت ولم تعلم. وهذا قول قتادة. الثاني: معناه ولا ترم أحد بما ليس لك به علم , وهذا قول ابن عباس. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن بني النضر كنانة لا نقْفُو أمنا ولا ننتفي من أبينا). الثالث: أنه من القيافة وهو اتباع الأثر , وكأنه يتبع قفا المتقدم , قال الشاعر: (ومِثْلُ الدُّمى شُمُّ العَرَنِينِ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الْحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا) أي التقاذف. {إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أُولئك كان عنه مسئولاً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الإنسان هو المسئول عن السمع والبصر والفؤاد لأنه يعمل بها إلى الطاعة والمعصية. الثاني: أن السمع والبصر والفؤاد تُسأل عن الإنسان ليكونوا شهوداً عليه، وله، بما فعل من طاعة وما ارتكب من معصية , ويجوز أن يقال أولئك لغير الناس، كما قال جرير:

(ذُمّ المنازِلِ بَعْدَ منزِلِةِ اللِّوى ... والْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئكَ الأَيَّامِ)

37

{ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} قوله عز وجل: {ولا تمش في الأرض مَرَحاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن المرح شدة الفرح بالباطل. الثاني: أنه الخيلاء في المشي , قاله قتادة. الثالث: أنه البطر والأشر. الرابع: أنه تجاوز الإنسان قدره. الخامس: التكبر في المشي. {إنّك لن تخرِقَ الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً} فيه وجهان: أحدهما: إنك لن تخرق الأرض من تحت قدمك ولن تبلغ الجبال طولاً بتطاولك زجراً له عن تجاوزه الذي لا يدرك به غرضاً. الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى له , ومعناه كما أنك لن تخرق الأرض في مشيك , ولن تبلغ الجبال طولاً فإنك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك , إياساً له من بلوغ إرادته.

39

{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا} قوله عز وجل: {ولقد صرفنا في هذا القرآن} فيه وجهان: أحدهما: كررنا في هذا القرآن من المواعظ والأمثال. الثاني: غايرنا بين المواعظ باختلاف أنواعها. {ليذكروا} فيه وجهان: أحدهما: ليذكروا الأدلة.

الثاني: ليهتدوا إلى الحق. {وما يزيدهم الا نفوراً} فيه وجهان: أحدهما: نفوراً عن الحق والاتباع له. الثاني: عن النظر والاعتبار. وفي الكلام مضمر محذوف , وتقديره ولقد صرفنا الأمثال في هذا القرآن.

42

{قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} قوله عز وجل: {قل لو كان مََعَهُ آلهةٌ كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} فيه وجهان: أحدهما: لطلبوا إليه طريقاً يتصلون به لأنهم شركاء؛ قاله سعيد بن جبير. الثاني: ليتقربوا إليه لأنهم دونه , قاله قتادة.

44

{تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} قوله عز وجل: {وإن من شيءٍ إلاّ يُسَبِّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: وإن من شيء من الأحياء الا يسبح بحمده , فأما ما ليس بحي فلا , قاله الحسن. الثاني: إن جميع المخلوقات تسبح له من حي وغير حي حتى صرير الباب , قاله إبراهيم. الثالث: أن تسبيح ذلك ما يظهر فيه من لطيف صنعته وبديع قدرته الذي يعجز الخلق عن مثله فيوجب ذلك على من رآه تسبيح الله وتقديسه , كما قال الشاعر: (تُلْقِي بِتَسْبِيحَةٍ مِنْ حَيْثُما انْصَرَفَتْ ... وتَسْتَقِرُّ حَشَا الرَّائِي بإِرْعَادِ) (كَأَنَّمَا خُلِقتْ مِن قِشْرِ لُؤْلُؤةٍ ... فَكُلُّ أَكْنَافِها وَجْهٌ لِمِرْصَادِ)

45

{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} قوله عز وجل: {وإذا قرأت القرآن جلعنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} فيه وجهان: أحدهما: أي جعلنا القرآن حجاباً ليسترك عنهم إذا قرأته. الثاني: جعلنا القرآن حجاباً يسترهم عن سماعه إذا جهرت به. فعلى هذا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لإعراضهم عن قراءتك كمن بينك وبينهم حجاباً في عدم رؤيتك. قاله الحسن. والثاني: أن الحجاب المستور أن طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه , قاله قتادة. الثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يؤذونه في الليل إذا قرأ , فحال الله بينه وبينهم من الأذى , قاله الزجاج. {مستوراً} فيه وجهان: أحدهما: أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه. الثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه , ويكون مستور بمعنى ساتر , وقيل إنها نزلت في بني عبد الدار.

47

{نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} قوله عز وجل: {نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} في هذه النجوى قولان: أحدهما: أنه ما تشاوروا عليه في أمر النبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة.

الثاني: أن هذا في جماعة من قريش منهم الوليد بن المغيرة كانوا يتناجون بما ينفّرون به الناس عن اتباعه صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: وكانت نجواهم أنه مجنون , وأنه ساحر , وأنه يأتي بأساطير الأولين. {إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجُلاً مسحوراً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه سحر فاختلط عليه أمره , يقولون ذلك تنفيراً عنه. الثاني: أن معنى مسحور مخدوع , قاله مجاهد. الثالث: معناه أن له سحراً , أي رئة , يأكل ويشرب فهو مثلكم وليس بملك , قاله أبو عبيدة , ومنه قول لبيد: (فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هذَا الأَنَامِ الْمُسَحَّرِ)

49

{وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} قوله عز وجل: {وقالوا أئِذا كُنّا عظاماً ورفاتاً} فيه تأويلان: أحدهما: أن الرفات التراب , قاله الكلبي والفراء. الثاني: أنه ما أرفت من العظام مثل الفتات , قاله أبو عبيدة , قال الراجز: 89 (صُمَّ الصَّفَا رَفَتَ عَنْهَا أَصْلُهُ} 9 قوله عز وجل: {قل كونوا حجارةً أو حديداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه إن عجبتم من إنشاء الله تعالى لكم عظاماً ولحماً فكونوا أنتم حجارة أو حديداً إن قدرتم , قاله أبو جعفر الطبري.

الثاني: معناه أنكم: لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله تعالى إذا أرادكم إلا أنه أخرجه مخرج الأمر لأنه أبلغ من الإلزام , قاله علي بن عيسى. الثالث: معناه لو كنتم حجارة أو حديداً لأماتكم الله ثم أحياكم. {أو خَلْقاً ممّا يكبر في صدوركم} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه عنى بذلك السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس , قاله مجاهد. الثاني: أنه أراد الموت لأنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم منه وقد قال أمية ابن أبي الصلت: (نادوا إلههمُ ليسرع خلقهم ... وللموت خلق للنفوس فظيعُ) وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص. الثالث: أنه أراد البعث لأنه كان أكبر شيء في صدروهم قاله الكلبي. الرابع: ما يكبر في صدوركم من جميع ما استعظمتموه من خلق الله تعالى , فإن الله يميتكم ثم يحييكم ثم يبعثكم , قاله قتادة. { ... فسينغضون إليك رءُوسَهُم} قال ابن عباس وقتادة , أي يحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيباً , قال الشاعر: (قلت لها صلي فقالت مِضِّ ... وحركت لي رأسها بالنغضِ) قوله عز وجل: {يَوْمَ يدعوكم فتستجيبون بحمده} في قوله تعالى يدعوكم قولان: أحدهما: أنه نداء كلام يسمعه جميع الناس يدعوهم الله بالخروج فيه إلى أرض المحشر. الثاني: أنها الصيحة التي يسمعونها فتكون داعية لهم إلى الاجتماع في أرض القيامة.

وفي قوله: {فتستجيبون بحمده} أربعة أوجه: أحدها: فتستجيبون حامدين لله تعالى بألسنتكم. الثاني: فتستجيبون على ما يقتضي حمد الله من أفعالكم. الثالث: معناه فستقومون من قبوركم بحمد الله لا بحمد أنفسكم. الرابع: فتستجيبون بأمره , قاله سفيان وابن جريج. {وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلاً} فيه خمس أوجه: أحدها: إن لبثتم إلا قليلاً في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة , قاله الحسن. الثاني: معناه الاحتقار لأمر الدنيا حين عاينوا يوم القيامة , قاله قتادة. الثالث: أنهم لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة اللبث في القبور. الرابع: أنهم بين النفختين يرفع عنهم العذاب فلا يعذبون , وبينهما أربعون سنة فيرونها لاستراحتهم قليقلة؛ قاله الكلبي. الخامس: أنه لقرب الوقت , كما قال الحسن كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل.

53

{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} قوله عز وجل: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به. {إنّ الشيطان ينزغُ بينهم} في تكذيبه. الثاني: أنه امتثال أوامر الله تعالى ونواهيه , قاله الحسن. الثالث: أنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الرابع: أن يرد خيراً على من شتمه. وقيل إنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من بعض كفار قريش , فهم به عمر , فأنزل الله تعالى فيه {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}.

54

{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا

وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا} قوله عز وجل: {إن يشاء يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إن يشأ يرحمكم بالهداية أو يعذبكم بالإضلال. الثاني: إن يشاء يرحمكم فينجيكم من أعدائكم أو يعذبكم بتسلطهم عليكم , قاله الكلبي. الثالث: إن يشأ يرحمكم بالتوبة أو يعذبكم بالإقامة , قاله الحسن: {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} فيه وجهان: أحدهما: ما وكلناك أن تمنعهم من الكفر بالله سبحانه , وتجبرهم على الإيمان به. الثاني: ما جعلناك كفيلاً لهم تؤخذ بهم , قاله الكلبي , قاله الشاعر: (ذكرت أبا أرْوَى فَبِتُّ كأنني ... بِرَدِّ الأمور الماضيات وكيلُ) وكيل: أي كفيل.

56

{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} قوله عز وجل: {أولئك الذين يدعون يبتغُون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقْرَبُ} الآية فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في نفر من الجن كان يعبدهم قوم من الإنس , فأسلم الجن ابتغاء الوسيلة عند ربهم , وبقي الإنس على كفرهم؛ قاله عبد الله بن مسعود.

الثاني: أنهم الملائكة كانت تعبدهم قبائل من العرب , وهذا مروي عن ابن مسعود أيضاً. الثالث: هم وعيسى وأُمُّهُ , قاله ابن عباس ومجاهد. وهم المعنيّون بقوله تعالى {قلِ ادعُوا الذين زعمتم مِن دونه} وتفسيرها أن قوله تعالى {اولئك الذين يدعون} يحتمل وجهين: أحدهما: يدعون الله تعالى لأنفسهم. الثاني: يدعون عباد الله إلى طاعته. وقوله تعالى: {يبتغون إلى ربهم الوسيلة} وهي القربة , وينبني تأويلها على احتمال الوجهين في الدعاء. فإن قيل إنه الدعاء لأنفسهم كان معناه يتوسلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى ما سألوا. وإن قيل دعاء عباد الله إلى طاعته كان معناه أنهم يتوسلون لمن دعوه إلى مغفرته. {أيهم أقرَبُ} تأويله على الوجه الأول: أيهم أقرب في الإجابة. وتأويله على الوجه الثاني: أيهم أقرب إلى الطاعة. {ويرجون رحمته ويخافون عذابهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون هذا الرجاء والخوف في الدنيا. الثاني: أن يكونا في الآخرة. فإن قيل إنه في الدنيا احتمل وجهين: أحدهما: أن رجاء الرحمة التوفيق والهداية , وخوف العذاب شدة البلاء.

وإن قيل إن ذلك في الآخرة احتمل وجهين: أحدهما: أن رجاء الرحمة دوام النعم وخوف عذاب النار. الثاني: أن رجاء الرحمة العفو , وخوف العذاب مناقشة الحساب. ويحتمل هذا الرجاء والخوف وجهين: أحدهما: أن يكون لأنفسهم إذا قيل إن أصل الدعاء كان لهم. الثاني: لطاعة الله تعالى إذا قيل إن الدعاء كان لغيرهم. ولا يمتنع أن يكون على عمومه في أنفسهم وفيمن دعوه. قال سهل بن عبد الله: الرجاء والخوف ميزانان على الإنسان فإذا استويا استقامت أحواله , وإن رجح أحدهما بطل الآخر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا).

58

{وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} قوله عز وجل: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الآيات معجزات الرسل جعلها الله تعالى من دلائل الإنذار تخويفاً للمكذبين. الثاني: أنها آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي. الثالث: أنها تقلُّبُ الأحوال من صغر إلى شباب ثم إلى تكهُّل ثم إلى مشيب , لتعتبر بتقلب أحوالك فتخاف عاقبة أمْرك , وهذا قول أحمد بن حنبل رحمه الله.

60

{وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا}

قوله عز وجل: {وإذا قلنا لك إنّ ربّك أحاط بالناس} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه أحاطت بالناس قدرته فهم في قبضته , قاله مجاهد وابن أبي نجيح. الثاني: أحاط علمه بالناس , قاله الكلبي. الثالث: أنه عصمك من الناس أن يقتلوك حتى تبلغ رسالة ربك , قاله الحسن وعروة وقتادة. {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها رؤيا عين ليلة الإسراء به من مكة إلى بيت المقدس , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك وابن أبي نجيح وابن زيد , وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أُسريَ به. الثاني: أنها رؤيا نوم رأى فيها أنه يدخل مكة , فعجل النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوقت يوم الحيبية , فرجع فقال ناس قد كان قال إنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أنها رؤيا منام رأى فيها قوماً يعلون على منابره ينزون نزو القردة. فساءه , وهذا قول سهل بن سعد. وقيل إنه ما استجمع ضاحكاً حتى مات صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية. {والشجرة الملعونة في القرآن} فيها أربعة أقاويل: أحدها: أنها شجرة الزقوم طعام الأثيم , وقال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير وطاووس وابن زيد. وكانت فتنتهم بها قول أبي جهل وأشياعه: النار تأكل الشجر فكيف تنبتها.

الثاني: هي الكشوت التي تلتوي على الشجر , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم اليهود تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب , قاله ابن بحر. الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قوماً يصعدون المنابر , فشق عليه , فأنزل الله تعالى {والشجرة الملعونة في القرآن} قاله سعيد بن المسيب. والشجرة كناية عن المرأة , والجماعة أولاد المرأة كالأغصان للشجر.

61

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} قوله عز وجل: { ... لأحتنكن ذُرِّيته إلاّ قليلاً} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه لأستولين عليهم بالغلبة , قاله ابن عباس. الثاني: معناه لأضلنهم بالإغواء. الثالث: لأستأصلنهم بالإغواء. الرابع: لأستميلنهم , قاله الأخفش. الخامس: لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحنكها إذا شد فيه حبل يجذبها وهو افتعال من الحنك إشارة إلى حنك الدابة. السادس: معناه لأقطعنهم إلى المعاصي , قال الشاعر: (أشْكوا إليك سَنَةً قد أجحفت ... جهْداً إلى جهدٍ بنا وأضعفت) 89 (واحتنكَتْ أَمْولُنا واجتلفت.} 9

63

{قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا} قوله عز وجل: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: واستخف , وهذا قول الكلبي والفراء. الثاني: واستجهل. الثالث: واستذل من استطعت , قاله مجاهد. {بصوتك} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه صوت الغناء واللهو , قاله مجاهد. الثاني: أنه صوت المزمار , قاله الضحاك. الثالث: بدعائك إلى معصية الله تعالى وطاعتك , قاله ابن عباس. {وأجلب عليهم بخيلك ورجَلِكِ} والجلب هو السوْق بجلبه من السائق , وفي المثل: إذا لم تغلب فأجلب. وقوله {بخيلك ورجلك} أي بكل راكب وماشٍ في معاصي الله تعالى. {وشاركهم في الأموال والأولاد} أما مشاركتهم في الأموال ففيها أربعة أوجه: أحدها: أنها الأموال التي أصابوها من غير حلها , قاله مجاهد. الثاني: أنها الأموال التي أنفقوها في معاصي الله تعالى , قاله الحسن. الثالث: ما كانوا يحرّمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام , قاله ابن عباس. الرابع: ما كانوا يذبحون لآلهتهم , قاله الضحاك. وأما مشاركتهم في الأولاد ففيها أربعة أوجه: أحدها: أنهم أولاد الزنى , قاله مجاهد. الثاني: أنه قتل الموؤودة من أولادهم , قاله ابن عباس. الثالث: أنه صبغة أولادهم في الكفر حتى هوّدوهم ونصّروهم , قاله قتادة.

الرابع: أنه تسمية أولادهم عبيد آلهتهم كعبد شمس وعبد العزَّى وعبد اللات , رواه أبو صالح عن ابن عباس.

66

{ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما} قوله عز وجل: {ربُّكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر} معناه يجريها ويسيرها , قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد , قال الشاعر: (يا أيها الراكب المزجي مطيتُه ... سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت)

67

{وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا} قوله عز وجل: {وإذا مَسّكم الضُّرُّ في البحر ضَلَّ من تدعون إلا إياه} فيه وجهان: أحدهما: بطل من تدعون سواه , كما قال تعالى {أضلَّ أعمالهم} [محمد: 1] أي أبطلها. الثاني: معناه غاب من تدعون كما قال تعالى {أئِذا ضَلَلْنا في الأرض} [السجدة: 10] أي غِبْنَا.

68

{أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من

الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} قوله عز وجل: {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البَرِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: يريد بعض البر وهو موضع حلولهم منه , فسماه جانبه لأنه يصير بعد الخسف جانباً. الثاني: أنهم كانوا على ساحل البحر , وساحله جانب البر , وكانوا فيه آمنين من أهوال البحر فحذرهم ما أمنوه من البر كما حذرهم ما خافوه من البحر. {أو يُرْسِلَ عليكم حاصباً} فيه وجهان: أحدهما: يعني حجارة من السماء , قاله قتادة. الثاني: إن الحاصب الريح العاصف سميت بذلك لأنها تحصب أي ترمي بالحصباء. والقاصف الريح التي تقصف الشجر , قاله الفراء وابن قتيبة.

70

{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} قوله تعالى: {ولقد كَرّمنا بني آدم. .} فيه سبعة أوجه: أحدها: يعني كرمناهم بإنعامنا عليهم. الثاني: كرمناهم بأن جعلنا لهم عقولاً وتمييزاً. الثالث: بأن جعلنا منهم خير أمة أخرجت للناس. الرابع: بأن يأكلوا ما يتناولونه من الطعام والشراب بأيديهم , وغيرهم يتناوله بفمه , قاله الكلبي ومقاتل. الخامس: كرمناهم بالأمر والنهي. السادس: كرمناهم بالكلام والخط. السابع: كرمناهم بأن سخّرنا جميع الخلق لهم.

{ ... ورزقناهُمْ من الطيبات} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما أحله الله لهم. الثاني: ما استطابوا أكله وشربه. الثالث: أنه كسب العامل إذا نفع , قاله سهل بن عبد الله. {وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: بالغلبة والاستيلاء. الثاني: بالثواب والجزاء. الثالث: بالحفظ والتمييز. الرابع: بإصابة الفراسة.

71

{يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا} قوله عز وجل: {يوم ندعوا كل أناسٍ بإمامِهمْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: بنبيِّهم , قاله مجاهد. الثاني: بكتابهم الذي أنزل عليهم أوامر الله ونواهيه , قاله ابن زيد. الثالث: بدينهم , ويشبه أن يكون قول قتادة. الرابع: يكتب أعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشر , قاله ابن عباس. الخامس: بمن كانوا يأتمرون به في الدنيا فيتبعونه في خير أو شر , أو على حق , أو باطل , وهو معنى قول أبو عبيدة. قوله عز وجل: {ومن كان في هذه أعمى. .} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: من كان في الدنيا أعمى عن الطاعة {فهو في الآخرة أعمى} عن الثواب.

الثاني: ومن كان في الدنيا أعمى عن الاعتبار {فهو في الآخرة أعمى} عن الاعتذار. الثالث: ومن كان في الدنيا أعمى عن الحق {فهو في الآخرة أعمى} عن الجنة. الرابع: ومن كان في تدبير دنياه أعمى فهو تدبير آخرته أعمى {وأضل سبيلاً}.

73

{وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره} فيه قولان: أحدهما: ما روى سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر في طوافه فمنعته قريش وقالوا لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال: (ما عليّ أن ألمَّ بها بعد أن يعدوني أستلم الحجر والله يعلم أني لها كاره) فأبى الله تعالى وأنزل عليه هذه الآية , قاله مجاهد وقتادة. الثاني: ما روى ابن عباس أن ثقيفاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أجِّلْنا سنة حتى نأخذ

ما نُهدي لآلهتنا , فإذا أخذناه كسرنا آلهتنا وأسلمْنا , فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطيعهم , فأنزل الله هذه الآية. {لِتَفْتَريَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: لتدّعي علينا غير وحينا. الثاني: لتعتدي في أوامرنا. {وإذاً لاتخذوك خليلاً} فيه وجهان: أحدهما: صديقاً , مأخوذ من الخُلة بالضم وهي الصداقة لممالأته لهم. الثاني: فقيراً , مأخوذ من الخلة بالفتح وهي الفقر لحاجته إليهم. قوله عز وجل: {إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} فيه قولان: أحدهما: لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. الثاني: لأذقناك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة , حكاه الطبري: وفي المراد بالضِّعف ها هنا وجهان: أحدها: النصيب , ومنه قوله تعالى {لكل ضِعفٌ} [الأعراف: 38] أي نصيب. الثاني: مثلان , وذلك لأن ذنبك أعظم. وفيه وجه ثالث: أن الضعف هو العذاب يسمى ضعف لتضاعف ألمه , قاله أبان بن تغلب وأنشد قول الشاعر: (لمقتل مالكٍ إذ بان مني ... أبيتُ الليل في ضعفٍ أليم) قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين).

76

{وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا} قوله عز وجل: {وإن كادوا ليستفزونَك مِنَ الأرض ليخرجوك منها} في قوله {ليستفزّونك} وجهان: أحدهما: يقتلونك , قاله الحسن. الثاني: يزعجونك باتسخفافك , قاله ابن عيسى. قال الشاعر: (يُطِيعُ سَفِيهَ القوْمِ إذ يَسْتَفِزُّهُ ... ويعْصِي حَكِيماً شَيَّبَتْهُ الْهَزَاهِزُ) وفي قوله {ليخرجوك منها} أربعة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود أرادوا أن يخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة , فقالوا: إن أرض الأنبياء هي الشام وإن هذه ليست بأرض الأنبياء , قاله سليمان التيمي. الثاني: أنهم قريش هموا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قبل الهجرة , قاله قتادة. الثالث: أنهم أرادوا إخراجه من جزيرة العرب كلها لأنهم قد أخرجوه من مكة. الرابع: أنهم أرادوا قتله ليخرجوه من الأرض كلها , قاله الحسن. {وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً} يعني بعدك , قال خلْفك وخلافك وقد قرئا جميعاً بمعنى بعدك , ومنه قول الشاعر: (عَفَتِ الدِّيَارُ خِلاَفَها فَكَأَنَّما ... بَسَطَ الشَّوَاطبُ بَيْنَهُم حَصِيراً) وقيل خلفك بمعنى مخالفتك , ذكره ابن الأنباري. {إلا قليلاً} فيه وجهان: أحدهما: أن المدة التي لبثوها بعده ما بين إخراجهم له إلى قتلهم يوم بدر , وهذا قوله من ذكر أنهم قريش.

الثاني: ما بين ذلك وقتل بني قريظة وجلاء بني النضير , وهذا قول من ذكر أنهم اليهود.

78

{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قوله عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}. أما دلوك الشمس ففيه تأويلان: أحدهما: أنه غروبها , وأن الصلاة المأمور بها صلاة المغرب , ومنه قول ذي الرمة: (مصابيح ليست باللواتي تقودها ... نجومٌ ولا بالآفات الدوالك) قاله ابن مسعود وابن زيد , ورواه مجاهد عن ابن عباس , وهو مذهب أبي حنيفة. الثاني: أنه زوالها , والصلاة المأمور بها صلاة الظهر , وهذا قول ابن عباس في رواية الشعبي عنه , وهو قول أبي بردة والحسن وقتادة ومجاهد , وهو مذهب الشافعي ومالك لرواية أبي بكر بن عمرو بن حزم عن ابن مسعود وعقبة بن عامر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر) وقال الشاعر:

(هذا مُقام قَدَامي رباح ... ذَيّبَ حتى دَلَكت بَراح) وبراح اسم الشمس , والباء التي فيه من أصل الكلمة , وذهب بعض أهل العربية إلى أن الباء التي فيها باء الجر , واسم الشمس راح. فمن جعل الدلوك اسماً لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها , ومن جعله اسماً لزوالها فلأنه يدلك عينيه براحته لشدة شعاعها. وقيل إن أصل الدلوك في اللغة هو الميل , والشمس تميل عند زوالها وغروبها فلذلك انطلق على كل واحدٍ منهما. وأما {غسق الليل} ففيه تأويلان: أحدهما: أنه ظهور ظلامه , قاله الفراء وابن عيسى , ومنه قول زهير: (ظَلَّت تَجُودُ يَدَاها وهِيَ لاَهِيَةٌ ... حتى إذا جَنَحَ الإِظْلاَمُ والغَسَقُ) الثاني: أنه دنوّ الليل وإقباله , وهوقول ابن عباس وقتادة. قال الشاعر: (إن هذا الليل قد غسقا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .) وفي الصلاة المأمور بها قولان: أحدهما: أنها صلاة المغرب , وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك الثاني: هي صلاة العشاء الآخرة , قاله أبو جعفر الطبري. ثم قال {وقرآن الفَجْر إنّ قرآن الفجْر كان مشهوداً} في {قرآن} تأويلان: أحدهما: أقم القراءة في صلاة الفجر , وهذا قول أبي جعفر الطبري. الثاني: معناه صلاة الفجر , فسماها قرآناً لتأكيد القراءة في الصلاة , وهذا قول أبي اسحاق الزجاج. {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} فيه قولان: أحدهما: إن من الحكمة أن تشهده بالحضور إليه في المساجد , قاله ابن بحر. الثاني: ان المراد به ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تشهده ملائكة

الليل وملائكة النهار) وفي هذا دليل على أنها ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار. قوله عز وجل: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} أما الهجود فمن أسماء الأضداد , وينطلق على النوم وعلى السهر , وشاهد انطلاقه على السهر قول الشاعر: (ألا زارت وأهْلُ مِنىً هُجُود ... ولَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنىً يعُود) وشاهد انطلاقه على النوم قول الشاعر: (أَلا طَرَقَتْنَا والرِّفَاقُ هُجُود ... فَبَاتَتْ بِعُلاَّت النّوالِ تجود) أما التهجد فهو السهر , وفيه وجهان: أحدهما: السهر بالتيقظ لما ينفي النوم , سواء كان قبل النوم أو بعده. الثاني: أنه السهر بعد النوم , قاله الأسود بن علقمة. وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره: فتهجد بالقرآن وقيام الليل نافلة أي فضلاً وزيادة على الفرض. وفي تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بأنها نافلة له ثلاثة أوجه: أحدها: تخصيصاً له بالترغيب فيها والسبق إلى حيازة فضلها , اختصاصها بكرامته , قاله علي بن عيسى. الثاني: لأنها فضيلة له , ولغيره كفارة , قاله مجاهد. الثالث: لأنها عليه مكتوبة ولغيره مستحبة , قاله ابن عباس. {عسى أن يبعثك ربُّك مقاماً محموداً} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن المقام المحمود الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان. الثاني: أنه إجلاسه على عرشه يوم القيامة، قاله مجاهد.

الثالث: أنه إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. ويحتمل قولاً رابعاً: أن يكون المقام المحمود شهادته على أمته بما أجابوه من تصديق أو تكذيب , كما قال تعالى {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].

80

{وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} قوله عز وجل: {وقل ربِّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مُخرج صدق} فيه سبعة أقاويل: أحدها: أن مدخل الصدق دخوله إلى المدينة حين هاجر إليها , ومخرج صدق بخروجه من مكة حين هاجر منها , قاله قتادة وابن زيد. الثاني: أدخلني مدخل صدق إلى الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة إلى المدينة , قاله الحسن. الثالث: أدخلني مدخل صدق فيما أرسلتني به من النبوة , وأخرجني منه بتبليغ الرسالة مخرج صدق , وهذا قول مجاهد. الرابع: أدخلني في الإسلام مدخل صدق , وأخرجني من الدنيا مخرج صدق , قاله أبو صالح. الخامس: أدخلني مكة مدخل صدق وأخرجني منها مخرج صدق آمناً، قاله الضحاك.

السادس: أدخلني في قبري مدخل صدق , وأخرجني منه مخرج صدق، قاله ابن عباس. السابع: أدخلني فيما أمرتني به من طاعتك مدخل صدق , وأخرجني مما نهيتني عنه من معاصيك مخرج صدق , قاله بعض المتأخرين. والصدق ها هنا عبارة عن الصلاح وحسن العاقبة. {واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني مُلكاً عزيزاً أقهر به العصاة , قاله قتادة. الثاني: حجة بيّنة , قاله مجاهد. الثالث: أن السلطة على الكافرين بالسيف , وعلى المنافقين بإقامة الحدود قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: أن يجمع له بين القلوب باللين وبين قهر الأبدان بالسيف. قوله عز وجل: {وقُلْ جاء الحق وزهق الباطل} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن الحق هو القرآن , والباطل هو الشيطان , قاله قتادة. الثاني: أن الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الأصنام , قاله مقاتل بن سليمان. الثالث: أن الحق الجهاد , والباطل الشرك , قاله ابن جريج. {إن الباطل كان زهوقاً} أي ذاهباً هالكاً , قال الشاعر: (ولقدْ شفَى نفسي وأبْرأ سُقْمَهَا ... إِقدامُهُ قهْراً له لَمْ يَزْهَق) وحكى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ورأى فيها التصاوير أمر بثوب فبُل بالماء وجعل يضرب به تلك التصاوير ويمحوها ويقول {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}.

82

{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا}

قوله عز وجل: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: شفاء من الضلال , لما فيه من الهدى. الثاني: شفاء من السقم , لما فيه من البركة. الثالث: شفاء من الفرائض والأحكام , لما فيه من البيان. وتأويله الرحمة ها هنا على الوجوه الأُوَلِ الثلاثة: أحدها: أنها الهدى. الثاني: أنها البركة. الثالث: أنها البيان. {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} يحتمل وجهين: أحدهما: يزيدهم خساراً لزيادة تكذيبهم. الثاني: يزيدهم خساراً لزيادة ما يرد فيه من عذابهم.

83

{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} قوله عز وجل: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} يحتمل وجهين: أحدهما: إذا أنعمنا عليه بالصحة والغنى أعرض ونأى وبعد من الخير. الثاني: إذا أنعمنا عليه بالهداية أعرض عن السماع وبعُد من القبول وفي قوله {ونأى بجانبه} وجهان: أحدهما: أعجب بنفسه , لأن المعجب نافر من الناس متباعد عنهم. الثاني: تباعد من ربه. {وإذا مَسّهُ الشر كان يئوساً} يحتمل إياسه من الفرج إذا مسه الشر وجهين: أحدهما: بجحوده وتكذيبه. الثاني: بعلمه بمعصيته أنه معاقب على ذنبه. وفي {الشر} ها هنا ثلاثة تأويلات:

أحدها: أنه الفقر , قاله قتادة. الثاني: أنه السقم , قاله الكلبي. الثالث: السيف , وهو محتمل. قوله عز وجل: {قُلْ كلٌّ يعمل على شاكلته} في ستة تأويلات: أحدها: على حِدّته , قاله مجاهد. الثاني: على طبيعته , قاله ابن عباس. الثالث: على بيته , قاله قتادة. الرابع: على دينه , قاله ابن زيد. الخامس: على عادته. السادس: على أخلاقه. {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً} فيه وجهان: أحدهما: أحسن ديناً. الثاني: أسرع قبولاً.

85

{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} قوله عز وجل: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنه جبريل عليه السلام , قاله ابن عباس. كما قال تعالى {نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 193]. الثاني: ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه , لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بجميع ذلك , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثالث: أنه القرآن , قاله الحسن , كما قال تعالى {وكذلك أوحينا إليك روحاً

من أمرنا} [الشورى: 52] فيكون معناه أن القرآن من أمر الله تعالى ووحيه الذي أنزل عليّ وليس هو مني. الرابع: أنه عيسى ابن مريم هو من أمر الله تعالى وليس كما ادعته النصارى أنه ابن الله , ولا كما افترته اليهود أنه لغير رشدة. الخامس: أنه روح الحيوان , وهي مشتقة من الريح. قال قتادة سأله عنها قوم من اليهود وقيل في كتابهم أنه إن أجاب عن الروح فليس بنبيّ فقال الله تعالى {قل الروح من أمر ربي} فلم يجبهم عنها فاحتمل ذلك ستة أوجه: أحدها: تحقيقاً لشيء إن كان في كتابهم. الثاني: أنهم قصدوا بذلك الإعنات كما قصدوا اقتراح الآيات. الثالث: لأنه قد يتوصل إلى معرفته بالعقل دون السمع. الرابع: لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سؤال ما لا يعني. الخامس: قاله بعض المتكلمين , أنه لو أجابهم عنها ووصفها؛ بأنها جسم رقيق تقوم معه الحياة , لخرج من شكل كلام النبوة , وحصل في شكل كلام الفلاسفة. فقال {من أمر ربي} أي هو القادر عليه. السادس: أن المقصود من سؤالهم عن الروح أن يتبين لهم أنه محدث أو قديم , فأجابهم بأنه محدث لأنه قال: {من أمر ربي} أي من فعله وخلقه , كما قال تعالى {إنما أمرنا لشيء}.

فعلى هذا الوجه يكون جواباً لما سألوه , ولا يكون على الوجوه المتقدمة جواباً. {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فيه وجهان: أحدهما: إلا قليلاً من معلومات الله. الثاني: إلا قليلاً بحسب ما تدعو الحاجة إليه حالاً فحالاً. وفيمن أريد بقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} قولان: أحدهما: أنهم اليهود خاصة , قاله قتادة. الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الخلق.

86

{ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا} قوله عز وجل: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} فيه وجهان: أحدهما: لأذهبناه من الصدور والكتب حتى لا يقدر عليه. الثاني: لأذهبناه بقبضك إلينا حتى لا ينزل عليك. {ثم لا تجدُ لك به علينا وكيلاً} فيه وجهان:

أحدهما: أي لا تجد من يتوكل في رده إليك , وهو تأويل من قال بالوجه الأول. الثاني: لا تجد من يمنعنا منك , وهو تأويل من قال بالوجه الثاني. {إلاّ رحمة من ربك} أي لكن رحمة من ربك أبقاك له وأبقاه عليك. {إنّ فضله كان عليك كبيراً} فيه وجهان: أحدهما: جزيلاً لكثرته. الثاني: جليلاً لعظيم خطره.

90

{وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} قوله عز وجل: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجُر لنا من الأرض ينبوعاً} التفجير تشقيق الأرض لينبع الماء منها , ومنه سمي الفجر لأنه ينشق عن عمود الصبح , ومنه سمي الفجور لأنه شق الحق بالخروج إلى الفساد. الينبوع: العين التي ينبع منها الماء , قال قتادة ومجاهد: طلبوا عيوناً ببلدهم. {أو تكون لك جنةٌ من نخيلٍ وعنب} سألوا ذلك في بلد ليس ذلك فيه. {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً} أي قطعاً. قرىء بتسكين السين وفتحها , فمن قرأ بالتسكين أراد السماء جميعها , ومن فتح السين جعل المراد به بعض السماء , وفي تأويل ذلك وجهان: أحدهما: يعني حيزاً , حكاه ابن الأنباري , ولعلهم أرادوا به مشاهدة ما فوق السماء.

الثاني: يعني قطعاً , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والعرب تقول. أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة منه. ومن هذا الكسوف لانقطاع النور منه , وعلى الوجه الثاني لتغطيته بما يمنع من رؤيته. {أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني كل قبيلة على حدتها , قاله الحسن. الثاني: يعني مقابلة , نعاينهم ونراهم , قاله قتادة وابن جريج. الثالث: كفيلاً , والقبيل الكفيل , من قولهم تقبلت كذا أي تكفلت به , قاله ابن قتيبة. الرابع: مجتمعين , مأخوذ من قبائل الرأس لاجتماع بعضه إلى بعض ومنه سميت قبائل العرب لاجتماعها , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {أو يكون لك بيت من زخرف} فيه وجهان: أحدهما: أن الزخرف النقوش , وهذا قول الحسن. الثاني: أنه الذهب , وهذا قول ابن عباس وقتادة , قال مجاهد: لم أكن أدري ما الزخرف حتى سمعنا في قراءة عبد الله: بيت من ذهب. وأصله من الزخرفة وهو تحسين الصورة , ومنه قوله تعالى {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت} [يونس: 24]. والذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك نفر من قريش قال ابن عباس: هم عتبة ابن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان والأسود بن عبد المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية والعاص بن وائل وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.

94

{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا}

قوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا} يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم. {إذ جاءَهم الهُدى} يحتمل وجهين: أحدهما: القرآن. الثاني: الرسول. {إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً} وهذا قول كفار قريش أنكروا أن يكون البشر رُسُل الله تعالى , وأن الملائكة برسالاته أخص كما كانوا رسلاً إلى أنبيائه , فأبطل الله تعالى عليهم ذلك بقوله: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} يعني أن الرسول إلى كل جنس يأنس بجنسه , وينفر من غير جنسه , فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكاً لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به ولداخلهم من الرهب منه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه ويمنعهم من سؤاله , فلا تعمّ المصلحة. ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به ويسكنوا إليه لقالوا لست ملكاً وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك , وعادوا إلى مثل حالهم.

96

{قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا} قوله عز وجل: {ومن يهد الله فهو المهتدِ} معناه من يحكم الله تعالى بهدايته فهو المهتدي بإخلاصه وطاعته. {ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه} فيه وجهان: أحدهما: ومن يحكم بضلاله فلن تجد له أولياء من دونه في هدايته. الثاني: ومن يقض الله تعالى بعقوبته لم يوجد له ناصر يمنعه من عقابه. {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم} فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم , من قول العرب: قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا.

الثاني: أنه يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كمن يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه. {عُمْياً وبكماً وصماً} فه وجهان: أحدهما: أنهم حشروا في النار عُمي الأبصار بُكم الألسن صُمّ الأسماع ليكون ذلك يزادة في عذابهم , ثم أبصروا لقوله تعالى {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها} [الكهف: 53] وتكلموا لقوله تعالى {دَعوا هنالك ثبوراً} [الفرقان: 13] وسمعوا , لقوله تعالى {سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} [الفرقان: 12]. وقال مقاتل بن سليمان: بل إذا قال لهم {اخسئوا فيها ولا تكلمُون} [المؤمنون: 18] صاروا عمياً لا يبصرون , صُمّاً لا يسمعون , بكماً لا يفقهون. الثاني: أن حواسهم على ما كانت عليه , ومعناه عمي عما يسرّهم , بكم عن التكلم بما ينفعهم , صم عما يمتعهم , قاله ابن عباس والحسن. {مأواهم جهنم} يعني مستقرهم جهنم. {كلما خبت زدناهم سعيراً} فيه وجهان: أحدهما: كلما طفئت أوقدت , قاله مجاهد. الثاني: كلما سكن التهابها زدناهم سعيراً والتهاباً , قاله الضحاك , قال الشاعر: (وكُنّا كَالحَرِيقِ أَصَابَ غَاباً ... فَيَخْبُو سَاعَةً ويَهُبُّ سَاعا) وسكون التهابها من غير نقصان في الآمهم ولا تخفيف من عذابهم.

98

{ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على

أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا} قوله عز وجل: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي} فيه وجهان: أحدهما: خزائن الأرض الأرزاق , قاله الكلبي. الثاني: خزائن النعم , وهذا أعم. {إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} فيه وجهان: أحدهما: لأمسكتم خشية الفقر , والإنفاق الفقر , قاله قتادة وابن جريج. الثاني: يعني أنه لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله تعالى لما جاد بها كجود الله تعالى لأمرين: أحدهما: أنه لا بدّ أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني: أنه يخاف الفقر ويخشى العدم , والله عز وجل يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. {وكان الإنسان قتوراً} فيه تأويلان: أحدهما: مقتراً , قاله قطرب والأخفش. الثاني: بخيلاً , قاله ابن عباس وقتادة. واختلف في هذا الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في المشركين خاصة , قاله الحسن. الثاني: أنها عامة , وهو قول الجمهور.

101

{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا}

قوله تعالى {ولقد آتينا موسى تسْع آيات بيناتٍ} فيها أربعة أقاويل: أحدها: أنها يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم آيات مفصلات , قاله ابن عباس. الثاني: أنها نحو من ذلك إلا آيتين منهن إحداهما الطمس , والأخرى الحجر , قاله محمد بن كعب القرظي. الثالث: أنها نحو من ذلك , وزيادة السنين ونقص من الثمرات , وهو قول الحسن. الرابع: ما روى صفوان بن عسال عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً من اليهود سألوه عنها فقال: (لا تشركوا بالله شيئاً , ولا تسرقوا , ولا تزنوا , ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , ولا تسحروا , ولا تأكلوا الربا , ولا تمشوا ببرىء إلى السلطان ليقتله , ولا تقذفوا محصنة , ولا تفرُّوا من الزحف , وأنتم يا يهود خاصة لا تعدُوا في السبت) فقبلوا يده ورجله. {فاسأل بني إسرائيل. .} وفي أمره بسؤالهم وإن كان خبر الله أصدق من خبرهم ثلاثة أوجه: أحدها: ليكون ألزم لهم وأبلغ في الحجة عليهم. الثاني: فانظر ما في القرآن من أخبار بني إسرائيل فه سؤالهم , قاله الحسن. الثالث: إنه خطاب لموسى عليه أن يسأل فرعون في إطلاق بني إسرائيل قاله ابن عباس. وفي قوله {إني لأظنك يا موسى مسحوراً} أربعة أوجه:

أحدها: قد سُحرت لما تحمل نفسك عليه من هذا القول والفعل المستعظمين. الثاني: يعني ساحراً لغرائب أفعالك. الثالث: مخدوعاً. الرابع: مغلوباً: قاله مقاتل. { ... وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً} فيه خمسة أوجه: أحدها: مغلوباً , قاله الكلبي ومقاتل. وقال الكميت: (وَرَأَت قُضَاعَةُ في الأَيَا ... مِنِ رَأْيَ مَثْبُورٍ وَثَابِر) الثاني: هالك , وهو قول قتادة. الثالث: مبتلى , قاله عطية. الرابع: مصروفاً عن الحق , قاله الفراء. الخامس: ملعوناً , قاله أبان بن تغلب وأنشد: يا قَوْمَنَا لاَ تَرُومُوا حَرْبَنَا سَفَهاً إِنّ السَّفَاهَ وإِنَّ البَغْيَ مَثْبُورُ قوله عز وجل: {فأراد أن يستفزهم من الأرض} وفيه وجهان: أحدهما: يزعجهم منها بالنفي عنها , قاله الكلبي. الثاني: يهلكهم فيها بالقتل. ويعني بالأرض مصر وفلسطين والأردن. قوله عز وجل: { ... فإذا جاءَ وعد الآخرة} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: وعد الإقامة وهي الكرة الآخرة , قاله مقاتل. الثاني: وعد الكرة الآخرة في تحويلهم إلى أرض الشام. الثالث: نزول عيسى عليه السلام من السماء , قاله قتادة. {جئنا بكم لفيفاً} فيه تأويلان: أحدهما: مختلطين لا تتعارفون , قاله رزين. الثاني: جئنا بكم جميعاًً من جهات شتى , قاله ابن عباس وقتادة. مأخوذ من لفيف الناس.

105

{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} قوله عز وجل: {وبالحق أنزلناه وبالحق نَزَل} يحتمل وجهين: أحدهما: أن إنزاله حق. الثاني: أن ما تضمنه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد حق. {وبالحق نزل} يحتمل وجهين: أحدهما: وبوحينا نزل. الثاني: على رسولنا نزل. {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع الله تعالى , ونذيراً بالنار لمن عصى الله تعالى. قوله عز وجل: {وقرآناً فرقناه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فرقنا فيه بين الحق والباطل , قاله الحسن. الثاني: فرّقناه بالتشديد وهي قراءة ابن عباس أي نزل مفرّقاً آية آية وهي كذلك في مصحف ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب: فرقناه عليك. الثالث: فصّلناه سُورَاً وآيات متميزة , قاله ابن بحر. {لتقرأه على الناس على مُكْثٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني على تثبت وترسّل , وهو قول مجاهد. الثاني: أنه كان ينزل منه شيء , ثم يمكثون بعد ما شاء الله , ثم ينزل شيء آخر. الثالث: أن يمكث في قراءته عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء , قاله أبو مسلم.

107

{قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان

سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} قوله عز وجل: {قل آمنوا بِه أو لا تؤمنوا} يعني القرآن , وهذا من الله تعالى على وجه التبكيت لهم والتهديد , لا على وجه التخيير. {إن الذين أوتوا العلم من قَبله} فيهم وجهان: أحدهما: أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن. الثاني: أنهم أناس من اليهود , قاله مجاهد. {إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سُجّداً} فيه قولان: أحدهما: كتابهم إيماناً بما فيه من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: القرآن كان أناس من أهل الكتاب إذا سمعوا ما أنزل منه قالوا: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا , وهذا قول مجاهد. وفي قوله {يخرُّون للأذقان} ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الأذقان مجتمع اللحيين. الثاني: أنها ها هنا الوجوه , قاله ابن عباس وقتادة. الثالث: أنها اللحى , قاله الحسن.

110

{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} قوله عز وجل: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} في سبب نزولها قولان: أحدهما: قاله الكلبي. أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً وهو في التوراة كثير , فلما أسلم ناس من اليهود منهم ابن سلام وأصحابه ساءَهم قلة ذكر الرحمن في القرآن , وأحبوا أن يكون كثيراً فنزلت.

الثاني: ما قاله ابن عباس أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو (يا رحمن يا رحيم) فقال المشركون هذا يزعم أن له إِلهاً واحداً وهو يدعو مثنى , فنزلت الآية. {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} فيه قولان: أحدهما: أنه عنى بالصلاة الدعاء , ومعنى ذلك ولا تجهر بدعائك ولا تخافت به , وهذا قول عائشة رضي الله عنها ومكحول. قال إبراهيم: لينتهين أقوام يشخصون بأبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم. الثاني: أنه عنى بذلك الصلاة المشروعة , واختلف قائلو ذلك فيما نهى عنه من الجهر بها والمخافتة فيها على خمسة أقاويل: أحدها: أنه نهى عن الجهر بالقراءة فيها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كان يجهر بالقراءة جهراً شديداً , فكان إذا سمعه المشركون سبّوه , فنهاه الله تعالى عن شدة الجهر , وأن لا يخافت بها حتى لا يسمعه أصحابه , ويبتغي بين ذلك سبيلاً , قاله ابن عباس. الثاني: أنه نهى عن الجهر بالقراءة في جميعها وعن الإسرار بها في جميعها وأن يجهر في صلاة الليل ويسر في صلاة النهار. الثالث: أنه نهي عن الجهر بالتشهد في الصلاة , قاله ابن سيرين. الرابع: أنه نهي عن الجهر بفعل الصلاة لأنه كان يجهر بصلاته , بمكة فتؤذيه قريش , فخافت بها واستسر , فأمره الله ألاّ يجهر بها كما كان , ولا يخافت بها كما صار , ويبتغي بين ذلك سبيلاً , قاله عكرمة. الخامس: يعني لا تجهر بصلاتك تحسنها مرائياً بها في العلانية , ولا تخافت بها تسيئها في السريرة , قال الحسن: تحسّن علانيتها وتسيء سريرتها. وقيل: لا تصلّها رياءً ولا تتركها حياء. والأول أظهر. روي أن أبا بكر الصديق كان إذا صلى خفض من صوته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (لم تفعل هذا) قال: أناجي ربي وقد علم حاجتي , فقال صلى الله عليه وسلم (أحسنت).

وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تفعل هذا) فقال أُوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحسنت). فلما نزلت هذه الآية قال لأبي بكر: (ارفع شيئا) وقال لعمر: (أخفض شيئاً). قوله تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً} يحتمل وجهين: أحدهما: أمره بالحمد لتنزيه الله تعالى عن الولد. الثاني: لبطلان ما قرنه المشركون به من الولد. {ولم يكن له شريك في الملك} لأنه واحد لا شريك له في ملك ولا عبادة. {ولم يكن له وليٌّ من الذل} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لم يحالف أحداً. الثاني: لا يبتغي نصر أحد. الثالث: لم يكن له وليٌّ من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس , قاله الكلبي. {وكبره تكبيراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: صِفه بأنه أكبر من كل شيء. الثاني: كبّره تكبيراً عن كل ما لا يجوز في صفته. الثالث: عظِّمْه تعظيماً والله أعلم.

سورة الكهف

الكهف

{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} قوله عز وجل: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} يعني على محمد القرآن , فتمدح بإنزاله لأنه أنعم عليه خصوصاً , وعلىالخلق عموماً. {ولم يجعل له عوجاً} في {عوجاً} ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني مختلفاً , قاله مقاتل , ومنه قول الشاعر: (أدوم بودي للصديق تكرُّماً ... ولا خير فيمن كان في الود أعوجا) الثاني: يعني مخلوقاً , قاله ابن عباس. الثالث: أنه العدول عن الحق إلى الباطل , وعن الاستقامة إلى الفساد , وهو قول علي بن عيسى.

والفرق بين العوج بالكسر والعوج بالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين وفي الطريق وفيما ليس بقائم منتصب , والعوج بفتح العين ما كان في القناة والخشبة وفيما كان قائماً منتصباً. {قيِّماً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه المستقيم المعتدل , وهذ قول ابن عباس والضحاك. الثاني: أنه قيم على سائر كتب الله تعالى يصدقها وينفي الباطل عنها. الثالث: أنه المعتمد عليه والمرجوع إليه كقيم الدار الذي يرجع إليه في أمرها , وفيه تقديم وتأخير في قول الجميع وتقديره: أنزل الكتاب على عبده قيماً ولم يجعل له عوجاً ولكن جعله قيماً. {لينذر بأساً شديداً من لدنه} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه عذاب الاستئصال في الدنيا. الثاني: أنه عذاب جهنم في الآخرة.

6

{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} قوله عز وجل: {فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم} فيه وجهان: أحدهما: قاتل نفسك , ومنه قول ذي الرُّمَّةِ: (ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... بشيء نحتَهُ عن يديك المقادِرُ) الثاني: أن الباخع المتحسر الأسِف , قاله ابن بحر. {على آثارهم} فيه وجهان: أحدهما: على آثار كفرهم. الثاني: بعد موتهم.

{إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} يريد إن لم يؤمن كفار قريش بهذا الحديث يعني القرآن. {أسفاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أي غضباً , قاله قتادة. الثاني: جزعاً , قاله مجاهد. الثالث: أنه غمّاً , قاله السدي. الرابع: حزناً , قاله الحسن , وقد قال الشاعر: (أرى رجلاً منهم أسيفاً كأنما ... تضُمُّ إلى كشحيه كفّاً مخضبَّا) قوله عز وجل: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنها الأشجار والأنهار التي زين الله الأرض بها , قاله مقاتل. الثاني: أنهم الرجال لأنهم زينة الأرض , قاله الكلبي. الثالث: أنهم الأنبياء والعلماء , قاله القاسم. الرابع: أن كل ما على الأرض زينة لها , قاله مجاهد. الخامس: أن معنى {زينة لها} أي شهوات لأهلها تزين في أعينهم وأنفسهم. {لنبلوهم أيهم أحْسَنُ عملاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أيهم أحسن إعراضاً عنها وتركاً لها , قاله ابن عطاء. الثاني: أيهم أحسن توكلاً علينا فيها , قاله سهل بن عبد الله. الثالث: أيهم أصفى قلباً وأهدى سمتاً. ويحتمل رابعاً: لنختبرهم أيهم أكثر اعتباراً بها.

ويحتمل خامساً: لنختبرهم في تجافي الحرام منها. قوله عز وجل: {وإنّا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} في الصعيد ثلاثة أقاويل: أحدها: الأرض المستوية , قاله الأخفش ومقاتل. الثاني: هو وجه الأرض لصعوده , قاله ابن قتيبة. الثالث: أنه التراب , قاله أبان بن تغلب. وفي الجُرُز أربعة أوجه: أحدها: بلقعاً , قاله مجاهد. الثاني: ملساء , وهو قول مقاتل. الثالث: محصورة , وهو قول ابن بحر. الرابع: أنها اليابسة التي لا نبات بها ولا زرع قال الراجز: 89 (قد جرفتهن السُّنون الأجراز} 9

9

{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} قوله عز وجل: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} أما الكهف فهو غار في الجبل الذي أوى إليه القوم. وأما الرقيم ففيه سبعة أقاويل: أحدها: أنه اسم القرية التي كانوا منها , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم الجبل , قاله الحسن. الثالث: أنه اسم الوادي، قاله الضحاك. قال عطية العوفي: هو واد

بالشام نحو إبلة وقد روي أن اسم جبل الكهف بناجلوس، واسم الكهف ميرم واسم المدينة أفسوس، واسم الملك وفيانوس. الرابع: أنه اسم كلبهم. قاله سعيد بن جبير , وقيل هو اسم لكل كهف. الخامس: أن الرقيم الكتاب الذي كتب فيه شأنهم , قاله مجاهد. ماخوذ من الرقم في الثوب. وقيل كان الكتاب لوحاً من رصاص على باب الكهف , وقيل في خزائن الملوك لعجيب أمرهم. السادس: الرقيم الدواة بالرومية , قاله أبو صالح. السابع: أن الرقيم قوم من أهل الشراة كانت حالهم مثل حال أصحاب الكهف , قاله سعيد بن جبير. {كانوا مِنْ آياتنا عجباً} فيه وجهان: أحدهما: معناه ما حسبت أنهم كانوا من آياتنا عجباً لولا أن أخبرناك وأوحينا إليك. الثاني: معناه أحسبت أنهم أعجب آياتنا وليسوا بأعجب خلقنا , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} اختلف في سبب إيوائهم إليه على قولين: أحدهما: أنهم قوم هربوا بدينهم إلى الكهف , قاله الحسن. {فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرِنا رشداً}. الثاني: أنهم أبناء عظماء وأشراف خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد , فقال أسَنُّهم: إني أجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده , إن ربي رب السموات والأرض , {فقالوا} جميعاً {ربُّنا ربُّ السموات والأرض لن ندعوا من دونه

إلهاً لقد قلنا إذاً شَطَطَاً} ثم دخلوا الكهف فلبثوا فيه ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعاً , قاله مجاهد. قال ابن قتيبة: هم أبناء الروم دخلوا الكهف قبل عيسى , وضرب الله تعالى على آذنهم فيه , فلما بعث الله عيسى أخبر بخبرهم , ثم بعثهم الله تعالى بعد عيسى في الفترة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم. وفي {شططاً} ثلاثة أوجه: أحدها: كذباً , قاله قتادة. الثاني: غلوّاً , قاله الأخفش. الثالث: جوراً , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً} والضرب على الآذان هو المنع من الاستماع , فدل بهذا على أنهم لم يموتوا وكانوا نياماً , {سنين عدداً} فيه وجهان: أحدهما: إحصاء. الثاني: سنين كاملة ليس فيها شهور ولا أيام. وإنما ضرب الله تعالى على آذانهم وإن لم يكن ذلك من أسباب النوم لئلا يسمعوا ما يوقظهم من نومهم. قوله عز وجل: {ثم بعثناهم} الآية. يعني بالعبث إيقاظهم من رقدتهم. {لنِعلَم} أي لننظر {أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عدداً , قاله مجاهد. الثاني: أجلاً , قاله مقاتل. الثالث: الغاية , قاله قطرب. وفي الحزبين أربعة أقاويل:

أحدها: أن الحزبين هما المختلفان في أمرهم من قوم الفتية , قاله مجاهد. الثاني: أن أحد الحزبين الفتية , والثاني: من حضرهم من أهل ذلك الزمان. الثالث: أن أحد الحزبين مؤمنون , والآخر كفار. الرابع: أن أحد الحزبين الله تعالى , والآخر الخلق , وتقديره: أنتم أعلم أم الله.

13

{نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا} قوله عز وجل: {وربطنا على قلوبهم. .} فيه وجهان: أحدهما: ثبتناها. الثاني: ألهمناها صبراً , قاله اليزيدي. { ... ولقد قلنا إذاً شططاً} فيه وجهان: أحدهما: غُلواً. الثاني: تباعداً. قوله تعالى: { ... لولا يأتون عليهم بسلطان بيّنٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بحجة بينة , قاله مقاتل. الثاني: بعذر بيّن , قاله قتادة. الثالث: بكتاب بيّن , قاله الكلبي. قوله تعالى: { ... ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً} فيه وجهان: أحدهما: سعة. الثاني: معاشاً.

ويحتمل ثالثاً: يعني خلاصاً , ويقرأ {مِرْفقاً} بكسر الميم وفتح الفاء {ومَرفِقاً} بفتح الميم وكسر الفاء , والفرق بينهما أنه بكسر الميم وفتح الفاء إذا وصل إليك من غيرك , وبفتح الميم وكسر الفاء إذا وصل منك إلى غيرك.

17

{وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} قوله عز وجل: {وترى الشمس إذا طَلَعَتْ تزوار عن كهفهم ذاتَ اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} فيه وجهان أحدهما: تعرض عنه فلا تصيبه. الثاني: تميل عن كهفهم ذات اليمين. {وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معنى تقرضهم تحاذيهم , والقرض المحاذاة , قاله الكسائي والفراء. الثاني: معناه تقطعهم ذات الشمال أي أنها تجوزهم منحرفة عنهم , من قولك قرضته بالمقراض أي قطعته. الثالث: معناه تعطيهم اليسير من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها , مأخوذ من قرض الدراهم التي ترد لأنهم كانوا في مكان موحش , وقيل لأنه لم يكن عليهم سقف يظلهم ولو طلعت عليهم لأحرقتهم. وفي انحرافها عنهم في الطلوع والغروب قولان: أحدهما: لأن كهفهم كان بإزاء بنات نعش فلذلك كانت الشمس لا تصيبه في وقت الشروق ولا في وقت الغروب , قاله مقاتل. الثاني: أن الله تعالى صرف الشمس عنهم لتبقى أجسامهم وتكون عبر لمن يشاهدهم أو يتصل به خبرهم.

{وهم في فجوة منه} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني في فضاء منه , قاله قتادة. الثاني: داخل منه , قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنه المكان الموحش. الرابع: أنه ناحية متسعة , قاله الأخفش , ومنه قول الشاعر: (ونحن ملأنا كلَّ وادٍ وفجوةٍ ... رجالاً وخيلاً غير ميلٍ ولا عُزْلِ)

18

{وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال.

وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا} قوله عز وجل: {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقودٌ} الأيقاظ: المنتبهون. قال الراجز: (قد وجدوا إخوانهم أيقاظا ... والسيف غياظ لهم غياظا) والرقود: النيام. قيل إن أعينهم كانت مفتوحة ويتنفسون ولا يتكلمون. {ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} يعني تقلب النيام لأنهم لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض لطول مكثهم. وقيل إنهم كانوا يقلبون في كل عام مرتين , ستة أشهر على جنب. وستة أشهر على جنبٍ آخر , قاله ابن عباس. قال مجاهد: إنما قلبوا تسع سنين بعد ثلاثمائة سنة لم يقلبوا فيها. وفيما تحسبهم من أجله أيقاظاً وهم رقود قولان: أحدهما: لانفتاح أعينهم. الثاني: لتقليبهم ذات اليمين وذات الشمال. {وكلبهم باسِطٌ ذِراعيه بالوصيد} في {كلبهم} قولان: أحدهما: أنه كلب من الكلاب كان معهم , وهو قول الجمهور. وقيل إن اسمه كان حمران. الثاني: أنه إنسان من الناس كان طباخاً لهم تبعهم , وقيل بل كان راعياً. وفي {الوصيد} خمسة تأويلات: أحدها: أنه العتبة. الثاني: أنه الفناء قاله ابن عباس. الثالث: أنه الحظير , حكاه اليزيدي. الرابع: أن الوصيد والصعيد التراب , قاله سعيد بن جبير. الخامس: أنه الباب , قاله عطية , وقال الشاعر: (بأرض فضاءَ لا يُسَدُّ وَصيدها ... عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنْكَرِ) وحكى جرير بن عبيد أنه كان كلباً ربيباً صغيراً. قال محمد بن إسحاق كان اصفر اللون. {لو أطّلعت عليهم لوليت منهم فِراراً ولملِئت منهم رُعباً} فيه وجهان: أحدهما: لطول أظفارهم وشعورهم يأخذه الرعب منهم فزعاً.

الثاني: لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة التي ترد عنهم الأبصار لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله. حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزوت مع معاوية رضي الله عنه في بحر الروم فانتهينا إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف , فقال معاوية أريد أن أدخل عليهم فأنظر إليهم , فقلت ليس هذا لك فقد منعه الله من هو خير منك , قال تعالى {لو اطعلت عليهم لوليت منهم فراراً} الآية. فأرسل جماعة إليهم دخلوا الكهف أرسل الله عليهم ريحاً أخرجتهم. وقيل إن هذه المعجزة من قومهم كانت لنبي قيل إنه كان أحدهم وهو الرئيس الذي اتبعوه وآمنوا به.

19

{وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا} قوله عز وجل: {وكذلك بعثناهم} يعني به إيقاظهم من نومهم. قال مقاتل: وأنام الله كلبهم معهم. {ليتساءلوا بينهم قال قائلٌ منهم كم لبثتم} ليعلموا قدر نومهم. {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} كان السائل منهم أحدهم , والمجيب له غيره , فقال لبثنا يوما لأنه أطول مدة النوم المعهود , فلما رأى الشمس لم تغرب قال {أو بعض يوما} لأنهم أنيموا أول النهار ونبهوا آخره. {قالوا ربُّكم أعْلمُ بما لبثتم} وفي قائله قولان:

أحدهما: أنه حكاية عن الله تعالى أنه أعلم بمدة لبثهم. الثاني: أنه قول كبيرهم مكسلمينا حين رأى الفتية مختلفين فيه فقال {ربكم أعلم بما لبثتم} فنطق بالصواب ورد الأمر إلى الله عالمه , وهذا قول ابن عباس. {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة} قرىء بكسر الراء وبتسكينها , وهو في القراءتين جميعاً الدراهم , وأما الورَق بفتح الراء فهي الإبل والغنم , قال الشاعر: (إياك أدعو فتقبل مَلَقي ... كَفِّرْ خطاياي وثمِّرْ ورقي) يعني إبله وغنمه. {فلينظر أيها أزكي طعاماً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أيها أكثر طعاماً , وهذا قول عكرمة. الثاني: أيها أحل طعاماً , وهذا قول قتادة. الثالث: أطيب طعاماً , قاله الكلبي. الرابع: أرخص طعاماً. {فليأتكم برزق مِنْه} فيه وجهان: أحدهما: بما ترزقون أكله. الثاني: بما يحل لكم أكله. {وليتلطف ... } يحتمل وجهين: أحدهما: وليسترخص. الثاني: وليتلطف في إخفاء أمركم. وهذا يدل على جواز اشتراك الجماعة في طعامهم وإن كان بعضهم أكثر أكلاً وهي المناهدة , وكانت مستقبحة في الجاهلية

فجاء الشرع بإباحتها. قوله عز وجل: {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يرجموكم بأيديهم استنكاراً لكم , قاله الحسن. الثاني: بألسنتهم غيبة لكم وشتماً , قاله ابن جريج. الثالث: يقتلوكم. والرجم القتل لأنه أحد أسبابه. {أو يعيدوكم في ملتهم} يعني في كفرهم. {ولن تفلحوا إذاً أبداً} إن أعادوكم في ملتهم.

21

{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} قوله عز وجل: {وكذلك أعثرنا عليهم} فيه وجهان أحدهما: أظهرنا أهل بلدهم عليهم. الثاني: أطلعنا برحمتنا إليهم. {وليعلموا أن وعْدَ اللهِ حقٌّ ... } يحتمل وجهين: أحدهما: ليعلم أهل بلدهم أن وعد الله حق في قيام الساعة وإعادة الخلق أحياء , لأن من أنامهم كالموتى هذه المدة الخارجة عن العادة ثم أيقظهم أحياء قادر على إحياء من أماته وأقبره. الثاني: معناه ليرى أهل الكهف بعد علمهم أن وعد الله حق في إعادتهم. {إذ يتنازعون بينهم أمرهم} ذلك أنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها وطعام , استنكروا شخصه واستنكرت ورقه لبعد العهد فحمل إلى الملك وكان صالحاً قد آمن ومن معه , فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يريناهم , وسأل الفتى فأخبره فانطلق والناس معه إليهم , فلما دنوا من أهل الكهف وسمع الفتية كلامهم خافوهم ووصى بعضهم بعضاً بدينهم فلما دخلوا عليهم أماتهم الله ميتة الحق , فحينئذ كان التنازع الذي ذكره الله تعالى فيهم.

وفي تنازعهم قولان: أحدهما: أنهم تنازعوا هل هم أحياء أم موتى؛ الثاني: أنهم تنازعوا بعد العلم بموتهم هل يبنون عليهم بنياناً يعرفون به أم يتخذون عليهم مسجداً. وقيل: إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب , فأتاه آت منهم في المنام فقال: أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود فدعْنا.

22

{سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا}

قوله عز وجل: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} فأدخل الواو على انقطاع القصة لأن الخبر قد تم. {قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل} في المختلفين في عددهم قولان: أحدهما: أنهم أهل المدينة قبل الظهور عليهم. الثاني: أنهم أهل الكتاب بعد طول العهد بهم. وقوله تعالى: {رجماً بالغيب} قال قتادة قذفاً بالظن , قال زهير: (وما الحرب إلاَّ ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم.) وقال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق: كانوا ثمانية , وجعلا قوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} أي صاحب كلبهم. وكتب قومهم أسماءهم حين غابوا , فلما بان أمرهم كتبت أسماؤهم على باب الكهف. قال ابن جريج: أسماؤهم مكسلمينا ويمليخا وهو الذي مضى بالورق يشتري به الطعام , ومطرونس , ومحسيميلنينا , وكشوطوش , وبطلنوس ويوطونس وبيرونس.

قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا وكان أسنهم وكان صاحب غنم. {فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً} فيه خمسة أوجه: أحدها: إلا ما قد أظهرنا لك من أمرهم , قاله مجاهد. الثاني: حسبك ما قصصا عليك من شأنهم , فلا تسألني عن إظهار غيره , قاله قتادة. الثالث: إلا مِراء ظاهراً يعني بحجة واضحة وخبر صادق , قاله علي بن عيسى. الرابع: لا تجادل فيهم أحداً ألا أن تحدثهم به حديثاً , قاله ابن عباس. الخامس: هو أن تشهد الناس عليهم. {ولا تستفت فيهم منهم أحداً} فيه وجهان: أحدهما: ولا تستفت يا محمد فيهم أحداً من أهل الكتاب , قاله ابن عباس. ومجاهد وقتادة. الثاني: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ونهي لأمته.

23

{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} قوله عز وجل: {ولا تقولن لشيءإني فاعلٌ ذلك غداً} {إلا إن يشاء الله} قال الأخفش: فيه إضمار وتقديره: إلا أن تقول إن شاء الله , وهذا وإن كان أمراً فهو على وجه التأديب والإرشاد أن لا تعزم على أمر إلا أن تقرنه بمشيئة الله تعالى لأمرين: أحدهما: أن العزم ربما صد عنه بمانع فيصير في وعده مخلفاً في قوله كاذباً , قال موسى عليه السلام {ستجدني إن شاء الله صابراً} [الكهف: 70] ولم يصبر ولم يكن كاذباً لوجود الاستثناء في كلامه. الثاني: إذعاناً لقدرة الله تعالى , وإنه مدبر في أفعاله بمعونة الله وقدرته.

الثالث: يختص بيمينه إن حلف وهو سقوط الكفارة عنه إذا حنث. {واذكر ربك إذا نسيت} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنك إذا نسيت الشيء فاذكرالله ليذكرك إياه , فإن فعل فقد أراد منك ما ذكرك , وإلا فسيدلك على ما هو أرشد لك مما نسيته , قاله بعض المتكلمين. الثاني: واذكر ربك إذا غضبت , قاله عكرمة , ليزول عنك الغضب عند ذكره. الثالث: واذكر ربك إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله في يمينك. وفي الذكر المأمور به قولان: أحدهما: أنه ما ذكره في بقية الآية {وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً} الثاني: أنه قول إن شاء الله الذي كان نسيه عند يمينه. واختلفوا في ثبوت الاستثناء بعد اليمين على خمسة أقاويل: أحدها: أنه يصح الاستثناء بها إلى سنة , فيكون كالاستثناء بها مع اليمين في سقوط الكفارة ولا يصح بعد السنة , قاله ابن عباس. الثاني: يصح الاستثناء بها في مجلس يمينه , ولا يصح بعد فراقه , قاله الحسن وعطاء. الثالث: يصح الاستثناء بها ما لم يأخذ في كلام غيره. الرابع: يصح الاستثناء بها مع قرب الزمان , ولا يصح مع بعده. الخامس: أنه لا يصح الاستثناء بها إلا متصلاً بيمينه وهو الظاهر من مذهب مالك والشافعي رحمهما الله.

25

{ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا}

قوله عز وجل: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً} في قراءة ابن مسعود قالوا لبثوا في كهفهم. وفيه قولان: أحدهما: أن هذا قول اليهود , وقيل بل نصارى نجران أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً , فرد الله تعالى عليهم قولهم وقال لنبيه {قل الله أعلم بما لبثوا} واتلقول الثاني: أن هذا إخبار من الله تعالى بهذا العدد عن مدة بقائهم في الكهف من حين دخلوه إلى ما ماتوا فيه. {وازدادوا تسعاً} هو ما بين السنين الشمسية والسنين القمرية. {قل الله أعلم بما لبثوا} فيه وجهان: أحدهما: بما لبثوا بعد مدتهم إلى نزول القرآن فيهم. الثاني: الله أعلم بما لبثوا في الكهف وهي المدة التي ذكرها عن اليهود إذ ذكروا زيادة ونقصاناً. قوله عز وجل: { ... أبصر به وأسمع} فيه تأويلان: أحدهما: أن الله أبصر وأسمع , أي أبصر , بما قال وأسمع لما قالوا. الثاني: معناه أبصرهم وأسمعهم , ما قال الله فيهم. {ما لهم من دونه من وَليّ} فيه وجهان: أحدهما: من ناصر. الثاني: من مانع. {ولا يشرك في حكمه أحداً} فيه وجهان: أحدهما: ولا يشرك في علم غيبه أحداً. الثاني: أنه لم يجعل لأحد أن يحكم بغير حكمه فيصير شريكاً له في حكمه.

27

{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}

قوله تعالى: { ... ولن تجد من دونه مُلتحداً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ملجأ، قاله مجاهد، قال الشاعر: (لا تحفيا يا أخانا من مودّتنا ... فما لنا عنك في الأقوام مُلتحد) الثاني: مهرباً , قاله قطرب , قال الشاعر: (يا لهف نفسي ولهفٌ غير مغنيةٍ ... عني وما مِنْ قضاء الله ملتحدُ) الثالث: معدلاً , قاله الأخفش. الرابع: ولياً , قاله قتادة. ومعانيها متقاربة. قوله عز وجل: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} فيه وجهان: أحدهما: يريدون تعظيمه. الثاني: يريدون طاعته. قال قتادة: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فلما نزلت عليه قال: (الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم). {يدعون ربهم بالغداة والعشي} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يدعونه رغبة ورهبة. الثاني: أنهم المحافظون على صلاة الجماعة , قاله الحسن. الثالث: أنها الصلاة المكتوبة , قاله ابن عباس ومجاهد. ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد الدعاء في أول النهار وآخره ليستفتحوا يومهم بالدعاء رغبة في التوفيق , ويختموه بالدعاء طلباً للمغفرة. {يريدون وجهه} يحتمل وجهين: أحدهما: بدعائهم. الثاني: بعمل نهارهم. وخص النهار بذلك دون الليل لأن عمل النهار إذا كان لله تعالى فعمل الليل أولى أن يكون له. {ولا تعد عيناك عنهم. .} فيه وجهان:

أحدهما: ولا تتجاوزهم بالنظر إلى غيرهم من أهل الدنيا طلباً لزينتها , حكاه اليزيدي. الثاني: ما حكاه ابن جريج أن عيينة بن حصن قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم: لقد آذاني ريح سلمان الفارسي وأصحابه فاجعل لنا مجلساً منك لا يجامعونا فيه , واجعل لهم مجلساً لا نجامعهم فيه , فنزلت. {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذِكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً}. قوله {أغفلنا} فيه وجهان: أحدهما: جعلناه غافلاً عن ذكرنا. الثاني: وجدناه غافلاً عن ذكرنا. وفي هذه الغفله لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه: أحدها: أنها إبطال الوقت بالبطالة , قاله سهل بن عبد الله. الثاني: أنها طول الأمل. الثالث: أنها ما يورث الغفلة. {واتبع هواه} فيه وجهان: أحدهما: في شهواته وأفعاله. الثاني: في سؤاله وطلبه التمييز عن غيره. {وكان أمرُه فُرُطاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: ضيقاً , وهو قول مجاهد. الثاني: متروكاً , قاله الفراء. الثالث: ندماً قاله ابن قتيبة. الرابع: سرفاً وإفراطاً , قاله مقاتل. الخامس: سريعاً. قاله ابن بحر. يقال أفرط إذا أسرف وفرط إذا قصر.

29

{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا}

قوله عز وجل: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} هذا وإن كان خارجاً مخرج التخيير فهو على وجه التهديد والوعيد , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لا ينفعون الله بإيمانهم ولا يضرونه بكفرهم. الثاني: فمن شاء الجنة فليؤمن , ومن شاء النار فليكفر , قاله ابن عباس. الثالث: فمن شاء فليعرِّض نفسه للجنة بالإيمان , ومن شاء فليعرض نفسه للنار بالكفر. {إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن سرادقها حائط من النار يطيف بهم , قاله ابن عباس. الثاني: هو دخانها ولهيبها قبل وصولهم إليها , وهو الذي قال الله تعالى فيه {إلى ظلٍّ ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب} [المرسلات: 30 - 31]. قاله قتادة. الثالث: أنه البحر المحيط بالدنيا. روى يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (البحر هو جهنم) ثم تلا {ناراً أحاط بهم سرادقها} ثم قال (والله لا أدخلها أبداً ما دمت حياً ولا يصيبني منها قطرة) والسرادق فارسي معرب , واصله سرادر. {وإن يستغيثوا يُغَاثوا بماءٍ كالمهل ... } فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه القيح والدم , قاله مجاهد. الثاني: دردي الزيت , قاله ابن عباس. الثالث: أنه كل شيء أذيب حتى انماع؛ قاله ابن مسعود. الرابع: هو الذي قد انتهى حره , قاله سعيد بن جبير , قال الشاعر: (شاب بالماء منه مهلاً كريهاً ... ثم علّ المتون بعد النهال) وجعل ذلك إغاثة لاقترانه بذكر الاستغاثة. { ... بئس الشراب وساءت مرتفقاً} في المرتفق أربعة تأويلات: أحدها: معناه مجتمعاً , قاله مجاهد , كأنه ذهب إلى معنى المرافقة.

الثاني: منزلاً قاله الكلبي , مأخوذ من الارتفاق. الثالث: أنه من الرفق. الرابع: أنه من المتكأ مضاف إلى المرفق , ومنه قول أبي ذؤيب: (نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ الليْلَ مُرْتَفِقاً ... كَأَنَّ عَيْنِي فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ)

30

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا} قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجْر من أحسن عملاً} روى البراء بن عازب أن أعرابياً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: إني رجل متعلم فأخبرني عن هذه الآية {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية فقال رسول الله صلى عليه وسلم (يا أعرابي ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك، هم هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم). قوله عز وجل: { ... ويلبسون ثياباً خُضْراً مِن سندس وإستبرق} أما السندس: ففيه قولان: أحدهما: أنه من ألطف من الديباج , قاله الكلبي. الثاني: ما رَقَّ من الديباج , واحده سندسة، قاله ابن قتيبة. وفي الاستبرق قولان: أحدهما: أنه ما غلظ من الديباج , قاله ابن قتيبة، وهو فارسي معرب , أصله استبره وهو الشديد , وقد قال المرقش:

(تراهُنَّ يَلبْسنَ المشاعِرَ مرة ... وإسْتَبْرَقَ الديباج طوراً لباسُها) الثاني: أنه الحرير المنسوج بالذهب , قاله ابن بحر. {متكئين فيها على الأرائك} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الحجال , قاله الزجاج. الثاني: أنها الفُرُش في الحجال. الثالث: أنها السرر في الحجال , وقد قال الشاعر: (خدوداً جفت في السير حتى كأنما ... يباشرْن بالمعزاء مَسَّ الأرائكِ)

32

{واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} قوله تعالى: {واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين} الجنة: البستان , فإذا جمع العنب والنخل وكان تحتها زرع فهي أجمل الجنان وأجداها نفعاً , لثمر أعاليها وزرع أسافلها، وهو معنى قوله {وجعلنا بينهما رزعاً}. {كلتا الجَنتين آتت أكلُها} أي ثمرها وزرعها , وسماه أكُلاً لأنه مأكول. {ولم تظلم منه شيئاً} أي استكمل جميع ثمارها وزرعها. {وفجرنا خِلالهما نهراً} يعني أن فيهما أنهاراً من الماء , فيكون ثمرها وزرعها بدوام الماء فيهما أو في وأروى , وهذه غاية الصفات فيما يجدي ويغل. وفي ضرب المثل في هاتين الجنتين قولان: أحدهما: ما حكاه مقاتل بن سليمان أنه إخبار الله تعالى عن أخوين كانا في

بني إسرائيل ورثا عن أبيهما مالاً جزيلاً , قال ابن عباس ثمانية آلاف دينار. فأخذ أحدهما حقه وهو مؤمن فتقرب به إلى الله تعالى , وأخذ الآخر حقه منه وهو كافر فتملك به ضياعاً منها هاتان الجنتان , ولم يتقرب إلى الله تعالى بشيء منه , فكان من حاله ما ذكره الله من بعد , فجعله الله تعالى مثلاً لهذه الأمة. والقول الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة , وليس بخبر عن حال متقدمة , ليزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة , وجعله زجراً وإنذاراً. قوله عز وجل: {وكان له ثمرٌ} قرأ عاصم بفتح الثاء والميم , وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم , وقرأ الباقون ثُمُر بضم الثاء والميم. وفي اختلاف هاتين القراءتين بالضم والفتح قولان: أحدهما: معناهما واحد , فعلى هذا فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الذهب والفضة , قاله قتادة , لأنها أموال مثمرة. الثاني: أنه المال الكثير من صنوف الأموال , قاله ابن عباس لأن تثميره أكثر الثالث: أنه الأصل الذي له نماء , قاله ابن زيد , لأن في النماء تثميراً. والقول الثاني: أن معناهما بالضم وبالفتح مختلف , فعلى هذا في الفرق. بينهما , أربعة أوجه: أحدها: أنه بالفتح جمع ثمرة , وبالضم جمع ثمار. الثاني: أنه بالفتح ثمار النخيل خاصة , وبالضم جميع الأموال , قاله ابن بحر. الثالث: أنه بالفتح ما كان ثماره من أصله , وبالضم ما كان ثماره من غيره. الرابع: أن الثمر بالضم الأصل , وبالفتح الفرع , قاله ابن زيد. وفي هذا الثمر المذكور قولان: أحدهما: أنه ثمر الجنتين المتقدم ذكرهما , وهو قول الجمهور. الثاني: أنه ثمر ملكه من غير جنتيه , وأصله كان لغيره كما يملك الناس ثماراً لا يملكون أصولها , قاله ابن عباس , ليجتمع في ملكه ثمار أمواله وثمار غير أمواله فيكون أعم مِلكا. {فقال لصاحبه} يعني لأخيه المسلم الذي صرف ماله في القُرب طلباً للثواب

في الآخرة، وصرف هذا الكافر ماله فيما استبقاه للدنيا والمكاثرة. {وهو يحاوره} أي يناظره , وفيما يحاوره فيه وجهان: أحدهما: في الإيمان والكفر. الثاني: في طلب الدنيا وطلب الآخرة , فجرى بينهما ما قصة الله تعالى من قولهما.

37

{قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا} قوله تعالى: {فعسى ربّي أن يؤتين خيراً مِنْ جنتك} فيه وجهان: أحدهما: خيراً من جنتك في الدنيا فأساويك فيها. الثاني: وهو الأشهر خيراً من جنتك في الآخرة , فأكون أفضل منك فيها. {ويرسل عليها حُسْباناً من السماء} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني عذاباً , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: ناراً. الثالث: جراداً. الرابع: عذاب حساب بما كسبت يداك , قاله الزجاج , لأنه جزاء الآخرة. والجزاء من الله تعالى بحساب. الخامس: أنه المرامي الكثيرة , قاله الأخفش وأصله الحساب وفي السهام التي يرمى بها في طلق واحد , وكان من رَمي الأساورة. {فتصبح صعيداً زلقاً} يعني أرضاً بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم , وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض. {أو يصبح ماؤها غوراً} يعني ويصبح ماؤها غوراً , فأقام أو مقام الواو , و {غوراً} يعني غائراً ذاهباً فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كان فيها.

{فلن تستطيع له طلباً} ويحتمل وجهين: أحدهما: فلن تستطيع رد الماء الغائر. الثاني: فلن تستطيع طلب غيره بدلاً منه وإلى هذا الحد انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.

42

{وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا} قوله عز وجل: {وأحيط بثمرِهِ} أي أهلك ماله , وهذا أول ما حقق الله به إنذار أخيه. {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها} يحتمل وجهين: أحدهما: يقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها وأسفاً على ما تلف. الثاني: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق وهلك , لأن الملك قد يعبر عنه باليد , من قولهم في يده مال , أي في ملكه. {وهي خاويةٌ على عروشِها} أي منقلبة على عاليها فجمع عليه بين هلاك الأصل والثمر , وهذا من أعظم الجوائح مقابلة على بغيه. قوله عز وجل: {ولم تكُنْ له فِئة ينصرونه منْ دونِ الله} فيه وجهان: أحدهما: أن الفئة الجند , قاله الكلبي. الثاني: العشيرة , قاله مجاهد. {وما كان منتصراً} فيه وجهان: أحدهما: وما كان ممتنعاً , قاله قتادة. الثاني: وما كان مسترداً بدل ما ذهب منه. قال ابن عباس: هما الرجلان ذكرهما الله تعالى في سورة الصافات حيث يقول: {إني كان لي قرين} إلى قوله {في سواء الجحيم} وهذا مثل قيل إنه ضرب لسلمان وخباب وصهيب مع أشراف قريش من المشركين.

قوله تعالى: {هنالك الولاية لله الحق} يعني القيامة. وفيه أربعة أوجه: أحدها: أنهم يتولون الله تعالى في القيامة فلا يبقى مؤمن لا كافر إلا تولاه , قاله الكلبي. الثاني: أن الله تعالى يتولى جزاءهم , قاله مقاتل. الثالث: أن الولاية مصدر الولاء فكأنهم جميعاً يعترفون بأن الله تعالى هو الوليّ قاله الأخفش. الرابع: أن الولاية النصر , قاله اليزيدي. وفي الفرق بين الولاية بفتح الواو وبين الولاية بكسرها وجهان: أحدهما: أنها بفتح الواو: للخالق , وبكسرها: للمخلوقين , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنها بالفتح في الدين , وبكسرها في السلطان.

45

{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} قوله عز وجل: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرض} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الماء اختلط بالنبات حين استوى. الثاني: أن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء حتى نما. {فأصبح هشيماً تذروهُ الرياحُ} يعني بامتناع الماء عنه , فحذف ذلك إيجازاً لدلالة الكلام عليه , والهشيم ما تفتت بعد اليبس من أوراق الشجر والزرع , قال الشاعر: (فأصبحت نيّماً أجسادهم ... يشبهها من رآها الهشيما) واختلف في المقصود بضرب هذا المثل على قولين: أحدهما: أن الله تعالى ضربه مثلاً للدنيا ليدل به على زوالها بعد حسنها وابتهاجها:

الثاني: أن الله تعالى ضربه مثلاُ لأحوال أهل الدنيا أن مع كل نعمة نقمة ومع كل فرحة ترحة. قوله عز وجل: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي {البنين} قوة ودفعاً فصارا زينة الحياة الدنيا. {والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أنها الصلوات الخمس , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثاني: أنها الأعمال الصالحة , قاله ابن زيد. الثالث: هي الكلام الطيب. وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً , وقاله عطية العوفي. الرابع: هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هي الباقيات الصالحات). وفي {الصالحات} وجهان: أحدهما: أنها بمعنى الصالحين لأن الصالح هو فاعل الصلاح. الثاني: أنها بمعنى النافعات فعبر عن المنفعة بالصلاح لأن المنفعة مصلحة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما عُرج بي إلى السماء أريت إبراهيم

فقال: مر أمتك أن يكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة , فقلت وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). {خير عند ربك ثواباً} يعني في الآخرة , {وخير أملاً} يعني عند نفسك في الدنيا , ويكون معنى قوله {وخيرٌ أملاً} يعني أصدق أملاً , لأن من الأمل كواذب وهذا أمل لا يكذب.

47

{ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} قوله عز وجل: {ويوم نُسَيِّر الجبال} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يسيرها من السير حتى تنتقل عن مكانها لما فيه من ظهور الآية وعظم الإعتبار. الثاني: يسيرها أي يقللها حتى يصير كثيرها قليلاً يسيراً. الثالث: بأن يجعلها هباء منثوراً. {وترى الأرض بارزة} فيه وجهان: أحدهما: أنه بروز ما في بطنها من الأموات بخروجهم من قبورهم. الثاني: أنها فضاء لا يسترها جبل ولا نبات. {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} فيه ثلاثة تأويلات.

أحدها: يعني فلم نخلف منهم أحداً , قاله ابن قتيبة , قال ومنه سمي الغدير لأنه ما تخلفه السيول. الثاني: فلم نستخلف منهم أحداً , قاله الكلبي. الثالث: معناه فلم نترك منهم أحداً , حكاه مقاتل. قوله عز وجل: {وعُرِضوا على ربِّك صَفّاً} قيل إنهم يُعرضون صفاً بعد صف كالصفوف في الصلاة , وقيل إنهم يحشرون عراة حفاة غرلاً , فقالت عائشة رضي الله عنها فما يحتشمون يومئذ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ({لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه}) [عبس: 37]. قوله عز وجل: {ووضع الكتابُ} فيه وجهان: أحدهما: أنها كتب الأعمال في أيدي العباد , قاله مقاتل. الثاني: أنه وضع الحساب , قاله الكلبي , فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة. {فترى المجرمين مشفقين مما فيه} لأنه أحصاه الله ونسوه. {ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها} وفي الصغيرة تأويلان: أحدهما: أنه الضحك , قاله ابن عباس. الثاني: أنها صغائر الذنوب التي تغفر باجتناب كبائرها.

وأما الكبيرة ففيها قولان: أحدهما: ما جاء النص بتحريمه. الثاني: ما قرن بالوعيد والحَدِّ. ويحتمل قولاً ثالثاً: أن الصغيرة الشهوة , والكبيرة العمل. قال قتادة: اشتكى القوم الإحْصاء وما اشتكى أحد ظلماً , وإياكم المحقرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه. {ووجَدوا ما عَملوا حاضِراً} يحتمل تأويلين: أحدهما: ووجدوا إحصاء ما عملوا حاضراً في الكتاب. الثاني: ووجدوا جزاء ما عملوا عاجلاً في القيامة. {ولا يظلم ربك أحداً} يعني من طائع في نقصان ثوابه , أو عاص في زيادة عقابه.

50

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} قوله عز وجل: {وإذ قلنا للملائكة اسجُدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنِّ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه كان من الجن على ما ذكره الله تعالى. ومنع قائل هذا بعد ذلك أن يكون من الملائكة لأمرين: أحدهما: أن له ذرية , والملائكة لا ذرية لهم. الثاني: أن الملائكة رسل الله سبحانه ولا يجوز عليهم الكفر , وإبليس قد كفر , قال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط , وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس.

الثاني: أنه من الملائكة , ومن قالوا بهذا اختلفوا في معنى قوله تعالى {كان من الجن} على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما قاله قتادة أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجن. الثاني: ما قاله ابن عباس , أنه كان من الملائكة من خزان الجنة ومدبر أمر السماء الدنيا فلذلك قيل من الجن لخزانة الجنة , كما يقال مكي وبصري. الثالث: أن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم , وخلق سائر الملائكة من نور , قاله سعيد من جبير , قاله الحسن: خلق إبليس من نار وإلى النار يعود. الثالث: أن إبليس لم يكن من الإنس ولا من الجن , ولكن كان من الجان , وقد مضى من ذكره واشتقاق اسمه ما أغنى. {ففسق عن أمر ربه ... } فيه وجهان: أحدهما: أن الفسق الاتساع ومعناه اتسع في محارم الله تعالى: الثاني: أن الفسق الخروج أي خرج من طاعة ربه , من قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها , وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من حجرها قال رؤبة بن العجاج: (يهوين من نجدٍ وغورٍ غائرا ... فواسقاً عن قصدها جوائرا) وفي قوله تعالى: { ... بئس للظالمين بدلاً} وجهان: أحدهما: بئس ما استبدلوا بطاعة الله طاعة إبليس , قاله قتادة. الثاني: بئس ما استبدلوا بالجنة النار.

51

{ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا}

قوله عز وجل: {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض} فيه وجهان: أحدهما: ما أشهدت إبليس وذريته. الثاني: ما أشهدت جميع الخلق خلق السموات والأرض. وفيه وجهان: أحدهما: ما أشهدتهم إياها استعانة بهم في خلقها. الثاني: ما أشهدتهم خلقها فيعلموا من قدرتي ما لا يكفرون معه. ويحتمل ثالثاً: ما أشهدتهم خلقها فيحيطون علماً بغيبها لاختصاص الله بعلم الغيب دونه خلقه. {ولا خلق أنفسهم} فيه وجهان: أحدهما: ما استعنت ببعضهم على خلق بعض. الثاني: ما أشهدت بعضهم خلق بعض. ويحتمل ثالثاً: ما أعلمتم خلق أنفسهم فكيف يعلمون خلق غيرهم. {وما كنت متخذ المضلين عضدا} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني أولياء. الثاني: أعواناً , ووجدته منقولاً عن الكلبي. وفيما أراد أنه لم يتخذهم فيه أعواناً وجهان: أحدهما: أعواناً في خلق السموات والأرض. الثاني: أعواناً لعبدة الأوثان، قاله الكلبي.

وفي هؤلاء المضلين قولان: أحدهما: إبليس وذريته. الثاني: كل مضل من الخلائق كلهم. قال بعض السلف: إذا كان ذنب المرء من قبل الشهوة فارْجُه , وإذا كان من قبل الكبر فلا ترْجه , لأن إبليس كان ذنبه من قبل الكبر فلم تقبل توبته , وكان ذنب آدم من قبل الشهوة فتاب الله عليه. وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى فقال: (إذا ما الفتى طاح في غيّه ... فَرَجِّ الفتى للتُّقى رَجّه) (فقد يغلط الركب نهج الط ... ريق ثم يعود إلى نهجه)

52

{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا} قوله عز وجل: { ... وجعلنا بينهم موبقاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: مجلساً , قاله الربيع. الثاني: مهلكاً , قاله ابن عباس وقتادة والضحاك , قال الشاعر: (استغفر الله أعمالي التي سلفت ... من عثرةٍ إن تؤاخذني بها أبق) أي أهلك , ومثله قول زهير: (ومن يشتري حسن الثناء بماله ... يصن عرضَه من كل شنعاء موبق) قال الفراء: جعل تواصلهم في الدنيا مهلكاً في الآخرة. الثالث: موعداً , قاله أبو عبيدة. الرابع: عداوة , قاله الحسن. الخامس: أنه واد في جهنم , قاله أنس بن مالك.

السادس: أنه واد يفصل بين الجنة والنار , حكاه بعض المتأخرين. قوله عز وجل: {ورأى المجرمون النّار} يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم عاينوا في المحشر. الثاني: أنهم علموا بها عند العرض. {فظنُّوا أنهم مُواقعوها} فيه وجهان: أحدهما: أنهم أمّلوا العفو قبل دخولها فلذلك ظنوا أنهم مواقعوها الثاني: علموا أنهم مواقعوها لأنهم قد حصلوا في دار اليقين وقد يعبر عن العلم بالظن لأن الظن مقدمة العلم. {ولم يجدوا عنها مصرفاً} فيه وجهان: أحدهما: ملجأ , قاله الكلبي. الثاني: معدلاً ينصرفون إليه , قاله ابن قتيبة , ومنه قول أبي كبير الهذلي: (أزهير هل عن شيبةٍ من مصرِف ... أم لا خلود لباذل متكلفِ) وفي المراد وجهان: أحدهما: ولم يجد المشركون عن النار مصرفاً. الثاني: ولم تجد الأصنام مصرفاً للنار عن المشركين.

54

{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} قوله تعالى: {ولقد صرَّفنا في هذا القرآن للناس من كلِّ مثَل} يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكره لهم من العبر في القرون الخالية. الثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية , فيكون على الوجه الأول جزاء , وعلى الثاني بياناً. {وكان الإنسان أكثر شيءٍ جَدلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: عناداً , وهو مقتضى الوجه الأول.

الثاني: حجاجاً وهو مقتضى القول الثاني. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عليّ وفاطمة رضي الله عنهما وهما نائمان فقال: (الصلاة , ألا تصليان) فقال علي رضي الله عنه: إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثها بعثها , فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول {وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً} [الكهف: 54].

55

{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا} قوله عز وجل: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءَهم الهُدى} فيه وجهان: أحدهما: وما منع الناس أنفسهم أن يؤمنوا. الثاني: ما منع الشيطان الناس أن يؤمنوا. وفي هذا الهدي وجهان: أحدهما: حجج الله الدالة على وحدانيته ووجوب طاعته. الثاني: رسول الله صلى الله عليه وسلم المبعوث لهداية الخلق. {إلاّ أن تأتيهم سنةُ الأولين} أي عادة الأولين في عذاب الإستئصال. {أو يأتيهم العذاب قبلاً} قرأ عاصم وحمزة والكسائي {قُبُلاً} بضم القاف والباء وفيه وجهان: أحدهما: تجاه , قاله مجاهد. الثاني: أنه جمع قبيل معناه ضروب العذاب. ويحتمل ثالثاً: أن يريد: من أمامهم مستقبلاً لهم فيشتد عليهم هول مشاهدته.

وقرأ الباقون قِبَلاً بكسر القاف , وفيه وجهان: أحدهما: مقابلة. الثاني: معاينة. ويحتمل ثالثاً: من قبل الله تعالى بعذاب من السماء , لا من قبل المخلوقين , لأنه يعم ولا يبقى فهو أشد وأعظم. قوله عز وجل: {. . ليُدحضوا به الحقَّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ليذهبوا به الحق , ويزيلوه , قاله الأخفش. الثاني: ليبطلوا به القرآن ويبدلوه , قاله الكلبي. الثالث: ليهلكوا به الحق. والداحض الهالك , مأخوذ من الدحض وهو الموضع المزلق من الأرض الذي لا يثبت عليه خف ولا حافر ولا قدم , قال الشاعر: (ردَيت ونجَى اليشكري حِذارُه ... وحادَ كما حادَ البعير عن الدحض) {واتخدوا آياتي وما أنذروا هُزُواً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الآية البرهان , وما أنذروا القرآن. الثاني: الآيات القرآن وما أنذروا الناس. ويحتمل قوله: {هزواً} وجهين: أحدهما: لعباً. الثاني: باطلاً.

57

{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى

أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا} قوله عز وجل: {وربُّكَ الغفور} يعني للذنوب وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة. {ذو الرّحمة ... } فيها أربعة أوجه: أحدها: ذو العفو. الثاني: ذو الثواب , وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفرة. الثالث: ذو النعمة. الرابع: ذو الهدى , وهو على هذين الوجهين يعم أهل الإيمان وأهل الكفر لأنه ينعم في الدنيا على الكافر كإنعامه على المؤمن , وقد أوضح هذه للكافر كما أوضحه للمؤمن , وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر. {بل لهم موعدٌ} فيه وجهان: أحدهما: أجل مقدر يؤخرون إليه. الثاني: جزاء واجب يحاسبون عليه. {لن يجدوا مِن دونه مَوْئلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ملجأ , قاله ابن عباس وابن زيد. الثاني: محرزاً , قاله مجاهد. الثالث: ولياً , قاله قتادة. الرابع: منجى , قاله أبو عبيدة. قال والعرب تقول: لا وألَت نفسه , أي لا نجت , ومنه قول الشاعر: (لا وألت نفسك خلّيْتها ... للعامريّين ولم تُكْلَمِ) قوله عز وجل: {وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا} فيه وجهان:

أحدهما: أهلكناهم بالعذاب لما ظلموا بالكفر. الثاني: أهلكناهم بأن وكلناهم إلى سوء تدبيرهم لما ظلموا بترك الشكر. {وجعلنا لمهلكهم مَوْعِداً} فيه وجهان: أحدهما: أجلا يؤخرون إليه , قاله مجاهد. الثاني: وقتاً يهلكون فيه. وقرىء بضم الميم وفتحها , فهي بالضم من أُهلك وبالفتح من هَلَك.

60

{وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} قوله عز وجل: {وإذا قال موسى لفتاه} يعني يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وسمي فتاهُ لملازمته إياه , قيل في العلم , وقيل في الخدمة , وهو خليفة موسى على قومه من بعده. وقال محمد بن إسحاق: إن موسى الذي طلب الخضر هو موسى بن منشى بن يوسف , وكان نبياً في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران. والذي عليه جمهور المسلمين أنه موسى بن عمران.

{لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني بحر الروم وبحر فارس , أحدهما قبل المشرق , والآخر قبل المغرب وحكى الطبري أنه ليس في الأرض مكان أكثر ماء منه. والقول الثاني: هو بحر أرمينية مما يلي الأبواب. الثالث: الخضرُ وإلياس , وهما بحران في العلم , حكاه السدي. {أو أمضي حُقباً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن الحقب ثمانون سنة , قاله عبد الله بن عمر. الثاني: سبعون سنة , قاله مجاهد. الثالث: أن الحقب الزمان , قاله قتادة. الرابع: أنه الدهر , قاله ابن عباس , ومنه قول امرىء القيس: (نحن الملوك وأبناء الملوك , لنا ... مِلكٌ به عاش هذا الناس أحقابا) الخامس: أنه سنة بلغة قيس , قاله الكلبي. وفي قوله {لا أبْرحُ} تأويلان: أحدهما: لا أفارقك , ومنه قول الشاعر: (إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانةً ... وتحمل أُخرى أثقلتك الودائع)

الثاني: لا أزال , قاله الفراء , ومنه قول الشاعر: (وأبرح ما أدام اللهُ قومي ... بحمد الله منتطقاً مجيداً) ) أي لا أزال. وقيل إنه قال {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين} لأنه وعد أن يلقى عنده الخضر عليه السلام. {فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوتَهما} قيل إنهما تزودا حوتاً مملوحاً وتركاه حين جلسا , وفيه وجهان: أحدهما: أنه ضل عنهما حتى اتخذ سبيله في البحر سرباً , فسمي ضلاله عنهما نسياناً منهما. الثاني: أنه من النسيان له والسهو عنه. ثم فيه وجهان: أحدهما: أن الناسي له أحدهما وهو يوشع بن نون وحده وإن أضيف النسيان إليهما , كما يقال نسي القوم زادهم إذا نسيه أحدهم. الثاني: أن يوشع نسي أن يحمل الحوت ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء , فصار كل واحد منهما ناسياً لغير ما نسيه الآخر. {فاتّخذ سبيله في البحر سَرَباً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: مسلكاً , قاله مجاهد وابن زيد. الثاني: يبساً , قاله الكلبي. الثالث: عجباً , قاله مقاتل. قوله عز وجل: {فلما جاوَزا} يعني مكان الحوت. {قال لفَتاهُ} يعني موسى قال لفتاه يوشع بن نون. {آتِنا غداءَنا} والغداء الطعام بالغداة كما أن العشاء طعام العشي والإنسان إلى الغداء أشد حاجة منه إلى العشاء. {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} فيه وجهان: أحدهما: أنه التعب. الثاني: الوهن.

{قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} فيه قولان: أحدهما: قاله مقاتل , إن الصخرة بأرض تسمى شره ان على ساحل بحر أيلة , وعندها عين تسمى عين الحياة. الثاني: أنها الصخرة التي دون نهر الزيت على الطريق. {فإني نسيت الحُوت} فيه وجهان: أحدهما: فإني نسيت حمل الحوت. الثاني: فإني نسيت أن أخبرك بأمر الحوت. {وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن اذكُره} أي أنسانية بوسوسته إليّ وشغله لقلبي. {واتخذ سبيله في البحر عجباً} فيه قولان: أحدهما: انه كان لا يسلك طريقاً في البحر إلا صار ماؤه صخراً فلما رآه موسى عجب من مصير الماء صخراً. الثاني: أن موسى لما أخبره يوشع بأمر الحوت رجع إلى مكانه فرأى أثر الحوت في البحر ودائرته التي يجري فيها فعجب من عود الحوت حياً. {قال ذلك ما كُنّا نبغِ} أي نطلب , وذلك أنه قيل لموسى إنك تلقى الخضر في موضع تنسى فيه متاعك , فعلم أن الخضر بموضع الحوت. {فارتدَّا على آثارهما قَصصاً} أي خرجا إلى آثارهما يقصان أثر الحوت ويتبعانه. {فَوَجداَ عبْداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا} فيه أربعة تأويلات: أحدها: النبوة , قاله مقاتل: الثاني: النعمة. الثالث: الطاعة. الرابع: طول الحياة. {وعلّمناه من لدُنا عِلْماً} قال ابن عباس لما اقتفى موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل راقد وقد سجي عليه ثوبه , فسلم عليه موسى , فكشف ثوبه عن وجهه وردّ عليه

السلام وقال: من أنت؟ قال: موسى. قال صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: وما لك في بني إسرائيل شغل , قال: أمرت أن آتيك وأصحبك. واختلفوا في الخضر هل كان مَلَكاً أو بشراً على قولين: أحدهما: أنه كان ملكاً أمر الله تعالى موسى أن يأخذ عنه مما حمّله إياه من علم الباطن. الثاني: أنه كان بشراً من الإنس. واختلف من قال هذا على قولين: أحدهما: كان نبياً لأن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من هو فوقه؛ ولا يجوز أن يكون فوق النبي من ليس بنبي , قال مقاتل: هو ليسع لأنه وسع علمه ست سموات وست أرضين. الثاني: أنه لم يكن نبياً وإنما كان عبداً صالحاً أودعه الله تعالى مِن علْم باطن الأمور ما لم يودع غيره , لأن النبي هو الداعي , والخضر كان مطلوباً ولم يكن داعياً طالباً , وقد ذكرأن سبب تسميته بالخضر لأنه كانه إذا صلى في مكان اخضرّ ما حوله.

66

{قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني

إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} قوله عز وجل: {قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رُشْداً} في الرشد هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أنه العلم , قاله مقاتل ويكون تقديره على أن تعلمني مما علمت علماً. الثاني: معناه على أن تعلمني مما علمت لإرشاد الله لك. الثالث: ما يرى في علم الخضر رشداً يفعله وغياً يجتنبه , فسأله موسى أن يعلمه من الرشد الذي يفعله , ولم يسأله أن يعلمه الغيّ الذي يجتنبه لأنه عرف الغي الذي يجتنبه ولم يعرف ذلك الرشد. {قال إنك لن تستطيع معي صبراً} يحتمل وجهين: أحدهما: صبراً عن السؤال. الثاني: صبراً عن الإنكار. {وكيف تصبر على ما لم تُحِطْ به خُبراً} فيه وجهان: أحدهما: لم تجد له سبباً. الثاني: لم تعرف له علماً , لأن الخضر علم أن موسى لا يصبر إذا رأى ما بنكر ظاهره. {قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} فوعد بالصبر والطاعة ثم استثنى بمشيئة الله تعالى حذراً مما يلي فأطاع ولم يصبر. وفي قوله: {ولا أعصي لك أمراً} وجهان: أحدهما: لا ابتدىء بالإنكار حتى تبدأ بالإخبار. الثاني: لا أفشي لك سراً ولا أدل عليك بشراً. فعلى الوجه الأول يكون مخالفاً. , على الوجه الثاني: يكون موافقاً.

71

{فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما

نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} قوله عز وجل: {فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها} لأنه أراد أن يعبر في البحر إلى أرض أخرى فركب في السفينة وفيها ركاب , فأخذ الخضر فأساً ومنقاراً فخرق السفينة حتى دخلها الماء وقيل إنه قلع منها لوحين فضج ركابها من الغرق. ف {قال} له موسى {أخرقتها لتغرق أهلها} وإن كان في غرقها غرق جميعهم لكنه أشفق على القوم أكثر من إشفاقه على نفسه لأنها عادة الأنبياء. ثم قال بعد تعجبه وإكباره {لقد جئت شيئاً إمْراً} فأكبر ثم أنكر , وفي الإمر ثلاثة أوجه: أحدها: يعني منكراً , قاله مجاهد. الثاني: عجباً , قاله مقاتل. الثالث: أن الإمر الداهية العظيمة , قاله أبو عبيدة وأنشد: (قد لقي الأقران مِنّي نُكْرا ... داهيةً دهياء إدّاً إمْرا) وهو مأخوذ من الإمر وهو الفاسد الذي يحتاج إلى الصلاح , ومنه رجل إمر إذا كان ضعيف الرأي لأنه يحتاج أن يؤمر حتى يقوى رأيه , ومنه أمِر القومُ إذا أكثروا لأنهم يحتاجون إلى من يأمرهم وينهاهم. قوله عز وجل: {قال لا تؤاخذني بما نسيتُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بما نسيته وغفلت عنه فلم أذكره , وقد رفعه أبي بن كعب. الثاني: بما كأني نسيته , ولم أنسه في الحقيقة. حكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: لم ينس ولكنها معاريض الكلام. الثالث: بما تركته من عهدك , قاله ابن عباس , مأخوذ من النسيان الذي هو الترك لا من النسيان الذي هو من السهو. {ولا تُرهقني مِنْ أمري عُسْراً} فيه أربعة أوجه:

أحدها: لا تعنفني على ما تركت من وصيتك , قاله الضحاك. الثاني: لا يغشني منك العسر , من قولهم غلام مراهق إذا قارب أن يغشاه البلوغ , ومنه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ارهقوا القبلة) أي اغشوها واقربوا منها. الثالث: لا تكلفني ما لا أقدر عليه من التحفظ عن السهو والنسيان , وهو معنى قول مقاتل: الرابع: لا يلحقني منك طردي عنك. قوله تعالى: {فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله} يعني انطلق موسى والخضر فاحتمل أن يكون يوشع تأخر عنهما , لأن المذكور انطلاق اثنين وهو الأظهر لاختصاص موسى بالنبوة واجتماعه مع الخضر عن وحي , واحتمل أن يكون معهما ولم يذكر لأنه تابع لموسى , فاقتصر على ذكر المتبوع دون التابع لقول موسى: {ذلك ما كنا نبغي} فكان ذلك منه إشارة إلى فتاه يوشع. واختلف في الغلام المقتول هل كان بالغاً , فقال ابن عباس: كان رجلاً شاباً قد قبض على لحيته لأن غير البالغ لا يجري عليه القلم بما يستحق به القتل , وقد يسمى الرجل غلاماً , قالت ليلى الأخيلية في الحجّاج: (شفاها من الداء العُضال الذي بها ... غُلامٌ إذا هزَّ القَناةَ سقاها) وقال الأكثرون: كان صغيراً غير بالغ وكان يلعب مع الصبيان , حتى مر به الخضر فقتله. وفي سبب قتله قولان: أحدهما: لأنه طبع على الكفر.

الثاني: لأنه أصلح بقتله حال أبويه. وفي صفة قتله قولان: أحدهما: أنه أخذه من بين الصبيان فأضجعه وذبحه بالسكين , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنه أخذ حجراً فقتل به الغلام , قاله مقاتل فاستعظم موسى ما فعله الخضر من قتل الغلام من غير سبب. ف {قال أقتلت نَفْساً زَكيةً بغير نفْسٍ} فاختلف هل قاله استخباراً أو إنكاراً على قولين: أحدهما: أنه قال ذلك استخباراً عنه لعلمه بأنه لا يتعدى في حقوق الله تعالى. الثاني: أنه قاله إنكاراً عليه لأنه قال {لقد جئت شيئاً نُكراً} قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير {زاكية} وقرأ حمزة وابن عامر وعاصم والكسائي زكيّة بغير ألف. واختلف في زاكية - وزكية على قولين: أحدهما: وهو قول الأكثرين أن معناهما واحد , فعلى هذا اختلف في تأويل ذلك على ستة أوجه: أحدها: أن الزاكية التائبة , قاله قتادة. الثاني: أنها الطاهرة , حكاه ابن عيسى. الثالث: أنها النامية الزائدة , قاله كثير من المفسرين , قال نابغة بني ذبيان: (وما أخرتَ من دُنياك نقص ... وإن قدّمْتَ عادَ لَك الزّكاءُ) يعني الزيادة. الرابع: الزاكية المسلمة , قاله ابن عباس لأن عنده أن الغلام المقتول رجل. الخامس: أن الزاكية التي لم يحل دمها , قاله أبو عمرو بن العلاء. السادس: أنها التي لم تعمل الخطايا , قاله سعيد بن جبير. والقول الثاني: أن بين الزاكية والزكية فرقاً، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الزاكية في البدن، والزكية في الدين، وهذا قول أبي عبيدة.

الثاني: أن الزكية أشد مبالغة من الزاكية , قاله ثعلب. الثالث: أن الزاكية التي لم تذنب , والزكية التي أذنبت ثم تابت فغفر لها , قاله أبو عمرو بن العلاء. {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} فيه أربعة أوجه: أحدها: شيئاً منكراً , قاله الكلبي. الثاني: أمراً فظيعاً قبيحاً , وهذا معنى قول مقاتل. الثالث: أنه الذي يجب أن ينكر ولا يفعل. الرابع: أنه أشد من الإِمْر , قاله قتادة.

75

{قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا} قوله عز وجل: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} فيه أربعة أوجه: أحدها: فلا تتابعني. الثاني: فلا تتركني أصحبك , قاله الكسائي. الثالث: فلا تصحبني. الرابع: فلا تساعدني على ما أريد. {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذراً} قد اعتذرت حين أنذرت.

77

{فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا} اختلف في هذه القرية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها أنطاكية , قاله الكلبي. الثاني: أنها الأبُلة , قاله قتادة. الثالث: أنها باجروان بإرمينية، قاله مقاتل.

{فَأَبَوْا إِن يُضَيِّفُوهُمَا} يقال أضفت الرجل إذا نزل عليك فأنت مضيف. وضفت الرجل إذا نزلت عليه فأنت ضيف. وكان الطلب منهما الفاقة عُذراً فيهما. والمنع من أهل القرية لشحٍ أثموا به. {فَوَجَدَا فِيها جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي كاد أن ينقض؛ ذلك على التشبيه بحال من يريد أن يفعل في التالي , كقول الشاعر: (يريد الرمح صدر أبي براءٍ. . ... . ويرغب عن دماءِ بني عقيل) ومعنى ينقض يسقط بسرعة , ويناقض ينشق طولاً. وقرأ يحيى بن يعمر {يُرِيدُ أَن يَنقَصَّ} بالصاد غير المعجمة , من النقصان. {فَأَقَامَهُ} قال سعيد بن جبير: أقام الجدار بيده فاستقام , وأصل الجدر الظهور ومنه الجدري لظهوره. وعجب موسى عليه السلام وقد {اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} فأقام لهم الجدار ف {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} قال قتادة: شر القرى لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. قوله عز وجل: {قَالَ هَذا فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} فيه وجهان: أحدهما: هذا الذي قلته {فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} الثاني: هذا الوقت {فِرَاقٌ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} يحتمل وجهين: أحدهما: لم تستطع على المشاهدة له صبراً. الثاني: لم تستطع على الإِمساك عن السؤال عنه صبراً. فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَو صَبَرَ لاَقْتَبَسَ مِنْهُ أَلْفَ بَابٍ).

79

{أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}

قوله عز وجل: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} وفي تسميتهم مساكين أربعة أوجه: أحدها: لفقرهم وحاجتهم. الثاني: لشدة ما يعانونه في البحر , كما يقال لمن عانى شدة قد لقي هذا المسكين جهداً. الثالث: لزمانة كانت بهم وعلل. الرابع: لقلة حيلتهم وعجزهم عن الدفع عن أنفسهم , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (مِسْكِينٌ رَجُلٌ لاَ امرأة له) فسماه مسكيناً لقلة حيلته وعجزه عن القيام بنفسه لا لفقره ومسكنته. وقرأ بعض أئمة القراء (لِمَسَّاكِينَ) بتشديد السين , والمساكون هم الممسكون , وفي تأويل ذلك وجهان: أَحدهما: لممسكون لسفينتهم للعمل فيها بأنفسهم. الثاني: الممسكون لأموالهم شحاً فلا ينفقونها. {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أي أن أُحْدِثَ فيها عيباً. {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} في قوله {وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} وجهان: أحدهما: أنه خلفهم , وكان رجوعهم عليه ولم يعلموا به , قاله الزجاج. الثاني: أنه كان أمامهم. وكان ابن عباس يقرأ: {وَكَانَ أَمَامَمُم مَّلِكٌ} واختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقاويل: أحدها: يجوز استعماله بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد , قال الله تعالى {مِن وَرَائِهِم جَهَنَّمُ} أي من أمامهم وقدامهم جهنم قال الشاعر:

(أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا) يعني أمامي. الثاني: أن وراء يجوز أن يستعمل في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان قد يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها. الثالث: أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر , ولا يجوز في غيره قاله ابن عيسى. {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} قرأ ابن مسعود: يأخذ كل سفينة صالحة غصباً. وهكذا كان الملك يأخذ كل سفينة جيدة غصباً , فلذلك عباها الخضر لتسلم من الملك. وقيل إن اسم الملك هُدَد بن بُدَد , وقال مقاتل: كان اسمه مندلة بن جلندى بن سعد الأزدي.

80

{وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما} قوله عز وجل: {وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنَ فَخَشِينآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} قال سعيد بن جبير: وجد الخضر غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً فأضجعه وذبحه , وقيل كان الغلام سداسياً وقيل أنه أراد بالسداسي ابن ست عشرة سنة , وقيل بل أراد أن طوله ستة أشبار , قاله الكلبي: وكان الغلام لصاً يقطع الطريق بين قرية أبيه وقرية أمه فينصره أهل القريتين ويمنعون منه. قال قتادة: فرح به أبواه حين ولد , وحزنا عليه حين قتل , ولو بقي كان فيه هلاكهما. قيل كان اسم الغلام جيسور. قال مقاتل وكان اسم أبيه كازير , واسم أمه سهوى. {فَخَشِينآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْياناً وَكُفْراً} فيه ثلاة أوجه: أحدهما: علم الخضر أن الغلام يرهق أبويه طغياناً وكفراً لأن الغلام كان كافراً

قال قتادة: وفي قراءة أُبي {وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ كَافِراً وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} فعبر عن العلم بالخشية. الثاني: معناه فخاف ربك أن يرهق الغلام أبويه طغياناً وكفراً , فعبر عن الخوف بالخشية قال مقاتل: في قراءة أبي {فَخَافَ رَبُّكَ} والخوف ها هنا استعارة لانتفائه عن الله تعالى. الثالث: وكره الخضر أن يرهق الغلام أبويه بطغيانه وكفره إثماً وظلماً فصار في الخشية ها هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أنها العلم. الثاني: أنها الخوف. الثالث: الكراهة. وفي {يُرْهِقَهُمَا} وجهان: أحدهما: يكفلهما , قاله ابن زيد. الثاني: يحملهما على الرهق وهو الجهد. {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا ربهما خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: خيراً منه إسلاماً، قاله ابن جريج. الثاني: خيراً منه علماً، قاله مقاتل. الثالث: خيراً منه ولداً. وكانت أمه حبلى فولدت، وفي الذي ولدته قولان: أحدهما: ولدت غلاماً صالحاً مسلماً، قاله ابن جريج.

الثاني: ولدت جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم. {وَأَقْرَبَ رُحْماً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أكثر براً بوالديه من المقتول , قاله قتادة , وجعل الرحم البر , ومنه قول الشاعر: (طريدٌ تلافاه يزيد برحمةٍ ... فلم يُلْف من نعمائه يتعذَّرُ) الثاني: أعجل نفعاً وتعطفاً , قال أبو يونس النحوي وجعل الرحم المنفعة والتعطف , ومنه قول الشاعر: (وكيف بظلم جارية ... ... ومنها اللين والرحم) الثالث: أقرب أن يرحما به , والرُّحم الرحمة , قاله أبو عَمْرو بن العلاء , ومنه قول الشاعر: (أحنى وأرحمُ مِن أمٍّ بواحدِها ... رُحْماً وأشجع من ذي لبدةٍ ضاري)

82

{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الَْمَدِينَةِ} زعم مقاتل أن اسم الغلامين صرم وصريم , واسم أبيهما كاشخ , واسم أمهما رهنا , وأن المدينة قرية تسمى عيدشى. وحقيقة الجدار ما أحاط بالدار حتى يمنع منها ويحفظ بنيانها , ويستعمل في غيرها من حيطانها مجازاً.

{وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} وفي هذا الكنز ثلاثة أقاويل: أحدها: صحف علم , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير , ومجاهد. الثاني: لوح من ذهب مكتوب فيه حِكَم , قاله الحسن , وروى ابن الكلبي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا}، كَانَ الكَنزُ لَوحاً مِن ذَهَبٍ مَكْتُوباً فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ عَجَبٌ لِّمِنَ يُؤِمِنُ بِالمَوتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، عَجَبٌ لِّمَن يُوقِنُ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ، عَجَبٌ لِّمَن يُوقِنُ بِزَوالِ الدُّنيَا وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ). الثالث: كنز: مال مذخور من ذهب وفضة , قاله عكرمة وقتادة. {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} قيل إنهما حفظا لصلاح أبيهما السابع , قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ عبده المؤمن في ولده وولد ولده وفي ذريته وفي الدويرات حوله. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. واختلف أهل العلم في بقاء الخضر عليه السلام إلى يوم , فذهب قوم إلى بقائه لأنه شرب من عين الحياة. وذهب آخرون إلى أنه غير باقٍ لأنه لو كان

باقياً لعرف , ولأنه لا يجوز أن يكون بعد نبينا صلى الله عليه وسلم نبي وهذا قول من زعم أن الخضر نبي.

83

{ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} قوله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ} اختلف فيه هل كان نبياً؟ فذهب قوم إلى أنه نبي مبعوث فتح الله على يده الأرض وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يكن نبياً ولا ملكاً , ولكنه كان عبداً صالحاً أحب الله وأحبه الله , وناصح لله فناصحه الله , وضربوه على قرنه فمكث ما شاء الله ثم دعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر , ولم يكن له قرنان كقرني الثور. واختلف في تسميته بذي القرنين على أربعة أقاويل: أحدها: لقرنين في جانبي رأسه على ما حكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثاني: لأنه كانت له ضفيرتان فَسُمِّيَ بهما ذو القرنين , قاله الحسن. الثالث: لأنه بلغ طرفي الأرض من المشرق والمغرب , فَسُمِّيَ لاستيلائه. على قرني الأرض ذو القرنين , قاله الزهري. الرابع: لأنه رأى في منامه أنه دنا من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها , فقص رؤياه على قومه فَسُمِّيَ ذو القرنين , قال وهب بن منبه. وحكى بن عباس أن ذا القرنين هو عبد الله بن الضحاك بن معد , وحكى محمد بن إسحاق أنه رجل من إهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني ولد يونان بن يافث بن نوح. وقال معاذ بن جبل: كان رومياً اسمه الاسكندروس. قال ابن هشام: هو الإِسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية.

قوله عز وجل: {إِنَّا مَكَنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: باستيلائه على ملكها. الثاني: بقيامه بمصالحها. {وَأَتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} فيه وجهان: أحدهما: من كل شيء علماً ينتسب به إلى إرادته , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: ما يستعين به على لقاء الملوك وقتل الأعداء وفتح البلاد. ويحتمل وجهاً ثالثاً: وجعلنا له من كل أرض وليها سلطاناً وهيبة.

85

{فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا} قوله عز وجل: {فَأَتْبَعَ سَبَاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: منازل الأرض ومعالمها. الثاني: يعني طرقاً بين المشرق والمغرب , قاله مجاهد , وقتادة. الثالث: طريقاً إلى ما أريد منه. الرابع: قفا الأثر , حكاه ابن الأنباري. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ نافع , وابن كثير , وأبو عمرو , وحفص {حَمِئَةٍ} وفيها وجهان: أحدهما: عين ماء ذات حمأة , قاله مجاهد , وقتادة. الثاني: يعني طينة سوداء، خبرا قاله كعب.

وقرأ بن الزبير , والحسن: {فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ} وهي قراءة الباقين يعني حارة. فصار قولاً ثالثاً: وليس بممتنع أن يكون ذلك صفة للعين أن تكون حمئة سوداء حامية , وقد نقل مأثوراً في شعر تُبَّع وقد وصف ذا القرنين بما يوافق هذا فقال: (قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً. . ... ملكاً تدين له الملوك وتسجد) (بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمرٍ من حكيم مرشد) (فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خُلُبٍ وثاطٍ حرمد) الخُلُب: الطين. والثأط: الحمأة. والحرمد: الأسود. ثم فيها وجهان: أحدهما: أنها تغرب في نفس العين. الثاني: أنه وجدها تغرب وراء العين حتى كأنها تغيب في نفس العين. {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} فيه وجهان: أحدهما: أنه خيره في عقابهم أو العفو عنهم. الثاني: إما أن تعذب بالقتل لمقامهم على الشرك وإما أن تتخذ فيهم حُسناً بأن تمسكهم بعد الأسر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العَمَى , فحكى مقاتل أنه لم يؤمن منهم إلا رجل واحد.

89

{ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا}

قوله عز وجل: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} قرىء بقطع الألف , وقرىء بوصلها وفيها وجهان: أحدهما: معناهما واحد. الثاني: مختلف. قال الأصمعي: بالقطع إذا لحق , وبالوصل إذا كان على الأثر , وإن لم يلحق. {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} قرىء بكسر اللام , وقرىء بفتح اللام , وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: معناهما واحد. الثاني: معناهما مختلف. وهي بفتح اللام الطلوع , وبكسرها الموضع الذي تطلع منه. والمراد بمطلع الشمس ومغربها ابتداء العمارة وانتهاؤها. {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً} يعني من دون الشمس ما يسترهم منها من بناء أو شجر أو لباس. وكانوا يأوون إذا طلعت عليهم إلى أسراب لهم , فإذا زالت عنهم خرجوا لصيد ما يقتاتونه من وحش وسمك. قال ابن الكلبي: وهم تاريس وتأويل ومنسك. وهذه الأسماء والنعوت التي نذكرها ونحكيها عمن سلف إن لم تؤخذ من صحف النبوة السليمة لم يوثق بها , ولكن ذكرت فذكرتها. وقال قتادة. هم الزنج.

92

{ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة

أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا} قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بالفتح قرأ ابن كثير وابو عمرو وعاصم في رواية حفص. وقرأ الباقون بين السُّدين وبالضم , واختلف فيهما على قولين. أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد. الثاني: أن معناهما مختلف. وفي الفرق بينهما ثلاثة أوجه: أحدها: أن السد بالضم من فعل الله عز وجل وبالفتح من فعل الآدميين. الثاني: أنه بالضم الاسم , وبالفتح المصدر , قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. والسدان جبلان , قيل إنه جعل الروم بينهما , وفي موضعهما قولان: أحدهما: فيما بين إرمينية وأذربيجان. الثاني: في منقطع الترك مما يلي المشرق. {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي من دون السدين , وفي {يَفْقَهُونَ} قراءتان: إحداهما: بفتح الياء والقاف يعني أنهم لا يفهمون كلام غيرهم. والقراءة الثانية: بضم الياء وكسر القاف , أي لا يفهم كلامهم غيرهم. قوله عز وجل: {قَالُواْ يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} وهما من ولد يافث بن نوح , واسمهما مأخوذ من أجت النار إذا تأججت , ومنه قول جرير:

(وأيام أتين على المطايا ... كأن سمومهن أجيج نارٍ) واسمها في الصحف الأولى ياطغ وماطغ. وكان أبو سعيد الخدري يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ يَمُوتُ الرَّجُلُ منهُمْ حتى يُولَدُ لِصُلْبِهِ أَلْفُ رَجُلٍ). واختلف في تكليفهم على قولين: أحدهما: أنهم مكلفون لتمييزهم. الثاني: أنهم غير مكلفين لأنهم لو كلفوا لما جاز ألاَّ تبلغهم دعوة الإسلام. {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} قرأ حمزة والكسائي: {خَرَاجاً} وقرأ الباقون {خَرْجاً} وفي اختلاف القراءتين ثلاثة أوجه: أحدها: أن الخراج الغلة , والخرج الأجرة. الثاني: أن الخراج اسم لما يخرج من الأرض , والخرج ما يؤخذ عن الرقاب , قاله أبو عمرو بن العلاء. الثالث: أن الخرج ما يؤخذ دفعة , والخراج ثابت مأخوذ في كل سنة , قاله ثعلب. قوله عز وجل: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} يعني خير من الأجر الذي تبذلونه لي. {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} فيه وجهان: أحدهما: بآلة , قاله الكلبي. الثاني: برجال , قاله مقاتل. {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} فيه وجهان: أحدهما: أنه الحجاب الشديد. الثاني: أنه السد المتراكب بعضه على بعض فهو أكبر من السد. {ءاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها قطع الحديد , قاله ابن عباس ومجاهد.

الثاني: أنه فلق الحديد , قاله قتادة. الثالث: أنه الحديد المجتمع , ومنه الزَّبور لاجتماع حروفه في الكتابة , قال تبع اليماني: (ولقد صبرت ليعلموه وحولهم ... زبر الحديد عشيةً ونهاراً) {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: الصدفان: جبلان , قال عمرو بن شاش: (كلا الصدفين ينفذه سناها ... توقد مثل مصباح الظلام) وفيهما وجهان: أحدهما: أن كل واحد منهما محاذ لصاحبه , مأخوذ من المصادفة في اللقاء , قاله الأزهري. الثاني: قاله ابن عيسى , هما جبلان كل واحد منهما منعزل عن الآخر كأنه قد صدف عنه. ثم فيه وجهان: أحدهما:: أن الصدفين اسم لرأسي الجبلين الثاني: اسم لما بين الجبلين. ومعنى قوله: {سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} أي بما جعل بينهما حتى وارى رؤوسهما وسوّى بينهما. {قَالَ انفُخُوا} يعني أي في نار الحديد. {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} يعني ليناً كالنار في الحر واللهب. {قَالَءَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن القطر النحاس , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. الثاني: أنه الرصاص حكاه ابن الأنباري. الثالث: أنه الصفر المذاب , قاله مقاتل , ومنه قول الحطيئة: (وألقى في مراجل من حديد ... قدور الصُّفر ليس من البُرام)

الرابع: أنه الحديد المذاب , قاله أبو عبيدة وأنشد: (حُساماً كلون الملح صار حديده ... حراراً من أقطار الحديد المثقب) وكان حجارته الحديد وطينه النحاس.

97

{فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا} قوله عز وجل: {فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ} أي يعلوه. {وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً} يعني من أسفله , قاله قتادة , وقيل إن السد وراء بحر الروم بين جبلين هناك يلي مؤخرهما البحر المحيط. وقيل: ارتفاع السد مقدار مائتي ذراع , وعرضه نحو خمسين ذراعاً وأنه من حديد شبه المصمت. ورُوي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنِّي رَأَيتُ السَّدَّ: (قَالَ: انعَتهُ) قَالَ: هُوَ كَالبَرَدِ المُحَبَّر , طَريقُه سَودَاءُ وَطَريقُه حَمْرَاءُ , (قَالَ قَدْ رَأَيتَهُ). قوله عز وجل: {قَالَ هَذا رَحْمَةٌ مِن رَّبِّي} يحتمل وجهين: أحدهما: أن عمله رحمة من الله تعالى لعباده. الثاني: أن قدرته على عمله رحمة من الله تعالى له.

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قال ابن مسعود: وذلك يكون بعد قتل عيسى عليه السلام الدجال في حديث مرفوع. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّهُم يَدْأَبُونَ فِي حَفْرِهِم نَهَارُهُم حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا وَكَادُواْ يُبْصِرُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالُوا نَرْجِعُ غَداً فَنَحْفُرُ بَقِيَّتَهُ , فَيَعُودُونَ مِنَ الغَدِ وَقَدِ اسْتَوَى كَمَا كَانَ , حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قَالُواْ: غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ نَنْقُبُ بَقيَّتَهُ , فَيَرْجِعُونَ إِلَيهِ فَيَنْقُبُونَهُ فِإِذِنِ اللَّهِ , فَيَخْرُجُونَ مِنهُ عَلَى النَّاسِ مِن حُصُونِهِم , ثُمَّ يَرْمُونَ نبلاً إِلَى السَّمَاءِ فِيَرْجِعُ إِلَيهِم فِيهَا أَمْثَالُ الدِّمَاءِ , فَيَقُولُونَ قَدْ ظَفَرْنَا عَلَى أَهْلِ ألأَرْضِ وَقَهَرْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ , فَيُرْسِلُ اللَّهُ تَعالَى عَلَيهِم مَّا يَهْلِكُهُم). {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} فيه قولان: أحدهما: يوم القيامة , قاله ابن بحر. الثاني: هو الأجل الذي يخرجون فيه. {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} يعني السد , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أرضاً , قاله قطرب. الثاني: قطعاً , قاله الكلبي. الثالث: هدماً حتى اندك بالأرض فاستوى معها , قاله الأخفشس , ومنه قول الأغلب: 89 (هل غيرغادٍ غاراً فانهدم} 9 قوله عز وجل: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم القوم الذين ذكرهم ذو القرنين يوم فتح السد يموج بعضهم في بعض.

الثاني: الكفار في يوم القيامة يموج بعضهم في بعض. الثالث: أنهم الإِنس والجن عند فتح السد. وفيه وجهان: أحدهما: يختلط بعضهم ببعض. الثاني: يدفع بعضهم بعضاً , مأخوذ من موج البحر.

100

{وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا} قوله عز وجل: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الضلال كالمغطي لأعينهم عن تَذَكُّر الانتقام. الثاني: أنهم غفلوا عن الاعتبار بقدرته الموجبة لذكره. {وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} فيه وجهان: أحدهما: أن المراد بالسمع ها هنا العقل , ومعناه لا يعقلون الثاني: أنه معمول على ظاهره في سمع الآذان. وفيه وجهان: أحدهما: لا يستطيعونه استثقالاً. الثاني: مقتاً. قوله عز وجل: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} فيه تأويلان: أحدهما: أن النزل الطعام , فجعل جهنم طعاماً لهم، قاله قتادة. الثاني: أنه المنزل , قاله الزجاج.

103

{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا} قوله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} فيهم خسمة أقاويل: أحدها: أنهم القسيسون والرهبان , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الثاني: أنهم الكتابيون اليهود والنصارى , قاله سعد بن أبي وقاص. الثالث: هم أهل حروراء من الخوارج , وهذا مروي عن علي رضي الله عنه. الرابع: هم أهل الأهواء. الخامس: أنهم من يصطنع المعروف ويمن عليه. ويحتمل سادساً: أنهم المنافقون بأعمالهم المخالفون باعتقادهم. ويحتمل سابعاً: أنهم طالبو الدنيا وتاركو الآخرة. قوله تعالى: { ... فَلاَ نُقِيمُ لهُمْ يَوْمَ الْقيَامَةِ وَزْناً} فيه أربعة أوجه: أحدها: لهوانهم على الله تعالى بمعاصيهم التي ارتكبوها يصيرون محقورين لا وزن لهم. الثاني: أنهم لخفتهم بالجهل وطيشهم بالسفه صاروا كمن لا وزن لهم. الثالث: أن المعاصي تذهب بوزنهم حتى لا يوازنوا من خفتهم شيئاً. روي عن كعب أنه قال: يجاء بالرجل يوم القيامة. فيوزن بالحبة فلا

يزنها، يوزن بجناح البعوضة فلا يزنها، ثم قرأ: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} الرابع: أن حسناتهم تُحبَط بالكفر فتبقى سيئاتهم. فيكون الوزن عليهم لا لهم.

107

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُم جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} في {الْفِرْدَوْسِ} خمسة أقاويل: أحدها: أن الفردوس وسط الجنة وأطيب موضع فيها، قاله قتادة. الثاني: أنه أعلى الجنة وأحسنها، رواه ضمرة مرفوعاً. الثالث: أنه البستان بالرومية، قاله مجاهد. الرابع: أنه البستان الذي جمع محاسن كل بستان، قاله الزجاج. الخامس: أنه البستان الذي فيه الأعناب، قاله كعب. واختلف في لفظه على أربعة أقاويل: أحدها: أنه عربي وقد ذكرته العرب في شعرها، قاله ثعلب. الثاني: أنه بالرومية، قاله مجاهد. الثالث: انه بالنبطية، فرداساً، قاله السدي. الرابع: بالسريانية، قاله أبو صالح.

قوله عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي متحولاً وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: بدلاً , قاله الضحاك. الثاني: تحويلاً , قاله مقاتل. الثالث: حيلة , أي لا يحتالون منزلاً غيرها. وقيل إنه يقول أولهم دخولاً إنما أدخلني الله أولهم لأنه ليس أحد أفضل مني , ويقول آخرهم دخولاً إنما أخرني الله لأنه ليس أحد أعطاه الله مثل ما أعطاني.

109

{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} قوله عز وجل: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وعد بالثواب لمن أطاعه , ووعيد بالعقاب لمن عصاه , قاله ابن بحر ومثله {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} الثاني: أنه العلم بالقرآن , قاله مجاهد. الثالث: وهذا إنما قاله الله تعالى تبعيداً على خلقه أن يُحصواْ أفعاله ومعلوماته , وإن كانت عنده ثابتة محصية. {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}. قوله عز وجل: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني فمن كان يخاف لقاء ربه، قاله مقاتل، وقطرب. الثاني: من كان يأمل لقاء ربه. الثالث: من كان يصدّق بلقاء ربه، قاله الكلبي.

وفي لقاء ربه وجهان: أحدهما: معناه لقاء ثواب ربه، قاله سعيد بن جبير. الثاني: من كان يرجو لقاء ربه إقرار منه بالبعث إليه والوقوف بين يديه. {فليعمل عملاً صالحاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الخالص من الرياء، قاله ذو النون المصري. الثاني: أن يلقى الله به فلا يستحي منه، قاله يحيى بن معاذ. الثالث: أن يجتنب المعاصي ويعمل بالطاعات. {ولا يشرك بعباده ربه أحداً} فيه وجهان: أحدهما: أن الشرك بعبادته الكفر، ومعناه لا يعبد معه غيره، قاله الحسن. الثاني: أنه الرياء، ومعناه ولا يرائي بعلمه أحداً، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أخوف ما أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية " قيل: أتشرك أمتك بعدك؟ قال: " لا، أما أنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكنهم يُراءون بعملهم "، فقيل: يا رسول الله وذلك شرك؟ فقال: " نعم " قيل: وما الشهوة الخفية، قال " يصبح أحدهم صائماً فتعرض له الشهوة من شهوات الدنيا فيفطر لها ويترك صومه ". وحكى الكلبي ومقاتل: أن هذه الآية نزلت في جندب بن زهير العامري أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إنما لنعمل العمل نريد به وجه الله فيثنى به علينا فيعجبنا، وأني لأصلي الصلاة فأطولها رجاء أن يثنى بها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ

الله عزَّ وجلَّ يقول أنا خير شريك فمن أشركني في عمل يعمله لي أحداً من خلقي تركته وذلك الشريك " ونزلت فيه هذه الآية: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} فتلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل إنها آخر آية نزلت من القرآن.

سورة مريم

مريم

{كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا} قوله تعالى: {كهيعص} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثاني: أنه اسم من أسماء الله , قاله علي كرم الله وجهه. الثالث: أنه استفتاح السورة , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أن اسم السورة , قاله لحسن. الخامس: أنه من حروف الجُمل تفسيرلا إله إلا الله , لأن الكاف

عشرون والهاء خمسة والياء عشرة والعين سبعون والصاد تسعون. كذلك عدد حروف لا إله إلا الله , حكه أبان بن تغلب. السادس: أنها حروف أسماء الله. فأما الكاف فقد اختلفوا فيها من أي اسم هي على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من كبير , قاله ابن عباس. الثاني: أنها من كاف , قاله الضحاك. الثالث: أنها من كريم , قاله ابن جبير. وأما الهاء فإنها من هادٍ عند جميعهم. وأما الياء ففيها أربعة أقاويل: أحدها: أنها من يمن , قاله ابن عباس. الثاني: من حكيم قاله ابن جبير. الثالث: أنها من ياسين حكاه سالم. الرابع: أنها من يا للنداء وفيه على هذا وجهان: أحدهما: يا من يجيب من دعاه ولا يخيب من رجاه لما تعقبه من دعاء زكريا. الثاني: يا من يجير ولا يجار عليه , قاله الربيع بن أنس. وأما العين ففيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من عزيز , قاله ابن جبير. الثاني: أنها من عالم , قاله ابن عباس. الثالث: من عدل , قاله الضحاك. وأما الصاد فإنها من صادق في قول جميعهم فهذا بيان للقول السادس. ويحتمل سابعاً: أنها حروف من كلام أغمضت معانيه ونبه على مراده فيه يحتمل أن يكون: كفى وهدى من لا يعص فتكون الكاف من كفى والهاء من هدى

والباقي حروف يعصى لأن ترك المعاصي يبعث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي , فصار تركها كافياً من العقاب وهادياً إلى الثواب وهذا أوجز وأعجز من كل كلام موجز لأنه قد جمع في حروف كلمة معاني كلام مبسوط وتعليل أحكام وشروط. ثم ذكر حال من كفاه وهداه فقال: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ} فذكر رحمته حين أجابه إلى ما سألِه فاحتمل وجهين: أحدهما: أنه رحمه بإجابته له. الثاني: أنه إجابة لرحمته له. قوله تعالى: { ... . نِدآءً خَفِيّاً} [فيه قولان]. أحدهما: قاله ابن جريج , سراً لا رياء فيه. قال قتادة إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي فأخفى زكريا نداءه لئلا ينسب إلى الرياء فيه. الثاني: قاله مقاتل , إنما أخفى لئلا يهزأ الناس به , فيقولون انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد. ويحتمل ثالثاً: أن إخفاء الدعاء أخلص للدعاء وأرجى للإِجابة للسنة الواردة فيه: إن الذي تدعونه ليس بأصم. قوله تعالى: { ... إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أي ضعف وفي ذكره وهن العظم دون اللحم وجهان: أحدهما: أنه لما وهن العظم الذي هو أقوى كان وهن اللحم والجلد أولى. الثاني: أنه اشتكى ضعف البطش , والبطش إنما يكون بالعظم دون اللحم.

{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} هذا من أحسن الاستعارة لأنه قد ينشر فيه الشيب كما ينشر في الحطب شعاع النار. {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أي خائباً , أي كنت لا تخيبني إذا دعوتك ولا تحرمني إذا سألتك. قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ ... } فيهم أربعة أقاويل: أحدها: العصبة , قاله مجاهد وأبو صالح. الثاني: الكلالة , قاله ابن عباس. الثالث: الأولياء أن يرثوا علمي دون من كان من نسلي قال لبيد: (ومولى قد دفعت الضيم عنه ... وقد أمسى بمنزلةِ المُضيمِ) الرابع: بنو العلم لأنهم كانواْ شرار بني إسرائيل. وسموا موالي لأنهم يلونه في النسب لعدم الصلب. وفيما خافهم عليه قولان: أحدهما: أنه خافهم على الفساد في الأرض. الثاني: أنه خافهم على نفسه في حياته وعلى أشيائه بعد موته. ويجوز أن يكون خافهم على تبديل الدين وتغييره. روى كثير ابن كلثمة أنه سمع علي بن الحسين عليهما السلام يقرأ: {وَإِنِّي خِفْتُ} بالتشديد بمعنى قلّت. وفي قوله: {مِن وَرَآءِي} وجهان: أحدهما: من قدامي وهو قول الأخفش. الثاني: بعد موتي , قاله مقاتل. قوله تعالى: {. . فَهَبْ لِي مِن لَّدنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْءَالِ يَعْقُوبَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة، قاله أبو صالح.

الثاني: يرثني ويرث من آل يعقوب العلم والنبوة , قاله الحسن. الثالث: يرثني النبوة ويرث من آل يعقوب الأخلاق , قاله عطاء. الرابع: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب الملك , قاله ابن عباس , فأجابه الله إلى وراثة العلم ويرث من آل يعقوب الملك , قاله ابن عباس. فأجابه الله إلى وراثة العلم ولم يجبه إلى وارثة الملك. قال الكلبي: وكان آل يعقوب أخواله وهو يعقوب بن ماثان وكان فيهم الملك , وكان زكريا من ولد هارون بن عمران أخي موسى. قال مقاتل ويعقوب بن ماثان هو أخو عمران أبي مريم لأن يعقوب وعمران إِبنا ماثان , فروى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَرْحَمُ اللَّهُ زَكَرِيَّآ مَا كَانَ عَلَيهِ مِن وَرثَتِهِ). {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: مرضياً في أخلاقه وأفعاله. الثاني: راضياً بقضائك وقدرك. ويحتمل ثالثاً: أن يريد نبياً.

7

{يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} قوله تعالى: {يَا زَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى} فتضمنت هذه البشرى ثلاثة أشياء: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث: أن يفرد بتسميته. فدل ذلك على أمرين: أحدهما: اختصاصه به. الثاني: على اصطفائه له. قال مقاتل سماه يحيى لأنه صبي بين أب شيخ وأم عجوز

{لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيَّاً} فيه ثلاثة اقاويل: أحدها: أي لم تلد مثله العواقر , قاله ابن عباس. فيكون المعنى لم نجعل له مثلاً ولا نظيراً. الثاني: أنه لم نجعل لزكريا من قبل يحيى ولداً , قاله مجاهد. الثالث: أي لم يسم قبله باسمه أحد , قاله قتادة.

8

{قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} قوله تعالى: { ... أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} أي ولد. {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} أي لا تلد وفي تسميتها عاقراً وجهان: أحدهما: لأنها تصير إذا لم تلد كأنها تعقر النسل أي تقطعه. الثاني: لأن في رحمها عقراً يفسد المني , ولم يقل ذلك عن شك بعد الوحي ولكن على وجه الاستخبار: أتعيدنا شابين؟ أو ترزقنا الولد شيخين؟ {وقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتيّاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني سناً , قاله قتادة. الثاني: أنه نحول العظم , قاله ابن جريج. الثالث: أنه الذي غيره طول الزمان إلى اليبس والجفاف , قاله ابن عيسى قال الشاعر: (إنما يعذر الوليد ولا يعذر ... من كان في الزمان عتياً) قال قتادة: كان له بضع وسبعون سنة وقال مقاتل خمس وتسعون سنة. وقرأ

ابن عباس: {عِسِيّاً} وهي كذلك في مصحف أبي من قولهم للشيخ إذا كبر: قد عسا وعتا ومعناهما واحد.

10

{قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا} قوله تعالى: { ... اجْعَل لِّيءَايَةً} أي علامة وفيها وجهان: أحدهما: أنه سأل الله آية تدله على البشرى بيحيى منه لا من الشيطان لأن إبليس أوهمه ذلك , قاله الضحاك. الثاني: سأله آية تدله على أن امرأته قد حملت. {قَالَءَايَتُكَ أَلاَّ تُكلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: أنه اعتقل لسانه ثلاثاً من غير مرض وكان إذا أراد أن يذكر الله انطلق لسانه وإذا أراد أن يكلم الناس اعتقل , وكانت هذه الآية , قاله ابن عباس الثاني: اعتقل من غير خرس , قاله قتادة والسدي. {سَوِيّاً} فيه تأويلان: أحدهما: صحيحاً من غير خرس , قاله قتادة. الثاني: ثلاث ليال متتابعات , قاله عطية , فيكون السوي على الوجه الأول راجعاً إلى لسانه , وعلى الثاني إلى الليالي. قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ} قال ابن جريج أشرف على قومه من المحراب. وفي {الْمِحْرَابِ} وجهان: أحدهما: أنه مصلاة , قاله ابن زيد. الثاني: أنه الشخص المنصوب للتوجه إليه في الصلاة. وفي تسميته محراباً وجهان:

أحدهما: أنه للتوجه إليه في صلاته كالمُحَارِب للشيطان صلاته. الثاني: أنه مأخوذ من منزل الأشراف الذي يحارب دونه ذباً عن أهله فكأن الملائكة تحارب عن المصلي ذباً عنه ومنعاً منه. {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشيّاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أوصى إليهم , قاله ابن قتيبة. الثاني: أشار إليهم بيده، قاله الكلبي. الثالث: كتب على الأرض. والوحي في كلام العرب الكتابة ومنه قول جرير: (كأن أخا اليهود يخط وحياً ... بكافٍ من منازلها ولام) {أَنَ سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي صلواْ بكرة وعشياً , قاله الحسن وقتادة , وقيل للصلاة تسبيح لما فيها من التسبيح.

12

{يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} وفي قائله قولان: أحدهما: أنه قول زكريا ليحيى حين نشأ. الثاني: قول الله ليحيى حين بلغ. وفي هذا {الْكِتَابَ} قولان: أحدهما: صحف إبراهيم. الثاني: التوراة. {بِقُوَّةٍ} فيه وجهان: أحدهما: بجد واجتهاد، قاله مجاهد.

الثاني: العمل بما فيه من أمر والكف عما فيه من نهي , قاله زيد بن أسلم. {وَءَاتَينَاهُ الْحُكُمَ صَبِيّاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: اللب , قاله الحسن. الثاني: الفهم , قاله مقاتل. الثالث: الأحكام والمعرفة بها. الرابع: الحكمة. قال معمر: إن الصبيان قالوا ليحيى إذهب بنا نلعب فقال ما للعب خلقت , فأنزل الله {وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً}. قاله مقاتل وكان ابن ثلاث سنين. قوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} فيه ستة تأويلات: أحدها: رحمة من عندنا , قاله ابن عباس وقتادة , ومنه قول الشاعر: (أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيكَ بعض الشر أهون من بعض) أي رحمتك وإحسانك. الثاني: تعطفاً , قاله مجاهد. الثالث: محبة , قاله عكرمة. الرابع: بركة , قاله ابن جبير. الخامس: تعظيماً. السادس: يعني آتينا تحنناً على العباد. ويحتمل سابعاً: أن يكون معناه رفقاً ليستعطف به القلوب وتسرع إليه الإِجابة {وَزَكَاةً} فيها هنا ثلاثة تأويلات: أحدها: أنها العمل الصالح الزاكي , قاله ابن جريج. الثاني: زكيناه بحسن الثناء كما يزكي الشهود إنساناً.

الثالث: يعني صدقة به على والديه , قاله ابن قتيبة. {وَكَانَ تَقِيّاً} فيه وجهان: أحدهما مطيعاً لله , قاله الكلبي. الثاني: باراً بوالديه , قاله مقاتل.

16

{واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} يعني في القرآن {إِذ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} فيه وجهان: أحدهما: انفردت , قاله قتادة. الثاني: اتخذت. {مَكَاناً شَرْقِيّاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ناحية المشرق، قاله الأخفش ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. الثاني: مشرقة داره التي تظلها الشمس، قاله عطية. الثالث: مكاناً شاسعاً بعيداً، قاله قتادة. قوله تعالى: {فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: حجاباً من الجدران، قاله السدي.

الثاني: حجاباً من الشمس جعله الله ساتراً , قاله ابن عباس الثالث: حجاباً من الناس , وهو محتمل , وفيه وجهان: أحدهما: أنها اتخذت مكاناً تنفرد فيه للعبادة. الثاني: أنها اتخذت مكاناً تعتزل فيه أيام حيضها. {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الآية: فيه قولان: أحدهما: يعني الروح التي خلق منها المسيح حتى تمثل لها بشراً سوياً. الثاني: أنه جبريل , قاله الحسن وقتادة , والسدي , وابن جريج , وابن منبه. وفي تسميته له روحاً وجهان: أحدهما: لأنه روحاني لا يشوبه شيء غير الروح , وأضافه إليه بهذه الصفة تشريفاً له. الثاني: لأنه تحيا به الأرواح. واختلفوا في سبب حملها على قولين: أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب درعها وكُمِّهَا فَحَمَلَتْ , قاله ابن جريج , منه قول أميه بن أبي الصلت: (فأهوى لها بالنفخ في جيب درعها ... فألقت سويّ الخلق ليس بتوأم) الثاني: أنه ما كان إلا أن حملت فولدته , قاله ابن عباس. واختلفوا في مدة حملها على أربعة أقاويل: أحدها: تسعة أشهر , قاله الكلبي. الثاني: تسعة أشهر. حكى لي ذلك أبو القاسم الصيمري. الثالث: يوماً واحداً. الرابع: ثمانية أشهر , وكان هذا آية عيسى فإنه لم يعش مولوداً لثمانية أشهر سواه.

قوله تعالى: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} لأن مريم خافت جبريل على نفسها حين دنا فقالت {إِنِّي أَعُوذُ} أي أمتنع {بِالرَّحْمَنِ مِنكَ} فاستغاثت بالله في امتناعها منه. فإن قيل: فلم قالت {إن كُنتَ تَقِيّاً} والتقي مأمون وإنما يستعاذ من غير التقي؟ ففيه وجهان: أحدهما: أن معنى كلامها إن كنت تقياً لله فستمتنع من استعاذتي وتنزجر عني من خوفه , قاله أبو وائل. الثاني: أنه كان اسماً لرجل فاجر من بني إسرائيل مشهور بالعهر يُسَمَّى تقياً فخافت أن يكون الذي جاءها هو ذلك الرجل المسمى تقياً الذي لا يأتي إلا للفاحشة فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً , قاله بن عباس.

22

{فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} قوله تعالى: {فَأجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} فيه وجهان: أحدهما: معناه ألجأها , قاله ابن عباس , ومجاهد , وقتادة , ومنه قول الشاعر: (إذ شددنا شدة صادقة ... فأجأناكم إلى سفح الجبل) الثاني: معناه فجأها المخاض كقول زهير: (وجارٍ سارَ معتمداً إلينا ... أجاءته المخافة والرجاء.) وفي قراءة ابن مسعود {فَأَوَاهَا}

{قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها خافت من الناس أن يظنوا بها سوءاً قاله السدي. الثاني: لئلا يأثم الناس بالمعصية في قذفها. الثالث: لأنها لم تَرَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزهها من السوء , قاله جعفر بن محمد رحمهما الله. {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: لم أخلق ولم أكن شيئاً , قاله ابن عباس. الثاني: لا أعرف ولا يدرى من أنا , قاله قتادة. الثالث: النسي المنسي هو السقط , قاله الربيع , وأبو العالية. الرابع: هو الحيضة الملقاة , قاله عكرمة , بمعنى خرق الحيض. الخامس: معناه وكنت إذا ذكرت لم أطلب حكاه اليزيدي. والنسي عندهم في كلامهم ما أعقل من شيء حقير قال الراجز: 89 (كالنسي ملقى بالجهاد البسبس.} 9

24

{فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهآ أَلاَّ تَحْزَنِي} فيه قولان: أحدهما: أن المنادي لها من تحتها جبريل , قاله ابن عباس , وقتادة , والضحاك , والسدي. الثاني: أنه عيسى ابنها , قاله الحسن , ومجاهد. وفي قوله من تحتها وجهان: أحدهما: من أسفل منها في الأرض وهي فوقه على رأسه، قاله الكلبي.

الثاني: من بطنها: قاله بعض المتكلمين , بالقبطية. {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} فيه قولان: أحدهما: أن السريّ هو ابنها عيسى , لأن السري هو الرفيع الشريف مأخوذ من قولهم فلان من سروات قومه أي من أشرافهم , قاله الحسن , فعلى هذا يكون عيسى هو المنادي من تحتها {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} الثاني: أن السريّ هو النهر، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير،

وقتادة، والضحاك، لتكون النخلة لها طعاماً , والنهر لها شراباً، وعلى هذا يكون جبريل هو المنادي لها {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}. الثاني: أنه عربي مشتق من السراية فَسُمِّيَ السريّ لأنه يجري فيه ومنه قول الشاعر: (سهل الخليقة ماجد ذو نائلٍ ... مثل السريّ تمده الأنهار) وقيل: إن اسم السري يطلق على ما يعبره الناس من الأنهار وثباً. وروى أبان بن تغلب في تفسيره القرآن خبراً عن عدد لم يسمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شداد بن ثمامة مصدقاً لبني كعب بن مذحج وكتب له كتاباً: (عَلَى مَا سَقَتْهُ المَرَاسِمُ وَالجَدَاوِلُ وَالنَّوَاهِرُ وَالدَّوَافِعُ العُشْرُ وَنِصْفُ العشر بقيمة عَدْلٍ إِلاَّ الضَّوَامَرَ وَاللَّوَاقِحَ وَمَا َأطل الصور من الجفن. وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِلاَّ العَقِيلَ وَالأَكِيلَ وَالربِيَّ. ومن كل ثلاثين بقرةً جِذْعٌ أَوْ جِذْعَةٌ إِلاَّ العَاقِرَ وَالنَّاشِطَ وَالرَّاشِحَ. وَمِن كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ المُوَّبلَةِ مُسِنَّةٌ مِنَ الغَنَمِ. وَلاَ صَدَقَةَ فِي الخَيلِ وَلاَ فِي الإِبِلِ العَامِلةِ. شَهِدَ جِرِيرٌ بِن عَبدِ اللَّهِ بن جَابرٍ البَجْلِي وَشَدَّادُ بن ثُمَامَةَ وَكَتَبَ المُغِيرَةُ بن شُعْبةِ) فالمراسل العيون , والجداول الأنهار الصغار , والنواهر الدوالي , والدوافع الأودية , والضوامر ما لم تحمل من النخل , واللواقح الفحول , والجفن الكرم , وما أطلاه من الزرع عفو , والعقيل فحل الغنم والأَيل الذي يُرَبَّى للأكل. والربي التي تربي ولدها والعاقر من البقر التي لا تحمل , والناشط الفحل الذي ينشط من أرض إلى أرض والراشح الذي يحرث الأرض. قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ... .} الآية. اختلف في النخلة. على أربعة أقاويل:

أحدها: كانت برنية. الثاني: صرفاتة , قاله أبو داود. الثالث: قريناً. الرابع: عجوة , قاله مجاهد. وفي {الجَنِي} ثلاثة أقاويل: أحدها: المترطب البسر , قاله مقاتل. الثاني: البلح لم يتغير , قاله أبو عمرو بن العلاء. الثالث: أنه الطري بغباره. وقيل لم يكن للنخلة رأس وكان في الشتاء فجعله الله آية. قال مقاتل فاخضرت وهي تنظر ثم حملت وهي تنظر ثم نضجت وهي تنظر. قوله تعالى: {فَكُلِي} يعني من الرطب الجني. {وَاشْرَبِي} يعني من السريّ. {وَقَرِّي عَيْناً} يعني بالولد , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: جاء يقر عينك سروراً , قاله الأصمعي , لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. الثاني: طيبي نفساً , قاله الكلبي. الثالث: تسكن عينك ولذلك قيل ما شيء خير للنفساء من الرطب والتمر. {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} يعني إما للإِنكار عليك وإما للسؤال لك. {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً} فيه تأويلان: أحدهما: يعني صمتاً , وقد قرىء في بعض الحروف: {لِلرَّحَمْنِ صَمْتاً} وهذا تأويل ابن عباس وأنس بن مالك والضحاك. الثاني: صوماً عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة.

{فَلَنْ أُكَلَّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: أنها امتنعت من الكلام ليتكلم عنها ولدها فيكون فيه براءة ساحتها , قاله ابن مسعود ووهب بن منبه وابن زيد. الثاني: أنه كان من صام في ذلك الزمان لم يكلم الناس , فأذن لها في المقدار من الكلام قاله السدي.

27

{فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} قوله تعالى: { ... شَيْئاً فَرِيّاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه القبيح من الإفتراء , قاله الكلبي. الثاني: أنه العمل العجيب , قاله الأخفش. الثالث: العظيم من الأمر , قاله مجاهد , وقتادة , والسدي. الرابع: أنه المتصنع مأخوذ من الفرية وهو الكذب , قاله اليزيدي. الخامس: أنه الباطل. قوله تعالى: {يَآ أُخْتَ هَارُونَ ... } وفي هذا الذي نسبت إليه أربعة أقاويل: أحدها: أنه كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ينسب إليه من يعرف بالصلاح , قاله مجاهد وكعب , والمغيرة بن شعبة يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم

الثاني: أنه هارون أخو موسى فنسبت إليه لأنها من ولده كما يقال يا أخا بني فلان , قاله السدي. الثالث: أنه كان أخاها لأبيها وأمها , قاله الضحاك. الرابع: أنه كان رجلاً فاسقاً معلناً بالفسق ونسبت إليه , قاله ابن جبير. {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} أي زانية. وسميت الزانية بغياً لأنها تبغي الزنا أي تطلبه. قوله تعالى: {فَأشَارَتْ إِلَيْهِ} فيه قولان: أحدهما: أشارت إلى الله فلم يفهموا إشارتها , قاله عطاء. الثاني: أنها أشارت إلى عيسى وهو الأظهر , إما عن وحي الله إليها , وإما لثقتها بنفسها في أن الله تعالى سيظهر براءتها , فأشارت إلى الله إليها , فأشارت إلى عيسى أن كلموه فاحتمل وجهين: أحدهما: أنها أحالت الجواب عليه استكفاء. الثاني: أنها عدلت إليه ليكون كلامه لها برهاناً ببراءتها. {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ} وفي {كَانَ} في هذا الموضع وجهان: أحدهما: أنها بمعنى يكون تقديره من يكون في المهد صبياً قاله ابن الأنباري. الثاني: أنها صلة زائدة وتقديره من هو في المهد , قاله ابن قتيبة. وفي {الْمَهْدِ} وجهان: أحدهما: أنه سرير الصبي المعهود لمنامه.

الثاني: إنه حجرها الذي تربيه فيه , قاله قتادة. وقيل إنهم غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أعظم من زناها , قاله السدي. فلما تكلم قالوا: إن هذا لأمر عظيم. {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} وإنما قدم إقراره بالعبودية ليبطل به قول من ادعى فيه الربوبية وكان الله هو الذي أنطقه بذلك لعلمه بما يتقوله الغالون فيه. {ءَآتَانِيَ الْكِتَابَ} أي سيؤتيني الكتاب. {وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً} فيه وجهان: أحدهما: وسيجعلني نبياً , والكلام في المهد من مقدمات نبوته. الثاني: أنه كان في حال كلامه لهم في المهد نبياً كامل العقل ولذلك كانت له هذه المعجزة , قاله الحسن. وقال الضحاك: تكلم وهو ابن أربعين. [يوماً]. قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: نبياً , قاله مجاهد. الثاني: آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر. الثالث: معلماً للخير , قاله سفيان. الرابع: عارفاً بالله وداعياً إليه. {وأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ} فيها وجهان: أحدهما: الدعاء والإِخلاص. الثاني: الصلوات ذات الركوع والسجود. ويحتمل ثالثاً: أن الصلاة الإِستقامة مأخوذ من صلاة العود إذا قوّم اعوجاجه بالنار. {وَالزَّكَاة. .} فيها وجهان: أحدهما: زكاة المال. الثاني: التطهير من الذنوب.

ويحتمل ثالثاً: أن الزكاة الاستكثار من الطاعة , لأن الزكاة في اللغة النماء والزيادة. قوله تعالى: {وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي} يحتمل وجهين: أحدهما: بما برأها به من الفاحشة. الثاني: بما تكفل لها من الخدمة. {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: أن الجبار الجاهل بأحكامه , الشقي المتكبر عن عبادته. الثاني: أن الجبار الذي لا ينصح , والشقي الذي لا يقبل النصيحة. ويحتمل ثالثاً: أن الجبار الظالم للعباد , والشقي الراغب في الدنيا. قوله تعالى: {وَالْسَّلاَمُ عَلَيَّ ... } الآية. فيه وجهان: أحدهما: يعني بالاسلام السلامة , يعني في الدنيا , {وَيَوْمَ أَمُوتُ} يعني في القبر , {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيَّاً} يعني في الآخرة , لأن له أحوالاً ثلاثاً: في الدنيا حياً , وفي القبر ميتاً , وفي الآخرة مبعوثاً , فسلم في أحواله كلها , وهو معنى قول الكلبي. الثاني: يعني بالسلام {يَوْمَ وُلِدتُّ} سلامته من همزة الشيطان فإنه ليس مولود يولد إلا همزه الشيطان وذلك حين يستهل , غير عيسى فإن الله عصمه منها. وهو معنى قوله تعالى: {وَإِنِّي أُعِذُهَا وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} {وَيَوْْمَ أَمُوتُ} يعني سلامته من ضغطة القبر لأنه غير مدفون في الأرض {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} لم أر فيه على هذا الوجه ما يُرضي.

ويحتمل أن تأويله على هذه الطريقة سلامته من العرض والحساب لأن الله ما رفعه إلى السماء إلا بعد خلاصه من الذنوب والمعاصي. قال ابن عباس ثم انقطع كلامه حتى بلغ مبلغ الغلمان.

34

{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} قوله تعالى: {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحق هو الله تعالى. الثاني: عيسى وسماه حقاً لأنه جاء بالحق. الثالث: هو القول الذي قاله عيسى من قبل. {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يشكّون , قاله الكلبي. الثاني: يختلفون لأنهم اختلفوا في الله وفي عيسى , فقال قوم هو الله , وقال آخرون هو ابن الله , وقال آخرون هو ثالث ثلاثة. وهذه الأقاويل الثلاثة للنصارى. وقال المسلمون: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم. ونسبته اليهود إلى غير رشدة فهذا معنى قوله: {الَّذِي فِيهِ تَفْتَرُونَ} بالفاء معجمة من فوق.

قال ابن عباس ففرّ بمريم ابن عمها معها ابنها إلى مصر فكانواْ فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه.

38

{أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} فيه وجهان: أحدهما: يعني لئن كانوا في لدنيا صماً عمياً عن الحق فما أسمعهم له وأبصرهم به في الآخرة يوم القيامة , قاله الحسن , وقتادة. الثاني: أسمع بهم اليوم وأبصر كيف يصنع بهم يوم القيامة يوم يأتوننا , قاله أبو العالية. ويحتمل ثالثا: أسمع أمَّتَك بما أخبرناك من حالهم فستبصر يوم القيامة ما يصنع بهم. قوله تعالى: {وَأَنذرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} فيه وجهان: أحدهما: يوم القيامة إذا قضي العذاب عليهم، قاله الكلبي.

الثاني: يوم الموت إذ قضى الموت انقطاع التوبة واستحقاق الوعيد , قاله مقاتل.

46

{قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا} قال تعالى: { ... لأَرْجُمَنَّكَ} فيه وجهان: أحدهما: بالحجارة حتى تباعد عني , قاله الحسن. الثاني: لأرجمنك بالذم باللسان والعيب بالقول , قاله الضحاك , والسدي , وابن جريج. {وَاهْجُرنِي مَلِيّاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: دهراً طويلاً , قاله الحسن , ومجاهد , وابن جبير , والسدي , ومنه قول مهلهل. (فتصدعت صم الجبال لموته ... وبكت عليه المرملات ملياً) الثاني: سوياً سليماً من عقوبتي , قاله ابن عباس , وقتادة , والضحاك , وعطاء. الثالث: حيناً، قاله عكرمة. قوله تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيكَ} هذا سلام إبراهيم على أبيه , وفيه وجهان: أحدهما: أنه سلام توديع وهجر لمقامه على الكفر , قاله ابن بحر.

الثاني: وهو أظهر أنه سلام بر وإكرام , فقابل جفوة أبيه بالبر تأدية لحق الأبوة وشكراً لسالف التربية. ثم قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} وفيه وجهان: أحدهما: سأستغفر لك إن تركت عبادة الأوثان. الثاني: معناه سأدعوه لك بالهداية التي تقتضي الغفران. {إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: مُقَرِّباً. الثاني: مُكْرِماً. الثالث: رحيماً , قاله مقاتل. الرابع: عليماً , قاله الكلبي. الخامس: متعهداً.

49

{فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا} قوله تعالى: { ... وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: جعلنا لهم ذكراً جميلاً وثناءً حسناً , قاله ابن عباس , وذلك أن جمع الملك بحسن الثناء عليه. الثاني: جعلناهم رسلاً لله كراماً على الله , ويكون اللسان بمعنى الرسالة: قال الشاعر: (أتتني لسان بني عامر ... أحاديثهما بعد قول ونكر.) ويحتمل قولاً [ثالثاً] أن يكون الوفاء بالمواعيد والعهود.

51

{واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا}

قوله تعالى: {وَنَادَينَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} والطور جبل بالشام ناداه الله من ناحيته اليمنى. وفيه وجهان: أحدهما: من يمين موسى. الثاني: من يمين الجبل , قاله مقاتل. {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قربه من الموضع الذي شرفه وعظمه بسماع كلامه. الثاني: أنه قربه من أعلى الحجب حتى سمع صريف القلم , قاله ابن عباس , وقال غيره: حتى سمع صرير القلم الذي كتب به التوراة. الثالث: أنه قربه تقريب كرامة واصطفاء لا تقريب اجتذاب وإدناء لأنه لا يوصف بالحلول في مكان دون مكان فيقرب من بعد أو يبعد من قرب , قاله ابن بحر. وفي قوله: {نَجِيّاً} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مأخوذ من النجوى , والنجوى لا تكون إلا في الخلوة , قاله قطرب. الثاني: نجاه لصدقه مأخوذ من النجاة. الثالث: رفعه بعد التقريب مأخوذ من النجوة وهو الإِرتفاع , قال الحسن لم يبلغ موسى من الكلام الذي ناجاه به شيئاً.

54

{واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا} قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} وصفه بصدق الوعد لأنه وعد رجلاً أن ينتظره , قال ابن عباس: حولاً حتى أتاه. وقال يزيد الرقاشي: انتظره اثنين وعشرين يوماً. وقال مقاتل: انتظره ثلاثة أيام.

{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ} فيه وجهان: أحدهما: يأمر قومه فسماهم أهله. الثاني: أنه بدأ بأهله قبل قومه. وفي الصلاة والزكاة ما قدمناه. وهو على قوله الجمهور: إسماعيل بن إبراهيم. وزعم بعض المفسرين أنه ليس بإسماعيل بن إبراهيم لأن إسماعيل مات قبل إبراهيم , وإن هذا هو إسماعيل بن حزقيل بعثه الله إل قومه فسلخوا جلدة رأسه , فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه وفوض أمرهم إليه في عفوه أو عقوبته.

56

{واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا} قوله تعالى: { ... . وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} فيه قولان: أحدهما: أن إدريس رفع إلى السماء الرابعة , وهذا قول أنس بن مالك في حديث مرفوع , وأبي سعيد الخدري , وكعب , ومجاهد. الثاني: رفعه إلى السماء السادسة , قاله ابن عباس , والضحاك , وهو مرفوع في السماء.

واختلفوا في موته فيها على قولين: أحدهما: أنه ميت فيها , قاله مقاتل وقيل أنه مات بين السماء الرابعة والخامسة. الثاني: أنه حيّ فيها لم يمت مثل عيسى. روى ابن إسحاق أن إدريس أول من أُعْطِي النبوة من ولد آدم وأول من خط بالقلم , وهو أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم. وحكى ابن الأزهر عن وهب بن منبه أن إدريس أول من اتخذ السلاح وجاهد في سبيل الله وسبى , ولبس الثياب وإنما كانوا يلبسون الجلود , وأول من وضع الأوزان والكيول , وأقام علم النجوم , والله أعلم.

58

{أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} قوله تعالى: { ... خَرّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} أي سُجّداً لله , وبكياً جمع باك , ليكون السجود رغبة والبكاء رهبة. وقد روي في الحديث: (فَهذَا السُّجُودُ فَأَينَ البُكَاءُ؟) يعني هذه الرغبة فأين الرهبة؟ لأن الطاعة لا تخلص إلا بالرغبة والرهبة.

59

{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا}

قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الآية. في الفرق بين الخلْف بتسكين اللام والخلف بتحريكها وجهان: أحدهما: أنه بالفتح إذا خلفه من كان من أهله , وبالتسكين إذا خلفه من ليس من أهله. الثاني: أن الخلْف بالتسكين مستعمل في الذم , وبالفتح مستعمل في المدح قال لبيد: (ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلفٍ كجلد الأجْرب) وفي هذا الخلف قولان: أحدهما: أنهم اليهود من بعد ما تقدم من الأنبياء , قاله مقاتل. الثاني: أنهم من المسلمين. فعلى هذا في قوله {من بَعْدِهِم} قولان: أحدهما: من بعد النبي صلى الله عليه وسلم , من عصر الصحابة وإلى قيام الساعة كما روى الوليد بن قيس حكاه إبراهيم عن عبيدة. الثاني: إنهم من بعد عصر الصحابة. روى الوليد بن قيس عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَكُونُ بَعْدَ سِتِّينَ سَنَةً {خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ}). الآية. وفي إضاعتهم الصلاة قولان: أحدهما: تأخيرها عن أوقاتها , قال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز. الثاني: تركها , قاله القرظي. ويحتمل ثالثاً: أن تكون إضاعتها الإِخلال باستيفاء شروطها.

{فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه واد في جهنم , قالته عائشة وابن مسعود. الثاني: أنه الخسران , قاله ابن عباس. الثالث: أنه الشر , قاله ابن زيد. الرابع: الضلال عن الجنة. الخامس: الخيبة , ومنه قول الشاعر: (فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً) من يغو: أي من يخب.

61

{جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا} قوله تعالى: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} فيه وجهان: أحدهما: الكلام الفاسد. الثاني: الخلف , قاله مقاتل. {إلاَّ سَلاَماً} فيه وجهان:

أحدهما: إلا السلامة. الثاني: تسليم الملائكة عليهم , قاله مقاتل. {وَلَهُمْ رَزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشيًّاً} فيه وجهان: أحدهما: أن العرب إذا أصابت الغداء والعشاء نعمت , فأخبرهم الله أن لهم في الجنة غداء وعشاء , وإن لم يكن في الجنة ليل ولا نهار. الثاني: معناه مقدار البكرة ومقدار العشي من أيام الدنيا , قاله ابن جريج. وقيل إنهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وغلق الأبواب , ومقدار النهار. برفع الحجب وفتح الأبواب. ويحتمل أن تكون البكرة قبل تشاغلهم بلذاتهم , والعشي بعد فراغهم من لذاتهم , لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال.

64

{وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} فيه قولان: أحدهما: أنه قول أهل الجنة: إننا لا ننزل موضعاً من الجنة إلا بأمر الله , قاله ابن بحر. الثاني: أنه قول جبريل عليه السلام , لما ذكر أن جبريل أبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم باثنتي عشرة ليلة , فلما جاءه قال: (غِبْتَ عَنِّي حَتَّى ظَنَّ المُشْرِكُونَ كلَّ ظَنٍ). فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ ربِّكَ} ويحتمل وجهين: أحدهما: إذا أُمِرْنَا نزلنا عليك.

الثاني: إذا أَمَرَكَ ربك نَزَّلَنا عليك الأمر على الوجه الأول متوجهاً إلى النزول , وعلى الثاني متوجهاً إلى التنزيل. {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} فيه قولان: أحدهما: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من الآخرة , {وَمَا خَلْفَنَا} من الدنيا. {وَمَا بَيْنَ ذلِكَ} يعني ما بين النفختين , قاله قتادة. والثاني: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} أي ما مضى أمامنا من الدنيا , {وَمَا خَلْفَنَا} ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة. {وَمَا بَيْن ذلِكَ} ما مضى من قبل وما يكون من بعد , قاله ابن جرير. ويحتمل ثالثاً: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا}: السماء , {وَمَا خلْفَنَا}: الأرض. {وَمَا بَيْنَ ذلِكَ} ما بين السماء والأرض. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: أي ما نسيك ربك. الثاني: وما كان ربك ذا نسيان. قوله عز وجل: { ... . هَل تعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني مِثْلاً وشبيهاً , قاله ابن عباس , ومجاهد , مأخوذ من المساماة. الثاني: أنه لا أحد يسَمى بالله غيره , قاله قتادة , والكلبي. الثالث: أنه لا يستحق أحد أن يسمى إلهاً غيره. الرابع: هل تعلم له من ولد , قاله الضحاك , قال أبو طالب: (أمّا المسمى فأنت منه مكثر ... لكنه ما للخلود سبيلُ)

66

{ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا

خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا} قوله عز وجل: { ... حَوْلَ جَهَنَّمَ} فيها قولان: أحدهما: أن جهنم اسم من أسماء النار. الثاني: أنه إسم لأعمق موضع في النار , كالفردوس الذي هو اسم لأعلى موضع في الجنة. {جِثِيّاً} فيه قولان: أحدهما: [جماعات] , قاله الكلبي والأخفش. الثاني: بُروكاً على الرُّكَب , قاله عطية. قوله عز وجل: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ} الشيعة الجماعة المتعاونون. قال مجاهد: والمراد بالشيعة الأمة لاجتماعهم وتعاونهم. وفي {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ} وجهان: أحدهما: لننادين , قاله ابن جريج. الثاني: لنستخرجن , قاله مقاتل. {عِتِيّاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أهل الإِفتراء بلغة بني تميم , قاله بعض أهل اللغة. الثاني: جرأة , قاله الكلبي. الثالث: كفراً , قاله عطية. الرابع: تمرداً. الخامس: معصية. قوله عز وجل: { ... أَوْلَى بِهَا صليّاً} فيه وجهان:

أحدها: دخولاً , قاله الكلبي. الثاني: لزوماً.

71

{وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} قوله عز وجل: {وَإِنّ مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فيه قولان: أحدهما: يعني الحمى والمرض , قاله مجاهد. روى أبو هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من أصحْابه فيه وعك وأنا معه , فقال رسول الله: (أَبْشِرْ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: هِي نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي المُؤْمِنِ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ) أي في الآخرة. الثاني: يعني جهنم. ثم فيه قولان: أحدهما: يعني بذلك الكافرين يردونها دون المؤمن؛ قاله عكرمة ويكون قوله: {وَإِن مِّنْكُمْ} أي منهم كقوله تعالى: {وَسَقَاهُم رَبُّهُم شَرَاباً طَهُوراً} ثم قال: {إِنَّ هذَا كَانَ لَكُم جَزَاءً} أي لهم. الثاني: أنه أراد المؤمن والكافر. روى ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (الزَّالُّونَ وَالزَّالاَّت يَومَئذٍ كَثِيرٌ) وفي كيفية ورودها قولان:

أحدهما: الدخول فيها. قال ابن عباس: ليردنها كل بر وفاجر. لكنها تمس الفاجر دون البر. قال وكان دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالماً , وأدخلني الجنة عالماً. والقول الثاني: أن ورود المسلم عليها الوصول إليها ناظراً لها ومسروراً بالنجاة منها , قاله ابن مسعود , وذلك مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآء مَدْيَنَ} [القصص: 23] أي وصل. وكقول زهير بن أبي سلمى: (ولما وردن الماء زُرْقاً جِمامُه ... وضعن عِصيَّ الحاضر المتخيمِ) ويحتمل قولاً ثالثاً: أن يكون المراد بذلك ورود عرضة القيامة التي تجمع كل بر وفاجر: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} فيه تأويلان: أحدهما: قضاء مقتضياً , قاله مجاهد. الثاني: قسماً واجباً , قاله ابن مسعود.

73

{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} قوله عز وجل: { ... أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً} فيه وجهان: أحدهما: منزل إقامة في الجنة أو النار. والثاني: يعني كلام قائم بجدل واحتجاج أي: أمّن فلجت حجته بالطاعة

خير أم من دحضت حجته بالمعصية , وشاهده قول لبيد: (ومقام ضيق فرجتهْ ... بلساني وحسامي وجدل) {وَأحْسَنُ نَدِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: أفضل مجلساً. الثاني: أوسع عيشاً. ويحتمل ثالثاً: أيهما خير مقاماً في موقف العرض , من قضى له بالثواب أو العقاب؟ {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} منزل إقامة في الجنة أو في النار , وقال ثعلب: المقام بضم الميم: الإِقامة , وبفتحها المجلس. قوله تعالى: {أَثَاثاً وَرِءْيَاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الأثاث: المتاع , والرئي: المنظر , قاله ابن عباس. قال الشاعر: (أشاقت الظعائن يوم ولوا ... بذي الرئي الجميل من الأثاث.) الثاني: أن الأثاث ما كان جديداً من ثياب البيت , والرئي الارتواء من النعمة. الثالث: الأثاث ما لا يراه الناس. والرئي ما يراه الناس. الرابع: معناه أكثر أموالاً وأحسن صوراً. ويحتمل خامساً: أن الأثاث ما يعد للاستعمال , والرئي ما يعد للجمال.

75

{قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا} قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوُاْ هُدىً} فيه وجهان:

أحدهما: يزيدهم هدى بالمعونة في طاعته والتوفيق لمرضاته. الثاني: الإِيمان بالناسخ والمنسوخ , قاله الكلبي ومقاتل , فيكون معناه: ويزيد الله الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ. ويحتمل ثالثاً: ويزيد الله الذين اهتدوا إلى طاعته هدى إلى الجنة.

77

{أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا} قوله عز وجل: {أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بَئَآياتِنَا ... } اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على قولين: أحدهما: في العاص بن وائل السهمي , قاله جبار وابن عباس ومجاهد. الثاني: في الوليد بن المغيرة , قاله الحسن. { ... مَالاً وَوَلَداً} قرأ حمزة والكسائي {ووُلْداً} بضم الواو , وقرأ الباقون بفتحها , فاختلف في ضمها وفتحها على وجهين: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد , يقال ولَدَ ووُلْد , وعَدَم وعُدْم , وقال الحارث ابن حلزة. (ولقد رأيت معاشراً ... قد ثمَّروا مالاً ووُلْدا) والثاني: أن قيساً الوُلْد بالضم جميعاً , والولد بالفتح واحداً.

وفي قوله تعالى: {لأُتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} وجهان: أحدهما: أنه أراد في الجنة استهزاء بما وعد الله على طاعته وعبادته , قاله الكلبي. الثاني: أنه أراد في الدنيا , وهو قول الجمهور. وفيه وجهان محتملان: أحدهما: إن أقمت على دين آبائي وعبادة ألهتي لأوتين مالاً وولداً. الثاني: معناه لو كنت أقمت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً. {أطَّلَعَ الْغَيْبَ} يحتمل وجهين: أحدهما: معناه أعلم الغيب أنه سيؤتيه على كفره مالاً وولداً. الثاني: أعلم الغيب لما آتاه الله على كفره. {أمِ أتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَن عَهْداً} فيه وجهان: أحدهما: يعني عملاً صالحاً قدمه , قاله قتادة. الثاني: قولاً عهد به الله إليه , حكاه ابن عيسى. قوله عز وجل: {وَنَرِثُه مَا يَقُولُ} فيه وجهان: أحدهما: أن الله يسلبه ما أعطاه في الدنيا من مال وولد. الثاني: يحرمه ما تمناه في الآخرة من من مال وولد. {وَيَأْتِينَا فَرْداً} فيه وجهان: أحدهما: بلا مال ولا ولد. الثاني: بلا ولي ولا ناصر.

81

{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا}

قوله عز وجل: { ... سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: سيجحدون أن يكونوا عبدوها لما شاهدوا من سوء عاقبتها. الثاني: سيكفرون بمعبوداتهم ويكذبونهم. {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أعواناً في خصومتهم , قاله مجاهد. الثاني: قرناء في النار يلعنونهم , قاله قتادة. الثالث: يكونون لهم أعداء , قاله الضحاك. الرابع: بلاء عليهم , قاله ابن زيد. الخامس: أنهم يكذبون على ضد ما قدروه فيهم وأمّلوه منهم , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تزعجهم إزعاجاً حتى توقعهم في المعاصي , قاله قتادة. الثاني: تغويهم إغواء , قاله الضحاك. الثالث: تغريهم إغراء بالشر: إمض إمض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار , قاله ابن عباس. قوله عز وجل: { ... إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نعد أعمالهم عداً , قاله قطرب. الثاني: نعد أيام حياتهم , قاله الكلبي. الثالث: نعد مدة إنظارهم إلى وقت الإِنتقام منهم بالسيف والجهاد , قاله مقاتل.

85

{يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} { ... وَفْداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ركباناً، قاله الفراء. الثاني: جماعة، قاله الأخفش.

الثالث: زوّاراً، قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مشاة، قاله الفراء. الثاني: عطاشاً. الثالث: أفراداً. {إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحَمنِ عَهْداً} فيه وجهان: أحدهما: ...

88

{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} {شَيْئاً إِدّاً} فيه وجهان: أحدهما: منكراً , قاله ابن عباس. الثاني: عظيماً , قاله مجاهد. قال الراجز: 89 (في لهث منه وحبك إدّ} 9

96

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمنُ وُدّاً} فيه وجهان:

أحدهما: حباً في الدنيا مع الأبرار , وهيبة عند الفجار. الثاني: يحبهم الله ويحبهم الناس , قال الربيع بن أنس: إذا أحب الله عبداً ألقى له المحبة في قلوب أهل السماء , ثم ألقاها في قلوب أهل الأرض. ويحتمل ثالثاً: أن يجعل لهم ثناء حسناً. قال كعب: ما يستقر لعبد ثناء في الدنيا حتى يستقر من أهل السماء. وحكى الضحاك عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه جعل له ودّاً في قلوب المؤمنين. قوله عز وجل: {قَوْماً لُّدّاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فجّاراً , قاله مجاهد. الثاني: أهل إلحاح في الخصومة , مأخوذ من اللدود في الأفواه , فلزومهم الخصومة بأفواههم كحصول اللدود في الأفواه , قاله ابن بحر. قال الشاعر: (بغوا لَدَدَي حَنقاً عليَّ كأنما ... تغلي عداوة صدرهم في مِرجل) الثالث: جدالاً بالباطل , قاله قتادة , مأخوذ من اللدود وهو شديد الخصومة. قال الله تعالى: {وَهُوَ الْخِصَامِ} وقال الشاعر: (أبيت نجياً للهموم كأنني ... أخاصم أقواماً ذوي جدلٍ لُدّا) قوله عز وجل: {وِكْزَاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: صوتاً، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. الثاني: حِسّاً، قاله ابن زيد. الثالث: أنه ما لا يفهم من صوت أو حركة، قاله اليزيدي.

سورة طه

طه

{طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} قوله عز وجل: {طه} فيه سبعة أقاويل: أحدها: أنه بالسريانية يا رجل؛ قاله ابن عباس , ومجاهد , وحكى الطبري: أنه بالنبطية يا رجل؛ وقاله ابن جبير , والسدي كذلك. وقال الكلبي: هو لغة عكل , وقال قطرب: هو بلغة طيىء وأنشد ليزيد بن مهلهل: (إن السفاهة (طه) من خليقتكم ... لا قدس الله أرواح الملاعين)

الثاني: أنه اسم من أسماء الله تعالى وَقَسَمٌ أَقْسَمَ بِِهِ , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أنه اسم السورة ومفتاح لها. الرابع: أنه اختصار من كلام خص الله رسوله بعلمه. الخامس: أن حروف مقطعه يدل كل حرف منها على معنى. السادس: معناه: طوبى لمن اهتدى , وهذا قول محمد الباقر بن علي زين العابدين رحمهما الله. السابع: معناه طَإِ الأَرْضَ بقدمك , ولا تقم على إحدى رجليك يعني في الصلاة , حكاه ابن الأنباري. ويحتمل ثامناً: أن يكون معناه طهّر , ويحتمل ما أمره بتطهيره وجهين: أحدهما: طهر قلبك من الخوف. والثاني: طهر أُمَّتَك من الشرك. قوله تعالى: {مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْْءَانَ لِتَشْقَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالتعب والسهر في قيام الليل , قاله مجاهد. الثاني: أنه جواب للمشركين لما قالواْ: إنه بالقرآن شقى , قاله الحسن. الثالث: معناه لا تشْقِ بالحزن والأسف على كفر قومك , قاله ابن بحر. قوله تعالى: {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} فيه وجهان: أحدهما: إلا إنذاراً لمن يخشى الله. والثاني: إلا زجراً لمن يتقي الذنوب. والفرق بين الخشية والخوف: أن الخوف فيما ظهرت أسبابه والخشية فيما لم تظهر أسبابه.

قوله عز وجل: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: له ملك السموات والأرض. الثاني: له تدبيرها. الثالث: له علم ما فيها. وفي { ... الثَّرَى} وجهان: أحدها: كل شيء مُبْتلّّ , قاله قتادة. الثاني: أنه التراب في بطن الأرض , قاله الضحاك. الثاني: أنها الصخرة التي تحت الأرض السابعة , وهي صخرة خضراء وهي سجِّين التي فيها كتاب الفجار , قاله السدي. قوله عز وجل: {وَإِن تَجْهَرْ بَالْقَوْلِ} فم حاجتك إلى الجهر؟ لأن الله يعلم بالجهر وبالسر. {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأخْفَى} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن (السِّرَّ) ما حدَّث به العبد غيره في السر. (وأَخْفَى) ما أضمره في نفسه , ولم يحدّث به غيره , قاله ابن عباس. الثاني: أن السر ما أَضمره العبد في نفسه. وأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد في نفسه قاله قتادة وسعيد بن جبير. الثالث: يعلم أسرار عباده , وأخفى سر نفسه عن خلقه , قاله ابن زيد. الرابع: أن السر ما أسره الناس , وأخفى: الوسوسة , قاله مجاهد. الخامس: أن السر ما أسره من علمه وعمله السالف , وأخفى: وما يعلمه من عمله المستأنف , وهذا معنى قول الكلبي. السادس: السر: العزيمة , وما هو أخفى: هو الهم الذي دون العزيمة.

9

{وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى}

قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} أي قد أتاك حال موسى فيما اجتباه ربه لنبوته وحمله من رسالته. واحتمل ذلك أن يكون ذلك بما قصه عليه في هذا الموضع , واحتمل أن يكون بما عرفه في غيره. {إِذْ رَءَا نَاراً} وكانت عند موسى ناراً , وعند الله نوراً , قال مقاتل: وكانت ليلة الجمعة في الشتاء. {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ} أي أقيموا. والفرق بين المكث والإقامة أن الإقامة تدوم والمكث لا يدوم. {إِنِّي أَنَسْتُ نَاراً} فيه وجهان: أحدهما: رأيت ناراً. والثاني: إني آنست بنار. {لَّعَلِّيءَآتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ} أي بنار تصطلون بها. {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً} فيه وجهان: أحدهما: هادياً يهديني الطريق , قاله قتادة. والثاني: علامة أستدل بها على الطريق. وكانوا قد ضلوا عنه فمكثوا بمكانهم بعد ذهاب موسى ثلاثة أيام حتى مر بهم راعي القرية فأخبره بمسير موسى , فعادوا مع الراعي إلى قريتهم وأقامواْ بها أربعين سنةً حتى أنجز موسى أمر ربه.

11

{فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما

تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} قوله تعالى: {فلمَّآ أتَاهَا} يعني النار , التي هو نور {نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ} وفي هذا النداء قولان: أحدهما: أنه تفرد بندائه. الثاني: أن الله أنطق النور بهذا النداء فكان من نوره الذي لا ينفصل عنه , فصار نداء منه أعلمه به ربه لتسكن نفسه ويحمل عنه أمره فقدم تأديبه بقوله: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} الآية. وفي أمرْه بخلعهما قولان: أحدهما: ليباشر بقدميه بركة الوادي المقدس , قاله علي بن أبي طالب، والحسن، وابن جريج. والثاني: لأن نعليه كانتا من جلد حمار ميت , قاله كعب , وعكرمة , وقتادة. {إِنَكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} فيه وجهان: أحدهما: أن المقدس هو المبارك , قاله ابن عباس , ومجاهد. والثاني: أنه المطهر , قاله قطرب , وقال الشاعر: (وأنت وصول للأقارب مدره ... برىء من الآفات من مقدس) وفي {طُوىً} خسمة تأويلات: أحدها: أنه اسم من طوى لأنه مر بواديها ليلاً فطواه , قاله ابن عباس. الثاني: سمي طوى لأن الله تعالى ناداه مرتين. وطوى في كلامهم بمعنى مرتين , لأن الثانية إذا أعقبتها الأولى صارت كالمطوية عليها. الثالث: بل سمي بذلك لأن الوادي قدس مرتين , قاله الحسن.

الرابع: أن معنى طوى: طَإِ الوادي بقدمك , قاله مجاهد. الخامس: أنه الاسم للوادي قديماً , قاله ابن زيد: فخلع موسى نعليه ورمى بهما وراء الوادي. قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: وأقم الصلاة لتذكرني فيها , قاله مجاهد. والثاني: وأقم الصلاة بذكري , لأنه لا يُدْخَلُ في الصلاة إلا بذكره. الثالث: وأقم الصلاة حين تذكرها , قاله إبراهيم. وروى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ نَسِيَ صَلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا) قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَلاَةَ لِذَكرِي}. قوله تعالى: {أكَادُ أُخْفِيهَا} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أي لا أظهر عليها أحداً , قاله الحسن , ويكون أكاد بمعنى أريد. الثاني: أكاد أخفيها من نفسي , قاله ابن عباس ومجاهد , وهي كذلك في قراة أُبَيّ (أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي) ويكون المقصود من ذلك تبعيد الوصول إلى علمها. وتقديره: إذا كنت أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لك؟ الثالث: معناه أن الساعة آتية أكاد. انقطع الكلام عند أكاد وبعده مضمر أكاد آتي بها تقريباً لورودها , ثم استأنف: أخفيها لتجزى كل نفسٍ بما تسعى. قاله الأنباري , ومثله قول ضابىء البرجمي: (هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تكرت على عثمان تبكي حلائله)

أي كدت أن أقتله , فأضمره لبيان معناه. الرابع: أن معنى - أخفيها: أظهرها , قاله أبو عبيدة وأنشد: (فإن تدفنوا الداءَ لا نخفيه ... وأن تبعثوا الحرب لا نقعد) يقال أخفيت الشيء أي أظهرته وأخفيته إذا كتمته , كما يقال أسررت الشيء إذا كتمته , وأسررته إذا أظهرته. وفي قوله: {وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ} وجهان: أحدهما: أسر الرؤساء الندامة عن الأتباع الذي أضلوهم. والثاني: أسر الرؤساء الندامة. قال الشاعر: (ولما رأى الحجاج أظهر سيفه ... أسر الحروري الذي كان أضمرا) {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} فيه وجهان: أحدهما: أنه على وجه القسم من الله , إن كل نفس تجزى بما تسعى. الثاني: أنه إخبار من الله أن كل نفس تجزى بما تسعى. قوله عز وجل: {فَتَرْدَى} فيه وجهان: أحدهما: فتشقى. الثاني: فتنزل.

17

{وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى}

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ليس هذا سؤال استفهام , وإنما هو سؤال تقرير لئلاّ يدخل عليه ارتياب بعد انقلابها حيةٌ تسعى. {قَالَ هِيَ عَصَايَ} فتضمن جوابه أمرين: أحدهما: الإِخبار بأنها عصا وهذا جواب كافٍ. الثاني: إضافتها إلى ملكه , وهذه زيادة ذكرها ليكفي الجواب بما سئل عنه. ثم أخبر عن حالها بما لم يُسأل عنه ليوضح شدة حاجته إليها واستعانته بها لئلا يكون عابئاً بحملها , فقال: {أَتَوكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَ عَلَى غَنَمِي} أي أخبط بها ورق الشجر لترعاه غنمي. قال الراجز: (أهش بالعصا على أغنامي ... من ناعم الأراك والبشام.) وقرأ عكرمة (وأهس) بسين غير معجمة. وفي الهش والهس وجهان: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد. والثاني: أن معناهما مختلف , فالهش بالمعجمة: خبط الشجر , والهس بغير إعجام زجر الغنم. {وَلِيَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى} أي حاجات أخرى , فنص على اللازم وكنّى عن العارض , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان يطرد بها السباع , قاله مقاتل: الثاني: أنه كان يَقْدَحُ بها النار , ويستخرج الماء بها.

الثالث: أنها كانت تضيء له بالليل , قاله الضحاك.

22

{واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا} قوله عز وجل: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلى عضدك , قاله مجاهد. الثاني: إلى جيبك. الثالث: إلى جنبك فعبر عن الجنب بالجناح لأنه مائل في محل الجناح. قوله عز وجل: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} يحتمل وجهين: أحدهما: لحفظ مناجاته. الثاني: لتبليغ رسالته. {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} يحتمل وجهين: أحدهما: ما لا يطيق. الثاني: في معونتي بالقيام على ما حملتني. {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها عقدة كانت بلسانه من الجمرة التي ألقاها بفيه في صغر عند فرعون.

الثاني: عقدة كانت بلسانه عند مناجاته لربه , حتى لا يكلم غيره إلا بإذنه. الثالث: استحيائه من الله من كلام غيره بعد مناجاته. {يَفْقَهُواْ قَوْلِي} يحتمل وجهين: أحدهما: ببيان كلامه. الثاني: بتصديقه على قوله. {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} وإنما سأل الله أن يجعل له وزيراً إلا أنه لم يرد أن يكون مقصوراً على الوزارة حتى يكون شريكاً في النبوة , ولولا ذلك لجاز أن يستوزره من غير مسألة. {هَارُونَ أَخِي اشدُدْ بِهِ أَزْرِي} فيه وجهان: أحدهما: أن الأزر: الظهر في موضع الحقوين ومعناه فقوّ به نفسي. قال أبو طالب: (أليس أبونا هاشمٌ شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب) الثاني: أن يكون عوناً يستقيم به أمري. قال الشاعر: (شددت به أزري وأيقنت أنه ... أخ الفقر من ضاقت عليه مذاهبه) فيكون السؤال على الوجه الأول لأجل نفسه وعلى الثاني لأجل النبوة. وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين , وكان في جبهة هارون شامة , وكان على أنف موسى شامة , وعلى طرف لسانه [شامه].

36

{قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك

فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى} قوله عز وجل: {وَأَلْقَيتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} فيه أربعة أوجه: أحدها: حببتك إلى عبادي , قاله سلمى بن كميل. الثاني: يعني حسناً وملاحة , قاله عكرمة. الثالث: رحمتي , قاله أبو جعفر (الطبري). الرابع: جعلت من رآك أحبك , حتى أحبك فرعون فسلمت من شره وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك , قاله ابن زيد. ويحتمل خامساً: أن يكون معناه: وأظهرت عليك محبتي لك وهي نعمة عليك لأن من أحبه الله أوقع في القلوب محبته. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عيْنِي} فيه وجهان: أحدهما: لتغذي على إرادتي , قاله قتادة. الثاني: لتصنع على عيني أمك بك ما صنعت من إلقائك في اليم ومشاهدتي.

ويحتمل ثالثاً: لتكفل وتربى على اختياري , ويحتمل قوله: {عَلَى عَيْنِي} وجهين: أحدهما: على اختياري وإرادتي. الثاني: بحفظي ورعايتي. {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحزَنَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تقر عينها بسلامتك ولا تحزن بفراقك. الثاني: تقر بكفالتك ولا تحزن بنفقتك. {وَقَتَلْتَ نَفْساً} يعني القبطي. {فَنَجَّينَاكَ مِنَ الْغَمِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: سلمناك من القَوَد. الثاني: أمناك من الخوف. {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أخبرناك حتى صلحت للرسالة. الثاني: بلوناك بلاء بعد بلاء , قاله قتادة. الثالث: خلصناك تخليصاً محنة بعد محنة , أولها أنها حملته في السنة التي كان يذبح فرعون فيها الأطفال ثم إلقاؤه في اليم , ومنعه الرضاع إلا من ثدي أمه , ثم جره بلحية فرعون حتى همّ بقتله , ثم تناوله الجمرة بدل التمرة , فدرأ ذلك عنه قتل فرعون , ثم مجيىء رجل من شيعته يسعى بما عزموا عليه من قتله قاله ابن عباس. وقال مجاهد: أخلصناك إخلاصاً. {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} فيه وجهان: أحدهما: على قدر الرسالة والنبوة، قاله قاله قتادة. الثاني: على موعدة، قاله قتادة، ومجاهد.

ويحتمل ثالثاً: جئت على مقدار في الشدة وتقدير المدة , قال الشاعر: (نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر)

41

{واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} يحتمل وجهان: أحدهما: خلقتك , مأخوذ من الصنعة. الثاني: اخترتك , مأخوذ من الصنيعة. {لِنَفْسِي} فيه وجهان: أحدهما: لمحبتي. الثاني: لرسالتي. قوله تعالى: {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكرِي} فيه أربعة أقاويل: أحدها: لا تفترا في ذكري , قال الشاعر: (فما ونى محمد مذ أن غفر ... له الإله ما مضى وما غبر) الثاني: لا تضعفا في رسالتي , قاله قتادة. الثالث: لا تبطنا , قاله ابن عباس. الرابع: لا تزالا , حكاه أبان واستشهد بقول طرفة: (كأن القدور الراسيات أمامهم ... قباب بنوها لا تني أبداً تغلي)

قوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} فيه وجهان: أحدهما: لطيفاً رقيقاً. الثاني: كنّياه , قاله السدي وقيل إن كنية فرعون أبو مرة , وقيل أبو الوليد. ويحتمل ثالثاً: أن يبدأه بالرغبة قبل الرهبة , ليلين بها فيتوطأ بعدها من رهبة ووعيد قال بعض المتصوفة: يا رب هذا رفقك لمن عاداك , فكيف رفقك بمن والاك؟ وقيل إن فرعون كان يحسن لموسى حين رباه , فأراد أن يجعل رفقه به مكافأة له حين عجز موسى عن مكافأته.

45

{قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} قوله تعالى: {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنآ} فيه وجهان: أحدهما: أن يعجل علينا , قال الراجز: قد أفرط العلج علينا وعجل. الثاني: يعذبنا عذاب الفارط في الذنب , وهو المتقدم فيه , قاله المبرد ويقال لمن أكثر في الشيء أفرط , ولمن نقص منه فرّط. {أَوْ أَن يَطْغَى} أي يقتلنا.

49

{قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى

قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} قوله تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أعطى كل شيء زوجه من جنسه , ثم هداه لنكاحه، قاله ابن عباس والسدي. الثاني: أعطى كل شيء صورته , ثم هداه إلى معيشته ومطعمه ومشربه , قاله مجاهد قال الشاعر: (وله في كل شيء خلقهُ ... وكذلك الله ما شاء فعل) يعني بالخلقة الصورة. الثالث: أعطى كلاً ما يصلحه , ثم هداه له , قاله قتادة. ويحتمل رابعاً: أعطى كل شيءٍ ما ألهمه من علم أو صناعة وهداه إلى معرفته. قوله تعالى: {فَمَا بَالُ الْقُرونِ الأَُولَى} وهي جمع قرن , والقرن أهل كل عصر مأخوذ من قرانهم فيه. وقال الزجاج: القرن أهل كل عصر وفيه نبي أو طبقة عالية في العلم , فجعله من اقتران أهل العصر بأهل العلم , فإذا كان زمان فيه فترة وغلبة جهل لم يكن قرناً. واختلف في سؤال فرعون عن القرون على أربعة أوجه: أحدها: أنه سأله عنها فيما دعاه إليه من الإيمان , هل كانوا على مثل ما يدعو إليه أو بخلافه. الثاني: أنه قال ذلك له قطعاً للاستدعاء ودفعاً عن الجواب.

الثالث: أنه سأله عن ذنبهم ومجازاتهم. الرابع: أنه لما دعاه إلى الإِقرار بالبعث قال: ما بال القرون الأولى لم تبعث. {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} فرد موسى علم ذلك إلى ربه. {فِي كِتَابٍ} {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أي لم يجعل علم ذلك في كتاب لأنه يضل أو ينسى. ويحتمل إثباته في الكتاب وجهين: أحدهما: أن يكون له فضلاً له وحكماً به. الثاني: ليعلم به ملائكته في وقته. وفي قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} وجهان: أحدهما: لا يخطىء فيه ولا يتركه. الثاني: لا يضل الكتاب عن ربي , ولا ينسى ربي ما في الكتاب , قاله ابن عباس. قال مقاتل: ولم يكن في ذلك [الوقت] عند موسى علم القرون الأولى , لأنه علمها من التوراة , ولم تنزل عليه إلا بعد هلاك فرعون وغرقه.

53

{الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى} قوله تعالى: {لأُوْلِي النُّهَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أولي الحكم.

الثاني: أولي العقل , قاله السدي. الثالث: أولي الورع. وفي تسميتهم بذلك وجهان: أحدهما: لأنهم ينهون النفس عن القبيح. الثاني: لأنه ينتهي إلى آرائهم. {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُءَايَاتِنَا كُلَّهَا} فيه وجهان: أحدهما: حجج الله الدالة على توحيده. الثاني: المعجزات الدالة على نبوة موسى , يعني التي أتاها موسى , وإلا فجميع الآيات لم يرها. {فَكَذَّبَ وَأَبَى} يعني فكذب الخبر وأبى الطاعة. ويحتمل وجهاً آخر: يعني فجحد الدليل وأبى القبول.

57

{قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى} قوله تعالى: {مَكَاناً سُوىً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: منصفاً بينهم. الثاني: عدلاً بيننا وبينك , قاله قتادة والسدي. الثالث: عدلاً وسطاً , قاله أبو عبيدة وأنشد: (وإن أبانا كان حَلّ ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والغزر) الرابع: مكاناً مستوياً يتبين للناس ما بيناه فيه , قاله ابن زيد.

ويقرأ سُوى بضم السين وكسرها , وفيهما وجهان: أحدهما: أن: معناهما واحد وإن اختلف لفظهما. والثاني: أن معناهما , فهو بالضم المنصف , وبالكسر العدل. قوله تعالى: {يَوْمُ الزِّينَةِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه يوم عيد كان لهم , قاله مجاهد وابن جريج والسدي وابن زيد وابن إسحاق. الثاني: يوم السبت , قاله الضحاك. الثالث: عاشوراء , قاله ابن عباس. الرابع: أنه يوم سوق كانوا يتزينون فيها , قاله قتادة.

60

{فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى} قوله تعالى: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} فيه وجهان: أحدهما: لا تفترواْ على الله كذباً بسحركم. الثاني: بتكذيبي وقولكم م جئت به سحر. {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} فيهلككم ويستأصلكم , قال الفرزدق: (وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتاً أو مُجَلَّف)

فالمسحت: المستأصل , والمجلف: المهلك. {فَتَنَازَعُوآ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: فيما هيؤوه من الحبال والعصي , قاله الضحاك. والثاني: فيمن يبتدىء بالإِلقاء. {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى} فيه أربعة أقاويل:

أحدها: أن النجوى التي أسروها أن قالوا: إن كان هذا سحراً فسنغلبه , وإن كان السماء فله أمره , قاله قتادة. الثاني: أنه لما قال لهم {وَيْلَكُمْ} الآية. قالوا: ما هذا بقول ساحر , قاله ابن منبه. الثالث: أنه أسروا النجوى دون موسى وهارون بقولهم , {إنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ... } الآيات , قاله مقاتل والسدي. الرابع: أنهم أسرواْ النجوى. إن غَلَبَنَا موسى اتبعناه , قاله الكلبي. قوله تعالى: {قَالُواْ إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} هذه قراءة أبي عمرو وهي موافقة للإِعراب مخالفة للمصحف. وقرأ الأكثرون: إن هذان الساحران , فوافقوا المصحف فيها , ثم اختلفوا في تشديد إنّ فخففها ابن كثير وحفص فسلما بتخفيف إن من مخالفة المصحف ومن فساد الإِعراب , ويكون معناها: ما هذان إلا ساحران. وقرأ أُبَيّ: إن ذان إلا ساحران , وقرأ باقي القراء بالتشديد: إنَّ هذان لساحران. فوافقوا المصحف وخالفوا ظاهر الإِعراب. واختلف من قرأ بذلك في إعرابه على أربعة أقاويل: أحدها: أن هذا على لغة بلحارث بن كعب وكنانة بن زيد يجعلون رفع الإِثنين ونصبه وخفضه بالألف , وينشدون: (فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لِناباهُ الشجاع لصمّما) والوجه الثاني: لا يجوز أن يحمل القرآن على ما اعتل من اللغات ويعدل به عن أفصحها وأصحها , ولكن في (إن) هاء مضمرة تقديرها إنّه هذان لساحران , وهو قول متقدمي النحويين. الثالث: أنه بَنَى (هذان) على بناء لا يتغير في الإِعراب كما بَنَى الذين على هذه الصيغة في النصب والرفع. الرابع: أن (إن) المشددة في هذا الموضع بمعنى نعم , كما قال رجل لابن الزبير: لعن الله ناقة حملتني إليك , فقال ابن الزبير: إنّ وصاحبها. وقال عبد الله بن قيس الرقيات: (بكى العواذل في الصبا ... ح يلمنني وألومُهُنّة) (ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنْه) أي نعم {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقتِكُمْ الْمُثْلَى} في قائل هذه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه قول السحرة. الثاني: أنه قول قوم فرعون. الثالث: قول فرعون من بين قومه , وإن أشير به إلى جماعتهم. وفي تأويله خمسة أوجه: أحدها: ويذهبا بأهل العقل والشرف. قاله مجاهد. الثاني: ببني إسرائيل , وكانوا أولي عدد ويسار , قاله قتادة.

الثالث: ويذهبا بالطريقة التي أنتم عليها في السيرة قاله ابن زيد. الرابع: ويذهبا بدينكم وعبادتكم لفرعون , قاله الضحاك. الخامس: ويذهبا بأهل طريقتكم المثلى , [والمثلى مؤنث] الأمثل والمراد بالأمثل الأفضل , قال أبو طالب: (وإنا لعمرو الله إن جدّ ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل) قوله تعالى: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: جماعتكم على أمرهم في كيد موسى وهارون. الثاني: معناه أحكموا أمركم , قال الراجز: (يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدوا يوماً وأمري مجمع) أي محكم. {ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً} أي اصطفواْ ولا تختلطواْ. { ... مَنِ اسْتَعْلَى} أي غلب.

65

{قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى} قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ ... } الآية. في أمر موسى للسحرة بالإِلقاء - وإن كان ذلك كفراً لا يجوز أن يأمر به - وجهان: أحدهما: إن اللفظ على صفة الأمر , ومعناه معنى الخبر , وتقديره: إن كان إلقاؤكم عندكم حجة فألقواْ.

الثاني: إن ذلك منه على وجه الاعتبار ليظهر لهم صحة نبوته ووضوح محبته , وأن ما أبطل السحر لم يكن سحراً. وختلفوا في عدد السحرة فحكي عن القاسم بن أبي بزة أنهم كانواْ سبعين ألف ساحر , وحكي عن ابن جريج أنهم كانواْ تسعمائة ساحر , ثلاثمائة من العريش , وثلاثمائة من الفيوم , ويشكون في الثلاثمائة من الإسكندرية , وحكى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانواْ اثنين وسبعين ساحراً , منهم اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل , كانواْ في أول النهار سحرة وفي آخرة شهداء. {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يخيل ذلك لفرعون. الثاني: لموسى كذلك. {فَأَوْجسَ فِي نَفْسِهِ خِيِفَةً مُّوسَى} وفي خوف وجهان: أحدهما: أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهمواْ أنهم فعلواْ مثل فعله وأنه من جنسه. الثاني: لما هو مركوز في الطباع من الحذر. وأوجس: بمعنى أسر. {قُلْنَا لاَ تَخَفْ ... } الآية. تثبيتاً لنفسه , وإزالة لخوفه. قوله تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} أي تأخذه بفيها ابتلاعاً بسرعة , فقيل إنها ابتلعت حمل ثلاثمائة بعير من الحبال والعصي , ثم أخذها موسى ورجعت عصا كما كانت. وفيها قولان: أحدهما: أنها كانت من عوسج , قاله وهب. الثاني: من الجنة , قاله ابن عباس , قال: وبها قتل موسى عوج بن عناق.

{فَأَلْقِيَ السَّحْرةُ سُجَّداً} طاعة لله وتصديقاً لموسى. {قَالُواْءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} أي بالرب الذي دعا إليه هارون وموسى , لأنه رب لنا ولجميع الخلق , فقيل إنهم , ما رفعوا رؤوسهم حتى رأواْ الجنة وثواب أهلها , فعند ذلك.

71

{قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى} {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} وقيل إن امرأة فرعون كانت تسأل: من غلب؟ فقيل لها: موسى وهارون. فقالت: آمنت برب موسى وهارون فأرسل إليها فرعون فقال: فخذواْ أعظم صخرة فحذَّرُوها , فإن أقامت على قولها [فألقوها عليها] , فنزع [الله] روحها , فألقيت الصخرة على جسدها وليس فيه روح. {وَالَّذِي فَطَرَنَا} فيه وجهان: أحدهما: أنه قسم. الثاني: بمعنى [ولا] على الذي فطرنا. {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} فيه وجهان:

أحدهما: فاصنع ما أنت صانع. الثاني: فاحكم ما أنت حاكم. {إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ} يحتمل وجهين: أحدهما: إن التي تنقضي وتذهب هذه الحياة الدنيا , وتبقى الآخرة. قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فيه وجهان: أحدهما: والله خير منك وأبقى ثواباً إن أُطيع , وعقاباً إن عُصِي. الثاني: خير منك ثواباً إن أطيع وأبقى منك عقاباً إن عُصِي.

74

{إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى} قوله عز وجل: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} يحتمل وجهين: أحدهما: لا ينتفع بحياته ولا يستريح بموته , كما قال الشاعر: (ألا من لنفسٍ لا تموت فينقضي ... شقاها ولا تحيا حياة لها طعم) الثاني: أن نفس الكافر معلقة بحنجرته كما أخبر الله عنه فلا يموت بفراقها. ولا يحيا باستقرارها.

77

{ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى} قوله تعالى: {لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى} قال ابن جريج: قال أصحاب.

موسى له: هذا فرعون قد أدركنا , وهذا البحر وقد غشينا , فأنزل الله هذه الآية. أي لا تخاف دركاً من فرعون ولا تخشى من البحر غرقاً إن غشيك.

80

{يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} قوله تعالى: {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تكفروا به. الثاني: لا تدّخرواْ منه لأكثر من يوم وليلة , قال ابن عباس: فدُوّد عليهم ما ادخروه , ولولا ذلك ما دَوّد طعام أبداً. الثالث: لا تستعينوا برزقي على معصيتي. {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} قرىء بضم الحاء وبكسرها ومعناه بالضم ينزل , وبالكسر يجب. {فَقَدْ هَوَى} فيه وجهان: أحدهما: فقد هوى في النار. الثاني: فقد هلك في الدنيا. قوله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي غفار لمن تاب من الشرك {وآمن} يعني بالله ورسوله و {عمل صالحاً} يريد العمل بأوامره والوقوف عند نواهيه. {ثُمَّ اهْتَدَى} فيه ستة تأويلات: أحدها: ثم لم يشك في إيمانه , قاله ابن عباس.

الثاني: لزم الإِيمان حتى يموت , قاله قتادة. الثالث: ثم أخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , قاله الربيع بن أنس. الرابع: ثم أصاب العمل , قاله ابن زيد. الخامس: ثم عرف جزاء عمله من خير بثواب , أو شر بعقاب , قاله الكلبي. السادس: ثم اهتدى في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم , قاله ثابت.

83

{وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} قوله تعالى: {غَضْبَانَ أَسِفاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن الأسف أشد الغضب. الثاني: الحزين , قاله ابن عباس , وقتادة , والسدي. الثالث: أنه الجزع , قاله مجاهد. الرابع: أنه المتندم. الخامس: أنه المتحسِّر. قوله تعالى: {أَلَمْ يَعِدُكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حسناً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه وعدكم النصر والظفر. الثاني: أنه قوله: {وِإِنِّي لَغَفَّارٌ} الآية.

الثالث: التوراة فيها هدى ونور ليعملواْ بما فيها فيستحقواْ ثواب عملهم. الرابع: أنه ما وعدهم به في الآخرة على التمسك بدينه في الدنيا , قاله الحسن. وفي قوله تعالى: {فَأَخَلَفْتُم مَّوْعِدِي} وجهان: أحدهما: أنه وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. {قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بطاقتنا , قاله قتادة والسدي. الثاني: لم نملك أنفسنا عند ذلك للبلية التي وقعت بنا , قاله ابن زيد. الثالث: لم يملك المؤمنون منع السفهاء من ذلك والموعد الذي أخلفوه أن وعدهم أربعين فعدّوا الأربعين عشرين يوماً ليلة وظنوا أنهم قد استكملوا الميعاد , وأسعدهم السامري أنهم قد استكملوه. {وَلْكِنَّا حُمِّلْنآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} أي حملنا من حلي آل فرعون , لأن موسى أمرهم أن يستعيروا من حليهم , قاله ابن عباس , ومجاهد , والسدي. وقيل: جعِلت حملاً. والأوزار: الأثقال , فاحتمل ذلك على وجهين: أحدهما: أن يراد بها أثقال الذنوب لأنهم قد كان عندهم غلول. الثاني: أن يراد أثقال الحمل لأنه أثقلهم وأثقل أرجلهم. قوله تعالى: {فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} الآية. قال قتادة. أن السامري قال لهم حين استبطأ القومُ موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي , فجمعوه ورفعوه للسامري , فصاغ منه عجلاً , ثم ألقى عليه قبضة قبضها من أثر الرسول وهو جبريل , وقال معمر: الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة فلما ألقى القبضة عيه صار عجلاً جَسَداً له خوار.

والخوار صوت الثور , وفيه قولان: أحدهما: أنه صوت حياة خلقه , لأن العجل المُصَاغُ انقلب بالقبضة التي من أثر الرسول فصار حيواناً حياً , قاله الحسن , وقتادة , والسدي , وقال ابن عباس: خار العجل خورة واحدة لم يتبعها مثلها. الثاني: أن خواره وصوته كان بالريح , لأنه عمل فيه خروقاً فإذا دخلت الريح فيه خار ولم يكن فيه حياة , قاله مجاهد. {فقالوا هذا إلهكم وإله موسى} يعني أن السامري قال لقوم موسى بعد فراغه من العجل: هذا إلهكم وإله موسى , يعني ليسرعوا إلى عبادته. {فَنَسِيَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: فنسي السامري إسلامه وإيمانه , قاله ابن عباس. الثاني: فنسي السامري قال لهم: قد نسي موسى إلهه عندكم , قاله قتادة , والضحاك. الثالث: فنسي أن قومه لا يصدقونه في عبادة عجل لا يضر ولا ينفع , قاله ابن بحر. الرابع: أن موسى نسي أن قومه قد عبدوه العجل بعده , قاله مجاهد. {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} يعني أفلا يرى بنو إسرائيل أن العجل الذي عبدوه لا يرد عليهم جواباً. {وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً}؟ فكيف يكون إِلهاً. قال مقاتل: لما مضى من موعد موسى خمسة وثلاثون يوماً أمر السامري بني إسرائيل أن يجمعواْ ما استعاروه من حلي آل فرعون , وصاغه عجلاً في السادس والثلاثين والسابع والثامن ودعاهم إلى عبادة العجل في التاسع فأجابوه , وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين.

90

{ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني

وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} قوله تعالى: {قَالَ يَا هارُونَ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ} يعني بعبادة العجل. {أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} فيه وجهان: أحدهما: ألا تتبعني في الخروج ولا تقم مع من ضل. الثاني: ألا تتبع عادتي في منعهم والإِنكار عليهم , قاله مقاتل. {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وقال موسى لأخيه هارون: أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين فلمّا أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإِنكار عليهم نسبه إلى العصيان ومخالفة أمره. {قَالَ يَا بْنَ أُمَّ} فيه قولان: أحدهما: لأنه كان أخاه لأبيه وأمه. الثاني: أنه كان أخاه لأبيه دون أمه , وإنما قال يا ابن أم ترفيقاً له واستعطافاً. {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} فيه قولان: أحدهما: أنه أخذ شعره بيمينه , ولحيته بيسراه , قاله ابن عباس. الثاني: أنه أخذ بأذنه ولحيته , فعبر عن الأذن بالرأس , وهو قول من جعل الأذن من الرأس. واختلف في سبب أخذه بلحيته ورأسه على ثلاثة أقوال:

أحدها: ليسر إليه نزول الألواح عليه , لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة. وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوبة , فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ليشتبه سراره على بني إسرائيل. الثاني: فعل ذلك لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل إلى بني إسرئيل فيما فعلوه من أمر العجل , ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. الثالث: وهو الأشبه - أنه فعل ذلك لإِمساكه عن الإِنكار على بني إسرئيل الذين عبدوا العجل ومقامه بينهم على معاصيهم. {إِنِّي خَشيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرآئِيلَ} وهذا جواب هارون عن قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وفيه وجهان: أحدهما: فرقت بينهم بما وقع من اختلاف معتقدهم. الثاني: [فرقت] بينهم بقتال مَنْ عَبَدَ العجل منهم. وقيل: إنهم عبدوه جميعاً إلا اثني عشر ألفاً بقوا مع هارون لم يعبدوه. {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} فيه وجهان: أحدهما: لم تعمل بوصيتي , قاله مقاتل. الثاني: لم تنتظر عهدي , قاله أبو عبيدة.

95

{قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا} قوله عز وجل: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} الخطب ما يحدث من الأمور الجليلة التي يخاطب عليها، قال الشاعر:

{كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد ءاتيناك من لدنا ذكرا، من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حِملاً} (آذنت جارتي بوشك رحيل ... بكرا جاهرت بخطب جليل) وفي السامري قولان: أحدهما أنه كان رجلاً من أهل كرمان , تبع موسى من بني إسرائيل , قاله الطبري , وكان اسمه موسى بن ظفر. أحدهما: أنه كان رجلاً من أهل كرمان , تبع موسى من بني إسرئيل , قاله الطبري , وكان اسمه موسى بن ظفر. وفي تسميته بالسامري قولان: أحدهما: أنه كان من قبيلة يقال لها سامرة , قاله قتادة. الثاني: لأنه كان من قرية تسمى سامرة. {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} فيه وجهان: أحدهما: نظرت ما لم ينظروه , قاله أبو عبيدة. الثاني: بما لم يفطنواْ له , قاله مقاتل. وفي بصرت وأبصرت وجهان: أحدهما: أنَّ معناهما واحد. الثاني: أن معناها مختلف , بأبصرت بمعنى نظرت , وبَصُرت بمعنى فطنت. {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً} قرأه الجماعة بالضاد المعجمة , وقرأ الحسن بصاد غير معجمة , والفرق بينهما أن القبضة بالضاد المعجمة , بجميع الكف , وبصاد غير معجمة: بأطراف الأصابع {مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} فيه قولان: أحدهما: أن الرسول جبريل.

وفي معرفته قولان: أحدهما: لأنه رآه يوم فلق البحر فعرفه. الثاني: أن حين ولدته أمه [جعلته في غار]- حذراً عليه من فرعون حين كان يقتل بني إسرائيل وكان جبريل يغذوه صغيراً لأجل البلوى , فعرفه حين كبر , فأخذ قبضة تراب من حافر فرسه وشدها في ثوبه {فَنَبَذْتُهَا} يعني فألقيتها , وفيه وجهان: أحدهما: أنه ألقاها فيما سبكه من الحلي بصياغة العجل حتى خار بعد صياغته. الثاني: أنه ألقاها في جوف العجل بعد صياغته حتى ظهر خواره , فهذا تفسيره على قول من جعل الرسول جبريل. والقول الثاني: أن الرسول موسى , وأن أثره شريعته التي شرعها وسنته التي سنها , وأن قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَأ} أي طرحت شريعة موسى ونبذت سنته , ثم اتخذت العجل جسداً له خوار. {وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} فيه وجهان: أحدهما: حدثتني نفسي. قاله ابن زيد. الثاني: زينت لي نفسي , قاله الأخفش. قوله عز وجل: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} فيه قولان: أحدهما: أن قوله: {فَاذْهَبْ} وعيد من موسى , ولذا [فإن] السامري خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع الوحوش والسباع , لا يجد أحداً من الناس يمسه , حتى صار كالقائل لا مساس , لبعده عن الناس وبعد الناس منه. قالت الشاعرة: (حمال رايات بها قنعاسا ... حتى يقول الأزد لا مساسا)

القول الثاني: أن هذا القول من موسى [كان] تحريماً للسامري , وأن موسى أمر بني إسرائيل ألا يؤاكلوه ولا يخالطوه , فكان لا يَمَسُّ وَلاَ يُمَسُّ , قال الشاعر: (تميم كرهط السامري وقوله ... ألا لا يريد السامري مساسا) أي لا يُخَالِطُونَ وَلاَ يُخَالَطُون. {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: في الإِمهال لن يقدم. الثاني: في العذاب لن يؤخر. قوله عز وجل: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} فيه وجهان: أحدهما: أحاط بكل شيء حتى لم يخرج شيء من علمه. الثاني: وسع كل شيء علماً حتى لم يخل شيء عن علمه به.

102

{يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما} قوله عز وجل: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئَذٍ زُرْقاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: عُمياً , قاله الفراء. الثاني: عطاشاً قد أزرقت عيونهم من شدة العطش , قاله الأزهري. الثالث: تشويه خَلْقِهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم. الرابع: أنه الطمع الكاذب إذ تعقبته الخيبة , وهو نوع من العذاب. الخامس: أن المراد بالزرقة شخوص البصر من شدة الخوف , قال الشاعر:

(لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر ... كما كل ضبي مِن اللؤم أزرق) قوله عز وجل: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ} أي يتسارُّون بينهم , من قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] أي لا تُسرّ بها. {إن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} العشر على طريق التقليل دون التحديد وفيه وجهان: أحدهما: إن لبثتم في الدنيا إلا عشراً , لما شاهدوا من سرعة القيامة , قاله الحسن. الثاني: إن لبثتم في قبوركم إلاّ عشراً لما ساواه من سرعة الجزاء. قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: نحن أعلم بما يقولونه مما يتخافتون به بينهم. الثاني: نحن أعلم بما يجري بينهم من القول في مدد ما لبثوا. {إذ يقول أمثلهم طريقةً} فيه وجهان: أحدهما: أوفرهم عقلاً. الثاني: أكبرهم سداداً. {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} لأنه كان عنده أقصر زماناً وأقل لبثاً , ثم فيه وجهان: أحدهما: لبثهم في الدنيا. الثاني: لبثهم في القبور.

105

{ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا} قوله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} فيه قولان: أحدهما: أنه يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها كما يذري الطعام.

الثاني: تصير كالهباء. {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} في القاع ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الموضع المستوي الذي لا نبات فيه , قاله ابن عباس , ومجاهد , وابن زيد. الثاني: الأرض الملساء. الثالث: مستنقع الماء , قاله الفراء. وفي الصفصف وجهان: أحدهما: أنه ما لا نبات فيه , قاله الكلبي. الثاني: أنه المكان المستوي , كأنه قال على صف واحد في استوائه , قاله مجاهد. {لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلآَ أَمْتاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: عوجاً يعني وادياً , ولا أمتاً يعني ربابية , قاله ابن عباس. الثاني: عوجاً يعني صدعاً , ولا أمتاً يعني أكمة , قاله الحسن. الثالث: عوجاً يعني ميلاً. ولا أمتاً يعني أثراً , وهو مروي عن ابن عباس. الرابع: الأمت الجذب والانثناء , ومنه قول الشاعر:

89 (ما في انطلاق سيره من أمت} 9 قاله قتادة. الخامس: الأمت أن يغلظ مكان في الفضاء أو الجبل , ويدق في مكان , حكاه الصولي , فيكون الأمت من الصعود والارتفاع. قوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ} قال ابن عباس: أي خضعت بالسكون , قال الشاعر: (لما آتى خبر الزبير تصدعت ... سور المدينة والجبال الخشع) {إلاَّ هَمْساً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الصوت الخفي , قاله مجاهد. الثاني: تحريك الشفة واللسان , وقرأ أُبيّ: فلا ينطقون إلا همساً. الثالث: نقل الأقدام , قال ابن زيد , قال الراجز: 89 (وهن يمشين بنا هَمِيسا} 9 يعني أصوات أخفاف الإِبل في سيرها.

109

{يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} قوله عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} فيه خسمة أوجه: أحدها: أي ذلت , قاله ابن عباس. الثاني: خشعت , قاله مجاهد , والفرق بين الذل والخشوع - وإن تقارب معناهما - هو أنّ الذل أن يكون ذليل النفس , والخشوع: أن يتذلل لذي طاعة. قال أمية بن الصلت: (وعنا له وجهي وخلقي كله ... في الساجدين لوجهه مشكورا) الثالث: عملت , قاله الكلبي. الرابع: استسلمت، قاله عطية العوفي.

الخامس: أنه وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود , قاله طلق بن حبيب. {الْقَيُّومِ} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه القائم على كل نفس بما كسبت , قاله الحسن. الثاني: القائم بتدبير الخلق. الثالث: الدائم الذي لا يزول ولا يبيد. {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} يعني شركاً. قوله تعالى: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} فيه وجهان: أحدهما: فلا يخاف الظلم بالزيادة في سيئاته , ولا هضماً بالنقصان من حسناته , قاله ابن عباس , والحسن , وقتادة. الثاني: لا يخاف ظلماً بأن لا يجزى بعمله , ولا هضماً بالانتقاص من حقه , قاله ابن زيد , والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله , [والهضم] المنع من بعضه , والهضم ظلم وإن افترقا من وجه , قال المتوكل الليثي: (إن الأذلة واللئام لمعشر ... مولاهم المتهضم المظلوم)

113

{وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما} قوله تعالى: {أوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: حذراً , قاله قتادة. الثاني: شرفاً لإِيمانهم , قاله الضحاك. الثالث: ذِكراً يعتبرون به.

قوله تعالى: { ... . وَلاَ تَعْجَل بِالْقُرءَانِ} الآية. فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لا تسأل إنزاله قبل أن يقضى , أي يأتيك وحيه. الثاني: لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله , قاله عطية. الثالث: لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من إبلاغه , لأنه كان يعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل من إبلاغه خوف نسيانه , قاله الكلبي. {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: زدني أدباً في دينك , لأن ما يحتاج إليه من علم دينه لنفسه أو لأمته لا يجوز أن يؤخره الله عنده حتى يلتمسه منه. الثاني: زدني صبراً على طاعتك وجهاد أعدائك , لأن الصبر يسهل بوجود العلم. الثالث: زدني علماً بقصص أنبيائك ومنازل أوليائك. الرابع: زدني علماً بحال أمتي وما تكون عليه من بعدي. ووجدت للكلبي جواباً. الخامس: معناه: {وَقُل رَّبِّ زَدِنِي عِلْماً} لأنه كلما ازداد من نزول القرآن عليه ازداد علماً به.

115

{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما

سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنآ إِلَىءَادَمَ ... } فيه تأويلان: أحدهما: يعني فترك أمر ربه , قاله مجاهد. الثاني: أنه نسي من النسيان والسهو , قال ابن عباس: إنما أخذ الإِنسان من أنه عهد إليه فنسي. { ... وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: صبراً , قاله قتادة. الثاني: حفظاً قاله عطية. الثالث: ثباتاً. قال ابن أمامة: لو قرنت أعمال بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه على حلمهم , وقد قال الله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}. الرابع: عزماً في العودة إلى الذنب ثانياً. قوله عز وجل: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} يعني أنت وزوجك لأنهما في استواء العلة واحد. ولم يقل: فتشقيا لأمرين: أحدهما: لأنه المخاطب دونها. الثاني: لأنه الكادّ والكاسب لها , فكان بالشقاء أخص.

123

{قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} وعمل بما فيه {فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} لا يضل في الدنيا ولا يشقى.

قال ابن عباس: ضمن الله لمن يقرأ القرآن ويعمل بما فيه ألاّ يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: كسباً حراماً , قاله عكرمة. الثاني: أن يكون عيشه منغَّصاً بأن ينفق من لا يوقن بالخلف , قاله ابن عباس. الثالث: أنه عذاب القبر , قاله أبو سعيد الخدري وابن مسعود وقد رفعه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الرابع: أنه الطعام الضريع والزقوم في جهنم , قاله الحسن , وقتادة , وابن زيد. والضنك في كلامهم الضيق قال , عنترة: (إن المنية لو تمثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل) ويحتمل خامساً: أن يكسب دون كفايته. {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أعمى في حال , وبصير في حال. الثاني: أعمى عن الحجة , قاله مجاهد. الثالث: أعمى عن وجهات الخير لا يهتدي لشيء منها.

127

{وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على

ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: بأن جعل الجزاء يوم القيامة , قاله ابن قتيبة. الثاني: بتأخيرهم إلى يوم بدر. {لَكَاَن لِزَاماً} فيه وجهان: أحدهما: لكان عذاباً لازماً. الثاني: لكان قضاء , قاله الأخفش. {وَأَجَلٌ مُسَمّىً} فيه وجهان: أحدهما: يوم بدر. والثاني: يوم القيامة , قاله قتادة. وقال في الكلام تقديم وتأخير , وتقديره: ولولا كلمة وأجل مسمى لكان لزاماً. قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} يعني من الإِيذاء والافتراء. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} قبل طلوع الشمس صلاة الفجر , وقبل غروبها صلاة العصر. {وَمِنْءَانآءِ اللَّيْلِ ... } ساعاته , وأحدها إنىً , وفيه وجهان: أحدهما: هي صلاة الليل كله , قاله ابن عباس. الثاني: هي صلاة المغرب والعشاء والآخرة. { ... أَطْرَافِ النَّهَارِ} فيه وجهان: أحدهما: صلاة الفجر لأنها آخر النصف الأول , وأول النصف الثاني: قاله قتادة. الثاني: أنها صلاة التطوع، قاله الحسن.

{لَعَلّكَ تَرْضَى} أي تعطى , وقرأ عاصم والكسائي {تُرضى} بضم التاء يعني لعل الله يرضيك بكرامته , وقيل بالشفاعة.

131

{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} قوله عز وجل: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... } فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد بمد العين النظر. الثاني: أراد به الأسف. {أَزْوَاجاً} أي أشكالاً , مأخوذ من المزاوجة. {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال قتادة: زينة الحياة الدنيا. {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} يعني فيما متعاناهم به من هذه الزهرة , وفيه وجهان: أحدهما: لنفتنهم أي لنعذبهم به , قاله ابن بحر. الثاني: لنميلهم عن مصالحهم وهو محتمل. {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فيه وجهان: أحدهما: أنه القناعة بما يملكه والزهد فيما لا يملكه. الثاني: وثواب ربك في الآخرة خير وأبقى مما متعنا به هؤلاء في الدنيا. ويحتمل ثالثاً: أن يكون الحلال المُبْقِي خيراً من الكثير المُطْغِي. وسبب نزولها ما رواه أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف من يهودي طعاماً فأبى أن يسلفه إلا برهن , فحزن وقال: (إني لأمين في السماء وأمين في الأرض , أحمل درعي إليه) فنزلت هذه الآية.

وروى أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى: من لم يتأدب بأدب الله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. قوله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلََكَ بِالصَّلاَةِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد أهله المناسبين له. والثاني: أنه أراد جميع من اتبعه وآمن به , لأنهم يحلون بالطاعة له محل أهله. {وَاصْطَبِرْ عَلَيهَا} أي اصبر على فعلها وعلى أمرهم بها. {وَلاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم فالمراد به جميع الخلق أنه تعالى يرزقهم ولا يسترزقهم , وينفعهم ولا ينتفع بهم , فكان ذلك أبلغ في الامتنان عليهم. {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أي وحسن العاقبة لأهل التقوى.

133

{وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى} {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} أي منتظر , ويحتمل وجهين: أحدهما: منتظر النصر على صاحبه. الثاني: ظهور الحق في عمله. {فَتَرَبَّصُواْ} وهذا تهديد. {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} يحتمل وجهين: أحدهما: فستعلمون بالنصر من أهدى إلى دين الحق. الثاني: فستعلمون يوم القيامة من أهدى إلى طريق الجنة , والله أعلم. .

سورة الأنبياء بسم الله الرحمن الرحيم

الأنبياء

{اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} قوله عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي اقترب منهم , وفيه قولان: أحدهما: قرب وقت عذابهم , يعني أهل مكة , لأنهم استبطؤواْ ما وُعِدواْ به من العذاب تكذيباً , فكان قتلهم يوم بدر , قاله الضحاك. الثاني: قرب وقت حسابهم وهو قيام الساعة. وفي قربه وجهان: أحدهما: لا بُد آت , وكل آت قريب. الثاني: لأن الزمان لكثرة ما مضى وقلة ما بقي قريب. {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} يحتمل وجهين:

أحدهما: في غفلة بالدنيا معرضون عن الآخرة. الثاني: في غفلة بالضلال , معرضون عن الهدى. قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} التنزيل مبتدأ التلاوة لنزوله سورة بعد سورة. وآية بعد آية , كما كان ينزله الله عليه في وقت بعد وقت. {إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ} أي استمعوا تنزيله فتركوا قبوله. {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أي يلهون. الثاني: يشتغلون. فإن حمل تأويله على اللهو احتمل ما يلهون به وجهين: أحدهما: بلذاتهم. الثاني: بسماع ما يتلى عليهم. وإن حمل تأويله على الشغل احتمل ما يشتغلون به وجهين: أحدهما: بالدنيا , لأنها لعب كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20]. الثاني: يتشاغلون بالقَدْحِ فيه والاعتراض عليه. قال الحسن: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل. قوله عز وجل: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يعني غافله باللهو عن الذكر , قاله قتادة. الثاني: مشغلة بالباطل عن الحق , قاله ابن شجرة , ومنه قول امرىء القيس:

(فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محوِلِ) أي شغلتها عن ولدها. ولبعض أصحاب الخواطر وجه ثالث: أنها غافلة عما يراد بها ومنها. {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} فيه وجهان: أحدهما: ذكره ابن كامل أنهم أخفوا كلامهم الذي يتناجون به , قاله الكلبي. الثاني: يعني أنهم أظهروه وأعلنوه , وأسروا من الأضداد المستعملة وإن كان الأظهر في حقيقتها أن تستعمل في الإِخفاء دون الإِظهار إلا بدليل. {هَلْ هَذَآ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} إنكاراً منهم لتميزه عنهم بالنبوة. {أَفَتأتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} ويحتمل وجهين: أحدهما: أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر. الثاني: أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعرفون الحق. قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أهاويل أحلام رآها في المنام , قاله مجاهد. الثاني: تخاليط أحلام رآها في المنام , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر: 89 (كضعث حلمٍ غُرَّ منه حالمه.} 9 الثالث: أنه ما لم يكن له تأويل , قاله اليزيدي. وفي الأحلام تأويلان: أحدهما: ما لم يكن له تأويل ولا تفسير , قاله الأخفش. الثاني: إنها الرؤيا الكاذبة , قاله ابن قتيبة , ومنه قول الشاعر: (أحاديث طسم أو سراب بفدفَدٍ ... ترقوق للساري وأضغاث حالم)

7

{وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين} قوله عز وجل: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} الآية. فيهم ثلاثة أوجه: أحدها: أهل التوراة والإِنجيل , قاله الحسن , وقتادة. الثاني: أنهم علماء المسلمين , قاله علي رضي الله عنه. الثالث: مؤمنو أهل الكتاب , قاله ابن شجرة. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً ... } الآية. فيه وجهان: أحدهما: معناه وما جعلنا الأنبياء قبلك أجساداً لا يأكلون الطعام ولا يموتون فنجعلك كذلك , وذلك لقولهم: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] قاله ابن قتيبة. الثاني: إنما جعلناهم جسداً يأكلون الطعام وما كانواْ خالدين , فلذلك جعلناك جسداً مثلهم , قاله قتادة. قال الكلبي: أو الجسد هو الجسد الذي فيه الروح ويأكل ويشرب , فعلى مقتضى هذا القول يكون ما لا يأكل ولا يشرب جسماً. وقال مجاهد: الجسد ما لا يأكل ولا يشرب , فعلى مقتضى هذا القول يكون ما يأكل ويشرب نفساً.

10

{لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين}

قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلنا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} الآية. فيه خمسة تأويلات: أحدها: فيه حديثكم , قاله مجاهد. الثاني: مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم , قاله سفيان. الثالث: شرفكم إن تمسكتم به وعملتم بما فيه , قاله ابن عيسى. الرابع: ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. الخامس: العمل بما فيه حياتكم , قاله سهل بن عبد الله. قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنآ} أي عيانواْ عذابنا. {إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من القرية. الثاني: من العذاب , والركض: الإِسراع. قوله تعالى: {لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي نعمكم , والمترف المنعم. {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لعلكم تسألون عن دنياكم شيئاً , استهزاء بهم , قاله قتادة. الثاني: لعلكم تقنعون بالمسألة , قاله مجاهد. الثالث: لتسألوا عما كنتم تعملون , قاله ابن بحر. قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ} يعني ما تقدم ذكره من قولهم {يا ويلنا إنا كنا ظالمين}. {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} فيه قولان: أحدهما: بالعذاب , قاله الحسن. الثاني: بالسيف , قال مجاهد: حتى قتلهم بختنصر. والحصيد قطع الاستئصال كحصاد الزرع. والخمود: الهمود كخمود النار

إذا أطفئت، فشبه خمود الحياة بخمود النار , كما يقال لمن مات قد طفىء تشبيهاً بانطفاء النار.

16

{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَتَّخِذَ لَهْواً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ولداً , قاله الحسن. الثاني: أن اللهو النساء , قاله مجاهد. وقال قتادة: اللهو بلغة اهل اليمن المرأة. قال ابن جريج: لأنهم قالواْ: مريم صاحبته وعيسى ولده. الثالث: أنه اللهو الذي هو داعي الهوى ونازع الشهوة , كما قال الشاعر: (ويلعينني في اللهو أن لا أحبه ... وللهو داعٍ لبيب غير غافلِ) {لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} أي من عندنا إن كنا فاعلين. قال ابن جريج: لاتخذنا نساء وولداً من أهل السماء وما اتخذنا من أهل الأرض. {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} فيه وجهان: أحدهما: وما كنا فاعلين , قاله ابن جريج. الثاني: أنه جاء بمعنى الشرط , وتقدير الكلام لو كنا لاتخذناه بحيث لا يصل علمه إليكم. قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الحق الكلام المتبوع , والباطل المدفوع. ومعنى يدمغه أي يذهبه ويهلكه كالمشجوج تكون دامغة في أم رأسه تؤدي لهلاكه. الثاني: أن الحق القرآن , والباطل إبليس.

الثالث: أن الحق المواعظ والباطل المعاصي , قاله بعض أهل الخواطر. ويحتمل رابعاً: أن الحق الإِسلام , والباطل الشرك. {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} فيه وجهان: أحدهما: هالك , قاله قتادة. الثاني: ذاهب , قاله ابن شجرة. قوله عز وجل: {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لا يملون , قاله ابن زيد. الثاني: لا يعيون , قاله قتادة. الثالث: لا يستنكفون , قاله الكلبي. الرابع: لا ينقطعون , مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالإِعياء , قال الشاعر: (بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب)

21

{أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُواْءَالِهَةً مِّنَ الأَرْضِ} أي مما خلق في الأرض. {هُمُ يُنشِرُونَ} فيه قولان: أحدهما: يخلقون , قاله قطرب. الثاني: قاله مجاهد , يحيون , يعني الموتى , يقال: أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا , مأخوذ من النشر بعد الطي , قال الشاعر: (حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجباً للميت الناشِر)

قوله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمآ} يعني في السماء والأرض. {ءالهِةٌ إِلاَّ اللَّهُ} فيه وجهان: أحدهما: معناه سوى الله , قاله الفراء. الثاني: أن (إلا) الواو , وتقديره: لو كان فيهما آلهة والله لفسدتا , أي لهلكتا بالفساد فعلى الوجه الأول يكون المقصود به إبطال عباد غيره لعجزه عن أن يكون إلهاً لعجزه عن قدرة الله , وعلى الوجه الآخر يكون المقصود به إثبات وحدانية الله عن أن يكون له شريك يعارضه في ملكه. قوله عز وجل: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يسأل الخلق الخالق عن قضائه في خلقه , وهو يسأل الخلق عن عملهم , قاله ابن جريج. الثاني: لا يسأل عن فعله , لأن كل فعله صواب وهولا يريد عليه الثواب , وهم يسألون عن أفعالهم , لأنه قد يجوز أن تكون في غير صواب , وقد لا يريدون بها الثواب إن كانت صواباً فلا تكون عبادة , كما قال تعالى: {ليسأل الصادقين عن صدقهم} [الأحزاب: 8]. الثالث: لا يُحْاسَب على أفعاله وهم يُحْسَبُونَ على أفعالهم , قاله ابن بحر. ويحتمل رابعاً: لا يؤاخذعلى أفعاله وهم يؤاخذون على أفعالهم.

24

{أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من

خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} قوله تعالى: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} فيه وجهان: أحدهما: هذا ذكر من معي بما يلزمهم من الحلال والحرام , وذكر من قبلي ممن يخاطب من الأمم بالإِيمان , وهلك بالشرك , قاله قتادة. الثاني: ذكر من معي بإخلاص التوحيد في القرآن , وذكر من قبلي في التوراة والإِنجيل , حكاه ابن عيسى. قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما ما بين أيديهم من أمر الآخرة , وما خلفهم من أمر الدنيا , قاله الكلبي. الثاني: ما قدموا وما أخروا من عملهم , قاله ابن عباس. وفيه الثالث: ما قدموا: ما عملوا , وما أخروا: يعني ما لم يعملوا , قاله عطية. {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} فيه وجهان: أحدهما: لا يستغفرون في الدنيا إلا لمن ارتضى. الثاني: لا يشفعون يوم القيامة إلا لمن ارتضى. وفيه وجهان: أحدهما: لمن ارتضى عمله , قاله ابن عيسى. الثاني: لمن رضي الله عنه , قاله مجاهد.

30

{أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا

محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} قوله عز جل: {أَنَّ السَّموَاتِ وَألأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن السموات والأرض كانتا ملتصقتين ففتق الله بينهما بالهواء , قاله ابن عباس. الثاني: أن السموات كانت مرتتقة مطبقة ففتقها الله سبع سموات وكانت الأرض كذلك ففتقها سبع أرضين , قاله مجاهد. الثالث: أن السموات كانت رتقاً لا تمطر , والأرض كانت رتقاً لا تنبت , ففتق السماء بالمطر , والأرض بالنبات , قاله عكرمة , وعطية , وابن زيد. والرتق سدُّ , والفتق شق , وهما ضدان , قال عبد الرحمن بن حسان: (يهون عليهم إذا يغضبو ... ن سخط العداة وإرغامُها) (ورتق الفتوق وفتق الرتو ... ق ونقض الأمور وإبرامها) {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن خلق كل شيء من الماء , قاله قتادة. الثاني: حفظ حياة كل شيء حي بالماء , قاله قتادة. الثالث: وجعلنا من ماء الصلب كل شيء حي , قاله قطرب. {أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} يعني أفلا يصدقون بما يشاهدون. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} والرواسي الجبال , وفي تسميتها بذلك وجهان:

أحدهما: لأنها رست في الأرض وثبتت , قال الشاعر: (رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرعٌ لا يزال طويل) الثاني: لأن الأرض بها رست وثبتت. وفي الرواسي من الجبال قولان: أحدهما: أنها الثوابت: قاله قطرب. الثاني: أنها الثقال قاله الكلبي. {أَن تَمِيدَ بِهِم} فيه وجهان: أحدهما: لئلا تزول بهم. الثاني: لئلا تضطرب بهم. الميد الاضطراب. {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} في الفجاج وجهان: أحدهما: أنها الأعلام التي يهتدى بها. الثاني: الفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع بين جبلين. قال الكميت: (تضيق بنا النجاح وهنّ فج ... ونجهل ماءها السلم الدفينا) {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: سبل الاعتبار ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم. الثاني: مسالك ليهتدوا بها إلى طرق بلادهم. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: محفوظاً من أن تسقط على الأرض. الثاني: محفوظاً من الشياطين , قاله الفراء. الثالث: بمعنى مرفوعاً , قاله مجاهد. ويحتمل رابعاً: محفوظاً من الشرك والمعاصي. قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فيه قولان: أحدهما: أن الفلك السماء، قاله السدي.

الثاني: أن القطب المستدير الدائر بما فيه من الشمس والقمر والنجوم ومنه سميت فلكة المغزل لاستدارتها , قال الشاعر: (باتت تقاسي الفلك الدّوار ... حتى الصباح تعمل الأقتار) وفي استدارة الفلك قولان: أحدهما: أنه كدوران الأكرة. الثاني: كدوران الرحى قاله الحسن , وابن جريج. واختلف في الفلك على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه السماء تدور بالشمس والقمر والنجوم. الثاني: أنه استدارة في السماء تدور فيها النجوم مع ثبوت السماء , قاله قتادة. الثالث: أنها استدارة بين السماء والأرض تدور فيها النجوم , قاله زيد بن أسلم. {يَسْبَحُونَ} وجهان: أحدهما: يجرون , قاله مجاهد. الثاني: يدورون قاله ابن عباس , فعلى الوجه الأول يكون الفلك مديرها , وعلى الثاني تكون هي الدائرة في الفلك.

34

{وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} قوله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} فيها أربعة أوجه: أحدها: بالشدة والرخاء , قاله ابن عباس. الثاني: أن الشر: الفقر والمرض، والخير الغنى والصحة، قاله الضحاك.

الثالث: أن الشر: غلبة الهوى على النفس، والخير: العصمة من المعاصي، قاله التستري. الرابع: ما تحبون وما تكرهون. لنعلم شكركم لما تحبون , وصبركم على ما تكرهون، قاله ابن زيد. {فِتْنَةً} فيه وجهان: أحدهما: اختباراً. الثاني: ابتلاء.

36

{وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون} قوله عز وجل: {خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فيه قولان: أحدهما: أن المعنيّ بالإِنسان آدم , فعلى هذا في قوله: {مِنْ عَجَلٍ} ثلاثة تأويلات: أحدها: أي معجل قبل غروب الشمس من يوم الجمعة وهو آخر الأيام الستة , قاله مجاهد والسدي. الثاني: أنه سأل ربه بعد إكمال صورته ونفخ الروح في عينيه ولسانه أن يعجل إتمام خلقه وإجراء الروح في جميع جسده، قاله الكلبي. الثالث: أن معنى {من عجل} أي من طين، ومنه قول الشاعر:

(والنبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل) والقول الثاني: أن المعنى بالإِنسان الناس كلهم , فعلى هذا في قوله: {من عجل} ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني خلق الإِنسان عجولاً , قاله قتادة. الثاني: خلقت العجلة في الإِنسان قاله ابن قتيبة. الثالث: يعني أنه خلق على حُب العجلة. والعجلة تقديم الشيء قبل وقته , والسرعة تقديمه في أول أوقاته.

41

{ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون} قوله عز وجل: {قُلْ مَن يَكْلُؤُكُم ... } الآية. أي يحفظكم , قال ابن هرمة: (إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها) ومخرج اللفظ مخرج الاستفهام , والمراد به النفي , تقديره: قل لا حافظ لكم بالليل والنهار من الرحمن. قوله تعالى: {. . وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يجارون , قاله ابن عباس , من قولهم: إن لك من فلان صاحباً، أي مجيراً، قال الشاعر: (ينادي بأعلى صوته متعوذاً ... ليصحب منها والرماح دواني) الثاني: يحفظون، قاله مجاهد.

الثالث: ينصرون، وهو مأثور. الرابع: ولا يصحبون من الله بخير، قاله قتادة.

44

{بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} قوله تعالى: {نأَتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} فيه أربعة أوجه: أحدها: ننقصها من أطرافها عند الظهور عليها أرضاً بعد أرض وفتحها بلداً بعد بلد , قاله الحسن. الثاني: بنقصان أهلها وقلة بركتها , قاله ابن أبي طلحة. الثالث: بالقتل والسبي , حكاه الكلبي. الرابع: بموت فقهائها وعلمائها , قاله عطاء , والضحاك. ويحتمل خامساً: بجور ولاتها وأمرائها.

48

{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون}

قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: التوراة التي فرق فيها بين الحق والباطل , قاله مجاهد , وقتادة. الثاني: هو البرهان الذي فرق بين حق موسى وباطل فرعون , قاله ابن زيد. الثالث: هو النصر والنجاة فنصر موسى وأشياعه , وأهلك فرعون وأتباعه قال الكلبي.

51

{ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين} قوله عز وجل: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ} فيه وجهان: أحدهما: رشْده: النبوة , حكاه ابن عيسى. الثاني: هو أن هداه صغيراً , قاله مجاهد , وقتادة. {مِن قَبْلُ} فيه وجهان: أحدهما: من قبل أن يرسل نبياً. الثاني: من قبل موسى وهارون. {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: عالمين أنه أهل لإِيتاء الرشد. الثاني: أنه يصلح للنبوة.

57

{وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه

لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} قراءة الجمهور بضم الجيم , وقرأ الكسائي وحده بكسرها , وفيه وجهان: أحدهما: حُطاماً , قاله ابن عباس , وهو تأويل من قرأ بالضم. الثاني: قِطعاً مقطوعة , قال الضحاك: هو أن يأخذ من كل عضوين عضواً ويترك عضواً وهذا تأويل من قرأ بالكسر , مأخوذ من الجذ وهو القطع , قال الشاعر: (جَّذذ الأصنام في محرابها ... ذاك في الله العلي المقتدر) {قَالُواْ فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} أي بمرأى من الناس. {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يشهدون عقابه , قاله ابن عباس. الثاني: يشهدون عليه بما فعل , لأنهم كرهواْ أن يعاقبوه بغير بينة , قاله الحسن , وقتادة , والسدي. الثالث: يشهدون بما يقول من حجة , وما يقال له من جواب , قاله ابن كامل. قوله تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم , فجعل إضافة الفعل إليهم مشروطاً بنطقهم تنبيهاً لهم على فساد اعتقادهم.

الثاني: أن هذا القول من إبراهيم سؤال إلزام خرج مخرج الخبر وليس بخبر , ومعناه: أن من اعتقد أن هذه آلهة لزمه سؤالها , فلعله فعله [كبيرهم] فيجيبه إن كان إلهاً ناطقاً. {إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ} أي يخبرون , كما قال الأحوص: (ما الشعر إلا خطبةٌ من مؤلفٍ ... لمنطق حق أو لمنطق باطل)

64

{فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} قوله تعالى: {فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن رجع بعضهم إلى بعض. الثاني: أن رجع كل واحد منهم إلى نفسه متفكراً فيما قاله إبراهيم , فحاروا عما أراده من الجواب فأنطقهم الله تعالى الحق {فَقَالُواْ: إِنَّكم أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} يعني في سؤاله , لأنها لو كانت آلهة لم يصل إبراهيم إلى كسرها , ولو صحبهم التوفيق لآمنوا هذا الجواب لظهور الحق فيه على ألسنتهم. {ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءوسِهِمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أنها رجعوا إلى شِركهم بعد اعترافهم بالحق. الثاني: يعني أنهم رجعواْ إلى احتجاجهم على إبراهيم بقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلآءِ يَنطِقُونَ}. الثالث: أنهم نكسواْ على رؤوسهم واحتمل ذلك منهم واحداً من أمرين: إما انكساراً بانقطاع حجتهم , وإما فكراً في جوابهم فأنطقهم الله بعد ذلك بالحجة إذعاناً لها وإقراراً بها , بقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلآءِ يَنطِقُونَ} فأجابهم إبراهيم بعد اعترافهم بالحجة.

68

{قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين} {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُواْءَالِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} وفي الذي أشارعليهم بذلك قولان: أحدهما: أنه رجل من أعراب فارس يعني أكراد فارس , قاله ابن عمر , ومجاهد. وابن جريج. الثاني: أنه هيزون فخسف الله به الأرض وهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل إن إبراهيم حين أوثق ليلقى في النار فقال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين , لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. وقال عبد الله بن عمر: كانت كلمة إبراهيم حين أُلقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل. قال قتادة: فما أحرقت النار منه إلا وثاقه. قال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. وقال كعب: لم يبق في الأرض يومئذ إلا من يطفىء عن إبراهيم النار , إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه , فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها. قال الكلبي: بنواْ له أتوناً ألقوه فيه , وأوقدوا عليه النار سبعة أيام , ثم أطبقوه عليه وفتحوه من الغد , فإذا هو عرق أبيض لم يحترق , وبردت نار الأرض فما أنضجت يومئذ كراعاً.

قوله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} جعل الله فيها برداً يدفع حرها , وحراً يدفع بردها , فصارت سلاماً عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل (سلاماً) لكان بردها أشد عليه من حرها , ولو لم يقل (على إبراهيم) لكان بردها باقيا على الأبد.

71

{ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين} قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً} قيل إن لوط كان ابن أخي إبراهيم فآمن به , قال تعالى: {فَأَمَنَ لَهُ لُوطُ} [العنكبوت: 26] فلذلك نجاهما الله. {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [فيه] ثلاثة أقاويل: أحدها: من أرض العراق إلى أرض الشام قاله قتادة , وابن جريج. الثاني: إلى أرض بيت المقدس , قاله أبو العوام. الثالث: إلى مكة , قاله ابن عباس. وفي بركتها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن منها بعث الله أكثر الأنبياء. الثاني: لكثرة خصبها ونمو نباتها. الثالث: عذوبة مائها وتفرقه في الأرض منها. قال أبو العالية: ليس ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس , ثم يتفرق في الأرض. قال كعب الأحبار , والذي نفسي بيده إن العين التي بدارين لتخرج من تحت هذه الصخرة , يعني عيناً في البحر.

قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن النافلة الغنيمة , قال لبيد: 89 (لله نافلة الأفضل.} 9 الثاني: أن النافلة الابن , حكاه السدي. الثالث: أنها الزيادة في العطاء. وفيما هو زيادة قولان: أحدهما: أن يعقوب هو النافلة , لأنه دعا بالولد فزاده الله ولد الولد , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أن إسحاق ويعقوب هما جميعاً نافلة , لأنهما زيادة على ما تقدم من النعمة عليه , قاله مجاهد , وعطاء. قوله وجل: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} فيه تأويلان: أحدهما: أنه القضاء بالحق بين الخصوم قاله ابن عيسى. الثاني: النبوة , قاله ... ... . . {عِلْمَاً} يعني فهماً. {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيةِ الَّتي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَآئِثَ} وهي قرية سدوم. وفي الخبائث التي كانوا يعملونها قولان: أحدهما: اللواط. الثاني: الضراط {ونجيناه} قيل من قلب المدائن ورمي الحجارة.

76

{ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين}

قوله تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} يعني إذ دعانا على قومه من قبل إبراهيم. {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ويحتمل وجهاً آخر إذ نجيناه من أذية قومه حين أغرقهم الله. ويحتمل ثالثاً: نجاته من مشاهدة المعاصي في الأرض بعد أن طهرها الله بالعذاب. {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: نصرناه عليهم بإجابة دعائه فيهم. الثاني: معناه خلصناه منهم بسلامته دونهم.

78

{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين} قوله عز وجل: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكَمَانِ فِي الْحَرْثِ} فيه قولان: أحدها: أنه كان زرعاً وقعت فيه الغنم ليلاً , قاله قتادة. الثاني: كان كرماً نبتت عناقيده , قاله ابن مسعود , وشريح. {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قال قتادة: النفش رعي الليل , والهمل: رعي النهار , قال الشاعر: (متعلقة بأفناء البيوت ... ناقشاً في عشا التراب)

{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وفي حكمهما قولان: أحدهما: أنه كان متفقاً لم يختلفا فيه , لأن الله حين أثنى عليهم دل على اتقافهما في الصواب ويحتمل قوله تبارك وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا} على أنه فضيلة له على داود لأنه أوتي الحكم في صغره , وأوتي داود الحكم في كبره , وإن اتفقا عليه ولم يختلفا فيه لأن الأنبياء معصومون من الغلط والخطأ لئلا يقع الشك في أمورهم وأحكامهم , وهذا قول شاذ من المتكلمين. والقول الثاني: وهو قول الجمهور من العلماء والمفسرين أن حكمهما كان مختلفاً أصاب فيه سليمان , واخطأ داود , فأما حكم سليمان فإنه قضى لصاحب الحرث , وأما حكم سليمان فإنه رأى أن يدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بدرّها ونسلها , ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليأخذ بعمارته , فإذا عاد في السنة ابن مسعود , ومجاهد. فرجع داود إلى قضاء سليمان فحكم به , فقال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فجعل الحق معه وفي حكمه , ولا يمتنع وجود الغلط والخطأ من الأنبياء كوجوده من غيرهم. لكن لا يقرون عليه وإن أقر عليه غيرهم , ليعود الله بالحقائق لهم دون خلقه , ولذلك تسمى بالحق وتميز به عن الخلق. واختلف القائلون بهذا في حمله على العموم في جميع الأنبياء على قولين: أحدهما: أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم مخصوص منهم بجواز الخطأ عليهم دونه قاله أبو علي بن أبي هريرة رضي الله عنه , وفرق بينه وبين غيره من جميع الأنبياء , لأنه خاتم الأنبياء فلم يكن بعده من يستدرك غلطه , ولذلك عصمه الله منه , وقد بعث بعد غيره من الأنبياء مَنْ يستدرك غلطه. والقول الثاني: أنه على العموم في جميع الأنبياء , وأن نبينا وغيره من الأنبياء في تجويز الخطأ على سواء , إلا أنهم لا يقرون على إمضائه , فلم يعتبر فيه استدراك مَنْ بعدهم من الأنبياء , فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سألته امرأة عن العدة،

فقال لها: (اعْتَدِّي حَيْثُ شِئْتِ) ثم قال: (يَا سُبْحَانَ اللَّهِ , امْكُثِي فِي بَيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ) وقال رجل: أرأيتَ إن قُتِلتُ صابراً محتسباً أيحجزني عن الجنة شيء؟ فقال: (لاَ) , ثم دعاه فقال: (إِلاَّ الدَّينُ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ). ولا يوجد منه إلاّ ما جاز عليه. ثم قال تعال: {وَكُلاًّءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن القضاة قد هلكوا , ولكنه أثنى على سليمان على صوابه وعذر داود باجتهاده. فإن قيل: فكيف نقض داود حكمه باجتهاد سليمان؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: يجوز أن يكون داود ذكر حكمه على الإِطلاق وكان ذلك منه على طريق الفتيا فذكره لهم ليلزمهم إياه , فلما ظهر له ما هو أقوى في الاجتهاد منه عاد إليه. الثاني: أنه يجوز أن يكون الله أوحى بهذا الحكم إلى سليمان فلزمه ذلك , ولأجل النص الوارد بالوحي رأى أن ينقض اجتهاده , لأن على الحاكم أن ينقض حكمه بالاجتهاد إذا خالف نصاً. على أن العلماء قد اختلفوا في الأنبياء , هل يجوز لهم الاجتهاد في الأحكام؟ فقالت طائفة يجوز لهم الاجتهاد لأمرين: أحدهما: أن الاجتهاد في الاجتهاد فضيلة , فلم يجز أن يحرمها الأنبياء.

الثاني: أن الاجتهاد أقوى فكان أحبها , وهم [في] التزام الحكم به أولى , وهذا قول من جوز من الأنبياء وجود الغلط. وقال الآخرون: لا يجوز للأنبياء أن يجتهدوا في الأحكام , لأن الاجتهاد إنما يلجأ إليه الحاكم لعدم النص , والأنبياء لا يعدمون النص لنزول الوحي عليهم , فلم يكن لهم الإجتهاد وهذا قول من قال بعصمة الأنبياء من الغلط والخطأ فأما ما استقر عليه شرعنا فيما أفسدته البهائم من الزرع فقد روى سعيد بن المسيب أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً وأفسدته , فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أهل المواشي بحفظ مواشيهم ليلاً , وعلى أهل الحوائط بحفظ حوائطهم نهاراً , فصار ما أفسدته البهائم بالليل مضموناً , وما أفسدته نهاراً غير مضمون لأن حفظها شاق على أربابها , ولا يشق عليهم حفظها نهاراً , فصار الحفظ في الليل واجباً على أرباب المواشي فضمنوا ما أفسدته مواشيهم , والحفظ في النهار واجباً على أرباب الزروع , فلم يحكم لهم - مع تقصيرهم - بضمان زرعهم , وهذا من أصح قضاء وأعدل حكم , رفقاً بالفريقين , وتسهيلاً على الطائفتين , فليس ينافي هذا ما حكم داود [به] وسليمان عليهما السلام من أصل الضمان , لأنهما حكما به في رعي الليل , وإنما يخالف من صفته , فإن الزرع في شرعنا مضمون لأنهما حكما بنقصانه من زائد وناقص , ولا تعرض للبهائم المفسدة إذا وصل الضمان إلى المستحق. ثم قال تعالى: {وَكُلاًّءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه أتى كل واحد منهما من الحكم والعلم مثل ما آتى الآخر وفي المراد بالحكم والعلم وجهان محتملان: أحدهما: أن الحكم القضاء , والعلم الفتيا. الثاني: أن الحكم الاجتهاد , والعلم النص.

قوله عز وجل: {وَسَخَّرْنَا مََعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ} يحتمل وجهين: أحدهما: ذللنا. الثاني: ألهمنا. {يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} وفي تسبيحها ثلاثة أوجه: أحدها: أن سيرها معه هو تسبيحها , قاله ابن عيسى , والتسبيح مأخوذ من السباحة. الثاني: أنها صلواتها معه , قاله قتادة. الثالث: أنه تسبيح مسموع كان يفهمه , وهذا قول يحيى بن سلام. قوله عز وجل: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ ... } فيه وجهان: أحدهما: اللبوس الدرع الملبوس , قاله قتادة. الثاني: أن جيمع السلاح لبوس عند العرب. {لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأسِكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: من سلاحكم , قاله ابن عباس. الثاني: حرب أعدائكم , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} معناه وسخرنا لسليمان الريح , والعصوف شدة حركتها والعصف التبن , فسمي به شدة الريح لأنها تعصفه لشدة تكسيرها له. {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} هي أرض الشام , وفي بركتها ثلاثة أقاويل: أحدها: بمن بعث فيها من الأنبياء. الثاني: أن مياه أنهار الأرض تجري منها. الثالث: بما أودعها الله من الخيرات , قاله قتادة: ما نقص من الأرض زيد في أرض الشام , وما نقص من الشام زيد في فلسطين , وكان يقال هي أرض المحشر والمنشر.

وكانت الريح تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء. قال مقاتل: وسليمان أول من استخرج اللؤلؤ بغوص الشياطين.

83

{وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي} الآية. حكى الحسن البصري: أن أيوب آتاه الله مالاً وولداً فهلك ماله , ومات أولاده , فقال: ربِّ قد أَحْسَنْتَ إِليَّ الإِحسانَ كُلَّه , كنتُ قبل اليوم شَغَلَنِي حُبُّ المالِ بالنهارِ , وشَغَلَنِي حُبُّ الولدِ بالليلِ , فالآن أُفَرِغُ لك سمعي وبصري وليلي ونهاري بالحمد والذكر فلم ينفذ لإِبليس فيه مكر , ولا قدر له على فتنة , فَبُلِي في بَدَنِهِ حتى قرح وسعى فيه الدود , واشتد به البلاء حتى طرح على مزبلة بني إسرائيل , ولم يبق أحد يدنو منه غير زوجته صبرت معه , تتصدق وتطعمه , وقد كان آمن به ثلاثة من قومه , رفضوا عند بلائه , وأيوب يزداد حمداً لله وذكراً , وإبليس يجتهد في افتتانه فلا يصل إليه حتى شاور أصحابه , فقالوا: أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته , فقالوا شأنك أيوب من قبل امرأته قال: أصبتم فأتاها فذكر لها ضر أيوب بعد جماله وماله وولده , فصرخت , فطمع عدو الله فيها , فأتاها بسخلة , فقال ليذبح أيوب هذه السخلة لي ويبرأ , فجاءت إلى أيوب فصرخت وقالت يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ولا يرحمك؟ أين المال؟ أين الولد؟ أين لونك الحسن؟ قد بلى , وقد تردد الدواب , اذبح هذه السخلة واسترح. قال لها أيوب أتاك عدو الله فنفخ فيك فوجد فيك رفقاً فأجبتيه؟ أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والشباب والصحة من أعطانيه؟ فقالت الله , قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة , قال: منذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟

فقالت: منذ سبع سنين وأشهر قال: ويلك والله ما أنصفت ربك , ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة , ثم طردها وقال: ما تأتيني به عليَّ حرام إن أكلته , فيئس إبليس من فتنته. ثم بقي أيوب وحيداً فخر ساجداً وقال: ربِّ , {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأنتَ أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وفيه خمسة أوجه: أحدها: أن الضر المرض , قاله قتادة. الثاني: أنه البلاء الذي في جسده , قاله السدّي , حتى قيل إن الدودة كانت تقع من جسده فيردها في مكانها ويقول: كلي مما رزقك الله. الثالث: أنه الشيطان كما قال في موضع آخر {أنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بنُصُبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] قاله الحسن. الرابع: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض , فقال: مسني الضر , إخباراً عن حاله , لا شكوى لبلائه , رواه أنس مرفوعاً.

الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوماً فخاف هجران ربه , فقال: مسني الضر , وهذا قول جعفر الصادق رحمه الله. وفي مخرج قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} أربعة أوجه: أحدها: أنه خارج مخرج الاستفهام , وتقديره أيمسني الضر وأنت أرحم الراحمين. الثاني: أنت أرحم بي أن يمسني الضر. الثالث: أنه قال [ذلك] استقالة من ذنبه ورغبة إلى ربه. الرابع: أنه شكا ضعفه وضره استعطافاً لرحمته , فكشف بلاءه فقيل له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ} [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين , فاغتسل منها وشرب فذهب باطن دائه وعاد إليه شبابه وجماله , وقام صحيحاً , وضاعف الله له ما كان من أهل ومال وولده. ثم إن امرأته قالت: إن طردني فإلى من أكلِه؟ فَرَجَعَتْ فلم تَرَهُ , فجعلت

تطوف وتبكي , وأيوب يراها وتراه فلا تعرفه فلما سألته عنه وكلمته فعرفته , ثم إن الله رحمها لصبرها معه على البلاء , فأمره أن يضربها بضِغث ليبّر في يمينه , قاله ابن عباس. وكانت امرأته ماخيرا بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب. {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ}. قال ابن مسعود: رد الله إليه أهله الذين أهلكهم بأعيانهم , وأعطاه مثلهم معهم. قال الفراء كان لأيوب سبع بنين وسبع بنات فماتواْ في بلائه , فلما كشف الله ضره رَدّ عليه بنيه وبناته وولد له بعد ذلك مثلهم , قال الحسن: وكانوا ماتوا قبل آجالهم فأحياهم الله فوفاهم آجالهم , وأن الله أبقاه حتى أعطاهم من نسلهم مثلهم.

85

{وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين} قوله تعالى: {وَذَا الْكِفْلِ} فيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن نبياً وكان عبداً صالحاً كُفِلَ لنبي قيل إنه اليسع بصيام النهار وقيام الليل , وألا يغضب , ويقضي بالحق , فوفى به فأثنى الله عليه , قاله أبو موسى , ومجاهد , وقتادة. الثاني: أنه كان نبياً كفل بأمر فوفى به , قاله الحسن. وفي تسميته بذي الكفل ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه كان ... .

الثاني: لأنه كفل بأمر فوفى به. الثالث: لأن ثوابه ضعف ثواب غيره ممن كان في زمانه.

87

{وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ} وهو يونس بن متى , سمي بذلك لأنه صاحب الحوت , كما قال تعالى: {فَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] والحوت النون , نسب إليه لأنه ابتلعه , ومنه قول الشاعر: (يا جيد القصر نِعم القصر والوادي ... وجيداً أهله من حاضر بادي) (توفي قراقره والوحش راتعه ... والضب والنون والملاح والحادي) يعني أنه يجتمع فيه صيد البر والبحر , وأهل المال والظهر , وأهل البدو والحضر. {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني مراغماً للملك وكان اسمه حزقيا ولم يكن به بأس , حكاه النقاش. الثاني: مغاضباً لقومه , قاله الحسن. الثالث: مغاضباً لربه , قاله الشعبي , ومغاضبته ليست مراغمة , لأن مراغمة الله كفر لا تجوز على الأنبياء , وإنما هي خروجه بغير إذن , فكانت هي معصيته. وفي سبب ذهابه لقومه وجهان:

أحدهما: أنه كان في خُلُقِه ضيق , فلما حملت عليه أثقال النبوة ضاق ذرعه بها ولم يصبر لها , وكذلك قال الله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل} [الأحقاف: 35] قاله وهب. الثاني: أنه كان من عادة قومه أن من كذب قتلوه , ولم يجربواْ عليه كذباً , فلما أخبرهم أن العذاب يحل بهم ورفعه الله عنهم , قال لا أرجع إليهم كذّاباً , وخاف أن يقتلوه فخرج هارباً. {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: فظن أن لن نضيق طرقه , ومنه قوله: {وَمَن قَدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق عليه , قاله ابن عباس. الثاني: فظن أن لن نعاقبه بما صنع , قاله قتادة , ومجاهد. الثالث: فظن أن لن نحكم عليه بما حكمنا , حكاه ابن شجرة , قال الفراء: معناه لن نُقِدرَ عليه من العقوبة ما قَدَّرْنَا , مأخوذ من القدر , وهو الحكم دون القدرة , وقرأ ابن عباس: نقدّر بالتشديد , وهو معنى ما ذكره الفراء , ولا يجوز أن يكون محمولاً على العجز عن القدرة عليه لأنه كفر. الرابع: أنه على معنى استفهام , تقديره: أفظن أن لن نقدر عليه , فحذف ألف الاستفهام إيجازاً , قاله سليمان بن المعتمر. {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} فيه قولان: أحدهما: أنها ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة جوف الحوت , قاله ابن عباس , وقتادة. الثاني: وقتادة. الثاني: أنها ظلمة الحوت في بطن الحوت , قاله سالم بن أبي الجعد. ويحتمل ثالثاً: أنها ظلمة الخطيئة , وظلمة الشدة , وظلمة الوحدة.

{أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي , ولم يكن ذلك عقوبة من الله , لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا , وإنما كان تأديباً , وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان. قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} وفي استجابة الدعاء قولان: أحدهما: أنه ثواب من الله للداعي ولا يجوز أن يكون غير ثواب. والثاني: أنه استصلاح فربما كان ثواباً وربما كان غير ثواب. {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: من الغم بخطيئته. الثاني: من بطن الحوت لأن الغم التغطية. وقيل: إن الله أوحى إلى الحوت ألاّ تكسر له عظماً , ولا تخدش له جلداً. وحينما صار في بطنه: قال يا رب اتخذتَ لي مسجداً في مواضع ما اتخذها أحد. وفي مدة لبثه في بطن الحوت ثلاثة أقاويل: أحدها: أربعون يوماً. الثاني: ثلاثة أيام. الثالث: من ارتفاع النهار إلى آخره. قال الشعبي: أربع ساعات , ثم فتح الحوت فاه فرأى يونس ضوء الشمس , فقال: سبحانك إني كنت من الظالمين , فلفظه الحوت.

89

{وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: خلياًمن عصمتك , قاله ابن عطاء. الثاني: عادلاً عن طاعتك. الثالث: وهو قول الجمهور يعني وحيداً بغير ولد. {وَأَنتَ خَيْرُ الَْوَارِثينَ} أي خير من يرث العباد من الأهل والأولاد , ليجعل رغبته إلى الله في الولد والأهل لا بالمال , ولكن ليكون صالحاً , وفي النبوة تالياً. قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهْبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنها كانت عاقراً فَجُعَِلَتْ ولوداً. قال الكلبي: وَلَدَتْ له وهو ابن بضع وسبعين سنة. والثاني: أنها كانت في لسانها طول فرزقها حُسْنَ الخَلْقِ , وهذا قول عطاء , وابن كامل. { ... يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي يبادرون في الأعمال الصالحة , يعني زكريا , وامرأته , ويحيى. {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} فيه أربعة أوجه: أحدها: رغباً في ثوابنا ورهباً من عذابنا. الثاني: رغباً في الطاعات ورهباً من المعاصي. والثالث: رغباً ببطون الأكف ورهباً بظهور الأكف. والرابع: يعني طمعاً وخوفاً. ويحتمل وجهاً خامساً: رغباً فيما يسعون من خير , ورهباً مما يستدفعون من شر. {وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني متواضعين , وهذا قول ابن عباس.

والثاني: راغبين راهبين , وهو قول الضحاك. والثالث: أنه وضع اليمنى على اليسرى , والنظر إلى موضع السجود في الصلاة.

91

{والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} قوله عز وجل: {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فيه وجهان: أحدها: عفّت فامتنعت عن الفاحشة. والثاني: أن المراد بالفَرْج فَرْجُ درعها منعت منه جبريل قبل أن تعلم أنه رسول. {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أي أجرينا فيها روح المسيح كما يجري الهواء بالنفخ , فأضاف الروح إليه تشريفاً له , وقيل بل أمر جبريل فحلّ جيب ردعها بأصابعه ثم نفخ فيه فحملت من وقتها. {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَاءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ} لأنها حملت من غير مسيس , ووُلد عيسى من غير ذَكَرٍ , مع كلامه في المهد , ثم شهادته ببراءتها من الفاحشة , فكانت هذه هي الآية , قال الضحاك: ولدته في يوم عاشوراء.

92

{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} قوله عز وجل: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَةً وَاحِدَةً} معناه أن دينكم دين واحد، وهذا قول ابن عباس , وقتادة. ويحتمل عندي وجهين آخرين: أحدهما: أنكم خلق واحد، فلا تكونوا إلا على دين واحد.

والثاني: أنكم أهل عصر واحد، فلا تكونوا إلا على دين واحد. {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} فأوصى ألا يعبد سواه. {وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: اختلفوا في الدين، قاله الأخفش. الثاني: تفرقوا، قاله الكلبي.

95

{وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين} قوله عز وجل: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} فيه تأويلان: أحدهما: معناه حرام على قرية وجدناها هالكة بالذنوب أنهم لا يرجعون إلى التوبة , وهو قول عكرمة. الثاني: وحرام على قرية أهلكناها بالعذاب أنهم لا يرجعون إلى الدنيا , وهذا قول الحسن , وقرأ أبن عباس: وحَرُم على قرية , وتأويلها ما قاله سفيان: وجب على قرية أهلكناها. [أنهم لا يرجعون قال: لا يتوبون]. قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا فُتِحتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي فتح السد , وهو من أشراط الساعة , وروى أبو هريرة عن زينب بنت جحش قالت: كان رسول

الله صلى الله عليه وسلم نائماً في بيته , فاستيقظ محمرة عيناه , فقال: (لاَ إِله إِلاَّ اللَّهَ ثَلاَثاً , وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍ قَدِ اقْتَرَبَ , فُتِحَ اليَومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجُ مِثْلَ هذَا) وأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عِقْدِ التِّسْعِينَ. ويأجوج ومأجوج قيل إنهما أخوان , وهما ولدا يافث بن نوح , وفي اشتقاق اسميهما قولان: أحدهما: أنه مشتق من أَجّت النار. والثاني: من الماء الأُجاج. وقيل إنهم يزيدون على الإِنس الضعف. {وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} وفي حدب الأرض ثلاثة أوجه: أحدها: أنه فجاجها وأطرافها , قاله ابن عباس. والثاني: حولها. الثالث: تلاعها وآكامها , مأخوذ من حدبة الظهر , قال عنترة: (فما رعشت يداي ولا ازْدَهاني ... تواترهم إليَّ من الحِداب) وفي قوله: {يَنسِلُونَ} وجهان: أحدها: معناه يخرجون , ومنه قول امرىء القيس: 89 (فسلي ثيابي من ثيابك تنسلِ} 9 والثاني: معناه يسرعون , ومنه قول الشاعر: (عسلان الذئب أمسى قارباً ... برد الليل عليه فنسل)

وفي الذي هم من كل حدب ينسلون قولان: أحدهما: هم يأجوج ومأجوج , وهذا قول ابن مسعود. الثاني: أنهم الناس يحشرون إلى الموقف.

98

{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: وقود جهنم , وهو قول بن عباس. الثاني: معناه حطب جهنم , وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة: حطب جهنم. الثالث: أنهم يُرمَون فيها كما يُرْمَى بالحصباء , حتى كأن جهنم تحصب بهم , وهذا قول الضحاك , ومنه قول الفرزدق: (مستقبلين شمال الشام يضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور) يعني الثلج , وقرأ ابن عباس: حضب جهنم , بالضاد معجمة. قال الكسائي: حضبت النار بالضاد المعجمة إذا أججتها فألقيت فيها ما يشعلها من الحطب. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} فيها ثلاثة تأويلات:

أحدها: أنها الطاعة لله تعالى: حكاه ابن عيسى. والثاني: السعادة من الله , وهذا قول ابن زيد. والثالث: الجنة , وهو قول السدي. ويحتمل تأويلاً رابعاً: أنها التوبة. {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} يعني عن جهنم. وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم عيسى والعزير والملائكة الذين عُبِدوا من دون الله وهم كارهون وهذا قول مجاهد. الثاني: أنهم عثمان وطلحة والزبير , رواه النعمان بن بشيرعن علي بن أبي طالب. الثالث: أنها عامة في كل من سبقت له من الله الحسنى. وسبب نزول هذه الآية ما حكي أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دَونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال المشركون: فالمسيح والعزير والملائكة قد عُبِدُوا , فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مَّنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} يعني عن جهنم , ويكون قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} محمولاً على من عذبه ربه. قوله عز وجل: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الفزع الأكبر النفخة الأخيرة , وهذا قول الحسن. والثاني: أنه ذبْحُ الموتِ , حكاه ابن عباس. والثالث: حين تطبق جهنم على أهلها , وهذا قول ابن جريج. ويحتمل تأويلاً رابعاً: أنه العرض في المحشر.

104

{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين}

قوله عز وجل: {يَومَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن السجل الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة , وهذا قول مجاهد , وقتادة. الثاني: أنه الملك. الثالث: أنه كاتب يكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهذا قول ابن عباس.

105

{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الزبور الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه , والذكر أُمّ الكتاب الذي عنده في السماء , وهذا قول مجاهد. والثاني: أن الزبور من الكتب التي أنزلها الله تعالى على مَنْ بعد موسى من أنبيائه , وهذا قول الشعبي. {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها أرض الجنة يرثها أهل الطاعة , وهذا قول سعيد بن جبير , وابن زيد. والثاني: أنها الأرض المقدسة يرثها بنو إسرائيل , وهذا قول الكلبي. والثالث: أنها أرض الدنيا , والذي يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول ابن عباس. قوله عز وجل: {إِنَّ فِي هذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أما قوله {إِنَّ فِي هذَا} ففيه قولان: أحدهما: يعني في القرآن. والثاني: في هذه السورة. وفي قوله: {لَبَلاَغاً لَّقُوْمٍ عَابِدِينَ} وجهان: أحدهما: أنه بلاغ إليهم يَكُفُّهُم عن المعصية ويبعثهم على الطاعة. الثاني: أنه بلاغ لهم يبلغهم إلى رضوان الله وجزيل ثوابه. وفي قوله: {عَابِدِينَ} وجهان: أحدهما: مطيعين. والثاني: عالمين. قوله عز وجل: {وَمَا أرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فيما أريد بهذه الرحمة وجهان: أحدهما: الهداية إلى طاعة الله واستحقاق ثوابه.

الثاني: أنه ما رفع عنهم من عذاب الاستئصال. وفي قوله: {لِلْعَالَمِينَ} وجهان: أحدهما: من آمن منهم , فيكون على الخصوص في المؤمنين إذا قيل إن الرحمة الهداية. الثاني: الجميع , فيكون على العموم في المؤمنين والكافرين إذا قيل إن الرحمة ما رفع عنهم من عذاب الاستئصال.

108

{قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون} قوله عز وجل: {فَإِن تَوَلَّواْ} يعني أعرضوا , وفيه وجهان: أحدهما: عنك. والثاني: عن القرآن. {فَقُلْءَاذَنْتَكُمْ عَلَى سَوآءٍ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: على امر بَيِّنٍ سَوِي , وهذا قول السدي. والثاني: على مَهْل , وهذا قول قتادة. والثالث: على عدل , وهذا قول الفراء. والرابع: على بيان علانية غير سر , وهذا قول الكلبي. والخامس: على سَواءٍ في الإِعلام يظهر لبعضهم ميلاً عن بعض , وهذا قول علي بن عيسى. والسادس: استواء في الإِيمان به.

والسابع: معناه أن من كفر به فهم سواء في قتالهم وجهادهم , وهذا قول الحسن. قوله عز وجل: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} فيه وجهان: أحدهما: لعل تأخير العذاب فتنة لكم. والثاني: لعل رفع عذاب الاستئصال فتنة لكم. وفي هذه الفتنة ثلاثة أوجه: أحدها: هلاك لكم. والثاني: محنة لكم. والثالث: إحسان لكم. {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: إلى يوم القيامة , وهذا قول الحسن. والثاني: إلى الموت , وهذا قول قتادة. والثالث: إلى أن يأتي قضاء الله تعالى فيهم. قوله عز وجل: {قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: عجّل الحكم بالحق. الثاني: معناه افصل بيننا وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع , وهذا معنى قول قتادة. {وَرَبُّنَا الرَّحَمنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} فيه وجهان: أحدهما: على ما تكذبون , قاله قتادة. والثاني: على ما تكتمون , قاله الكلبي. وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالاً قرأ هذه الآية. والله أعلم.

سورة الحج مدنية كلها، وقال ابن عباس إلا أربع آيات مكيات، من قوله سبحانه {وما أرسلنا من قبلك من رسول} إلى آخر الأربع. وحكى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية كلها إلا آيتين من قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} وما بعدها، لأن {يا أيها الذين آمنوا} مدني و {يا أيها الناس} مكي. بسم الله الرحمن الرحيم

الحج

{يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} قوله عز وجل: {يأيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} في زلزلتها قولان: أحدهما: أنها في الدنيا , وهي أشراط ظهورها , وآيات مجيئها. والثاني: أنها في القيامة. وفيها قولان: أحدهما: أنها نفخ الصور للبعث

والثاني: أنها عند القضاء بين الخلق. {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} يعني زلزلة الساعة. {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} وفيه أربعة أوجه: أحدها: تسلو كل مرضعة عن ولدها , قاله الأخفش. والثاني: تشتغل عنه , قاله قطرب , ومنه قول عبد الله بن رواحة: (ضرباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله) والثالث: تلهو عنه , قاله الكلبي , ومنه قول امرىء القيس: (أذاهِلٌ أنت عن سَلْماك لا برحت ... أم لست ناسيها ما حنّت النيبُ) والرابع: تنساه , قاله اليزيدي , قال الشاعر: (تطاولت الأيام حتى نسيتها ... كأنك عن يوم القيامة ذاهل) {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} قال الحسن: تذهل الأم عن ولدها لغير فطام , وتلقي الحامل ما في بطنها لغير تمام. {وَتَرَى النَّاس سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} قال ابن جريج: هم سكارى من الخوف , وما هم بسكارى من الشراب.

3

{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيه قولان: أحدهما: أن يخاصم في الدين بالهوى , قاله سهل بن عبد الله. والثاني: أن يرد النص بالقياس , قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث.

5

{يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة

ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُم فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} يعني آدم. {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} يعني ولده. {ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ} يعني أن النطفة تصير في الرحم علقة. {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} يعني أن العلقة تصير مضغة , وذلك مقدار ما يمضع من اللحم. {مُّخَلَّقَةٍ وَغِيْرِ مُخَلَّقَةٍ} فيه أربعه تأويلات: أحدها: أن المخلقة ما صار خلقاً , وغير مخلقة ما دفعته الأرحام من النطف فلم يصير خلقاً , وهو قول ابن مسعود. والثاني: معناه تامة الخلق وغير تامة الخلق , وهذا قول قتادة. والثالث: معناه مصورة وغير مصورة كالسقط , وهذا قول مجاهد. والرابع: يعني التام في شهوره , وغير التام , قاله الضحاك , قال الشاعر: (أفي غير المخلقة البكاءُ ... فأين العزم ويحك والحَياءُ)

{لِّنُبيِّنَ لَكُمْ} يعني في القرآن بدء خلقكم وتنقل أحوالكم. {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلّى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قال مجاهد: إلى التمام. {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} وقد ذكرنا عدد الأشُدّ. {وَمِنْكُم مَّن يُتَوَفّى} فيه وجهان: أحدهما: يعني قبل أن تبلغ إلى أرذل العمر. والثاني: قبل بلوغ الأَشُدّ. {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الهرم , وهو قول يحيى بن سلام. والثاني: إلى مثل حاله عند خروجه من بطن أمّه , حكاه النقاش. والثالث: ذهاب العقل , قاله اليزيدي. {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} فيه وجهان: أحدهما: لا يستفيد علماً ما كان به عالماً. الثاني: لا يعقل بعد عقله الأول شيئاً. ويحتمل عندي وجهاً ثالثاً: أنه لا يعمل بعد علمه شيئاً , فعبر عن العمل بالعلم [لافتقاره إليه لأن تأثير الكبر في العمل أبلغ من تأثيره في العلم]. {وتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: غبراء , وهذا قول قتادة. والثاني: يابسة لا تنبت شيئاً , وهذا قول ابن جريج. والثالث: أنها الدراسة , والهمود: الدروس , ومنه قول الأعشى: (قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً ... وأرى ثيابك باليات همَّدا) {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} وفي {اهْتَزَّتْ} وجهان:

أحدهما: معناه أنبتت , وهو قول الكلبي. والثاني: معناه اهتز نباتها واهتزازه شدة حركته , كما قال الشاعر: (تثني إذا قامت وتهتز إن مشت ... كما اهتز غُصْن البان في ورق خضرِ) {وَرَبَتْ} وجهان: أحدهما: معناه أضعف نباتها. والثاني: معناه انتفخت لظهور نباتها , فعلى هذا الوجه يكون مقدماً ومؤخراً وتقديره: فإذا أنزلنا عليها الماء رَبتْ واهتزت , وهذا قول الحسن وأبي عبيدة , وعلى الوجه الأول لا يكون فيه تقديم ولا تأخير. {وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فيه وجهان: أحدهما: يعني من كل نوع , وهو قول ابن شجرة. والثاني: من كل لون لاختلاف ألوان النبات بالخضرة والحمرة والصفرة. {بَهِيجٍ} يعني حسن الصورة.

8

{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد} قوله عز وجل: { ... ثَانِيَ عِطْفِهِ} فيه وجهان: أحدهما: لاَوِي عنقه إعراضاً عن الله ورسوله , وهذا قول مجاهد , وقتادة. الثاني: معناه لاَوِي عنقه كِبْرا عن الإِجابة , وهذا قول ابن عباس. قال المفضل: والعِطف الجانب , ومنه قولهم فلان ينظر في أعطافه أي في جوانبه. قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحارث. {لِيضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: تكذيبه للرسول وإعراضه عن أقواله.

والثاني: فإذا أراد أحد من قومه الدخول في الإسلام أحضره وأقامه وشرط له وعاتبه وقال: هذا خير لك مما يدعوك إليه محمد , حكاه الضحاك.

11

{ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني على وشك وهو قول مجاهد , لكونه منحرفاً بين الإِيمان والكفر. والثاني: على شرط , وهو قول ابن كامل. والثالث: على ضعف في العبادة كالقيام على حرف , وهو قول علي بن عيسى. ويحتمل عندي تأويلاً رابعاً: أن حرف الشي بعضه , فكأنه يعبد الله بلسانه ويعصيه بقلبه. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} وهذا قول الحسن. الثاني: أن ذلك نزل في بعض قبائل العرب وفيمن حول المدينة من أهل القرى , كانوا يقولون: نأتي محمداً فإن صادفنا خيراً اتبعناه , وإلا لحقنا بأهلنا , وهذا قول ابن جريج , فأنزل الله تعالى: {فإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأنَّ بِهِ}. ويحتمل وجهين آخرين:

أحدهما: اطمأن بالخير إلى إيمانه. الثاني: اطمأنت نفسه إلى مقامه. {وَإِن أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي محنة في نفسه أو ولده أو ماله. {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} يحتمل عندي وجهين: أحدهما: رجع عن دينه مرتداً. الثاني: رجع إلى قومه فزعاً. {خَسِرَ الدُّنْيَا والآخرة} خسر الدنيا بفراقه , وخسر الآخرة بنفاقه. {ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانِ الْمُبِينُ} أي البيِّن لفساد عاجله وذَهَاب آجله. قوله عز وجل: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئسْ الْعَشِيرُ} يعني الصنم , وفيه وجهان: أحدهما: أن المولى الناصر , والعشير الصاحب , وهذا قول ابن زيد. والثاني: المولى المعبود , والعشير الخليط , ومنه قيل للزوج عشير لخلطته مأخوذ من المعاشرة.

14

{إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} قوله عز وجل: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يرزقه الله , وهو قول مجاهد , والنصر الرزق , ومنه قول الأعشى.

(أبوك الذي أجرى عليّ بنصره ... فأنصب عني بعده كل قابل) والثالث: معناه أن لن يمطر أرضه , ومنه قول رؤبة: (إني وأسطار سطران سطرا ... لقائل يا نصرَ نصرٍ نصرا) إني عبيدة: يقال للأرض الممطرة أرض منصورة. {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} والنصر في الدنيا بالغلبة , وفي الآخرة بظهور الحجة. ويحتمل وجهاً آخر أن يكون النصر في الدنيا علو الكلمة , وفي الآخرة علو المنزلة. {فَلْيَمْدُدْ بِسبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} فيه تأويلان: أحدهما: فليمدد بحبل إلى سماء الدنيا ليقطع الوحي عن محمد ثم لينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ أي يذهب الكيد منه ما يغيظه من نزول الوحي عليه , وهذا قول ابن زيد. والثاني: فليمدد بحبل إلى سماء بيته وهو سقفه , ثم لِيخْنقَ به نفسه فلينظر هل يذهب ذلك بغيظه من ألا يرزقه الله تعالى , وهذا قول السدي.

18

{ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} قوله عز وجل: {وَمَن يُهِن اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكرمٍ} فيه وجهان: أحدهما: ومن يهن الله فيدخله النار فما له من مكرم فيدخله الجنة. {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} من ثواب وعقاب , وهذا قول يحيى بن سلام

والثاني: ومن يهن الله بالشقوة فما له من مكرم بالسعادة. {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءَ} من شقوة , وهذا قول الفراء وعلي بن عيسى. ويحتمل عندي وجهاً ثالثاً: ومن يهن الله بالإِنتقام فما له من مكرم بالإنعام , إن الله يفعل ما يشاء من إنعام وانتقام.

19

{هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق} قوله عز وجل: {هذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ} والخصمان ها هنا فريقان , وفيهما أربعة أقاويل: أحدها: أنهما المسلمون والمشركون حين اقتتلوا في بدر , وهذا قول أبي ذر , وقال محمد بن سيرين: نزلت في الثلاثة الذين بارزوا يوم بدر ثلاثة من المشركين فقتلوهم. والثاني: أنهم أهل الكتاب قالوا: نبينا قبل نبيكم , وكتابنا قبل كتابكم. ونحن خير منكم , فقال المسلمون كتابنا يقضي على كتابكم , ونبينا خاتم الأنبياء. ونحن أولى بالله منكم , وهذا قول قتادة. والثالث: أنهم أهل الإِيمان والشرك في اختلافهم في البعث والجزاء , وهذا قول مجاهد , والحسن , وعطاء. والرابع: هما الجنة والنار اختصمتا , فقالت النار: خلقني الله لنقمته , وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته , وهذا قول عكرمة.

{فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعْتَ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} معناه أن النار قد أحاطت بها كإحاطة الثياب المقطوعة إذا لبسوها عليهم , فصارت من هذا الوجه ثياباً , لأنها بالإِحاطة كالثياب. {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ} ها هنا هو الماء الحار , قال الشاعر: (كأن الحميم على متنها ... إذا اغترفته بأطساسها) (جُمان يحل على وجنةٍ ... علته حدائد دوّاسها) وضم الحميم إلى النار وإن كانت أشد منه لأنه ينضج لحومهم , والنار بانفرادها تحرقها , فيختلف به العذاب فيتنوع , فيكون أبلغ في النكال. وقيل إنها نزلت في ثلاثة من المسلمين قتلوا ثلاثة من المشركين يوم بدر حمزة بن عبد المطلب قتل عتبة بن ربيعة , وعليّ بن أبي طالب قتل الوليد بن عتبة , وعبيدة بن الحارث قتل شيبة بن ربيعة. قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يحرق به وهو قول يحيى بن سلام. والثاني: يقطع به , وهو قول الحسن. والثالث: ينضج به , وهو قول الكلبي ومنه قول العجاج: 89 (شك السفافيد الشواء المصطهرْ} 9 والرابع: يذاب به , وهو قول مجاهد , مأخوذ من قولهم: صهرت الألية إذا أذبتها , ومنه قول ابن أحمر: (تروي لقى ألقى في صفصفٍ ... تصهره الشمس فما ينْصهِر) {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} والمقامع: جمع مقمعة , والمقمعة ما يضرب به الرأس لا يعي فينكب أو ينحط.

23

{إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد} قوله عز وجل: {وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه قول لا إله إلا الله , وهو قول الكلبي. والثاني: أنه الإِيمان , وهو قول الحسن. والثالث: القرآن , وهو قول قطرب. والرابع: هو الأمر بالمعروف. ويحتمل عندي تأويلاً خامساً: أنه ما شكره عليه المخلوقون وأثاب عليه الخالق. {وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} فيه تأويلان: أحدهما: الإِسلام , وهو قول قطرب. والثاني: الجنة. ويحتمل عندي تأويلاً ثالثاً: أنه ما حمدت عواقبه وأمنت مغبته.

25

{إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} قوله عز وجل: { ... وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} فيه قولان: أحدهما: أنه أراد المسجد نفسه , ومعنى قوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} أي قبلة لصلاتهم ومنسكاً لحجهم. {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ} وهو المقيم , {وَالْبَادِ} وهو الطارىء إليه، وهذا قول ابن عباس.

والقول الثاني: أن المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم، وعلى هذا في قوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} وجهان: أحدهما: أنهم سواء في دوره ومنازله , وليس العاكف المقيم أولى بها من البادي المسافر، وهذا قول مجاهد ومَنْ منع بيع دور مكة كأبي حنيفة. والثاني: أنهما سواء في أن من دخله كان آمناً , وأنه لا يقتل بها صيداً ولا يعضد بها شجراً. {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} والإِلحاد: الميل عن الحق والباء في قوله: {بِإِلْحَادٍ} زائدة كزيادتها في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] ومثلها في قول الشاعر: (نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفَرَجِ) أي نرجو الفرج , فيكون تقدير الكلام: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم. وفي الإِلحاد بالظلم أربعة تأويلات: أحدها: أنه الشرك بالله بأن يعبد فيه غير الله , وهذا قول مجاهد , وقتادة. والثاني: أنه استحلال الحرام فيه , وهذا قول ابن مسعود. والثالث: استحلال الحرام متعمداً , وهذا قول ابن عباس. والرابع: أنه احتكار الطعام بمكة , وهذا قول حسان بن ثابت. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمرته عام الحديبية.

26

{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} قوله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} فيه وجهان: أحدهما: معناه وطأنا له مكان البيت , حكاه ابن عيسى. والثاني: معناه عرفناه مكان البيت بعلامة يستدل بها. وفي العلامة قولان: أحدهما: قاله قطرب , بعثت سحابة فتطوقت حيال الكعبة فبنى على ظلها. الثاني: قاله السدي , كانت العلامة ريحاً هبت وكنست حول البيت يقال لها الخجوج. {أَن لاَّ تُشْرِكَ بِي شَيْئاً} أي لا تعبد معي إلهاً غيري. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الشرك وعبادة الأوثان , وهذا قول قتادة. الثاني: من الأنجاس والفرث والدم الذي كان طرح حول البيت , ذكره ابن عيسى. والثالث: من قول الزور , وهو قول يحيى بن سلام. {لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أما الطائفون فيعني بالبيت وفي {الْقَائِمِينَ} قولان: أحدهما: يعني القائمين في الصلاة , وهو قول عطاء. والثاني: المقيمين بمكة , وهو قول قتادة. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} يعني في الصلاة , وفي هذا دليل على ثواب الصلاة في البيت. وحكى الضحاك أن إبراهيم لما حضر أساس البيت وحد لَوْحاً , عليه

مكتوب: أنا الله ذو بكّة , خلقت الخير والشر , فطوبى لمن قَدَّرْتُ على يديه الخير , وويلٌ لمن قدرت على يديه الشر. وتأول بعض أصحاب الخواطر قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} يعني القلوب. {لِلطَّآئِفِينَ} يعني حجاج الله , {وَالْقَآئِمِينَ} يعني الإِيمان , {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} يعني الخوف والرجاء. قوله عز وجل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} يعني أَعْلِمْهُم ونَادِ فيهم بالحق , وفيه قولان: أحدهما: أن هذا القول حكاية عن أمر الله سبحانه لنبيه إبراهيم , فروي أن إبراهيم صعد جبل أبي قبيس فقال: عباد الله إن الله سبحانه وتعالى قد ابتنى بيتاً وأمَرَكُمْ بحجه فَحُجُّوا , فأجابه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك داعي ربنا لبيك. ولا يحجه إلى يوم القيامة إلا من أجاب دعوة إبراهيم , وقيل إن أول من أجابه أهل اليمن , فهم أكثر الناس حجاً له. والثاني: أن هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بحج البيت. {يَأْتُوكَ رِجَالاً} يعني مشاة على أقدامهم , والرجال جمع راجل. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي جملٍ ضامر , وهو المهزول , وإنما قال {ضَامِرٍ} لأنه ليس يصل إليه إلا وقد صار ضامراً. {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي بعيد , ومنه قول الشاعر: (تلعب لديهن بالحريق ... مدى نياط بارح عميق)

28

{ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} قوله عز وجل: {لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه شهود المواقف وقضاء المناسك. والثاني: أنها المغفرة لذنوبهم , قاله الضحاك. والثالث: أنها التجارة في الدنيا والأجر في الآخرة , وهذا قول مجاهد. {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ مَّعْلُومَاتٍ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عشر ذي الحجة آخرها يوم النحر , وهذا قول ابن عباس , والحسن , وهو مذهب الشافعي.

والثاني: أنها أيام التشريق الثلاثة , وهذا قول عطية العوفي. والثالث: أنها يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر , وهذا قول الضحاك. {عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} يعني على نحر ما رزقهم نحره من بهيمة الأنعام , وهي الأزواج الثمانية من الضحايا والهدايا. {فَكَلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} في الأكل والإِطعام ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأكل والإِطعام واجبان لا يجوز أن يخل بأحدهما , وهذا قول أبي الطيب بن سلمة. والثاني: أن الأكل والإطعام مستحبان , وله الاقتصار على أيهما شاء وهذا قول أبي العباس بن سريج. والثالث: أن الأكل مستحب والإطعام واجب , وهذا قول الشافعي , فإن أطعم جميعها أجزأه , وإن أكل جميعها لم يُجْزه , وهذا فيما كان تطوعاً , وأما واجبات الدماء فلا يجوز أن نأكل منها. وفي {الْبآئِسَ الْفَقِيرَ} خمسة أوجه: أحدها: أن الفقير الذي به زمَانةٌ , وهو قول مجاهد. والثاني: الفقير الذي به ضر الجوع. والثالث: أن الفقير الذي ظهر عليه أثر البؤس. والرابع: أنه الذي يمد يده بالسؤال ويتكفف بالطلب. والخامس: أنه الذي يؤنف عن مجالسته. قوله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضَواْ تَفَثَهُمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: مناسك الحج، وهو قول ابن عباس , وابن عمر. والثاني: حلق الرأس , وهو قول قتادة , قال أمية بن أبي الصلت. (حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثاً ... ... ... ... ... . .) ) والثالث: رمي الجمار , وهو قول مجاهد. والرابع: إزالة قشف الإِحرام من تقليم ظفر وأخذ شعر وغسل واستعمال الطيب , وهو قول الحسن. وقيل لبعض الصلحاء: ما المعنى في شعث المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك الإِعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته. وسئل الحسن عن التجرد في الحج فقال: جرّد قلبك من السهو , ونفسك من اللهو ولسانك من اللغو , ثم يجوز كيف شئت. وقال الشاعر: (قضوا تفثاً ونحباً ثم سارواْ ... إلى نجدٍ وما انتظروا علياً) {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} وهو تأدية ما نذروه في حجهم من نحر أو غيره. {وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يعني طواف الإِفاضة , وهو الواجب في الحج

والعمرة، ولا يجوز في الحج إلا بعد عرفة , وإن جاز السعي. وفي تسمية البيت عتيقاً أربعة أوجه: أحدها: أن الله أعتقه من الجبابرة , وهو قول ابن عباس. الثاني: لأنه عتيق لم يملكه أحد من الناس , وهو قول مجاهد. والثالث: لأنه أعتق من الغرق في الطوفان , وهذا قول ابن زيد.

30

{ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} قوله عز وجل: {ذلِكَ وَمَن يَعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} فيه قولان: أحدهما: أنه فعل ما أمر به من مناسكه , قاله الكلبي. والثاني: أنه اجتناب ما نهى عنه في إحرامه. ويحتمل عندي قولاً ثالثاً: أن يكون تعظيم حرماته أن يفعل الطاعة ويأمر بها , وينتهي عن المعصية وينهى عنها. {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فيه قولان: أحدهما: إلا ما يتلى عليكم من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذُبحَ على النصب. والثاني: إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم. {فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} فيه وجهان:

: أحدهما: أي اجتنبواْ من الأوثان الرجس , ورجس الأوثان عبادتها , فصار معناه: فاجتنبوا عبادة الأوثان. الثاني: معناه: فاجتنبواْ الأوثان فإنها من الرجس. {وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: الشرك , وهوقول يحيى بن سلام. والثاني: الكذب , وهو قول مجاهد. والثالث: شهادة الزور. روى أيمن بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ مَرَّتِينَ) ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ}. والرابع: أنها عبادة المشركين , حكاه النقاش. ويحتمل عندي قولاً خامساً: أنه النفاق لأنه إسلام في الظاهر زور في الباطن.

قوله عز وجل: {حُنَفَآءَ لِلَّهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني مسلمين لله , وهو قول الضحاك , قال ذو الرمة: (إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفاً وفي قرن الضحى يتنصر) والثاني: مخلصين لله , وهو قول يحيى بن سلام. والثالث: مستقيمين لله , وهو قول عليّ بن عيسى. والرابع: حجاجاً إلى الله , وهو قول قطرب. {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} فيه وجهان: أحدهما: غير مرائين بعبادته أحداً من خلقه. والثاني: غير مشركين في تلبية الحج به أحداً لأنهم كانواْ يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك , قاله الكلبي.

32

{ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق} قوله عز وجل: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: فروض الله. والثاني: معالم دينه , ومنه قول الكميت: (نقتلهم جيلاً فجيلاً نراهم ... شعائر قربان بهم يتقرب) وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها مناسك الحج , وتعظيمها إشعارها , وهو مأثور عن جماعة. والثاني: أنها البُدن المشعرة , وتعظيمها استسمانها واستحسانها , وهو قول مجاهد. والثالث: أنها دين الله كله , وتعظيمها التزامها , وهو قول الحسن. {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} قال الكلبي والسدي: من إخلاص القلوب. ويحتمل عندي وجهاً آخر أنه قصد الثواب.

ويحتمل وجهاً آخر أيضاً: أنه ما أرضى الله تعالى: قوله عز وجل: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المنافع التجارة , وهذا قول من تأول الشعائر بأنها مناسك الحج , والأجل المسمى العود. والثاني: أن المنافع الأجر , والأجل المسمى القيامة , وهذا تأويل من تأولها بأنها الدين. والثالث: أن المنافع الركوب والدر والنسل , وهذا قول من تأولها بأنها الهَدْى فعلى هذا في الأجل المسمى وجهان: أحدهما: أن المنافع قبل الإِيجاب وبعده , والأجل المسمى هو النحر , وهذا قول عطاء. {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعتِيقِ} إن قيل إن الشعائر هي مناسك الحج ففي تأويل قوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وجهان: أحدهما: مكة , وهو قول عطاء. والثاني: الحرم كله محل لها , وهو قول الشافعي. وإن قيل إن الشعائر هي الدين كله فيحتمل تأويل قوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق} أن محل ما اختص منها بالأجر له , هو البيت العتيق.

34

{ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} قوله عز وجل: {وَلِكُلِّ أَمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني حجاً , وهو قول قتادة.

والثاني: ذبحاً , وهو قول مجاهد. والثالث: عيداً , وهو قول الكلبي والفراء , والمنسك في كلام العرب هو الموضع المعتاد , ومنه تسمية مناسك الحج , لاعتياد مواضعها. {لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} فيها وجهان: أحدهما: أنها الهدي، إذا قيل إن المنسك الحج. والثاني: الأضاحي , إذا قيل إن المنسك العيد. قوله عز وجل: { ... وَبَشِّر الْمُخْبِتينَ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: المطمئنين إلى ذكر إلههم , وهو قول مجاهد , ومنه قوله تعالى: {فَتُخْبتْ لَهُ قُلُوبُهُم} [الحج: 54]. والثاني: معناه المتواضعين , وهو قول قتادة. والثالث: الخاشعين , وهو قول الحسن. والفرق بين التواضع والخشوع أن التواضع في الأخلاق والخشوع في الأبدان. والرابع: الخائفين , وهو معنى قول يحيى بن سلام. والخامس: المخلصين , وهو قول إبراهيم النخعي. والسادس: الرقيقة قلوبهم , وهو قول الكلبي. والسابع: أنهم المجتهدون في العبادة , وهو قول الكلبي ومجاهد. والثامن: أنهم الصالحون المطمئنون , وهو مروي عن مجاهد أيضاً. والتاسع: هم الذين لا يظلمون , وإذا ظلمواْ لم ينتصرواْ , وهو قول الخليل بن أحمد.

36

{والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون}

قوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} في البدن ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الإِبل , وهو قول الجمهور. والثاني: أنها الإِبل , والبقر , والغنم , وهو قول جابر , وعطاء. والثالث: كل ذات خُفٍّ وحافر من الإِبل , والبقر , والغنم , وهو شاذ حكاه ابن الشجرة , وسميت بُدْناً لأنها مبدنة في السمن , وشعائر الله تعالى دينه في أحد الوجهين , وفروضه في الوجه الآخر. وتعمق بعض أصحاب الخواطر فتأول البُدْن أن تطهر بدنك من البدع , والشعائر أن تستشعر بتقوى الله وطاعته , وهو بعيد. {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فيه تأويلان: أحدهما: أي أجر , وهو قول السدي. والثاني: منفعة فإن احْتِيجَ إلى ظهرها رُكبَ , وإن حُلِبَ لَبَنُها شُرِبَ , وهو قول إبراهيم النخعي. {فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوآفَّ} وهي قراءة الجمهور , وقرأ الحسن: صوافي , وقرأ ابن مسعود: صوافن. فتأول صواف على قراءة الجمهور فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مصطفة , ذكره ابن عيسى. والثاني: قائمة لتصفّد يديها بالقيود , وهو قول ابن عمر. والثالث: معقولة , وهو قول مجاهد. وتأويل صوافي , وهي قراءة الحسن: أي خالصة لله تعالى , مأخوذ من الصفوة. وتأويل صوافن وهي قراءة ابن مسعود: أنها مصفوفة , وهو أن تَعقِل إحدى يديها حتى تقف على ثلاث , مأخوذ من صفن الفرس إذا ثنى إحدى يديه حتى يقف على ثلاث , ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} وقال الشاعر:

(الف الصفون مما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيراً) {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبهُا} أي سقطت جنوبها على الأرض , ومنه وجب الحائط إذا سقط , ووجبت الشمس إذا سقطت للغروب , وقال أوس بن حجر: (ألم تكسف الشمس ضوء النهار ... والبدر للجبل الواجب) {فَكُلُواْ مِنْهَا} فيه وجهان: أحدهما: أن أكله منها واجب إذا تطوع بها , وهو قول أبي الطيب بن سلمة. والثاني: وهو قول الجمهور أنه استحباب وليس بواجب , وإنما ورد الأمر به لأنه بعد حظر , لأنهم كانواْ في الجاهلية يحرمون أكلها على نفوسهم. {وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ والْمُعْتَرَّ} فيهم أربعة تأويلات: أحدها: أن القانع السائل , والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل , وهذا قول الحسن , وسعيد بن جبير , ومنه قول الشماخ: (لمالُ المرء يصلحه فيغني ... مفاقِرَه أعف من القُنُوع) أي من السؤال. والثاني: أن القانع الذي يقنع ولا يسأل , والمعتر الذي يسأل , وهذا قول قتادة , ومنه قول زهير: (على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحةُ والبذلُ) والثالث: أن القانع المسكين الطوّاف , والمعتر: الصديق الزائر , وهذا قول زيد بن أسلم , ومنه قول الكميت: 89 (إما اعتياداً وإما اعتراراً} 9 والرابع: أن القانع الطامع , والمعتر الذي يعتري البُدْنَ ويتعرض للحم لأنه

ليس عنده لحم , وهذا قول عكرمة , ومنه قول الشاعر: (على الطارق المعتر يا أم مالك ... إذا ما اعتراني بين قدري وصخرتي)

37

{لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين} قوله عز وجل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} فيه وجهان: أحدهما: لن يقبل الله الدماء وإنما يقبل التقوى , وهذا قول علي بن عيسى. والثاني: معناه لن يصعد إلى الله لحومها ولا دماؤها , لأنهم كانوا في الجاهلية إذا ذبحوا بُدنهم استقبلوا الكعبة بدمائها فيضجعونها نحو البيت , فأراد المسلمون فعل ذلك , فأنزل الله تعالى: {لَنَ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم} أي يصعد إليه التقوى والعمل الصالح , وهذا قول ابن عباس. {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} أي ذللها لكم يعني الأنعام. {لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني التسمية عند الذبح. والثاني: لتكبروا عند الإِحلال بدلاً من التلبية في الإِحرام. {عَلَى مَا هَداكُمْ} أي ما أرشدكم إليه من حجكم. {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالقبول. والثاني: بالجنة.

38

{إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس

بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَءَامَنُواْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالكفار عن المؤمنين , وبالعصاة عن المطيعين , وبالجهال عن العلماء. والثاني: يدفع بنور السنة ظلمات البدعة , قاله سهل بن عبد الله. قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فيه ستة تأويلات: أحدها: ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين , وهذا قول ابن جريج. الثاني: ولولا دفع الله عن الدين بالمجاهدين , وهذا قول ابن زيد. والثالث: ولولا دفع الله بالنبيين عن المؤمنين , وهذا قول الكلبي. والرابع: ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين , وهذا قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. والخامس: ولولا دفع الله بشهادة الشهود على الحقوق , وهذا قول مجاهد. والسادس: ولولا دفع الله على النفوس بالفضائل , وهذا قول قطرب. ويحتمل عندي تأويلاً سابعاً: ولولا دفع الله عن المنكر بالمعروف. {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} فيه قولان: أحدها: أنها صوامع الرهبان , وهذا قول مجاهد. والثاني: أنها مصلى الصابئين , وهو قول قتادة.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صَوْمَعَةُ المُؤْمِنِ بَيْتُه) وسميت صومعة لانضمام طرفيها , والمنصمع: المنضم , ومنه أذنٌ صمعاء. {وَبِيَعٌ} فيها قولان: أحدهما: أنها بيع النصارى , وهو قول قتادة. والثاني: أنها كنائس اليهود , وهو قول مجاهد , والبيعة اسم أعجمي مُعَرَّب. {وَصَلَوَاتٌ} فيها قولان: أحدهما: أنها كنائس اليهود يسمونها: صلوتا , فعرب جمعها , فقيل صلوات , وهذا قول الضحاك. والثاني: معناه: وتركت صلوات , ذكره ابن عيسى. {وَمَسَاجِدُ} المسلمين , ثم فيه قولان: أحدهما: لهدمها الآن المشركون لولا دفع الله بالمسلمين , وهو معنى قول الضحاك. والثاني: لهدمت صوامع في أيام شريعة موسى , وبيع في أيام شريعة عيسى ومساجد في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول الزجاج , فكان المراد بهدم كل شريعة , الموضع الذي يعبد الله فيه.

42

{وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي

ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} قوله عز وجل: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: يعني خالية من أهلها لهلاكها. والثاني: غائرة الماء. والثالث: معطلة من دلالتها وأرشيتها. {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن المشيد الحصين وهو قول الكلبي , ومنه قول امرىء القيس: (وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ ... ولا أطماً إلا مشيراً بجندل) والثاني: أن المشيد الرفيع , وهو قول قتادة , ومنه قول عدي بن زيد: (شاده مرمراً وجلله كل ... ساً فللطير في ذراه وُكورُ) والثالث: أن المشيد المجصص , والشيد الجص , وهو قول عكرمة ومجاهد ومنه قول الطرماح: 89 (كحية الماء بين الطين والشيد} 9 وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره: وقصر مشيد مثلها معطل , وقيل إن القصر والبئر بحضرموت من أرض اليمن معروفان , وقصرِ مشرف على قلة جبل ولا

يرتقى إليه بحال , والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته , وأصحاب القصور ملوك الحضر , وأصحاب الآبار ملوك البوادي , أي فأهلكنا هؤلاء وهؤلاء. قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} هذا يدل على أمرين: على أن العقل علم , ويدل على أن محله القلب. وفي قوله: {يَعْقِلُونَ بِهَا} وجهان: أحدهما: يعملون بها , لأن الأعين تبصر والقلوب تصير. {أَوْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي يفقهون بها ما سمعوه من أخبار القرون السالفة. {فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدورِ} يحتمل عندي وجهين: أحدهما: أنها لا تعمى الأبصار عن الهدى ولكن تعمى القلوب عن الاهتداء. والثاني: فإنها لا تعمى الأبصار عن الاعتبار ولكن تعمى القلوب عن الادّكار. قال مجاهد: لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه , وعينان في قلبه لآخرته , فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه لم يضره عماه شيئاً , وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه نظره شيئاً. قال قتادة: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم الأعمى وهو عبد الله بن زائدة.

47

{ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف

سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير} قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} يستبطئون نزوله بهم استهزاء منهم. {وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} ولن يؤخر عذابه عن وقته. {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفْ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يوماً من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض كألف سنة , قاله مجاهد. الثاني: أن طول يوم من أيام الآخرة كطول ألف سنة من أيام الدنيا في المدة. الثالث: أن ألم العذاب في يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا في الشدة وكذلك يوم النعيم.

49

{قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِيءَآيِاتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: أنه تكذيبهم بالقرآن , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه عنادهم في الدين , قاله الحسن. {مُعَجِزِينَ} قراءة ابن كثير وأبي عمرو , وقرأ الباقون {مُعَاجِزِينَ} فمن قرأ معجزين ففي تأويله أربعة أوجه: أحدها: مثبطين لمن أراد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم , وهو قول السدي.

الثاني: مثبطين في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم , وهو قول مجاهد. والثالث: مكذبين , حكاه ابن شجرة. الرابع: مَعَجِزِينَ لمن آمن بإظهار تعجيزة في إيمانه. ومن قرأ {مُعَاجِزِينَ} ففي تأويله أربعة أوجه: أحدها: مشاققين , قاله ابن عباس. والثاني: متسارعين , حكاه ابن شجرة. والثالث: معاندين , قاله قطرب. والرابع: مُعَاجِزِينَ يظنون أنهم يُعْجِزُونَ الله هرباً , قاله السدي.

52

{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلآَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه} فيه تأويلان: أحدهما: يعني أنه إذا حدّث نفسه ألقى الشيطان في نفسه , قاله الكلبي. الثاني: إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته , قاله قتادة ومجاهد , قال الشاعر: (تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقادِرِ) {مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ ... } فيه قولان: أحدهما: أن الرسول والنبي واحد، ولا فرق بين الرسول والنبي، وإنما

جمع بينهما لأن الأنبياء تخص البشر، والرسل تعم الملائكة والبشر. والقول الثاني: أنهما مختلفان , وأن الرسول أعلى منزلة من النبي. واختلف قائل هذا في الفرق بين الرسول والنبي على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الرسول هو الذي تتنزل عليه الملائكة بالوحي , والنبي يوحى إليه في نومه. والثاني: أن الرسول هو المبعوث إلى أُمَّةٍ , والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة , قاله قطرب. والثالث: أن الرسول هو المبتدىء بوضع الشرائع والأحكام , والنبي هو الذي يحفظ شريعة الله , قاله الجاحظ. {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يرفعه. {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُءَآيَاتِهِ} أي يثبتها , واختلف أهل التأويل فيما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك على أربعة أقاويل: أحدها: أنه ألقاه الشيطان على لسانه فقرأه ساهياً. الثاني: أنه كان ناعساً فألقاه الشيطان على لسانه فقرأه في نعاسه قاله قتادة. الثالث: أن بعض المنافقين تلاه عن إغواء الشيطان فخيل للناس أنه من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم , حكاه ابن عيسى. الرابع: إنما قال: هي كالغرانيق العلا - يعني الملائكة - وأن شفاعتهم لترتجى , أي في قولكم , قاله الحسن. سبب نزول هذه الآية ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه سورة النجم

قرأها في المسجد الحرام حتى بلغ {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى , وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19 - 20] ألقى الشيطان على لسانه (أولئك الغرانيق العلا. وأن شفاعتهن لترتجى) ثم ختم السورة وسجد. وسجد معه المسلمون والمشركون ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه , وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود , ورضي بذلك كفار قريش , وسمع بذلك من هاجر لأرض الحبشة. فأنكر جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأه , وشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى: {وَمَا أرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه}. قوله تعالى: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً} فيه وجهان: أولهما: محنة. الثاني: اختباراً. {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي نفاق. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} يعني المشركين. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} فيه وجهان: أحدهما: لفي ضلال طويل , قاله السدي. الثاني: لفي فراق للحق بعيد إلى يوم القيامة , قاله يحيى بن سلام.

55

{ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين}

{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} يعني في شك {مِّنْهُ} من القرآن {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فيه وجهان: أحدهما: ساعة القيامة على من يقوم عليه من المشركين , قاله الحسن. الثاني: ساعة موتهم. {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} فيه قولان: أحدهما: يوم القيامة , قاله عكرمة , والضحاك. الثاني: يوم بدر , قاله مجاهد , وقتادة. وفي العقيم وجهان: أحدهما: أنه الشديد , قاله الحسن. الثاني: أنه الذي ليس له مثيل ولا عديل , قال يحيى بن سلام: لقتال الملائكة فيه. ويحتمل ثالثاً: أن يكون العقيم هو الذي يجدب الأرض ويقطع النسل.

58

{والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} الآية , فيها قولان: أحدهما: أنها نزلت في قوم من مشركي قريش لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين فنزل ذلك فيهم , حكاه النقاش. الثاني: أنها في قوم من المشركين مثلوا بقوم من المسلمين قتلوهم يوم أحد فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله فنزل ذلك فيهم , حكاه ابن عيسى. ونصر الله في

الدنيا بالغلبة والقهر , وفي الآخرة بالحجبة والبرهان.

61

{ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور} قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الحق اسم من أسمائه تعالى , قاله يحيى ابن سلام. الثاني: أنه ذو الحق , قاله ابن عيسى. الثالث: معناه أن عبادته حق وهو معنى قول السدي. {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} فيه قولان: أحدهما: الأوثان , قاله الحسن. الثاني: إبليس , قاله قتادة.

67

{لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على

الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير} قوله تعالى: {مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه العيد , قاله ابن قتيبة. الثاني: أنها المواضع المعتادة لمناسك الحج والعمرة , قاله الفراء. الثالث: المذبح , قاله الضحاك. الرابع: المنسك الْمُتَعَبد والنسك العِبَادَة ومنه سمي العَابِدُ ناسكاً , قاله الحسن.

73

{يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ} لأن حجج الله عليهم بضرب الأمثال لهم أقرب لأفهامهم: فإن قيل فأين المثل المضروب؟ ففيه وجهان: أحدهما: أنه ليس هنا مثل ومعنى الكلام أنهم ضربوا لله مثلاُ في عبادته غيره , قاله الأخفش. الثاني: أنه ضرب مثلهم كمن عبد من لا يخلق ذباباً , قاله ابن قتيبة. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أنهم الأوثان الذين عبدوهم من دون الله. الثاني: أنهم السادة الذين صَرَفُوهُم عن طاعة الله. الثالث: أنهم الشياطين الذين حملوهم على معصية الله. {لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ} ليعلمهم أن العبادة إنما تكون للخالق المنشىء دون المخلوق المنشأ , وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه واستقذاره وكثرته , وسُمِّي ذباباً لأنه يُذَبُّ احتقاراً واستقذاراً. {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: إفساده لثمارهم وطعامهم حتى يسلبهم إياها. والثاني: أَلَمُهُ في قرض أبدانهم , فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يكونون آلهة معبودين وأرباباً مُطَاعين وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان. ثم قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون عائداً إلى العَابِد والمَعْبُود , فيكون في معناه وجهان: أحدهما: أن يكون عائداً إلى العابد والمعبود. الثاني: قهر العابد والمعبود. والاحتمال الثاني: أن يكون عائداً للسالب فيكون في معناه وجهان: أحدهما: ضعف للسالب عن القدرة والمسلوب عن النُصْرَة. الثاني: ضعف السالب بالمهانة والمسلوب بالاستكانة. {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ما عظموه حق عظمته , قاله الفراء. الثاني: ما عرفوه حق معرفته , قاله الأخفش. الثالث: ما وصفوه حق صفته , قاله قطرب. قال ابن عباس: نزلت في يهود المدينة حين قالواْ استراح الله في يوم السبت.

75

{الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع

بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور} قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما بين أيديهم: ما كان قبل خلق الملائكة والأنبياء , وما خلفهم: ما يكون بعد خلقهم، حكاه ابن عيسى. الثاني: ما بين أيديهم: أول أعمالهم , وما خلفهم آخر أعمالهم، قاله الحسن. الثالث: ما بين أيديهم من أمر الآخرة وما خلفهم من أمر الدنيا، قاله يحيى بن سلام. ويحتمل رابعاً: ما بين أيديهم: من أمور السماء، وما خلفهم: من أمور الأرض.

77

{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} قوله تعالى: {وَجَاهِدُواْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِِهِ} قال السدي: اعملوا لله حق عمله , وقال الضحاك أن يطاع فلا يعصى ويُذْكر فلا يُنْسَى ويُشْكر فلا يُكْفَر. وهو مثل قوله تعالى: {اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]. واختلف في نسخها على قولين: أحدهما: أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

والثاني: أنها ثابتة الحكم لأن حق جهاده ما ارتفع معه الحرج , روى سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ دِيْنِكُمْ أَيْسَرَهُ). {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي اختاركم لدينه. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} يعني من ضيق , وفيه خمسة أوجه: أحدها: أنه الخلاص من المعاصي بالتوبة. الثاني: المخرج من الأيمان بالكفارة. الثالث: أنه تقديم الأهلة وتأخيرها في الصوم والفطر والأضحى , قاله ابن عباس. الرابع: أنه رخص السفر من القصر والفطر. الخامس: أنه عام لأنه ليس في دين الإٍسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من المأثم فيه. {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه وسع عليكم في الدين كما وسع ملة أبيكم إبراهيم. الثاني: وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم. الثالث: أن ملة إبراهيم وهي دينه لازمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم , وداخلة في دينه. الرابع: أن علينا ولاية إبراهيم وليس يلزمنا أحكام دينه.

{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذَا} فيه وجهان: أحدهما: أن الله سماكم المسلمين من قبل هذا القرآن وفي هذا القرآن , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أن إبراهيم سماكم المسلمين , قاله ابن زيد احتجاجاً بقوله تعالى: {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: 128]. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} فيه وجهان: أحدهما: ليكون الرسول شهيداً عليكم في إبلاغ رسالة ربه إليكم , وتكونوا شهداء على الناس تُبَلِغُونَهُم رسالة ربهم كما بلغتم إليهم ما بلغه الرسول إليكم. الثاني: ليكون الرسول شهيداً عليكم بأعمالكم وتكونوا شهداء على الناس بأن رُسُلَهُم قد بَلَّغُوهم. {فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} يعني المفروضة. {وَءَآتُواْ الزَّكَاةِ} يعنى الواجبة. {وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: امتنعوا بالله , وهو قول ابن شجرة. والثاني: معناه تمسّكوا بدين الله , وهو قول الحسن. {هُوَ مَوْلاَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: مَالِكُكُم. الثاني: وليكم المتولي لأموركم. {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصَيرُ} أي فنعم المولى حين لم يمنعكم الرزق لما عصيتموه , ونعم النصير حين أعانكم لما أطعتموه.

سورة المؤمنون بسم الله الرحمن الرحيم

المؤمنون

{قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه قد سعد المؤمنون ومنه قول لبيد: (فاعقلي إن كنت لم تعقلي ... إنما أفلح من كان عقل) الثاني: أن الفلاح البقاء ومعناه قد بقيت لهم أعمالهم , وقيل: إنه بقاؤهم في الجنة , ومنه قولهم في الأذان: حي على الفلاح أي حي على بقاء الخير قال طرفة بن العبد: (أفبعدنا أو بعدهم. . ... . يرجى لغابرنا الفلاح)

الثالث: أنه إدْراك المطالب قال الشاعر: (لو كان حي مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح) قال ابن عباس: المفلحون الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا. روى عمر بن الخطاب قال كان النبي صل الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يسمع عند وجهه دويٌ كدوي النحل , فنزل عليه يوماً فلما سرى عنه استقبل القبلة ورفع يديه ثم قال: (اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلاَ تُنْقِصْنَا , وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا , وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا , وَآثِرْنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَينَا , وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا) ثم قال: (لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ عَشْرَ أَيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ) ثم قرأ علينا {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى ختم العشر. روى أبو عمران الجوني قال قيل لعائشة ما كان خُلُق رسول الله صل الله عليه وسلم؟ , قالت أتقرأُون سورة المؤمنون؟ قيل: نعم , قالت اقرأُوا فقرىء عليها {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حتى بَلَغَ {يَحَافِظُونَ}. فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {الَّذِيِنَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: خائفون، وهوقول الحسن، وقتادة. والثاني: خاضعون، وهو قول ابن عيسى. والثالث: تائبون، وهو قول إبراهيم.

والرابع: أنه غض البصر، وخفض الجناح، قاله مجاهد. الخامس: هو أن ينظر إلى موضع سجوده من الأرض، ولا يجوز بصره مُصَلاَّهُ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فنزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} فصار لا يجوِّز بصره مُصَلاَّهُ. فصار في محل الخشوع على هذه الأوجه قولان: أحدهما: في القلب خاصة , وهو قول الحسن وقتادة. والثاني: في القلب والبصر , وهو قول الحسن وقتادة. قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن اللغو الباطل , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الكذب , قاله ابن عباس. الثالث: أنه الحلف , قاله الكلبي. الرابع: أنه الشتم لأن كفار مكة كانوا يشتمون المسلمين فهو عن الإِجابة , حكاه النقاش. الخامس: أنها المعاصي كلها، قاله الحسن.

قوله: {أُوْلئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَا مِنْكُم إِلاَّ لَهُ مَنزِلاَنِ: مَنزِلٌ فِي الجَنَّةِ وَمَنزِلٌ فِي النَّارِ , فَإِن مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ , وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ , وإِنْ مَاتَ وََدَخَلَ الجَنَّةَ , وَرِثَ أَهْلُ النَّارِ مَنزِلَهُ , فَذلِكَ قولَه {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}) ثم بيَّن ما يرثون فقال: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه اسم من أسماء الجنة , قاله الحسن. الثاني: أنه أعلى الجنان قاله قطرب. الثالث: أنه جبل الجنة الذي تتفجر منه أنهار الجنة , قاله أبو هريرة. الرابع: أنه البستان وهو رومي معرب , قاله الزجاج. الخامس: أنه عربي وهو الكرم , قاله الضحاك.

12

{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} قوله: {وَلَقَدْ خَلَقنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} فيه قولان: أحدهما: آدم استل من طين , وهذا قول قتادة , وقيل: لانه اسْتُلَ من قِبَل ربه. والثاني: أن المعني به كل إنسان , لأنه يرجع إلى آدم الذي خلق من سلالة من طين , قاله ابن عباس , ومجاهد , وقيل: لأنه استل من نطفة أبيه , والسلالة من كل شيء صفوته التي تستل منه , قال الشاعر: (وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراسٍ تجلّلها بغل) وقال الزجاج: السلالة القليل مما ينسل , وقد تُسَمَّى , المضغة سلالة والولد سلالة إما لأنهما صفوتان على الوجه الأول , وإما لأنهما ينسلان على الوجه الثاني،

وحكى الكلبي: أن السلالة الطين الذي إذا اعتصرته بين أصابعك خرج منه شيء , ومنه قول الشاعر: (طوت أحشاء مرتجةٍ لوقت ... على مشج سلالته مهينُ) وحكى أبان بن تغلب أن السلالة هي التراب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت. (خلق البرية من سلالة منتن ... وإلى السلالة كلها ستعود) {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطّْفَةً} النطفة هي ماء الذكر الذي يعلق منه الولد , وقد ينطلق اسم النطفة على كل ماء , قال بعض شعراء هذيل: (وأنهما لحرّابا حروب ... وشرّابان بالنطف الظوامي) قوله تعالى: {فِي قَرَارٍ مَّكينٍ} يعني بالقرار الرحم , ومكين: أي متمكن قد هيىء لاستقراره فيه. {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} العلقة الدم الطري الذي خلق من النطفة سُمّيَ علقة لأنه أول أحوال العلوق. {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} وهي قدر ما يمضغ من اللحم. {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمَاً} وإنما بين الله أن الإِنسان تنتقل أحوال خلقه ليعلم نعمته عليه وحكمته فيه , وإن بعثه بعد الموت حياً أهون من إنشائه ولم يكن شيئاً. {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني بنفخ الروح فيه , وهذا قول ابن عباس والكلبي. والثاني: بنبات الشعر , وهذا قول قتادة. والثالث: أنه ذكر وأنثى , وهذا قول الحسن. والرابع: حين استوى به شبابه , وهذا قول مجاهد. ويحتمل وجهاً خامساً: أنه بالعقل والتمييز.

روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية إلى قوله: {ثَمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقَاً آخَرَ}. قال عمر بن الخطاب: فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.

17

{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين} قوله: {سَبْعَ طَرآئِقَ} أي سبع سموات , وفي تسميتها طرائق ثلاثة أوجه: أحدها: لأن كل طبقة على طريقة من الصنعة والهيئة. الثاني: لأن كل طبقة منها طريق الملائكة , قاله ابن عيسى. الثالث: لأنها طباق بعضها فوق بعض , ومنه أخذ طراق الفحل إذا أطبق عليها ما يمسكها , قاله ابن شجرة , فيكون على الوجه الأول مأخوذاً من التطرق , وعلى الوجه الثاني مأخوذاً من التطارق. {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلقِ غَافِلِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: غافلين عن حفظهم من سقوط السماء عليهم , قاله ابن عيسى. الثاني: غافلين عن نزول المطر من السماء عليهم , قاله الحسن. الثالث: غافلين , أي عاجزين عن رزقهم , قاله سفيان بن عيينة. وتأول بعض المتعمقة في غوامض المعاني سبع طرائق: أنها سبع حجب بينه وبين ربه، الحجاب الأول قلبه، الثاني جسمه، الثالث نفسه، الرابع عقله، الخامس علمه، السادس إرادته، السابع مشيئته توصله إن صلحت وتحجبه إن فسدت , وهذا تكلف بعيد.

18

{وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون} قوله تعالى: {وَشَجَرةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنآءَ} هي شجر الزيتون , وخصت بالذكر لكثرة منفعتها وقلة تعاهدها. وفي طور سيناء خمسة تأويلات: أحدها: أن سيناء البركة فكأنه قال جبل البركة , قاله ابن عباس , ومجاهد. الثاني: أنه الحسن المنظر , قاله قتادة. الثالث: أنه الكثير الشجر , قاله ابن عيسى. الرابع: أنه اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى , قاله أبو عبيدة. الخامس: أنه المرتفع مأخوذ من النساء , وهو الارتفاع فعلى هذا التأويل يكون اسماً عربياً وعلى ما تقدم من التأويلات يكون اسماً أعجمياً واختلف القائلون بأعجميته على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه سرياني , قاله ابن عباس. الثاني: نبطي. الثالث: حبشي. {تَنْبُتْ بِالدُّهْنِ} اختلف في الدهن هنا على قولين: أحدهما: أن الدهن هنا المطر اللين، قاله محمد بن درستويه، ويكون دخول الباء تصحيحاً للكلام. الثاني: أنه الدهن المعروف أي بثمر الدهن. وعلى هذا اختلفوا في دخول الباء على وجهين:

أحدهما: أنها زائدة وأنها تنبت الدهن , قاله أبو عبيدة وأنشد: 89 (نضرب بالسيف ونرجو بالفرج} 9 فكانت الباء في بالفرج زائدة كذلك في الدهن وهي قراءة ابن مسعود. الثاني: أن الباء أصل وليست بزائدة , وقد قرىء تنبت بالدهن بفتح التاء الأولى إذا كانت التاء أصلاً ثابتاً. فإن كانت القراءة بضم التاء الأولى فمعناه تنبت وينبت بها الدهن ومعناهما إذا حقق متقارب وإن كان بينهما أدنى فرق. وقال الزجاج: معناه ينبت فيها الدهن , وهذه عبرة: أن تشرب الماء وتخرج الدهن. {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ} أي إدام يصطبغ به الآكلون , وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الزَّيتُ مِنْ شَجَرةٍ مُبَارَكَةٍ فَائْتَدِمُواْ بِهِ وَادَّهِنُوا) وقيل إن الصبغ ما يؤتدم به سوى اللحم.

23

{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين}

قوله عز وجل: {مَا سَمِعْنَا بِهذَا فِيءَابَائِنَا الأَوَّلِينَ} فيه وجهان: أحدهما: ما سمعنا بمثل دعوته. والثاني: ما سمعنا بمثله بشراً أتى برسالة من ربه. وفي أبائهم الأولين وجهان: أحدهما: أنه الأب الأدنى , لأنه أقرب , فصار هو الأول. والثاني: أنه الأب الأبعد لأنه أوّل أبٍ وَلدَك. {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} فيه وجهان: أحدهما: حتى يموت. الثاني: حتى يستبين جنونه.

26

{قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين} قوله: {وَفَارَ التَّنُّورَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: تنور الخابزة , قاله الكلبي. الثاني: أنه آخر مكان في دارك , قاله أبو الحجاج. الثالث: أنه طلوع الفجر , قاله علي رضي الله عنه. الرابع: أنه مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لاشتداد الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن حَمِيَ الوَطِيسُ) قاله ابن بحر.

قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} قراءة الجمهور بضم الميم وفتح الزاي , وقرأ عاصم في رواية بكر بفتح الميم وكسر الزاي والفرق بينهما أن المُنزَلَ بالضم فعل النزول وبالفتح موضع النزول. {وَأَنتَ خَيْرٌ الْمُنزِلِينَ} في ذلك قولان: أحدهما: أن نوحاً قال ذلك عند نزوله في السفينة فعلى هذا يكون قوله مباركاً يعني بالسلامة والنجاة. الثاني: أنه قاله عند نزوله من السفينة , قاله مجاهد. فعلى هذا يكون قوله مباركاً يعني بالماء والشجر.

31

{ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين} قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يموت منا قوم ويحيا منا قوم , قاله ابن عيسى. الثاني: يموت قوم ويولد قوم , قاله يحيى بن سلام , قال الكلبي , يموت الآباء ويحيا الأبناء.

الثالث: أنه مقدم ومؤخر معناه نحيا ونموت وما نحن بمبعوثين , قاله ابن شجرة. قوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثآءً} أي هلكى كالغثاء , وفي الغثاء ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه البالي من الشجر , وهذا قول ابن عباس , ومجاهد , وقتادة. والثاني: ورق الشجر إذا وقع في الماء ثم جف , وهذا قول قطرب. والثالث: هو ما احتمله الماء من الزبد والقذى , ذكره ابن شجرة وقاله الأخفش. {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: فبعداً لهم من الرحمة كاللعنة , قاله ابن عيسى. الثاني: فبعداً لهم في العذاب زيادة في الهلاك , ذكره أبو بكر النقاش.

42

{ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون} قوله: {ثَمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} فيه قولان: أحدهما: متواترين يتبع بعضهم بعضاً , قاله ابن عباس , ومجاهد. الثاني: منقطعين بين كل اثنين دهر طويل وهذا تأويل من قرأ بالتنوين. وفي اشتقاق تترى ثلاثة أقاويل. أحدها: أنه مشتق من وتر القوس لاتصاله بمكانه منه , قاله ابن عيسى. وهو اشتقاقه على القول الأول. الثاني: أنه مشتق من الوتر وهو الفرد لأن كل واحد بعد صاحبه فرد , قاله الزجاج , وهو اشتقاقه على التأويل الثاني. الثالث: أنه مشتق من التواتر , قاله ابن قتيبة ويحتمل اشتقاقه التأويلين معاً.

45

{ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون فكذبوهما فكانوا من المهلكين ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون} قوله: {قَوْماً عَالِينَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: متكبرين , قاله المفضل. الثاني: مشركين , قاله يحيى بن سلام. الثالث: قاهرين , قاله ابن عيسى. الرابع: ظالمين , قاله الضحاك. قوله: { ... وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: مطيعون , قاله ابن عيسى. الثاني: خاضعون , قاله ابن شجرة. الثالث: مستبعدون , قاله يحيى بن سلام. الرابع: ما قاله الحسن كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون وكان فرعون يعبد الأصنام.

50

{وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قوله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مرْيَمَ وَأُمَّهُءَايَةً} فآيته أن خلق من غير ذكر وآيتها أن حملت من غير بعل , ثم تكلم في المهد فكان كلامه آية له , وبراءة لها. {وَءَاوَيْنَا هُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ} الآية. الربوة ما ارتفع من الأرض وفيه قولان: أحدهما: أنها لا تسمى ربوة إلا إذا اخضرت بالنبات وربت , وإلاّ قيل نشز اشتقاقاً من هذا المعنى واستشهاداً بقول الله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 65] ويقول الشاعر: (طوى نفسه طيّ الحرير كأنه ... حوى جنة في ربوة وهو خاشع)

الثاني: تسمى ربوة وإن لم تكن ذات نبات قال امرؤ القيس: (فكنت هميداً تحت رمس بربوة ... تعاورني ريحٌ جنوب وشمألُ) وفي المراد بها هنا أربعة أقاويل: أحدها: الرملة , قاله أبو هريرة. الثاني: دمشق , قاله ابن جبير. الثالث: مصر , قاله ابن زيد. الرابع: بيت المقدس. قاله قتادة , قال كعب الأحبار , هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. وفي: {ذَاتِ قَرَارٍ} أربعة أوجه: أحدها: ذات استواء , قاله ابن جبير. الثاني: ذات ثمار , قاله قتادة. الثالث: ذات معيشة تقرهم , قاله الحسن. الرابع: ذات منازل تستقرون فيها , قاله يحيى بن سلام. وفي {مَعَينٍ} وجهان: أحدهما: أنه الجاري , قاله قتادة. الثاني: أنه الماء الطاهر , قاله عكرمة ومنه قول جرير: (إن الذين غروا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك ما يزال معينا) أي ظاهراً , في اشتقاق المعين ثلاثة أوجه: أحدها: لأنه جار من العيون , قاله ابن قتيبة فهو مفعول من العيون. الثاني: أنه مشتق من المعونة. الثالث: من الماعون.

51

{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما

نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} قوله: {وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدةً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: دينكم دين واحد , قاله الحسن , ومنه قول الشاعر: (حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً ... وهل يأتَمن ذو أمة وهو طائع) الثاني: جماعتكم جماعة واحدة , حكاه ابن عيسى. الثالث: خلقكم خلق واحد. قوله: {فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: ففرقوا دينهم بينهم قاله الكلبي. الثاني: انقطع تواصلهم بينهم. وهو محتمل. {زُبُراً} فيه تأويلان: أحدهما يعني قطعاً وجماعات , قاله مجاهد , والسدي , وتأويل من قرأ بفتح الباء. الثاني: يعني , كتباً , قاله قتادة , وتأويل من قرأ بضم الباء ومعناه , أنهم تفرقوا الكتب , فأخذ كل فريق منهم كتاباً , آمن به وكفر بما سواه. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} فيه وجهان: أحدهما: كل حزب بما تفردوا به من دين وكتاب فرحون. والثاني: كل حزب بما لهم من أموال وأولاد فرحون. وفي فرحهم وجهان: أحدهما: أنه سرورهم. والثاني: أنها أعمالهم. قوله عز وجل: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} فيها أربعة تأويلات: أحدها: في ضلالتهم , وهو قول قتادة.

والثاني: في عملهم , وهو قول يحيى بن سلام. والثالث: في حيرتهم , وهو قول ابن شجرة. والرابع: في جهلهم , وهو قول الكلبي. {حَتَّى حِينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: حتى الموت. والثاني: حتى يأتيهم ما وعدوا به , وهو يوم بدر. والثالث: أنه خارج مخرج الوعيد كما تقول للتوعد: لك يوم , وهذا قول الكلبي. قوله عز وجل: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} أي نعطيهم ونزيدهم من أموال وأولاد. {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: نجعله في العامل خيراً. والثاني: أنما نريد لهم بذلك خيراً. {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: بل لا يشعرون أنه استدراج. والثاني: بل لا يشعرون أنه اختبار.

57

{إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} فيه وجهان: أحدهما: يعني الزكاء. الثاني: أعمال البر كلها. {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي خائفة

قال بعض أصحب الخواطر: وجل العارف من طاعته أكثر من وجِلِه من مخالفته لأن المخالفة تمحوها التوبة , والطاعة تطلب لتصحيح الغرض. {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يخافون ألا ينجوا من عذابه إذا قدموا عليه. الثاني: يخافون أن لا تقبل أعمالهم إذا عرضت عليهم. روته عائشة مرفوعاً. قوله عز وجل: {أُوْلئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} يحتمل وجهين: أحدهما: يستكثرون منها لأن المسارع مستكثر. الثاني: يسابقون إليها لأن المسارع سابق. {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وهم بها سابقون إلى الجنة. الثاني: وهم إلى فعلها سابقون. وفيه وجه ثالث: وهم لمن تقدمهم من الأمم سابقون , قاله الكلبي.

62

{ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون}

قوله عز وجل: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمرَةٍ مِّنْ هذا} فيه وجهان: أحدهما: في غطاء , قاله ابن قتيبة. والثاني: في غفلة قاله قتادة. {مِنْ هذا} فيه وجهان: أحدهما: من هذا القرآن , وهو قول مجاهد. الثاني: من هذا الحق , وهو قول قتادة. {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: خطايا [يعملونها] من دون الحق , وهو قول قتادة. الثاني: أعمال [رديئة] لم يعملوها وسيعملونها , حكاه يحيى ابن سلام. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أنه ظلم المخلوقين مع الكفر بالخالق. قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْغَذَابِ} فيهم وجهان: أحدهما: أنهم الموسع عليهم بالخصب , قاله ابن قتيبة. والثاني: بالمال والولد , قاله الكلبي , فعلى الأول يكون عامّاً وعلى الثاني يكون خاصاً. {إذَا هُم يَجْأَرُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يجزعون , وهو قول قتادة. الثاني: يستغيثون , وهوقول ابن عباس. والثالث: يصيحون , وهو قول علي بن عيسى. والرابع: يصرخون إلى الله تعالى بالتوبة , فلا تقبل منهم , وهو قول الحسن. قال قتادة نزلت هذه الآية في قتلى بدر , وقال ابن جريج {حَتَّى إِذَا أَخذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ} هم الذين قتلواْ ببدر. قوله عز وجل: {وَكُنتُم عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تستأخرون , وهو قول مجاهد. والثاني: تكذبون.

والثالث: رجوع القهقرى. ومنه قول الشاعر: زعموا أنهم على سبل الحق وأنا نكص على الأعقاب. وهو أي النكوص , موسع هنا ومعناه ترك القبول. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي بحرمة الله , ألا يظهر عليهم فيه أحد , وهو قول ابن عباس , والحسن , ومجاهد , وقتادة. ويحتمل وجهاً آخر: مستكبرين بمحمد أن يطيعوه , وبالقرآن أن يقبلوه. {سَامِراً تَهْجُرونَ} سامر فاعل من السمر. وفي السمر قولان: أحدهما: أنه الحديث ليلاً , قاله الكلبي , وقيل به: سمراً تهجرون. والثاني: أنه ظل القمر , حكاه ابن عيسى , والعرب تقول حلف بالسمر والقمر أي بالظلمة والضياء , لأنهم يسمرون في ظلمة الليل وضوء القمر , والعرب تقول أيضاً: لا أكلمه السمر والقمر , أي الليل والنهار , وقال الزجاج ومن السمر أخذت سمرة اللون. وفي {تَهْجُرُونَ} وجهان: أحدهما: تهجرون الحق بالإِعراض عنه , قاله ابن عباس. والثاني: تهجرون في القول بالقبيح من الكلام , قاله ابن جبير , ومجاهد. وقرأ نافع {تُهْجِرُونَ} بضم التاء وكسر الجيم وهو من هجر القول. وفي مخرج هذا الكلام قولان: أحدهما: إنكار تسامرهم بالإِزراء على الحق مع ظهوره لهم. الثاني: إنكاراً منهم حتى تسامروا في ليلهم والخوف أحق بهم.

68

{أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن

فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} قوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} في الحق هنا قولان: أحدهما: أنه الله , قاله الأكثرون. الثاني: أنه التنزيل أي لو نزل بما يريدون لفسدت السموات والأرض. وفي اتباع أهوائهم قولان: أحدهما: لو اتبع أهواءهم فيما يشتهونه. الثاني: فيما يعبدونه. {لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ} يحتمل وجهين: أحدهما: لفسد تدبير السموات والأرض , لأنها مدبرة بالحق لا بالهوى. الثاني: لفسدت أحوال السموات والأرض لأنها جارية بالحكمة لا على الهوى. {وَمَن فِيهِنَّ} أي ولفسد من فيهن , وذلك إشارة إلى من يعقل من ملائكة السموات وإنس الأرض , وقال الكلبي: يعني ما بينهم من خلق , وفي قراءة ابن مسعود لفسدت السموات والأرض وما بينهما , فتكون على تأويل الكلبي , وقراءة ابن مسعود , محمولاً على فساد ما لا يعقل من حيوان وجماد , وعلى ظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محمولاً على فساد ما يعقل وما لا يعقل من الحيوان , لأن ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد. فعلى هذا يكون من الفساد ما يعود على من في السموات من الملائكة بأن جعلت أرباباً وهي مربوبة , وعبدت وهي مستعبدة. وفساد الإِنس يكون على وجهين:

أحدهما: باتباع الهوى. وذلك مهلك. الثاني: بعبادة غير الله. وذلك كفر. وأما فساد الجن فيكون بأن يطاعوا فيطغوا. وأما فساد ما عدا ذلك فيكون على وجه التبع بأنهم مدبرون بذوي العقول. فعاد فساد المدبرين عليهم. {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: عنى ببيان الحق لهم , قاله ابن عباس. الثاني: بشرفهم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم. والقرآن بلسانهم , قاله السدي , وسفيان. ويحتمل ثالثاً: بذكر ما عليهم من طاعة ولهم من جزاء. {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعِرِضُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فهم عن القرآن معرضون , قاله قتادة. الثاني: عن شرفهم معرضون , قاله السدي. قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} يعني أمراً. {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} فيه وجهان: أحدهما: فرزق ربك في الدنيا خير منهم , قاله الكلبي. الثاني: فأجر ربك في الآخرة خيرٌ منه , قاله الحسن. وذكر أبو عمرو بن العلاء الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخرج من الرقاب: والخراج من الأرض. قوله: {عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لعادلون , قاله ابن عباس. الثاني: لحائدون , قاله قتادة. الثالث: لتاركون , قاله الحسن. الرابع: لمعرضون , قاله الكلبي , ومعانيها متقاربة.

76

{ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين} قوله: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً} الآية. فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليه فقال: (اللَّهُمّ اجْعَلْهَا عَلَيهِم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَقَحَطُوا سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْعَلْهَزَ مِنَ الجُوعِ وَهُوَ الوَبَرُ بالدَّمِ) قاله مجاهد. الثاني: أنه قتلهم بالسيف يوم بدر , قاله ابن عباس. الثالث: يعني باباً من عذاب جهنم في الآخرة , قاله بعض المتأخرين. {مُبْلِسُونَ} قد مضى تفسيره. قوله: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: خلقكم , قاله الكلبي ويحيى بن سلام. الثاني: نشركم , قاله ابن شجرة. قوله: {وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فيه قولان: أحدهما: بالزيادة والنقصان. الثاني: تكررهما يوماً بعد ليلة وليلة بعد يوم. ويحتمل ثالثاً: اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى.

84

{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} قوله: {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} فيه وجهان: أحدهما: خزائن كل شيء , قاله مجاهد. الثاني: ملك كل شيء , قاله الضحاك. والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت. {وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ علَيْهِ} أي يمنع ولا يُمنع منه , فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: في الدنيا ممن أراد هلاكه لم يمنعه منه مانع , ومن أرد نصره لم يدفعه من نصره دافع. الثاني: في الآخرة لا يمنعه من مستحقي الثواب مانع ولا يدفعه من مستوجب العذاب دافع. {فأَنَّى تُسْحَرونَ} فيه وجهان: أحدهما: فمن أي وجه تصرفون عن التصديق بالبعث. الثاني: فكيف تكذبون فيخيل لكم الكذب حقاً.

93

{قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع بالتي هي أحسن السيئة

نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون} قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ السَّيِئَةَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: بالإغضاء والصفح عن إساءة المسيء , قاله الحسن. الثاني: ادفع الفحش بالسلام , قاله عطاء والضحاك. الثالث: ادفع المنكر بالموعظة , حكاه ابن عيسى. الرابع: معناه امسح السيئة بالحسنة هذا قول ابن شجرة. الخامس: معناه قابل أعداءك بالنصيحة وأولياءك بالموعظة , وهذا وإن كان خطاباً له عليه السلام فالمراد به جميع الأمة. قوله: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: من نزغات. الثاني: من إغواء. الثالث: أذاهم. الرابع: الجنون. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} أي يشهدوني ويقاربوني في وجهان: أحدهما في الصلاة عند تلاوة القرآن. قال الكلبي. والثاني: في أحواله كلها , وهذا قول الأكثرين.

99

{حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} قوله: {وَمِن ورَآئِهِمْ بَرْزَخٌ} الآية. أي من أمامهم برزخٌ , البرزخ الحاجز ومنه قوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] وفيه خمسة أقاويل. أحدها: أنه حاجز بين الموت والبعث , قاله ابن زيد.

الثاني: حاجز بين الدنيا والآخرة. قاله الضحاك. الثالث: حاجز بين الميت ورجوعه للدنيا , قاله مجاهد. الرابع: أن البرزخ الإِمهال ليوم القيامة , حكاه ابن عيسى. الخامس: هو الأجل ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة , قاله الكلبي.

101

{فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} فيه وجهان: أحدهما: أي لا يتعارفون للهول الذي قد أذهلهم. الثاني: أنهم لا يتواصلون عليها ولا يتقابلون بها مع تعارفهم لقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرءُ مِنْ أَخيهِ} [عبس: 34] {وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: لا يتساءلون أن يحمل بعضهم عن بعض , أو يعين بعضهم بعضاً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً عن خبره لانشغال كل واحد بنفسه قاله ابن عيسى.

105

{ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} قوله: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} فيه وجهان: أحدهما: الهوى.

الثاني: حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق.

108

{قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون} {قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه اصغروا والخاسىء الصاغر , قاله الحسن , والسدي. الثاني: أن الخاسىء الساكت الذي لا يتكلم , قاله قتادة. الثالث: ابعدوا بعد الكلب , قاله ابن عيسى. {وَلاَ تُكَلِّمُونِ} فيه وجهان: أحدهما: لا تكلمون في دفع العذاب عنكم. الثاني: أنهم زجروا عن الكلام , غضباً عليهم , قاله الحسن , فهو آخر كلام يتكلم به أهل النار. {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} قرأ بضم السين نافع , وحمزة , والكسائي , وقرأ الباقون بكسرها. واختلف في الضم والكسر على قولين. أحدهما: أنهما لغتان , ومعناهما سواء وهما من الهزء. الثاني: أنها بالضم من السُخرة والاستعباد وبالكسر من السخرية والاستهزاء.

112

{قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق

لا إله إلا هو رب العرش الكريم} قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُم فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه سؤال لهم من مدة حياتهم في الدنيا , قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم , استقلالاً لحياتهم في الدنيا لطول لبثهم في عذاب جهنم. الثاني: أنه سؤال لهم عن مدة لبثهم في القبور وهي حالة لا يعلمونها فأجابوا بقصرها لهجوم العذاب عليهم , وليس بكذب منهم لأنه إخبار عما كان عندهم. {فَاسْئَلِ الْعَادِّينَ} فيه قولان: أحدهما: الملائكة , قاله مجاهد. الثاني: الحُسّابُ , قاله قتادة.

117

{ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} قوله: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاًءَآخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} فيه وجهان: أحدهما: معناه ليس له برهان ولا صحة بأن مع الله إلهاً آخر. الثاني: أن هذه صفة الإله الذي يدعى من دون الله أن لا برهان له. {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني أن محاسبته عند ربه يوم القيامة. الثاني: أن مكافأته على ربه والحساب المكافأة , ومنه قولهم حسبي الله. أي كفاني الله تعالى , والله أعلم وأحكم.

سورة النور بسم الله الرحمن الرحيم

النور

{سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} أي هذه سورة أنزلناها ويحتمل أن يكون قد خصها بهذا الافتتاح لأمرين: أحدهما: أن المقصود الزجر والوعيد فافتتحت بالرهبة كسورة التوبة. الثاني: أن فيها تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم بطهارة نسائه فافتتحت بذكر والسورة اسم للمنزلة الشريفة ولذلك سميت السورة من القرآن سورة قال الشاعر: (ألم تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورةً ... ترى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ) {وَفَرَضْنَاهَا} فيه قراءتان بالتخفيف وبالتشديد. فمن قرأ بالتخفيف ففي تأويله وجهان: أحدهما: فرضنا فيها إباحة الحلال وحظر الحرام , قاله مجاهد.

الثاني: قدرنا فيها الحدود من قوله تعالى: {فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] أي قدرتم , قاله عكرمة. ومن قرأ بالتشديد ففي تأويله وجهان: أحدهما: معناه تكثير ما فرض فيها من الحلال والحرام , قاله ابن عيسى. الثاني: معناه بيناها , قاله ابن عباس. {وَأَنزَلْنَا فِيهآءَايَاتٍ بَيِّناتٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنها الحجج الدالة على توحيده ووجوب طاعته. الثاني: أنها الحدود والأحكام التي شرعها. قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} وإنما قدم ذكر الزانية على الزاني لأمرين: أحدهما: أن الزنى منها أعَرُّ , وهو لأجل الحَبَل أضر. الثاني: أن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب , وقدر الحد فيه بمائة جلدة من الحرية والبكارة , وهو أكثر حدود الجلد , لأن فعل الزنى أغلظ من القذف بالزنى , وزادت السنة على الجلد بتغريب عام بعده , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خُذُواْ عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً , البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) ومنع العراقيون من التغريب اقتصاراً على الجلد وحده , وفيه دفع السنة والأثر. والجلد مأخوذ من وصول الضرب إلى الجلد. فأما المحصنان فحدهما الرجم بالسنة إما بياناً لقوله تعالى في سورة النساء: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] على قول فريق: وإما ابتداء فرض على قول آخرين. وروى زر بن حبيش عن أُبَيٍّ أن في مصحفه من سورة الأحزاب ذكر الرجم: (إِذَا زَنَى الشَّيخُ وَالشَّيخَةُ فَارْجُمَوهُمَا البَتَّةَ نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "

). {وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي في طاعة الله , وقد يعبر بالدين عن الطاعة. {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي إن كنتم تقيمون طاعة الله قيام من يؤمن بالله واليوم الآخر , والرأفة الرحمة ولم ينه عنها لأن الله هو الذي يوقعها في القلوب وإنما نهى عما تدعو الرحمة إليه , وفيه قولان: أحدهما: أن تدعوه الرحمة إلى إسقاط الحد حتى لا يقام , قاله عكرمة. الثاني: أن تدعوه الرحمة إلى تخفيف الضرب حتى لا يؤلم , قاله قتادة. واستنبط هذا المعنى الجنيد فقال: الشفقة على المخالفين كالإِعراض عن المواقعين {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} يعني بالعذاب الحد يشهده عند الإِقامة طائفة من المؤمنين , ليكونوا زيادة في نكاله وبينة على إقامة حده واختلف في عددهم على أربعة أقاويل: أحدها: أربعة فصاعداً , قاله مالك والشافعي. الثاني: ثلاثة فصاعداً , قاله الزهري. الثالث: اثنان فصاعداً , قال عكرمة. الرابع: واحد فصاعداً , قاله الحسن , وإبراهيم. ولما شرط الله إيمان من يشهد عذابهما , قال بعض أصحاب الخواطر: لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب.

3

{الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} قوله: {الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ... } الآية. فيه خمسة أوجه:

أحدها: أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت من بغايا الجاهلية من ذوات الرايات وشرطت له أن تنفق عليه فأنزل الله هذه الآية فيه وفيها قاله عبد الله بن عمرو , ومجاهد. الثاني: أنها نزلت في أهل الصفة , وكانوا قوماً من المهاجرين فقراء ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر , فنزلوا صفة المسجد , وكانواْ نحو أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة في الليل , وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور مما يصيب الرجال بالكسوة والطعام , فهمَّ أهل الصفة أن يتزوجوهن ليأووا إلى مساكنهن وينالوا من طعامهن وكسوتهن فنزلت فيهن هذه الآية , قاله أبو صالح. الثالث: معناه أن الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا يزني بها إلا زان , قاله ابن عباس. الرابع: أنه عامٌّ في تحريم نكاح الزانية على العفيف ونكاح العفيفة على الزاني ثم نسخ بقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النَّسَاءِ} [النساء: 3] قاله ابن المسيب. الخامس: أنها مخصوصة في الزاني المحدود لا ينكح إلا زانية محدودة ولا ينكح غير محدودة ولا عفيفة , والزانية المحدودة لا ينكحها إلا زان محدود , ولا ينكحها غير محدود ولا عفيف , قاله الحسن , ورواه أبو هريرة مرفوعاً.

{وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: الزنى. الثاني: نكاح الزوانى.

4

{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} يعني بالزنى. {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدآءِ} يعني ببينة على الزنى. {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وهذا حد أوجبه الله على القاذف للمقذوفة يجب بطلبها ويسقط بعفوها , وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه من حقوق الآدميين , لوجوبه بالطلب , وسقوطه بالعفو , وهذا مذهب الشافعي. الثاني: من حقوق الله لأنه لا ينتقل إلى مال , وهذا مذهب أبي حنيفة. الثالث: أنه من الحقوق المشتركة بين حق الله وحق الآدميين لتمازج الحقين وهذا مذهب بعض المتأخرين. ولا يكمل حد القذف بعد البلوغ والعقل إلى بحريتهما وإسلام المقذوف وعفافه , فإن كان المقذوف كافراً أو عبداً عُزِّر قاذفه ولم يحد , وإن كان القاذف كافراً حُدّ حدّاً كاملاً , وإن كان عبداً حُدّ نصف الحد. {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلِئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وهذا مما غلظ الله به

القذف حتى علق به من التغليظ ثلاثة أحكام: وجوب الحد , والتفسيق وسقوط الشهادة. ولم يجعل في القذف بغير الزنى حَدّاً لما في القذف بالزنى من تعدّي المعرّة إلا الأهل والنسل. قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تابواْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ} الآية. التوبة من القذف ترفع الفسق ولا تسقط الحدّ. واختلفوا في قبول الشهادة على أربعة أقوال: أحدها: تقبل شهادته قبل الحد وبعده لارتفاع فسقه وعوده إلى عدالته وهذا مذهب مالك والشافعي وبه قال جمهور المفسرين. الثاني: لا تقبل شهادته أبداً , لا قبل الحد ولا بعده , وهذا مذهب شريح. الثالث: أنه تقبل شهادته بالتوبة قبل الحد ولا تقبل بعده , وهذا مذهب أبي حنيفة. الرابع: تقبل شهادته بعد الحد ولا تقبل قبله , وهذا مذهب إبراهيم النخعي قال الشعبي: تقبل توبته ولا تقبل شهادته. وفي صفة التوبة قولان: أحدهما: أنها بإكذابه نفسه وقد رواه الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحارث بن كلدة وقال لهم: من أكذب نفسه أحرز شهاته فأكذب نفسه شبل ونافع , وأبى أبو بكرة أن يفعل , قال الزهري , وهو والله السنة فاحفظوه. الثاني: أن توبته منه تكون بصلاح حاله وندمه على قذفه والاستغفار منه وترك العود إلى مثله , قاله ابن جرير.

6

{والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين

والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم} قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} يعني بالزنى. {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ} يعني يشهدون بالزنى إلى أنفسهم وهذا حكم خص الله به الأزواج في قذف نسائهم ليلاعنوا فيذهب حد القذف عنهم. وفي سبب ذلك قولان: أحدهما: ما رواه عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال: يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلاً مع أهلي رأيت بعيني بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقل عليه حتى أنزل الله فيه هذه الآية. الثاني: ما رواه الأوزاعي عن الزهري عن سهل بن سعد عويمر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فأنزل الله هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ القُرْآنَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ) فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة فلاعنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انظرواْ فَإِنْ جَاءتْ بِهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَينَينِ عَظِيمَ الأَلِيَتِينِ خَدْلَجَ السَّاقِينِ فَلاَ أَحْسَبُ عُوَيمِراً إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيهَا , وَإنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيمِرَ كَأَنَّهُ وَحْرَةٌ فَلاَ أَرَاهُ إِلاَّ كَاذباً) فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصديق عويمر وكان

بعد ينسب إلى أمه , قال سعيد بن جبير: ولقد صار أميراً بمصر وإنه ينسب إلى غير أب. فإذا قذف الرجل زوجته بالزنى كان له اللعان منها إن شاء , وإن لم يكن ذلك لقاذف سواه , لأن الزوج لنفي نسب ليس منه ورفع فراش قد عرّه مضطر إلى لعانها دون غيره , فإذا أراد ذلك لاعن بينهما حاكم نافذ الحكم في الجامع على المنبر أو عنده , ويبدأ بالزوج وهي حاضرة فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما قذفت به زوجتي هذه من الزنى بفلان إذا ذكره في قذفه , وإن لم يذكره في لعانه كان لعانه نافذاً. وإن أراد نفي ولدها قال: إن هذا الولد من زنى ما هو مني فإذا أكمل ما وصفنا أعاده أربعاً كما قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِم أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} والشهادة هنا يمين عبر عنها بلفظ الشهادة في قول مالك والشافعي , وقال أبو حنيفة هي شهادة فرد بها لعان الكافر والمملوك ولو كانت شهادة ما جاز أن تشهد لنفسها وبلعنها , والعرب تسمي الحلف بالله تعالى شهادة كما قال قيس بن الملوح: (وأشهَدُ عِنْدَ اللَّه أنِّي أُحِبُّها ... فهذَا لَهَا عِندي فَمَا عِنْدَها لِيا) أي أحلف بالله فيما وصفتها من الزنى , وهو تأويل قوله: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فإذا أكمل الخامسة فقد أكمل لعانه , فتلاعن هي بعده على المنبر أو عنده فتقول وهو حاضر: أشهد بالله أن زوجي فلاناً هذا من الكاذبين فيما رماني به من الزنى وأن هذا - إن كان الزوج قد نفى في لعانه ولده منها - ما هو من زنى , تقول كذلك أربعاً , وهو تأويل قوله تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي يدفع , وفي هذا العذاب قولان: أحدهما: أنه الحد , وهو مذهب مالك , والشافعي. الثاني: أنه الحبس , وهو مذهب أبي حنيفة. {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ} ثم تقول في الخامسة وأن

عليّ غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به من الزنى وهو تأويل قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيَهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} والغضب في لعانها بدلاً من اللعنة في لعان زوجها , وإذا تم اللعان وقعت الفرقة المؤبدة بينهما , وبماذا تقع؟ فيه أربعة أقاويل: أحدها: بلعان الزوج وحده وهو مذهب الشافعي. الثاني: بلعانهما معاً , وهو مذهب مالك. الثالث: بلعانهما وتفريق الحاكم بينهما , وهو مذهب أبي حنيفة. والرابع: بالطلاق الذي يوقعه الزوج بعد اللعان , وهو مذهب أحمد بن حنبل ثم حرمت عليه أبداً. واختلفوا في إحلالها له إن أكذب بعد اللعان نفسه على قولين: أحدهما: تحل , وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: لا تحل , وهو مذهب مالك والشافعي. وإذا نفى الزوج الولد باللعان لحق بها دونه , فإن أكذب نفسه لحق به الولد حياً أو ميتاً , وألحقه أبو حنيفة به في الحياة دون الموت. قوله تعالى: {وَلَولاَ فَضْلُ اللَّه عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ} في فضل الله ورحمته هنا وجهان: أحدهما: أن فضل الله الإسلام ورحمته القرآن , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن فضل الله منه , ورحمته نعمته , قاله السدي. وفي الكلام محذوف اختلف فيه على قولين: أحدهما: أن تقديره: لولا فضل الله عليكم ورحمته بإمهاله حتى تتوبوا لهلكتم. الثاني: تقديره: لولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لنال الكاذب منكم عذابٌ عظيم.

{وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} فيكون المحذوف على القول الأول الجواب وبعض الشرط , وعلى الثاني الجواب وحده بعد استيفاء الشرط.

11

{إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ} في الإِفك وجهان: أحدهما: أنه الإِثم , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه الكذب. قال الشاعر: (شهيدٌ على الإِفك غَيْرِ الصَّوابِ ... وما شَاهِدُ الإِفك كَالأَحْنَفِ) {عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} وهم زعماء الإِفك , حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وعبد الله بن أبي بن سلول وزيد بن رفاعة وحمنة بنت جحش , وسبب الإفك أن عائشة رضي الله عنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق سنة ست فضاع عقد لها من جزع أطفار وقد توجهت لحاجتها فعادت في طلبه ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزله فَرُفِعَ هودجها ولم يُشْعَرْ بها أنها ليست فيه لخفتها وعادت فلم تر في المنزل أحداً فأدركها صفوان بن المعطل فحملها على راحلته وألحقها برسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيها وفي صفوان من تكلم وقدمت المدينة وانتشر الإِفك وهي لا تعلم به ثم علمت فأخذها من ذلك شيء عظيم إلى أن أنزل الله براءتها بعد سبعة وثلاثين يوماً من قدوم المدينة هذه الآية. و {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي لا تحسبواْ ما ذكر من الإِفك شراً لكم بل هو خير لكم لأن الله قد بَرَّاً منه وأبان عليه. وفي المراد بهذا القول قولان: أحدهما: أن المقصود به عائشة وصفوان لأنهما قصدا بالإِفك , قاله يحيى ابن سلام.

الثاني: أن المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة رضي الله عنهما , قاله ابن شجرة. {لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} أي له عقاب ما اكتسب من الإِثم بقدر إِثمه. {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} الآية قرىء بكسر الكاف وضمها , وفي الفرق بينما وجهان: أحدهما: أن كبره بالضم معظمه وبالكسر مأثمه. الثاني: أنه بالضم في النسب وبالكسر في النفس. وفي متولي كبره قولان: أحدهما: أنه عبد الله بن أبيّ , والعذاب العظيم جهنم , وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير وابن المسيب. الثاني: أنه مسطح بن أثاثة , والعذاب العظيم ذهاب بصره في الدنيا: حكاه يحيى بن سلام.

12

{لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} قوله تعالى: {لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} هلا إذا سمعتم الإِفك. {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} فيه وجهان: أحدهما ظن بعضهم ببعض خيراً كما يظنون بأنفسهم. الثاني: ظنواْ بعائشة عفافاً كظنهم بأنفسهم. {إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي كذب بيِّن. قوله تعالى: {لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيِهِ} أي هلا جاءُوا عليه لو كانوا صادقين.

{بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءِ} يشهدون بما قالوه. {فَإِذَا لَمْ يأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ} الآية. .

14

{ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون} قوله تعالى: {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون وعيداً بما له عند الله من العقاب. الثاني: أريد به تكذيب المؤمنين الذي يصدقون ما أنزل الله من كتاب. واختلف هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإِفك على قولين: أحدهما: أنه لم يحدّ أحداً منهم لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو بينة ولم يتعبدنا الله أن نقيمها بإخباره عنها كما لم يتعبدنا بقتل المنافقين وإن أخبر بكفرهم. والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الإِفك حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت حجش وكانوا ممن أفصح بالفاحشة رواه عروة بن الزبير وابن المسيب عن عائشة رضي الله عنها فقال بعض شعراء المسلمين: (لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنةُ إذ قالا هجيراً ومسطح)

(وابن سلول ذاق في الحدّ خزيه ... كما خاض في إفك من القول يفصح) (تعاطوْا برجم الغيب زوج نبيّهم ... وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحوا) (وآذواْ رسول الله فيها فجللوا ... مخازي تبقى عمموها وفضحواْ) (فصبت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح) حكى مسروق أن حسان استأذن على عائشة فقلت أتأذنين له فقالت: أو ليس قد أصابه عذاب عظيم. فمن ذهب إلى أنهم حدوا زعم أنها أرادت بالعذاب بالعظيم الحد , ومن ذهب إلى أنهم لم يحدّوا زعم أنها أرادت بالعذاب العظيم ذهاب بصره , قاله سفيان. قال حسان بن ثابت يعتذر من الإفك: (حَصَانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بِرِيبَةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُومِ الغَوَافِلِ) (فإن كنتُ قد قلتُ الذي بُلِّغْتُم ... فلا رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أنامِلِي) (فكيفَ ووُدِّي ما حَيِيتُ ونُصْرَتِي ... لآلِ رسُولِ اللَّهِ زَينِ المَحَافِلِ) قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: هو أن تتحدث به وتلقيه بين الناس حتى ينتشر. الثاني: أن يتلقاه بالقبول إذا حدث به ولا ينكره. وحكى ابن أبي مليكة أنه سمع عائشة تقرأ إذ تلِقونه بكسر اللام مخففة وفي تأويل هذه القراءة وجهان: أحدهما: ترددونه , قاله اليزيدي. الثاني: تسرعون في الكذب وغيره , ومنه قول الراجز: ( ... ... ... ... ... ... جَاءَتْ به عنسٌ من الشام تَلِقْ) أي تسرع.

20

{ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر

بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} قوله تعالى: {لاَ تَبَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: خطايا الشيطان , قاله يحيى بن سلام. الثاني: آثاره , قاله ابن شجرة. الثالث: هو تخطي الشيطان الحلال إلى الحرام والطاعة إلى المعصية , قاله ابن عيسى. الرابع: هو النذور في المعاصي , قاله أبو مجلز. ويحتمل خامساً: أن تكون خطوات الشيطان الانتقال من معصية إلى أخرى مأخوذ من نقل القدم بالخطو من مكان إلى مكان.

22

{ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين} قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} وقرىء ولا يتأل وفي اختلاف القراءتين وجهان: أحدهما: أن معناهما متقارب واحد وفيه وجهان: أحدهما: أي لا يقتصر مأخوذ من قولهم لا ألوت أي لا قصرت، قاله ابن بحر.

الثاني: لا يحلف مأخوذ من الألية وهي اليمين. - والقول الثاني: معناهما مختلف فمعنى يأتل أي يألو أو يقصر , ومعنى يتأل أي يحلف. {أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لا يحلفوا ألاّ يبروّا هؤلاء , وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة فلما خاض في الإِفك ونشره حلف أبو بكر ألا يبره وكان ابن خالته فنهاه الله عن يمينه وندبه إلى بره مع إساءته. وهذا معنى لا يألو جهداً فالمنهى عنه فيها التوقف عن بر من أساء وأن نقابله بالتعطف والإِغضاء , فقال: {ولْيَعْفُواْ ولْيَصْفَحُواْ} وفيها وجهان: أحدهما: أن العفو عن الأفعال والصفح عن الأقوال. الثاني: أن العفو ستر الذنب من غير مؤاخذة والصفح الإِغضاء عن المكروه. {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم} أي كما تحبون أن يغفر الله لكم ذنوبكم فاغفروا لمن أساء إليكم , فلما سمع أبو بكر هذا قال: بلى يا رب وعاد إلى برِّه وكفّر عن يمينه.

26

{الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبيثِينَ} الآية. فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال , والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء , والطيبات من النساء للطيبين من الرجال , والطيبون من الرجال للطيبات من النساء , قاله ابن زيد. الثاني: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس

للخبيثات من الأعمال والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس , والطيبون من الناس للطيبات من الأعمال قاله مجاهد وقتادة. الثالث: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس , والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلام , والطيبات من الكلام للطيبين من الناس , والطيبون من الناس للطيبات من الكلام قاله ابن عباس والضحاك. وتأول بعض أصحاب الخواطر: الخبيثات الدنيا , والطيبات الآخرة. {أُوْلئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن عائشة وصفوان مبرآن من الإِفك المذكور فيهما , قاله الفراء. الثاني: أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مبرآت من الفواحش , قاله ابن عيسى. الثالث: أن الطيبين والطيبات مبرؤون من الخبيثين والخبيثات , قاله ابن شجرة.

27

{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْر بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأُنِسُواْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: حتى تستأذنوا. واختلف من قال بهذا التأويل فقال ابن عباس: أخطأ الكاتب فيه فكتب تستأنسوا وكان يقرأ: حتى تستأذنوا. وقال غيره: لأن

الاستئذان مؤنس فعبر عنه بالاستئناس , وليس فيه خطأ من كاتب ولا قارىء. الثاني: معناه حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح فيعلموا بقدومك عليهم , قاله مجاهد. الثالث: أن تستأنسوا يعني أن تعلموا فيها أحداً استأذنوه فتسلموا عليه ومنه قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً} [النساء: 6] أي علمتم , قاله ابن قتيبة. وقال ابن الأعرابي الاستئناس الاستثمار، والإيناس اليقين. والإذن يكون بالقول والإشارة. فإن جاهر فسؤال , فقد روى قتادة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رَسُولُ الرَّجُلِ إِذْنُهُ فَإِنِ اسْتَأَذَنَ ثَلاَثاً وَلَمْ يُؤْذَنْ لَه ولَّى فلم يُراجِعْ فِي الاسْتِئْذَانِ) روى الحسن البصري أن [أبا موسى] الأشعري استأذن على عمر رضي الله عنه ثلاثاً فلم يؤذن له فرجع فأرسل إليه عمر فقال: ما ردّك؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَأَذَنَ ثلاثاً فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِع) فقال عمر: لتجيئني على بينة أو لأجعلنك نكالاً فأتى طلحة فشهد له قال الحسن: الأولى إذنٌ , والثانية مؤامرة , والثالثة: عزمة , إن شاءواْ أذنوا وإن شاءوا ردوا. ولا يستأذن وهو مستقبل الباب إن كان مفتوحاً، وإن أذن لأول القوم فقد أذن

لآخرهم، ولا يقعدوا على الباب بعد الرد فإن للناس حاجات. {وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أُهْلِهَا} والسلام ندب والاستئذان حتم. وفي السلام قولان: أحدهما: أنه مسنون بعد الإذن على ما تضمنته الآية من تقديم الإِذن عليه. الثاني: مسنون قبل الإذن وإن تأخر في التلاوة فهو مقدم في الحكم وتقدير الكلام حتى تسلموا وتستأذنوا لما روى محمد بن سيرين أن رجلاً استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أأدخل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل عنده: (قُمْ فَعَلِّمْ هذَا كَيْفَ يَسْتَأْذِنُ فإِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ) فسمعها الرجل فسلم واستأذن. وأولى من إطلاق هذين القولين أن ينظر فإن وقعت العين على العين قبل الإِذن فالأولى تقديم السلام , وإن لم تقع العين على العين قبل الإذن فالأولى تقديم الاستئذان على السلام. فأما الاستئذان على منازل الأهل فإن كانوا غير ذي محارم لزم الاستئذان عليهم كالأجانب وإن كانوا ذوي محارم وكان المنزل مشتركاً هو فيه وهم ساكنون لزم في دخوله إنذارهم إما بوطءٍ. أو نحنحة مفهمة إلا الزوجة فلا يلزم ذلك في حقها بحال لارتفاع العودة بينهما. وإن لم يكن المنزل مشتركاً ففي الاستئذان عليهم وجهان: أحدهما: أنها النحنحة والحركة. الثاني: القول كالأجانب. ورى صفوان عن عطاء بن يسار أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أستأذن على أمي)؟ فقال: (نعم) فقال إني أخدمها فقال: (استأذن عليها) فعاوده ثلاثاً: فقال: (أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً) قال: لا قال: (فَاسْتَأْذِنْ عَلَيهَا). قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً} يعني يأذن لكم.

{فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُم} ولا يجوز التطلع إلى المنزل ليرى من فيه فيستأذنه إذا كان الباب مغلقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ لأَجْلِ البَصَرِ , إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَفْتُوحاً فَيَجُوزُ إِذا كَانَ خَارِجاً أَنْ يَنْظُرَ لأَنَّ صَاحِبَهُ بالفتح قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ) {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} وهنا ينظر فإن كان بعد الدخول عن إذن لزم الانصراف وحرم اللبث , وإن كان قبل الدخول فهو رد الإِذن ومنع من الدخول. ولا يلزمه الانصراف عن موقفه من الطريق إلا أن يكون فناء الباب المانع فيكفي عنه , قال قتادة: لا تقعد على باب قوم ردوك فإن للناس حاجات. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها الخانات المشتركة ذوات البيوت المسكونة , قاله محمد بن الحنفية رضي الله عنه. الثاني: أنها حوانيت التجار , قاله الشعبي. الثالث: أنها منازل الأسفار ومناخات الرجال التي يرتفق بها مارة الطريق في أسفارهم , قاله مجاهد. الرابع: أنها الخرابات العاطلات , قاله قتادة. الخامس: أنها بيوت مكة , ويشبه أن يكون قول مالك. {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عروض الأموال التي هي متاع التجار، قاله مجاهد. الثاني: أنها الخلاء والبول سمي متاعاً لأنه إمتاع لهم، قاله عطاء. الثالث: أنه المنافع كلها , قاله قتادة , فلا يلزم الاستئذان في هذه المنازل

كلها. قال الشعبي: حوانيت التجار إذنهم جاءوا ببيوتهم فجعلوها فيها وقالوا للناس: هَلُمّ.

30

{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون} قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} وفي {مِنْ} في هذا الموضع ثلاثة أقوايل: أحدها: أنها صلة وزائدة وتقدير الكلام: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم , قاله السدي. الثاني: أنها مستعملة في مضمر وتقديره , يغضوا أبصارهم عما لا يحل من النظر , وهذا قول قتادة. الثالث: أنها مستعملة في المظهر , لأن غض البصر عن الحلال لا يلزم وإنما يلزم غضها عن الحرام فلذلك دخل حرف التبعيض في غض الأبصار فقال: من أبصارهم , قاله ابن شجرة. ويحرم من النظر ما قصد , ولا تحرم النظرة الأولى الواقعة سهواً. روى الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابنُ آدَمَ لَكَ النَّظْرَةُ الأَولَى وَعَلَيكَ الثَّانِيَة). {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه يعني بحفظ الفرج عفافه، والعفاف يكون عن الحرام دون المباح ولذلك لم يدخل فيه حرف التبعيض كما دخل غض البصر.

الثاني: قاله أبو العالية الرياحي المراد بحفظ الفروج في هذا الموضع سترها عن الأبصار حتى لا ترى , وكل موضع في القرآن ذكر فيه الفرج فالمراد به الزنى إلا في هذا الموضع فإن المراد به الستر , وسميت فروجاً لأنها منافذ الأجواف ومسالك الخارجات.

31

{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ... } والزينة ما أدخلته المرأة على بدنها حتى زانها وحسنها في العيون كالحلي والثياب والكحل والخضاب , ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال الشاعر: (يأخذ زينتهن أحسن ما ترى ... وإذا عطلن فهن غير عواطل) والزينة زينتان: ظاهرة وباطنة , فالظاهرة لا يجب سترها ولا يحرم النظر إليها لقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وفيها ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنها الثياب , قاله ابن مسعود. الثاني: الكحل والخاتم , قاله ابن عباس , والمسور بن مخرمة. الثالث: الوجه والكفان , قاله الحسن , وابن جبير , وعطاء. وأما الباطنة فقال ابن مسعود: القرط والقلادة والدملج والخلخال , واختلف في السوار فروي عن عائشة أنه من الزينة الظاهرة , وقال غيرها هو من الباطنة , وهو أشبه لتجاوزه الكفين , فأما الخضاب فإن كان في الكفين فهو من الزينة الظاهرة , وإن كان في القدمين فهو من الباطنة , وهذا الزينة الباطنة يجب سترها عن الأجانب ويحرم عليها تعمد النظر إليها فأما ذوو المحارم فالزوج منهم يجوز له النظر والالتذاذ , وغيره من الآباء والأبناء والإخوة يجوز لهم النظر ويحرم عليهم الالتذاذ. روى الحسن والحسين رضي الله عنهما [أنهما] كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط. وتأول بعض أصحاب الخواطر هذه الزينة بتأويلين: أحدهما: أنها الدنيا فلا يتظاهر بما أوتي منها ولا يتفاخر إلا بما ظهر منها ولم ينستر. الثاني: أنها الطاعة لا يتظاهر بها رياءً إلا ما ظهر منها ولم ينكتم، وهما بعيدان.

{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ} الخمر المقانع أمِرن بإلقائها على صدورهن تغطية لنحورهن فقد كن يلقينها على ظهورهن بادية نحورهن، وقيل: كانت قمصهن مفروجة الجيوب كالدرعة يبدو منها صدروهن فأمرن بإلقاء الخمر لسترها. وكني عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها. ثم قال: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} يعني الزينة الباطنة إبداؤها للزوج استدعاء لميله وتحريكاً لشهوته ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم السلتاء والمرهاء فالسلتاء التي لا تختضب، والمرهاء التي لا تكتحل تفعل ذلك لانصراف شهوة الزوج عنها فأمرها بذلك استدعاء لشهوته، ولعن صلى الله عليه وسلم المفشلة والمسوفة، المسوفة التي إذا دعاها للمباشرة قالت سوف أفعل، والمفشلة التي إذا دعاها قالت إنها حائض وهي غير حائض , وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لُعِنَتِ الغَائِصَةُ وَالمُغَوِّصَةُ) فالغائصة التي لا تعلم زوجها بحيضها حتى يصيبها، والمغوصة التي تدعى أنها حائض ليمتنع زوجها من إصابتها وليست بحائض.

واختلف أصحابنا في تعمد كل واحد من الزوجين النظر إلى فرج صاحبه تلذذاً به على وجهين: أحدهما: يجوز كما يجوز الاستمتاع به لقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187]. الثاني: لا يجوز لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالمَنْظُورَ إِلَيهِ). فأما ما سوى الفرجين منهما فيجوز لكل واحدٍ منهما أن يتعمد النظر إليه من صاحبه وكذلك الأمة مع سيدها. {أَوْءَابَآئِهِنَّ أَوْءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهؤلاء كلهم ذوو محارم بما ذكر من الأسباب والأنساب يجوز أبداً نظر الزينة الباطنة لهم من غير استدعاء لشهوتهم , ويجوز تعمد النظر من غير تلذذ.

والذي يلزم الحرة أن تستر من بدنها مع ذوي محارمها ما بين سرتها وركبتها , وكذلك يلزم مع النساء كلهن أو يستتر بعضهن من بعض ما بين السرة والركبة وهو معنى قوله: {أو نِسَآئِهِنَّ} وفيهن وجهان: أحدهما: أنهن المسلمات لا يجوز لمسلمة أن تكشف جسدها عند كافرة , قاله الكلبي. والثاني: أنه عام في جميع النساء. ثم قاله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني عبيدهن , فلا يحل للحرة عبدها , وإن حل للرجل أمته , لأن البضع إنما يستحقه مالكه , وبضع الحرة لا يكون ملكاً لعبدها , وبضع الأمة ملك لسيدها. واختلف أصحابنا في تحريم ما بطن من زينة الحرة على عبدها، على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تحل ولا تحرم، وتكون عورتها معه كعورتها مع ذوي محرمها، ما بين السرة والركبة لتحريمه عليها ولاستثناء الله تعالى له مع استثنائه من ذوي محرمها وهو مروي عن عائشة وأم سلمة. والثاني: أنها تحرم ولا تحل وتكون عورتها معه كعورتها مع الرجال والأجانب وهو ما عدا الزينة الظاهرة من جميع البدن إلا الوجه والكفين، وتأول قائل هذا الوجه قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} على الإِماء دون العبيد، وتأوله كذلك سعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد. والثالث: أنه يجوز أن ينظر إليها فضلاء، كما تكون المرأة في ثياب بيتها بارزة الذراعين والساقين والعنق اعتباراً بالعرف والعادة، ورفعاً لما سبق، وهو قول عبد الله بن عباس، وأما غير عبدها فكالحر معها، وإن كان عبداً لزوجها وأمها.

ثم قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَة مِنَ الرِّجَالِ} فيه ثمانية أوجه: أحدها: أنه الصغير لأنه لا إرب له في النساء لصغره , وهذا قول ابن زيد. والثاني: أنه العنين لأنه لا إرب له في النساء لعجزه , وهذا قول عكرمة , والشبعي. والثالث: أنه الأبله المعتوه لأنه لا إرب له في النساء لجهالته , وهذا قول سعيد بن جبير , وعطاء. والرابع: أنه المجبوب لفقد إربه , وهذا قول مأثور. والخامس: أنه الشيخ الهرم لذهاب إربه , وهذا قول يزيد بن حبيب. والسادس: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل , وهذا قول قتادة. والسابع: أنه المستطعم الذي لا يهمه إلا بطنه , وهذا قول مجاهد. والثامن: أنه تابع القوم يخدمهم بطعام بطنه , فهو مصروف لا لشهوة , وهو قول الحسن. وفيما أخذت منه الإربة قولان: أحدها: أنها مأخوذة من العقل من قولهم رجل أريب إذا كان عاقلاً. والثاني: أنها مأخوذة من الأرب وهو الحاجة , قاله قطرب. ثم أقول: إن الصغير والكبير والمجبوب من هذه التأويلات المذكورة في وجوب ستر الزينة الباطنة منهم , وإباحة ما ظهر منها معهم كغيرهم , فأما الصغير فإن لم يظهر على عورات النساء ولم يميز من أحوالهن شيئاً فلا عورة للمرأة معه. [فإِن كان مميزاً غير بالغ] لزم أن تستر المرأة منه ما بين سرتها وركبتها وفي لزوم ستر ما عداه وجهان: أحدهما: لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والتكليف له غير لازم. والثاني: يلزم كالرجل لأنه قد يشتهي ويشتهى.

وفي معنى قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} ثلاثة أوجه: الأول: لعدم شهوتهم. والثاني: لم يعرفوا عورات النساء لعدم تمييزهم. والثالث: لم يطيقوا جماع النساء. وأما الشيخ فإن بقيت فيه شهوة فهو كالشباب , فإن فقدها ففيه وجهان: أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة. والثاني: أنها معه محرمة وجميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة، استدامة لحاله المتقدمة. وأما المجبوب والخصي ففيهما لأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها: استباحة الزينة الباطنة معهما. والثاني: تحريمها عليهما. والثالث: إباحتها للمجبوب وتحريمها على الخصي. والعورة إنما سميت بذلك لقبح ظهورها وغض البصر عنها، مأخوذ من عور العين. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} قال قتادة: كانت المرأة إذا مشت تضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها، فنهين عن ذلك.

ويحتمل فعلهن ذلك أمرين: فإما أن يفعلن ذلك فرحاً بزينتهن ومرحاً وإما تعرضاً للرجال وتبرجاً , فإن كان الثاني فالمنع منه حتم , وإن كان الأول فالمنع منه ندب.

32

{وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين} قوله تعالى: {وَأَنكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ} وهو جمع أيّم , وفي الأيم قولان: أحدهما: أنها المتوفى عنها زوجها , قاله محمد بن الحسن. الثاني: أنها التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً وهو قول الجمهور. يقال رجل أيّم إذا لم تكن له زوجة وامرأة أيّم إذا لم يكن لها زوج. ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأيمة يعني العزبة قال الشاعر: (فَإِن تَنْكَحِي أَنكِحْ وإن تَتَأَيَّمِي ... وإن كُنْتَ أَفْتَى منكُم أَتَأَيَّمُ) وروى القاسم قال: أمر بقتل الأيم يعني الحية. وفي هذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه خطاب للأولياء أن ينكحوا آيامهم من أكفائهن إذا دعون إليه

لأنه خطاب خرج مخرج الأمر الحتم فلذلك يوجه إلى الولي دون الزوج. الثاني: أنه خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة. واختلف في وجوبه فذهب أهل الظاهر إليه تمسكاً بظاهر الأمر , وذهب جمهور الفقهاء إلى استحبابه للمحتاج من غير إيجاب وكراهته لغير المحتاج. ثم قال: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن معنى الكلام وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من رجالكم وأنكحوا إماءَكم. الثاني: وهو الأظهر أنه أمر بإنكاح العبيد والإِيماء كما أمرنا بإنكاح الأيامى لاستحقاق السيد لولاية عبده وأمته فإن دعت الأمة سيدها أن يتزوجها لم يلزمه لأنها فراش له , وإن أراد تزويجها كان له خيراً وإن لم يختره ليكتسب رق ولدها ويسقط عنه نفقتها. وإن أراد السيد تزويج عبد أو طلب العبد ذلك من سيده فهل للداعي إليه أن يجبر الممتنع فيهما عليه أم لا؟ على قولين: {إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يَغْنِهِمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح. الثاني: إن يكونوا فقراء إلى المال يغنهم الله إما بقناعة الصالحين , وإما باجتماع الرزقين , وروى عبد العزيز بن أبي رواد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطْلُبُواْ الغِنَى فِي هذِهِ الآية) {إِن يَكُونَواْ فُقَرآءَ يُغْنهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}. {وَاللَّهُ وَاسَعٌ عَلِيمٌ} فيه وجهان: أحدهما: واسع العطاء عليم بالمصلحة.

الثاني: واسع الرزق عليهم بالخلق. قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي وليعف , والعفة في العرف الامتناع من كل فاحشة , قال رؤبة: يعف عن أسرارها بعد الفسق. يعني عن الزنى بها. {حَتَّى يَغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما يغنيهم الله عنه بقلة الرغبة فيه. الثاني: يغني بمال حلال يتزوجون به. {وَالَّذيَنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْراً} أما الكتاب المبتغى هنا هو كتابة العبد والأمة على مال إذا أدياه عتقا به وكانا قبله مالكين للكسب ليؤدي في العتق , فإن تراضى السيد والعبد عليها جاز , وإن دعا السيد إليها لم يجبر العبد عليها. وإن دعا العبد إليها ففي إجبار السيد عليها إذ علم فيه خيراً مذهبان: أحدهما: وهو قول عطاء , وداود , يجب على السيد مكاتبته ويجبر إن أبى. الثاني: وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء أنه يستحب له ولا يجبر عليه فإذا انعقدت الكتابة لزمت من جهة السيد وكان المكاتب فيها مخيراً بين المقام والفسخ. {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} خمسة تأويلات: أحدها: أن الخير , القدرة على الاحتراف والكسب، قاله ابن عمر وابن عباس. الثاني: أن الخير: المال , قاله عطاء ومجاهد. الثالث: أنه الدين والأمانة، قاله الحسن.

الرابع: أنه الوفاء والصدق , قاله قتادة وطاووس. الخامس: أنه الكسب والأمانة , قاله الشافعي. {وءَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِيءَاتَاكُمْ} فيه قولان: أحدهما: يعني من مال الزكاة من سهم الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد. ولا يكره للسيد أخذه وإن كان غنياً , قاله الحسن , وإبراهيم وابن زيد. الثاني: من مال المكاتبة معونة من السيد لمكاتبه كما أعانه غيره من الزكاة. واختلف من ذهب إلى هذا التأويل في وجوبه فذهب أبو حنيفة إلى أنه مستحب وليس بواجب , وذهب الشافعي إلى وجوبه وبه قال عمر وعلي وابن عباس. واختلف من قال بوجوبه في هذا التأويل في تقديره فحكي عن علي أنه قدره بالربع من مال الكتابة , وذهب الشافعي إلى أنه غير مقدر , وبه قال ابن عباس. وإن امتنع السيد منه طوعاً قضى الحاكم به عليه جبراً واجتهد رأيه في قدره، وحكم به في تركته إن مات، وحاص به الغرماء إن أفلس. والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم في قول الشافعي وأصحابه، وإذا عجز عن أداء نجم عند محله كان السيد بالخيار بين إنظاره وتعجيزه وإعادته رقاً، ولا يرد ما أخذه منه أو من زكاة أعين بها أو مال كسبه. قال الكلبي وسبب نزول قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُم فِيهِمْ خَيْراً} الآية؛ أن عبداً اسمه صبح لحويطب بن عبد العزى سأله أن يكاتبه فامتنع حويطب فأنزل الله ذلك فيه. قوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} الفتيات

الإماء، البغاء الزنى، والتحصن التعفف , ولا يجوز أن يكرهها ولا يمكنها سواء أرادت تعففاً أو لم تُرِدْ. وفي ذكر الإِكراه هنا وجهان: أحدهما: لأن الإِكراه لا يصح إلا فيمن أراد التعفف , ومن لم يرد التعفف فهو مسارع إلى الزنى غير مكره عليه. الثاني: أنه وارد على سبب فخرج النهي على صفة السبب وإن لم يكن شرطاً فيه , وهذا ما روى جابر بن عبد الله أن عبد الله بن أبي بن سلول كانت له أمة يقال لها مسيكة وكان يكرهها على الزنى فزنت ببُرْدٍ فأعطته إياه فقال: ارجعي فازني على آخر: فقال: لا والله ما أنا براجعة وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سيدي يكرهني على البغاء فأنزل الله هذه الآية , وكان مستفيضاً من أفعال الجاهلين طلباً للولد والكسب. {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لتأخذوا أجورهن على الزنى. {وَمَن يُكْرِههُّنَّ} يعني من السادة. {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعني للأمة المكرهة دون السيد المكرِه.

35

{الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} فيه أربعة أقاويل:

أحدها: معناه الله هادي السموات والأرض , قاله ابن عباس , وأنس. الثاني: الله مدبر السموات والأرض , قاله مجاهد. الثالث: الله ضياء السموات والأرض , قاله أُبي. الرابع: منور السموات والأرض. فعلى هذا فبما نورهما به ثلاثة أقاويل: أحدها: الله نور السموات بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء. الثاني: أنه نور السموات بالهيبة ونور الأرض بالقدرة. الثالث: نورهما بشمسها وقمرها ونجومها , قاله الحسن , وأبو العالية. {مَثَلُ نُورِهِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: مثل نور الله , قاله ابن عباس. الثاني: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم , قاله ابن شجرة. الثالث: مثل نور المؤمن , قاله أُبي. الرابع: مثل نور القرآن , قاله سفيان. فمن قال: مثل نور المؤمن , يعني في قلب نفسه , ومن قال: مثل نور محمد , يعني في قلب المؤمن , ومن قال: نور القرآن , يعني في قلب محمد. ومن قال: نور الله , فيه قولان: أحدهما: في قلب محمد. الثاني: في قلب المؤمن. {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن المشكاة كوة لا منفذ لها والمصباح السراج , قاله كعب الأحبار. الثاني: المشكاة القنديل والمصباح الفتيلة , قاله مجاهد. الثالث: المشكاة موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأُنبوب , والمصباح الضوء قاله ابن عباس. الرابع: المشكاة الحديد الذي به القنديل وهي التي تسمى السلسلة

والمصباح هو القنديل , وهذا مروي عن مجاهد أيضاً. الخامس: أن المشكاة صدر المؤمن والمصباح القرآن الذي فيه والزجاجة قلبه , قاله أُبَي , قال الكلبي: والمشكاة لفظ حبشي معرب. {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} فيه قولان: أحدهما: يعني أن نار المصباح في زجاجة القنديل لأنه فيها أضوأ , وهو قول الأكثرين. الثاني: أن المصباح القرآن والإِيمان، والزجاجة قلب المؤمن، قاله أُبَي. {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أما الكوكب ففيه قولان: أحدهما: أنه الزهرة خاصة، قاله الضحاك. الثاني: أنه أحد الكواكب المضيئة من غير تعيين , وهو قول الأكثرين. وأما درّي ففيه أربع قراءات. إحداها: دُريّ بضم الدال وترك الهمز وهي قراءة نافع وتأويلها أنه مضيء يشبه الدر لضيائه ونقائه. الثانية: بالضم والهمز وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر وتأويلها أنه مضيء. الثالثة: بكسر الدال وبالهمز وهي قراءة أبي عمرو والكسائي وتأويلها أنه متدافع لأنه بالتدافع يصير منقضاً فيكون أقوى لضوئه مأخوذ من درأ أي دفع يدفع. الرابعة: بالكسر وترك الهمز وهي قراءة المفضل بن عاصم , وتأويلها أنه جار كالنجوم الدراري الجارية من درّ الوادي إذا جرى. {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} فيه قولان:

أحدهما: يعني بالشجرة المباركة إبراهيم والزجاجة التي كأنها كوكب دري محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مروي عن ابن عمر. الثاني: أنه صفة لضياء المصباح الذي ضربه الله مثلاً يعني أن المصباح يشعل من دهن شجرة زيتونة. {مُّبَارَكَةٍ} في جعلها مباركة وجهان: أحدهما: لأن الله بارك في زيتون الشام فهو أبرك من غيره. الثاني: لأن الزيتون يورق غصنه من أوله إلى آخره وليس له في الشجر مثيل إلا الرمان. قال الشاعر: (بُورِكَ الْمَيْتُ الغَرِيبُ كَمَا بُو ... رِكَ نَضْرُ الرُّمَّانِ والزَّيْتُونِ) {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} فيه سبعة أقاويل: أحدها: أنها ليست من شجرة الشرق دون الغرب ولا من شجرة الغرب دون الشرق لأن ما اختص بأحد الجهتين أقل زيتاً وأضعف , ولكنها شجر ما بين الشرق والغرب كالشام لاجتماع القوتين فيه، وهو قول ابن شجرة وحكي عن عكرمة. ومنه قولهم: لا خير في المتقاة والمضحاة , فالمتقاة أسفل الوادي الذي لا تصيبه الشمس , والمضحاة رأس الجبل الذي لا تزول عنه الشمس. الثاني: أنها ليست بشرقية تستر عن الشمس في وقت الغروب ولا بغربية تستر عن الشمس وقت الطلوع بل هي بارزة للشمس من وقت الطلوع إلى وقت الغروب فيكون زيتها أقوى وأضوأ، قاله قتادة. الثالث: أنها وسط الشجرة لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أضوأ لزيتها، قاله عطية.

الرابع: أنها ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها , حكاه يحيى ابن سلام. الخامس: أنها ليست من شجر الدنيا التي تكون شرقية أو غربية , وإنما هي من شجر الجنة , قاله الحسن. السادس: أنها مؤمنة لا شرقية ولا غربية , أي ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق , ولا غربية أي ليست بيهودية تصلي إلى الغرب , قاله ابن عمر. السابع: أن الإِيمان ليس بشديد ولا لين لأن في أهل الشرق شدة , وفي أهل الغرب لينٌ. {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن صفاء زيتها كضوء النار وإن لم تمسسه نار , ذكره ابن عيسى. الثاني: أن قلب المؤمن يكاد أن يعرف قبل أن يتبين له لموافقته له , قاله يحيى بن سلام. الثالث: يكاد العلم يفيض من فم العالم المؤمن من قبل أن يتكلم به. الرابع: تكاد أعلام النبوة تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدعو إليها. {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} فيه ستة أقاويل: أحدها: يعني ضوء النار على ضوء الزيت على ضوء الزجاجة، قاله مجاهد. الثاني: نور النبوة على نور الحكمة , قاله الضحاك. الثالث: نور الزجاجة على نور الخوف. الرابع: نور الإِيمان على نور العمل. الخامس: نور المؤمن فهو حجة الله، يتلوه مؤمن فهو حجة الله حتى لا تخلو الأرض منهم. السادس: نور نبي من نسل نبي، قاله السدي. {يَهْدِي لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يهدي الله لدينه من يشاء من أوليائه، قاله السدي.

الثاني: يهدي الله لدلائل هدايته من يشاء من أهل طاعته. الثالث: يهدي الله لنبوته من يشاء من عباده. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} الآية. وفيما ضربت هذه الآية مثلاً فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها مثل ضربه الله للمؤمن في وضوح الحق له. الثاني: أنها مثل ضربه الله لطاعته فسى الطاعة نوراً لتجاوزها عن محلها. الثالث: ما حكاه ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد كيف يخلص نور الله من دون السماء فضرب الله ذلك مثلاً لنوره.

36

{في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} قوله: {فِي بُيُوتٍ} في هذه البيوت قولان: أحدهما: أنها المساجد , قاله ابن عباس , والحسن , ومجاهد. الثاني: أنها سائر البيوت , قاله عكرمة. {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} أربعة أوجه: أحدها: أن تُبْنَى , قاله مجاهد كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} أي يبني. الثاني: أنها تطهر من الأنجاس والمعاصي , حكاه ابن عيسى. الثالث: أن تعظم , قاله الحسن. الرابع: أن ترفع فيها الحوائج إلى الله.

{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: يتلى فيها كتابه , قاله ابن عباس. الثاني: تذكر فيها أسماؤه الحسنى , قاله ابن جرير. الثالث: توحيده بأن لا إله غيره , قاله الكلبي. وفيما يعود إليه ذكر البيوت التي أذن الله أن ترفع قولان: أحدهما: إلى ما تقدم من قوله: كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله. الثاني: إلى ما بعده من قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما: أنه تنزيه الله. الثاني: أنه الصلاة , قاله ابن عباس والضحاك. {بالْغَدُوِّ وَالآصَالِ} الغدو جمع غَدوة والآصال جمع أصيل وهي العشاء. {رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} قال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون , والباعة هم المقيمون. {عَن ذِكْرِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: عن ذكره بأسمائه الحسنى. الثاني: عن الأذان , قاله يحيى بن سلام. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبِ وَالأبْصَارُ} فيه خمسة أوجه: أحدها: يعني تقلبها على حجر جهنم. الثاني: تقلب أحوالها بأن تلفحها النار ثم تنضجها وتحرقها. الثالث: أن تقلب القلوب وجيبها , وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال. الرابع: أن تقلب القلوب بلوغها الحناجر , وتقلب الأبصار الزّرَق بعد الكحل، والعمى بعد البصر.

الخامس: أن الكافر بعد البعث ينقلب قلبه على الكفر إلى الإيمان وينقلب بصره عما كان يراه غياً فيراه رشداً. {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} فذكر الجزاء على الحسنات ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازى عليها لأمرين: أحدهما: أنه ترغيب فاقتصر على ذكر الرغبة. الثاني: أنه يكون في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر فكانت صغائرهم مغفورة. {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها. الثاني: ما يتفضل به من غير جزاء. {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بغير جزاء بل يسديه تفضلاً. الثاني: غير مقدر بالكفاية حتى يزيد عليها. الثالث: غير قليل ولا مضيق. الرابع: غير ممنون به. وقيل لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء مسجد قباء فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله قد أفلح من بنى المساجدا؟ قال: (نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ) قال , وصلى فيها قائماً وقاعداً قال: (نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةِ) قال: ولم يبت لله إلا ساجداً؟ قال: (نَعَمْ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ. كُفّ عَنِ السَّجْعِ فَمَا أُعْطِيَ عَبْدٌ شَيئاً شَرّاً مِن طَلاَقَةِ لِسَانِهِ).

39

{والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات

بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أََعَمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بقِيعَةٍ} أما السراب فهو الذي يخيل لمن رآه في الفلاة كأنه الماء الجاري قال الشاعر: (فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلاَ مُتَأَلِّق) والآل كالسراب إلا أنه يرتفع عن الأرض في وقت الضحى حتى يصير كأنه بين الأرض والسماء , وقيل: إن السراب بعد الزوال والآل قبل الزوال والرقراق بعد العصر وأما القيعة فجمع قاع مثل جيرة وجار , والقاع ما انبسط من الأرض واستوى. {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} يعني العطشان يحسب السراب ماءً. {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} وهذا مثل ضربه الله للكافر يعول على ثواب عمله فإذا قدم على الله وجد ثواب عمله بالكفر حابطاً. {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} فيه وجهان: أحدهما: وجد أمر الله عند حشره. الثاني: وجد الله عند عرضه. {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: ووجد الله عند عمله فجازاه على كفره. والثاني: وجد الله عند وعيده فوفى بعذابه ويكون الحساب على الوجهين معاً محمولاً على العمل , كما قال امرؤ القيس: (فوّلَّى مُدْبِراً وَأيْقَنَ ... أنَّه لاَقِى الْحِسَابَا) {وَاللَّهُ سَرِيع الْحِسَابِ} يحتمل وجهين: أحدهما: لأن حسابه آت وكل آت سريع.

الثاني: لأنه يحاسب جميع الخلق في وقت سريع. قيل إن هذه الآية نزلت في شيبة بن ربيعة وكان يترهب في الجاهلية ويلبس الصوف ويطلب الدين فكفر في الإِسلام. قوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} الظلمات: ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل. وفي قوله لجيّ ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه البحر الواسع الذي لا يرى ساحله , حكاه ابن عيسى. الثاني: أنه البحر الكثير الموج , قاله الكلبي. الثالث: أنه البحر العميق , وهذا قول قتادة , ولجة البحر وسطه , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ رَكِبَ البَحْرَ إِذَا الْتَجَّ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ) يعني إذا توسطه. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: يغشاه موج من فوق الموج ريح , من فوق الريح سحاب فيجمع خوف الموج وخوف الريح وخوف السحاب. الثاني: معناه يغشاه موج من بعده فيكون المعنى الموج بعضه يتبع بعضاً حتى كأنه بعضه فوق بعض وهذا أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب , ومن فوق هذا الموج سحاب وهو أعظم للخوف من وجهين: أحدهما: أنه قد يغطي النجوم التي يهتدى بها. الثاني: الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه. {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يريد الظلمات التي بدأ بذكرها وهي ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل. الثاني: يعني بالظلمات الشدائد أي شدائد بعضها فوق بعض. {إِذَا أخْرَجَ يَدَه لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فيه وجهان: أحدهما: معناه أنه رآها بعد أن كاد لا يراها , حكاه ابن عيسى. الثاني: لم يرها ولم يكد , قاله الزجاج , وهو معنى قول الحسن. وفي قوله لم يكد وجهان: أحدهما: لم يطمع أن يراها. الثاني: لم يرها ويكاد صلة زائدة في الكلام. {ومَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهَ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} فيه وجهان: أحدهما: ومن لم يجعل الله له سبيلاً إلى النجاة في الآخرة فما له من سبيل إليها حكاه ابن عيسى. الثاني: ومن لم يهده الله للإِسلام لم يهتد إليه , قاله الزجاج. وقال بعض أصحاب الخواطر وجهاً ثالثاً: ومن لم يجعل الله نوراً له في وقت القسمة فما له من نور في وقت الخلقة. ويحتمل رابعاً: ومن لم يجعل الله له قبولاً في القلوب لم تقبله القلوب. وهذا المثل ضربه الله للكافر , فالظمات ظلمة الشرك وظلمة الليل وظلمة المعاصي , والبحر اللجي قلب الكافر , يغشاه من فوقه عذاب الدنيا , فوقه عذاب الآخرة.

41

{ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير}

قوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَآفَاتٍ} أي مصطفة الأجنحة في الهواء. {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الصلاة للإِنسان والتسبيح لما سواه من سائر الخلق , قاله مجاهد. الثاني: أن هذا في الطير وإن ضرب أجنحتها صلاة وأن أصواتها تسبيح , حكاه النقاش. الثالث: أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود , قاله سفيان. ثم فيه قولان: أحدهما: أن كل واحد منهم قد علم صلاته وتسبيحه. الثاني: أن الله قد علم صلاته وتسبيحه.

43

{ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} قوله تعالى: {يُزْجِي سَحَاباً} فيه وجهان: أحدهما: ينزله قليلاً بعد قليل , ومنه البضاعة المزجاة لقلتها. الثاني: أنه يسوقه إلى حيث شاء ومنه زجا الخراج إذا انساق إلى أهله قال النابغة: (إِنِّي أتَيْتُكَ من أَهْلِي ومنْ وَطَنِي ... أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ ما بِها رَمَقٌ) {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه ثم يفرقه عند انتشائه ليقوى ويتصل.

{ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أي يركب بعضه بعضاً. {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} فيه قولان: أحدهما: أن الودق البرق يخرج من خلال السحاب قال الشاعر: (أثرن عجاجة وخرجن منها ... خروج الودق من خلَلَ السحاب) وهذا قول أبي الأشهب: الثاني: أنه المطر يخرج من خلال السحاب , وهو قول الجمهور , ومنه قول الشاعر: (فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها) {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن في السماء جبال برد فينزل من تلك الجبال ما يشاء فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. الثاني: أنه ينزل من السماء برداً يكون كالجبال. الثالث: أن السماء السحاب , سماه لعلوه , والجبال صفة السحاب أيضاً سمي جبالاً لعِظمه فينزل منه برداً يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فتكون إصابته نقمة وصرفه نعمة. {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: صوت برقه. الثاني: ضوء برقه , قاله يحيى بن سلام ومنه قول الشماخ. (وما كادت إذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إلاّ البصير) الثالث: لمعان برقه , قاله قتادة والصوت حادث عن اللمعان كما قال امرؤ القيس:

(يضي سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المفتل) فيكون البرق دليلاً على تكاثف السحاب , ونذيراً بقوة المطر , ومحذراً من نزول الصواعق. قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ} فيه ثلاث أوجه: أحدها: هو أن يأتي بالليل بعد النهار ويأتي بالنهار بعد الليل , حكاه ابن عيسى. الثاني: أن ينقص من الليل ما يزيد من النهار وينقص من النهار ما يزيد في الليل , حكاه يحيى بن سلام. الثالث: أنه يغير النهار بظلمة السحاب تارة وبضوء الشمس أخرى , ويغير الليل بظلمة السحاب مرة وبضوء القمر مرة , حكاه النقاش. ويحتمل رابعاً: أن يقلبها باختلاف ما يقدر فيهما من خير وشر ونفع وضر.

45

{والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبّةٍ مِّن مَّاءٍ} فيه قولان: أحدهما: أن أصل الخلق من ماء ثم قلب إلى النار فخلق منها الجن , وإلى النور فخلق منها الملائكة، وإلى الطين فخلق منه من خلق وما خلق، حكاه ابن عيسى. الثاني: أنه خالق كل دابة من ماء النطفة، قاله السدي. {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} كالحية والحوت. {وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رَجْلَينِ} الإِنسان والطير. {وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالمواشي والخيل , ولم يذكر ما يمشي،

ولم يذكر ما يمشى على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع لأنه يعتمد في المشي على أربع.

47

{ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} هذه الآية نزلت في بشر , رجلٌ من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف لأن الحق إذا كان متوجهاً على المنافق إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسقط عنه , وإذا كان له حاكم إليه ليستوفيه منه فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنها نزلت في المغيرة بن وائل من بني أمية كان بينه وبين علي كرم الله وجهه خصومة في ماء وأرض فامتنع المغيرة أن يحاكم علياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنه يبغضني , فنزلت هذه الآية. {وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} فيه أربعة أوجه: أحدهما: طائعين , حكاه ابن عيسى. الثاني: خاضعين , حكاه النقاش. الثالث: مسرعين , قاله مجاهد.

الرابع: مقرنين , قاله الأخفش وفيها دليل على أن من دعي إلى حاكم فعليه الإِجابة ويحرج إن تأخر. وقد روى أبو الأشهب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دُعِيَ إِلَى حَاكِمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لاَ حَقَّ لَهُ). ثم قال: {أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيه قولان: أحدهما: شرك , قاله الحسن. الثاني: نفاق , قاله قتادة.

{أَمِ ارْتَابُواْ} أي شكوا ويحتمل وجهين: أحدهما: في عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: في نبوته.

53

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين} قوله تعالى: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: طاعة صادقة خير من أيمان كاذبة. الثاني: قد عرف نفاقكم في الطاعة فلا تتجملوا بالأيمان الكاذبة. قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الرسول. {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ} أي عليه ما حمل من إبلاغكم , وعليكم ما حملتم من طاعته. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن عليه ما حمل من فرض جهادكم , وعليكم ما حملتم من وزر عباده. {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} يعني إلى الحق. {وَمَا عَلَى الرَّسُولَِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} يعني بالقول لمن أطاع وبالسيف لمن عصى.

55

{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر

بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير} قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ليَسَتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: يعني أرض مكة , لأن المهاجرين سألوا الله ذلك , قاله النقاش. والثاني: بلاد العرب والعجم , قاله ابن عيسى. روى سليم بن عامر عن المقدام بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لاَ يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ بَيْتُ حَجَرٍ وَلاَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعزٍّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلٍّ ذَلِيلٍ , إما يعزهم فيجعلهم من أهلها , وإما يذلهم فيدينون لها). {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فيه قولان: أحدهما يعني بني إسرائيل في أرض الشام. الثاني: داود وسليمان. {وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} يعني دين الإِسلام وتمكينه أن يظهره على كل دين. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً} لأنهم كانوا مطلوبين فطلبوا , ومقهورين فقهروا.

{يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: لا يعبدون إلهاً غيري , حكاه النقاش. الثاني: لا يراءون بعبادتي أحداً. الثالث: لا يخافون غيري , قاله ابن عباس. الرابع: لا يحبون غيري , قاله مجاهد. قال الضحاك: هذه الآية في الخلفاء الأربعة: أبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي رضي الله عنهم وهم الأئمة المهديون , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخِلاَفَةُ بَعْدِي ثَلاَثونَ سَنَةً).

58

{يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم} قوله تعالى: {لَيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيَمَانُكُم} فيهم قولان:

أحدهما: أنهم النساء يستأذنَّ في هذه الأوقات خاصة ويستأذن الرجال في جميع الأوقات , قاله ابن عمر. الثاني: أنهم العبيد والإِماء. وفي المعنى بالاستئذان ثلاثة أقاويل: أحدها: العبد دون الأمة يستأذن على سيده في هذه الأوقات الثلاثة , قاله ابن عمر , ومجاهد. الثاني: أنها الإِماء لأن العبد يجب أن يستأذن أبداً في هذه الأوقات وغيرها , قاله ابن عباس. الثالث: أنه على عمومه في العبد والأمة , قاله أبو عبد الرحمن السلمي. {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الحُلُمَ مِنْكُم} هم الصغار الأحرار فمن كان منهم غير مميز لا يصف ما رأى فليس من أهل الاستئذان ومن كان مميزاً يصف ما رأى ويحكي ما شاهد فهو المعني بالاستئذان. {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثَيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ} وهذه الساعات الثلاث هي أوقات الاستئذان من تقدم ذكره ولا يلزمهم الاستئذان في غيرها من الأوقات , فذكر الوقت الأول وهو من قبل صلاة الفجر وهو من بعد الاستيقاظ من النوم إلى صلاة الصبح , ثم ذكر الوقت الثاني فقال: {وَحِينَ تَضَعُونَ} وهو وقت الخلوة لنومة القائلة , ثم ذكر الوقت الثالث فقال: {وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعَشَآءِ} يعني الآخرة وقد تسميها العامة العتمة وسميت العشاء لأن ظلام وقتها يعشي البصر. وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوات الرجل مع أهله ولأنه ربما بدا فيها عند خلوته ما يكره أن يرى من جسده , فقد روي أن عمر بن الخطاب كان في منزله وقت القائلة فأنفذ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من أولاد الأنصار يقال له مدلج فدخل على عمر بغير إذن وكان نائماً فاستيقظ عمر بسرعة فانكشف شيء من جسده فنظر إليه الغلام فحزن عمر فقال: وددت لو أن الله بفضله نهى أبناءنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذننا ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخرَّ ساجداً [شكراً لله].

{ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} يعني هذه الساعات الثلاث هي أوقات العورات فصارت من عورات الزمان فجرت مجرى عورات الأبدان فلذلك خصت بالإِذن. {لَيْسَ عَلَيْكَمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جَنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} فيه وجهان: أحدهما: يعني ليس عليكم يا أهل البيوت جناح في تبذلكم في هذه الأوقات. الثاني: ليس عليكم جناح في منعهم في هذه الأوقات. ولا على المملوكين والصغار جناح في ترك الاستئذان فيما سوى هذه الأوقات. {طَوَّافُونَ عَلَيْكَم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني أنهم طوّافون عليكم للخدمة لكم فلم ينلهم حرج في دخول منازلكم , والطوافون الذين يكثرون الدخول والخروج. ثم أوجب على من بلغ من الصبيان الاستئذان إذا احتلموا وبلغوا لأنهم صاروا بالبلوغ في حكم الرجال فقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُم الحُلُمَ فَلْيَسْتَأَذِنُواْ كَمَا اسْتَأَْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} يعني الرجال. قوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ} والقواعد جمع قاعدة وهن اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض والحمل ولا يحضن ولا يلدن. قال ابن قتيبة: بل سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثر منهن القعود. وقال زمعة: لا تراد , فتقعد عن الاستمتاع بها والأول أشبه. قال الشاعر: (فلو أن ما في بطنه بين نسوة ... حبلن ولو كان القواعد عقراً) وقوله: {الَّلاتِي لاَ يَرْجُونَ نَكَاحاً} أي أنهن لأجل الكبر لا يردن الرجال ولا يريدهن الرجال. {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جَنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} فيه قولان: أحدهما: جلبابها وهو الرداء الذي فوق خمارها فتضعه عنها إذا سترها باقي ثيابها قاله ابن مسعود وابن جبير. الثاني: خمارها ورداؤها , قاله جابر بن زيد.

{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ} والتبرج أن تظهر من زينتها ما يستدعي النظر إليها فإنه في القواعد وغيرهن محظور. وإنما خص القواعد بوضع الجلباب لانصراف النفوس عنهن ما لم يبد شيء من عوراتهن. والشابات المشتهيات يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن. وقد روى مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِلزَّوْجِ مَا تَحْتَ الدِّرْعِ , وَلِلإِبْنِ وَالأَخِ مَا فَوقَ الدِّرْعِ , وَلِغَيْرِ ذِي مُحْرِمٍ أَرْبَعَةُ أَثْوَابٍ: دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَجِلْبَابٍ وَإِزَارٍ). {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} يعني إن يستعفف القواعد عن وضع ثيابهن ويلزمن لبس جلابيبهن خير لهن من وضعها وإن سقط الحرج عنهن فيه.

61

{ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون} قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن الأنصار كانوا يتحرجون أن يؤاكلوا هؤلاء إذا دعوا إلى الطعام فيقولون: الأعمى لا يبصر أطيب الطعام , والأعرج لا يستطيع الزحام عند الطعام،

والمريض يضعف عن مشاركة الصحيح في الطعام. وكانوا يقولون: طعامهم مفرد ويرون أنه أفضل من أن يكونوا شركاء , فأنزل الله هذه الآية فيهم ورفع الحرج عنهم في مؤاكلتهم , قاله ابن عباس , والضحاك , والكلبي. الثاني: أنه ليس على هؤلاء من أهل الزمانة حرج أن يأكلوا من بيوت من سمى الله بعد هذا من أهاليهم , قاله مجاهد. الثالث: أنه كان المذكورون من أهل الزمانة يخلفون الأنصار في منازلهم إذا خرجواْ بجهاد وكانوا يتحرجون أن يأكلوا منها فرخص الله لهم في الأكل من بيوت من استخلفوهم فيها , قاله الزهري. الرابع: أنها نزلت في إسقاط الجهاد عمن ذكروا من أهل الزمانة. الخامس: ليس على من ذكر من أهل الزمانة حرج إذا دُعِي إلى وليمة أن يأخذ معه قائده , وهذا قول عبد الكريم. {وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: من أموال عيالكم وأزواجكم لأنهم في بيته. الثاني: من بيوت أولادكم فنسب بيوت الأولاد إلى بيوت أنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (أَنتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ) ولذلك لم يذكر الله بيوت الأبناء حين ذكر بيوت الآباء والأقارب اكتفاء بهذا الذكر. الثالث: يعني بها البيوت التي هم ساكنوها خدمة لأهلها واتصالاً بأربابها كالأهل والخدم. {أَوْ بُيُوتِءَابَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ} فأباح الأكل من بيوت هؤلاء لمكان النسب من غير استئذانهم في الأكل إذا كان الطعام

مبذولاً، فإن كان محروزاً دونهم لم يكن لهم هتك حرزه. ولا يجوز أن يتجاوزوا الأكل إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن كان غير محروز عنهم إلا بإذن منهم ثم قال: {أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عَنَى به وكيل الرجل وَقيِّمه في ضيعته يجوز له أن يأكل مما يقوم عليه من ثمار ضيعته , قاله ابن عباس. الثاني: أنه أراد منزل الرجل نفسه يأكل مما ادخره , قاله قتادة. الثالث: أنه عنى به أكل السيد من منزل عبده وماله لأن مال العبد لسيده , حكاه ابن عيسى. {أَوْ صَدِيقِكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه يأكل من بيت صديقه في الوليمة دون غيرها. الثاني: أنه يأكل من منزل صديقه في الوليمة وغيرها إذا كان الطعام حاضراً غير محرز. قال ابن عباس: الصديق أكثر من الوالدين , ألا ترى أن الجهنميين لم يستغيثوا بالآباء ولا الأمهات وإنما قالوا: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الصَّدِيقِ البَارِّ عِوَضَاً عَنِ الرَّحِمِ المَذْمُومَةِ) والمراد بالصديق الأصدقاء وهو واحد يعبر به عن الجميع , قال جرير: (دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا. ... . بأسهم أعداءٍ وهن صديقُ) وفي الصديق قولان: أحدهما: أنه الذي صدقك عن مودته. الثاني: أنه الذي يوافق باطنه باطنك كما وافق ظاهره ظاهرك. ثم اختلفوا في نسخ ما تقدم ذكره بعد ثبوت حكمه على قولين: أحدهما: أنه على ثبوته لم ينسخ شيء منه , قاله قتادة.

الثاني: أنه منسوخ بقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} الآية. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مَالُ امْرِىءْ مُسْلِمٍ إلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنهُ) قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنها نزلت في بني كنانة كان رجل منهم يرى أن مُحرَّماً عليه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن الرجل ليسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه , فأنزل فيهم هذه الآية , قاله قتادة وابن جريج. الثاني: أنها نزلت في قوم من العرب كان الرجل منهم إذا نزل به ضيف تحرج أن يتركه يأكل وحده حتى يأكل معه , فنزل ذلك فيهم , قال أبو صالح. الثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يتحرجون أن يأكلوا جميعاً ويعتقدون أنه ذنب ويأكل كل واحد منهم منفرداً , فنزل ذلك فيهم , حكاه النقاش. الرابع: أنها نزلت في قوم مسافرين اشتركوا في أزوادهم فكان إذا تأخر أحدهم أمسك الباقون عن الأكل حتى يحضر , فنزل ذلك فيهم ترخيصاً للأكل جماعة وفرادى. {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً} فيها قولان:

: أحدهما: أنه المساجد. الثاني: أنها جميع البيوت. {فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: يعني إذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلموا على أهاليكم وعيالكم , قاله جابر. الثاني: إذا دخلتم المساجد فسلموا على من فيها , وهذا قول ابن عباس. الثالث: إذا دخلتم بيوت غيركم فسلموا عليهم , قاله الحسن. الرابع: إذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أهل دينكم , قاله السدي. الخامس: إذا دخلتم بيوتاً فارغة فسلموا على أنفسكم وهو أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين , قاله ابن عمر , وإبراهيم , وأبو مالك , وقيل: سلامه على نفسه أن يقول: السلام علينا من ربنا تحية من عند الله. وإذا سلم الواحد من الجماعة أجزأ عن جميعهم , فإذا دخل الرجل مسجداً ذا جمع كثير سلم يسمع نفسه , وإذا كان ذا جمع قليل أسمعهم أو بعضهم. قال الحسن: كان النساء يسلمن على الرجال ولا يسلم الرجال على النساء , وكان ابن عمر يسلم على النساء , ولو قيل لا يسلم أحد الفريقين على الآخر كان أولى لأن السلام مواصلة. {تَحِيَّةً مِنْ عِندِ اللَّهِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى. الثاني: أن التحية بالسلام من أوامر الله. الثالث: أن الرد عليه إذا سلم دعاء له عند الله. الرابع: أن الملائكة ترد عليه فيكون ثواباً من عند الله. {مُبَارَكَةً} فيها وجهان: أحدهما: لما فيها من الثواب الجزيل.

الثاني: لما يرجى من ثواب الدعاء. {طَيِّبَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: لما فيها من طيب العيش بالتواصل. الثاني: لما فيها من طيب الذكر والشأن.

62

{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم} قوله تعالى: { ... . وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الأمر الجامع الجمعة والعيدان والاستسقاء وكل شيء يَكون فيه الخطبة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه الجهاد , قاله زيد بن أسلم. الثالث: طاعة الله , قاله مجاهد. {لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ} أي لم ينصرفوا عنه حتى يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه. {فَإِذَا اسْتَئذَنُوكَ لبَعْضِ شَأْنِهِمْ ... .} الآية. وهذا بحسب ما يرى من أعذارهم ونياتهم وروي أن هذا نزل في عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مع النبي صلى الله عليهم وسلم في غزاة بتوك فاستأذنه في الرجوع إلى أهله فقال: (انْطَلِقْ فَوَاللَّهِ مَا أَنتَ بِمُنَافِقٍ وَلاَ مُرْتَابٍ) وكان المنافقون إذا استأذنوا نظر إليهم ولم يأذن لهم فكان بعضهم يقول لبعض: محمدٌ يزعم أنه بُعِث بالعدل وهكذا يصنع بنا. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} يعني لمن أذن له من المؤمنين ليزول عنه باستغفاره ملامة الانصراف قال قتادة: وهذه الآية ناسخة قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَدِنتَ لَهُم} الآية.

63

{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم} قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} الآية. فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه نهي من الله عن التعرض لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسخاطه لأن دعاءه يوجب العقوبة وليس كدعاء غيره , قاله ابن عباس. الثاني: أنه نهي من الله عن دعاء رسول الله بالغلظة والجفاء وَلْيَدْعُ بالخضوع والتذلل: يا رسول الله , يا نبي الله , قاله مجاهد , وقتادة. الثالث: أنه نهي من الله عن الإِبطاء عند أمره والتأخر عند استدعائه لهم إلى الجهاد ولا يتأخرون كما يتأخر بعضهم عن إجابة بعض , حكاه ابن عيسى. {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} فيه قولان: أحدهما: أنهم المنافقون كانوا يتسلّلُون عن صلاة الجمعة لواذاً أي يلوذ بعضهم ببعض ينضم إليه استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة فنزل ذلك فيهم , حكاه النقاش. الثاني: أنهم كانوا يتسللون في الجهاد رجوعاً عنه يلوذ بعضهم ببعض لواذاً فنزل ذلك فيهم , قاله مجاهد. وقال الحسن معنى قوله: {لِوَاذاً} أي فراراً من الجهاد , ومنه قول حسان ابن ثابت:

(وقريش تجول منكم لواذاً ... لم تحافظ وخفّ منها الحلوم) {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} فيه قولان: أحدهما: يخالفون عن أمر الله , قاله يحيى بن سلام. الثاني: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله قتادة. ومعنى قوله: {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي يعرضون عن أمره , وقال الأخفش: {عَنْ} في هذا الموضع زائدة ومعنى الكلام فليحذر الذين يخالفون أمره , وسواء كان ما أمرهم به من أمور الدين أو الدنيا. {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: كفر، قاله السدي. الثاني: عقوبة , قاله ابن كامل. الثالث: بلية تُظْهِرُ ما في قلوبهم من النفاق , حكاه ابن عيسى. {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فيه قولان: أحدهما: القتل في الدنيا , قاله يحيى بن سلام. الثاني: عذاب بجهنم في الآخرة.

سورة الفرقان مكية كلها قال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهي: {والذين لا يدعون} إلى قوله: {غفورا رحيما}. بسم الله الرحمن الرحيم

الفرقان

{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} قوله تعالى: {تَبَارَكَ ... .} في تبارك ثلاثة أوجه: أحدها: تفاعل مع البركة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الذي يجيىء البركة من قِبَلِهِ , قاله الحسن. الثالث: خالق البركة: قاله إبراهيم. وفي البركة ثلاثة أقاويل: أحدها: العلو. الثاني: الزيادة.

الثالث: العظمة. فيكون تأويله على الوجه الأول: تعالى , وعلى الوجه الثاني تزايد , وعلى الوجه الثالث: تعاظم. و {الْفُرْقَانَ} هو القرآن وقيل إنه اسم لكل كتاب منزل كما قال تعالى: {وَإِذءَاتَينَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفَرْقَانَ} وفي تسميته فرقاناً وجهان: أحدهما: لأنه فرق بين الحق والباطل. الثاني: لأن فيه بيان ما شرع من حلال وحرام , حكاه النقاش. {عَلَى عَبْدِهِ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم , وقرأ ابن الزبير {عَلَى عِبَادِهِ} بالجمع. {لِيَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيراً} فيه قولان: أحدهما: ليكون محمد نذيراً , قاله قتادة , وابن زيد. الثاني: ليكون الفرقان , حكاه ابن عيسى. والنذر: المحذر من الهلاك , ومنه قول الشاعر: (فلما تلاقينا وقد كان منذر. ... . نذيراً فلم يقبل نصيحة ذي النذر) والمراد بالعالمين هنا الإِنس والجن لأن النبي صلى الله عليه قد كان رسولاً إليهما ونذيراً لهما وأنه خاتم الأنبياء , ولم يكن غيره عامّ الرسالة إلا نوحاً فإنه عم برسالته جميع الإِنس بعد الطوفان لأنه بدأ به الخلق , واختلف في عموم رسالته قبل الطوفان على قولين: أحدهما: عامة لعموم العقاب بالطوفان على مخالفته في الرسالة. الثاني: خاصة بقومه لأنه ما تجاوزهم بدعائه.

4

{وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما}

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني مشركي قريش , وقال ابن عباس: القائل منهم ذلك النضر بن الحارث. {إِن هذَآ} يعني القرآن. {إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ} أي كذب اختلقه. {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌءَاخَرُونَ} وفيمن زعموا أنه أعانه عليه أربعة أقاويل: أحدها: قوم من اليهود , قاله مجاهد. الثاني: عبد الله الحضرمي، قاله الحسن. الثالث: عدّاس غلام عتبة، قاله الكلبي. والرابع: أبو فكيهة الرومي , قاله الضحاك.

7

{وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم قالوا ذلك إزراء عليه أنه لما كان مثلهم محتاجاً إلى الطعام

ومتبذلاً في الأسواق لم يجز أن يتميز عليهم بالرسالة ووجب أن يكون مثلهم في الحكم. الثاني: أنهم قالوا ذلك استزادة له في الحال كما زاد عليهم في الاختصاص فكان يجب ألاّ يحتاج إلى الطعام كالملائكة , ولا يتبذل في الأسواق كالملوك. ومرادهم في كلا الوجهين فاسد من وجهين: أحدهما: أنه ليس يوجب اختصاصه بالمنزلة نقله عن موضع الخلقة لأمرين: أحدهما: أن كل جنس قد يتفاضل أهله في المنزلة ولا يقتضي تمييزهم في الخلقة كذلك حال من فضل في الرسالة. الثاني: أنه لو نقل عن موضوع الخلقة بتمييزه بالرسالة لصار من غير جنسهم ولما كان رسولاً منهم , وذلك مما تنفر منه النفوس. وأما الوجه الثاني: فهو أن الرسالة لا تقتضي منعه من المشي في الأسواق لأمرين: أحدهما: أن هذا من أفعال الجبابرة وقد صان الله رسوله عن التجبر. الثاني: لحاجته لدعاء أهل الأسواق إلى نبوته , ومشاهدة ما هم عليه من منكر يمنع منه ومعروف يقر عليه. {لَوْلآَ أُنزِلَ إِلَيهِ} الآية أي هلا أُنزل إليه {مَلَكٌ ... } وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون الملك دليلاً على صدقه. الثاني: أن يكون وزيراً له يرجع إلى رأيه. {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} فلا يكون فقيراً. {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} والجنة البستان فكأنهم استقلّوه لفقره. قال الحسن: والله ما زَوَاهَا عن نبيه إلا اختياراً ولا بسطها لغيره إلا اغتراراً ولوا ذاك لما أعاله.

قوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} يعني مشركي قريش وقيل إنه عبد الله بن الزبعرى. {إِن تَبَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} فيه وجهان. أحدهما: سحر فزال عقله. الثاني: أي سَحَرَكُمْ فيما يقوله. قوله تعالى: {انظُرْ كَيفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ} يعني ما تقدم من قولهم. {فَضَلُّواْ} فيه وجهان: أحدهما: فضلواْ عن الحق في ضربها. الثاني: فناقضوا في ذكرها لأنهم قالوا افتراه ثم قالوا تملى عليه وهما متناقضان. {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مخرجاً من الأمثال التي ضربوها , قاله مجاهد. الثاني: سبيلاً إلى الطاعة لله , قاله السدي. الثالث: سبيلاً إلى الخير , قاله يحيى بن سلام. قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} قال عبد الله بن عمرو: إن جهنم لتضيق على الكافرين كضيق الزج على الرمح. {مُّقَرَّنِينَ} فيه وجهان:: أحدهما: مُكَتَفِينَ , قاله أبو صالح. الثاني: يقرن كل واحد منهم إلى شيطانه , قاله يحيى بن سلام. {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: ويلاً , قاله ابن عباس.

الثاني: هلاكاً , قاله الضحاك. الثالث: معناه وانصرافاه عن طاعة الله , حكاه ابن عيسى وروي النبي صلى الله عليه السلام أنه قال: (أَوَّلُ مَن يَقُولُهُ إِبْلِيسُ)

15

{قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاؤون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا} قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} يعني من النعيم فأما المعاصي فتصرف عن شهواتهم. {خَالِدِينَ} يعني في الثواب كخلود أهل النار في العقاب. {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه وعد الله لهم بالجزاء فسألوه الوفاء فوفاه , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: الملائكة تسأل الله لهم فيجابون إلى مسألتهم , وهو معنى قول محمد بن كعب القرظي. الثالث: أنه سألوا الله الجنة في الدنيا ورَغِبُوا إليه بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا , وهو معنى قول زيد بن أسلم.

17

{ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ

من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا} قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم} فيه قولان: أحدهما أنه حَشْرُ الموت , قاله مجاهد. الثاني: حشر البعث , قاله ابن عباس. {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} قاله مجاهد: هم عيسى وعزير والملائكة. {فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤُلآءِ} وهذا تقرير لإِكذاب من ادّعى ذلك عليهم وإن خرج مخرج الاستفهام. وفيمن قال له ذلك القول قولان: أحدهما أنه يقال هذا للملائكة، قاله الحسن. الثاني: لعيسى وعزير والملائكة , قاله مجاهد. {أَمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبِيلَ} أي أخطأوا قصد الحق بأجابوا بأن {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَن نَتَّخذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيآءَ} فيه وجهان: أحدهما ما كنا نواليهم على عبادتنا. الثاني: ما كنا نتخذهم لنا أولياء. {وَلكن مَّتَّعْنَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: متعهم بالسلامة من العذاب، قاله يحيى بن سلام. الثاني: بطول العمر، حكاه النقاش. الثالث: بالأموال والأولاد. {حَتَّى نَسُواْ الذِكْر} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: حتى تركوا القرآن، قاله ابن زيد.

الثاني: حتى غفلوا عن الطاعة. الثالث: حتى نسوا الإِحسان إليهم والإِنعام عليهم. {وََكَانَوا قَوْماً بُوراً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني هلكى , قاله ابن عباس , مأخوذ من البوار وهو الهلاك. الثاني: هم الذين لا خير فيهم , قاله الحسن مأخوذ من بوار الأرض وهو تعطلها من الزرع فلا يكون فيها خير. الثالث: أن البوار الفساد , قاله شهر بن حوشب وقتادة , مأخوذ من قولهم بارت إذا كسدت كساد الفاسد ومنه الأثر المروي: نعوذ بالله من بوار الأيم , وقال عبد الله بن الزِبعرى: (يا رسول المليك إن لساني. ... . راتق ما فتقت إذ أنا بُور) ) {فقد كذبوكُم بما تقولون} فيه قولان: أحدهما: أن الملائكة والرسل قد كذبوا الكفار فيما يقولون أنهم اتخذوهم أولياء من دونه , قاله مجاهد. الثاني: أن المشركين كذبوا المؤمنين فيما يقولونه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله ابن زيد. {فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} فيه أربعة أوجه: أحدها: صرف العذاب عنهم ولا ينصرون أنفسهم، قاله ابن زيد. الثاني: فما يستطيعون صرف الحجة عنهم ولا نصراً على آلهتهم في تعذيبهم , قاله الكلبي. الثالث: فما يستطيعون صرفك يا محمد عن الحق ولا نصر أنفسهم من عذاب التكذيب , حكاه عيسى.

الرابع: أن الصرف الحيلة حكاه ابن قتيبة والصرف الحيلة مأخوذ من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال. وأما قولهم لا يقبل منهم صرف ولا عَدْل ففيه وجهان: أحدهما: أن الصرف: النافلة , والعَدل: الفريضة. الثاني: أن الصرف: الدية , والعَدل: القود.

20

{وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا} قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه افتتان الفقير بالغني أن يقول لو شاء الله لجعلني مثله غنياً والأعمى بالبصير أن يقول لو شاء لجعلني مثله بصيراً , والسقيم بالصحيح أن يقول لو شاء لجعلني مثله صحيحاً , قاله الحسن. الثاني: فتنة بالعدوان في الدين , حكاه ابن عيسى. الثالث: أن الفتنة صبر الأنبياء على تكذيب قومهم , قاله يحيى بن سلام. الرابع: أنها نزلت حين أسلم أبو ذر الغفاري وعمار وصهيب وبلال وعامر بن فهيرة وسلام مولى أبي حذيفة وأمثالهم من الفقراء الموالي فقال المستهزئون من قريش: انظروا إلى أتباع محمد من فقرائنا وموالينا فنزلت فيهم الآية , حكاه النقاش. وفي الفتنة هنا وجهان: أحدهما: البلاء. والثاني: الاختبار. {أَتَصْبِرُونَ} يعني على ما مُحِنْتُمْ به من هذه الفتنة , وفيه اختصار وتقديره أم لا تصبرون.

{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} قال ابن جريج: بصيراً بما يصبر ممن يجزع. ويحتمل وجهاً آخر: بصيراً بالحكمة فيما جعل بعضكم لبعض فتنة.

21

{وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا} قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءِنَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يخافون ولا يخشون , قاله السدي , ومنه قول الشاعر: (إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل) أي لم يخش. الثاني: لا يبالون , قاله ابن عمير , وأنشد لخبيب. (لعمرك ما أرجوا إذا كنت مسلماً ... على أي حال كان في الله مصرعي) أي ما أبالي. الثالث: لا يأملون , حكاه ابن شجرة وأنشد قول الشاعر: (أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جَدِّه يوم الحسابِ) {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ} فيه قولان: أحدهما: ليخبرونا أن محمداً نبي قاله يحيى بن سلام.

الثاني: ليكونوا رسلاً إلينا من ربهم بدلاً من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فيأمرنا باتباع محمد وتصديقه. {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِم} فيه وجهان: أحدهما: تكبرواْ في أنفسهم لما قل في أعينهم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً إليهم. الثاني: استكبروا في أنفسهم بما اقترحوه من رؤية الله ونزول الملائكة عليهم. {وَعَتَوْ عُنُوّاً كَبِيراً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه التجبر , قاله عكرمة. الثاني: العصيان , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أنه السرف في الظلم , حكاه ابن عيسى. الرابع: أنه الغلو في القول , حكاه النقاش. الخامس: أنه شدة الكفر , قاله ابن عباس. قيل إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ومكرز بن حفص بن الأخنف في جماعة من قريش قالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. فنزل فيهم قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ} فيه قولان: أحدهما: عند الموت , قاله يحيى بن سلام. الثاني: يوم القيامة , قاله مجاهد. {لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمينَ} يعني بالجنة , قاله عطية العوفي: إذا كان يوم القيامة يلقى المؤمن بالبشرى فإذا رأى الكافر ذلك تمناه فلم يره من الملائكة. {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} فيه ثلاث أوجه: أحدها: معناه معاذ الله أن تكون لكم البشرى يومئذ , قاله مجاهد. الثاني: معناه: منعنا أن نصل إلى شيء من الخير , قاله عكرمة. الثالث: حراماً محرماً أن تكون لكم البشرى يومئذ , قاله أبو سعيد الخدري , والضحاك , وقتادة ومنه قول الملتمس:

(حَنّتْ إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجْرٌ حرام إلا تلك الدهاريس.) وفي القائلين حجراً محجوراً قولان: أحدهما: أنهم الملائكة قالوه للكفار , قاله الضحاك. الثاني: أنهم الكفار قالوه لأنفسهم , قاله قتادة. قوله تعالى {وَقَدِمْنآ} أي عمدنا , قاله مجاهد، قال الراجز: (وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا) 89 (إن دماءَكم لنا حلال} 9 {إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} فيه قولان: أحدهما: من عمل خيراً لا يتقبل منهم لإِحباطه بالكفر، قاله مجاهد. الثاني: من عمل صالحاً لا يراد به وجه الله , قاله ابن المبارك. {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه رهج الدواب , قاله علي بن أبي طالب. الثاني: أنه كالغبار يكون في شعاع الشمس إذا طلعت في كوة , قاله الحسن , وعكرمة. الثالث: أنه ما ذرته الرياح من يابس أوراق الشجر , قاله قتادة. الرابع: أنها الماء المراق، قاله ابن عباس. الخامس: أنه الرماد , قاله عبيد بن يعلى. قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَراً} يعني منزلاً في الجنة من مستقر الكفار في النار. {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه المستقر في الجنة والمقيل دونها , قاله أبو سنان. الثاني: أنه عنى موضع القائلة للدعة وإن لم يقيلواْ , ذكره ابن عيسى. الثالث: أنه يقيل أولياء الله بعد الحساب على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين المقرنين، قاله ابن عباس.

الرابع: لأنه يفرغ من حسابهم وقت القائلة وهو نصف النهار , فذلك أحسن مقيلاً , من مقيل الكفار , قاله الفراء.

25

{ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ} فيه قولان: أحدهما: بمعنى على الغمام كما يقال رميت بالقوس وعن القوس ويكون المراد به الغمام المعهود والذي دون السماء لأنه يبقى دونها إذا انشقت غمام. والقول الثاني: أنه غمام أبيض يكون في السماء ينزله الله على أنبيائه مثل الذي أظل بني إسرائيل , وقد قال في ظل من الغمام فتنشق السماء فيخرج منها. {وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً} يعني أن الملائكة تنزل فيه يوم القيامة , وهو يوم التلاق. الذي يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض. وفي نزولهم قولان: أحدهما: ليبشروا المؤمن بالجنة , والكافر بالنار. الثاني: ليكون مع كل نفس سائق وشهيد. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} قيل هو عقبة بن أبي معيط. {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: سبيلاً بطاعة الله , قاله قتادة. الثاني: طريقاً إلى النجاة , حكاه ابن عيسى. الثالث: وسيلة عند الرسول يكون وصلة إليه، قاله الأخفش.

{يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني الشيطان , قاله مجاهد , وأبو رجاء. الثاني: أنه أبي بن خلف , قاله عمرو بن ميمون. الثالث: أنه أمية بن خلف , قاله السدي , وذكر أن سبب ذلك أن عقبة وأمية كانا خليلين وكان عقبة يغشى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم , فقال أمية بن خلف له: بلغني أنك صبوت إلى دين محمد , فقال ما صبوت , قال: فوجهي من وجهك حرام حتى تأتيه فتتفُل في وجهه وتتبرأ منه فأتى عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل على جهه وتبرأ منه , فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيه مخبراً عما يصير إليه {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالمُ ... } الآية والتي بعدها. وفلانٌ لا يُثنى ولا يُجمْع.

30

{وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرَءَانَ مَهْجُوراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم هجروه بإعراضهم عنه فصار مهجوراً , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم قالوا فيه هجراً أي قبيحاً , قاله مجاهد. الثالث: أنهم جعلوه هجراً من الكلام وهو ما لا نفع فيه من العبث والهذيان , قاله ابن قتيبة.

32

{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا} قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} في قائل ذلك من الكفار قولان:

أحدهما: أنهم كفار قريش , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقاً , قالوا: هلا أُنزِل عليه جملة واحدة , كما أنزلت التوراة على موسى. {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} فيه وجهان: أحدهما: لنشجع به قلبك , لأنه معجز يدل على صدقك , وهو معنى قول السدي. الثاني: معناه كذلك أنزلناه مفرقاً لنثبته في فؤادك. وفيه وجهان: أحدهما: لأنه كان أمياً ولم ينزل القرآن عليه مكتوباً , فكان نزوله مفرقاً أَثبتَ في فؤاده , وأَعلَقَ بقلبه. الثاني: لنثبت فؤادك باتصال الوحي ومداومة نزول القرآن، فلا تصير بانقطاع الوحي مستوحشاً. {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: ورسلناه ترسيلاً، شيئاً بعد شيء، قاله ابن عباس. الثاني: وفرقناه تفريقاً، قاله إبراهيم. الثالث: وفصلناه تفصيلاً، قاله السدي. الرابع: وفسرناه تفسيراً، قاله ابن زيد. الخامس: وبينَّاه تبييناً، قاله قتادة. روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا ابْنَ عَبَّاسِ إِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَرِتّلْهُ تَرْتِيلاً) فقلت وما الترتيل؟، قال: (بَيِّنْهُ تَبْييناً وَلاَ تَبْتُرْهُ بَتْرَ الدقلِ، وَلاَ تهذه هذّ الشِّعرِ وَلاَ يَكُونُ هَمَّ أَحدِكُم آخِرَ السُّورَةِ).

35

{ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا} قوله تعالى: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الرس المعدن , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه قرية من قرى اليمامة يقال له الفج من ثمود , قاله قتادة. الثالث: أنه ما بين نجران واليمن إلى حضرموت , قاله بعض المفسرين. الرابع: أنه البئر. وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه بئر بأذربيجان , قاله ابن عباس. الثاني: أنها البئر التي قتل فيها صاحب ياسين بأنطاكية الشام حكاه النقاش. الثالث: أن كل بئر إذا حفرت ولم تطو فهي رس قال زهير: (بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم) وفي أصحاب الرس أربعة أقاويل: أحدها: أنهم قوم شعيب , حكاه بعض المفسرين. الثاني: أنهم قوم رسوا نبيهم في بئر , قاله عكرمة. الثالث: أنهم قوم كانوا نزولاً على بئر يعبدون الأوثان، وكانوا لا يظفرون بأحد يخالف دينهم إلا قتلوه ورسوه فيها، وكان الرس بالشام، قاله الضحاك.

الرابع: أنهم قوم أرسل الله إليهم نبياً فأكلوه وهم أول من عمل نساؤهم السحر، قاله الكلبي. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْاْ عَلَى الْقَرْيَةِ} وهي سدوم قرية لوط. {الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءٍ} الحجارة التي أُمطِرُوا بها , والذين أتوا عليها قريش. {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} أي يعتبرون بها. {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نَشُوراً} أي لا يخافون بعثاً.

41

{وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} قوله تعالى: {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَههُ هَوَاهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم قوم كان الرجل منهم يعبد حجراً يستحسنه , فإذا رأى أحسن منه عبده وترك الأول , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الحارث بن قيس كان إذا هوى شيئاً عبده , حكاه النقاش. الثالث: أنه الذي يتبع هواه في كل ما دعا إليه , قاله الحسن , وقتادة. {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني ناصراً , قاله قتادة. الثاني: حفيظاً , قاله يحيى بن سلام. الثالث: كفيلاً قاله الكلبي. الرابع: مسيطراً , قاله السّدي.

45

{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه

دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي بسطه على الأرض وفيه وجهان: أحدهما: أن الظل الليل لأنه ظل الأرض يقبل بغروب الشمس ويدبر بطلوعها. الثاني: أنه ظل النهار بما حجب من شعاع الشمس. وفي الفرق بين الظل والفيء وجهان: أحدهما: أن الظل ما قبل طلوع الشمس والفيء ما بعد طلوعها. الثاني: أن الظل ما قبل الزوال والفيء ما بعده. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} يعني الظل , وفيه وجهان: أحدهما: أنه قبض الظل بطلوع الشمس. الثاني: بغروبها. {قَبْضاً يَسِيراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: سريعاً , قاله ابن عباس. الثاني: سهلاً , قاله أبو مالك. الثالث: خفياً , قاله مجاهد. قوله تعالى: { ... جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} يعني غطاءً لأن يَسْتُرُ كمَا يستر اللباس. {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} فيه وجهان: أحدهما: لأنه مسبوت فيه , والنائم لا يعقل كالميت، حكاه النقاش. الثاني: يعني راحة لقطع العمل ومنه سمي يوم السب، لأنه يوم راحة لقطع العمل , حكاه ابن عيسى. {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} فيه وجهان: أحدهما: لانتشار الروح باليقظة فيه مأخوذ من النشر والبعث. الثاني: لانتشار الناس في معايشهم، قاله مجاهد، وقتادة.

48

{وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا} قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ} قال أبي بن كعب كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة , وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب. وقيل: لأن الرياح جمع وهي الجنوب والشمال والصبا لأنها لواقح , والعذاب ريح واحدة وهي الدبور لأنها لا تلقح. {بُشْراً} قرئت بالنون وبالباء فمن قرأ بالنون ففيه وجهان: أحدهما: أنه نشر السحاب حتى يمطر. الثاني: حياة لخلقه كحياتهم بالنشور. ومن قرأ {بُشْراً} بالباء ففيه وجهان: أحدهما لأنها بشرى بالمطر. الثاني: لأن الناس يستبشرون بها. {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} يعني المطر لأنه رحمة من الله لخلقه , وتأوله بعض أصحاب الخواطر يرسل رياح الندم بين يدي التوبة. {وَأَنزَلْنَا السَّمِآءِ مَآءً طَهُوراً} فيه تأويلان: أحدهما: طاهراً , قاله أبو حنيفة ولذلك جوز إزالة النجاسات بالمائعات الطاهرات. الثاني: مطهراً , قاله الشافعي ولذلك لم يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء. {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} وهي التي لا عمارة فيها ولا زرع، وإحياؤها يكون بنبات زرعها وشجرها، فكما أن الماء يطهر الأبدان من الأحداث والأنجاس، كذلك الماء يطهر الأرض من القحط والجدب.

{وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنآ أَنْعَاماً وَأنَاسِيَّ كَثِيراً} فجمع بالماء حياة النبات والحيوان وفي الأناسي وجهان: أحدهما: أنه جمع إنسي. الثاني: جمع إنسان. قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الفرقان المذكور في أول السورة. الثاني: أراد الماء الذي أنزله طهوراً. وفيه وجهان: أحدهما: يعني قسمنا المطر فلا يدوم على مكان , فيهلك ولا ينقطع عن مكان , فيهلك , وهو معنى قول قتادة. الثاني: أنه يصرفه في كل عام من مكان إلى مكان , قال ابن عباس ليس عام بأمطر من عام , ولكن الله يصرفه بين عباده. {لِيَذَّكَّرُوا} يحتمل وجهين: أحدهما: ليتذكروا النعمة بنزوله. الثاني: ليتذكروا النعمة بانقطاعه. {فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسَ إِلاَّ كُفُوراً} قال عكرمة: هو قولهم مطرنا بالأنواء. روى الربيع بن صبيح قال: أمطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَصْبَحَ النَّاسُ فِيهَا بَيْنَ رَجْلَينِ شَاكِرٍ وَكَافِرٍ , فَأَمَّا الشَّاكِرُ فَيحْمِدُ اللَّهَ عَلَى سُقْياهُ وَغِيَاثِهِ وَأَمَّا الكَافِرُ فَيقُولُ مطرنَا بِنَوءِ كَذَا وَكَذَا).

51

{ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا

ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا} قوله تعالى: {فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ} يعني إلى ما يدعونك إليه: إما من تعظيم آلهتهم , وإما من موادعتهم. {وَجَاهِدْهُم بِهِ} فيه وجهان: أحدهما: بالقرآن. الثاني: بالإِسلام. {جِهَاداً كَبِيراً} فيه وجهان: أحدهما: بالسيف. الثاني: بالغلظة. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَينِ} فيه وجهان: أحدهما: هو إرسال أحدهما إلى الآخر , قاله الضحاك. الثاني: هو تخليتها , حكاه النقاش وقال الأخفش مأخوذ من مَرَجْتَ الشيء إذا خليته , وَمَرَجَ الوالي الناس إذا تركهم , وأمرجت الدابّة إذا خليتها ترعى , ومنه قول العجاج. 89 ((رَعى بها مَرْج ربيع ممرجاً)} 9 وفي البحرين ثلاثة أقاويل: أحدها: بحر السماء وبحر الأرض , وهو قول سعيد , ومجاهد. الثاني: بحر فارس والروم , وهو قول الحسن. الثالث: بحر العذب وبحر المالح. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} قال عطاء: الفرات: العذب , وقيل هو أعذب العذب. وفي الأجاج: ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه المالح , وهو قول عطاء , وقيل: هو أملح المالح. الثاني: أنه المر , وهو قول قتادة. والثالث: أنه الحار المؤجج , مأخوذ من تأجج النار , وهو قول ابن بحر. {وََجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} فيه ثلاثة أقويل: أحدها: حاجز من البر , وهو قول الحسن , ومجاهد. الثاني: أن البرزخ: التخوم , وهو قول قتادة. والثالث: أنه الأجل ما بين الدنيا والآخرة , وهو قول الضحاك. {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} أي مانعاً لا يختلط العذب بالمالح , ومنه قول الشاعر: (فَرُبّ في سُرادقٍ محجورِ ... سرت إليه من أعالي السور) محجور أي ممنوع. وتأول بعض المتعمقين في غوامض المعاني أن مرج البحرين قلوب الأبرار مضيئة بالبر , وهو العذب , وقلوب الفجار مظلمة بالفجور وهو الملح الأجاج , وهو بعيد. قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} يعني من النطفة إنساناً. {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} فالنسب مِن تناسُب كل والد وولد , وكل شيء أضفته إلى شيء عرفته به فهو مناسِبُهُ. وفي الصهر وجهان: أحدهما: أنه الرضاع وهو قول طاووس. الثاني: أنه المناكح وهو معنى قول قتادة , وقال الكلبي: النسب من لا يحل نكاحه من القرابة , والصهر من يحل نكاحه من القرابة وغير القرابة. وأصل الصهر الاختلاط , فسميت المناكح صهراً لاختلاط الناس بها , ومنه قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُوِهِم} [الحج: 20] وقيل إن أصل الصهر الملاصقة.

55

{ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا

وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} قوله عز وجل: { ... وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً} فيه وجهان: أحدهما: عوناً , مأخوذ من المظاهر وهي المعونة , ومعنى قوله {عَلَى رَبِّهِ} أي على أولياء ربه. الثاني: هيناً , مأخوذ من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا تركها واستهان بها قال تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُم ظِهْريّاً} [هود: 92] أي هيناً , ومنه قول الفرزدق: (تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ... بظهرٍ فلا يعيا عَلَيّ جوابها) قيل إنها نزلت في أبي جهل. قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيل لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَن قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن العرب لم تكن تعرف الرحمن في أسماء الله تعالى: وكان مأخوذاً من الكتاب فلما دعوا إلى السجود لله تعالى بهذا الاسم سألواْ عنه مسألة الجاهل به فقالواْ {وَمَا الرَّحْمَن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأَمْرُنَا}. الثاني: أن مسيلمة الكذاب كان يسمى الرحمن , فلما سمعوا هذا الاسم في

القرآن حسبوه مسيلمة , فأنكروا ما دعوا إليه من السجود له. والثالث: أن هذا قول قوم كانواْ يجحدون التوحيد ولا يقرون بالله تعالى , فلما أمروا أن يسجدوا للرحمن ازدادوا نفوراً مع هواهم بما دعوا إليه من الإيمان , وإلا فالعرب المعترفون بالله الذين يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كانوا يعرفون الرحمن في أسمائه وأنه اسم مسمى من الرحمة يدل على المبالغة في الوصف , وهذا قول ابن بحر.

61

{تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} قوله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً} فيها أربعة أوجه: أحدها: أنها النجوم العظام , وهو قول أبي صالح. الثاني: أنها قصور في السماء فيها الحرس , وهو قول عطية العوفي. الثالث: أنها مواضع الكواكب. والرابع: أنها منازل الشمس، وقرىء بُرجاً، قرأ بذلك قتادة , وتأوله النجم. {وَقَمَراً مُّنِيراً} يعني مضيئاً، ولذا جعل الشمس سراجاً والقمر منيراً، لأنه لما اقترن بضياء الشمس وهَّج حرّها جعلها لأجل الحرارة سراجاً، ولما كان ذلك في القمر معدوماً جعله نوراً. {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَار خِلْفَةً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه جعل ما فات من عمل أحدهما خلفة يقضي في الآخر، قاله عمر ابن الخطاب والحسن. الثاني: أنه جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه فجعل أحدهما أبيض والآخر أسود , قاله مجاهد. الثالث: أن كل واحد منهما يخلف صاحبه إذا مضى هذا جاء هذا , قاله ابن زيد ومنه قول زهير:

(بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم) {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي يصلي بالنهار صلاة الليل ويصلي بالليل صلاة النهار. {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} هو النافلة بعد الفريضة , وقيل نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

63

{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: علماء وكلماء , قاله ابن عباس. الثاني: أعفاء أتقياء , قاله الضحاك. الثالث: بالسكينة والوقار , قاله مجاهد. الرابع: متواضعين لا يتكبرون , قاله ابن زيد. {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} الجاهلون فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار. الثاني: السفهاء. {قَالُواْ سَلاَماً} فيه ثلاثة أوجه:

: أحدها: قالوا سداداً , قاله مجاهد لأنه قول سليم. الثاني: قالوا وعليك السلام , قاله الضحاك. الثالث: أنه طلب المسالمة , قاله ابن بحر. قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} فيه أربعة أوجه: أحدها: لازماً , قاله ابن عيسى , ومنه الغريم لملازمته وأنشد الأعشى: (إن يعاقب يكن غَراماً وإن يع ... طر جزيلاً فإنه لا يبالي) الثاني: شديداً , قاله ابن شجرة , ومنه سميت شدة المحنة غراماً قال بشر بن أبي خازم: (ويوم الجفار ويوم النسا ... ر، كانا عذاباً، وكان غراما) الثالث: ثقيلاً، قاله قطرب، ومنه قوله تعالى: {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [القلم: 46]. الرابع: أنهم أغرموا بالنعيم في الدنيا عذاب النار، قال محمد بن كعب: إن الله سأل الكفار عن فأغرمهم فأدخلهم جهنم. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: لم ينفقواْ في معصية الله، والإِسراف النفقة في المعاصي، قاله ابن عباس. الثاني: لم ينفقوا كثيراً فيقول الناس قد أسرفوا، قاله إبراهيم. الثالث: لا يأكلون طعاماً يريدون به نعيماً ولا يلبسون ثوباً يريدون به جمالاً، قاله يزيد بن أبي حبيب، قال: هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت قلوبهم على قلب رجل واحد.

الرابع: لم ينفقوا نفقة في غير حقها فإن النفقة في غير حقها إسراف , قاله ابن سيرين. {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: لم يمنعوا حقوق الله فإن منع حقوق الله إقتار , قاله ابن عباس. الثاني: لا يعريهم ولا يجيعهم , قاله إبراهيم. الثالث: لم يمسكوا عن طاعة الله , قاله ابن زيد. الرابع: لم يقصروا في الحق , قاله الأعمش. روى معاذ بن جبل قال: لما نزلت هذه الآية سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة في الإسراف والإقتار ما هو , فقال: من منع من حق فقد قتر , ومن أعطى في غير حق فقد أسرف. {وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَامَاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني عدلاً , قاله الأعمش. الثاني: أن القوام: أن يخرجوا في الله شطر أموالهم , قاله وهب. الثالث: أن القوام: أن ينفق في طاعة الله ويكف عن محارم الله. ويحتمل رابعاً: أن القوام ما لم يمسك فيه عزيز ولم يقدم فيه على خطر , والفرق بين القَوام بالفتح والقِوام بالكسر , ما قاله ثعلب: أنه بالفتح الاستقامة والعدل , وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر.

68

{والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاًءَاخَرَ} يعني لا يجعلون لله تعالى

شريكاً، ولا يجعلون بينهم وبينه في العبادة وسيطاً. {وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} يعني حرم قتلها , وهي نفس المؤمن والمعاهد. {إِلاَّ بِالْحَقِّ} والحق المستباح به قتلها , ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِِإِحْدَى ثَلاَثٍ: كُفرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ , أَوْ زِنىً بَعْدَ إِحْصَانٍ , أَوْ قَتْل نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ). {وَلاَ يَزْنُونَ} والزنى إتيان النساء المحرمات في قبل أو دبر , واللواط زنى في أحد القولين وهو في القول الثاني موجب لقتل الفاعل والمفعول به , وفي إتيان البهائم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه كالزنى في الفرق بين البكر والثيب. الثاني: أنه يوجب قتل البهيمة ومن أتاها للخبر المأثور فيه. الثالث: أنه يوجب التعزير. فجمع في هذه الآية بين ثلاث من الكبائر الشرك وقتل النفس والزنى , روى عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله (أو قال غيري): أي ذنب أعظم عند الله؟ قال: (أَن تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ) قال: ثم أي؟ قال: (أَن تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِيفَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ) قال: ثم أيّ.؟ قال: (أَنْ تُزَانِي حَلِيلَةَ جَارِكَ) قال فأنزل الله ذلك. {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ} يعني هذه الثلاثة أو بعضها {يَلْقَ أَثَاماً} فيه ثلاثة أوجه:

: أحدها: أن الأثام العقوبة قاله بلعام بن قيس: (جزى اللَّه ابن عروة حيث أمسى ... عقوقاً والعقوق له أثام) الثاني: أن الأثام اسم واد في جهنم , قاله ابن عمر , وقتادة , ومنه قول الشاعر: (لقيت المهالك في حربنا ... وبعد المهالك تلقى أثاما) الثالث: الجزاء , قاله السدي , وقال الشاعر: (وإن مقامنا ندعو عليكم ... بأبطح ذي المجاز له أثامُ) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن المضاعفة عذاب الدنيا وعذاب الآخرة , قاله قتادة. الثاني: أنها الجمع بين عقوبات الكبائر المجتمعة. الثالث: أنها استدامة العذاب بالخلود. {وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي يخلد في العذاب بالشرك. {مُهَاناً} بالعقوبة. {إِلاَّ مَن تَابَ} يعني من الزنى. {وَءَامَنَ} يعني من الشرك. {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} يعني بعد السيئات. {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: في الدنيا يبدلهم بالشرك إيماناً، وبالزنى إحصاناً وبذكر الله بعد نسيانه، وبطاعته بعد عصيانه، وهذا معنى قول الحسن، وقتادة. الثاني: أنه في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته فيبدل الله السيئات حسنات، قاله أبو هريرة. الثالث: أنه يبدل الله عقاب سيئاته إذا تاب منها بثواب حسناته إذا انتقل إليها , قاله ابن بحر. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} لما تقدم قبل التوبة. {رَحِيماً} لما بعدها. وحكى الكلبي أن وحشياً وهو عبد عتبة بن غزوان كتب بعد وقعة أحد وقَتْلِ

حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: هل من توبة؟ فإن الله أنزل بمكة إياسي من كل خير {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاًءَاخَرَ} الآية وإن وحشياً قد فعل هذا كله , وقد زنى وأشرك وقتل النفس التي حرم الله , فأنزل الله {إلاَّ مَن تَابَ} أي من الزنى وآمن بعد الشرك وعمل صالحاً بعد السيئات , فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال وحشي: هذا شرط شديد ولعلي لا أبقى بعد التوبة حتى أعمل صالحاً , فكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من شيء أوسع من هذا؟ فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48 , 116] , فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي. فأرسل وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنى لأخاف أن لا أكون في مشيئة الله , فأنزل الله في وحشي وأصحابه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرًُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53] الآية. فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم.

72

{والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما} قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: أنه الشرك بالله , قاله الضحاك، وابن زيد. الثاني: أنه أعياد أهل الذمة وشبهه، قال ابن سيرين هو الشعانين. الثالث: أنه الغناء , قاله مجاهد. الرابع: مجالس الخنا، قاله عمرو بن قيس. الخامس: أنه لعب كان في الجاهلية، قاله عكرمة. السادس: أنه الكذب، قاله ابن جريج، وقتادة. السابع: أنه مجلس كان يشتم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، قاله خالد بن كثير.

ويحتمل ثامناً: أنه العهود على المعاصي. {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغوِ مَرُّواْ كِرَاماً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه ما كان يفعله المشركون من أذية المسلمين في أنفسهم وأعراضهم فيعرضوا عنهم وعن أذاهم , قاله مجاهد. الثاني: أنهم إذا ذكروا النكاح كَنّوا عنه , حكاه العوّام. الثالث: أنهم إذا ذكروا الفروج كَنّوا عنها , قاله محمد بن علي البافر رحمه الله. الرابع: أنهم إذا مروا بإفك المشركين ينكروه , قاله ابن زيد. الخامس: أن اللغو هنا المعاصي كلها , ومرهم بها كراماً إِعراضهم عنها , قاله الحسن. ويحتمل سادساً: وإذا مروا بالهزل عدلوا عنه إلى الجد. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: بوعده ووعيده. الثاني: بأمره ونهيه. {لَمْ يخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمَّاً وَعُمْيَاناً} يعني سمعوا الوعظ فلم يصموا عنه وأبصروا الرشد فلم يعموا عنه بخلاف من أصمه الشرك عن الوعظ وأعماه الضلال عن الرشد. وفي قوله: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا} وجهان: أحدهما: لم يقيموا , قاله الأخفش. الثاني: لم يتغافلوا , قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: { ... رَبَّنَا لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فيه وجهان: أحدهما: أجعل أزواجنا وذرياتنا قرة أعين , قاله الكلبي. الثاني: ارزقنا من أزواجنا ومن ذرياتنا أعواناً {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي أهل طاعة تقر به أعيننا في الدنيا بالصلاح , وفي الآخرة بالجنة. وفي قرة العين وجهان:

أحدهما: أن تصادف ما يرضيهما فتقر على النظر إليه دون غيره. الثاني: أن القرّ البرد فيكون معناه برّد الله دمعها، لأن دمعة السرور باردة. ودمعة [الحزن] حارة , وضد قرة العين سخنة العين، قاله الأصمعي. {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أمثالا , قاله عكرمة. الثاني: رضاً، قاله جعفر الصادق. الثالث: قادة إلى الخير، قاله قتادة. الرابع: أئمة هدى يُهْتدى بنا، قاله ابن عباس. الخامس: نأتم بمن قبلنا حتى يأتم بنا من بعدنا، قاله مجاهد. وفي الآية دليل عل أن طلب الرياسة في الدين ندب.

75

{أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما} قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوُنَ الْغُرْفَةَ} فيها وجهان: أحدهما: أن الغرفة الجنة , قاله الضحاك. الثاني: أنها أعلى منازل الجنة وأفضلها كما أن الغرفة أعلى منازل الدنيا , حكاه ابن شجرة. {بِمَا صَبَرُواْ} فيه وجهان: أحدهما: بما صبروا عن الشهوات , قاله الضحاك. الثاني: بما صبروا على طاعة الله. {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً} فيه وجهان: أحدهما: يعني بقاء دائماً. الثاني: ملكاً عظيماً. {وَسَلاَماً} فيه وجهان: أحدهما: أنها جماع السلامة الخير.

الثاني: هو أن يحيي بعضهم بعضاً بالسلام , قاله الكلبي. ولأصحاب الخواطر في التحية والسلام وجهان: أحدهما: التحية على الروح والسلام على الجسد. الثاني: أن التحية على العقل والسلام على النفس. قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} فيه وجهان: أحدهما: ما يصنع , قاله مجاهد , وابن زيد. الثاني: ما يبالي , قاله أبو عمرو بن العلاء. {لَوْلاَ دُعآؤُكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لولا عبادتكم وإيمانكم به , والدعاء العبادة. الثاني: لولا دعاؤه لكم إلى الطاعة , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: لولا دعاؤكم له إذا مسكم الضر وأصابكم السوء رغبة إليه وخضوعاً إليه. {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} فيه وجهان: أحدهما: كذبتم برسلي. الثاني: قصرتم عن طاعتي مأخوذ من قولهم قد كذب في الحرب إذا قصّر. {لِزَاماً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه عذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر , قاله ابن مسعود وأُبي. الثاني: عذاب الآخرة في القيامة , قاله قتادة. الثالث: أنه الموت , قاله محمد بن كعب , ومنه قول الشاعر: (يولي عند حاجتها البشير ... ولم أجزع من الموت اللزام) الرابع: هو لزوم الحجة في الآخرة على تكذيبهم في الدنيا , قاله الضحاك , وأظهر الأوجه أن يكون اللزام الجزاء للزومه، والله أعلم.

سورة الشعراء مكية كلها، وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها نزلن بالمدينة من قوله: {والشعراء يتبعهم الغاوون} [الشعراء: 224] إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم

الشعراء

{طسم تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} قوله {طسم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه اسم من أسماء الله أقسم به , والمقسم عليه {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ}، قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثالث: أنه من الفواتح التي افتتح الله بها كتابه، قاله الحسن.

الرابع: أنها حروف هجاء مقطعة من أسماء الله وصفاته: أما الطاء ففيها قولان: أحدهما: أنها من الطول. الثاني: أنها من الطاهر. وأما السين ففيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من القدوس. الثاني: أنها من السميع. الثالث: من السلام. وأما الميم ففيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من المجيد. الثاني: من الرحيم. الثالث: من الملك. ولأصحاب الخواطر في تأويل ذلك قولان: أحدهما: أن الطاء شجرة طوبى , والسين سدرة المنتهى , والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن الطاء طرب التائبين , والسين ستر الله على المذنبين , والميم معرفته بالغاوين , وقد ذكرنا في تفسير {الم} من زيادة التأويلات ما يجزىء تخريجه قبل هذا الموضع. قوله {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} فيه وجهان: أحدهما: قاتل نفسك , قاله ابن عباس , ومجاهد , والبخع القتل , قاله ذو الرمة: (ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... بشيءٍ نحته عن يديه المقادِرُ) الثاني: محرج نفسك , قاله عطاء، وابن زيد.

قوله: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِءَايَةً} فيها وجهان: أحدهما: ما عظم من الأمور القاهرة. الثاني: ما ظهر من الدلائل الواضحة. {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: لا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصيته. الثاني: أنه أراد أصحاب الأعناق فحذفه وأقام المضاف إليه مقامه , ذكره ابن عيسى. الثالث: أن الأعناق الرؤساء , ذكره ابن شجرة , وقاله قطرب. الرابع: أن العنق الجماعة من الناس , من قولهم: أتاني عنق من الناس أي جماعة , ورأيت الناس عنقاً إلى فلان , ذكره النقاش. قوله {أَوَلَمْ يَرَواْ إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي نوع معه قرينة من أبيض وأحمر , وحلو وحامض. أحدها: حسن , قاله ابن جبير. الثاني: أنه مما يأكل الناس والأنعام , قاله مجاهد. الثالث: أنه النافع المحمود كما أن الكريم من الناس هو النافع المحمود. الرابع: هم الناس نبات الأرض كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنَبتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح: 17] فمن دخل الجنة فهو كريم , ومن دخل النار فهو لئيم.

10

{وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من

الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل} قوله {وَيَضِيقُ صَدْرِي} أي أخاف أن يضيق قلبي وفيه وجهان: أحدهما: بتكذيبهم إياي , قاله الكلبي. الثاني: بالضعف عن إبلاغ الرسالة. {وَلاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي} فيه وجهان: أحدهما: من مهابة فرعون , قاله الكلبي. الثاني: للعقدة التي كانت به. {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أي ليكون معي رسولاً , لأن هارون كان بمصر حيث بعث الله تعالى موسى نبياً. {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} فتكون علي بمعنى عندي , وهو قول المفضل , وأنشد قول أبي النجم: (قد أصبحت أم الخيار تدَّعي ... علي ذَنْبا كلّه لم أصْنَعِ) والثاني: معناه ولهم عليّ عقوبة ذنب. {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} قد خاف موسى أن يقتلوه بالنفس التي قتلها , فلا يتم إبلاغ الرسالة لأنه يعلم أن الله تعالى بعثه رسولاً تكفل بعونه على تأدية رسالته. قوله عز وجل: {فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالِمِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أرْسَلَنا رب العالمين , حكاه ابن شجرة. والثاني: معناه أن كل واحد منا رسول رب العالمين , ذكره ابن عيسى. والثالث: معناه إنا رسالة رب العالمين , قاله أبوعبيدة , ومنه قول كثير: (لقد كَذَّب الواشون ما بُحْتُ عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول) أي رسالة

قوله عز وجل: {قَاَلَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} أي صغيراً , لأنه كان في داره لقيطاً. {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} لم يؤذن له في الدخول عليه سنة , وخرج من عنده عشر سنين , وعاد إليه يدعوه ثلاثين سنة , وبقي بعد غرقه خمسين سنة , قال ذلك امتناناً عليه. {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} يعني قتل النفس. {وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فيه قولان: أحدهما: أي على ديننا الذي لا تقول إنه كفر , وهو قول السدي. الثاني: من الكافرين لإحساني إليك وفضلي عليك , وهذا قول محمد بن إسحاق. قوله عز وجل: {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِينَ} يعني قتل النفس , قال المفضل: ومعنى إذن لموجبٍ. {وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِينَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: من الجاهلين , وهو قول مجاهد لا يعلم أنها تبلغ. والثاني: من الضالين عن النبوة , لأن ذلك كان قبل الرسالة، وهو معنى قول الضحاك. الثالث: من الناسين، وهو قول ابن زيد، كما قال تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}. قوله عز وجل: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمْنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه أن اتخاذك بني إسرائيل عبيداً قد أحبط نعمتك التي تمن عليّ، وهذا قول عليّ بن عيسى.

والثاني: معناه أنك لما ظلمت بني إسرائيل ولم تظلمني , أعددت ذلك نعمة تمنّ بها عليّ؟ قاله الفراء. والثالث: أنه لم تكن لفرعون على موسى نعمة لأن الذي رباه بنو إسرائيل بأمر فرعون لاستعباده لهم , فأبطل موسى نعمته لبطلان استرقاقه. والرابع: أن فرعون أنفق على موسى في تربيته من أموال بني إسرائيل التي أخذها من أكسابهم حين استعبدهم , فأبطل موسى النعمة وأسقط المنة , لأنها أموال بني إٍسرائيل لا أموال فرعون , وهذا معنى قول الحسن. وفي التعبيد وجهان: أحدهما: أنه الحبس والإِذلال , حكاه أبان بن تغلب. الثاني: أنه الاسترقاق , فالتعبيد الاسترقاق , سمي بذلك لما فيه من الإِذلال , مأخوذ من قولهم طريق معبد , ومنه قول طرفة بن العبد. (تبارى عناقاً ناجيات وأتبعت ... وظيفاً فوق مورٍ مُعَبّدِ) أي طريق مذلل.

23

{قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في

المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم} قوله عز وجل: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} قال سعيد بن جبير: كانت من عوسج , قال الحكيم: ولم يسخر العوسج لأحد بعده , وقال الكلبي: كانت من آس الجنة عشرة أذرع على طول موسى. {فإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} فيه قولان: أحدهما: أنها الحية الذكر , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اعتم الحيات الصفر شعراء العنق , حكاه النقاش. {مُّبِينٌ} فيه وجهان: أحدهما: مبين أنه ثعبان. الثاني: مبين أنها آية وبرهان , وكان فرعون قد همّ بموسى , فلما صارت العصا ثعباناً فَاغِراً فَاهُ خافه ولاَذَ بموسى مستجيراً وَوَلَّى قومُه هرباً حتى وطىء بعضهم على بعض , قال ابن زيد: وكان اجتماعهم بالإسكندرية , قال الزجاج: روي أن السحرة كانوا اثني عشر ألفاً , وقيل: تسعة عشر ألفاً. قوله تعالى: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي تشيرون لأنه لا يجوز أن يأمر التابع المتبوع , فجعل المشورة أمراً لأنها على لفظه. ويحتمل استشارته لهم وجهين: أحدهما: أنه أراد أن يستعطفهم لضعف نفسه. الثاني: أنه أذهله ما شاهد فحار عقله فلجأ إلى رأيهم وهو يقول أنا ربكم الأعلى , وقد خفي عليه تناقض الأمرين خذلانا.

38

{فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا

لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين} قوله تعالى: {قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} فيه وجهان: أحدهما: أخره وأخاه , قاله ابن عباس. الثاني: احبسه وأخاه , قاله قتادة. وفي مشورتهم على فرعون بإرجائه ونهيهم له عن قتله ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم خافوا إن قتلوه أن يفتن الناس بما شاهدوه منه , وأمّلوا إن جاء السحرة أن يغلبوه. الثاني: أنهم شاهدوا من فعله ما بهر عقولهم , فخافوا الهلاك من قتله. الثالث: أن الله صرفهم عن ذلك تثبيتاً لدينه وتأييداً لرسوله.

52

{وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل} قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} في الشرذمة وجهان: أحدهما: أنهم سفلة الناس وأدنياؤهم , قاله الضحاك , ومنه قول الأعشى: (وهم الأعبد في أحيائهم ... لعبيدٍ وتراهم شرذمة.)

الثاني: أنهم العصبة الباقية من عصبة كبيرة وشرذمة كل شيء بقيته القليلة. ويقال لما قطع من فضول النعال من الجلد شراذم , وللقميص إذا خلق شراذم , وأنشد أبو عبيدة. (جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها التواق) واختلف في عدد بني إسرائيل حين قال فرعون فيهم: إنه لشرذمة قليلون , على أربعة أقاويل: أحدها: ستمائة وتسعين ألفاً , قال مقاتل: لا يعد ابن عشرين سنة لصغيره ولا ابن ستين لكبره , وهو قول السدي. الثالث: كانوا ستمائة ألف مقاتل , قاله قتادة. الرابع: كانوا خمسمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة , وإنما استقل هذا العدد لأمرين: أحدهما: لكثرة من قتل منهم. الثاني: لكثرة من كان معه , حكى السدي أنه كان على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ماديانه , وقال الضحاك كانوا سبعة آلاف ألف. قوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ} قراءة ابن كثير ونافع , وأبي عمرو , وقرأ الباقون {حَاذِرُونَ} وفيه أربعة أوجه: أحدها: أنهما لغتان ومعناهما واحد , حكاه ابن شجرة وقاله أبو عبيدة واسْتَشْهَد بقول الشاعر: (وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذره.)

الثاني: أن الحذر المطبوع على الحذر , والحاذر الفاعل الحذر , حكاه ابن عيسى. الثالث: أن الحذر الخائف والحاذر المستعد. الرابع: أن الحذر المتيقظ , والحاذر آخذ السلاح , لأن السلاح يسمى حذراً قاله الله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُم} [النساء: 102] أي سلاحكم , وقرأ ابن عامر. {حَادِرُونَ} بدال غير معجمة وفي تأويله وجهان:: أحدهما: أقوياء من قولهم جمل حادر إذا كان غليظاً. الثاني: مسرعون. قوله تعالى: {وَكُنُوزٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الخزائن. الثاني: الدفائن. الثالث: الأنهار , قاله الضحاك. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها المنابر , قاله ابن عباس , ومجاهد. الثاني: مجالس الأمراء , حكاه ابن عيسى. الثالث: المنازل الحسان , قاله ابن جبير. ويحتمل رابعاً: أنها مرابط الخيل لتفرد الزعماء بارتباطها عُدة وزينة فصار مقامها أكرم منزول.

60

{فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم واتل عليهم

نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} قوله تعالى {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: حين أشرقت الشمس بالشعاع , قاله السدي. الثاني: حين أشرقت الأرض بالضياء , قاله قتادة. الثالث: أي بناحية المشرق , قاله أبو عبيدة. قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت , وأشرقت إذا أضاءت. واختلف في تأخر فرعون وقومه عن موسى وبني إسرائيل حتى أشرقوا على قولين: أحدهما: لاشتغالهم بدفن أبكارهم لأن الوباء في تلك الليلة وقع فيهم. الثاني: لأن سحابة أظلتهم فخافوا وأصبحوا , فانقشعت عنهم. وقرىء {مُشَرِّقِينَ} بالتشديد أي نحو المشرق , مأخوذ من قولهم شرّق وغرّب , إذا سار نحو المشرق والمغرب. {قَالَ: كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فيه وجهان: أحدهما: أي سيرشدني إلى الطريق. الثاني: معناه سيكفيني , قاله السدي. و {كَلاَّ} كلمة توضع للردع والزجر , وحكي أن موسى لما خرج ببني إسرائيل من مصر أظلم عليهم القمر فقال لقومه: ما هذا؟ فقال علماؤهم: إن يوسف لما حضره الموت أخذ عليها موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا , قال موسى فأيكم يدري أين قبره؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل فأرسل إليها

فقال: دلِّيني على قبر يوسف , قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي , قال: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة فثقل عليه فقيل له أعطاها حكمها فدلتهم عله فاحتفروه واستخرجوا عظامه , فلما ألقوها فإذا الطريق مثل ضوء النهار. فروى أبو بردة عن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حَاجَتُكَ) قاله له: ناقة أرحلها وأعنزاً أحلبها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَعَجَزْتَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائيلَ) فقال الصحابة: وما عجوز بني إسرائيل فَذَكَرَ لَهُم حَالَ هَذِهِ العَجُوزِ الَّتِي حَكَمَت عَلَى مُوسَى أَنْ تَكُونَ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ. قوله تعالى: {فأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} روى عكرمة عن ابن عباس أن موسى لما بلغ البحر واتبعه فرعون قاله له فتاهُ يوسع بن نون: أين أمرك ربك؟ قال: أمامك , يشير إلى البحر , ثم ذكر أنه أمر أن يضرب بعصاه البحر فضربه , فانفلق له اثنا عشر طريقاً وكانوا اثني عشر سبطاً لكل سبط طريق , عرض كل طريق فرسخان. وقال سعيد بن جبير: كان البحر ساكناً لا يتحرك , فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر. وحكى النقاش: أن موسى ضرب بعصاه البحر وقد مضى من النهار أربع ساعات , وكان يوم الاثنين عاشر المحرم وهو يوم عاشوراء , قال: والبحر هو نهر النيل ما بين إيلة ومصر وقطعوه في ساعتين , فصارت ست ساعات. {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي كالجبل العظيم , قاله امرؤ القيس: (فبينا المرءُ في الأحياء طُوْدٌ ... رماه الناس عن كَثَبٍ فمالا) وكان الأسباط لا يرى بعضهم بعضاً فقال كل سبط: قد هلك أصحابنا فدعا موسى ربه فجعل في كل حاجز مثل الكوى حتى رأى بعضهم بعضاً.

قوله تعالى: {وَأَرْلَفْنَا ثَمَّ الأَخَرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: قربنا إلى البحر فرعون وقومه , قاله ابن عباس: وقتادة , ومنه قول الشاعر: (وكل يوم مضى أو ليلة سلفت ... فيه النفوس إلى الآجال تزدلف) الثاني: جمعنا فرعون وقومه في البحر , قاله أبو عبيدة , وحكي عن أُبي وابن عباس أنهما قرآ: {وَأَزْلَقْنَا} بالقاف من زلق الأقدام , كأقدام فرعون أغرقهم الله تعالى في البحر حتى أزلقهم في طينه الذي في قعره.

78

{الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فيه وجهان: أحدهما: الي خلقني بنعمته فهو يهدين لطاعته. الثاني: الذي خلقني لطاعته فهو يهديني لجنته , فإن قيل فهذه صفة لجميع الخلق فكيف جعلها إبراهيم عل هدايته ولم يهتد بها غيره؟ قيل: إنما ذكرها احتجاجاً على وجوب الطاعة , لأن من أنعم وجب أن يطاع ولا يُعصى ليلتزم غيره من الطاعة ما قد التزمها , وهذا إلزام صحيح ثم فصل ذلك بتعديد نعمه عليه وعليهم فقال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينَ وَإِذَا مَرِضَتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وهذا احتجاجاً عليهم لموافقتهم له ثم قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يَحْيِينِ} وهذا قوله استدلالاً ولم يقله احتجاجاً , لأنهم خالفوه فيه , فبين لهم أن ما وافقوه عليه موجب لما خالفوه فيه. وتجوز بعض المتعمقة في غوامض المعاني فعدل بذلك عن ظاهره إلى ما

تدفعه بداهة العقول فتأول {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي يطعمني لذة الإيمان ويسقيني حلاوة القبول. وفي قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وجهان: أحدهما: إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته. الثاني: مرضت بمقاساة الخلق شفاني بمشاهدة الحق. وتأولوا قوله: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} على ثلاثة أوجه: أحدها: والذي يميتني بالمعاصي ويحييني بالطاعات. الثاني: يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء. الثالث: يميتني بالطمع ويحييني بالقناعة. وهذه تأويلات تخرج عن حكم الاحتمال إلى جهة الاستطراف، فلذلك ذكرناها وإن كان حذفها من كتابنا أوْلى.

83

{رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه اللب , قاله عكرمة. الثاني: العلم , قاله ابن عباس. الثالث: القرآن , قاله مجاهد. الرابع: النبوة , قاله السدي. ويحتمل خامساً: أنه إصابة الحق في الحكم. {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} قال عبد الرحمن بن زيد: مع الأنبياء والمؤمنين. ويحتمل وجهين: أحدهما: بالصالحين من أصفيائك في الدنيا. الثاني: بجزاء الصالحين في الآخرة ومجاورتهم في الجنة.

قوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ثناء حسناً في الأمم كلها , قاله مجاهد , وقتادة , وجعله لساناً لأنه يكون باللسان. الثاني: أن يؤمن به أهل كل ملة , قاله ليث بن أبي سليم. الثالث: أن يجعل من ولده من يقول بالحق بعده , قاله علي بن عيسى. ويحتمل رابعاً: أن يكون مصدقاً في جمع الملل وقد أجيب إليه. قوله تعالى: {وَاغْفِرْ لأَبِي} الآية. في أبيه قولان: أحدهما: أنه كان يسر الإيمان ويظهر الكفر فعلى هذا يصح الاستغفار له. الثاني: وهو الأظهر أنه كان كافراً في الظاهر والباطن. فعلى هذا في استغفاره له قولان: أحدهما: أنه سأل أن يغفر له في الدنيا ولا يعاقبه فيها. والثاني: أنه سأل أن يغفر له سيئاته التي عليه والتي تسقط بعفوه. قوله تعالى: {بِقَلْبٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: سليم من الشك , قاله مجاهد. الثاني: سليم من الشرك , قاله الحسن , وابن زيد. الثالث: من المعاصي , لأنه إذا سلم القلب سلمت الجوارح. الرابع: أنه الخالص , قاله الضحاك. الخامس: أنه الناصح في خلقه , قاله عبد الرحمن بن أبي حاتم. ويحتمل سادساً: سليم القلب من الخوف في القيامة لما تقدم من البشرى عند المعاينة.

90

{وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين

إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} قوله تعالى: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُم وَالْغَاوُونَ} فيها أربعة أوجه: أحدها: معناه جمعوا فيها النار , قاله ابن عباس. الثاني: طرحوا فيها على وجوههم , قاله ابن زيد , وقطرب. الثالث: نكسوا فيها على رؤؤسهم , قاله السدي , وابن قتيبة. الرابع: قلب بعضهم على بعض , قاله اليزيدي , قال الشاعر: (يقول لهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب في القَليب) {هُم وَالْغَاوُونَ} يعني الآلهة التي يعبدون. وفي الغاوين قولان: أحدهما: المشركون , قاله ابن عباس. الثاني: الشياطين , قاله قتادة. {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أعوانه من الجن. الثاني: أتباعه من الإنس. قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} فيهم قولان: أحدهما: الملائكة. الثاني: من الناس. {وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الشقيق: قاله مجاهد. الثاني: القريب النسيب , يقال حم الشيء إذا قرب ومنه الحمى لأنها تقرب الأجل , قال قيس بن ذريح: (لعل لبنى اليوم حُمّ لقاؤها ... وببعض بلاء إِنَّ ما حُمَّ واقِعُ) وقال ابن عيسى: إنما سمي القريب حميماً لأنه يحمى بغضب صاحبه، فجعله

مأخوذاً من الحمية، وقال قتادة: يذهب الله يومئذٍ مودة الصديق، ورقة الحميم.

105

{كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين} قوله تعالى: {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الذين يسألون ولا يقنعون. الثاني: أنهم المتكبرون. الثالث: سفلة الناس وأراذلهم , قاله قتادة. الرابع: أنهم الحائكون , قاله مجاهد. الخامس: أنهم الأساكفة , قاله ابن بحر. ويحتمل سادساً: أنهم أصحاب المهن الرذلة كلها.

116

{قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} قوله تعالى: {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بالحجارة، قاله قتادة. الثاني: بالقتل، قاله محمد بن الحسن. الثالث: بالشتيمة، قاله السدي. قال أبو داود: (صدّت غواة معدٍّ أن تراجمنى ... كما يصدون عن لب كجفان)

قوله تعالى: {فَافْتَحْ بَيْنِي وِبَيْنَهُمْ فَتْحاً} قال قتادة والسدي: معنا واقض بيني وبينهم قضاء , وهو أن ينجيه ومن معه من المؤمنين ويفرق الكافرين، ولم يدعُ نوح ربه عليه إلا بعد أن أعلمه، {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْءَامَنَ} [هود: 36] فحينئذ دعا عليهم.

123

{كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بَكُلِّ رِيعٍ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الريع الطريق , قاله السدي , ومنه قول المسيب بن علي: (في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع يلوح كأنه سحل) السحل: الثوب الأبيض , شبه الطريق به. الثاني: أنه الثنية الصغيرة , قاله مجاهد. الثالث: أنه السوق , حكاه الكلبي. الرابع: أنه الفج بين الجبلين , قاله مجاهد. الخامس: أنه الجبال , قاله أبو صخر. السادس: أنه المكان المشرف من الأرض , قاله ابن عباس , قال ذو الرمة: (طِراق الخوافي مشرق فوق ريعهِ ... ندى ليله في ريشه يترقرق)

{ءَايةٍ تَعْبَثُونَ} في آية ثلاثة أوجه: أحدها: البنيان , قاله مجاهد. الثاني: الأعلام , قاله ابن عباس. الثالث: أبراج الحمام , حكاه ابن أبي نجيح. وفي العبث قولان: أحدها: اللهو واللعب , قاله عطية. الثاني: أنه عبث العشّارين بأموال من يمر بهم , قاله الكلبي. قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: القصور المشيدة , قاله مجاهد , ومنه قول الشاعر: (تركنا ديارهم منهم قفاراً ... وهَدّمنا المصانع والبُروجا) الثاني: أنها مآجل الماء تحت الأرض , قاله قتادة , ومنه قول لبيد: (بَلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الجبال بعدنا والمصانع) الثالث: أنها بروج الحمام , قاله السدي. {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي كأنكم تخلدون باتخاذكم هذه الأبينة , وحكى قتادة: أنها في بعض القراءات: كأنكم خالدون. قوله تعالى: {وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أقوياء , قاله ابن عباس. الثاني: هو ضرب السياط، قاله مجاهد.

الثالث: هو القتل بالسيف في غير حق , حكاه يحيى بن سلام. وقال الكبي: هو القتل على الغضب. ويحتمل رابعاً: أنه المؤاخذة على العمد والخطأ من غير عفو ولا إبقاء.

136

{قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} قوله تعالى {إِنْ هَذا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: دين الأولين، قاله ابن عباس. الثاني: كدأب الأولين، قاله مجاهد. الثالث: عادة الأولين، قاله الفراء. الرابع: يعني أن الأولين قبلنا كانوا يموتون فلا يبعثون ولا يحاسبون , قاله قتاة.

146

{أتتركون في ما ها هنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون} قوله تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} فيه عشرة تأويلات: أحدها: أنه الرطب اللين، قاله عكرمة. الثاني: المذنب من الرطب، قاله ابن جبير. الثالث: أنه الذي ليس فيه نوى، قاله الحسن. الرابع: أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتّت، قاله مجاهد.

الخامس: المتلاصق بعضه ببعض، قاله أبو صخر. السادس: أنه الطلع حين يتفرق ويخضر، قاله الضحاك. السابع: اليانع النضيج , قاله ابن عباس. الثامن: أنه المتنكر قبل أن ينشق عنه القشر , حكاه ابن شجرة , قال الشاعر: (كأن حمولة تجلى عليه ... هضيم ما يحس له شقوقُ) التاسع: أنه الرخو , قال الحسن. العاشر: أنه اللطيف , قاله الكلبي. ويحتمل أن يكون الهضيم هو الهاضم المريء. والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور , ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات. قوله تعالى: {فَرِهِينَ} قرأ بذلك أبو عمرو , وابن كثير , ونافع , وقرأ الباقون {فَارِهِينَ} بالألف فمن قرأ {فَرِهِينَ} ففي تأويله ستة أوجه: أحدها: شرهين , قاله مجاهد. الثاني: معجبين , قاله خصيف. الثالث: آمنين , قاله قتادة. الرابع: فرحين , حكاه ابن شجرة. الخامس: بطرين أشرين , قاله ابن عباس. السادس: متخيرين , قاله الكلبي. ومنه قول الشاعر: (إلى فره يماجدُ كلَّ أمْرٍ ... قصدت له لأختبر الطّباعَا) ومن قرأ: {فَارِهِينَ} ففي تأويله أربعة أوجه: أحدها: معناه كيّسين قاله ال. الثاني: حاذقين: قاله أبو صالح , مأخوذ من فراهة الصنعة , وهو قول ابن عباس.

الثالث: قادرين , قاله ابن بحر. الرابع: أنه جمع فارِه , والفاره المرح , قاله أبو عبيدة , وأنشد لعدي بن الرقاع الغنوي: (لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ... ولن تراني بخير فاره اللبب) أي من اللبب.

153

{قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: من المسحورين , قاله مجاهد. الثاني: من السكرانين , قاله قتادة. الثالث: من المخلوقين , قاله ابن عباس. الرابع: من المخدوعين , قاله سهل بن عبد الله. الخامس: أن المسحر الذي ليس له شيء ولا يملك , وهو المقل , أي لست بملك فيبقى , وهذا معنى قول الكلبي. السادس: ممن له سحر أي رقية , حكاه ابن عيسى. السابع: ممن يأكل ويشرب , حكاه ابن شجرة , ومنه قول لبيد: (إن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر) أي المعلل بالطعام والشراب , قال امرؤ القيس: (أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب)

159

{وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين} قوله تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه القبان , قاله الحسن. الثاني: الحديد , رواه ابن المبارك. الثالث: أنه المعيار , قاله الضحاك. الرابع: الميزان , قاله الأخفش والكلبي. الخامس: العدل. واختلف قائلو هذا التأويل فيه هل هو عربي أو رومي؟ فقال مجاهد والشعبي: هو العدل بالرومية , وقال أبو عبيدة وابن شجرة: هو عربي وأصله القسط وهو العدل،

ومنه قوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] أي بالعدل. قوله تعالى: { ... وَلاَ تَعْثَواْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فيه قولان: أحدها: معناه ولا تمشوا فيها بالمعاصي , قاله أبو مالك. الثاني: لا تمشوا فيها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل , قاله ابن المسيب. ويحتمل ثالثاً: أن عبث المفسد ما ضر غيره ولم ينفع نفسه. قوله تعالى: {وَالجِبِلَّةِ} يعني الخليقة , قال امرؤ القيس: (والموت أعظم حادثٍ ... فيما يمر على الجبلة) {الأَوَّلِينَ} يعني الأمم الخالية , والعرب تكسر الجيم والباء من الجبلة , وقد تضمها وربما أسقطت الهاء كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} [يس: 62]. قال أبو ذؤيب: (صناتا يقربن الحتوف لأهلها ... جهازاً ويستمتعن بالأنس الجبل)

185

{قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} قوله تعالى: {كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: جانباً من السماء , قاله الضحاك. الثاني: قطعاً , قاله قتادة. الثالث: عذاباً , قاله السدي , قال الشاعر:

(وُدّي لها خالص في القلب مجتمع ... وودها فاعلمي كسف لما فوق)

192

{وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ} يعني القرآن. {الرُّوحُ الأمِينُ} يعني جبريل. {عَلَى قَلْبِكَ} يعني محمد صلى الله عليه وسلم. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} يعني لأمتك. {بِلِسَانٍ عَرَبِّيٍ مُبِينٍ} يعني أن لسان القرآن عربي مبين لأن المنزل عليه عربي , والمخاطبون به عرب ولأنه تحدى بفصاحته فصحاء العرب. وفي اللسان العربي قولان: أحدهما: لسان جرهم , قاله أبو برزة. الثاني: لسان قريش , قاله مجاهد.

196

{وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} يعني كتب الأولين من التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن المراد به ذكر القرآن في زبر الأولين , قاله قتادة. الثاني: بعث محمد صلى الله عليه وسلم في زبر الأولين , قاله السدي. الثالث: ذكر دينك وصفة أمتك في زبر الأولين , قاله الضحاك.

200

{كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم

فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين} قوله تعالى: {كَذلِكَ سَلَكْنَاهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كذلك أدخلنا الشرك , قاله أنس بن مالك. الثاني: التكذيب , قاله يحيى بن سلام. الثالث: القسوة , قاله عكرمة.

210

{وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون} قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لمصروفون عن السمع للقرآن. الثاني: أنهم مصروفون عن فهمه وإن سمعوه. الثالث: أنهم مصروفون عن العمل به وإن سمعوه وفهموه.

213

{فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم} قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: حين تقوم في الصلاة , قاله ابن عباس. الثاني: حين تقوم من فراشك ومجلسك، قاله الضحاك.

الثالث: يعني قائماً وجالساً وعلى حالاتك كلها , قاله قتادة. الرابع: يعني حين تخلو , قاله الحسن , ويكون القيام عبارة عن الخلوة لوصوله إليها بالقيام عن ضدها. قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} فيه ستة تأويلات: أحدها: من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً , قاله ابن عباس. الثاني: يرى تقلبك في صلاتك وركوعك وسجودك , حكاه ابن جرير. الثالث: أنك ترى تقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك , قاله مجاهد. الرابع: معناه وتصرفك في الناس , قاله الحسن لتقلبه في أحواله وفي أفعاله. الخامس: تقلب ذكرك وصفتك على ألسنة الأنبياء من قبلك. السادس: أن معنى قوله {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} إذا صليت منفرداً {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} إذا صليت في الجماعة , قاله قتادة. ويحتمل سابعاً: الذي يراك حين تقوم لجهاد المشركين , {وَتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ} فيما تريد به المسلمين وتشرعه من أحكام الدين.

221

{هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونُ} يعني إذا غضبوا سبوا، وفيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم الشياطين، قاله مجاهد. الثاني: المشركون، قاله ابن زيد. الثالث: السفهاء، قاله الضحاك.

الرابع: الرواة، قاله ابن عباس. {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في كل فن من الكلام يأخذون , قاله ابن عباس. الثاني: في كل لغو يخوضون، قاله قطرب , ومنه قول الشاعر: (إني لمعتذر إليك من الذي ... أسديت إذ أنا في الضلال أهيم) الثالث: هو أن يمدح قوماً بباطل , ويذم قوماً بباطل , قاله قتادة. وفي الهائم وجهان: أحدهما: أنه المخالف في القصد , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه المجاوز للحد. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} يعني ما يذكرونه في شعرهم من الكذب بمدح أو ذم أو تشبيه أو تشبيب. {إِلاَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} تقديره فإنهم لا يتبعهم الغاوون ولا يقولون ما لا يفعلون. روي أن عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فبكواْ عنده وقالوا: هلكنا يا رسول الله،

فأنزل الله {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فقرأها عليهم حتى بلغ إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فقال: أنتم. {وَذَكرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} فيه وجهان: أحدهما: في شعرهم. الثاني: في كلامهم. {وَانتَصَرُواْ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي ردّوا على المشركين ما كانوا يهجون به المؤمنين فقاتلوهم عليه نصرة للمؤمنين وانتقاماً من المشركين. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} وهذا وعيد يراد به من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء لكل كافر من شاعر وغير شاعر سيعلمون يوم القيامة أي مصير يصيرون وأي مرجع يرجعون , لأن مصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير , ومرجعهم إلى العذاب وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها , فصارإلى مرجع منقلباً وليس كل منقلب مرجعاً.

سورة النمل بسم الله الرحمن الرحيم

النمل

{طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم} قوله تعالى: {طس تِلْكَءَايَاتُ الْقُرْءانِ} أي هذه آيات القرآن. {وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} أي وآيات الكتاب المبين , والكتاب هو القرآن , فجمع له بَيْنَ الصفتين بأنه قرآن وأنه كتاب لأنه ما يظهر بالكتابة ويظهر بالقراءة. {مُّبِينٍ} لأنه يبين فيه نهيه وأمره , وحلاله وحرامه , ووعده ووعيده. وفي المضمر في {تِلْكَءَايَاتُ الْقُرْءانِ} وجهان: أحدهما: أنه يعود إلى الحروف التي في {طس} قاله الفراء. الثاني: إلى جميع السورة. {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: هدى إلى الجنة وبشرى بالثواب , قاله يحيى بن سلام.

الثاني: هدى من الضلالة وبشرى بالجنة , قاله الشعبي. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةِ} يعني المفروضة، وفي إقامتها وجهان: أحدهما: استيفاء فروضها وسنتها , قاله ابن عباس. الثاني: المحافظة على مواقيتها , قاله قتادة. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فيها أربعة أقاويل: أحدها: أنها زكاة المال , قاله عكرمة , وقتادة والحسن. الثاني: أنها زكاة الفطر؛ قاله الحارث العكلي. الثالث: أنها طاعة الله والإخلاص , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. الرابع: أنها تطهير أجسادهم من دنس المعاصي. قوله تعالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يترددون , قاله ابن عباس , ومجاهد. الثاني: يتمادون , قاله أبو العالية , وأبو مالك , والربيع بن أنس. الثالث: يلعبون , قاله قتادة , والأعمش. الرابع: يتحيرون , قاله الحسن , ومنه قول الراجز: (ومهمه أطرافه في مهمة ... أعمى الهدى بالجاهلين العمه) قوله تعالى: {وَإِنََّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لتأخذ القرآن , قاله قتادة. الثاني: لتوفى القرآن , قاله السدي. الثالث: لتلقن القرآن , قاله ابن بحر. ويحتمل رابعاً: لتقبل القرآن , لأنه أوّل من يلقاه عند نزوله. {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَليمٍ} أي من عند حكيم في أمره , عليم بخلقه.

7

{إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب

العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون} قوله تعالى: {إِنِّيءَانَسْتُ نَاراً} فيه وجهان: أحدهما: رأيت ناراً , قاله أبو عبيدة ومنه سمي الإنساء إنساً لأنهم مرئيون. الثاني: أحسست ناراً , قاله قتادة , والإيناس: الإحساس من جهة يؤنس بها. {سَئَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} فيه وجهان: أحدهما: سأخبركم عنها بعلم , قاله ابن شجرة. الثاني: بخبر الطريق , لأنه قد كان ضل الطريق , قاله ابن عباس. {أَوْ ءاتِيكُم بِشهَابٍ قَبَسٍ} والشهاب الشعاع المضي , ومنه قيل للكوكب الذي يمر ضوؤه في السماء شهاب، قال الشاعر: (في كفِّهِ صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبسِ) والقبس هو القطعة من النار , ومنه اقتبست النارَ، أخذت منها قطعة , واقتبست منه علماً إذا أخذت منه علماً , لأنك تستضيء به كما تستضيء بالنار. {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي لكي تصطلون من البرد، قال قتادة: وكان شتاء. قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهَا} يعني ظن أنها نار , وهي نور , قال وهب بن منبه: فلما رأى موسى وقف قريباً منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق، لا تزداد النار إلا تضرماً وعظماً , ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسناً , فعجب منها ودنا وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها , فمالت إليه فخافها

فتأخر عنها , ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضع أمْرها على أنها مأمورة ولا يدري ما أمرها، إلى أن: {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}. وفي {بُورِكَ} ثلاثة أوجه: أحدها: يعني قُدِّس , قاله ابن عباس. الثاني: تبارك , حكاه النقاش. الثالث: البركة في النار , حكاه ابن شجرة , وأنشد لعبد الله بن الزبير: (فبورك في بنيك وفي بنيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء) ) وفي النار وجهان: أحدهما: أنها نار فيها نور. الثاني: أنها نور ليس فيها نار , وهو قول الجمهور. وفي {بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} خمسة أقاويل: أحدها: بوركت النار , و {مَن} زيادة , وهي في مصحف أُبي: {بُورِكَتِ النَّارُ وَمَن حَوْلَهَا} قاله مجاهد. الثاني: بورك النور الذي في النار , قاله ابن عيسى. الثالث: بورك الله الذي في النور , قاله عكرمة , وابن جبير. الرابع: أنهم الملائكة , قاله السدي. الخامس: الشجرة لأن النار اشتعلت فيها وهي خضراء لا تحترق. وفي قوله: {وَمَن حَوْلَهَا} وجهان: أحدهما: الملائكة , قاله ابن عباس. الثاني: موسى , قالها أبو صخر. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: أن موسى قال حين فرغ من سماع النداء من قوله الله: {سبْحَانِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} استعانة بالله وتنزيهاً له , قاله السدي. الثاني: أن هذا من قول الله ومعناه: وبورك فيمن يسبح الله رب العالمين , حكاه ابن شجرة. ويكون هذا من جملة الكلام الذي نودي به موسى. وفي ذلك الكلام قولان:

أحدهما: أنه كلام الله تعالى من السماء عند الشجرة وهو قول السدي. قال وهب بن منبه: ثم لم يمس موسى امرأة بعدما كلمه ربه. والثاني: أن الله خلق في الشجرة كلاماً خرج منها حتى سمعه موسى , حكاه النقاش. قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب: ظن موسى أن الله أمره برفضها فرفضها. {فَلَمَا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} فيه وجهان: أحدهما: أن الجان الحية الصغيرة , سميت بذلك لاجتنانها واستتارها. والثاني: أنه أراد بالجان الشيطان من الجن , لأنهم يشبهون كل ما استهولوه بالشيطان , كما قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]. وقد كان انقلاب العصا إلى أعظم الحيات لا إلى أصغرها , كما قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] و [الشعراء: 33]. قال عبد الله بن عباس: وكانت العصا قد أعطاه إياها ملك من الملائكة حين توجه إلى مَدْيَن وكان اسمها: ما شاء , قال ابن جبير: وكانت من عوسج. {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ ... } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ولم يرجع , قاله مجاهد , قال قطرب: مأخوذ من العقب. الثاني: ولم ينتظر , قاله السدي. الثالث: ولم يلتفت , قاله قتادة. ويحتمل رابعاً: أن يكون معناه أنه بقي ولم يمش , لأنه في المشيء معقب لابتدائه بوضع عقبة قبل قدمه. قوله تعالى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} قيل إنه أراد في الموضع الذي يوحى فيه إليهم , ولا فالمرسلون من الله أخوف.

{إلاَّ مَن ظَلَمَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد من غير المسلمين لأن الأنبياء لا يكون منهم الظلم , ويكون منهم هذا الاستثناء المنقطع. الوجه الثاني: أن الاستثناء يرجع إلى المرسلين. وفيه على هذا وجهان: أحدهما: فيما كان منهم قبل النبوة كالذي كان من موسى في قتل القبطي، فأما بعد النبوة فهم معصومون من الكبائر والصغائر جميعاً. الوجه الثاني: بعد النبوة فإنه معصومون فيها مع وجود الصغائر منهم , غير أن الله لطف بهم في توفيقهم للتوبة منها , وهو معنى قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} يعني توبة بعد سيئة. {فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي غفور لذنبهم , رحيم بقبول توبتهم.

11

{إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} قوله تعالى: {إِنِّيءَانَسْتُ نَاراً} فيه وجهان: أحدهما: رأيت ناراً , قاله أبو عبيدة ومنه سمي الإنساء إنساً لأنهم مرئيون. الثاني: أحسست ناراً , قاله قتادة، والإيناس: الإحساس من جهة يؤنس بها. {سَئَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} فيه وجهان: أحدهما: سأخبركم عنها بعلم , قاله ابن شجرة. الثاني: بخبر الطريق , لأنه قد كان ضل الطريق , قاله ابن عباس. {أَوْءَاتِيكُم بِشهَابٍ قَبَسٍ} والشهاب الشعاع المضي , ومنه قيل للكوكب الذي يمر ضوؤه في السماء شهاب، قال الشاعر: (في كفِّهِ صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبسِ) والقبس هو القطعة من النار , ومنه اقتبست النارَ، أخذت منها قطعة، واقتبست منه علماً إذا أخذت منه علماً، لأنك تستضيء به كما تستضيء بالنار. {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي لكي تصطلون من البرد، قال قتادة: وكان شتاء. قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهَا} يعني ظن أنها نار , وهي نور , قال وهب بن منبه: فلما رأى موسى وقف قريباً منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق، لا تزداد النار إلا تضرماً وعظماً , ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسناً، فعجب منها ودنا وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها , فمالت إليه فخافها فتأخر عنها، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضع أمْرها على أنها مأمورة ولا يدري ما أمرها، إلى أن: {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}. وفي {بُورِكَ} ثلاثة أوجه: أحدها: يعني قُدِّس , قاله ابن عباس. الثاني: تبارك , حكاه النقاش. الثالث: البركة في النار , حكاه ابن شجرة , وأنشد لعبد الله بن الزبير: (فبورك في بنيك وفي بنيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء) وفي النار وجهان: أحدهما: أنها نار فيها نور. الثاني: أنها نور ليس فيها نار , وهو قول الجمهور. وفي {بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} خمسة أقاويل: أحدها: بوركت النار , و {مَن} زيادة , وهي في مصحف أُبي: {بُورِكَتِ النَّارُ وَمَن حَوْلَهَا} قاله مجاهد. الثاني: بورك النور الذي في النار , قاله ابن عيسى. الثالث: بورك الله الذي في النور , قاله عكرمة , وابن جبير. الرابع: أنهم الملائكة , قاله السدي. الخامس: الشجرة لأن النار اشتعلت فيها وهي خضراء لا تحترق. وفي قوله: {وَمَن حَوْلَهَا} وجهان: أحدهما: الملائكة , قاله ابن عباس. الثاني: موسى , قالها أبو صخر. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: أن موسى قال حين فرغ من سماع النداء من قوله الله: {سبْحَانِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} استعانة بالله وتنزيهاً له , قاله السدي. الثاني: أن هذا من قول الله ومعناه: وبورك فيمن يسبح الله رب العالمين , حكاه ابن شجرة. ويكون هذا من جملة الكلام الذي نودي به موسى. وفي ذلك الكلام قولان: أحدهما: أنه كلام الله تعالى من السماء عند الشجرة وهو قول السدي. قال وهب بن منبه: ثم لم يمس موسى امرأة بعدما كلمه ربه. والثاني: أن الله خلق في الشجرة كلاماً خرج منها حتى سمعه موسى , حكاه النقاش.

12

{وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين} قوله تعالى: {إِنِّيءَانَسْتُ نَاراً} فيه وجهان: أحدهما: رأيت ناراً , قاله أبو عبيدة ومنه سمي الإنساء إنساً لأنهم مرئيون. الثاني: أحسست ناراً , قاله قتادة , والإيناس: الإحساس من جهة يؤنس بها. {سَئَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ} فيه وجهان: أحدهما: سأخبركم عنها بعلم , قاله ابن شجرة. الثاني: بخبر الطريق , لأنه قد كان ضل الطريق , قاله ابن عباس. {أَوْءَاتِيكُم بِشهَابٍ قَبَسٍ} والشهاب الشعاع المضي , ومنه قيل للكوكب الذي يمر ضوؤه في السماء شهاب , قال الشاعر: (في كفِّهِ صعدة مثقفة ... فيها سنان كشعلة القبسِ) والقبس هو القطعة من النار , ومنه اقتبست النارَ , أخذت منها قطعة , واقتبست منه علماً إذا أخذت منه علماً , لأنك تستضيء به كما تستضيء بالنار. {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي لكي تصطلون من البرد , قال قتادة: وكان شتاء. قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهَا} يعني ظن أنها نار , وهي نور , قال وهب بن منبه: فلما رأى موسى وقف قريباً منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق , لا تزداد النار إلا تضرماً وعظماً , ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسناً , فعجب منها ودنا وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها , فمالت إليه فخافها فتأخر عنها , ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضع أمْرها على أنها مأمورة ولا يدري ما أمرها , إلى أن: {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا}. وفي {بُورِكَ} ثلاثة أوجه: أحدها: يعني قُدِّس , قاله ابن عباس. الثاني: تبارك , حكاه النقاش. الثالث: البركة في النار , حكاه ابن شجرة , وأنشد لعبد الله بن الزبير: (فبورك في بنيك وفي بنيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء) وفي النار وجهان: أحدهما: أنها نار فيها نور. الثاني: أنها نور ليس فيها نار , وهو قول الجمهور. وفي {بُورِكَ مَن فِي النَّارِ} خمسة أقاويل: أحدها: بوركت النار , و {مَن} زيادة , وهي في مصحف أُبي: {بُورِكَتِ النَّارُ وَمَن حَوْلَهَا} قاله مجاهد. الثاني: بورك النور الذي في النار , قاله ابن عيسى. الثالث: بورك الله الذي في النور , قاله عكرمة , وابن جبير. الرابع: أنهم الملائكة , قاله السدي. الخامس: الشجرة لأن النار اشتعلت فيها وهي خضراء لا تحترق. وفي قوله: {وَمَن حَوْلَهَا} وجهان: أحدهما: الملائكة , قاله ابن عباس. الثاني: موسى , قالها أبو صخر. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: أن موسى قال حين فرغ من سماع النداء من قوله الله: {سبْحَانِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} استعانة بالله وتنزيهاً له , قاله السدي. الثاني: أن هذا من قول الله ومعناه: وبورك فيمن يسبح الله رب العالمين , حكاه ابن شجرة. ويكون هذا من جملة الكلام الذي نودي به موسى. وفي ذلك الكلام قولان: أحدهما: أنه كلام الله تعالى من السماء عند الشجرة وهو قول السدي. قال وهب بن منبه: ثم لم يمس موسى امرأة بعدما كلمه ربه. والثاني: أن الله خلق في الشجرة كلاماً خرج منها حتى سمعه موسى , حكاه النقاش. قوله تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} قال وهب: ظن موسى أن الله أمره برفضها فرفضها. {فَلَمَا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} فيه وجهان: أحدهما: أن الجان الحية الصغيرة , سميت بذلك لاجتنانها واستتارها. والثاني: أنه أراد بالجان الشيطان من الجن , لأنهم يشبهون كل ما استهولوه بالشيطان , كما قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]. وقد كان انقلاب العصا إلى أعظم الحيات لا إلى أصغرها , كما قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] و [الشعراء: 33]. قال عبد الله بن عباس: وكانت العصا قد أعطاه إياها ملك من الملائكة حين توجه إلى مَدْيَن وكان اسمها: ما شاء , قال ابن جبير: وكانت من عوسج. {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ ... } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ولم يرجع , قاله مجاهد , قال قطرب: مأخوذ من العقب. الثاني: ولم ينتظر , قاله السدي. الثالث: ولم يلتفت , قاله قتادة. ويحتمل رابعاً: أن يكون معناه أنه بقي ولم يمش , لأنه في المشيء معقب لابتدائه بوضع عقبة قبل قدمه. قوله تعالى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} قيل إنه أراد في الموضع الذي يوحى فيه إليهم , ولا فالمرسلون من الله أخوف. {إلاَّ مَن ظَلَمَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أراد من غير المسلمين لأن الأنبياء لا يكون منهم الظلم , ويكون منهم هذا الاستثناء المنقطع. الوجه الثاني: أن الاستثناء يرجع إلى المرسلين. وفيه على هذا وجهان: أحدهما: فيما كان منهم قبل النبوة كالذي كان من موسى في قتل القبطي , فأما بعد النبوة فهم معصومون من الكبائر والصغائر جميعاً. الوجه الثاني: بعد النبوة فإنه معصومون فيها مع وجود الصغائر منهم , غير أن الله لطف بهم في توفيقهم للتوبة منها , وهو معنى قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ} يعني توبة بعد سيئة. {فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي غفور لذنبهم , رحيم بقبول توبتهم.

14

وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين

15

{ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} فيه ستة أوجه: أحدها: فهماً , قاله قتادة.

الثاني: صنعة الكيمياء وهو شاذ. الثالث: فصل القضاء. الرابع: علم الدين. الخامس: منطق الطير. السادس: بسم الله الرحمن الرحيم. {وَقَالاَ الْحَمْدُ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} وحمدهما لله شكراً على نعمه. وفيما فضلهما به على كثير من عباده المؤمنين ثلاثة أقاويل: أحدها: بالنبوة. الثاني: بالملك. الثالث: بالنبوة والعلم. قوله تعالى: {ووَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ورث نبوته وملكه , قاله قتادة , قال الكلبي: وكان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً وإنما خص سليمان بوراثتة لأنها وراثة نبوة وملك , ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء. الثاني: أن سخر له الشياطين والرياح , قاله الربيع. الثالث: أن داود استخلفه في حياته على بني إسرائيل وكانت ولايته هي الوراثة وهو قول الضحاك، ومنه قيل: العلماء ورثة الأنبياء، لأنهم في الدين مقام الأنبياء.

قوله تعالى: {فَهُمُ يُوزَعُونَ} فيه ستة أوجه: أحدها: يساقون , وهو قول ابن زيد. الثاني: يدفعون , قاله الحسن , قال اليزيدي: تدفع أخراهم وتوقف أولاهم. الثالث: يسحبون , قاله المبرِّد. الرابع: يجمعون. الخامس: يسجنون , قال الشاعر: (لسان الفتى سبع عليه سداته ... وإلا يزع من عَرْبه فهو قاتله) (وما الجهل إلا منطق متسرع ... سواءٌ عليه حق أمرٍ وباطله) السادس: يمنعون , مأخوذ من وزعه عن الظلم، وهو منعه عنه، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما وزع الله بالسلطان أكبر مما وزع بالقرآن. وقال النابغة: (على حين عاتبتُ المشيبَ على الصبا ... وقلت ألما تصدع والشيب وازعُ) والمراد بهذا المنع ما قاله قتادة: أن يُرد أولهم على آخرهم ليجتمعوا ولا يتفرقوا. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} قال قتادة: ذكر لنا أنه وادٍ بأرض الشام. وقال كعب: وهو بالطائف. {قَالَتْ نَمَلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُم} قال الشعبي: كان للنملة جناحان فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها، ولولا ذلك، ما علمه.

{لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} أي لا يهلكنكم. {وَهُمُ لاَ يَشعُرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: والنمل لا يشعرون بسليمان وجنوده , قاله يحيى بن سلام. الثاني: وسليمان وجنوده لا يشعرون بهلاك النمل , وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها , وقيل إن النمل أكثر جنسه حساً لأنه إذا التقط الحبة من الحنطة والشعير للادخار قطعها اثنين لئلا تنبت , وإن كانت كزبرة قطعها أربع قطع {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} فحكي أن الريح أطارت كلامها إلى سليمان حتى سمع قولها من ثلاثة أميال فانتهى إليها وهي تأمر النمل بالمغادرة. {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه تبسم من حذرها بالمغادرة. الثاني: أنه تبسم من ثنائها عليه. الثالث: أنه تبسم من استبقائها للنمل. قال ابن عباس: فوقف سليمان بجنوده حتى دخل النمل مساكنه. {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ألهمني , قاله قتادة. الثاني: اجعلني , قاله ابن عباس. الثالث: حرضني , قاله ابن زيد فحكى سفيان أن رجلاً من الحرس قال لسليمان , أنا بمقدرتي أشكر لله منك , قال فخرّ سليمان عن فرسه ساجداً.

وفي سبب شكره قولان: أحدهما: أن علم منطق الطيرحتى فهم قولها. الثاني: أن حملت الريح قولها إليه حتى سمعه قبل وصوله لجنوده على ثلاثة أميال فأمكنه الكف. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} فيه وجهان: أحدهما: شكر ما أنعم به عليه , قاله الضحاك. الثاني: حفظ ما استرعاه , وهو محتمل. {وَأدْخَلْنِي فِي رَحْمَتِكَ} فيه وجهان: أحدهما: بالنبوة التي شرفتني بها. الثاني: بالمعونة التي أنعمت عليّ بها. {فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} فيه وجهان: أحدهما: في جملة أنبيائك. الثاني: في الجنة التي هي دار أوليائك.

20

{وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} قوله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَال لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ} قيل إن سليمان كان إذا سافر أظله الطير من الشمس , فأخل الهدهد بكانه , فبان بطلوع الشمس منه بعده عنه , وكان دليله على الماء , وقيل: إن الأرض كانت كالزجاج للهدهد , يرى ما تحتها فيدل على مواضع الماء حتى يحضر , قال ابن عباس: فكانوا إذا سافروا نقر لهم الهدهد عن أقرب الماء في الأرض , فقال نافع بن الأزرق: فكيف يعلم أقرب الماء إلى الأرض ولا يعلم بالفخ حتى يأخذه بعنقه؟ فقال ابن عباس: ويحك يا نافع ألم تعلم أنه إذا جاء القدر ذهب الحذر؟ فقال سليمان عن زوال الهدهد عن مكانه {مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبينَ} أي انتقل عن مكانه أم غاب.

{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه نتف ريشه حتى لا يمتنع من شيء , قاله ابن عباس. الثاني: أن يحوجه إلى جنسه. الثالث: أن يجعله مع أضداده. {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسْلطَانٍ مُبِينٍ} فيه وجهان: أحدهما: بحجة بينة. الثاني: بعذر ظاهر , قاله قتادة.

22

{فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} قوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي أقام غير طويل ويحتمل وجهين: أحدهما: مكث سليمان غير بعيد حتى أتاه الهدهد. الثاني: فمكث الهدهد غير بعيد حتى أتى سليمان. {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بلغت ما لم تبلغه، قاله قتادة. الثاني: علمت ما لم تعلمه، قاله سفيان.

الثالث: اطلعت على ما لم تطلع عليه , قاله ابن عباس , والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته، وفي الكلام حذف تقديره. ثم جاء الهدهد فسأله سليمان عن غيبته. {وَجِئْتُكَ مِنَ سَبَإٍ بِنَبإٍ يقين} أي بخبر صحيح صدق , وفي {سبأ} قولان: أحدهما: أنها مدينة بأرض اليمن يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال , قاله قتادة، قال السدي: بعث الله إلى سبأ اثني عشر نبياً، وقال الشاعر: (من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما) الثاني: أن سبأ حي من أحياء اليمن واختلف قائلو هذا في نسبتهم إلى هذا , فذهب قوم إلى أنه اسم امرأة كانت أمهم , وروى علقمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ فقال: (هُوَ وَلَدُ رَجُلٍ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلاَدٍ فَبِاليَمَنِ مِنهُم سِتةٌ وبالشَّامِ مِنهُم أَربَعَةٌ , فَأَمَّا اليَمَانِيونَ فَمَذحَجُ وجُهَينَةُ وَكِندَةُ وأنمارُ وَالأُزْدُ وَالأَشعَرِيونَ وأَمَّا الشامِيون فَلَخْمُ وَجذامُ وعَامِلَةُ وَغَسَّانُ) وقيل هو سبأ بن يعرب بن قحطان. قال المفضل وسُمِّيَ سبأ لأنه أول من سبا. قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُم} قال الحسن: هي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ , وقال زهير بن محمد: هي بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن الديان وأمها فارعة الجنية , وقيل ولدها أربعون ملكاً آخرهم شرحبيل. قال قتادة كان

أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل. {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيءٍ} فيه قولان: أحدهما: من كل شيء في أرضها , قاله السدي. الثاني: من أنواع الدنيا كلها , قاله سفيان. {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه السرير , قاله قتادة. الثاني: أنه الكرسي , قاله سفيان. الثالث: المجلس , قاله ابن زيد. الرابع: الملك , قاله ابن بحر. وفي قوله: {عَظِيمٌ} ثلاثة أوجه: أحدها: ضخم. الثاني: حسن الصنعة , قاله زهير. الثالث: لأنه كان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وكان مستراً بالديباج والحرير عليه سبعة تعاليق , قاله قتادة. قال ابن إسحاق: وكان يخدمها النساء فكان معها لخدمتها ستمائة امرأة. قوله: {أَلاَّ يَسْجدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبءَ فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني غيب السموات والأرض، قاله عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن جبير. الثاني: أن خبء السموات المطر وخبء الأرض النبات، قاله ابن زيد، والخبء بمعنى المخبوء وقع المصدر موقع الصفة. وفي معنى الخبء في اللغة وجهان: أحدهما: أنه ما غاب. الثاني: أنه ما استتر. وقرأ الكسائي {أَلاَ يَسْجُدُواْ} بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد {أَلاَّ

يَسْجُدُواْ} قال الفراء: من قرأ بالتخفيف فهو موضع سجدة , ومن قرأ بالتشديد فليس بموضع سجدة. وفي قائل هذا قولان: أحدهما: أنه قول الله تعالى أمر فيه بالسجود له , وهو أمر منه لجميع خلقه وتقدير الكلام: ألا يا ناس اسجدواْ لله. الثاني: أنه قول الهدهد حكاه الله عنه. ويحتمل قوله هذا وجهين: أحدهما: أن يكون قاله لقوم بلقيس حين وجدهم يسجدون لغير الله. الثاني: أن يكون قاله لسليمان عند عوده إليه واستكباراً لما وجدهم عليه. وفي قول الهدهد لذلك وجهان: أحدهما: أنه وإن يكن ممن قد علم وجوب التكليف بالفعل فهو ممن قد تصور بما ألهم من الطاعة لسليمان أنه نبي مطاع لا يخالف في قول ولا عمل. الثاني: أنه كالصبي منا إذا راهق فرآنا على عبادة الله تصوّر أن ما خالفها باطل فكذا الهدهد في تصوره أن ما خالف فعل سليمان باطل.

27

{قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} قوله: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ ... } الآية , هذا قول سليمان للهدهد قال ابتلي فاختبر من ذلك فوجده صادقاً. {اذْهَبِ بِّكِتَابِي هَذَا إِلَيهِمْ} قال مجاهد أخذ الهدهد الكتاب بمنقاره فأتى بهوها فجعل يدور فيه فقالت ما رأيت خيراً منذ رأيت هذا الطير في بهوي فألقى الكتاب إليها. قال قتادة: فألقاه على صدرها وهي نائمة , قال يزيد بن رومان: كانت في ملك

من مضى من أهلها وقد سيست وساست حتى أحكمها ذلك. {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} قال ابن عباس كن قريباً منهم. {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} فيه تقديم وتأخير تقديره فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم , حكاه ابن عيسى , وقاله الفراء. قوله: {قَالَتْ يَآ أَيُّهَأ المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِليَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وفي صفتها الكتاب أنه كريم , أربعة أوجه: أحدها: لأنه مختوم , قاله السدي. الثاني: لحسن ما فيه , قاله قتادة. الثالث: لكرم صاحبه وأنه كان ملكاً , حكاه ابن بحر. الرابع: لتسخير الهدهد به بحمله. ويحتمل خامساً: لإلقائه عليها عالياً من نحو السماء. قوله تعالى: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} الآية , أما قولها إنه من سليمان فلإعلامهم مرسل الكتابي وممن هو. وأما قولها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فلاستنكار هذا الاستفتاح الذي لم تعرفه هي ولا قومها لأن أول من افتتح {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سليمان. روى ابن بريدة عن أبيه قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إِنِّي لأَعْلَمُ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍ قَبْلِي بَعْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ) قال: قلت يا رسول الله أي آية هي؟ قال: (سَأُعَلِّمُكَهَا قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ) قال: فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه فقلت: نسي ثم التفت إليّ فقال: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). حكى عاصم عن الشعبي قال: كَانَتْ كُتُبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كتب كان

يكتب: باسمك الله , فلما نزلت {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا} [هود: 41] كتب: باسم الله , فلما نزلت {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ} [الإِسراء: 110] كتب: باسم الله الرحمن , فلما نزلت {إِنَّهُ مِن سُلَيمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. قال عاصم قلت للشعبي أنا رأيت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال ذلك الكتاب الثالث. وأما قوله: {ألا تعلواْ عليَّ وأتوني مسلمين} فهذه كتب الأنباء موجزة مقصورة على الدعاء إلى الطاعة من غير بسط ولا إٍسهاب. وفي {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} ثلاثة أقاويل: أحدها: لا تخالفوا عليّ , قاله قتادة. الثاني: لا تتكبروا علي , قاله السدي وابن زيد. الثالث: لا تمتنعوا عليّ , قاله يحيى بن سلام. {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: مستسلمين , قاله الكلبي. الثاني: موحدين , قاله ابن عباس. الثالث: مخلصين , قاله زهير. الرابع: طائعين , قاله سفيان.

32

{قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون} قوله: {قَالَتْ يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} أشيروا عليّ في هذا الأمر الذي نزل بي فجعلت المشورة فتيا وقيل: إنها أول من وضع المشورة. {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونَ} أي ممضية أمراً , وفي قراءة ابن مسعود قاضية أمراً , والمعنى واحد.

{حَتَّى تَشْهَدُونَ} فيه وجهان. أحدهما: حتى تشيروا , قاله زهير. الثاني: حتى تحضرواْ , قاله الكلبي. قوله تعالى: {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ} أي أهل عدد وعدة. {وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي شجاعة وآلة , وفي هذا القول منهم وجهان: أحدهما: تفويض الأمر إلى رأيها لأنها المدبرة لهم. الثاني: أنهم أجابوها تبادرين إلى قتاله , قاله ابن زيد. قال مجاهد: كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وهذا بعيد. {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} الآية. عرضوا عليها الحرب وردواْ إليها الأمر , قال الحسن: ولّوا أمرهم علجة يضطرب ثدياها , حدث أبو بكرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ). قوله: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} قال ابن عباس أخذوها عنوة , وأفسدوها , وخربوها. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون بالاستيلاء على مساكنها وإجلاء أهلها عنها. {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} أي أشرافهم وعظماءهم أذلة وفيه وجهان: أحدهما: بالسيف , قاله زهير. الثاني: بالاستعباد , قاله ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: أن يكون بأخذ أموالهم وحط أقدارهم. {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} فيه قولان: أحدهما: أن هذا من قول الله، وكذلك يفعل الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، قاله ابن عباس.

الثاني أن هذا حكاية عن قول بلقيس: كذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا , قاله ابن شجرة. قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} اختلف فيها على أربعة فيها على أربعة أقاويل: أحدها: أنها كانت لبنة من ذهب , قاله ابن عباس. الثاني: أنها كانت جوهَراً , قاله ابن جبير. الثالث: أنها كانت صحائف الذهب في أوعية الديباج , قاله ثابت البناني. الرابع: أنها أهدت غلماناً لباسهم لباس الجواري , وجواري لباسهم لباس الغلمان , قاله مجاهد , وعكرمة وابن جبير , والسدي , وزهير , واختلف في عددهم فقال سعيد بن جبير: كانوا ثمانين غلاماً وجارية , وقال زهير كانوا ثمانين غلاماً وثمانين جارية. {فَنَاظِرةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} قال قتادة: يرحمها الله إن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها , قد علمت أن الهدية تقع موقعها من الناس. واختلف فيما قصدت بهديتها على قولين: أحدهما: ما ذكره قتادة من الملاطفة والاستنزال. الثاني: اختبار نبوته من ملكه , ومن قال بهذا اختلفوا بماذا اختبرته على قولين: أحدهما: أنها اختبرته بالقبول والرد , فقالت: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه على ملككم وإن لم يقبل الهدية فهو نبي لا طاقة لكم بقتاله , قاله ابن عباس وزهير. الثاني: أنها اختبرته بتمييز الغلمان من الجواري , ومن قال بهذا اختلفوا بماذا ميزهم سليمان عل ثلاثة أقوال. أحدها: أن أمرهم بالوضوء فاغترف الغلام بيده وأفرغت الجارية على يديها فميزهم بهذا، قاله السدي. الثاني: لما توضؤوا غسل الغلمان ظهور السواعد قبل بطونها , وغسل الجواري بطون السواعد قبل ظهورها، فميزهم بهذا، قاله قتادة.

الثالث: أنهم لما توضؤوا بدأ الغلام من مرفقه إلى كفه وبدأت الجارية من كفها إلى مرفقها , فميزهم بهذا , قاله ابن جبير.

36

{فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانُ} فيه وجهان: أحدهما: فلما جاءت هداياها سليمان , قاله يزيد بن رومان. الثاني: فلما جاءت رسلها سليمان لأن الهدهد قد كان سبق إلى سليمان فأخبره بالهدية والرسل فتأهب سليمان لهم. قال السدي: فأمر الشياطين فموّهوا لَبِن المدينة وحيطانها ذهباً وفضة , وقيل إنها بعثت مع رسلها بعصاً كان يتوارثها ملوك حمير , وقالت: أريد أن يعرفني رأس هذه من أسفلها , وبقدح وقالت: يملؤه ماءً ليس من الأرض ولا من السماء , وبخرزتين إحداهما ثقبُها معوج وقالت يدخل فيها خيطاً والأخرى غير مثقوبة وقالت يثقب هذه. {قَالَ} سليمان للرسل حين وصلوا إليه {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} معناه أتزيدونني مالاً إلى ما تشاهدونه من أموالي. {فَمَا ءاتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّاءَاتَاكُم} أي فما آتاني من النبوة والملك خير مما آتاكم من المال , فرد عليهم المال وميز الغلمان من الجواري , وأرسل العصا إلى الأرض فقال أي الرأسين سبق للأرض فهو أصلها , وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال: ليس هذا من الأرض ولا من السماء , وثقب إحدى الخرزتين وأدخل الخيط في الأخرى , فقال الرسل ما شاهدوا. واختلف في الرسل هل كانوا رجالاً أو نساء على قولين. قوله {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} فيه قولان:

أحدهما: أنه قال ذلك للرسول ارجع إليهم بما جئت من الهدايا , قاله قتادة. ويزيد بن رومان. الثاني: أنه قال ذلك للهدهد [ارجع إليه] , قائلاً لهم: {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُم بِهَا} أي لا طاقة لهم بها ليكون الهدهد نذيراً لهم , قاله زهير. وصدق نبي الله سليمان صلى الله عليه لأن من جنوده الإنس والجن والطير فليس لأحدٍ بها طاقة. {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً} الآية. إخباراً له عما يصنعه بهم ليسعد منهم بالإيمان من هدي وهذه سنة كل نبي.

38

{قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم} قوله {يَآ أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأَتِيني بِعَرْشِهَا} الآية. حكى يزيد بن رومان أنه لما عاد رسلها بالهدايا قالت: قد والله عرفت أنه ليس بملك وما لنا به طاقة، ثم بعثت إليه: إني قادمة عليك بملوك قومي ثم أمرت بعرشها فجعلته في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض وغلقت عليه الأبواب وشَخَصَت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن، فقال سليمان حين علم قدومها عليه: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} الآية: وفيه وجهان: أحدهما: مسلمين أي مستسلمين طائعين، قاله ابن عباس. الثاني: أن يأتوني مسلمين أي بحرمة الإٍسلام ودين الحق , قاله ابن جريج. فإن قيل: فلم أَمَرَ أنَ أن يؤتى بعرشها قبل أن يأتوا إليه مسلمين؟ قيل عنه في الجواب خمسة أوجه:

أحدها: أنه أراد أن يختبر صدق الهدهد , قاله ابن عباس. الثاني: أنه أعجب بصفته حين وصفه الهدهد وخشي أن تسلم فيحرم عليه مالها فأراد أخذه قبل أن يحرم عليه بإسلامها , قاله قتادة. الثالث: أنه أحب أن يعاليها به وكانت الملوك يعالون بالملك والقدرة , قاله ابن زيد. الرابع: أنه أراد أن يختبر بذلك عقلها وفطنتها , وهل تعرفه أو تنكره , قاله ابن جبير. الخامس: أنه أراد أن يجعل ذلك دليلاً على صدق نبوته , لأنها خلفته في دارها وأوثقته في حرزها ثم جاءت إلى سليمان فوجدته قد تقدمها , قاله وهب. قوله: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ} العفريت المارد القوي , قال أبو صالح كأنه جبل وفيه وجهان: أحدهما: أنه المبالغ في كل شيء مأخوذ من قولهم فلان عفرية نفرية إذا كان مبالغاً في الأمور , قاله الأخفش. الثاني: أصله العفر وهو الشديد , زيدت فيه التاء فقيل عفريت , قاله ابن قتيبة. {أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: من مجلسك وسمي المجلس مقاماً لإقامة صاحبه فيه كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51]. الثاني: أنه أراد يوماً معروفاً كان عادة سليمان أن يقوم فيه خطيباً يعظهم , ويأمرهم , وينهاهم , وكان مجيء اليوم تقريباً. الثالث: أنه أراد قبل أن تسير عن ملكك إليهم محارباً. {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} لقوي على حمله , وفي الأمين ثلاثة أقاويل: أحدها: أمين على ما فيه من جوهر ولؤلؤ , قاله الكلبي وابن جرير. الثاني: أمين ألا آتيك بغيره بدلاً منه، قاله ابن زيد.

الثالث: أمين على فرج المرأة، قاله ابن عباس، وحكى يزيد بن رومان ان اسم العفريت كودي، وحكى ابن أبي طلحة أن اسمه صخر، وحكى السدي أنه آصف بن السيطر بن إبليس، والله أعلم بصحة ذلك. قوله: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه ملك أيد الله به سليمان , والعلم الذي من الكتاب هو ما كتب الله لبني آدم , وقد علم الملائكة منه كثيراً فأذن الله له أن يعلم سليمان بذلك , وأن يأتيه بالعرش الذي طلبه , حكاه ابن بحر. القول الثاني: أنه بعض جنود سليمان من الجن والإِنس , والعلم الذي عنده من الكتاب هو كتاب سليمان الذي كتبه إلى بلقيس وعلم أن الريح مسخرة لسليمان وأن الملائكة تعينه فتوثق بذلك قبل أن يأتيه بالعرش قبل أن يرتد إليه طرفه. والقول الثالث: أنه سليمان قال ذلك للعفريت. والقول الرابع: أنه قول غيره من الإنس , وفيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه مليخا , قاله قتادة. الثاني: أنه أسطوم , قاله مجاهد. الثالث: أنه آصف بن برخيا وكان صدّيقاً , قاله ابن رومان. الرابع: أنه ذو النور بمصر , قاله زهير. الخامس: أنه الخضر , قاله ابن لهيعة. و {عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} هو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب. {أَنَاْءَاتِيكَ بِهِ} يعني بالعرش. {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} فيه ستة أوجه: أحدها: قبل أن يأتيك أقصى من تنظر إليه , قاله ابن جبير. الثاني: قبل أن يعود طرفك إلى مد بصرك , قاله ابن عباس , ومجاهد. الثالث: قبل أن يعود طرفك إلى مجلسك , قاله إدريس. الرابع: قبل الوقت الذي تنظر وروده فيه من قولهم: أنا ممد الطرف إليك أي منتظر لك، قاله ابن بحر.

الخامس: قبل أن يرجع طرف رجائك خائباً لأن الرجاء يمد الطرف والإياس يقصر الطرف. السادس: قبل أن ينقص طرفك بالموت , أخبره أنه سيأتيه قبل موته. {فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِراً عِندَهُ} قبل أن يرتد طرفه لأن الذي عنده علم عن الكتاب دعا باسم الله الأعظم وعاد طرف سليمان إليه فإذا العرش بين يديه. قال عبد الرحمن بن زيد: لم يعلم سليمان ذلك الاسم وقد أُعطي ما أُعطي. قال السدي: فجزع سليمان وقال: غيري أقدر على ما عند الله مني , ثم استرجع. {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلُ رَبِّي} يعني وصول العرش إليّ قبل أن يرتد إليَّ طرفي. {لِيَبْلُوَنِّيءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} قال زهير: أأشكر على العرش إذ أوتيته في سرعة أم أكفر فلا أشكر إذ رأيت من هو أعلم مني في الدنيا. قال زهير: ثم عزم الله له على الشكر فقال: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرْ لِنَفْسِهِ} لأن الشكر تأدية حق واستدعاء مزيد. {وَمَن كَفَرَ فِإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن الشكر {كَرِيمٌ} في التفضل , وهذه معجزة لسليمان أجراها الله على يد من اختصه من أوليائه. وكان العرش باليمن وسليمان بالشام فقيل: ان الله حرك به الأرض حتى صار بين يديه.

41

{قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} قوله: {قَالَ نَكَرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} أي غيروه وفي تغييره خمسة أوجه: أحدها: أنه نزع ما عليه من فصوصه، ومرافقه وجواهره، قاله ابن عباس.

الثاني: أنه غيّر ما كان أحمر فجعله أخضر وما كان أخضر جعله أحمر , قاله مجاهد. الثالث: غيّر بأن زيد فيه ونقص منه , قاله عكرمة. الرابع: حوّل أعلاه أسفله ومقدمه مؤخره، قاله شيبان بن عبد الرحمن. الخامس: غيّره بأن جعل فيه تمثال السمك , قاله أبو صالح. {نَنْظُرُ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أتهتدي إلى الحق بعقلها أم تكون من الذين لا يعقلون , وهذا معنى قول ابن رومان. الثاني: إلى معرفة العرش بفطنتها أم تكون من الذين لا يعرفون , وهذا معنى قول ابن جبير , ومجاهد. {فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فلم تثبته ولم تنكره واختلف في سبب قولها ذلك , على ثلاثة أقاويل: أحدها: لأنها خلفته وراءها فوجدته أمامها فكان معرفتها له تمنع من إنكاره وتركها له وراءها يمنع إثباته , وهذا معنى قول قتادة. الثاني: لأنها وجدت فيه ما تعرفه فلذلك لم تنكره ووجدت فيه ما بُدِّل وغير فلذلك لم تثبته , قاله السدي. الثالث: شبهوا عليها حين قالوا: أهكذا عرشك؟ فشبهت عليهم فقالت: كأنه هو ولو قالوا لها: هذا عرشك لقالت: نعم , قاله مقاتل. {وَأُوَتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا} وهذا قول من سليمان وقيل هو من كلام قومه , وفي تأويله ثلاثة أقاويل: أحدها: معرفة الله وتوحيده , قاله زهير. الثاني: النبوة , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أي علمنا أن العرش عرشها قبل أن نسألها , قاله ابن شجرة. {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: طائعين لله بالاستسلام له.

الثاني: مخلصين لله بالتوحيد. قوله تعالى {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: وصدها عبادة الشمس أن تعبد الله. الثاني: وصدّها كفرها بقضاء الله أن تهتدي للحق. الثالث: وصدّها سليمان عما كانت تعبد في كفرها. الرابع: وصدها الله تعالى إليه بتوفيقها بالإيمان عن الكفر. قوله: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها بركة بنيت قوارير , قاله مجاهد. الثاني: أنها صحن الدار , حكاه ابن عيسى يقال صرحة الدار وساحة الدار وباحة الدار وقاعة الدار كله بمعنى واحد. قال زهير مأخوذ من التصريح ومنه صرح بالأمر إذا أظهره. الثالث: أنه القصر قاله ابن شجرة , واستشهد بقول الهذلي. (على طرق كنحو الظباء ... تحسب أعلامهن الصروحا) {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} أي ماء لأن سليمان أمر الجن أن يبنوه من قوارير في ماء فبنوه وجعلوا حوله أمثال السمك فأمرها بالدخول لأنها وصفت له فأحب أن يراها. قال مجاهد: وكانت هلباء الشعر والهلباء الطويلة الشعر , قدمها كحافر الحمار وكانت أمها جنيه. قال الحسن: وخافت الجن أن يتزوجها سليمان فيطلع منها على أشياء كانت الجن تخفيها عنه. وهذا القول بأن أمها جنية مستنكر في العقول لتباين الجنسين واختلاف الطبعين وتفاوت الجسمين، لأن الآدمي جسماني , والجني روحاني , وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار وخلق الجني من مارج من نار , ويمتنع الامتزاج من هذا التباين ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف، لكنه قيل فذكرته حاكياً.

{وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} فرآهما سليمان شعراوين فصنعت له الجن النورة فحلقهما , فكان أول من صنعت النورة. واختلفواْ في السبب الذي كان من أجله أراد سليمان كشف ساقيها لدخول الصرح على ثلاثة أقاويل: أحدها: لأنه أراد أن يختبر بذلك عقلها. الثاني: أنه ذكر له أن ساقها ساق حمار لأن أمها جنية فأحب أن يختبرها. الثالث: لأنه أراد أن يتزوجها فأحب أن يشاهدها. {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} فيه قولان: أحدهما: أنه المجلس ومنه الأمرد لملوسته , قاله علي بن عيسى. الثاني: أنه الواسع طوله وعرضه , قاله ابن شجرة وأنشد: (غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم ... قبيل الضحى في البابلي الممرد) قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} فيه قولان: أحدهما: بالشرك الذي كانت عليه , قاله ابن شجرة. الثاني: بالظن الذي توهمته في سليمان لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة وأن سليمان يريد تغريقها فيه فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن , قاله سفيان. {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي استسلمت مع سليمان لله طائعة لله رب العالمين. قال مقاتل: فتزوجها سليمان واتخذ لها حماماً ونورة بالشام , وهو أول من اتخذ ذلك , ثم لم ير إلا كذلك حتى فرق الموت بينهما , فحكى الشعبي عن ناس من حمير أنهم حفروا مقبرة الملك فوجدوا فيها أرضاً معقودة فيها امرأة عليها حلل منسوخة بالذهب وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب: - (يا أيها الأقوام عُوجوا معاً ... وأربعوا في مقبري العيسا)

(لتعلموا أني تلك التي ... قد كنت أدْعي الدهر بلقيسا) (شيّدت قصر الملك في حمير ... قومي وقد كان مأنوسا) (وكنت في ملكي وتدبيره ... أرغم في الله المعاطيسا) (بَعْلي سليمان النبي الذي ... قد كان للتوراة دريسا) (وسخّر الريح له مركباً ... تهب أحياناً رواميسا) (مع ابن داود النبي الذي ... قدسه الرحمن تقديسا)

45

{ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون} قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} فيه قولان: أحدهما: كافر ومؤمن , قاله مجاهد. الثاني: مصدق ومكذب , قاله قتادة. وفيم اختصموا؟ فيه قولان: أحدهما: أن تقول كل فرقة نحن عل الحق دونكم. الثاني: اختلفوا أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه , قاله مجاهد. قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} فيه قولان: أحدهما: بالعذاب قبل الرحمة , قاله مجاهد , لقولهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. الثاني: بالبلاء قبل العافية , قاله السدي. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: بالكفاية. الثاني: بالإِجابة. قوله: {قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} أي تشاءَمنا بك وبمن معك مأخوذ من الطيرة , وفي تطيرهم به وجهان:

أحدهما: لافتراق كلمتهم , قاله ابن شجرة. الثاني: للشر الذي نزل بهم , قاله قتادة. {قَالَ طَآئِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: مصائبكم عند الله , قاله ابن عباس , لأنها في سرعة نزولها عليكم كالطائر. الثاني: عملكم عند الله , قاله قتادة , لأنه في صعوده إليه كالطائر. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تبتلون بطاعة الله ومعصيته , قاله قتادة. الثاني: تصرفون عن دينكم الذي أمركم الله به وهو الإسلام , قاله الحسن.

48

{وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} قوله: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} الرهط الجمع لا واحد له يعني من ثمود قوم صالح وهم عاقرو الناقة , وذكر ابن عباس أساميهم فقال: هم زعجي وزعيم وهرمي ودار وصواب ورباب ومسطح وقدار , وكانواْ بأرض الحجر وهي أرض الشام , وكانوا فساقاً من أشراف قومهم. {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: يفسدون بالكفر ولا يصلحون بالإيمان. الثاني: يفسدون بالمنكر ولا يصلحون بالمعروف.

الثالث: يفسدون بالمعاصي ولا يصلحون بالطاعة. الرابع: يفسدون بكسر الدراهم والدنانير ولا يصلحون بتركها صحاحاً , قاله ابن المسيب , قاله عطاء. الخامس: أنهم كانوا يتتبعون عورات النساء ولا يسترون عليهن. قوله: {قَالُواْ تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} أي تحالفواْ بالله. {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أي لنقتلنه وأهله ليلاً , والبيات قتل الليل. {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي لرهط صالح. {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي قتله , وقتل أهله , ولا علمنا ذلك. {وَإِنَّا لَصّادِقُونَ} في إنكارنا لقتله. {وَمَكَرُواْ مَكْراً} وهو ما همّوا به من قتل صالح. {وَمَكَرْنَا مَكْراً} وهو أن رماهم الله بصخرة فأهلكهم. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي لا يعلمون بمكرنا وقد علمنا بمكرهم. وفي مكرهم ومكر الله تعالى بهم قولان: أحدهما: قاله الكلبي , وهم لا يشعرون بالملائكة الذين أنزل الله على صالح ليحفظوه من قومه حين دخلوا عليه ليقتلوه , فرموا كل رجل منهم بحجر حتى قتلوهم جميعاً , وسَلِمَ صالح من مكرهم. الثاني: قاله الضحاك , أنهم مكروا بأن أظهروا سفراً وخرجوا فاستتروا في غار ليعودوا في الليل فيقتلوهُ , فألقى الله صخرة على باب الغار حتى سدّه وكان هذا مكر الله بهم.

54

{ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين}

قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة. الثاني: يبصر بعضكم بعضاً.

59

{قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون} قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ} فيها قولان: أحدهما: أنها النخل , قاله الحسن. الثاني: الحائط من الشجر والنخل , قاله الكلبي. {ذَاتَ بَهْجَةٍ} فيها قولان: أحدهما: ذات غضارة , قاله قتادة. الثاني: ذات حسن , قاله الضحاك. {مَّا كَانَ لَكُْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أي ما كان في قدركم أن تخلقوا مثلها. {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: أي ليس مع الله إله , قاله قتادة. الثاني: أإله مع الله يفعل هذا , قاله زيد بن أسلم. {بَلْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أي يعدلون عن الحق. الثاني: يشركون بالله فيجعلون له عدلاً أي مثلاً , قاله قطرب ومقاتل.

61

{أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون} قوله: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً} أي جعلها مستقراً.

{وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} أي في مسالكها ونواحيها أنهار جارية ينبت بها الزرع ويحيي به الخلق. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} يعني جبالاً هي لها ماسكة والأرض بها ثابتة. {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: بحر السماء والأرض , قاله مجاهد. الثاني: بحر فارس والروم , قاله الحسن. الثالث: بحر الشام والعراق , قاله السدي. الرابع: العذب والمالح , قاله الضحاك. والحاجز المانع من اختلاط أحدهما بالآخر فيه وجهان: أحدهما: حاجزاً من الله لا يبغي أحدهما على صاحبه , قاله قتادة. الثاني: حاجزاً من الأرض أن يختلط أحدهما بالآخر , حكاه قتادة. {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يعقلون , قاله ابن عباس. الثاني: لا يعلمون توحيد الله , حكاه النقاش. الثالث: لا يتفكرون , حكاه ابن شجرة.

62

{أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون} قوله {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} وإنما خص إجابة المضطر لأمرين: أحدهما: لأن رغبته أقوى وسؤاله أخضع. الثاني: لأن إجابته أعم وأعظم لأنها تتضمن كشف بلوى وإسداء نعمى. {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون عن المضطر بإجابته. الثاني: عمن تولاه ألاَّ ينزل به. وفي {السُّوءَ} وجهان: أحدهما: الضر.

الثاني: الجور , قاله الكلبي. {وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: خلفاً من بعد خلف , قاله قتادة. الثاني: أولادكم خلفاء منكم , حكاه النقاش. الثالث: خلفاء من الكفار ينزلون أرضهم وطاعة الله بعد كفرهم , قاله الكلبي. {قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ} أي ما أقل تذكركم لنعم الله عليكم!

63

{أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} قوله {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرَّ وَالْبَحْرِ} فيه وجهان: أحدهما: يرشدكم من مسالك البر والبحر. الثاني: يخلصكم من أهوال البر والبحر , قاله السدي. وفي {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وجهان: أحدهما: أن البر الأرض والبحر الماء. الثاني: أن البر بادية الأعراب والبحر الأمصار والقرى , قاله الضحاك. {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مبشرة , قاله ابن عباس وتأويل من قرأ بالباء. الثاني: منشرة , قاله السدي وهو تأويل من قرأ بالنون. الثالث: ملقحات , قاله يحيى بن سلام. {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} وهو المطر في قول الجميع. {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عما أشرك المشركون به من الأوثان.

65

{قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون} قوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} وفي صفة علمهم بهذه الصفة قولان: أحدهما: أنها صفة ذم فعلى هذا في معناه أربعة أوجه: أحدها: غاب عليهم , قاله ابن عباس. الثاني: لم يدرك علمهم , قاله ابن محيصن. الثالث: اضمحل علمهم , قاله الحسن. الرابع: ضل علمهم وهو معنى قول قتادة. فهذا تأويل من زعم أنها صفة ذم. والقول الثاني: أنها صفة حمد لعلمهم وإن كانوا مذمومين فعلى هذا في معناه ثلاثة أوجه: أحدها: أدرك علمُهم , قاله مجاهد. الثاني: اجتمع علمهم , قاله السدي. الثالث: تلاحق علمهم , قاله ابن شجرة. {فِي شَكٍّ مِّنْهَا} يعني من الآخرة فمن جعل ما تقدم صفة ذمٍ لعلمهم جعل نقصان علمهم في الدنيا فلذلك أفضى بهم إلى الشك في الآخرة , ومن جعل ذلك صفة حمد لعلمهم جعل كمال علمهم في الآخرة فلم يمنع ذلك أن يكونوا في الدنيا على شك في الآخرة.

71

{ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم

لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} قوله: {رَدِفَ لَكُم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه اقترب لكم ودنا منكم: قاله ابن عباس وابن عيسى. الثاني: أعجل لكم , قاله مجاهد. الثالث: تبعكم , قاله ابن شجرة ومنه رِدْف المرأة لأنه تبع لها من خلفها، قال أبو ذؤيبٍ: (عاد السواد بياضاً في مفارقه ... لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردِفا) وفي قوله تعالى: {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} وجهان: أحدهما: يوم بدر. الثاني: عذاب القبر. قوله: {وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ ... .} الآية. فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن الغائبة القيامة , قاله الحسن. الثاني: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض , حكاه النقاش. الثالث: جميع ما أخفى الله عن خلقه وغيَّبه عنهم , حكاه ابن شجرة. وفي {كِتَابٍ مُّبِينٍ} قولان: أحدهما: اللوح المحفوظ.

الثاني: القضاء المحتوم.

82

{وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} قوله {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: وجب الغضب عليهم , قاله قتادة. الثاني: إذا حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون , قاله مجاهد. الثالث: إذا لم يؤمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم , قاله ابن عمر وأبو سعيد الخدري. الرابع: إذا نزل العذاب , حكاه الكلبي. {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} فيها قولان: أحدهما: ما حكاه محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن الدابة فقال: أما والله لها ذنب وإن لها للحية , وفي هذا القول إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح. الثاني: وهو قول الجمهور أنها دابة من دواب الأرض، واختلف من قال بهذا في صفتهاعلى ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها دابة ذات زغب وريش لها أربع قوائم، قاله ابن عباس: الثاني: أنها دابة ذات وبر تناغي السماء , قاله الشعبي. القول الثالث: أنها دابة رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن آيِّل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً تخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان فيسود وجهه، قاله ابن الزبير.

وفي قوله {مِّنَ الأَرْضِ} أربعة أقاويل: أحدها: أنها تخرج من بعض أودية تهامة , قاله ابن عباس. الثاني: من صخرة من شعب أجياد , قاله ابن عمر. الثالث: من الصفا , قاله ابن مسعود. الرابع: من بحر سدوم , قاله ابن منبه. وفي {تُكَلِّمُهُمْ} قراءتان: الشاذة منهما: {تَسِمهُم} بفتح التاء , وفي تأويلها وجهان: أحدهما: تسمهم في وجوههم بالبياض في وجه المؤمن , وبالسواد في وجه الكافر حتى يتنادى الناس في أسواقهم يا مؤمن يا كافر , وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تَخْرُجُ الدَّابَّهُ فَتَسِم الناسَ عَلَى خَرَاطِيمِهِم). الثاني: معناه تجرحهم وهذا مختص بالكافر والمنافق , وجرحه إظهار كفره ونفاقه ومنه جرح الشهود بالتفسيق , ويشبه أن يكون قول ابن عباس. والقراءة الثانية: وعليها الجمهور {تُكَلِّمُهُمْ} بضم التاء وكسر اللام من الكلام , وحكى قتادة أنها في بعض القراءة: {تُنَبِّئُهُمْ} وحكى يحيى بن سلام أنها في بعض القراءة: {تُحَدِّثُهُمْ}. وفي كلامها على هذا التأويل قولان: أحدهما: أن كلامها ظهور الآيات منها من غير نطق ولا لفظ. والقول الثاني: أنه كلام منطوق به.

فعلى هذا فيما تكلم به قولان: أحدهما: أنها تكلمهم بأن هذا مؤمن وهذا كافر. الثاني: تكلمهم بما قاله الله {أَنَّ النَّاسَ كَانُواْ بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ} قاله ابن مسعود وعطاء. وحكى ابن البيلماني عن ابن عمر أن الدابة تخرج ليلة جمع وهي ليلة النحر والناس يسيرون إلى منى.

83

{ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أَمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِئَايَتِنَا} وهم كفارها المكذبون. وفي قوله {بَئَايَاتِنَا} وجهان: أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله السدي. الثاني: جميع الرسل , وهو قول الأكثرين. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يجمعون، قاله ابن شجرة. الثاني: يدفعون، قاله ابن عباس. الثالث: يساقون، قاله ابن زيد والسدي، ومنه قول الشماخ. (وكم وزعنا من خميس جحفل ... وكم حبونا من رئيس مسحل) الرابع: يُرَدُّ أولاهم على أُخراهم , قاله قتادة.

87

{ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} وهو يوم النشور من القبور وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الصور جمع صورة , والنفخ فيها إعادة الأرواح إليها. الثاني: أنه شيء ينفخ فيه كالبوق يخرج منه صوت يحيا بن الموتى. الثالث: أنه مثل ضربه الله لإحياء الموتى في وقت واحد بخروجهم فيه كخروج الجيش إذا أُنذروا بنفخ البوق فاجتمعوا في الخروج وقتاً واحداً. {فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} وفي هذا الفزع هنا قولان: أحدهما: أنه الإجابة والإسراع إلى النداء من قولك فزعت إليه من كذا إذا أسرعت إلى ندائه في معونتك قال الشاعر: (كنا إذا ما أتانا صارخٌ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب) فعلى هذا يكون {إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ} استثناء لهم من الإِجابة والإسراع إلى النار. ويحتمل من أريد بهم وجهين: أحدهما: الملائكة الذين أخروا عن هذه النفخة. والقول الثاني: إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحذر لأنهم

أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا وهذا أشبه القولين فعلى هذا يكون قوله {إِلاَّ مَن شَآءَ} استثناء لهم من الخوف والفزع. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم , قاله ابن عيسى. الثاني: أنهم الشهداء. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الشهداء ولولا هذا النص لكان الأنبياء بذلك أحق لأنهم لا يقصرون عن منازل الشهداء وإن كان في هذا النص تنبيه عليهم. وقيل إن إسرافيل هو النافخ في الصور. {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: راغمين , قاله السدي. الثاني: صاغرين , قاله ابن عباس وقتادة ويكون المراد بقوله {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} من فزع ومن استثني من الفزع بقوله {إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ} وهذا يكون في النفخة الثانية , والفزع بالنفخة الأولى , وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَاماً). قوله {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي واقفة. {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي لا يرى سيرها لبعد أطرافها كما لا يرى سير السحاب إذا انبسط لبعد أطرافه وهذا مثل , وفيم ضرب له ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب , قاله سهل بن عبد الله. الثاني: أنه مثل ضربه الله للإيمان , تحسبه ثابتاً في القلب وعمله صاعد إلى السماء. الثالث: أنه مثل للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى القدس.

{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيىْءٍ} أي فعل الله الذي أتقن كل شيء. وفيه أربعة أوجه: أحدها: أحكم كل شيء , قاله ابن عباس. الثاني: أحصى، قاله مجاهد. الثالث: أحسن، قاله السدي. الرابع: أوثق , واختلف فيها فقال الضحاك: هي كلمة سريانية , وقال غيره: هي عربية مأخوذ من إتقان الشيء إذا أحكم وأوثق , وأصلها من التقن وهو ما ثقل من الحوض من طينة. قوله: {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ} فيها وجهان: أحدهما: أنها أداء الفرائض كلها. الثاني: أفضل منها لأنه يعطى بالحسنة عشراً , قاله زيد بن أسلم. الثالث: فله منها خير للثواب العائد عليه , قاله ابن عباس ومجاهد. {وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍءَامِنُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وهم من فزع يوم القيامة آمنون في الجنة. الثاني: وهم من فزع الموت في الدنيا آمنون في الآخرة. {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةٍ} الشرك في قول ابن عباس وأبي هريرة.

91

{إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون} قوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدُ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدِةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} فيها قولان: أحدهما: مكة , قاله ابن عباس. الثاني: مِنى , قاله أبو العالية , وتحريمها هو تعظيم حرمتها والكف عن صيدها وشجرها.

{وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} يعني ملك كل شيء مما أحله وحرمه فيحل منه ما شاء ويحرم منه ما شاء لأن للمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء. قوله: {سَيُرِيكُمْءَآيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} فيه وجهان: أحدهما: يريكم في الآخرة فتعرفونها على ما قال في الدنيا , قاله الحسن. الثاني: يريكم في الدنيا ما ترون من الآيات في السموات والأرض فتعرفونها أنها حق , قاله مجاهد. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} من خير أو شر فلا بد أن يجازي عليه، والله أعلم.

سورة القصص مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها نزلت بين مكة والمدينة، وقيل بالجحفة وهي: {إن الذين فرض عليك القرآن لرأدك إلى معاد} الآية: بسم الله الرحمن الرحيم

القصص

{طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ببغيه في استعباد بني إسرائيل وقتل أولادهم , قاله قتادة. الثاني: بكفره وادعاء الربوبية. الثالث: بملكه وسلطانه.

وهذه الأرض أرض مصر لأن فرعون ملك مصر , ولم يملك الأرض كلها , ومصر تسمى الأرض ولذلك قيل لبعض نواحيها الصعيد. وفي علوه وجهان: أحدهما: هو لظهوره في غلبته. الثاني: كبره وتجبره. {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي فرقاً. قاله قتادة: فَرّق بين بني إسرائيل والقبط. {يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} وهم بنو إسرائيل بالاستعباد بالأعمال القذرة. {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ} قال السدي: إن فرعون رأى في المنام أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه عن تأويله , فقالوا: يخرج من هذا البلد رجل يكون على يده هلاك مصر , فأمر بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم , وأسرع الموت في شيوخ بني إسرائيل فقال القبط لفرعون: إن شيوخ بني إسرائيل قد فنوا بالموت وصغارهم بالقتل فاستبقهم لعملنا وخدمتنا أن يستحيوا في عام ويقتلوا في عام فولد هارون في عام الاستحياء وموسى في عام القتل. وطال بفرعون العمر حتى حكى النقاش أنه عاش أربعمائة سنة وكان دميماً قصيراً. وكان أول من خضب بالسواد. وعاش موسى مائة وعشرين سنة. قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ} فيهم قولان: أحدهما: بنو إسرائيل , قاله يحيى بن سلام. الثاني: يوسف وولده , قاله علي رضي الله عنه. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمََّةً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ولاة الأمر , قاله قتادة. الثاني: قادة متبوعين , قاله قتادة. الثالث: أنبياء لأن الأنبياء فيما بين موسى وعيسى كانوا من بني إسرائيل أولهم موسى وآخرهم عيسى وكان بينهما ألف نبي , قاله الضحاك. {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم بعد غرق فرعون سبَوا القبط فاستعبدوهم بعد أن كانوا عبيدهم فصاروا وارثين لهم، قاله الضحاك.

الثاني: أنهم المالكون لأرض فرعون التي كانوا فيها مستضعفين. والميراث زوال الملك عمن كان له إلى من صار إليه , ومنه قول عمرو بن كلثوم: (ورثنا مجد علقمة بن سيف ... أباح لنا حصون المجد دينا)

7

{وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون} {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه إلهام من الله قد قذفه في قلبها وليس بوحي نبوة , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه كان رؤيا منام , حكاه ابن عيسى. الثالث: أنه وحي من الله إليها مع الملائكة كوحيه إلى النبيين , حكاه قطرب. {أَنْ أَرْضِعِيه} قال مجاهد: كان الوحي بالرضاع قبل الولادة , وقال غيره بعدها. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} يعني القتل الذي أمر به فرعون في بني إسرائيل {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} واليم: البحر وهو النيل.

{وَلاَ تَخافِي} فيه وجهان: أحدهما: لا تخافي عليه الغرق , قاله ابن زيد. الثاني: لا تخافي عليه الضيعة , قاله يحيى بن سلامة. {وَلاَ تَحْزَنِي} فيه وجهان: أحدهما: لا تحزني على فراقه، قاله ابن زيد. الثاني: لا تحزني أن يقتل، قال يحيى بن سلام. فقيل: إنها جعلته في تابوت طوله خمسة أشبار وعرضه خمسة أشبار وجعلت المفتاح مع التابوت وطرحته في البحر بعد أن أرضعته أربعة أشهر وقال آخرون ثمانية أشهر في حكاية الكلبي. وحكي أنه لما فرغ النجار من صنعه التابوت أتى إلى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينه وقلبه فلم يعرف الطريق فأيقن أنه المولود الذي تخوف فرعون منه فآمن من ذلك الوقت وهو مؤمن آل فرعون. قال ابن عباس: فلما توارى عنها ندَّمها الشيطان وقالت في نفسها لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب أليّ من إلقائه بيدي إلى دواب البحر وحيتانه , فقال الله: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ ... } الآية , حكى الأصمعي قال: سمعت جارية أعرابية تنشد: (استغفر الله لذنبي كله ... قبلت إنساناً بغير حلّه) (مثل الغزال ناعماً في دَله ... فانتصف الليل ولم أُصله) ) فقلت: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أوَيعد هذا فصاحة مع قوله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... } الآية , فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. قوله {فَالتْقَطَهُءَآلُ فِرْعَوْنَ} فيه قولان: أحدهما: أنه التقطه جواري امرأته حين خرجن لاستسقاء الماء فوجدن تابوته فحملنه إليها , قاله ابن عباس. الثاني: أن امرأة فرعون خرجت إلى البحر وكانت برصاء فوجدت تابوته فأخذته فبرئت من برصها فقالت: هذا الصبي مبارك , قاله عبد الرحمن بن زيد. {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدوّاً وََحَزَناً} أي ليكون لهم عَدُوّاً وحزناً في عاقبة أمره ولم يكن

لهم في الحال عدوّاً ولا حزناً لأن امرأة فرعون فرحت به وأحبته حباً شديداً فذكر الحال بالمآل كما قال الشاعر: (وللمنايا تربي كل مرضعةٍ ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها.) {وَقَالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أصحاب فرعون لما علموا بموسى جاءوا ليذبحوه فمنعتهم وجاءت به إلى فرعون وقالت: قرة عين لي ولك. {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} فقال فرعون: قرة عين لك فأما لي فلا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَونُ بِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ قُرَّةُ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّت امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ كَمَا هَدَاهَا وََلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذلِكَ) وفي قرة العين وجهان: أحدهما: أنه بردها بالسرور مأخوذ من القر وهو البرد. الثاني: أنه قر فيها دمعها فلم يخرج بالحزن مأخوذ من قر في المكان إذا أقام فيه. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنّ هلاكهم على يديه وفي زمانه.

10

{وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون} قوله {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مَوسَى فَارِغاً} فيه ستة أوجه:

أحدها: فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: فارغاً من وحينا بنسيانه , قاله الحسن وابن زيد. الثالث: فارغاً من الحزن لعلمها أنه لم يغرق , قاله الأخفش. الرابع: معنى فارغاً أي نافراً , قاله العلاء بن زيد. الخامس: ناسياً , قاله اليزيدي. السادس: معناه والهاً , رواه ابن جبير. وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري وهو صحابي: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزِعاً} من الفزع وفي قوله {وَأَصْبَحَ} وجهان: أحدهما: أنها ألقته ليلاً فأصبح فؤادها فارغاً في النهار. الثاني: أنها ألقته نهاراً ومعنى أصبح أي صار , قال الشاعر: (مضى الخلفاء بالأمر الرشيد ... وأصبحت المدينة للوليد) {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن تصيح عند إلقائه وا إبناه، قاله ابن عباس. الثاني: أن تقول لما حملت لإرضاعه وحضانته هو ابني , قاله السدي لأنه ضاق صدرها لما قيل هو ابن فرعون. الثالث: أن تبدي بالوحي , حكاه ابن عيسى. {لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} فيه قولان: أحدهما: بالإيمان , قاله قتادة. الثاني: بالعصمة , قاله السدي. {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قال السدي: قد كانت من المؤمنين ولكن لتكون من المصدقين بأنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين. قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي استعلمي خبره وتتبّعي أثره. قال الضحاك , واسم أخته كلثمة. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} وفيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: عن جانب، قاله ابن عباس. الثاني: عن بعد، قاله مجاهد ومنه الأجنبي قال علقمة بن عبدة: (فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابةٍ ... فإني امرؤ وسط القباب غريب) الثاني: عن شوق , حكاه أبوعمرو بن العلاء وذكر أنها لغة جذام يقولون جنبت إليك [أي اشتقت]. {َوَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنها أخته لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى رأتهم قد أخذوه. قوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} قال ابن عباس: لا يؤتى بمرضعة فيقبلها وهذا تحريم منع لا تحريم شرع كما قال امرؤ القيس: (جالت لتصرعني فقلت لها اقصِري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام) أي ممتنع: {مِن قَبْلُ} أي من قبل مجيء أخته وفي قوله: {مِن قَبْلُ} وجهان: أحدهما: ما ذكرناه. الثاني: من قبل ردّه إلى أمه. {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} الآية. وهذا قول أخته لهم حين رأته لا يقبل المراضع فقالوا لها عند قولها لهم: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} وما يُدْريك؟ لعلك تعرفين أهله , فقالت: لا ولكنهم يحرصون على مسرة الملك ويرغبون في ظئره. قوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمَّهِ} قال ابن عباس انطلقت أخته إلى أمه فأخبرتها فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصَّه حتى امتلأ جنباه رياً وانطلق بالبشرى إلى امرأة فرعون قد وجدنا لابنك ظئراً , قال أبو عمران الجوني: وكان فرعون يعطي أم موسى في كل يوم ديناراً. وروي أنه قال لأم موسى حين ارتضع منها: كيف ارتضع منك ولم يرتضع من غيرك؟ فقالت: لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أوتى بصبي إلا ارتضع مني.

فكان من لطف الله بموسى أن جعل إلقاء موسى في البحر وهو الهلاك سبباً لنجاته وسخر فرعون لتربيته وهو يقتل الخلق من بني إسرائيل لأجله وهو في بيته وتحت كنفه. {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} في قوله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكَ} الآية. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ} يعني من قوم فرعون. {لاَ يَعْلَمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: لا يعلمون ما يراد بهم , قاله الضحاك. الثاني: لا يعملون مثل علمها.

14

{ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين} قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} فيه تسعة أقاويل: أحدها: أربعون سنة , قاله الحسن. الثاني: أربع وثلاثون سنة , قاله سفيان. الثالث: ثلاث وثلاثون سنة , قاله ابن عباس. الرابع: ثلاثون سنة , قاله السدي. الخامس: خمس وعشرون سنة , قاله عكرمة. السادس: عشرون سنة , حكاه يحيى بن سلام. السابع: ثماني عشرة سنة , قاله ابن جبير. الثامن: خمس عشرة سنة , قاله محمد بن قيس. التاسع: الحلم. قاله ربيعة ومالك.

والأشد جمع واختلف هل له واحد أم لا , على قولين: أحدهما: لا واحد له , قاله أبو عبيدة. الثاني: له واحد وفيه وجهان: أحدهما: شد , قاله سيبويه. الثاني: شدة , قاله الكسائي. {وَاسْتَوَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: اعتدال القوة , قاله ابن شجرة. الثاني: خروج اللحية , قاله ابن قتيبة. الثالث: انتهى شبابه , قاله ابن قتيبة. الرابع: أربعون سنة , قاله ابن عباس. {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} في الحكم أربعة أقاويل: أحدها: أنه العقل , قاله عكرمة. الثاني: النبوة , قاله السدي. الثالث: القوة , قاله مجاهد. الرابع: الفقه , قاله ابن اسحاق. قوله: {وَدَخَل الْمَدِينَةَ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها مصر , قاله ابن شجرة. الثاني: منف , قاله السدي. الثالث: عين الشمس , قاله الضحاك. {عَلَى حِينٍ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} فيه أربعة أقاويل: أحدها: نصف النهار والناس قائلون , قاله ابن جبير. الثاني: ما بين المغرب والعشاء , قاله ابن عباس. الثالث: يوم عيد لهم وهم في لهوهم , قاله الحسن. الرابع: لأنهم غفلوا عن ذكره لبعد عهدهم به , حكاه ابن عيسى. {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} وفيه قولان: أحدهما: من شيعته إسرائيلي ومن عدوه قبطي، قاله ابن عباس. الثاني: من شيعته مسلم ومن عدوه كافر، قاله ابن إسحاق.

{فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} حكى ابن سلام أن القبطي سخّر الإسرائيلي ليحمل له حطباً لمطبخ فرعون فأبى عليه فاستغاث بموسى. قال سعيد بن جبير: وكان خبازاً لفرعون {فَوَكَزَهُ مُوسَى} قال قتادة: بعصاه وقال مجاهد: بكفه أي دفعه , الوكز واللكز واحد والدفع. قال رؤبة: 89 (بعدد ذي عُدَّةٍ ووكز} 9 إلا أن الوكز في الصدر واللكز في الظهر. فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله وانما يريد دفعه. {فَقَضَى عَلَيهِ} أي فقتله. و {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي من إغوائه. {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُّبِينٌ} قال الحسن: لم يكن يحل قتل الكافر يومئذٍ في تلك الحال لأنها كانت حال كف عن القتال. قوله: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} فيه وجهان: أحدهما: من المغفرة. الثاني: من الهداية. {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} أي عوناً. قال ابن عباس: قال ذلك فابتلي لأن صاحبه الذي أعانه دل عليه.

18

{فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}

قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ في الْمَدِينَةِ خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: خائفاً من قتل النفس أن يؤخذ بها. الثاني: خائفاً من قومه. الثالث: خائفاً من الله. {يَتَرَقَّبُ} فيه وجهان: أحدهما: يتلفت من الخوف , قاله ابن جبير. الثاني: ينتظر. وفيما ينتظر فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ينتظر الطلب إذا قيل إن خوفه كان من قتل النفس. الثاني: ينتظر أن يسلمه قومه إذا قيل إن خوفه منهم. الثالث: ينتظر عقوبة الله إذا قيل إن خوفه كان منه. {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} يعني الإسرائيلي الذي كان قد خلصه بالأمس ووكز من أجله القبطي فقتله , استصرخه واستغاثه على رجل آخر من القبط خاصمه. {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فيه قولان: أحدهما: أنه قال ذلك للإسرائيلي لأنه قد أغواه بالأمس حتى قتل من أجله رجلاً ويريد أن يغويه ثانية. الثاني: أنه قال ذلك للقبطي فظن الإسرائيلي أنه عناه فخافه , قاله ابن عباس. {فلَمَّآ أَنْ أَرادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا ... } وهو القبطي لأن موسى أخذته الرقة على الإسرائيلي فقال الإسرائيلي: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ} فيه قولان: أحدهما: أن الإسرائيلي رأى غضب موسى عليه وقوله إنك لغوي مبين، فخاف أن قتله فقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ}. الثاني: أن الإسرائيلي خاف أن يكون موسى يقتل القبطي فيقتل به الإسرائيلي فقال ذلك دفعاً لموسى عن قتله , قاله يحيى بن سلام: قال يحيى: وبلغني أن هذا الإسرائيلي هو السامري.

وخلى الإسرائيلي القبطي فانطلق القبطي وشاع أن المقتول بالأمس قتله موسى. { ... إلاَّ تَكُونَ جَبَّارا فِي الأَرْضِ} قال السدي: يعني قتالاً. قال أبو عمران الجوني: وآية الجبابرة القتل بغير [حق]. وقال عكرمة: لا يكون الإنسان جباراً حتى يقتل نفسين [بغير حق]. {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ} أي وما هكذا يكون الإصلاح.

20

{وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين} قوله: {وََجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى} قال الضحاك: هو مؤمن آل فرعون. وقال شعيب: اسمه شمعون. وقال محمد بن اسحاق: شمعان. وقال الضحاك والكلبي: اسمه حزقيل بن شمعون. قال الكلبي: هوابن عم فرعون أخي أبيه. {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقتُلُوكَ} فيه تأويلان: أحدهما: يتشاورون في قتلك , قاله الكلبي , ومنه قول النمر بن تولب: (أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر) الثاني: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك ومنه قوله {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم بِالْمَعْرُوفِ} [الطلاق: 6] أي ليأمر بعضكم بعضاً وكقول امرىء القيس: (أحارِ بن عمرٍو كأني خَمِرْ ... ويعدو على المرء ما يأتمر)

21

{فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان

قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} قال عكرمة: عرضت لموسى أربع طرق فلم يدر أيتها يسلك. {قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ} وفيه وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك عند استواء الطرق فأخذ طريق مدين , قاله عكرمة. الثاني: أنه قال ذلك بعد أن اتخذ طريق مدين فقال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي قصد الطريق إلى مدين، قاله قتادة والسدي. قال قتادة: مدين ماء كان عليه قوم شعيب. قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} قال ابن عباس: لما خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينهما ثماني ليل ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر وخرج حافياً فما وصل إليها حتى وقع خف قدميه. {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ} أي جماعة. قال ابن عباس: الأمة أربعون. {يَسْقُونَ} يعني غنمهم ومواشيهم. {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} فيه وجهان: أحدهما: تحبسان , قاله قطرب , ومنه قول الشاعر: (أبيتُ على باب القوافي كأنما ... أذود بها سِرباً من الوحش نُزَّعا) الثاني: تطردان. قال الشاعر: (لقد سلبت عصاك بنو تميم ... فما تدري بأيِّ عصى تذود) وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهما تحبسان غنمهما عن الماء لضعفهما عن زحام الناس. قاله أبو مالك والسدي. الثاني: أنهما تذودان الناس عن غنمهما، قاله قتادة.

الثالث: تمنعان غنمهما أن تختلط بغنم الناس، حكاه يحيى بن سلام. {قَالَ مَا خَطْبَكُمَا} أي ما شأنكما , وفي الخطب تضخيم الشيء ومنه الخطبة لأنها من الأمر المعظم. {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ} والصدور الانصراف , ومنه الصّدر لأن التدبير يصدر عنه , والمصدر لأن الأفعال تصدر عنه. والرعاء جمع راع. وفي امتناعهما من السقي حتى يصدر الرعاء وجهان: أحدهما: تصوناً عن الاختلاط بالرجال. الثاني: لضعفهما عن المزاحمة بماشيتهما. {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وفي قولهما ذلك وجهان: أحدهما: أنهما قالتا ذلك اعتذاراً إلى موسى عن معاناتهما سقي الغنم بأنفسهما. الثاني: قالتا ذلك ترقيقاً لموسى ليعاونهما. {فَسَقَى لَهُمَا} فيه قولان: أحدهما: أنه زحم القوم عن الماء حتى أخرجهم عنه ثم سقى لهما , قاله ابن إسحاق. الثاني: أنه أتى بئراً عليه صخرة لا يقلها من أهل مدين إلا عشرة فاقتلعها بنفسه وسقى لهما. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم. {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} قال السدي: إلى ظل الشجرة وذكر أنها سَمْرة. {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال ابن عباس: قال موسى ذلك وقد لصق بطنه بظهره من الجوع وهو فقير إلى شق تمرة ولو شاء إنسان لنظر إلى خضرة أمعائه من شدة الجوع. قال الضحاك: لأنه مكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً إلاّ بقل الأرض؛ فعرض لهما بحاله فقال {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فيه قولان: أحدهما: شبعة من طعام، قاله ابن عباس. الثاني: شبعة يومين، قاله ابن جبير.

25

{فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل} قوله تعالى: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} قال ابن عباس: فاستبكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حُفّلا بطاناً فقال لهما: إن لكما اليوم لشأناً فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه فجاءته تمشي على استحياء , وفيه قولان: أحدهما: أنه استتارها بكم درعها , قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الثاني: أنه بعدها من النداء , قاله الحسن. وفي سبب استحيائها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها دعته لتكافئه وكان الأجمل مكافأته من غير عناء. الثاني: لأنها كانت رسولة أبيها. الثالث: ما قاله عمر لأنها ليست بسلفع من النساء خَرَّاجة ولاّجة. {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} وفي أبيها قولان: أحدهما: أنه شعيب النبي عليه السلام. الثاني: أنه يثرون ابن أخي شعيب , قاله أبو عبيدة والكلبي. وكان اسم التي دعت موسى وتزوجها: صفوريا. واسم الأخرى فيه قولان:

إحدهما: ليا , قاله ابن اسحاق. الثاني: شرفا , قاله ابن جرير. {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي ليكافئك على ما سقيت لنا فمشت أمامه فوصف الريح عجيزتها فقال لها: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت. {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} أي أخبره بخبره مع آل فرعون. {قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال ابن عباس: يعني أنه ليس لفرعون وقومه عليّ سلطان ولسنا في مملكته. قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَآ أَبَتِ أَسْتَأْجِرْهُ} والقائلة هي التي دعته وهي الصغرى يعني استأجره لرعي الغنم. {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} فيه قولان: أحدهما: القوي فيما ولي , الأمين فيما استودع , قاله ابن عباس. الثاني: القوي في بدنه , الأمين في عفافه. وروي أن أباها لما قالت له ذلك دخلته الغيرة فقال لها: وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت: أما قوته فأنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان ولا يكشفها دون عشرة , وأما أمانته فإنه خلفني خلف ظهره حين مشى. قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} فروى عبد الرحمن بن زيد أن موسى قال: فأيهما تريد أن تنكحني؟ قال: التي دعتك , قال: لا إلا أن تكون تريد ما دخل في نفسك عليها فقال: هي عندي كذلك فزوجه وكانت الصغيرة واسمها صفوريا. {عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حَجَجٍ} يعني عمل ثماني حجج فأسقط ذكر العمل واقتصر على المدة لأنه مفهوم منها , والعمل رعي الغنم. واختلف في هذه الثماني حجج على قولين: أحدهما: أنها صداق المنكوحة. الثاني: أنها شرط الأب في إنكاحها إياه وليس بصداق.

{فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرَاً فَمِنْ عِنْدِكَ} قال ابن عباس كانت على نبي الله موسى ثماني حجج واجبة وكانت سنتان عِدة منه فقضى الله عنه عِدته فأتمها عشراً. {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} فيه قولان: أحدهما: من الصالحين في حسن الصحبة. قاله ابن إسحاق. الثاني: فيما وعده به. حكى يحيى بن سلام أنه جعل لموسى كل سخلة توضع على خلاف شبه أمها فأوحى الله إلىموسى أن ألق عصاك في الماء فولدت كلهن خلاف شبههن. وقال غير يحيى: بل جعل له كل بلقاء فولدن كلهن بُلْقاً. قوله تعالى: {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} قال السدي: لا سبيل عليّ. {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قول السدي: شهيد. الثاني: حفيظ , قاله قتادة. الثالث: رقيب , قاله ابن شجرة. فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ مُوسَى أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ , فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى؟ فَقَالَ أَبَرُّهُمَا وَأَوفَاهُمَا).

29

{فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من

النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين} قوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} يعني العمل الذي شُرِطَ عليه. {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي بزوجته. {ءانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} أي رأى , وقد يعبر عن الرؤية بالعلم. {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّيءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: بخبر الطريق الذي أراد قصده هل هو على صوبه أو منحرف عنه. الثاني: بخبر النار التي رأها هل هي لخير يأنس به أو لشر يحذره. {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ} فيها أربعة أوجه: أحدها: الجذوة أصل الشجرة فيها نار , قاله قتادة. الثاني: أنها عود في بعضه نار وليس في بعضه نار , قاله الكلبي. الثالث: أنها عود فيه نار ليس له لهب , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنها شهاب من نار ذي لهب , قاله ابن عباس. قال الشاعر: (وألقي على قبس من النار جذوة ... شديدٌ عليها حميها والتهابها.) {لَعلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئون. قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَتَاهَا} يعني النار أي قرب منها. {نُودِيَ مِن شَاطِيءِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارََكَةِ} وهي البقعة التي قال الله فيها لموسى {اخلَعْ نَعْلَيكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طَوًى}.

واحتمل وصفها بالبركة وجهين: أحدهما: لأن الله كلم فيها موسى وخصه فيها بالرسالة. الثاني: أنها كانت من بقاع الخصب وبلاد الريف. ثم قال تعالى: {مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فأحل الله كلامه في الشجرة حتى سمعه موسى منها , لأنه لا يستطيع أن يسمعه من الله وهذه أعلى منازل الأنبياء أن يسمعوا كلام الله من غير رسول مبلغ وكان الكلام مقصوراً على تعريفه بأنه الله رب العالمين إثباتاً لوحدانيته ونفياً لربوبية غيره , وصار بهذا الكلام من أصفياء الله من رسله لأنه لا يصير رسولاً إلا بعد أمره بالرسالة , والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام. فإن قيل: فكيف أضاف البركة إلى البقعة دون الشجرة والشجرة بالبركة أخص لأن الكلام عنها صدر ومنها سُمِعَ؟ قيل: عنه جوابان: أحدهما: أن الشجرة لما كانت في البقعة أضاف البركة إلى البقعة لدخول الشجرة فيها ولم يخص به الشجرة فتخرج البقعةوصار إضافتها إلى البقعة أعم. الثاني: أن البركة نفذت من الشجرة إلى البقعة فصارت البقعة بها مباركة فلذلك خصّها الله بذكر البركة , قاله ابن عباس , والشجرة هي العليق وهي العوسج. قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ... } الآية وإنما أمره بإلقاء عصاه في هذا الحال ليكون برهاناً عنده بأن الكلام الذي سمعه كلام الله ثم ليكون برهاناً له إلى من يرسل إليه من فرعون وملئه. فإن قيل: فإذا كانت برهاناً إليه وبرهاناً له فلم ولَّى منها هارباً؟ قيل لأمرين: أحدهما: رأى ما خالف العادة فخاف. الثاني: أنه يجوز أن يظن الأمر بإلقائها لأجل أذاها فولَّى هارباً حتى نودي فعلم. { ... ولَمْ يُعَقِّبْ} فيه وجهان: أحدهما: ولم يثبت , اشتقاقاً من العقب الذي يثبت القدم.

الثاني: ولم يتأخر لسرعة مبادرته. ويحتمل ثالثاً: أي لم يلتفت إلى عقبه لشدة خوفه وسرعة هربه. {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مَنَ الآمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: الآمنين من الخوف. الثاني: من المرسلين لقوله تعالى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} قال ابن بحر: فصار على هذا التأويل رسولاً بهذا القول. وعلى التأويل الأول يصير رسولاً بقوله: {فَذَانِكَ بُرْهَاناَنِ مِنَ رَبِّكَ إلَى فِرْعَونَ وَمَلإِئْهِ} والبرهانان اليد والعصا. وفي قوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} وجهان: أحدهما: أن الجناح الجيب جيب القميص وكان عليه مدرعة صوف. الثاني: أن الجيب جنب البدن. {مِنَ الرَّهْبِ} فيه وجهان: أحدهما: أن الرهب الكُمّ , قاله مورق. الثاني: أنه من الخوف.

33

{قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون} قوله تعالى: {رِدْءاً} فيه وجهان: أحدهما: عوناً , قاله مجاهد.

الثاني: زيادة , والردء الزيادة وهو قول مسلم بن جندب وأنشد قول الشاعر: (وأسمر خطيّاً كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذِراعاً على العشر)

38

{وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قال ابن عباس: كان بينها وبين قوله {أنا ربكم الأعلى} أربعون سنة. {فأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانَ عَلَى الطِّينِ} قال قتادة: هو أول من طبخ الآجر. {فَاجْعَلَ لِّي صَرْحاً} الصرح القصر العالي. قال قتادة: هو أول من صنع له الصرح. {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} الآية. فحكى السدي أن فرعون صعد الصرح ورمى نشابه نحو السماء فرجعت إليه متلطخة دماً: قد قتلت إِله موسى. قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} قال قتادة: بحر يقال له أساف من وراء مصر غرقهم الله فيه. قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} يعني فرعون وقومه , وفيه وجهان: أحدهما: زعماء يُتْبَعُونَ على الكفر. الثاني: أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر.

{يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} فيه وجهان: أحدهما: يدعون إلى عمل أهل النار. الثاني: يدعون إلى ما يوجب النار. قوله: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} فيه وجهان: أحدهما: يعني خزياً وغضباً. الثاني: طرداً منها بالهلاك فيها. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: من المقبحين بسواد الوجوه وزرقة الأعين , قاله الكلبي. الثاني: من المشوهين بالعذاب , قاله مقاتل. الثالث: من المهلكين , قاله الأخفش وقطرب. الرابع: من المغلوبين , قاله ابن بحر.

43

{ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى

بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فيه قولان: أحدهما: أنها ست من المثاني التي التي أنزلها الله على رسوله محمد صلىالله عليه وسلم، قاله ابن عباس ورواه مرفوعاً. الثاني: أنها التوراة، قاله قتادة. قال يحيى بن سلام: هو أول كتاب نزل فيه الفرائض والحدود والأحكام. {مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} قال أبو سعيد الخدري: ما أهلك الله أمة من الأمم ولا قرناً من القرون ولا قرية من القرى بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخهم الله قردة , ألم تر إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابِ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى}. ومعنى قوله: {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ} أي بينات. {وَهُدًى} أي دلالة {وَرَحْمَةً} أي نعمة. {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي ليذكروا هذه النعمة فيقيموا على إيمانهم في الدنيا ويثقوا بثوابهم في الآخرة.

44

{وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين} قوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِب الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , وما كنت يا محمد {بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} وفيه وجهان: أحدهما: نودي يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني , قاله أبو هريرة. الثاني: أنهم نودوا في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بُعِثْتَ , قاله مقاتل. {وَلَكِن رَّحْمَةَ مِّن رَّبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: أن ما نودي به موسى من جانب الطور من ذكرك نعمة من ربك. الثاني: أن إرسالك نبياً إلى قومك نعمة من ربك. {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} يعني العرب.

48

{فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون

قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون} قوله تعالى: { ... قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} قرأ الكوفيون سحران , فمن قرأ ساحران ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: موسى ومحمد عليهما السلام , وهذا قول مشركي العرب , وبه قال ابن عباس والحسن. الثاني: موسى وهارون عليهما السلام وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة , قاله ابن جبير ومجاهد وأبو زيد. الثالث: عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم , وهذا قول اليهود اليوم , وبه قال قتادة. ومن قرأ سحران ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التوارة والقرآن , قاله عاصم الجحدري والسدي. الثاني: التوراة والإنجيل، قاله إسماعيل وأبو مجلز. الثالث: الإنجيل والقرآن، قاله قتادة. {قَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} يعني بما ذكره على اختلاف الأقاويل وفي قائل ذلك قولان: إحداهما: اليهود. الثاني: قريش. قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه بيَّنا لهم القول، قاله السدي. الثالث: أتبعنا بعضه بعضاً، قاله علي بن عيسى. وفي {الْقَوْلَ} وجهان: أحدهما: أن الخبر عن الدنيا والآخرة، قاله ابن زيد.

الثاني: إخبارهم بمن أهلكنا من قوم نوح بكذا وقوم صالح بكذا وقوم هود بكذا. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يتذكرون محمداً فيؤمنوا به , قاله ابن عباس. الثاني: يتذكرون فيخافون أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم , قاله ابن عيسى. الثالث: لعلهم يتعظون بالقرآن عن عبادة الأوثان , حكاه النقاش.

52

{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} قوله تعالى: {الَّذِينَءَآتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني الذين آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل القرآن هم بالقرآن يؤمنون , قاله يحيى بن سلام. الثاني: الذي آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل محمد هم بمحمد يؤمنون , قاله ابن شجرة. وفيمن نزلت قولان: أحدهما: نزلت في عبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي أسلموا فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها , قاله قتادة. الثاني: أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه , اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه وثمانية قدموا من الشام. منهم بحيراً وأبرهة والأشراف وعامر وأيمن وإدريس ونافع فأنزل الله فيهم هذه الآية , والتي بعدها إلى قوله {أُوْلَئِكَ يُؤْتُوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} قال قتادة: [بإيمانهم] بالكتاب الأول وإيمانهم بالكتاب الآخر.

وفي قوله بما صبروا ثلاثة أوجه: أحدها: بما صبروا على الإيمان , قاله ابن شجرة. الثاني: على الأذى , قاله مجاهد. الثالث: على طاعة الله وصبروا عن معصية الله , قاله قتادة. { ... وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: يدفعون بالعمل الصالح ما تقدم من ذنب , قاله ابن شجرة. الثاني: يدفعون بالحلم جهل الجاهل , وهذا معنى قول يحيى بن سلام. الثالث: يدفعون بالسلام قبح اللقاء , وهذا معنى قول النقاش. الرابع: يدفعون بالمعروف المنكر , قاله ابن جبير. الخامس: يدفعون بالخير الشر , قاله ابن زيد. ويحتمل سادساً: يدفعون بالتوبة ما تقدم من المعصية. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُفِقُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يؤتون الزكاة احتساباً , قاله ابن عباس. الثاني: نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول الزكاة , قاله السدي. الثالث: يتصدقون من أكسابهم , قاله قتادة. قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يتلقونهم بالشتم والسب فيعرضون عنهم , قاله مجاهد. الثاني: أنهم قوم من اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غَيّره اليهود من التوراة وبدلوه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته أعرضوا عنه وكرهوا تبديله , قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. الثالث: أنهم المؤمنون إذا سمعوا الشرك أعرضوا عنه , قاله الضحاك ومكحول. الرابع: أنهم أناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهوداً ولا نصارى وكانوا على دين أنبياء الله وكانوا ينتظرون بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا بظهوره بمكة قصدوه , فعرض عليهم القرآن وأسلمواْ.

وكان أبو جهل ومن معه من كفار قريش يلقونهم فيقولون لهم: أفٍّ لكم من قوم منظور إليكم تبعتم غلاماً قد كرهه قومه وهم أعلم به منكم فإذا ذلك لهم أعرضوا عنهم , قاله الكلبي. {قَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لنا ديننا ولكم دينكم , حكاه النقاش. الثاني: لنا حلمنا ولكم سفهكم. {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} رَدّوا خيراً واستكفوا شراً , وفيه تأويلان: أحدهما: لا نجازي الجاهلين , قاله قتادة. الثاني: لا نتبع الجاهلين , قاله مقاتل.

56

{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون} قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} فيه وجهان: أحدهما: من أحببت هدايته. الثاني: من أحببته لقرابته , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن: نزلت في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم. وروى أبو هريرة أن النبي قال لعمه أبي طالب (قُل لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِندَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ) فقال: لولا أن تعيرني بها قريش لأقررت عينيك بها. وروى مجاهد أنه قال: يا ابن أخي ملة الأشياخ , فنزلت الآية تعني أبا طالب. {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} قاله قتادة: يعني العباس.

{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قال مجاهد: يعني بمن قدر له الهدى والضلالة. قوله تعالى: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} قيل إن هذه الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم أن قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا يعني بمكة فإنما نحن أكلة رأس العرب ولا طاقة لنا بهم , فأجاب الله عما اعتل به فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماًءَامِناً} فيه وجهان: أحدهما: أنه جعله آمناً بما طبع النفوس عليه من السكون إليه حتى لا ينفر منه الغزال والذئب والحمام والحدأة. الثاني: أنه جعله آمناً بالأمر الوارد من جهته بأمان من دخله ولاذ به , قاله يحيى بن سلام. يقول كنتم آمنين في حرمي تأكلون وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي. {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي تجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد. وحكى مجاهد أن كتاباً وجد عند المقام فيه: إني أنا الله ذو بكة , وضعتها يوم خلقت الشمس والقمر , وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض , وحففتها بسبعة أملاك حنفاء , يأتيها رزقها من ثلاثة سبل , مبارك لأهلها في الماء واللحم , أول من يحلها أهلها. {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} أي عطاء من عندنا. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: لا يعقلون , قاله الضحاك. الثاني: لا يتدبرون , قاله ابن شجرة.

58

{وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}

قوله: {بَطِرَتْ مَعَيشَتَهَا} والبطر الطغيان بالنعمة. وفيه وجهان: أحدها: يعني بطرت في معيشتها , قاله الزجاج. الثاني: أبطرتها معيشتها , قاله الفراء. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلَكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في أوائلها، قاله الحسن. الثاني: في معظم القرى من سائر الدنيا , حكاه ابن عيسى. الثالث: أن أم القرى مكة، قاله قتادة.

60

{وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} قوله: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ} فيه قولان: أحدهما: هو حمزة بن عبد المطلب والوعد الحسن الجنة و {لاَقِيهِ} دخولها , قاله السدي. الثاني: هو النبي صلى الله عليه وسلم والوعد الحسن النصر في الدنيا والجنة في الآخرة , قاله الضحاك. {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال السدي والضحاك: هو أبو جهل. {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من المحضرين للجزاء , قاله ابن عباس. الثاني: من المحضرين في النار , قاله يحيى بن سلام. الثالث: من المحضرين: المحمولين , قاله الكلبي.

62

{ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا

العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين} قوله: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَآءُ يَوْمَئِذٍ} فيه وجهان: أحدهما: الحجج , قاله مجاهد. الثاني: الأخبار , قاله السدي. {فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: لا يسألون بالأنساب , قاله مجاهد. الثاني: لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحتمل من ذنوبه , حكاه ابن عيسى. الثالث: لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله , حكاه ابن شجرة. الرابع: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحجة , وهذا قول الضحاك.

68

{وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن قوماً كانوا يجعلون خير أموالهم لأهليهم في الجاهلية فقال {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من خلقه {وَيَخْتَارُ} من يشاء لطاعته , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} من الخلق {وَيَخْتَارُ} من يشاء لنبوته , قاله يحيى بن سلام. الثالث: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} النبي محمداً صلى الله عليه وسلم {َوَيَخْتَارُ} الأنصار لدينه حكاه النقاش.

{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} وفيه وجهان: أحدهما: معناه ويختار للمؤمنين ما كان لهم فيه الخيرة فيكون ذلك إثباتاً. الثاني: معناه ما كان للخلق على الله الخيرة , فيكون ذلك نفياً. ومن قال بهذا فلهم في المقصود به وجهان: أحدهما: أنه عنى بذلك قوماً من المشركين جعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فنزل ذلك فيهم , قاله ابن شجرة. الثاني: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال ما حكاه الله عنه في سورة الزخرف {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ} الآية [الزخرف: 31] يعني نفسه وعروة بن مسعود الثقفي فقال الله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أن يتخيروا على الله الأنبياء.

71

{قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون} قوله: {وَنَزَعْنَا مِن كُلَّ أُمَّةٍ شَهِيداً} فيه وجهان: أحدهما: أخرجنا من كل أمة رسولاً مبعوثاً إليها. الثاني: أحضرنا من كل أمة رسولاً يشهد عليها أن قد بلغ رسالة ربه إليها، قاله قتادة. {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} فيه وجهان:

أحدهما: حجتكم، قاله أبو العالية. الثاني: بينتكم , قاله قتادة. {فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن العدل لله , قاله ابن جبير. الثاني: التوحيد لله , قاله السدي. الثالث: الحجة لله. {وَضَلَّ عَنْهُم} يعني في القيامة. {مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} في الدنيا من الكذب.

76

{إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} قال ابن عباس: كان ابن عمه , قاله قتادة: ابن عم موسى أخي أبيه وكان قطع البحر مع بني إسرائيل وكان يسمى: المنور , من حسن صوته بالتوراة , ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري. {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} فيه ستة أقاويل: أحدها: بغيه عليهم أنه كفر بالله , قاله الضحاك. الثاني: أنه زاد في طول ثيابه شبراً , قاله شهر بن حوشب. الثالث: أنه علا عليهم بكثرة ماله وولده , قاله قتادة. الرابع: أنه صنع بغياً , حين أمر الله موسى برجم الزاني فعمد قارون إلى امرأة بغي فأعطاها مالاً وحملها على أن ادعت عليه أنه زنى بها وقال: فأنت قد زنيت. وحضرت البغي فادّعت ذلك عليه فعظم على موسى ما قالت وأحلفها بالله الذي فلق

البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلاّ صدقت فقالت: أشهد أنك بريء وأن قارون أعطاني مالاً وحملني على أن قلت وأنت الصادق وقارون الكاذب فكان هذا بغيه , قاله ابن عباس , قال السدي: وكان اسم البغي شجرتا وبذلك لها قارون ألفي درهم. الخامس: أنه كان غلاماً لفرعون فتعدى على بني إسرائيل وظلمهم , قاله يحيى بن سلام. السادس: أنه نسب ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته , قاله ابن بحر. {وَءَآتَيْنَهُ مِنَ الْكُنُوزِ} فيه قولان: أحدهما: أنه أصاب كنزاً من كنوز يوسف عليه السلام , قاله عطاء. الثاني: أنه كان يعمل الكيمياء، قاله الوليد.

{مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: خزائنه , قاله السدي وأبو رزين. الثاني: أوعيته , قاله الضحاك. الثالث: مفاتيح خزائنه وكانت من جلود يحملها أربعون بغلاً. الرابع: أن مفاتيح الكنوز إحاطة علمه بها , حكاه ابن بحر لقول الله {وَعِندَهُ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59]. {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لتثقل العصبة , قاله ابن عباس وأبو صالح والسدي. الثاني: لتميل بالعصبة , قاله الربيع بن أنس مأخوذ من النأي وهو البعد قال الشاعر: (ينأوْن عنا وما تنأى مودتهم ... والقلب فيهم رهين حيثما كانوا) الثالث: لتنوء به العصبة كما قال الشاعر: (إنّا وجدنا خلفَاً بئس الخلف ... عبداً إذا ما ناء بالحمل خضف) والعصبة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض واختلف في عددهم على سبعة أقاويل: أحدها: سبعون رجلاً , قاله أبو صالح. الثاني: أربعون رجلاً , قاله الحكم وقتادة والضحاك. الثالث: ما بين العشرة إلى الأربعين , قاله السدي. الرابع: ما بين العشرة إلى الخمسة عشر , قاله مجاهد. الخامس: ستة أو سبعة. قاله ابن جبير. السادس: ما بين الثلاثة والتسعة وهم النفر , قاله عبد الرحمن بن زيد. السابع: عشرة لقول إخوة يوسف {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] قاله الكلبي ومقاتل. وزعم أبو عبيدة أن هذا من المقلوب تأويله: إن العصبة لتنوء بالمفاتح. {أوْلِي الْقُوَّةِ} قال السدي أولي الشدة.

{إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنه قول المؤمنين منهم , قاله السدي. الثاني: قول موسى , قاله يحيى بن سلام. {لاَ تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تبغ إن الله لا يحب الباغين , قاله مجاهد. الثاني: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين , قاله ابن بحر. الثالث: لا تبطر إن الله لا يحب البطرين , قاله السدي , وقال الشاعر: (ولست بمفراحٍ إذا الدهر سَرَّني ... ولا جازعٍ من صرفه المتغلب) قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} فيه وجهان: أحدهما: طلب الحلال في كسبه , قاله الحسن. الثاني: أنه الصدقة وصلة الرحم , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: وهو أعم أن يتقرب بنعم الله إليه , والمراد بالدار الآخرة الجنة. {وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} فيه ثلاثة تأويلات. أحدها: لا تنس حظك من الدنيا أن تعمل فيها لآخرتك , قاله ابن عباس. الثاني: لا تنس استغناك بما أحل الله لك عما حرمه عليك , قاله قتادة. الثالث: لا تنس ما أنعم الله عليك أن تشكره عليه بالطاعة وهذا معنى قول ابن زيد. الثاني: وأحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن في إنعامه عليك , وهذا معنى قول يحيى بن سلام. الثالث: أحسن في طلب الحلال كما أحسن إليك في الإحلال. {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} يحتمل وجهين:

أحدهما: لا عمل فيها بالمعاصي. الثاني: لا تقطع. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} فيه وجهان: أحدهما: لا يحب أعمال المفسدين , قاله ابن عباس. الثاني: لا يقرب المفسدين , قاله ابن قتيبة.

78

{قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمِ عِنْدِي ... } فيه خمسة أوجه: أحدها: أي بقوتي وعلمي , قاله يحيى بن سلام. الثاني: علىخير وعلم عندي , قاله قتادة. الثالث: لرضا الله عني ومعرفته باستحقاقي , قاله ابن زيد. الرابع: على علم بوجه المكاسب , قاله ابن عيسى. الخامس: العلم بصنعة الكيمياء. حكى النقاش أن موسى عليه السلام علّم قارون الثلث من صنعة الكيمياء , وعلم يوشع بن نون الثلث , وعلم ابني هارون الثلث فخدعهما قارون وكان على إيمانه حتى علم ما عندهما وعمل الكيمياء فكثرت أمواله. وفي قوله تعالى: { ... وَلاَ يُسأُلَ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} أربعة تأويلات: أحدها: يعذبون ولا يحاسبون , قاله قتادة. الثاني: لا يسألون عن إحصائها ويعطون صحائفها فيعرفون ويعترفون بها , قاله الربيع.

الثالث: لأن الملائكة تعرفهم بسيماهم فلا تسأل عنهم , قاله مجاهد. الرابع: أنهم لا يُسألون سؤال استعتاب: لمَ لَمْ يؤمنوا , قاله ابن بحر كما قال {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم: 57].

79

{فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون} قوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: في حشمه , قاله قتادة. الثاني: في تَبَعه في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات وكان أول يوم رؤيت فيه المعصفرات قاله ابن زيد , قال أبو لبابة: أول من صبغ بالسواد قارون. الثالث: خرج في جوارٍ بيض على بغال بيض بسروج من ذهب على قطف أرجوان , قاله السدي. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونَ} تمنوا ماله رغبة في الدنيا. {إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فيه وجهان: أحدهما: لذو درجة عظيمة , قاله الضحاك. الثاني: لذو جد عظيم , قاله السدي.

81

{فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون}

قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} قال ابن عباس: لما شكا موسى إلى الله أمْر قارون أمر الله الأرض أن تطيع موسى، ولما أقبل قارون وشيعته قال موسى: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم , ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى أوساطهم ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم، ثم قال: خذيهم فخسف الله بهم وبدار قارون وكنوزه. روى يزيد الرقاشي أن قارون لما أخذته الأرض إلى عنقه أخذ موسى نعليه فخفق بهما وجهه فقال قارون: يا موسى ارحمني , قال الله تعالى {يَا مُوسَى مَا أَشَدَّ قَلْبَكَ , دَعَاكَ عَبْدِي وَاسْتَرْحَمَكَ فَلَمْ تَرْحَمْهُ: وَعِزَّتِي لَو دَعَانِي عَبْدِي لأَجَبْتُهُ} روى سمرة بن جندب أنه يخسف بقارون وقومه في كل يوم بقدر قامة فلا يبلغ إلى الأرض السفلى إلى يوم القيامة. قال مقاتل لما أمر موسى الأرض فابتلعته قال بنو إسرائيل: إنما أهلكه ليرث ماله لأنه كان ابن عمه أخي أبيه فخسف الله بداره وبجميع أمواله بعد ثلاثة أيام. قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنُّواْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} فيه ثمانية أوجه: أحدها: معناه أو لا يعلم أن الله؟ رواه معمر عن قتادة. الثاني: أو لا يرى؟ رواه سعيد عن قتادة. الثالث: {وَلكِنَّ اللَّهَ} بلغة حمير , قاله الضحاك. الرابع: {وَإِنَّ اللَّهَ} والياء , والكاف صلتان زائدتان , حكاه النقاش. الخامس: {وَكَأَنَّ اللَّهَ} والياء وحدها صلة زائدة. وقال ابن عيسى بهذا التأويل غير أنه جعل الياء للتنبيه. السادس: معناه ويك أن الله ففصل بين الكاف والألف وجعل ويك بمعنى ويح فأبدل الحاء كافاً ومنه قول عنترة: (ولقد شفى نفسي وأبْرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدامِ) السابع: ويلك إن الله فحذف اللام إيجازاً , حكاه ابن شجرة. الثامن: وي منفصلة على طريق التعجب ثم استأنف فقال كأن الله، قاله الخليل.

{يَبْسُطُ الرِّزْقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معنى يقدر أن يختار له , قاله ابن عباس. الثاني: ينظر له فإن كان الغنى خيراً له أغناه وإن كان الفقر خيراً له أفقره , قاله الحسن. الثالث: يضيق , وهذا معنى قول ابن زيد.

83

{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ} أي الجنة نجعلها. {عُلُوّاً} فيها ستة أوجه: أحدها: يعني بغياً , قاله ابن جبير. الثاني: تكبراً , قاله مسلم. الثالث: شرفاً وعزاً , قاله الحسن. الرابع: ظلماً , قاله الضحاك. الخامس: شركاً، قاله يحيى بن سلام.

السادس: لا يجزعون من ذلها ولا يتنافسون على عزها , قاله أبو معاوية. ويحتمل سابعاً أن يكون سلطاناً فيها على الناس. {وَلاَ فَسَاداً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الأخذ بغير حق , قاله مسلم. الثاني: أنه العمل بالمعاصي , قاله عكرمة. الثالث: أنه قتل الأنبياء والمؤمنين , قاله يحيى بن سلام. ويحتمل رابعاً: أنه سوء السيرة. {وَاْلعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فيه وجهان: أحدهما: والثواب للمتقين , قاله يحيى بن سلام. الثاني: معناه والجنة للمتقين , قاله ابن شجرة.

85

{إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} قوله تعالى: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنزل عليك القرآن , قاله يحيى ابن سلام والفراء. الثاني: أعطاكه , قاله مجاهد. الثالث: أوجب عليك العمل به , حكاه النقاش. الرابع: حمّلك تأديته وكلفك إبلاغه , حكاه ابن شجرة. الخامس: بينه على لسانك , قال ابن بحر. ويحتمل سادساً: أي قدر عليك إنزاله في أوقاته لأن الفرض التقدير. {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: إلى مكة , قاله مجاهد والضحاك وابن جبير , والسدي. الثاني: إلى بيت المقدس , قاله نعيم القاري. الثالث: إلى الموت , قاله ابن عباس وعكرمة. الرابع: إلى يوم القيامة، قاله الحسن. الخامس: إلى الجنة , قاله أبو سعيد الخدري. وقيل: إن هذه الآية نزلت في الجحفة حين عسف به الطريق إليها فليست مكية ولا مدنية. قوله تعالى: { ... كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهُهُ} فيه ستة تأويلات:

أحدها: معناه إلا هو , قاله الضحاك. الثاني: إلا ما أريد به وجهه , قاله سفيان الثوري. الثالث: إلا ملكه , حكاه محمد بن إسماعيل البخاري. الرابع: إلا العلماء فإن علمهم باق , قاله مجاهد. الخامس: إلا جاهه كما يقال لفلان وجه في الناس أي جاه , قاله أبو عبيدة. السادس: الوجه العمل ومنه قولهم: من صلى بالليل حسن وجه بالنهار أي عمله. وقال الشاعر: (أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل) {لَهُ الْحُكْمُ} فيه وجهان: أحدهما: القضاء في خلقه بما يشاء من أمره , قاله الضحاك وابن شجرة. الثاني: أن ليس لعباده أن يحكموا إلا بأمره , قاله ابن عيسى. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء , والله أعلم.

سورة العنكبوت مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة. وفي القول الثاني لهما وهو قول يحيى بن سلام مكية كلها إلا عشر آيات من أولها مدنية إلى قوله {وليعلمن المنافقين} وقال علي رضي الله عنه نزلت بين مكة والمدينة. بسم الله الرحمن الرحيم

العنكبوت

{الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} قوله تعالى: {الم. أَحِسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوآ ... } هذا لفظ استفهام أريد به التقرير والتوبيخ وفيه خمسة أقاويل: أحدها: معناه أظن الذين قالوا لا إله إلا الله أن يتركوا فلا يختبروا أصدقوا أم كذبوا. قاله الحسن. الثاني: أظن المؤمنون ألا يؤمروا ولا ينهوا , قاله ابن بحر. الثالث: أظن المؤمنون ألا يؤذوا ويقتلوا. قاله الربيع بن أنس. وقال قتادة: نزلت في أناس من أهل مكة خرجوا للهجرة فعرض لهم المشركون فرجعوا فنزلت

فيهم فلما سمعها خرجوا فقتل منهم من قتل وخلص من خلص فنزل فيهم {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} الآية. الرابع: أنها نزلت في عمار بن ياسر ومن كان يعذب في الله بمكة , قاله عبيد بن عمير. قال الضحاك: نزلت في عباس بن أبي ربيعة أسلم وكان أخا أبي جهل لأمه أخذه وعذبه على إسلامه حتى تلفظ بكلمة الشرك مكرهاً. الخامس: نزلت في قوم أسلموا قبل فرض الجهاد والزكاة فلما فرضا شق عليهم فنزل ذلك فيهم , حكاه ابن أبي حاتم. وفي قوله: { ... وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} وجهان: أحدهما: لا يسألون , قاله مجاهد. الثاني: لا يختبرون في أموالهم وأنفسهم بالصبر على أوامر الله وعن نواهيه. قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: بما افترضه عليهم. الثاني: بما ابتلاهم به. {فََيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ} فيه وجهان: أحدهما: فليظهرن الله لرسوله صدق الصادق , قاله ابن شجرة. الثاني: فليميزن الله الذين صدقوا من الكاذبين , قاله النقاش وذكر أن هذه الآية نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أول قتيل من المسلمين يوم بدر قتله عامر ابن الحضرمي , ويقال إنه أول من يدعى إلى الجنة من شهداء المسلمين وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر (سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مهجع). قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} قال قتادة: الشرك وزعم أنهم اليهود. {أَن يَسْبِقُونَا} فيه وجهان: أحدهما: أن يسبقوا ما كتبنا عليهم في محتوم القضاء. الثاني: أن يعجزونا حتى لا نقدر عليهم , وهو معنى قول مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن يفوتونا حتى لا ندركهم.

{سَآءَ مَا يَحْكُُمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: ساء ما يظنون، قاله ابن شجرة. الثاني: ساء ما يقضون لأنفسهم على أعدائهم , قاله النقاش.

5

{من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} قوله: {مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: من كان يخشى لقاء الله , قاله ابن جبير والسدي. الثاني: من كان يؤمل. وفي {لِقَآءَ اللَّهِ} وجهان: أحدهما: ثواب الله , قاله ابن جبير. الثاني: البعث إليه , قاله يحيى بن سلام. {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} يعني الجزاء في القيامة فاستعدوا له. {وَهُوَ السَّمِيعُ} لمقالتكم. {الْعَلِيمُ} بمعتقدكم.

8

{ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} فيه وجهان: أحدهما: معناه ألزمناه أن يفعل بهما برّاً , قاله السدي. الثاني: أن ما وصيناه به من برهما حسناً. {وَإِن جَاهَدَاكَ} أي ألزماك. {لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وفيه وجهان:

أحدهما: ما ليس لك به حجة لأن الحجة طريق العلم. الثاني: أن تجعل لي شريكاً لأنه ليس لأحد بذلك من علم. {فَلاَ تُطِعْهُمَا} فأمر بطاعة الوالدين في الواجبات حتماً وفي المباحات ندباً ونهى عن طاعتهما في المحظورات جزماً , وقد جاء في الأثر. لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} يعني في القيامة. {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني في الدنيا من خير يستحق به الثواب وشر يستوجب به عقاب. واختلفواْ في سبب نزولها وإن عم حكمها على قولين: أحدهما: نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد حلفت أمّه عليه وأقسمت ألا تأكل طعاماً حتى يرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم. قاله مصعب وسعد وقتادة. الثاني: أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة.

10

{ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون}

قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاَ مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم أعوان الظلمة. الثاني: أنهم أصحاب البدع إذا أُتبِعوا عليها. الثالث: أنهم محدِثو السنن الجائرة إذا عمل بها من بعدهم.

14

{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة

إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} روى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَوَّلُ نَبِيٍ أُرْسِلَ نُوْحٌ) قال قتادة: وبعث من الجزيرة. {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن هذا مبلغ عمره كله. قال قتادة: لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ودعاهم ثلاثمائة سنة ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين سنة. فإن قيل فلم قال {أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} ولم يقل تسعمائة وخمسين عاماً فعنه جوابان: أحدهما: أن المقصود به تكثير العدد فكان ذكر الألف أفخم في اللفظ وأكثر في العدد. الثاني: ما روي أنه أعطي من العمر ألف سنة فوهب من عمره خمسين سنة لبعض ولده فلما حضرته الوفاة راجع في استكمال الألف فذكر الله ذلك تنبيهاً على أن النقيصة كانت من جهته , فهذا قول. والقول الثاني: أنه بعث لأربعين سنة من عمره ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين عاماً فكان مبلغ عمره ألف سنة وخمسين سنة , قاله ابن عباس. الثالث: أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد ذلك سبعين سنة فكان مبلغ عمره ألف سنة وعشرين سنة , قاله كعب الأحبار. والقول الرابع: أنه بعث وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة ولبث في قومه داعياً ألف سنة إلا خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين عاماً فكان مبلغ عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة. قاله عون بن أبي شداد. {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الطوفان المطر , قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة والسدي. الثاني: أن الطوفان الغرق , قاله الضحاك. الثالث: أنه الموت , روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قول الشاعر: 89 (أفناهم طوفان موت جارفٍ} 9 وقيل إن الطوفان كلُّ عامّ من الأذى. وحكى إسماعيل بن عبد الله أن الطوفان كان في نيسان.

16

{وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين أو لم يروا كيف

يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم} قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} فيه خمسة أوجه: أحدها: يعذب من يشاء بالانقطاع إلى الدنيا , ويرحم من يشاء بالإعراض عنها. الثاني: يعذب من يشاء بالحرص , ويرحم من يشاء بالقناعة. الثالث: يعذب من يشاء بسوء الخلق , ويرحم من يشاء بحسن الخلق. الرابع: يعذب من يشاء ببغض الناس له , ويرحم من يشاء بحبهم له. الخامس: يعذب من يشاء بمتابعة البدعة , ويرحم من يشاء بملازمة السنة.

24

{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}

قوله تعالى: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} قال ابن إسحاق: آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخيه وآمنت به سارة وكانت بنت عمه. {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} يعني مهاجر عن الظالمين. وفيما هاجر إليه قولان: أحدهما: أنه هاجر إلى حرّان , قاله كعب الأحبار. الثاني: أنه هاجر من كوثي وهو من سواد الكوفة إلى أرض الشام , قاله قتادة. قوله تعالى: {وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} فيه ستة أقاويل: أحدها: الذكر الحسن , قاله ابن عباس. الثاني: رضا أهل الأديان , قاله قتادة. الثالث: النية الصالحة التي اكتسب بها الأجر في الآخرة , قاله الحسن. الرابع: لسان صدق , قاله عكرمة. الخامس: ما أوتي في الدنيا من الأجر , رواه ابن برزة. السادس: الولد الصالح , حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي حتى أن أكثر الأنبياء من ولده. ويحتمل سابعاً: أنه بقاء الصلاة عند قبره وليس ذلك لغيره من الأنبياء.

28

{ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين قال رب انصرني على القوم المفسدين} قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} أي تنكحون الرجال. {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه قطع الطريق على المسافر , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم بإتيان الفاحشة من الرجال قطعوا الناس عن الأسفار حذراً من فعلهم الخبيث , حكاه ابن شجرة. الثالث: أنه قطع النسل للعدول عن النساء إلى الرجال , قال وهب: استغنواْ عن النساء بالرجال. {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيِكُمُ الْمُنكَرَ} أي في مجالسكم المنكر فيه أربعة أوجه: أحدها: هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم , قالته عائشة رضي الله عنها. الثاني: أنهم كانوا يخذفون من يمر بهم ويسخرون منه روته أم هانىء عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثالث: أنهم كانوا يجامعون الرجال في مجالسهم , رواه منصور عن مجاهد. الرابع: هو الصفير ولعب الحمام والجلاهق والسحاق وحل أزرار القيان في المجلس , رواه الحاكم عن مجاهد.

31

{ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون

ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} يعني آلهة من الأصنام والأوثان عبدوها. {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} يعني أنهم عبدوا ما لا يغني عنهم شيئاً كبيت العنكبوت الذي لا يدفع شيئاً وهو من أبلغ الأمثال فيهم. {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ} لأنه يستر الإبصار ولا يدفع الأيدي , وقد حكي عن يزيد بن ميسرة أن العنكبوت شيطان مسخها الله.

وقال عطاء: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود , ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم. وجمع العنكبوت عناكب وتصغيره عنيكب.

44

{خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} قوله تعالى: {اتْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يعني القرآن وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو ما أنزل منه على أمته. {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه القرآن , قاله ابن عمر. الثاني: أنه الصلاة المفروضة. قاله ابن عباس. الثالث: أن الصلاة هنا هي الدعاء ومعناه قم بالدعاء إلى أمر الله , قاله ابن بحر. {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ} الفحشاء الزنى والمنكر الشرك , قاله ابن عباس. ثم فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها , قاله الكلبي وابن زيد وحماد بن أبي سليمان. الثاني: تنهى عن الفحشاء والمنكر قبلها وبعدها روى طاووس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن لَّمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلاَّ بُعْداً)

الثالث: إن ما تدعوهم إليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قاله ابن زيد. {وَلَذِكرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} فيه سبعة تأويلات:: أحدها: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه , قاله ابن عباس. الثاني: ولذكر الله أفضل من كل شيء , قاله سلمان. الثالث: ولذكر الله في الصلاة التي أنت فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر , قاله عبد الله بن عون. الرابع: ولذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة , قاله أبو مالك. الخامس: ولذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم. السادس: أكبر من قيامكم بطاعته. السابع: أكبر من أن يبقي على صاحبه عقاب الفحشاء والمنكر.

46

{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلأَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: أن {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قول لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثاني: الكف عنهم عند بذل الجزية منهم وقتالهم إن أبوا , قاله مجاهد. الثالث: أنهم إن قالوا شراً فقولوا لهم خيراً , رواه ابن أبي نجيح. ويحتمل تأويلاً رابعاً: وهو أن يحتج لشريعة الإٍسلام ولا يذم ما تقدمها من الشرائع. {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمُ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم أهل الحرب , قاله مجاهد. الثاني: من منع الجزية منهم , رواه خصيف. الثالث: ظلموا بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم , قاله ابن زيد. الرابع: ظلموا في جدالهم فأغلظوا لهم , قاله ابن عيسى. واختلف في نسخ ذلك على قولين: أحدهما: أنها منسوخة؛ قاله قتادة. الثاني: أنها ثابتة. {وَقُولُواْءَآمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلِيْكُمْ} الآية , فروى سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأُون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية لأهل الإٍسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تُصَدِّقُواْ أَهْلَ الكِتابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُم {وَقُولُواْءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} إلى قوله {مُسْلِمُونَ}) أي مخلصون وفيه قولان: أحدهما: أنه يقوله لأهل الكتاب، قاله مجاهد. الثاني: يقوله لمن آمن، قاله السدي.

47

{وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} فيه قولان: أحدهما: معناه {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن} قبل القرآن كتاباً من كتب الله المنزلة ولا تخطه أي تكتبه بيمينك فتعلم ما أنزل الله فيه حتى يشكوا في إخبارك عنه إنه من وحي الله سبحانه إليك وهو معنى قول يحيى بن سلام. الثاني: أنه كان أهل الكتاب يجدونه في كتبهم أن محمداً لا يخط بيمينه ولا يقرأ كتاباً فنزل ذلك فيهم ليدلهم على صحة نبوته , وهو معنى قول مجاهد. {إِذَاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم مشركو قريش , قاله مجاهد. الثاني: مشركو العرب أن يقولوا لو كان يقرأ قد تعلمه من غيره , قاله قتادة. الثالث: أنهم المكذبون من اليهود , قاله السدي. قوله تعالى: {بَلْ هُوَءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} فيه قولان: أحدهما: أنه النبي صلى الله عليه وسلم في كونه أمياً لا يكتب ولا يقرأ {ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} من أهل الكتاب لأنه منعوت في كتبهم بهذه الصفة , قاله الضحاك. الثاني: أنه القرآن {ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به , قاله الحسن. قال الحسن: أعطيت هذه الأمة الحفظ وكان من قبلها لا يقرأُون كتابهم إلا نظراً فإذا طبقوه لم يحفظوا ما فيه إلا النبيين. وقال كعب في صفة هذه الأمة: إنهم حلماء علماء كأنهم في الفقه أنبياء.

{وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ} قال ابن عباس: المشركون.

50

{وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِءَايَاتٌ مِّن رَّبِهِ} وفيه قولان: أحدهما: أنهم كانواْ يسألونه آيات يقترحونها عليه كما كان يفعله مشركو قريش أن يجعل الصفا ذهباً وأن يجري بمكة نهراً. الثاني: أنهم سألوه مثل آيات الأنبياء قبله كما جاء صالح بالناقة وموسى بالعصا وعيسى بإحياء الموتى. {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} أي أن الله هو الذي يعطي ما يشاء من الآيات لمن يشاء من الأنبياء بحسب ما يرى من المصلحة ولذلك لم تتفق آيات الأنبياء كلها وإنما جاء كل نبي بنوع منها. {وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم مندوب للإنذار والبيان لا لما يقترح عليه من الآيات وإنما يلزم أن يأتي بما يشهد بصدقه من المعجزات وقد فعل الله ذلك فأجابهم به فقال. {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} يعني القرآن يتلى عليهم وفيه وجهان: أحدهما: أولم يكفهم من الآيات التي سألوها أنا أنزلنا عليك الكتاب آية لك ودليلاً على صدقك لما فيه من الإعجاز في نظمه وصدق خبره وصحة وعده؟ الثاني: أنه محمول على ما رواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال: أتي

النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب في كتف فقال: كفى بقوم حمقاً أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى غير نبيهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكَتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يعني استنقاذهم من الضلال , وبالذكرى إرشادهم إلى الحق. {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي يريدون الإيمان ولا يقصدون العناد. قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شِهِيداً} يعني شهيداً بالصدق والإبلاغ , وعليكم بالتكذيب والعناد. {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} وهذا احتجاج عليهم في صحة شهادته عليهم لأنهم قد أقرواْ بعلمه فلزمهم أن يقرواْ بشهادته. {وَالَّذِينَءَامَنُواْ بِالْبَاطِلِ} فيه وجهان: أحدهما: بإبليس , قاله يحيى بن سلام. الثاني: بعبادة الأَوثان والأصنام , قاله ابن شجرة. {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: لتكذيبهم برسله وجحدهم لكتبه. الثاني: بما أشركوه معه من الآلهة وأضافوه إليه من الأولاد والأنداد. {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: خسروا أنفسهم بإهلاكها , قاله علي بن عيسى. الثاني: خسروا في الآخرة نعيم الجنة بعذاب النار , قاله يحيى بن سلام.

53

{ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون} قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} فيه وجهان:

أحدهما: أن استعجالهم له شدة عنادهم لنبيه. الثاني: أنه استهزاؤهم بقولهم: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ مِن عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية. {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه يوم القيامة , قاله ابن جبير. الثاني: أجل الحياة إلى حين الموت وأجل الموت إلى حين البعث إليه بين أجلين من الله , قاله قتادة. الثالث: أنه النفخة الأولى , قاله يحيى بن سلام. {لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ} يعني الذي استعجلوه. {وَلَيِأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أي فجأة. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} لا يعلمون بنزوله بهم. روى نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ قَدْ رَفَعَ أَْكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ تَصِلُ إِلَى فِيهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ).

56

{يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون}

قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَءَآمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أي جانبوا أهل المعاصي بالخروج من أرضهم , قاله ابن جبير وعطاء. الثاني: اطلبوا أولياء الله إذا ظهروا بالخروج إليهم , قاله أبو العالية. الثالث: جاهدوا أعداء الله بالقتال لهم , قاله مجاهد. الرابع: إن رحمتي واسعة لكم , قاله مطرف بن عبد الله. الخامس: إن رزقي واسع لكم , وهو مروي عن مطرف أيضاً. {فَإِيَّايَ فَاعْبدُونِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فارهبون , قاله بلال بن سعد. الثاني: فاعبدون بالهجرة إلى المدينة , قاله السدي. الثالث: فاعبدون بألا تطيعوا أحداً في معصيتي , قاله علي بن عيسى. قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} وفيه وجهان: أحدهما: يعني أن كل حي ميت. الثاني: أنها تجد كربه وشدته , وفي إعلامهم بذلك وإن كانوا يعلمونه وجهان: أحدهما: إرهاباً بالموت ليقلعوا عن المعاصي. الثاني: ليعلمهم أن أنبياء الله وإن اختصوا بكرامته وتفردوا برسالته فحلول الموت بهم كحلوله بغيرهم حتى لا يضلوا بموت من مات منهم , وروى جعفر

الصادق عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب قال لما توّفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته , {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمُوتِ} , إن في الله عزاء من كل مصيبة , وخَلَفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت؛ فبالله فثقوا , وإياه فارجوا , فإن المصاب من حُرِمَ الثواب. {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} يريد البعث في القيامة بعد الموت في الدنيا. قوله تعالى: { ... لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} قرأ حمزة والكسائي {لَنُثَوِّيَنَّهُم} بالثاء من الثواء وهو طول المقام وقرأ الباقون بالباء {لَنُبَوِّئَنَّهُم} معناه لنسكننهم أعالي البيوت. وإنما خصهم بالغرف لأمرين: أحدهما: أن الغرف لا تستقر إلا فوق البيوت فصار فيها جمع بين أمرين. الثاني: لأنها أنزه من البيوت لإشرافها وألذ سكنى منها لرياحها وجفافها. وقد روى أبو مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِن بَاطِنِها , وَبَاطِنُها مِن ظَاهِرِهَا , أَعدَّهَا اللَّهُ لِمَن أَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَطَابَ الكَلاَمَ وَتَابَعَ الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَقَامَ باللِّيلِ وَالنَّاسُ نِيامٌ). قوله: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} فيه أربعة أقاويل:

أحدها: معناه تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئاً , قاله مجاهد. الثاني: تأكل لوقتها ولا تدخر لغدها , قاله الحسن. الثالث: يأتيها من غير طلب. الرابع: أنه النبي صلى الله عليه وسلم يكل ولا يدخر , حكاه النقاش. قال ابن عباس: الدواب هو كل ما دب من الحيوان. وكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلا ابن آدم والنمل والفأر. {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي يسوي بين الحريص المتوكل في رزقه وبين الراغب القانع وبين الجلود والعاجز حتى لا يغتر الجلْد أنه رزق بجلده ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية لما أُذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة وأمر المسلمين بها خافوا الضيعة والجوع فقال قوم نهاجر إلى بلد ليس فيها معاش فنزلت هذه الآية فهاجرواْ.

64

{وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون} قوله تعالى: {إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} قال الضحاك: الحياة الدائمة وقال أبو عبيدة: الحيوان والحياة واحد.

67

{أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}

قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماًءَآمِناً} قال عبد الرحمن بن زيد: هي مكة وهم قريش أمنهم الله بها. {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} قال الضحاك: يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً فأذكرهم الله بهذه النعمة ليذعنوا له بالطاعة. {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أفبالشرك , قاله قتادة. الثاني: بإبليس , قاله يحيى بن سلام. {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بعافية الله , قاله ابن عباس. الثاني: بعطاء الله وإحسانه , قاله ابن شجرة. الثالث: ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى , قاله يحيى بن سلام. الرابع: بإطعامهم من جوع وأمنهم من خوف , حكاه النقاش , وهذا تعجب وإنكار خرج مخرج الاستفهام. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بأن جعل لله شريكاً أو ولداً. {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بالتوحيد , قاله السدي. الثاني: بالقرآن , قاله يحيى بن سلام. الثالث: بمحمد صلى الله عليه وسلم , قاله ابن شجرة. {مَثْوًى ... } أي مستقراً. قوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا} فيه أربعة أوجه: أحدها: قاتلوا المشركين طائعين لنا. الثاني: جاهدوا أنفسهم في هواها خوفاً منا. الثالث: اجتهدوا في العمل بالطاعة والكف عن المعصية رغبة في ثوابنا وحذراً من عقابنا. الرابع: جاهدوا أنفسهم في التوبة من ذنوبهم.

{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني الطريق إلى الجنة , قاله السدي. الثاني: نوفقهم لدين الحق , حكاه النقاش. الثالث: معناه الذين يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا يعلمون , قاله عباس أبو أحمد. الرابع: معناه لنخلصنّ نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وصيامهم , قاله يوسف بن أسباط. {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} أي في العون لهم , الله أعلم.

سورة الروم بسم الله الرحمن الرحيم

الروم

{الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} قوله تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ} الآية. روى ابن جبير عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب , وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان. قال ابن شهاب: فغلبت فارس الروم فسر بذلك المشركون وقالوا للمسلمين إنكم تزعمون أنكم ستغلبوننا لأنكم أهل كتاب , وقد غلبت فارس الروم والروم أهل كتاب. وقيل: إنه كان آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فساءه فأنزل الله هاتين الآيتين فلما قال: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيْغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} سر بذلك المسلمون وبادر أبو

بكر رضي الله عنه إلى مشركي قريش فأخبرهم بما أنزل عليهم وأن الروم ستغلب الفرس. قال قتادة: فاقتمر أبو بكر والمشركون على ذلك , وذلك قبل تحريم القمار مدة اختلف الناس فيها على ثلاثة أقاويل: أحدها: مدة ثلاث سنين تظهر الروم فيها على فارس , قاله السدي. الثاني: خمس سنين , قاله قتادة. الثالث: سبع سنين , قاله الفراء. وكان الذي تولى ذلك من المسلمين أبو بكر رضي الله عنه , واختلف في الذي تولاه من المشركين مع أبي بكر على قولين: أحدهما: أنه أبو سفيان بن حرب , قاله السدي. الثاني: أنه أُبي بن خلف , قاله قتادة. وحكىالنقاش أن أبا بكر لما أراد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم عَلِق به أبي بن خلف وقال: اعطني كفيلاً بالخطر إن غلبت فكفله ابنه عبد الرحمن. واختلف في قدر العوض المبذول على قولين: أحدهما: أربع قلائص , قاله عامر. الثاني: خمس قلائص , قاله قتادة. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر لهم هذه المدة أنكرها وقال: (مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا فَعَلْتَ؟) قال: ثقة بالله وبرسوله , قال: (فَكَم البِضْعُ) قال: ما بلغ بين الثلاث والعشر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زِدْهُم فِي الخَطَرِ فِي وَزِدْ الأَجَلِ) فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين فصارت القلائص ستاً على القول الأول , وسبعاً على الثاني , وصار الأجل خمساً على القول الأول , وسبعاً على الثاني: وتسعاً على الثالث. واختلف في الاستزاده والزيادة على قولين: أحدهما: أنها كانت بعد انقضاء الأجل الأول قبل ظهور الغلبة، قاله عامر.

الثاني: أنها كانت قبل انقضاء الأجل الأول , قاله ابن شهاب , فأظفر الله الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقاً لخبره في التقدير ولرسوله صلى الله عليه وسلم في التنزيل. واختلف في السنة التي غلبت الروم أهل فارس على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها عام بدر ظهر الروم على فارس فيه وظهر المسلمون على قريش فيه , قاله أبو سعيد , قال: فكان يوم بدر. الثاني: أن ظهور فارس على الروم كان قبل الهجرة بسنتين , وظهور المسلمين على قريش كان في عام بدر بعد الهجرة بسنتين , ولعله قول عكرمة. الثالث: عام الحديبية ظهرت الروم على فارس وكان ظهور المسملين على المشركين في الفتح بعد مدة الحديبية , قاله عبيد الله بن عبد الله. فأما قوله تعالى: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} ففيه قولان: أحدهما: في أدنى أرض فارس؛ حكاه النقاش. الثاني: في أدنى أرض الروم , وهو قول الجمهور وفي أدنى أرض الروم أربعة أقاويل: أحدها: أطراف الشام , قاله ابن عباس. الثاني: الجزيرة وهي أقرب أرض الروم إلى فارس , قاله مجاهد. الثالث: الأردن وفلسطين , قاله السدي. الرابع: أذرعات الشام وكانت بها الوقعة , قاله يحيى بن سلام. وقرأ أبو عمرو وحده: {غَلَبَتِ} بالفتح أي ظهرت فقيل له علام غلبت؟ فقال: في أدنى ريف الشام. قوله تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} وهو ما بين الثلاث إلى العشر وهذا نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال بعض أهل اللغة هو ما بين العقدين من الواحد إلى العشرة فيكون من الثاني إلى التاسع. وأما النيف ففيه قولان: أحدهما: ما بين الواحد والتسعة , قاله ابن زيد. الثاني: ما بين الواحد والثلاثة , وهو قول الجمهور.

{لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} فيه وجهان: أحدهما: من قبل أن تغلب الروم ومن بعد ما غلبت. الثاني: من قبل غلبة دولة فارس على الروم ومن بعد غلبة دولة الروم على فارس. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: أنه الخبر الذي ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بهلاك كسرى ففرح ومن معه فكان هذا يوم فرحهم بنصر الله لضعف الفرس وقوة العرب. الثاني: يعني به نصر الروم على فارس. وفي فرحهم بذلك ثلاثة أوجه: أحدها: تصديق خبر الله وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: لأنهم أهل كتاب مثلهم. الثالث: لأنه مقدمة لنصرهم على المشركين. {بِنَصْرِ اللَّهِ} يعني من أوليائه لأن نصره مختص بغلبة أوليائه لأعدائه فأما غلبة أعدائه لأوليائه فليس بنصر وإنما هو ابتلاء. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في نقمته {الرَّحِيمُ} لأهل طاعته. قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فيه وجهان: أحدهما: يعلمون أمر معايشهم متى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يغرسون وكيف يبنون , قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة. وقال الضحاك: هو بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها فهذا ظاهر الحياة الدنيا.

الثاني: يعلمون ما ألقته الشياطين لهم من أمور الدنيا عند استراقهم السمع من سماء الدنيا , قاله ابن جبير. ويحتمل ثالثاً: أن ظاهر الحياة الدنيا العمل لها , وباطنها عمل الآخرة. {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: عما أعده الله في الآخرة من ثواب عن طاعته وعقاب على معصيته. الثاني: عما أمرهم الله به من طاعة وألزمهم إياه.

8

{أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون} قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: بالعدل. الثاني: بالحكمة. الثالث: إلا ما استحق عليهم الطاعة والشكر. والرابع: قاله الفراء , معناه إلا للحق يعني الثواب والعقاب. {وَأَجَلِ مُّسَمًّى} فيه وجهان: أحدهما: قيام الساعة , قاله ابن عباس. الثاني: وهو محتمل أنه أجل كل مخلوق على ما قدر له. فدل ذل على أمرين: أحدهما: دل به على الفناء وعلى أن لكل مخلوق أجلاً. الثاني: نبه على ثواب المحسن وعقاب المسيء.

قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ أَسَآءُواْ} قال ابن عباس: كفرواْ. {السُّوأَى} فيه وجهان: أحدهما: جهنم , قاله السدي. الثاني: العذاب في الدنيا والآخرة , قاله الحسن. وفي الفرق بين الإساءة والسوء وجهان: أحدهما: أن الإساءة إنفاق العمر في الباطل , والسوء إنفاق رزقه في المعاصي. الثاني: أن الإِساءَة فعل المسيء والسوء الفعل مما يسوء. {أَن كَذَّبُواْ} لأن كذبواْ. {بِئَايَاتِ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن , قاله الكلبي. الثاني: بالعذاب أن ينزل بهم , قاله مقاتل. الثالث: بمعجزات الرسل , قاله الضحاك. {وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ} أي بالآيات.

11

{الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون} قوله تعالى: {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} فيه ستة أوجه: أحدها: أنه الفضيحة، قاله مجاهد. الثاني: الاكتئاب، قاله ابن أبي نجيح. الثالث: الإياس، قاله ابن عباس.

الرابع: الهلاك، قاله السدي. الخامس: الندامة، قاله ابن قتيبة. السادس: الحيرة , قال العجاج: (يا صاح هل تعرف رسْماً مكرساً ... قال نعم أعرفه وأبلسَا) قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: في الجزاء بالثواب والعقاب. الثاني: في المكان بالجنة والنار. قوله تعالى: { ... فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يَحْبَرُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يمكرون , قاله ابن عباس. الثاني: ينعمون , قاله مجاهد وقتادة. الثالث: يتلذذون بالسماع والغناء , قاله يحيى بن أبي كثير. الرابع: يفرحون , قاله السدي. والحبرة عند العرب السرور والفرح قال العجاج: (فالحمد لله الذي أعطى الحبر ... موالي الحي إن المولى يَسَر) فأما الروضة فهي البستان المتناهي منظراً وطيباً ولم يكن عند العرب أحسن منظراً ولا أطيب منها ريحاً قال الأعشى: (ما روضة من رياض الحزن معشبةٌ ... خضراء جاد عليها مسبل هطل) (يضحك الشمس منها كوكب شَرِقٌ ... مؤزر بعميم النبت مكتهل) (يوماً بأطيب منها نشر رائحةٍ ... ولا بأحسن منها إذا دنا الأُصُل) قوله تعالى: {فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: مدخلون، قاله يحيى بن سلام.

الثاني: نازلون ومنه قوله: {إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ} [البقرة: 180] و [المائدة: 106] أي نزل به. الثالث: مقيمون , قاله ابن شجرة. الرابع: معذبون. الخامس: مجموعون , ومعاني هذه التأويلات متقاربة.

17

{فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وفي تسمية الصلاة بالتسبيح وجهان: أحدهما: لما تضمنتها من ذكر التسبيح في الركوع والسجود. الثاني: مأخوذ من السبحة , والسبحة الصلاة , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (تَكُونُ لَكُم سَبْحَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ) أي صلاة. وقوله: {حِينَ تُمْسُونَ} أي صلاة المغرب والعشاء , قاله ابن عباس وابن جبير والضحاك. {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الصبح في قولهم أيضاً. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: الحمد لله على نعمه وآلائه. الثاني: الصلاة لاختصاصها بقراءة الحمد في الفاتحة. {وَعَشِّياً} يعني صلاة العصر. {وَحِينَ تَظْهِرُونَ} يعني صلاة الظهر وإنما خص صلاة الليل باسم التسبيح وصلاة النهار باسم الحمد لأن الإنسان في النهار متقلب في أحوال توجب حمد الله عليها , وفي الليل على خلوة توجب تنزيه الله من الأسواء فيها فلذلك صار الحمد بالنهار أخص فسميت به صلاة النهار، والتسبيح بالليل أخص فسميت به صلاة الليل.

والفرق بين المساء والعشي أن المساء بدو الظلام بعد المغيب , والعشي آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس , فجاءت هذه الآية جامعة لأوقات الصلوات الخمس , وقد روى سفيان عن عاصم أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس: هل تجد في كتاب الله الصلوات الخمس؟ فقرأ هذه الآية. قال يحيى ابن سلام: كل صلاة ذكرت في كتاب الله قبل الليلة التي أسري فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم فليست من الصلوات الخمس لأنها فرضت في الليلة التي أسري به فيها وذلك قبل الهجرة بسنة , قال: وهذه الآية نزلت بعد ليلة الإسراء وقبل الهجرة. {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي , قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة وابن جبير. الثاني: يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن , قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه والزهري , ورواه الأسود بن عبد يغوث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الثالث: يخرج الدجاجة من البيضة ويخرج البيضة من الدجاج , قاله عكرمة. الرابع: يخرج النخلة من النواة ويخرج النواة من النخلة؛ والسنبلة من الحبة والحبة من السنبلة , قاله ابن مالك والسدي. ويحتمل خامساً: يخرج الفطن اللبيب من العاجز البليد ويخرج العاجز البليد من الفطن اللبيب. {وَيُحْيِى الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يعني بالنبات لأنه حياة أهلها فصار حياة لها. ويحتمل ثانياً: أنه كثرة أهلها لأنهم يحيون مواتها ويعمرون خرابها. {وَكَذِلِكَ تُخْرَجُونَ} أي كما أحيا الأرض بإخراج النبات وأحيا الموتى كذلك يحييكم بالبعث. وفي هذا دليل على صحة القياس.

20

{ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} قوله تعالى: {وَمِنَءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} فيه قولان: أحدهما: حواء خلقها من ضلع آدم , قاله قتادة. الثاني: أن خلق سائر الأزواج من أمثالهم من الرجال والنساء , قاله علي بن عيسى. {لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا} لتأنسوا إليها لأنه جعل بين الزوجين [من] الأنسية ما لم يجعله بين غيرهما. {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فيه أربعة: أحدها: أن المودة المحبة والرحمة والشفقة، قاله السدي. الثاني: أن المودة الجماع والرحمة الولد، قاله الحسن. الثالث: أن المودة حب الكبير والرحمة الحنو على الصغير , قاله الكلبي. الرابع: أنهما التراحم بين الزوجين، قاله مقاتل.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يتفكرون في أن لهم خالقاً معبوداً. الثاني: يتفكرون في البعث بعد الموت.

22

{ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} قوله: {وَمِنْءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: لما فيهما من الآيات والعبر. الثاني: لإعجاز الخلق عن إحداث مثلهما. {وَاخْتلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: اختلاف ألسنتكم بالكلام , فللعرب كلام وللفرس كلام وللروم كلام. وألوانكم أبيض وأسود وأحمر , قاله السدي , وحكى وهب بن منبه في المبتدأ أن جميع الألسنة اثنان وسبعون لساناً منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لساناً , وفي ولد حام سبعة عشر لساناً , وفي ولد يافث ستة وثلاثون لساناً. والوجه الثاني: اختلاف ألسنتكم: النغمة والصوت حتى لا يشتبه صوتان من أخوين لأم وأب , وألوانكم: الصورة حتى لا يشتبه الناس في المعارف والمناكح والحقوق. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} قال ابن عيسى: الجن والإنس. وروى حفص عن عاصم {للعالمين} بكسر اللام يعني جميع العلماء. قوله: {وَمِنْءَايَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن الليل والنهار معاً وقت للنوم ووقت لابتغاء الفضل , لأن من الناس من يتصرف في كسبه ليلاً وينام نهاراً. الثاني: أن الليل وقت النوم والنهار وقت لابتغاء الفضل , ويكون تقدير الكلام:

ومن آياته منامكم بالليل , وابتغاؤكم من فضله بالنهار. وفي ابتغاء الفضل وجهان: أحدهما: التجارة , قاله مجاهد. الثاني: التصرف والعمل. فجعل النوم في الليل دليلاً على الموت , والتصرف في النهار دليلاً على البعث. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} فيه ثلاث أوجه: أحدها: يسمعون الحق فيتبعونه. الثاني: يسمعون الوعظ فيخافونه. الثالث: يسمعون القرآن فيصدقونه.

24

{ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} قوله تعالى: {وَمِنءَايَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم , قاله قتادة. الثاني: خوفاً من الصواعق وطمعاً في الغيث , قاله الضحاك. الثالث: خوفاً من البرد أن يهلك الزرع وطمعاً في المطر أن يحيي الزرع , حكاه يحيى بن سلام. الرابع: خوفاً أن يكون البرق برقاً خُلّباً لا يمطر وطمعاً أن يكون ممطراً , ذكره ابن بحر , وأنشد قول الشاعر: (لا يكن برقك برقاً خُلّباً ... إن خير البرق ما الغيث معه) والعرب يقولون: إذا توالت أربعون برقة مطرت وقد أشار المتنبي إلى ذلك بقوله:

(فقد أرد المياه بغير زادٍ ... سوى عَدّي لها بَرْق الغمام) قوله تعالى: {وَمِنْءَآيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن تكون. الثاني: أن تثبت. {بِأَمْرِهِ} فيه وجهان: أحدهما: بتدبيره وحكمته. الثاني: بإذنه لها أن تقوم بغير عمد. {ثُمَّ إِذا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنْ الأَرْضِ} أي وأنتم موتى في قبوركم. {إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي من قبوركم مبعوثين إلى القيامة. قال قتادة: دعاهم من السماء فخرجوا من الأرض. ثم فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أخرجهم بما هو بمنزلة الدعاء وبمنزلة قوله كن فيكون , قاله ابن عيسى. الثاني: أنهم أخرجهم بدعاء دعاهم به , قاله قتادة. الثالث: أنه أخرجهم بالنفخة الثانية وجعلها دعاء لهم. ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام.

26

{وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} قوله: { ... كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} فيه ستة تأويلات: أحدها: مطيعون , قاله مجاهد. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة.

الثاني: مصلون، قاله ابن عباس. الثالث: مقرون بالعبودية، قاله عكرمة وأبو مالك والسدي. الرابع: كل له قائم يوم القيامة , قاله الربيع بن أنس. الخامس: كل له قائم بالشهادة أنه عبد له، قاله الحسن. السادس: أنه المخلص، قاله ابن جبير. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته , وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت بالنفخة الثانية للبعث فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلاً على ما خفي من إعادته استدلالاً بالشاهد على الغائب. ثم أكد ذلك بقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: إن إعادة الخلق أهون من ابتداء إنشائهم لأنهم ينقلون في الابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم يعود رضيعاً ثم فطيماً، وهو في الإعادة يصاح به. فيقوم سوياً وهذا مروي عن ابن عباس. الثالث: معناه وهو هين عليه فجعل {أهْونُ} مكان {هَيِّنٌ} كقول الفرزدق: (إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول) أي دعائمه عزيرة طويلة: وفي تأويل {أَهْوَنُ} وجهان: أحدهما: أيسر، قاله ابن عباس. الثاني: أسهل، وأنشد ابن شجرة قول الشاعر:

(وهان على أسماءَ أن شطت النوى ... يحن إليها والهٌ ويتوق) أي هي أسهل عليه , وقال الربيع بن هيثم في قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} قال: ما شيء على الله بعزيز. {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي الصفة العليا. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ليس كمثله شيء , قاله ابن عباس. الثاني: هو شهادة أن لا إله إلا الله , قاله قتادة. الثالث: أنه يحيي ويميت , قاله الضحاك. ويحتمل رابعاً: - هو أعلم - أنه جميع ما يختص به من الصفات التي لا يشاركه المخلوق فيها. {فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} أي لا إله فيها غيره. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فيه وجهان: أحدهما: المنيع في قدرته. الثاني: في انتقامه. {الْحَكِيمُ} فيه وجهان: أحدهما: في تدبيره لأمره وهو معنى قول أبي العالية. الثاني: في إعذاره وحجته إلى عباده , قاله جعفر بن الزبير.

28

{ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين} قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} اختلف في سبب ضرب الله لهم المثل على ثلاثة أقاويل: أحدها: لأن المشركين أشركوا به في العبادة غيره , قاله قتادة. الثاني: لأنه كانت تلبية قريش في الجاهلية: لبيك اللهم لبيك , لبيك لا شريك

لك، إلا شريكاً وهو لك، تملكه وما ملك , فأنزل الله هذه الآية، قاله ابن جبير. الثالث: لأنهم كانوا لا يورثون مواليهم فضرب الله هذا المثل، قاله السدي. وتأويله: أنه لم يشارككم عبيدكم في أموالكم لأنكم مالكون لهم، فالله أوْلى ألا يشاركه أحد من خلقه في العبادة لأنه مالكهم وخالقهم. {تَخَافُونَهُم كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تخافون أن يشاركوكم في أموالكم كما تخافون ذلك من شركائكم , قاله أبو مجلز. الثاني: تخافون أن يرثوكم كما تخافون ورثتكم , قاله السدي. الثالث: تخافون لائمتهم كما تخافون بعضكم بعضاً , قاله يحيى بن سلام.

30

{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قصدك. الثاني: دينك , قاله الضحاك. الثالث: عملك , قاله الكلبي. {لِلدِّينِ حَنِيفاً} فيه ستة تأويلات: أحدها: مسلماً , وهذا قول الضحاك. والثاني: مخلصاً , وهذا قول خصيف. الثالث: متبعاً , قاله مجاهد. الرابع: مستقيماً , قاله محمد بن كعب. الخامس: حاجّاً , قاله ابن عباس. السادس: مؤمناً بالرسل كلهم , قاله أبو قلابة.

{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فيها تأويلان: أحدهما: صنعة الله التي خلق الناس عليها , قاله الطبري. الثاني: دين الله الذي فطر خلقه عليه , قاله ابن عباس والضحاك والكلبي يريد به الإسلام وقد روى عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مِن فِطْرةِ إِبْرَاهِيمَ السُّوَاكُ) ومن قول كعب بن مالك: (إن تقتولنا فدين الله فطرتنا ... والقتل في الحق عند الله تفضيل) {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تبديل لدين الله , قاله مجاهد وقتادة. الثاني: لا تغيير لخلق الله من البهائم أن يخصي فحولها , قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعكرمة. الثالث: لا تبديل خالق غير الله فيخلق كخلق الله , لأنه خالق يخلق , وغيره مخلوق لا يخلق , وهو معنى قول ابن بحر. ويحتمل رابعاً , لا يشقى من خلقه سعيداً ولا يسعد من خلقه شقيّاً. {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} فيه تأويلان: أحدهما: ذلك الحساب البين , قاله مقاتل بن حيان. الثاني: ذلك القضاء المستقيم , قاله ابن عباس. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقاً معبوداً وإلهاً قديماً:

قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: مقبلين إليه , قاله يحيى بن سلام والفراء. الثاني: داعين إليه , قاله عبيد بن يعلى. الثالث: مطيعين له , قاله عبد الرحمن بن زيد. الرابع: تائبين إليه من الذنوب , ومنه قول أبي قيس بن الأسلت: (فإن تابوا فإن بني سليم ... وقومهم هوازن قد أنابوا) وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عز وجل بالطاعة. الثاني: أن أصله الرجوع مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد مرة ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة. قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} أي أوقعوا فيه الاختلاف حتى صاروا فرقاً وقرىء {فَارَقُواْ دِينَهُم} أي تركوه وقد قرأ بذلك علي رضي الله عنه وهي قراءة حمزة والكسائي وفيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود , قاله قتادة. الثاني: أنهم اليهود والنصارى , قاله معمر. الثالث: أنهم الخوارج من هذه الأمة , وهذا قول أبي هريرة ورواه أبو أمامة مرفوعاً. الرابع: أنهم أصحاب الأهواء والبدع , روته عائشة مرفوعاً.

{وَكَانُواْ شِيَعاً} فيه وجهان: أحدهما: فرقاً , قاله الكلبي. الثاني: أدياناً , قاله مقاتل. ويحتمل ثالثاً: أنهم أنصار الأنبياء وأتباعهم. {كُلُّ حِزْبٍ} أي فرقة. {بِمَا لَدَيْهِمْ فِرِحُونَ} أي بما عندهم من الضلالة. {فَرِحُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مسرورون , قاله الجمهور. الثاني: معجبون , قاله ابن زيد. الثالث: متمسكون , قاله مجاهد.

33

{وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} قوله: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} فيه أربعة تأويلات:

أحدها: يعني كتاباً , قاله الضحاك. الثاني: عذراً , قاله قتادة. الثالث: برهاناً , وهو معنى قول السدي وعطاء. الرابع: رسولاً , حكاه ابن عيسى محتملاً. {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: معناه يخبر به. الثاني: يحتج له. قوله: {وَإِذَآ أَذَقْنا النَّاسَ رَحْمَةً} فيها وجهان: أحدهما: أنها العافية والسعة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: النعمة والمطر , حكاه النقاش. ويحتمل أنها الأمن والدعة. {فَرِحُواْ بِهَا} أي بالرحمة. {وَإِن تُصِبْهُمْ سِيِّئَةً} فيها وجهان: أحدهما: بلاء وعقوبة , قاله مجاهد. الثاني: قحط المطر , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: أنها الخوف والحذر. {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بذنوبهم. {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أن القنوط اليأس من الرحمة والفرج , قاله الجمهور. الثاني: أن القنوط ترك فرائض الله في اليسر , قاله الحسن.

38

{فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم

هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون} قوله: {فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} فيهم وجهان: أحدهما: أنهم قرابة الرجل , أن يصل رحمهم بماله ونفسه , قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنهم ذوو قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب يعطون حقهم من الغنيمة والفيء , قاله السدي. {وَالْمِسْكِينَ} هو الذي لا يجد كفايته. {وَابْنَ السَّبِيلِ} فيه قولان: أحدهما: المسافر , قاله مجاهد فإن كان محتاجاً فحقه في الزكاة وإن كان غير محتاج فبرّاً وصلة. الثاني: أنه الضيف الذي ينزل بك , قاله ابن عباس وابن جبير وقتادة , فإن أطعمه كان برّاً وصلة ولم يجز أن يكون من الزكاة محتاجاً كان أو غير محتاج. وإن دفعت إليه مالاً جاز إذا كان فقيراً أن يكون من الزكاة , ولم يجز إن كان غنيّاً. قوله: {وَمَاءَ آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الرجل يهدي هدية ليكافأ عليها أفضل منها , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أنه في رجل صحبه في الطريق فخدمه فجعل له المخدوم بعض الربح من ماله جزاء لخدمته لا لوجه الله , قاله الشعبي. الثالث: أنه في رجل يهب لذي قرابة له مالاً ليصير به غنيّاً ذا مال ولا يفعله طلباً لثواب الله , قاله إبراهيم. ومعنى قوله: {فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} أي فلا يكون له ثواب عند الله. قال ابن عباس: هما رِبَوان أحدهما حلال والآخر حرام , فما تعاطيتم بينكم حلال ولا يصل إلى الله.

{وَمَاءَآتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أي ثواب الله , وفيها قولان: أحدهما: أنها الزكاة المفروضة وهو الظاهر. الثاني: أنها الصدقة , قاله ابن عباس والسدي. {فَأُوْلَئِكَ الْمُضْعِفُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تضاعف لهم الحسنات لأن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها , قاله السدي. الثاني: تضاعف أموالهم في الدنيا بالزيادة فيها , وقال الكلبي: لم يقل مال رجل من زكاة.

41

{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين} قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} في {الفَسَادِ} أربعة أقاويل: أحدها: الشرك , قاله السدي. الثاني: ارتكاب المعاصي , قاله أبو العالية. الثالث: قحط المطر , قاله يحيى بن سلام. الرابع: فساد البر: قتل ابن آدم أخاه , وفساد البحر: أخذ السفينة غصباً. ويحتمل خامساً: أن ظهور الفساد ولاة السوء. {فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} هنا أربعة أقاويل: أحدها: أن البر الفيافي والبحر القرى، قاله عكرمة، وقال: إن العرب تسمي الأمصار البحار.

الثاني: البر أهل العمود والبحر أهل القرى والريف , قاله قتادة. الثالث: أن البر بادية الأعراب , قاله الضحاك والبحر الجزائر؛ قاله عطاء. الرابع: أن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر , والبحر ما كان على شط نهر , قاله ابن عباس. وللمتعمقين في غوامض المعاني وجهان: أحدهما: أن البر النفس والبحر القلب. الثاني: أن البر اللسان والبحر القلب. لظهور ما على اللسان وخفاء ما في القلب. وهو بعيد. {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} قال السدي: بما عملواْ من المعاصي واكتسبوا من الخطايا. {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} من المعاصي جزاءً معجلاً في الدنيا وجزاءً مؤجلاً في الآخرة فصار عذاب الدنيا بعض الجزاء. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يرجعون عن المعاصي , قاله أبو العالية. الثاني: يرجعون إلى حق , قاله إبراهيم. الثالث: يرجع من بعدهم , قاله الحسن.

43

{فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين} قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} فيه وجهان: أحدهما: أقم وجهك للتوحيد , قاله السدي. الثاني: استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة , قاله ابن عيسى. {مِن قَبْلِ يَأَتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} يعني يوم القيامة. {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} قال ابن عباس: معناه يتفرقون قال الشاعر: (وكنا كندماني جذيمة حقبةً ... من الدهر حتى قيل له يتصدعا)

أي لن يتفرقا. ويحتمل وجهاً ثانياً: أنه ما يصدعهم يوم القيامة من أهوال. وفيه قولان: أحدهما: يتفرقون في عرصة القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير , قاله قتادة. الثاني: يتفرق المشركون وآلهتهم في النار , قاله الكلبي. قوله: { ... فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} فيه تأويلان: أحدهما: يسوون المضاجع في القبور , قاله مجاهد. الثاني: يوطئون في الدنيا بالقرآن وفي الآخرة بالعمل الصالح , قاله يحيى بن سلام.

46

{ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين} قوله: {وَمِنْءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} قال الضحاك: بالغيث. ويحتمل وجهاً ثانياً: بخصب الزمان وصحة الأبدان. وقال أُبي بن كعب: كل شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة , وكل شيء في القرآن من الريح فهو عذاب. وقال عبد الله بن عمر: الريح ثمانية , أربعة منها رحمة وأربعة منها عذاب , فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات , وأما العذاب فالعقيم والصرصر وهما في البر , والعاصف والقاصف وهما في البحر. {وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} فيه تأويلان: أحدهما: بردها وطيبها , قاله الضحاك. الثاني: المطر , قاله مجاهد وقتادة. {وَلِتَجْزِي الْفُلْكُ} يعني السفن

{بِأمْرِهِ ... } يحتمل وجهين: أحدهما: بقدرته في تسييرها. الثاني: برحمته لمن فيها. { ... وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يعني ما عدّده من نعمه فتطيعوه لأن طاعة العبد لربه في شكره لنعمته إذ ليس مع المعصية شكر ولا مع كفر النعمة طاعة. قوله: { ... وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: نصر الأنبياء بإجابة دعائهم على المكذبين لهم من قومهم , قاله يحيى بن سلام. الثاني: نصر المؤمنين بإيجاب الذبّ عن أعراضهم , روت أم الدرداء , قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَا مِنِ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ إِلاَّ كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَن يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامِةِ) ثم تلا هذه الآية {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.

48

{الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون}

قوله: { ... وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: قطعاً , قاله قتادة. الثاني: متراكماً بعضه على بعض , قاله يحيى بن سلام. الثالث: في سماء دون سماء , قاله الضحاك. {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من خلال السحاب. وقرأ الضحاك بن مزاحم: من خلله , وفي {الْوَدْقَ} تأويلان: أحدهما: أنه البرق , حكاه أبو نخيلة الحماني عن أبيه. الثاني: أنه المطر , قاله مجاهد والضحاك ومنه قول الشاعر: (فلا مزنة ودقت ودْقُها ... ولا أرض أبقل إبقالها) قوله: {فَانظُرْ إِلَىءَآثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} يعني المطر. {كَيْفَ يُحْيي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهآ} يعني بالماء حتى أنبتت شجراً ومرعى بعد أن كانت بالجدب مواتاً , قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} لأن القادر على إحياء الأرض الموات قادر على إحياء الأموات استدلالاً بالشاهد على الغائب. وتأول من تعمّق في غوامض المعاني آثار رحمة الله أنه مواعظ القرآن وحججه تحيي القلوب الغافلة. قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} فيه قولان: أحدهما: فرأوا السحاب مصفراً، لأن السحاب إذا كان كذلك لم يمطر، حكاه علي ابن عيسى وقيل إنها الريح الدبور لأنها لا تلقح. الثاني: فرأوا الزرع مصفراً بعد اخضراره، قاله ابن عباس وأبو عبيدة. {لَظَلُّواْ مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} ومعنى ظل هو أنه أوقع الفعل في صدر النهار وهو الوقت الذي فيه الظل، لأنه وقت مختص بأهم الأمور لتقديمه عن نّية من الليل. وكذلك قولهم أضحى يفعل، لكن قد يعبر بقولهم ظل يفعل عن فعل أول النهار وآخره اتساعاً لكثرة استعماله، وقلَّما يستعمل أضحى يفعل إلا في صدر النهار دون آخره. ويحتمل {يَكْفُرُونَ} هنا وجهين:

أحدهما: يَشْكَونَ. الثاني: يذمّون.

52

{فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} قوله: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فيه قولان: أحدهما: أن الموتى الكفار الذين يموتون على الكفر وهم الصم الذين تولوا عن الهدى فلم يسمعوه , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن هذا مثل ضربه الله للكافرين كما أن الميت إذا خوطب لم يسمع والأصم إذا دعي لم يسمع كذلك الكافر لا يسمع الوعظ لأن الكفر قد أماته والضلال قد أصمه. قوله: {وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْ مُدْبِرِينَ} فالأصم لا يسمع الدعاء مقبلاً ولا مدبراً ولكن إذا دعي مقبلاً فقد يفهم الإشارة وإن لم يسمع الصوت , فإذا دعي مدبراً فهو لا يفهم الإشارة ولا يسمع الصوت فلذلك صارت حاله مدبراً أسوأ , فذكره بأسوأ أحواله. وقيل إنها نزلت في بني عبد الدار.

54

{الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} قوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} قال قتادة: من نطفة. {ثُمَّ جَعَلَ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} قاله مجاهد: شباباً. {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} يعني هرماً وشيبة، قال قتادة: لأن بياض الشعر نذير بالفناء، قال الشاعر: (أُريت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير) {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} من قوة وضعف. {وَهُوَ الْعَلِيمُ} بتدبيره {الْقَدِيرُ} على إرادته.

55

{ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون} قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} قال ابن عباس: الكفار. {مَا لَبِثواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} فيه قولان: أحدهما: في الدنيا استقلالاً لأجل الدنيا لما عاينوا من الآخرة , قاله قتادة. الثاني: في قبورهم ما بين موتهم ونشورهم , قاله يحيى بن سلام. {كَذلِكَ} أي هكذا , قاله ابن جبير. {كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يكذبون في الدنيا , قاله قتادة. الثاني: يصدون في الدنيا عن الإيمان بالبعث. قاله يحيى بن سلام. قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} فيهم وجهان: أحدهما: أنهم الملائكة , قاله الكلبي. الثاني: أهل الكتاب. {وَالإِيمَانَ} يحتمل وجهين: أحدهما: الإيمان بالكتاب المتقدم من غير تحريف له ولا تبديل فيه. الثاني: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لقد لبثتم في علم الله , قاله الفراء. الثاني: لقد لبثتم بما بيانه في كتاب الله , قاله ابن عيسى. الثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} في كتاب الله والإيمان {لَقَدْ لَبِثْتُم إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} قاله قتادة. وفي {لَبِثْتُمْ} قولان: أحدهما: لبثوا في قبورهم.

الثاني: في الدنيا أحياء وفي قبورهم أموات. {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} يعني الذي كذبتم به في الدنيا. {وَلكِنَّكُمْ كِنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} أي لا تعلمون في الدنيا أن البعث حق وقد علمتم الآن أنه حق. قوله: {فَيَومَئِذٍ} يعني يوم القيامة. {لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي عذرهم الذي اعتذروا به في تكذيبهم. {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يعاتبون على سيئاتهم , قاله النقاش. الثاني: لا يستتابون , قاله بعض المتأخرين. الثالث: لا يطلب منهم العتبى وهو أن يُرَدُوا إلى الدنيا لِيُعْتَبُوا أي ليؤمنوا , قاله يحيى بن سلام.

58

{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل وجهين: أحدهما: أن وعد الله في نصرك وتأييدك حق. الثاني: أن وعده في انتقامه من أعدائك حق. {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يَسْتَعْجَلَنَّكَ , قاله ابن شجرة. الثاني: لا يَسْتَفِزَّنَّكَ , قاله يحيى بن سلام. الثالث: لا يستنزلنك , قاله النقاش. {الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} فيه وجهان: أحدهما: لا يؤمنون.

الثاني: لا يصدقون بالبعث والجزاء، روى سعيد عن قتادة أن رجلاً من الخوارج قال لعلي كرم الله وجهه وهو خلفه في صلاة الصبح {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية. فقال له عليّ وهو في الصلاة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ}، والله أعلم.

سورة لقمان مكية كلها في قول الجميع إلا رواية عطاء أن آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} والتي بعدها. وقال الحسن إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} لأن الصلاة والزكاة مدنيتان. بسم الله الرحمن الرحيم

لقمان

{الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} قوله: {الم. تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: المحكم أَحكمت آياته بالحلال والحرام والأحكام. قاله يحيى بن سلام. الثاني: المتقن لا يأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو قريب من المعنى الأول , قاله ابن شجرة. الثالث: البين أنه من عند الله , قاله الضحاك. الرابع: أنه يظهر من الحكمة بنفسه كما يظهره الحكيم بقوله , قاله ابن عيسى. قوله تعالى: {هُدًى} فيه وجهان: أحدهما: هدى من الضلالة، قاله الشعبي.

الثاني: هدى إلى الجنة , قاله يحيى بن آدم. {وَرَحْمَةً} فيه وجهان: أحدهما: أن القرآن رحمة من العذاب لما في من الزجر عن استحقاقه وهو وجهان: أحدهما: أنه خرج مخرج النعت بأنه هدى ورحمة. الثاني: أنه خرج مخرج المدح بأن فيه هدى ورحمة. {لِلْمُحْسِنِينَ} وفي الإحسان ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الإيمان الذي يحسن به إلى نفسه , قاله ابن شجرة. الثاني: أنه الصلة والصلاة , قاله الحسن. الثالث: ما روى عمر بن الخطاب قال: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: (أًن تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِن لَّمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَتُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحبُ لِنَفْسِكَ) قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال: (نعم) قال الرجل: صدقت. ثم انطلق الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عَلَيَّ بِالرَّجُلِ). فطلبناه فلم نقدر عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُ أَكْبَرُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيِهِ السَّلاَمُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَكُم أَمُورَ دِينِكُم). قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَّبِّهِم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: على نور من ربهم , قاله ابن عباس. الثاني: على بينة , قاله ابن جبير. الثالث: على بيان , قاله يحيى بن سلام. {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فيه أربعة أوجه:

: أحدها: بمعنى السعداء , قاله يحيى بن سلام. الثاني: المنجحون , قاله ابن شجرة. الثالث: الناجحون , قاله النقاش. الرابع: أنهم الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربواْ , قاله ابن عباس.

6

{ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} قوله تعالى: {وَمِن النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: شراء المغنيات لرواية القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغنِيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ وَفِيهِنَّ أنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}). الثاني: الغناء , قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وابن جبير وقتادة. الثالث: أنه الطبل , قاله عبد الكريم , والمزمار , قاله ابن زخر. الرابع: أنه الباطل , قاله عطاء. الخامس: أنه الشرك بالله , قاله الضحاك وابن زيد. السادس: ما ألهى عن الله سبحانه , قال الحسن. السابع: أنه الجدال في الدين والخوض في الباطل , قاله سهل بن عبد الله.

ويحتمل إن لم يثبت فيه نص تأويلاً ثامناً: أنه السحر والقمار والكهانة. وفيمن نزلت قولان: أحدهما: أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يجلس بمكة فإذا قالت قريش إن محمداً قال كذا وكذا ضحك منه وحدثهم بحديث رستم واسفنديار ويقول لهم إن حديثي أحسن من قرآن محمد , حكاه الفراء والكلبي. الثاني: أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشغل بها الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم , حكاه ابن عيسى. {لِيُضِلَّ عَن سَبيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ} فيه وجهان: أحدهما: ليصد عن دين الله , قاله الطبري. الثاني: ليمنع من قراءة القرآن , قاله ابن عباس. {بِغَيرِ عِلْمٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: بغير حجة. الثاني: بغير رواية. {وَيَتَّخِذُهَا هُزُواً} فيه وجهان: أحدهما: يتخذ سبيل الله هزواً يكذب بها , قاله قتادة. وسبيل الله دينه. الثاني: يستهزىء بها , قاله الكلبي. {وَأُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي مذل.

8

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من

كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين} قوله تعالى: {خَلَقَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} فيه قولان: أحدهما: بعمد لا ترونها , قاله عكرمة ومجاهد. الثاني: أنها خلقت بغير عمد , قاله الحسن وقتادة. {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} أي جبالاً. {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي لئلا تميد بكم وفيه وجهان: أحدهما: معناه أن لا تزول بكم , قاله النقاش. الثاني: أن لا تتحرك بكم , قاله يحيى بن سلام. وقيل: إن الأرض كانت تتكفأ مثل السفينة فأرساها الله بالجبال وأنها تسعة عشر جبلاً تتشعب في الأرض حتى صارت لها أوتاداً فتثبتت وروى أبو الأشهب عن الحسن قال: لما خلق الله الأرض جعلت تميد فلما رأت الملائكة ما تفعل الأرض قالوا: ربنا هذه لا يقر لك على ظهرها خلق , فأصبح قد ربطها بالجبال فلما رأت الملائكة الذي أرسيت به الأرض عجبواْ فقالوا: يا ربنا هل خلقت خلقاً هو أشد من الجبال؟ قال: نَعَم الرِّيحُ قالوا: هل خلقت خلقاً هو أشد من الريح؟ قال: (نَعَمْ ابنُ آدَمَ). {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وخلق فيها , قاله السدي. الثاني: وبسط , قاله الكلبي. الثالث: فرق فيها من كل دابة وهو الحيوان سُمِّيَ بذلك لدبيبه والدبيب الحركة. {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} فيه قولان: أحدهما: أنهم الناس هم نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم , قاله الشعبي. الثاني: أن نبات الأرض أشجارها وزرعها , والزوج هو النوع. وفي الكريم ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه الحسن , قاله قتادة. الثاني: أنه الطيب الثمر , قاله ابن عيسى. الثالث: أنه اليانع , قاله ابن كامل. ويحتمل رابعاً: أن الكريم ما كثر ثمنه لنفاسة القدر.

12

{ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} اختلف في نبوته على قولين: أحدهما: أنه نبي , قاله عكرمة والشعبي. الثاني: أنه حكيم وليس بنبي، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن المسيب. ووهب بن منبه , قال إسماعيل: كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة. وقال قتادة: خير الله لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة فأتاه جبريل وهو نائم فذر عليه الحكمة فأصبح ينطق بها، فقيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إليّ بالنبوة عزمة لرجوت فيه العون منه ولكنت أرجو أن أقوم بها , ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إليّ. واختلف في جنسه على قولين: أحدهما: أنه كان من النوبة قصيراً أفطس، قاله جابر بن عبد الله. الثاني: كان عبداً حبشياً، قاله ابن عباس. واختلف في صنعته على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان خياطاً بمصر، قاله سعيد بن المسيب. الثاني: أنه كان راعياً فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال: ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس؟ قال بلى، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قَدَرُ الله

وأدائي الأمانة، وصدق الحديث وتركي ما لا يعنيني , قاله عبد الرحمن بن زيد بن جابر. الثالث: أنه كان نجاراً فقال له سيده: اذبح لي شاة وأتني بأطيبها مضغتين فأتاه باللسان والقلب فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين فسكت , ثم أمره فذبح له شاة ثم قال: أَلقِ أخبثها مضغتين فألقى اللسان والقلب فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت باللسان والقلب فقال إنه ليس شيىء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا , قاله خالد الربعي. واختلف في زمانه على قولين: أحدهما: أنه كان فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام. الثاني: أنه ولد كوش بن سام بن نوح , ولد لعشر سنين من ملك داود عليه السلام وبقي إلى زمن يونس عليه السلام. وفي {الْحِكْمَةَ} التي أوتيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الفهم والعقل , قاله السدي. الثاني: الفقه والعقل والإصابة في القول , قاله مجاهد. الثالث: الأمانة. {أَنِ اشكُرْ لِلَّهِ} يعني نعم اللَّه، فيه وجهان: أحدهما: معنى الكلام: ولقد آتيناه الحكمة وآتيناه الشكر لله، قاله المفضل. الثاني: آتيناه الحكمة لأن يشكر لله , قاله الزجاج. وفي شكره أربعة أوجه: أحدها: هو حمده على نعمه. الثاني: هو ألا يعصيه على نعمه. الثالث: هو ألا يرى معه شريكاً في نعمه عليه. الرابع: هو طاعته فيما أمره.

{وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي يعود شكره إلى نفسه لأنه على النعمة إذا زاد من الشكر. {وَمَن كَفَرَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني كفر بالله واليوم الآخر , قاله مجاهد. الثاني: كُفْرُ النعمة , قاله يحيى بن سلام. {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فيه وجهان: أحدهما: غني عن خلقه حميد في فعله , قاله يحيى بن سلام. الثاني: غني عن شكره مستحمد إلى خلقه , قاله ابن عيسى.

13

{وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} أي واذكر يا محمد مقالة لقمان لابنه، وفي اسم ابنه ثلاثة أقاويل: أحدها: مشكم , قاله الكلبي. الثاني: أنعم , حكاه النقاش. الثالث: بابان. {وَهُوَ يَعِظُهُ} أي يُذكِرُهُ ويؤدبه. {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكَ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} يعني عند اللَّه , وسماه ظلماً لأنه قد ظلم به نفسه، وقيل إنه قال ذلك لابنه وكان مشركاً، وقوله {يَا بُنَيَّ} ليس هو حقيقة

التصغير وإن كان على لفظه وإنما هوعلى وجه الترقيق كما يقال للرجل يا أُخَيّ. وللصبي هو كُوَيّس. قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} يعني براً وتحنناً عليهما. وفيهما قولان: أحدهما: أنها عامة وإن جاءت بلفظ خاص والمراد به جميع الناس , قاله ابن كامل. الثاني: خاص في سعد بن أبي وقاص وُصي بأبويه؛ واسم أبيه مالك واسم أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية , حكاه النقاش. {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه شدة على شدة , قاله ابن عباس. الثاني: جهداً على جهد. قاله قتادة. الثالث: ضعفاً على ضعف , قاله الحسن وعطاء. ومن قول قعنب ابن أم صاحب: (هل للعواذل من ناهٍ فيزجرها ... إن العواذل فيها الأيْنُ والوهن) يعني الضعف. ثم فيه على هذا التأويل ثلاثة أوجه: أحدها: ضعف الولد على ضعف الوالدة , قاله مجاهد. الثاني: ضعف نطفة الأب على نطفة الأم , قاله ابن بحر. الثالث: ضعف الولد حالاً بعد حال فضعفه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً سوياً ثم مولوداً ثم رضيعاً ثم فطيماً , قاله أبو كامل. ويحتمل رابعاً: ضعف الجسم على ضعف العزم. {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} يعني بالفصال الفطام من رضاع اللبن. واختلف في حكم الرضاع بعد الحولين هل يكون في التحريم كحكمه في الحولين على أربعة أقاويل:

أحدهما: أنه لا يحرم بعد الحولين ولو بطرفة عين لتقدير الله له بالحولين ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ رَضَاعةَ بَعْدَ الحَولَينِ) وهذا قول الشافعي. الثاني: أنه يحرم بعد الحولين بأيام , وهذا قول مالك. الثالث: يحرم بعد الحولين بستة أشهر استكمالاً لثلاثين شهراً لقوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] قاله أبو حنيفة. الرابع: أن تحريمه غير مقدر وأنه يحرم في الكبير كتحريمه في الصغير , وهذا قول بعض أهل المدينة. {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} أي اشكر لي النعمة ولوالديك التربية. وشكر الله بالحمد والطاعة وشكر الوالدين بالبر والصلة , قال قتادة: إن الله فرق بين حقه وحق الوالدين وقال اشكر لي ولوالديك. {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} يعني إلى اللَّه المرجع فيجازي المحسن بالجنة والمسيء بالنار. وقد

روى عطاء عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رِضَا الرَّبِّ مِن رِضَا الوَالَدِ وَسَخَط الرَّبِّ مَن سَخَط الوَالِدِ).

قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ} يعني أراداك. {عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} معناه أنك لا تعلم أن لي شريكاً. {فَلا تُطِعْهُمَا} يعني في الشرك. {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} أي احْتِسَاباً. قال قتادة: تعودهما إذا مرضا وتشيعهما إذا ماتا , وتواسيهما مما أعطاك الله تعالى. {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} قال يحيى بن سلام: من أقبل بقلبه مخلصاً وهو النبي صلى الله عليه السلام والمؤمنون. روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: حلفت أم سعد ألا تأكل ولا تشرب حتى تشرب حتى يتحوّل سعد عن دينه فأبى عليها فلم تزل كذلك حتى غشى عليها ثم دعت الله عليه فأنزل الله فيه هذه الآية.

16

{يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} وهذا مثل مضروب لمثقال حبة من خردل. قال قتادة: من خير أو شر. {فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها الصخرة التي تحت الأرض السابعة قاله الرُبَيعُ بن أنس والسدي. قال عبد الله بن الحارث وهي صخرة على ظهر الحوت , قال الثوري: بلغنا أن خضرة السماء من تلك الصخرة , وقال ابن عباس هذه الصخرة ليست في

السماء ولا في الأرض. وقيل إن هذه الصخرة هي سجِّين التي يكتب فيها أعمال الكفار ولا ترفع إلى السماء. الثاني: معنى قوله في صخرة أي في جبل , قاله قتادة. {أَوْ فِي السَّمَواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} فيه وجهان: أحدهما: بجزاء ما وازنها من خير أو شر. الثاني: يعلمها الله فيأتي بها إذا شاء , كذلك قليل العمل من خير أو شر يعلمه الله فيجازي عليه. {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} باستخراجها. {خَبِيرٌ} بمكانها , قاله الربيع بن أنس. روى علي بن رباح اللخمي قال: لما وعظ لقمان ابنه بهذا أخذ حبة من خردلٍ فأتى بها البحر فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء ثم ذكرها وبسط يده فبعث الله ذبابة فاختطفتها وحملتها حتى وضعتها في يده. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ} يحتمل وجهين: أحدهما: على ما أصابك من الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الثاني: على ما أصابك من البلوى في نفسك أو مالك. {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما أمر الله به من الأمور. الثاني: من ضبط الأمور , قاله المفضل. الثالث: من قطع الأمور. وفي العزم والحزم وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما. الثاني: معناهما مختلف وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: أن الحزم الحذر والعزم القوة , ومنه المثل: لا خير في عزم بغير حزم. الثاني: أن الحزم التأهب للأمر والعزم النفاذ فيه , ومنه قولهم في بعض الأمثال: رَوِّ بحزم فإذا استوضحت فاعزم.

قوله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع. {تُصَاعِر} بألف , وتصاعر تفاعل من الصعر وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الكبر , قاله ابن عباس. الثاني: الميل , قاله المفضل. الثالث: التشدق في الكلام , حكاه اليزيدي , وتُصِّعرْ هو على معنى المبالغة. وفي معنى الآية خمسة أوجه: أحدها: أنه إعراض الوجه عن الناس تكبراً , قاله ابن جبير. الثاني: هوالتشدق , قاله إبراهيم النخعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الثالث: أن يلوي شدقه عند ذكر الإنسان احتقاراً , قاله أبو الجوزاء , قال عمرو بن كلثوم. (وكنا إذا الجبّارُ صعر خَدّه ... أقمنا له من صعره فتقوّما) الرابع: هو أن يعرض عمن بينه وبينه إحنة هجراً له فكأنه أمر بالصفح والعفو , قاله الربيع بن أنس. {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بالمعصية , قاله الضحاك. الثاني: بالخيلاء والعظمة , قاله ابن جبير. الثالث: أن يكون بطراً أشراً , قاله ابن شجرة. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المنان , قاله أبو ذر.

الثاني: المتكبر , قاله مجاهد. الثالث: البطر , قاله ابن جبير.

وروى أبو ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثَلاَثَةٌ يَشْنَؤُهُم اللَّهُ: الفَقِيرُ المُخْتَالُ , والبَخِيلُ المَنَّانُ , والبَيّعُ الحَلاَّفُ). {فَخُورٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المتطاول على الناس بنفسه , قاله ابن شجرة. الثاني: أنه المفتخر عليهم بما يصفه من مناقبه , قاله ابن عيسى. الثالث: أنه الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله فيما أعطاه , قاله مجاهد. قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: معناه تواضع في نفسك، قاله مجاهد. الثاني: انظر في مشيك موضع قدمك , قاله الضحاك. الثالث: اسرْع في مشيتك , قاله يزيد بن أبي حبيب. الرابع: لا تسرع في المشي , حكاه النقاش. وقد روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سُرْعَةُ المَشْيِ تُذْهِبُ بَهَاءَ وَجْهِ المَرْءِ). الخامس: لا تختل في مشيتك , قاله ابن جبير. {وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ} أي اخفض من صوتك والصوت هو أرفع من كلام المخاطبة. {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} يعني شر الأصوات , قاله عكرمة وفيه أربعة أوجه: أحدها: أقبح الأصوات , قاله ابن جبير. الثاني: قد تقدم. الثالث: أشد , قاله الحسن. الرابع: أبعد , قاله المبرد. {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} فيه وجهان: أحدهما: أنها العطسة المرتفعة , قاله جعفر الصادق. الثاني: أنه صوت الحمار. وفي تخصيصه بالذكر من بين الحيوان وجهان: أحدهما: لأنه أقبحها في النفس وأنكرها عند السمع وهو عند العرب مضروب به المثل , قال قتادة: لأن أوله زفير وآخره شهيق. الثاني: لأن صياح كل شيء تسبيحه إلا الحمار فإنه يصيح لرؤية الشيطان , قاله سفيان الثوري، وقد حكي عن بشر بن الحارث أنه قال: نهيق الحمار دعاء على الظلمة. والسبب في أن ضرب الله صوت الحمار مثلا ما روى سليمان بن أرقم عن الحسن أن المشركين كانواْ في الجاهلية يتجاهرون ويتفاخرون برفع الأصوات فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز، ومن كان أخفض صوتاً كان أذل , فقال الله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي لو أن شيئاً يُهَابُ لصوته لكان الحمار فجعلهم في المثل بمنزلته.

20

{ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وفي تسخيره ذلك وجهان: أحدهما: تسهيله. الثاني: الانتفاع به. {وَأَسْبَغَ عَلَيَكُمْ نِعَمَهُ} قرأ نافع وأبو عمرو وحفص بغير تنوين على الجمع والباقون بالتنوين يعني نعمة واحدة , وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما: أنه عنى الإسلام فجعلها واحدة , قاله إبراهيم. الثاني: أنه قصد التكثير بلفظ الواحد كقول العرب: كثر الدينار والدرهم، والأرض سيف وفرس , وهذا أبلغ في التكثير من لفظ الجمع , قاله ابن شجرة. وفي قوله: {ظَاهِرةً وَبَاطِنَةً} خمسة أقاويل: أحدها: أن الظاهرة الإسلام , والباطنة ما ستره الله من المعاصي قاله مقاتل. الثاني: أن الظاهرة على اللسان , والباطنة في القلب , قاله مجاهد ووكيع. الثالث: أن الظاهرة ما أعطاهم من الزي والثياب , والباطنة متاع المنازل , حكاه النقاش. الخامس: الظاهرة الولد , والباطنة الجماع. ويحتمل سادساً: أن الظاهرة في نفسه , والباطنة في ذريته من بعده. ويحتمل سابعاً: أن الظاهرة ما مضى , والباطنة ما يأتي.

ويحتمل ثامناً: أن الظاهرة في الدنيا , والباطنة في الآخرة. ويحتمل تاسعاً: أن الظاهرة في الأبدان , والباطنة في الأديان. {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيرِ عَلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كَتَابٍ مُنِيرٍ} فيه قولان: أحدهما: نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته. الثاني: أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يقول: إن الملائكة بنات الله , قاله أبو مالك.

22

{ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} قوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلّى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه يخلص لله , قاله السدي. الثاني: يقصد بوجهه طاعة الله. الثالث: يسلم نفسه مستسلماً إلى الله وهو محسن يعني في عمله. {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فيها أربعة تأويلات: أحدها: قول لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثاني: القرآن , قاله أنس بن مالك. الثالث: الإسلام , قاله السدي. الرابع: الحب في الله والبغض في الله , قاله سالم بن أبي الجعد. وفي تسميتها بالعروة الوثقى وجهان: أحدهما: أنه قد استوثق لنفسه فيما تمسك به كما يستوثق من الشيء بإمساك عروته.

الثاني: تشبيهاً بالبناء الوثيق لأنه لا ينحل. {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبةُ الأُمُورِ} قال مجاهد: وعند الله ثواب ما صنعواْ.

25

{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير} قوله تعالى: {وَلَو أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ. .} الآية. وفي سبب نزولها قولان: أحدهما: ما رواه سعيد عن قتادة أن المشركين قالوا إنما هو كلام يعني القرآن يوشك أن ينفد، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه لو كان شجر البر أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وعلمه. الثاني: ما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قالت له أحبار اليهود يا محمد أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيْتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإٍسراء: 85] إِيانا تريد أم قومك؟ قال: (كُلٌ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الُعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً أَنْتُم وَهُمْ) قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك من الله أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ) فنزلت هذه الآية. ومعنى: { ... يَمُدُّهُ ... } أي يزيد فيه شيئاً بعد شيء فيقال في الزيادة. مددته وفي المعونة أمددته. { ... مَا نَفَدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ونفاد الشيء هو فناء آخره بعد نفاد أوله فلا يقال لما فني جملة: نفد.

وفي {كَلِمَاتُ اللُّهِ} هنا أربعة أوجه: أحدها: أنها نعم الله على أهل طاعته في الجنة. الثاني: على أصناف خلقه. الثالث: جميع ما قضاه في اللوح المحفوظ من أمور خلقه. الرابع: أنها علم الله. قوله تعالى: {مَا خَلْقَكُمُ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يقال إنها نزلت في أُبي بن خلف وأبي الأشدين ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إِن الله خلقنا أطواراً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم تقول إنا نبعث خلقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة فأنزل الله هذه الآية لأن الله لا يصعب عليه ما يصعب على العباد وخلقه لجميع العالم كخلقه لنفس واحدة. {إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} سميع لما يقولون , بصير بما يفعلون.

29

{ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِج النَّهارِ فِي اللَّيلِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يأخذ الصيف من الشتاء ويأخذ الشتاء من الصيف , قاله ابن مسعود ومجاهد. الثاني: ينقص من النهار ليجعله في الليل وينقص من الليل ليجعله في النهار , قاله الحسن وعكرمة وابن جبير وقتادة. الثالث: يسلك الظلمة مسالك الضياء ويسلك الضياء مسالك الظلمة فيصير كل واحد منهما مكان الآخر , قاله ابن شجرة. ويحتمل رابعاً: أنه يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل , ويدخل ضوء النهار في ظلمة الليل إذا أقبل , فيصير كل واحد منهما داخلاً في الآخر.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديراً للآجال وإتماماً للمنافع. {كَلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى} فيه وجهان: أحدهما: يعني إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه , وهو معنى قول قتادة. الثاني: إلى يوم القيامة , قاله الحسن. {وَأَنَّ اللَّهَ بَمَا َعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يعني بما تعملون في الليل والنهار. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو الله الذي لا إله غيره , قاله ابن كامل. الثاني: أن الحق اسم من أسماء الله , قاله أبو صالح. الثالث: أن الله هو القاضي بالحق. ويحتمل رابعاً: أن طاعة الله حق. {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ البَاطِلُ} فيه وجهان: أحدهما: الشيطان هو الباطل , قاله مجاهد. الثاني: ما أشركوا بالله تعالى من الأصنام والأوثان , قاله ابن كامل. {وأن الله هو العلي الكبير} أي العلي في مكانته الكبير في سلطانه.

31

{ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين

له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: برحمة الله لكم في خلاصكم منه. الثاني: بنعمة الله عليكم في فائدتكم منه. {لِيُرِيَكُم مِّنَءَايَاتِهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني جري السفن فيه , قاله يحيى بن سلام , وقال الحسن: مفتاح البحار السفن , ومفتاح الأرض الطرق , ومفتاح السماء الدعاء. الثاني: ما تشاهدونه من قدرة الله فيه , قاله ابن شجرة. الثالث: ما يرزقكم الله منه , قاله النقاش. {لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} فيه وجهان: أحدهما: صبَّار على البلوى شكور على النعماء. الثاني: صبَّار على الطاعة شكور على الجزاء. قال الشعبي: الصبر نصف الإيمان , والشكر نصف الإيمان , واليقين الإيمان كله , ألم تر إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وإلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُوقِنِينَ}. قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} فيه وجهان: أحدهما: كالسحاب , قاله قتادة. الثاني: كالجبال , قاله الحسن ويحيى بن سلام. وفي تشبيهه بالظل وجهان: أحدهما: لسواده , قاله أبو عبيدة. الثاني: لعظمه.

{دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يعني موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه. {فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى الْبَرِّ} يعني من البحر. {فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه عَدل في العهد , يفي في البر بما عاهَد الله عليه في البحر , قاله النقاش. الثاني: أنه المؤمن المتمسك بالتوحيد والطاعة , قاله الحسن. الثالث: أنه المقتصد في قوله وهو كافر , قاله مجاهد. {وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الجاحد , قاله عطية. الثاني: وهو قول الجمهور أنه الغدار , قال عمرو بن معدي كرب: (فإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدرٍ وختر) وجحد الآيات إنكار أعيانها والجحد بالآيات دلائلها.

33

{يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخْشُوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: معناه لا يغني والد عن ولده يقال جزيت عنك بمعنى أغنيت عنك , قاله ابن عيسى. عيسى. الثاني: لا يقضي والد عن ولده , قاله المفضل وابن كامل. الثالث: لا يحمل والد عن ولده , قال الراعي: (وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ... ليجزي إلا كاملٌ وابن كامل) أي حملت. {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ} يعني البعث والجزاء. {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يغرنكم الإمهال عن الانتقام. الثاني: لا يغرنكم المال عن الإسلام. {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهي تقرأ على وجهين: أحدهما: بالضم. الثاني: بالفتح وهي قراءة الجمهور. ففي تأويلها بالضم وجهان: أحدهما: أن الغُرور الشيطان , قاله مجاهد. الثاني: الأمل وهو تمني المغفرة في عمل المعصية , قاله ابن جبير. ويحتمل ثالثاً: أن تخفي على الله ما أسررت من المعاصي. {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} قوله: {إن الله عنده علم الساعة} يحتمل وجهين: أحدهما: أن قيامها مختص بعلمه. الثاني: أن قيامها موقوف على إرادته. {وينزل الغيث} فيما يشاء من زمان ومكان. {ويعلم ما في الأرحام} فيه وجهان: أحدهما: من ذكر وأنثى، سليم وسقيم.

الثاني: من مؤمن وكافر وشقي وسعيد. {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} فيه وجهان: أحدهما: من خير أو شر. الثاني: من إيمان أو كفر. {وما تدري نفس بأي أرض تموت} فيه وجهان: أحدهما: على أي حكم تموت من سعادة أو شقاء، حكاه النقاش. الثاني: في أي أرض يكون موته ودفنه وهو أظهر. وقد روى أبو مليح عن أبي عزة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل إليها حاجة فلم ينته نحتى يقدمها، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {إن الله عنده علم الساعة} إلى قوله: {بأي أرض تموت}. وقال هلال بن إساف: ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تربة الأرض التي يدفن فيها. {إن الله عليم خبير} يحتمل وجهين:

أحدهما: عليم بالغيب خبير بالنية. الثاني: عليم بالأعمال خبير بالجزاء. ويقال إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية يقال له الوارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدية فأخبرني حارثة متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى يقوم الساعة؟ فنزلت هذه الآية. والله أعلم.

سورة السجدة مكية في قول الجميع إلا الكلبي ومقاتل فإنهما قالا: إلا ثلاث آيات منها من: {أفمن كان مؤمنا} إلى آخرهن. وقال غيرهما: إلا خمس آيات من {تتجافى جنوبهم} إلى {الذي كنتم به تكذبون}. بسم الله الرحمن الرحيم

السجدة

{الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} قوله تعالى: {الم. تَنزِيلُ الْكِتَابِ} يعني القرآن. {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك فيه أنه تنزيل. {مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} والريب هو الشك الذي يميل إلى السوء والخوف , قال أبو ذؤيب: (أسرين ثم سمعن حساً دونه ... سرف الحجاب وريب قرع يقرع) {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} يعني كفار قريش يقولون إن محمداً افترى هذا القرآن ويكذبه.

{بَلْ هَوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} يعني القرآن حق نزل عليك من ربك. {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} يعني قريشاً، قاله قتادة: كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم.

4

{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم} قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} فيه وجهان: أحدهما: يقضي الأمر , قاله مجاهد. الثاني: ينزل الوحي , قاله السدي. {مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ} قال السدي من سماء الدنيا إلى الأرض العليا وفيه وجهان: أحدهما: يدبر الأمر في السماء وفي الأرض. الثاني: يدبره في السماء ثم ينزل به الملك إلى الأرض وروى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط أنه قال: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل , فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود , وأمَّا ميكائيل فموكل بالقطر والماء , وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح , وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، قاله النقاش.

الثالث: أنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة , قاله ابن شجرة. {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد ثم يلقيه إلى ملائكته فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى ثم كذلك أبداً , قاله مجاهد. الثاني: أن الملك ينزل ويصعد في يوم مسيرة ألف سنة , قاله ابن عباس. والضحاك. الثالث: أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة ومقدار صعوده خمسمائة سنة , قاله قتادة: فيكون بين السماء والأرض على قول ابن عباس والضحاك مسيرة ألف سنة , وعلى قول قتادة والسدي مسيرة خمسمائة سنة. {مِمَّا تَعُدُّونَ} أي تحسبون من أيام الدنيا وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم وليس بيوم يستوعب نهاراً بين ليلتين لأنه ليس عند الله ليل استراحة ولا زمان تودع , والعرب قد تعبر عن مدة العصر باليوم كما قال الشاعر: (يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سيرٍ إلى الأعداءِ تأويب) وليس يريد يومين مخصوصين وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم.

7

{الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} فيه خمسة تأويلات:

أحدها: أنه جعل كل شيء خلقه حسناً حتى جعل الكلب في خلقه حسناً، قاله ابن عباس. الثاني: أحكم كل شيء خلقه حتى أتقنه، قاله مجاهد. الثالث: أحسن إلى كل شيء خلق فكان خلقه له إحساناً، قاله علي بن عيسى. الرابع: ألهم ما خلقه ما يحتاجون إليه حتى علموه من قولهم فلان يحسن كذا أي يعلمه. الخامس: أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ثم هداه إليه , رواه حميد بن قيس. ويحتمل سادساً: أنه عرف كل شيء خلقه وأحسنه من غير تعلم ولا سبق مثال حتى ظهرت فيه القدرة وبانت فيه الحكمة. {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} يعني آدم، روى عون عن أبي زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على ألوان الأرض منهم الأبيض والأحمر وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك.

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} أي ذريته {مِن سُلاَلَةٍ} لاِنسِلاَلِهِ من صلبه {مِن مَّآءٍ مَّهِينٍ} قال مجاهد ضعيف. قوله تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ} فيه وجهان: أحدهما: سوى خلقه في الرحم. الثاني: سوى خلقه كيف يشاء. {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: من قدرته , قاله أبو روق. الثاني: من ذريته , قاله قتادة. الثالث: من أمره أن يكون فكان , قاله الضحاك. الرابع: روحاً من روحه أي من خلقه وأضافه إلى نفسه لأنه من فعله وعبر عنه بالنفخ لأن الروح من جنس الريح. {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} يعني القلوب وسمى القلب فؤاداً لأنه ينبوع الحرارة الغريزية مأخوذ من المفتأد وهو موضع النار , وخصص الأسماع والأبصار والأفئدة بالذكر لأنها موضع الأفكار والاعتبار.

10

{وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} قوله: {وَقَالُواْ أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هلكنا , قاله مجاهد. الثاني: صرنا فيه رفاتاً وتراباً , قاله قتادة والعرب تقول لكل شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيه أثره قد ضل , قال الأخطل: (كنت القذى في موج أكدر مزبد ... تقذف الأتيُّ به فَضَلَّ ضلالاً.) الثالث: غُيِّبنا في الأرض , قاله قطرب وأنشد النابغة: (فآب مُضلُّوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزمٌ ونائل) وقرأ الحسن: صللنا , بصاد غير معجمة وفيه على قراءته وجهان: أحدهما: أي أنتنت لحومنا من قولهم صل اللحم إذا أنتن , قاله الحسن.

الثاني: صللنا من الصلة وهي الأرض اليابسة ومنه قوله تعالى: {مِن صَلصَالٍ كَالْفَخَّارِ} {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أَتُعَادُ أجسامنا للبعث خلقاً جديداً تعجباً من إعادتها وإنكاراً لبعثهم وهو معنى قوله تعالى: {بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِم كَافِرُونَ} وقيل إن قائل ذلك أُبي بن خلف. قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ} أي يقبض أرواحكم والتوفي أخذ الشيء على تمام , مأخوذ من توفية العدد ومنه قولهم استوفيت دَيْني من فلان. ثم في توفي ملك الموت لهم قولان: الأول: بأعوانه. الثاني: بنفسه. روى جعفر الصادق عن أبيه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم [يا ملك الموت]: (ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ) فقال ملك الموت عليه السلام يا محمد طب نفساً وقر عيناً فإني بكل مؤمن رفيق واعلَمْ أن ما من أهل بيت مدر ولا شعر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم , واللَّه يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله تعالى هو الآمر بقبضها , قال جعفر إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلوات.

{ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم تُرْجعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: إلى جزائه. الثاني: إلى أن لا يملك لكم أحد ضراً ولاً نفعاً إلا اللَّه.

12

{ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُسِهِم عِند رَبِّهمُ} أي عند محاسبة ربهم وفيه أربعة أوجه: أحدها: من الغم، قاله ابن عيسى.

الثاني: من الذل، قاله ابن شجرة. الثالث: من الحياء، حكاه النقاش. الرابع: من الندم، قاله يحيى بن سلام. {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} فيه وجهان: أحدهما: أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك , قاله ابن عيسى. الثاني: أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا , قال قتادة , أبصروا حين لم ينفعهم البصر وسمعوا حين لم ينفعهم السمع. {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} أي ارجعنا إلى الدنيا نعمل فيها صالحاً. {إِنَّا مُوقِنُونَ} فيه وجهان: أحدهما: مصدقون بالبعث , قاله النقاش. الثاني: مصدقون بالذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق , قاله يحيى بن سلام. قال سفيان: فأكذبهم الله فقال: {وَلَو رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنهُ} [الأنعام: 28] الآية. قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍٍ هُدَاهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هدايتها للإيمان. الثاني: للجنة. الثالث: هدايتها في الرجوع إلى الدنيا لأنهم سألوا الرجعة ليؤمنوا. {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَولُ مِنِّي} فيه وجهان: أحدهما: معناه سبق القول مني , قاله الكلبي ويحيى بن سلام. الثاني: وجب القول مني , قاله السدي كما قال كثير: (فإن تكن العتبى فأهلاً ومَرْحباً ... وحقت لها العتبى لدنيا وقلّت) {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِن الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يعني من عصاه من الجنة والناس. وفي الجنة قولان: أحدهما: أنه الجن , قاله ابن كامل.

الثاني: أنهم الملائكة , رواه السدي عن عكرمة , وهذا التأويل معلول لأن الملائكة لا يعصون الله فيعذبون. وسموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار ومنه قول زيد بن عمرو: (عزلت الجن والجنان عني ... كذلك يفعل الجلد الصبور) قوله: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فيه وجهان: أحدهما: فذوقوا عذابي بما تركتم أمري , قال الضحاك. الثاني: فذوقوا العذاب بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم , قاله يحيى بن سلام. {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: إنا تركناكم من الخير , قاله السدي. الثاني: إنا تركناكم في العذاب , قاله مجاهد. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} وهو الدائم الذي لا انقطاع له. {بِمَ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني في الدنيا من المعاصي , وقد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوماً لإحساسها به كإحساسها بذوق الطعام , قال ابن أبي ربيعة: (فذُقْ هجرها إن كنت تزعم أنه ... رشاد ألا يا رب ما كذب الزعم)

15

{إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم

خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} قوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئَايَاتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: يصدق بحجتنا , قاله ابن شجرة. الثاني: يصدق بالقرآن وآياته , قاله ابن جبير. {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً} فيه وجهان: أحدهما: الذين إذا دعوا إلى الصلوات الخمس بالأذان أو الإقامة أجابوا إليها قاله أبو معاذ , لأن المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من أبواب المساجد. الثاني: إذا قرئت عليهم آيات القرآن خضعوا بالسجود على الأرض طاعة لله وتصديقاً بالقرآن. وكل ما سقط على شيء فقد خر عليه قال الشاعر: (وخر على الألاءِ ولم يوسد ... كأن جبينه سيف صقيل) {وَسَبَّحُواْ بِحْمْدِ رَبِّهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: معناه صلوا حمداً لربهم , قاله سفيان. الثاني: سبحوا بمعرفة الله وطاعته , قاله قتادة. {وَهُمْ لاَ يَستَكْبِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: عن عبادته , قاله يحيى بن سلام. الثاني: عن السجود كما استكبر أهل مكة عن السجود له , حكاه النقاش. قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عِنِ الْمَضَاجِعِ} أي ترتفع عن مواضع الاضطجاع قال ابن رواحة: (يبيت يجافي جنبه عن فِراشِه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع) وفيما تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجله قولان: أحدهما: لذكر الله إما في صلاة أو في غير صلاة قاله ابن عباس والضحاك.

الثاني: للصلاة - روى ميمون بن شبيب عن معاذ بن جبل قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال: (إِنْ شِئْتَ أَنبَأْتُكَ بَأبوابِ الْخَيرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الخَطِيئَة وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيلِ) ثم تلا هذه الآية.

وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم لأجلها أربعة أقاويل: أحدها: التنفل بين المغرب والعشاء , قاله قتادة وعكرمة. الثاني: صلاة العشاء التي يقال لها صلاة العتمة , قاله الحسن وعطاء. الثالث: صلاة الصبح والعشاء في جماعة , قاله أبو الدرداء وعبادة. الرابع: قيام الليل , قاله مجاهد والأوزاعي ومالك وابن زيد. {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} فيه وجهان: أحدهما: خوفاً من حسابه وطمعاً في رحمته. الثاني: خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه. ويحتمل ثالثاً: يدعونه في دفع ما يخافون والتماس ما يرجون ولا يعدلون عنه في خوف ولا رجاء. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يؤتون الزكاة احتساباً لها , قاله ابن عباس. الثاني: صدقة يتطوع بها سوى الزكاة , قاله قتادة. الثالث: النفقة في طاعة الله , قال قتادة: أنفقوا مما أعطاكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها. الرابع: أنها نفقة الرجل على أهله. قوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه للذين تتجافي جنوبهم عن المضاجع , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه للمجهدين قاله تبيع. وفي {قُرَّةِ أَعْيُنٍ} التي أخفيت لهم أربعة أوجه: أحدها: رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم , (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنِي أَعْدَدْتُ لِعبَادي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَينٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ اقْرَأُواْ إِنْ شِئْتُم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}) الآية. الثاني: أنه جزاء قوم أخفوا عملهم فأخفى الله ما أعده لهم. قال الحسن بالخفية: خفية وبالعلانية علانية. الثالث: أنها زيادة تحف من الله ليست في حياتهم يكرمهم بها في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات , قاله ابن جبير. الرابع: أنه زيادة نعيمهم وسجود الملائكة لهم , قاله كعب. ويحتمل خامساً: اتصال السرور بدوام النعيم. {جَزَآءً بِمَ كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يعني من فعل الطاعات واجتناب المعاصي.

18

{أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} المؤمن هنا علي بن أبي طالب

رضي الله عنه والفاسق عقبة بن أبي معيط قال ابن عباس: سابّ عقبة علياً فقال أنا أبسط منك لساناً وأحدّ منك سناناً وأملأ منك حشواً فقال له علي كرم الله وجهه: ليس كما قلت يا فاسق فنزلت , فيهما هذه الآية. {لاَ يَسْتَوُونَ} قال قتادة: لا والله لا يستوون لا في الدينا ولا عند الموت ولا في الآخرة. قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} أما العذاب الأدنى ففي الدنيا وفيه سبعة أقاويل: أحدها: أنها مصائب الدنيا في الأنفس والأموال , قاله أُبي. الثاني: القتل بالسيف , قاله ابن مسعود. الثالث: أنه الحدود , قاله ابن عباس. الرابع: القحط والجدب , قاله إبراهيم. الخامس: عذاب القبر , قاله البراء بن عازب ومجاهد. السادس: أنه عذاب الدنيا كلها , قاله ابن زيد. السابع: أنه غلاء السعر والأكبر خروج المهدي , قاله جعفر الصادق. ويحتمل ثامناً: أن العذاب الأدنى في المال , والأكبر في الأنفس. والعذاب الأكبر عذاب جهنم في الآخرة. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يرجعون إلى الحق , قاله إبراهيم. الثاني: يتوبون من الكفر , قاله ابن عباس.

23

{ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}

قوله تعالى: {وَلَقْدَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكَتِابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى ولقد لقيته ليلة الإسراء روى أبو العالية الرياحي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رَأيتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى بْنَ عمرانَ رَجُلاً طُوَالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِن رِجَالِ شَنُوءَةَ. وَرَأَيْتُ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رَجُلاً مَرْبُوعَ الخَلْقِ إِلَى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأُسِ) قال أبو العالية قد بين الله ذلك في قوله: {وَاسْأَلْ مِنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا}. الثاني: فلا تكن يا محمد في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها. الثالث: فلا تكن في شك من لقاء موسى في الكتاب , قاله مجاهد والزجاج. الرابع: فلا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقيه موسى , قاله الحسن. الخامس: فلا تكن في شك من لقاء موسى لربه حكاه النقاش.

{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} فيه وجهان: أحدهما: جعلنا موسى , قاله قتادة. الثاني: جعلنا الكتاب , قاله الحسن. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فيه وجهان: أحدهما: أنهم رؤساء في الخير تبع الأنبياء , قاله قتادة. الثاني: أنهم أنبياء , وهو مأثور. {لَمَّا صَبَرُواْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: على الدنيا , قاله سفيان. الثاني: على الحق , قاله ابن شجرة. الثالث: على الأذى بمصر لما كلفوا ما لا يطيقون , حكاه النقاش. {وَكَانُوا بِئَايَاتِناَ} يعني بالآيات التسع {يُوقِنُونَ} أنها من عند الله. قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} الآية فيها وجهان: أحدهما: يعني بين الأنبياء وبين قومهم , حكاه النقاش. الثاني: يقضي بين المؤمنين والمشركين فيما اختلفوا فيه من الإيمان والكفر , قاله يحيى بن سلام.

26

{أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون} قوله تعالى: {نَسُوقُ الْمَآءَ} فيه وجهان: أحدهما: بالمطر والثلج. الثاني: بالأنهار والعيون. {إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها الأرض اليابسة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنها الأرض التي أكلت ما فيها من زرع وشجر، قاله ابن شجرة. الثالث: أنها الأرض التي لا يأتيها الماء إلا من السيول، قاله ابن عباس. الرابع: أنها أرض أبْينَ لا تنبت، قاله مجاهد. الخامس: أنها قرى نبيا بين اليمن والشام، قاله الحسن. وأصل الجرز الانقطاع مأخوذ من قولهم سيف جراز أي قطاع وناقة جراز أي كانت تأكل كل شيء لأنها لا تبقي شيئاً إلا قطعته بفيها. ورجل جروز أكول قال الراجز: (حبُّ جروز وإذا جاع بكى ... يأكل التمر ولا يلقى النوى)

وتأول ابن عطاء هذه الآية على أنه توصل بركات المواعظ إلى القلوب القاسية.

28

{ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه فتح مكة , قاله الفراء. الثاني: أن الفتح انقضى بعذابهم في الدنيا , قاله السدي. الثالث: الحكم بالثواب والعقاب في القيامة , قاله مجاهد. قال الحسن لم يبعث الله نبياً إلا وهو يحذر من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيمَانهُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الذي قتلهم خالد بن الوليد يوم فتح مكة من بني كنانة , قاله الفراء. الثاني: أن يوم الفتح يوم القيامة , قاله مجاهد. الثالث: أن اليوم الذي يأتيهم من العذاب , قاله عبد الرحمن بن زيد. {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي لا يؤخرون بالعذاب إذا جاء الوقت. {فَأَعْرضْ عَنهُمْ} الآية. قال قتادة: نزلت قبل أن يؤمر بقتالهم , ويحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أعرض عن أذاهم وانتظر عقابهم. الثاني: أعرض عن قتالهم وانتظر أن يؤذن لك في جهادهم. الثالث: فأعرض بالهجرة وانتظر ما يمدك به من النصرة، والله أعلم.

سورة الأحزاب بسم الله الرحمن الرحيم

الأحزاب

{يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} وهذا وإن كان معلوماً من حاله ففي أمره به أربعة أوجه: أحدهما: أن معنى هذا الأمر الإكثار من اتقاء الله في جهاد أعدائه. الثاني: استدامة التقوى على ما سبق من حاله. الثالث: أنه خطاب توجه إليه والمراد به غيره من أمته. الرابع: أنه لنزول هذه الآية سبباً وهو ما روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة ليجددوا خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد بينه وبينهم فنزلوا عند عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس ومعتب بن قشير وائتمروا بينهم وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضوا عليه أموراً كره جميعها فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فأنزل الله: {يَأَيُّهَا الَّنبِيُّ اتقِ اللَّهَ} يعني في نقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة المشروطة لهم.

{وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ} من أهل مكة. {وَالْمُنَافِقِينَ} من أهل المدينة فيما دعوا إليه. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} يحتمل وجهين: أحدهما: عليماً بسرائرهم حكيماً بتأخيرهم. الثاني: عليماً بالمصلحة حكيماً في التدبير.

4

{ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما} قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ} فيه ستة أقاويل: أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوماً يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه إن له قلبين قلباً معكم وقلباً معهم فأنزل الله هذه تكذيباً لهم؛ قاله ابن عباس ويكون معناه ما جعل الله لرجل من جسدين. الثاني: أن رجلاً من مشركي قريش من بني فهر قال: إن في جوفي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد وكذب فنزلت فيه , قاله مجاهد. ويكون معناه: ما جعل الله لرجل من عقلين. الثالث: أن جميل بن معمر ويكنى أبا معمر من بني جُمَح كان أحفظ الناس لما يسمع وكان ذا فهم ودهاء فقالت قريش ما يحفظ جميل ما يحفظ بقلب واحد إن له قلبين فلما كان يوم بدر وهزموا أفلت وفي يديه إحدى نعليه والأخرى في رجليه فلقيه أبو سفيان بشاطىء البحر فاستخبره فأخبره أن قريشا قتلوا وسمى من قتل من

أشرافهم، قال له: إنه قد ذهب عقلك فما بال نعليك إحداهما في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما كنت أظنها إلا في رجلي فظهر لهم حاله فنزلت فيه الآية , قاله السدي ويكون معناه: ما جعل الله لرجل من فهمين. الرابع: أن رجلاً كان يقول إن لي نفسين نفساً تأمرني ونفساً تنهاني فنزل ذلك فيه , قاله الحسن ويكون معناه: ما جعل الله لرجل من نفسين. الخامس: أنه مثل ضربه الله لزيد بن حارثة حين تبناه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعتقه فلما نزل تحريم التبنّي منع من ادعائه ولداً ونزل فيه {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنَ قَلْبِينِ} يقول: ما جعل الله لرجل من أبوين , كذلك لا يكون لزيد أبوين حارثة ومحمد صلى الله عليه وسلم , قاله مقاتل بن حيان. وفيه إثبات لمذهب الشافعي في نفي الولد عن أبوين ويكون معناه: ما جعل الله لرجل من أبوين. السادس: معناه: أنه لا يكون لرجل قلب مؤمن معنا وقلب كافر علينا لأنه لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب واحد ويكون معناه: ما جعل الله لرجل من دينين , حكاه النقاش. {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلآئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} وهو أن يقول لزوجته أنت عليّ كظهر أمي , فهذا ظهار كانوا في الجاهلية يحرمون به الزوجات ويجعلونهن في التحريم كالأمهات فأبطل الله بذلك أن تصير محرمة كالأم لأنها ليست بأم وأوجب عليه بالظهار منها إذا صار فيه عامداً كفارة ذكرها في سورة المجادلة ومنعه من إصابتها حتى يكفر وسنذكر ذلك في موضعه من هذا الكتاب. {وَمَا جَعلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} يعني بذلك أدعياء النبي. قال مجاهد كان الرجل في الجاهلية يكون ذليلاً فيأتي ذا القوة والشرف فيقول: أنا ابنك فيقول نعم فإذا قبله واتخذه ابناً أصبح أعز أهله وكان زيد بن حارثة منهم قد تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يصنع أهل الجاهلية فلما جاءت هذه الآية أمرهم الله أن يلحقوهم بآبائهم فقال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} في الإسلام.

{ذَلِكُم قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ} أن امرأته بالظهار أُمُّه وأن دَعيه بالتبني ابنه {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} في أن الزوجة لا تصير في الظهار أُمّاً والدعيُّ لا يصير بالتبني ابناً. {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} يعني في إلحاق النسب بالأب , وفي الزوجة أنها لا تصير كالأم. قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبآئِهِمْ} يعني التبني: قال عبد الله بن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} قال السدي فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى حارثة وعرف كل نسبه فأقرّوا به وأثبتوا نسبه. {هُوَ أَقْسَطُ عِنَد اللهِ} أي أعدل عند الله قولاً وحكماً. {فَإِنَ لَّمْ تَعْلَمُواْءَابَآءَهُمْ فإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فانسبوهم إلى أسماء إخوانكم ومواليكم مثل عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم وعبد العزيز , قاله مقاتل بن حيان. الثاني: قولوا أخونا فلان وولينا فلان , قاله يحيى بن سلام. وروى محمد بن المنكدر قال: جلس نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم جابر بن عبد الله الأنصاري فتفاخروا بالآباء فجعل كل واحد منهم يقول أنا فلان بن فلان حتى انتهوا إلى سلمان فقال أنا سلمان ابن الإسلام فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال صدق سلمان وأنا عمر بن الإسلام وذلك قوله: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}. الثالث: إنه إن لم يُعرف لهم أب ينسبون إليه كانوا إخواناً إن كانوا أحراراً , وموالي إن كانوا عتقاء كما فعل المسلمون فيمن عرفوا نسبه وفيمن لم يعرفوه فإن المقداد بن عمرو كان يقال له المقداد بن الأسود بن عبد يغوث الزهري فرجع إلى أبيه وسفيان بن معمر كانت أمه امرأة معمر في الجاهلية فادعاه ابناً ثم أسلم سفيان وشهد بدراً فنسب إلى أبيه ونسبه في بني زريق من الأنصار. وممن لم يعرف له أب سالم، مولى أبي حذيفة ونسب إلى ولاء أبي حذيفة. {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأَتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ما أخطأتم قبل النهي وما تعمدت قلوبكم بعد النهي في هذا وغيره، قاله مجاهد.

الثاني: ما أخطأتم به ما سهوتم عنه، وما تعمدمت قلوبكم ما قصدتموه عن عمد، قاله حبيب بن أبي ثابت. الثالث: ما أخطأتم به أن تدعوه إلى غير أبيه , قاله قتادة. {وَكَانَ اللَّهُ غَفوراً رَحيماً} أي غفوراً عما كان في الشرك , رحيماً بقبول التوبة في الإسلام.

6

{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا} قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه أولى بهم من بعضهم ببعض لإرساله إليهم وفرض طاعته عليهم , وقاله مقاتل بن حيان. الثاني: أنه أولى بهم فيما رآه له بأنفسهم , قاله عكرمة. الثالث: أنه كان في الحرف الأول: هو أب لهم. وكان سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزاة تبوك أمرالناس بالخروج فقال قوم منهم نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله فيهم هذه الآية , حكاه النقاش. الرابع: أنه أولى بهم في قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم على ما رواه عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِن مُؤمنٍ إِلاَّ أَنَا أَولَى النَّاس بِهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ اقْرَأُوا إِن شِئْتُم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْتَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَن كَانُوا , وَإِن تَرَكَ دَيناً أَوْ ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ).

{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} يعني من مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه هن كالأمهات في شيئين. أحدهما: تعظيم حقهن. الثاني: تحريم نكاحهن. وليس كالأمهات في النفقة والميراث. واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر على الوجهين: أحدهما: هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن. الثاني: أن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن فكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة فيصير محرماً يستبيح النظر. وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه: أحدها: تثبت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: لا يثبت لهن ذلك بل هذه كسائر النساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن وقال: أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة. الثالث: أن من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها ويحرم نكاحها وإن طلقها حفاظاً لحرمته وحراسة لخلوته ومن لم يدخل بها لم يثبت لها هذه الحرمة , وقد همّ عمر بن الخطاب برجم امرأة فارقها النبي صلى الله عليه وسلم فنكحت بعده فقالت: لم هذا وما ضرب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سميت للمؤمنين أماً , فكف عنها. وإذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فيما ذكرناه فقد اختلف فيهن هل هن أمهات المؤمنات على وجهين: أحدهما: أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء. الثاني: أن هذا حكم يختص بالرجال المؤمنين دون النساء لاختصاص الحظر

والإباحة بالرجال دون النساء. وقد روى الشعبي عن مسروق عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أماه فقالت لست بأم لك أنا أم رجالكم. {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجرِينَ}. قيل إنه أراد بالمؤمنين الأنصار , وبالمهاجرين قريشاً. وفيه قولان: أحدهما: أن هذا ناسخ للتوارث بالهجرة حكى سعيد عن قتادة قال كان نزل في الأنفال {وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِمْ مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ} فتوارث المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المهاجر المسلم شيئاً ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ}. الثاني: أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين روى هشام بن عمرو عن أبيه عن الزبير بن العوام قال أنزل فينا خاصة معشر قريش والأنصار لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم , فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخيت أنا كعب بن مالك , فلما كان يوم أُحد قتل كعب بن مالك فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا. قوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: في القرآن , قاله قتادة. الثاني: في اللوح المحفوظ الذي قضى أحوال خلقه , قاله ابن بحر. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} يعني أن التوارث بالأنساب أولى من التوارث بمؤاخاة المؤمنين وبهجرة المهاجرين ما لم يختلف بالمتناسبين دين فإن اختلف بينهما الدين فلا توارث بينهما روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتِينِ).

{إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} فيه أربعة أوجه أحدها: أنه أراد الوصية للمشرك من ذوي الأرحام , قاله قتادة. الثاني: أنه عنَى الوصية للحلفاء الذي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار , قاله مجاهد. الثالث: أنه أراد الذين آخيتم تأتون إليهم معروفاً , قاله مقاتل بن حيان. الرابع: أنه عنى وصية الرجل لإخوانه في الدين، قاله السدي. {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكَتَابِ مَسْطُوراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كان التوارث بالهجرة والمؤاخاة في الكتاب مسطوراً قبل النسخ. والثاني: كان نسخه بميراث أولي الأرحام في الكتاب مسطوراً قبل التوارث. الثالث: كان أن لا يرث مسلم كافرا في الكتاب مسطوراً. وفي {الْكِتَابِ} أربعة أوجه: أحدها: في اللوح المحفوظ , قاله إبراهيم التيمي. الثاني: في الذكر , قاله مقاتل بن حيان. الثالث: في التوراة أمر بني اسرائيل أن يصنعوا مثله في بني لاوي بن يعقوب حكاه النقاش. الرابع: في القرآن , قاله قتادة.

7

{وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما} قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ميثاقهم على قومهم أن يؤمنوا بهم , قاله ابن عباس. الثاني: ميثاق الأمم على الأنبياء أن يبلغوا الرسالة إليهم , قاله الكلبي. الثالث: ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً , قاله قتادة. {وَمِنكَ وَمِن نَّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِنَ نُّوحٍ} قال (كُنتُ أَوَّلَهُم فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُم في البَعْثِ). {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثاقاً غَلِيظاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الميثاق الغليظ تبليغ الرسالة. الثاني: يصدق بعضهم بعضاً. الثالث: أن يعلنوا أن محمداً رسول الله , ويعلن محمد أنه لا نبي بعده. وفي ذكر من سمى من الأنبياء مع دخولهم في ذكر النبيين وجهان: أحدهما: تفضيلاً لهم. الثاني: لأنهم أصحاب الشرائع. قوله تعالى: {لِّيَسْأَلَ الصَادِقِينَ عَنَ صِدْقِهِمْ} فيه أربعة أوجه:

أحدها: ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم , حكاه النقاش. الثاني: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم , حكاه النقاش ابن عيسى. الثالث: ليسأل الأنبياء عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم , حكاه ابن شجرة. الرابع: ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة.

9

{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} قوله تعالى: {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} قال ابن عباس يعني يوم الأحزاب حين أنعم الله عليهم بالصبر ثُم بالنصر. {إِذْ جَآءَتْكُم جُنُودٌ} قال مجاهد: جنود الأحزاب أبو سفيان وعيينة بن حصين وطلحة بن خويلد وأبو الأعور السلمي وبنو قريظة. {فَأرْسَلْنَا عَلَيِهِمْ رِيحاً} قال مجاهد: هي الصَّبا أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم وروى ابن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نُصِرْتُ بِالصّبَا وأُهْلِكَت عَادٌ بِالدَّبُورِ) وكان من دعائه يوم الأحزاب (اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَورَتَنَا وَآمِن رَوْعَتَنَا) فضرب الله وجوه أعدائه بريح الصَبا.

{وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} قال مجاهد وقتادة: هم الملائكة. وفي ما كان منهم أربعة أقاويل: أحدها: تفريق كلمة المشركين وإقعاد بعضهم عن بعض. الثاني: إيقاع الرعب في قلوبهم , حكاه ابن شجرة. الثالث: تقوية نفوس المسلمين من غير أن يقاتلوا معهم وأنها كانت نصرتهم بالزجر حتى جاوزت بهم مسيرة ثلاثة أيام فقال طلحة بن خويلد: إن محمداً قد بدأكم بالسحر فالنجاة النجاة. {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} يعني من حفر الخندق والتحرز من العدو. قوله تعالى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ} يعني من فوق الوادي وهو أعلاه من قبل المشرق , جاء منه عوف بن مالك في بني نضر , وعيينة بن حصين في أهل نجد , وطلحة بن خويلد الأسدي في بني أسد. {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} يعني من بطن الوادي من قبل المغرب أسفل أي تحتاً من النبي صلى الله عليه وسلم , جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة , ويزيد بن جحش على قريش , وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق. {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} فيه وجهان: أحدهما: شخصت. الثاني: مالت: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ} أي زالت عن أماكنها حتى بلغت القلوب

الحناجر وهي الحلاقيم واحدها حنجرة. وقيل إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال يوم الخندق: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تأمر بشيء تقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال: (نعم قُولُواْ: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتَنَا وَآمِنْ رَوْعَتَنَا) قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزموا بها. {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} فيه وجهان: أحدهما: فيما وعدوا به من نصر , قاله السدي. الثاني: أنه اختلاف ظنونهم فظن المنافقون أن محمداً وأصحابه يُستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون، قاله الحسن.

11

{هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} قوله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالحصر , حكاه النقاش. الثاني: بالجوع فقد أصابهم بالخندق جوع شديد , قاله الضحاك. الثالث: امتحنوا في الصبر على إيمانهم وتميز المؤمنون عن المنافقين , حكاه ابن شجرة. وحكى ابن عيسى أن {هُنالِكَ} للبعد من المكان , وهناك للوسط وهنا للقريب. {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} فيه أربعة أوجه: أحدها: حركوا بالخوف تحريكاً شديداً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه اضطرابهم عما كانوا عليه فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه.

الثالث: أنه حركهم الأمر بالثبات والصبر , وهو محتمل. الرابع: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق , قاله الضحاك. قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن المرض النفاق , قاله قتادة. الثاني: أنه الشرك , قاله الحسن. {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} حكى السدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحفر الخندق لحرب الأحزاب فبينا هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول على صفاة فطار منها كهيئة الشهاب من نار في السماء , وضرب الثاني فخرج مثل ذلك , وضرب الثالث فخرج مثل ذلك فرأى ذلك سلمان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (رَأَيتَ مَا خَرَجَ فِي كُلّ ضَرْبَةٍ ضَرَبْتَهَا) قال: نعم يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تُفْتَحُ لَكُمْ بِيضُ المَدَائِنِ وَقُصُورُ الرُّومِ وَمَدَائِنُ اليَمن) قال ففشا ذلك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحدثواْ به , فقال رجل من الأنصار يدعى قشير بن معتب. وقال غيره قشير بن عدي الأنصاري من الأوس: وعدنا محمد أن تفتح لنا مدائن اليمن وقصور الروم وبيض المدائن وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل؟ هذا والله الغرور فأنزل الله هذه الآية. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالت طَّآئِفَةٌ مِّنهُمْ} يعني من المنافقين قيل إنهم من بني سليم , وقيل إنه من قول أوس بن فيظي ومن وافقه على رأيه , ذكر ذلك يزيد بن رومان , وحكى السدي أنه عبد الله بن أُبي وأصحابه. {يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مَقُامَ لَكُم فَارْجِعُواْ} قرأ حفص عن عاصم بضم الميم , والباقون بالفتح. وفي الفرق بينهما وجهان:

أحدهما: وهو قول الفراء أن المقام بالفتح الثبات على الأمر , وبالضم الثبات في المكان. الثاني: وهو قول ابن المبارك انه بالفتح المنزل وبالضم الإقامة. وفي تأويل ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أي لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى دين مشركي العرب , قاله الحسن. الثاني: لا مقام لكم على القتال فارجعوا إلى طلب الأمان , قاله الكلبي. الثالث: لا مقام في مكانكم فارجعوا إلى مساكنكم , قال النقاش. والمراد بيثرب المدينة وفيه قولان: أحدهما: أن يثرب هي المدينة , حكاه ابن عيسى. الثاني: أن المدينة في ناحية من يثرب , قاله أبو عبيدة وقد روى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى , عن البراء بن عازب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَن قَالَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ , هَي طَابَةُ) ثلاثة مرات. {وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ} قال السدي: الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة , أحدهما أبو عرابة بن أوس , والآخر أوس بن فيظي. قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلاً بغير إذن. {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قاصية من المدينة نخاف على عورة النساء والصبيان من السبي، قاله قتادة.

الثاني: خالية ليس فيها إلا العورة من النساء , قاله الكلبي والفراء , مأخوذ من قولهم قد اعور الفارس إذا كان فيه موضع خلل للضرب قال الشاعر: 89 (له الشدة الأولى إذا القرن أعورا} 9 الثالث: مكشوفة الحيطان نخاف عليها السراق والطلب , قاله السدي والعرب تقول قد أعور منزلك إذا ذهب ستره وسقط جداره وكل ما كره انكشافه فهو عندهم عورة , وقرأ ابن عباس: إن بيوتنا عَوِرة , بكسر الواو , أي ممكنة العورة. ثم قال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} تكذيباً لهم فيما ذكروه. {إِن يُريدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} يحتمل وجهين: أحدهما: فراراً من القتل. الثاني: من الدِّين. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار من بني حارثة وبني سلمة , همّوا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق وفيهم أنزل الله {إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أن تَفْشَلاَ} [آل عمران: 122] الآية. فلما نزلت هذه الآية قالوا: والله ما سرّنا ما كنا هممنا به إن كان الله ولينا.

14

{ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا} أي لو دخل على المنافقين من أقطار المدينة ونواحيها. {ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأَتَوهَا} فيه وجهان: أحدهما: ما تلبثوا عن الإجابة إلى الفتنة إلا يسيراً , قاله ابن عيسى. الثاني: ما تلبثوا بالمدينة إلا يسيراً حتى يعدموا , قاله السدي. قوله: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ} الآية، فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنهم عاهدوه قبل الخندق وبعد بدر , قاله قتادة. الثاني: قبل نظرهم إلى الأحزاب , حكاه النقاش. الثالث: قبل قولهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا. وحكي عن ابن عباس أنهم بنو حارثة. {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً} يحتمل وجهين: أحدهما مسئولاً عنه للجزاء عليه. الثاني: للوفاء به. قوله تعالى: {قُل مَن الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّن اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}. فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إن أراد بكم هزيمة أو أراد بكم نصراً , حكاه النقاش. الثاني: إن أراد بكم عذاباً , أو أراد بكم خيراً , قاله قتادة. الثالث: إن أراد بكم قتلاً أو أراد بكم توبة , قاله السدي.

18

{قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا} قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} يعني المثبطين من المنافقين , قيل إنهم عبد الله بن أُبي وأصحابه. {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِليْنَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم المنافقون قالوا للمسلمين ما محمد إلا أكلة رأس وهو هالك ومن معه فهلم إلينا. الثاني: أنهم اليهود من بني قريظة قالوا لإخوانهم من المنافقين هلم إلينا أي تعالوا إلينا وفارقوا محمداً فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحداً. الثالث: ما حكاه ابن زيد أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من عنده يوم

الأحزاب فوجد أخاه بين يديه شواء ورغيف فقال: أنت هكذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف , فقال له أخوه كان من أبيه وأمه. هلّم إليّ قد تُبع بك وبصاحبك أي قد أحيط بك وبصاحبك , فقال له: كذبت والله لأخبرنه بأمرك وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}. {وَلاَ يَأْتُونَ البََأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: لا يحضرون القتال إلا كارهين وإن حضروه كانت أيديهم مع المسلمين وقلوبهم مع المشركين قاله قتادة. الثاني: لا يشهدون القتال إلا رياء وسمعة , قاله السدي , وقد حكي عن الحسن في قوله تعالى: {وَلاَ يَذْكُرُونَ إلاَّ قَلِيلاً} إنما قل لأنه كان لغير الله عز وجل. قوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيكُمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أشحة بالخير , قاله مجاهد. الثاني: بالقتال معكم , قاله ابن كامل. الثالث: بالغنائم إذا أصابوها , قاله السدي. الرابع: أشحة بالنفقة في سبيل الله , قاله قتادة. {فَإِذَا جَآءَ الْخَوفُ} فيه قولان: أحدهما: إذا جاء الخوف من قتال العدو إذا أقبل , قاله السدي. الثاني: الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم إذا غلب , قاله ابن شجرة. {رَأيْتُهُمْ يَنْظُرُونَ إِليَكَ} خوفاً من القتال على القول الأول , ومن النبي صلى الله عليه وسلم على القول الثاني. {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ} يحتمل وجهين: أحدهما: تدور أعينهم لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة. الثاني: تدور أعينهم لشدة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة. {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} فيه وجهان:

أحدهما: أي رفعوا أصواتهم عليكم بألسنة حداد أي شديدة ذربة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَعَنَ اللَّهُ السَّالِقَةَ وَالخَارِقَةُ وَالحَالِقَةَ) يعني بالسالقة التي ترفع صوتها بالنياحة والخارقة التي تخرق ثوبها في المصيبة وبالحالقة التي تحلق شعرها. الثاني: معناه آذوكم بالكلام الشديد. والسلق الأذى , قاله ابن قتيبة. قال الشاعر: (ولقد سلقن هوازنا ... بنواهلٍ حتى انحنينا) وقال الخليل: سلقته باللسان إذا أسمعته ما يكره وفي سلقهم بألسنةٍ حداد وجهان: أحدهما: نزاعاً في الغنيمة , قاله قتادة. الثاني: جدالاً عن أنفسهم , قاله الحسن. {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: على قسمة الغنيمة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: على المال ينفقونه في سبيل الله , قاله السدي. الثالث: على النبي صلى الله عليه وسلم بظفره. {أَوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ} يعني بقلوبهم. {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} يعني حسناتهم أن يثابوا عليها لأنهم لم يقصدوا وجه الله تعالى بها.

{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} فيه وجهان: أحدهما: وكان نفاقهم على الله هيناً. الثاني: وكان إحباط عملهم على الله هيناً.

20

{يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا} قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابِ لَمْ يَذْهَبُواْ} يعني أن المنافقين يحسبون أبا سفيان وأحزابه من المشركين حين تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مغلوبين لم يذهبوا عنه وأنهم قريب منهم ثم فيه وجهان: أحدهما: أنهم كانواعلى ذلك لبقاء خوفهم وشدة جزعهم. الثاني: تصنعاً للرياء واستدامة التخوف. {وَإِنَ يَأْتِ الأَحْزَابُ} يعني أبا سفيان وأصحابه من المشركين. {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعرْابِ} أي يود المنافقون لو أنهم في البادية مع الأعراب حذراً من القتل وتربصاً للدوائر. {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} أي عن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحدثون: أما هلك محمد وأصحابه , أما غلب أبو سفيان وأحزابه. {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُم مَا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: إلا كرهاً. الثاني: إلا رياءً.

21

{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوُلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} فيه وجهان:

أحدهما: أي مواساة عند القتال , قاله السدي. الثاني: قدوة حسنة يتبع فيها , والأسوة الحسنة المشاركة في الأمر يقال هو مواسيه بماله إذا جعل له نصيباً. وفي المراد بذلك وجهان: أحدهما: الحث على الصبر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه. الثاني: التسلية لهم فيما أصابهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم شُج وكُسِرَت رباعيته وقتل عمه حمزة. {لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} فيه وجهان: أحدهما: لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر قاله ابن عيسى. الثاني: لمن كان يرجوا الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال , قاله ابن جبير. {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} يحتمل وجهين: أحدهما: أي استكثر من العمل بطاعته تذكراً لأوامره. الثاني: أي استكثر من ذكر الله خوفاً من عقابه ورجاء لثوابه واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين: أحدهما: المنافقون عطفاً عل ما تقدم من خطابهم. الثاني: المؤمنون لقوله: {لِمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}. واختلف في هذه الأسوة بالرسول هل هي على الإِيجاب أو على الاستحباب على قولين: أحدهما: على الإيجاب حتى يقوم دليل علىالاستحباب. الثاني: على الاستحباب حتى يقول دليل على الإيجاب. ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين , وعلى الاستحباب في أمور الدنيا. قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابِ ... } الآية. فيه قولان: أحدهما: أن الله وعدهم في سورة البقرة فقال {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم} [البقرة: 214] الآية. فلما رأواْ أحزاب المشركين يوم الخندق {قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قاله قتادة.

الثاني: ما رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال: (أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةُ عَلَيهَا يَعْنِي قُصُورِ الحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسرَى فَأبْشِرُوا بِالنَّصْرِ) فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ} الآية. { ... إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} فيه قولان: أحدهما: إلا إيماناً وتسلمياً للقضاء , قاله الحسن. الثاني: إلا إيماناً بما وعد الله وتسليماً لأمر الله.

23

{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما} قوله تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم بايعوا الله على ألا يفرُّوا، فصدقوا في لقائهم العدو يوم أحد , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدراً فعاهدوا الله ألا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب يشهدها أو أمر بها، فوفوا بما عاهدوا الله عليه , قاله أنس بن مالك. {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس ومنه قول بشر بن أبي خازم: (قضى نحب الحياة وكلُّ حي ... إذا يُدْعى لميتته أجابا)

الثاني: فمنهم من قضى عهده قتل أو عاش , ومنهم من ينتظر أن يقضيه بقتال أو صدق لقاء , قاله مجاهد. الثالث: فمنهم من قضى نذره ومنه قول الراعي: (حتى تحنّ إلى ابن أكرمها ... حسباً وكن منجز النحب) فيكون النحب على التأويل الأول الأجل , وعلى الثاني العهد , وعلى الثالث النذر. {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: ما غيروا كما غير المنافقون , قاله ابن زيد. الثاني: ما بدلوا ما عاهدوا الله عليه من الصبر ولا نكثوا بالفرار , وهذا معنى قول الحسن. قوله: {لِّيَجْزِيَ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: الذين صدقوا لما رأواْ الأحزاب {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية. الثاني: الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قبل فثابوا ولم يغيروا. {وَيُعَذِّبُ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ} فيه وجهان: أحدهما: يعذبهم إن شاء ويخرجهم من النفاق إن شاء , قاله قتادة. الثاني: يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يميتهم على نفاقهم فيعذبهم في الآخرة إن شاء , قاله السدي. {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} قال السدي يخرجهم من النفاق بالتوبة حتى يموتوا وهم تائبون.

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} يحتمل وجهين: أحدهما: غفرواً بالتوبة رحيماً بالهداية إليها. الثاني: غفوراً لما قبل التوبة رحيماً لما بعدها.

25

{ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَغَيظِهِمْ} يعني أبا سفيان وجموعه من الأحزاب. {بِغَيظِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: بحقدهم. الثاني: بغمّهم. {لَمْ يَنَالُواْ خَيراً} قال السدي لم يصيبوا من محمد وأصحابه ظفراً ولا مغنماً. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} فيه وجهان: أحدهما: بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه. حكى سفيان الثوري عن زيد عن مرة قال أقرأنا ابن مسعود هذا الحرف: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} بعلي بن أبي طالب. الثاني: بالريح والملائكة , قاله قتادة والسدي. {وََكَانَ اللَّهُ قَوِياً} في سلطانه. {عَزِيزاً} في انتقامه.

26

{وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا} قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْل الْكِتَابِ} هم بنو قريظة من اليهود ظاهرواْ أبا سفيان ومجموعة من الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عاونوه والمظاهرة

هي المعاونة. وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه فغزاهم بعد ستة عشر يوماً من الخندق قال قتادة نزل عليه جبريل وهو عند زينب بنت جحش يغسل رأسه فقال عفا الله عنك ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة فانهد إلى بني قريظة فإني قد قلعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال فسار إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى نزلوا على التحكيم في أنفسهم. وفيمن نزلوا على حكمه قولان: أحدهما: أنهم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن يقتل مقاتلوهم ويسبى ذراريهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه: آثرت المهاجرين بالعقار علينا , فقال: إنكم ذوو عقار وليس للمهاجرين فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (قُضِيَ فِيهِم بِحُكْمِ اللَّهِ) قاله قتادة. الثاني: أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحكموا سعداً لكن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فقال: (أَشِر عَلَيَّ فِيهِم) فقال: لو وليتني أمرهم لقتلت مقاتليهم ولسبيت ذراريهم ولقسمت أموالهم فقال: (وَالَّذِي نَفْسِ بِيَدِهِ لََقَدْ أَشَرتَ عَلَيَّ فِيهِم بِالَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ) وروي ذلك عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن أبيه. {مِن صَيَاصِيهِمْ} من حصونهم قال الشاعر:

(فأصبحت النسوان عقرى وأصبحت ... نساء تميم يبتدرْن الصياصيا.) وسميت بذلك لامتناعهم بها , ومنه سميت قرون البقر صياصي لامتناعها بها , وسميت شوكة الديك التي في ساقه صيصية. {وَقَذَفَ فِي قُُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} قال قتادة بصنيع جبريل بهم. {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} حكى عطية القرظي أنهم عُرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة فمن كان احتلم أو نبتت عانته قتل , فنظروا إليّ فلم تكن نبتت عانتي فتركت فقيل إنه قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله بقوله {فَرِيقاً تقتلون} وسبي سبعمائة وخمسين رجلاً وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله {وتأسرون فريقاً} وقال قتادة: قتل أربعمائة وسبى سبعمائة. {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُم وَأَمْوَالَهُم} يريد بالأرض النخل والمزارع , وبالدبار المنازل وبالأموال المنقولة. {وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُوهَا} فيها أربعة أقاويل: أحدها: أنها مكة , قاله قتادة. الثاني: خيبر , قاله السدي وابن زيد. الثالث: فارس والروم , قاله الحسن. الرابع: ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة , قاله عكرمة. {وَكَانَ اللَّهُ علََى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً} فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قديرٌ , قاله ابن اسحاق. الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى , قدير , قاله النقاش.

28

{يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما}

قوله تعالى: {يَأَيُّها النَبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا} الآية. وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه , واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين: أحدهما: خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن , ولم يخيرهن في الطلاق، قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنه خيّرهن بين الطلاق أو المقام معه، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل. روى عبد الله بن أبي ثورعن ابن عباس قال: قالت عائشة رضي الله عنها: أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه , فقال: (إنّي ذَاكَرٌ أَمْراً وَلاَ عَلَيك أَلاَّ تَعْمَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبُوَيكِ) وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم تلا آية التخيير فقالت أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي. وقال سعيد بن جبير: إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها. واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خمسة أقاويل: أحدها: لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة , فاختار الآخرة على الدنيا وقال: (اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ

المَساكِين) فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكنَّ على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره. حكاه أبو القاسم الصيمري. الثاني: لأنهن تغايرن عليه , فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرنَنّا شهراً فدخل عليّ بعد صبحة تسعة وعشرين , فقلت يا رسول الله: ألم تكن حلفت لتهجرننا شهراً؟ فقال: (إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا ,) ثم خنس الإبهام , ثم قال يا عائشة: (إِنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَن لاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيري أَبُويكِ) وخشي حداثة سني قلت: وما ذاك؟ قال (أُمِرْتُ أَن أَخَيِّرَكُنَّ). الثالث: أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أوّلهن أم سلمة فسألته ستراً معلماً , فلم يقدر عليه , وسألته ميمونة حلة يمانية , وسألته زينب بنت جحش ثوباً مخططاً وهو البرد اليماني , وسألته أم حبيبة ثوباً سحولياً , وسألته حفصة ثوباً من ثياب مصر , وسألته جويرية معجزاً , وسألته سودة قطيفة جبيرية , وكل واحدة منهن طلبت نصيباً إلاّ عائشة لم تطلب شيئاً , فأمر الله تعالى بتخييرهن , حكاه النقاش. الرابع: لأن أزواجه اجتمعن يوماً فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن: لو كنا عن غير النبي صلى الله عليه وسلم إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي , فأنزل الله تعالى آية التخيير , حكاه النقاش. الخامس: لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على ألا يتزوجن بعده , فلما أجَبْنَ إلى ذلك أمسكهن. قال مقاتل بن حيان: قاله الحسن وقتادة: وكان تحته يومئذ

تسع سوى الحميرية , خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة , هؤلاء خمس من قريش , وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية , وميمونة بنت الحارث الهلالية , وزينب بنت جحش الأسدية , وجويرية بنت الحارث المصطلقية. فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوضهن الله تعالى على صبرهن بأمرهن بأمرين: أحدهما: بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أَمَّهَاتُكُمْ} تعظيماً لحقوقهن وتأكيداً لحرمتهن. الثاني: أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال {لاَ يَحِلُّ لك النِّسَاءُ مِن بَعد ... } الآية. فكان تحريم طلاقهن مستداماً. وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شدته وقلة مكنته. ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين: أحدهما: أنه كان تحريمه عليهن باقياً لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن. الثاني: أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه , لأن علة التحريم الضيق والشدة , فإذا زالت زال موجبها. قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء , يعني اللاتي حظرن عليه , وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية. فأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلزمهم تخيير نسائهم فإن خيروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب. أحدها: إن اخترن الزوج فلا فرقة , وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية. وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي. الثاني: إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة , وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب , وهذا قول عليّ رضي الله عنه. الثالث: إن اخترن الزوج فهي تطليقة والزوج كأحد الخطاب , وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره , وهذا قول زيد بن ثابت.

30

{يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما} قوله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشةٍ مُّبَيِّنَةٍ} فيها قولان: أحدهما: الزنى , قاله السدي. الثاني: النشوز وسوء الخلق , قاله ابن عباس. {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} فيه قولان: أحدهما: أنه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة , قاله قتادة. الثاني: أنهما عذابان في الدنيا لعظم جرمهن بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: حدّان في الدنيا غير السرقة. وقال أبو عبيدة والأخفش: الضعفان أن يجعل الواحد ثلاثة , فيكون عليهن ثلاثة حدود لأن ضعف الواحد اثنان فكان ضِعْفا الواحد ثلاثة. وقال ابن قتيبة: المراد بالضعف المثل فصار المراد بالضعفين المثلين. وقال آخر: إذا كان ضعف الشيء مثليه وجب بأن يكون ضعفاه أربعة أمثاله. قال سعيد بن جبير: فجعل عذابهن ضعفين , وجعل على من قذفهن الحد ضعفين.

{وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أي هيناً. قوله عز وجل: {وَمَن يَقْنُتْ مِنُكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي تُطِع الله ورسوله والقنوت الطاعة. {وَتَعْمَلُ صَالِحاً} أي فيما بينها وبين ربها. {نُؤْتِهَا أَجرَهَا مَرَّتِين} أي ضعفين , كما كان عذابها ضعفين. وفيه قولان: أحدهما: أنهما جميعاً في الآخرة. الثاني: أن أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة. {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} فيه وجهان: أحدهما: في الدنيا , لكونه واسعاً حلالاً. الثاني: في الآخرة وهو الجنة. {كَرِيماً} لكرامة صاحبه , قاله قتادة.

32

{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا} قوله عز وجل: {يَا نِسَآءَ النَّبِيَّ لَسْتنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النِّسَآءِ} قال قتادة: من نساء هذه الأمة. {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} قال مقاتل: إنكن أحق بالتقوى من سائر النساء. {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} فيه ستة أوجه: أحدها: معناه فلا ترققن بالقول. الثاني: فلا ترخصن بالقول , قاله ابن عباس. الثالث: فلا تُلِن القول , قاله الفراء.

الرابع: لا تتكلمن بالرفث , قاله الحسن. قال متمم. (ولستُ إذا ما أحدث الدهر نوبة ... عليه بزوّار القرائب أخضعا) الخامس: هو الكلام الذي فيه ما يهوى المريب. السادس: هو ما يدخل من كلام النساء في قلوب الرجال , قاله ابن زيد. {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} فيه قولان: أحدهما: أنه شهوة الزنى والفجور , قاله عكرمة والسدي. الثاني: أنه النفاق , قاله قتادة. وكان أكثر من تصيبه الحدود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم المنافقون. {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: صحيحاً , قاله الكلبي. الثاني: عفيفاً , قاله الضحاك. الثالث: جميلاً. قوله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} قرئت على وجهين: أحدهما: بفتح القاف , قرأه نافع وعاصم , وتأويلها اقررن في بيوتكن , من القرار في مكان. الثاني: بكسر القاف: قرأها الباقون , وتأويلها كن أهل وقار وسكينة. {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وفي خمسة أوجه: أحدها: أنه التبختر، قاله ابن أبي نجيح. الثاني: كانت لهن مشية تكسرٍ وتغنج , فنهاهن عن ذلك , قاله قتادة , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (المَائِلاَتُ المُمِيلاَتُ: اللاَّئِي يَسْتَمِلْنَ قُلُوبَ الرِّجَالِ إلَيهِنَّ). الثالث: أنه كانت المرأة تمشي بين يدي الرجل , فذلك هو التبرج، قاله مجاهد.

الرابع: هو أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده ليواري قلائدها وعنقها وقرطها , ويبدو ذلك كله منها , فذلك هو التبرج , قال مقاتل بن حيان. الخامس: أن تبدي من محاسنها ما أوجب الله تعالى عليها ستره , حكاه النقاش وأصله من برج العين وهو السعة فيها. وفي {الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} أربعة أقاويل: أحدها: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام , قاله الشعبي وابن أبي نجيح. الثاني: زمان إبراهيم , قاله مقاتل والكلبي , وكانت المرأة في ذلك الزمان تلبس درعاً مفرجاً ليس عليها غيره وتمشي في الطريق , وكان زمان نمرود. الثالث: أنه ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمانمائة سنة , وكان نساؤهم أقبح ما تكون النساء , ورجالهم حسان , وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها , فهو تبرج الجاهلية الأولى: قاله الحسن. الرابع: أنه ما بين نوح وإدريس. روى عكرمة عن ابن عباس أن الجاهلية الأولى كانت ألف سنة. وفيه قولان: أحدهما: أنه كانت المرأة في زمانها تجمع زوجاً وخلما , والخلم الصاحب , فتجعل لزوجها النصف الأسفل ولخلمها نصفها الأعلى , ولذلك يقول بعض الخلوم: (فهل لك في البدال أبا خبيب ... فأرضى بالأكارع والعجُوز) الثاني: وهو مبدأ الفاحشة , وهو أن بطنين من بني آدم كان أحدهما يسكن السهل , والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً وفي النساء دمامة، وأن إبليس اتخذ لهم عيداً فاختلط أهل السهل بأهل الجبل فظهرت الفاحشة فيهم، فهو تبرج الجاهلية. قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وفي الرجس ها هنا ستة أقاويل: أحدها: الإثم، قاله السدي. الثاني: الشرك، قاله الحسن.

الثالث: الشيطان، قاله ابن زيد. الرابع: المعاصي. الخامس: الشك. السادس: الأقذار. وفي قوله تعالى {أَهْلَ الْبَيْتِ} - ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم , قاله أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم. الثاني: أنه عنى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة , قاله ابن عباس وعكرمة. الثالث: أنها في الأهل والأزواج , قاله الضحاك. {وَيُطَهّرَكُمْ تطْهِيراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من الإثم , قاله السدي. الثاني: من السوء , قاله قتادة. الثالث: من الذنوب , قاله الكلبي , ومعانيها متقاربة. وفي تأويل هذه الآية لأصحاب الخواطر ثلاثة أوجه: أحدها: يذهب عنكم رجس الأهواء والتبرج ويطهركم من دنس الدنيا والميل إليها. الثاني: يذهب عنكم رجس الغل والحسد , ويطهركم بالتوفيق والهداية. الثالث: يذهب عنكم رجس البخل والطمع ويطهركم بالسخاء والإيثار , روى أبو ليلى الكندي عن أم سلمة أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيتها على منام له , عليه كساء خيبري. قوله عز وجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ} قال قتادة القرآن. {وَالْحِكْمَةِ} فيها وجهان: أحدهما: السنة، قاله قتادة. الثاني: الحلال والحرام والحدود، قاله مقاتل.

{إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} قال عطية العوفي: لطيفاً باستخراجها خبيراً بموضعها.

35

{إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} قوله عز وجل: {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} سبب نزول هذه الآية ما رواه يحيى بن عبد الرحمن عن أم سلمة قالت: يا رسول الله ما للرجال يذكرون في القرآن ولا تذكر النساء؛ فنزلت {إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} - الآية وفيها قولان: أحدهما: يعني بالمسلمين والمسلمات المتذللين والمتذللات. وبالمؤمنين والمؤمنات المصدقين والمصدقات. الثاني: أنهما في الدين , فعلى هذا في الإسلام والإيمان قولان: أحدهما: أنهما واحد في المعنى وإن اختلفا في الأسماء. الثاني: أنهما مختلفان على قولين: أحدهما: أن الإسلام الإقرار باللسان، والإيمان التصديق به، قاله الكلبي.

الثاني: أن الإسلام هو اسم الدين والإيمان هو التصديق به والعمل عليه. {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتاتِ} فيه وجهان: أحدهما: المطيعين والمطيعات , قاله ابن جبير. الثاني: الداعين والداعيات. {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: الصادقين في إيمانهم والصادقات , قاله ابن جبير. الثاني: في عهودهم. {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: على أمر الله ونهيه , قاله ابن جبير. الثاني: في البأساء والضراء. {والْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: المتواضعين والمتواضعات , قاله ابن جبير. الثاني: الخائفين والخائفات: قاله يحيى بن سلام وقتادة. الثالث: المصلين والمصليات , قاله الكلبي. {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: المتصدقين والمتصدقات بأنفسهم في طاعة الله. الثاني: بأموالهم. ثم فيه وجهان: أحدهما: المؤدين الزكوات المفروضات. الثاني: المتطوعين بأداء النوافل بعد المفروضات , قاله ابن شجرة. {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: الإمساك عن المعاصي والقبائح. الثاني: عن الطعام والشراب وهو الصوم الشرعي. وفيه وجهان: أحدهما: صوم الفرض. الثاني: شهر رمضان وثلاثة أيامٍ من كل شهر , قاله ابن جبير. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صَومُ الشَّهْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ يُذْهِبْنَ وَغْرَ الصَّدْرِ). {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} فيه وجهان:

أحدهما: عن الفواحش. الثاني: أنه أراد منافذ الجسد كلها فيحفظون أسماعهم عن اللغو والخنا , وأفواههم عن قول الزور وأكل الحرام. وفروجهم عن الفواحش. {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} فيهم ثلاثة أوجه: أحدها: باللسان قاله يحيى بن سلام. الثاني: التالون لكتابه , قاله ابن شجرة. الثالث: المصلين والمصليات , حكاه النقاش. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجَرْاً عَظِيماً} لعلمهم , قاله ابن جبير , قال قتادة: وكانت هذه الآية أول آية نزلت في النساء فذكرن بخير.

36

{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيرَةُ مِنُ أَمْرِهِمْ} فيها قولان: أحدهما: أنها نزلت في زينب بنت جحش خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله بن جحش وأنهما ولدا عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهما أميمة بنت عبد المطلب وأن زيداً كان بالأمس عبداً فنزلت هذه الآية فقالت: أمري بيدك يا رسول الله فزوجها به , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال مقاتل: ساق إليها عشرة دنانير وستين درهماً وملحفة ودرعاً وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر. الثاني: أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال (قَدْ قَبِلْتُ) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت

هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزّوجنا عبده فنزلت هذه الآية , قاله ابن زيد. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} فيه قولان: أحدهما: فقد جار جوراً مبيناً , قاله ابن شجرة. الثاني: فقد أخطأ خطأ طويلاً , قاله السدي ومقاتل.

37

{وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا} قوله تعالى: {وَإذْ تَقُولُ لِلَّذِيّ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} قال قتادة والسدي وسفيان هو زيد بن حارثة وفيه وجهان: أحدهما: أنعم الله عليه لمحبة رسوله وأنعم الرسول عليه بالتبني. الثاني: أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعتق. {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} يعني زينب بنت جحش , قاله الكلبي , أتى النبي صلى الله عليه وسلم منزل زيد زائراً فأبصرها قائمة فأعجبته فقال: (سُبْحَانَ مُقَلّبَ القُلُوبِ) فلما سمعت زينب منه ذلك جلست قال أبو بكر بن زياد: وجاء زيد إلى قوله فذكرت له ذلك فعرف أنها وقعت في نفسه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في طلاقها فإن فيها كِبْراً وإنها لتؤذيني بلسانها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) وفي قلبه صلى الله عليه وسلم غير ذلك. {وَتُخْفي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} فيه أربعة أقاويل:

أحدها: أن الذي أخفاه في نفسه ميله إليها. الثاني: إشارة لطلاقها , قاله ابن جريج. الثالث: أخفى في نفسه إن طلقها زيد تزوجها. الرابع: أن الذي أخفاه في نفسه أن الله أعلمه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها , قاله الحسن. {وَتَخْشى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} فيه وجهان: أحدهما: أن نبي الله خشي قالة الناس , قاله قتادة. الثاني: أنه خشي أن يبديه للناس فأيّد الله سره , قاله مقاتل بن حيان. قال الحسن: ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد عليه منها. وقال عمر بن الخطاب: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية التي أظهرت غيبه. {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} الوطر الأرب المنتهي وفيه هنا قولان: أحدهما: أنه الحاجة , قاله مقاتل. الثاني: أنه الطلاق , قاله قتادة. قال يحيى بن سلام: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد فقال له (ائْتِ زَينبَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ زَوَّجْنِيهَا) فانطلق زيد فاستفتح الباب فقالت من هذا؟ فقال: زيد قالت: وما حاجة زيد إليّ وقد طلقني؟ فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك فقالت: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم ففتحت له فدخل عليها وهي تبكي فقال زيد: لا أبْكَى الله لَكِ عيناً قد كنت نعمت المرأة إن كنت لتبرين قسمي وتطيعين أمر الله وتشبعين مسرتي فقد أبدلك الله خيراً مني فقالت: من لا أبا لك؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة لله تعالى قال الضحاك: فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ في عسرة فأصدقها قِرْبَةً وعَبَاءةً

ورحى اليد ووسادة حَشْوُهَا ليف وكانت الوليمة تمراً وسُوَيقاً. قال أنس فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن. قال قتادة: فكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول أنتن زوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني ربُّ العرش تبارك وتعالى. {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} حكى ابن سلام أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم زعمت أن حليلة الابن لا تحل للأب وقد تزوجت حليلة ابنك زيد فقال الله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجلٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أي أن زيداً دعيٌّ وليس بابن من الصلب فلم يحرم نكاح زوجته. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفعُولاً} أي كان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش حكماً لازماً وقضاء واجباً , ومنه قول الشاعر: (حتى إذا نزلت عجاجة فتنة ... عمياء كان كتابها مفعولاً)

38

{ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا} قوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: فيما أحله الله له من تزويج زينب بنت جحش , قاله مقاتل. الثاني: التي وهبت نفسها للنبي إذ زوجها الله إياه بغير صداق ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد تطوع عليها وأعطاها الصداق , قاله الحسن. الثالث: في أن ينكح من شاء من النساء وإن حرم على أمته أكثر من أربع لأن اليهود عابوه بذلك، قاله الضحاك.

قال الطبري: نكح رسول الله خمس عشرة , ودخل بثلاثة عشرة , ومات على تسع , وكان يقسم لثمان. {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} السنة الطريقة المعتادة أي ليس على الأنبياء حرج فيما أحل الله لهم كما أحل لداود مثل هذا في نكاح من شاء وفي المرأة التي نظر إليها وتزوجها ونكح مائة امرأة وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرّية. {وَكَانَ أَمُرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} فيه وجهان: أحدهما: فعلاً مفعولاً , قاله الضحاك. الثاني: قضاء مقضياً وهو قول الجمهور. وكانت زينب إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفراً تصلح طعامه وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر ضي الله عنه وهي أول امرأة حملت على نعش لأن عمر قال حين ماتت: واسوأتاه تحمل أم المؤمنين مكشوفة كما يحمل الرجال فقالت أسماء بنت عميس: يا أمير المؤمنين إني قد كنت شاهدت في بلاد الحبشة شيئاً فيه للمرأة صيانة ووصفته له فأمر بعمله فلما رآه قال: نِعم خباء الظعينة.

39

{الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما} قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} يعني زيد بن حارثة فإن المشركين قالوا إن محمد تزوج امرأة ابنه فأكذبه الله بقوله {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم} أي لم يكن أباً لزيد.

{وَلكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ} يعني آخرهم وينزل عيسى فيكون حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً فيقتل الدجال ويكسر الصليب وقد روى نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرجُ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِن ثَلاَثِينَ كُلُّهُم يَزْعَمُ أَنَّهُ نَبِيٌ وَلا نَبِيَّ بَعْدِي) قال مقاتل بن سليمان ولم يجعل محمداً أبا أحد من الرجال لأنه لو جعل له ابناً لجعله نبياً وليس بعده نبي قال الله {وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ}.

41

{يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما} قوله تعالى: {اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} فيه قولان: أحدهما: ذاكروه بالقلب ذكراً مستديماً يؤدي إلى طاعته واجتناب معصيته. الثاني: اذكروا الله باللسان ذكراً كثيراً , قاله السدي. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مَن عَجَزَ عَنِ اللَّيْلِ أَن يُكَابِدَهُ , وَجَبُنَ عَنِ العَدُوِّ أَن يُجَاهِدَهُ , وَبَخِلَ بِالمَالِ أَن يُنفِقَهُ فَلْيَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ) وفي ذكره هنا وجهان: أحدها: الدعاء له والرغبة إليه , قاله ابن جبير. الثاني: الإقرار له بالربوبية والاعتراف له بالعبودية. قوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأصِيلاً} قال قتادة صلاة: الصبح والعصر , قال الأخفش: والأصيل ما بين العصر والليل. وقال الكلبي: الأصيل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وفي التسبيح هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أنه التسبيح الخاص الذي هو التنزيه.

الثاني: أنه الصلاة. الثالث: أنه الدعاء , قاله جرير. (فلا تنس تسبيح الضُّحى إن يونسا ... دعا ربه فانتاشه حين سبحا.) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلآئِكَتُهُ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه ثناؤه , قاله أبو العالية. الثاني: كرامته , قاله سفيان. الثالث: رحمته , قاله الحسن. الرابع: مغفرته , قاله ابن جبير. وفي صلاة الملائكة قولان: أحدهما أنه دعاؤهم , قاله أبو العالية. الثاني: استغفارهم , قاله مقاتل بن حيان. {لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: من الكفر إلى الإيمان , قاله مقاتل. الثاني: من الضلالة إلى الهدى , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثالث: من النار إلى الجنة.

45

{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} قال ابن عباس شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار. قوله: {وَدَاعِياَ إلَى اللَّه بِإِذْنِهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: إلى شهادة أن لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثاني: إلى طاعة الله , قاله ابن عيسى. الثالث: إلى الإسلام، قاله النقاش.

وفي قوله: {بِإِذْنِهِ} ثلاثة أوجه: أحدها: بأمره , قاله ابن عباس. الثاني: بعمله قاله الحسن. الثالث: بالقرآن , قاله يحيى بن سلام. {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن سراج منير أي مضيء لأنه يُهْتدى به , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه الرسول كالسراج المنير في الهداية , قاله ابن شجرة , ومنه قول كعب بن زهير: (إن الرسول لنورُ يستضاءُ به ... مُهَنّدُ من سيوف الله مَسْلول) قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} فيه وجهان: أحدهما: ثواباً عظيماً , قاله الكلبي. الثاني: أنه الجنة , قاله قتادة والكلبي , وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أنزل الله عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح: 1] الآيات فقال المسلمون هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما لنا يا رسول الله؟ فأنزل الله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية. قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} قال مقاتل يريد بالكافرين من أهل مكة أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وبالمنافقين من أهل المدينة عبد الله ابن أُبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق اجتمعوا على رسول اله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد اذكر أن لآلهتنا شفاعة. فقال الله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} وفيه أوجه: أحدها: دع ذكر آلهتهم أن لها شفاعة , قاله مقاتل. الثاني: كف عن أذاهم وقتالهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال , قاله الكلبي. الثالث: معناه اصبر على أذاهم , قاله قتادة وقطرب. الرابع: هو قولهم زيد بن محمد وما تكلموا به حين نكح زينب. قاله الضحاك.

49

{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} قوله تعالى: {إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ... } الآية. أجمع أهل العلم أن الطلاق إن كان قبل المسيس والخلوة فلا عدة فيه وليس للمطلقة من المهر إلا نصفه إن كان لها مهر سُمِّي ولا رجعة للمطلق ولكنه كأحد الخطاب إن كان طلاقه دون الثلاث. وإن كان ثلاثاً حرمت عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. وقال عطاء وجابر بن زيد إذا طلق البكر ثلاثاً [فهي] طلقة واحدة وهو خلاف قول الجمهور. وإن كان الطلاق بعد الخلوة وقبل المسيس ففي وجوب العدة وكمال المهر وثبوت الرجعة قولان: أحدهما: وهو قول أبي حنيفة أن العدة قد وجبت والمهر قد كمل والرجعة قد ثبتت وأقام الخلوة مقام المسيس إلا أن يكونا في الخلوة مُحرمين أو صائمين أو أحدهما. والقول الثاني: وهو مذهب الشافعي وهو المعول عليه من أقاويله إنه لا عدة ولا رجعة ولا تستحق من المهر إلا نصفه. {. . فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} معنى فمتعوهن أي متعة الطلاق بدلاً من الصداق لأن المطلقة قبل الدخول إذا كان لها صداق مسمى فليس لها متعة وإن لم يكن لها صداق مسمى فلها بدل نصف المسمى متعة تقول مقام المسمى تختلف باختلاف الإعسار والإيسار وقدرها حماد بنصف مهر المثل وقال أبو عبد الله الزيدي أعلاها خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن. فأما المدخول بها ففي استحقاقها المتعة من الصداق قولان: أحدهما ليس لها مع استكمال الصداق متعة.

الثاني: لها المتعة بالطلاق ولها الصداق بالنكاح. وفي قوله: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وجهان: أحدهما: أنه دفع المتعة حسب الميسرة والعسرة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه طلاقها طاهراً من غير جماع , قاله قتادة.

50

{يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما} قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِيءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} يعني صداقهن وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أحل له لهذه الآية أزواجه الأول اللاتي كن معه قبل نزول هذه الآية قاله مجاهد. وأما إحلال غيرهن فلا لقوله {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعُدْ}. الثاني: أنه أحل له بهذه الآية سائر النساء ونسخ به قوله {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ}. الثالث: أنه أحل بها من سماه فيها من النساء دون من لم يسمعه من قوله. {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} يعني الإماء. {مِمَّا أَفَّآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} يعني من الغنيمة فكان من الإماء مارية أم ابنه إبراهيم. ومما أفاء الله عليه صفية وجويرية أعتقهما وتزوج بهما. {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وبَنَاتِ خَالاَتِكَ} قاله أُبي بن كعب ثم قال: {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فيه قولان:

أحدهما: يعني المسلمات. الثاني: المهاجرات إلى المدينة. روى أبو صالح عن أم هانىء قالت: نزلت هذه الآية وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهي عني لأني لم أهاجر واختلف في الهجرة على قولين: أحدهما: أنها شرط في إحلال النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غريبة وقريبة حتى لا يجوز أن ينكح إلا بمهاجرة. الثاني: أنها شرط في إحلال بنات عمه عماته المذكورات في الآية. وليست شرطاً في إحلال الأجنبيات. {وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبْتَ نَفْسَهَا للِنَّبِيِّ} اختلف أهل التأويل هل كان عند النبي صلى لله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها على قولين: أحدهما: لم تكن عنده امرأة وهبت نفسها له , وهو قول ابن عباس ومجاهد وتأويل من قرأ إن وهبت بالكسر محمول على المستقبل. الثاني: أنه كانت عنده امرأة وهبت نفسها , وهو قول الجمهور وتأويل من قرأ بالفتح أنه في امرأة بعينها متى وهبت نفسها حل له أن ينكحها , ومن قرأ بالكسر أنه في كل امرأة وهبت نفسها أنه يحل له أن ينحكها. واختلف في التي وهبت نفسها له على أربعة أقاويل: أحدها: أنها أم شريك بنت جابر بن ضباب , وكانت امرأة صالحة , قاله عروة بن الزبير. الثاني: أنها خولة بنت حكيم , وهذا قول عائشة رضي الله عنها. الثالث: أنها ميمونة بنت الحارث، قاله ابن عباس.

الرابع: أنا زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. قاله الشعبي. {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونَِ الْمُؤْمِنِينَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن ينكحها بغير أمر ولي ولا مهر. وليس ذلك لأحد من المؤمنين , قاله قتادة. الثاني: أنها خالصة له إذا وهبت له نفسها أن لا يلزمه لها صداق وليس ذلك لغيره من المؤمنين , قاله أنس بن مالك وسعيد بن المسيب. الثالث: أنها خالصة له أن يملك عقد نكاحها بلفظ الهبة وليس ذلك لغيره من المؤمنين , قاله الشافعي. قوله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِم فِي أَزْوَاجِهِمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فرضنا ألا تتزوج امرأة إلا بولي وشاهدين. الثاني: فرضنا ألا يتجاوز الرجل أربع نسوة , وهذا قول مجاهد. الثالث: فرضنا عليهم لهن النفقة عليهن والقسم بينهن. قاله بعض الفقهاء. {وَمَا مَلَكَتُ أَيْمَانُهُمْ} يعني أن يحللن له من غير عدد محصور ولا قسم مستحق {لِكَيلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}؛ قال ابن عيسى. الثاني: إلى قوله: {وَامْرَأةً مُّؤْمِنَةً إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ويشبه أن يكون قول يحيى بن سلام.

51

{ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما} قوله عز وجل: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنهُنَّ وَتُئْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: تطلق من تشاء من نسائك وتمسك من تشاء منهن , قاله ابن عباس. الثاني: تترك نكاح من تشاء وتنكح من تشاء , قاله الحسن. الثالث: تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتيها , وتأتي من شئت من أزواجك فلا

تعزلها، قاله مجاهد. ويدل على أن القَسم في هذا التأويل كان ساقطاً عنه. الرابع: تؤخر من تشاء من أزواجك، وتضم إليك من تشاء منهن، قاله قتادة. وروى منصور عن ابن رزين قال: بلغ بعض نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يخلي سبيلهن , فأتينه فقلن: لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك , فأرجأ منهن نسوة وآوى نسوة فكان ممن أرجأ جويرية وميمونة وأم حبيبة وصفية وسودة. وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما تشاء , وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب وكان قسمه في ماله ونفسه فيهن سواء. {وَمَنِ ابْتَغَيتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} أي من ابتغيت فأويته إليك ممن عزلت أن تؤديه إليك. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} فيهن وجهان: أحدهما: فلا جناح عليك في من ابتغيت , وفي من عزلت. قاله يحيى بن سلام. الثاني: فلا جناح في من عزلت أن تؤويه إليك , قاله مجاهد. {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآءَاتيتَهُنَّ كُلُهُنَّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: إذا علمن أنه لا يطلقهن قرت أعينهن ولم يحزن. الثاني: إذا علمن أنه لا يتزوج عليهن قرت أعينهن ولم يحزن. قاله قتادة. الثالث: إذا علمن أن هذا من حكم الله تعالى فيهن قَرَّت أعينهن ولم يحزن. قاله قتادة. الرابع: أنهن علمن أن له ردهن إلى فراشه إذا اعتزلهن قرَّت أعينهن ولم يحزن , قاله مجاهد.

52

{لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا} قوله عز وجل: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِنْ بَعْدُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يحل لك نساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهن فاخترن الله ورسوله

والدار الآخرة. قال ابن عباس وقتادة. وهن التسع صار مقصوراً عليهن وممنوعاً من غيرهن. الثاني: لا يحل لك النساء من بعد الذي أحللنا لك بقولنا {إِنَّآ أحْلَلْنَا لَكَ أَزَْوَاجَكَ اللاَّتِيءَآتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قوله {إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية. وكانت الإباحة بعد نسائه مقصورة على بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته المهاجرات معه , قاله أبي بن كعب. الثالث: لا يحل لك النساء من غير المسلمات كاليهوديات والنصرانيات والمشركات , ويحل ما سواهن من المسلمات , قاله مجاهد. {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنَهُنَّ} فيه ثلاثة أقوايل: أحدها: ولا أن تبدل بالمسلمات مشركات , قاله مجاهد. الثاني: لا تطلق زوجاتك لتستبدل بهن من أعجبك حسنهن , قاله الضحاك. وقيل التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها. الثالث: ولا أن تبدل بأزواجك زوجات غيرك فإن العرب كانوا في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم فيعطي أحدهم زوجته لرجل ويأخذ بها منه زوجته بدلاً منها , قاله ابن زيد.

53

{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول

الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامُنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أَن يُؤذَنَ لَكُمْ} سبب نزل هذه الآية ما رواه أبو نضرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون , فكره ذلك وكان إذا كره الشىء عُرف من وجهه فلما كان العَشي خرج فصعد المنبر فتلا هذه الآية. قوله عز وجل: {إِلَى طَعَامِ غَيْرَ نَاظِرينَ إِنَاهُ} فيه تأويلان: أحدهما: غير منتظرين نضجه , قاله الضحاك ومجاهد. الثاني: غَيْرَ متوقعين لحينه ووقته , قاله قتادة. {وَلكِن إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ} فدل هذا على حظر الدخول بغير إذن. {فَإذَا طَعِمْتُمْ فآنتَشِرُواْ} أي فاخرجوا , فدلّ على أن الدخول للأكل يمنع من المقام بعد الفراغ من الأكل. {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ... } روى أبو قلابة عن أنس. قال: لما أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبُ بنت جحش وضع طعاماً ودعا قوماً فدخلوا وزينب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فجعلوا يتحدثون وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود فأنزل الله تعالى: {فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُواْ}. قوله عز وجل: {. . فَيَسْتَحْي مِنكُمْ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبركم. {وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْي مِنَ الْحَقِّ} أن يأمركم به. {وَإذَا سَألْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: حاجة , قاله السدي. الثاني: صحف القرآن , قاله الضحاك. الثالث: عارية , قاله مقاتل. ومعانيها متقاربة.

{فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} أمرن وسائر النساء بالحجاب عن أبصار الرجال وأمر الرجال بغض أبصارهم عن النساء. وفي سبب الحجاب ثلاثة أقاويل: أحدها ما رواه مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب , فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي فقال عمر لو أُطَاعُ فيكن ما رأتكن عين , فنزلت آيات الحجاب. الثاني: ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إلى المباضع وهي صعيد أفيح يتبرزن فيه , وكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك يا رسول الله , فلم يكن يفعل , فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي , وكانت امرأة طويلة فناداها بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة , حرصاً أن ينزل الحجاب قالت: فأنزل الله تعالى الحجاب. الثالث: ما روى ابن مسعود أن عمر رضي الله عنه أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب بنت جحش: يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا , فأنزلت الآية: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حَجَابٍ}. {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهنَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أطهر لها من الريبة. الثاني: أطهر لها من الشهوة. {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤُذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلآَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} حكى السدي أن رجلاً من قريش من بني تميم قال عند نزول الحجاب أيحجبنا رسول

الله عن بنات عمنا ويتزوج نساءَنا لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده , فأنزلت هذه الآية. ولتحريمه تعديهن لزمت نفقاتهن من بيت المال. واختلف أهل العلم في وجوب العدة عليهن بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن على وجهين: أحدهما: لا تجب عليهن العدة لأنها مدة تربص ينتظر بها الإباحة. الثاني: تجب لأنها عبادة وإن لم تعقبها إباحة.

55

{لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهيدا} قوله عز وجل: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِّيءَابَآئِهِنَّ وَلآ أَبْنَآئِهِنَّ} فيه قولان: أحدهما: لا جناح عليهن في ترك الحجاب. قاله قتادة. الثاني: في وضع الجلباب , قاله مجاهد. {وَلاَ إخْوَانِهِنَّ وَلآَ أَبْنَآءِ إخَوَانِهِنَّ وَلآ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ} قال الشعبي لم يذكر العم لأنها تحل لابنه فيصفها له. {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ} فيه وجهان: أحدهما: يعني النساء المسلمات دون المشركات , قاله مجاهد. الثاني: أنه في جميع النساء. {وَلاَ مَا مَلََكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} فيه قولان: أحدهما: الإماء دون العبيد، قاله سعيد بن المسيب. الثاني: أنه عام في الإماء والعبيد. واختلف من قال بهذا فيما أبيح للعبد على قولين: أحدهما: ما أبيح لذوي المحارم من الآباء والأبناء ما جاوز السرة وانحدر عن الركبة لأنها تحرم عليه كتحريمها عليهم.

الثاني: ما لا يواريه الدرع من ظاهر بدنها , قاله إبراهيم. لأنه العبد وإن حرم في الحال فقد يستباح بالعتق في ثاني حال. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه الكلبي أنه لما نزل في آية الحجاب {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مَن ورَآءِ حَجَابٍ} قام الآباء والأبناء وقالوا يا رسول الله نحن لا نكلمهن أيضاً إلا من وراء حجاب , فنزلت هذه الآية.

56

{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} قوله عز وجل: {إنَّ اللَّهَ وَملاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن صلاة الله تعالى عليه ثناؤه عليه عند الملائكة , وصلاة الملائكة الدعاء , قاله أبو العالية. الثاني: أن صلاة الله تعالى عليه المغفرة له , وصلاة الملائكة الاستغفار له , قاله سعيد بن جبير. الثالث: أن صلاة الله تعالى عليه رحمته , وصلاة الملائكة الدعاء له , قاله الحسن , وهو معنى قول عطاء بن أبي رباح. الرابع: أن صلاتهم عليه أن يباركوا عليه؟ قاله ابن عباس. {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلَّمُواْ تَسْلِيماً} روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى. قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال: (قُولُواْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلَيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ).

قال أبو العباس ثعلب: معنى قولنا اللهم صل على محمد أي زد محمداً بركة ورحمة , ويجري فيه التأويلات المذكورة. وقوله تعالى: {وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} يحتمل وجهين: أحدهما: سلموا لأمره بالطاعة له تسليماً. الثاني: وسلموا عليه بالدعاء له تسليماً أي سلاماً. حكى مقاتل قال: لما نزلت هذه الآية قال المسلمون فما لنا يا رسول الله؟ فنزلت {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلآَئِكَتُهُ} الآية.

57

{إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} قوله عز وجل: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم أصحاب التصاوير؛ قاله عكرمة. الثاني: أنهم الذين طعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي بن أخطب , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم قوم من المنافقين كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبهتونه قاله يحيى بن سلام. وفي قوله: {يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} ثلاثة أوجه: أحدها: معناه يؤذون أولياء الله. الثاني: أنه جعل أذى رسوله صلى الله عليه وسلم أذى له تشريفاً لمنزلته. الثالث: هو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا كَانَ يَنبَغِي لَهُ أَن يَشْتُمَنِي , وَكَذَّبَنِي وَمَا كَانَ لَهُ أَن يُكَذِّبَنِي فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاي فَقَولُهُ إِنَّ لِيَ وَلَداً

وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ إنِّي لاَ أَبْعَثُ بَعدَ المَوتِ أَحداً. وَلَعنُة الدُّنْيَا التَّقْتِيلُ وَالجَلاَءُ , وَلَعْنَةُ الآخرَةِ النَّارُ). قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية. فيمن نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في الزناة وكانوا يمشون فيرون المرأة فيغمزونها؛ قاله الكلبي. الثاني: نزلت في قوم كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه , ويكذبون عليه , قاله مقاتل والنقاش. الثالث: أنها نزلت فيمن تكلم في عائشة وصفوان بن المعطل بالإفك , قاله الضحاك. وروى قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأها ذات ليلة فأفزعه ذلك حتى انطلق إلى أبيّ فقال يا أبا المنذر إني قرأت كتاب الله فوقعت مني كل موقع. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ} والله إني لأعاقبهم وأضربهم , فقال: إنك لست منهم , إنما أنت مؤدب , إنما أنت معلم.

59

{يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} قوله تعالى: { ... يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبَهنَّ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الجلباب الرداء , قاله ابن مسعود والحسن. الثاني: أنه القناع؛ قاله ابن جبير.

الثالث: أنه كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها , قاله قطرب. وفي إدناء جلابيبهن عليهن قولان: أحدهما: أن تشده فوق رأسها وتلقيه فوق خمارها حتى لا ترى ثغرة نحرها , قاله عكرمة. الثاني: أن تغطي وجهها حتى لا تظهر إلا عينها اليسرى , قاله عَبيدة السلماني. {ذَلِكَ أَدْنَى أن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} فيه وجهان: أحدهما: ليعرفن من الإماء بالحرية. الثاني: يعرفن من المتبرجات بالصيانة. قال قتادة: كانت الأمة إذا مرت تناولها المنافقون بالأذى فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء. قوله: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الزناة , قاله عكرمة والسدي. الثاني: أصحاب الفواحش والقبائح , قاله سلمة بن كهيل. وفي قوله: {لَّئِن لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ} قولان: أحدهما: عن إيذاء نساء المسلمين قاله الكلبي. الثاني: عن إظهار ما في قلوبهم من النفاق , قاله الحسن وقتادة. {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الذين يكاثرون النساء ويتعرضون لهن , قاله السدي. الثاني: أنهم الذين يذكرون من الأخبار ما يضعف به قلوب المؤمنين وتقوى به قلوب المشركين قاله قتادة. الثالث: أن الإرجاف التماس الفتنة , قاله ابن عباس , وسيت الأراجيف لاضطراب الأصواب بها وإفاضة الناس فيها. {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه لنسلطنك عليهم، قاله ابن عباس.

الثاني: لنعلمنك بهم , قاله السدي. الثالث: لنحملنك على مؤاخذتهم , وهو معنى قول قتادة. {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً} قيل بالنفي عنها , وقيل الذي استثناه ما بين قوله لهم اخرجوا وبين خروجهم. قوله: {سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني سنته فيهم أن من أظهر الشرك قتل , قاله يحيى بن سلام. الثاني: سنته فيهم أن من زَنَى حُد , وهو معنى قول السدي. الثالث: سنته فيهم أن من أظهر النفاق أبعد , قاله قتادة. {ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: يعني تحويلاً وتغييراً , حكاه النقاش. الثاني: يعني أن من قتل بحق فلا دية له على قاتله , قاله السدي.

63

{يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا} قوله: { ... إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرآءَنَا} في السادة هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الرؤساء. الثاني: أنهم الأمراء , قاله أبو أسامة. الثالث: الأشراف , قاله طاوس. وفي الكبراء هنا قولان:

أحدهما: أنهم العلماء , قاله طاووس. الثاني: ذوو الأسنان , وهو مأثور. {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} يعني طريق الإيمان. وفي قوله الرسولا والسبيلا وجهان: أحدهما: لأنها مخاطبة يجوز مثل ذلك فيها عند العرب , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن الألف للفواصل في رؤوس الآي , قاله ابن عيسى , وقيل إن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من قريش هم المطعمون يوم بدر. قوله: {رَبَّنَاءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} فيه وجهان: أحدهما: أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، قاله قتادة. الثاني: عذاب الكفر وعذاب الإضلال. {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} بالباء قراءة عاصم يعني عظيماً وقرأ الباقون بالتاء يعني اللعن على اللعن.

69

{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها} قوله: {يَأَيُّها الَّذِينَءَامُنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ أَذَواْ مُوسَى} معناه لا تؤذوا محمداً فتكونوا كالذين آذواْ موسى. وفيما آذوا به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قولان: أحدهما: قولهم زيد بن محمد , حكاه النقاش. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسماً فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أُريد بها وجه الله فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: (رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبِرَ) قاله أبو وائل. وفيما أوذي به موسى عليه السلام ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن رَمَوهُ بالسحر والجنون. الثاني: ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيّاً سَتِيراً لاَ يَكَادُ يُرَى مِن جَسَدِهِ شَيءٌ يَسْتَحَيا مِنُه فآذَاهُ مَن آذَاهُ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَالُواْ مَا يَسْتَتِرُ إلاَّ مِن عَيبٍ بِجِلْدِهِ أَوْ جِسْمِهِ , إمَّا مِن بَرَصٍ وَإمَّا آدَرٌ أَوْ بِهِ آفَةٌ وَإنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبْرِئَهُ مِمَّا قَالُواْ وَإنَّ مُوسَى خَلاَ يَوماً وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ اغْتَسَلَ , فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إلَى ثَوبِهِ لِيَأْخُذَهُ وَإنَّ الْحَجَرَ عَدَا بثيَابِهِ فَطَلَبَهُ مُوسَى فَانتَهَى إلَى مَلإٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ فَرأَوهُ عُرْيَاناً كَأَحْسَنِ الرِّجالِ خَلْقاً فَبَرَّأَهُ اللَّه مِمَّا قَالُواْ). الثالث: ما رواه ابن عباس عن علي رضي الله عنه أن موسى صعد وهارون الجبل فمات هارون فقال بنو إسرائيل أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حباً فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجلس بني إسرائيل فتكلمت الملائكة بموته ثم دفنته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وأن الله جعله أصم أبكم ومات هارون قبل موسى في التيه ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين. {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المقبول , قاله ابن زيد. الوجه الثاني: لأنه مستجاب الدعوة قاله الحسن. الثالث: لأنه ما سأل الله شيئاً إلا أعطاه إلى النظر , قاله ابن سنان. قاله قطرب: والوجيه مشتق من الوجه لأنه أرفع الجسد.

70

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} قوله: {َوَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} فيه ستة تأويلات: أحدها: عدلاً , قاله السدي. الثاني: صدقاً، قاله قتادة.

الثالث: صواباً، قاله ابن عيسى. الرابع: هو قول لا إله إلا الله، قاله عكرمة. الخامس: هو الذي يوافق ظاهره باطنه. السادس: أنه ما أريد به وجه الله دون غيره. ويحتمل سابعاً: أن يكون الإصلاح بين المتشاجرين وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض. {يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يصلحها بالقبول. الثاني: بالتوفيق.

72

{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما} قوله: {إنَّا عرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَالِجبَالِ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أن هذه الأمانة هي ما أمر الله سبحانه من طاعته ونهى عن معصيته , قاله أبو العالية. الثاني: أنها القوانين والأحكام التي أوجبها الله على العباد وهو قريب من الأول , قاله ابن عباس , ومجاهد , والحسن , وابن جبير. الثالث: هي ائتمان الرجال والنساء على الفروج، قاله أبي. وقيل إن أول

ما خلق الله من آدم الفرج فقال: (يَا آدَمُ هَذِهِ أَمَانَةٌ خَبَّأْتُهَا عِندَكَ فلاَ تَلبِسْها إِلاَّ بِحَقٍ فإن حَفِظْتَهَا حَفِظْتُكَ). الرابع: أنها الأمانات التي يأتمن الناس بعضهم بعضاً عليها وأولها ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله , وولده حين أراد التوجه إلى أمر ربه فخان قابيل الأمانة في قتل أخيه هابيل , قاله السدي. الخامس: أن هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال والخلق من الدلائل على ربوبيته أن يظهرونها فأظهروها إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها قاله بعض المتكلمين. وفي عرض هذه الأمانة ثلاثة أقاويل: أحدها: أن عرضها هو الأمر بما يجب من حفظها وعظم المأثم في تضييعها. قاله بعض المتكلمين. الثاني: الأمانة عورضت بالسموات والأرض والجبال فكانت أثقل منها لتغليظ حكمها فلم تستقل بها وضعفت عن حملها , قاله ابن بحر. الثالث: أن الله عرض حملها ليكون الدخول فيها بعد العلم بها. واختلف قائلو هذا على وجهين: أحدهما: أنها عرضت على السموات والأرض والجبال، قاله ابن عباس، ومجاهد.

الثاني: أنها عرضت على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة قاله الحسن. {فَأَبَينَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأشْفَقْنَ مِنْهَا} يحتمل وجهين: أحدهما: أَبَينَ أن يحملنها عجزاً وأشفقن منها خوفاً. الثاني: أبين أن يحملنها حذراً وأَشْفَقْنَ منها تقصيراً. {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} فيه قولان: أحدهما: جميع الناس , قاله ثعلب. الثاني: أنه آدم ثم انتقلت منه إلى ولده , قاله الحسن. روي عن معمر عن الحسن أن الأمانة لما عرضت على السموات والأرض والجبال قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فقالت: لا. قال مجاهد: فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال: وما هي؟ قال: {إن أَحْسَنْتَ آجَرْتُكَ وَإنْ أَسَأْتَ عَذَّبْتُكَ} قال تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها إلى أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر. {إنَّهُ كَنَ ظَلُوماً جَهُولاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ظلوماً لنفسه , جهولاً بربه , قاله الحسن. الثاني: ظلوماً في خطيئته , جهولاً فيما حَمَّلَ ولده من بعده , قاله الضحاك. الثالث: ظلوماً لحقها , قاله قتادة. جهولاً بعاقبة أمره , قاله ابن جريج. قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} فيه قولان: أحدهما: أنه يعذبهم بالشرك والنفاق وهو معنى قول مقاتل. الثاني: بخيانتهما الأمانة. قال الحسن: هما اللذان ظلماها , واللذان خاناها: المنافق , والمشرك. {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي يتجاوز عنه بأداء الأمانة والوفاء بالميثاق. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} لمن تاب من شِرْكه {رَحِيماً} بالهداية إلى طاعته والله أعلم.

سورة سبإ مكية في قول الجميع إلا آية منها في قول الضحاك والكلبي وهي قوله تعالى: {ويرى الذين أوتوا اوتوا بالعلم} [سبأ: 6] فإنها مدنية. بسم الله الرحمن الرحيم

سبأ

{الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور} قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: الذي خلق ما في السموات وما في الأرض. الثاني: الذي يملك ما في السموات وما في الأرض. {ولَهُ الْحَمْدُ فِي الآخرَةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو حمد أهل الجنة من غير تَكْلِفٍ فسرورهم بحمده كقولهم: الحمد لله الذي صدقنا وعْدَه، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن , قاله ابن عيسى. الثاني: يعني أن له الحمد في السموات وفي الأرضين لأنه خلق السموات قبل الأرضين فصارت هي الأولى , والأرضون هي الآخرة، حكاه النقاش.

الثالث: له الحمد في الآخرة على الثواب والعقاب لأنه عَدْل منه , قاله بعض المتأخرين. {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} يعني الحكيم في أمره , الخبير بخلقه. قوله عز وجل: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وََمَا يَخْرُجُ مِنهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما يلج في الأرض المطر , وما يخرج منها النبات , قاله الضحاك. الثاني: ما يلج فيها الأموات , قاله الكلبي , وما يخرج منها كنوز الذهب والفضة , والمعادن , حكاه النقاش. الثالث: ما يلج فيها: البذور , وما يخرج منها: الزروع. {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الملائكة تنزل من السماء وتعرج فيها , قاله السدي. الثاني: وما ينزل من السماء: القضاء , وما يعرج فيها: العمل , وهو محتمل. الثالث: ما ينزل من السماء: المطر , قاله الضحاك , وما يعرج فيها: الدعاء. وهو محتمل.

3

{وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ سَعَواْ فِيءَايَاتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: أن سعيهم فيها بالجحود لها , قاله الضحاك. الثاني: بالتكذيب بها.

{مُعَاِجِزِينَ} وقرىء. {مُعْجِزِينَ} وفي تأويل معاجزين أربعة أوجه: أحدها: مسابقين , قاله قتادة. الثاني: مجاهدين , قاله ابن زيد. الثالث: مراغمين مشاقين , وهو معنى قول ابن عباس وعكرمة. الرابع: أي لا يعجزونني هرباً ولا يفوتونني طلباً , وهو معنى قول الكلبي. وفي تأويل معجزين ثلاثة أوجه: أحدها: مثبطين الناس عن اتباع الرسول , قاله مجاهد. الثاني: مضعّفين لله أن يقدر عليهم , قاله بعض المتأخرين. الثالث: معجزين من آمن وصَدَّقَ بالبعث بإضافة العجز إليه. ويحتمل رابعاً: أنهم نسبوا المؤمنين إلى العجز عن الانتصار لدينهم إما بضعف الحجة وإما بقلة القوة. {أُوْلئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٍ} قال قتادة: الرجز هو العذاب الأليم. قوله عز وجل: {وَيَرَى الَّذينَ أوتُواْ الْعِلْمَ} فيهم قولان: أحدهما: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنهم المؤمنون من أهل الكتاب , قاله الضحاك. {الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} قال الحسن هو القرآن كله حق. {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} فيه قولان: أحدهما: يهدي إلى دين الله وهو الإسلام , رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: إلى طاعة الله وسبيل مرضاته.

7

{وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة

في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني بالبعث. {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {يُنَبِّئُكُمْ إذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي يخبركم أنكم إذا متم فأكلتكم الأرض أو الطير حتى صرتم عظاماً ورفاتاً. {إنَكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي تحشرون وتبعثون. قيل إن أبا سفيان ابن حرب قال هذا لأهل مكة , فأجاب بعضهم بعضاً. {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي قائل هذا أن يكون كذاباً أو مجنوناً فرد الله تعالى عليهم قولهم هذا بأن قال: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ} العذاب في الآخرة , والضلال البعيد في الدنيا. وفيه وجهان: أحدهما: أنه البعيد من الهدى , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه الشقاء الطويل , قاله السدي. قوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: معناه ألم ينظروا إلى السماء والأرض كيف أحاطت بهم؟ لأنك إن نظرت عن يمينك أو شمالك , أو بين يديك أو خلفك رأيت السماء والأرض , قاله قتادة , إذكاراً لهم بقدرة الله تعالى عليهم وإحاطتها بهم , لأنهم , لا يرون لأوليتهما ابتداء ولا لآخرتهما انتهاء , وإن بعدوا شرقاً وغرباً. الثاني: يعني {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} فمن أهلكهم الله تعالى من الأمم الماضية في أرضه {وَمَا خَلْفَهُم} من أمر الآخرة في سمائه , قاله أبو صالح. {إن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ} يعني كما خسفنا بمن كان قبلهم. {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ} فيه وجهان:

أحدهما: أن الكسف العذاب قاله السدي. الثاني: قطعاً من السماء ليعلموا أنه قادر على أن يعذب بسمائه إن شاء ويعذب بأرضه إن شاء , وكل خلقه له جند , قاله قتادة. {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه المجيب , قاله مجاهد وعطاء. الثاني: أنه المقبل بتوبته , قاله قتادة , قال الشاعر: (أناب إلى قولي فأصبحت مرصداً ... له بالمكافأة المنيبة والشكر) الثالث: أنه المستقيم إلى ربه , وهو قول الضحاك. الرابع: أنه المخلص للتوحيد , حكاه النقاش.

10

{ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير} قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} فيه سبعة أقاويل: أحدها: النبوة. الثاني: الزبور. الثالث: فصل القضاء بالعدل. الرابع: الفطنة والذكاء. الخامس: رحمة الضعفاء. السادس: حسن الصوت. السابع: تسخير الجبال له والطير. {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: سبحي معه , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. الثاني: سيرى معه قاله الحسن وهو من السير ما كان في النهار كله أو في الليل كله , وقيل: بل هو سير النهار كله دون الليل.

الثالث: ارجعي إذا رجع , قال الشاعر: (يومان يوم مقاماتٍ وأنديةٍ ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب.) أي رجوع بعد رجوع. {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} قال قتادة كان يعمل به كما يعمل بالطين لا يدخله النار ولا يضربه بمطرقة. ويحتمل وجهاً آخر أنه سهل له الحديد أن يعمل منه ما شاء وإن كان على جوهره وطبعه من قولهم قد لان لك فلان إذا تسهل عليك. قوله عز وجل: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي درعاً تامة , ومنه إسباغ النعمة إتمامها , قال الشاعر: (وأكثرهم دروعاً سابغات ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا) {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} فيه قولان: أحدهما: عدِّل المسامير في الحلقة لا تصغر المسمار وتعظم الحلقة فيسلس , ولا تعظم المسمار وتصغر الحلقة فتنفصم الحلقة , قاله مجاهد. الثاني: لا تجعل حلقه واسعة فلا تقي صاحبها , قال قتادة: وكان داود أول من عملها , وكان قبل ذلك صفائح. وفي {السَّرْدِ} قولان: أحدهما: أنه النقب الذي في حلق الدرع , قاله ابن عباس , قال لبيد: (وما نسجت أسراد داود وابنه ... مضاعفة من نسجه إذ يقاتل) الثاني: أنه المسامير التي في حلق الدرع , قاله قتادة , مأخوذ من قولهم: سرد الكلام يسرده إذا تابع بينه , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: في الأشهر الحرم ثلاثة سردٌ وواحد فرد. وقال الهذلي: (وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع) وحكى ضمرة بن شوذب أن داود عليه السلام كان يرفع كل يوم درعاً فيبيعها

بستة آلآف درهم , ألفان لأهله , وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري. وحكى يحيى بن سلام والفراء أن لقمان حضر داود عند أول درع عملها فجعل يتفكر فيما يريد به ولا يدري ما يريد , فلم يسله حتى إذا فرغ منها داود قام فلبسها وقال: نعمت جنة الحرب هذه , فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله. {وَاعْمَلُواْ صَالِحاً} فيه وجهان: أحدهما: هو قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر , قاله ابن عباس. الثاني: فعل جميع الطاعات. {إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي يعلم ما تعملون من خير أو شر.

12

{ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور} قوله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي وسخرنا لسليمان الريح. {غُدُوَّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} قال قتادة: تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. وقال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقبل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر للمسرع ويروح فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للمسرع. {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} قال قتادة هي عين بأرض اليمن , قال السدي: سيلت له ثلاثة أيام , قال عكرمة: سال له القطر ثلاثة أيام من صنعاء اليمن كما يسيل الماء. وقال الضحاك: هي عين بالشام. وفي القطر قولان: أحدهما: أنه النحاس , قاله ابن عباس وقتادة والسدي.

الثاني: الصَّفر , قاله مجاهد وعطاء وابن زيد. {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني أن منهم من سخره الله تعالى للعمل بين يديه , فدل على أن منهم غير مسخر. {بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي بأمر ربه. {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} فيه قولان: أحدهما: يعني عن طاعة الله تعالى وعبادته , قاله يحيى بن سلام. الثاني: عما يأمره سليمان , قاله قتادة: لأن أمر سليمان كان كأمر الله تعالى لكونه نبياً من أنبيائه. {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ السَّعِيرِ} أي النار المسعرة وفيه قولان: أحدهما: نذيقه ذلك في الآخرة , قاله الضحاك. الثاني: في الدنيا , قاله يحيى بن سلام. لأنه لم يكن يسخر منهم إلا الكفار فإذا آمنوا أرسلوا , قال وكان مع المسخرين منهم ملك بيده سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان ضربه الملك بذلك السوط. قوله عز وجل: {يَعْمَلَونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها قصور , قاله عطية. الثاني: المساجد , قاله قتادة , والحسن. الثالث: المساكن , قاله ابن زيد. قال أبو عبيدة: محراب الدار أشرف موضع فيها , ولا يكون إلا أن يرتقى إليه. {وَتَمَاثِيلَ} هي الصور، قال الحسن ولم تكن يومئذ محرمة , وفيها قولان: أحدهما: أنها من نحاس، قاله مجاهد. الثاني: من رخام وشبَه، قاله قتادة. ثم فيها قولان: أحدهما: أنها كانت طواويس وعقاباً ونسوراً على كرسيه ودرجات سريره لكي يهاب من شاهدها أن يتقدم، قاله الضحاك.

الثاني: صور الأنبياء الذين قبله , قاله الفراء. {وِجِفَانٍ} قال مجاهد: صحاف. {كَالْجَوَابِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كالحياض , قاله الحسن. الثاني: كالجوبة من الأرض , قاله مجاهد. الثالث: كالحائط , قاله السدي. {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: عظام , قاله مجاهد. الثاني: أن أثافيها منها , قاله ابن عباس. الثالث: ثابتات لا يزلن عن أماكنهن , قاله قتادة , مأخوذ من الجبال الرواسي لثبوتها وثبوت الأرض بها. قال ابن جريج: ذكر لنا أن تلك القدور باليمن أبقاها الله تعالى آية وعبرة. {اعْمَلُواْءَال دَاوُدَ شُكْراً} فيه ستة تأويلات: أحدها: أنه توحيد الله تعالى , قاله يحيى بن سلام. الثاني: تقوى الله والعمل بطاعته , قاله محمد بن كعب. الثالث: صوم النهار وقيام الليل , قاله ابن أبي زياد , فليس ساعة من نهار إلا وفيها من آل داود صائم ولا ساعة من الليل إلا وفيها من آل داود قائم. الرابع: اعملوا من الأعمال ما تستوجبون عليه الشكر , قاله ابن عطاء. الخامس: اذكروا أهل البلاء وسلوا ربكم العافية. السادس: ما حكاه الفضيل أنه لما قال الله تعالى: {اعْمَلُواْءَالَ دَاوُدَ شُكْراً} فقال داود إِلهي كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قاله: (الآنَ شَكَرْتِنِي حِينَ عَلمْتَ أَنَّ النِّعَمَ مِنِّي). {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: المؤمن , قاله يحيى بن سلام.

الثاني: الموحّد , وهو معنى قول ابن عباس. الثالث: المطيع , وهو مقتضى قول محمد بن كعب. الرابع: ذاكر نعمه , وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال: (ثَلاَثَةٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُتُي مِثْلُ مَا أوتِيَءَالُ دَاوُد: العَدْلُ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا , والقَصدُ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى , وَخَشَيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِ وَالعَلاَنِيَةِ). وفي الفرق بين الشاكر والشكور ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشاكر من لم يتكرر شكره والشكور من تكرر شكره. الثاني: أن الشاكر على النعم والشكور على البلوى. الثالث: أن الشاكر خوفه أغلب والشكور رجاؤه أغلب.

14

{فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} قوله عز وجل: {فََلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ. .} الآية. روى عطاء بن السائب. عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ سُلَيْمَانَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيهِ السَّلاَمُ كَانَ لاَ يُصَلِّي صَلاَةً إلاَّ وَجَدَ شََجَرَةً ثَّابِتَةً بَيْنَ يَدَيهِ فَيقُولُ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ فَتَقُولُ: كَذَا كَذَا , فَيقُولُ لَمَا أَنتِ؟ فَتَقُولُ لِكَذَا وَكَذَا , فَصَلَّى يَوماً فَإِذَا شَجَرةٌ ثَابِتَةٌ بَيْنَ يَدَيهِ فَقَالَ لَهَا مَا اسْمُكِ؟ فَقَالَتْ: الخَرُّوبُ فَقَالَ: لِمَ أَنتَ؟ فَقَالَتْ لِخَرَابِ هذَا البَيْتِ.

فَقَالَ سُلَيمَانُ اللَّهُمَّ أَغُمَّ عَلَى الجِنِّ مَوتي حَتَّى يَعْلَمُ الإنسُ أَنَّ الجِنَّ كَانُوا لاَ يَعْلَمُونَ الغَيبَ قَالَ فَهَيَّأََ عَصاً ثُمَّ تَوَكَّأَ عَلَيهَا حَولاً وَهُم لا َ يَعلَمُونَ , قَالَ ثُمَّ أَكَلَتْهَا الأَرَضَةُ فَسَقَطَ فَعَلِمُواْ عِندَ ذَلِكَ مَوتَهُ فَشَكَرَتِ الجِنُّة ذلِكَ لِلأَرضَةِ فَإنَّمَا كَانُوا يَأْتُونَهَا بِالمَاءِ) قال السدي: والطين , ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنما هو مما تأتيها به الشياطين شكراً: قال وقدروا مقدار أكلها العصا فكان مقدار سنة. وفي {دَابَّةُ الأَرْضِ} قولان: أحدهما: الأرضة , قاله ابن عباس ومجاهد , وقد قرىء دابة الأرض بفتح الراء وهو واحد الأرضة. الثاني: أنها دابة تأكل العيدان يقال لها القادح , قاله ابن زيد. والمنسأة العصا , قال الشاعر: (إذا دببت على المنسأة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل) وأصلها مأخوذ من نسأت الغنم إذا سقتها , وقال السدي هي العصا بلسان الحبشة. وفي دلالتها للجنة على موته قولان: أحدها: وهو المشهور المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان وقف في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه فمات وبقي على حاله قائماً على عصاه سنة والجن لا تعلم بموته , وقد كان سأل الله أن لا يعلموا بموته حتى مضى عليه سنة. واختلف في سبب سؤاله لذلك على قولين: أحدهما: لأن الجن كانوا يذكرون للإنس أنهم يعلمون الغيب , فسأل الله تعالى ذلك ليعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب , وهذا مأثور. الثاني: لأن داود عليه السلام كان أسس بيت المقدس ثم مات فبناه سليمان بعده وسخر الجن في عمله , وقد كان بقي من إتمامه بعد موته بناء سنة فسأل الله تعالى ألا يعلم الجن بموته حتى يتموا البناء فأتموه. ثم دلتهم دابة الأرض في أكل منسأته على موته بعد سنة من موته لأنه سقط

عنها حين أكلتها الأرضة فعلمت الجن أنه قد مات. والقول الثاني: ما حكاه ابن عباس أن الله تعالى ما قبض نبيه سليمان إلا على فراشه وكان الباب في وجهه مغلقاً على عادته في عبادته فلما كان بعد سنة أكلت الأرضة العتبة فخر الباب ساقطاً فتبينت الجن ذلك. قال: وكان سليمان يعتمد على العتبة إذا جلس. {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ} والشياطين ومن كانوا مسخرين في العمل. {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}. الثاني: تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة. وروى سفيان عن عمر وعن ابن عباس أنه كان يقرأ التلاوة: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الإنسُ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ سَنَةً}. الثالث: أن الجن دخلت عليهم شبهة توهموا بها أنهم يعلمون الغيب لما خر تبينوا أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين. وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه واستكمل بناءه في السنة الحادية عشرة من ملكه وقرب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة , واتخذ اليوم الذي فرغ من بنائه عيداً , وقام على الصخرة رافعاً يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان وقويتني على بناء هذا المسجد فأوزعني [أن] أشكرك على ما أنعمت علي , وتوفني على ملتك , ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني , اللهم إني اسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه , ولا خائف إلا أمنته , ولا سقيم إلا شفيته , ولا فقير إلا أغنيته , والخامس ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه , إلا من أراد إلحاداً أو ظلماً يا رب العالمين.

15

{لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل

ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإِ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآية. وقد ذكرنا اختلاف الناس في سبإ على قولين: أحدهما: أنه اسم أرض باليمن يقال لها مأرب , قاله سفيان. الثاني: اسم قبيلة. واختلف من قال بهذا هل هو اسم امرأة أو رجل على قولين. أحدهما: أنه اسم امرأة نسبت القبيلة إليها لأنها أمهم. الثاني: أنه رجل. روي أن فروة الغطيفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ أبلد أم رجل أم امرأة؟ فقال: (بَلْ رَجُلٍ وَلَدَ عَشْرَةً , فَسَكَنَ اليَمَنَ مِنهُم سِتَّةٌ وَالشَّامَ أَرْبَعَةٌ أَمَّا اليَمَانِيُّونَ فَمَذْحَجٌ وَكِيْدَهٌ وَالأزد وَالأَشعَرِيُّونَ وَأَنَمَارُ وحِمْيَرُ وَأَمَّا الشَّامِيُّونَ فَلَخْمٌ وَخِذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ). وذكر أهل النسب أنه سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال السدي: بعث إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً. وأما {جَنَّتَانِ} فقال سفيان وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا سالمين , في سبعين خريفاً دائبين , وعلى الآخر: نحن بنينا صرواح , مقيل ومراح , وكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله. وفي الآية التي لسبأ في مساكنهم قولان: أحدهما: أنه لم يكن في قريتهم بعوضة قط ولا ذبابة ولا برغوث ولا حية ولا

عقرب وان الركب ليأتون في ثيابهم القمل والدواب فتموت تلك الدواب , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثاني: أن الآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل فيمتلىء وما مسته بيدها , قاله قتادة. {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبّكُمْ} يعني الذي رزقكم من جنتكم. {وَاشْكُرُواْ لَهُ} يعني على ما رزقكم. {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} قال مجاهد: هي صنعاء. ويحتمل وجهين: أحدهما: لأن أرضها وليست بسبخة. الثاني: لأنها ليس بها هوام.

18

{وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} فيها قولان: أحدهما: أنها بيت المقدس , قاله ابن عباس. الثاني: أنها الشام , قاله مجاهد وقتادة. {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني بالشجر والثمر والماء. وقيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية. ويحتمل أن يكون التي باركنا فيها بكثرة العدد. {قُرىً ظَاهِرَةً} فيه أربعة أوجه: أحدها: متصلة ينظر بعضهم إلى بعض، قاله الحسن , وأبو مالك.

الثاني: أنها العامرة. الثالث: الكثيرة الماء. الرابع: أن القرى الظاهرة هي القرى القريبة , قاله سعيد بن جبير , والضحاك. وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها السروات , قاله مجاهد. الثاني: أنها قرى لصنعاء , قاله ابن منبه. الثالث: أنها قرى ما بين مأرب والشام , قاله سعيد بن جبير. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيرَ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: قدرنا فيها المقيل والمبيت , قاله الكلبي. الثاني: أنهم كانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى , قاله الحسن. الثالث: أنه قدر فيها السير بأن جعل ما بين القرية والقرية مقداراً واحداً , قاله ابن قتيبة. {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماًءَامِنِينَ} فيه قولان: أحدهما: من الجوع والظمأ , قاله قتادة. حتى أن المرأة تمشي وعلى رأسها مكتل فيمتلىء من الثمر. الثاني: آمنين من الخوف قاله يحيى بن سلام , كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضاً , ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحركه. قوله عز وجل: {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَرِنَا} قرأ أبو عمرو , وابن كثير {بَعِّد} بغير ألف وبتشديد العين , وقرأ الباقون {بَاعِدْ} بألف وبتخفيف العين وفيهما ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم قالوا ذلك لأنهم ملّوا النعم كما ملَّ بنو اسرائيل المن والسلوى , قاله الحسن. الثاني: أنهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي كانت أشهى في النفوس وأحلى , قاله ابن عيسى , وهو قريب من الأول لأنه بطر. فصار نوعاً من الملل.

الثالث: معناه زد في عمارتنا حتى تبعد فيه أسفارنا , حكاه النقاش. وهذا القول منهم طلباً للزيادة والكثرة. وقرأ بعض القراء {بَعُد} بضم العين وتخفيفها , وهذا القول منهم شكوى لبعد سفرهم وتمني قصره. {وَظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ظلموها بقولهم باعد بين أسفارنا , قاله بن زيد. الثاني: بتكذيب الرسل وهم ثلاثة عشر نبياً. قال الكلبي: أنهم قالوا لرسلهم حين ابتلوا وهم مكذبون: وقد كنا نأبى عليكم وأرضنا عامرة خير أرض فكيف اليوم وأرضنا خراب شر أرض. الثالث: أنهم ظلموا أنفسهم بالتغيير والتبديل بعد أن كانوا مسلمين , قاله الحسن. {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي يتحدث الناس بما كانوا فيه من نعيم وما صارواْ إليه من هلاك , حتى ضرب المثل فقيل: تفرقوا أيدي سبأ , ومنه قول الشاعر: (باد قوم عصف الدهر بهم ... فرقوا عن صرفه أيدي سبأ) {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فيه قولان: أحدهما: أنهم فرقوا بالهلاك حتى صاروا تراباً تذروه الرياح , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنهم مزقوا بالتفريق والتباعد , قاله قتادة. حكى الشعبي قال: أما غسان فلحقوا بالشام , وأما خزاعة فحلقوا بمكة , وأما الأوس والخزرج فلحقوا بيثرب يعني المدينة , وأما الأزد فلحقوا بعمان. {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: صبار على البلوى شكور على النعماء. الثاني: صبور على أمر الله شكور في طاعة الله.

20

{ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه لما أُهْبِطَ آدم من الجنة ومعه حواء , وهبط إبليس , قال إبليس أما إذ أصيب من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف وكان ظناً من إبليس , فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ} قاله الحسن. الثاني: أن إبليس إذ قال: خُلِقْتُ من نار وخلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء , لأحتنكن ذريته إلا قليلاً , فصدق ظنه عليه , قاله ابن عباس. الثالث: أنه قال: يا رب أرأيت هؤلاء القوم الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علىّ لا تجد أكثرهم شاكرين , ظن منه فصدق عليهم ظنه , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضَلّهم أطاعوه فصدق ظنه فاتبعوه قاله الكلبي. {فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَريقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: فاتبعوا إبليس , قاله الحسن. الثاني: فاتبعوا ظنه , قاله مجاهد.

22

{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} قوله عز وجل: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} حكى الفراء فيه وجهين: أحدهما: حتى يؤذن له في الشفاعة.

الثاني: حتى يؤذن له فيمن يشفع له , ووجدت الأول قول الكلبي والثاني قول مقاتل. {حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه خلي عن قلوبهم الفزع , قاله ابن عباس , وقال قطرب: أخرج ما فيها من الخوف. الثاني: كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة , قاله مجاهد. الثالث: أنهم الشياطين فزع عن قلوبهم ففارقوا ما كانوا عليه من إضلال أوليائهم , قاله ابن زيد. الرابع: أنهم دعوا فاستجابوا من قبورهم مأخوذ من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ فسمي الداعي فزعاً والمجيب فزعاً , قال زهير: (إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا قصار ولا عُزْلُ) الخامس: أنهم الملائكة فزعوا عند سماع الوحي من الله تعالى لانقطاعه ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام , وكان لصوته صلصلة كوقع الحديد على الصفا , فخرُّوا عنده سجوداً مخافة القيامة فسألوا فقالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق أي الوحي , وهذا معنى قول كعب. السادس: وهو تأويل قراءة الحسن: حتى فرغ عن قلوبهم بالغين معجمة يعني فرغ ما فيها من الشك والشرك. {قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} أي قال لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا. {قَالُواْ الْحَقَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يجدوا ما وصفوه عن الله تعالى حقاً. الثاني: أن يصدقوا بما قاله الله تعالى أنه حق. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.

24

{قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم} قوله عز وجل: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: أن رزق السموات المطر ورزق الأرض النبات , قاله الكلبي. الثاني: أن رزق السموات ما قضاه من أرزاق عباده , ورزق الأرض ما مكنهم فيه من مباح. {قُلِ اللَّهُ} وهذا جواب قل من يزرقكم من السموات والأرض , ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون للمشركين حين سئلوا عن ذلك لأنهم لا يجحدون أن الله رازقهم. الثاني: أن يكون أمراً في أمر الله أي يجابوا به لأنهم لا يجحدونه لتقوم به الحجة عليهم. {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه: إننا نحن لعلى هدى وإنكم أنتم لفي ضلال مبين , قاله عكرمة وأبو عبيدة وزياد بن أبي مريم. قال الفراء: أو بمعنى الواو. الثاني: أن أحدنا لعلى هدى والآخر لفي ضلال مبين , دفعاً لأنقصهما , ومنعاً من أرذلهما كقول القائل: إن أحدنا لكاذب , دفعا للكذب عن نفسه وإِضافته إلى صاحبه وإن أحدنا لصادق , إضافة للصدق إلى نفسه ودفعاً عن صاحبه , قاله مجاهد. الثالث: معناه: الله رزقنا وإياكم لعلى هدى كنا أو في ضلال مبين حكاه النقاش. قوله عز وجل: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يعني يوم القيامة.

{ثُمُّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أي يقضي بيننا لأنه بالقضاء يفتح وجه الحكم , وقال السدي هي لغة يمانية. قوله: {بِالْحَقِّ} قال مجاهد: بالعدل. {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَليمُ} أي القاضي العليم وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: العليم بما يخفون , قاله محمد بن إسحاق. الثاني: العليم بالحكم , قاله ابن زياد. الثالث: العليم بخلقه , قاله مقاتل.

28

{وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون} قوله عز وجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أنه رسول إلى كافة الناس أي إلى جميعهم , قال ابن عباس. الثاني: معناه أنك رسول الله إلى جميع الناس وتضمهم , ومنه كف الثوب لأنه ضم طرفيه. الثالث: معناه إنا أرسلناك كافاً للناس أي مانعاً لهم من الشرك وأدخلت الهاء للمبالغة , قاله ابن بحر.

31

{وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل

مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني كفار العرب , {لَن نُّؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْءانِ وَلاَ بِالَّذي بَيْنَ يَدَيْهِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: التوراة , والإِنجيل , قاله السدي. الثاني: من الأنبياء والكتب , قاله قتادة. الثالث: من أمر الآخرة , قاله ابن عيسى. قال ابن جريج: قائل ذلك أبو جهل ابن هشام. قوله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: معناه بل غركم اختلاف الليل والنهار , قاله السدي. الثاني: بل عملكم من الليل والنهار , قاله سفيان. الثالث: بل معصية الليل والنهار , قاله قتادة. الرابع: بل مر الليل والنهار , قاله سعيد بن جبير. الخامس: بل مكرهم في الليل والنهار , قاله الحسن. {إذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} فيه وجهان: أحدهما: أشباهاً , قاله سعيد بن جبير. الثاني: شركاء , قاله أبو مالك.

34

{وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون والذين يسعون في آياتنا

معاجزين أولئك في العذاب محضرون قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} قوله عز وجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} يعني من نبي ينذرهم بعذاب الله. {إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} فيهم ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني جبابرتها , قاله ابن جريج. الثاني: أغنياؤها , قاله يحيى بن سلام. الثالث: ذوو النعم والبطر , قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وأَوْلاَداً} قالوا ذلك للأنبياء والفقراء ويحتمل قولهم ذلك وجهين: أحدهما: أنهم بالغنى والثروة أحق بالنبوة. الثاني: أنهم أولى بما أنعم الله عليهم من الغنى أن يكونوا على طاعة. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أي ما عذبنا بما أنتم فيه من الفقر. الثاني: أي ما أنعم الله علينا بهذه النعمة وهو يريد عذابنا , فرد الله تعالى عليهم ما احتجوا من الغنى فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم. {قُلْ إنَّ رَبِّي يُبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ} أي يوسعه. {وَيَقْدِرُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يقترعليه , قال الحسن يبسط لهذا مكراً به , ويقدر لهذا نظراً له. الثاني: بنظره له , رواه حصين بن أبي الجميل. الثالث: بخير له , رواه حارث بن السائب. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله يوسع على من يشاء ويقتر على من يشاء. قوله عز وجل: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلآ أَوْلاَدُكُمْ بالتَّي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} قال

مجاهد: أي قربى والزلفة القربة , ويحتمل وجهين: أحدهما: أن أموالكم في الدنيا لا تدفع عنكم عذاب الآخرة. الثاني: أن إنعامنا بها عليكم في الدنيا لا يقتضي إنعامنا عليكم بالجنة في الآخرة. {إلاَّ مَنْءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} روى ليث عن طاووس أنه كان يقول اللهم ارزقني الإيمان والعمل , وجنبني المال والولد , فإني سمعت فيما أوحيْتَ {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بَالَّتِي تُقَرِّبْكْمُ عِندَنَا زُلْفَى إلاَّ مَنْءَامَنَ وَعَمِلَ صالِحاً}. {فَأُوْلئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أضعاف الحسنة بعشر أمثالها , وأضعاف الدرهم بسبعمائة , قاله ابن زيد. الثاني: أن المؤمن إذا كان غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية , قاله محمد بن كعب. الثالث: يعني فله جزاء مثل عمله لأن الضعف هو المثل ويقتضي ذلك المضاعفة , قاله بعض المتأخرين. {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِءَامِنُونَ} يعني غرفات الجنة. {ءَامِنُونَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: آمنون من النار , قاله يحيى ابن سلام. الثاني: من انقطاع النعم , قاله النقاش. الثالث: من الموت , قاله مقاتل. الرابع: من الأحزان والأسقام. قوله عز وجل: {وَمآ أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فهو يخلفه إن شاء إذا رأى ذلك صلاحاً كإجابة الدعاء , قاله ابن عيسى. الثاني: يخلفه بالأجر في الآخرة إذا أنفقه في طاعة , قاله السدي. الثالث: معناه فهو أخلفه لأنه نفقته من خلف الله ورزقه , قاله سفيان بن الحسين.

ويحتمل رابعاً: فهو يعني عنه.

40

{ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون} قوله عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني المشركين ومن عبدوه من الملائكة. {ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلآَئِكَةِ أَهَؤلآَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} وهذا السؤال للملائكة تقرير وليس باستفهام , وإن خرج مخرج الاستفهام. {قََالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم} فيه وجهان: أحدهما: أنت الذي توالينا بالطاعة دونهم. الثاني: أنت ناصرنا دونهم. {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني أنهم أطاعوا الجن في عبادتنا , وصاروا بطاعتهم عابدين لهم دوننا. {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} أي جميعهم بهم مؤمنون , وهذا خروج عن الظاهر.

43

{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} قوله عز وجل: {وََمَآءَاتَينَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يعني مشركي قريش ما أنزل الله تعالى عليهم كتاباً قط يدرسونه، فيه وجهان:

أحدهما: فيعلمون بدرسه أن ما جئت به حق أم باطل , قاله السدي. الثاني: فيعلمون أن الله تعالى شريكاً على ما زعموه , قاله ابن زيد. {وَمَآ أَرْسَلْنَآ إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} أي ما بعثنا إليهم رسولاً غيرك. قوله عز وجل: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم. {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءاتَيْنَاهُمْ} فيه أربعة: أحدها: يعني أنهم ما عملوا معشار ما أمروا به , قاله الحسن. الثاني: أنه يعني ما أعطى الله سبحانه قريشاً ومن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم من أمته معشار ما أعطى من قبلهم من القوة والمال , قاله ابن زيد. الثالث: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم , حكاه النقاش. الرابع: ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من البيان والحجة والبرهان. قال ابن عباس فليس أمة أعلم من أمته ولا كتاب أبين من كتابه. وفي المعشار ثلاثة أوجه: أحدها: أنه العشر وهما لغتان. الثاني: أنه عشر العشر وهو العشير. الثالث: هو عشير العشير , والعشير عشر العشر , فيكون جزءاً من ألف جزء , وهو الأظهر , لأن المراد به المبالغة في التقليل. {فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي عقابي وفي الكلام إضمار محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف كان نذير.

46

{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} قوله عز وجل: {قُلْ إنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} فيه قولان: أحدهما: يعني بطاعة الله عز وجل , قاله مجاهد. الثاني: بالا إله إلا الله , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: بالقرآن لأنه يجمع كل المواعظ. {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} يعني أن تقوموا لله بالحق , ولم يُرد القيام على

الأرجل كما قال تعالى: {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسطِ} [النساء: 127]. وفي قوله: {مَثْنَى وَفُرَادَى} ثلاثة أوجه: أحدها: معناه جماعة وفرادى , قاله السدي. الثاني: منفرداً برأيه ومشاوراً لغيره , وهذا قول مأثور. الثالث: مناظراً مع غيره ومفكراً في نفسه , قاله ابن قتيبة. ويحتمل رابعاً: أن المثنى عمل النهار , والفرادى عمل الليل , لأنه في النهار. مُعانٌ وفي الليل وحيد. {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} قال قتادة أي ليس بمحمد جنون. {إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} يعني في الآخرة , قال مقاتل: وسبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل كفار قريش ألا يؤذوه ويمنعوا منه لقرابته منهم حتى يؤدي رسالة ربه , فسمعوه يذكر اللات والعزى في القرآن فقالوا يسألنا ألا نؤذيه لقرابته منا ويؤذينا بسبب آلهتنا فنزلت هذه الآية.

47

{قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب} قوله عز وجل: {قُلْ مَا سأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} فيه قولان: أحدهما: من مودة قاله ابن عباس , لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قريشاً أن يكفوا عن أذيته حتى يبلغ رسالة ربه. الثاني: من جُعْل قاله قتادة , ويشبه أن يكون في الزكاة. ويحتمل ثالثاُ: أن أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي فهو لكم دوني. {إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى اللَّهِ} أي ما ثوابي إلا على الله في الآخرة. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ} فيه وجهان: أحدهما: شهيد أن ليس بي جنون.

الثاني: شهيد أني لكم نذير بين يدي عذاب شديد. قوله عز وجل: {قُلْ إنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} فيه تأويلان: أحدهما: بالوحي , قاله قتادة. الثاني: بالقرآن , رواه معمر. وفي قوله: {يَقْذِفُ} ثلاثة أوجه: أحدها: يتكلم. الثاني: يوحي. الثالث: يلقي. {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} قال الضحاك: الخفيات. قوله عز وجل: {قُلْ جَآءَ الْحَقُّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله ابن زيد. الثاني: القرآن , قاله قتادة. الثالث: الجهاد بالسيف , قاله ابن مسعود. {وَمَا يُبْدِيءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الباطل الشيطان. رواه معمر. الثاني: أنه إبليس. رواه خليد. الثالث: أنه دين الشرك , قاله ابن بحر. وفي إبداء الباطل وإعادته ثلاثة أوجه: أحدها: لا يخلق ولا يبعث , قاله قتادة. الثاني: لا يحيي ولا يميت , قاله الضحاك. الثالث: لا يثبت إذا بدا , ولا يعود إذا زال , قاله ابن بحر.

51

{ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل ويقذفون

بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب} قوله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إذْ فِزَعُواْ} في فزعهم خمسة أقاويل: أحدها: فزعهم يوم القيامة , قاله مجاهد. الثاني: فزعهم في الدنيا حين رأو بأس الله عز وجل: قاله قتادة. الثالث: هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقي أصحابه فيفزعوا فهذا هو فزعهم , قاله سعيد بن جبير. الرابع: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة , قاله السدي. الخامس: هو فزعهم في القبور من الصيحة , قاله الحسن. وفي قوله تعالى: {فَلاَ فَوْتَ} ثلاثة أوجه: أحدها: فلا نجاة , قاله ابن عباس. الثاني: فلا مهرب , وهو معنى قول مجاهد. الثالث: فلا سبق , قاله قتادة. {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} فيه ستة أقاويل: أحدها: من تحت أقدامهم , قاله مجاهد. الثاني: يوم بدر , قاله زيد بن أسلم. الثالث: هو جيش السفياني , قاله ابن عباس.

الرابع: عذاب الدنيا , قاله الضحاك. الخامس: حين خرجوا من القبور , قاله الحسن. السادس: هو يوم القيامة , قاله القاسم بن نافع. ويحتمل سابعاً: في أسرِّ ما كانوا فيه نفوساً , وأقوى ما كانوا عليه أملاً لأنه أقرب بلاء من نعمه. قوله عز وجل: {وَقَالُواءَامَنَّا بِهِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني بالله , قاله مجاهد. الثاني: بالبعث , قاله الحسن. الثالث: بالرسل , قاله قتادة. {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} وفي التناوش ثلاثة أقاويل: أحدها: هو الرجعة , قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر: (تمنى أن تؤوب إليّ ميٌّ ... وليس إلى تناوشها سبيل) الثاني: هو التوبة , قاله السدي. الثالث: هو التناول من قولهم نشته أنوشه نوشاً إذا تناوله من قريب , وقد تناوش القوم إذا دنا بعضهم من بعض ولم يلتحم القتال بينهم , قال الشاعر: (فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا) {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} فيه ثلاثة أقوايل: أحدها: من الآخرة إلى الدنيا، قاله مجاهد. الثاني: ما بين الآخرة والدنيا، رواه القاسم بن نافع. الثالث: هو طلبهم الأمر من حيث لا ينال , قاله الحسن. ويحتمل قولاً رابعاً: بعيد عليهم لاستحالته عندهم.

قوله عز وجل: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم كفروا بالله تعالى، قاله مجاهد. الثاني: بالبعث، قاله الحسن. الثالث: بالرسول، قاله قتادة. {مِن قَبْلُ} فيه وجهان: أحدهما: في الدنيا , قاله مجاهد. الثاني: من قبل العذاب. {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه يرجمون بالظن ويقولون في الدنيا لا بعث ولا جنة ولا نار , قاله الحسن. الثاني: أنه طعنهم في القرآن , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثالث: هو طعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو ساحر , قاله مجاهد , وسماه قذفاً لخروجه عن غير حق. قوله عز وجل: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} يعني بالموت , وفيه خمسة تأويلات: أحدها: حيل بينهم وبين الدنيا , قاله مجاهد. الثاني: بينهم وبين الإيمان , قاله الحسن. الثالث: بينهم وبين التوبة , قاله السدي. الرابع: بينهم وبين طاعة الله تعالى , قاله خليد. الخامس: حيل بين المؤمن وبين العمل , وبين الكافر وبين الإيمان , قاله يزيد بن أبي يزيد. {كَمَا فُعِلَ بِأَشْياعِهِم مّن قَبْلُ} فيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم أوائلهم من الأمم الخالية , قاله مقاتل. الثاني: أنه أصحاب الفيل حين أرادوا خراب الكعبة , قاله الضحاك. الثالث: هم أمثالهم من الكفار الذين لم يقبل الله سبحانه منهم التوبة عند المعاينة. {إنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} فيه وجهان: أحدهما: لا يعرفون نبيهم , قاله مقاتل. الثاني: هو شكهم في وقوع العذاب , قاله الضحاك.

سورة فاطر بسم الله الرحمن الرحيم

فاطر

{الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير} قوله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} والفطر الشق عن الشيء بإظهاره للحسن يقال فطر ناب الناقة إذا طلع , وفطر دمه إذا أخرجه. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها. وفي تأويله ههنا وجهان: أحدهما: خالق السموات والأرض , قاله قتادة , والكلبي , ومقاتل. الثاني: أنه شقها لما ينزل منها وما يعرج فيها. {جَاعِلِ الْمَلآَئِكَةِ رُسُلاً} فيه قولان: أحدهما: إلى الأنبياء , قاله يحيى بن سلام. الثاني: إلى العباد رحمة أو نقمة , قاله السدي. {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} قال قتادة: بعضهم له جناحان , وبعضهم ثلاثة , وبعضهم أربعة. والمثنى والثلاث والرباع ما تكرر فيه الاثنان والثلاثة والأربعة.

{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه حسن الصوت , قاله الزهري وابن جريج. الثاني: أنه الشعر الجعد , حكاه النقاش. الثالث: يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء , قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: أنه العقل والتمييز. ويحتمل خامساً: أنه العلوم والصنائع. ويكون معناه على هذين التأويلين: كما يزيد في الخلق ما يشاء كذلك يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء.

2

{ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} قوله عز وجل: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} فيه سبعة تأويلات: أحدها: من خير , قاله قتادة. الثاني: من مطر , قاله السدي. الثالث: من توبة , قاله ابن عباس. الرابع: من وحي , قاله الحسن. الخامس: من رزق وهو مأثور.

السادس: من عافية , قاله الكلبي. السابع: من دعاء , قاله الضحاك. ويحتمل ثامناً: من توفيق وهداية.

7

{الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} قوله عز وجل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس , قاله أبو قلابة , ويكون سوء عمله معاندة الرسول. الثاني: أنهم الخوارج , رواه عمرو بن القاسم , ويكون سوء عمله تحريف التأويل. الثالث: الشيطان , قاله الحسن ويكون سوء عمله الإغواء. الرابع: كفار قريش , قاله الكلبي , ويكون سوء عملهم الشرك. وقيل إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب , وقال غيره نزلت في أبي جهل بن هشام. في قوله: {فَرءَاهُ حَسَناً} وجهان: أحدهما: صواباً , قاله الكلبي. الثاني: جميلاً. وفي الكلام محذوف اختلف فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: أن المحذوف منه: فإنه يتحسر عليه يوم القيامة , قاله ابن عيسى. الثاني: أن المحذوف منه: كمن آمن وعمل صالحاً لا يستويان , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أن المحذوف منه: كمن عمل الحسن والقبح.

9

{والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد

موتها كذلك النشور من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} قوله عز وجل: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} فيه قولان: أحدهما: يعني بالعزة المنعة فيتعزز بطاعة الله تعالى , قاله قتادة. الثاني: علم العزة لمن هي , فلله العزة جميعاً. وقيل إن سبب نزول هذه الآية ما رواه الحسن أن المشركين عبدوا الأوثان لتعزهم كما وصف الله تعالى عنهم في قوله: {وَاتَّخَذُواْ مِن اللهِ دُونِءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُم عِزّاً} فأنزل الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فِلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}. {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} فيه قولان: أحدهما: أنه التوحيد , قاله يحيى بن سلام. الثاني: الثناء علىمن في الأرض من صالح المؤمنين يصعد به الملائكة المقربون , حكاه النقاش. {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فيه قولان: أحدهما: أنه أداء الفرائض. الثاني: أنه فعل القرب كلها. وفي قوله: {يَرْفَعُهُ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أن العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب , قاله الحسن , ويحيى بن سلام. الثاني: أن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب , قاله الضحاك وسعيد بن جبير. الثالث: أن العمل يرفعه الله بصاحبه , قاله قتادة , السدي. {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} يعني يشركون في الدنيا

{لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} يعني في الآخرة. {وَمَكْرُ أُوْلئِكَ هُوَ يَبُورُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يفسد عند الله تعالى , قاله يحيى بن سلام. الثاني: يبطل , قاله قتادة. الثالث: يهلك , والبوار الهلاك , قاله قطرب. وفي المراد: {أُوْلئِكَ} قولان: أحدهما: أهل الشرك. الثاني: أصحاب الربا , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ} يعني آدم. {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} يعني نسله. {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} فيه وجهان: أحدهما: أصنافاً , قاله الكلبي. الثاني: ذكراناً وإناثاً , والواحد الذي معه آخر من شكله زوج والاثنان زوجان , قال الله تعالى: {وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَينَ الذَّكَرَ والأُنْثَى} [النجم: 45] وتأول قتادة قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أي زوّج بعضكم لبعض. {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} يعني بأمره. {وَمَا يَعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ منْ عَمُرِهِ. .} الآية. فيه قولان: أحدهما: ما نمد في عمر معمر حتى يصير هرماً. ولا ينقص من عمر أحد حتى يموت طفلاً إلا في كتاب. الثاني: ما يعمر من معمر قدر الله تعالى مدة أجله إلا كان ما نقص منه بالأيام الماضية عليه في كتاب عند الله. قال سعيد بن جبير: هي صحيفة كتب الله تعالى في أولها أجله , ثم كتب في أسفلها ذهب يوم كذا ويوم كذا حتى يأتي على أجله , وبمثله قال أبو مالك , والشعبي. وفي عمر المعمر ثلاثة أقاويل: أحدها: ستون سنة , قاله الحسن.

الثاني: أربعون سنة. الثالث: ثماني عشرة سنة , قاله أبو غالب. { ... إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي هين. ويحتمل وجهين: أحدهما: أن إثبات ذلك على الله يسير. الثاني: أن زيادة عمر المعمر ونقصان عمر الآخر عند الله تعالى يسير. وللكلبي فيه ثالث: أن حفظ ذلك بغير كتاب على الله يسير.

12

{وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يستويان في أنفسهما. الثاني: في منافع الناس بهما. {هذَا عَذْبٌ فُراتٌ} والفرات هو العذب وذكره تأكيداً لاختلاف اللفظين كما يقال هذا حسن جميل. {سَآئَغٌ شَرَابُهُ} أي ماؤه. {وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي مُرٌّ مأخوذ من أجة النار كأنه يحرق من شدة المرارة , قال الشاعر: (دُرَّةٌ في اليمين أخرجها الغا ... ئص من قعر بحر ملح أجاج)

{وَمِن كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} يعني لحم الحيتان مأكول من كلا البحرين. {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} اللؤلؤ والمرجان يستخرج من الملح , ويكون المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما. وقيل: بل هو مأخوذ منهما لأن في البحر عيوناً عذبة , وما بينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج وقيل من مطر السماء. ثم قال: {تَلْبَسُونَهَا} وإن لبسها النساء دون الرجال لأن جمالها عائد عليهم جميعاً. {وَتَرى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: مقبلة ومدبرة وريح واحدة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: مواقر , قاله الحسن. قال الشاعر: (تراها إذا راحت ثقالاً كأنها ... مواخر فلك أو نعام حوافل) الثالث: معترضة , قاله أبو وائل. الرابع: جواري , قاله ابن قتيبة. الخامس: تمخر الماء أي تشقه في جريها شقاً , قاله علي بن عيسى. {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} قال مجاهد: التجاة في الفلك. ويحتمل وجهاً آخر ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتان. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فيه وجهان]: أحدهما: على ما آتاكم من نعمه. الثاني: على ما آتاكم من فضله. ويحتمل ثالثاً: على ما أنجاكم من هوله.

15

{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزر وازرة

وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير} قوله عز وجل: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرَى} أي لا تحمل نفس ما تحمله نفس أخرى من ذنوبها , ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال الملك بتدبيره. {وَإن تَدَعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَل مِنْهُ شَيْءٌ} قال مجاهد مثقلة بالذنوب , ومعنى الكلام أن النفس التي قد أثقلتها ذنوبها إذا دعت يوم القيامة من يتحمل الذنوب عنها لم تجد من يتحمل عنها شيئاً من ذنوبها. {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ولو كان المدعو إلى التحمل قريباً مناسباً , ولو تحمله عنها ما قُبل تحمله , لما سبق من قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. {إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهَم بِالْغَيْبِ} فيه وجهان: أحدهما: في السر حيث لا يطلع عليه أحد , قاله يحيى بن سلام. الثاني: في التصديق بالآخرة , حكاه ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: يخشونه في ضمائر القلوب كما يخشونه في ظواهر الأفعال.

19

{وما يستوي الأعمى

والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير} قوله عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. .} الآية. فيه قولان: أحدهما: أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر , كما لا يستوي الأعمى والبصير , ولا تستوي الظلمات ولا النور , ولا يستوي الظل ولا الحرور لا يستوي المؤمن والكافر , قاله قتادة. الثاني: أن معنى قوله وما يستوي الأعمى والبصير أي عمى القلب بالكفر وبصره بالإيمان , ولا تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان , ولا يستوي ظل الجنة وحرور النار , قاله السدي. والحرور الريح الحارة كالسموم , قال الفراء: الحرور يكون بالليل والنهار , والسموم لا يكون إلا بالنهار. وقال الأخفش: الحرور لا يكون إلا مع شمس النهار , والسموم يكون بالليل والنهار. قال قطرب: الحرور الحر , والظل البرد. ومعنى الكلام: أنه لا يستوي الجنة والنار. قوله عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر , كما أنه لا يستوي الأحياء والأموات فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر , قاله قتادة. الثاني: أن الأحياء المؤمنون الذين أحياهم الإيمان. والأموات الكفار الذين أماتهم الكفر وهذا مقتضى قول السدي. الثالث: أن الأحياء العقلاء , والأموات الجهال , قاله ابن قتيبة وفي {لاَ} في هذا الموضع وفيما قبله قولان: أحدهما: أنها زائدة مؤكدة. الثاني: أنا نافية لاستواء أحدهما بالآخر. {إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} أي يهدي من يشاء. {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه مثل ضربه الله , كما أنك لا تُسمع الموتى في القبور كذلك لا تسمع الكافر. الثاني: أن الكافر قد أماته الكفر حتى أقبره في كفره فلذلك لا يسمع , وقيل إن مراد الله تعالى بهذه الآية الإخبار أن بين الخير فروقاً , كما أن بين الشر فروقاً،

ليطلب من درجات الخير أعلاها ولا يحتقر من درجات الشر أدناها , وهو الظاهر من قول علي ابن عيسى. قوله عز وجل: {إنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً} أي بالقرآن بشرى بالجنة. {وَنَذِيراً} من النار. {وَإن مَّنْ أُمَّةِ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أي سلف فيها نبي , قال ابن جريج: إلا العرب.

27

{ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَنْا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} وفيه مضمر محذوف تقديره مختلف ألوانها وطعومها وروائحها , فاقتصر منها على ذكر اللون لأنه أظهرها {وَمِنَ الْجبَالَ جُدَدٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن الجدد القطع مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته , حكاه ابن بحر. الثاني: أنها الخطط واحدتها جُدة مثل مُدة ومدد , ومنه قول زهير: (كأنه أسفع الخدين ذو جُدد ... طاوٍ ويرتع بعد الصيف عريانا) {بِيضُ وَحُمرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} والغربيب الشديد السواد الذي لونه كلون الغراب. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الشَّيخَ الْغِرْبِيبَ) يعني

الذي يخضب بالسواد , قال امرؤ القيس: (العين طامعة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب) وقيل فيه تقديم وتأخير , وتقديره سود غرابيب. وفي المراد بالغرابيب السود ثلاثة أوجه: أحدها: الجبال السود , قاله السدي. الثاني: الطرائف السود , قاله ابن عباس. الثالث: الأودية السود , قاله قتادة. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوآبِّ وَالأَنعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلَوَانُهُ كَذلِكَ} فيه وجهان: أحدهما: كذلك مختلف ألوانه أبيض وأحمر وأسود. الثاني: يعني بقوله كذلك أي كما اختلف ألوان الثمار والجبال والناس والدواب والأنعام كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية. ثم استأنف فقال: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عَبَادِهِ الْعُلَمَآءُ} يعني بالعلماء الذين يخافون. قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم. قال ابن مسعود: المتقون سادة , والعلماء قادة. وقيل: فاتحة الزبور الحكمة خشية الله.

29

{إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا من ما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}

قوله عز وجل: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} يعني الجنة , وفيها وجهان: أحدهما: لن تفسد , قاله يحيى بن سلام. الثاني: لن تكسد , قاله علي بن عيسى والأول أشبه لقول الشاعر: (يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنا بور) قوله عز وجل: {لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ} يعني ثواب أعمالهم. {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يفسح لهم في قبورهم , قاله الضحاك. الثاني: يشفعهم فيمن أحسن إليهم في الدنيا , قاله أبو وائل. الثالث: يضاعف لهم حسناتهم , وهو مأثور. الرابع: غفر الكثير والشكر اليسير , قاله بعض المتأخرين. ويحتمل خامساً: يوفيهم أجورهم على فعل الطاعات ويزيدهم من فضله على اجتناب المعاصي {إنَّهُ غَفُورٌ} للذنب. {شَكُورٌ} للطاعة. ووصفه بأنه شكور مجاز ومعناه أن يقابل بالإحسان مقابلة الشكور لأنه يقابل على اليسير بأضعافه.

31

{والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير} {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِن عِبَادِنَا} فيه وجهان: أحدهما: أن الكتاب هو القرآن , ومعنى الإرث انتقال الحكم إليهم. الثاني: أن إرث الكتاب هو الإيمان بالكتب السالفة لأن حقيقة الإرث انتقال الشيء من قوم إلى قوم.

وفي {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبادِنَا} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الأنبياء , حكاه ابن عيسى. الثاني: أنهم بنو إسرائيل لقوله عز وجل: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَىءَادَمَ وَنُوحاً} [آل عمران: 33] الآية. قاله ابن بحر. الثالث: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قاله الكلبي. {فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِِمٌ لِّنَفْسِهِ} كلام مبتدأ لا يرجع إلى المصطفين , وهذا قول من تأول المصطفين الأنبياء , فيكون من عداهم ثلاثة أصناف على ما بينهم. الثاني: أنه راجع إلى تفصيل أحوال الذين اصطفينا , ومعنى الاصطفاء الاختيار وهذا قول من تأول المصطفين غير الأنبياء , فجعلهم ثلاثة أصناف. فأما الظالم لنفسه ها هنا ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنهم أهل الصغائر من هذه الأمة , روى شهر بن حوشب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سابقنا سابق , ومقتصدنا ناج , وظالمنا مغفور له. الثاني: أنهم أهل الكبائر وأصحاب المشأمة , قاله السدي. الثالث: أنهم المنافقون وهم مستثنون. الرابع: أنهم أهل الكتاب , قاله الحسن. الخامس: أنه الجاحد , قاله مجاهد. وأما المقتصد ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه المتوسط في الطاعات وهذا معنى حديث أبي الدرداء , روى

إبراهيم عن أبي صالح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية فقال: (أَمَّا السَّابِقُ فَيدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ , وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَيُحَاسَب حِسَاباً يَسِيراً , وَأمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فِيُحْصَرُ فِي طُولِ الحِبْسِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللَّهُ عَنهُ) الثاني: أنهم أصحاب اليمين , قاله السدي. الثالث: أنهم أصحاب الصغائر وهو قول متأخر. الرابع: أنهم الذين اتبعوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم من بعده , قاله الحسن. {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم المقربون , قاله مجاهد. الثاني: أنهم المستكثرون من طاعة الله تعالى , وهو مأثور. الثالث: أنهم أهل المنزلة العليا في الطاعات , قاله علي بن عيسى. الرابع: أنه من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالجنة. روى عقبة بن صهبان قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: كلهم من أهل الجنة , السابق من مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد له بالحياة والرزق , والمقتصد من اتبع أثره حتى لحق به , والظالم لنفسه مثلي ومثلك ومن اتبعنا.

33

{جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب}

قوله عز وجل: {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: أنه خوف النار , قاله ابن عباس. الثاني: أنه حزن الموت , قاله عطية. الثالث: تعب الدنيا وهمومها , قاله قتادة. الرابع: حزن المنّة , قاله سمُرة. الخامس: حزن الظالم لما يشاهد من سوء حاله , قاله ابن زيد. السادس: الجوع حكاه النقاش. السابع: خوف السلطان , حكاه الكلبي. الثامن: طلب المعاش , حكاه الفراء. التاسع: حزن الطعام , وهو مأثور. ويحتمل عاشراً: أنه حزن التباغض والتحاسد لأن أهل الجنة متواصلون لا يتباغضون ولا يتحاسدون. وفي وقت قولهم لذلك قولان: أحدهما: عند إعطاء كتبهم بأيمانهم لأنه أول بشارات السلامة , فيقولون عندها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}. الثاني: بعد دخول الجنة , قاله الكلبي , وهو أشبه لاستقرار الجزاء والخلاص من أهوال القيامة فيقولون ذلك عند أمنهم شكراً. قوله عز وجل: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمَقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} أي دار الإقامة وهي الجنة. وفي الفرق بين المقامة بالضم والفتح وجهان: أحدهما: أنها بالضم دار الإقامة , وبالفتح موضع الإقامة. الثاني: أنها بالضم المجلس الذي يجتمع فيه للحديث. {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} فيه وجهان: أحدهما: تعب , قاله ابن عيسى. الثاني: وجع , قاله قتادة. {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فيه وجهان:

أحدهما: أنه العناء , قاله أبو جعفر الطبري. الثاني: أنه الإعياء , قاله قطرب وابن عيسى.

36

{والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} قوله عز وجل: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} قال ابن جريج: وهم يستغيثون فيها {َرَبَّنَآ أخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي نؤمن بدل الكفر ونطيع بدل المعصية. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه البلوغ , قاله الحسن لأنه أول زمان التذكر. الثاني: ثماني عشرة سنة. الثالث: أربعون سنة , قاله ابن عباس ومسروق. الرابع: ستون سنة , قاله علي بن أبي طالب مرفوعاً. الخامس: سبعون سنة لأنه آخر زمان التذكر , وما بعده هرم. روى أبو هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إلَى عَبدٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتّىَ بلَغَ سِتِيّنَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً). قوله عز وجل: {وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله ابن زيد. الثاني: الشيب , حكاه الفراء والطبري. الثالث: الحمى. الرابع: موت الأهل والأقارب. ويحتمل خامساً: أنه كمال العقل.

38

{إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا} {فَذُوقُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: حسرة الندم. الثاني: عذاب جهنم. قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْض} قال قتادة خلفاً بعد خلف قرناً بعد قرن , والخلف هو الثاني للمتقدم , ولذلك قيل لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة الله , فقال لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا راضٍ بذلك. وقال بعد السلف إنما يستخلف من يغيب أو يموت , والله تعالى لا يغيب ولا يموت. {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي فعليه عقاب كفره. قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: شركاءكم في الأموال التي جعلتم لهم قسطاً منها الأوثان. الثاني: الذين أشركتموهم في العبادة.

40

{قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا} {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ} قاله السدي يعني في الأرض. {أَمْ لَهُمْ شرْكٌ فِي السَّموَاتِ} حتى صاروا شركاء في خلقها. {أَمْءَآتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن لله تعالى شركاء من الملائكة والأصنام فيهم مستمسكون به , وهذا قول ابن زياد.

الثاني: أم أنزلنا عليهم كتاباً بأن الله لا يعذبهم على كفرهم فهم واثقون به , وهو معنى قول الكلبي. {بَلْ إن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إلاَّ غُرُوراً} فيه وجهان: أحدهما: وعدوهم بأن الملائكة يشفعون. الثاني: وعدوهم بأنهم ينصرون عليهم.

42

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} قوله عز وجل: {وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله تعلى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم , حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم , فلعنوا من كذب نبيه منهم , وحلفوا بالله جل اسمه يميناً. {لَئِن جَآءَهُم نَذِيرٌ} أي نبي. {لَّيَكُوننَّ أَهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمْ} يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب. {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {مَّا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً} فيه وجهان: أحدهما: نفوراً عن الرسول. الثاني: نفوراً عن الحق. قوله عز وجل: {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: استكباراً عن عبادة الله , قاله يحيى بن سلام. الثاني: استكباراً بمعاصي الله , وهذا قول متأخر. {وَمَكْرَ السَّيِّىءِ} فيه وجهان: أحدهما: الشرك بالله , قاله يحيى.

الثاني: أنه المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه كما قال تعالى: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30] الآية. {وَلاَ يَحِيقُ الْمُكْرُ السَّيِّىءُ إلاَّ بِأَهْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما: قاله الكلبي , يحيق بمعنى يحيط. الثاني: قاله قطرب , يحيق بمعنى ينزل , وأنشد قول الشاعر: (وقد دفعوا المنية فاستقلت ... ذراعاً بعدما كادت تحيقُ) قال فعاد ذلك عليهم بقتلهم يوم بدر. {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ} يعني سنة الله في الأولين , وفيها وجهان: أحدهما: نزول العذاب بهم عند إصرارهم في التكذيب. الثاني: لا تقبل منهم التوبة عند نزول العذاب.

44

{أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا} قوله عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ} يعني من الذنوب. {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} قال يحيى بن سلام بحبس المطر عنهم وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني جميع الحيوان مما دب ودرج , قاله ابن مسعود , قال قتادة: وقد فعل ذلك زمان نوح عليه السلام. الثاني: من الإنس والجن دون غيرهما لأنهما مكلفان بالعقل , قاله الكلبي. الثالث: من الناس وحدهم , قاله ابن جريج.

{وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فيه قولان: أحدهما: الأجل المسمى الذي وعدهم في اللوح المحفوظ , قاله مقاتل. الثاني: إلى يوم القيامة , قاله يحيى. {فَإذَا جَآءَ أَجَلُهُم} فيه قولان: أحدهما: نزول العذاب. الثاني: البعث في القيامة. {فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} يحتمل وجهين: أحدهما: بصيراً بأجلهم. الثاني: بصيراً بأعمالهم , والله أعلم.

سورة يس مكية في قول الجميع، إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا إلا آية منها وهي قوله: {وإذا قيل لهم أنفقوا} [يس: 47] الآية.؟ بسم الله الرحمن الرحيم

يس

{يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} قوله عز وجل: {يس} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثاني: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم به , قاله ابن عباس. الثالث: أنه فواتح من كلام الله تعالى افتتح به كلامه , قاله مجاهد. الرابع: أنه: يا محمد , قاله محمد بن الحنفية , وروى علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّانِي في القُرآنِ بِسَبْعَةِ أَسْمَاءَ: مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَطه وَيس وَالمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ وَعَبدَ اللَّهِ). الخامس: أنه يا إنسان: قاله الحسن , وعكرمة , والضحاك , وسعيد ابن جبير. ثم اختلفوا فيه فقال سعيد بن جبير وعكرمة هي بلغة الحبشة. وحكى الكلبي

أنه بالسريانية وقال الشعبي: هو بلغة طيىء. وقال آخرون: هي بلغة كلب. ويحتمل سادساً: يئس من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون مؤمناً بالله , نفياً للإيمان أن يكون إلا بالشهادتين , واليأس أبلغ في النفي من جميع ألفاظه , ثم أثبت رسالته بقسَمه فقال: {وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: على شريعة واضحة. الثاني: على حجة بينة. قوله عز وجل: {لِّتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَءَابَآؤُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم قريش أنذروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينذر آباؤهم من قبلهم , قاله قتادة. الثاني: أنه عام ومعناه لتنذر قوماً كما أنذر آباؤهم , قاله السدي. {فَهُمْ غَافِلُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: عن قبول الإِنذار. الثاني: عن استحقاق العذاب. قوله عز وجل: {لَقَدْ حَقَّ الْقَولُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: معناه لقد وجب العذاب على أكثرهم , قاله السدي. الثاني: لقد سبق علم الله في أكثرهم , قاله الضحاك. وفي هذا القول الذي حق عليهم وجهان: أحدهما: أنه الوعيد الذي أوجبه الله تعالى عليهم من العذاب. الثاني: أنه الإِخبار عنهم بأنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم. {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} يعني الأكثرية الذين حق القول عليهم , وهم الذين عاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش , وأكثرهم لم يؤمنوا فكان المخبر كالخبر.

8

{إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء

عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} قوله عز وجل: {إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِِهِمْ أَغْلاَلاً} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول من التصرف، قاله يحيى بن سلام. الثاني: ما حكاه السدي أن ناساً من قريش ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءوا يريدون ذلك فجعلت أيديهم إلى أعناقهم فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه يداً. الثالث: أن المراد به جعل الله سبحانه لهم في النار من الأغلال في أعناقهم ويكون الجعل ها هنا مأخوذاً من الجُعالة التي هي الأجرة كأن جعالتهم في النار الأغلال , حكاه ابن بحر. وفي قوله: {فِي أَعْنَاقِهِمْ} قولان: أحدهما: في أيديهم , فكنى بالأعناق عن الأيدي لأن الغُل يكون في الأيدي , قاله الكلبي , وحكى قطرب أنها في قراءة ابن عباس: {إنَّا جَعَلْنَا فِي أَيْمَانِهِم أَغْلاَلاً} الثاني: أنها في الأعناق حقيقة , لأن الأيدي تجمع في الغل إلى الأعناق , قاله ابن عباس {فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ} فيه وجهان: أحدهما: إلى الوجوه فكنى عنها بالأذقان لأنها منها , قاله قتادة , أي قد غلت يده عند وجهه. الثاني: أنها الأذقان المنحدرة عن الشفة في أسفل الوجه لأن أيديهم تماسها إذا علت. {فَهُم مُّقْمَحُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: رفع رؤوسهم ووضع أيديهم على أفواههم , قاله مجاهد. الثاني: هو الطامح ببصره إلى موطىء قدمه , قاله الحسن. الثالث: هو غض الطرف ورفع الرأس مأخوذ من البعير المقمح وهو أن يرفع

رأسه ويطبق أجفانه في الشتاء إذا ورد ماء كريهاً , حكاه النقاش. وقال المبرد , وأنشد قول الشاعر: (ونحن على جوانبها قعود ... نغض الطرف كالإبل القماح) الرابع: هو أن يجذب ذقنه إلى صدره ثم يرفعه مأخوذ من القمح وهو رفع الشيء إلى الفم , حكاه عليّ بن عيسى وقاله أبو عبيدة. قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِن بَينِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني ضلالاً , قاله قتادة. الثاني: سداً عن الحق , قاله مجاهد. الثالث: ظلمة سدت قريشاً عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حين ائتمروا لقتله قاله السدي. قال عكرمة: ما صنع الله تعالى فهو السُدُّ بالضم , وما صنع الإنسان فهو السد بالفتح. {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فأغشيناهم بظلمة الكفر فهم لا يبصرون الهدى , قاله يحيى بن سلام , ومعنى قول مجاهد. الثاني: فأغشيناهم بظلمة الليل فهم لا يبصرون محمداً صلى الله عليه وسلم حين ائتمروا على قتله، قاله السدي , ومحمد بن كعب. قوله عز وجل: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَن اتَّبَعَ الذِّكرَ} يعني القرآن. {وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} فيه وجهان: أحدهما: ما يغيب به عن الناس من شر عمله , قاله السدي. الثاني: ما غاب من عذاب الله وناره , قاله قتادة. {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} لذنبه. {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لطاعته، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه الكثير. الثاني: الذي تنال معه الكرامة. قوله عز وجل: {إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} فيه وجهان: أحدهما: نحييهم بالإيمان بعد الكفر , قاله الضحاك. الثاني: بالبعث للجزاء , قاله يحيى بن سلام. {ونَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: ما قدموا هو ما عملوا من خير أو شر , وآثارهم ما أثروا من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعدهم , قاله سعيد بن جبير. الثاني: ما قدموا: أعمالهم , وآثارهم: خطاهم إلى المساجد , قاله مجاهد. روى سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد , فنزلت: {إنَّا نَحْنُ نُحِيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ} وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آثَارَكُمْ تُكْتَبُ فَلَمْ يَنتَقِلُوا). ويحتمل إن لم يثبت نقل هذا السبب تأويلاً ثالثاً أن آثارهم هو أن يصلح من صاحبهم بصلاحهم , أو يفسد بفسادهم. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} فيه وجهان: أحدهما: علمناه. الثاني: حفظناه. {في إمَامٍ مُّبِينٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: اللوح المحفوظ , قاله السدي. الثاني: أم الكتاب قاله مجاهد. الثالث: معناه طريق مستقيم , قاله الضحاك.

13

{واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين} قوله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} هذه القرية هي أنطاكية من قول جميع المفسرين. {إذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} اختلف في اسميهما على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهما شمعون ويوحنا , قاله شعيب. الثاني: صادق وصدوق , قاله ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه. الثالث: سمعان ويحيى , حكاه النقاش. {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فشددنا , قاله مجاهد. الثاني: فزدنا , قاله ابن جريج. الثالث: قوينا مأخوذ من العزة وهي القوة المنيعة , ومنه قولهم: من عز وبز: واختلف في اسمه على قولين: أحدهما: يونس قاله شعيب. الثاني: شلوم , قاله ابن عباس وكعب ووهب. وكان ملك أنطاكية أحد الفراعنة يعبد الأصنام مع أهلها , وكانت لهم ثلاثة أصنام يعبدونها , ذكر النقاش أن أسماءها رومس وقيل وارطميس. واختلف في اسم الملك على قولين: أحدهما: أن اسمه أنطيخس , قاله ابن عباس وكعب ووهب. الثاني: انطرا , قاله شعيب. قوله عز وجل: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} وهذا القول منهم إنكار لرسالته , ويحتمل وجهين: أحدهما: أنكم مثلنا غير رسل وإن جاز أن يكون البشر رسلاً.

الثاني: إن مثلكم من البشر لا يجوز أن يكونوا رسلاً. {وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمنُ مِن شَيْءٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك منهم إنكاراً للرحمن أن يكون إلهاً مرسلاً. الثاني: أن يكون ذلك إنكاراً أن يكونوا للرحمن رسلاً. {إنْ أَنتُمْ إِلاَّ تُكْذِبُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تكذبون في أن لنا إلهاً. الثاني: تكذبون في أن تكونوا رسلاً. قوله عز وجل: {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} فإن قيل يعلم الله تعالى أنهم لا تكون حجة عند الكفار لهم. قيل يحتمل قولهم ذلك وجهين: أحدهما: معناه ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون بما يظهره لنا من المعجزات , وقد قيل إنهم أحيوا ميتاً وأبرؤوا زمِناً. الثاني: أن تمكين ربنا لنا إنما هو لعلمه بصدقنا. واختلف أهل العلم فيهم على قولين: أحدهما: أنهم كانوا رسلاً من الله تعالى إليهم. الثاني: أنهم كانوا رسل عيسى عليه السلام من جملة الحواريين أرسلهم إليهم فجاز , لأنهم رسل رسول الله , أن يكونوا رسلاً لله , قاله ابن جريج. {وَمَا عَلَيْنَآ إلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} يعني بالإعجاز الدال على صحة الرسالة أن الذي على الرسل إبلاغ الرسالة وليس عليهم الإجابة , وإنما الإجابة على المدعوين دون الداعين.

18

{قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} قوله عز وجل: {قَالُواْ إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تشاءَمنا بكم , وعساهم قالوا ذلك لسوء أصابهم , قاله يحيى بن سلام. قيل إنه حبس المطر عن أنطاكية في أيامهم.

الثاني: معناه إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم , قاله قتادة: تحذيراً من الرجوع عن دينهم. الثالث: استوحشنا منكم فيما دعوتمونا إليه من دينكم. {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لنرجمنكم بالحجارة , قاله قتادة. الثاني: لنقتلنكم , قاله السدي. الثالث: لنشتمنكم ونؤذيكم , قاله النقاش. {وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فيه وجهان: أحدهما: أنه القتل. الثاني: التعذيب المؤلم قبل القتل. قوله عز وجل: {قَالُواْ طَآئِرَكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن أعمالكم معكم أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا , قاله قتادة. الثاني: أن الشؤم معكم إن أقمتم على الكفر إذا ذكرتم , قاله ابن عيسى. الثالث: معناه أن كل من ذكركم بالله تطيرتم به , حكاه بعض المتأخرين. الرابع: أن عملكم ورزقكم معكم , حكاه ابن حسام المالكي. {بَل أَنتُمْ قومٌ مُّسْرفُونَ} فيه وجهان: أحدهما: في تطيركم , قاله قتادة. الثاني: مسرفون في كفركم , قاله يحيى بن سلام. وقال ابن بحر: السرف ها هنا الفساد ومعناه بل أنتم قوم مفسدون , ومنه قول الشاعر: (إن امرأ سرف الفؤاد يرى ... عسلاً بماءِ غمامة شتمي) وقيل: إن شمعون من بينهم أحيا بنت ملك أنطاكية من قبرها , فلم يؤمن أحد منهم غير حبيب النجار فإنه ترك تجارته حين سمع بهم وجاءهم مسرعاً فآمن , وقتلوا جميعاً وحبيب معهم , وألقوا في بئر. قال مقاتل: هم أصحاب الرس: ولما عرج بروح حبيب إلى الجنة تمنى فقال {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بَمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}

20

{وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون} قوله عز وجل: {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} اختلف فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه كان إسكافاً , قاله عمربن عبد الحكيم. الثاني: أنه كان قصاراً , قاله السدي. الثالث: أنه كان حبيب النجار , قاله ابن عباس , وعكرمة , ومجاهد. {قَالَ يَا قَومِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ} وفي علمه بنبوتهم وتصديقه لهم قولان: أحدهما: لأنه كان ذا زمانة أو جذام فأبرؤوه , قاله ابن عباس. الثاني: لأنهم لما دعوه قال أتأخذون على ذلك أجراً؟ قالوا لا , فاعتقد صدقهم وآمن بهم , قاله أبو العالية. قوله عز وجل: {اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قال ذلك تنبيهاً على صدقهم. الثاني: أن يكون قال ذلك ترغيباً في أجابتهم. {وُهُم مُّهْتَدُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: مهتدون لهدايتكم. الثاني: مهتدون فاهتدوا بهم. قوله عز وجل: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} أي خلقني {وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ}

أي تبعثون. فإن قيل: فلم أضاف الفطرة إلى نفسه والبعث إليهم وهو معترف أن الله فطرهم جميعاً ويبعثهم إليه جميعاً؟ قيل: لأنه خلق الله تعالى له نعمة عليه توجب الشكر , والبعث في القيامة وعيد يقتضي الزجر , فكان إضافة النعمة , إلى نفسه إضافة شكر , وإضافة الزجر إلى الكافر أبلغ أثراً. قال قتادة: بلغني أنهم لما قال لهم: وما لي لا أعبد الذي فطرني وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه وهو يقول: يا رب اهدِ قومي , أحسبه قال: فإنهم لا يعلمون. قوله عز وجل: {إِنِّيءَامَنتُ بِرَبِّكُم فَاسْمَعُونِ} فيه قولان: أحدهما: أنه خاطب الرسل بذلك أنه يؤمن بالله ربهم {فَاسْمَعُونِ} أي فاشهدوا لي , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه خاطب قومه بذلك , ومعناه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به فاسمعوا قولي , قاله وهب بن منبه.

26

{قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} قوله عز وجل: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فيه قولان: أحدهما: أنه أمر بدخول الجنة. الثاني: أنه أخبر بأنه قد استحق دخول الجنة لأن دخولها يستحق بعد البعث. {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} في هذا التمني منه قولان: أحدهما: أنه تمنى أن يعلموا حاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. الثاني: أنه تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله. قال ابن عباس: نصح قومه حياً وميتاً. ويحتمل قوله: {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكرَمِينَ} وجهين: أحدهما: ممن أكرمه بقبول عمله. الثاني: ممن أحله دار كرامته.

28

{وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون} قوله عز وجل {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء} فيه قولان: أحدهما: معنى جند من السماء أي رسالة , قاله مجاهد , لأن الله تعالى قطع عنهم الرسل حين قتلوا رسله. الثاني: أن الجند الملائكة الذين ينزلون الوحي على الأنبياء , قاله الحسن. {وما كنا منزلين} أي فاعلين. {إن كانت إلا صيحة واحدةً} فيها قولان: أحدهما: أنَّ الصيحة هي العذاب. الثاني: أنها صيحة من جبريل عليه السلام ليس لها مثنوية , قاله السدي. {فإذا هم خامدون} أي ميتون تشبيهاً بالرماد الخامد. قوله عز وجل: {يا حسرةً على العباد ما يأتيهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يا حسرة العباد على أنفسها , قال قتادة , وحكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم في بعض القراءات متلوٍّا. الثاني: أنها حسرتهم على الرسل الثلاثة , قاله أبو العالية. الثالث: أنها حسرة الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل , قاله الضحاك. وفيه وجه رابع: عن ابن عباس أنهم حلوا محل من يتحسر عليهم. {ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءُون} الاستهزاء منهم قبل العذاب. وفي الحسرة منهم قولان: أحدهما: بعد معاينة العذاب. الثاني: في القيامة , قاله ابن عباس.

قوله عز وجل: {وإن كلُّ لما جميعٌ} يعني الماضين والباقين. {لدينا محضرون} فيه وجهان: أحدهما: معذبون , قاله السدي. الثاني: مبعثون , قاله يحيى بن سلام.

33

{وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} قوله عز وجل: {وفجرنا فيها مِن العيون ليأكلوا من ثمَرِه وما عَمِلتْهُ أيديهم} فيه وجهان: أحدهما: أنها إثبات وتقديره: ومما عملته أيديهم , قاله الكلبي والفراء وابن قتيبة. والوجه الثاني: أنها جحد وفيها على هذا القول وجهان: أحدهما: وما لم تعمله أيديهم من الأنهار التي أجراها الله سبحانه لهم. قال الضحاك يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ ونيل مصر. الثاني: وما لم تعمله أيديهم من الزرع الذي أنبته الله تعالى لهم. قوله عز وجل: {سبحان الذي خَلَق الأزواج كلها} فيه وجهان: أحدهما: يعني الأصناف كلها , قاله السدي. الثاني: يعني من النخل والشجر والزرع كل صنف منه زوج. {ومن أنفسهم} وفي ذلك دليل على مشاكلة الحيوان لهم في أنها زوج ذكر وأنثى. {ومما لا يَعْلمون} فيه وجهان: أحدهما: يعني الروح التي يعلمها الله ولا يعلمها غيره. الثاني: ما يرى نادراً من حيوان ونبات.

ويحتمل ثالثاً: مما لا تعلمون من تقلب الولد في بطن أمه.

37

{وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} قوله عز وجل: {وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار} أي نخرج منه النهار يعني ضوءه , مأخوذ من سلخ الشاة إذا خرجت من جلدها. {فإذا هم مظلمون} أي في ظلمة لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضىء , فإذا خرج منه أظلم. {والشمس تجري لمستقر لها} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا , حكاه ابن عيسى. الثاني: لوقت واحد لا تعدوه , قاله قتادة. الثالث: أي أبعد منازلها في الغروب , ثم ترجع إلى أدنى منازلها , قاله الكلبي. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقرأها: والشمس تجري لا مستقر لها. وتأويل هذه القراءة أنها تجري في الليل والنهار ولا وقوف لها ولا قرار. وقوله عز وجل: {والقمر قدرناه منازل} فيه وجهان: أحدهما: جعله في كل ليلة على مقر له , يزيد في كل ليلة من أول الشهر حتى يستكمل ثم ينقص بعد استكماله حتى يعود كما بدأ , وهو محتمل. الثاني: أنه يطلع كل ليلة في منزل حتى يستكمل جميع المنازل في كل شهر , ولذلك جعل بعض الحساب السنة الشمسية ثلاثة عشر شهراً قمرياً. {حتى عَادَ كالعرجون القديم} فيه قولان:

أحدهما: أنه العذق اليابس إذا استقوس , وهو معنى قول ابن عباس , ومنه قول أعشى قيس: (شرق المسك والعبير بها ... فهي صفراء كعرجون القمر) الثاني: أنه النخل إذا انحنى مائلاً , قاله الحسن. {لا الشمس ينبغي لها أن تُدْرِك القَمر} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر , قاله مجاهد. الثاني: لا يجتمع ضوء أحدهما مع ضوء الآخر , لأن ضوء القمر ليلاً وضوء الشمس نهاراً , فإذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر , قاله قتادة. الثالث: معناه أنهما إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها , قاله ابن عباس. الرابع: أنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة , قاله الحسن. الخامس: أنه لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها , حكاه يحيى بن سلام. {ولا الليلُ سابق النهار} فيه وجهان: أحدهما: يعني أنه لا يتقدم الليل قبل استكمال النهار وهو معنى قول يحيى بن سلام. الثاني: أنه لا يأتي ليل بعد ليل متصل حتى يكون بينهما نهار منفصل , وهو معنى قول عكرمة. ومن الناس من يجعل هذا دليلاً على أن أول الشهر النهار دون الليل , لأنه إذا لم يسبق الليل النهار واستحال اجتماعهما وجب أن يكون النهار سابقاً. وهذا قول يدفعه الشرع ويمنع منه الإجماع. {وكلٌّ في فلك يسْبَحون} قال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملتصقة بالسماء , ولو كانت ملتصقة ما جرت. وفي قوله تعالى: {يسبحون} ثلاثة أقاويل: أحدها: يجرون , قاله ابن عباس.

الثاني: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة , قاله عكرمة ومجاهد. الثالث: يعملون , قاله الضحاك.

41

{وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين} قوله عز وجل: {وآية لهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عبرة لهم لأن في الآيات اعتباراً. الثاني: نعمة عليهم لأن في الآيات إنعاماً. الثالث: إنذار لهم لأن في الآيات إنذاراً. {أنَّا حَملْنا ذُرّيتَهم في الفلك المشحون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذرية الآباء حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام , قاله أبان بن عثمان , وسمى الآباء ذرية لأن منهم ذرء الأبناء. الثاني: أن الذرية الأبناء والنساء لأنهم ذرء الآباء حملوا في السفن , والفلك هي السفن الكبار , قاله السدي. الثالث: أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيهاً بالفلك المشحون , قاله عليّ رضي الله عنه. وفي {المشحون} قولان: أحدهما: الموقر , قاله ابن عباس. الثاني: المملوء , حكاه ابن عباس أيضاً. {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه خلق مثل سفينة نوح مما يركبونها من السفن , قاله ابن عباس. الثاني: أنها السفن الصغار خلقها لهم مثل السفن الكبار، قاله أبو مالك. الثالث: أنها سفن الأنهار خلقها لهم مثل سفن البحار، قاله السدي.

الرابع: أنها الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر , قاله الحسن وعبد الله بن شداد. والعرب تشبه الإبل بالسفن , قال طرفة: (كأنَّ حدوج المالكية غدوةً ... خلايا سَفينٍ بالنواصِف من رَدِ) ويجيء على مقتضى تأويل عليّ رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء. قولٌ خامس في قوله: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}: أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج , لكن لم أره محكياً. قوله عز وجل: {وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم} فيه وجهان: أحدهما: فلا مغيث لهم , رواه سعيد عن قتادة. الثاني: فلا منعة لهم , رواه شيبان عن قتادة. {ولا هم ينقذون} فيه وجهان: أحدهما: من الغرق. الثاني: من العذاب. {إلا رحمة منا} فيه وجهان: أحدهما: إلا رحمتنا , قاله يحيى بن سلام. الثاني: إلا نعمة منا , قاله مقاتل. {ومتاعاً إلى حين} فيه وجهان: أحدهما: إلى الموت , قاله قتادة. الثاني: إلى القيامة , قاله يحيى.

45

{وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا من ما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين}

قوله عز وجل: {وإذا قيل لهم اتَّقوا ما بين أيديكم وما خلْفكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ما بين أيديكم ما مضى من الذنوب , وما خلفكم ما يأتي من الذنوب , قاله مجاهد. الثاني: ما بين أيديكم من الدنيا , وما خلفكم من عذاب الآخرة , قاله سفيان. الثالث: ما بين أيديكم عذاب الله لمن تقدم من عاد وثمود , وما خلفكم من أمر الساعة , قاله قتادة. ويحتمل تأويلاً رابعاً: ما بين أيديكم ما ظهر لكم , وما خلفكم ما خفي عنكم. {لعلكم ترحمون} معناه لكي ترحموا فلا تعذبوا. ولهذا الكلام جواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه. قوله عز وجل: {وما تأتيهم مِن آيةٍ مِنْ آيات ربِّهم} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: من آية من كتاب الله , قاله قتادة. الثاني: من رسول , قاله الحسن. الثالث: من معجز , قاله النقاش. ويحتمل رابعاً: ما أنذروا به من زواجر الآيات والعبر في الأمم السالفة. قوله عز وجل: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم اللهُ قال الذين كفروا} الآية. فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود أمروا بإطعام الفقراء فقالوا {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} قال الحسن. الثاني: أنهم الزنادقة أمروا فقالوا ذلك , قاله قتادة. الثالث: أنهم مشركو قريش جعلوا لأصنامهم في أموالهم سهماً فلما سألهم الفقراء أجابوهم بذلك، قاله النقاش. ويحتمل هذا القول منهم وجهين: أحدهما: إنكارهم وجوب الصدقات في الأموال. الثاني: إنكارهم على إغناء من أفقره الله تعالى ومعونة من لم يعنه الله تعالى. {إن أنتم إلا في ضلال مبين} فيه قولان:

أحدهما: أنه من قول الكفار لمن أمرهم بالإطعام , قاله قتادة. الثاني: أنه من قول الله تعالى لهم حين ردوا بهذا الجواب , حكاه ابن عيسى.

48

{ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون} قوله عز وجل: {ويقولون متى هذا الوعدُ إن كنتم صادقين} فيه وجهان: أحدهما: ما وعدوا به من العذاب , قاله يحيى بن سلام. الثاني: ما وعدوا به من الظفر بهم , قاله قتادة. قوله عز وجل: {ما ينظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم} قال السدي: هي النفخة الأولى من إسرافيل ينتظرها آخر هذه الأمة من المشركين , وروى نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم , والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم , والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم , والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتى تقوم). {وهم يخصمون} فيه وجهان: أحدهما: يتكلمون في معايشهم ومتاجرهم , قاله السدي. الثاني: يخصمون في دفع النشأة الثانية , حكاه ابن عيسى. {فلا يستطيعون توصية} أي يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما في يديه من حق. ويحتمل وجهاً ثانياً: أنه لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضاً بالتوبة والإقلاع. {ولا إلى إهلهم يرجعون} أي إلى منازلهم , قال قتادة لأنهم أعجلوا عن ذلك.

51

{ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {ونفخ في الصور} وهذه هي النفخة الثانية للنشأة وقيل إن بينهما أربعين سنة. روى المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بين النفختين أربعون: الأولى يميت الله سبحانه بها كل حي , والآخرة يحيي الله بها كل ميت) والنفخة الثانية من الآخرة. وفي الأولى قولان: أحدهما: أنها من الدنيا , قاله عكرمة. الثاني: أنها من الآخرة , قاله الحسن. {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} والأجداث القبور , وأحدها جدث. وفي قوله تعالى {ينسلون} ثلاثة تأويلات: أحدها: يخرجون , قاله ابن عباس وقتادة , قال الشاعر: ( ... ... ... ... ... ... ... ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي) الثاني: يسرعون , كقول الشاعر: (عسلان الذئب أمسى قاربا ... بَرَدَ الليلُ عليه فنسل) الثالث: يتخلصون من السلو , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {قالوا يا ويلنا من بعثنا مِن مَرقدنا} قال قتادة: هي النومة بين النفختين لا يفتر عنهم عذاب القبر إلا فيها. وفي تأويل هذا القول قولان: أحدهما: أنه قول المؤمنين ثم يجيبون أنفسهم فيقولون:

{هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} حكاه ابن عيسى. الثاني: أنه قول الكفار لإنكارهم البعث فيقال لهم: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون}. وفي قائل ذلك لهم قولان: أحدهما: أنه قول المؤمنين لهم عند قيامهم من الأجداث معهم , قاله قتادة. الثاني: أنه قول الملائكة لهم , قاله الحسن. وفي {هذا} وجهان: أحدهما: أنه إشارة إلى المرقد تماماً لقوله تعالى {من بعثنا من مرقدنا هذا} وعليه يجب أن يكون الوقف. الثاني: أنه ابتداء {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} فيكون إشارة إلى الوعد ويكون الوقف قبله والابتداء منه.

55

{إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم} قوله عز وجل: {إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُل فاكهون} فيه أربعة أقاويل: أحدها: في افتضاض الأبكار، قاله الحسن وسعيد بن جبير وابن مسعود وقتادة. الثاني: في ضرب الأوتار، قاله ابن عباس ومسافع بن أبي شريح. الثالث: في نعمة، قاله مجاهد. الرابع: في شغل مما يَلقى أهل النار، قاله إسماعيل بن أبي خالد وأبان بن تغلب. وروي بضم الغين وقرىء بتسكينها وفيها وجهان:

أحدهما: أن الشغل بالضم المحبوب. الثاني: الشغل بالإسكان يعني المروة , فعلى هذا لا يجوز أن يقرأ بالإسكان في أهل الجنة ولا يقرأ بالضم في أهل النار. {فاكهون} ويقرأ: فكهون , بغير ألف. وفي اختلاف القراءتين وجهان: أحدهما: أنها سواء ومعناهما واحد يقال فاكه وفكه كا يقال حاذر وحذر قاله الفراء. الثاني: أن معناهما في اللغة مختلف فالفكه الذي يتفكه بأعراض الناس. والفاكه ذو الفاكهة , قاله أبو عبيد وأنشد: (فكه إلى جنب الخوان إذا عدت ... نكْباء تقلع ثابت الأطنابِ) وفيه ها هنا أربعة تأويلات: أحدها: فرحون، قاله ابن عباس. الثاني: ناعمون، قاله قتادة. الثالث: معجبون، قاله مجاهد. الرابع: ذو فاكهة كما يقال شاحم لاحم أي ذو شحم ولحم , وكما قال الشاعر: 89 (وغررتني وزعمت أنَّك لابنٌ بالصيف تامر} 9 أي ذو لبن وتمر. قوله عز وجل: {هم وأزواجُهم في ظلال} فيه وجهان: أحدهما: وأزواجهم في الدنيا من وافقهم على إيمانهم. الثاني: أزواجهم اللاتي زوّجهم الله تعالى بهن في الجنة من الحور العين. {في ظِلال} يحتمل وجهين:

أحدهما: في ظلال النعيم. الثاني: في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم. قوله عز وجل: {لهم فيها فاكهةٌ ولهُم ما يَدَّعون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ما يشتهون , قاله يحيى بن سلام. الثاني: ما يسألون , قاله ابن زياد. الثالث: ما يتمنون , قاله أبو عبيدة. الرابع: ما يدعونه فيأتيهم , قاله الكلبي قال الزجاج: وهو مأخوذ من الدعاء. ويحتمل خامساً: ما يدّعون أنه لهم فهو لهم لا يدفعون عنه , وهم مصروفون عن دعوى ما لا يستحقون. قوله عز وجل: {سلامٌ قولاً مِن رَبِّ رحيم} فيه وجهان: أحدهما: أنه سلام الله تعالى عليهم إكراماً لهم , قاله محمد بن كعب. الثاني: أنه تبشير الله تعالى لهم بسلامتهم.

59

{وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون} قوله عز وجل: {وامتازوا اليوم أيُّها المجرمون} فيه وجهان: أحدهما: قاله الكلبي , لأن المؤمنين والكفار يحشرون مع رسلهم فلذلك يؤمرون بالامتياز. الثاني: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض , فيمتاز اليهود فرقة , والنصارى فرقة , والمجوس فرقة , والصابئون فرقة , وعبدة الأوثان فرقة , قاله الضحاك. فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الامتياز عند الوقوف. الثاني: عند الانكفاء إلى النار.

قال دواد بن الجراح: فيمتاز المسلمون من المجرمين إلا صاحب الهوى فيكون مع المجرمين. قوله عز وجل: {ولقد أَضَلَّ منكم جبلاً كثيراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: جموعاً كثيرة , قاله قتادة. الثاني: أمماً كثيرة , قاله الكلبي. الثالث: خلقاً كثيراً , قاله مجاهد ومطرف. وحكى الضحاك أن الجِبِلّ الواحد عشرة آلاف , والكثير ما لا يحصيه إلاّ الله تعالى.

63

{هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون} قوله عز وجل: {اليوم نختم على أفواههم} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون منعها من الكلام هو الختم عليها. الثاني: أن يكون ختماً يوضع عليها فيرى ويمنع من الكلام. وفي سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: لأنهم قالوا {والله ربنا ما كنا مشركين} فختم الله تعالىعلى أفواههم حتى نطقت جوارحهم , قاله أبو موسى الأشعري. الثاني: لِيَعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم , قاله ابن زياد. الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الإلزام من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز وإن كان يوماً لا يحتاج فيه إلى الإعجاز. الرابع: ليعلم أن أعضاءه التي كانت لهم أعواناً في حق نفسه صارت عليه شهوداً في حق ربه.

{وتُكلِّمنا أيديهم وتشهدُ أرجلهم بما كانوا يكسبون} وفي كلامها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يظهر منها سِمة تقوم [مقام] كلامها كما قال الشاعر: (وقد قالت العينان سمعاً وطاعة ... وحَدَّرنا كالدر لما يثَقّبِ) الثاني: أن الموكلين بها يشهدون عليها. الثالث: أن الله تعالى يخلق فيها ما يتهيأ معه الكلام منها. روى الشعبي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لأركانه انطقي فتنطق بعمله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل). فإن قيل فلم قال {وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} فجعل ما كان من اليد. كلاماً , وما كان من الرجل شهادة؟ قيل لأن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة , وقول الحاضر على غيره شهادة , وقول الفاعل على نفسه إقرار , فلذلك عبّر عما صدر من الأيدي بالقول , وعما صدر من الأرجل بالشهادة. وقد روى شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى). فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي في الشطر الأعلى من جسده، وأقرب أعضاء الشطر الأسفل منها الفخذ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها، وتقدمت اليسرى لأن الشهوة في

ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها , فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها. قوله عز وجل: {ولو نشاءُ لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصِّراطَ} فيه وجهان: أحدهما: لأعمينا أبصار المشركين في الدنيا فضلوا عن الطريق فلا يبصرون عقوبة لهم , قاله قتادة. الثاني: لأعمينا قلوبهم فضلوا عن الحق فلم يهتدوا إليه , قاله ابن عباس. قال الأخفش وابن قتيبة: المطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق مأخوذ من طمس الريح الأثر. {ولو نشاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: لأقعدناهم على أرجلهم , قاله الحسن وقتادة. الثاني: لأهلكناهم في مساكنهم , قاله ابن عباس. الثالث: لغيّرنا خلْقهم فلا ينقلبون , قاله السدي. {فما استطاعوا مُضِيّاً ولا يرجعون} فيه وجهان: أحدهما: فما استطاعوا لو فعلنا ذلك بهم أن يتقدموا ولا يتأخروا , قاله قتادة. الثاني: فما استطاعوا مُضِيّاً في الدنيا , ولا رجوعاً فيها , قاله أبو صالح.

68

{ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين} قوله عز وجل: {ومَن نعمِّره ننكِّسهُ في الخَلْق} في قوله {نعمره} قولان: أحدهما: بلوغ ثمانين سنة، قاله سفيان. الثاني: هو الهرم، قاله قتادة. وفي قوله تعالى {ننكِّسْه} تأويلان: أحدهما: نردُّه في الضعف إلى حال الضعف فلا يعلم شيئاً، قاله يحيى بن سلام.

الثاني: نغير سمعه وبصره وقوته، قاله قتادة. و {في الخلق} وجهان: أحدهما: جميع الخلق ويكون معناه: ومن عمرناه من الخلق نكسناه في الخلق. والوجه الثاني: أنه عنى خلقه، ويكون معنى الكلام: من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار مكان القوة الضعف , ومكان الشباب الهرم , ومكان الزيادة النقصان. {أفلا تعقلون} أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. قوله عز وجل: {وما علّمْناه الشِّعر وما ينبغي له} يحتمل وجهين: أحدهما: أي ليس الذي علمناه من القرآن شعراً. الثاني: أي لم نعلم رسولنا أن يقول الشعر. {وما ينبغي له} يحتمل وجهين: أحدهما: وما ينبغي له أن يقول شعراً. الثاني: وما ينبغي لنا أن نعلمه شعراً. {إنْ هو لا ذكر وقرآن مُبين} يحتمل وجهين: أحدهما: إنْ علّمناه إلا ذكراً وقرآناً مبيناً. الثاني: إنْ هذا الذي يتلوه عليكم إلا ذكر وقرآن مبين. قوله عز وجل: {لينذر من كان حَيّاً} فيه قولان: أحدهما: لتنذر يا محمد من كان حياً , وهذا تأويل من قرأ بالتاء. الثاني: لينذر القرآن من كان حياً , وهو تأويل من قرأ بالياء. وفي {مَن كان حَيّاً} ها هنا أربعة تأويلات: أحدها: من كان غافلاً، قاله الضحاك. الثاني: من كان حي القلب حي البصر، قاله قتادة. الثالث: من كان مؤمناً، قاله يحيى بن سلام.

الرابع: من كان مهتدياً , قاله السدي. {ويحِقَّ القَوْل على الكافرين} معناه: ويجب العذاب على الكافرين.

71

{أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون} قوله عز جل: {أو لم يروا أَنا خلقنا لهم مما عَمِلتْ أيدينا أنعاماً} فيه وجهان: أحدهما يعني بقوتنا: قاله الحسن كقوله تعالى {والسماء بنيناها بأيد} [الذاريات: 47] أي بقوة. الثاني: يعني من فعلنا وعملنا من غير أن نكله إلى غيرنا , قاله السدي. والأنعام: الإبل والبقر والغنم. {فهم لها مالكون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ضابطون , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر: (أصبحت لا أحمل السِّلاح ولا ... أملِك رأس البعير إن نَفَرا) الثاني: مطبقون رواه معمر. الثالث: مقتنون وهو معنى قول ابن عيسى. قوله عز وجل: {وذللناها لهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وطيبناها لهم؛ قاله ابن عيسى.

الثاني: سخرناها لهم , قاله ابن زيد. الثالث: ملكناها لهم. {فمنها ركوبُهم} والركوب بالضم مصدر ركب يركب ركوباً , والركوب بالفتح الدابة التي تصلح أن تركب. {ومنها يأكلون} يعني لحوم المأكول منها. {ولهم فيها منافع} قال قتادة: هي لبس أصوافها. {ومشارب} يعني شرب ألبانها {أفلا يشكرون} يعني رب هذه النعمة بتوحيده وطاعته.

74

{واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} قوله عز وجل: { ... وهم لهم جندٌ محضرون} يعني أن المشركين لأوثانهم جند , وفي الجند ها هنا وجهان: أحدهما: شيعة , قاله ابن جريج. الثاني: أعوان. {محضرون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: محضرون عند الحساب , قاله مجاهد. الثاني: محضرون في النار , قاله الحسن. الثالث: محضرون للدفع عنهم والمنع منهم , قاله حميد. قال قتادة: يغضبون لآلهتهم , وآلهتهم لا تنصرهم.

77

{أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها

أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} قوله عز وجل: {أو لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نفطةٍ} فيه قولان: أحدهما: أنها نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله في بعث الموتى، قاله عكرمة ومجاهد والسدي. الثاني: أنها نزلت في العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أيحيي اللَّه هذا بعدما أرمّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم) فنزلت هذه الآيات فيه، قاله ابن عباس. {فإذا هو خصيمٌ مبينٌ} أي مجادل في الخصومة مبين للحجة، يريد بذلك أنه صار بعد أن لم يكن شيئاً خصيماً مبيناً , فاحتمل ذلك أمرين: أحدهما: أن ينبهه بذلك على نعمه عليه. الثاني: أن يدله بذلك على إحياء الموتى كما ابتدأه بعد أن لم يكن شيئاً. قوله عز وجل: {وضَرب لنا مثلاً ونَسي خلقه} وهو من قدمنا ذكره ويحتمل وجهين: أحدهما: أي ترك خلقه أن يستدل به. الثاني: سها عن الاعتبار به. {قال مَن يُحْيِ العظَامَ وهي رَميمٌ} استبعاداً أن يعود خلقاً جديداً. فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبه بما فيه دليل لأولي الألباب. {قل يحييها الذي أنشأها أول مَرَّة} أي من قدر عل إنشائها أول مرة من غير شيءٍ فهو قادرعلى إعادتها في النشأة الثانية من شيء. {وهو بكل خَلقٍ عليم} أي كيف يبدىء وكيف يعيد.

قوله عز وجل: {الذي جَعَلَ لكم مِنَ الشجر الأخضر ناراً} الآية أي الذي جعل النار المحرقة في الشجر الرطب المَطفي وجمع بينهما مع ما فيهما من المضادة , لأن النار تأكل الحطب , وأقدركم على استخراجها هو القادر على إعادة الموتى وجمع الرفات. ويحتمل ذلك منه وجهين: أحدهما: أن ينبه الله تعالى بذلك على قدرته التي لا يعجزها شيء. الثاني: أن يدل بها على إحياء الموتى كما أحييت النار بالإذكاء. قال الكلبي: كل الشجر يقدح منه النار إلا العناب. وحكى أبو جعفر السمرقندي عن أحمد بن معاذ النحوي في قوله تعالى {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر} يعني به إبراهيم , {ناراً} أي نوراً يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {فإذا أنتم منه توقِدون} أي تقتبسون الدين.

81

{أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} قوله عز وجل: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} فيه وجهان: أحدهما: معناه أن يأمر فيوجد. الثاني: ما قاله قتادة أنه ليس شيء أخف في الكلام من {كن} ولا أهون على لسان العرب من ذلك، فجعله الله تعالى مثلاُ لأمره في السرعة. {فسبحان الذي بيده ملكوت كلِّ شيءٍ} فيه وجهان: أحدهما: خزائن كل شيء. الثاني: ملك كل شيء إلا أن فيه مبالغة.

{وإليه ترجعون} يعني يوم القيامة , فيجازي المحسن ويعاقب المسيء. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيءٍ قلْباً وإنَّ قلْبَ القرآن يس , ومن قرأها في ليلة أعطي يُسْر تلك الليلة , ومن قرأها في يوم أعطي يُسْرَ ذلك اليوم , وإنّ أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرأون منه شيئاً إلا طه ويس).

سورة الصافات بسم الله الرحمن الرحيم

الصافات

{والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق} قوله عز وجل: {والصافات صفّاً} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الملائكة , قاله ابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. الثاني: أنهم عبّاد السماء , قاله الضحاك ورواه عن ابن عباس. الثالث: أنهم جماعة المؤمنين إذا قاموا في صفوفهم للصلاة , حكاه النقاش لقوله تعالى {صفّاً كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4]. ويحتمل رابعاً: أنها صفوف المجاهدين في قتال المشركين. واختلف من قال الصافات الملائكة في تسميتها بذلك على ثلاثة أقاويل: أحدها: لأنها صفوف في السماء , قاله مسروق وقتادة. الثاني: لأنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله تبارك وتعالى بما يريد , حكاه ابن عيسى. الثالث: لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم , قاله الحسن. قوله عز وجل: {فالزاجرات زجراً} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: الملائكة , قاله ابن مسعود ومسروق وقتادة وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد. الثاني: آيات القرآن , قاله الربيع. الثالث: الأمر والنهي الذي نهى الله تعالى به عباده عن المعاصي , حكاه النقاش. ويحتمل رابعاً: أنها قتل المشركين وسبيهم. واختلف من قال إن الزاجرات الملائكة في تسميتها بذلك على قولين: أحدهما: لأنها تزجر السحاب , قاله السدي. الثاني: لأنها تزجر عن المعاصي قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {فالتاليات ذكراً} أي فالقارئات كتاباً , وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الملائكة تقرأ كتب الله تعالى , قاله ابن مسعود والحسن وسعيد بن جبير والسدي. الثاني: ما يتلى في القرآن من أخبار الأمم السالفة , قاله قتادة. الثالث: الأنبياء يتلون الذكر على قومهم , قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {إنَّ إلهكم لواحد} كل هذا قَسَم أن الإِله واحد , وقيل إن القسم بالله تعالى على تقدير ورب الصافات ولكن أضمره تعظيماً لذكره. ثم وصف الإله الواحد فقال: {رب السموات والأرض وما بينهما} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: خالق السموات والأرض وما بينهما , قاله ابن إسحاق. الثاني: مالك السموات والأرض وما بينهما. الثالث: مدبر السموات والأرض وما بينهما. {ورب المشارق} فيه وجهان: الأول: قال قتادة: ثلاثمائة وستون مشرقاً، والمغارب مثل ذلك، تطلع الشمس كل يوم من مشرق، وتغرب في مغرب، قاله السدي. الثاني: أنها مائة وثمانون مشرقاً تطلع كل يوم في مطلع حتى تنتهي إلى آخرها ثم تعود في تلك المطالع حتى تعود إلى أولها , حكاه يحيى بن سلام، ولا يذكر

المغارب لأن المشارق تدل عليها، وخص المشارق بالذكر لأن الشروق قبل الغروب.

6

{إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} قوله عز وجل: {إنا زينا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب} يحتمل تخصيص سماء الدنيا بالذكر وجهين: أحدهما: لاختصاصها بالدنيا. الثاني: لاختصاصها بالمشاهدة , وقوله بزينة الكواكب لأن من الكواكب ما خلق للزينة , ومنها ما خلق لغير الزينة. حكى عقبة بن زياد عن قتادة قال: خلقت النجوم لثلاث: رجوماً للشياطين ونوراً يهتدى به , وزينة لسماء الدنيا. {وحفظاً مِن كُلِّ شيطان مارِدٍ} فيه وجهان: أحدهما: يعني من الكواكب حفظاً من كل شيطان , قاله السدي. الثاني: أن الله سبحانه حفظ السماء من كل شيطان مارد، قاله قتادة. وفي المارد ثلاثة أوجه: أحدها: الممتنع، قاله ابن بحر. الثاني: العاتي مأخوذ من التمرد وهو العتو. الثالث: أنه المتجرد من الخير، من قولهم شجرة مرداء، إذا تجردت من الورق. قوله عز وجل: {لا يسمعون إلى الملإِ الأعلى} فيه قولان: أحدهما: أنهم منعوا بها أن يسمعوا أو يتسمعوا، قاله قتادة. الثاني: أنهم يتسمعون ولا يسمعون , قاله ابن عباس. وفي الملإ الأعلى قولان: أحدهما: السماء الدنيا، قاله قتادة.

الثاني: الملائكة , قاله السدي. {ويُقذفون من كل جانب} قال مجاهد: يرمون من كل مكان من جوانبهم , وقيل من جوانب السماء. {دُحوراً} فيه تأويلان: أحدهما: قذفاً في النار , قاله قتادة. الثاني: طرداً بالشهب , وهو معنى قول مجاهد. قال ابن عيسى: والدحور: الدفع بعنف. {ولهم عذابٌ واصبٌ} فيه وجهان: أحدهما: دائم. الثاني: أنه الذي يصل وجعه إلى القلوب , مأخوذ من الوصب. قوله عز وجل: {إلا من خَطِفَ الخطفَة} فيه تأويلان: أحدهما: إلا من استرق السمع , قاله سعيد بن جبير , مأخوذ من الاختطاف وهو الاستلاب بسرعة , ومنه سمي الخطاف. الثاني: من وثب الوثبة , قاله علي بن عيسى. {فأتبعه شهابٌ ثاقب} فيه وجهان: أحدهما: أنه الشعلة من النار. الثاني: أنه النجم. وفي الثاقب ستة أوجه: أحدها: أنه الذي يثقب , قاله زيد الرقاشي. الثاني: أنه المضيء، قاله الضحاك. الثالث: أنه الماضي، حكاه ابن عيسى. الرابع: أنه العالي، قاله الفراء. الخامس: أنه المحرق، قاله السدي. السادس: أنه المستوقد، من قولهم: اثقب زندك أي استوقد نارك، قاله زيد بن أسلم والأخفش، وأنشد قول الشاعر: (بينما المرء شهابٌ ثاقب ... ضَرَبَ الدَّهر سناه فخمد)

و {إلا} ها هنا بمعنى لكن عند سيبويه. وقيل: إن الشهاب يحرقهم ليندفعوا عن استراق السمع ولا يموتون منه.

11

{فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} قوله عز وجل: {فاستفتهم أهم أشد خلقاً} فيه وجهان: أحدهما: فسلهم قال قتادة , مأخوذ من استفتاء المفتي. الثاني: فحاجِّهم أيهم أشد خلقاً , قاله الحسن. {أم مَنْ خلقنا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: من السموات والأرض والجبال , قاله مجاهد. الثاني: من الملائكة , قاله سعيد بن جبير. الثالث: من الأمم الماضية فقد هلكوا وهم أشد خلقاً منهم , حكاه ابن عيسى. {إنَّاخلقناهم مِن طينٍ لازبٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لاصق، قاله ابن عباس منه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (تعلم فإن الله زادك بسطة ... وأخلاق خير كلها لك لازب) الثاني: لزج، قاله عكرمة. الثالث: لازق، قاله قتادة. والفرق بين اللاصق واللازق أن اللاصق هو الذي قد لصق بعضه ببعض، واللازق هو الذي يلزق بما أصابه.

الرابع: لازم، والعرب تقول طين لازب ولازم، وقال النابغة: (ولا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب) نزلت هذه الآية في ركانة بن زيد بن هاشم بن عبد مناف وأبي الأشد ابن أسيد بن كلاب الجمحي. قوله عز وجل: {بل عجبت ويسخرون} وفي {عجبت} قراءتان: إحداهما: بضم التاء , قرأ بها حمزة والكسائي , وهي قراءة ابن مسعود , ويكون التعجب مضافاً إلى الله تعالى , وإن كان لا يتعجَّبُ من شيء لأن التعجب من حدوث العلم بما لم يعلم , واللَّه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها. وفي تأويل ذلك على هذه القراءة وجهان: أحدهما: يعني بل أنكرت حكاه النقاش. الثاني: هو قول علي بن عيسى أنهم قد حلّوا محل من يتعجب منه. والقراءة الثانية: بفتح التاء قرأ بها الباقون , وأضاف التعجب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال: بل عجبت يا محمد , قاله قتادة. وفيما عجبت منه قولان: أحدهما: من القرآن حين أعطيه، قاله قتادة. الثاني: من الحق الذي جاءهم به فلم يقبلوه، وهو معنى قول ابن زياد. وفي قوله {وتسخرون} وجهان: أحدهما: من الرسول إذا دعاهم. الثاني: من القرآن إذا تلي عليهم. قوله عز وجل: {وإذا ذكِّروا لا يذكرون} فيه وجهان: أحدهما: وإذا ذكروا بما نزل من القرآن لا ينتفعون، وهو معنى قول قتادة. والثاني: وإذا ذكروا بمن هلك من الأمم لا يبصرون، وهو معنى ما رواه سعيد.

قوله عز وجل: {وإذا رأوا آيةً يَسْتَسْخِرُونَ} وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنه انشقاق القمر، قاله الضحاك. الثاني: ما شاهدوه من هلاك المكذبين , وهو محتمل. وفي قوله {يستسخِرون} وجهان: أحدهما: يستهزئون , قاله مجاهد. الثاني: هو أن يستدعي بعضهم من بعض السخرية بها لأن الفرق بين سخر واستسخر كالفرق بين علم واستعلم. وقيل إن ذلك في ركانة بن زيد وأبي الأشد بن كلاب. قوله عز وجل: {فانما هي زجرةٌ واحدةٌ} أي صيحة واحدة , قاله الحسن: وهي النفخة الثانية وسميت الصيحة زجرة لأن مقصودها الزجر. {فإذا هم ينظرون} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: البعث الذي كذبوا به. الثاني: ينظرون سوء أعمالهم. الثالث: ينتظرون حلول العذاب بهم , ويكون النظر بمعنى الانتظار.

20

{وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون} قوله عز وجل: {وقالوا يا ويلنا هذا يومُ الدين} الآية. فيه وجهان: أحدهما: يوم الحساب، قاله ابن عباس. الثاني: يوم الجزاء، قاله قتادة. {هذا يوم الفصل} الآية. فيه وجهان: أحدهما: يوم القضاء بين الخلائق، قاله يحيى. الثاني: يفصل فيه بين الحق والباطل، قاله ابن عيسى.

قوله عز وجل: {احشروا الذين ظلموا} الآية. فيه ثلاثة أوجه: أحدها: المكذبون بالرسل. الثاني: هم الشُرَط , حكاه الثوري. الثالث: هم كل من تعدى على الخالق والمخلوق. وفي {وأزواجهم} أربعة أوجه: أحدها: أشباههم فيحشر صاحب الزنى مع صاحب الزنى , وصاحب الخمر مع صاحب الخمر , قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الثاني: قرناؤهم , قاله ابن عباس. الثالث: أشياعهم , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر: (فكبا الثور في وسيل وروض ... مونق النبت شامل الأزواج) الرابع: نساؤهم الموافقات على الكفر , رواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. {وما كانوا يعبدون من دون الله} وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: إبليس , قاله ابن زياد. الثاني: الشياطين , وهو مأثور. الثالث: الأصنام , قاله قتادة وعكرمة. {فاهدُوهم إلى صراط الجحيم} أي طريق النار. وفي قوله تعالى: {فاهدوهم} ثلاثة أوجه: أحدها: فدلوهم , قاله ابن. الثاني: فوجهوهم , رواه معاوية بن صالح. الثالث: فادعوهم , قاله السدي. قوله عز وجل: {وقفُوهم إنَّهم مسئولون} أي احبسوهم عن دخول النار.

{إنهم مسئولون} فيه ستة أوجه: أحدها: عن لا إله إلا الله , قاله يحيى بن سلام. الثاني: عما دعوا إليه من بدعة , رواه أنس مرفوعاً. الثالث: عن ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه , حكاه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري. الرابع: عن جلسائهم , قاله عثمان بن زيادة. الخامس: محاسبون , قاله ابن عباس. السادس: مسئولون. {ما لكم لا تناصرون} على طريق التوبيخ والتقريع لهم , وفيهم ثلاثة أوجه: أحدها: لا ينصر بعضكم بعضاً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: لا يمنع بعضكم بعضاً من دخول النار , قاله السدي. الثالث: لا يتبع بعضكم بعضاً في النار يعني العابد والمعبود , قاله قتادة. فإن قيل: فهلا كانوا مسئولين قبل قوله {فاهْدوهم ... } الآية؟ قيل: لأن هذا توبيخ وتقريع فكان نوعاً من العذاب فلذلك صار بعد الأمر بالعذاب. قال مجاهد: ولا تزول من بين يدي الله تعالى قدم عبد حتى يُسأل عن خصال أربع: عمره فيهم أفناه , وجسده فيم أبلاه , وماله مم اكتسبه وفيم أنفقه , وعلمه ما عمل فيه.

27

{وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين

فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين} قوله عز وجل: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} فيهم قولان: أحدهما: أنه أقبل الإنس على الجن , قاله قتادة. الثاني: بعضهم على بعض , قاله ابن عباس. ويحتمل ثالثاً: أقبل الاتباع على المتبوعين. وفي {يتساءلون} وجهان: أحدهما: يتلاومون , قاله ابن عباس. الثاني: يتوانسون , وهذا التأويل معلول لأن التوانس راحة , ولا راحة لأهل النار. ويحتمل ثالثاً: يسأل التابع متبوعه أن يتحمل عنه عذابه. قوله عز وجل: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} وفي تأويل ذلك قولان: أحدهما: قاله الإنس للجن. قاله قتادة. الثاني: قاله الضعفاء للذين استكبروا , قاله ابن عباس. وفي قوله: {تأتوننا عن اليمين} ثمانية تأويلات: أحدها: تقهروننا بالقوة , قاله ابن عباس , واليمين القوة , ومنه قول الشاعر: (اذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تَلقاها عَرابةُ باليمين) أي بالقوة والقدرة. الثاني: يعني من قبل ميامنكم , قاله ابن خصيف. الثالث: من قبل الخير فتصدوننا عنه وتمنعوننا منه , قاله الحسن. الرابع: من حيث نأمنكم , قاله عكرمة. الخامس: من قبل الدين أنه معكم , وهو معنى قول الكلبي.

السادس: من قبل النصيحة واليمين , والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين ويجعلونه من دلائل الخير ويسمونه السانح , وتتطير بما جاء عن الشمال ويجعلونه من دلائل الشر ويسمونه البارح , وهو معنى قول عليّ بن عيسى. السابع: من قبل الحق أنه معكم , قاله مجاهد. الثامن: من قبل الأموال ترغبون فيها أنها تنال بما تدعون إليه فتتبعون عليه , وهو معنى قول الحسن.

38

{إنكم لذائقوا العذاب الأليم وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون} قوله عز وجل: {يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعينٍ} أي من خمر معين وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الجاري؛ قاله الضحاك. الثاني: الذي لا ينقطع , حكاه جويبر. الثالث: أنه الذي لم يعصر، قاله سعيد بن أبي عروبة. ويحتمل رابعاً: أنه الخمر بعينه الذي لم يمزج بغيره. وفي المعين من الماء خمسة أوجه: أحدها: أنه الظاهر للعين , قاله الكلبي. الثاني: ما مدّته العيون فاتصل ولم ينقطع , قاله الحسن. الثالث: أنه الشديد الجري من قولهم أمعن في كذا إذا اشتد دخوله فيه. الرابع: أنه الكثير مأخوذ من المعين وهو الشيء الكثير.

الخامس: أنه المنتفع به مأخوذ من الماعون , قاله الفراء. {بيضاء لذَّةٍ للشاربين} يعني أن خمر الجنة بيضاء اللون , وهي في قراءة ابن مسعود صفراء. ويحتمل أن تكون بيضاء الكأس صفراء اللون فيكون اختلاف لونهما في منظرهما قال الشاعر: (فكأن بهجتها وبهجة كأسها ... نار ونور قيّدا بوعاء.) قوله عز وجل: {لا فيها غَوْلٌ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أي ليس فيها صداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. الثاني: ليس فيها وجع البطن، قاله مجاهد. الثالث: ليس فيها أذى، قاله الفراء وعكرمة وهذه الثلاثة متقاربة لاشتقاق الغول من الغائلة. الرابع: ليس فيها إثم، قاله الكلبي. الخامس: أنها لا تغتال عقولهم، قاله السدي وأبو عبيدة، ومنه قول الشاعر: (وهذا من الغيلة أن ... يصرع واحد واحدا) {ولا هم عنها ينزفون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تنزف العقل ولا تذهب الحلم بالسكر، قاله عطاء، ومنه قول الشاعر: (لعمري لئن أنزفتم أو صحوتُم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا) الثاني: لا يبولون , قاله ابن عباس , وحكى الضحاك عنه أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول , فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. الثالث: أي لا تفنى مأخوذ من نزف الركية، قاله أبو عمرو بن العلاء، ومنه قول الشاعر:

(دعيني لا أبا لك أن تطيقي ... لحاك الله قد أنزفت ريقي) وقد يختلف هذا التأويل باختلاف القراءة , فقرأ حمزة والكسائي، ينزفون بكسر الزاي، وقرأ الباقون يُنزَفون بفتح الزاي، والفرق بينهما أن الفتح من نزف فهو منزوف إذا ذهب عقله بالسكر، والكسر من أنزف فهو منزوف إذا فنيت خمره , وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع عنهم التذاذ نعيمهم. قوله عز وجل: {وعندهم قاصِراتُ الطّرفِ عينٌ} يعني بقاصرات الطرف النساء اللاتي قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم مأخوذ من قولهم: قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره , قال امرؤ القيس: (من القاصرات الطرف لو دب مُحولٌ ... من الذّرّ فوق الخد منها لأثّرا) وفي العين وجهان: أحدهما: الحسان العيون , قاله مجاهد ومقاتل. الثاني: العظام الأعين , قاله الأخفش وقطرب. {كأنهن بيضٌ مكنون} فيه وجهان: أحدهما: يعني اللؤلؤ في صدفه , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر: (وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون) الثاني: يعني البيض المعروف في قشره، والمكنون المصون. وفي تشبيههم بالبيض المكنون أربعة أوجه: أحدها: تشبيهاً ببيض النعام يُكنّ بالريش من الغبار والريح فهو أبيض إلى الصفرة، قاله الحسن. الثاني: تشبيهاً ببطن البيض إذا لم تمسه يد، قاله سعيد بن جبير.

الثالث: تشبيهاً ببياض البيض حين ينزع قشرة، قاله السدي. الرابع: تشبيهاً بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض , قاله عطاء.

50

{فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون} قوله عز وجل: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} يعني أهل الجنة كما يسأل أهل النار. {قال قائلٌ منهم} يعني من أهل الجنة. {إني كان لي قرين} يعني في الدنيا , وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الشيطان كان يغويه فلا يطيعه , قاله مجاهد. الثاني: شريك له كان يدعوه إلى الكفر فلا يجيبه , قاله ابن عباس. الثالث: أنهما اللذان في سورة الكهف {واضرب لهم مثلاً رجلين} إلى آخر قصتهما , فقال المؤمن منهما في الجنة للكافر في النار. {يقول أئنك لمن المصدقين} يعني بالبعث. {أئذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} فيه تأويلان: أحدهما: لمحاسبون، قاله مجاهد وقتادة والسدي. الثاني: لمجازون، قاله ابن عباس ومحمد بن كعب من قوله: كما تدين تدان. قوله عز وجل: {قال هل أنتم مطلعون} وهذا قول صاحب القرين للملائكة وقيل لأهل الجنة , هل أنتم مطلعون يعني في النار. يحتمل ذلك وجهين: أحدهما: لاستخباره عن جواز الاطلاع.

الثاني: لمعاينة القرين. {فاطّلَعَ} يعني في النار. {فرآه} يعني قرينه {في سواءِ الجحيم} قال ابن عباس في وسط الجحيم , وإنما سمي الوسط سواءً لاستواء المسافة فيه إلى الجوانب قال قتادة: فوالله لولا أن الله عَرّفه إياه ما كان ليعرفه , لقد تغير حبْرُهُ وسبرُه يعني حسنه وتخطيطه. قوله عز وجل: {قال تالله إن كِدْتَ لتُرْدين} هذا قول المؤمن في الجنة لقرينه في النار , وفيه وجهان: أحدهما: لتهلكني لو أطعتك , قاله السدي. الثاني: لتباعدني من الله تعالى , قاله يحيى. {ولولا نعمة ربي} يعني بالإيمان {لكنت من المحْضَرين} يعني في النار , لأن أحضر لا يستعمل مطلقاً إلا في الشر.

62

{أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين} قوله عز وجل: {أذلك خيرٌ نزلاً أم شجرة الزقوم} والنُّزل العطاء الوافر ومنه إقامة الإنزال، وقيل ما يعد للضيف والعسكر. وشجرة الزقوم هي شجرة في النار يقتاتها أهل النار , مرة الثمر خشنة اللمس منتنة الريح. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أولا؟ على قولين:

أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا، ومن قال بهذا اختلفوا فيها فقال قطرب: إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر، وقال غيره بل كل نبات قاتل. القول الثاني: أنها لا تعرف في شجر الدنيا , فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قال كفار قريش: ما نعرف هذه الشجرة , فقال ابن الزبعرى: الزقوم بكلام البربر: الزبد والتمر فقال أبو جهل لعنه الله: يا جارية ابغينا تمراً وزبداً ثم قال لأصحابه تزقموا هذا الذي يخوفنا به محمد يزعم أن النار تنبت الشجر , والنار تحرق الشجر. {إنا جعلناها فتنة للظالمين} فيه قولان: أحدهما: أن النار تحرق الشجر فكيف ينبت فيها الشجر وهذا قول أبي جهل إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه فكان هذا هو الفتنة للظالمين , قاله مجاهد. الثاني: أن شدة عذابهم بها هي الفتنة التي جعلت لهم , حكاه ابن عيسى. قوله عز وجل: {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} فكان المقصود بهذا الذكر أمرين: أحدهما: وصفها لهم لاختلافهم فيها. الثاني: ليعلمهم جواز بقائها في النار لأنها تنبت من النار. قال يحيى بن سلام: وبلغني أنها في الباب السادس وانها تحيا بلهب النار كما يحيا شجركم ببرد الماء. {طلعها كأنه رؤُوس الشياطين} يعني بالطلع الثمر , فإن قيل فكيف شبهها برؤوس الشياطين وهم ما رأوها ولا عرفوها؟ قيل عن هذا أربعة أجوبة: أحدها: أن قبح صورتها مستقر في النفوس , وإن لم تشاهد فجاز أن ينسبها بذلك لاستقرار قبحها في نفوسهم كما قال امرؤ القيس: (ايقتُلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونةٍ زُرقٍ كأنياب أغوال)

فشببها بأنياب الأغوال وإن لم يرها الناس. الثاني: أنه أراد رأس حية تسمى عندالعرب شيطاناً وهي قبيحة الرأس. الثالث: أنه أراد شجراً يكون بين مكة واليمن يسمى رؤوس الشياطين , قاله مقاتل. قوله عز وجل: {ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم} يعني لمزاجاً من حميم والحميم الحار الداني من الإحراق قال الشاعر: (كأن الحميم على متنها ... إذا اغترفته بأطساسها) (جُمان يجول على فضة ... عَلَتْه حدائد دوّاسها) ومنه سمي القريب حميماً لقربه من القلب , وسمي المحموم لقرب حرارته من الإحراق , قال الشاعر: (أحم الله ذلك من لقاءٍ ... آحاد آحاد في الشهر الحلال) أي أدناه فيمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم تغليظاً لعذابهم وتشديداً لبلاتهم. قوله عز وجل: {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني بأن مأواهم لإلى الجحيم , قاله عبد الرحمن بن زيد. الثاني: أن منقلبهم لإلى الجحيم , قاله سفيان. الثالث: يعني أن مرجعهم بعد أكل الزقوم إلى عذاب الجحيم , قاله ابن زياد. الرابع: أنهم فيها كما قال الله تعالى {يطوفون بينها وبين حميم آن} ثم يرجعون إلى مواضعهم , قاله يحيى بن سلام.

75

{ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ثم أغرقنا الآخرين}

قوله عز وجل: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون} أي دعانا , ودعاؤه كان على قومه عند إياسه من إيمانهم , وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد طول الاستدعاء لأمرين: أحدهما: ليطهر الله الأرض من العصاة. الثاني: ليكونوا عبرة يتعظ بها من بعدهم من الأمم. وقوله: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: فلنعم المجيبون لنوح في دعائه. الثاني: فلنعم المجيبون لمن دعا لأن التمدح بعموم الإجابة أبلغ. {ونجيناه وأهله} قال قتادة: كانوا ثمانية: نوح وثلاثة بنين ونساؤهم , أربعة [أي] رجال وأربعة نسوة. {من الكرب العظيم} فيه وجهان: أحدهما: من غرق الطوفان , قاله السدي. الثاني: من الأذى الذي كان ينزل من قومه , حكاه ابن عيسى. {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال ابن عباس: والناس كلهم بعد نوح من ذريته وكان بنوه ثلاثة: سام وحام ويافث , فالعرب والعجم أولاد سام , والروم والترك والصقالبة أولاد يافث والسودان من أولاد حام , قال الشاعر: (عجوز من بني حام بن نوح ... كأن جبينها حجر المقام) قوله عز وجل: {وتركنا عليه في الآخرين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أبقى الله الثناء الحسن في الآخرين , قاله قتادة. الثاني: لسان صدق للأنبياء كلهم , قاله مجاهد. الثالث: هو قوله سلام عل نوح في العالمين , قاله الفراء.

83

{وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه

وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين} قوله عز وجل: {وإن من شيعته لإبراهيم} فيه وجهان: أحدهما: من أهل دينه , قاله ابن عباس. الثاني: على منهاجه وسنته , قاله مجاهد. وفي أصل الشيعة في اللغة قولان: أحدهما: أنهم الأتباع ومنه قول الشاعر: (قال الخليط غداً تصدُّ عَنّا ... أو شيعَه أفلا تشيعنا) قوله أو شيعه أي اليوم الي يتبع غداً، قاله ابن بحر. الثاني: وهو قول الأصمعي الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار الذي يوضع مع الكبار حتى يستوقد لأنه يعين على الوقود. ثم فيه قولان: أحدهما: إن من شيعة محمد لإبراهيم عليهما السلام , قاله الكلبي والفراء. الثاني: من شيعة نوح لإبراهيم , قاله مجاهد ومقاتل. وفي إبراهيم وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي وهو قول الأكثرين. الثاني: مشتق من البرهمة وهي إدّامة النظر. قوله عز وجل: {إذ جاء ربّه بقَلْب سليم} فيه أربعة أوجه: أحدها: سليم من الشك، قاله قتادة. الثاني: سليم من الشرك، قاله الحسن. الثالث: مخلص، قاله الضحاك.

الرابع: ألا يكون لعاناً , قاله عروة بن الزبير. ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما: عند دعائه إلى توحيده وطاعته. الثاني: عند إلقائه في النار.

88

{فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين} قوله عز وجل: {فنظر نظرة في النجوم} فيها أربعة تأويلات: أحدها: أنه رأى نجماً طالعاً، فعلم بذلك أن له إلهاً خالقاً، فكان هذا نظره في النجوم، قاله سعيد بن المسيب. الثاني: أنها كلمة من كلام العرب إذا تفكر الرجل في أمره قالوا قد نظر في النجوم , قاله قتادة. الثالث: أنه نظر فيما نجم من قولهم، وهذا قول الحسن. الرابع: أن علم النجوم كان من النبوة، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك، فنظر إبراهيم فيها [كان] علماً نبوياً , قاله ابن عائشة. وحكى جويبر عن الضحاك أن علم النجوم كان باقياً إلى زمن عيسى ابن مريم عليه السلام حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه فقالت لهم مريم من أين

علمتم موضعه؟ قالوا: من النجوم , فدعا ربه عند ذلك فقال: اللهم فوهمهم في علمها فلا يعلم علم النجوم أحد , فصار حكمها في الشرع محظوراً وعلمها في الناس مجهولاً. قال الكلبي وكانوا بقرية بين البصرة والكوفة يقال لها هرمزجرد وكانوا ينظرون في النجوم. {فقال إني سقيم} فيه سبعة تأويلات: أحدها: أنه استدل بها على وقت حمى كانت تأتيه. الثاني: سقيم بما في عنقي من الموت. الثالث: سقيم بما أرى من قبح أفعالكم في عبادة غير الله. الرابع: سقيم لشكه. الخامس: لعلمه بأن له إلهاً خالقاً معبوداً , قاله ابن بحر. السادس: لعلة عرضت له. السابع: أن ملكهم أرسل إليه أن غداً عيدنا فاخرج , فنظر إلى نجم فقال: إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقمي، فتولوا عنه مدبرين , قاله عبد الرحمن بن زيد قال سعيد بن المسيب: كابد نبي الله عن دينه فقال إني سقيم. وقال سفيان: كانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلوا بآلهتهم فقال: إني سقيم أي طعين وهذه خطيئته التي قال اغفر لي خطيئتي يوم الدين وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لم يكذب إبراهيم غير ثلاث: ثنتين في ذات الله عز وجل قوله إني سقيم , وقوله بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في سارة هي أختي). {فراغ إلىءَالَهِتِهِمْ} فيه أربعة أوجه:

أحدها: ذهب إليهم , قاله السدي. الثاني: مال إليهم , قاله قتادة. الثالث: صال عليهم , قاله الأخفش. الرابع: أقبل عليهم , قاله الكلبي وقطرب , وهذا قريب من المعنيين المتقدمين. {فقال ألا تأكلون} فيه قولان: أحدهما: أنه قال ذلك استهزاء بهم , قاله ابن زياد. الثاني: أنه وجدهم حين خرجوا إلى عيدهم قد صنعوا لآلهتهم طعاماً لتبارك لهم فيه فلذلك قال للأصنام وإن كانت لا تعقل عنه الكلام احتجاجاً على جهل من عبدها. وتنبيهاً على عجزها , ولذلك قال: {ما لكم لا تنطقون}. {فراغ عليهم ضرباً باليمين} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يده اليمنى. قاله الضحاك , لأنها أقوى والضرب بها أشد. الثاني: باليمين التي حلفها حين قال {وتالله لأكيدن أصنامكم} حكاه ابن عيسى. الثالث: يعني بالقوة , وقوة النبوة أشد , قاله ثعلب. {فأقبلوا إليه يزفون} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يخرجون، قاله ابن عباس. الثاني: يسعون، قاله الضحاك. الثالث: يتسللون، حكاه ابن عيسى. الرابع: يرعدون غضباً، حكاه يحيى بن سلام. الخامس: يختالون وهو مشي الخيلاء , وبه قال مجاهد، ومنه أخذ زفاف العروس إلى زوجها , وقال الفرزدق: (وجاء قريع الشول قَبل إفالها ... يزفّ وجاءت خَلْفه وهي زفّف) قوله عز وجل: {والله خلقكم وما تعملون} فيه وجهان: أحدهما: أن الله خلقكم وخلق عملكم.

الثاني: خلقكم وخلق الأصنام التي عملتموها. {فأرادوا به كيداً} يعني إحراقه بالنار التي أوقدوها له. {فجعلناهم الأسفلين} فيه أربعة أوجه: أحدها: الأسفلين في نار جهنم , قاله يحيى. الثاني: الأسفلين في دحض الحجة , قال قتادة: فما ناظروه بعد ذلك حتى أهلكوا. الثالث: يعني المهلكين فإن الله تعالى عقب ذلك بهلاكهم. الرابع: المقهورين لخلاص إبراهيم من كيدهم. قال كعب: فما انتفع بالنار يومئذٍ أحد من الناس وما أحرقت منه يومئذٍ إلا وثاقه. وروت أم سبابة الأنصارية عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثها أن (إبراهيم لما ألقي في النار كانت الدواب كلها تطفىء عنه النار إلا الوزغة فإنها كانت تنفخ عليها) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها.

99

{وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}

{وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} وفي زمان هذا القول منه قولان: أحدهما: أنه قال عند إلقائه في النار، وفيه على هذا القول تأويلان: أحدهما: إني ذاهب إلى ما قضى به عليّ ربي. الثاني: إني ميت كما يقال لمن مات قد ذهب إلى الله تعالى لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها إلى أن قيل لها كوني برداً وسلاماً , فحينئذٍ سلم إبراهيم منها. وفي قوله: {سيهدين} على هذا القول تأويلان: أحدهما: سيهدين إلى الخلاص من النار. الثاني: إلى الجنة. فاحتمل ما قاله إبراهيم من هذا وجهين: أحدهما: أن بقوله لمن يلقيه في النار فيكون ذلك تخويفاً لهم. الثاني: أن بقوله لمن شاهده من الناس الحضور فيكون ذلك منه إنذارً لهم , فهذا تأويل ذلك على قول من ذكر أنه قال قبل إلقائه في النار. والقول الثاني: أنه قاله بعد خروجه من النار. {إني ذاهب إلى ربي} وفي هذا القول ثلاثة تأويلات: أحدها: إني منقطع إلى الله بعبادتي , حكاه النقاش. الثاني: ذاهب إليه بقلبي وديني وعملي , قاله قتادة. الثالث: مهاجر إليه بنفسي فهاجر من أرض العراق. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة. وفي البلد الذي هاجر إليه قولان: أحدهما: إلى أرض الشام. الثاني: إلى أرض حران، حكاه النسائي. وفي قوله: سيهدين على هذا القول تأويلان: أحدهما: سيهدين إلى قول: حسبي الله عليه توكلت، قاله سليمان. الثاني: إلى طريق الهجرة، قاله يحيى.

واحتمل هذا القول منه وجهين: أحدهما: أن بقوله لمن فارقه من قومه فيكون ذلك توبيخاً لهم. الثاني: أن بقوله لمن هاجر معه من أهله فيكون ذلك منه ترغيباً. قوله عز وجل: {فبشرناه بغُلام حليم} أي وقور. قال الحسن: ما سمعت الله يحل عباده شيئاً أجل من الحلم. وفي قولان: أحدهما: أنه إسحاق , ولم يثن الله تعالى على أحد بالحلم إلا على إسحاق وإبراهيم قاله قتادة. الثاني: إسماعيل وبشر بنبوة إسحاق بعد ذلك , قاله عامر الشعبي. قال الكلبي وكان إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. قوله عز وجل: {فلما بلغ معه السعي} فيه أربعة أوجه: أحدها: يمشي مع أبيه , قاله قتادة. الثاني: أدرك معه العمل , قاله عكرمة. الثالث: أنه سعي العمل الذي تقوم به الحجة , قاله الحسن. الرابع: أنه السعي في العبادة , قاله ابن زيد. قال ابن عباس: صام وصلى , ألم تسمع الله يقول {وسعى لها سعيها} [الإسراء: 19] قال الفراء والكلبي , وكان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة. {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحُك} فروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رؤيا الأنبياء في المنام وحي). {فانظُرْ ماذا تَرَى} لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله سبحانه , وفيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه قاله إخباراً بما أمره الله تعالى به ليكون أطوع له. الثاني: أنه قاله امتحاناً لصبره على أمر الله تعالى. الثالث: أي ماذا تريني من صبرك أو جزعك , قاله الفراء. {قال يا أبت افْعَلْ ما تؤمرُ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: على الذبح , قاله مقاتل. الثاني: على القضاء , حكاه الكلبي , فوجده في الامتحان صادق الطاعة سريع الإجابة قوي الدين. قوله عز وجل: {فلما أسْلَما} فيه وجهان: أحدهما: اتفقا على أمر واحد , قاله أبو صالح. الثاني: سلما لله تعالى الأمر , وهو قول السدي. قال قتادة: سلم إسماعيل نفسه لله , وسلم إبراهيم ابنه لله تعالى. {وتله للجبين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه صرعه على جبينه , قاله ابن عباس , والجبين ما عن يمين الجبهة وشمالها , قال الشاعر: (وتله أبو حكم للجبين ... فصار إلى أمِّه الهاوية) الثاني: أنه أكبَّه لوجهه , قاله مجاهد. الثالث: أنه وضع جبينه على تل , قاله قطرب. وحكى مجاهد عن إسحاق أنه قال: يا أبت اذبحني وأنا ساجد , ولا تنظر إلى وجهي فعسى أن ترحمني فلا تذبحني. {وناديناه أن يا إبراهيم قد صَدَّقْتَ الرؤيا} أي عملت ما رأيته في المنام , وفي الذي رآه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي رآه أنه قعد منه مقعد الذابح ينتظر الأمر بإمضاء الذبح. الثاني: أن الذي رآه أنه أمر بذبحه بشرط التمكين ولم يمكن منه لما روي أنه كان كلما اعتمد بالشفرة انقلبت وجعل على حلقه صفيحة من نحاس. الثالث: أن الذي رآه أنه ذبحه وقد فعل ذلك وإنما وصل الله تعالى الأوداج بلا فصل.

{إنا كذلك نجزِي المحسنين} بالعفو عن ذبح ابنه. وفي الذبيح قولان مثل اختلافهم في الحليم الذي بشر به. أحدهما: أنه إسحاق , قاله علي رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وكعب الأحبار وقتادة والحسن. قال ابن جريج ذبح إبراهيم ابنه إسحاق وهو ابن سبع سنين وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة. وفي الموضع الذي أراد ذبحه فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بمكة في المقام. الثاني: في المنحر بمنى. الثالث: بالشام , قاله ابن جريج وهو من بيت المقدس على ميلين. ولما علمت سارة ما أراد بإسحاق بقيت يومين وماتت في اليوم. القول الثاني: أنه إسماعيل , قاله ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب , وأنه ذبحه بمنى عند الجمار التي رمى إبليس في كل جمرة بسبع حصيات حين عارضه في ذبحه حتى جمر بين يديه أي أسرع فسميت جماراً. وحكى سعيد بن جبير أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى: قوله عز وجل: {إنَّ هذا لهو البلاءُ المبين} فيه وجهان: أحدهما: الاختبار العظيم , قاله ابن قتيبة. الثاني: النعمة البينة , قاله الكلبي ومقاتل وقطرب وأنشد قول الحطيئة: (وإن بلاءهم ما قد علمتم ... على الأيام إن نفع البلاءُ) قوله عز وجل: {وفديناه بذبح عظيم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه فدى بوعل أنزل عليه من ثبير , قاله ابن عباس , وحكى عنه سعيد ابن جبير أنه كبش رعي في الجنة أربعين خريفاً. الثاني: أنه فدي بكبش من غنم الدنيا , قاله الحسن. الثالث: أنه فدي بكبش أنزل عليه من الجنة وهو الكبش الذي قربه هابيل بن

آدم فقيل منه. قال ابن عباس حدثني من رأى قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام معلقين بالكعبة. والذبح بالكسر هو المذبوح , والذبح بالفتح هو فعل الذبح. وفي قوله: {عظيم} خمسة تأويلات: أحدها: لأنه قد رعى في الجنة , قاله ابن عباس. الثاني: لأنه ذبح بحق , قاله الحسن. الثالث: لأنه عظيم الشخص. الرابع: لأنه عظيم البركة. الخامس: لأنه متقبل , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {وتركنا عليه في الآخِرين} فيه قولان: أحدهما: الثناء الحسن , قاله قتادة. الثاني: هو السلام على إبراهيم , قاله عكرمة.

114

{ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين} قوله عز وجل: {ولقد مننا على موسى وهارون} فيه قولان: أحدهما: بالنبوة , قاله مقاتل. الثاني: بالنجاة من فرعون , قاله الكلبي. {ونجيناهما} الآية. فيه قولان: أحدهما: من الغرق. الثاني: من الرق.

123

{وإن إلياس لمن المرسلين إذ قال لقومه ألا تتقون أتدعون بعلا

وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين} قوله عز وجل: {وإن إلياس لمن المرسلين} فيه قولان: أحدهما: أنه إدريس قاله ابن عباس وقتادة , وهي قراءة ابن مسعود: وابن إدريس. الثاني: أنه من ولد هارون , قاله محمد بن إسحاق , قال مقاتل: هو إلياس بن بحشر , وقال الكلبي هو عم اليسع. وجوز قوم أن يكون هو إلياس بن مضر. وقيل لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل بعد حزقيل بعث الله إليهم إلياس عليه السلام نبياً , وتبعه اليسع وآمن به , فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يقبضه إليه ففعل وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة إنيساً ملكياً , أرضياً سماوياً , والله أعلم. قوله عز وجل: {أتدعون بعلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني ربّاً , قاله عكرمة ومجاهد. قال مقاتل هي لغة أزد شنوءة، وسمع ابن عباس رجلاً من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال: من بعل هذه أي ربها، ومنه قول أبي دؤاد: (ورأيت بعلك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحا) الثاني: أنه صنم يقال له بعل كانوا يعبدونه وبه سميت بعلبك، قاله الضحاك وابن زيد وقال مقاتل: كسره إلياس وذهب. الثالث: أنه اسم امرأة كانوا يعبدونها، قاله ابن شجرة.

{وتذرون أحْسَنَ الخالقين} فيه وجهان: أحدهما: من قيل له خالق. الثاني: أحسن الصانعين لأن الناس يصنعون ولا يخلقون. قوله عز وجل: {سلامٌ على إِلْ يَاسِينَ} قرأ نافع وابن عامر: سلامٌ على آل ياسين بفتح الهمزة ومدها وكسر اللام , وقرأ الباقون بكسر الهمزة وتسكين اللام , وقرأ الحسن: سلام على ياسين بإسقاط الألف واللام , وقرأ ابن مسعود: سلام على ادراسين , لأنه قرأ وإن إدريس لمن المرسلين. فمن قرأ الياس ففيه وجهان: أحدهما: أنه جمع يدخل فيه جميع آل إلياس بمعنى أن كل واحد من أهله يسمى الياس. الثاني: أنه إلياس فغير بالزيادة لأن العرب تغير الأسماء الأعجمية بالزيادة كما يقولون ميكال وميكاييل وميكائين. قال الشاعر: (يقول أهل السوق لما جينا ... هذا وربِّ البيت إسرائينا) ومن قرأ آل ياسين ففي قراءته وجهان: أحدهما: أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم آل إلياس. فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان: أحدهما: أنها زيدت لتساوي الآي , كما قال في موضع طور سيناء , وفي موضع آخر طور سينين , فعلى هذا يكون السلام على أهله دونه وتكون الإضافة إليه تشريفاً له. الثاني: أنها دخلت للجمع فيكون داخلاً في جملتهم ويكون السلام عليه وعليهم.

133

{وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين

ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} {إلا عجوزاً في الغابرين} فيها أربعة أوجه: أحدها: الهالكين , قاله السّدي. الثاني: في الباقين من الهالكين , قاله ابن زيد. الثالث: في عذاب الله تعالى , قاله قتادة. الرابع: في الماضين في العذاب , حكاه مقاتل.

139

{وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} قوله عز وجل: {وإن يونس لمن المرسلين} قال السدي: يونس بن متى نبي من أنبياء الله تعالى بعثه إلى قرية يقال لها نينوى على شاطىء دجلة: قال قتادة: وهي من أرض الموصل. {إذ أبق إلى الفُلك المشحون} والآبق الفارّ إلى حيث لا يعلم به , قال الحسن: فر من قومه وكان فيما عهد إليهم أنهم إن لم يؤمنوا أتاهم العذاب , وجعل علامة ذلك خروجاً من بين أظهرهم , فلما خرج عنه جاءتهم ريح سوداء فخافوها فدعوا الله بأطفالهم وبهائمهم فأجابهم وصرف العذاب عنهم فخرج مكايداً لقومه مغاضباً لدين ربه حتى أتى البحر فركب سفينة وقد استوقرت حملاً , فلما اشتطت بهم خافوا الغرق. وفيما خافوا الغرق به قولان: أحدهما: أمواج من ريح عصفت بهم قاله ابن عباس.

الثاني: من الحوت الذي عارضهم , حكاه ابن عيسى , فقالوا عند ذلك: فينا مذنب لا ننجو إلا بإلقائه , فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فألقوه , وهو معنى قوله تعالى: {فساهَم} أي قارع بالسهام , قاله ابن عباس والسدي. {فكان من المدحضين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من المقروعين , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: من المغلوبين , قاله سعيد بن جبير , ومنه قول أبي قيس: (قتلنا المدحضين بكل فج ... فقد قرت بقتلهم العيون) الثالث: أنه الباطل الحجة , قاله السدي مأخوذ من دحض الحجة وهو بطلانها فلما ألقوه في البحر آمنوا. قوله عز وجل: {فالتقمه الحوت وهُو مليم} قال ابن عباس: أوحى الله تعالى إلى سمكة يقال لها اللخم من البحر الأخضر أن شقي البحار حتى تأخذي يونس , وليس يونس لك رزقاً , ولكن جعلت بطنك له سجناً , فلا تخدشي له جلداً ولا تكسري له عظماً , فالتقمه الحوت حين ألقي. وفي قوله: {وهو مليم} ثلاثة تأويلات: أحدها: أي مسيء مذنب , قاله ابن عباس. الثاني: يلوم نفسه على ما صنع , وهو معنى قول قتادة. الثالث: يلام على ما صنع , قاله الكلبي. والفرق بين الملوم والمليم أن المليم اذا أتى بما يلام عليه , والملوم إذا ليم عليه. {فلولا أنه كان مِن المسبحين} فيه أربعة أوجه: أحدها: من القائلين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين , قاله الحسن. الثاني: من المصلين قاله ابن عباس. الثالث: من العابدين , قاله وهب بن منبه.

الرابع: من التائبين , قاله قطرب. وقيل تاب في الرخاء فنجاه الله من البلاء. {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} قال قتادة: إلى يوم القيامة حتى يَصير الحوت له قبراً , وفي مدة لبثه في بطن الحوت أربعة أقاويل: أحدها: بعض يوم , قال الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية. الثاني: ثلاثة أيام , قاله قتادة. الثالث: سبعة أيام , قاله جعفر. الرابع: أربعون يوماً , قاله أبو مالك , وقيل إنه سار بيونس حتى مر به إلى الإيلة ثم عاد في دجلة إلى نينوى. {فنبذناه بالعراء} فيه أربعة أوجه: أحدها: بالساحل , قاله ابن عباس. الثاني: بالأرض , قاله السدي , قال الضحاك: هي أرض يقال لها بلد. الثالث: موضع بأرض اليمن. الرابع: الفضاء الذي لا يواريه نبت ولا شجر , قال الشاعر: (ورفعت رِجْلاً لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي) {وهو سقيم} فيه وجهان: أحدهما: كهيئة الصبي , قاله السدي. الثاني: كهيئة الفرخ الذي ليس له ريش , قاله ابن مسعود لأنه ضعف بعد القوة , ورق جلده بعد الشدة. قوله عز وجل: {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنه القرع , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه كل شجرة ليس فيها ساق يبقى من الشتاء إلى الصيف , قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنها كل شجرة لها ورق عريض، قاله ابن عباس.

الرابع: أنه كل ما ينبسط على وجه الأرض من البطيخ والقثاء , رواه القاسم بن أبي أيوب. الخامس: أنها شجرة سماها الله تعالى يقطيناً أظلته رواه هلال بن حيان. وهو تفعيل من قطن بالمكان أي أقام إقامة زائل لا إقامة راسخ كالنخل والزيتون , فمكث يونس تحتها يصيب منها ويستظل بها حتى تراجعت نفسه إليه , ثم يبست الشجرة فبكى حزناً عليها , فأوحى الله تعالى إليه: أتبكي على هلاك شجرة ولا تبكي على هلاك مائة ألف أو يزيدون؟ حكاه ابن مسعود. وحكى سعيد بن جبير أنه لما تساقط ورق الشجر عنه أفضت إليه الشمس فشكاه فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس جزعت من حر الشمس ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا إليّ فتبت عليهم. قوله عز وجل: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون} فيهم قولان: أحدهما: أنه أرسل إليهم بعدما نبذه الحوت , قاله ابن عباس , فكان أرسل إلى قوم بعد قوم. الثاني: أنه أرسل إلى الأولين فآمنوا بشريعته , وهو معنى قول ابن مسعود. وفي قوله: {أو يزيدون} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه للإبهام كأنه قال أرسلناه إلى أحد العددين. الثاني: أنه على شك المخاطبين. الثالث: أن معناه: بل يزيدون , قاله ابن عباس وعدد من أهل التأويل , مثله قوله فكان قاب قوسين أو أدنى يعنى بل أدنى , قال جرير: (أثعلبة الفوارس أو رباحاً ... عدلت بهم طهية والخشابا) والمعنى أثعلبة بل رباحاً.

واختلف من قال بهذا في قدر زيادتهم على مائة ألف على خمسة أقاويل: أحدها: يزيدون عشرين ألفاً , رواه أُبي بن كعب مرفوعاً. الثاني: يزيدون ثلاثين ألفاً , قاله ابن عباس. الثالث: يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً , قاله الحكم. الرابع: بضعة وأربعين ألفاً رواه سفيان بن عبد الله البصري. الخامس: سبعين ألفاً , قاله سعيد بن جبير.

149

{فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين} قوله عز وجل: {أم لكم سلطان مبين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عذر مبين , قاله قتادة. الثاني: حجة بينة , قاله ابن قتيبة. الثالث: كتاب بيّن , قاله الكلبي. قوله عز وجل: {وجعلوا بينه وبين الجِنة نسباً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه إشراك الشيطان في عبادة الله تعالى فهو النسب الذي جعلوه , قاله الحسن. الثاني: هو قول يهود أصبهان أن الله تعالى صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم , قاله قتادة. الثالث: هو قول الزنادقة: إن الله تعالى وإبليس أخوان , وأن النور والخير

والحيوان النافع من خلق الله , والظلمة والشر والحيوان الضار من خلق إبليس , قاله الكلبي وعطية العوفي. الرابع: هو قول المشركين , إن الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سروات الجن , قاله مجاهد. وفي تسمية الملائكة على هذا الوجه جنة ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة , قاله مجاهد. الثاني: لأنهم على الجنان , قاله أبو صالح. الثالث: لاستتارهم عن العيون كالجن المستخفين. قوله عز وجل: {ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون} وفي الجنة قولان: أحدهما: أنهم الملائكة , قاله السدي. الثاني: أنهم الجن , قاله مجاهد. وفيما علموه قولان: أحدهما: أنهم علموا أن قائل هذا القول محضرون , قاله علي بن عيسى. الثاني: علموا أنهم في أنفسهم محضرون , وهو قول من زعم أن الجنة هم الجن. وفي قوله محضرون تأويلان: أحدهما: للحساب , قال مجاهد. الثاني: محضرون في النار , قاله قتادة.

161

{فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين}

قوله عز وجل: {فإنكم وما تعبدون} يعني المشركين وما عبدوه من آلهتهم. {ما أنتم عليه بفاتنين} أي بمضلين , قال الشاعر: (فرد بنعمته كيده ... عليه وكان لها فاتناً) {إلا من هو صالِ الجحيم} فيه وجهان: أحدهما: إلا من سبق في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم , قاله ابن عباس. قوله عز وجل {وما مِنّا إلا له مقامٌ معلوم} فيه قولان: أحدهما: ما منا ملك إلا له في السماء مقام معلوم، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير. الثاني: ما حكاه قتادة قال: كان يصلي الرجال والنساء جميعاً حتى نزلت {وما منا إلا له مقام معلوم} قال فتقدم الرجال وتأخر النساء. ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل. ثالثاً: وما منا يوم القيامة إلا من له فيها مقام معلوم بين يدي الله عز وجل. قوله عز وجل: {وإنا لنحن الصّافون} فيه قولان: أحدهما: أنهم الملائكة يقفون صفوفاً في السماء , قيل حول العرش ينتظرون ما يؤمرون به , وقيل في الصلاة مصطفين. وحكى أبو نضرة أن عمر رضي الله كان إذا قام إلى الصلاة قال: يريد , الله بكم هدى الملائكة {وإنا لنحن الصافون} تأخر يا فلان , ثم يتقدم فيكبر. الثاني: ما حكاه أبو مالك قال كان الناس يصلون متبددين فأنزل الله عز وجل {وإنا لنحن الصافون} فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطفوا. وقوله عز وجل: {وإنا لنحن المسبحون} فيه قولان:

أحدهما: المصلّون , قاله قتادة. الثاني: المنزِّهون الله عما أضافه إليه المشركون أي فكيف لا تعبدونه ونحن نعبده.

170

{فكفروا به فسوف يعلمون ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وأبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون} قوله عز وجل: {ولقد سبقت كلمتُنا لعبادنا المرسلين} فيه قولان: أحدهما: سبقت بالحجج , قاله السدي. الثاني: أنهم سينصرون , قال الحسن: لم يقتل من الرسل أصحاب الشرائع أحد قط. {إنهم لهم المنصرون} فيه قولان: أحدهما: بالحجج في الدنيا والعذاب في الآخرة , قاله السدي والكلبي. الثاني: بالظفر إما بالإيمان أو بالانتقام , وهو معنى قول قتادة. قوله عز وجل: {فتولَّ عنهم حتى حين} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يوم بدر , قاله السدي. الثاني: فتح مكة , حكاه النقاش. الثالث: الموت , قاله قتادة. الرابع: يوم القيامة , وهو قول زيد بن أسلم. وفي نسخ هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة , قاله قتادة. الثاني: أنها ثابتة. قوله عز وجل: {وأبْصِر فسوف يبصرون} فيه أربعة أوجه: أحدها: أبصر ما ضيعوا من أمر الله فسوف يبصرون ما يحل بهم من عذاب الله وهو معنى قول ابن زيد.

الثاني: أبصرهم في وقت النصرة عليهم فسوف يبصرون ما يحل لهم , حكاه ابن عيسى. الثالث: أبصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون ذلك في القيامة. الرابع: أعلمهم الآن فسوف يعلمونه بالعيان وهو معنى قول ثعلب.

180

{سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين} قوله عز وجل: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} روى الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين}). قوله تعالى: {رب العزة} يحتمل وجهين: أحدهما: مالك العزة. الثاني: رب كل شيء متعزز من مالك أو متجبر. {وسلامٌ على المرسلين} يحتمل وجهين: أحدهما: سلامه عليهم إكرماً لهم. الثاني: قضاؤه بسلامتهم بعد إرسالهم فإنه ما أمر نبي بالقتال إلا حرس من القتل. {والحمد لله رب العالمين} يحتمل وجهين: أحدهما: على إرسال الأنبياء مبشرين ومنذرين. الثاني: على جميع ما أنعم به على الخلق أجمعين.

سورة ص مكية في قول جميعهم بسم الله الرحمن الرحيم

ص

{ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص} قوله عز وجل: {ص} فيه تسعة تأويلات: أحدها: أنه فواتح الله تعالى بها القرآن , قاله مجاهد. الثاني: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثالث: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم به , قاله ابن عباس. الرابع: أنه حرف هجاء من أسماء الله تعالى , قاله السدي. الخامس: أنه بمعنى صدق الله , قاله الضحاك. السادس: أنه من المصادة وهي المعارضة ومعناه عارض القرآن لعلمك , قاله الحسن. السابع: أنه من المصادة وهي الاتباع ومعناه اتبع القرآن بعلمك , قاله سفيان. {والقرآن ذي الذكر} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ذي الشرف، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي. الثاني: بالبيان، قاله قتادة. الثالث: بالتذكير، قاله الضحاك. الرابع: ذكر ما قبله من الكتب، حكاه ابن قتيبة. قال قتادة: ها هنا وقع القسم.

واختلف أهل التأويل في جوابه على قولين: أحدهما: أن جواب القسم محذوف وحذفه أفخم له لأن النفس تذهب فيه كل مذهب. ومن قال بحذفه اختلفوا فيه على قولين: أحدهما: أن تقدير المحذوف منه لقد جاء الحق. الثاني: تقديره ما الأمر كما قالوا. والقول الثاني: من الأصل أن جواب القسم مظهر , ومن قال بإظهاره اختلفوا فيه على قولين: أحدهما: قوله تعالى {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} قاله الفراء. الثاني: من قوله تعالى {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} وهو قول مقاتل. أحدها: يعني في حمية وفراق , قاله قتادة. الثاني: في تعزز واختلاف , قاله السدي. الثالث: في أنفة وعداوة. ويحتمل رابعاً: في امتناع ومباعدة. {كم أهلكنا مِن قَبْلِهم} يعني قبل كفار هذه الأمة. {من قرن} فيه قولان: أحدهما: يعني من أمة , قاله أبو مالك. الثاني: أن القرن زمان مقدور وفيه سبعة أقاويل: أحدها: أنه عشرون سنة , قاله الحسن. الثاني: أربعون سنة , قاله إبراهيم. الثالث: ستون سنة , رواه أبو عبيدة الناجي. الرابع: سبعون سنة , قاله قتادة. الخامس: ثمانون سنة , قاله الكلبي. السادس: مائة سنة , رواه عبد الله بن بشر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

السابع: عشرون ومائة سنة , قاله زرارة بن أوفى. قوله عز وجل: {فنادوا ولات حين مناص} يحتمل وجهين: أحدهما: استغاثوا. الثاني: دعوا. ولات حين مناص التاء من لات مفصولة من الحاء وهي كذلك في المصحف , ومن وصلها بالحاء فقد أخطأ. وفيها وجهان: أحدها: أنها بمعنى لا وهو قول أبي عبيدة. الثاني: أنها بمعنى ليس ولا تعمل إلا في الحين خاصة , قال الشاعر: (تذكر حب ليلى لات حيناً ... وأضحى الشيب قد قطع القرينا) وفي تأويل قوله تعالى {ولات حين مناص} خمسة أوجه: أحدها: وليس حين ملجأ , قاله زيد بن أسلم. الثاني: وليس حين مَغاث , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس , ومنه قول علي رضي الله عنه في رجز له: (لأصبحنّ العاصي بن العاصي ... سبعين ألفاً عاقِدي النواصي) (قد جنبوا الخيل على الدلاصِ ... آساد غيل حين لا مناص) الثالث: وليس حين زوال، وراه أبو قابوس عن ابن عباس، ومنه قول الشاعر: (فهم خشوع لدية لا مناص لهم ... يضمهم مجلس يشفي من الصيد) الرابع: وليس حين فرار، قاله عكرمة والضحاك وقتادة قال الفراء مصدر من ناص ينوص. والنوص بالنون التأخر، والبوص بالباء التقدم وأنشد قول امريء القيس: (أمِن ذكر ليلى إن نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص)

فجمع في هذا البيت بين البوص والنوص فهو بالنون التأخر وبالباء التقدم. الخامس: أن النوص بالنون التقدم، والبوص بالباء التأخر، وهو من الأضداد، وكانوا إذا أحسوا في الحرب بفشل قال بعضهم لبعض: مناص: أي حملة واحدة، فينجو فيها من نجا ويهلك فيها من هلك , حكاه الكلبي: فصار تأويله على هذا الوجه ما قاله السدي أنهم حين عاينوا الموت لم يستطيعوا فراراً من العذاب ولا رجوعاً إلى التوبة.

4

{وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} قوله عز وجل: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} أمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله أيسع لحاجَاتنا جميعاً إله واحد إن هذا لشيء عجاب بمعنى عجيب كما يقال رجل طوال وطويل، وكان الخليل يفرق بينهما في المعنى فيقول العجيب هو الذي قد يكون مثله والعجاب هو الذي لا يكون مثله , وكذلك الطويل والطوال. قوله عز وجل: {وانطلق الملأ منهم} والانطلاق الذهاب بسهولة ومنه طلاقة الوجه وفي الملأ منهم قولان: أحدهما: أنه عقبة بن معيط , قاله مجاهد. الثاني: أنه أبو جهل بن هشام أتى أبا طالب في مرضه شاكياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق من عنده حين يئس من كفه، قاله ابن عباس. {أَنِ امشوا واصبروا على آلهتكم} فيه وجهان:

أحدهما: اتركوه واعبدوا آلهتكم. الثاني: امضوا على أمركم في المعاندة واصبروا على آلهتكم في العبادة , والعرب تقول: امش على هذا الأمر , أي امض عليه والزمه. {إن هذا لشيء يراد} فيه وجهان: أحدهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم وقوي به الإسلام شق على قريش فقالوا إن الإسلام عمر فيه قوة للإسلام وشيء يراد , قاله مقاتل. الثاني: أن خلاف محمد لنا ومفارقته لديننا إنما يريد به الرياسة علينا والتملك لنا. قوله عز وجل: {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} فيه أربعة أقويل: أحدها: في النصرانية لأنها كانت آخر الملل , قاله ابن عباس وقتادة والسدي. الثاني: فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام , قاله الحكم. الثالث: في ملة قريش , قاله مجاهد. الرابع: معناه أننا ما سمعنا أنه يخرج ذلك في زماننا , قاله الحسن. {إن هذا إلا اختلاق} أي كذب اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم. قوله عز وجل: {أم عندهم خزائن رحمة ربك} قال السدي مفاتيح النبوة فيعطونها من شاؤوا ويمنعونها من شاءُوا. قوله عز وجل: {فليرتقوا في الأسباب} فيه أربعة تأويلات: أحدها: في السماء، قاله ابن عباس. الثاني: في الفضل والدين، قاله السدي. الثالث: في طرق السماء وأبوابها، قاله مجاهد. الرابع: معناه فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة , وهو معنى قول أبي عبيدة.

قوله عز وجل: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} قال سعيد بن جبير: هم مشركو مكة و {ما} صلة للتأكيد , تقول: جئتك لأمر ما. قال الأعشى: (فاذهبي ما إليك ادركني الحلم ... عداني عن هيجكم أشغالي) ومعنى قوله جند أي أتباع مقلِّدون ليس فيهم عالم مرشد. {مهزوم من الأحزاب} يعني مشركي قريش أنه أحزاب إبليس وأتباعه وقيل لأنهم تحازبوا على الجحود لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: فبشره بهزيمتهم وهو بمكة فكان تأويلها يوم بدر.

12

{كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} قوله عز وجل: {كذبت قبلهم قوم نوح} ذكر الله عز وجل القوم بلفظ التأنيث , واختلف أهل العربية في تأنيثه على قولين: أحدهما: أنه قد يجوز فيه التأنيث والتذكير. الثاني: أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه إلا أن يقع المعنى على العشيرة فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيهاً عليه كقوله تعالى {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره} ولم يقل ذكرها لأنه لما كان المضمر فيه مذكوراً ذكره وإن كان اللفظ مقتضياً للتأنيث. {وعادٌ} وهم قوم هود كانوا بالأحقاف من أرض اليمن , قال ابن اسحاق: كانوا أصحاب أصنام يعبدونها , وكانت ثلاثة يقال لأحدها هدر وللآخر صمور للآخر الهنا , فأمرهم هود أن يوحدوا الله سبحانه ولا يجعلوا معه إِلهاً غيره ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم إلا بذلك.

{وفرعون ذُو الأوتاد} وفي تسميته بذي الأوتاد أربعة أقاويل: أحدها: أنه كان كثير البنيان , والبنيان يسمى أوتاداً , قاله الضحاك. الثاني: أنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب عليها , قاله ابن عباس وقتادة. الثالث: لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد , قاله السدي. والرابع: أنه يريد ثابت الملك شديد القوة كثبوت ما يشج بالأوتاد كما قال الأسود بن يعفر: (ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد) {وثمود} وهم عرب وحكى مقاتل أن عاداً وثمود أبناء عم , وكانت منازل ثمود بالحجر بين الحجاز والشام منها وادي القرى , بعث الله إليهم صالحاً , واختلف في إيمانهم به , فذكر ابن عباس أنهم آمنوا ثم مات فرجعوا بعده عن الإيمان فأحياه الله تعالى وبعثه إليهم وأعلمهم أنه صالح فكذبوه وقالوا قد مات صالح فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأتاهم الله الناقة , فكفروا وعقروها , فأهلكهم الله. وقال ابن إسحاق: إن الله بعث صالحاً شاباً فدعاهم حتى صار شيخاً , فقروا الناقة ولم يؤمنوا حتى هلكوا. {وقوم لوط} لم يؤمنوا حتى أهلكهم الله تعالى. قال مجاهد: وكانوا أربعمائة ألف بيت في كل بيت عشرة. وقال عطاء ما من أحد من الأنبياء إلا يقوم معه يوم القيامة قوم من أمته إلا آل لوط فإنه يقوم القيامة وحده. {وأصحاب الأيكة} بعث الله إليهم شعيباً. وفي {الأيكة} قولان: أحدهما: أنها الغيضة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الملتف من النبع والسدر قاله أبو عمرو بن العلاء. قال قتادة: بعث شعيب إلى أمتين من الناس إلى أصحاب الإيكة وإلى مدين , وعذبتا بعذابين. {أولئك الأحزاب} يحتمل وجهين: أحدهما: أحزاب على الأنبياء بالعداوة. الثاني: أحزاب الشياطين بالموالاة.

قوله عز وجل: {وما ينظر هؤلاء} يعني كفار هذه الأمة. {إلا صيحة واحدة} يعني النفخة الأولى. {ما لها من فواق} قرأ حمزة والكسائي بضم الفاء , والباقون بفتحها , واختلف في الضم والفتح على قولين: أحدهما: أنه بالفتح من الإفاضة وبالضم فُواق الناقة وهو قدر ما بين الحلبتين تقديراً للمدة. الثاني: معناهما واحد، وفي تأويله سبعة أقاويل: أحدها: معناه ما لها من ترداد، قاله ابن عباس. الثاني: ما لها من حبس، قاله حمزة بن إسماعيل. الثالث: من رجوع إلى الدنيا، قاله الحسن وقتادة. الرابع: من رحمة. وروي عن ابن عباس أيضاً. الخامس: ما لها من راحة، حكاه أبان بن تغلب. السادس: ما لها من تأخير لسرعتها قال الكلبي، ومنه قول أبي ذؤيب: (إذا ماتت عن الدنيا حياتي ... فيا ليت القيامة عن فواق) السابع: ما لهم بعدها من إقامة، وهو بمعنى قول السدي. قوله عز وجل: {وقالوا ربنا عَجَّل لنا قِطنا ... } الآية. فيه خمسة تأويلات: أحدها: معنى ذلك عجل لنا حظنا من الجنة التي وعدتنا، قاله ابن جبير. الثاني: عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي وعدتنا استهزاء منهم بذلك، قاله ابن عباس. الثالث: عجل لنا رزقنا، قاله إسماعيل بن أبي خالد. الرابع: أرنا منازلنا، قاله السدي. الخامس: عجل لنا في الدنيا كتابنا في الآخرة وهو قوله {فأما من أوتي كتابه بيمينه ... وأما من أوتي كتابه بشماله} استهزاء منهم بذلك. وأصل القط القطع، ومنه قط القلم وقولهم ما رأيته قط أي قطع الدهر بيني وبينه وأطلق على النصيب.

والكتاب والرزق لقطعه من غيره إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالاً وأقوى حقيقة، قال أمية بن أبي الصلت: (قوم لهم ساحة العراق وما ... يجبى إليه والقط والقلح) وفيه لمن قال بهذا قولان: أحدهما أنه ينطلق على كل كتاب يتوثق به. الثاني: أنه مخص بالكتاب الذي فيه عطية وصلة , قاله ابن بحر.

17

{اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} قوله عز وجل: {اصبر على ما يقولون} يعني كما صبر أولو العزم من الرسل لا كمن لم يصبر مثل يونس. {واذكر عبدنا داود} أي فإنا نحسن إليك كما أحسنا إلى داود قبلك بالصبر. {ذا الأيد} فيه قولان: أحدهما: ذا النعم التي أنعم الله بها عليه لأنها جمع يد حذفت منه الياء , واليد النعمة. الثاني: ذا القوة , قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد , ومنه {والسماء بنيناها بأيد} أي بقوة. وفيما نسب داود إليه من القوة قولان: أحدهما: القوة في طاعة الله والنصر في الحرب , قاله مجاهد. الثاني: ذا القوة في العبادة والفقه في الدين قاله قتادة. وذكر أنه كان يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر.

{إنه أواب} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه التواب , قاله مجاهد وابن زيد. الثاني: أنه الذي يؤوب إلى الطاعة ويرجع إليها , حكاه ابن زيد. الثالث: أنه المسبح , قاله الكلبي. الرابع: أنه الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها , قاله المنصور. قوله عز وجل: {وشَدَدنا ملكه} فيه وجهان: أحدهما: بالتأييد والنصر. الثاني: بالجنود والهيبة. قال قتادة: باثنين وثلاثين ألف حرس. {وآتيناه الحكمة} فيها خمسة تأويلات: أحدها: النبوة , قاله السدي. الثاني: السنّة , قاله قتادة. الثالث: العدل , قاله ابن نجيح. الرابع: العلم والفهم , قاله شريح. الخامس: الفضل والفطنة. {وفصل الخطاب} فيه خمسة تأويلات: أحدها: على القضاء والعدل فيه , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: تكليف المدعي البينة والمدعَى عليه اليمين , قاله شريح وقتادة. الثالث: قوله أما بعد , وهو أول من تكلم بها , قاله أبو موسى الأشعري والشعبي. الرابع: أنه البيان الكافي في كل غرض مقصود. الخامس: أنه الفصل بين الكلام الأول والكلام الثاني.

21

{وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه

وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} قوله عز وجل: {وهل أتاك نبأ الخَصْم} والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة لأن أصله المصدر. {إذ تسوروا المحراب} ومعنى تسوروا أنهم أتوه من أعلى سورة وفي المحراب أربعة أقاويل: أحدها: أنه صدر المجلس , ومنه محراب المسجد , قاله أبو عبيدة. الثاني: مجلس الأشراف الذي يتحارب عليه لشرف صاحبه , حكاه ابن عيسى. الثالث: أنه المسجد , قاله يحيى بن سلام. الرابع: أنه الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها. {إذ دخلوا على داود ففزع منهم} وسبب ذلك ما حكاه ابن عيسى: إن داود حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم , فقيل له إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير فجعل يدرج بين يديه، فهمّ أن يستدرجه بيده فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب فدنا منه ليأخذه فانتفض فاطلع لينظره فأشرف على امرأة تغتسل فلما رأته غطت جسدها بشعرها، قال السدي فوقعت

في قلبه، قال ابن عباس وكان زوجها غازياً في سبيل الله، قال مقاتل وهو أوريا بن حنان , فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت , وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا , فقدمه فيهم فقتل , فلما انقضت عدتها خطبها داود فاشترطت عليه إن ولدت غلاماً أن يكون الخليفة بعده , وكتبت عليه بذلك كتاباً وأشهدت عليه خمسين رجلاً من بني إسرائيل فلم يشعر بفتنتها حتى ولدت سليمان وشب وتسور عليه الملكان وكان من شأنهما ما قَصَّه الله في كتابه. وفي فزعه منهما قولان: أحدهما: لأنهم تسوروا عليه من غير باب. الثاني: لأنهم أتوه في غير وقت جلوسه للنظر. {قالوا لا تخف خصمان بَغَى بعضنا على بعض} وكانا ملكين ولم يكونا خصمين ولا باغيين , ولا يأتي منهما كذب , وتقدير كلامها: ما تقول إن أتاك خصمان وقالا بغى بعضنا على بعض. وثنى بعضهم هنا وجمعه في الأول حيث قال: {وهل أتاك نبأ الخصم} لأن جملتهم جمعت , وهم فريقان كل واحد منهما خصم. {فاحكم بيننا بالحق} أي بالعدل. {ولا تشطط} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا تملْ، قاله قتادة. الثاني: لا تَجُر، قاله السدي. الثالث: لا تسرف، قاله الأخفش. وفي أصل الشطط قولان: أحدهما: أن أصله البعد من قولهم شطط الدار إذا بعدت، قال الشاعر: (تشطط غداً دار جيراننا ... والدار بعد غد أبعد) الثاني: الإفراط. قال الشاعر: (ألا يالقومي قد اشطّت عواذلي ... وزعمن أن أودى بحقّي باطلي)

{واهدِنا إلى سواءِ الصراط} فيه وجهان: أحدهما: أرشدنا إلى قصد الحق , قاله يحيى. الثاني: إلى عدل القضاء , قاله السدي. {إن هذا أخي} فيه وجهان: أحدهما: يعني على ديني , قاله ابن مسعود. الثاني: يعني صاحبي , قاله السدي. {له تسع وتسعونَ نعجةً وليَ نعجةٌ واحدةٌ} فيها وجهان: أحدهما: أنه أراد تسعاً وتسعين امرأة , فكنى عنهن , بالنعاج , قاله ابن عيسى. قال قطرب: النعجة هي المرأة الجميلة اللينة. الثاني: أنه أراد النعاج ليضربها مثلاً لداود , قاله الحسن. {فقال أكفلنيها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ضمها إليَّ , قاله يحيى. الثاني: أعطنيها , قاله الحسن. الثالث: تحوّل لي عنها , قاله ابن عباس وابن مسعود. {وعزّني في الخطاب} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أي قهرني في الخصومة , قاله قتادة. الثاني: غلبني على حقي , من قولهم من عزيز أي من غلب سلب , قاله ابن عيسى. الثالث: معناه إن تكلم كان أبين , وإن بطش كان أشد مني , وإن دعا كان أكثر مني , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجتِك إلى نعِاجه} فإن قيل فكيف يحكم لأحد الخصمين على الآخر بدعواه؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن الآخر قد كان أقر بذلك فحكم عليه داود عليه السلام بإقراره، فحذف اكتفاء بفهم السامع، قاله السدي.

الثاني: إن كان الأمر كما تقول لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. {وإنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ} يحتمل وجهين: أحدهما: الأصحاب. الثاني: الشركاء. {لَيَبْغِي بعضهم على بعض} أي يتعدى. {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تقديره فلا يبغي بعضهم على بعض , فحذف اكتفاء بفهم السامع. {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} فيه وجهان: أحدهما: وقليل ما فيه من يبغي بعضهم على بعض , قاله ابن عباس. الثاني: وقليل من لا يبغي بعضهم على بعض , قاله قتادة. وفي {ما} التي في قوله {وقليل ما هم} وجهان: أحدهما: انها فضلة زائدة تقديره: وقليل هم. الثاني: أنها بمعنى الذي: تقديره: وقليل الذي هم كذلك. {وظن داود أنما فتناه} قال قتادة أي علم داود أنما فتناه وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: اختبرناه، قاله ابن عباس. الثاني: ابتليناه، قاله السدي. الثالث: شددنا عليه في التعبد، قاله ابن عيسى. {فاستغفر ربَّه} من ذنبه. قال قتادة: قضى نبي الله على نفسه ولم يفطن لذلك , فلما تبين له الذنب استغفر ربه. واختلف في الذنب على أربعة أقاويل: أحدها: أنه سمع من أحد الخصمين وحكم له قبل سماعه من الآخر.

الثاني: هو أن وقعت عينه على امرأة أوريا بن حنان واسمها اليشع وهي تغتسل فأشبع نظره منها حتى علقت بقلبه. الثالث: هو ما نواه إن قتل زوجها تزوج بها وأحسن الخلافة عليها , قاله الحسن. وحكى السدي عن علي كرم الله وجهه قال: لو سمعت رجلاً يذكر أن داود قارف من تلك المرأة محرَّماً لجلدته ستين ومائة لأن حد الناس ثمانون وحد الأنبياء ستون ومائة , حَدّان. {وخَرّ راكعاً وأناب} أي خرّ ساجداً وقد يعبر عن السجود بالركوع , قال الشاعر: (فخر على وجهه راكعاً ... وتاب إلى الله من كل ذنب) قال مجاهد: مكث أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينه فغطى رأسه إلى أن قال الله تعالى: {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} أي مرجع. في الزلفى وجهان: أحدهما: الكرامة , وهو المشهور. الثاني: الرحمة قاله الضحاك. فرفع رأسه وقد قرح جبينه. واختلف في هذه السجدة على قولين:

أحدهما: أنها سجدة عزيمة تسجد عند تلاوتها في الصلاة وغير الصلاة , قاله أبو حنيفة. الثاني: أنها سجدة شكر لا يسجد عند تلاوتها لا في الصلاة , ولا في غير الصلاة وهو قول الشافعي. قال وهب بن منبه: فمكث داود حيناً لا يشرب ماء إلا مزجه بدموعه , ولا يأكل طعاماً إلا بلّه بدموعه , ولا ينام على فراش إلا غرقه بدموعه. وحكي عن داود أنه كان يدعو على الخطائين فلما أصاب الخطيئة كان لا يمر بواد إلا قال: اللهم اغفر للخاطئين لعلك تغفر لي معهم.

26

{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} قوله عز وجل: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: خليفة لله تعالى وتكون الخلافة هي النبوة. الثاني: خليفة لمن تقدمك لأن الباقي خليفة الماضي وتكون الخلافة هي الملك. {فاحكم بين الناس بالحق} فيه وجهان: أحدهما: بالعدل. الثاني: بالحق الذي لزمك لنا. {ولا تتبع الهوى} فيه وجهان: أحدهما: أن تميل مع من تهواه فتجور. الثاني: أن تحكم بما تهواه فتزلّ.

{فيضلك عن سبيل الله} فيه وجهان: أحدهما: عن دين الله. الثاني: عن طاعة الله. {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نَسُوا يوم الحساب} فيه وجهان: أحدهما: بما تركوا العمل ليوم الحساب , قاله السدي. الثاني: بما أعرضوا عن يوم الحساب , قاله الحسن.

27

{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق} قوله عز وجل: {إذ عُرِض عليه بالعشي الصافنات الجياد} الخيل وفيه وجهان: أحدهما: أن صفونها قيامها ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يقوم الرجال له صفوفاً فليتبوأ مقعده من النار) أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد قول النابغة: (لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهاري والجياد الصوافن)

الثاني: أن صفونها رفع احدى اليدين على طرف الحافر حتى تقوم على ثلاث كما قال الشاعر: (ألف الصفون فما يزل كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا) وفي {الجياد} وجهان: أحدهما: أنها الطوال العناق مأخوذ من الجيد وهو العنق لأن طول أعناق الخيل من صفات فراهتها. الثاني: أنها السريع , قاله مجاهد واحدها جواد سمي بذلك لأنه يجود بالركض. قوله عز وجل: {فَقَالَ إِني أحببت حُبَّ الخَيْرِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني حب المال , قاله ابن جبير والضحاك. الثاني: حب الخيل قاله قتادة والسدي. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة) وفي قراءة ابن مسعود: حب الخيل. الثالث: حب الدنيا , قاله أسباط. وفي {أحببت حب الخير} وجهان: أحدهما: أن فيه تقديماً وتأخيراً تقديره: أحببت الخير حباً فقدم , فقال: أحببت حب الخير ثم أضاف فقال أحب الخير , قاله بعض النحويين. الثاني: أن الكلام على الولاء في نظمه من غير تقديم ولا تأخير , وتأويله: آثرت حب الخير. {عَن ذِكر ربي} فيه وجهان: أحدهما: عن صلاة العصر، قاله علي رضي الله عنه. الثاني: عن ذكر الله تعالى، قاله ابن عباس.

وروى الحارث عن علي كرم الله وجهه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة الوسطى فقال: (هي صلاة العصر التي فرط فيها نبي الله سليمان عليه السلام). {حتى توارت بالحجاب} فيه قولان: أحدهما: حت توارت الشمس بالحجاب، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، قاله قتادة وكعب. الثاني: توارت الخيل بالحجاب أي شغلت بذكر ربها إلى تلك الحال، حكاه ابن عيسى. والحجاب الليل يسمى حجاباً لأنه يستر ما فيه. قوله عز وجل: {رُدُّوها عليَّ} يعني الخيل لأنها عرضت عليه فكانت تجري بين يديه فلا يستبين منها شيء لسرعتها وهو اللهم أغضَّ بصري , حتى غابت الحجاب ثم قال ردوها عليّ. {فطفق مسحاً بالسوق والأعناق} فيه قولان: أحدهما: أنه من شدة حبه لها مسح عراقيبها وأعناقها , قاله ابن عباس. الثاني: أنه لما رآها قد شغلته عن الصلاة ضرب عراقيبها وأعناقها , قاله الحسن وقتادة. ولم يكن ما اشتغل عنه من الصلاة فرضاً بل كان نفلاً لأن ترك الفرض

عمداً فسق، وفعل ذلك تأديباً لنفسه. والخيل مأكولة اللحم فلم يكن ذلك منه إتلافاً يأثم به. قال الكلبي: كانت ألف فرس فعرقب تسعمائة وبقي منها مائة. فما في أيدي الناس من الخيل العتاق من نسل تلك المائة.

34

{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} قوله عز وجل: {ولقد فتنا سُليمان} فيه وجهان: أحدهما: يعني ابتليناه قاله السدي. الثاني: عاقبناه، حكاه النقاش. وفي فتنته التي عوقب بها ستة أقاويل: أحدهما: أنه كان قارب بعض نسائه في بعض الشيء من حيض أو غيره قاله الحسن. الثاني: ما حكاه ابن عباس قال كانت لسليمان امرأة تسمى جرادة وكان بين أهلها وبين قوم خصومة فاختصموا إلى سليمان ففصل بينهم بالحق ولكنه ود أن الحق

كان لأهلها فقيل له إنه سيصيبك بلاء فجعل لا يدري أمن الأرض يأتيه البلاء أم من السماء. الثالث: ما حكاه سعيد بن المسيب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد ولم ينصف مظلوماً من ظالم فأوحى الله تعالى إليه إني لم أستخلفك لتحجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم. الرابع: ما حكاه شهر بن حوشب أن سليمان سبى بنت ملك غزان في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون , فألقيت عليه محبتها وهي معرضة عنه تذكر أمر أبيها لا تنظر إليه إلا شزراً ولا تكلمه إلا نزراً، ثم إنها سألته أن يضع لها تمثالاً على صورته فصنع لها فعظمته وسجدت له وسجد جواريها معها , وصار صنماً معبوداً في داره وهو لا يعلم به حتى مضت أربعون يوماً وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره وحرقه ثم ذراه في الريح. الخامس: ما حكاه مجاهد أن سليمان قال لآصف الشيطان كيف تضلون الناس؟ فقال له الشيطان أعطني خاتمك حتى أخبرك , فأعطاه خاتمه فألقاه في البحر حتى ذهب ملكه.

السادس: ما حكاه أبان عن أنس أن سليمان قال ذات ليلة: والله لأطوفن على نسائي في هذه الليلة وهن ألف امرأة كلهن تشتمل بغلام , كلهم يقاتل في سبيل الله , ولم يستثن. قال أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفس محمد بيده لو استثنى لكان ما قال) فما حملت له تلك الليلة إلا امرأة واحدة فولدت له شق إنسان. {وألقينا على كُرْسيِّه جسداً} فيه قولان: أحدهما: معناه وجعلنا في ملكه جسداً , والكرسي هو الملك. الثاني: وألقينا على سرير ملكه جسداً. وفي هذا الجسد أربعة أقاويل: أحدها: أنه جسد سليمان مرض فكان جسده ملقى على كرسيه , قاله ابن بحر. الثاني: أنه ولد له ولد فخاف عليه فأودعه في السحاب يغذى في اليوم كالجمعة , وفي الجمعة كالشهر وفي الشهر كالسنة , فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتاً , قاله الشعبي. الثالث: أنه أكثر من وطء جواريه طلباً للولد , فولد له نصف إنسان , فهو كان الجسد الملقى على كرسيه , حكاه النقاش. الرابع: أن الله كان قد جعل ملك سليمان في خاتمه فكان إذا أجنب أو ذهب للغائط خلعه من يده ودفعه إلى أوثق نسائه حتى يعود فيأخذه , فدفعه مرة إلى بعض نسائه وذهب لحاجته فجاء شيطان فتصور لها في صورة سليمان فطلب الخاتم منها فأعطته إياه , وجاء سليمان بعده فطلبه , فقالت قد أخذته فأحس سليمان. واختلف في اسم امرأته هذه على قولين:

أحدهما: جرادة , قاله ابن عباس وابن جبير. الثاني: الأمينة , قاله شهر بن حوشب. وقال سعيد بن المسيب: كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه فأخذه الشيطان من تحته. وقال مجاهد: بل أخذه الشيطان من يده لأن سليمان سأل الشيطان كيف تضل الناس؟ فقال الشيطان: أعطني خاتمك حتى أخبرك فأعطاه خاتمه , فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان متشبهاً بصورته داخلاً على نسائه , يقضي بغير الحق ويأمر بغير صواب. واختلف في إصابته النساء , فحكي عن ابن عباس: أنه كان يأتيهن في حيضهن. وقال مجاهد: منع من إتيانهن , وزال عن سليمان ملكه فخرج هارباً إلى ساحل البحر يتضيف الناس ويحمل سموك الصيادين بالأجرة , وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه , فجلس الشيطان على سريره , وهو معنى قوله تعالى وألقينا على كرسيه جسداً. واختلف في اسم هذا الشيطان على أربعة أقاويل: أحدها: أن اسمه صخر , قاله ابن عباس. الثاني: آصف , قاله مجاهد. الثالث: حقيق , قاله السدي. الرابع: سيد , قاله قتادة. ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد قيل إنه استطعمها , وقال ابن عباس أخذها أجراً في حمل حوت حمله , فلما شق بطنه وجد خاتمه فيها , وذكل بعد أربعين يوماً من زوال ملكه عنه , وهي عدة الأيام التي عُبد الصنم في داره. قاله مقاتل وملك أربعين سنة، عشرين سنة قبل الفتنة وعشرين بعدها. وكانت الأربعون يوماً التي خرج فيها عن ملكه ذا القعدة وعشراً من ذي الحجة، فسجد الناس له حين عاد الخاتم إليه وصار إلى ملكه.

وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعاً لله. قال ابن عباس: ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تخت من رخام وشده بالنحاس وألقاه في البحر. فهذا تفسير قوله تعالى {وألقينا على كرسيه جسداً}. {ثم أناب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ثم رجع إلى ملكه , قاله الضحاك. الثاني: ثم أناب من ذنبه , قاله قتادة. الثالث: ثم برأ من مرضه , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {قال ربِّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ليكون ذلك معجزاً له يعلم به الرضا ويستدل به على قبول التوبة. الثاني: ليقوى به على من عصاه من الجن، فسخرت له الريح حينئذٍ. الثالث: لا ينبغي لأحد من بعدي في حياتي أن ينزعه مني كالجسد الذي جلس على كرسيه , قاله الحسن. {إنك أنت الوهاب} أي المعطي، قال مقاتل: سأل الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده بعد الفتنة فزاده الله تعالى الريح والشياطين بعدما ابتلى، وقال الكلبي حكم سليمان في الحرث وهو ابن إحدى عشرة سنة، وملك وهو ابن اثنتي عشرة سنة. قوله عز وجل: {فسخرنا له الريح} أي ذللناها لطاعته. {تجري بأمره} يحتمل وجهين: أحدهما: تحمل ما يأمرها. الثاني: تجري إلى حيث يأمرها.

{رخاء} فيه خمسة تأويلات: أحدها: طيبة، قاله مجاهد. الثاني: سريعة، قاله قتادة. الثالث: مطيعة، قاله الضحاك. الرابع: لينة، قاله ابن زيد. الخامس: ليست بالعاصفة المؤذية ولا بالضعيفة المقصرة، قاله الحسن. {حيث أصاب} فيه وجهان: أحدهما: حيث أراد , قاله مجاهد وقال قتادة: هو بلسان هجر. قال الأصمعي: العرب تقول أصاب الصواب فأخطأ الجواب , أي أراد الصواب. الثاني: حيث ما قصد مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود. قوله عز وجل: {والشياطين كلَّ بناءٍ وغواص} يعني سخرنا له الشياطين كل بناء يعني في البر , وغواص يعني في البحر على حليّه وجواهره. {وآخرين مقرنين في الأصفاد} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في السلاسل: قاله قتادة. الثاني: في الأغلال , قاله السدي. الثالث: في الوثاق , قاله ابن عيسى , قال الشاعر: (فآبُوا بالنهابِ وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مُصَفّدينا) قال يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفرهم , فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم. ووجد على سور مدينة سليمان عليه السلام: (لو أن حيّاً ينال الخُلد في مهل ... لنال ذاك سليمان بن داوِد) (سالت له العين عين القطر فائضة ... فيه ومنه عطاءٌ غير موصود) (لم يبق من بعدها في الملك مرتقياً ... حتى تضمن رمْساً بعد أخدود) (هذا التعْلَم أنّ الملك منقطع ... إلاّ من الله ذي التقوى وذي الجود)

قوله عز وجل: {هذا عطاؤنا ... } في المشار إليه بهذا ثلاثة أقاويل: أحدها: ما تقدم ذكره من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بتسخير الريح والشياطين. فعلى هذا في قوله {فامنن أو أمسك بغير حساب} وجهان: أحدهما: امنن على من شئت من الجن بإطلاقه , أو امسك من شئت منهم في عمله من غير حرج عليك فيما فعلته بهم , قاله قتادة والسدي. الثاني: اعط من شئت من الناس وامنع من شئت منهم. {بغير حساب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بغير تقدير فيما تعطي وتمنع حكاه ابن عيسى. الثاني: بغير حرج , قاله مجاهد. الثالث: بغير حساب تحاسب عليه يوم القيامة , قاله سعيد بن جبير. قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان فإن الله تعالى يقول: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} وحكى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله {هذا عطاؤنا} الآية. قال سليمان عليه السلام: أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا فلم نر شيئاً هو أفضل من خشية الله في الغيب والشهادة، والقصد في الغنى والفقر , وكلمة الحق في الرضا والغضب. والقول الثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره هذا عطاؤنا بغير حساب فامنن أو أمسك، فعلى هذا في قوله فامنن أو أمسك وجهان: أحدهما: بغير جزاء. الثاني: بغير قلة. والقول الثالث: إن هذا إشارة إلى مضمر غير مذكور وهو ما حكي أن سليمان كان في ظهره ماء مائة رجل وكان له ثلاثمائة امرأته وسبعمائة سرية فقال الله تعالى

{هذا عطاؤنا} يعني الذي أعطيناك من القوة على النكاح {فامنن} بجماع من تشاء من نسائِك {أو أمسك} عن جماع من تشاء من نسائِك. فعلى هذا في قوله بغير حساب وجهان: أحدهما: بغير مؤاخذة فيمن جامعت أو عزلت. الثاني: بغير عدد محصور فيمن استبحت أو نكحت. وهذا القول عدول من الظاهر إلى ادعاء مضمر بغير دليل لكن قيل فذكرته.

41

{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} قوله عز وجل: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصبٍ وعذابٍ} قيل هو أيوب بن حوص بن روعويل وكان في زمن يعقوب بن إسحاق , وتزوج بنته إليا بنت يعقوب وكانت أمّه بنت لوط عليه السلام , وكان أبوه حوص ممن آمن بإبراهيم عليه السلام. وفي قوله {مسني الشيطان} وجهان: أحدهما: أن مس الشيطان وسوسته وتذكيره بما كان فيه من نعمة وما صار إليه من محنة، حكاه ابن عيسى. الثاني: الشيطان استأذن الله تعالى أن يسلطه على ماله فسلطه، ثم أهله وداره فسلطه، ثم جسده فسلطه، ثم على قلبه فلم يسلطه , قال ابن عباس فهو قوله: {مسني الشيطان} الآية. {بنصب وعذاب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بالنصب الألم وبالعذاب السقم، قاله مبشر بن عبيد. الثاني: النصب في جسده، والعذاب في ماله، قاله السدي. الثالث: أن النصب العناء، والعذاب البلاء.

قوله عز وجل: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشرابٌ} قال قتادة هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية. وفيهما قولان: أحدهما: أنه اغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه , قاله الحسن. الثاني: أنه اغتسل من إحداهما فبرىء , وشرب من الأخرى فروي , قاله قتادة. وفي المغتسل وجهان: أحدهما: أنه كان الموضع الذي يغتسل منه , قاله مقاتل. الثاني: أنه الماء الذي يغتسل به , قاله ابن قتيبة. وفي مدة مرضه قولان: أحدهما: سبع سنين وسبعة أشهر , قاله ابن عباس. الثاني: ثماني عشرة سنة رواه أنس مرفوعاً. قوله عز وجل: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم} وفيما أصابهم ثلاثة أقويل: أحدها: أنهم كانوا مرضى فشفاهم الله. الثاني: أنهم غابوا عنه فردهم الله عليه , وهذا القولان حكاهما ابن بحر. الثالث: وهو ما عليه الجمهور أنهم كانوا قد ماتوا. فعلى هذا في هبتهم له ومثلهم معهم خمسة أقاويل: أحدها: أن الله تعالى رد عليه أهله وولده ومواشيه بأعيانهم , لأنه تعالى أماتهم قبل آجالهم ابتلاء ووهب له من أولادهم مثلهم، قاله الحسن. الثاني: أن الله سبحانه ردهم عليه بأعيانهم ووهب له مثلهم من غيرهم قاله ابن عباس. الثالث: أنه رد عليه ثوابهم في الجنة ووهب له مثلهم في الدنيا، قاله السدي. الرابع: أنه رد عليه أهله في الجنة، وأصاب امرأته فجاءته بمثلهم في الدنيا. الخامس: أنه لم يرد عليه منهم بعد موتهم أحداً وكانوا ثلاثة عشرا ابناً فوهب الله

تعالى له من زوجته التي هي أم من مات مثلهم فولدت ستة وعشرين ابناً، قاله الضحاك. {رحمة منا} أي نعمة منا. {وذكرَى لأولي الألباب} أي عبرة لذوي العقول. قوله عز وجل: {وخُذْ بيدك ضِغْثاً فاضرب له ولا تحنثْ} كان أيوب قد حلف في مرضه على زوجته أن يضربها مائة جلدة. وفي سبب ذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: ما قاله ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب , فقال أداويه على أنه إذا برىء قال أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت نعم , فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها. الثاني: ما حكاه سعيد بن المسيب أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها. الثالث: ما حكاه يحيى بن سلام أن الشيطان أغواها على أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة ليبرأ بها فحلف ليجلدنها فلما برىء أيوب وعلم الله تعالى بإيمان امرأته أمره رفقاً بها وبراً له يأخذ بيده ضغثاً. وفيه سبعة أقاويل: أحدها: أنه أشكال النخل الجامع لشماريخه، قاله ابن عباس. الثاني: الأثل، حكاه مجاهد وقاله مجاهد. الثالث: السنبل , حكاه يحيى بن سلام. الرابع: الثمام اليابس، قاله سعيد بن المسيب. الخامس: الشجر الرطب، قاله الأخفش. السادس: الحزمة من الحشيش، قاله قطرب وأنشد قول الكميت: (تحيد شِماساً إذا ما العسيفُ ... بضِغثِ الخلاء إليها أشارا) السابع: أنه ملء الكف من القش أو الحشيش أو الشماريخ، قاله أبوعبيدة.

{فاضرب} فاضرب بعدد ما حلفت عليه وهو أن يجمع مائة من عدد الضغث فيضربها به في دفعة يعلم فيها وصول جميعها إلى بدنها فيقوم ذلك فيها مقام مائة جلدة مفردة. {ولا تحنث} يعني في اليمين وفيه قولان: أحدهما: أن ذلك لأيوب خاصة , قاله مجاهد. الثاني: عام في أيوب وغيره من هذه الأمة , قاله قتادة. والذي نقوله في ذلك مذهباً: إن كان هذا في حد الله تعالى جاز في المعذور بمرض أو زمانة ولم يجز في غيره , وإن كان في يمين جاز في المعذور وغيره إذا اقترن به ألم المضروب , فإن تجرد عن ألم ففي بره وجهان: أحدهما: يبر لوجود العدد المحلوف عليه. الثاني: لا يبر لعدم المقصود من الألم. {إنا وجدناه صابراً} يحتمل وجهين: أحدهما: على الطاعة. الثاني: على البلاء. {نِعم العبد} يعني نعم العبد في صبره. {إنه أوّاب} إلى ربه. وفي بلائه قولان: أحدهما: أنه بلوى اختبار ودرجة ثواب من غير ذنب عوقب عليه. الثاني: أنه بذنب عوقب عليه بهذه البلوى وفيه قولان: أحدهما: أنه دخل على بعض الجبابرة فرأى منكراً فسكت عنه. الثاني: أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع لم يطعمه.

45

{واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار}

قوله عز وجل: {واذكُرْ عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن الأيدي القوة على العبادة , والأبصار الفقه في الدين , قاله ابن عباس. الثاني: أن الأيدي القوة في أمر الله , والأبصار العلم بكتاب الله , قاله قتادة. الثالث: أن الأيدي النعمة رواه الضحاك , والأبصار العقول , قاله مجاهد. الرابع: الأيدي القوة في أبدانهم , والأبصار القوة في أديانهم , قاله عطية. الخامس: أن الأيدي العمل والأبصار العلم , قاله ابن بحر. قال مقاتل: ذكر الله إبراهيم واسحاق ويعقوب ولم يذكر معهم إسماعيل لأن إبراهيم صبر على إلقائه في النار , وصبر إسحاق على الذبح , وصبر يعقوب على ذهاب بصره ولم يبتل إسماعيل ببلوى. قوله عز وجل: {إنا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار} فيه خمسة أوجه: أحدها: نزع الله ما في قلوبهم من الدنيا وذكرها , وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها , قاله مالك بن دينار. الثاني: اصطفيناهم لأفضل ما في الآخرة وأعطيناهم , قاله ابن زياد. الثالث: أخلصناهم بخالصة الكتب المنزلة التي فيها ذكرى الدار الآخرة , وهذا قول مأثور. الرابع: أخلصناهم بالنبوة وذكرى الدار الآخرة , قاله مقاتل. الخامس: أخلصناهم من العاهات والآفات وجعلناهم ذاكرين الدار الآخرة , حكاه النقاش.

49

{هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب وعندهم قاصرات الطرف أتراب هذا ما توعدون ليوم الحساب إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}

قوله عز وجل: {وعندهم قاصرات الطرف أتراب} يعني قاصرات الطرف على أزواجهم. {أتراب} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أقران، قاله عطية. الثاني: أمثال، قاله مجاهد. الثالث: متآخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. الرابع: مستويات الأسنان بنات ثلاث وثلاثين قاله يحيى بن سلام. الخامس: أتراب أزواجهن بأن خلقهن على مقاديرهم، وقال ابن عيسى: الترب اللدة وهو مأخوذ من اللعب بالتراب.

55

{هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} قوله عز وجل: {هذا فليذوقوه حميمٌ وغساق} أي منه حميم ومنه غساق والحميم الحار , وفي الغساق ستة أوجه: أحدها: أنه البارد الزمهرير , قاله ابن عباس فكأنهم عذبوا بحارّ التراب وبارده. الثاني: أنه القيح الذي يسيل من جلودهم، قاله عطية. الثالث: أنه دموعهم التي تسيل من أعينهم، قاله قتادة. الرابع: أنها عين في جهنم تسيل إليها حِمة كل ذي حِمة من حية أو عقرب، قاله كعب الأحبار.

الخامس: أنه المنتن , رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. السادس: أنه السواد والظلمة وهو ضد ما يراد من صفاء الشراب ورقته , قاله ابن بحر. وفي هذا الاسم وجهان: أحدهما: حكاه النقاش أنه بلغة الترك. الثاني: حكاه ابن بحر وابن عيسى أنه عربي مشتق واختلف في اشتقاقه على وجهين: أحدهما: من الغسق وهو الظمة , قاله ابن بحر. الثاني: من غسقت القرحة تغسق غسقاً. إذا جرت , وأنشد قطرب قول الشاعر: (فالعين مطروقة لبينهم ... تغسق في غربة سرها) وإليه ذهب ابن عيسى. وفي {غساق} قراءتان بالتخفيف والتشديد وفيها وجهان: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد , قاله الأخفش. الثاني: معناهما مختلف والمراد بالتخفيف الاسم وبالتشديد الفعل وقيل إن في الكلام تقديماً وتأخيراً , وتقديره: هذا حميم وهذا غساق فليذوقوه. قوله عز وجل: {وآخر مِنْ شكله أزواج} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: وآخر من شكل العذاب أنواع , قاله السدي. الثاني: وآخر من شكل عذاب الدنيا أنواع في الآخرة لم تر في الدنيا , قاله الحسن. الثالث: أنه الزمهرير , قاله بن مسعود. وفي الأزواج هنا ثلاثة أوجه: أحدها: أنواع. الثاني: ألوان. الثالث: مجموعة.

قوله عز وجل: {هذا فوج مقتحم معكم ... } فوج بعد فوج أي قوم بعد قوم , مقتحمون النار أي يدخلونها. وفي الفوج قولان: أحدهما: أنهم بنو إبليس. والثاني: بنو آدم , قاله الحسن. والقول الثاني: أن كلا الفوجين بنو آدم إلى أن الأول الرؤساء والثاني الأتباع. وحكىالنقاش أن الفوج الأول قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر , والفوج الثاني أتباعهم ببدر. وفي القائل {هذا فوجٌ مقتحم معكم} قولان: أحدهما: الملائكة قالوا لبني إبليس لما تقدموا في النار هذا فوج مقتحم معكم إشارة لبني آدم حين دخلوها. قال بنو إبليس {لا مرحَباً بهم إنهم صالوا النار قالوا} أي بنو آدم: {بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار}. والقول الثاني: أن الله قال للفوج الأول حين أمر بدخول الفوج الثاني: {هذا فوج مقتحم معكم} فأجابوه {لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار} فأجابهم الفوج الثاني {بل أنتم مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أنتم شرعتموه لنا وجعلتم لنا إليه قدماً , قاله الكلبي. الثاني: قدمتم لنا هذا العذاب بما أضللتمونا عن الهدى {فبئس القرار} أي بئس الدار النار , قاله الضحاك. الثالث: أنتم قدمتم لنا الكفر الذي استوجبنا به هذا العذاب في النار , حكاه ابن زياد. {قالوا ربنا من قدم لنا هذا} الآية. يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قاله الفوج الأول جواباً للفوج الثاني. الثاني: قاله الفوج تبعاً لكلامهم الأول تحقيقاً لقولهم عند التكذيب. وفي تأويل {من قدم لنا هذا} وجهان: أحدهما: من سنه وشرعه , قاله الكلبي. الثاني: من زينه , قاله مقاتل. والمرحب والرحب: السعة ومنه سميت الرحبة

لسعتها ومعناه لا اتسعت لكم أماكنكم؛ وأنشد الأخفش قول أبي الأسود. (اذا جئت بوّاباً له قال مرحباً ... ألا مَرْحباً واديك غير مضيق) قوله عز وجل: {وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً ... } الآية. قال مجاهد هذا يقوله أبو جهل وأشياعه في النار: ما لنا لا نرى رجلاً كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار لا نرى عماراً وخباباً وصهيباً وبلالاً. {أتخذناهم سخرياً} قال مجاهد اتخذناهم سخرياً في الدنيا فأخطأنا. {أم زاغت عنهم الأبصار} فلم نعلم مكانهم. قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وقال أبو عبيدة من كسر {سخرياً} جعله من الهزء , ومن ضمه جعله من التسخير {أم زاغت عنهم الأبصار} يعني أهم معنا في النار أم زاغت أبصارنا فلا نراهم وإن كانوا معنا.

65

{قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين} قوله عز وجل: {قُلْ هو نبأ عظيم} فيه قولان: أحدهما: أنه القيامة لأن الله تعالى قد أنبأنا بها في كتبه. والقول الثاني: هو القرآن , قاله مجاهد والضحاك والسدي. {أنتم عنه معرضون} قال الضحاك أنتم به مكذبون. قال السدي: يريد به المشركين. وفي تسميته نبأ وجهان: أحدهما: لأن الله أنبأ به فعرفناه. الثاني: لأن فيه أنباء الأولين. وفي وصفه بأنه عظيم وجهان: أحدهما: لعظم قدره وكثرة منفعته.

الثاني: لعظيم ما تضمنه من الزواجر والأوامر. قوله عز وجل: {ما كان لي من عِلم بالملإِ الأعلى} قال ابن عباس يعني الملائكة. {إذ يختصمون} فيه وجهان: أحدهما: في قوله تعالى للملائكة: {إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها} الآية. فهذه الخصومة , قاله ابن عباس. الثاني: ما رواه أبو الأشهب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سألني ربي فقال يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات والدرجات , قال وما الكفارات؟ قلت المشي على الأقدام إلى الجماعات , وإسباغ الوضوء في السبرات , والتعقيب في المساجد انتظار الصلوات بعد الصلوات. قال وما الدرجات؟ قلت إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بليل والناس نيام).

71

{إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني

إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين} قوله عز وجل: {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خَلَقْتُ بيديَّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بقوتي، قاله علي بن عاصم. الثاني: بقدرتي، ومنه قول الشاعر: (تحملت من عفراء، ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان) الثالث: لما توليت خلقه بنفسي , قاله ابن عيسى. {أستكبرت} أي عن الطاعة أم تعاليت عن السجود؟ قوله عز وجل: {قال فالحق والحق أقول} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنا الحق , وأقول الحق، قاله مجاهد. الثاني: الحق مني والحق قولي، رواه الحكم.

الثالث: معناه حقاً لأملأن جهنم منك ومن تبعك منهم أجمعين , قاله الحسن. قوله عز وجل: {قل ما أسألكم عليه من أجْر} فيه وجهان: أحدهما: قل يا محمد للمشركين ما أسألكم على ما أدعوكم إليه من طاعة الله أجراً قاله ابن عباس. الثاني: ما أسألكم على ما جئتكم به من القرآن أجراً , قاله عطاء. {وما أنا من المتكلفين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما أنا من المتكلفين لهذا القرآن من تلقاء نفسي. الثاني: وما أنا من المتكلفين لأن آمركم بما لم أؤمر به. الثالث: وما أنا بالذي أكلفكم الأجر وهو معنى قول مقاتل. قوله عز وجل: {ولتعلَمُنَّ نبأه بَعْد حين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نبأ القرآن أنه حق. الثاني: نبأ محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول. الثالث: نبأ الوعيد أنه صدق. {بعد حين} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بعد الموت , قاله قتادة. وقال الحسن: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين. الثاني: يوم بدر , قاله السدي. الثالث: يوم القيامة , قاله ابن زيد وعكرمة، والله أعلم.

سورة الزمر مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس إلا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما {الله نزل أحسن الحديث}، والأخرى {قل يا عبادي الذين أسرفوا} الآية وقال آخرون إلا سبع آيات من قوله تعالى {قل يا عبادي الذين أسرفوا} إلى آخر السبع. بسم الله الرحمن الرحيم

الزمر

{تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار} قوله عز وجل: {تنزيل الكتاب} والكتاب هو القرآن سمي بذلك لأنه مكتوب. {من الله العزيز الحكيم} فيه وجهان: أحدهما: العزيز في ملكه الحكيم في أمره. الثاني: العزيز في نقمته الحكيم في عدله. قوله عز وجل: {فاعبد الله مخلصاً له الدين} فيه وجهان:

أحدهما: أنه الإخلاص بالتوحيد , قاله السدي. الثاني: إخلاص النية لوجهه , وفي قوله {له الدين} وجهان: أحدهما: له الطاعة , قاله ابن بحر. الثاني: العبادة. {ألا لله الدين الخالص} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: شهادة أن لا إله إلا الله , قاله قتادة. الثاني: الإسلام , قاله الحسن. الثالث: ما لا رياء فيه من الطاعات. {والذين اتخذوا من دونه أولياء} يعني آلهة يعبدونها. {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} قال كفار قريش هذه لأوثانهم وقال من قبلهم ذلك لمن عبدوه من الملائكة وعزير وعيسى , أي عبادتنا لهم ليقربونا إلى الله زلفى , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الزلفى الشفاعة في هذا الموضع , قاله قتادة. الثاني: أنها المنزلة , قاله السدي. الثالث: أنها القرب , قاله ابن زيد.

5

{خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون} قوله عز وجل: {يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحمل الليل على النهار، ويحمل النهار على الليل، قاله ابن عباس.

الثاني: يغشى الليل على النهار فيذهب ضوءه، ويغشى النهارعلى الليل فيذهب ظلمته، قاله قتادة. الثالث: هو نقصان أحدهما عن الآخر، فيعود نقصان الليل في زيادة النهار ونقصان النهار في زيادة الليل، قاله الضحاك. ويحتمل رابعاً: يجمع الليل حتى ينتشر النهار، ويجمع النهار حتى ينتشر الليل. قوله عز وجل: {خلقكم من نفسٍ واحدة} يعني من آدم. {ثم جعل منها زوجها} يعني حواء. فيه وجهان: أحدهما: أنه خلقها من ضلع الخَلْف من آدم وهو أسفل الأضلاع , قاله الضحاك. الثاني: أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم , فيكون معنى قوله {جعل منها} أي من مثلها , قاله ابن بحر. {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} قال قتادة: من الإبل اثنين , ومن البقر اثنين , ومن الضأن اثنين , ومن المعز اثنين , كل واحد زوج. وفي قوله {أنزل} وجهان: أحدهما: يعني جعل , قاله الحسن. الثاني: أنزلها بعد أن خلقها في الجنة , حكاه ابن عيسى. {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق} فيه وجهان: أحدهما: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم لحماً , قاله قتادة والسدي. الثاني: خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهرآدم , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: خلقاً في ظهر الأب ثم خلقاً في بطن الأم ثم خلقاً بعد الوضع. {في ظلمات ثلاث} فيه وجهان: أحدهما: ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة. الثاني: ظلمة صلب الرجل وظلمة بطن المرأة وظلمة الرحم، حكاه ابن

عيسى. ويحتمل ثالثاً: أنها ظلمة عتمة الليل التي تحيط بظلمة المشيمة مظلمة الأحشاء وظلمة البطن.

7

{إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار} قوله عز وجل: {وإذا مس الإنسان ضُرٌّ دعا ربَّهُ منيباً إليه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مخلصاً إليه , قاله الضحاك. الثاني: مستغيثاً به , قاله السدي. الثالث: مقبلاً عليه , قاله الكلبي وقطرب. {ثم إذا خوّله منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل} فيه وجهان: أحدهما: إذا أصابته نعمة ترك الدعاء , قاله الكلبي. الثاني: إذا أصابته نعمة ترك الدعاء , قاله الكلبي. الثاني: إذا أصابته عافية نَسي الضر. والتخويل العطية العظيمة من هبة أو منحة , قال أبو النجم: (أعطى فلم يبخل ولم يبخلِ ... كوم الذّرى من خول المخوِّلِ)

9

{أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} قوله عز وجل: {أمَّن هو قانتٌ} في الألف التي في {أمّن} وجهان: أحدهما: أنها ألف استفهام. الثاني: ألف نداء.

وفي قانت أربعة أوجه: أحدها: أنه المطيع , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه الخاشع في صلاته , قاله ابن شهاب. الثالث: القائم في صلاته , قاله يحيى بن سلام. الرابع: أنه الداعي لربه. {آناء الليل} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: طرف الليل , قاله ابن عباس. الثاني: ساعات الليل , قاله الحسن. الثالث: ما بين المغرب والعشاء , قاله منصور. {ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه} قال السدي: يحذر عذاب الآخرة ويرجوا نعيم الجنة. وفيمن أريد به هذا الكلام خمسة أقاويل: أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , حكاه يحيى بن سلام. الثاني: أبو بكر , قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه. الثالث: عثمان بن عفان , قاله ابن عمر. الرابع: عمار بن ياسر وصهيب وأبو ذر وابن مسعود , قاله الكلبي. الخامس: أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال قانتاً آناء الليل. فمن زعم أن الألف الأولى استفهام أضمر في الكلام جواباً محذوفاً تقديره: أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً كمن جعل لله أنداداً؟ قاله يحيى. وقال ابن عيسى: المحذوف من الجواب: كمن ليس كذلك. ومن زعم أن الألف للنداء لم يضمر جواباً محذوفاً , وجعل تقدير الكلام: أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هل يستوي الذين يعلمون هذا فيعملون به والذين لا يعلمون هذا فلا يعملون به , قاله قتادة. الثاني: أن الذين يعلمون هم المؤمنون يعلمون أنهم لاقو ربهم , والذين لا

يعلمون هم المشركون الذين جعلوا لله أنداداً قاله يحيى. الثالث: ما قاله أبو جعفر محمد بن علي قال: الذين يعلمون نحن , والذين لا يعلمون عدونا. ويحتمل رابعاً: أن الذين يعلمون هم الموقنون , والذين لا يعلمون هم المرتابون.

10

{قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين} قوله عز وجل: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ} فيه وجهان: أحدهما: معناه , للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة في الآخرة , وهي الجنة. الثاني: للذين أحسنوا في الدنيا حسنة في الدنيا فيكون ذلك زائداً على ثواب الآخرة. وفيما أريد بالحسنة التي لهم في الدنيا أربعة أوجه:

أحدها: العافية والصحة , قاله السدي. الثاني: ما رزقهم الله من خير الدنيا , قاله يحيى بن سلام. الثالث: ما أعطاهم من طاعته في الدنيا وجنته في الآخرة , قاله الحسن. الرابع: الظفر والغنائم , حكاه النقاش. ويحتمل خامساً: إن الحسنة في الدنيا الثناء وفي الآخرة الجزاء. {وأرض الله واسعة} فيها قولان: أحدهما: أرض الجنة رغبهم في سعتها , حكاه ابن عيسى. الثاني: هي أرض الهجرة , قاله عطاء. ويحتمل ثالثاً: أن يريد بسعة الأرض سعة الرزق لأنه يرزقهم من الأرض فيكون معناه. ورزق الله واسع , وهو أشبه لأنه أخرج سعتها مخرج الامتنان بها. {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني بغير مَنٍّ عليهم ولا متابعة , قاله السدي. الثاني: لا يحسب لهم ثواب عملهم فقط ولكن يزدادون على ذلك , قاله ابن جريج. الثالث: لا يعطونه مقدراً لكن جزافاً. الرابع: واسعاً بغير تضييق قال الراجز: (يا هند سقاك بلا حسابه ... سقيا مليك حسن الربابة) وحكي عن علي كرم الله وجهه قال: كل أجر يكال كيلاً ويوزن وزناً إلا أجر الصابرين فإنه يحثى حثواً.

13

{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون} قوله عز وجل: {قل إن الخاسرين الَّذِينَ خَسِروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: خسروا أنفسهم بإهلاكها في النار , وخسروا أهليهم بأن لا يجدوا في النار أهلاً , وقد كان لهم في الدنيا أهل , قاله مجاهد وابن زيد. الثاني: خسروا أنفسهم بما حرموها من الجنة وأهليهم من الحور العين الذين أعدوا [لهم] في الجنة , قاله الحسن وقتادة. الثالث: خسروا أنفسهم وأهليهم بأن صاروا هم بالكفر إلى النار , وصار أهلوهم بالإيمان إلى الجنة وهو محتمل.

17

{والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين

يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد} قوله عز وجل: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} فيه قولان: أحدهما: أن الطاغوت الشيطان , قاله مجاهد وابن زيد. الثاني: الأوثان , قاله الضحاك والسدي. وفيه وجهان: أحدهما: أنه اسم أعجمي مثل هاروت وماروت. الثاني: عربي مشتق من الطغيان. {وأنابوا إلى الله} فيه وجهان: أحدهما: أقبلوا إلى الله , قاله قتادة. الثاني: استقاموا إلى الله , قاله الضحاك. ويحتمل ثالثاً: وأنابوا إلى الله من ذنوبهم. {لهم البشرى} فيه وجهان: أحدهما: أنها الجنة , قاله مقاتل ويحيى بن سلام. الثاني: بشرى الملائكة للمؤمنين , قاله الكلبي. ويحتمل ثالثاً: أنها البشرى عند المعاينة بما يشاهده من ثواب عمله. قوله عز وجل: {فبشر عبادِ الذين يستمعون القول} فيه قولان: أحدهما: أن القول كتاب الله , قاله مقاتل ويحيى بن سلام. الثاني: أنهم لم يأتهم كتاب من الله ولكن يستمعون أقاويل الأمم , قاله ابن زيد. {فيتبعون أحسنَه} فيه خمسة أوجه: أحدها: طاعة الله , قاله قتادة. الثاني: لا إله إلا الله، قاله ابن زيد.

الثالث: أحسن ما أمروا به , قاله السدي. الرابع: أنهم إذا سمعوا قول المسلمين وقول المشركين اتبعوا أحسنه وهو الإسلام , حكاه النقاش. الخامس: هو الرجل يسمع الحديث من الرجل فيحدث بأحسن ما يسمع منه , ويمسك عن أسوإه فلا يتحدث به , قاله ابن عباس. ويحتمل سادساً: أنهم يستمعون عزماً وترخيصاً فيأخذون بالعزم دون الرخص. {أولئك الذين هداهم الله} الآية. قال عبد الرحمن بن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم , واتبعوا أحسن ما صار من العقول إليهم.

21

{ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} قوله عز وجل: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} فيه وجهان: أحدهما: وسع صدره للإسلام حتى يثبت فيه , قاله ابن عباس والسدي. الثاني: وسع صدره بالإسلام بالفرح به والطمأنينة إليه , فعلى هذا لا يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام , وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام. {فهو على نور من ربه} فيه وجهان: أحدهما: على هدى من ربه , قاله السدي. الثاني: أنه كتاب الله الذي به يأخذ وإليه ينتهي , قاله قتادة. وروى عمرو بن مرّة عن عبد الله بن سدر قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية , فقالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ فقال: (نور يقذف به في القلب) قالوا: يا رسول الله هل لذلك من أمارة؟ قال: (نعم) قالوا: ما هي؟ قال: (الإنابة إلى دار

الخلود , والتجافي عن دار الغرور , والاستعداد للموت قبل الموت.) وفي من نزلت فيه هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: في رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله الكلبي. الثاني: في عمر بن الخطاب رضي الله عنه , حكاه النقاش. الثالث: في عمار بن ياسر , قاله مقاتل. {فويل للقاسية قلوبُهم من ذِكر الله} قيل أنه عنى أبا جهل وأتباعهُ من كفار قريش , وفي الكلام مضمر محذوف تقديره , فهو على نور من ربه كمن طبع الله على قلبه فويل للقاسية قلوبهم.

23

{الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} قوله عز وجل: {الله نزّل أحسن الحديث} يعني القرآن , ويحتمل تسميته حديثاً وجهين: أحدهما: لأنه كلام الله , والكلام يسمى حديثاً كما سمي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً. الثاني: لأنه حديث التنزيل بعدما تقدمه من الكتب المنزلة على من تقدم من الأنبياء. ويحتمل وصفه بأحسن الحديث وجهين: أحدهما: لفصاحته وإعجازه. الثاني: لأنه أكمل الكتب وأكثرها إحكاماً. {كِتاباً متشابها} فيه قولان: أحدهما: يشبه بعضه بعضاً من الآي والحروف، قاله قتادة. الثاني: يشبه بعضه بعضاً في نوره وصدقه وعدله، قاله يحيى بن سلام. ويحتمل ثالثاً: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وإن كان أعم وأعجز. ثم وصفه فقال:

{مثاني} وفيه سبعة تأويلات: أحدها: ثنى الله فيه القضاء , قاله الحسن وعكرمة. الثاني: ثنى الله فيه قصص الأنبياء , قاله ابن زيد. الثالث: ثنى الله فيه ذكر الجنة والنار , قاله سفيان. الرابع: لأن الآية تثنى بعد الآية , والسورة بعد السورة , قاله الكلبي. الخامس: يثنى في التلاوة فلا يمل لحسن مسموعه , قاله ابن عيسى. السادس: معناه يفسر بعضه بعضاً , قاله ابن عباس. السابع: أن المثاني اسم لأواخر الآي , فالقرآن اسم لجميعه , والسورة اسم لكل قطعة منه , والآية اسم لكل فصل من السورة , والمثاني اسم لآخر كل آية منه , قاله ابن بحر. {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تقشعر من وعيده وتلين من وعده , قال السدي. الثاني: أنها تقشعر من الخوف وتلين من الرجاء , قاله ابن عيسى. الثالث: تقشعر الجلود لإعظامه , وتلين عند تلاوته.

24

{أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} {أفمن يتقي بوجهه سوءَ العذَاب يومَ القيامة} فيه وجهان: أحدهما: أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار يوم القيامة. الثاني: لأن النار تبدأ بوجهه إذا دخلها. قوله عز وجل: {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} فيه وجهان: أحدهما: من مأمنهم , قاله السدي. الثاني: فجأة، قاله يحيى.

27

{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} قوله عز وجل: {قرآناً عربياً غير ذي عوج} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: غير ذي لبس , قاله مجاهد. الثاني: غير مختلف , قاله الضحاك. الثالث: غير ذي شك , قاله السدي. قوله عز وجل: {ضرب الله مثلاً رجلاً} يعني الكافر. {فيه شركاء} أي يعبد أوثاناً شتى. {متشاكسون} فيه أربعة أوجه: أحدها: متنازعون , قاله قتادة. الثاني: مختلفون , قاله ابن زياد. الثالث: متعاسرون. الرابع: متظالمون مأخوذ من قولهم: شكسني مالي أي ظلمني. {ورَجُلاً سَلَماً لرجُلٍ} يعني المؤمن سلماً لرجل أي مخلصاً لرجل , يعني أنه بإيمانه يعبد إلهاً واحداً. {هل يستويان مثلاً} أي هل يستوي حال العابد لله وحده وحال من يعبد آلهة غيره؟ فضرب لهما مثلاً بالعبدين اللذين يكون أحدهما لشركاء متشاكسين , لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم حق خدمته , ويكون الآخر لسيد واحد يقدر أن يوفيه حق خدمته. {الحمد لله} يحتمل وجهين: أحدهما: على احتجاجه بالمثل الذي خَصم به المشركين. الثاني: على هدايته التي أعان بها المؤمنين.

{بل أكثرهم لا يعلمون} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعلمون المثل المضروب. الثاني: لا يعلمون بأن الله هو الإله المعبود. قوله عز وجل: {إنك ميت وإنهم ميتون} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموته وموتهم , فاحتمل خسمة أوجه: أحدها: أن يذكر ذلك تحذيراً من الآخرة. الثاني: أن يذكره حثاً على العمل. الثالث: أن يذكره توطئة للموت. الرابع: لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره حتى إن عمر لما أنكر موته احتج أبو بكر بهذه الآية فأمسك. الخامس: ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره لتكثر فيه السلوى وتقل الحسرة. ومعنى إنك ميت أي ستموت , يقال ميت بالتشديد للذي سيموت , وميت بالتخفيف لمن قد مات. قوله عز وجل: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} فيه أربعة أوجه: أحدها: في الدماء , قاله عكرمة. الثاني: في المداينة , قاله الربيع بن أنس. الثالث: في الإيمان والكفر , قاله ابن زيد , فمخاصمة المؤمنين تقريع , ومخاصمة الكافرين ندم. الرابع: ما قاله ابن عباس يخاصم الصادق الكاذب , والمظلوم الظالم , والمهتدي الضال , والضعيف المستكبر. قال إبراهيم النخعي: لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ما خصومتنا بيننا. ويحتمل خامساً: أن تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى فيما تغالبوا عليه في الدنيا من حقوقهم خاصة دون حقوق الله ليستوفيها من حسنات من وجبت عليه في حسنات من وجبت له.

32

{فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} قوله عز وجل: {والذي جاء بالصدق} الآية. وفي الذي جاء بالصدق أربعة أقاويل: أحدها: أنه جبريل , قاله السدي. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله قتادة ومجاهد. الثالث: أنهم المؤمنون جاءوا بالصدق يوم القيامة , حكاه النقاش. الرابع: أنهم الأنبياء , قاله الربيع وكان يقرأ: والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. وفي (الصدق) قولان: أحدهما: أنه لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثاني: القرآن , قاله مجاهد وقتادة. ويحتمل ثالثاً: أنه البعث والجزاء. وفي الذي صدق به خمسة أقاويل: أحدها: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله ابن عباس. الثاني: المؤمنون من هذه الأمة , قاله الضحاك. الثالث: أتباع الأنبياء كلهم , قاله الربيع. الرابع: أنه أبو بكر , رضي الله عنه حكاه الطبري عن علي رضي الله عنه , وذكره النقاش عن عون بن عبد الله. الخامس: أنه علي كرم الله وجهه , حكاه ليث عن مجاهد.

ويحتمل سادساً: أنهم المؤمنون قبل فرض الجهاد من غير رغبة في غنم ولا رهبة من سيف. {أولئك هم المتقون} إنما جاز الجمع في {هم المتقون} و {الذي} واحد في مخرج لفظه وجمع في معناه على طريق الجنس كقوله تعالى {إن الإنسان لفي خسر} قوله عز وجل: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عَمِلوا} قبل الإيمان والتوبة , ووجه آخر: أسوأ الذي عملوا من الصغائر لأنهم يتقون الكبائر. {ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} أي يجزيهم بأجر أحسن الأعمال وهي الجنة.

36

{أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} قوله عز وجل: {أليس الله بكافٍ عبده} في قراءة بعضهم , يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يكفيه الله المشركين , وقرأ الباقون {عباده} وهم الأنبياء. {ويخوفونك بالذين من دونه} فيه وجهان: أحدهما: أنهم كانوا يخوفونه بأوثانهم يقولون تفعل بك وتفعل , قاله الكلبي , والسدي. الثاني: يخوفونه من أنفسهم بالوعيد والتهديد. قوله عز وجل: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: على ناحيتكم , قاله الضحاك ومجاهد. الثاني: على تمكنكم , قاله ابن عيسى. الثالث: على شرككم , قاله يحيى. {إني عامل} على ما أنا عليه من الهدى. {فسوف تعلمون} وهذا وعيد.

41

{إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} قوله عز وجل: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الله عند توفي الأنفس يقبض أرواحها من أجسادها والتي لم تمت وهي في منامها يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها. {فيمسك التي قضى عليها الموت} أنى تعود الأرواح إلى أجسادها. {ويرسلُ الأخرى} وهي النائمة فيطلقها باليقظة للتصرف إلى أجل موتها , قاله ابن عيسى. الثاني: ما حكاه ابن جريج عن ابن عباس أن لكل جسد نفساً وروحاً فيتوفى الله الأنفس في منامها بقبض أنفسها دون أرواحها حتى تتقلب بها وتتنفس , فيمسك التي قضى عليها الموت أن تعود النفس إلى جسدها ويقبض الموت روحها , ويرسل الأخرى وهي نفس النائم إلى جسدها حتىتجتمع مع روحها إلى أجل موتها. الثالث: قاله سعيد بن جبير إن الله تعالى يقبض أرواح الموتى إذا ماتوا وأرواح

الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يعيدها ويرسل الأخرى فيعيدها. قال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة , وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة.

43

{أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} قوله عز وجل: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبُ ... } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: انقبضت , قاله المبرد. الثاني: نفرت. الثالث: استكبرت.

46

{قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون}

قوله عز وجل: {قل اللهم فاطر السموات والأرض} أي خالقهما. {عالمَ الغيب والشهادة} يحتمل وجهين: أحدهما: السر والعلانية. الثاني: الدنيا والآخرة. {أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون} من الهدى والضلالة. ويحتمل ثانياً: من التحاكم إليه في الحقوق والمظالم. قال ابن جبير , اني لأعرف موضع آية ما قرأها أحدٌ فسأل الله شيئاً إلا أعطاه , قوله {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون}.

49

{فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} قوله عز وجل: {فإذا مسّ الإنسان ضرٌّ دعانا} قيل إنها نزلت في أبي حذيفة. ابن المعيرة. {ثم إذا خوّلناه نعمة منا قال إنما أوتيتُه على عِلمٍ} فيه خسمة أوجه: أحدها: على علم برضاه عني , قاله ابن عيسى. الثاني: بعلمي , قاله مجاهد. الثالث: بعلم علمني الله إياه , قاله الحسن. الرابع: علمت أني سوف أصيبه: حكاه النقاش. الخامس: على خبر عندي , قاله قتادة. {بل هي فتنة} فيه وجهان: أحدهما: النعمة لأنه يمتحن بها.

الثاني: المقالة التي اعتقدها لأنه يعاقب عليها. {ولكن أكثرهم لا يعلمون} البلوى من النعمى.

53

{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين} قوله عز وجل: {قُلْ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} أي أسرفوا على أنفسهم في الشرك. ويحتمل ثانياً: أسرفوا على أنفسهم في ارتكاب الذنوب مع ثبوت الإيمان والتزامه {لا تقنطوا من رحمة الله} أي لا تيأسوا من رحمته. {إن الله يغفر الذنوب جميعاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يغفرها بالتوبة منها , قاله الحسن. الثاني: يغفرها بالعفو عنها إلا الشرك. الثالث: يغفر الصغائر باجتناب الكبائر. {إنه هو الغفور الرحيم} قيل نزلت هذه الآية والتي بعدها في وحشي قاتل حمزة , قاله الحسن والكلبي , وقال علي عليه السلام: ما في القرآن آية أوسع منها.

وروى ثوبان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحب أن لي الدنيا وما عليها بهذه الآية). قوله عز وجل: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} فيه خمسة تأويلات: أحدها: هو ما أمرهم الله به في الكتاب , قاله السدي. الثاني: أن يأخذوا ما أمر وينتهوا عما نهوا عنه , قاله الحسن. الثالث: هو الناسخ دون المنسوخ , حكاه ابن عيسى. الرابع: هو طاعة الله تعالى في الحرام والحلال قاله ابن زياد. الخامس: تأدية الفرائض , قاله زيد بن علي , ومعاني أكثرها متقاربة. ويحتمل سادساً: أنه الأخذ بالعزيمة دون الرخصة. وجعله منزلاً عليهم لأنه منزل إليهم على نبيهم صلى الله عليه وسلم. قوله عز وجل: {أن تقول نفس يا حَسْرتَا} فيه وجهان: أحدهما: معناه لئلا تقول نفس. الثاني: أن لا تقول نفس , والألف التي في يا حسرتا بدل من ياء الإضافة ففعل ذلك في الاستغاثة لمدة الصوت بها. {على ما فرطت في جنب الله} فيه ستة تأويلات: أحدها: في مجانبة أمر الله، قاله مجاهد والسدي. الثاني: في ذات الله، قاله الحسن.

الثالث: في ذكر الله، قاله السدي، وذكر الله هنا القرآن. الرابع: في ثواب الله من الجنة حكاه النقاش. الخامس: في الجانب المؤدي إلى رضا الله، والجنب والجانب سواء. السادس: في طلب القرب من الله ومنه قوله تعالى {والصاحب بالجنب} أي بالقرب. {وإن كنت لمن الساخرين} فيه وجهان: أحدهما: من المستهزئين في الدنيا بالقرآن , قاله النقاش. الثاني: بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين , قاله يحيى بن سلام.

60

{ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} قوله عز وجل: {وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بنجاتهم من النار. الثاني: بما فازوا به من الطاعة. الثالث: بما ظفروا من الإدارة. ويحتمل رابعاً: بما سلكوا فيه مفاز , الطاعات الشاقة , مأخوذ من مفازة السفر.

{لا يمسهم السُّوءُ} لبراءتهم منه. {ولا هم يحزنون} فيه وجهان: أحدهما: لا يحزنون , بألا يخافوا سوء العذاب. الثاني: لا يحزنون على ما فاتهم من ثواب الدنيا.

67

{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} {وما قدروا الله حق قدرِه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما عظموه حق عظمته إذ عبدوا الأوثان من دونه , قاله الحسن. الثاني: وما عظموه حق عظمته إذ دعوا إلى عبادة غيره , قاله السدي. الثالث: ما وصفوه حق صفته , قاله قطرب. {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة} فيه وجهان: أحدهما: أن قبضه استبدالها بغيرها لقوله {يوم تبدل الأرض} [إبراهيم: 48] وهو محتمل. الثاني: أي هي في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض في قبضته. {والسموات مطويات بيمينه} فيه وجهان: أحدهما: بقوته لأن اليمين القوة.

الثاني: في ملكه كقوله {وماملكت أيمانكم} [النساء: 36]. ويحتمل طيها بيمينه وجهين: أحدهما: طيها يوم القيامة. لقوله يوم نطوي السماء. الثاني: أنها في قبضته مع بقاء الدنيا كالشيء المطوي لاستيلائه عليها. {سبحانه وتعالى عما يشركون} روى صفوان بن سليم أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا القاسم إن الله أنزل عليك {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} فأين يكون الخلق؟ قال (يكونون في الظلمة عند الجسر حتى ينجي الله من يشاء.) قال: والذي أنزل التوراة على موسى ما على الأرض أحد يعلم هذا غيرى وغيرك.

68

{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون} قوله عز وجل: {ونفخ في الصُّور فصعق مَنْ في السموات ومن في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: أن الصعق الغَشي , حكاه ابن عيسى. الثاني: وهو قول الجمهور أنه الموت وهذا عند النفخة الأولى. {إلا من شاء الله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام. وملك الموت يقبض أرواحهم بعد ذلك، قاله السدي ورواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: الشهداء , قاله سعيد بن جبير. الثالث: هو الله الواحد القهار , قاله الحسن. {ثم نفخ فيه أخرى} وهي النفخة الثانية للبعث. {فإذا هم قيام ينظرون} قيل قيام على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به. ويحتمل وجهاً آخر ينظرون ما يؤمرون به. قوله عز وجل: {وأشرقتِ الأرض} إشراقها إضاءتها , يقال أشرقت الشمس إذا أضاءت , وشَرَقت إذا طلعت. وفي قوله {بِنُورِ رَبِّها} وجهان: أحدهما: بعدله، قاله الحسن. الثاني: بنوره وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه نور قدرته. الثاني: نور خلقه لإشراق أرضه. الثالث: أنه اليوم الذي يقضي فيه بين خلقه لأنه نهار لا ليل معه. {ووضع الكتاب} فيه وجهان: أحدهما: الحساب، قاله السدي. الثاني: كتاب أعمالهم، قاله قتادة. {وجيء بالنبين الشهداء} فيهم قولان:

أحدهما: أنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم للأنبياء أنهم قد بلغوا , وأن الأمم قد كذبوا , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم الذين استشهدوا في طاعة الله , قاله السدي. {وقضي بينهم بالحق} قال السدي بالعدل {وهم لا يظلمون} قال سعيد بن جبير لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم.

71

{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} قوله عز وجل: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أفواجاً , قاله الحسن. الثاني: أمماً , قاله الكلبي. الثالث: جماعات , قاله السدي. قال الأخفش جماعات متفرقة , بعضها إثر بعض واحدها زمرة. قال خفاف بن ندبة: (كأن إخراجها في الصبح غادية ... من كل شائبةٍ في أنها زُمَر) الرابع: دفعاً وزجراً بصوت كصوت المزمار , ومن قولهم مزامير داود.

73

{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} قوله عز وجل: {سلام عليكم طبتم} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: طبتم بطاعة الله قاله مجاهد. الثاني: طبتم بالعمل الصالح , قاله النقاش. الثالث: ما حكاه مقاتل أن على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان يشرب المؤمنون من إحداهما فتطهر أجوافهم فذلك قوله {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] ثم يغتسلون من الأخرى فتطيب أبشارهم , فعندها يقول لهم خزنتها: {سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين} فإذا دخلوها قالوا {الحمد لله الذي صدقنا وعده}. وفي معنى طبتم ثلاثة أوجه: أحدها: نعمتم , قاله الضحاك. الثاني: كرمتم , قاله ثعلب. الثالث: زكوتم , قاله الفراء وابن عيسى. {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده} وعده في الدنيا بما نزل به القرآن , وفيه وجهان: أحدهما: أنه وعده بالجنة في الآخرة ثواباً على الإيمان. الثاني: أنه وعده في الدنيا بظهور دينه على الأديان , وفي الآخرة بالجزاء على الإيمان. {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاءُ} وفي هذه الأرض قولان: أحدهما: أرض الجنة , قاله أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وأكثر المفسرين. الثاني: أرض الدنيا. فإن قيل إنها أرض الجنة ففي تسميتها ميراثاً وجهان: أحدهما: لأنها صارت إليهم في آخر الأمر كالميراث. الثاني: لأنهم ورثوها من أهل النار , وتكون هذه الأرض من جملة الجزاء والثواب , والجنة في أرضها كالبلاد في أرض الدنيا لوقوع التشابه بينهما قضاء بالشاهد على الغائب. {نتبوأ من الجنة حيث نشآء} يعني منازلهم التي جوزوا بها , لأنهم مصروفون عن إرادة غيرها.

وفي تأويل قوله {حيث نشاء} وجهان: أحدهما: حيث نشاء من منزلة وعلو. الثاني: حيث نشاء من منازل ومنازه , فإن قيل إنها أرض الدنيا فهي من النعم دون الجزاء. ويحتمل تأويله وجهين: أحدهما: أورثنا الأرض بجهادنا نتبوأ من الجنة حيث نشاء بثوابنا. الثاني: وأورثنا الأرض بطاعة أهلها لنا نتبوأ من الجنة حيث نشاء بطاعتنا له لأنهم أطاعوا فأطيعوا. {فنعم أجر العاملين} يحتمل وجهين: أحدهما: فنعم أجر العاملين في الدنيا الجنة في الآخرة. الثاني: فنعم أجر من أطاع أن يطاع. {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين}. قوله عز وجل: {وترى الملائكة حافين من حول العرش} قال قتادة: محدقين. {يسبحون بحمد ربهم} وتسبيحهم تلذذ لا تعبد. وفي قوله. {بحمد ربهم} وجهان: أحدهما: بمعرفة ربهم، قاله الحسن. الثاني: يذكرون بأمر ربهم، قاله مقاتل. {وقضى بينهم بالحق} أي بالعدل وفيه قولان: أحدهما: وقضي بينهم بعضهم لبعض. الثاني: بين الرسل والأمم، قاله الكلبي. {وقيل الحمد لله رب العالمين} وفي قائله قولان: أحدهما: أنه من قول الملائكة، فعلى هذا يكون حمدهم لله على عدله في قضائه.

الثاني: أنه من قول المؤمنين. فعلى هذا يحتمل حمدهم وجهين: أحدهما: على أن نجاهم مما صار إليه أهل النار. الثاني: على ما صاروا إليه من نعيم الجنة، فختم قضاؤه في الآخرة بالحمد كما افتتح خلق السموات والأرض بالحمد في قوله {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض} [الأنعام: 1] فتلزم الاقتداء به والأخذ بهديه في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمه بحمده وبالله التوفيق.

سورة غافر مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما {إن الذين يجادلون في آيات الله} [غافر: 56] والتي بعدها. بسم الله الرحمن الرحيم

غافر

{حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} قوله عز وجل: {حم} فيه خمسة أوجه: أحدهما: أنه اسم من أسماء الله أقسم به , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثالث: أنها حروف مقطعة من اسم الله الذي هو الرحمن , قاله سعيد بن جبير وقال: الر وحم ون هو الرحمن. الرابع: هو محمد صلى الله عليه وسلم , قاله جعفر بن محمد. الخامس: فواتح السور , قاله مجاهد قال شريح بن أوفى العبسي: (يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم) ويحتمل سادساً: أن يكون معناه حُم أمر الله أي قرب , قال الشاعر: (قد حُمّ يومي فسر قوم ... قومٌ بهم غفلة ونوم)

ومنه سميت الحمى لأنها تقرب منه المنية. فعلى هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يريد به قرب قيام الساعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت في آخرها ألفاً) الثاني: أنه يريد به قرب نصره لأوليائه وانتقامة من أعدائه يوم بدر. قوله عز وجل: {غافر الذنب} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه غافره لمن استغفره , قاله النقاش. الثاني: ساتره على من يشاء , قاله سهل بن عبد الله. {وقابل التوب} يجوز أن يكون جمع توبة , ويجوز أن يكون مصدراً من تاب يتوب توباً , وقبوله للتوبة إسقاط الذنب بها مع إيجاب الثواب عليها. قوله عز وجل: {ذي الطول} فيه ستة تأويلات: أحدها: ذي النعم , قاله ابن عباس. الثاني: ذي القدرة , قاله ابن زيد. الثالث: ذي الغنى والسعة , قاله مجاهد. الرابع: ذي الخير , قاله زيد بن الأصم. الخامس: ذي المن , قاله عكرمة. السادس: ذي التفضيل , قاله محمد بن كعب. والفرق بين المن والفضل أن المن عفو عن ذنب , والفضل إحسان غير مستحق والطول مأخوذ من الطول كأنه إنعامه على غيره وقيل لأنه طالت مدة إنعامه.

4

{ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة

برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} قوله عز وجل: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} فيه وجهان: أحدهما: ما يماري فيها , قاله السدي. الثاني: ما يجحد بها , قاله يحيى بن سلام. وفي الفرق بين المجادلة والمناظرة وجهان: أحدهما: ان المجادلة لا تكون إلا بين مبطلين أو مبطل ومحق , والمناظرة بين محقين. الثاني: أن المجادلة فتل الشخص عن مذهبه محقاً أو مبطلاً , والمناظرة التوصل إلى الحق في أي من الجهتين كان. وقيل إنه أراد بذلك الحارث بن قيس السهمي وكان أحد المستهزئين. {فلا يغررك تقلبهم في البلاد} قال قتادة: إقبالهم وإدبارهم وتقلبهم في أسفارهم , وفيه وجهان: أحدهما: لا يغررك تقلبهم في الدنيا بغير عذاب , قاله يحيى. الثاني: لا يغررك تقلبهم في السعة والنعمة قاله مقاتل وقيل إن المسلمين قالوا نحن في جهد والكفار في السعة , فنزل {فلا يغررك تقلبهم في البلاد} حكاه النقاش وفيه حذف تقديره: فلا يغررك تقلبهم في البلاد سالمين فسيؤخذون. قولة عز وجل: {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} فيه وجهان: أحدهما: ليحبسوه ويعذبوه، حكاه ابن قتيبة. الثاني: ليقتلوه، قاله قتادة والسدي. والعرب تقول: الأسير الأخيذ لأنه مأسور للقتل , وأنشد قطرب قول الشاعر: (فإما تأخذوني تقتلوني ... ومن يأخذ فليس إلى خلود)

وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان: أحدهما: عند دعائه لهم. الثاني: عند نزول العذاب بهم. {وجادلوا بالباطل ليُدْحضوا به الحقَّ} قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان. {فأخذتهم} قال السدي: فعذبتهم. {فكيف كان عقاب} في هذا السؤال وجهان: أحدهما: أنه سؤال عن صدق العقاب , قال مقاتل وجدوه حقاً. الثاني: عن صفته , قال قتادة: شديد والله. قوله عز وجل: {وكذلك حقت كلمة ربِّك على الذين كفروا} أي كما حقت على أولئك حقت على هؤلاء. وفي تأويلها وجهان: أحدهما: وكذلك وجب عذاب ربك. الثاني: وكذلك صدق وعد ربك. {أنهم أصحاب النار} جعلهم أصحابها لأنهم يلزمونها وتلزمهم.

7

{الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم} قوله عز وجل: {ربنا وسعت كل شَيْءٍ رحمة وعلماً} فيه وجهان: أحدهما: ملأت كل شيء رحمة وعلماً , أو رحمة عليه وعلماً به , وهو معنى قول يحيى بن سلام. الثاني: معناه: وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.

{فاغفر للذين تابوا} قال يحيى: من الشرك. {واتبعوا سبيلك} قال الإسلام لأنه سبيل إلى الجنة. {وقهم عذاب الجحيم} بالتوفيق لطاعتك.

10

{إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون} قوله عز وجل: {إن الذين كفروا ينادَوْنَ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم ينادون يوم القيامة , قاله قتادة. الثاني: ينادون في النار , قاله السدي. {لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعوْن إلى الإيمان فتكفرون} فيه وجهان: أحدهما: لمقت الله بكم في الدنيا إذا دعيتم إلى الإيمان فكفرتم أكبر من مقتكم لأنفسكم في الآخرة حين عاينتم العذاب وعلمتم أنكم من أهل النار , قاله الحسن وقتادة. الثاني: معناه: إن مقت الله لكم إذ عصيتموه أكبر من مقت بعضكم لبعض حين علمتم أنهم أضلوكم , حكاه ابن عيسى. فإن قيل: كيف يصح على الوجه الأول أن يمقتوا أنفسهم؟ ففيه وجهان: أحدهما: أنهم أحلوها بالذنوب محل الممقوت.

الثاني: أنهم لما صاروا إلى حال زال عنهم الهوى وعلموا أن نفوسهم هي التي أوبقتهم في المعاصي مقتوها. وفي اللام التي في {لمقت الله} وجهان: أحدهما: أنها لام الابتداء كقولهم لزيد أفضل من عمرو , قاله البصريون. الثاني: أنها لام اليمين تدخل على الحكاية وما ضارعها , قاله ثعلب. قوله عز وجل: {قالوا ربّنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه خلقهم أمواتاً في أصلاب آبائهم , ثم أحياهم بإخراجهم ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم , ثم أحياهم للبعث , فهما ميتتان إحداهما في أصلاب الرجال , الثانية في الدنيا , وحياتان: إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة , قاله ابن مسعود وقتادة. الثاني: أن الله أحياهم حين أخذ عليهم الميثاق في ظهر آدم قوله {وإذ أخذ رَبُكَ مِن ابني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذرِيتَهُمْ} [الأعراف: 171] الآية. ثم إن اللَّه أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم , ثم أحياهم حين أخرجهم , ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم , ثم أحياهم للبعث فتكون حياتان وموتتان في الدنيا وحياة في الآخرة , قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. الثالث: أن الله أحياهم حين خلقهم في الدنيا , ثم أماتهم فيها عند انقضاء أجالهم , ثم أحياهم في قبورهم للمساءلة , ثم أماتهم إلى وقت البعث. ثم أحياهم للعبث , قاله السدي. {فاعترفنا بذنوبنا} أنكروا البعث في الدنيا وأن يحيوا بعد الموت , ثم اعترفوا في الآخرة بحياتين بعد موتتين. {فهل إلى خروج مِن سبيل} فيه وجهان: أحدهما: فهل طريق نرجع فيها إلى الدنيا فنقر بالبعث , وهو معنى قول قتادة. الثاني: فهل عمل نخرج به من النار , ونتخلص به من العذاب؟ قاله الحسن.

وفي الكلام مضمر تقديره: لا سبيل إلى الخروج. قوله عز وجل: {ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم} أي كفرتم بتوحيد الله. {وإن يُشرك به تؤمنوا} فيه وجهان: أحدهما: معناه تصدقوا من أشرك به , قاله النقاش. الثاني: تؤمنوا بالأوثان , قاله يحيى بن سلام. {فالحكم لله} يعني في مجازاة الكفار وعقاب العصاة. {العلي الكبير} إنما جاز وصفه بأنه علي ولم تجز صفته بأنه رفيع لأنها صفة قد تنقل من علو المكان إلى علو الشأن والرفيع لا يستعمل إلا في ارتفاع المكان.

15

{رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب} قوله عز وجل: {رفيع الدرجات} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: رفع السموات السبع , قاله سعيد بن جبير والكلبي. الثاني: عظيم الصفات، قاله ابن زياد. الثالث: هو رفعه درجات أوليائه، قاله يحيى. {ذو العرش} فيه وجهان: أحدهما: أن عرشه فوق سماواته، قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنه رب العرش , قاله يحيى. {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الروح الوحي، قاله قتادة. الثاني: النبوة، قاله السدي. الثالث: القرآن، قاله ابن عباس.

الرابع: الرحمة , حكاه إبراهيم الجوني. الخامس: أرواح عباده , لا ينزل ملك إلا ومعه منها روح , قاله مجاهد. السادس: جبريل يرسله الله بأمره , قاله الضحاك. {لينذر يوم التلاق} فيه قولان: أحدهما: لينذر الله به يوم القيامة , قاله الحسن. الثاني: لينذر أنبياؤه يوم التلاق وهو يوم القيامة وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض , قاله السدي وابن زيد. الثاني: لأنه يلتقي فيه الأولون والآخرون , وهو معنى قول ابن عباس. الثالث: يلتقي فيه الخلق والخالق , قاله قتادة. قوله عز وجل: {يومَ هم بارزون} يعني من قبورهم. {لا يخفى على الله منهم شَيْءٌ} فيه وجهان: أحدهما: أنه أبرزهم جميعاً لأنه لا يخفى على الله منهم شيء. الثاني: معناه يجازيهم من لا يخفى عليه من أعمالهم شيء. {لمن الملك اليوم} هذا قول الله , وفيه قولان: أحدهما: أنه قوله بين النفختين حين فني الخلائق وبقي الخالق فلا يرى - غير نفسه - مالكاً ولا مملوكاً: لمن الملك اليوم فلا يجيبه لأن الخلق أموات , فيجيب نفسه فيقول: {لله الواحد القهار} لأنه بقي وحده وقهر خلقه , قاله محمد بن كعب. الثاني: أن هذا من قول الله تعالى في القيامة حين لم يبق من يدَّعي ملكاً , أو يجعل له شريكاً. وفي المجيب عن هذا السؤال قولان: أحدهما: أن الله هو المجيب لنفسه وقد سكت الخلائق لقوله، فيقول: لله الواحد القهار، قاله عطاء. الثاني: ان الخلائق كلهم يجيبه من المؤمنين. والكافرين، فيقولون: لله الواحد القهار، قاله ابن جريج.

18

{وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير} قوله عز وجل: {وأنذرهم يوم الآزفة} فيه قولان: أحدهما: يوم حضور المنية , قاله قطرب. الثاني: يوم القيامة وسميت الآزفة لدنوها , وكل آزف دانٍ , ومنه قوله تعالى {أزفت الآزفة} [النجم: 57] أي دنت القيامة. {إذ القلوب لَدَى الحناجر} فيه قولان: أحدهما: أن القلوب هي النفوس بلغت الحناجر عند حضور المنية , وهذا قول من تأول يوم الآزفة بحضور المنية , قاله قتادة. ووقفت في الحناجر من الخوف فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها. {كاظمين} فيه أربعة أوجه: أحدها: مغمومون قاله الكلبي. الثاني: باكون , قاله ابن جريج. الثالث: ممسكون بحناجرهم , ماخوذ من كظم القربة وهو شد رأسها. الرابع: ساكتون , قاله قطرب , وأنشد قول الشماخ: (فظلت كأن الطير فوق رؤوسها ... صيامٌ تنائي الشمس وهي كظوم) {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} في الحميم قولان: أحدهما: انه القريب , قاله الحسن. الثاني: الشفيق , قاله مجاهد , ومعنى الكلام: ما لهم من حميم ينفع ولا شفيع يطاع أي يجاب إلى الشفاعة , وسميت الإجابة طاعة لموافقتها إرادة المجاب. قوله عز وجل: {يعلم خائنة الأعين} فيه خمسة أوجه:

أحدها: أنه الرمز بالعين , قاله السدي. الثاني: هي النظرة بعد النظرة , قاله سفيان. الثالث: مسارقة النظر , قاله ابن عباس. الرابع: النظر إلى ما نهى عنه , قاله مجاهد. الخامس: هو قول الإنسان ما رأيت وقد رأى , أو رأيت وما رأى , قاله الضحاك. وفي تسميتها خائنة الأعين وجهان: أحدهما: لأنها أخفى الإشارات فصارت بالاستخفاء كالخيانة. الثاني: لأنها باستراق النظر إلى المحظور خيانة. {وما تُخفي الصدور} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الوسوسة , قاله السدي. الثاني: ما تضمره [عندما ترى امرأة] إذا أنت قدرت عليها أتزني بها أم لا , قاله ابن عباس. الثالث: ما يسره الإنسان من أمانة أو خيانة , وعبر عن القلوب بالصدور لأنها مواضع القلوب.

21

{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب} قوله عز وجل: { ... كانوا هم أشدَّ منهم قوة} فيه وجهان: أحدهما: يعني بطشاً، قاله يحيى. الثاني: قدرة، قاله ابن عيسى. {وآثاراً في الأرض} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنها آثارهم من الملابس والأبنية، قاله يحيى.

الثاني: خراب الأرضين وعمارتها، قاله مجاهد. الثالث: المشي فيها بأرجلهم، قاله ابن جريج. الرابع: بُعْد الغاية في الطلب , قاله الكلبي. الخامس: طول الأعمار , قاله مقاتل. ويحتمل سادساً: ما سنوا فيها من خير وشر.

23

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} قوله عز وجل: {وقال فرعون ذروني أقتُل موسى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أشيروا عليّ بقتل موسى لأنهم قد كانوا أشاروا عليه بأن لا يقتله لأنه لو قتله منعوه , قاله ابن زياد. الثاني: ذروني أتولى قتله , لأنهم قالوا إن موسى ساحر إن قتلته هلكت لأنه لو أمر بقتله خالفوه. الثالث: أنه كان في قومه مؤمنون يمنعونه من قتله. فسألهم تمكينه من قتله. {وليدع ربه} فيه وجهان: أحدهما: وليسأل ربه فإنه لا يجاب. الثاني: وليستعن به فإنه لا يعان. {إني أخاف أن يبدِّل دينكم} فيها وجهان: أحدهما: يغير أمركم الذي أنتم عليه، قاله قتادة. الثاني: معناه هو أن يعمل بطاعة الله، رواه سعيد بن أبي عروبة. الثالث: محاربته لفرعون بمن آمن به، حكاه ابن عيسى.

الرابع: هو أن يقتلوا أبناءكم ويستحيوا نساءكم إذا ظهروا عليكم كما كنتم تفعلون بهم , قاله ابن جريج. ويحتمل خامساً: أن يزول به ملككم لأنه ما تجدد دين إلا زال به ملك.

28

{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} قوله عز وجل: {وقال رجلٌ مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه} فيه قولان: أحدهما: أنه كان ابن عم فرعون , قاله السدي , قال وهو الذي نجا مع موسى. الثاني: أنه كان قبطياً من جنسه ولم يكن من أهله , قاله مقاتل. قال ابن إسحاق: وكان أسمه حبيب. وحكى الكلبي أن اسمه حزبيل , وكان مَلِكَا على نصف الناس وله الملك بعد فرعون , بمنزلة ولي العهد. وقال ابن عباس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وامرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر فقال {إن الملأ يأتمرون بك} [القصص: 20]. وفي إيمانه قولان: أحدهما: أنه آمن بمجيء موسى وتصديقه له وهو الظاهر. الثاني: أنه كان مؤمناً قبل مجيء موسى وكذلك امرأة فرعون قاله الحسن , فكتم إيمانه , قال الضحاك كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه.

{أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللهُ} أي لقوله ربي الله. {وقد جاءَكم بالبينات من ربِّكم} فيها قولان: أحدهما: أنه الحلال والحرام , قاله السدي. الثاني: أنها الآيات التي جاءتهم: يده وعصاه والطوفان وغيرها , كما قال تعالى {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات} [الأعراف: 130] قاله يحيى. {وإن يك كَاذباً فعليه كَذِبُه} ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه ولكن تلطفاً في الاستكفاف واستنزالاً عن الأذى. {وإن يَكُ صادقاً يصبكم بعض الذي يعدُكم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه كان وعدهم بالنجاة إن آمنوا وبالهلاك إن كفروا , فقال {يصبكم بعض الذي يعدكم} لأنهم إذا كانوا على إحدى الحالتين نالهم أحد الأمرين فصار ذلك بعض الوعد لا كله. الثاني: لأنه قد كان أوعدهم على كفرهم بالهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة , فصار هلاكهم في الدنيا بعض وما وعدهم. الثالث: أن الذي يبدؤهم من العذاب هو أوله ثم يتوالى عليهم حالاً بعد حال حتى يستكمل فصار الذي يصيبهم هو بعض الذي وعدهم لأنه حذرهم ما شكوا فيه وهي الحالة الأولى وما بعدها يكونون على يقين منه. الرابع: أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفاً في الخطاب وتوسعاً في الكلام كما قال الشاعر: (قد يُدْرِك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل) {إن الله لا يهدي من هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: مسرف على نفسه كذاب على ربه إشارة إلى موسى , ويكون هذا من قول المؤمن. الثاني: مسرف في عناده كذاب في ادعائه إشارة إلى فرعون [ويكون] هذا من قوله تعالى.

قوله عز وجل: {ويا قوم لكم الملك اليوم ظاهِرين في الأرض} قال السدي: غالبين على أرض مصر قاهرين لأهلها , وهذا قول المؤمن تذكيراً لهم بنعم اللَّه عليهم. {فمن ينصرنا من بأس الله إِن جاءَنا} أي من عذاب الله , تحذيراً لهم من نقمة , فذكر وحذر فعلم فرعون ظهور محبته. {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى} قال عبد الرحمن بن زيد: معناه ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي. {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} في تكذيب موسى والإيمان بي.

30

{وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} قوله عز وجل: {ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التنادِ} يعني يوم القيامة , قال أمية بن أبي الصلت: (وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم سكانها حتى التّنَادِ) سمي بذلك لمناداة بعضهم بعضاً , قاله الحسن. وفيما ينادي به بعضهم بعضاً قولان: أحدهما: يا حسرتا , يا ويلتا , يا ثبوراه , قاله ابن جريج. الثاني: ينادي أهلُ الجنة أهل النار أن {قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً} [الأعراف: 44] الآية.

وينادي أهل النار الجنة {أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللَّه} [الأعراف: 50] قاله قتادة. وكان الكلبي يقرؤها: يوم التنادّ , مشدودة , أي يوم الفرار , قال يندّون كما يندّ البعير. وقد جاء في الحديث أن للناس جولة يوم القيامة يندون يطلبون أنهم يجدون مفراً ثم تلا هذه الآية. {يوم تولون مدبرين} فيه وجهان: أحدهما: مدبرين في انطلاقهم إلى النار , قاله قتادة. الثاني: مدبرين في فِرارهم من النار حتى يقذفوا فيها , قاله السدي. {ما لكم من الله من عاصم} فيه وجهان: أحدهما: من ناصر , قاله قتادة. الثاني: من مانع , وأصل العصمة المنع , قاله ابن عيسى. {ومن يضلل الله فما له من هاد} وفي قائل هذا قولان: أحدهما: أن موسى هو القائل له. الثاني: أنه من قول مؤمن آلِ فرعون. قوله عز وجل: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} فيه قولان: أحدهما: أن يوسف بن يعقوب , بعثه الله رسولاً إلى القبط بعد موت الملك من قبل موسى بالبينات. قال ابن جريج: هي الرؤيا. الثاني: ما حكاه النقاش عن الضحاك أن الله بعث اليهم رسولاً من الجن يقال له يوسف.

36

{وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب

وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} قوله عز وجل: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني مجلساً، قاله الحسن. الثاني: قصراً، قاله السدي. الثالث: أنه الآجر ومعناه أوقد لي على الطين حتى يصير آجراً , قاله سعيد بن جبير. الرابع: أنه البناء المبني بالآجر، وكانوا يكرهون أن يبنوا بالآجر ويجعلوه في القبر , قاله إبراهيم. {لعلّي أبلغ الأسباب} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يسبب إلى فعل مرادي. الثاني: ما أتوصل به إلى علم ما غاب عني , ثم بين مراده فقال: {أسباب السموات} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: طرق السموات , قاله أبو صالح. الثاني: أبواب السموات , قاله السدي والأخفش , وأنشد قول الشاعر: (ومن هاب أسباب المنايا يَنَلنه ... ولو نال أسباب السماء بِسلَّمِ) الثالث: ما بين السموات , حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. {فأطَّلعَ إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً} فيه قولان: أحدهما: أنه غلبه الجهل على قول هذا أو تصوره. الثاني: أنه قاله تمويهاً على قومه مع علمه باستحالته , قاله الحسن.

{وما كَيْدُ فرعون إلا في تبابٍ} فيه وجهان: أحدهما: في خسران قاله ابن عباس. الثاني: في ضلال , قاله قتادة. وفيه وجهان: أحدهما: في الدنيا لما أطلعه الله عليه من هلاكه. الثاني: في الآخرة لمصيره إلى النار , قاله الكلبي.

41

{ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} قوله عز وجل: {لا جَرَمَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه: لا بد، قاله المفضل.

الثاني: معناه: لقد حق واستحق , قاله المبرد. الثالث: أنه لا يكون إلا جواباً كقول القائل: فعلوا كذا , فيقول المجيب: لا جرم انهم سيندمون , قاله الخليل. {أن ما تدعونني إليه} أي من عبادة ما تعبدون من دون الله. {ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة , قاله السدي. الثاني: لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة , قاله قتادة. الثالث: ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة , قاله الكلبي. {وأن مردنا إلى الله} أي مرجعنا بعد الموت إلى الله ليجازينا على أفعالنا. {وأن المسرفين هم أصحاب النار} فيهم قولان: أحدهما: يعني المشركين , قاله قتادة. الثاني: يعني السفاكين للدماء بغير حق , قاله الشعبي , وقال مجاهد: سمى الله القتل سرفاً. قوله عز وجل: {فستذكرون ما أقول لكم} فيه قولان: أحدهما: يعني في الآخرة , قاله ابن زيد. الثاني: عند نزول العذاب بهم , قاله النقاش. {وأفوّض أمري إلى الله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه: وأسلم أمري إلى الله , قاله ابن عيسى. الثاني: أشهد عليكم الله , قاله ابن بحر. الثالث: أتوكل على الله , قاله يحيى بن سلام. {إن الله بصير بالعباد} فيه وجهان: أحدهما: بأعمال العباد. الثاني: بمصير العباد. وفي قائل هذا قولان: أحدهما: أنه من قول موسى. الثاني: من قول مؤمن آل فرعون , فعلى هذا يصير بهذا القول مظهراً لإيمانه.

قوله عز وجل: {فوقاه الله سيئات ما مكروا} فيه قولان: أحدهما: أن موسى وقاه الله سيئات ما مكروا , فعلى هذا فيه قولان: أحدهما: أن مؤمن آل فرعون نجاه الله مع موسى حتى عبر البحر واغرق الله فرعون , قاله قتادة , وقيل إن آل فرعون هو فرعون وحده ومنه قول أراكة الثقفي: (لا تبك ميتاً بعد موت أحبةٍ ... عليّ وعباس وآل أبي بكر) يريد أبا بكر. الثاني: أن مؤمن آل فرعون خرج من عنده هارباً إلى جبل يصلي فيه , فأرسل في طلبه , فجاء الرسل وهو في صلاته وقد ذبت عنه السباع والوحوش أن يصلوا إليه , فعادوا إلى فرعون فأخبروه فقتلهم فهو معنى قوله {فوقاه الله سيئات ما مكروا}. {وحاق بآل فرعون سوء العذاب} فيه وجهان: أحدهما: أنهم قومه , وسوء العذاب هو الغرق , قاله الضحاك. الثاني: رسله الذين قتلهم , وسوء العذاب هو القتل. قوله عز وجل: {النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يعرض عليهم مقاعدهم من النار غدوة وعشية , فيقال: لآلِ فرعون هذه منازلكم , توبيخاً، قاله قتادة. الثاني: أن أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح فذلك عرضها، قاله ابن مسعود. الثالث: أنهم يعذبون بالنار في قبرهم غدواً وعشياً، وهذا لآل فرعون خصوصاً. قال مجاهد: ما كانت الدنيا. {ويوم تقولم الساعةُ} وقيامها وجود صفتها على استقامة , ومنه قيام السوق وهو حضور أهلها على استقامة في وقت العادة. {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} لأن عذاب جهنم مُخْتَلِف. وجعل الفراء في الكلام تقديماً وتأخيراً وتقديره: ادخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً، وهو خلاف ما ذهب إليه غيره من انتظام الكلام على سياقه.

51

{إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} قوله عز وجل: {إنا لننصُرُ رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} فيه قولان: أحدهما: بإفلاج حجتهم , قاله أبو العالية. الثاني: بالانتقام من أعدائهم قال السدي: ما قتل قوم قط نبياً أو قوماً من دعاة الحق من المؤمنين إلا بعث الله من ينتقم لهم فصاروا منصورين فيها وإن قُتلوا. {ويومَ يقَوم الأشْهاد} بمعنى يوم القيامة. وفي نصرهم قولان: أحدهما: بإعلاء كلمتهم وإجزال ثوابهم. الثاني: إنه بالانتقام من أعدائهم. وفي {الأشهاد} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الملائكة شهدوا للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب، قاله مجاهد والسدي. الثاني: انهم الملائكة والأنبياء، قاله قتادة.

الثالث: أنهم أربعة: الملائكة والنبيون والمؤمنون والأجساد , قاله زيد بن أسلم ثم في {الأشهاد} أيضاً وجهان: أحدهما: جمع شهيد مثل شريف , وأشراف. الثاني: أنه جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب. قوله عز وجل: {فاصبر إنَّ وعد الله حق} فيه قولان: أحدهما: هو ما وعد الله رسوله في آيتين من القرآن أن يعذب كفار مكة , قاله مقاتل. الثاني: هو ما وعد الله رسوله أن يعطيه المؤمنين في الآخرة , قاله يحيى بن سلام. {واستغفر لذنبك} اي من ذنب إن كان منك. قال الفضيل: تفسير الاستغفار أقلني. {وسبح بحمد ربِّك} قال مجاهد: وصَلِّ بأمر ربك. {بالعشي والإبكار} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها صلاة العصر والغداة , قاله قتادة. الثاني: أن العشي ميل الشمس إلى أن تغيب , والإبكار أول الفجر , قاله مجاهد. الثالث: هي صلاة مكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ركعتان غدوة وركعتان عشية , قاله الحسن. قوله عز وجل: {إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم} أي بغير حجة جاءتهم. {إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه} فيه قولان: أحدهما: أن اكبر العظمة التي في كفار قريش، ما هم ببالغيها، قاله مجاهد. الثاني: ما يستكبر من الإعتقاد وفيه قولان: أحدهما: هو ما أمله كفار قريش في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه أن يهلك ويهلكوا , قاله الحسن. الثاني: هو أن اليهود قالوا إن الدجال منا وعظموا أمره , واعتقدوا أنهم يملكون، وينتقمون، قاله أبو العالية.

{فاستعذ بالله} من كبرهم. {إنه هو السميع} لما يقولونه {البصير} بما يضمرونه.

57

{لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} قوله عز وجل: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لخلق السموات والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمت اليهود شأنه , قاله أبو العالية. الثاني: أكبر من إعادة خلق الناس حين أنكرت قريش البعث , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أكبر من أفعال الناس حين أذل الكفار بالقوة وتباعدوا بالقهر.

60

{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} قوله عز وجل: {وقال ربكم ادعوني استجبْ لكم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه وحدوني بالربوبية أغفر لكم ذنوبكم، قاله ابن عباس. الثاني: اعبدوني استجب لكم , قاله جرير بن عبد الله، أي اتبعكم على عبادتكم. الثالث: سلوني أعطكم , قاله السدي. وإجابة الداعي عند صدق الرغبة مقيد بشرط الحكمة. وحكى قتادة أن كعب قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن

أمّة قبلكم إلا نبي: كان إذا أرسل نبي قيل له: أنت شاهد على أمتك , وجعلكم شهداء على الناس , وكان يقال للنبي، ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: وما جعل عليكم في الدين من حرج , وكان يقال للنبي: ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة: ادعوني أستجب لكم.

61

{الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} قوله عز وجل: {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لتستريحوا فيه من عمل النهار. الثاني: لتكفوا فيه عن طلب الأرزاق. الثالث: لتحاسبوا فيه أنفسكم على ما عملتم بالنهار.

{والنهار مبصراً} فيه وجهان: أحدهما: مبصراً لقدرة الله في خلقه. الثاني: مبصراً لمطالب الأرزاق. قوله عز وجل: {كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: كذلك يصرف , قاله يحيى. الثاني: كذلك يكذب بالتوحيد , قاله مقاتل. الثالث: كذلك يعدل عن الحق , قاله ابن زيد.

69

{ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون}

قوله عز وجل: {ذلكم بما كنتم تفرحون. .} الآية. في الفرح والمرح وجهان: أحدهما: أن الفرح: السرور والمرح: البطر , فسرّوا بالإمهال وبطروا بالنعم الثاني: الفرح والسرور , قاله الضحاك , والمرح العدوان. روى خالد عن ثور عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبغض البذخين الفرحين المرحين , ويحب كل قلب حزين ويبغض أهل بيت لحمين , ويبغض كل حبر سمين) فأما أهل بيت لحمين فهم الذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة , وأما الحبر السمين فالمتحبر بعلمه ولا يخبر به الناس , يعني المستكثر من علمه ولا ينفع به الناس.

82

{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} قوله عز وجل: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العِلمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بقولهم نحن أعلم منهم لن نبعث لن نعذب، قاله مجاهد. الثاني: بما كان عندهم أنه علم وهو جهل، قاله السدي. الثالث: فرحت الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم، حكاه ابن عيسى.

الرابع: رضوا بعلمهم واستهزأوا برسلهم، قاله ابن زيد. {وحاق بهم} فيه وجهان: أحدهما: أحاط بهم , قاله الكلبي. الثاني: عاد عليهم. {ما كانوا به يستهزئون} فيه وجهان: أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم أنه ساحر. الثاني: بالقرآن أنه شِعْر.

سورة فصلت بسم الله الرحمن الرحيم

فصلت

{حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} قوله عز وجل: {حم} قد مضى تأويله. {تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه على التقديم والتأخير فيكون تقديره حم تنزيل الكتاب من الرحمن الرحيم. الثاني: أن يكون فيه مضمر محذوف تقديره تنزيل القرآن من الرحمن الرحيم. ثم وصفه فقال {كتابٌ فصلت آياتُه} وفي تفصيل آياته خمسة تأويلات: أحدها: فسّرت , قاله مجاهد. الثاني: فصلت بالوعد والوعيد , قاله الحسن. الثالث: فصلت بالثواب والعقاب , قاله سفيان. الرابع: فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته، قاله قتادة.

الخامس: فصلت من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم , فحكم فيما بينه وبين من خالفه , قال عبد الرحمن بن زيد. {قرآناً عربياً لقوم يعلمون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعلمون انه إله واحد في التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثاني: أن القرآن من عند الله نزل , قاله الضحاك. الثالث: يعلمون العربية فيعجزون عن مثله. قوله عز وجل: {وقالوا قلوبنا في أكنّة ما تدعونا إليه} فيه وجهان: أحدهما: أغطية , قاله السدي. الثاني: كالجعبة للنبل , قاله مجاهد. {وفي آذاننا وقر} أي صمم وهما في اللغة يفترقان فالوقر ثقل السمع والصمم ذهاب جميعه. {ومن بيننا وبينك حجاب} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني ستراً مانعاً عن الإجابة , قاله ابن زياد. الثاني: فرقة في الأديان , قاله الفراء. الثالث: أنه تمثيل بالحجاب ليؤيسوه من الإجابة , قاله ابن عيسى. الرابع: أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال: يا محمد بيننا وبينك حجاب , استهزاء منه , حكاه النقاش. {فاعمل إننا عامِلون} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فاعمل بما تَعْلَم من دينك فإنا نعمل بما نعلم من ديننا , قاله الفراء. الثاني: فاعمل في هلاكنا فإنَّا نعمل في هلاكك , قاله الكلبي. الثالث: فاعمل لإلهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها , قاله مقاتل. ويحتمل رابعاً: فاعمل لآخرتك فإنا نعمل لدنيانا.

6

{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة

هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} قوله عز وجل: {وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه قرعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء , وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره , مع وجوب الزكاة عليه , أكثر مما يعذب من لم تكن الزكاة واجبة عليه , قاله ابن عيسى. الثاني: معناه انهم لا يزكون أعمالهم , قاله ابن عمر. الثالث: معناه لا يأتون به أزكياء , قاله الحسن. الرابع: معناه لا يؤمنون بالزكاة , قاله قتادة. الخامس: معناه ليس هم من أهل الزكاة , قاله معاوية بن قرة. قوله تعالى: {لهم أجْرٌ غير ممنون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: غير محسوب , قاله مجاهد. الثاني: غير منقوص , قاله ابن عباس وقطرب , وأنشد قول زهير: (فَضْل الجياد على الخيل البطاء فما ... يعطي بذلك ممنوناً ولا نزقا) الثالث: غير مقطوع , قاله ابن عيسى , مأخوذ من مننت الحبل إذا قطعته , قال ذو الأصبع العدواني: (إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون) الرابع: غير ممنون عليهم به , قاله السدي.

9

{قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين

وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} قوله عز وجل: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} قال ابن عباس خلقها في يومي الأحد والاثنين , وخلقها في يومين أدل على القدرة والحكمة من خلقها دفعة واحدة في طرفة عين , لأنه أبعد من أن يظن به الاتفاق والطبع , وليرشد خلقه إلى الأناة في أمورهم. {وتجعلون له أنداداً} فيه أربعة أوجه: أحدها: أشباهاً , قاله ابن عباس. الثاني: شركاء , قاله أبو العالية. الثالث: كفواً من الرجال تطيعونهم في معاصي الله تعالى قاله السدي. الرابع: هو قول الرجل لولا كلبة فلان لأتي اللصوص , ولولا فلان لكان كذا , رواه عكرمة عن ابن عباس. قوله عز وجل: {وجعل فيها رواسي من فوقها} اي جبالاً , وفي تسميتها رواسي وجهان: أحدهما: لعلوّ رءوسها. الثاني: لأن الأرض بها راسية أو لأنها على الأرض ثابتة راسية. {وبارك فيها} فيه وجهان: أحدهما: أي أنبت شجرها من غير غرس وأخرج زرعها من غيره بذر , قال السدي. الثاني: أودعها منافع أهلها وهو معنى قول ابن جريج. {وقَدَّر فيه أقواتها} فيه أربعة تأويلات: أحدها: قدر أرزاق أهلها , قاله الحسن. الثاني: قدر فيها مصالحها من جبهالها وبحارها وأنهارها وشجرها ودوابها قاله قتادة.

الثالث: قدر فيها أقواتها من المطر , قاله مجاهد. الرابع: قدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد , قاله عكرمة. {في أربعة أيام} يعني تتمة أربعة أيام , ومنه قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام , وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً , أي في تتمة خمسة عشريوماً. وقد جاء في الحديث المرفوع أن الله عز وجل خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء , وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والخراب والعمران , فتلك أربعة أيام , وخلق يوم الخميس السماء , وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة وآدم. وفي خلقها شيئاً بعد شيء قولان: أحدهما: لتعتبر به الملائكة الذين أحضروا. والثاني: ليعتبر به العباد الذين أخبروا. {سواء للسائلين} فيه تأويلان: أحدهما: سواء للسائلين عن مبلغ الأجل في خلق الله الأرض , قاله قتادة. الثاني: سواء للسائلين في أقواتهم وأرزقاهم. قوله عز وجل: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} فيه وجهان:

أحدهما: عمد إلى السماء , قاله ابن عيسى. الثاني: استوى أمره إلى السماء , قاله الحسن. {فقال لها واللأرض ائتيا طوْعاً أو كرهاً} فيه قولان: أحدهما: أنه قال ذلك قبل خلقها , ويكون معنى ائتيا اي كونا فكانتا كما قال تعالى {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كُن فيكون} قاله ابن بحر. الثاني: قول الجمهور أنه قال ذلك لهما بعد خلقهما. فعلى هذا يكون في معناها أربع تأويلات: أحدها: معناه أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما طوعاً أو كرهاً أي اختياراً أو إجباراً قاله سعيد بن جبير. الثاني: ائتيا عبادتي ومعرفتي طوعاً أو كرهاً باختيار أو غير اختيار. الثالث: ائتيا بما فيكما طوعاً أو كرهاً , حكاه النقاش. الرابع: كونا كما أمرت من شدة ولين , وحزن وسهل ومنيع وممكن , قاله ابن بحر. وفي قوله {لَهَا} وجهان: أحدهما: أنه قول تكلم به. الثاني: أنها قدرة منه ظهرت لهما فقام مقام الكلام في بلوغ المراد {قالتا أتينا طائعين} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه أعطينا الطاعة , رواه طاووس. الثاني: أتينا بما فينا. قال ابن عباس: أتت السماء بما فيها من الشمس والقمر والنجوم , وأتت الأرض بما فيها من الأشجار والأنهار والثمار. الثالث: معناه كما أراد الله أن نكون , قاله ابن بحر. وفي قولهما وجهان: أحدهما: أنه ظهور الطاعة منهما قائم مقام قولهما.

الثاني: أنهما تكلمتا بذلك. قال أبو النصر السكسكي: فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء ما بحيالها فوضع الله فيها حرمه. قوله عز وجل: {فقضاهن سبع سماوات في يومين} أي خلقهن سبع سماوات في يومين , قيل يوم الخميس والجمعة , قال السدي: سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات وخلق الأرضين. وقالت طائفة خلق السماوات قبل الأرضين في يوم الأحد والاثنين , وخلق الأرضين والجبال في يوم الثلاثاء والأربعاء , وخلق ما سواهما من العالم يوم الخميس والجمعة , وقالت طائفة ثالثة أنه خلق السماء دخاناً قبل الأرض ثم فتقها سبع سماوات بعد الأرضين والله أعلم بما فعل فقد اختلفت فيه الأقاويل وليس للاجتهاد فيه مدخل. {وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أسكن في كل سماء ملائكتها , قاله الكلبي. الثاني: خلق في كل سماء خلقها خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها , قاله قتادة. الثالث: أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة , حكاه ابن عيسى. {وزينا السماءَ الدنيا بمصابيح وحِفْظاً} أي جعلناها زينة وحفظاً.

13

{فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا

لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} قوله عز وجل: {إذ جاءتهم الرسلُ مِن بين أيديهم ومِن خلفهم} فيه وجهان: أحدهما: أرسل من قبلهم ومن بعدهم , قاله ابن عباس والسدي. الثاني: ما بين أيديهم عذاب الدنيا , وما خلفهم عذاب الآخرة، قاله الحسن. قوله عز وجل: {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الشديدة البرد , قاله عكرمة وسعيد بن جبير , وأنشد قطرب قول الحطيئة: (المطعمون إذا هبت بصرصرة ... والحاملون إذا استودوا على الناس.) استودوا أي سئلوا الدية. الثاني: الشديدة السموم , قاله مجاهد. الثالث: الشديدة الصوت , قاله السدي مأخوذ من الصرير , وقيل إنها الدبور. {في أيام نحسات} فيها أربعة أقاويل: أحدها: مشئومات , قاله مجاهد وقتادة , كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك {سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} قال ابن عباس: ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. الثاني: باردات، حكاه النقاش.

الثالث: متتابعات، قاله ابن عباس وعطية. الرابع: ذات غبار , حكاه ابن عيسى ومنه قول الراجز: (قد أغتدي قبل طلوع الشمس ... للصيد في يوم قليل النحس) قوله عز وجل: {وأمّا ثمود فهديناهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: دعوناهم , قاله سفيان. الثاني: بيّنا لهم سبيل الخير والشر , قاله قتادة. الثالث: أعلمناهم الهدى من الضلالة , قاله عبد الرحمن بن زيد. {فاستحبوا العَمى على الهدى} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: اختاروا العمى على البيان , قاله أبو العالية. الثاني: اختاروا الكفر على الإيمان. الثالث: اختاروا المعصية على الطاعة , قاله السدي. {فأخذتهم صاعقة العذاب الهون} وفي الصاعقة هنا أربعة أقاويل: أحدها: النار , قاله السدي. الثاني: الصيحة من السماء , قاله مروان بن الحكم. الثالث: الموت وكل شيء أمات , قاله ابن جريج. الرابع: أن كل عذاب صاعقة , وإنما سميت صاعقة لأن كل من سمعها يصعق لهولها. وفي {الهون} وجهان: أحدهما: الهوان , قاله السدي. الثاني: العطش , حكاه النقاش.

19

{ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم

ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} قوله عز وجل: {فهم يوزعُون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يدفعون، قاله ابن عباس. الثاني: يساقون، قاله ابن زيد. الثالث: يمنعون من التصرف، حكاه ابن عيسى. الرابع: يحبس أولهم على آخرهم , قاله مجاهد , وهو مأخوذ من وزعته أي كففته. قوله عز وجل: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لفروجهم , قاله ابن زيد. الثاني: لجلودهم أنفسها وهو الظاهر. الثالث: أنه يراد بالجلود الأيدي والأرجل , قاله ابن عباس وقيل إن أول ما يتكلم منه فخذه الأيسر وكفه الأيمن. قوله عز وجل: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني وما كنتم تتقون , قاله مجاهد. الثاني: وما كنتم تظنون , قاله قتادة. الثالث: وما كنتم تستخفون منها , قاله السدي. قال الكلبي: لأنه لا يقدر على الاستتار من نفسه. {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون} حكى ابن مسعود أنها

نزلت في ثلاثة نفر تسارّوا فقالوا أترى الله يسمع إسرارنا؟ قوله عز وجل: {وإن يستعتبوا فيما هم مِن المعتبين} فيه خمسة أوجه: أحدها: معناه وإن يطلبوا الرضا فما هم بمرضى عنهم , والمعتب: الذي قُبل عتابه وأُجيب إلى سؤاله , قاله ابن عيسى. الثاني: إن يستغيثوا فما هم من المغاثين. الثالث: وإن يستقيلوا فما هم من المقالين. الرابع: وإن يعتذروا فما هم من المعذورين. الخامس: وإن يجزعوا فما هم من الآمنين. قال ثعلب: يقال عتب إذا غضب , وأعتب إذا رضي.

25

{وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين} قوله عز وجل: {وقيضنا لهم قرناءَ} فيه قولان: أحدهما: هيأنا لهم شياطين , قاله النقاش. الثاني: خلينا بينهم وبين الشياطين , قاله ابن عيسى. {فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} فيه أربعة تأويلات:

أحدها ما بين أيديهم من أمر الدنيا , وما خلفهم من أمر الآخرة , قاله السدي ومجاهد. الثاني: ما بين أيديهم من أمر الآخرة فقالوا لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب , وما خلفهم من أمر الدنيا فزينوا لهم اللذات , قاله الكلبي. الثالث: ما بين أيديهم هو فعل الفساد في زمانهم , وما خلفهم هو ما كان قبلهم , حكاه ابن عيسى. الرابع: ما بين أيديهم ما فعلوه , وما خلفهم ما عزموا أن يفعلوه. ويحتمل خامساً: ما بين أيديهم من مستقبل الطاعات أن لا يفعلوها , وما خلفهم من سالف المعاصي أن لا يتوبوا منها. قوله عز وجل: {وقال الذين كفروا لا تسمعُوا لهذا القرآن} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تتعرضوا لسماعه. الثاني: لا تقبلوه. الثالث: لا تطيعوه من قولهم السمع والطاعة. {والغوا فيه} وفيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني قعوا فيه وعيبوه , قاله ابن عباس. الثاني: جحدوه وأنكروه , قاله قتادة. الثالث: عادوه , رواه سعيد بن أبي عروبة. الرابع: الغوا فيه بالمكاء والتصدية , والتخليط في النطق حتى يصير لغواً , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضَلاّنا من الجن والإنس} فيهما قولان: أحدهما: دعاة الضلالة من الجن والإنس , حكاه بن عيسى. الثاني: أن الذي من الجن إبليس، يدعوه كل من دخل النار من المشركين، والذي من الإنس ابن آدم القاتل أخاه يدعوه كل عاص من الفاسقين، قاله السدي.

وفي قوله: {أرنا اللذَين} وجهان: أحدهما: أعطنا اللذين أضلانا. الثاني: أبصرنا اللذين أضلانا. {نجعلهما تحت أقدامنا} يحتمل وجهين: أحدهما: انتقاماً منهم. الثاني: استذلالاً لهم. {ليكونا من الأسفلين} يعني في النار , قالوا ذلك حنقاً عليهما وعداوة لها. ويحتمل قوله {من الأسفلين} وجهين: أحدهما: من الأذلين. الثاني: من الأشدين عذاباً لأن من كان في أسفل النار كان أشد عذاباً.

30

{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم} قوله عز وجل: {إن الذين قالوا ربنا اللهُ} قال ابن عباس: وحّدوا الله تعالى. {ثم استقاموا} فيه خمسة أوجه: أحدها: ثم استقاموا على أن الله ربهم وحده , وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومجاهد. الثاني: استقاموا على طاعته وأداء فرائضه , قاله ابن عباس والحسن وقتادة. الثالث: على إخلاص الدين والعلم إلى الموت , قاله أبو العالية والسدي. الرابع: ثم استقاموا في أفعالهم كما استقاموا في أقوالهم. الخامس: ثم استقاموا سراً كما استقاموا جهراً.

ويحتمل سادساً: أن الاستقامة أن يجمع بين فعل الطاعات واجتناب المعاصي لأن التكليف يشتمل على أمر بطاعة تبعث على الرغبة ونهي عن معصية يدعو إلى الرهبة. {تتنزل عليهم الملائكة} فيه قولان: أحدهما: تتنزل عليهم عند الموت , قاله مجاهد وزيد بن أسلم. الثاني: عند خروجهم من قبورهم للبعث , قاله ثابت ومقاتل. {ألا تخافوا ولا تحزنوا} فيه تأويلان: أحدهما: لا تخافوا أمامكم ولا تحزنوا على ما خلفكم , قاله عكرمة. الثاني: لا تخافوا ولا تحزنوا على أولادكم. وهذا قول مجاهد. {وأبشروا بالجنة} الآية. قيل إن بشرى المؤمن في ثلاثة مواطن: أحدها عند الموت , ثم في القبر , ثم بعد البعث. قوله عز وجل: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فيه وجهان: أحدهما: نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة , قاله السدي. الثاني: نحفظكم في الحياة الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة. ويحتمل ثالثاً: نحن أولياؤكم في الدنيا بالهداية وفي الآخرة بالكرامة. {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} فيه وجهان: أحدهما: أنه الخلود لأنهم كانوا يشتهون البقاء في الدنيا , قاله ابن زيد. الثاني: ما يشتهونه من النعيم , قاله أبو أمامة. {ولكم فيها ما تدَّعون} فيه وجهان: أحدهما: ما تمنون , قاله مقاتل. الثاني: ما تدعي أنه لك فهو لك بحكم ربك , قاله ابن عيسى. {نزلاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني ثواباً. الثاني: يعني منزلة. الثالث: يعني منّاً، قاله الحسن.

الرابع: عطاء , مأخوذ من نزل الضيف ووظائف الجند {من غفور رحيم}

33

{ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} قوله عز وجل: {ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} الآية. فيه قولان: أحدهما: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن والسدي. الثاني: أنهم المؤمنون دعوا إلى الله , قاله قيس بن أبي حازم ومجاهد. {وعمل صالحاً} فيه قولان: أحدهما: أنه أداء الفرائض، قاله الكلبي. الثاني: أنهم المصلون ركعتين بين الأذان والإقامة، قالته عائشة رضي الله عنها. وروى هشام بن عروة عن عائشة قالت: كان بلال إذا قام يؤذن قالت اليهود قام غراب - لا قام - فنادى بالصلاة، وإذا ركعوا في الصلاة قالوا قد جثوا - لا جثوا - فنزلت هذه الآية في بلال والمصلين. قوله عز وجل: {ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ} فيه ستة تأويلات:

أحدها: أن الحسنة المداراة , والسيئة الغلظة , حكاه ابن عيسى. الثاني: الحسنة الصبر والسيئة النفور. الثالث: الحسنة الإيمان , والسيئة الشرك , قاله ابن عباس. الرابع: الحسنة العفو والسيئة الانتصار , حكاه ابن عمير. الخامس: الحسنة الحلم والسيئة الفحش , قاله الضحاك. السادس: الحسنة حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيئة بغضهم , قاله علي كرم الله وجهه. {ادفع بالتي هي أحسنُ} فيه وجهان: أحدهما: ادفع بحلمك جهل من يجهل , قاله ابن عباس. الثاني: ادفع بالسلامة إساءة المسيء , قاله عطاء. ويحتمل ثالثاً: ادفع بالتغافل إساءة المذنب , والذنب من الأدنى , والإساءة من الأعلى. {فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه ولي حميمٌ} قاله عكرمة: الولي الصديق , والحميم القريب. وقيل هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمره بالصبر عليه والصفح عنه. قوله عز وجل: {وما يلقاها إلا الذين صبروا} فيه وجهان: أحدهما: ما يلقى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على الحلم. الثاني: ما يلقى الجنة إلا الذين صبروا على الطاعة. {وما يلقاها إلا ذو حَظٍ عظيمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ذو جد عظيم , قاله السدي. الثاني: ذو نصيب [وافر] من الخير , قاله ابن عباس. الثالث: أن الحظ العظيم الجنة. قال الحسن: والله ما عظم حظ قط دون الجنة.

ويحتمل رابعاً: أنه ذو الخلق الحسن. قوله عز وجل: {وإما ينزغنك مِن الشيطان نزغ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه النزغ الغضب , قاله ابن زيد. الثاني: أنه الوسوسة وحديث النفس , قاله السدي. الثالث: أنه النجس , قاله ابن عيسى. الرابع: أنه الفتنة , قاله ابن زياد. الخامس: أنه الهمزات , قاله ابن عباس. {فاستعذ بالله} أي اعتصم بالله. {إنه هو السميع} لاستعاذتك {العليم} بأذيتك.

37

{ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} قوله عز وجل: {ومن آياته الليل والنهار} ووجه الآيات فيهما تقديرهما على حد مستقر , وتسييرهما على نظم مستمر , يتغايران لحكمة ويختلفان لمصلحة. {والشمس والقمر} ووجه الآية فيهما ما خصهما به من نور , وأظهره فيهما من تدبير وتقدير. {لا تسجُدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن} قال الزجاج: أي خلق هذه الآيات. وفي موضع السجود من هذه الآية قولان: أحدهما: عند قوله {إن كنتم إياه تعبدون} قاله ابن مسعود والحسن. الثاني: عند قوله {وهم لا يسأمون} قاله ابن عباس وقتادة. قوله عز وجل: {ومِن آياته أنك ترىالأرض خاشعةً} فيه وجهان:

أحدهما: غبراء دراسة , قاله قتادة. الثاني: ميتة يابسة , قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: ذليلة بالجدب لأنها مهجورة , وهي إذا أخصبت عزيزة لأنها معمورة. {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} فيه وجهان: أحدهما: اهتزت بالحركة للنبات , وربت بالارتفاع قبل أن تنبت , قاله مجاهد. الثاني: اهتزت بالنبات وربت بكثرة ريعها , قاله الكلبي. فيكون على قول مجاهد تقديم وتأخير تقديره: ربت واهتزت. {إن الذي أحياها لمحيي الموتى} الآية , جعل ذلك دليلاً لمنكري البعث على إحياء الخلق بعد الموت استدلالاً بالشاهد على الغائب.

40

{إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} قوله عز وجل: {إن الذين يلحدون في آياتنا} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يكذبون بآياتنا، قاله قتادة. الثاني: يميلون عن آياتنا، قاله أبو مالك. الثالث: يكفرون بنا، قاله ابن زيد. الرابع: يعاندون رسلنا، قاله السدي. الخامس: هو المكاء والتصفيق عند تلاوة القرآن، قاله مجاهد. {لا يخفون علينا} وهذا وعيد. {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة} فيه أربعة أقاويل:

أحدها: أن الذي يلقى في النار أبو جهل , والذي يأتي آمناً عمار بن ياسر , قاله عكرمة. الثاني: أن الذي يلقى في النار أبو جهل , والذي يأتي آمنا يوم القيامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه , قاله ابن زياد. الثالث: أن الذي يلقى في النار أبو جهل وأصحابه قال الكلبي , والذي يأتي آمناً رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله مقاتل. الرابع: أنهاعلى العموم فالذي يلقى في النار الكافر , والذي يأتي آمناً يوم القيامة المؤمن , قاله ابن بحر. {اعملوا ما شئتم} هذا تهديد. {إنه بما تعملون بصير} وعيد , فهدد وتوعد. قوله عز وجل: {إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} الذكر هنا القرآن في قول الجميع , وله جواب محذوف تقديره: هالكون أو معذبون. {وإنه لكتابٌ عزيز} فيه وجهان: أحدهما: عزيز من الشيطان أن يبدله , قاله السدي. الثاني: يمتنع على الناس أن يقولوا مثله , قاله ابن عباس. {لا يأتيه الباطل} في {الباطل} هنا أربعة أقاويل: أحدها: أنه إبليس , قاله قتادة. الثاني: أنه الشيطان , قاله ابن جريج. الثالث: التبديل , قاله مجاهد. الرابع: التعذيب , قاله سعيد. ويحتمل خامساً: أن الباطل التناقض والاختلاف. {من بين يديه ولا من خلفِه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يأتيه الباطل من كتاب قبله , ولا يأتيه من كتاب بعده، قاله قتادة. الثاني: لا يأتيه الباطل من أول التنزيل ولا من آخره.

الثالث: لا يأتيه الباطل في إخباره عما تقدم ولا في إخباره عما تأخر , قاله ابن جريج. ويحتمل رابعاً: ما بين يديه: لفظه وما خلفه: تأويله , فلا يأتيه الباطل في لفظ ولا تأويل: {تنزيل من حكيم حميد} قال قتادة: حكيم في أمره حميد إلى خلقه. قوله عز وجل: {ما يُقالُ لك إلا ما قد قِيل للرسل من قبلك} فيه وجهان: أحدهما: ما يقول المشركون لك إلا ما قاله من قبلهم لأنبيائهم إنه ساحر أو مجنون , قاله قتادة. الثاني: ما تخبر إلا بما يخبر الأنبياء قبلك ب {إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي.

44

{ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب} قوله عز وجل: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً} فيه وجهان: أحدهما: يعني بالأعجمي غير المبين وإن كان عربيّاً , قاله المفضل. الثاني: بلسان أعجمي. {لقالوا لولا فصلت آياته} أي بينت آياته لنا بالعربية على الوجه الثاني , والفصح على الوجه الأول. {ءاعجميٌ} فيه وجهان: أحدهما: كيف يكون القرآن أعجمياً ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي؟ قاله سعيد بن جبير. الثاني: كيف يكون القرآن أعجميّاً ونحن قوم عرب؟ قاله السدي. قال مجاهد أعجمي الكلام وعربي الرجل.

{قل هو للذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: هدى للأبصار وشفاء للقلوب. الثاني: هدى من الضلال وشفاء من البيان. {والذين لا يؤمنون في آذنهم وقرٌ} أي صمم. {وهو عليهم عَمىً} أي حيرة , وقال قتادة: عموا عن القرآن وصموا عنه. {أولئك ينادون من مكان بعيد} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من مكان بعيد من قلوبهم , قاله علي كرم الله وجهه ومجاهد. الثاني: من السماء , حكاه النقاش. الثالث: ينادون بأبشع أسمائهم , قاله الضحاك. ويحتمل رابعاً: من مكان بعيد من الإجابة.

46

{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص} قوله عز وجل: {وَظَنُّواْ مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} فيه وجهان: أحدهما: علمواْ ما لهم من معدل. الثاني: استيقنوا أن ليس لهم ملجأ من العذاب , قاله السدي , وقد يعبر بالظن عن اليقين فيما طريقه الخبر دون العيان لأن الخبر محتمل والعيان غير محتمل.

49

{لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا

ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} قوله عز وجل: {لاَّ يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} أي لا يمل من دعائه بالخير , والخير هنا المال والصحة، قاله السُدي، والإنسان هنا يراد به الكافر. {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} يعني الفقر والمرض , ويحتمل وجهين: أحدهما: يؤوس من الخير قنوط من الرحمة. الثاني: يؤوس من إجابة الدعاء، قنوط بسوء الظن بربه. قوله عز وجل: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: رخاء بعد شدة. الثاني: غنى بعد فقر. {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} فيه وجهان: أحدهما: هذا باجتهادي. الثاني: هذا باستحقاقي. {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً} إنكاراً منه للبعث والجزاء مع ما حظ به من النعمة والرخاء ودفع عنه من الضر والبلاء. {وَلَئِنِ رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى} الآية. إن كان كما زعمتم رجعة وجزاء فإن لي عنده آجلاً مثل ما أولانيه عاجلاً. وقيل إنها نزلت في النضر بن الحارث. قوله عز وجل: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِه} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أعرض عن الإيمان وتباعد من الواجب. الثاني: أعرض عن الشكر وبعد من الرشد. الثالث: أعرض عن الطاعة وبعد من القبول. {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} فيه وجهان: أحدهما: تام لخلوص الرغبة فيه.

الثاني: كثير لدوام المواصلة له , وهو معنى قول السدي , وإنما وصف التام والكثير بالعريض دون الطويل لأن العرض يجمع طولاً وعرضاً فكان أعم , قال ابن عباس: الكافر يعرف ربه في البلاء ولا يعرفه في الرخاء.

52

{قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط} قوله عز وجل: {سَنُرِيهِمْءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن في الآفاق فتح أقطار الأرض , وفي أنفسهم فتح مكة , قاله السدي. الثاني: في الآفاق ما أخبر به من حوادث الأمم , وفي أنفسهم ما أنذرتهم به من الوعيد. الثالث: أنها في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض. الرابع: أنها في الآفاق إمساك القطر عن الأرض كلها وفي أنفسهم البلاء الذي يكون في أجسادهم , قاله ابن جريج. الخامس: أنها في الآفاق انشقاق القمر , وفي أنفسهم كيف خلقناهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة , وكيف إدخال الطعام والشراب من موضع واحدٍ وإخراجه من موضعين آخرين , قاله الضحاك. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فيه وجهان: أحدهما: يتبين لهم أن القرآن حق. الثاني: أن ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إليه حق. {أَولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} يعني أولم يكفك من ربك. {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} يحتمل وجهين:

أحدهما: عليم. الثاني: حفيظ. قوله عز وجل: {أَلآ إِنَّهُمْ في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ} قال السُّدي في شكٍ من البعث. {أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} فيه وجهان: أحدهما: أحاط علمه بكل شيء , قاله السدي. الثاني: أحاطت قدرته بكل شيء , قاله الكلبي.

سورة الشورى مكية في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر، وقاله ابن عباس، وقتادة، إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة} إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم

الشورى

{حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} قوله عز وجل: {حم عسق} فيه سبعة تأويلات. أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثاني: أنه اسم من أسماء الله أقسم به , قاله ابن عباس. الثالث: فواتح السور , قاله مجاهد. الرابع: أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا , قاله عبد الله بن بريدة. الخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء الله فالحاء والميم من الرحمن والعين من العليم , والسين من القدوس , والقاف من القاهر , قاله محمد بن كعب.

السادس: أنها حروف مقطعة من حوادث آتية , فالحاء من حرب والميم من تحويل ملك، والعين من عدو مقهور، والسين من استئصال سنين كسني يوسف، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض، قاله عطاء. السابع: ما حُكي عن حذيفة بن اليمان أنها نزلت في رجلٍ يقال له عبد الإله كان في مدينة على نهر بالمشرق خسف الله بها، فذلك قوله حم يعني عزيمة من الله تعالى، عين يعني عدلاً منه: سين يعني سكون، قاف يعني واقعاً بهم. وكان ابن عباس يقرؤها: {حم سق} بغير عين , وهي في مصحف ابن مسعود كذلك حكاه الطبري. قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يتشققن فَرَقاً من عظمة الله , قاله الضحاك والسُّدي، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ليت السماء تفطرت أكنافها ... وتناثرت منها نجوم) الثاني: من علم الله , قاله قتادة. الثالث: ممن فوقهن , قاله ابن عباس. الرابع: لنزول العذاب منهن. {وَالْمَلآئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: بأمر ربهم , قاله السدي. الثاني: بشكر ربهم. وفي تسبيحهم قولان: أحدهما: تعجباً مما يرون من تعرضهم لسخط الله , قاله علي رضي الله عنه. الثاني: خضوعاً لما يرون من عظمة الله , قاله ابن عباس. {وَيَسْتَغْفِرُونَ لَمَن فِي الأَرْضِ} فيه قولان:

أحدهما: لمن في الأرض من المؤمنين، قاله الضحاك والسدي. الثاني: للحسين بن علي رضي الله عنهما، رواه الأصبغ بن نباتة عن علي كرم الله وجهه. وسبب استغفارهم لمن في الأرض ما حكاه الكلبي أن الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الأرض ليحكما بينهم، فافتتنا بالزهرة وهربا إلى إدريس وهو جد أبي نوح عليه السلام , وسألاه أن يدعو لهما سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم. وفي استغفارهم قولان: أحدهما: من الذنوب والخطايا. وهو ظاهر قول مقاتل. الثاني: أنه طلب الرزق لهم والسعة عليهم، قاله الكلبي. وفي هؤلاء الملائكة قولان: أحدهما: أنهم جميع ملائكة السماء وهو الظاهر من قول الكلبي. الثاني: أنهم حملة العرش. قال مقاتل وقد بين الله ذلك من حم المؤمن فقال {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ} وقال مطرف: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة , ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين.

7

{وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير}

قوله عز وجل: {وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال الضحاك أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى. {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فَِي رَحْمَتِهِ} قال أنس بن مالك: في الإسلام. {وَالْظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ} يمنع {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفع.

9

{أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم} قوله عز وجل: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} يعني ذكوراً وإناثاً. {وَمِنَ الأَنْعَامِ أزْوَاجاً} يعني ذكوراً وإناثاً. {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} وفيه ستة تأويلات: أحدها: يخلقكم فيه , قاله السدي. الثاني: يكثر نسلكم فيه , قاله الفراء. الثالث: يعيشكم فيه , قاله قتادة. الرابع: يرزقكم فيه , قاله ابن زيد. الخامس: يبسطكم فيه , قاله قطرب. السادس: نسلاً من بعد نسل من الناس والأنعام , قاله مجاهد. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه وجهان: أحدهما: ليس كمثل الرجل والمرأة شيء , قاله ابن عباس , والضحاك. الثاني: ليس كمثل الله شيء وفيه وجهان:

أحدهما: ليس مثله شيء والكاف زائدة للتوكيد , قال الشاعر: (سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما إن كمثلهم في الناس من أحد) الثاني: ليس شيء , والمثل زائد للتوكيد , قاله ثعلب. قوله عز وجل: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: خزائن السموات والأرض , قاله السدي. الثاني: مفاتيح السموات والأرض , قاله ابن عباس , ومجاهد , وقتادة , والضحاك. ثم فيهما قولان: أحدهما: أنه المفاتيح بالفارسية , قاله مجاهد. الثاني: أنه عربي جمع واحده إقليد، قاله ابن عيسى. وفيما هو مفاتيح السموات والأرض خمسة أقاويل: أحدها: أن مفاتيح السماء المطر ومفاتيح الأرض النبات. الثاني: أنها مفاتيح الخير والشر. الثالث: أن مقاليد السماء الغيوب , ومقاليد الأرض الآفات. الرابع: أن مقاليد السماء حدوث المشيئة , ومقاليد الأرض ظهور القدرة. الخامس: أنها قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده , وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، بيده الخير يحيي ويميت وهوعلى كل شيء قدير، رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله وعلمه

لعثمان بن عفان وقد سأله عن مقاليد السماء والأرض. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} فيه وجهان: أحدهما: يوسع ويضيق. الثاني: يسهل ويعسر. {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} من البسط والقدرة.

13

{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} قوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} وفي {شَرَعَ لَكُم} أربعة أوجه: أحدها: سن لكم. الثاني: بيَّن لكم. الثالث: اختار لكم , قاله الكلبي. الرابع: أوجب عليكم. {مِنَ الدِّينِ} يعني الدين ومن زائدة في الكلام. وفي {مَا وَصَّى بِهِ نوحاً} وجهان: أحدهما: تحريم الأمهات والبنات والأخوات، لأنه أول نبي أتى أمته بتحريم. ذلك، قاله الحكم.

الثاني: تحليل الحلال وتحريم الحرام , قاله قتادة. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ} فيه وجهان: أحدهما: اعملوا به , قاله السدي. الثاني: ادعوا إليه. قال مجاهد: دين الله في طاعته وتوحيده واحد. ويحتمل وجهاً ثالثاً: جاهدوا عليه من عانده. {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} وفيه وجهان: أحدهما: لا تتعادوا عليه , وكونوا عليه إخواناً , قاله أبو العالية. الثانية: لا تختلفوا فيه فإن كل نبي مصدق لمن قبله , قاله مقاتل. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} قاله قتادة: من شهادة أن لا إله إلا الله. ويحتمل أن يكون من الاعتراف بنبوته , لأنه عليهم أشد وهم منه أنفر. {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: يجتبي إليه من يشاء هو من يولد على الإسلام. {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} هو من يسلم من الشرك , قاله الكلبي. الثاني: يستخلص إليه من يشاء. قاله مجاهد ويهدي إليه من يقبل على طاعته , قاله السدي. قوله عز وجل: {وَمَا تَفَرَّقُواْ} فيه وجهان: أحدهما: عن محمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: في القرآن. {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلا من بعد ما تبحروا في العلم , قاله الأعمش. الثاني: إلا من بعد ما علمواْ أن الفرقة ضلال , قاله ابن زياد. الثالث: إلا من بعد ما جاءهم القرآن , وسماه علماً لأنه يتعلم منه. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لابتغاء الدنيا وطلب ملكها , قاله أُبي بن كعب. الثاني: لبغي بعضهم على بعض , قاله سعيد بن جبير.

{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِكَّ} فيه وجهان: أحدهما: في رحمته للناس على ظلمهم. الثاني: في تأخير عذابهم , قال قتادة. {إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى قيام الساعة لأن الله تعالى يقول: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم} الآية. ويحتمل إلى الأجل الذي قُضِيَ فيه بعذابهم. {لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لعجل هلاكهم. {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى , قاله السدي. الثاني: أنهم نبئوا من بعد الأنبياء , قاله الربيع. {لفِي شَكٍ مِّنْهُ مُريبٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لفي شك من القرآن , قاله الربيع. الثاني: لفي شك من الإخلاص , قاله أبو العالية. الثالث: لفي شك من صدق الرسول , قاله السدي.

15

{فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير} قوله عز وجل: {فَلِذَالِكَ فَادْعُ} معناه فإلى ذلك فادع , وفي المراد بذلك وجهان: أحدهما: القرآن , قاله الكلبي. الثاني: التوحيد , قاله مقاتل. وفي قوله: {فَادْعُ} وجهان: أحدهما: فاعتمد. الثاني: فاستدع. {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ... } فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: واستقم على أمر الله , قاله قتادة. الثاني: على القرآن , قاله سفيان. الثالث: فاستقم على تبليغ الرسالة , قاله الضحاك. وفي قوله: { ... وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُم} وجهان: أحدهما: في الأحكام. الثاني: في التبليغ. وفي قوله: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ثلاثة أوجه: أحدها: لا خصومة بيننا وبينكم , قاله مجاهد , قال السدي: وهذه قبل السيف , وقبل أن يؤمر بالجزية. الثاني: معناه فإنكم بإظهار العداوة قد عدلتم عن طلب الحجة , قاله ابن عيسى. الثالث: معناه إنا قد أعذرنا بإقامة الحجة عليكم فلا حجة بيننا وبينكم نحتاج إلى إقامتها عليكم. وقيل إن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة وشيبة بن ربيعة وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته.

16

{والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد} قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: في توحيد الله عز وجل.

الثاني: أنهم اليهود قالوا: كتابنا قبل كتابكم , ونبينا قبل نبيكم , ونحن خير منكم , قاله قتادة. {مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من بعد ما أجابه الله إلى إظهاره من المعجزات. الثاني: من بعد ما أجاب الله الرسول من المحاجة. الثالث: من بعد ما استجاب المسلمون لربهم وآمنوا بكتابه ورسوله , قاله ابن زيد. {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} فيه وجهان: أحدهما: باطلة , قاله ابن عيسى. الثاني: خاسرة , قاله ابن زيد. قوله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: بالمعجز الدال على صحته. الثاني: بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل. {وَالْمِيزَانَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. الثاني: أنه العدل فيما أمر به ونهى عنه , قاله قتادة. الثالث: أنه الميزان الذي يوزن به , أنزله الله من السماء وعلم عباده الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس , قال قتادة: الميزان العدل. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فلم يخبره بها , ولم يؤنث قريب لأن الساعة تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت.

19

{الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما

لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير} قوله عز وجل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية. فيه وجهان: أحدهما: أن الله تعالى يعطي على نية الآخرة من شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا، قاله قتادة. الثاني: معناه من عمل للآخرة أعطاه الله بالحسنة عشر أمثالها، ومن عمل للدنيا لم يزد على من عمل لها. {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةَ مِن نَّصِيبٍ} في الجنة وهذا معنى قول ابن زيد وشبه العامل الطالب بالزارع لاجتماعهما في طلب النفع.

23

{ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور} قوله عز وجل: {قُل لاَّ أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فيه خمسة أوجه: أحدها: معناه ألا تؤذوني في نفسي لقرابتي منكم , وهذا لقريش خاصة لأنه

لم يكن بطن من قريش إلا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وأبو مالك. الثاني: معناه إلا أن تؤدوا قرابتي , وهذا قول علي بن الحسين وعمرو بن شعيب والسدي. وروى مقسم عن ابن عباس قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيئاً فخطب فقال للأنصار (أَلَمْ تَكُونُواْ أَذِلاَّءَ فَأعِزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَداَكُمْ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا خأَئِفِينَ فَأَمَّنَكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلاَ تَردُواْ عَلَيَّ) فقالواْ: بم نجيبك؟ فقال تَقُولُونَ: (أَلَمْ يَطْرُدْكَ قَوْمُكَ فَآوَيَنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبْكَ قَومَكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟) فعد عليهم , قال: فجثوا على ركبهم وقالواْ: أنفسنا وأموالنا لك (. فنزلت {قُل لاَّ أَسْأَلَكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. الثالث: معناه إلا أن توادوني وتؤازروني كما توادون وتؤازرون قرابتكم , قاله ابن زيد. الرابع: معناه إلا أن تتوددوا وتتقربوا إلى الله بالطاعة والعمل الصالح , قاله الحسن , وقتادة. الخامس: معناه إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم , قاله عبد الله بن القاسم. {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنةً} أي يكتسب , وأصل القرف الكسب. {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أي نضاعف له بالحسنة عشراً. {إِنَّ اللَّه غَفُورٌ شَكُورٌ} فيه وجهان: أحدهما: غفور للذنوب , شكور للحسنات , قاله قتادة. الثاني: غفور لذنوب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم , شكور لحسناتهم , قاله السدي. قوله عز وجل: {فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي ينسيك ما قد آتاك من القرآن، قاله قتادة.

الثاني: معناه يربط على قلبك فلا يصل إليه الأذى بقولهم افترى على الله كذباً , قاله مقاتل. الثالث: معناه لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع الله على قلبك، قاله ابن عيسى. {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ينصر دينه بوعده. الثاني: يصدق رسوله بوحيه.

25

{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُواْ} والقنوط الإياس , قاله قتادة. قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: جدبت الأرض وقنط الناس فقال: مطروا إذن. والغيث ما كان نافعاً في وقته , والمطر قد يكون ضاراً ونافعاً في وقته وغير وقته. {ويَنشُرُ رَحْمَتَهُ} بالغيث فيما يعم ويخص. {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} فيه وجهان: أحدهما: الولي المالك , والحميد مستحق الحمد. الثاني: الولي المنعم والحميد المستحمد.

29

{ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم

ويعفو عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} قوله عز وجل: {وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه الحدود على المعاصي , قاله الحسن. الثاني: أنها البلوى في النفوس والأموال عقوبة على المعاصي والذنوب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا يُصِيبُ ابنَ آدَمَ خَدْشُ عُوْدٍ وَلاَ عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إِلاَّ بِذَنبٍ وَمَا يَعْفُو عَنهُ أَكْثَرَ) وقال ثابت البناني. كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا. ثم فيها قولان: أحدهما: أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم؛ وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم. الثاني: عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم وللأطفال في غيرهم من والدٍ أو والدة , قاله العلاء بن زيد. {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: عن كثير من المعاصي أن لا يكون عليها حدود , وهو مقتضى قول الحسن. الثاني: عن كثير من العصاة وأن لا يعجل عليهم بالعقوبة. قال علي رضي الله عنه: ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة.

32

{ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} قوله عز وجل: {وَمِنءَايَاتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} قال مجاهد هي السفن في البحر {كَالأَعْلاَمِ} أي كالجبال , ومنه قول الخنساء: (وإنَّ صَخْراً لتأتَمُّ الهُدَاةُ به ... كأنَّه علمٌ في رأسِه نار) {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} أي وقوفاً على ظهر الماء , قال قتادة: لأن سفن هذا البحر تجري بالريح. فإذا أمسكت عنها ركدت. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} صبار على البلوى , شكور على النعماء. قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعْطِي شكر , وإذا ابتُلِيَ صبر. قال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر , وكم من مبتلٍ غير صابر. {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ} معناه يغرقهن بذنوب أهلها. {ويَعْفُ عَن كَثِيرٍ} من أهلها فلا يغرقهم معها. {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} فيه وجهان: أحدهما: من فرار ومهرب , قاله قطرب. الثاني: ملجأ , قاله السُدي مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة إذا مال به , ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه.

36

{فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}

قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ} قال عبد الرحمن بن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم قبل الهجرة اثني عشر نقيباً منهم. {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} فيها وجهان: أحدهما: أنه المحافظة على مواقيتها، قاله قتادة. الثاني: إتمامها بشروطها، قاله سعيد بن جبير. {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فيه أربع أوجه: أحدها: أنهم كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملواْ عليه فمدحهم الله تعالى به، قاله النقاش. الثاني: يعني أنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا على اتفاق كلمتهم. قال الحسن: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. الثالث: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له , قاله الضحاك. الرابع: أنهم يتشاورون فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخير دون بعض. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يريد به أداء الزكاة من أموالهم , قاله السدي. الثاني: إنفاق الحلال من أكسابهم , وهو محتمل. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُم الْبَغْيُ هُم يَنتَصِرُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أصابهم يعني المشركين على دينهم انتصروا بالسيف منهم. قاله ابن جريج. الثاني: أصابهم يعني باغ عليهم كره لهم أن يستذلوا , فإذا قدروا عفوا , قاله إبراهيم. الثالث: إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزايلوه عنهم ويدفعوه عنهم , قاله ابن بحر.

40

{وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين

ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} قوله عز وجل: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} فيه قولان: أحدهما: أنه محمول على الجراح التي تتمثل في القصاص دون غيرها من سب أو شتم، قاله الشافعي، وأبو حنيفة، وسفيان. الثاني: أنه محمول على مقابلة الجراح، وإذا قال أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله، ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب، قاله ابن أبي نجيح والسدي. وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها وأنها عند المعاقب بها سواء. {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فأذن في الجزاء وندب إلى العفو. وفي قوله: {وأَصْلَحَ} وجهان: أحدهما: أصلح العمل، قاله سعيد بن جبير. الثاني: أصلح بينه وبين أخيه، قاله ابن زياد، وهذا مندوب إليه في العفو عن التائب دون المصرّ. روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ. مَن كَانَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلِ الجَنَّةَ، فَيُقَالُ مَن ذَا الَّذي أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَقُولُونَ العَافُونَ عَنِ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ). {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظّالِمِينَ} فيه وجهان: أحدهما: الظالمين في الابتداء، قاله سعيد بن جبير.

الثاني: المعتدي في الجزاء , قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي استوفى حقه بنفسه. {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قصاصاً في بدن يستحقه آدمي فلا حرج عليه فيه إذا استوفاه من غير عدوان , وثبت حقه عند الحكام , لكن يزجره الإمام في تفرده بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدماء , وإن كان حقه غير ثابت عند الحكام فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ. والقسم الثاني: أن يكون حداً لله لا حق فيه لآدمي كحد الزني وقطع السرقة. فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه , وإن ثبت عند حاكم نظر فإن كان قطعاً في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه , ولم يجب عليه في ذلك حق إلا التعزير أدباً , وإن كان جلداً لم يسقط به الحد لتعديه به مع بقاء محله وكان مأخوذاً بحكمه. القسم الثالث: أن يكون حقاً في مال فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان من هو عليه عالماً به , وإن كان غير عالم نظر , فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه , وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه مع عدم بينة تشهد به ففي جواز الاستسرار بأخذه مذهبان: أحدهما: جوازه , وهو قول مالك , والشافعي. الثاني: المنع , قاله أبو حنيفة. قوله عز وجل: {إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} فيه قولان: أحدهما: يظلمون الناس بعدوانهم عليهم وهو قول كثير منهم. الثاني: يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم، قاله ابن جريج. {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بغيهم في النفوس والأموال، وهو قول الأكثرين. الثاني: عملهم بالمعاصي، قاله مقاتل.

الثالث: هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً , قاله أبو مالك. قوله عز وجل: {وَلَمِنَ صَبَرَ وَغَفَرَ} يحتمل وجهين: أحدهما: صبر على الأذى وغفر للمؤذي. الثاني: صبر عن المعاصي وستر المساوىء. ويحتمل قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وجهين: أحدهما: لمن عزائم الله التي أمر بها. الثاني: لمن عزائم الصواب التي وفق لها. وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها وقد شتمه بعض الأنصار فرد عليه ثم أمسك , وهي المدنيات من هذه السورة.

44

{ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل} قوله عز وجل: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضَونَ عَلَيهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم المشركون جميعاً يعرضون على جهنم عند إطلاقهم إليها، قاله الأكثرون. الثاني: آل فرعون خصوصاً تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح، فهم عرضهم، قاله ابن مسعود. الثالث: أنهم عامة المشركين ويعرضون على العذاب في قبورهم , وهذا معنى قول أبي الحجاج.

{خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} قال السدي: خاضعين من الذل. {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: ينظرون بأبصار قلوبهم دون عيونهم لأنهم يحشرون عمياً , قاله أبو سليمان. الثاني: يسارقون النظر إلى النار حذراً , قاله محمد بن كعب. الثالث: بطرفٍ ذليل , قاله ابن عباس.

47

{استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} قوله عز وجل: {مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإِ يَوْمَئِذٍ} فيه وجهان: أحدهما: من منج. الثاني: من حرز , قاله مجاهد. {وَمَا لَكُم مِّن نِّكيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: من ناصر ينصركم , قاله مجاهد. الثاني: من منكر يغير ما حل بكم , حكاه ابن أبي حاتم وقاله الكلبي. قوله عز وجل: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحخَ بِهَا} فيها وجهان: أحدهما: أن الرحمة المطر , قاله مقاتل. الثاني: العافية , قاله الكلبي. {وَإِن تُصِبْهُمْ سِّيئةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} فيها وجهان: أحدهما: أنه السنة القحط , قاله مقاتل. الثاني: المرض , قاله الكلبي. {فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالنعمة.

الثاني: بالله.

49

{لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير} قوله عز وجل: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} قال عبيدة: يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور فيهن , ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث فيهم. وأدخل الألف على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} فيه وجهان: أحدهما: هو أن تلد غلاماً ثم تلد جارية ثم تلد غلاماً ثم تلد جارية , قاله مجاهد. الثاني: هو أن تلد توأمين غلاماً وجارية , قاله محمد بن الحنفية , والتزويج هنا الجمع بين البنين والبنات. قال ابن قتيبة: تقول العرب زوجني إبلي إذا جمعت بين الصغار والكبار. {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} أي لا يولد له. يقال عقم فرجه عن الولادة أي منع. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصاً وإن عم حكمها , فوهب للوط البنات ليس فيهن ذكر , ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى , ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث , وجعل عيسى ويحيى عقيمين.

51

{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}

قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} الآية. سبب نزولها ما حكاه النقاش أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فنزلت هذه الآية. وفي قوله: {وَحْياً} وجهان: أحدهما: أنه نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً , قاله مجاهد. الثاني: رؤيا يراها في منامه , قاله زهير بن محمد. {أَوْ مِن وَرَآءِي حِجَابٍ} قال زهير: كما كلم موسى. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} قال زهير: هو جبريل. {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقاً ويرونه عياناً. وهكذا كانت حال جبريل إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: نزل جبريل على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا صلوات الله عليهم أجمعين , فأما غيرهم فكان وحياً إلهاماً في المنام. قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: رحمة من عندنا، قاله قتادة. الثاني: وحياً من أمرنا، قاله السدي. الثالث: قرآناً من أمرنا، قاله الضحاك. {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} فيه وجهان: أحدهما: ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة، ولا الإيمان لولا البلوغ، قاله ابن عيسى. الثاني: ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك وهو محتمل. وفي هذا الإيمان وجهان: أحدهما: أنه الإيمان بالله، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته. الثاني: أنه دين الإٍسلام، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة. {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً ... } فيه قولان أحدهما: جعلنا القرآن نوراً , قاله السدي.

الثاني: جعلنا الإيمان نوراً. حكاه النقاش وقاله الضحاك. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فيه قولان: أحدهما: معناه: وإنك لتدعو إلى دين مستقيم، قاله قتادة. الثاني: إلى كتاب مستقيم، قاله علي رضي الله عنه. وقرأ عاصم الجحدري: وإنك لتُهدى، بضم التاء أي لتُدْعَى. قوله عز وجل: {صِرَاطِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن صراط الله هو القرآن , قاله علي كرم الله وجهه. الثاني: الإٍسلام , رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم. {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه وعيد بالبعث. الثاني: أنه وعيد بالجزاء , والله أعلم.

سورة الزخرف بسم الله الرحمن الرحيم

الزخرف

{حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين} قوله عز وجل: {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} الكتاب هو القرآن: وفي تسميته مبيناً ثلاثة أوجه: أحدها: لأنه بيِّن الحروف، قاله أبو معاذ. الثاني: لأنه بين الهدى والرشد والبركة، قاله قتادة. الثالث: لأن الله تعالى قد بين فيه أحكامه وحلاله وحرامه، قاله مقاتل. وفي هذا موضع القسم، وفيه وجهان: أحدهما: معناه ورب الكتاب. الثاني: أنه القسم بالكتاب , ولله عز وجل أن يقسم بما شاء، وإن لم يكن ذلك لغيره من خلقه.

وجواب القسم {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرءاناً عَرَبِيّاً} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: إنا أنزلناه عربياً، قاله السدي. الثاني: إنا قلناه قرآناً عربياً، قاله مجاهد. الثالث: إنا بيناه قرآناً عربياً، قاله سفيان الثوري. ومعنى العربي أنه بلسان عربي، وفيه قولان: أحدهما: أنه جعل عربياً لأن لسان أهل السماء عربي، قاله مقاتل. الثاني: لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، قاله سفيان الثوري. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تفهمون , فعلى هذا يكون هذا القول خاصاً بالعرب دون العجم، قاله ابن عيسى. الثاني: يتفكرون قاله ابن زيد , فعلى هذا يكون خطاباً عاماً للعرب والعجم. قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ فِي أَمِّ الْكِتَابِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: جملة الكتاب. الثاني: أصل الكتاب , قاله ابن سيرين. الثالث: أنها الحكمةالتي نبه الله عليها جميع خلقه , قاله ابن بحر. وفي {الْكِتَابِ} قولان: أحدهما أنه اللوح المحفوظ؛ قاله مجاهد. الثاني: أنه ذكر عند الله فيه ما سيكون من أفعال العباد مقابل يوم القيامة بما ترفعه الحفظة من أعمالهم , قاله ابن جريج. وفي المكنى عنه أنه في أمِّ الكتاب قولان: أحدهما: أنه القرآن , قاله الكلبي. الثاني: أنه ما يكون من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان أو كفر , قاله ابن جريج. {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} فيه وجهان:

أحدهما: رفيع عن أن ينال فيبدل. حكيم أي محفوظ من نقص أو تغيير، وهذا تأويل من قال أنه ما يكون من الطاعات والمعاصي. الثاني: أنه علي في نسخه ما تقدم من الكتب , وحكيم أي محكم الحكم فلا ينسخ، وهذا تأويل من قال أنه القرآن. قوله عز وجل: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أفحسبتم أن نصفح ولما تفعلون ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس. الثاني: معناه أنكم تكذبون بالقرآن ولا نعاقبكم فيه , قاله مجاهد. الثالث: أي نهملكم فلا نعرفكم بما يجب عليكم , حكاه النقاش. الرابع: أن نقطع تذكيركم بالقرآن: وإن كذبتم به: قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أن نوعد ولا نؤاخذ , ونقول فلا نفعل. {قَوْماً مُّسْرِفِينَ} فيه وجهان: أحدهما: مشركين , قاله قتادة. الثاني: مسرفين في الرد. ومعن صفحاً أي إعراضاً , يقال صفحت عن فلان أي أعرضت عنه. قال ابن قتيبة: والأصل فيه إنك توليه صفحة عنقك. قال كثير في صفة امرأة: (صفحٌ فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن قَلّ منها ذلك الوصل قلّت) أي تعرض عنه بوجهها. قوله عز وجل: {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: سنة الأولين , قاله مجاهد. الثاني: عقوبة الأولين , قاله قتادة. الثالث: عِبرة الأولين , قاله السدي. الرابع: خبر الأولين أنهم أهلكوا بالتكذيب , حكاه النقاش.

9

{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم

تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} قوله عز وجل: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً} أي فراشاً. {وجَعَلَ لَكُم فِيهَا سُبُلاً} أي طرقاً. ويحتمل ثانياً: أي معايش. {لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تهتدون في أسفاركم , قاله ابن عيسى. الثاني: تعرفون نعمة الله عليكم , قاله سعيد بن جبير. ويحتمل ثالثاً: تهتدون إلى معايشكم. قوله عز وجل: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الأصناف كلها , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى , قاله ابن عيسى. الثالث: أن الأزواج الشتاء والصيف , والليل والنهار , والسموات والأرض , والشمس والقمر , والجنة والنار , قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: أن الأزواج ما يتقلب فيه الناس من خيرٍ وشر , وإيمان وكفر , وغنى وفقر , وصحة وسقم. {وَجَعَلَ لَكُم مِّن الْفُلْكِ} يعني السفن. {والأنعام ما تركبون} في الأنعام هنا قولان: أحدهما: الإبل والبقر , قاله سعيد بن جبير. الثاني: الإبل وحدها: قاله معاذ. فذكرهم نعمه عليهم في تسييرهم في البر والبحر.

ثم قال {لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهَا} وأضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس فصار الواحد في معنى الجمع. {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي ركبتم. {وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} أي ذلل لنا هذا المركب. {وَمَا كَنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ضابطين , قاله الأخفش. الثاني: مماثلين في الأيد والقوة , قاله قتادة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة. الثالث: مطيقين , قاله ابن عباس والكلبي , وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب. (لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا) وفي أصله قولان: أحدهما: أن أصله مأخوذ من الإقران , يقال أقرن فلان إذا أطاق. الثاني: أن أصله مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير. وحكى سليمان بن يسار أن قوماً كانوا في سفر , فكانوا إذا ركبوا قالوا: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} وكان فيهم رجل على ناقة له رازم وهي لا تتحرك هزالاً فقال أما أنا فإني لهذه مقرن , قال فقصمت به فدقت عنقه.

15

{وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون وقالوا لو شاء الرحمن

ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} فيه أربعة أوجه: أحدها: عدلاً أي مثلاً، قاله قتادة. الثاني: من الملائكة ولداً، قاله مجاهد. الثالث: نصيباً، قاله قطرب. الرابع: أنه البنات، والجزء عند أهل العربية البنات. يقال قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات. قال الشاعر: (إن أجزأت مرة قوماً فلا عجب ... قد تجزىء الحرة المذكارُ أحيانا) {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} قال الحسن: يعد المصائب وينسى النعم. قوله عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي بما جعل للرحمن البنات ولنفسه البنين. {ظَلَّ وَجْههُه مُسْوَداً} يحتمل وجهين: أحدهما: ببطلان مثله الذي ضربه. الثاني: بما بشر به من الأنثى. {وَهُوَ كَظِيمٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: حزين , قاله قتادة. الثاني: مكروب , قاله عكرمة. الثالث: ساكت , حكاه ابن أبي حاتم. وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. قوله عز وجل: {أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ} النشوء التربية , والحلية الزينة. وفي المراد بها ثلاثة أوجه: أحدها: الجواري , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: البنات. قاله ابن قتيبة.

الثالث: الأَصنام , قاله ابن زيد. وفي {الْخِصَامِ} وجهان: أحدهما: في الحجة. الثاني: في الجدل. {غَيْرُ مُبِينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عني قلة البلاغة , قاله السدي. الثاني: ضعف الحجة , قال قتادة: ما حاجت امرأة إلا أوشكت أن تتكلم بغير حجتها. الثالث: السكوت عن الجواب , قاله الضحاك وابن زيد ومن زعم أنها الأصنام. قوله عز وجل: {وَجَعَلُواْ الْمَلآئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً} في قوله {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} وجهان: أحدهما: أنه سماهم عباده على وجه التكريم كما قال {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الِّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً}. الثاني: أنه جمع عابد. وفي قوله: {إِنَاثاً} وجهان: أحدهما: أي بنات الرحمن. الثاني: ناقصون نقص البنات. {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: مشاهدتم وقت خلقهم. الثاني: مشاهدتهم بعد خلقهم حتى علموا أنهم إناث. {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أي ستكتب شهادتهم إن شهدوا ويسألون عنها إذا بعثوا.

21

{أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك

في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين} قوله عز وجل: {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَاءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: على دين , قاله قتادة وعطية , ومنه قول قيس بن الخطيم: (كنا على أمة آبائنا ... قد يقتدي الآخر بالأول) الثاني: على ملة وهو قريب من معنى الأول , قاله مجاهد وقطرب وفي بعض المصاحف. {قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَاءَابَاءَنَا عَلَى مِلَّةٍ}. الثالث: على قبلة , حُكي ذلك عن الفراء. الرابع: على استقامة , قاله الأخفش , وأنشد النابغة: (حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثَمَن ذو أمة وهو طائع) الخامس: على طريقة , قاله عمر بن عبد العزيز , وكان يقرأ {عَلَى أُمَّةٍ} بكسر الألف والأمة الطريقة من قولهم أممت القوم. حكاه الفراء. {وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} قال قتادة متبعون. وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة , وأبي سفيان , وأبي جهل , وعتبة , وشيبة ابني ربيعة من قريش.

26

{وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل

متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ} البراء مصدر موضع الوصف، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث , فكأنه قال إنني بريء. {مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} وهذا استثناء منقطع وتقديره , لكن الذي فطرني أي خلقني: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} وقيل فيه محذوف تقديره إلا الذي فطرني لا أبرأ منه {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} قال ذلك ثقة بالله وتنبيهاً لقومه أن الهداية من ربه. قوله عز وجل: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيةً فِي عَقِبِهِ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: لا إله إلا الله، لم يزل في ذريته من يقولها، قاله مجاهد، وقتادة. الثاني: ألا تعبدوا إلا الله، قاله الضحاك. الثالث: الإسلام، لقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} قاله عكرمة. وفي {عَقِبِهِ} ثلاثة أوجه: أحدها: ولده، قاله عكرمة. الثاني: في آل محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. الثالث: من خلفه، قاله ابن عباس.

{لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يرجعون إلى الحق , قاله إبراهيم. الثاني: يتوبون , قاله ابن عباس. الثالث: يذكرون , قاله قتادة. الرابع: يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم , قاله الفراء. قوله عز وجل: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ} أما القريتان فإحداهما مكة والأخرى الطائف. وأما عظيم مكة ففيه قولان: أحدهما: أنه الوليد بن المغيرة , قاله ابن عباس. الثاني: عتبة بن ربيعة , قاله مجاهد. وأما عظيم الطائف ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه حبيب بن عمر الثقفي , قاله ابن عباس. الثاني: [عمير] بن عبد ياليل , [الثقفي] قاله مجاهد. الثالث: عروة بن مسعود , قاله قتادة. الرابع: أنه كنانة [عبد] بن عمرو , قاله السدي. قوله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} يعني النبوة فيضعوها حيث شاءوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني أرزاقهم , قال قتادة: فتلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه. {وَرَفَعَنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: بالفضائل، فمنهم فاضل ومنهم مفضول، قاله مقاتل. الثاني: بالحرية والرق، فبعضهم مالك وبعضهم مملوك. الثالث: بالغنى والفقر، فبعضهم غني، وبعضهم فقير. الرابع: بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الخامس: قاله السدي , التفضيل في الرزق إن الله تعالى قسم رحمته بالنبوة كما قسم الرزق بالمعيشة. {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} فيه وجهان: أحدهما: يعني خدماً , قاله السدي. الثاني: ملكاً , قاله قتادة. {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن النبوة خير من الغنى. الثاني: أن الجنة خير من الدنيا. الثالث: أن إتمام الفرائض خير من كثرة النوافل. الرابع: أن ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم , قاله بعض أصحاب الخواطر. قوله عز وجل: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أَمَّةً وَاحِدَةً} فيه وجهان: أحدهما: على دين واحد كفاراً , قاله ابن عباس والسدي. الثاني: على اختيار الدنيا على الدين , قاله ابن زيد. {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِ سُقُفاً مَّن فِضَّةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها أعالي البيوت , قاله قتادة , ومجاهد. الثاني: الأبواب، قاله النقاش. {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} قال ابن عباس: المعارج الدرج , وهو قول الجمهور وأحدها معراج. {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي درج من فضة عليها يصعدون , والظهور الصعود. وأنشد: نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (علونا السماء عفة وتكرما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا)

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إِلَى أَينَ) قال: إلى الجنة. قال: (أَجَل إِن شَاءَ اللَّهُ) قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟ {وَزُخْرُفاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الذهب: قاله ابن عباس. وأنشد قطرب قول ذي الأصبع: (زخآرف أشباهاً تخال بلوغها ... سواطع جمر من لظى يتلهب) الثاني: الفرش ومتاع البيت , قاله ابن زيد. الثالث: أنه النقوش , قاله الحسن.

36

{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} قوله عز وجل: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعرض، قاله قتادة. الثاني: يعمى، قاله ابن عباس. الثالث: أنه السير في الظلمة , مأخوذ من العشو وهو البصر الضعيف، ومنه قول الشاعر: (لنعم الفتى تعشو إلى ضوءِ ناره ... إذا الريحُ هبّت والمكان جديب)

وفي قوله: {عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} ثلاثة أوجه: أحدها: عن ذكر الله , قاله قتادة. الثاني: عما بيّنه الله من حلال وحرام وأمر ونهي , وهو معنى قول ابن عباس. الثالث: عن القرآن لأنه كلام الرحمن , قاله الكلبي. {نُقِيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} فيه وجهان: أحدهما: نلقيه شيطاناً. الثاني: نعوضه شيطاناً , مأخوذ من المقايضة وهي المعاوضة. {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فيه قولان: أحدهما: أنه شيطان يقيض له في الدنيا يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام , وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: هو أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصير بهما الله إلى النار , قاله سعيد بن جبير. قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَآءَنا} قرأ على التوحيد أبو عمرو , وحمزة , والكسائي , وحفص , يعني ابن آدم , وقرأ الباقون {جَاءَانَا} على التثنية يعني ابن آدم وقرينه. {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَعُدَْ الْمَشْرِقَيْنِ} هذا قول ابن آدم لقرينه وفي المشرقين قولان: أحدهما: أنه المشرق والمغرب فغلب أحدهما على الآخر كما قيل: سنة العمرين , كقول الشاعر: (أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع) الثاني: أنه مشرق الشتاء ومشرق الصيف , كقوله تعالى {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ}. قوله عز وجل: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قولان:

أحدهما: إما نخرجنك من مكة من أذى قريش فإنا منهم منتقمون بالسيف يوم بدر. الثاني: فإما نقبض روحك إلينا فإنا منتقمون من أمتك فيما أحدثوا بعدك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي ما لقيت أمته بعده فما زال منقبضاً ما انبسط ضاحكاً حتى لقي الله تعالى. قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني القرآن ذكر لك [ولقومك]. وفي {لَذِكْرٌ} قولان: أحدهما: الشرف , أي شرف لك ولقومك , قاله ابن عباس. الثاني: أنه لذكر لك ولقومك تذكرون به أمر الدين وتعملون به , حكاه ابن عيسى. {وَلِقَوْمِكَ} فيه قولان: أحدهما: من اتبعك من أمتك , قاله قتادة. الثاني: لقومك من قريش فيقال: ممن هذا الرجل؟ فيقال: من العرب , فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش , قاله مجاهد. {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} فيه وجهان: أحدهما: عن الشكر، قاله مقاتل. الثاني: أنت ومن معك عما أتاك، قاله ابن جريج. وحكى ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس في قوله {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أنه قول الرجل حدثني أبي عن جدي. قوله عز وجل: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: يعني الأنبياء الذين جمعوا له ليلة الإسراء , قاله ابن عباس , وابن زيد , وكانوا سبعين نبياً منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام , فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم , قاله ابن عباس. الثاني: أهل الكتابين التوراة والإنجيل , قاله قتادة , والضحاك , ويكون تقديره سل أمم من أرسلنا من قبلك من رسلنا. الثالث: جبريل , ويكون تقديره. واسأل عما أرسلنا من قبلك من رسلنا , حكاه النقاش. {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك , فأمره الله بسؤالهم لا لأنه كان في شك منه. واختلف في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين: أحدهما: أنه سألهم , فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد , قاله الواقدي. الثاني: أنه لم يسأل ليقينه بالله تعالى , حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل: هل سألك محمد ذلك؟ فقال جبريل: هو أشد إيماناً وأعظم يقيناً من أن يسألني عن ذلك.

46

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون}

قوله عز وجل: {وَقَالُواْ يَأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنهم قالوا على وجه الاستهزاء , قاله الحسن. الثاني: أنه يجري على ألسنتهم ما ألفوه من اسمه , قاله الزجاج. الثالث: أنهم أرادوا بالساحر غالب السحرة , وهو معنى قول ابن بحر. الرابع: أن الساحر عندهم هو العالم , فعظموه بذلك ولم تكن صفة ذم , حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي. {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} قال مجاهد: لئن أمنا لتكشف العذاب عنا , قال الضحاك , وذلك أن الطوفان أخذهم ثمانية أيام لا يسكن ليلاً ولا نهاراً. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي يغدرون وكان موسى دعا لقومه فأجيب فيهم فلم يفواْ.

51

{ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} قوله عز وجل: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن معنى نادى أي قال , قاله أبو مالك. الثاني: أمر من نادى في قومه , قاله ابن جريج. {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} فيه قولان: أحدهما: أنها الإسكندرية , قاله مجاهد. الثاني: أنه ملك منها أربعين فرسخاً في مثلها , حكاه النقاش.

{وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كانت جنات وأنهاراً تجري من تحت قصره , قاله قتادة. وقيل من تحت سريره. الثاني: أنه أراد النيل يجري من تحتي أي أسفل مني. الثالث: أن معنى قوله: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي} أي القواد والجبابرة يسيرون تحت لوائي , قاله الضحاك. ويحتمل رابعاً: أنه أراد بالأنهار الأموال , وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها وقوله {تَجْرِي مِن تَحْتِي} أي أفرقها على من يتبعني لأن الترغيب والقدرة في الأموال في الأنهار. {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أفلا تبصرون إلى قوتي وضعف موسى؟. الثاني: قدرتي على نفعكم وعجز موسى. ثم صرح بحاله فقال {أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ} قال السدي: بل أنا خير. {مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي ضعيف , قاله قتادة. الثاني: حقير , قاله سفيان. الثالث: لأنه كان يمتهن نفسه في حوائجه , حكاه ابن عيسى. {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أي يفهم , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أنه عيي اللسان , قاله قتادة. الثاني: أَلثغ قاله , الزجاج. الثالث: ثقيل اللسان لجمرة كان وضعها في فيه وهو صغير , قاله سفيان. قوله عز وجل: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. الثاني: ليكون ذلك دليلاً على صدقه , والأساورة جمع أسورة , والأسورة جمع سوار.

{أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: متتابعين، قاله قتادة. الثاني: يقارن بعضهم بعضاً في المعونة , قاله السدي. الثالث: مقترنين أي يمشون معاً , قاله مجاهد. وفي مجيئهم معه قولان: أحدهما: ليكونوا معه أعواناً , قاله مقاتل. الثاني: ليكونوا دليلاً على صدقه , قاله الكلبي. وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كاف , وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما يكذب مع ظهور الآيات. وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم. قوله عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: استفزهم بالقول فأطاعوه على التكذيب، قاله ابن زياد. الثاني: حركهم بالرغبة فخفوا معه في الإجابة، وهو معنى قول الفراء. الثالث: استجهلهم فأظهروا طاعة جهلهم، وهو معنى قول الكلبي. الرابع: دعاهم إلى باطله فخفوا في إجابته , قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {فَلَمَّاءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أغضبونا، رواه الضحاك عن ابن عباس. الثاني: أسخطونا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. ومعناهما مختلف، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة، والغضب إرادة الانتقام. والأسف هو الأسى على فائت. وفيه وجهان: أحدهما: أنه لما جعل هنا في موضع الغضب صح أن يضاف إلى الله لأنه قد يغضب على من عصاه.

الثاني: أن الأسف راجع إلى الأنبياء لأن الله تعالى لا يفوته شيء , ويكون تقديره: فلما آسفوا رسلنا انتقمنا منهم. قوله عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} قرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام , وفيه تأويلان: أحدهما: أهواء مختلفة , قاله ابن عباس. الثاني: جمع سلف أي جميع من قد مضى من الناس , قاله ابن عيسى. وقرأ الباقون بفتح السين واللام , أي متقدمين , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها , سلفاً في النار , قاله قتادة. الثاني: سلفاً لكفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم , قاله مجاهد. الثالث: سلفاً لمثل من عمل مثل عملهم , قاله أبو مجلز. {وَمَثَلاً لِّلآخِرينَ} فيه وجهان: أحدهما: عظة لغيرهم , قاله قتادة. الثاني: عبرة لمن بعدهم , قاله مجاهد.

57

{ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه

هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم} قوله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} الآية. فيه أربعة أقاويل: أحدها: ما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ إِنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ) فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً صالحاً؟ فقد كان يعبد من دون الله , فنزلت. الثاني: ما حكاه مجاهد أن قريشاَ قالت: إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى , فنزلت. الثالث: ما حكاه قتادة أن الله لما ذكر نزول عيسى في القرآن قالت قريش: يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى؟ فنزلت هذه الآية. الرابع: ما ذكره ابن عيسى أنه لما ذكر الله خلق عيسى من غير ذكر كآدم أكبرته قريش فنزلت هذه الآية. وضربه مثلاً أن خلقه من أنثى بغير ذكر كما خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر ولذلك غلت فيه النصارى حين اتخذته إلهاً. { ... يَصِدُّونَ} فيه قراءتان: إحداهما: بكسر الصاد. والثانية: بضمها فاختلف أهل التفسير في اختلافهما على قولين: أحدهما: معناه واحد وإن اختلف لفظهما في الصيغة مثل يشد ويشُد وينِم وينُم , فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أوجه: أحدها: يضجون , قاله ابن عباس , وعكرمة , والضحاك. الثاني: يضحكون , قاله قتادة. الثالث: يجزعون , حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم.

الرابع: يعرضون , قاله إبراهيم. والقول الثاني: معناهما مختلف , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بالضم يعدلون , وبالكسر يتفرقون , قاله الحسن. الثاني: أنه بالضم يعتزلون , وبالكسر يضجون , قاله الأخفش. الثالث: أنه بالضم من الصدود , وبالكسر من الضجيج , قاله قطرب. {وَقَالُواْءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} وهذا قول قريش , قالواْ: أآلهتنا وهي أصنامهم التي يبعدونها خير {أَمْ هُوَ} فيه قولان: أحدهما: أم محمد صلى الله عليه وسلم , قاله قتادة. الثاني: أم عيسى , قاله السدي. {مَا ضَرَبُوه لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} قال السدي: هو قول قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزعم كل شيء عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة هؤلاء قد عبدوا من دون الله. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أن الخصم الحاذق بالخصومة. الثاني: أنه المجادل بغير حجة. قوله عز وجل: {إِنْ هُوَ إِلاَّعَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} قال قتادة: يعني عيسى. {أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالنبوة. الثاني: بخلقه من غير أب كآدم. وفيه وجه. الثالث: بسياسة نفسه وقمع شهوته. {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني أنه لبني إسرائيل , قاله قتادة. الثاني: لتمثيله بآدم , قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكم مَّلاَئِكَةً} فيه وجهان:

أحدهما: يعني لقلبنا بعضكم ملائكة من غير أب كما خلقنا عيسى من غير أب ليكونوا خلفاء من ذهب منكم. الثاني: جعلنا بدلاً منكم ملائكة. {فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: ملائكة يخلف بعضها بعضاً , قاله قتادة. الثاني: ملائكة يكونون خلفاً منكم , قاله السدي. الثالث: ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم , قاله مجاهد. الرابع: ملائكة يكونون رسلاً إليكم بدلاً من الرسل منكم. قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن القرآن علم الساعة لما فيه من البعث والجزاء , قاله الحسن وسعيد بن جبير. الثاني: أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى , قاله ابن إسحاق. الثالث: أن خروج عيسى علم الساعة لأنه من علامة القيامة وشروط الساعة , قاله ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، والسدي. وروى خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأَنبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعِلاَّتُ أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِينُهُم وَاحِدٌ , أَنَا أَولَى النَّاسِ بِعيسَى ابنِ مَرْيَمَ , إِنَّهُ لَيسَ بَينِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ , وَإِنَّهُ أَوَّلُ نَازِلٍ , فَيَكْسَرُ الصَّلِيبَ , وَيَقْتُلُ الخنزيرَ , وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ). وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا: إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون

رسولاً إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم , وهذا قول مردود لثلاثة أمور: للحديث الذي قدمناه , ولأن بقاء الدنيا يقتضي بقاء التكليف فيها , ولأنه ينزل آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى مقصوراً على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه. وحكى مقاتل أن عيسى ينزل من السماء على ثنية جبل بأرض الشام يقال له أفيف. {فَلاَ تَمْتَرُونَّ بِهَا} فيه وجهان: أحدهما: لا تشكون فيها يعني الساعة. قاله يحيى بن سلام. الثاني: فلا تكذبون بها , قاله السُدي. {وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: القرآن صراط مستقيم إلى الجنة , قاله الحسن. الثاني: عيسى , قاله ابن عباس. الثالث: الإسلام , قاله يحيى. قوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبِيِّنَاتِ} فيها وجهان: أحدهما: أنه الإنجيل , قاله قتادة. الثاني: أنه الآيات التي جاء بها من إحياء الموتى وإبراء الأسقام، والإخبار بكثير من الغيوب، قاله ابن عباس. {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ} فيه قولان: أحدهما: بالنبوة، قاله السدي. الثاني: بعلم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح , قاله ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: أن الحكمة الإنجيل الذي أنزل عليه. {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وفيه قولان: أحدهما: تبديل التوراة، قاله مجاهد. الثاني: ما تختلفون فيه من أمر دينكم لا من أمر دنياكم , حكاه ابن عيسى. وفي قوله: {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي كل الذي تختلفون فيه، فكان

البعض هنا بمعنى الكل ما اقتصرعلى بيان بعض دون الكل , قاله الأخفش , وأنشد لبيد: (ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها) والموت لا يعتلق النفوس دون بعض. الثاني: أنه بين لهم بعضه دون جميعه , ويكون معناه أبين لكم بعض ذلك أيضاً وأكلكم في بعضه إلى الاجتهاد , وأضمر ذلك لدلالة الحال عليه. قوله عز وجل: {فَاخْتَلَفَ الأَحَْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} قال قتادة يعني {مِن بَيْنِهِم} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى خالف بعضهم بعضاً , قاله مجاهد والسدي. الثاني: فرق النصارى من النسطورية واليعاقبة والملكية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية: هو ابن الله. وقالت اليعاقبة هو الله. وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله , قاله الكلبي ومقاتل.

66

{هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون}

قوله عز وجل: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم أعداء في الدنيا، لأن كل واحد منهم زين للآخر ما يوبقه، وهو معنى قول مجاهد. الثاني: أنهم أعداء في الآخرة مع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا لما رأوا سوء العاقبة فيها بالمقارنة، وهو معنى قول قتادة. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي , وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين. وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش قد صبأ عقبة بن أبي معيط وقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة ذلك فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله , فقتله يوم بدر صبراً , وقتل أمية في المعركة , وفيهما نزلت هذه الآية. قوله عز وجل: {أَنتُمْ وأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: هم وأزواجهم المؤمنات في الدنيا. الثاني: ومن يزوجون من الحور في الآخرة. الثالث: هم وقرناؤهم في الدنيا. وفي {تُحْبَرُونَ} ستة تأويلات: أحدها: تكرمون , قاله ابن عباس , والكرامة في المنزلة. الثاني: تفرحون , قاله الحسن , والفرح في القلب. الثالث: تتنعمون , قاله قتادة , والنعيم في البدن. الرابع: تسرّون , قاله مجاهد , والسرور في العين. الخامس: تعجبون , قاله ابن أبي نجيح , والعجب ها هنا درك ما يستطرف. السادس: أنه التلذذ بالسماع , قاله يحيى بن أبي كثير. قوله عز وجل: {. . وَأَكْوَابٍ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنه الآنية المدورة الأفواه , قاله مجاهد. الثاني: أنها ليست لها آذن، قاله السدي.

الثالث: أن الكوب: المدور القصير العنق القصير العروة، والإبريق: الطويل العنق الطويل العروة، قاله قتادة. الرابع: أنها الأباريق التي لا خراطيم لها، قاله الأخفش. الخامس: أنها الأباريق التي ليس لها عروة، قاله قطرب. قوله عز وجل: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُ الأَعْيُنُ} قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص {تَشْتَهِيهِ}. ويحتمل وجهين: أحدهما: ما تشتهي الأنفس ما تتمناه , وما تلذ الأعين هو ما رآه فاشتهاه. الثاني: ما تشتهيه الأنفس هو ما كان طيب المخبر , وما تلذ الأعين ما كان حسن المنظر.

74

{إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} قوله عز وجل: {وَنَادَوْاْ يَا مَالِكُ} هذا نداء أهل النار لخزانها حين ذاقوا عذابها. {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي يميتنا، طلبوا الموت ليستريحوا به من عذاب النار. {قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} أي لابثون في عذابها أحياء , وفي مدة ما بين ندائهم وجوابه أربعة أقاويل. أحدها: أربعون سنة، قاله عبد الله بن عمرو. الثاني: ثمانون سنة، قاله السدي. الثالث: مائة سنة، قاله نوف.

الرابع: ألف سنة , قاله ابن عباس , لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل. قوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث , قاله قتادة. الثاني: أن أحكموا كيداً فإنا محكمون لها كيداً , قاله ابن زيد. الثالث: قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم بالعذاب , قاله الكلبي. وقيل إن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين اجتمع وجوههم في دار الندوة يتشاورون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى استقر رأيهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه , فنزلت هذه الآية , وقتل الله جميعهم عليهم اللعنة يوم بدر.

81

{قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون} قوله عز وجل: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} فيه ستة أقاويل: أحدها: إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد الله ليس له ولد، قاله ابن زيد. ومجاهد. الثاني: معناه فأنا أول العابدين , ولكن لم يكن ولا ينبغي أن يكون، قاله قتادة.

الثالث: قل لم يكن للرحمن ولد وأنا أول الشاهدين بأن ليس له ولد. قاله ابن عباس. الرابع: قل ما كان للرحمن ولد , وهذا كلام تام ثم استأنف فقال: فأنا أول العابدين أي الموحدين من أهل مكة , قاله السدي. الخامس: قل إن قلتم إن للرحمن ولداً فأنا أول الجاحدين أن يكون له ولد , قاله سفيان. السادس: إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين أن يكون له ولد , قاله الكسائي وابن قتيبة , ومنه قول الفرزدق: (أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... وأعْبُدُ أن أهجو تميماً بدارم) قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} وهذا إبطال أن يكون غير الله إلَهاً وأن الإلَه هو الذي يكون في السماء إلهاً وفي الأرض إلهاً وليست هذه صفة لغير الله , فوجب أن يكون هو الإله. وفي معنى الكلام وجهان: أحدهما: أنه الموحد في السماء والأرض , قاله مقاتل. الثاني: أنه المعبود في السماء والأرض , قاله الكلبي. {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يذكر ذلك صفة لتعظيمه. الثاني: أنه يذكره تعليلاً لإلاهيته لأنه حكيم عليم وليس في الأصنام حكيم عليم. قوله عز وجل: {وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِهِ الشَّفَاعَةَ} فيها قولان: أحدهما: الشركة ومنه أخذت الشفعة في البيع لاستحقاق الشريك لها. ويكون معنى الكلام أن الذين يدعون من دون الله لا يملكون مع الله شركة يستحقون أن يكونوا بها آلهة إلا أن يشهدوا عند الله بالحق على من عليه حق أو له حق , وهذا معنى قول ابن بحر.

الثاني: أن الشفاعة استعطاف المشفوع إليه فيما يرجى , واستصفاحه فيما يخشى وهو قول الجمهور. وقيل إن سبب نزولها ما حكي أن النضر بن الحارث ونفراً من قريش قالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة , وهم أحق بالشفاعة لنا منه فأنزل الله تعالى {وَلاَ يَمْلِكُ الِّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} معناه الذين يعبدونهم من دون الله وهم الملائكة الشفاعة لهم. وقال قتادة: هم الملائكة وعيسى وعزير لأنهم عبدوا من دون الله. {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني أن الشهادة بالحق إنما هي لمن شهد في الدنيا بالحق وهم يعلمون أنه الحق فتشفع لهم الملائكة , قاله الحسن. الثاني: أن الملائكة لا تشفع إلا لمن شهد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون أن الله ربهم. قوله عز وجل: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يَؤْمِنُونَ} وهي تقرأ على ثلاثة أوجه بالنصب والجر والرفع. فأما الجر فهي على قراءة عاصم وحمزة , وهي في المعنى راجعة إلى قوله تعالى {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وعلم قيلِه. وأما الرفع فهو قراءة الأعرج , ومعناها ابتداء , وقيله , قيل محمد , يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. والقيل هو القول. وأما النصب فهي قراءة الباقين من أئمة القراء , وفي تأويلها أربعة أوجه: أحدها: بمعنى إلا من شهد بالحق وقال قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، على وجه الإنكار عليهم، قاله ابن عيسى. الثاني: أنها بمعنى أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيلَه يا رب، قاله يحيى بن سلام.

الثالث: بمعنى وشكا محمد إلى ربه قيله , ثم ابتداء فأخبر {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} , قاله الزجاج. قوله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} قال قتادة: أمره بالصفح عنهم , ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بالسيف. ويحتمل الصفح عن سفههم أن يقابلهم عليه ندباً له إلى الحلم. {وَقُلْ سَلاَمٌ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أي قل ما تسلم به من شرهم , قاله ابن عيسى. الثاني: قل خيراً بدلاً من شرهم؛ قاله السدي. الثالث: أي احلم عنهم؛ قاله الحسن. الرابع: أنه أمره بتوديعهم بالسلام ولم يجعله تحية لهم؛ حكاه النقاش. الخامس: أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم؛ رواه شعيب بن الحباب. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} يحتمل أمرين: أحدهما: فسوف يعلمون حلول العذاب بهم. الثاني: فسوف يعلمون صدقك في إنذارهم , والله أعلم.

سورة الدخان بسم الله الرحمن الرحيم

الدخان

{حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين} قوله عز وجل: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} يعني والقرآن المبين، فأقسم به، وفي قسمه ب {حم} وجهان من اختلافهم في تأويله. {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} يعني القرآن أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا. {فِي لَيلَةِ مُّبَارَكَةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها ليلة النصف من شعبان؛ قاله عكرمة. الثاني: أنها ليلة القدر.

روى قتادة عن وائلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ في أَوَّلِ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ، وَأُنزِلَت التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِن رَمَضَانَ وَأُنزِلَ الزَّبُورُ لاثْنَتَي عَشْرَةَ مَضَتْ مِن رَمَضَانَ، وَأُنزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِن رَمَضَانَ. وَأُنزِلَ القْرآنُ لأَرْبعٍ وَعشرِينَ مِن رَمَضَانَ) وفي تسميتها مباركة وجهان: أحدهما: لما ينزل فيها من الرحمة. الثاني: لما يجاب فيها من الدعاء. {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} بالقرآن من النار. ويحتمل: ثالثاً: منذرين بالرسل من الضلال. {فِيهَا} في هذه الليلة المباركة. {يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وفي يفرق أربعة أوجه: أحدها: يقضى , قاله الضحاك. الثاني: يكتب , قاله ابن عباس. الثالث: ينزل , قاله ابن زيد. الرابع: يخرج , قاله ابن سنان. وفي تأويل {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أربعة أوجه: أحدها: الآجال والأرزاق والسعادة والشقاء من السنة إلى السنة , قاله ابن عباس. الثاني: كل ما يقضى من السنة إلى السنة , إلا الشقاوة والسعادة فإنه في أم الكتاب لا يغير ولا يبدل , قاله ابن عمر. الثالث: كل ما يقضى من السنة إلى السنة إلا الحياة والموت , قاله مجاهد. الرابع: بركات عمله من انطلاق الألسن بمدحه , وامتلاء القلوب من هيبته , قاله بعض أصحاب الخواطر. الحكيم هنا هو المحكم. وليلة القدر باقية ما بقي الدهر , وهي في شهر رمضان

في العشر الأواخر منه. ولا وجه لقول من قال إنها رفعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم , ولا لقول من جوزها في جميع السنة لأن الخبر والأثر والعيان يدفعه. واختلف في محلها من العشر الأواخر من رمضان على أقاويل ذكرها في سورة القدر أولى. قوله عز وجل: {أَمْراً مِنْ عِندِنَا} فيه قولان: أحدهما: أن الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده , حكاه النقاش. الثاني: أنه ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده، قاله ابن عيسى. ويحتمل: ثالثاً: أنه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً. {إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مرسلين الرسل للإنذار. الثاني: منزلين ما قضيناه على العباد. الثالث: مرسلين رحمة من ربك. وفي {رَحْمَةً مِّن رِّبِّكَ} هنا وجهان: أحدهما: أنها نعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنها رأفته بهداية من آمن به. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لقولهم {الْعَلِيمُ} بفعلهم.

9

{بل هم في شك يلعبون فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} قوله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} في ارتقب وجهان: أحدهما: معناه فانتظر يا محمد بهؤلاء يوم تأتي السماء بدخان مبين، قاله قتادة.

الثاني: معناه فاحفظ يا محمد قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين , ولذلك سمي الحافظ رقيباً، قال الأعشى: (عليّ رقيب له حافظٌ ... فقل في امرىءٍ غِلقٍ مرتهن) وفي قوله تعالى {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ثلاثة أقاويل: أحدها: ما أصاب أهل مكة من شدة الجوع حتى صار بينهم وبين السماء كهيئة الدخان لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبطائهم عن الإيمان وقصدهم له بالأذى , فقال: (اللَّهُمَّ اكفِنِيهِم بِسَبْعٍ كَسَبْع يُوسُفَ) قاله ابن مسعود. قال أبو عبيدة والدخان الجدب. وقال ابن قتيبة: سمي دخاناً ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها الدخان. الثاني: أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغيوم , قاله عبد الرحمن بن الأعرج. الثالث: أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة يأخذ المؤمن منه كالزكمة , وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه , رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. قوله عز وجل: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الدخان، قاله قتادة. الثاني: الجوع: قاله النقاش. الثالث: أنه الثلج وهذا لا وجه له لأن هذا إما أن يكون في الآخرة أو في أهل مكة، ولم تكن مكة من بلاد الثلج غير أنه مقول فحكيناه. قوله عز وجل: {إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} فيه قولان: أحدهما: أي عائدون إلى نار جهنم. الثاني: إلى الشرك , قاله ابن مسعود. فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم عادوا إلى تكذيبه.

قوله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} والبطشة الكبرى هي العقوبة الكبرى , وفيها قولان: أحدهما: القتل بالسيف يوم بدر , قاله ابن مسعود وأُبي بن كعب ومجاهد والضحاك. الثاني: عذاب جهنم يوم القيامة , قاله ابن عباس والحسن. ويحتمل: ثالثاً: أنها قيام الساعة لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا. {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} أي من أعدائنا. وفي الفرق بين النقمة والعقوبة ثلاثة أوجه: أحدها: أن العقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة , والنقمة قد تكون قبلها , قاله ابن عيسى. الثاني: أن العقوبة قد تكون في المعاصي , والنقمة قد تكون في خلقه لأجله. الثالث: أن العقوبة ما تقدرت , والانتقام غير مقدر.

17

{ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين}

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي ابتليناهم. {وَجَآءَهُمْ رَسُولُ كَرِيمٌ} وهو موسى بن عمران عليه السلام. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: كريم على ربه , قاله الفراء. الثاني: كريم في قومه. الثالث: كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح. قوله عز وجل: {أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أي أرسلوا معي بني إسرائيل ولا تستعبدوهم , قاله مجاهد. الثاني: أجيبوا عباد الله خيراً , قاله أبو صالح. الثالث: أدوا إليَّ يا عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله , وهذا محتمل. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أمين على أن أؤديه لكم فلا أتزيد فيه. الثاني: أمين على ما أستأديه منكم فلا أخون فيه. قوله عز وجل: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لا تبغوا على الله , قاله قتادة. الثاني: لا تفتروا على الله , قاله ابن عباس , والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل , والافتراء بالقول. الثالث: لا تعظموا على الله , قاله ابن جريج. الرابع: لا تستكبروا على عباد الله , قاله يحيى. والفرق بين التعظيم والاستكبار أن التعظيم تطاول المقتدر , والاستكبار ترفع المحتقر. {إِنِّي ءاتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} فيه وجهان: أحدهما: بعذر مبين، قاله قتادة. الثالث: بحجة بينة، قاله يحيى. قوله عز وجل: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لجأت إلى ربي وربكم. الثاني: استغثت. والفرق بينهما أن الملتجىء مستدفع والمستغيث مستنصر.

قوله: {بَرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي ربي الذي هو ربكم. {أَن تَرْجُمُونِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالحجارة، قاله قتادة. الثاني: أن تقتلوني، قاله السدي. الثالث: أن تشتموني بأن تقولوا ساحر أو كاهن أو شاعر , قاله أبو صالح. {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ} أي إن لم تؤمنوا بي وتصدقوا قولي فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي. قوله عز وجل: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} فيه سبعة تأويلات: أحدها: سمتاً , قاله ابن عباس. الثاني: يابساً , قاله ابن أبي نجيح. الثالث: سهلاً , قاله الربيع. الرابع: طريقاً , قاله كعب والحسن. الخامس: منفرجاً , قاله مجاهد. السادس: غرقاً , قاله عكرمة. السابع: ساكناً , قاله الكلبي والأخفش وقطرب. قال القطامي: (يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل) قال قتادة: لما نجا بنو إسرائيل من البحر وأراد آل فرعون أن يدخلوه خشي نبي الله موسى عليه السلام أن يدركوه فأراد أن يضرب البحر حتى يعود كما كان فقال الله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} أي طريقاً يابساً حتى يدخلوه. {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} قال مقاتل: هو النيل , وكان عرضه يومئذٍ فرسخين , قال الضحاك: كان غرقهم بالقلزم وهو بلد بين مصر والحجاز. فإن قيل فليست هذه الأحوال في البحر من فعل موسى ولا إليه. قيل يشبه أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إنْ ضرب البحر بعصاه ثانية تغيرت أحواله، فأمره أن يكف عن ضربه حتى ينفذ الله قضاءه في فرعون وقومه.

وتأويل سهل بن عبد الله {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ} أي اجعل القلب ساكناً في تدبيري {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُّغْرَقُونَ} أي إن المخالفين قد غرقوا في التدبير. قوله عز وجل: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الجنات البساتين. وفي العيون قولان: أحدهما: عيون الماء , وهو قول الجمهور. الثاني: عيون الذهب , قاله ابن جبير. {وَزُرُوعٍ} قيل إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها , وكانت مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً لما دبروه وقدروه من قناطر وجسور. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها المنابر , قاله ابن عباس والحسن ومجاهد. الثاني: المساكن , قاله أبو عمرو والسدي , لمقام أهلها فيها. الثالث: مجالس الملوك لقيام الناس فيها. ويحتمل رابعاً: أنه مرابط الخيل لأنها أكرم مذخور لعدة وزينة. وفي الكريم ثلاثة أوجه: أحدها: هو الحسن , قاله سعيد بن جبير. الثاني: هو المعطي لديه كما يعطي الرجل الكريم صلته , قاله ابن عيسى. الثالث: أنه كريم لكرم من فيه , قاله ابن بحر. قوله عز وجل: {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} في النعمة هنا أربعة أوجه: أحدها: نيل مصر , قاله ابن عمر. الثاني: الفيّوم , قاله ابن لهيعة. الثالث: أرض مصر لكثرة خيرها , قاله ابن زياد. الرابع: ما كانوا فيه من السعة والدعة. وقد يقال نعمة ونِعمة بفتح النون وكسرها , وفي الفرق بينهما وجهان:

أحدهما: أنها بكسر النون في الملك , وبفتحها في البدن والدين؛ قاله النضر بن شميل. الثاني: أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية , وبالفتح من التنعم وهو سعة العيش والراحة , قاله ابن زياد. وفي {فاكهين} ثلاثة أوجه: أحدها: فرحين , قاله السدي. الثاني: ناعمين , قاله قتادة. الثالث: أن الفاكه هو المتمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة , قاله ابن عيسى. وقرأ يزيد بن القعقاع {فَكِهِينَ} ومعناه معجبين. قوله عز وجل {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماًءَاخَرِينَ} يعني بني إسرائيل ملكهم الله أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين , فصروا لها وارثين لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث. قوله عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَآءُ وَالأَرْضُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني أهل السماء وأهل الأرض , قاله الحسن. الثاني: أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً؛ قاله مجاهد. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله , فقال أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟ الثالث: أنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء , قاله علي كرم الله وجهه. وتقديره فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جبير. الرابع: ما رواه يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك. قال: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلا وله في السماء بابان , باب ينزل منه رزقه , وباب يدخل منه كلامه وعمله , فإذا مات فقداه فبكيا عليه) ثم تلا هذه الآية. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كالمعروف من بكاء الحيوان ويشبه أن يكون قول مجاهد. الثاني: أنه حمرة أطرافها , قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعطاء. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر , واحمرارها بكاؤها. الثالث: أنها أمارة تظهر منها تدل على حزن وأسف. كقول الشاعر: (والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا) {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: مؤخرين بالغرق , قاله الكلبي. الثاني: لم ينظروا بعد الآيات التسع حتى أغرقوا , قاله مقاتل.

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ} معناه على علم منا بهم. وفي اختياره لهم ثلاثة أوجه: أحدها: باصطفائهم لرسالته , والدعاء إلى طاعته. الثاني: باختيارهم لدينه وتصديق رسله. الثالث: بإنجائهم من فرعون وقومه. وفي قوله: {عَلَى الْعَالَمِينَ} قولان: أحدهما: على عالمي زمانهم , لأن لكل زمان عالماً , قاله قتادة. الثاني: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء. وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم , حكاه ابن عيسى. قوله عز وجل: {وءَاتَيْنَاهُمْ مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أنجاهم من عدوهم وفلق البحر لهم وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى , قاله قتادة. ويكون هذا الخطاب متوجهاً إلى بني إسرائيل. الثاني: أنها العصا ويده البيضاء , ويشبه أن يكون قول الفراء. ويكون الخطاب متوجهاً إلى قوم فرعون. الثالث: أنه الشر الذي كفهم عنه والخير الذي أمرهم به , قاله عبد الرحمن بن زيد.

ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفريقين معاً من قوم فرعون وبني إسرائيل. وفي قوله {مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ} ثلاثة تأويلات: أحدها: نعمة ظاهرة , قاله الحسن وقتادة كما قال تعالى {وَليُبْلَي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً} وقال زهير: 89 (فأبلاه خير البلاء الذي يبلو.} 9 الثاني: عذاب شديد , قاله الفراء. الثالث: اختيار بيِّن يتميز به المؤمن من الكافر , قاله عبد الرحمن بن زيد.

34

{إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين} قوله عز وجل: {إِنَّ هَؤُلآءِ لَيَقُولُونَ} يعني كفار قريش. {إن هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي بمبعوثين قيل: إن قائل هذا أبو جهل قال: يا محمد إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصيّ بن كلاب فإنه كان رجلاً صادقاً , لنسأله عما يكون بعد الموت وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات , لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف. فكأنه قال: إن كنت صادقاً في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف. وهو كقول قائل لو قال: إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء , فلم لا يرجع من مضى من الآباء. قوله عز وجل: {أَهُمْ خَيرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} فيه وجهان: أحدهما: أهم أظهر نعمة وأكثر أموالاً. الثاني: أهم أعز وأشد أم قوم تبع. وحكى قتادة أن تبعاً كان رجلاً من حِمير سار بالجيوش حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها. وحكي لنا أنه كان إذا كتب؛ كتب باسم الله الذي سما وملك براً وبحراً وضحاً وريحاً. وروي عن عمرو بن رجاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم. وحكى ابن قتيبة في المعارف شعراً ذكر أنه لتبع وهو:

(منح البقاءَ تقلبُ الشمسِ ... وطلوعها من حيث لا تُمْسِي) (وشروقها بيضاء صافية ... وغروبُها حمراءَ كالورْسِ) (وتشتت الأهواءِ أزعجني ... سيراً لأبلغ مطلع الشمسِ) (ولرب مطعمةٍ يعود لها ... رأي الحليم إلى شفا لبسِ) وفي تسميته تبعاً قولان: أحدهما: لأنه تَبعَ من قبله من ملوك اليمن كما قيل خليفة لأنه خلف من قبله. الثاني: لأنه اسم لملوك اليمن. وذم الله قومه ولم يذمه , وضرب بهم مثلاً لقريش لقربهم من دارهم , وعظمهم في نفوسهم , فلما أهلكهم الله ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك.

38

{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم} قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} فيه وجهان: أحدهما: غافلين، قاله مقاتل. الثاني: لاهين، قاله الكلبي. {وَمَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحِقِّ} فيه وجهان: أحدهما: للحق، قاله الكلبي. الثاني: بقول الحق، قاله مقاتل. قوله عز وجل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصَلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} يعني يوم القيامة، وفي تسميته بيوم الفصل وجهان: أحدهما: [إن الله] يفصل فيه أمور عباده. الثاني: لأنه يفصل فيه بين المرء وعمله.

43

{إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون} قوله عز وجل: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ} قد ذكرنا ما في الزقوم من الأَقاويل , وهو في اللغة ما أُكِلَ بكرْه شديد. ولهذا يقال قد تزقم هذا الطعام تزقماً أي هو في حكم من أكله بكره شديد لحشو فمه وشدة شره. وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل. وفي الأثيم وجهان: أحدهما: أنه الآثم، قاله ابن عيسى. الثاني: المشرك المكتسب للإثم، قاله يحيى. قوله عز وجل: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} فيه خمسة أوجه: أحدها: فجروه، قاله الحسن. الثاني: فادفعوه , قاله مجاهد. الثالث: فسوقوه , حكاه الكلبي. الرابع: فاقصفوه كما يقصف الحطب , حكاه الأعمش: الخامس: فردوه بالعنف , قاله ابن قتيبة. قال الفرزدق: (ليس الكرام بناحليك أباهم ... حتى ترد إلى عطية تعتل) {إلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} فيه وجهان: أحدهما: وسط الجحيم , قاله ابن عباس والضحاك وقتادة. الثاني: معظم الجحيم يصيبه الحر من جوانبها , قاله الحسن.

قوله عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} قال قتادة: نزلت في أبي جهل، وفيه أربعة أوجه: أحدها: معناه أنك لست بعزيز ولا كريم , لأنه قال توعدني محمد , والله إني لأعز من مشى حبليها , فرد الله عليه قوله , قاله قتادة. الثاني: أنك أنت العزيز الكريم عند نفسك , قاله قتادة أيضاً. الثالث: أنه قيل له ذلك استهزاء على جهة الإهانة , قاله سعيد بن جبير. الرابع: أنك أنت العزيز في قومك , الكريم على أهلك حكاه ابن عيسى.

51

{إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب إنهم مرتقبون} قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أمين من الشيطان والأحزان , قاله قتادة. الثاني: أمين من العذاب , قاله الكلبي. الثالث: من الموت , قاله مقاتل. قوله عز وجل: {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} فيهما ثلاثة أوجه: أحدها: أن السندس الحرير الرقيق , والاستبرق الديباج الغليظ , قاله عكرمة. الثاني: السندس يعمل بسوق العراق وهو أفخر الرقم، قاله يحيى، والاستبرق الديباج سمي استبرقاً لشدة بريقه، قاله الزجاج. الثالث: أن السندس ما يلبسونه، والاستبرق ما يفترشونه. وفي {مُّتَقَابِلينَ} وجهان:

أحدهما: متقابلين بالمحبة لا متدابرين بالبغضة , قاله علي بن عيسى. الثاني: متقابلين في المجالس لا ينظر بعضهم قفا بعض , قاله مجاهد. قوله عز وجل: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} يعني القرآن , وفيه وجهان: أحدهما: معناه جعلناه بلسانك عربياً. الثاني: أطلقنا به لسانك تيسيراً. {لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يرجعون. الثاني: يعتبرون. {فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فانتظر ما وعدتك من النصر عليهم. إنهم منتظرون بك الموت، حكاه النقاش. الثاني: وانتظر ما وعدتك من الثواب فإنهم من المنتظرين لما وعدتهم من العقاب، والله أعلم.

سورة الجاثية مكية كلها، في قول الحسن وعطاء وجابر وعكرمة، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية، وهي {قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه. بسم الله الرحمن الرحيم

الجاثية

{حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} قوله عز وجل: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ} يعني القرآن. {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وفي إضافة التنزيل إليه في هذا الموضع وفي أمثاله وجهان: أحدهما: افتتاح كتابه منه كما يفتتح الكاتب كتابه به. الثاني: تعظيماً لقدره وتضخيماً لشأنه عليه في الابتداء بإضافته إليه. قوله عز وجل: {وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني اختلافهما بالطول والقصر.

الثاني: اختلافهما بذهاب أحدهما ومجيء الآخر. {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: المطر الذي ينبت به الزرع وتحيا به الأرض. الثاني: ما قضاه في السماء من أرزاق العباد. {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تصريفها بإرسالها حيث يشاء. الثاني: ينقل الشمال جنوباً والجنوب شمالاً , قاله الحسن. الثالث: أن يجعلها تارة رحمة وتارة نقمة؛ قاله قتادة.

6

{تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم} قوله عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأفاك: الكذاب , قاله ابن جريج. الثاني: أنه المكذب بربه. الثالث: أنه الكاهن , قاله قتادة. {يَسْمَعُءَآيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيهِ} يعني القرآن. {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} فيه تأويلان: أحدها: يقيم على شركه مستكبراً عن طاعة ربه، وهو معنى قول يحيى بن سلام. الثاني: أن الإصرار على الشيء العقد بالعزم عليه، وهو مأخوذ من صَرَّ الصُّرَّةَ إذا شدها، قاله ابن عيسى.

{كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} في عدم الاتعاظ بها والقبول لها. {فَبِشَّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قال ابن جريج نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث.

12

{الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون} قوله عز وجل: {قُلْ لِّلَّذِينَءَامَنُوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا ينالون نعم الله , قاله مجاهد. الثاني: لا يخشون عذاب الله , قاله الكلبي ومقاتل. الثالث: لا يطمعون في نصر الله في الدنيا ولا في الآخرة، قاله ابن بحر. وفي المراد بأيام الله وجهان: أحدهما: أيام إنعامه وانتقامه في الدنيا , لأنه ليس في الآخرة، وتكون الأيام وقتاً وإن تكن أياماً على الحقيقة. وفي الكلام أمر محذوف فتقديره: قل للذين آمنوا إغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله. الغفران ها هنا العفو وترك المجازاة على الأذى. وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من المشركين فهمَّ أن يبطش به، فلما نزل ذلك فيه كف عنه. وفي نسخ هذه الآية قولان:

أحدهما: أنها ثابتة في العفو عن الأذى في غير الدين. الثاني: أنها منسوخة وفيما نسخها قولان: أحدهما: بقوله سبحانه {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} قاله قتادة. الثاني: بقوله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُواْ} قاله أبو صالح.

16

{ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون} قوله عز وجل: {وَءَاتَينَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} فيه وجهان: أحدهما: ذكر الرسول وشواهد نبوته. الثاني: بيان الحلال والحرام , قاله السدي. {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ} فيه قولان: أحدهما: من بعد يوشع بن نون فآمن بعضهم وكفر بعضهم , حكاه النقاش. الثاني: بعدما أعلمهم الله ما في التوراة. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: طلباً للرسالة وأنفة من الإذعان للصواب , حكاه ابن عيسى. الثاني: بغياً على رسول الله صلى عليه وسلم في جحود ما في كتابهم من نبوة وصفته، قاله الضحاك.

الثاني: أنهم أرادوا الدنيا ورخاءها فغيروا كتابهم وأحلوا فيه ما شاؤوا وحرموا ما شاؤوا , قاله يحيى بن آدم. قوله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ} أي على طريقة من الدين كالشريعة التي هي طريق إلى الماء , ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد. وفي المراد بالشريعة أربعة أقاويل: احدها: أنها الدين , قاله ابن زيد , لأنه طريق للنجاة. الثاني: أنها الفرائض والحدود والأمر والنهي , قاله قتادة لأنها طريق إلى الدين. الثالث: أنها البينة , قاله مقاتل: لأنها طريق الحق. الرابع: السنة , حكاه الكلبي لأنه يستنّ بطريقة من قبله من الأنبياء.

21

{أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ} أي اكتسبوا الشرك. قال الكلبي: الذين أريد بهم هذه الآية عتبه وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. {أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قال الكلبي أريد بهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أفرأيت من اتخذ دينه ما يهواه , فلا يهوى شيئاً إلا ركبه، قاله ابن عباس.

الثاني: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه ويستحسنه , فإذا استحسن شيئاً وهو به اتخذه إلهاً , قاله عكرمة , قاله سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر. فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. الثالث: أفرأيت من ينقاد لهواه انقياده لإلهه ومعبوده تعجباً لذوي العقول من هذا الجهل. {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فيه تأويلان: أحدهما: وجده ضالاً , حكاه ابن بحر. الثاني: معناه ضل عن الله. ومنه قول الشاعر: (هبوني امرأً منكم اضلَّ بعيره ... له ذمة إن الذمام كثير) أي ضل عنه بعيره. وفي قوله: {عَلَى عِلْمٍ} وجهان: أحدهما: على علم منه أنه ضال , قاله مقاتل. الثاني: قاله ابن عباس أي في سابق علمه أنه سيضل. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى. {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غَشَاوَةً} حتى لا يبصرالرشد. ثم في هذا الكلام وجهان: أحدهما: أنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم. الثاني: أنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم. وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة , وحكى الضحاك أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف.

24

{وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا

بآبائنا إن كنتم صادقين قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله عز وجل: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} وهذا القول منهم إنكار للآخرة وتكذيب بالبعث وإبطال للجزاء. {نَمُوتُ وَنَحْيَا} فيه وجهان: أحدهما: أنه مقدم ومؤخر , وتقديره: نحيا نموت. وهي كذلك في قراءة ابن مسعود. الثاني: أنه على تربيته , وفي تأويله وجهان: أحدهما: نموت نحن ويحيا أولادنا، قاله الكلبي. الثاني: يموت بعضنا. {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: وما يهلكنا إلا العمر , قاله قتادة. وأنشد قول الشاعر: (لكل أمر أتى يوماً له سبب ... والدهر فيه وفي تصريفه عجب) الثاني: وما يهلكنا إلا الزمان , قاله مجاهد. وروى أبو هريرة قال: كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار , والذي يهلكنا يميتنا ويحيينا , فنزلت هذه الآية. الثالث: وما يهلكنا إلا الموت , قاله قطرب , وأنشد لأبي ذؤيب: (أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع) الرابع: وما يهلكنا إلا الله , قاله عكرمة. وروى الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رجال يقولون: يا خيبة الدهر , يا

بؤس الدهر , لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل هو الدهر , وإنه يقبض الأيام ويبسطها).

27

{ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} قوله عز وجل: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} الأمة أهل كل ملة. وفي الجاثية خمسة تأويلات: أحدها: مستوفزة , قاله مجاهد. وقال سفيان: المستوفز الذي لا يصيب منه الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله. الثاني: مجتمعة , قاله ابن عباس. الثالث: متميزة , قاله عكرمة. الرابع: خاضعة بلغة قريش , قاله مؤرج. الخامس: باركة على الركب , قاله الحسن. وفي الجثاة قولان: أحدهما: أنه للكفار خاصة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه عام للمؤمن والكافر انتظاراً للحساب. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم. {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلى حسابها، قاله يحيى بن سلام.

الثاني: إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر , قاله الكلبي. الثالث: إلى كتابها الذي أنزل على رسولها , حكاه الجاحظ. قوله عز وجل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه القرآن يدلكم على ما فيه من الحق , فكأنه شاهد عليكم , قاله ابن قتيبة. الثاني: أنه اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من سعادة وشقاء , خير وشر , قاله مقاتل , وهو معنى قول مجاهد. الثالث: أنه كتاب الأعمال الذي يكتب الحفظة فيه أعمال العباد ويشهد عليكم بما تضمنه من صدق أعمالكم , قاله الكلبي. {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني يكتب الحفظة ما كنتم تعملون في الدنيا , قاله علي رضي الله عنه ومن زعم أنه كتاب الأعمال. الثاني: أنه الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوَّن عندها من أحوال العباد , قاله ابن عباس ومن زعم أن الكتاب هو اللوح المحفوظ. الثالث: نستنسخ ما كتب عليكم الملائكة الحفظة , قاله الحسن لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال.

30

{فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا

يخرجون منها ولا هم يستعتبون فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} قوله عز وجل: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري , قاله الضحاك. الثاني: اليوم نترككم من الرحمة كما تركتم الطاعة , وهو محتمل الثالث: اليوم نترككم من الخير كما تركتمونا من العمل , قاله سعيد بن جبير. قوله عز وجل: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الكبرياء العظمة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه السلطان , قاله مجاهد. الثالث: الشرف , قاله ابن زياد. الرابع: البقاء والخلود. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتقامه {الْحَكِيمُ} في تدبيره.

سورة الأحقاف مكية في قول الجميع إلا رواية تشذ عن ابن عباس وقتادة أنها كذلك إلا آية منها مدنية وهي {قل أرأيتم إن كان من عند الله} وقال الكلبي: بل هي {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}. بسم الله الرحمن الرحيم

الأحقاف

{حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} قوله عز وجل: {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فيه وجهان: أحدهما: معناه قُضِي نزول الكتاب من الله العزيز الحكيم , قاله النقاش. الثاني: هذا الكتاب يعني القرآن تنزيل من الله العزيز الحكيم , قاله الحسن. قوله عز وجل: {مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} فيه أربعة أوجه:

أحدها: إلا بالصدق , قاله ابن إسحاق. الثاني: إلا بالعدل , وهو مأثور. الثالث: إلا للحق , قاله الكلبي. الرابع: إلا للبعث , قاله يحيى. {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} فيه وجهان: أحدهما: أنه أجل القيامة، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الأجل المقدور لكل مخلوق، وهو محتمل. قوله عز وجل: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} قرأ الحسن وطائفة معه {أَوْ أَثَرَةٍ} وفي تأويل {أَوْ أَثَارَةٍ} وهي قراءة الجمهور ثلاثة أوجه: أحدها: رواية من علم , قاله يحيى. الثاني: بقية , قاله أبو بكر بن عياش , ومنه قول الشاعر: (وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمته قفارا) أي بقية من شحم. الثالث: أو علم تأثرونه عن غيركم , قاله مجاهد. ويحتمل رابعاً: أو اجتهاد بعلم , لأن أثارة العلم الاجتهاد. ويحتمل خامساً: أو مناظرة بعلم لأن المناظر في العلم مثير لمعانيه. ومن قرأ {أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} ففي تأويله خمسة أوجه: أحدها: أنه الخط , وقد رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: ميراث من علم , قاله عكرمة. الثالث: خاصة من علم، قاله قتادة. الرابع: أو بقية من علم، قاله عطية. الخامس: أثرة يستخرجه فيثيره، قاله الحسن.

7

{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين} قوله عز وجل: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} قال ابن عباس: معناه لست بأول الرسل. والبدع الأول. والبديع من كل شيء المبتدع , وأنشد قطرب لعدي بن زيد: (فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً غدت من بعد بؤسي بأسعد) {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا لا في الآخرة، فلا أدري ما يفعل بي أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي , أو أُقتل كما قتل الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم، إنكم مصدقون أو مكذبون، أو معذبون أو مؤخرون، قاله الحسن: الثاني: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة. وهذا قبل نزول {لِيَغْفِر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية. فلما نزل عليه ذلك عام الحديبية علم ما يفعل به في الآخرة وقال لأصحابه: (لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ آيَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا) فلما تلاها قال رجل من القوم: هنيئاً يا رسول الله , قد بين الله ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية. قاله قتادة. الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الهجرة (لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَرْضاً أَخْرُجُ إِلَيْهَا مِن مَكَّةَ) فلما اشتد البلاء على أصحابه بمكة قالوا: يا رسول الله حتى متى نلقى هذا

البلاء؟ ومتى تخرج إلى الأرض التي رأيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُم , أَنَمُوتُ بِمَكَّةَ أَمْ نَخْرُجُ مِنهَا) قال الكلبي. الرابع: معناه قل لا أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به , قاله الضحاك.

10

{قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} قوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ} فيه قولان: أحدهما: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به , قاله يحيى. الثاني: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً من عند الله وكفرتم به , قاله الشعبي. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَني إِسْرَآئِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه عبد الله بن سلام شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة , قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد. الثاني: أنه آمين بن يامين، قال لما أسلم عبد الله بن سلام: أنا شاهد مثل شهادته ومؤمن كإيمانه، قاله السدي. الثالث: أن موسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم يشهد بنبوته، والتوراة مثل القرآن يشهد بصحته، قاله مسروق. ولم يكن في عبد الله بن سلام لأنه أسلم بالمدينة والآية مكية. الرابع: هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة، قاله الشعبي. الخامس: أنه موسى الذي هو مثل محمد صلى الله عليهما شهد على التوراة. التي هي مثل القرآن، حكاه ابن عيسى.

{فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله مسروق. وفي قولان: أحدهما: فآمن عبد الله بن سلام برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن واستكبر الباقون عن الإيمان , قاله ابن عباس. الثاني: فآمَن مَن آمن بموسى وبالتوراة واستكبرتم أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن , قاله مسروق. وحكى النقاش أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره: قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن هو وكفرتم. وقال ابن عيسى: الكلام على سياقه ولكن حذف منه جواب إن كان من عند الله وفي المحذوف ثلاثة أوجه: أحدها: تقديره: وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن , أتؤمنون؟ قاله الزجاج. الثاني: تقدير المحذوف: فآمن واستكبرتم أفما تهلكون , قاله مذكور. الثالث: تقدير المحذوف من جوابه: فمن أضل منكم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. قوله عز وجل: {وَقَالَ الِّذِينَ كَفَرُواْ لِلِّذِينَءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وفي سبب نزول هذه الآية أربعة أقاويل: أحدها: أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة فأجاب واستجاب به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم , ثم دعاهم الزعيم فأسلموا فبلغ ذلك قريشاً فقالوا: غفار الخلفاء لو كان خيراً ما سبقونا إليه. فنزلت , قاله أبو المتوكل. الثاني: أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها , فقالوا لها: أصابك اللات والعزى , فرد الله عليها بصرها , فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خير ما سبقتنا إليه زنيرة فنزلت , قاله عروة بن الزبير. الثالث: أن الذين كفروا هم عامر وغطفان وأسد وحنظلة قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وغطفان وجهينة ومزينة وأشجع: لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه رعاة البهم. فنزلت , قاله الكلبي. الرابع: أن الكفار قالوا: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه اليهود فنزلت هذه الآية , قاله مسروق.

وهذه المعارضة من الكفار في قولهم لو كان خيراً ما سبقونا إليه من أقبح المعارضات لانقلابها عليهم لكل من من خالفهم حتى يقال لهم: لو كان ما أنتم عليه خيراً ما عدنا عنه , ولو كان تكذيبكم للرسول خيراً ما سبقتمونا إليه. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} يعني إلى الإيمان. وفيه وجهان: أحدهما: وإذا لم يهتدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم , قاله مقاتل. الثاني: بالقرآن. {فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: فسيقولون هذا القرآن كذب قديم , تشبيهاً بدين موسى القديم , تكذيباً بهما جيمعاً. قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: ثم استقاموا على أن الله ربهم , قاله أَبو بكر الصديق رضي الله عنه. الثاني: ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. الثالث: على أداء فرائض الله , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. الرابع: على أن أخلصوا له الدين والعمل , قاله أبو العالية. الخامس: ثم استقاموا عليه فلم يرجعوا عنه إلى موتهم , رواه أنس مرفوعاً. {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِم} يعني في الآخرة. {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يعني عند الموت , قاله سعيد بن جبير.

15

{ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم

أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} قوله عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْه إحْسَاناً} في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسناً. قال السدي: يعني براً. {حَمَلْتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة. وقرىء كرهاً بالضم والفتح. قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره. {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَ ثُونُ شَهْراً} الفصال مدة الرضاع , فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وكان في هذا التقدير قولان: أحدهما: أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع , فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهراً لقوله تعالى: {حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر , فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع , قاله الشافعي وجمهور الفقهاء. الثاني: أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع , فإن كانت حملته تسعة أشهر؛ أرضعته أحداً وعشرين شهراً , وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهراً لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهراً، قاله ابن عباس. {حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وفي الأشد تسعة أقاويل: أحدها: أنه البلوغ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم. الثاني: خمسة عشر سنة، قاله محمد بن أويس. الثالث: ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير. الرابع: عشرون سنة، قاله سنان.

الخامس: خمسة وعشرون سنة , قاله عكرمة. السادس: ثلاثون سنة , قاله السدي. السابع: ثلاثة وثلاثون سنة , قاله ابن عباس. الثامن: أربعة وثلاثون سنة , قاله سفيان الثوري. التاسع: أربعون سنة , وهو قول عائشة , والحسن. {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لأنها زمان الأشد , وهو قول من ذكرنا. الثاني: لأنها زمان الاستواء , قال زيد بن أسلم: لم يبعث الله نبياً حتى يبلغ الأربعين. وقال ابن زيد: وقوله تعالى لموسى {وَاسْتَوَى} قال بلغ أربعين سنة. وقال الشعبي: يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة , وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة , وينتهي عقله لثمان وعشرين , فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين. الثالث: لأنها أول عمر بعد تمام عمر , قال ابن قيس. {رَبِّ أَوْزِعْنِي} قال سفيان معناه ألهمني. قال ابن قتيبة: والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء , ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به. {أَن أَشْكُر نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنعمت علي بالبر والطاعة , وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة. الثاني: أنعمت عليَّ بالعافية والصحة , وعلى والديَّ بالغنى والثروة , وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة. وحكى أبو زهير عن الأعمش قال: سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال: يأتيه رزقه وهو في بطن أمه , ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه , واشترك أبوه في الثالثة , وتفرد هو

بالرابعة، فذهب عنه الهم لما كان موكلاً إلى غيره , واهتم لما صار موكلاً إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون نقى لهمته وأقل لحيرته وأدرّ لرزقه , وليعلم أن لأمه عليه حقاً يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: في بر الوالدين. الثاني: في ديني. {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يدعو بإصلاحهم لبره وطاعته لإضافته ذلك إلى نفسه. الثاني: أن يدعو بإصلاحهم لطاعة الله وعبادته وهو الأشبه , لأن طاعتهم لله من بره , ولأنه قد دعا بصلاح ذرية قد تكون من بعده. وفيه لأصحاب الخواطر أربعة أوجه: أحدها: قاله سهل: اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق. الثاني: قاله أبو عثمان: اجعلهم أبراراً , أي مطيعين لك. الثالث: قاله ابن عطاء وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. الرابع: قاله محمد الباقر رضي الله عنه: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً. {إنِّي تُبْتُ إِِلَيكَ} قال ابن عباس: رجعت عن الأمر الذي كنت عليه. وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه , قاله مقاتل والكلبي. الثاني: مرسلة نزلت على العموم , قاله الحسن. قوله عز وجل: {أُوْلَئكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم , قاله زيد بن أسلم يحكيه مرفوعاً. الثاني: هو إعطاؤهم بالحسنة عشراً رواه أبو هلال. الثالث: هي الطاعات لأنها الأحسن من أعماله التي يثاب عليها وليس في المباح ثواب ولا عقاب , حكاه ابن عيسى. {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نتجاوز عن سيئاتهم بالرحمة. الثاني: نتجاوز عن صغائرهم بالمغفرة. الثالث: نتجاوز عن كبائرهم بالتوبة. {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ} وعد الصدق الجنة , الذي كانوا يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل.

17

{والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} قوله عز وجل: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكُمَا أَتَعِدَانَنِي أَنْ أُخْرَجَ}: أي أبعث. {وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي} فلم يبعثوا. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأمه أم رومان

يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث فيرد عليهما بما حكاه الله عنه , وكان هذا منه قبل إسلامه، قاله السدي. قال السدي: فلقد رأيت عبد الرحمن بن أبي بكر بالمدينة , وما بالمدينة أَعْبَدُ منه , ولقد استجاب الله فيه دعوة أبي بكر رضي الله عنه , ولما أسلم وحسن إسلامه , نزلت توبته في هذه الآية {وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُواْ}. الثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر , وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله تعالى , قاله مجاهد. الثالث: أنها نزلت في جماعة من الكفار قالوا ذلك لآبائهم ولذلك قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيهِم الْقَوْلُ} والعرب قد تذكر الواحد وتريد به الجمع وهذا معنى قول الحسن. فأما ال {أُفٍّ} فهي كلمة تبرم يقصد بها إظهار السخط وقبح الرد. قال الشاعر: (ما يذكر الدهر إلا قلت أف له ... إذا لقيتك لولا قال لي لاقي) وفي أصل الأف والتف ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأف وسخ الأذن , والتف وسخ الأنف. الثاني: الأف وسخ الأظفار , والتف الذي يكون في أصول الأظافر. الثالث: أن الأف العليل الأنف , والتف الإبعاد. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّه} أي يدعوان الله: اللهم اهده , اللهم اقبل بقلبه، اللهم اغفر له. {وَيْلَكَءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} في الثواب على الإيمان، والعقاب على الكفر. قوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: معناه أذهبتم طيباتكم في الآخرة بمعاصيكم في الدنيا. الثاني: ألهتكم الشهوات عن الأعمال الصالحة.

الثالث: أذهبتم لذة طيباتكم في الدنيا بما استوجبتموه من عقاب معاصيكم في الآخرة. الرابع: معناه اقتنعتم بعاجل الطيبات في الدنيا بدلاً من آجل الطيبات في الآخرة. وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكباداً وأسنمة وصلاء وصناباً وسلائق , ولكن أستبقي حسناتي، فإن الله تعالى وصف قوماً فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} والصلاء , والشواء , والصناب الأصبغة والسلائق الرقاق العريض. وقال ابن بحر فيه تأويل خامس: أن الطيبات: الشباب والقوة , مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه أي شبابه وقوته. ووجدت الضحاك قاله أيضاً. {وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} يحتمل وجهين: أحدهما: بالدنيا. الثاني: بالطيبات. {فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ} قال مجاهد: الهون الهوان. قال قتادة بلغة قريش. {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تستعلون على أهلها بغير استحقاق. الثاني: تتغلبون على أهلها بغير دين. الثالث: تعصون الله فيها بغير طاعة. {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تفسقون في أعمالكم بغياً وظلماً. الثاني: في اعتقادكم كفراً وشركاً.

21

{واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين} قوله عز وجل: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ} وهو هود بعث إلى عاد , وكان أخاهم في النسب لا في الدين لأنه مناسب وإن لم يكن أخا أحد منهم. {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ} وهي جمع حقف , وهو ما استطال واعوج من الرمل العظيم , ولا يبلغ أن يكون جبلاً. ومنه قول العجاج: (بات إلى أرطاة حقف أحقفا ... ... ... ... ... ... ... . .) أي رمل مستطيل مشرق. وفيما أريد بالأحقاف هنا خمسة أقاويل: أحدها: أن الأحقاف رمال مشرقة كالجبال , قاله ابن زيد , وشاهده ما تقدم , وقال هي رمال مشرقة على البحر بالسحر في اليمن. الثاني: أن الأحقاف أرض من حسمي تسمى الأحقاف , قاله مجاهد. الثالث: أنه جبل بالشام يسمى الأحقاف , قاله الضحاك. الرابع: هو ما بين عمان وحضرموت , قاله ابن إسحاق. الخامس: هو واد بين عُمان ومهرة , قاله ابن عباس. وروى أبو الطفيل عن علي كرم الله وجهه أنه قال: خير واد بين في الناس واد بمكة , وواد نزل به آدم بأرض الهند , وشر واديين في الناس وادي الأحقاف , ووادٍ

بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار , وخير بئر في الناس بئر زمزم , وشر بئر في الناس بئر برهوت وهي ذلك الوادي حضرموت. {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي قد بعث الرسل من قبل هود ومن بعده , قال الفراء , من بين يديه من قبله , ومن خلفه من بعده وهي في قراءة ابن مسعود: {مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعدِهِ}. قوله عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْءَالِهَتِنَا} فيه وجهان: أحدهما: لتزيلنا عن عبادتها بالإفك. الثاني: لتصدنا عن آلهتنا بالمنع , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتهِمْ} يعني السحاب. وأنشد الأخفش لأبي كبير الهذلي: (وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المنهال) وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل: أحدها: لأنه أخذ في عرض السماء , قال ابن عيسى. الثاني: لأنه يملأ آفاق السماء , قال النقاش. الثالث: لأنه مار من السماء. والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه. {قَاُلواْ هَذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} حسبوه سحاباً يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عليهم. {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذابٌ أَلِيمٌ} كانوا حين أوعدهم هود استعجلوه استهزاء منهم بوعيده، فلما رأوا السحاب بعد طول الجدب أكذبوا هوداً وقالوا: هذا عارض ممطرنا. ذكر أن القائل ذلك من قوم عاد، بكر بن معاوية. فلما نظر هود إلى السحاب قال: بل هو ما استعجلتم به , أي الذي طلبتم تعجيله ريح فيها عذاب أليم وهي الدبور.

وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) فنظر بكر بن معاوية إلى السحاب فقال: إني لأرى سحاباً مُرْمِداً , لا يدع من عَادٍ أحداً. فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم. قال ابن اسحاق: واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه فيها إلا ما يلين على الجلود وتلتذ الأنفس به , وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض. وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك: (فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا) (عصفت ريح عليهم ... تركت عاداً خمودا) (سخرت سبع ليال ... لم تدع في الأرض عودا) وعمَّر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة.

26

{ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ مََّكنَّاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكنَّاكُمْ فِيهِ} فيه وجهان: أحدهما: فيما لم نمكنكم فيه , قاله ابن عباس. الثاني: فيما مكناكم فيه وإن هنا صلة زائدة.

ويحتمل ثالثاً: وهو أن تكون ثابتة غير زائدة ويكون جوابها مضمراً محذوفاً ويكون تقديره: ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد. ثم ابتدأ فقال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} الآية. يحتمل وجهين: أحدهما: أننا جعلنا لهم من حواس الهداية ما لم يهتدوا به. الثاني: معناه جعلنا لهم أسباب الدفع ما لم يدفعوا به عن أنفسهم.

29

{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين} قوله عز وجل: {وَإذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْءانَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم , فقالوا: ما هذا الذي حدث في الأرض؟ فضربوا في الأَرض حتى وقفوا على النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عائداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر , فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي ويقتدي به أصحابه، فرجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً، قاله ابن عباس. وحكى عكرم أن السورة التي كان يقرأها ببطن نخلة {اقرأْ بِاسِمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وحكى ابن عباس كان يقرأ في العشاء {كَادوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}.

الثاني: أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله لهم حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة. وفيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنهم جن من أهل نصيبين , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم من أهل نينوى , قاله قتادة. الثالث: أنهم من جزيرة الموصل , قاله عكرمة. الرابع: من أهل نجران , قاله مجاهد. واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل , قاله عكرمة. الثاني: أنهم كانوا تسعة أحدهم زوبعة , قاله زر بن حبيش. الثالث: أنهم كانوا سبعة: ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين , وكانت أسماؤهم حسى ومسى وشاصر وناصر والأردن وأنيان الأحقم , قاله مجاهد. واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم على قولين: أحدهما: أنه ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه فيهم وأخبره عنهم , قاله ابن عباس , والحسن. الثاني: أن الله قد كان أعلمه بهم قبل مجيئهم. روى شعبة عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنِّي أمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي) فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك , قال عكرمة: وقال لابن مسعود: (لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ) فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لَوْ ذَهَبْتَ مَا التَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم تلا عليهم القرآن وقضى بينهم في قتيل منهم.

وروى قتادة عن ابن مسعود أنهم سألوه الزاد فقال: (كُلُّ عَظْمٍ لَكُم عِرْقٌ , وَكُلٌّ رَوَثَةٍ لَكُم خَضِرَةٌ) فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا , فنهى سول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما. روى عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ وَفْدَ الجِنَّ سَأَلُونِي المَتَاع , - وَالمَتَاعُ: الزَّادُ - فَمَتَّعْتُهُم بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَبَعْرَةٍ أَوْ رَوَثَةٍ) فقلت: يا رسول الله وما يغني عن ذلك عنهم؟ فقال: (إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل , ولا روثة ولا بعرة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت , فلا يستنجين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة). {فَلَمَّا حَضَرُوه قَالُواْ أنصِتُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: فلما حضروا قراءة القرآن قال بعضهم لبعض أنصتوا لسماع القرآن. الثاني: لما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أنصتوا لسماع قوله. {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين برسول الله صلى الله عليه وسلم , قال الكلبي: مخوفين: قاله الضحاك. الثاني: فلما فرغ من قرءاة القرآن ولوا إلى قومهم منذرين , حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. قوله عز وجل: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ} أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {فَليسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} أي سابق لله فيفوته هرباً.

33

{أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون

فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} قوله عز وجل: {فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِن الرُّسُلِ} فيهم ستة أوجه: أحدها: أن أولي العزم من الرسل الذين أمروا بالقتال من الأنبياء , قاله السدي والكلبي. الثاني: أنهم العرب من الأنبياء , قاله مجاهد والشعبي. الثالث: من لم تصبه فتنة من الأنبياء , قاله الحسن. الرابع: من أصابه منهم بلاء بغير ذنب , قاله ابن جريج. الخامس: أنهم أولوا العزم , حكاه يحيى. السادس: أنهم أولوا الصبر الذين صبروا على أذى قومهم فلم يجزعوا. وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لم يرض عن أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على مخبوئها). وفي أولي العزم منهم ستة أقاويل: أحدها: أن جميع الأنبياء أولوا العزم , ولم يبعث الله رسولاً إلا كان من أولي العزم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا , قاله ابن زيد. الثاني: أن أولي العزم منهم نوح وهود وإبراهيم , فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم , قاله أبو العالية. الثالث: أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى , قاله ابن عباس. الرابع: أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى , قاله عبد العزيز. الخامس: أنهم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم , قاله السدي.

السادس: أن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب , وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم , قاله ابن جريج. {وَلاَ تَسْتَعْجِلَ لَّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: بالدعاء عليهم , قاله مقاتل. الثاني: بالعذاب وهذا وعيد. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من العذاب , قاله يحيى. الثاني: من الآخرة , قاله النقاش. {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِن نَّهَارٍ} فيه وجهان: أحدهما: في الدنيا حتى جاءهم العذاب , وهو مقتضى قول يحيى. الثاني: في قبورهم حتى بعثوا للحساب , وهو مقتضى قول النقاش. {بَلاَغٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك اللبث بلاغ , قاله ابن عيسى. الثاني: أن هذا القرآن بلاغ , قاله الحسن. الثالث: أن هذا الذي وصفه الله بلاغ، وهو حلول ما وعده إما من الهلاك في الدنيا أو العذاب في الآخرة على ما تقدم من الوجهين: {فَهَلْ يُهْلَكُ} يعني بعد هذا البلاغ. {إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} قال يحيى: المشركون. وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولوا العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له، والله أعلم.

سورة محمد مدنية في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة حين خرج (عليه السلام) من مكة جعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزناً عليه: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك} الآية. بسم الله الرحمن الرحيم

محمد

{الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} قوله عز وجل: {الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني كفروا بتوحيد الله. {وَصَدُّواْ عَن سَبيلِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: عن الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه , قاله السدي. الثاني: عن بيت الله يمنع قاصديه إذا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - عليهم الإسلام أن يدخلوا فيه , قاله الضحاك. {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أحبط ما فعلوه من الخير بما أقاموا عليه من الكفر.

الثاني: أبطل ما أنفقوا ببدر لما نالهم من القتل. الثالث: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عن التوفيق. وحكى مقاتل بن حيان أن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من كفار مكة , ذكر النقاش أنهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عقبة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وأبو البختري وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَءَامَنواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الأنصار , قاله ابن عباس. الثاني: أنها نزلت خاصة في ناس من قريش , قاله مقاتل. وفي قوله: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} فيه قولان: أحدهما: المواساة بمساكنهم وأموالهم , وهذا قول من زعم أنهم الأنصار. الثاني: الهجرة وهذا قول من زعم أنهم قريش. {وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} أي آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه من القرآن. {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن إيمانهم هو الحق من ربهم. الثاني: أن القرآن هو الحق من ربهم. {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: سترها عليهم. الثاني: غفرها بإيمانهم. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أصلح شأنهم , قاله مجاهد. الثاني: أصلح حالهم، قاله قتادة. الثالث: أصلح أمرهم، قاله ابن عباس، والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم.

الرابع: أصلح نياتهم. حكاه النقاش، ومنه قول الشاعر: (فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا) وهو على هذا التأويل محمول على إصلاح دينهم، والبال لا يجمع لأنه أبهم إخوانه من الشأن والحال والأمر. قوله عز وجل: {ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ} فيه قولان: أحدهما: أن الباطل الشيطان، قاله مجاهد. الثاني: إبليس، قاله قتادة، وسُمِّي بالباطل لأنه يدعو إلى الباطل. ويحتمل ثالثاً: أنه الهوى. {وَأَنَّ الَّذِينَءَامَنُوا اتَّبعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: اتبعوا الرسول , لأنه دعاهم إلى الحق وهو الإسلام. الثاني: يعني القرآن سمي حقاً لمجيئه بالحق. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} قال يحيى: صفات أعمالهم , وفي الناس هنا قولان: أحدهما: أنه محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الكلبي. الثاني: جميع الناس , قاله مقاتل.

4

{فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} قوله عز وجل: {فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} فيهم هنا قولان:

أحدهما: أنهم عبدة الأوثان , قاله ابن عباس. الثاني: كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة. وفي قوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وجهان: أحدهما: ضرب أعناقهم صبراً عند القدرة عليهم. الثاني: أنه قتلهم بالسلاح واليدين , قاله السدي. {حَتَّى إِذَآ أَثخَنُتُموهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ} يعني بالإثخان الظفر , وبشد الوثاق الأسر. {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} في المَنِّ هنا قولان: أحدهما: أنه العفو والإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه على ثمامة بن أثال بعد أسره. الثاني: أنه العتق , قاله مقاتل. فأما الفداء ففيه وجهان: أحدهما: أنه المفاداة على مال يؤخذ من أسير يطلق , كما فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر كل أسير بأربعة آلاف درهم , وفادى في بعض المواطن رجلاً برجلين. الثاني: أنه البيع , قاله مقاتل. {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن أوزار الحرب أثقالها , والوزر الثقل ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال , وأثقالها السلاح. الثاني: هو [وضع] سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة , قال الشاعر: (وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالاً وخيلاً ذكوراً) الثالث: حتى تضع الحرب أوزار كفرهم بالإسلام , قاله الفراء. الرابع: حتى يظهر الإسلام على الدين كله , وهو قول الكلبي.

الخامس: حتى ينزل عيسى ابن مريم , قاله مجاهد. ثم في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها منسوخة بقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِم لَعَلَّهُمْ يَذَّكُرُونَ} [الأنفال: 57] قاله قتادة. الثاني: أنها ثابتة الحكم , وأن الإمام مخير في من أسره منهم بين أربعة أمور: أن يقتل لقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} , أو يسترق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استرق العقيلي , أو يَمُنُّ كما مَنَّ على ثمامة , أو يفادي بمال أو أَسرى , فإذا أسلموا أسقط القتل عنهم وكان في الثلاثة الباقية , على خياره , وهذا قول الشافعي. {ذلِك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لا نَتصَرَ مِنهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: بالملائكة , قاله الكلبي. الثاني: بغير قتال , قاله الفراء. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قراءة أبي عمرو وحفص , قال قتادة: هم قتلى أحد. وقرأ الباقون {قَاتَلُواْ}. صلى الله عليه وسلم ; صلى الله عليه وسلم ; {سَيَهْدِيهِمْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يحق لهم الهداية، قاله الحسن. الثاني: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر , قاله زياد. الثالث: يهديهم إلى طريق الجنة، قاله ابن عيسى. قوله عز وجل: {وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: عرفها بوصفها على ما يشوق إليها، حكاه ابن عيسى. الثاني: عرفهم ما لهم فيها من الكرامة، قاله مقاتل. الثالث: معنى عرفها أي طيبها بأنواع الملاذ , مأخوذ من العرف وهي الرائحة الطيبة , قاله بعض أهل اللغة. الرابع: عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يسألون عنها , قاله مجاهد. قال الحسن:

وصف الجنة لهم في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها. ويحتمل خامساً: أنه عرف أهل السماء انها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِن تَنصُرواْ اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: إن تنصروا دين الله ينصركم الله. الثاني: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله , قاله قطرب. {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ويثبت أقدامكم في نصره. الثاني: عند لقاء عدوه. ثم فيه وجهان: أحدهما: يعني تثبيت الأقدام بالنصر. الثاني: يريد تثبيت القلوب بالأمن. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: خزياً لهم , قاله السدي. الثاني: شقاء لهم , قاله ابن زيد. الثالث: شتماً لهم من الله , قاله الحسن. الرابع: هلاكاً لهم , قال ثعلب. الخامس: خيبة لهم , قاله ابن زياد. السادس: قبحاً لهم , حكاه النقاش. السابع: بعدائهم , قاله ابن جريج. الثامن: رغماً لهم , قاله الضحاك. التاسع: أن التعس الانحطاط والعثار , حكاه ابن عيسى.

10

{أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم وكأين من قرية هي

أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم} قوله عز وجل: {وَكَأيّن مِّن قَرْيَةٍ} أي وكم من قرية , وأنشد الأخفش للبيد: (وكائن رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل) فيكون معناه: وكم من أهل قرية. {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً} أي أهلها أشد قوة. {مِّن قَرْيَتِكَ} يعني مكة. {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} أي أخرجك أهلها عند هجرتك منها. {أَهْلكْنَاهُمْ} يعني بالعذاب. {فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} يعني فلا مانع لهم منا , وهذا وعيد.

14

{أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم} قوله عز وجل: {أَفَمَن كَان عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن زيد. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم , قاله أبو العالية , والبينة الوحي. الثالث: أنهم المؤمنون , قاله الحسن , والبينة معجزة الرسول. الرابع: أنه الدين , قاله الكلبي. {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} فيه قولان: أحدهما: عبادتهم الأوثان , قاله الضحاك. الثاني: شركهم، قاله قتادة، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم كافة المشركين.

الثاني: أنهم الإثنا عشر رجلاً من قريش. وفيمن زينه لهم قولان: أحدهما: الشيطان. الثاني: أنفسهم. {وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُم} فيه قولان: أحدهما: أنه نعت لمن زين له سوء عمله. الثاني: أنهم المنافقون , قاله ابن زيد.

16

{ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم} قوله عز وجل: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} هم المنافقون: عبد الله بن أُبيّ بن سلول , ورفاعة بن التابوت، وزيد بن الصليت , والحارث بن عمرو، ومالك بن الدخشم. وفيما يستمعونه قولان: أحدهما: أنهم كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه , قاله الكلبي ومقاتل. الثاني: أنهم كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين , فيسمعون منه ما يقول , فيعيه المؤمن ولا يعيه المنافق. {حَتَّى إِذا خَرَجُواْ مِن عِندِكَ} أي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. {قَالُواْ لِلَّذِينَ أوتُواْ الْعِلْمَ} فيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنه عبد الله بن عباس، قاله عكرمة.

الثاني: عبد الله بن مسعود , قاله عبد الله بن بريدة. الثالث: أبو الدرداء , قاله القاسم بن عبد الرحمن. الرابع: أنهم الصحابة , قاله ابن زيد. {مَاذَا قَالَءَانِفاً} هذا سؤال المنافقين للذين أُوتوا العلم إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه وجهان: أحدهما: يعني قريباً. الثاني: مبتدئاً. وفي مقصودهم بهذا السؤال وجهان: أحدهما: الإستهزاء بما سمعوه. الثاني: البحث عما جهلوه. قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإستهزاء زاد المؤمنين هدى , قاله الفراء. الثاني: أن القرآن زادهم هدى , قاله ابن جريج. الثالث: أن الناسخ والمنسوخ زادهم هدى , قاله عطية. وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل: أحدها: زادهم علماً , قاله الربيع بن أنس. الثاني: علموا ما سمعوا , وعلموا بما عملوا , قاله الضحاك. الثالث: زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم، قاله الكلبي. الرابع: شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان. ويحتمل خامساً: والذين اهتدوا بالحق زادهم هدى للحق. {وَءاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: آتاهم الخشية، قاله الربيع. الثاني: ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي. الثالث: وفقهم للعمل الذي فرض عليهم، قاله مقاتل. الرابع: بين لهم ما يتقون , قاله ابن زياد.

الخامس: أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية. قوله عز وجل: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغْتَةً} أي فجأة. {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أشراطها آياتها , قاله ابن زيد. الثاني: أوائلها , قاله ابن عباس. الثالث: أنه انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن. الرابع: ظهور النبي , قاله الضحاك. قال الضحاك لأنه آخر الرسل وأمته آخر الأمم , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتِينِ) وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. {فَأَنَّى لَهُمْ} قال السدي: معناه فكيف لهم النجاة. {إذَا جَآءَتْهُمْ ذِكرَاهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: إذا جاءتهم الساعة , قاله قتادة. الثاني: إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة , قاله ابن زيد. وفي الذكرى وجهان: أحدهما: تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر. الثاني: هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيراً أو تخويفاً. روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَحْسِنُواْ أَسْمَآءَكُم فَإِنَّكُم تُدْعَوْنَ

بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ , يَا فُلاَنُ قُمْ إِلَى نُورِكَ , يَا فُلاَنُ قُمْ فَلاَ نُورَ لَكَ). قوله عز وجل: {فَاعلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ} وفي - وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم عالماً به - ثلاثة أوجه: أحدها: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني: ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقيناً. الثالث: يعني فاذكر أن لا إله إلا الله , فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب. {وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي استغفر لهم ذنوبهم. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: متقلبكم في أسفاركم , ومثواكم في أوطانكم. الثاني: متقلبكم في أعمالكم نهاراً ومثواكم في ليلكم نياماً.

20

{ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزَّلِتْ سُورَةٌ} كان المؤمنون إذا تأخر نزول القرآن اشتاقوا إليه وتمنوه ليعلموا أوامر الله وتعبده لهم. {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} وفي قراءة ابن مسعود: فإذا أنزلت سورة محدثة {وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ}. في السورة المحكمة قولان: أحدهما: أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام، قاله ابن زياد النقاش.

الثاني: أنها التي يذكر فيها القتال: وهي أشد القرآن على المنافقين , قاله قتادة. ويحتمل: ثالثاً: أنها التي تضمنت نصوصاً لم يتعقبها ناسخ ولم يختلف فيها تأويل: {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم المنافقون , لأن قلوبهم كالمريضة بالشك. فإذا أنزلت السورة المحكمة سر بها المؤمنون وسارعوا إلى العمل بما فيها , واغتم المنافقون ونظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. {نَظَرَ الْمَغْشِّيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوتِ} غماً بها وفزعاً منها. {فَأَوْلَى لَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه وعيد , كأنه قال: العقاب أولى لهم , قاله قتادة. الثاني: أولى لهم , {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} من أن يجزعوا من فرض الجهاد عليهم , قاله الحسن. وفيه وجه ثالث: أن قوله {طَاعَةٌ وَقُوْلٌ مَعْرُوفٌ} حكاية من الله عنهم قبل فرض الجهاد عليهم , ذكره ابن عيسى. والطاعة هي الطاعة لله ورسوله في الأوامر والنواهي. وفي القول المعروف وجهان: أحدهما: هو الصدق والقبول. الثاني: الإجابة بالسمع والطاعة. {فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ} أي جد الأمر في القتال. {فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّه} بأعمالهم {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} من نفاقهم. قوله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فهل عسيتم إن توليتم أمور الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم، قاله الكلبي.

الثاني: فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا، قاله أبو العالية. الثالث: فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام. {وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} , قاله قتادة. الرابع: فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام , قاله ابن جريج. وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عنى بها المنافقين وهو الظاهر. الثاني: قريشاً , قاله أبو حيان. الثالث: أنها نزلت في الخوارج , قاله بكر بن عبد الله المزني.

24

{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما علموا في التوراة أنه نبي , قاله قتادة وابن جريج. الثاني: المنافقون قعدوا عن القتال من بعدما علموه في القرآن , قاله السدي. {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} فيه وجهان:

أحدهما: أعطاهم سؤالهم , قاله ابن بحر. الثاني: زين لهم خطاياهم , قاله الحسن. {وَأَمْلَى لَهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أمهلهم , قاله الكلبي ومقاتل فعلى هذا يكون الله تعالى هو الذي أملى لهم بالإمهال في عذابهم. والوجه الثاني: أن معنى أملى لهم أي مد لهم في الأمل فعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أن الله تعالى هو الذي أملى لهم في الأمل , قاله الفراء والمفضل. الثاني: أن الشيطان هو الذي أملى لهم في مد الأمل بالتسويف , قاله الحسن. {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ} وفي قائل ذلك قولان: أحدهما: أنهم اليهود قالوا للمنافقين سنطيعكم في بعض الأمر. وفيما أرادوا بذلك وجهان: أحدهما: سنطيعكم في ألا نصدق بشيء , من مقالته , قاله الضحاك. الثاني: سنطيعكم في كتم ما علمنا من نبوته , قاله ابن جريج. القول الثاني: أنهم المنافقون قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر , وفيما أرادوه بذلك ثلاثة أوجه: أحدهما: سنطيعكم في غير القتال من بغض محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن نصرته , قال السدي. الثاني: سنطيعكم في الميل إليكم والمظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثالث: سنطيعكم في الارتداد بعد الإيمان. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما اسر بعضهم إلى بعض من هذا القول. الثاني: ما أسروه في أنفسهم من هذا الإعتقاد. قوله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالقتال نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: بقبض الأرواح عند الموت.

{يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارُهُمْ} يكون على احتمال وجهين: أحدهما: يضربون وجوههم في القتال عند الطلب وأدبارهم عند الهرب. الثاني: يضربون وجوههم عند الموت بصحائف كفرهم , وأدبارهم في القيامة عند سوقهم إلى النار.

29

{أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيه وجهان: أحدهما: شك , قاله مقاتل. الثاني: نفاق , قاله الكلبي. {أَن لن يُخْرِجَ أَضْغَانَهُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: غشهم، قاله السدي. الثاني: حسدهم، قاله ابن عباس. الثالث: حقدهم، قاله ابن عيسى. الرابع: عدوانهم، قاله قطرب وأنشد: (قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وسر ذا الأضغان) قوله عز وجل: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فيه وجهان: أحدهما: في كذب القول، قاله الكلبي. الثاني: في فحوى كلامهم، واللحن هو الذهاب بالكلام في غير جهته، مأخوذ من اللحن في الإعراب وهو الذهاب عن الصواب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكُم

لَتَحْتَكِمُونَ إِلي، أَحَدَكُمْ أَن يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ) أي أذهب بها في الجهات لقوته على تصريف الكلام. قال مرار الأسدي: (ولحنت لحناً فيه غش ورابني ... صدودك ترصين الوشاة الأعاديا) قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالُكُم} فيه وجهان: أحدهما: المجاهدين في سبيل الله. الثاني: الزاهدين في الدنيا. {وَالصَّابِرِينَ} فيه وجهان: أحدهما: على الجهاد. الثاني: عن الدنيا. {وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: نختبر أسراركم. الثاني: ما تستقبلونه من أفعالكم.

32

{إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} فيه وجهان: أحدهما: أطيعوا الله بتوحيده , وأطيعوا الرسول بتصديقه.

الثاني: أطيعوا الله في حرمة الرسول، وأطيعوا الرسول في تعظيم الله. {وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن. الثاني: لا تبطلوها بالكبائر، قاله الزهري. الثالث: لا تبطلوها بالرياء والسمعة , وأخلصوها لله , قاله ابن جريج والكلبي. قوله عز وجل: {وَلَن يَتِرَكُم أَعمَالَكْم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لن ينقصكم أعمالكم , قاله مجاهد وقطرب. وأنشد قول الشاعر: (إن تترني من الإجارة شيئاً ... لا يفتني على الصراط بحقي) الثاني: لن يظلمكم , قاله قتادة , يعني أجور أعمالكم. الثالث: ولا يستلبكم أعمالكم , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله).

36

{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} قوله عز وجل: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يسألكم أموالكم لنفسه. الثاني: لا يسألكم جميع أموالكم في الزكاة ولكن بعضها.

الثالث: لا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله , لأنه أملك بها وهو المنعم بإعطائها. {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإخفاء أخذ الجميع، قاله ابن زيد وقطرب. الثاني: أنه الإلحاح وإكثار السؤال، مأخوذ من الحفاء وهو المشي بغير حذاء، قاله ابن عيسى. الثالث: أن معنى فيحفكم أي فيجدكم تبخلوا، قاله ابن عيينة. {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم. الثاني: تظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم. قوله عز وجل: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: وإن تتولوا عن كتابي، قاله قتادة. الثاني: عن طاعتي , حكاه ابن أبي حاتم. الثالث: عن الصدقة التي أُمرتم بها، قاله الكلبي. الرابع: عن هذا الأمر فلا تقبلونه، قاله ابن زيد. {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم أهل اليمن وهم الأنصار , قاله شريح بن عبيد. الثاني: أنهم الفرس. روى أبو هريرة قال: لما نزل {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لاَ يَكُونُوآ

أمْثَالَكُم} كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا يستبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان وقال: (هذا وَقَومُهُ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ الدِّينَ مُعَلَّقٌ بِالثُّرَيَّا لَنالَهُ رَِجَالٌ مِن أَبْنَاءِ فَارِس). الثالث: أنهم من شاء من سائر الناس، قاله مجاهد. {ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} فيه وجهان: أحدهما: يعني في البخل بالإنفاق في سبيل الله، قاله الطبري. الثاني: في المعصية وترك الطاعة. وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن الدُّنْيَا).

سورة الفتح بسم الله الرحمن الرحيم

الفتح

{إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا} قوله عز وجل: {إِنَّا فَتحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} فيه قولان: أحدهما: إنا أعلمناك علماً مبيناً فيما أنزلناه عليك من القرآن وأمرناك به من الدين. وقد يعبر عن العلم بالفتح كقوله {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59] أي علم الغيب , قاله ابن بحر. وكقوله {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] أي إن أردتم العلم فقد جاءكم العلم. الثاني: إنا قضينا لك قضاء بيناً فيما فتحناه عليك من البلاد. وفي المراد بهذا الفتح قولان: أحدهما: فتح مكة، وعده الله عام الحديبية عند انكفائه منها. الثاني: هو ما كان من أمره بالحديبية. قال الشعبي: نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] في وقت الحديبية أصاب فيها ما لم يصب في غيرها. بويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الروم على فارس تصديقاً لخبره، وبلغ

الهدي محله، فعلى هذا في الذي أراده بالفتح يوم الحديبية، قال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية. الثاني: أنه بيعة الرضوان. قال البراء بن عازب: أنتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. الثالث: أنه نحره وحلقه يوم الحديبية حتى بلغ الهدي محله بالنحر. والحديبية بئر , وفيها تمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد غارت فجاشت بالرواء. {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فيه وجهان: أحدهما: ليغفر لك الله استكمالاً لنعمه عندك. الثاني: يصبرك على أذى قومك. وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما تقدم قبل الفتح وما تأخر بعد الفتح. الثاني: ما تقدم قبل النبوة وما تأخر بعد النبوة. الثالث: ما وقع وما لم يقع على طريق الوعد بأنه مغفور إذا كان. ويحتمل رابعاً: ما تقدم قبل نزول هذه الآية وما تأخر بعدها. {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} فيه قولان: أحدهما: بفتح مكة والطائف وخيبر. الثاني: بخضوع من استكبر. وطاعة من تجبر. {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه الأسر والغنيمة كما كان يوم بدر. الثاني: أنه الظفر والإسلام وفتح مكة. وسبب نزول هذه الآية، ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أنه لما نزل قوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} قال أهل مكة: يا محمد كيف ندخل في دينك وأنت لا تدري ما يفعل بك ولا بمن اتبعك فهلا أخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك كما

أخبر عيسى ابن مريم؟ فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه حتى قدم المدينة , فقال عبد الله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين - للأنصار: كيف تدخلون في دين رجل لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه؟ هذا والله الضلال المبين. فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، يا رسول الله ألا تسأل ربك يخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك؟ فقال: إن له أجلاً فأبشرا بما يقر الله به أعينكما. إلى أن نزلت عليه هذه الآي وهو في دار أبي الدحداح على طعام مع أبي بكر وعمر فخرج وقرأها على أصحابه , قال قائل منهم: هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله لنا ما يفعل بك , فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} الآية.

4

{هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما} قوله عز وجل: {هُوَا الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الصبر على أمر الله. الثاني: أنها الثقة بوعد الله. الثالث: أنها الرحمة لعباد الله. {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: ليزدادوا عملاً مع تصديقهم. الثاني: ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم.

الثالث: ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معناه: ولله ملك السموات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة. الثاني: معناه: ولله جنود السموات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم. قوله عز وجل: {الظَّآنِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: هو ظنهم أن لله شريكاً. الثاني: هو ظنهم أنه لن يبعث الله أحداً. الثالث: هو ظنهم أن يجعلهم الله كرسوله. الرابع: أن سينصرهم على رسوله. قال الضحاك: ظنت أسد وغطفان في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو ينهزم ولا يعود إلى المدينة سالماً , فعاد ظافراً. {عَلَيْهِمْ دَآئرَهُ السَّوْءِ} يحتمل وجهين: أحدهما: عليهم يدور سوء اعتقادهم. الثاني: عليهم يدور جزاء ما اعتقدوه في نبيهم.

8

{إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} قوله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: شاهداًعلى أمتك بالبلاغ , قاله قتادة. الثاني: شاهداًعلى أمتك بأعمالهم من طاعة أو معصية. الثالث: مبيناً ما أرسلناك به إليهم.

{وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} فيه وجهان: أحدهما: مبشراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين. الثاني: مبشراً بالجنة لمن أطاع ونذيراً بالنار لمن عصى، قاله قتادة , والبشارة والإنذار معاً خير لأن المخبر بالأمر السار مبشر والمحذر من الأمر المكروه منذر. قال النابغة الذبياني: (تناذرها الراقون من سوء سعيها ... تطلقها طوراً وطوراً تراجع) قوله عز وجل: {وَتُعَزِّرُوهُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تطيعوه , قاله بعض أهل اللغة. الثاني: تعظموه , قاله الحسن والكلبي. الثالث: تنصروه وتمنعوا منه , ومنه التعزير في الحدود لأنه مانع , قاله القطامي: (ألا بكرت مي بغير سفاهة ... تعاتب والمودود ينفعه العزر) وفي {وَتُوَقِّرُوهُ} وجهان: أحدهما: تسودوه , قاله السدي. الثاني: أن تأويله مختلف بحسب اختلافهم فيمن أشير إليه بهذا الذكر: فمنهم من قال أن المراد بقوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتَوَقِّرُوهُ} أي تعزروا الله وتوقروه لأن قوله: {وَتُسَبِّحُوهُ} راجع إلى الله وكذلك ما تقدمه , فعلى هذا يكون تأويل قوله: {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. ومنهم من قال: المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزروه ويوقروه لأنه قد تقدم ذكرها , فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله وبعضه راجعاً إلى رسوله , قاله الضحاك. فعلى هذا يكون تأويل {تُوَقِّرُوهُ} أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. {وتُسَبِّحُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: تسبيحه بالتنزيه له من كل قبيح. الثاني: هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح.

{بُكْرَةً وَأصِيلاً} أي غدوة وعشياً. قال الشاعر: (لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأجلس في أفيائه بالأصائل)

11

{سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما} قوله عز وجل: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: فاسدين قاله قتادة. الثاني: هالكين , قاله مجاهد. قال عبد الله بن الزبعرى: (يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور) الثالث: أشرار , قاله ابن بحر. وقال حسان بن ثابت: (لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور)

15

{سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا} قوله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ} فيه وجهان:

أحدهما: ما وعد الله نبيّه من النصرة والفتح حين ظنوا ظن السوء بأنه يهلك أو لا يظفر، قاله مجاهد وقتادة. الثاني: قوله: {لَن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} حين سألوه الخروج معه لأجل المغانم بعد امتناعهم منه وظن السوء , قاله ابن زيد.

16

{قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما} قوله عز وجل: {قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ} وهؤلاء المخلفون هم أحد أصناف المنافقين , لأن الله تعالى صنف المنافقين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ثلاثة أصناف , منهم من أعلم أنه لا يؤمن وأوعدهم العذاب في الدنيا مرتين ثم العذاب العظيم في الآخرة وذلك قوله {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعَرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] الآية. ومنهم من اعترف بذنبه وتاب , وهم من قال الله فيهم: {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُبِهِم خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيِّئاً} [التوبة: 102] الآية. ومنهم من وقفوا بين الرجاء لهم والخوف عليهم بقوله تعالى: {وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمِرْ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتَوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] فهؤلاء المخاطبون بقوله: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} دون الصنفين المتقدمين لترددهم بين أمرين. قوله عز وجل: {سَتُدْعُوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ... } الآية. فيهم خمسة أوجه: أحدها: أنهم أهل فارس، قاله ابن عباس. الثاني: الروم , قاله الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى.

الثالث: هوازن وغطفان بحنين , قاله سعيد بن جبير وقتادة. الرابع: بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب , قاله الزهري. الخامس: أنهم قوم لم يأتوا بعد , قاله أبو هريرة.

18

{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما} قوله عز وجل: {لَقَدْ رِضِي اللَّهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجرَةِ} كانت سبب هذه البيعة وهي بيعة الرضوان تأخر عثمان رضي الله عنه بمكة حين أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية رسولاً إلى الإسلام فأبطأ وأرجف بقتله , فبايع أصحابه وبايعوه على الصبر والجهاد , وكانوا فيما رواه ابن عباس ألفاً وخمسمائة , وقال جابر: كانوا ألفاً وأربعمائة وقال عبد الله بن أبي أوفى: ألفاً وثلاثمائةً. وكانت البيعة تحت الشجرة بالحديبية والشجرة سمرة. وسميت بيعة الرضوان , لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. صلى الله عليه وسلم ; صلى الله عليه وسلم ; {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: من صدق النية , قاله الفراء. الثاني: من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت , قاله مقاتل. {فَأَنزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: فتح خيبر لقربها من الحديبية , قاله قتادة. الثاني: فتح مكة.

20

{وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم

تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا} قوله عز وجل: {وََعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} فيه قولان: أحدهما: هي مغانم خيبر، قاله ابن زيد. الثاني: هو كل مغنم غنمه المسلمون , قاله مجاهد. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} فيه قولان: أحدهما: مغانم خيبر , قاله مجاهد. الثاني: صلح الحديبية , قاله ابن عباس. {وَكَفَّ أيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: اليهود كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية. الثاني: قريش كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية. الثالث: أسد وغطفان الحليفان عليهم عيينة بن حصن ومالك بن عوف جاءوا لينصروا أهل خيبر , فألقى الله في قلوبهم الرعب فانهزموا. {وَلِتَكُونَءَايَةً لِّلْمُؤمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: ليكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين. الثاني: ليكون فتح خيبر آية أي علامة لصدق الله تعالى في وعده وصدق رسوله في خبره. قيل لتكون البيعة آية لهم. قوله عز وجل: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أحَاطَ اللَّهُ بِهَا} فيها ثلاثة أقاويل:

أحدها: هي أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون، قاله ابن عباس. الثاني: هي مكة، قاله قتادة. الثالث: هي أرض خيبر , قاله الضحاك. في قوله: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} وجهان: أحدهما: قدر الله عليها , قاله ابن بحر. الثاني: حفظها عليكم ليكون فتحها لكم. قوله عز وجل: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر رسله وأوليائه على أعدائه. وفي قوله: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} وجهان: أحدهما: ولن تتغير سنة الله وعادته في نصرك على أعدائك وأعدائه. الثاني: لن تجد لعادة الله في نصر رسله مانعاً من الظفر بأعدائه وهو محتمل. قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كف أيديهم عنكم بالرعب وأيديكم عنهم بالنهي. الثاني: كف أيديهم عنكم بالخذلان , وأيديكم عنهم بالاستبقاء لعلمه بحال من يسلم منهم. الثالث: كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم بالصلح عام الحديبية. {بِبَطْنِ مَكَّةَ} فيه قولان: أحدهما: يريد به مكة. الثاني: يريد به الحديبية لأن بعضها مضاف إلى الحرام. وفي قوله: {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ} ثلاثة أقاويل: أحدها: أظفركم عليهم بفتح مكة وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة , وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً لقوله {كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنهُم}. الثاني: أظفركم عليهم بقضاء العمرة التي صدوكم عنها. الثالث: أظفركم عليهم بما روي ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل

مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من قبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوا من ظفروا به , فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم , فأنزل الله هذه الآية , فكان هذا هو الظفر.

25

{هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما} قوله عز وجل: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني قريشاً. {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني منعوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله علي وسلم مع أصحابه بعمرة. {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: محبوساً. الثاني: واقفاً. الثالث: مجموعاً , قاله أبو عمرو بن العلاء. {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فيه قولان: أحدهما: منحره , قاله الفراء. الثاني: الحرم، قال الشافعي , والمحِل بكسر الحاء هو غاية الشيء، وبالفتح هو الموضع الذي يحله الناس، وكان الهدي سبعين بدنة.

{وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمْوهُمْ} أي لم تعلموا إيمانهم. {أَن تَطَئُوهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن تطئوهم بخيلكم وأرجلكم فتقتلوهم , قاله ابن عباس. الثاني: لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم يعلموهم أن يطئوا آباءهم فيهلك أبناؤهم , قاله الضحاك. {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ} فيها ستة أقاويل: أحدها: الإثم , قاله ابن زيد. الثاني: غرم الدية , قاله ابن إسحاق. الثالث: كفارة قتل الخطأ , قاله الكلبي. الرابع: الشدة , قاله قطرب. الخامس: العيب. السادس: الغم. قوله عز وجل: {لَوْ تَزَيَّلُواْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لو تميزوا , قاله ابن قتيبة. الثاني: لو تفرقوا , قاله الكلبي. الثالث: لو أزيلوا , قاله الضحاك حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم. {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً} وهو القتل بالسيف لكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار. قوله عز وجل: {إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} يعني قريشاً. وفي حمية الجاهلية قولان: أحدهما: العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله , والأنفة من أن يعبدوا غيرها , قاله ابن بحر. الثاني: أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة , ومنعهم له من دخول مكة , قال الزهري. ويحتمل ثالثاً: هو الاقتداء بآبائهم , وألا يخالفوا لهم عادة , ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما

أخبر الله عنهم {إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤمِنِينَ} يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا , والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته. {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} فيها أربعة أوجه: أحدها: قول لا إله إلا الله , قاله ابن عباس , وهو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: الإخلاص , قاله مجاهد. الثالث: قول بسم الله الرحمن الرحيم , قاله الزهري. الرابع: قولهم سمعنا وأطعنا بعد خوضهم. وسميت كلمة التقوى لأنهم يتقون بها غضب الله. {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} يحتمل وجهين: أحدهما: وكانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها. الثاني: وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها. وفي من كان أحق بكلمة التقوى قولان: أحدهما: أهل مكة كانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها لتقدم إنذارهم لولا ما سلبوه من التوفيق. الثاني: أهل المدينة أحق بكلمة التقوى حين قالوها , لتقدم إيمانهم حين صحبهم التوفيق.

27

{{لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله

آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} قوله عز وجل: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءامِنينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم , رأى في المنام , أنه يدخل مكة على هذه الصفة , فلما صالح قريشاً بالحديبية , ارتاب المنافقون , حتى قال صلى الله عليه وسلم: (فَمَا رَأَيْتُ فِي هذَا العَامِ) ثم قال: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} فيه قولان: أحدهما: علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم , قاله الكلبي. الثاني: علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم؛ الآية. ثُمَّ قَالَ: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} فيه قولان: أحدهما: أنه الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش بالحديبية , قاله مجاهد. الثاني: فتح مكة , قاله ابن زيد والضحاك. وفي قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خارج مخرج الشرط والاستثناء. الثاني: أنه ليس بشرط وإنما خرج مخرج الحكاية على عادة أهل الدين , ومعناه لتدخلونه بمشيئة الله. الثالث: إن شاء الله في دخول جميعكم أو بعضكم , ولأنه علم أن بعضهم يموت. {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا

وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} قوله عز وجل: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. فيه ستة تأويلات: أحدها: أنه ثرى الأرض وندى الطهور، قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنها صلاتهم تبدو في وجوههم، قاله ابن عباس. الثالث: أنه السمت، قاله الحسن. الرابع: الخشوع، قاله مجاهد. الخامس: هو أن يسهر الليل فيصبح مصفراً، قاله الضحاك. السادس: هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة، قاله عطية العوفي. {وذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل، كزرع أخرج شطاء} فيه قولان: أحدهما: أن مثلهم في التوراة بأن سيماهم في وجوههم. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه. الثاني: أن كلا الأمرين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل. وقوله: {كرزع أخرج شطاه} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الشطأ شوك السنبل، والعرب أيضاً تسميه السفا والبهمي، قاله قطرب. الثاني: أنه السنبل، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، قاله الكلبي والفراء. الثالث: أنه فراخه التي تخرج من جوانبه، ومنه شاطئ النهر جانبه، قاله الأخفش. {فآزره} فيه قولان: أحدهما: فساواه فصار مثل الأم، قاله السدي. الثاني: فعاونه فشد فراخ الزرع أصول النبت وقواها. {فاستغلظ) يعني اجتماع الفراخ مع الأصول. {فاستوى على سوقه} أي على عودة الذي يقوم عليه فيكون ساقاً له. {يعجب الزارع ليغيظ بهم الكفار} يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله

عنهم، لأن ما أعجب المؤمنين من قوتهم كإعجاب من قوتهم كإعجاب الزارع بقوة زرعهم هو الذي غاظ الكفار منهم. ووجه ضرب المثل بهذا الزرع الذي أخرج شطأه، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه كان ضعيفاً، فأجابه الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه وأفراخه فكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان. والله أعلم.

سورة الحجرات بسم الله الرحمن الرحيم

الحجرات

{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن ناساً كانوا يقولون: لو أنزل فيَّ كذا , لو أنزل فيَّ كذا , فنزلت هذه الآية , قاله قتادة. الثاني: أنهم نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه , قاله ابن عباس. الثالث: معناه ألا يقتاتوا على الله ورسوله , حتى يقضي الله على لسان رسوله , قاله مجاهد. الرابع: أنها نزلت في قوم ضحوا قبل أن يصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمرهم أن يعيدوا الذبح , قاله الحسن.

الخامس: لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر به الله تعالى ورسوله , قال الزجاج. وسبب نزولها ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفئوا إلى المدينة فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا: من بني عامر فقتلوهما , فجاء بنو سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن بيننا وبينك عهداً وقد قتل منا رجلان فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ونزلت عليه هذه الآية في قتلة الرجلين. {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} يعني في التقدم المنهي عنه. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لقولكم {عَلِيمٌ} بفعلكم. قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِّيِ} قيل إن رجلين من الصحابة تماريا عنده فارتفعت أصوتهما , فنزلت هذه الآية , فقال أبو بكر رضي الله عنه عند ذلك: والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار. {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الجهر بالصوت. روي أن ثابت بن قيس بن شماس قال: يا نبي الله والله لقد خشيت أن أكون قد هلكت , نهانا الله عن الجهر بالقول وأنا امرؤ جهير الصوت , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا ثَابِتَ أَمَأ تَرْضَى أَن تَعِيشَ حَمِيداً وتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ) فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة. الثاني: أن النهي عن هذا الجهر هو المنع من دعائه باسمه أو كنيته كما يدعو

بعضهم بعضاً بالاسم والكنية , وهو معنى قوله {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}، ولكنْ دعاؤه بالنبوة والرسالة كما قال تعالى {لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} [النور: 63]. {أن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن معناه فتحبط أعمالكم. الثاني: لئلا تحبط أعمالكم. {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} بحبط أعمالكم. قوله عز وجل: { ... أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} فيه تأويلان: أحدهما: معناه أخلصها للتقوى , قاله الفراء. الثاني: معناه اختصها للتقوى , قاله الأخفش.

4

{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم} قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ} الآية. اختلف في سبب نزولها , فروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه من وراء الحجرة: يا محمد , إن مدحي زين وشتمي شين , فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وَيْلُكَ ذَاكَ اللَّهُ , ذَاكَ اللَّهُ) فأنزل الله هذه الآية , فهذا قول. وروى زيد بن أرقم قال: أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل , فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس باتباعه وإن يكن ملكاً نعش في جنابه , فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه , وهو في

حجرته يا محمد , فأنزل الله هذه الآية. قيل: إنهم كانوا من بني تميم. قال مقاتل: كانوا تسعة نفر: قيس بن عاصم , والزبرقان بن بدر , والأقرع بن حابس , وسويد بن هشام , وخالد بن مالك , وعطاء بن حابس , والقعقاع بن معبد , ووكيع بن وكيع , وعيينة بن حصن. وفي قوله: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} وجهان: أحدهما: لا يعلمون , فعبر عن العلم بالعقل لأنه من نتائجه , قاله ابن بحر. الثاني: لا يعقلون أفعال العقلاء لتهورهم وقلة أناتهم , وهو محتمل. والحجرات جمع حجر؛ والحجر جمع حجرة. {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لكان أحسن لأدبهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. الثاني: لأطلقت أسراهم بغير فداء , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبى قوماً من بني العنبر , فجاءوا في فداء سبيهم وأسراهم.

6

{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِق بِنَبَإِ فَتَبَيَّنُواْ} الآية. نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط , وسبب نزولها ما رواه سعيد عن قتادة

أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد ابن عقبة مصدقاً لبني المصطلق , فلما أبصروه أقبلوا نحوه , فهابهم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام , فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يثبت ولا يعجل , فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه , فلما جاءوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام , وسمعوا أذانهم وصلاتهم , فلما أصبحوا , أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه , فعادوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه , فنزلت هذه الآية. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (التأني من الله والعجلة من الشيطان). وفي هذه الآية دليل على أن خبر الواحد مقبول إذا كان عدلاً. قوله عز وجل: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتَّمُ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: لأثمتم , قاله مقاتل. الثاني: لاتهمتم , قاله الكلبي. الثالث: لغويتم. الرابع: لهلكتم. الخامس: لنالتكم شدة ومشقة. قال قتادة: هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا , فأنتم والله أسخف رأياً وأطيش عقولا. {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ} فيه وجهان: أحدهما: حسنه عندكم , قاله ابن زيد. الثاني: قاله الحسن. بما وصف من الثواب عليه. {وَزَيَّنَةُ فِي قُلُوبِكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: بما وعد عليه في الدنيا من النصر وفي الآخرة من الثواب , قاله ابن بحر. الثاني: بالدلالات على صحته. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الكذب خاصة، قاله ابن زيد. الثاني: كل ما خرج عن الطاعة.

9

{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} قوله عز وجل: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} اختلف في سبب نزولها على أربعة أقاويل: أحدها: ما رواه عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه فنزلت هذه الآية فيهم. الثاني: ما رواه سعيد عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما , فقال أحدهما للآخر: لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته , وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه , فلم يزل بهما الأمر حتى تواقعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال , فنزلت فيهم. الثالث: ما رواه أسباط عن السدي أن رجلاً من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها , وأن المرأة بعثت إلى أهلها , فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها , فخرج الرجل فاستعان أهله , فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال , فنزلت هذه الآية فيهم. الرابع: ما حكاه الكلبي ومقاتل والفراء أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمار له على عبد الله بن أبي , وهو في مجلس قومه، فراث حمار النبي صلى الله عليه وسلم، فأمسك عبد الله أنفه وقال: إليك حمارك , فغضب عبد الله بن رواحة، وقال: أتقول هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم , فوالله هو أطيب ريحاً منك ومن أبيك، فغضب

قومه، وأعان ابن رواحة قومه حتى اقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم , فأصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} البغي التعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق. {فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي} فيه وجهان: أحدهما: تبغي في التعدي في القتال. الثاني: في العدول عن الصلح , قاله الفراء. {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به , قاله سعيد بن جبير. الثاني: ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما لهم وعليهم , قاله قتادة. {فَإِن فَآءَتْ} أي رجعت. {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بالحق. الثاني: بكتاب الله , قاله سعيد بن جبير. {وَأَقْسِطُواْ} معناه واعدلوا. ويحتمل وجهين: أحدهما: اعدلوا في ترك الهوى والممايلة. الثاني: في ترك العقوبة والمؤاخذة. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي العادلين قال أبو مالك: في القول والفعل.

11

{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مَِّن قَوْمٍ} الآية. أما القوم فهم الرجال خاصة , لذلك ذكر بعدهم النساء. ويسمى الرجال قوماً لقيام بعضهم مع

بعض في الأمور , ولأنهم يقومون بالأمور دون النساء , ومنه قول الشاعر: (وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء) وفي هذه السخرية المنهي عنها قولان: أحدهما: أنه استهزاء الغني بالفقير إذا سأله، قاله مجاهد. الثاني: أنه استهزاء المسلم بمن أعلن فسقه، قاله ابن زيد. ويحتمل ثالثاً: أنه استهزاء الدهاة بأهل السلامة. {عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} عند الله تعالى. ويحتمل: خيراً منهم معتقداً وأسلم باطناً. {وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرُا مِّنْهُنَّ}. {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: ولا تلمزوا أهل دينكم. الثاني: لا تلمزوا بعضكم بعضاً: واللمز: العيب. وفي المراد به هنا ثلاثة أوجه: أحدها: لا يطعن بعضكم على بعض , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد ابن جبير. الثاني: لا تختالوا فيخون بعضكم بعضاً , قاله الحسن. الثالث: لا يلعن بعضكم بعضاً , قاله الضحاك. {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} في النبز وجهان: أحدهما: أنه اللقب الثابت، قاله المبرد. الثاني: أن النبز القول القبيح، وفيه هنا أربعة أوجه: أحدها: أنه وضع اللقب المكروه على الرجل ودعاؤه به. قال الشعبي: روي أن وفد بني سليم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وللرجل منهم اسمان وثلاثة فكان يدعوا الرجل بالاسم فيقال إنه يكره هذا، فنزلت هذه الآية.

الثاني: أنه تسمية الرجل بالأعمال السيئة بعد الإسلام ... يا فاسق ... يا سارق , يا زاني , قاله ابن زيد. الثالث: أنه يعيره بعد الإسلام بما سلف من شركه , قاله عكرمة. الرابع: أن يسميه بعد الإسلام باسم دينه قبل الإسلام , لمن أسلم من اليهود ... يا يهودي , ومن النصارى ... يا نصراني , قاله ابن عباس , والحسن. فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره , وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من أصحابه بأوصاف فصارت لهم من أجمل الألقاب. واختلف في من نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمسان وكان في أذنه ثقل فكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسمع حديثه , فجاء ذات يوم وقد أخذ الناس مجالسهم فقال: (تَفَسَّحُواْ) ففعلوا إلا رجلاً كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفسح وقال: (قَدْ أَصَبْتَ مَوْضِعاً) فنبذه ثابت , بلقب كان لأمه مكروهاً , فنزلت , قاله الكلبي والفراء. الثاني: أنا نزلت في كعب بن مالك الأنصاري , وكان على المغنم فقال لعبد الله بن أبي حدرد: يا أعرابي , فقال له عبد الله: يا يهودي , فتشاكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فنزلت فيهما , حكاه مقاتل. الثالث: أنها نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات عند استهزائهم بمن مع رسول الله من الفقراء والموالي فنزل ذلك فيهم. الرابع: أنا نزلت في عائشة وقد عابت أم سلمة. واختلفوا في الذي عابتها به فقال مقاتل: عابتها بالقصر , وقال غيره: عابتها بلباس تشهرت به.

12

{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم}

قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ} يعني ظن السوء. بالمسلم توهماً من غير تعلمه يقيناً. {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فيه وجهان: أحدهما: يعني ظن السوء. الثاني: أن يتكلم بما ظنه فيكون إثما، فإن لم يتكلم به لم يكن إثماً، قاله مقاتل بن حيان. {وَلاَ تَجَسَّسُوا} فيه وجهان: أحدهما: هو أن يتبع عثرات المؤمن , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. الثاني: هو البحث عم خفي حتى يظهر، قاله الأوزاعي. وفي التجسس والتحسس وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد , قاله ابن عباس وقرأ الحسن بالحاء. وقال الشاعر: (تجنبت سعدى أن تشيد بذكرها ... إذا زرت سعدى الكاشح المتحسس) وقال أبو عمرو الشيباني: الجاسوس: صاحب سر الشر , والناموس صاحب سر الخير. والوجه الثاني: أنهما مختلفان. وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن التجسس بالجيم هو البحث , ومنه قيل رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه. الثاني: أنه بالحاء أن يطلبه لنفسه وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره. والتجسس أن يجس الأخبار لنفسه ولغيره. {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} والغيبة: ذكر العيب بظهر الغيب , قال الحسن: الغيبة ثلاثة كلها في كتاب الله: الغيبة والإفك والبهتان , فأما الغيبة , فأن تقول في

أخيك ما هو فيه. وإما الإفك , فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه. وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة قال: (هُوَ أَن تَقُولَ لأَخِيكَ مَا فِيهِ فَإِن كُنتَ صَادِقَاً فَقَدِ اغْتَبْتَهُ , وَإِن كُنتَ كَاذِباً فَقَدْ بَهَّتَّهُ). {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} فيه وجهان: أحدهما: أي كما يحرم أكل لحمه ميتاً يحرم غيبته حياً. الثاني: كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حياً , قاله قتادة. واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية قال الشاعر: (فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا) {فَكَرِهْتُمُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: فكرهتم أكل الميتة , كذلك فاكرهوا الغيبة. الثاني: فكرهتم أن يعلم بكم الناس فاكرهوا غيبة الناس.

13

{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} قصد بهذه الآية. النهي عن التفاخر بالأنساب , وبين التساوي فيها بأن خلقهم من ذكر وأنثى يعني آدم وحواء. ثم قال: {وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ} فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار، وفيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب , قاله مجاهد , وقتادة. وقال الشاعر: (قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب) وسموا شعوباً لأن القبائل تشعبت منها. الثاني: أن الشعوب عرب اليمن من قحطان، والقبيلة ربيعة ومضر وسائر عدنان. الثالث: أن الشعوب بطون العجم , والقبائل بطون العرب. ويحتمل رابعاً: أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب , والقبائل هم المشتركون في الأنساب , قال الشاعر: (وتفرقوا شعباً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر) والشعوب جمع شَعب بفتح الشين , والشِّعب بكسر الشين هو الطريق وجمعه شعاب , فكان اختلاف الجمعين مع اتفاق اللفظين تنبيهاً على اختلاف المعنيين. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} إن أفضلكم , والكرم بالعمل والتقوى لا بالنسب.

14

{قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات

والأرض والله بصير بما تعملون} قوله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ... } فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم أقروا ولم يعملوا , فالإسلام قول والإيمان عمل , قاله الزهري. الثاني: أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم أن اسمهم أعراب , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم مَنُّوا على رسول الله صلى الله بإسلامهم فقالوا أسلمنا , لم نقاتلك , فقال الله تعالى لنبيه: قل لهم: لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا خوف السيف , قاله قتادة. لأناهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم , فلم يكونوا مؤمنين , وتركوا القتال فصاروا مستسلمين لا مسلمين , فيكون مأخوذاً من الاستسلام لا من الإسلام كما قال الشاعر: (طال النهار على من لا لقاح له ... إلا الهدية أو ترك بإسلام) ويكون الإسلام والإيمان في حكم الدين على هذا التأويل واحداً وهو مذهب الفقهاء , لأن كل واحد منهما تصديق وعمل. وإنما يختلفان من وجهين: أحدهما: من أصل الاسمين لأن الإيمان مشتق من الأمن , والإسلام مشتق من السلم. الثاني: أن الإسلام علم لدين محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان لجميع الأديان , ولذلك امتنع اليهود والنصارى أن يتسموا بالمسلمين , ولم يمتنعوا أن يتسموا بالمؤمنين. قال الفراء: ونزلت هذه الآية في أعراب بني أسد. قوله عز وجل: { ... لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيئاً} فيه وجهان: أحدهما: لا يمنعكم من ثواب عملكم شيئاً , قال رؤبة:

(وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت) أي لم يمنعني عن سراها. الثاني: ولا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً , قال الحطيئة: (أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً) أي لا نقصاً ولا كذباً. وفيه قراءتان: {يَلِتْكم} و {يألتكم} وفيها وجهان: أحدها: [أنهما] لغتان معناهما واحد. الثاني: يألتكم أكثر وأبلغ من يلتكم. قوله عز وجل: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُم} الآية. هؤلاء أعراب حول المدينة أظهروا الإسلام خوفاً , وأبطنوا الشرك اعتقاداً فأظهر الله ما أبطنوه وكشف ما كتموه، ودلهم بعلمه بما في السموات والأرض علم علمه بما اعتقدوه , وكانوا قد منوا بإسلامهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقالوا فضلنا على غيرنا بإسلامنا طوعاً. فقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُونُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم , وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم , فالمنة فيه عليهم. ثم قال: {بِلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم. وتكون المنة هي التحمد بالنعمة. الثاني: أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم , وتكون المنة هي النعمة. وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى. {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعني فيما قلتم من الإيمان.

سورة ق مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية وهي قوله تعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما} الآية. بسم الله الرحمن الرحيم

ق

{ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} قوله عز وجل: {ق} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم بها , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم من أسماء القرآن , قاله قتادة. الثالث: أن معناه قضى والله , كما قيل في حم: حم والله , وهذا معنى قول مجاهد. الرابع: أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا , قاله الضحاك. قال مقاتل: وعروق الجبال كلها منه. ويحتمل خامساً: أن يكون معناه قف؛ كما قال الشاعر:

(قلت لها قفي فقالت قاف ... ... ... ... ) أي وقفت. ويحتمل ما أريد بوقفه عليه وجهين: أحدهما: قف على إبلاغ الرسالة لئلا تضجر بالتكذيب. الثاني: قف على العمل بما يوحى إليك لئلا تعجل على ما لم تؤمر به. {وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الكريم , قاله الحسن. الثاني: أنه مأخوذ من كثرة القدرة والمنزلة , لا من كثرة العدد من قولهم فلان كثير في النفوس , ومنه قول العرب في المثل السائر: لها في كل الشجر نار , واستجمد المرخ والعفار , أي استكثر هذان النوعان من النار وزاد على سائر الشجر , قاله ابن بحر. الثالث: أنه العظيم , مأخوذ من قولهم قد مجدت الإبل إذا أعظمت بطونها من كلأ الربيع. {والْقُرْءَانِ المَجِيدِ} قسم أقسم الله به تشريفاً له وتعظيماً لخطره لأن عادة جارية في القسم ألا يكون إلا بالمعظم. وجواب القسم محذوف ويحتمل وجهين: أحدهما: هو أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ}. الثاني: أنكم مبعوثون بدليل قوله: {إِئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً}. قوله عز وجل: {بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيءٌ عَجِيبٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم عجبوا أن دعوا إلى إله واحد، قاله قتادة. الثاني: عجبوا أن جاءهم منذر منهم , من قبل الله تعالى. الثالث: أنهم عجبوا من إنذارهم بالبعث والنشور. قوله عز وجل: {قَدْ عَلمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُم} فيه وجهان: أحدهما: من يموت منهم، قاله قتادة.

الثاني: يعني ما تأكله الأرض من لحومهم وتبليه من عظامهم , قاله الضحاك. {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} يعني اللوح المحفوظ. وفي حفيظ وجهان: أحدهما: حفيظ لأعمالهم. الثاني: لما يأكله التراب من لحومهم وأبدانهم وهو الذي تنقصه الأرض منهم. قوله عز وجل: {بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ... } الآية. الحق يعني القرآن في قول الجميع. {مَرِيجٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن المريج المختلط. قاله الضحاك. الثاني: المختلف , قاله قتادة. الثالث: الملتبس , قاله الحسن. الرابع: الفاسد , قاله أبو هريرة. ومنه قول أبي دؤاد: (مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد)

6

{أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج} قوله عز وجل: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} فيه وجهان: أحدهما: من شقوق. الثاني: من فتوق , قاله ابن عيسى إلا أن الملك تفتح له أبواب السماء عند العروج. قوله عز وجل: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي بسطناها.

{وَألْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} يعني الجبال الرواسي الثوابت , واحدها راسية قال الشاعر: (رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل) {مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي من كل نوع. {بَهِيجٍ} فيه وجهان: أحدهما: حسن، مأخوذ من البهجة وهي الحسن. الثاني: سارّ مأخوذ من قولهم قد أبهجني هذا الأمر أي سرني , لأن السرور يحدث في الوجه من الإسفار والحمرة ما يصير به حسناً. قال الشعبي: الناس نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم , ومن دخل النار فهو لئيم. قوله عز وجل: {تَبْصِرَةً} فيها ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بصيرة للإنسان , قاله مجاهد. الثاني: نعماً بصر الله بها عباده , قاله قتادة. الثالث: يعني دلالة وبرهاناً. {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن المنيب المخلص , قاله السدي. الثاني: أنه التائب إلى ربه , قاله قتادة. الثالث: أنه الراجع المتذكر , قاله ابن بحر. وقد عم الله بهذه التبصرة والذكرى وإن خص بالخطاب كل عبد منيب لانتفاعه بها واهتدائه إليها. قوله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مََآءً مُّبَارَكاً} يعني المطر , لأنه به يحيا النبات والحيوان. {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} فيها هنا وجهان: أحدهما: أنها البساتين، قاله الجمهور. الثاني: الشجر، قاله ابن بحر. {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يعني البر والشعير، وكل ما يحصد من الحبوب، إذا تكامل واستحصد سمي حصيداً، قال الأعشى:

(لسنا كما إياد دارها ... تكريث ينظر حبه أن يحصدا) قوله عز وجل: {وَالنَّخْلَ بِاسَقَاتٍ} فيها وجهان: أحدهما: أنها الطوال , قاله ابن عباس ومجاهد. قاله الشاعر: (يا ابن الذين بفضلهم ... بسقت على قيس فزاره) أي طالت عليهم. (الثاني) أنها التي قد ثقلت من الحمل , قاله عكرمة. وقال الشاعر: (فلما تركنا الدار ظلت منيفة ... بقران فيه الباسقات المواقر) {نَضِيدٌ} أي منضود , فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن النضيد المتراكم المتراكب , قاله ابن عباس في رواية عكرمة عنه. الثاني: أنه المنظوم , وهذا يروى عن ابن عباس أيضاً. الثالث: أنه القائم المعتدل , قاله ابن الهاد. قوله عز وجل: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} يعني ما أنزله من السماء من ماء مبارك , وما أخرجه من الأرض بالماء من نبات وحب الحصيد وطلع نضيد. {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيتاً كَذِلكَ الْخُرُوجُ} جعل هذا كله دليلاً على البعث والنشور من وجهين: أحدهما: أن النشأة الأولى إذا خلقها من غير أصل كانت النشأة الثانية بإعادة ما له أصل أهون. الثاني: أنه لما شوهد من قدرته , إعادة ما مات من زرع ونبات كان إعادة من مات من العباد أولى للتكليف الموجب للجزاء.

12

{كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد}

قوله عز وجل: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} في الرس وجهان: أحدهما: أنه كل حفرة في الأرض من بئر وقبر. الثاني: أنها البئر التي لم تطو بحجر ولا غيره. وأما أصحاب الرس ففيهم أربعة أقاويل: أحدها: أنها بئر قتل فيها صاحب ياسين ورسوه، قاله الضحاك. الثاني: أنهم أهل بئر بأذربيجان , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم قوم باليمامة كان لهم آبار، قاله قتادة. قال الزهير: (بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم) الرابع: أنهم أصحاب الأخدود. {وَثَمُودُ} وهم قوم صالح , وكانوا عرباً بوادي القرى وما حولها. وثمود مأخوذ من الثمد وهو الماء القليل الكدر , قال النابغة: (واحكم بحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد) {وَعَادٌ} وهو اسم رجل كان من العماليق كثر ولده , فصاروا قبائل وكانوا باليمن بالأحقاف , والأحقاف الرمال , وهم قوم هود. {فِرْعَوْنَ} وقد اختلف في أصله فحكي عن مجاهد أنه كان فارسياً من أهل إصطخر. وقال ابن لهيعة: كان من أهل مصر وحكي عن ابن عباس أنه عاش ثلاثمائة سنة منها مائتان وعشرون سنة لا يرى ما يقذي عينه , فدعاه موسى ثمانين سنة. وحكى غيره أنه عاش أربعمائة سنة. واختلف في نسبه فقال بعضهم هو من لخم , وقال آخرون هو من تبَّع. {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} يعني قومه وأتباعه , قال مجاهد: كانوا أربعمائة ألف بيت، في كل بيت عشرة مردة، فكانوا أربعة آلاف ألف.

وقال عطاء: ما من أحد من الأنبياء إلا وقد يقوم معه قوم إلا لوط فإنه يقوم وحده. {وَأَصَحَابُ الأَيْكَةِ} والأيكة الغيضة ذات الشجر الملتف كما قال أبو داود الإيادي: (كأن عرين أيكته تلاقى ... بها جمعان من نبط وروم) قال قتادة: وكان عامة شجرها الدوم , وكان رسولهم شعيباً , وأرسل إليهم , وإلى أهل مدين , أرسل إلى أمتين من الناس , وعذبتا بعذابين , أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة , وأما أصحاب الأيكة فكانوا أهل شجر متكاوس. {وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وتبع كان رجلاً من ملوك العرب من حِمير , سُمّي تبعاً لكثرة من تبعه. قال وهب: إن تبعاً أسلم وكفر قومه , فلذلك ذكر قومه , ولم يذكر تبع. قال قتادة وهو الذي حير الحيرة وفتح سمرقند حتى أخربها , وكان يكتب إذا كتب: بسم الله الذي تَسمَّى وملك براً وبحراً وضحى وريحاً. {كُلٌّ كَذَّبَ الرَّسَلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} يعني أن كل هؤلاء كذبوا من أرسل إليهم , فحق عليهم وعيد الله وعذابه. فذكر الله قصص هؤلاء لهذه الأمة , ليعلم المكذبون منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كغيرهم من مكذبي الرسل إن أقاموا على التكذيب فلم يأمنوا , حتى أرشد الله منهم من أرشد وتبعهم رغباً ورهباً من تبع. قوله عز وجل: {أَفَعِيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هَمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أما اللبس فهو اكتساب الشك , ومنه قول الخنساء: (صدق مقالته واحذر عداوته ... والبس عليه بشك مثل ما لبسا) والخلق الجديد هو إعادة خلق ثان بعد الخلق الأول. وفي معنى الكلام تأويلان: أحدهما: أفعجزنا عن إهلاك الخلق الأول , يعني من تقدم ذكره حين كذبوا رسلي مع قوتهم , حتى تشكوا في إهلاكنا لكم مع ضعفكم إن كذبتم , فيكون هذا خارجاً منه مخرج الوعيد.

الثاني: معناه أننا لم نعجز عن إنشاء الخلق الأول , فكيف تشكون في إنشاء خلق جديد , يعني بالبعث بعد الموت , فيكون هذا خارجاً مخرج البرهان والدليل.

16

{ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} قوله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الوسوسة كثرة حديث النفس بما لا يتحصل في حفاء وإسرار , ومنه قول رؤبة: (وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... ... ... ... ... ) {وَنَحْنُ أَقْرَبٌ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه حبل معلق به القلب , قاله الحسن. والأصم وهو الوتين. الثاني: أنه عرق في الحلق , قاله أبو عبيدة. الثالث: ما قاله ابن عباس , عرق العنق ويسمى حبل العاتق , وهما وريدان عن يمين وشمال , وسمي وريداً , لأنه العرق الذي ينصب إليه ما يرد من الرأس. وفي قوله {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ} تأويلان: أحدهما: ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه.

الثاني: ونحن أملك به من حبل وريده , مع استيلائه عليه. ويحتمل ثالثاً: ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده , الذي هو من نفسه , لأنه عرق يخالط القلب , فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب. قوله عز وجل: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ. .} الآية. قال الحسن ومجاهد وقتادة: المتلقيان ملكان يتلقيان عملك , أحدهما عن يمينك , يكتب حسناتك , والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك. قال الحسن: حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. وفي {قَعِيدٌ} وجهان: أحدهما: أنه القاعدة , قاله المفضل. الثاني: المرصد الحافظ , قاله مجاهد. وهو مأخوذ من القعود. قال الحسن: الحفظة أربعة: ملكان بالنهار وملكان بالليل. قوله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} أي ما يتكلم بشيء , مأخوذ من لفظ الطعام , وهو إخراجه من الفم. {إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المتتبع للأمور. الثاني: أنه الحافظ , قاله السدي. الثالث: أنه الشاهد , قاله الضحاك. وفي {عَتِيدٌ} وجهان: أحدهما: أنه الحاضر الذي لا يغيب. الثاني: أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة. قوله عز وجل: {وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله قد أوعده.

الثاني: أن يكون الحق هو الموت , سمي حقاً , إما لاسحقاقه , وإما لانتقاله إلى دار الحق. فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير. وتقديره: وجاءت سكرة الحق بالموت , ووجدتها في قراءة ابن مسعود كذلك. {ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كان يحيد من الموت , فجاءه الموت. الثاني: أنه يحيد من الحق , فجاءه الحق عند المعاينة. وفي معنى التحيد وجهان: أحدهما: أنه الفرار , قاله الضحاك. (الثاني): العدول , قاله السدي. ومنه قول الشاعر: (ولقد قلت حين لم يك عنه ... لي ولا للرجال عنه محيد.) فروى عاصم بن أبي بهدلة , عن أبي وائل , أن عائشة قالت عند أبيها وهو يقضي: (لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً , وضاق بها الصدر) فقال أبو بكر: (هلا قلت كما قال الله]: وَجَآءَتْ سَكْرَتُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}. قوله عز وجل: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} أما السائق ففيه قولان: أحدهما: أنه ملك يسوقه إلى المحشر , قاله أبو هريرة وابن زيد. الثاني: أنه أمر من الله يسوقه إلى موضع الحساب , قاله الضحاك. وأما الشهيد ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه ملك يشهد عليه بعمله , وهذا قول عثمان بن عفان والحسن. الثاني: أنه الإنسان , يشهد على نفسه بعمله، رواه أبو صالح.

الثالث: أنها الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله بنفسه , قاله أبو هريرة. ثم في الآية قولان: أحدهما: أنها عامة في المسلم والكافر , وهو قول الجمهور. الثاني: أنها خاصة في الكافر , قاله الضحاك. قوله عز وجل: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّن هَذَا} فيه وجهان: أحدهما أنه الكافر , كان في غفلة من عواقب كفره , قاله ابن عباس. الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم , كان في غفلة عن الرسالة مع قريش في جاهليتهم , قاله عبد الرحمن بن زيد. ويحتمل ثالثاً: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية. {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه إذا كان في بطن أمه فولد , قاله السدي. الثاني: إذا كان في القبر فنشر , وهذا معنى قول ابن عباس. الثالث: أنه وقت العرض في القيامة , قاله مجاهد. الرابع: أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة , وهذا معنى قول ابن زيد. {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وفي المراد بالبصر هنا وجهان: أحدهما: بصيرة القلب لأنه يبصر بها من شواهد الأفكار , ونتائج الاعتبار ما تبصر العين ما قابلها من قبلها من الأشخاص والأجسام , فعلى هذا في قوله: {حَدِيدٌ} تأويلان: أحدهما: سريع كسرعة مور الحديد. الثاني: صحيح كصحة قطع الحديد. الوجه الثاني: أن المراد به بصر العين وهو الظاهر , فعلى هذا في قوله: {حَدِيدٌ} تأويلان: أحدهما: شديد، قاله الضحاك. الثاني: بصير، قاله ابن عباس.

وماذا يدرك البصر؟ فيه خمسة أوجه: أحدها: يعاين الآخرة , قاله قتادة. الثاني: لسان الميزان , قاله الضحاك. الثالث: ما يصير إليه من ثواب أو عقاب , وهو معنى قول ابن عباس. الرابع: ما أمر به من طاعة وحذره من معصية , وهو معنى قول ابن زيد. الخامس: العمل الذي كان يعمله في الدنيا , قاله الحسن.

23

{وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} قوله عز وجل: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أما قرينه ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الملك الشهيد عليه , قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنه قرينه الذي قيض له من الشياطين , قاله مجاهد. الثالث: أنه قرينه من الإنس , قاله ابن زيد في رواية ابن وهب عنه. وفي قوله: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} وجهان: أحدهما: هذا الذي وكلت به أحضرته , قاله مجاهد. الثاني: هذا الذي كنت أحبه ويحبني قد حضر , قاله ابن زيد. قوله عز وجل: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارِ عَنِيدٍ} في ألقيا ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المأمور بألقيا كل كافر في النار ملكان. الثاني: يجوز أن يكون واحد ويؤمر بلفظ الاثنين كقول الشاعر: (فإن تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعاً) الثالث: أنه خارج مخرج تثنية القول على معنى قولك ألق ألق، قف قف،

تأكيداً للأمر. والكفار [بفتح الكاف] أشد مبالغة من الكافر. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه الكافر الذي كفر بالله ولم يطعه , وكفر بنعمه ولم يشكره. الثاني: أنه الذي كفر بنفسه وكفر غيره بإغوائه. وأما العنيد ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنه المعاند للحق , قاله بعض المتأخرين. الثاني: أنه المنحرف عن الطاعة , قاله قتادة. الثالث: أنه الجاحد المتمرد , قاله الحسن. الرابع: أنه المشاق , قاله السدي. الخامس: أنه المعجب بما عنده المقيم على العمل به , قاله ابن بحر. فأما العاند ففيه وجهان: أحدهما: أنه الذي يعرف بالحق ثم يجحده. الثاني: أنه الذي يدعى إلى الحق فيأباه. قوله عز وجل: {مَنَّاعٍ لِّلْخير} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منع الزكاة المفروضة , قاله قتادة. الثاني: أن الخير المال كله , ومنعه حبسه عن النفقه في طاعة الله , قاله بعض المتأخرين. الثالث: محمول على عموم الخير من قول وعمل. {مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} في المريب ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الشاك في الله , قاله السدي. الثاني: أنه الشاك في البعث , قاله قتادة. الثالث: أنه المتهم. قال الشاعر: (بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب)

(وأريبنا من لا يؤدي أمانة ... ولا يحفظ الأسرار حين يغيب) قال الضحاك: هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي حين استشاره بنو أخيه في الدخول في الإسلام فمنعهم. قوله عز وجل: {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ} فيه وجهان: أحدهما: أن اختصامهم هو اعتذار كل واحد منهم فيما قدم من معاصيه , قاله ابن عباس. الثاني: أنه تخاصم كل واحد مع قرينه الذي أغواه في الكفر , قاله أبو العالية. فأما اختصامهم في مظالم الدنيا , فلا يجوز أن يضاع لأنه يوم التناصف. أحدها: أن الوعيد الرسول , قاله ابن عباس. الثاني: أنه القرآن , قاله جعفر بن سليمان. الثالث: أنه الأمر والنهي , قاله ابن زيد. ويحتمل رابعاً: أنه الوعد بالثواب والعقاب. قوله عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَولُ لَدَيَّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: فيما أوجه من أمر ونهي , وهذا معنى قول ابن زيد. الثاني: فيما وعد به من طاعة ومعصية , وهو محتمل. الرابع: في أن بالحسنة عشر أمثالها وبخمس الصلوات خمسين صلاة , قاله قتادة. {وَمَآ أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} فيه وجهان: أحدهما: ما أنا بمعذب من لم يجرم , قاله ابن عباس. الثاني: ما أزيد في عقاب مسيء ولا أنقص من ثواب محسن , وهو محتمل.

30

{يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد}

قوله عز وجل: {يَوْمَ نُقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنَ مَّزِيدٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هل يزاد إلى من ألقي غيرهم؟ فالاستخبار عمن بقي , قاله زيد بن أسلم. الثاني: معناه إني قد امتلأت , ممن ألقي في , فهل أسع غيرهم؟ قاله مقاتل. الثالث: معناه هل يزاد في سعتي؟ لإلقاء غير من ألقي في , قاله معاذ. وفي قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وجهان: أحدهما: أن زبانية جهنم قالوا هذا. الثاني: أن حالها كالمناطقة بهذا القول , كما قال الشاعر: (امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني) قوله عز وجل: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} في الأواب الحفيظ ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الذاكر ذنبه في الخلاء , قاله الحكم. الثاني: أنه الذي إذا ذكر ذنباً تاب واستغفر الله منه، قاله ابن مسعود ومجاهد والشعبي. الثالث: أنه الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله فيه، قاله عبيد بن عمير. وأما الحفيظ هنا ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المطيع فيما أمر، وهو معنى قول السدي. الثاني: الحافظ لوصية الله بالقبول، وهو معنى قول الضحاك. الثالث: أنه الحافظ لحق الله بالاعتراف ولنعمه بالشكر، وهو معنى قول

مجاهد. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَ أَوَّاباً حَفِيظاً). قوله عز وجل: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه الذي يحفظ نفسه من الذنوب في السر كما يحفظها في الجهر. الثاني: أنه التائب في السر من ذنوبه إذا ذكرها , كما فعلها سراً. ويحتمل ثالثاً: أنه الذي يستتر بطاعته لئلا يداخلها في الظاهر رياء. ووجدت فيه لبعض المتكلمين. رابعاً: أنه الذي أطاع الله بالأدلة ولم يره. {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المنيب المخلص , قاله السدي. الثاني: أنه المقبل على الله , قاله سفيان. الثالث: أنه التائب , قاله قتادة. {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ} يعني ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم. {وَلَدَينَا مَزِيدٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن المزيد من يزوج بهن من الحور العين , رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. الثاني: أنها الزيادة التي ضاعفها الله من ثوابه بالحسنة عشر أمثالها. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل أخبره: أن يوم الجمعة يدعى في الآخرة يوم المزيد. وفيه وجهان: أحدهما: لزيادة ثواب العمل فيه.

الثاني: لما روي أن الله تعالى يقضي فيه بين خلقه يوم القيامة.

36

{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} قوله عز وجل: {فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ} فيه أربعة أوجه: احدها: أثروا في البلاد , قاله ابن عباس. الثاني: أنهم ملكوا في البلاد , قاله الحسن. الثالث: ساروا في البلاد وطافوا , قاله قتادة , ومنه قول امرىء القيس: (وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب) الرابع: أنهم اتخذوا فيها طرقاً ومسالك , قاله ابن جريج. ويحتمل خامساً: أنه اتخاذ الحصون والقلاع. {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هل من منجٍ من الموت , قاله ابن زيد. الثاني: هل من مهرب , قال معمر عن قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله تعالى لهم مدركاً. الثالث: هل من مانع؟ قال سعيد عن قتادة: حاص الفجرة , فوجدوا أمر الله منيعاً. قوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فيه وجهان: أحدهما: لمن كان له عقل , قاله مجاهد , لأن القلب محل العقل.

الثاني: لمن كانت له حياة ونفس مميزة , فعبر عن النفس الحية بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها. كما قال امرؤ القيس: (أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل) {أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ألقى السمع فيما غاب عنه بالأخبار , وهو شهيد فيما عاينه بالحضور. الثاني: معناه سمع ما أنزل الله من الكتب وهو شهيد بصحته. الثالث: سمع ما أنذر به من ثواب وعقاب , وهو شهيد على نفسه بما عمل من طاعة أو معصية. وفي الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها في جميع أهل الكتب , قاله قتادة. الثاني: أنها في اليهود والنصارى خاصة , قاله الحسن. الثالث: أنها في أهل القرآن خاصة , قاله محمد بن كعب وأبو صالح. قوله عز وجل: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} واللغوب التعب والنصب. قال الراجز: (إذا رقى الحادي المطي اللغبا ... وانتعل الظل فصار جوربا) قال قتادة والكلبي: نزلت هذه الآية في يهود المدينة , زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد , وآخرها يوم الجمعة , واستراح في يوم السبت , ولذلك جعلوه يوم راحة , فأكذبهم الله في ذلك. قوله عز وجل: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , أمر فيه بالصبر على ما يقوله المشركون , إما من تكذيب أو وعيد. {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} الآية. وهذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم , فهو عام له ولأمته. وفي هذا التسبيح وجهان: أحدهما: أنه تسبيحه بالقول تنزيهاً قبل طلوع الشمس وقبل الغروب , قاله أبو الأحوص.

الثاني: أنها الصلاة ومعناه فصلِّ بأمر ربك قبل طلوع الشمس , يعني صلاة الصبح , وقبل الغروب , يعني صلاة العصر , قاله أبو صالح ورواه جرير بن عبد الله مرفوعاً. قوله عز وجل: {وَمِنَ اللَّيلِ فَسَبِّحْهُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه تسبيح الله تعالى قولاً في الليل , قاله أبو الأحوص. الثاني: أنها صلاة الليل , قاله مجاهد. الثالث: أنها ركعتا الفجر , قاله ابن عباس. الرابع: أنها صلاة العشاء الآخرة , قاله ابن زيد. ثم قال {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه التسبيح في أدبار الصلوات , قاله أبو الأحوص. الثاني: أنها النوافل بعد المفروضات , قاله ابن زيد. الثالث: أنها ركعتان بعد المغرب , قاله علي رضي الله عنه وأبو هريرة. وروى ابن عباس قال: بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم , فصلى ركعتين قبل الفجر , ثم خرج إلى الصلاة فقال: (يا ابن عباس رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْبَارَ النُّجُومِ , وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمِغْرِبِ أَدْبَارَ السُّجُودِ).

41

{واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار

فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} قوله عز وجل: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنَادِ} هذه الصيحة التي ينادي بها المنادي من مكان قريب هي النفخة الثانية التي للبعث إلى أرض المحشر. ويحتمل وجهاً آخر , أنه نداؤه في المحشر للعرض والحساب. وفي قوله: {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} وجهان: أحدهما: أنه يسمعها كل قريب وبعيد , قاله ابن جريج. الثاني: أن الصيحة من مكان قريب. قال قتادة: كنا نحدث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض: يا أيتها العظام البالية , قومي لفصل القضاء وما أعد من الجزاء. وحدثنا , أن كعباً قال: هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. قوله عز وجل: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: يعني بقول الحق. الثاني: بالبعث الذي هو حق. {ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} فيه وجهان: أحدهما: الخروج من القبور. الثاني: أن الخروج من أسماء القيامة. قال العجاج: (وليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجا) قوله عز وجل: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: نحن أعلم بما يجيبونك من تصديق أو تكذيب. الثاني: بما يسرونه من إيمان أو نفاق. {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني برب، قاله الضحاك، لأن الجبار هو الله تعالى سلطانه.

الثاني: متجبر عليهم متسلط، قاله مجاهد. ولذلك قيل لكل متسلط جبار. قال الشاعر: (وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من صعره فتقوما) وهو من صفات المخلوقين ذم. الثالث: أنك لا تجبرهم على الإسلام من قولهم قد جبرته على الأمر إذا قهرته على أمر , قاله الكلبي. {فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} الوعيد العذاب , والوعد الثواب. قال الشاعر: (وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي) قال قتادة: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك. وروي أنه قيل: يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت {فَذَكِّرْ بِالْقُرءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}.

سورة الذاريات بسم الله الرحمن الرحيم

الذاريات

{والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} الذاريات: الرياح , واحدتها ذارية لأنها تذرو التراب والتبن أي تفرقه في الهواء , كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} وفي قوله {ذَرْواً} وجهان: أحدهما: مصدر. الثاني: أنه بمعنى ما ذرت , قاله الكلبي. فكأنما أقسم بالرياح وما ذرت الرياح. ويحتمل قولاً ثالثاً: أن الذاريات النساء الولودات لأن في ترائبهن ذرو الخلق , لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات , وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده

الصالحين , وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذارياً لأمرين. أحدهما: لأنهن اوعية دون الرجال فلاجتماع الذروين خصصن بالذكر. الثاني: أن الذرو فيهن أطول زماناً وهن بالمباشرة أقرب عهداً. {فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً} فيها قولان: أحدهما: أنها السحب [يحملن] وِقْراً بالمطر. الثاني أنها الرياح [يحملن] وِقْراً بالسحاب , فتكون الريح الأولى مقدمة السحاب لأن أمام كل سحابة ريحاً , والريح الثانية حاملة السحاب. لأن السحاب لا يستقل ولا يسير إلا بريح. وتكون الريح الثانية تابعة للريح الأولى من غير توسط , قاله ابن بحر. ويجري فيه احتمال قول: ثالث: أنهن الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل , والوقر ثقل الحمل على ظهر أو في بطن , وبالفتح ثقل الأذن. {فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} فيها قولان: أحدهما: السفن تجري بالريح يسراً إلى حيث سيرت. الثاني: أنه السحاب , وفي جريها يسراً على هذا القول وجهان: أحدهما: إلى حيث يسيرها الله تعالى من البقاع والبلاد. الثاني: هو سهولة تسييرها , وذلك معروف عند العرب كما قال الأعشى: (كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة ولا ريث لا عجل) {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} فيه قولان: أحدهما: أنه السحاب يقسم الله به الحظوظ بين الناس. الثاني: الملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه , قاله الكلبي. وهم: جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة , وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة , وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح , وعزرائيل وهو ملك الموت وقابض الأرواح , عليهم السلام.

والواو التي فيها واو القسم , أقسم الله بها لما فيها من الآيات والمنافع. {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} فيه وجهان: أحدهما: إن يوم القيامة لكائن , قاله مجاهد. الثاني: ما توعدون من الجزاء بالثواب والعقاب حق , وهذا جواب القسم. {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} فيه وجهان: أحدهما: إن الحساب لواجب , قاله مجاهد. الثاني: [أن] الدين الجزاء ومعناه أن جزاء أعمالكم بالثواب والعقاب لكائن , وهو معنى قول قتادة , ومنه قول لبيد. (قوم يدينون بالنوعين مثلهما ... بالسوء سوء وبالإحسان إحسانا) {وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} في السماء ها هنا وجهان: أحدهما: أنها السحاب الذي يظل الأرض. الثاني: وهو المشهور أنها السماء المرفوعة , قال عبد الله بن عمر: هي السماء السابعة. وفي {الْحُبُكِ} سبعة أقاويل: أحدها: أن الحبك الاستواء , وهو مروي عن ابن عباس على اختلاف. الثاني: أنها الشدة , وهو قول أبي صالح. الثالث: الصفاقة , قاله خصيف. الرابع: أنها الطرق , مأخوذ من حبك الحمام طرائق على جناحه، قاله الأخفش، وأبو عبيدة. الخامس: أنه الحسن والزينة، قاله علي وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير ومنه قول الراجز: (كأنما جللها الحواك ... كنقشة في وشيها حباك)

السادس: أنه مثل حبك الماء إذا ضربته الريح , قاله الضحاك. قال زهير: (مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الشمال لضاحي مائة حبك) السابع: لأنها حبكت بالنجوم , قاله الحسن. وهذا قسم ثان. {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني في أمر مختلف , فمطيع وعاص , ومؤمن وكافر , قاله السدي. الثاني: أنه القرآن فمصدق له ومكذب به , قاله قتادة. الثالث: انهم أهل الشرك مختلف عليهم بالباطل , قاله ابن جريج. ويحتمل رابعاً: أنهم عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. وهذا جواب القسم الثاني. {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فيه ستة تأويلات: أحدها: يضل عنه من ضل , قاله ابن عباس. الثاني: يصرف عنه من صرف , قاله الحسن. الثالث: يؤفن عنه من أفن , قاله مجاهد , والأفن فساد العقل. الرابع: يخدع عنه من خدع , قاله قطرب. الخامس: يكذب فيه من كذب , قاله مقاتل. السادس: يدفع عنه من دفع , قاله اليزيدي. {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: لعن المرتابون، قاله ابن عباس. الثاني: لعن الكذابون، قاله الحسن. الثالث: أنهم أهل الظنون والفرية، قاله قتادة. الرابع: أنهم المنهمكون , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وقوله: {قُتِلَ} ها هنا، بمعنى لعن، والقتل اللعن. وأما الخراصون فهو جمع خارص. وفي الخرص ها هنا وجهان:

أحدهما: أنه تعمد الكذب , قاله الأصم. الثاني: ظن الكذب , لأن الخرص حزر وظن , ومنه أخذ خرص الثمار. وفيما يخرصونه وجهان: أحدهما: تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: التكذيب بالبعث. وفي معنى الأربع تأويلات وقد تقدم ذكرها في أولها {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في غفلة لاهون , قاله ابن عباس. الثاني: في ضلالاتهم متمادون , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: في عمى وشبهة يترددون , قاله قتادة. ويحتمل رابعاً: الذين هم في مأثم المعاصي ساهون عن أداء الفرائض. {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي متى يوم الجزاء. وقيل: إن أيان كلمة مركبة من أي وآن. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} في {يُفْتَنُونَ} ثلاثة أوجه: أحدها: أي يعذبون , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر: (كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور مفتون) الثاني: يطبخون ويحرقون , كما يفتن الذهب بالنار , وهو معنى قول عكرمة والضحاك. الثالث: يكذبون توبيخاً وتقريعاً زيادة في عذابهم. {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} الآية. فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معنى فتنتكم أي عذابكم , قاله ابن زيد. الثاني: حريقكم , قاله مجاهد. الثالث: تكذبيكم , قاله ابن عباس.

15

{إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم

حق للسائل والمحروم وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} {ءَآخِذِينَ مَآ َاتَاهُمْ رَبُّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: من الفرائض , قاله ابن عباس. الثاني: من الثواب , قاله الضحاك. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذلِكَ مُحسِنِينَ} أي قبل الفرائض محسنين بالإجابة، قاله ابن عباس. الثاني: قبل يوم القيامة محسنين بالفرائض، قاله الضحاك. {كَانُواْ قَلْيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: راجع على ما تقدم من قوله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً} بمعنى أن المحسنين كانوا قليلاً , ثم استأنف: من الليل ما يهجعون , قاله الضحاك. الثاني: أنه خطاب مستأنف بعد تمام ما تقدمه , ابتداؤه كانوا قليلاً , الآية. والهجوع: النوم , قال الشاعر: (أزالكم الوسمي أحدث روضه ... بليل وأحداق الأنام هجوع) وفي تأويل ذلك أربعة أوجه: أحدها {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} أي يستيقظون فيه فيصلون ولا ينامون إلا قليلاً , قاله الحسن. الثاني: أن منهم قليلاً ما يهجعون للصلاة في الليل وإن كان أكثرهم هجوعاً , قاله الضحاك. الثالث: أنهم كانوا في قليل من الليل ما يهجعون حتى يصلوا صلاة المغرب وعشاء الآخرة , قاله أبو مالك. الرابع: أنهم كانوا قليلاً يهجعون , وما: صلة زائدة , وهذا لما كان قيام الليل

فرضاً. وكان أبو ذر يحتجن يأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}. {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: وبالأسحار هم يصلون , قاله الضحاك. الثاني: أنهم كانوا يؤخرون الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر ليستغفروا فيه , قاله الحسن. قال ابن زيد: وهو الوقت الذي أخر يعقوب الاستغفار لبنيه حتى استغفر لهم فيه حين قال لهم {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98]. قال ابن زيد: والسحر السدس الأخير من الليل. وقيل إنما سمي سحراً لاشتباهه بين النور والظلمة. {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} فيه وجهان: أحدهما: أنها الزكاة , قاله ابن سيرين وقتادة وابن أبي مريم. الثاني: أنه حق سوى الزكاة تصل له رحماً أو تقري به ضيفاً أو تحمل به كلاًّ أو تغني به محروماً , قاله ابن عباس. {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أما السائل فهو مَن يسأل الناس لفاقته , وأما المحروم , ففيه ثمانية أقوال: أحدها: المتعفف الذي يسأل الناس شيئاً ولا يعلم بحاجته , قاله قتادة. الثاني: أنه الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم , قاله الحسن ومحمد بن الحنفية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا , فجاء قوم بعدما فرغوا فنزلت الآية. الثالث: أنه من ليس له سهم في الإسلام , قاله ابن عباس. الرابع: المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه , وهذا قول عائشة. الخامس: أنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. السادس: أنه المصاب بثمره وزرعه يعينه من لم يصب , قاله ابن زيد: السابع: أنه المملوك , قاله عبد الرحمن بن حميد.

الثامن: أنه الكلب , روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة فجاء كلب فاحتز عمر كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. ويحتمل تاسعاً: أنه من وجبت نفقته من ذوي الأنساب لأنه قد حرم كسب نفسه , حتى وجبت نفقته في مال غيره. {وَفِي الأَرْضِءَآيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} يعني عظات للمعتبرين من أهل اليقين وفيها وجهان: أحدهما: ما فيها من الجبال والبحار والأنهار , قاله مقاتل. الثاني: من أهلك من الأمم السالفة وأباد من القرون الخالية , قاله الكلبي. {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه سبيل الغائط والبول , قاله ابن الزبير ومجاهد. الثاني: تسوية مفاصل أيديكم وأرجلكم وجوارحكم دليل على أنكم خلقتم لعبادته , قاله قتادة. الثالث: في خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون , قاله ابن زيد. الرابع: في حياتكم وموتكم وفيما يدخل ويخرج من طعامكم , قاله السدي. الخامس: في الكبر بعد الشباب , والضعف بعد القوة , والشيب بعد السواد , قاله الحسن. ويحتمل سادساً: أنه نجح العاجز وحرمان الحازم. {وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}: {وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق فهو رزق لهم من السماء , قاله سعيد بن جبير والضحاك. الثاني: يعني أن من عند الله الذي في السماء رزقكم.

ويحتمل وجهاً ثالثاً: وفي السماء تقدير رزقكم وما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب. وأما قوله {وَمَا تُوعَدُونَ} ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: من خير وشر , قاله مجاهد. الثاني: من جنة ونار , قاله الضحاك. الثالث: من أمر الساعة , قاله الربيع. {فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: ما جاء به الرسول من دين وبلغه من رسالة. الثاني: ما عد الله عليهم في هذه السورة من آياته وذكره من عظاته. قال الحسن: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَاماً أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [بِنَفْسِهِ] ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوهُ). وقد كان قس بن ساعدة في جاهليته ينبه بعقله على هذه العبر فاتعظ واعتبر , فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رَأَيتُهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِعُكَاظَ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُواْ وَعُوا , مِنْ عَاشَ مَاتَ , وَمَن مَّاتَ فَاتَ , وَكُلُّ مَا هُوَاءَآتٍ ءآتٍ , مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلاَ يَرْجِعُونَ؟ أَرَضُواْ بِالإِقَامَةِ فَأَقَامُواْ؟ أَمْ تُرِكُوا فَنَاموا؟ إِنَّ فِي السَّمَآءِ لَخَبَراً , وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَراً , سَقْفٌ مَرْفُوعٌ , وَلَيلٌ مَوضُوعٌ , وَبِحَارٌ تَثُورٌ , وَنُجُومٌ تَحُورُ ثُمَّ تَغُورُ , أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً مَاءَاثَمُ فِيهِ , إِنَّ للهِ دِيناً هُوَ أَرْضَى مِن دِينٍ أَنتُم عَلَيهِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مَأ أَدْرِي مَا هِيَ) فقال أبو بكر: كنت حاضراً إذ ذاك والأبيات عندي وأنشد: (في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر) (لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر) (ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر) (لا يرجع الماضي إليَّ ... ولا من الباقين غابر) (أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائر)

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ). ونحن نسأل الله تعالى مع زاجر العقل ورادع السمع أن يصرف نوازع الهوى ومواقع البلوى. فلا عذر مع الإنذار , ولا دالة مع الاعتبار , وأن تفقهن الرشد تدرك فوزاً منه وتكرمة.

24

{هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم} {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} قال عثمان بن محسن: كانوا أربعة من الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل. وفي قوله {الْمُكْرَمِينَ} وجهان: أحدهما: أنهم عند الله المعظمون. الثاني: مكرمون لإكرام إبراهيم لهم حين خدمهم بنفسه , قاله مجاهد. قال عطاء: وكان إبراهيم إذا أراد أن يتغذى , أو يتعشى خرج الميل والميلين والثلاثة , فيطلب من يأكل معه. قال عكرمة: وكان إبراهيم يكنى أبا الضيفان , وكان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد. وسمي الضيف ضيفاً , لإضافته إليك وإنزاله عليك. {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيهِ فَقَالُواْ سَلاَماً} فيه وجهان: أحدهما: قاله الأخفش , أي مسالمين غير محاربين لتسكن نفسه.

الثاني: أنه دعا لهم بالسلامة , وهو قول الجمهور , لأن التحية بالسلام تقتضي السكون والأمان , قال الشاعر: (أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم) فأجابهم إبراهيم عن سلامتهم بمثله: {قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مَنكَرُونَ} لأنه رآهم على غير صورة البشر وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم , فنكرهم وقال {قَوْمٌ مَنكَرُونَ} وفيه وجهان: أحدهما: أي قوم لا يعرفون. الثاني: أي قوم يخافون , يقال أنكرته إذا خفته , قال الشاعر: (فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا) {فَرَاغَ إِلى أَهْلِهِ} فيه وجهان: أحدهما: فعدل إلى أهله , قاله الزجاج. الثاني: أنه أخفى ميله إلى أهله. {فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أما العجل ففي تسميته بذلك وجهان: أحدهما: لأن بني إسرائيل عجلوا بعبادته. الثاني: لأنه عجل في اتباع أمه. قال قتادة: جاءهم بعجل لأن كان عامة مال إبراهيم البقر , واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم , وجاء به مشوياً , وهو محذوف من الكلام لما فيه من الدليل عليه. فروى عون ابن أبي شداد أن جبريل مسح العجل بجناحه فقام يدرج , حتى لحق بأمه , وأم العجل في الدار. {فَقَرَّبَهُ إِلَيهِم قَالَ أَلاَ تَأَْكُلُونَ} لأنهم امتنعوا من الأكل لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون , فروى مكحول أنهم قالوا لا نأكله إلا بثمن , قال كلوا فإن له ثمناً , قالوا وما ثمنه؟ قال: إذا وضعتم أيديكم أن تقولوا: بسم الله , وإذا فرغتم أن تقولوا: الحمد لله , قالوا: بهذا اختارك الله يا إبراهيم.

{فَأوْجَسَ مِنهُمْ خِيفَةً} لأنهم لم يأكلوا , خاف أن يكون مجيئهم إليه لشر يريدونه به. {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه إسحاق من سارة , استشهاداً بقوله تعالى في آية أخرى {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112]. الثاني: أنه إسماعيل من هاجر , قاله مجاهد. {عَلِيمٍ} أي يرزقه الله علماً إذا كبر. {فَأَقْبَلَتِ امْرَأتُهُ فِي صَرَّةٍ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: الرنة والتأوه , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر: (وشربة من شراب غير ذي نفس ... في صرة من تخوم الصيف وهاج) الثاني: أنها الصيحة , قاله ابن عباس ومجاهد , ومنه أخذ صرير الباب , ومنه قول امرىء القيس: (فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل) الثالث: أنها الجماعة , قاله ابن بحر , ومنه المصراة من الغنم لجمع اللبن في ضرعها. وسميت صرة الدراهم فيها , قال الشاعر: (رب غلام قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبته) وأما قوله {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ففيه قولان: أحدهما: معناه لطخت وجهها , قاله ابن عباس. الثاني: أنها ضربت جبينها تعجباً. {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي , أتلد عجوز عقيم؟ قاله مجاهد والسدي.

31

{قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل

عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين} {فَتَوَلَّى} يعني فرعون , وفي توليه وجهان: أحدهما: أدبر. الثاني: أقبل , وهو من الأضداد. {بِرُكْنِهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: بجموعه وأجناده , قاله ابن زيد. الثاني: بقوته , قاله ابن عباس , ومنه قول عنترة: (فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني.) الثالث: بجانبه , قاله الأخفش. الرابع: بميله عن الحق وعناده بالكفر , قاله مقاتل. ويحتمل خامساً بماله لأنه يركن إليه ويتقوى به. {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن العقيم هي الريح التي لا تلقح , قاله ابن عباس. الثاني: هي التي لا تنبث , قاله قتادة. الثالث: هي التي ليس فيها رحمة , قاله مجاهد.

الرابع: هي التي ليس فيها منفعة , قاله ابن عباس. وفي الريح التي هي عقيم ثلاثة أقاويل: أحدها: الجنوب , روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الريح العقيم الجنوب). الثاني الدبور , قاله مقاتل. قال عليه السلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور) الثالث: هي ريح الصبا , رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. {إِلاَّ جَعَلْتْهُ كَالرَّمِيمِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الرميم التراب , قاله السدي. الثاني: أنه الذي ديس من يابس النبات , وهذا معنى قول قتادة. الثالث أن الرميم: الرماد , قاله قطرب. الرابع: أنه الشيء البالي الهالك , قاله مجاهد , ومنه قول الشاعر: (تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة البالي)

47

{والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} {وَالسَّمَآءِ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ} أي بقوة. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: لموسعون في الرزق بالمطر , قاله الحسن. الثاني: لموسعون السماء , قاله ابن زيد. الثالث: لقادرون على الاتساع بأكثر من اتساع السماء.

الرابع: لموسعون بخلق سماء ملثها , قاله مجاهد. الخامس: لذوو سعة لا يضيق علينا شيء نريده. {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه خلق كل جنس نوعين. الثاني: أنه قضى أمر خلقه ضدين صحة وسقم , وغنى وفقر , وموت وحياة , وفرح وحزن , وضحك وبكاء. وإنما جعل بينكم ما خلق وقضى زوجين ليكون بالوحدانية متفرداً. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: تعلمون بأنه واحد. الثاني: تعلمون أنه خالق. {فَفِرُّوْا إِلّى اللَّهِ} أي فتوبوا إلى الله.

52

{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فيه وجهان: أحدهما: فذكر بالقرآن , قاله قتادة. الثاني: فذكر بالعظة فإن الوعظ ينفع المؤمنين , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: وذكر بالثواب والعقاب فإن الرغبة والرهبة تنفع المؤمنين. {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِ وَالإِنسَ إلاَّ لَيَعْبُدُونِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً , قاله ابن عباس. الثاني: إلا لآمرهم وأنهاهم , قاله مجاهد.

الثالث: إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة , قاله زيد بن أسلم. الرابع: إلا ليعرفوني , قاله الضحاك. الخامس: إلا للعبادة , وهو الظاهر , وبه قال الربيع بن انس. {مَآ أُرِيدُ مِنْهُمْ مَّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم. الثاني: ما أنفسهم , قاله أبو الجوزاء. الثالث: ما أريد منهم معونة ولا فضلاً. {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: عذاباً مثل عذاب أصحابهم , قاله عطاء. الثاني: يعني سبيلاً , قاله مجاهد. الثالث: يعني بالذنوب الدلو , قاله ابن عباس , قال الشاعر: (لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب) ولا يسمى الذنوب دلواً حتى يكون فيه ماء. الرابع: يعني بالذنوب النصيب , قال الشاعر: (وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب) ويعني بأصحابهم من كذب بالرسل من الأمم السالفة ليعتبروا بهلاكهم. {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يستعجلوا نزول العذاب بهم لأنهم قالوا: {يا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} الآية , فنزل بهم يوم بدر , ما حقق الله وعده , وعجل به انتقامه.

سورة الطور بسم الله الرحمن الرحيم

الطور

{والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون} قوله تعالى {وَالطُّورِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه اسم للجبل بالسريانية , قاله مجاهد. قال مقاتل: يسمى هذا الطور زبير. الثاني: أن الطور ما أنبت , وما لا ينبت فليس بطور , قاله ابن عباس , وقال الشاعر: (لو مر بالطور بعض ناعقة ... ما أنبت الطور فوقه ورقة)

ثم في هذا الطور الذي أقسم الله به ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه طور سيناء , قاله السدي. الثاني: أنه الطور الذي كلم الله عليه موسى , قاله ابن قتيبة. الثالث: أنه جبل مبهم , قاله الكلبي. وأقسم الله به تذكيراً بما فيه من الدلائل. وقال بعض المتعمقة: إن الطور ما يطوى على قلوب الخائفين. {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} أي مكتوب , وفي أربعة أقاويل: أحدها: أنه الكتاب الذي كتب الله لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. الثاني: أنه القرآن مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ. الثالث: هي صحائف الأعمال فمن أخذ كتابه بيمينه , ومن آخذ كتابه بشماله , قاله الفراء. الرابع: التوراة قاله ابن بحر. {فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الصحيفة المبسوطة وهي التي تخرج للناس أعمالهم , وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها , قال المتلمس: (فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور) الثاني: هو ورق مكتوب , قاله أبو عبيدة. الثالث: هو ما بين المشرق والمغرب , قاله ابن عباس.

{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: ما روى قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُتِيَ بِيَ إِلَى السَّمَاءِ فَرُفِعَ لَنَا الْبَيتُ المَعْمُورُ , فَإِذَا هُوَ حِيالُ الكَعْبَةِ , لَوْ خَرَّ خَرَّ عَلَيهَا , يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ , إِذَا خَرَجُوا مِنهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَيهِ) قاله علي وابن عباس. الثاني: ما قاله السدي: أن البيت المعمور , هو بيت فوق ست سموات , ودون السابعة , يدعى الضراح , يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك من قبيلة إبليس لا يرجعون إليه أبداً , وهو بحذاء البيت العتيق. الثالث: ما قاله الربيع بن أنس , أن البيت المعمور كان في الأرض في موضع الكعبة في زمان آدم , حتى إذا كان زمان نوح أمرهم أن يحجوا , فأبوا عليه وعصوه , فما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا , فيعمره , فبوأ الله لإبراهيم الكعبة البيت الحرام حيث كان , قاله الله تعالى: {وَإِِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيْمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية. الرابع: ما قاله الحسن أن البيت المعمور هو البيت الحرام. وفي {الْمَعْمُورِ} وجهان: أحدهما: أنه معمور بالقصد إليه. الثاني: بالمقام عليه , قال الشاعر: (عمر البيت عامر ... إذ أتته جآذر) (من ظباء روائح ... وظباء تباكر) وتأول سهل أنه القلب , عمارته إخلاصه , وهو بعيد. {وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه السماء , قاله علي. الثاني: أنه العرش، قاله الربيع. {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جهنم , رواه صفوان بن يعلى عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: هو بحر تحت العرش، رواه أبو صالح عن علي رضي الله عنه. الثالث: هو بحر الأرض، وهو الظاهر.

وفي قوله: {الْمَسْجُورِ} سبعة تأويلات: أحدها: المحبوس، قاله ابن عباس والسدي. الثاني: أنه المرسل، قاله سعيد بن جبير. الثالث: الموقد ناراً، قاله مجاهد. الرابع: أنه الممتلىء، قاله قتادة. الخامس: أنه المختلط، قاله ابن بحر. السادس: أنه الذي قد ذهب ماؤه ويبس، رواه ابن أبي وحشية عن سعيد بن جبير. السابع: هو الذي لا يشرب من مائه ولا يسقى به زرع، قاله العلاء بن زيد. هذا آخر القسم، وجوابه: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لوَاقِعٌ} روى الكلبي: أن جبير بن مطعم قدم المدينة ليفدي حريفاً له يقال له مالك أسر يوم بدر، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة [المغرب] يقرأ {وَالطُّورِ} فجلس مستمعاً، حتى بلغ قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} فأسلم جبير خوفاً من العذاب، وجعل يقول: ما كنت أظن أن أقوم من مقامي، حتى يقع بي العذاب. {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً} فيه سبعة تأويلات أحدها: معناه تدور دوراً , قاله مجاهد , قال طرفة بن العبد: (صهابية العثنون موجدة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد.) الثاني: تموج موجاً , قاله الضحاك. الثالث: تشقق السماء , قاله ابن عباس لقوله تعالى {فَإِذَا بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} الآية. الرابع: تجري السماء جرياً , ومنه قول جرير: (وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل) الخامس: تتكفأ بأهلها , قاله أبو عبيدة وأنشد بيت الأعشى:

(كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل) السادس: تنقلب انقلاباً. السابع: أن السماء ها هنا الفلك , وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره , قاله ابن بحر. {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} فيه تأويلان: أحدهما: يدفعون دفعاً عنيفاً ومنه قول الراجز: (يدعه بصفحتي حيزومه ... دع الوصي جانبي يتيمه) قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وابن زيد. الثاني: يزعجون إزعاجاً , قاله قتادة. ويحتمل ثالثاً: أن يدعهم زبانيتها بالدعاء عليهم.

17

{إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين} {فَاكِهِينَ بِمَآ ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: معجبين، قاله ابن عباس. الثاني: ناعمين، قاله قتادة. الثالث: فرحين، قاله السدي. الرابع: المتقابلين بالحديث الذي يسر ويؤنس , مأخوذ من الفكاهة , قاله ابن بحر. الخامس: ذوي فاكهة كما قيل: لابن وتامر , أي ذو لبن وتمر , قاله عبيدة , ومعنى ذلك، أنهم ذوو بساتين فيها فواكه. {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} والسرر الوسائد , وفي المصفوفة ثلاثة أوجه: أحدها: المصفوفة بين العرش , قاله عكرمة.

الثاني: هي الموصولة بالذهب. الثالث: أنها الموصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفاً، قاله ابن بحر. {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} والعين الواسعة الأعين في صفائها , وهو جمع عيناء , ومنه قول الشاعر: (فحُور قد لهون وهن عين ... نواعم في المروط وفي الرياط) وفي تسميتهن حوراً وجهان: أحدهما: لأنه يحار فيهن الطرف، قاله مجاهد. الثاني: لبياضهن، قاله الضحاك، ومنه قيل للخبز حوار لبياضه.

21

{والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} {وَالَّذِينَءَآمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الله يدخل الذرية بإيمان الأباء الجنة , قاله ابن عباس. الثاني: أن الله تعالى يعطي الذرية مثل أجور الآباء من غير أن ينقص الآباء من أجورهم شيئاً , قاله إبراهيم. الثالث: أنهم البالغون عملوا بطاعة الله مع آبائهم فألحقهم الله بآبائهم , قاله قتادة. الرابع: أنه لما أدرك أبناؤهم الأعمال التي عملوها تبعوهم عليها فصاروا مثلهم فيها، قاله ابن زيد.

{وَمآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِمِ مِّن شَيْءٍ} فيه تأويلان: أحدهما: ما نقصناهم , قاله ابن عباس , قال رؤبة: (وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت) أي لم ينقصني , ومعنى الكلام: ولم ينقص الآباء بما أعطينا الأبناء. الثاني: معناه وما ظلمناهم , قاله ابن جبير , قال الحطيئة: (أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً) أي لا ظلماً , ولا كذباً. ومعنى الكلام: لم نظلم الآباء بما أعطينا الأبناء , وإنما فعل تعالى ذلك بالأبناء كرمة للآباء. {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} فيه وجهان: أحدهما: مؤاخذة كما تؤخذ الحقوق من الرهون. الثاني: أنه يحبس , ومنه الرهن لاحتباسه بالحق قال الشاعر: (وما كنت أخشى أن يكون رهينة ... لأحمر قبطي من القوم معتق) {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي , يتعاطون ويتساقون بأن يناول بضعهم بعضاً , وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس إناء مملوء من شراب وغيره فهو كأس , فإذا فرغ لم يسم كاساً , وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل: (وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحضور ولا فيها بسوار) (نازعته طيب الراح السمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه الساري.) {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} فيها أربعة أوجه: أحدها: لا باطل في الخمر ولا مأثم , قاله ابن عباس وقتادة , وإنما ذلك في الدنيا من الشيطان. الثاني: لا كذب فيها ولا خلف , قاله الضحاك. الثالث: لا يتسابون عليها ولا يؤثم بعضهم بعضاً , قاله مجاهد.

الرابع: لا لغو في الجنة ولا كذب , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. واللغو ها هنا فحش الكلام كما قال ذو الرمة: (فلا الفحش فيه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا) (بمستحكم جزل المروءة مؤمن ... من القوم لا يهوى الكلام اللواغيا) {وَيَطُوفُ عَلَيْهُمْ غِلُمَانٌ لَّهُمْ} ذكر ابن بحر فيه وجهين: أحدهما: ان يكون الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم , فأقَرَّ الله بهم أعينهم. الثاني: أنهم من أخدمهم الله إياهم من أولاد غيرهم. {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} أي مصون بالكن والغطاء , ومنه قول الشاعر: (قد كنت أعطيهم مالاً وأمنعهم ... عرضي , وودهم في الصدر مكنون) قال قتادة: بلغني أنه قيل يا رسول الله هذا الخدم مثل اللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم؟ قال: (والذي نفسي بيده لفضل ما بينهم , كفضل القمر ليلة البدر على النجوم). {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} يحتمل وجهين: أحدهما: بالجنة والنعيم. الثاني: بالتوفيق والهداية. {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عذاب النار , قاله ابن زيد. وقال الأصم: السموم اسم من أسماء جهنم. الثاني: أنه وهج جهنم , وهو معنى قول ابن جريج. الثالث: لفح الشمس والحر , وقد يستعمل في لفح البرد , كما قال الراجز: (اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا نلومه) {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن البر الصادق، قاله ابن جريج. الثاني: اللطيف، قاله ابن عباس.

الثالث: أنه فاعل البر المعروف به , قاله ابن بحر.

29

{فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} {فَذَكِّرْ} يعني بالقرآن. {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} يعني برسالة ربك. {بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} تكذيباً لعتبة بن ربيعة حيث قال إنه ساحر , وتكذيباً لعقبة بن معيط , حيث قال: إنه مجنون. {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} قال قتادة: قال ناس من الكفار: تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه , كما كفاكم شاعر بني فلان , وشاعر بني فلان , قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار , نسبوه إلا أنه شاعر. وفي {ريب المنون} وجهان: أحدهما: الموت , قاله ابن عباس. الثاني: حوادث الدهر , قاله مجاهد. المنون: الدهر , قال أبو ذؤيب: (أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع)

36

{أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين أم له البنات ولكم البنون أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم

عندهم الغيب فهم يكتبون أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون} {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: مفاتيح الرحمة. الثاني: خزائن الرزق. {أَمْ هُمْ الْمُصَيْطِرُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: المسلطون , قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: أنهم الأرباب , قاله الحسن وأبو عبيد. الثالث: معناه: أم هم المتولون , وهذا قد روي عن ابن عباس أيضاً. الرابع: أنهم الحفظة , مأخوذ من تسطير الكتاب , الذي يحفظ ما كتب فيه فصار المسيطر هنا حافظاً ما كتبه الله في اللوح المحفوظ , قاله ابن بحر. {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن السلم المرتقى إلى السماء , ومنه قول ابن مقبل: (لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات السلاليم) الثاني: أنه السبب الذي يتوصل به إلى عوالي الأشياء , قال الشاعر: (تجنيت لي ذنباً وما إن جنيته ... لتتخذي عذراً إلى الهجر سلماً) وقوله {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} يحتمل وجهين: أحدهما: يستمعون من السماء ما يقضيه الله على خلقه. الثاني: يستمعون منها ما ينزل الله على رسله من وحيه. {فلْيَأْتِ مْسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} فيه وجهان: أحدهما: فليأت صاحبهم بحجة ظاهرة تدل على صدقه. الثاني: فليأت بقوة تتسلط على الأسماع وتدل على قدرته.

44

{وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم فذرهم حتى يلاقوا

يومهم الذي فيه يصعقون يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} {وَإِن يَرَواْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني قطعاً من السماء، قاله قتادة. الثاني: جانباً من السماء. الثالث: عذاباً من السماء، قاله المفضل. وسمي كسفاً لتغطيته، والكسف: التغطية , ومنه أخذ كسوف الشمس والقمر. {يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} في مركوم وجهان: أحدهما: أنه الغليظ , قاله ابن بحر. الثاني: أنه الكثير المتراكب , قاله الضحاك. ومعنى الآية: أنهم لو رأو سقوط كسف من السماء عليهم عقاباً لهم لم يؤمنوا ولقالوا إنه سحاب مركوم بعضه على بعضه. {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يوم يموتون , قاله قتادة. الثاني: النفخة الأولى , حكاه ابن عيسى. الثالث: يوم القيامة يغشى عليهم من هول ما يشاهدونه , ومنه قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً} أي مغشياً عليه. {وَإِنَّ لِلَّذِينَ صَعِقاً} أي مغشياً عليه. {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: عذاب القبر , قاله علي. الثاني: الجوع , قاله مجاهد. الثالث: مصابهم في الدنيا , قاله الحسن. وفي المراد بالذين ظلموا ها هنا قولان: أحدهما: أنهم أهل الصغائر من المسلمين. الثاني: أنهم مرتكبو الحدود منهم.

{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: لقضائه فيما حملك من رسالته. الثاني: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك. {فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بعلمنا، قاله السدي. الثاني: بمرأى منا، حكاه ابن عيسى. الثالث: بحفظنا وحراستنا، ومنه قوله تعالى لموسى: {وَلتُصنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] بحفظي وحراستي، قاله الضحاك. {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن يسبح الله إذا قام من مجلسه , قاله أبو الأحوص , ليكون تكفيراً لما أجرى في يومه. الثاني: حين تقوم من منامك , ليكون مفتتحاً لعمله بذكر الله , قاله حسان بن عطية. الثالث: حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه التسبيح في الصلاة , إذا قام إليها. وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما: هو قول: سبحان ربي العظيم , في الركوع , وسبحان ربي الأعلى , في السجود. الثاني: التوجه في الصلاة بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك [وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك] , قاله الضحاك. {وَمِنَ الِّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها صلاة الليل. الثاني: التسبيح فيها. الثالث: أنه التسبيح في صلاة وغير صلاة.

وأما {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ركعتان قبل الفجر , رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ , إِدْبَارُ النُّجومِ , وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ إِدْبَارُ السُّجُودِ). الثاني: أنها ركعتا الفجر قبل الغداة. الثالث: أنه التسبيح بعد الصلاة , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً , وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر.

سورة النَجم مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي: {الذين يحتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم}. بسم الله الرحمن الرحيم

النجم

{والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فيه خمسة أقاويل: أحدها: نجوم القرآن إذا نزلت لأنه كان ينزل نجوماً , قاله مجاهد. الثاني: أنها الثريا، رواه ابن أبي نجيح، لأنهم كانوا يخافون الأمراض عند طلوعها. الثالث: أنها الزهرة، قاله السدي، لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها. الرابع: أنها جماعة النجوم، قاله الحسن، وليس بممتنع أن يعبر عنها بلفظ الواحد كما قال عمر بن أبي ربيعة: (أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء) الخامس: أنها النجوم المنقضة , وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم

رسولاً، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير كان يخبرهم بالحوادث، فسألوه عنها، فقال انظروا البروج الاثني عشر، فإن انقض منها شيء , فهو ذهاب الدنيا , وإن لم ينقض منها شيء , فسيحدث في الدنيا أمر عظيم , فاستشعروا ذلك , فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه , فأنزل الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أي ذلك النجم الذي هوى , هو لهذه النبوة التي حدثت. وفي قوله تعالى {إِذَا هَوى} ستة أقاويل: أحدها: النجوم إذا رقي إليها الشياطين , قاله الضحاك. الثاني: إذا سقط. الثالث: إذا غاب. الرابع: إذا ارتفع. الخامس: إذا نزل. السادس: إذا جرى، ومهواها جريها، لأنها لا تفتر في جريها في طلوعها وغروبها، وهذا قول أكثر المفسرين. وهذا قسم , وعلى القول الخامس في انقضاض النجوم خبر. {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم , وفيه وجهان: أحدهما: ما ضل عن قصد الحق ولا غوى في اتباع الباطل. الثاني: ما ضل بارتكاب الضلال , وما غوى بأن خاب سعيه , وألفى الخيبة كما قال الشاعر: (فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً) أي: من خاب في طلبه لامه الناس , وهذا جواب القسم على قول الأكثرين , قال مقاتل: وهي أول سورة أعلنها رسول الله بمكة. {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} فيه وجهان:

: أحدهما: وما ينطق عن هواه , وهو ينطق عن أمر الله , قاله قتادة. الثاني: ما ينطق بالهوى والشهوة , إن هو إلا وحي يوحى بأمر ونهي من الله تعالى له. {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} أي يوحيه الله إلى جبريل ويوحيه جبريل إليه.

5

{علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} {عَلَّمَهُ شَدِيدٌ الْقُوَى} يعني: جبريل في قول الجميع. {ذو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} فيه خمسة أوجه:

أحدها: ذو منظر حسن , قاله ابن عباس. الثاني: ذو غناء، قاله الحسن. الثالث: ذو قوة، قاله مجاهد وقتادة، ومن قول خفاف بن ندبة: (إني امرؤ ذو مرة فاستبقني ... فيما ينوب من الخطوب صليب) الرابع: ذو صحة في الجسم وسلامة من الآفات، ومن قول امرىء القيس: (كنت فيهم أبداً ذا حيلة ... محكم المرة مأمون العقد) الخامس: ذو عقل , قاله ابن الأنباري، قال الشاعر: (قد كنت عند لقاكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه) وفي قوله {فَاسْتَوَى} خمسة أوجه: أحدها: فاستوى جبريل في مكانه، قاله سعيد بن جبير. الثاني: قام جبريل على صورته التي خلق عليها لأنه كان يظهر له قبل ذلك في صورة لا رجل. حكى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته إلا مرتين: أما واحدة، فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية، فإنه كان معه حين صعد , وذلك قوله {وَهُوَ بِاْلأُفُقِ الأَعْلَى}. الثالث: فاستوى القرآن في صدره، وفيه على هذا وجهان: أحدهما: فاعتدل في قوته. الثاني: في رسالته. الرابع: يعني: فارتفع , وفيه على هذا وجهان: أحدهما: أنه جبريل ارتفع إلى مكانه. الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم , ارتفع بالمعراج. {وَهُوَ بِلأُفُقِ الأَعْلَى} فيه قولان: أحدهما: أنه جبريل حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى , قاله السدي. الثاني: أنه النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى , قاله عكرمة. وفي الأفق الأعلى ثلاثة أقاويل: أحدها: هو مطلع الشمس , قاله مجاهد. الثاني: هو الأفق الذي يأتي منه النهار , قاله قتادة , يعني طلوع الفجر. الثالث: هو أفق السماء وهو جانب من جوانبها , قاله ابن زيد , ومنه قول الشاعر: (أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم والطوالع) {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} فيه قولان: أحدهما: أنه جبريل، قاله قتادة.

الثاني: أنه الرب، قاله ابن عباس. وقوله {فَتَدَلَّى} فيه وجهان: أحدهما: تعلق فيما بين والسفل لأنه رآه منتصباً مرتفعاً ثم رآه متدلياً , قاله ابن بحر. الثاني: معناه قرب , ومنه قوله تعالى: {وَتُدلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تقربوها إليهم , وقال الشاعر: (أتيتك لا أدلي بقربى قريبة ... إليك ولكني بجودك واثق) وقيل فيه تقديم وتأخير , وتقديره: ثم تدلى فدنا , قاله ابن الأنباري. {فَكَانَ قَابَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: قيد قوسين , قاله قتادة والحسن. الثاني: أنه بحيث الوتر من القوس , قاله مجاهد. الثالث: من مقبضها إلى طرفها , قاله عبد الحارث. الرابع: قدر ذراعين , قاله السدي , فيكون القاب عبارة عن القدر , والقوس عبارة عن الذراع. ثم اختلفوا في المعنى بهذا الداني على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جبريل من ربه , قاله مجاهد وهو قول ابن عباس. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم من ربه , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم. {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى} في عبده الموحى إليه قولان: أحدهما: أنه جبريل عليه السلام أوحى إليه ما يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالته عائشة، والحسن، وقتادة. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم أوحي إليه على لسان جبريل، قاله ابن عباس والسدي. {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} في الفؤاد قولان:

أحدهما: أنه أراد صاحب الفؤاد فعبر عنه بالفؤاد لأنه قطب الجسد وقوام الحياة. الثاني: أنه أرد نفس الفؤاد لأنه محل الإعتقاد وفيه قولان: أحدهما: معناه ما أوهمه فؤداه ما هو بخلافه كتوهم السراب ماء , فيصير فؤاده بتوهم المحال كالكاذب له، وهو تأويل من قرأ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بالتخفيف. الثاني: معناه ما أنكر قلبه ما رأته عينه، وهو تأويل من قرأ {كَذَّبَ} بالتشديد. وفي الذي رأى خمسة أقاويل: أحدها: رأى ربه بعينه , قاله ابن عباس. الثاني: في المنام , قاله السدي. الثالث: أنه بقلبه روى محمد بن كعب قال: قلنا يا رسول الله [هل رأيت ربك]؟ قال: (رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ) ثم قرأ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}. الرابع: أنه رأى جلاله , قاله الحسن، وروى أبو العالية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رَأَيتُ نَهْرَاً وَرَأَيتُ وَرَاءَ النَّهْرِ حَجَاباً ورَأَيتُ وَرَاءَ الحِجَابِ نُوراً لَمْ أَرَ غَيَرَ ذَلِكَ). الخامس: أنه رأى جبريل على صورته مرتين، قاله ابن مسعود. {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أفتجادلونه على ما يرى، قاله إبراهيم. الثاني: أفتجادلونه على ما يرى، وهو مأثور.

الثالث: أفتشككونه على ما يرى , قاله مقاتل. {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى} يعني أنه رأى ما رآه ثانية بعد أُولى، قال كعب: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى عليهما السلام، فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين. {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} روي فيها خبران. أحدهما: ما روى طلحة بن مصرف عن مرة عن ابن مسعود قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها الخبر. الثاني: ما رواه معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، ثَمَرُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجْرٍ، وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَة، يَخْرُجُ مِن سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بِاطِنَانِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا النَّهْرانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالفُرَاتُ). وفي سبب تسميتها سدرة المنتهى خمسة أوجه: أحدها: لانه ينتهي علم الأنبياء إليها , ويعزب علمهم عما وراءها، قاله ابن عباس. الثاني: لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضحاك. الثالث: لانتهاء الملائكة والنبيين إليها ووقوفهم عندها، قاله كعب. الرابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، قاله الربيع بن أنس.

الخامس: لأنه ينتهي إليها كل ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها , قاله ابن مسعود. {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} فيه قولان: أحدهما: جنة المبيت والإقامة , قاله علي , وأبو هريرة. الثاني: أنها منزل الشهداء , قاله ابن عباس , وهي عن يمين العرش وفي ذكر جنة المأوى وجهان على ما قدمناه في سدرة المنتهى: أحدهما: أن المقصود بذكرها تعريف موضعها بأنه عند سدرة المنتهى , قاله الجمهور. {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الذي يغشاها فراش من ذهب , قاله ابن مسعود ورواه مرفوعاً. الثاني: أنهم الملائكة , قاله ابن عباس. الثالث: أنه نور رب العزة , قاله الضحاك. فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل: لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية، فظلها بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره. {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} في زيغ البصر ثلاثة أوجه؛ أحدها: انحرافه. الثاني: ذهابه، قاله ابن عباس. الثالث: نقصانه، قاله ابن بحر. وفي طغيانه ثلاثة أوجه: أحدها: ارتفاعه عن الحق. الثاني: تجاوزه للحق، قاله ابن عباس.

الثالث: زيادته , ويكون معنى الكلام أنه رأى ذلك على حقه وصدقه من غير نقصان عجز عن إدراكه , ولا زيادة توهمها في تخليه , قاله ابن بحر. {لَقَدْ رَأَى مِنْءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما غشي السدرة من فراش الذهب , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه قد رأى جبريل وقد سد الأفق بأجنحته , قاله ابن مسعود أيضاً. الثالث: ما رأه حين نامت عيناه ونظر بفؤاده , قاله الضحاك.

19

{أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} {أَفَرَءيْتُمُ اللاَّت وَالْعُزَّى} أما اللات فقد كان الأعمش يشددها , وسائر القراء على تخفيفها , فمن خففها فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه كان صنماً بالطائف زعموا أن صاحبه كان يلت عليه السويق لأصحابه، قاله السدي. الثاني: أنه صخرة يلت عليها السويق بين مكة والطائف، قاله عكرمة. وأما من شددها فلهم فيها قولان: أحدهما: أنه كان رجلاً يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن معبوده، ثم مات فقلبوه على قبره، قاله ابن عباس، ومجاهد. الثاني: أنه كان رجلاً يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق بالطائف قاله

السدي، وقيل إنه عامر بن ظرب العدواني ثم اتخذوا قبره وثناً معبوداً، قال الشاعر: (لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر.) وأما {الْعُزَّى} ففيه قولان: أحدهما: أنه صنم كانوا يعبدونه، قاله الجمهور. الثاني: أنها شجرة كان يعلق عليها ألوان العهن تعبدها سليم، وغطفان، وجشم، قال مقاتل: وهي سمرة، قاله الكلبي: هي التي بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حتى قطعها، وقال أبو صالح: بل كانت نخلة يعلق عليها الستور والعهن. وقيل في اللات والعزى قول ثالث: أنهما كانا بيتين يعبدهما المشركون في الجاهلية، فاللات بيت كان بنخلة يعبده كفار قريش، والعزى بيت كان بالطائف يعبده أهل مكة والطائف. {وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الأَخْرَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه كان صنماً بقديد بين مكة والمدينة، قاله أبو صالح. الثاني: أنه بيت كان بالمسلك يعبده بنو كعب. الثالث: أنها أصنام من حجارة كانت في الكعبة يعبدونها. الرابع: أنه وثن كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه، وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق بها من الدماء. وإنما قال: مناة الثالثة الأخرى , لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى، وروى سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم {أَفََرأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} الآية. ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم ترتجى، وفي رواية أبي العالية: وشفاعتهم ترتضى ومثلهم لا ينسى , ففرح المشركون وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فنزل جبريل فقال: أعرض

عليّ ما جئتك به فعرض عليه , فقال: لم آتك أنا بهذا وهذا من الشيطان، فأنزل الله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُوْلٍ وَلاَ نَبِّيٍ إلاَّ إذا تََمَنَّى ألْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}. {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} حيث جعلوا الملائكة بنات الله. {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: قسمة عوجاء , قاله مجاهد. الثاني: قسمة جائرة , قاله قتادة. الثالث: قسمة منقوصة , قاله سفيان وأكثر أهل اللغة , قال الشاعر: (فإن تنأى عنا ننتقصك وإن تقم ... فقسمك مضئوز وأنفك راغم) ومعنى مضئوز أي منقوص. الرابع: قسمة مخالفة , قاله ابن زيد. {أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} فيه وجهان: أحدهما: من البنين أن يكونوا له دون البنات. الثاني: من النبوة أن تكون فيه دون غيره. {فَلِلَّهِ الأخِرَةُ وَالأُولَى} فيه وجهان: أحدهما: يعني أنه أقدر من خلقه , فلو جاز أن يكون له ولد - كما نسبه إليه المشركون حين جعلوا له البنات دون البنين وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - لكان بالبنين أحق منهم. الثاني: أنه لا يعطي النبوة من تمناها , وإنما يعطيها من اختاره لها لأنه مالك السموات والأرض.

27

{إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ولله ما في السماوات وما في الأرض

ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَآئِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ الَّلمَمَ} أما كبائر الإثم ففيها. خمسة أقاويل؛ أحدها: أنه الشرك بالله , حكاه الطبري. الثاني: أنه ما زجر عنه بالحد , حكاه بعض الفقهاء. الثالث: ما لا يكفر إلا بالتوبة , حكاه ابن عيسى. الرابع: ما حكاه شرحبيل عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: (أن تدعو لله نداً وهو خلقك وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك وأن تزاني حليلة جارك) الخامس: ما روى سعيد بن جبير أن رجلاً سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي؟ قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبعة، لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، فكأنه يذكر أن كبائر الإثم ما لم يستغفر منه. وأما الفواحش ففيها قولان: أحدهما: أنها جميع المعاصي. الثاني: أنها الزنى. وأما اللمم المستثنى ففيه ثمانية أقاويل: أحدها: إلا اللمم الذي ألموا به في الجاهلية من الإثم والفواحش فإنه معفو عنه في الإسلام، قاله ابن زيد بن ثابت. الثاني: هو أن يلم بها ويفعلها ثم يتوب منها، قاله الحسن ومجاهد.

الثالث: هو أن يعزم على المواقعة ثم يرجع عنها مقلعاً وقد روى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمْ تغفر جَمَّاً ... وَأَي عَبْدٍ لَّكَ لاَ أَلَمَّا) الرابع: أن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة , قاله ابن مسعود , روى طاووس عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم من قول أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كلِّ نَفْسٍ خَطَّهَا مِن الزّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ , فَزِنَى الْعَيْنَينِ النَّظَرُ وَزِنَى الِلَّسَانِ المَنطِقُ وَهِيَ النَّفْسُ تُمَنّي وَتَشْتَهِى , وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوُ يُكَذِّبُه) الخامس: أن اللمم الصغائر من الذنوب. السادس: أن اللمم ما لم يجب عليه حد في الدنيا ولم يستحق عليه في الآخرة عذاب , قاله ابن عباس , وقتادة. السابع: أن اللمم النظرة الأولى فإن عاد فليس بلمم , قاله بعض التابعين , فجعله ما لم يتكرر من الذنوب , واستشهد بقول الشاعر: (وما يستوي من لا يرى غير لمة ... ومن هو ناو غيرها لا يريمها) والثامن: أن اللمم النكاح , وهذا قول أبي هريرة. وذكر مقاتل بن سليمان أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار كان له حانوت يبيع فيه تمراً , فجاءته امرأة تشتري منه تمراً , فقال لها: إن بداخل الدكان ما هو خير من هذا , فلما دخلت راودها عن نفسها , فأبت وانصرفت , فندم نبهان وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع , فقال: (لَعَلَّ زَوْجَهَا غَازٍ) فنزلت هذه الآية. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ} يعني أنشأ آدم. {وَإذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} قال مكحول: في بطون أمهاتنا فسقط منا من

سقط، وكنا فيمن بقي , ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك , وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شباباً فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي، ثم صرنا شيوخاً لا أبالك فما بعد هذا تنتظر؟ {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني لا تمادحوا، قاله ابن شوذب. الثاني: لا تعملوا بالمعاصي وتقولوا نعمل بالطاعة، قاله ابن جريج. الثالث: إذا عملت خيراً فلا تقل عملت كذا وكذا. ويحتمل رابعاً: لا تبادلوا قبحكم حسناً ومنكركم معروفاً. ويحتمل خامساً: لا تراؤوا بعملكم المخلوقين لتكونوا عندهم أزكياء. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} قال الحسن: قد علم الله كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة.

33

{أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى} {أَفَرَءَيْتَ الَّذِي تَولَّى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه العاص بن وائل السهمي، قاله السدي. الثاني: أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، قاله مجاهد، كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه يسمع ما يقولان ثم يتولى عنهما. الثالث: أنه النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه وضمن له أن يتحمل مأثم رجوعه، قاله الضحاك. {وَأعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه أعطى قليلاً من نفسه بالاستمتاع ثم أكدى بالانقطاع، قاله مجاهد. الثاني: أطاع قليلاً ثم عصى، قاله ابن عباس.

الثالث: أعطى قليلاً من ماله ثم منع، قاله الضحاك. الرابع: أعطى بلسانه وأكدى بقلبه، قاله مقاتل. وفي {أَكْدَى} وجهان: أحدهما: قطع , قاله الأخفش. الثاني: منع , قاله قطرب. {أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيبِ فَهُوَ يَرَى} فيه وجهان: أحدهما: معناه أعلم الغيب فرأى أن ما سمعه باطل. الثاني: أنزل عليه القرآن فرأى ما صنعه حقاً , قاله الكلبي. ويحتمل ثالثاً: أعلم أن لا بعث , فهو يرى أن لا جزاء. {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} فيه سبعة أقاويل: أحدها: وفّى عمل كل يوم بأربع ركعات في أول النهار , رواه الهيثم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن يقول كلما أصبح وأمسى {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِيْنَ تُمْسُونَ وَحِيْنَ تُصْبِحُونَ} الآية. رواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثالث: وفيما أمر به من طاعة ربه , قاله ابن عباس. الخامس: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لأنه كان بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة ابنه وأبيه فأول من خالفهم إبراهيم , قاله الهذيل. السادس: أنه ما أُمر بأمر إلا أداه ولا نذر إلا وفاه , وهذا معنى قول الحسن. السابع: وفَّى ما امتحن به من ذبح ابنه وإلقائة في النار وتكذيبه.

42

{وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى} {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمنتَهَى} يحتمل وجهين: أحدهما: إلى إعادتكم لربكم بعد موتكم يكون منتهاكم. {وَأَنَّهُ هُوَ أضْحَكَ وَأَبْكَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قضى أسباب الضحك والبكاء. الثاني: أنه أراد بالضحك السرور , وبالبكاء الحزن. والثالث: أنى خلق قوتي الضحك والبكاء , فإن الله ميز الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان , فليس في سائر الحيوان ما ضحك ويبكي غير الإنسان , وقيل إن القرد وحده يضحك ولا يبكي , وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد بالضحك والبكاء النعم والنقم. {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} فيه خمسة أوجه: أحدها: قضى أسباب الموت والحياة. الثاني: خلق الموت والحياة كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوتَ وَالْحَيَاةَ} قاله ابن بحر. الثالث: أن يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. الرابع: أمات بالمعصية وأحيا بالطاعة. الخامس: أمات الآباء وأحيا الأبناء. ويحتمل سادساً: أن يريد به أنام وأيقظ.

{مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} وجهان: أحدهما: إذا تخلق وتقدر , قاله الأخفش. الثاني: إذا نزلت في الرحم , قاله الكلبي. {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أغنى بالكفاية وأقنى بالزيادة , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: أغنى بالمعيشة وأقنى بالمال , قاله الضحاك. الثالث: أغنى بالمال وأقنى بأن جعل لهم قنية , وهي أصول الأموال , قاله أبو صالح. الرابع: أغنى بأن مَوّل وأقنى بأن حرم , قاله مجاهد. الخامس: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه , قاله سليمان التيمي. السادس: أغنى من شاء وأفقر من شاء , قاله ابن زيد. السابع: أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا , قاله سفيان. الثامن: أغنى عن أن يخدم وأقنى أن يستخدم , وهذا معنى قول السدي. ويحتمل تاسعاً: أغنى بما كسبه [الإنسان] في الحياة وأقنى بما خلفه بعد الوفاة مأخوذ من اقتناء المال وهو استبقاؤه. {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} والشعرى نجم يضيء وراء الجوزاء , قال مجاهد: تسمى هوزم الجوزاء , ويقال إنه الوقاد , وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان رباً لغيره لأن العرب كانت تعبده فأعلموا أن الشعرى مربوب وليس برب. واختلف فيمن كان يعبده فقال السدي: كانت تعبده حمير وخزاعة وقال غيره: أول من عبده أبو كبشة , وقد كان من لا يعبدها من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم , قال الشاعر: (مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشعرى العبور) {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى} فيهم قولان: أحدهما: أن عاد الأولى عاد بن إرم , وهم الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية , وعاداً الآخرة قوم هود. الثاني: أن عاداً الأولى قوم هود والآخرة قوم كانوا بحضرموت , قاله قتادة.

{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} والمؤتفكة المنقلبة بالخسف , قاله محمد بن كعب: هي مدائن قوم لوط وهي خمسة: صبغة وصغيرة وعمرة ودوماً وسدوم وهي العظمى , فبعث الله عليهم جبريل فاحتملها بجناحه ثم صعد بها حتى أن أهل السماء يسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها بالحجارة كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حَجَارةً مِن سِجِّيْلٍ} قال قتادة: كانوا أربعة آلاف ألف. {أَهْوَى} يحتمل وجهين: أحدهما: أن جبريل أهوى بها حين احتملها حتى جعل عاليها سافلها. الثاني: أنهم أكثر ارتكاباً للهوى حتى حل بهم ما حل من البلاء. {فَعَشَّاهَا مَا غَشَّى} يعني المؤتفكة , وفيما غشاها قولان: أحدهما: جبريل حين قلبها. الثاني: الحجارة حتى أهلكها. {فَبِأَيِّءَالآءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} وهذا خطاب للمكذب أي فبأي نعم ربك تشك فيما أولاك وفيما كفاك. وفي قوله: {فَغَشَّاهَا} وجهان: أحدهما: ألقاها. الثاني: غطاها.

56

{هذا نذير من النذر الأولى أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا} {هَذا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى} فيه قولان: أحدهما: أن محمداً نذير الحق أنذر به الأنبياء قبله , قاله ابن جريج. الثاني: أن القرآن نذير بما أنذرت به الكتب الأولى , قاله قتادة. ويحتمل قولاً ثالثاً: أن هلاك من تقدم ذكره من الأمم الأولى نذير لكم. {أَزِفَتِ الأزِفَةُ} أي اقتربت الساعة ودنت القيامة , وسماها آزفة لقرب قيامها عنده.

{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي من يكشف ضررها. {أَفَمِنَ هَذا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} فيه وجهان: أحدهما: من القرآن في نزوله من عند الله. الثاني: من البعث والجزاء وهو محتمل. {وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ} فيها وجهان: أحدهما: تضحكون استهزاء ولا تبكون انزجاراً. الثاني: تفرحون ولا تحزنون , وهو محتمل. {وَأَنْتُم سَامِدُونَ} فيه تسعة تأويلات: أحدها: شامخون كما يخطر البعير شامخاً، قاله ابن عباس. الثاني: غافلون , قاله قتادة. الثالث: معرضون، قاله مجاهد. الرابع: مستكبرون، قاله السدي. الخامس: لاهون لاعبون، قاله عكرمة. السادس: هو الغناء، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا، وهي لغة حمير، قاله أبو عبيدة. السابع: أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين قاله علي رضي الله عنه. الثامن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام، قاله الحسن، وفيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال: ما لي أراكم سامدين. التاسع؛ خامدون قاله المبرد، قال الشاعر: (رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقد سمدن له سموداً) {فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَأعْبُدُواْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه سجود تلاوة القرآن , قال ابن مسعود , وفيه دليل على أن في المفصل سجوداً. الثاني: أنه سجود الفرض في الصلاة.

سورة القمر مكية في قول الجمهور، وقال مقاتل إلا ثلاث آيات من قوله: {أم يقولون نحن جميع منتصر} إلى قوله؛ {والساعة أدهى وأمر}. بسم الله الرحمن الرحيم

القمر

{اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر} قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} أي دنت وقربت , قال الشاعر: (قد اقتربت لو كان في قرب دارها ... جداء ولكن قد تضر وتنفع) والمراد بالساعة القيامة , وفي تسميتها بالساعة وجهان: أحدهما: لسرعة الأمر فيها. الثاني: لمجيئها في ساعة من يومها. وروى طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقْتَرَبَتِ

السَّاعَةُ وَلاَ يَزْدَادُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا إلاَّ حِرْصاً وَلاَ تَزْدَادُ مِنْهُمْ إِلاَّ بُعْداً). {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه وضح الأمر وظهر والعرب تضرب مثلاً فيما وضح أمره , قال الشاعر: (أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل) (فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل) والثاني: أن انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه , وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه , كما قال النابغة الجعدي: (فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي) الثالث: أنه انشقاق القمر على حقيقة انشقاقه. وفيه على هذا التأويل قولان: أحدهما: أنه ينشق بعد مجيء الساعة وهي النفخة الثانية , قاله الحسن , قال: لأنه لو انشق ما بقي أحد إلا رأه لأنها آية والناس في الآيات سواء. الثاني: وهو قول الجمهور وظاهر التنزيل أن القمر انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سأله عمه حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضباً لسب أبي جهل لرسول الله , أن يريه آية يزداد بها يقيناً في إيمانه , وروى مجاهد عن أبي معمر عن أبي مسعود قال: رأيت القمر منشقاً شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , شقة على أبي قبيس , وشقة على السويدا فقالوا: سحر القمر , فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَ الْقَمَرُ}. {وَإِن يَرَوْاْءَايَةً يُعْرِضُواْ} فيه وجهان:

أحدهما: أنه أراد أي آية روأها أعرضوا عنها ولم يعتبروا بها , وكذلك ذكرها بلفظ التنكير دون التعريف، قاله ابن بحر. الثاني: أنه عنى بالآية انشقاق القمر حين رأوه. {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن معنى مستمر ذاهب , قاله أنس وأبو عبيدة. الثاني: شديد، مأخوذ من إمرار الحبل، وهو شدة فتله، قاله الأخفش والفراء. الثالث: أنه يشبه بعضه بعضاً. الرابع: أن المستمر الدائم , قال امرؤ القيس: (ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر) أي بدائم. الخامس: أي قد استمر من الأرض إلى السماء , قاله مجاهد. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يوم القيامة. الثاني: كل أمر مستقر في أن الخير لأهل الخير , والشر لأهل الشر , قاله قتادة. الثالث: أن كل أمر مستقر حقه من باطله. الرابع: أن لكل شيء غاية ونهاية في وقوعه وحلوله , قاله السدي. ويحتمل خامساً، أن يريد به دوام ثواب المؤمن وعقاب الكافر. {وَلَقْدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنْبَآءِ} فيه وجهان: أحدهما: أحاديث الأمم الخالية , قاله الضحاك. الثاني: القرآن. {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي مانع من المعاصي. ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه النهي. الثاني: أنه الوعيد. {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} قاله السدي: هي الرسالة والكتاب.

ويحتمل أن يكون الوعد والوعيد. ويحتمل قوله: {بَالِغَةٌ} وجهين: أحدهما: بالغة في زجركم. الثاني: بالغة من الله إليكم , فيكون على الوجه الأول من المُبَالَغَةِ , وعلى الوجه الثاني من الإبْلاَغ. {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} أي فما يمنعهم التحذير من التكذيب.

6

{فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر} {مّهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه: مسرعين , قاله أبو عبيدة , ومنه قول الشاعر: (بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع) الثاني: معناه: مقبلين , قاله الضحاك. الثالث: عامدين , قاله قتادة. الرابع: ناظرين , قاله ابن عباس. الخامس: فاتحين آذانهم إلى الصوت , قاله عكرمة. السادس: قابضين ما بين أعينهم , قاله تميم. {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يعني يوم القيامة , لما ينالهم فيه من الشدة.

9

{كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان

عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن المنهمر الكثير , قاله السدي، قال الشاعر: (أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر) الثاني: أنه المنصب المتدفق , قاله المبرد، ومنه قول امرىء القيس: (راح تمرية الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر) وفي فتح أبواب السماء قولان: أحدهما: أنه فتح رتاجها وسعة مسالكها. الثاني: أنها المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر , قاله علي. {فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} فيه وجهان: أحدهما: فالتقى ماء السماء وماء الأرض على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر , حكاه , ابن قتيبة. الثاني: قدر بمعنى قضي عليهم , قاله قتادة , وقدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا. {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحِ وَدُسُرٍ} أي السفينة , وفي الدسر أربعة أقاويل: أحدها: المعاريض التي يشد بها عرض السفينة، قاله مجاهد. الثاني: أنها المسامير دسرت بها السفينة، أي شدت، قاله ابن جبير وابن زيد. الثالث: صدر السفينة الذي يضرب الموج , قاله عكرمة، لأنها تدسر الماء بصدرها، أي تدفعه. الرابع: أنها طرفاها، وأصلها، قاله الضحاك. {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} فيه أربعة أوجه: أحدها: بمرأى منا.

الثاني: بأمرنا، قاله الضحاك. الثالث: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها. الرابع: بأعين الماء التي أتبعناها في قوله: {وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً}، وقيل: إنها تجري بين ماء الأرض والسماء، وقد كان غطاها عن أمر الله سبحانه. {جَزَآءً لِمَن كَانَ كُفِرَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لكفرهم بالله، قاله مجاهد، وابن زيد. والثاني: جزاء لتكذيبهم، قاله السدي. الثالث: مكافأة لنوح حين كفره قومه أن حمل ذات ألواح ودسر. {وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَآءَايَةً} فيها وجهان: أحدها: الغرق. الثاني: السفينة روى سعيد عن قتادة أن الله أبقاها بباقردي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة. وفي قوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني فهل من متذكر، قاله ابن زيد. الثاني: فهل من طالب خير فيعان عليه , قاله قتادة. الثالث: فهل من مزدجر عن معاصي الله , قاله محمد بن كعب. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه سهلنا تلاوته على إهل كل لسان، وهذا أحد معجزاته، لأن الأعجمي قد يقرأه ويتلوه كالعربي. الثاني: سهلنا علم ما فيه واستنباط معانيه، قاله مقاتل. الثالث: هونا حفظه فأيسر كتاب يحفظ هو كتاب الله، قاله الفراء.

18

{كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر

ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: باردة، قاله قتادة، والضحاك. الثاني: شديدة الهبوب، قاله ابن زيد. الثالث: التي يسمع لهبوبها كالصوت , ومنه قول الشاعر: ( ... ... ... ... ... ... باز يصرصر فوق المرقب العالي) {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِّرٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يوم عذاب وهلاك. الثاني: لأنه كان يوم الأربعاء. الثالث: لأنه كان يوماً بارداً، قال الشنفرى: (وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها ينبل) يعني أنه لشدة بردها يصطلي بقوسه وسهامه التي يدفع بها عن نفسه. وفي {مُسْتَمِرٍ} وجهان: أحدهما: الذاهب. الثاني: الدائم.

23

{كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}

{إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أن السعر الجنون، قاله ابن كامل. الثاني: العناء، قاله قتادة. الثالث: الافتراق، قاله السدي. الرابع: التيه، قاله الضحاك. الخامس: أنه جمع سعر وهو وقود النار، قاله ابن بحر وابن عيسى. وعلى هذا التأويل في قولهم ذلك وجهان: أحدهما: أنهم قالوه لعظم ما نالهم أن يتبعوا رجلاً واحداً منهم , كما يقول الرجل إذا ناله خطب عظيم: أنا في النار. الثاني: أنهم لما أوعدوا على تكذيبه ومخالفته بالنار ردوا مثل ما قيل لهم إنّا لو اتبعنا رجلاً مثلنا واحداً كنا إذاً في النار. {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الأشر هو العظيم الكذب , قاله السدي. الثاني: أنه البطر , ومنه قول الشاعر: (أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى) الثالث: أنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها. {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَة فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} أما الاصطبار فهو الافتعال من الصبر وأصل الطاء تاء أبدلت بطاء ليكون اللفظ أسهل مخرجاً ويعذب مسمعاً. وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجر فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك , قال: (أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْأَلُوا عَن هَذِهِ الآياتِ [هؤلاء] قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُم أَن يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُم آيَة، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُم نَاقَةً فَكَانَتْ تَرِدُ مِن ذَلَكِ الفَجَ فَتَشْرَبُ مَاءَهُم يَوْمَ وُرُودِهَا وَيَحْلِبُونَ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْهَا يَوْمَ غِبِّهَا وَيَصْدِرُونَ عَن ذَلِكَ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَبِئّهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم}) الآية.

وفيه وجهان: أحدهما: أن الناقة تحضر الماء يوم ورودهم , وتغيب عنهم يوم ورودها , قاله مقاتل. الثاني: أن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون , ويحضرون اللبن يوم وردها فيحلبون. {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} فيه قولان: أحدهما: انه أحمر إرم وشقيها , قاله قتادة , وقد ذكره زهير في شعره فقال: (فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم) الثاني: أنه قدار بن سالف , قاله محمد بن إسحاق , وقد ذكره الأفوه في شعره: (أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغاوية أقوام فقد بادوا) {فَتَعَاطَى} فيه وجهان: أحدهما: أن معناه بطش بيده , قاله ابن عباس. الثاني: معناه تناولها وأخذها , ومنه قول حسان بن ثابت: (كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل) {فَعَقَرَ} قال محمد بن إسحاق: كَمَنَ لها قدار في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها , ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة تحدر سقبها [من بطنها وانطلق سقبها] حتى اتى صخرة في رأس الجبل فرغا ثم لاذ بها , فأتاهم صالح , فلما رأى الناقة قد عقروها بكى ثم قال: انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله. قال ابن عباس: وكان الذي عقرها رجل أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى. {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} فيه خمسة أقاويل: أحدهما: يعني العظام المحترقة , قاله ابن عباس.

الثاني: أنه التراب الذي يتناثر من الحائط وتصيبه الريح، فيحتظر مستديراً، قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنها الحظار البالية من الخشب إذا صار هشيماً , ومنه قول الشاعر: (أثرت عجاجة كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم) قاله الضحاك. الرابع: أنه حشيش قد حظرته الغنم فأكلته، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً الخامس: أن الهشيم اليابس من الشجر الذي فيه شوك والمحتظر الذي تحظر به العرب حول ماشيتها من السباع , قاله ابن زيد , وقال الشاعر: (ترى جيف المطي بجانبيه ... كان عظامها خشب الهشيم.)

33

{كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن الحصب الحجارة التي رموا بها من السماء , والحصباء هي الحصى وصغار الأحجار. الثاني: أن الحاصب الرمي بالأحجار وغيرها , ولذلك تقول العرب لما تسفيه الريح حاصباً , قال الفرزدق: (مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور) الثالث: أن الحاصب السحاب الذي حصبهم.

الرابع: أن الحاصب الملائكة الذين حصبوهم. الخامس: أن الحاصب الريح التي حملت عليهم الحصباء. {إِلاَّءَالَ لُوطٍ} يعني ولده ومن آمن به. {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} والسحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر , وهو في كلام العرب اختلاط سواد آخر الليل ببياض أول النهار لأن هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} يعني ضيف لوط وهم الملائكة الذين نزلوا عليه في صورة الرجال , وكانوا على أحسن صورهم , فراودوا لوطاً عليهم طلباً للفاحشة. {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} والطمس محو الأثر ومنه طمس الكتاب إذا محي، وفي طمس أعينهم وجهان: أحدهما: أنهم اختفوا عن أبصارهم حتى لم يروهم، مع بقاء أعينهم، قاله الضحاك. الثاني: أعينهم طمست حتى ذهبت أبصارهم وعموا فلم يروهم، قاله الحسن، وقتادة. {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه وعيد بالعذاب الأدنى، قاله الضحاك. الثاني: أنه تقريع بما نالهم من عذاب العمى الحال، وهو معنى قول الحسن، وقتادة.

41

{ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}

{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} يعني أكفاركم خير من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. {أَمْ لَكُم بَرَآءةٌ فِي الزُّبُرِ} يعني في الكتب السالفة براءة من الله تعالى أنكم ليس تهلكون كما أهلكوا، ومنه قول الشاعر: (وترى منها رسوماً قد عفت ... مثل خط اللام في وحي الزبر) {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} يعني بالعدد والعدة , وقد كان من هلك قبلهم أكثر عدداً وأقوى يداً، ويحتمل انتصارهم وجهين: أحدهما: [لأنفسهم بالظهور]. الثاني: لآلهتهم بالعبادة. فرد الله عليهم فقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيْوَلُّونَ الدُّبُرَ} يعني كفار قريش وذلك يوم بدر , وهذه معجزة أوعدهم الله بها فحققها , وفي ذلك يقول حسان: (ولقد وليتم الدبر لنا ... حين سال الموت من رأس الجبل) {بَلِ الْسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} يعني القيامة. {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن موقف الساعة أدهى وأمر من موقف الدنيا في الحرب التي تولون فيها الدبر. الثاني: أن عذاب الساعة أدهى وأمر من عذاب السيف في الدنيا. وفي قوله {أدْهَى} وجهان: أحدهما: أخبث. الثاني: أعظم. {وَأَمَرُّ} فيه وجهان: أحدهما: معناه أشد لأن المرارة أشد الطعوم. الثاني: معناه أنفذ , مأخوذ من نفوذ المرارة فيما خالطته.

47

{إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس

سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} روى إسماعيل بن زياد عن محمد بن عباد عن أبي هريرة أن مشركي قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فيه وجهان: أحدهما: على قدر ما أردنا من غير زيادة ولا نقصان، قاله ابن بحر. الثاني: بحكم سابق وقضاء محتوم، ومنه قول الراجز: 89 (وقدر المقدر الأقدارا.} 9 ) {وَمَآ أَمْرُنْآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بَالْبَصَرِ} يعني أن ما أردناه من شيء أمرنا به مرة واحدة ولم نحتج فيه إلى ثانية , فيكون ذلك الشيء مع أمرنا به كلمح البصر في سرعته من غير إبطاء ولا تأخير. {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن المستطر المكتوب , قاله الحسن وعكرمة وابن زيد , لأنه مسطور. الثاني: أنه المحفوظ , قاله قتادة. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن النهر أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن، قاله ابن جريج. الثاني: أن النهر الضياء والنور , ومنه النهار , قاله محمد بن إسحاق , ومنه قول الراجز: (لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر) الثالث: أنه سعة العيش وكثرة النعيم، ومنه اسم نهر الماء، قاله قطرب.

{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِند مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ} فيه وجهان: أحدهما: مقعد حق لا لغو فيه ولا تأثيم. الثاني: مقعد صدق لله وعد أولياءه به، والمليك والملك واحد , وهو الله كما قال ابن الزبعري: (يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنابوا) ويحتمل ثالثاً: أن المليك مستحق الملك , والملك القائم بالملك والمقتدر بمعنى القادر. ويحتمل وصف نفسه بالاقتدار ها هنا وجهين: أحدهما: لتعظيم شأن من عنده من المتقين لأنهم عند المقتدر أعظم قدراً , وأعلى مجزاً. الثاني: ليعلموا أنه قادر على حفظ ما أنعم به عليهم ودوامه لهم، والله أعلم.

سورة الرحمن مكية كلها في قول الحسن، وعكرمة، وجابر، وقال ابن عباس: إلا آية، وهي قوله تعالى: {يسأله من في السموات والأرض} الآية. وقال ابن مسعود، ومقاتل: هي مدنية كلها. بسم الله الرحمن الرحيم

الرحمن

{الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان} قوله تعالى {الرَّحْمَنُ} فيه قولان: أحدهما: أنه اسم ممنوع لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، قاله الحسن، وقطرب.

الثاني: أنه فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى: {الر} و {حم} و {ن} فيكون مجموع هذه {الرَّحْمَنُ}، قاله سعيد بن جبير، وابن عباس. {عَلَّمَ الْقُرْءانَ} فيه وجهان: أحدهما: علمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. الثاني: سهل تعلمه على جميع الناس. {خَلَقَ الإِنسَانَ} فيه قولان: أحدهما: يعني آدم، قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنه أراد جميع الناس وإن كان بلفظ واحد، وهو قول الأكثرين. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} لأنه بالبيان فُضِّل على جميع الحيوان، وفيه ستة تأويلات: أحدها: أن البيان الحلال والحرام , قاله قتادة. الثاني: الخير والشر , قاله الضحاك , والربيع بن أنس. الثالث: المنطق والكلام، قاله الحسن. الرابع: الخط، وهو مأثور. الخامس: الهداية، قاله ابن جريج. السادس: العقل لأن بيان اللسان مترجم عنه. ويحتمل سابعاً: أن يكون البيان ما اشتمل على أمرين: إبانة ما في نفسه ومعرفة ما بين له. وقول ثامن لبعض أصحاب الخواطر: خلق الإنسان جاهلاً به، فعلمه السبيل إليه. {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: يعني بحساب، قاله ابن عباس، والحسبان مصدر الحساب، وقيل: جمعه. الثاني: معنى الحسبان هذه آجالها، فإذا انقضى الأجل كانت القيامة، قاله السدي. الثالث: أنه يقدر بهما الزمان لامتياز النهار بالشمس والليل بالقمر

ولو استمر أحدهما فكان الزمان ليلاً كله أو نهاراً كله لما عرف قدر الزمان، قاله ابن زيد. الرابع: يدوران، وقيل إنهما يدوران في مثل قطب الرحى، قاله مجاهد. الخامس: معناه يجريان بقدر. {وَالنَّجْمُ وَالْشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} في النجم قولان: أحدهما: نجم السماء , وهو موحد والمراد به جميع النجوم , قاله مجاهد. الثاني: أن النجم النبات الذي قد نجم في الأرض وانبسط فيها , ليس له ساق , والشجر ما كان على ساق , قاله ابن عباس. وفي سجودهما خمسة أقاويل: أحدها: هو سجود ظلهما , قاله الضحاك. الثاني: هو ما فيهما من الصنعة والقدرة التي توجب السجود والخضوع , قاله ابن بحر. الثالث: أن سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: {يتفيأ ظلاله}، قاله الزجاج. الرابع: أن سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الإجتناء لثمارها. الخامس: أن سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم يميلان معها إذا انكسر الفيء , قاله الفراء. {وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا} يعني على الأرض. {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الميزان ذو اللسان ليتناصف به الناس في الحقوق، قاله الضحاك. الثاني: أن الميزان الحكم. الثالث: قاله قتادة , ومجاهد، والسدي: أنه العدل، ومنه قول حسان: (ويثرب تعلم أنا بها ... إذا التبس الأمر ميزانها)

{أَلاَّ تَطْغُواْ فِي الْمِيزَانِ} وفي الميزان ما ذكرناه من الأقاويل: أحدها: أنه العدل وطغيانه الجور , قاله مجاهد. الثاني: أنه ميزان الأشياء الموزونات وطغيانه البخس , قاله مقاتل , وقال ابن عباس: يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم: المكيال والميزان. الثالث: أنه الحكم , وطغيانه التحريف. {وَأقِيمُواْ الْوَزْنَ بَالْقِسْطِ} أي بالعدل , قال مجاهد: القسط: العدل. {وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ} أي لا تنقصوه بالبخس قيل: إنه المقدار: فالجور إن قيل: إنه العدل , والتحريف إن قيل: الحكم. وفي وجه رابع: أنه ميزان حسناتكم يوم القيامة. {وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي بسطها ووطأها للأنام ليستقروا عليها ويقتاتوا منها. وفي الأنام ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الناس , قاله ابن عباس , وفيه قول بعض الشعراء في رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مبارك الوجه يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر) الثاني: أن الأنام الإنس والجن , قاله الحسن. الثالث: أن الأنام جميع الخلق من كل ذي روح , قاله مجاهد , وقتادة والسدي , سمي بذلك لأنه ينام , قال الشاعر: (جاد الإله أبا الوليد ورهطه ... رب الأنام وخصه بسلام) {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكمَامِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن ذات الأكمام النخل، وأكمامها ليفها الذي في أعناقها , قاله الحسن. الثاني: أنه رقبة النخل التي تكمم فيه طلعاً، ومنه قول الشاعر: (وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمتة قفار) الثالث: أنه الطلع المكمم الذي هو كمام الثمرة، قاله ابن زيد.

الرابع: أن معنى ذات الأكمام أي ذوات فضول على كل شيء، قاله ابن عباس. {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالْرَّيْحَانُ} أما الحب فهو كل حب خرج من أكمامها كالبر والشعير. وأما العصف ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الريح، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الزرع إذا اصفر ويبس. الثالث: أنه حب المأكول منه , قاله الضحاك , كما قال تعالى: {كَعَصْفٍ مَأكُولٍ}. وأما الريحان ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنه الرزق , قاله مجاهد , وسعيد بن جبير , والسدي , والعرب تقول: خرجنا نطلب ريحان الله أي رزقه , ويقال سبحانك وريحانك أي رزقك , وقال النمر بن تولب: (سلام الإله وريحانه ... ورخيته وسماء درر) قاله الضحاك , ورخيته هي لغة حِمْيَر. الثاني: أن الريحان الزرع الأخضر الذي لم يسنبل، قاله ابن عباس. الثالث: أنه الريحان الذي يشم، قاله الحسن، والضحاك، وابن زيد. الرابع: أن العصف الورق الذي لا يؤكل والريحان هو الحب المأكول، قاله الكلبي. {فَبِأَيِّءَالآءِ رَبِّكُمْا تُكّذِّبَانِ} في الآلاء قولان: أحدهما: أنها النعم، وتقديره فبأي نعم ربكما تكذبان، قاله ابن عباس، ومنه قول طرفة: (كامل يجمع الآلاء الفتى ... بيديه سيد السادات خصم) الثاني: أنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، قاله ابن زيد، والكلبي.

وفي قوله ربكما إشارة إلى الثقلين الإنس والجن في قول الجميع. وقد روى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: (مِا لِي أَرَاكُم سُكُوتاً؟! الجِنُّ أَحْسَنُ مِنكُم رَداً، كُنتُ كُلَّمَا قَرأَتُ عَلَيهِم الأَيةَ {فَبَأَيِّ ءالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قَالُوا: وَلاَ بِشَيءٍ مِن نِّعَمِكَ رَبَّنَا نُكّذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ). وتكرارها في هذه االسورة لتقرير النعم التي عددها , فقررهم عند كل نعمة منها , كما تقول للرجل أما أحسنت إليك حين وهبت إليك مالاً؟ أما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً، ومنه قول مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً: (على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير) (على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور)

14

{خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان}

{خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَاْلْفَخَّارِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه الطين المختلط برمل، قاله ابن عباس. الثاني: انه الطين الرطب الذي إذا عصرته بيدك خرج الماء من بين أصابعك، وهذا مروي عن عكرمة. الثالث: أنه الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة، قاله قتادة. الرابع: انه الطين الأجوف الذي إذا ضرب بشيء صلّ وسُمِع له صوت. الخامس: أنه الطين المنتن، قاله الضحاك، مأخوذ من قولهم صلَّ اللحم إذا أنتن. والمخلوق من صلصال كالفخار هو آدم عليه السلام. قال عبد الله بن سلام: خلق الله آدم من تراب من طين لازب، فتركه كذلك أربعين سنة، ثم صلصله كالفخار أربعين سنة، ثم صوره فتركه جسداً لا روح فيه أربعين سنة، فذلك مائة وعشرون سنة، كل ذلك والملائكة تقول سبحان الذي خلقك، لأمر ما خلقك. {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارِ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه لهب النار، قاله ابن عباس. الثاني: خلط النار، قاله أبو عبيدة. الثالث: أنه [اللهب] الأخضر والأصفر [والأحمر] الذي يعلو النار إذا أوقدت ويكون بينها وبين الدخان، قاله مجاهد. الرابع: أنها النار المرسلة التي لا تمتنع، قاله المبرد. الخامس: أنها النار المضطربة التي تذهب وتجيء، وسمي مارجاً لاضطرابه وسرعة حركته. وفي الجان المخلوق من مارج من نار قولان:

أحدهما: أنه أبوالجن , قاله أبو فروة يعقوب عن مجاهد. الثاني: أنه إبليس , وهو قول مأثور. وفي النار التي خلق من مارجها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من النار الظاهرة بين الخلق , قاله الأكثرون. الثاني: من نار تكون بين الجبال من دون السماء وهي كالكلة الرقيقة , قاله الكلبي. الثالث: من نار دون الحجاب ومنها هذه الصواعق وترى خلق السماء منها , قاله الفراء. {رَبُّ الْمَشْرِقْينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المشرقين مشرق المشس في الشتاء والصيف، والمغربين مغرب الشمس في الشتاء والصيف , قاله ابن عباس. الثاني: أن المشرقين مشرق الشمس والقمر، والمغربين مغربهما. الثالث: أن المشرقين الفجر والشمس، والمغربين الشمس والغسق وأغمض سهل بن عبد الله بقول رابع: ان المشرقين مشرق القلب واللسان , والمغربين مغرب القلب واللسان. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أما البحران ففيهما خمسة أوجه: أحدهما: أنه بحر السماء وبحر الأرض، قاله ابن عباس. الثاني: بحر فارس والروم، قاله الحسن، وقتادة. الثالث: أنه البحر المالح والأنهار العذبة، قاله ابن جريج.

الرابع: أنه بحر المشرق وبحر المغرب يلتقي طرفاهما. الخامس: انه بحر اللؤلؤ وبحر المرجان. وأما {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تفريق البحرين , قاله ابن صخر. الثاني: إسالة البحرين , قاله ابن عباس. الثالث: استواء البحرين , قاله مجاهد. وأصل المرج , الإهمال كما تمرج الدابة في المرج. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبغِيَانِ} في البزخ الذي بينهما أربعة أقاويل: أحدها: أنه حاجز , قاله ابن عباس. الثاني: أنه عرض الأرض , قاله مجاهد. الثالث: أنه ما بين السماء والأرض , قاله عطية , والضحاك. الرابع: أنه الجزيرة التي نحن عليها وهي جزيرة العرب , قاله الحسن , وقتادة. وفي قوله: {لاَّ يَبْغِيَانِ} ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يختلطان لا يسيل العذب على المالح ولا المالح على العذب، قاله الضحاك. الثاني: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه، قاله مجاهد، وقتادة. الثالث: لا يبغيان أن يلتقيا، قاله ابن زيد، وتقدير الكلام، مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما أن يلتقيا. وقال سهل: البحران طريق الخير وطريق الشر , والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة. {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الَّلؤلُؤ وَالْمَرْجَانُ} وفي المرجان أربعة أقاويل: أحدها: عظام اللؤلؤ وكباره، وقاله علي وابن عباس، ومنه قول الأعشى: (من كل مرجانة في البحر أخرجها ... تيارها ووقاها طينة الصدف)

الثاني: أنه صغار اللؤلؤ , قاله الضحاك وأبو رزين الثالث: أنه الخرز الأحمر كالقضبان , قاله ابن مسعود. الرابع: أنه الجوهر المختلط، مأخوذ من مرجت الشيء إذا خلطته وفي قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} وجهان: أحدهما: ان المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما. الثاني: أنه خارج منهما على قول ابن عباس أنهما بحر السماء وبحر الأرض، لأن ماء السماء إذا وقع على صدف البحر انعقد لؤلؤاً، فصار خرجاً منهما. وفيه وجه ثالث: أن العذب والمالح قد يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للمالح فنسب إليهما كما نسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى , ولذلك قيل إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي فيه العذب والمالح. {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ} أما الجواري فهي السفن واحدتها جارية سميت بذلك لأنها تجري في الماء بإذن الله تعالى , والجارية هي المرأة الشابة أيضاً سميت بذلك لأنه يجري فيها ماء الشباب. وأما المنشآت ففيها خمسة أوجه: أحدها: أنها المخلوقات , قاله قتادة مأخوذ من الإنشاء. الثاني: أنها المحملات، قاله مجاهد. الثالث: أنها المرسلات، ذكره ابن كامل. الرابع: المجريات، قاله الأخفش. الخامس: أنها ما رفع قلعه منها وهي الشرع فهي منشأة، وما لم يرفع ليست بمنشأة، قاله الكلبي. وقرأ حمزة {الْمُنشَئَاتُ} بكسر الشين، وفي معناه على هذه القراءة وجهان: أحدهما: البادئات , قاله ابن إسحاق والجارود بن أبي سبرة. الثاني: أنها يكثر نشأً بجريها وسيرها في البحر كالأعلام، قاله ابن بحر. وفي قوله: {كَالأَعْلاَمِ} وجهان:

أحدهما: يعني الجبال سميت بذلك لارتفاعها كارتفاع الأعلام، قاله السدي. قالت الخنساء: (وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار) الثاني: أن الأعلام القصور، قاله الضحاك. {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} فيه قولان: أحدهما: يسألونه الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض، لأهل الأرض، قاله ابن جريج وروته عائشة مرفوعاً. الثاني: أنهم يسألونه القوة على العبادة، قاله ابن عطاء، وقيل إنهم يسألونه لأنفسهم الرحمة، قاله أبو صالح. قال قتادة: لا استغنى عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، قال الكلبي: وأهل السماء يسألونه المغفرة خاصة لأنفسهم ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق.

26

{كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان} {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فيه قولان: أحدهما: أنه أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر: الدهر كله يومان: أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر، والنهي، والإحياء، والأمانة، والإعطاء، والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء، والحساب، والثواب، والعقاب. والقول الثاني: أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا.

وفي هذا الشأن الذي أراده في أيام الدنيا قولان: أحدهما: من بعث من الأنبياء في كل زمان بما شرعه لأمته من شرائع الدين وكان الشأن في هذا الموضع هو الشريعة التي شرعها كل نبي في زمانه ويكون اليوم عبارة عن المدة. القول الثاني: ما يحدثه الله في خلقه من تبدل الأحوال وإختلاف الأمور , ويكون اليوم عبارة عن الوقت. روى مجاهد عن عبيد بن عمير قال: كل يوم هو في شأن , يجيب داعياً , ويعطي سائلاً , ويفك عانياً , ويتوب على قوم , ويغفر لقوم. وقال سويد بن غفلة: كل يوم هو في شأن , هو يعتق رقاباً , ويعطي رغاباً , ويحرم عقاباً. وقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ({كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} مِن شَأَنِهِ أَن يَغْفِرَ ذَنباً , وَيَفْرِجَ كَرْباً , وَيَرَفَعَ قَوماً , وَيَضَعَ آخَرِينَ)

31

{سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان}

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ} فيه وجهان: أحدهما: أي لنقومن عليكم على وجه التهديد. الثاني: سنقصد إلى حسابكم ومجازاتكم على أعمالكم وهذا وعيد لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن , وقال جرير: (الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذاباً) أي قصدت لهم , والثقلان الإنس والجن سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض. {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقطَارِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} فيه وجهان: أحدهما: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا، لن تعلموه إلا بسلطان، قاله عطية العوفي. الثاني: إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هرباً من الموت فانفذوا، قاله الضحاك. {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني إلا بحجة، قاله مجاهد، قاله ابن بحر: والحجة الإيمان. الثاني: لا تنفذون إلا بمُلْك وليس لكم مُلْك، قاله قتادة. الثالث: معناه لا تنفذون إلا في سلطانه وملكه، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما، قاله ابن عباس. {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الشواظ لهب النار، قاله ابن عباس , ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت: (يمانياً يظل يشد كيراً ... وينفخ دائباً لهب الشواظ)

[فأجابه حسان فقال]: (همزتك فاختضعت بذل نفسٍ ... بقافية تأجج كالشواظ) الثاني: أنه قطعة من النار فيها خضرة، قاله مجاهد. الثالث: أنه الدخان، رواه سعيد بن جبير، قال رؤبة بن العجاج: (إن لهم من وقعنا أقياظا ... ونار حرب تسعر الشواظا) الرابع: أنها طائفة من العذاب , قاله الحسن. وأما النحاس ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه الصفر المذاب على رؤوسهم , قاله مجاهد , وقتادة. الثاني: أنه دخان النار , قاله ابن عباس , قال النابغة الجعدي: (كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاساً.) الثالث: أنه القتل , قاله عبد الله بن أبي بكرة. الرابع: أنه نحس لأعمالهم , قاله الحسن.

37

{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن فبأي آلاء ربكما تكذبان} {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ} يعني يوم القيامة. {فَكَانَتْ وَرْدَةً} فيه وجهان: أحدهما: وردة البستان , وهي حمراء , وقد تختلف ألوانها لكن الأغلب من ألوانها

الحمرة، وبها يضرب المثل في لون الحمرة، قال عبد بني الحسحاس: (فلو كنت ورداً لونه لعشقتني ... ولكن ربي شانني بسواديا) كذلك تصير السماء يوم القيامة حمراء كالورد، قاله ابن بحر. الثاني: أنه أراد بالوردة الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي الشتاء أغبر , فشبه السماء يوم القيامة في اختلاف ألوانها بالفرس الورد , لاختلاف ألوانه , قاله الكلبي والفراء. وفي قوله: {كَالدِّهَانِ} خمسة أوجه: أحدها: يعني خالصة , قاله الضحاك. الثاني: صافية , قاله الأخفش. الثالث: ذات ألوان , قاله الحسن. الرابع: صفراء كلون الدهن , وهذا قول عطاء الخراساني , وأبي الجوزاء. الخامس: الدهان أديم الأرض الأحمر , قاله ابن عباس , قال الأعشى: (وأجرد من فحول الخيل طرف ... كأن على شواكله دهانا) وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة , وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق , وشبهوا ذلك بعروق البدن هي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء , فإن كان هذا صحيحاً فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء لأنه أصل لونها. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: كانت المسألة قبل , ثم ختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون , قاله قتادة. الثاني: أنه لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا , قاله ابن عباس. الثالث: لا يسأل الملائكة عنهم لأنهم قد رفعوا أعمالهم في الدنيا , قاله مجاهد. الرابع: أنه لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لشغل كل واحد منهم بنفسه , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.

الخامس: أنهم في يوم تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه فهم معروفون بألوانهم فلم يسأل عنهم، قاله الفراء. {يَطُوفَونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النار، والحميم الشراب. وفي قوله تعالى: {ءانٍ} ثلاثة أوجه: أحدها: هو الذي انتهى حره وحميمه، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني: (وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن) أي حار. الثاني: أنه الحاضر، قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته، قاله مجاهد.

46

{ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان} {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وفي الخائف مقام ربه ثلاثة أقاويل: أحدها: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض، قاله ابن عباس. الثاني: أنه يهم بذنب فيذكر مقام ربه فيدعه، قاله مجاهد. الثالث: أن ذلك نزل في أبي بكر رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت، والنار حين برزت، قاله عطاء وابن شوذب. قال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه، فسأل عنه فأُخْبِر أنه من غير حل، فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال: (رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أُنزِلَتْ فِيكَ آيَةٌ) وتلا عليه هذه الآية. وفي مقام ربه قولان: أحدهما: هو مقام بين يدي العرض والحساب.

الثاني: هو قيام الله تعالى بإحصاء ما اكتسب من خير وشر. وفي هاتين الجنتين أربعة أوجه: أحدها: جنة الإنس وجنة الجان، قاله مجاهد. الثاني: جنة عدن، وجنة النعيم، قاله مقاتل. الثالث: أنهما بستانان من بساتين الجنة , وروي ذلك مرفوعاً لأن البستان يسمى جنة. الرابع: أن إحدى الجنتين منزله , والأخرى منزل أزواجه وخدامه كما يفعله رؤساء الدنيا. ويحتمل خامساً: أن إحدى الجنتين مسكنه , والأخرى بستانه. ويحتمل سادساً: أن إحدى الجنتين أسافل القصور , والأخرى أعاليها. {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: ذواتا ألوان , قاله ابن عباس. الثاني: ذواتا أنواع من الفاكهة، قاله الضحاك. الثالث: ذواتا أتا وسَعَةٍ، قاله الربيع بن أنس. الرابع: ذواتا أغصان، قاله الأخفش وابن بحر. والأفنان جمع واحده فنن كما قال الشاعر: (ما هاج سوقك من هديل حمامة ... تدعوا على فنن الغصون حماما) (تدعو أبا فرخين صادف ضارياً ... ذا مخلبين من الصقور قطاما)

54

{متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي

آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان} {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن بطائنها يريد به ظواهرها، قاله قتادة. والعرب تجعل البطن ظهراً فيقولون هذا بطن السماء وظهر السماء. الثاني: أنه أراد البطانة دون الظهارة، لأن البطانة إذا كانت من إستبرق وهي أدون من الظاهرة دل على أن الظهارة فوق الإستبرق، قاله الكلبي. وسئل عباس فما الظواهر؟ قال: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله. {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} فأما الجنا فهو الثمر , ومنه قول الشاعر: (هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه) وفي قوله: {دَانٍ} وجهان: أحدهما: داني لا يبعد على قائم ولا على قاعد، قاله مجاهد. الثاني: أنه لا يرد أيديهم عنها بُعد ولا شوك، قاله قتادة. {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} قال قتادة: قصر طرفهن على أزواجهن , لا يسددن النظر إلى غيرهم , ولا يبغين بهم بدلاً. {لَمْ يَطْمَثهنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لم يمسسهن , قال أبو عمرو: الطمث المس , وذلك في كل شيء يمس. الثاني: لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان، والطمث: التذليل، قاله المبرد. الثالث: لم يُدْمِهُنَّ يعني إنس ولا جان، وذلك قيل للحيض طمث، قال الفرزدق:

(دفعن إليَّ لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام) وفي الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس. {هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: هل جزاء الطاعة إلا الثواب. الثاني: هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة , قاله ابن زيد. الثالث: هل جزاء من شهد أن لا إله إلا الله إلا الجنة , قاله ابن عباس. الرابع: هل جزاء التوبة إلا المغفرة , قاله جعفر بن محمد الصادق. ويحتمل خامساً: هل جزاء إحسان الله عليكم إلا طاعتكم له.

62

{ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} فيه وجهان: أحدهما: أي أقرب منهما جنتان. الثاني: أي دون صفتهما جنتان. وفيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الجنات الأربع لمن خاف مقام ربه , قال ابن عباس: فيكون في الأوليين النخل والشجر , وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط.

الثاني: أن الأوليين من ذهب للمقربين , والأخريين من وَرِقٍ لأصحاب اليمين , قاله ابن زيد. الثالث: أن الأوليين للسابقين , والأخريين للتابعين , قاله الحسن. قال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى , وفي الجنات الأربع جنان كثيرة. ويحتمل رابعاً: أن يكون من دونهما جنتان لأتباعه , لقصور منزلتهم عن منزلته , إحدهما للحور العين , والأخرى للولدان المخلدين , لتميز بهما الذكور عن الإناث. {مُدْهَآمَّتَانِ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أي خضراوان , قاله ابن عباس. الثاني: مسودتان , قاله مجاهد , مأخوذ من الدهمة وهي السواد , ومنه سمي سود الخيل دهماً. الثالث: [خضروان من الرّي] ناعمتان , قاله قتادة. {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: ممتلئتان لا تنقطعان , قاله الضحاك. الثاني: جاريتان , قاله الفراء. الثالث: فوّارتان , وذكر في الجنتين الأوليين عينين تجريان , وذكر في الأخريين عينين نضاختين , والجري أكثر من النضخ. وبماذا هما نضاختان؟ فيه أربعة أوجه: أحدها: بالماء , قاله ابن عباس. الثاني: بالمسك والعنبر , قاله أنس. الثالث: بالخير والبركة، قاله الحسن، والكلبي. الرابع: بأنواع الفاكهة , قاله سعيد بن جبير. {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} يعني الجنات الأربع، وفي الخيرات قراءتان إحداهما بالتخفيف، وفي المراد بها قولان:

أحدهما: الخير والنعم المستحسنة. الثاني: خيرات الفواكه والثمار، وحسان في المناظر والألوان. والقرءة الثانية بالتشديد، وفي المراد بها قولان: أحدهما: مختارات. الثاني: ذوات الخير وفيهن قولان: أحدهما: أنهن الحور المنشآت في الآخرة. الثاني: أنهن النساء المؤمنات الفاضلات من أهل الدنيا. وفي تسميتهن خيرات أربعة أوجه: أحدها: لأنهن خيرات الأخلاق حسان الوجوه , قاله قتادة وروته أم سلمة مرفوعاً: الثاني: لأنهن عذارى أبكاراً , قاله أبو صالح. الثالث: لأنهن مختارات. الرابع: لأنهن خيرات صالحات، قاله أبو عبيدة. {حُوْرٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: مقصورات الطرف على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلاً، ولا يرفعن طرفاً إلى غيرهم من الرجال، قاله مجاهد. الثاني: المحبوسات في الحجال لَسْنَ بالطوافات في الطرق، قاله ابن عباس. الثالث: المخدرات المصونات , ولا متعطلات ولا متشوِّفات، قاله زيد بن الحارث، وأبو عبيدة. الرابع: أنهن المسكنات في القصور، قاله الحسن. ويحتمل خامساً: أن يريد بالمقصورات البيض، مأخوذ من قصارة الثوب الأبيض، لأن وقوع الفرق بين المقصورات والقاصرات يقتضي وقوع الفرق بينهما في التأويل:

وفي الخيام ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الخيام هي البيوت , قاله ابن بحر. الثاني: أنها خيام تضرب لأهل الجنة خارج الجنة كهيئة البداوة، قاله سعيد بن جبير. الثالث: أنها خيام في الجنة تضاف إلى القصور. روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخِيَامُ الدُّرُّ المُجَوَّفُ). روي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إننا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال عليه السلام (نَعَم إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تَبَعُّلَ أَزَوَاجِكُنَّ وَطَلَبْتُنَّ مَرْضاتُهُم). {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} فيه ستة تأويلات: أحدها: أن الرفرف المحبس المطيف ببسطه، قاله ابن كامل. الثاني: فضول الفرش والبسط , قاله ابن عباس. الثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن وعاصم الجحدري. الرابع: أنها الفرش المرتفعة، مأخوذ من الرف. الخامس: أنها المجالس يتكئون على فضولها. السادس: رياض الجنة، قاله ابن جبير. {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها الطنافس المخملية، قاله الحسن. الثاني: الديباج، قاله مجاهد.

الثالث: أنها ثياب في الجنة لا يعرفها أحد , قاله مجاهد [أيضاً]. الرابع: أنها ثياب الدنيا تنسب إلى عبقر. وفي عبقري قولان: أحدهما: أنه سيد القوم , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: (فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِياً مِنَ النَّاسِ يَفْري فَرِيَّةُ) فنسبه إلى أرفع الثياب لاختصاصه. الثاني: أرض عبقر. وفي تسميتها بذلك قولان: أحدهما: لكثرة الجن فيها. الثاني: لكثرة رملها ويكون المراد بذلك أنها تكون مثل العبقري لأن ما ينسج بعبقر لا يكون في الجنة إذا قيل إن عبقر اسم أرض. {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} فيه وجهان: أحدهما: معناه ثبت اسم ربك ودام. الثاني: أن ذكر اسمه يمن وبركة , ترغيباً في مداومة ذكره. {ذِي الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ} في {ذِي الْجَلاَلِ} وجهان: أحدهما: أنه الجليل. الثاني: أنه المستحق للإجلال والإعظام. وفي {الإكْرَامِ} وجهان: أحدهما: الكريم. الثاني: ذو الإكرام لمن يطيعه.

سورة الواقعة مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}. بسم الله الرحمن الرحيم

الواقعة

{إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم} قوله تعالى {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: الصيحة، قاله الضحاك. الثاني: الساعة وقعت بحق فلم تكذب، قاله السدي. الثالث: أنها القيامة، قاله ابن عباس، والحسن. وسميت الواقعة لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذَِبَةٌ} فيها أربعة أوجه: أحدها: ليس لها مردود , قاله ابن عباس.

الثاني: لا رجعة فيها ولا مشورة , قاله قتادة. الثالث: ليس لها مكذب من مؤمن ولا من كافر , قاله ابن كامل. الرابع: ليس الخبر عن وقوعها كذباً. {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مرتفعين , وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين , قاله محمد بن كعب. الثاني: خفضت أعداء الله في النار , ورفعت أولياء الله في الجنة , قاله عمر بن الخطاب. الثالث: خفضت الصوت فأسمعت الأدنى , ورفعت فأسمعت الأقصى , قاله عكرمة. ويحتمل رابعاً: أنها خفضت بالنفخة الأولى من أماتت , ورفعت بالنفخة الثانية من أحيت. {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً} فيه قولان: أحدهما: رجفت وزلزلت، قاله ابن عباس، قاله رؤبة بن العجاج: (أليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجاً) 89 (يوماً يرى مرضعة خلوجاً} 9 الثاني: أنها ترج بما فيها كما يرج الغربال بما فيه , قاله الربيع بن أنس فيكون تأويلها على القول الأول أنها ترج بإماتة ما على ظهرها من الأحياء، وتأويلها على القول الثاني أنها ترج لإخراج من في بطنها من الموتى. {وَبُسَّتِ الْجِبَالَ بَسّاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: سالت سيلاً، قاله مجاهد. الثاني: هدت هداً، قاله عكرمة، الثالث: سيرت سيرا، قاله محمد بن كعب، ومنه قول الأغلب العجلي: (نحن بسسنا بأثر أطاراً ... أضاء خمساً ثمت سارا)

) الرابع: قطعت قطعاً , قاله الحسن. . الخامس: إنها بست كما يبس السويق أي بلت , البسيسة هي الدقيق يلت ويتخذ زاداً , قال لص من غطفان: (لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ... ولا تطيلا بمناخ حبسا) {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه رهج الغبار يسطع ثم يذهب , فجعل الله أعمالهم كذلك , قاله علي. الثاني: أنها شعاع الشمس الذي من الكوة , قاله مجاهد. الثالث: أنه الهباء الذي يطير من النار إذا اضطربت , فإذا وقع لم يكن شيئاً , قاله ابن عباس. الرابع: أنه ما يبس من ورق الشجر تذروه الريح , قاله قتادة. وفي المنبث ثلاثة أوجه: أحدها: المتفرق، قاله السدي. الثاني: المنتشر. الثالث: المنثور. {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} يعني أصنافاً ثلاثة، قال عمر بن الخطاب: اثنان في الجنة وواحد في النار. وفيهما وجهان: أحدهما: ما قاله ابن عباس أنها التي في سورة الملائكة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}. الثاني: ما رواه النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكنتم أزوجاً ثلاثة) الآية.

ويحتمل جعلهم أزواجاً وجهين: أحدهما: أن ذلك الصنف منهم مستكثر ومقصر، فصار زوجاً. الثاني: أن في كل صنف منهم رجالاً ونساء، فكان زوجاً. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} فيهم خمسة تأويلات: أحدها: أن أصحاب الميمنة الذين أخذوا من شق آدم الأيمن، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر، قاله زيد بن أسلم. الثاني: أن أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه , وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بيساره، قاله محمد بن كعب. الثالث: أن أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات , وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات , قاله ابن جريج. الرابع: أن أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم , وأصحاب المشأمة المشائيم على أنفسهم , قاله الحسن. الخامس: أن أصحاب الميمنة أهل الجنة , وأصحاب المشأمة أهل النار , قاله السدي. وقوله: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} لتكثير ما لهم من العقاب. {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلِئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فيهم خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الأنبياء، قاله محمد بن كعب. الثاني: أنهم الاسبقون إلى الإيمان من كل أمة، قاله الحسن، وقتادة. الثالث: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين , قاله ابن سيرين. الرابع: هم أول الناس رواحاً إلى المساجد وأسرعهم خفوفاً في سبيل الله , قاله عثمان بن أبي سوادة. الخامس: أنهم أربعة: منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون , وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما: أبو بكر وعمر، قاله ابن عباس. ويحتمل سادساً: أنهم الذي أسلموا بمكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبالمدينة قبل

هجرته إليهم لأنهم سبقوا بالإسلام قبل زمان الرغبة والرهبة. وفي تكرار قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قولان: أحدهما: السابقون في الدنيا إلى الإيمان، السابقون في الآخرة إلى الجنة هم المقربون، قاله الكلبي. الثاني: يحتمل أنهم المؤمنون بالأنبياء في زمانهم , وسابقوهم بالايمان هم المقربون المقدمون منهم.

13

{ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما} {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم الجماعة , ومنه قول الشاعر: (ولست ذليلاً في العشيرة كلها ... تحاول منها ثلة لا يسودها) الثاني: الشطر وهو النصف , قاله الضحاك. الثالث: أنها الفئة , قاله أبو عبيدة، ومنه قول دريد بن الصمة: (ذريني أسير في البلاد لعلني ... ألاقي لبشر ثلة من محارب) وفي قوله تعالى: {مِّنَ الأَوََّلِينَ} قولان: أحدهما: أنهم أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو بكرة. الثاني: أنهم قوم نوح، قاله الحسن. {وَقَلِيلٌ مِّنَ الأَخرِينَ} فيه قولان: أحدهما: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن. الثاني: أنهم الذين تقدم إسلامهم قبل أن يتكاملوا , روى أبو هريرة أنه لما

نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخِرِينَ} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مَّنَ الأخِرِينَ} فقال عليه السلام: (إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بَلْ ثُلُتَ أَهْلِ الجَنَّةِ بَلْ أَنتُم نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُم فِي النِّصْفِ الثَّانِي). {عَلَى سُرُرٍ مَّوضُونَةٍ} يعني الأسرة، واحدها سرير، سميت بذلك لأنها مجلس السرور. وفي الموضونة أربعة أوجه: أحدها: أنها الموصولة بالذهب، قاله ابن عباس. الثاني: أنها المشبكة النسج، قاله الضحاك، ومنه قول لبيد: (إن يفزعوا فسرا مع موضونة ... والبيض تبرق كالكواكب لامها) الثالث: أنها المضفورة، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد، ومنه وضين الناقة وهو البطان العريض المضفور من السيور. الرابع: أنها المسندة بعضها إلى بعض. {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} الولدان: جمع وليد وهم الوصفاء. وفي قوله تعالى: {مُّخَلَّدُونَ} قولان: أحدهما: [مسورون] بالأسورة , [مقرطون] بالأقراط , قاله الفراء , قال الشاعر: (ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان) الثاني: أنهم الباقون على صغرهم لا يموتون ولا يتغيرون، قاله الحسن، ومنه قول امرىء القيس: (وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال)

ويحتمل ثالثاً: أنهم الباقون معهم لا يبصرون عليهم ولا ينصرفون عنهم بخلافهم في الدنيا. {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} فيهما قولان: أحدهما: أن الأكواب: التي ليس لها عُرى , قاله الضحاك. الثاني: أن الأكواب: مدورة الأفواه , والأباريق: التي يغترف بها، قاله قتادة، قال الشاعر: (فعدوا عليّ بقرقف ... ينصب من أكوابها) {وَكَأَسٍ مِّن مَّعِينٍ} والكأس اسم للإناء إذا كان فيه شراب , والمعين الجاري من ماء أو خمر , غير أن المراد به في هذا الموضوع الخمر , وصف الخمر بأنه الجاري من عينه بغير عصر كالماء المعين. {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: معناه لا يمنعون منها، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد. الثاني: لا يفرّقون عنها , حكاه ابن قتيبة , واستشهد عليه بقول الراجز: 89 (صد عنه فانصدع.} 9 الثالث: لا ينالهم من شربها وجع الرأس وهو الصداع , قاله ابن جبير، وقتادة , ومجاهد , والسدي. وفي قوله تعالى: {وَلاَ يُنزِفُونَ} أربعة أوجه: أحدها: لا تنزف عقولهم فيسكرون , قاله ابن زيد، وقتادة. الثاني: لا يملون، قاله عكرمة. الثالث: لا يتقيئون، قاله يحيى بن وثاب. الرابع: وهو تأويل من قرأ بكسر الزاي لا يفنى خمرهم , ومنه قول الأبيرد: (لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى أنتم آل أبجرا) وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر،

والصداع، والقيء، والبول، وقد ذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. {وَحُورٌ عِينٌ} والحور البيض سمين لبياضهن , وفي العين وجهان: أحدهما: أنهن كبار الأعين , كما قال الشاعر: (إذا كبرت عيون من النساء ... ومن غير النساء فهن عين) ) الثاني: أنهن اللاتي سواد أعينهن حالك , وبياض أعينهن نقي , كما قال الشاعر: (إذا ما العين كان بها احورار ... علامتها البياض على السواد) {كَأَمْثَالِ اللؤْلُؤِ الْمَكْنُُونِ} فيه وجهان: أحدهما: في نضارتها وصفاء ألوانها. الثاني: أنهن كأمثال اللؤلؤ في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن , كما قال الشاعر: (كأنما خلقت في قشر لؤلؤة ... فكل أكنافها وجه لمرصاد) {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا يسمعون في الجنة باطلاً ولا كذباً , قاله ابن عباس. الثاني: لا يسمعون فيها خُلفاً , أي لا يتخالفون عليها كما يتخالفون في الدنيا , ولا يأثمون بشربها , كما يأثمون في الدنيا , قاله الضحاك. الثالث: لا يسمعون فيها شتماً ولا مأثماً , قاله مجاهد. يحتمل رابعاً: لا يسمعون مانعاً لهم منها , ولا مشنعاً لهم على شربها. {إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لكن يسمعون قولاً ساراً وكلاماً حسناً. الثاني: لكن يتداعون بالسلام على حسن الأدب وكريم الأخلاق. الثالث: يعني قولاً يؤدي إلى السلامة. ويحتمل رابعاً: أن يقال لهم هنيئاً.

27

{وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل

ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنهم أصحاب الحق، قاله السدي. الثاني: أنهم دون منزلة المقربين، قاله ميمون بن مهران. الثالث: أنهم من أعطي كتابه بيمينه، قاله يعقوب بن مجاهد. الرابع: أنهم التابعون بإحسان ممن لم يدرك الأنبياء من الأمم، قاله الحسن. الخامس: ما رواه أسباط عن السدي: أن الله تعالى مسح ظهر آدم فمسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذر بيضاء فقال لهم ادخلوا الجنة ولا أبالي , ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج ذرية كهيئة الذر سوداء , فقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي , فذلك هو قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ} , وقوله: {وَأصْحَابُ الْشِّمَالِ}. السادس: ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصحاب اليمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ثم تابوا بعد ذلك وأصلحوا.) {فِي سِدْرٍ مَّخضُودٍ} والسدر النبق , وفي مخضود ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اللين الذي لا شوك فيه، قاله عكرمة، وقال غيره لا عجم لنبقه، يقال خضدت الشجرة إذا حذقت شوكها. الثاني: أنه الموقر حملاً، قاله مجاهد. الثالث: المدلاة الأغصان , وخص السدر بالذكر لأن ثمره أشهى الثمر إلى النفوس طمعاً وألذه ريحاً. {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن الطلح الموز، قاله ابن عباس، وابو سعيد الخدري، وأبو هريرة، والحسن، وعكرمة. الثاني: أنها شجرة تكون باليمن وبالحجاز كثيراً تسمى طلحة , قاله عبد الله بن حميد , وقيل إنها من أحسن الشجر منظراً , ليكون بعض شجرهم مأكولاً وبعضه منظوراً , قال الحادي: (بشرها دليلها وقالا ... غداً ترين الطلح والأحبالا) الثالث: أنه الطلع , قاله علي , وحكى أنه كان يقرأ: {وَطَلْعٍ مَّنضُودٍ} , وفي المنضود قولان: أحدهما: المصفوف، قاله السدي. الثاني: المتراكم، قاله مجاهد. {وَظِلٍ مَّمْدُودٍ} أي دائم. ويحتمل ثانياً: أنه التام. {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} أي منصب في غير أخدود. ويحتمل آخر: أنه الذي ينسكب عليهم من الصعود والهبوط بخلاف الدنيا، قال الضحاك: من جنة عدن إلى أهل الخيام. {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} يحتمل وجهين: أحدهما: لا مقطوعة بالفناء ولا ممنوعة من اليد بشوك أو بعد. وفيه وجه ثالث: لا مقطوعة بالزمان ولا ممنوعة بالأشجار. {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} فيها قولان: أحدهما: أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم، مرفوعة بكثرة حشوها زيادة في الاستمتاع بها. الثاني: أنهم الزوجات لأن الزوجة تسمى فراشا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:

(الوَلَدُ لِلْفرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ) قاله ابن بحر. فعلى هذا يحتمل وجهين: أحدهما: مرفوعات في القلوب لشدة الميل إليهن. الثاني: مرفوعات عن الفواحش والأدناس. {إِنَّآ أَنشَأناهُنَّ إِنشَآءً} يعني نساء أهل الدنيا , وفي إنشائهن في الجنة قولان: أحدهما: يعني إنشاءهن في القبور , قاله ابن عباس. الثاني: إعادتهن بعد الشمط والكبر صغاراً أبكاراً , قاله الضحاك , وروته أم سلمة مرفوعاً: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} فيه قولان: أحدهما: عذارى بعد أن كن غير عذارى , قاله يعقوب بن مجاهد. الثاني: لا يأتيها إلا وجدها بكراً , قاله ابن عباس. ويحتمل ثالثاً: أبكاراً من الزوجات , وهن الأوائل لأنهن في النفوس أحلى والميل إليهن أقوى , كما قال الشاعر: (أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا) قوله تعالى {عُرُباً أَتْرَاباً} فيه سبعة تأويلات: أحدها: أن العرب المنحبسات على أزواجهن المتحببات إليهم , قاله سعيد بن جبير , والكلبي. الثاني: أنهن المتحببات من الضرائر ليقفن على طاعته ويتساعدن على إشاعته , قاله عكرمة. الثالث: الشكلة بلغة أهل مكة , والغنجة بلغة أهل المدينة , قاله ابن زيد , ومنه قول لبيد: (وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر) الرابع: هن الحسنات الكلام , قاله ابن زيد. [أيضاً].

الخامس: أنها العاشقة لزوجها لأن عشقها له يزيده ميلاً إليها وشغفاً بها. السادس: أنها الحسنة التبعُّل , لتكون ألذ استمتاعاً. السابع: ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُرُباً كَلاَمُهُنَّ عَرَبِّي) {أَتْراباً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني أقران , قاله عطية. وقال الكلبي: على سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة , يقال في النساء أتراب , وفي الرجال أقران , وأمثال , وأشكال , قاله مجاهد. الثالث: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد , قاله السدي.

41

{وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين} {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} فيه قولان: أحدهما الدخان , قاله أبو مالك. الثاني: أنها نار سوداء , قاله ابن عباس. {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} فيه وجهان: أحدهما: لا بارد المدخل , ولا كريم المخرج , قاله ابن جريج. الثاني: لا كرامة فيه لأهله.

ويحتمل ثالثاً: أن يريد لا طيب ولا نافع. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرفِينَ} فيه وجهان: أحدهما: منعمين , قاله ابن عباس. الثاني: مشركين , قاله السدي. ويحتمل وصفهم بالترف وجهين: أحدهما: التهاؤهم عن الإعتبار وشغلهم عن الإزدجار. الثاني: لأن عذاب المترف أشد ألماً. {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الشرك بالله , قاله الحسن , والضحاك , وابن زيد. الثاني: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه , قاله قتادة , ومجاهد. الثالث: هو اليمين الموس , قاله الشعبي. ويحتمل رابعاً: أن يكون الحنث العظيم نقض العهد المحصن بالكفر. {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها الأرض الرملة التي لا تروى بالماء , وهي هيام الأرض , قاله ابن عباس. الثاني: أنها الإبل التي يواصلها الهيام وهو داء يحدث عطشاً فلا تزال الإبل تشرب الماء حتى تموت , قاله عكرمة , والسدي , ومنه قول قيس بن الملوح: (يقال به داء الهيام أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائياً) الثالث: أن الهيم الإبل الضوال لأنها تهيم في الأرض لا تجد ماءً فإذا وجدته فلا شيء أعظم منها شرباً. الرابع: أن شرب الهيم هو أن تمد الشرب مرة واحدة إلى أن تتنفس ثلاث مرات , قاله خالد بن معدان , فوصف شربهم الحميم بأنه كشرب الهيم لأنه أكثر شرباً فكان أزيد عذاباً. {هَذَا نُزْلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي طعامهم وشرابهم يوم الجزاء , يعني في جهنم.

57

{نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن

الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون} {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: نحن خلقنا رزقكم أفلا تصدقون أن هذا طعامكم. الثاني: نحن خلقناكم فلولا تصدقون أننا بالجزاء: بالثواب والعقاب اردناكم. {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} يعني نطفة المني، قال الفراء، يقال أمنى يمني ومنى يمني بمعنى واحد. ويحتمل عندي أن يختلف معناهما فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع , ومني إذا عن احتلام. وفي تسمية المني منياً وجهان: أحدهما: لإمنائه وهو إراقته. الثاني: لتقديره ومنه المناء الذي يوزن به فإنه مقدار لذلك فكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة. {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أي نحن خلقنا من المني المهين بشراً سوياً، فيكون ذلك خارجاً مخرج الإمتنان. الثاني: أننا خلقنا مما شاهدتموه من المني بشراً فنحن على خلق ما غاب من إعادتكم أقدر، فيكون ذلك خارجاً مخرج البرهان، لأنهم على الوجه الأول معترفون، وعلى الوجه الثاني منكرون. {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قضينا عليكم بالموت. الثاني: كتبنا عليكم الموت. الثالث: سوينا بينكم الموت. فإذا قيل بالوجه الأول بمعنى قضى ففيه وجهان:

أحدهما قضى بالفناء ثم الجزاء. الثاني: ليخلف الأبناء الآباء. وإذا قيل بالوجه الثاني أنه بمعنى كتبنا ففيه وجهان: أحدهما: كتبنا مقداره فلا يزيد ولا ينقص , قاله ابن عيسى. الثاني: كتبنا وقته فلا يتقدم عليه ولا يتأخر , قاله مجاهد. وإذا قيل بالوجه الثالث أنه بمعنى سوينا ففيه وجهان: أحدهما: سوينا بين المطيع والعاصي. الثاني: سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض , قاله الضحاك. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} فيه وجهان: أحدهما: وما نحن بمسبوقين على ما قدرنا بينكم الموت حتى لا تموتوا. الثاني: وما نحن بمسبوقين على أن تزيدوا في مقداره وتؤخروه عن وقته. والوجه الثاني: أنه ابتداء كلام يتصل به ما بعده من قوله تعالى: {عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئِكُم فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فعلىهذا في تأويله وجهان: أحدهما: لما لم نسبق إلى خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم. الثاني: كما لم نعجز عن خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم كما لم نعجز عن تغييرها في حياتكم. فعلى هذا التأويل يكون في الكلام مضمر محذوف , وعلى التأويل الأول يكون جميعه مظهراً.

63

{أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم

شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم} {أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ} الآية. فأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فعل الله وينبت على إختياره لا على إختيارهم، وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُم زَرَعْتُ وَلَكِن لِيَقُلْ حَرَثْتُ). وتتضمن هذه الآية أمرين: أحدهما: الإمتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم. الثاني: البرهان الموجب للإعتبار بأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذوره وإنتقاله إلى إستواء حاله، [من العفن إلى الترتيب] حتى صار زرعاً أخضر، ثم جعله قوياً مشتداً أضعاف ما كان علي، فهو بإعادة من مات أحق وعليه أقدر، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة. ثم قول تعالى {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} يعني الزرع، والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به، فنبه بذلك على أمرين: أحدهما: ما أولاهم من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه. الثاني: ليعتبروا بذلك في أنفسهم , كما أنه يجعل الرزع حطاماً إذا شاء كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا. {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} بعد مصير الزرع حطاماً، وفيه أربعة أوجه: أحدها: تندمون، وهو قول الحسن وقتادة، ويقال إنها لغة عكل وتميم. الثاني: تحزنون، قاله ابن كيسان. الثالث: تلاومون، قاله عكرمة.

الرابع: تعجبون , قاله ابن عباس. وإذا نالكم هذا في هلاك زرعكم كان ما ينالكم في هلاك أنفسكم أعظم. {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لمعذبون , قاله قتادة , ومنه قول ابن المحلم: (وثقت بأن الحفظ مني سجية ... وأن فؤادي مبتلى بك مغرم) الثاني: مولع بنا , قاله عكرمة , ومنه قول النمر بن تولب: (سلا عن تذكره تكتما ... وكان رهيناً بها مغرماً) أي مولع. الثالث: محرومون من الحظ , قاله مجاهد , ومنه قول الشاعر: (يوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عذاباً وكانا غراماً) {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي تستخرجون بزنادكم من شجر أو حديد أو حجر، ومنه قول الشاعر: (فإن النار بالزندين تورى ... وإن الشر يقدمه الكلام) {ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ} أي أخذتم أصلها. {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} يعني المحدثون. {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} فيه وجهان: أحدهما: تذكرة لنار [الآخرة] الكبرى، قاله قتادة. الثاني: تبصرة للناس من الظلام، قاله مجاهد. {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوينَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: منفعة للمسافرين قاله الضحاك، قال الفراء: إنما يقال للمسافرين إذا نزلوا القِيّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. الثاني: المستمتعين من حاضر ومسافر، قاله مجاهد. الثالث: للجائعين في إصلاح طعامهم، قاله ابن زيد.

الرابع: الضعفاء والمساكين , مأخوذ من قولهم قد أقوت الدار إذا خلت من أهلها , حكاه ابن عيسى. والعرب تقول قد أقوى الرجل إذا ذهب ماله , قال النابغة: (يقوى بها الركب حتى ما يكون لهم ... إلا الزناد وقدح القوم مقتبس) الخامس: أن المقوي الكثير المال , مأخوذ من القوة فيستمتع بها الغني والفقير.

75

{فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ الْنُّجُومِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه إنكار أن يقسم الله بشيء من مخلوقاته، قال الضحاك: إن الله لا يقسم بشىء من خلقه ولكنه استفتاح يفتتح به كلامه. الثاني: أنه يجوز أن يقسم الخالق بالمخلوقات تعظيماً من الخالق لما أقسم به من مخلوقاته. فعلى هذا في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} وجهان: أحدهما: أن (لا) صلة زائدة، ومعناه أقسم. الثاني: أن قوله: {فَلاَ} راجع إلى ما تقدم ذكره، ومعناه فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من نعمة وأظهرته من حجة، ثم استأنف كلامه فقال: {أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}. وفيها ستة أقاويل: أحدها: أنها مطالعها ومساقطها، قاله مجاهد.

الثاني: إنتشارها يوم القيامة وإنكدارها , قاله الحسن. الثالث: أن مواقع النجوم السماء , قاله ابن جريج. الرابع: أن مواقع النجوم الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا , قاله الضحاك , ويكون قوله: {فلا أقسم} مستعملاً على حقيقته في نفي القسم بها. الخامس: أنها نجوم القرآن أنزلها الله من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا , فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة , ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة , فهو ينزله على الأحداث في أمته , قاله ابن عباس والسدي. السادس: أن مواقع النجوم هو محكم القرآن , حكاه الفراء عن ابن مسعود. {وَإِنَّهُ قَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} فيه قولان: أحدهما: أن القرآن قسم عظيم , قاله ابن عباس. الثاني: أن الشرك بآياته جرم عظيم , قاله ابن عباس , والضحاك. ويحتمل ثالثاً: أن ما أقسم الله به عظيم. {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ} يعني أن هذا القرآن كريم , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: كريم عند الله. الثاني: عظيم النفع للناس. الثالث: كريم بما فيه من كرائم الأخلاق ومعالي الأمور. ويحتمل أيضاً رابعاً: لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه. {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} وفيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه كتاب في السماء وهو اللوح المحفوظ , قاله ابن عباس، وجابر بن زيد. الثاني: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن وذكر من ينزل عليه، قاله عكرمة. الثالث: أنه الزبور. الرابع: أنه المصحف الذي في أيدينا، قاله مجاهد، وقتادة.

وفي {مَّكْنُونٍ} وجهان: أحدهما: مصون , وهو معنى قول مجاهد. الثاني: محفوظ عن الباطل , قاله يعقوب بن مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن معانيه مكنونة فيه. {لاَّ يَمَسَّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} تأويله يختلف بإختلاف الكتاب، فإن قيل: إنه كتاب في السماء ففي تأويله قولان: أحدهما: لا يمسه في السماء إلا الملائكة المطهرون , قاله ابن عباس , وسعيد بن جبير. الثاني: لا ينزله إلا الرسل من الملائكة إلى الرسل من الأنبياء , قاله زيد بن أسلم. وإن قيل إنه المصحف الذي في أيدينا ففي تأويله ستة أقاويل: أحدها: لا يمسه بيده إلا المطهرون من الشرك , قاله الكلبي. الثاني: إلا المطهرون من الذنوب والخطايا قاله الربيع بن أنس. الثالث: إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس , قاله قتادة. الرابع: لا يجد طعم نفعه إلا المطهرون أي المؤمنون بالقرآن، حكاه الفراء. الخامس: لا يمس ثوابه إلا المؤمنون، رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. السادس: لا يلتمسه إلا المؤمنون، قاله ابن بحر. {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} يعني بهذا الحديث القرآن الذي لا يمسه إلا المطهرون. وفي قوله مدهنون أربعة تأويلات: أحدها: مكذبون، قاله ابن عباس. الثاني: معرضون، قاله الضحاك.

الثالث: ممالئون الكفار على الكفر به، قاله مجاهد. الرابع: منافقون في التصديق به حكاه ابن عيسى، ومنه قول الشاعر: (لبعض الغشم أبلغ في أمور ... تنوبك من مداهنة العدو) {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُم إِنَّكُم تُكَذِّبُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الإستسقاء بالأنواء وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا , قاله ابن عباس ورواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: الاكتساب بالسحر , قاله عكرمة. الثالث: هو أن يجعلوا شكر الله على ما رزقهم تكذيب رسله والكفر به , فيكون الرزق الشكر , وقد روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُم أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ}. ويحتمل رابعاً: أنه ما يأخذه الأتباع من الرؤساء على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والصد عنه.

83

{فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين} {فَلَوْلاَ إِن كُنْتُم غَيْرَ مَدِينِينَ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: غير محاسبين، قاله ابن عباس. الثاني: غير مبعوثين، قاله الحسن. الثالث: غير مصدقين، قاله سعيد بن جبير. الرابع: غير مقهورين، قاله ميمون بن مهران.

الخامس: غير موقنين، قاله مجاهد. السادس: غير مجزيين بأعمالكم , حكاه الطبري. السابع: غير مملوكين، قاله الفراء. {تَرْجِعُونَهَآ} أي ترجع النفس بعد الموت إلى الجسد إن كنتم صادقين أنكم غير مذنبين.

88

{فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم} {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فيهم وجهان: أحدهما: أنهم أهل الجنة , قاله يعقوب بن مجاهد. الثاني: أنهم السابقون , قاله أبو العالية. {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} في الرَّوْح ثمانية تأويلات: أحدها: الراحة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الفرح , قاله ابن جبير. الثالث: أنه الرحمة , قاله قتادة. الرابع: أنه الرخاء , قاله مجاهد. الخامس: أنه الرَوح من الغم والراحة من العمل , لأنه ليس في الجنة غم ولا عمل , قاله محمد بن كعب. السادس: أنه المغفرة , قاله الضحاك. السابع: التسليم , حكاه ابن كامل. الثامن: ما روى عبد الله بن شقيق عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ {فَرُوُحٌ} بضم الراء , وفي تأويله وجهان:

أحدهما: بقاء روحه بعد موت جسده. الثاني: ما قاله الفراء أن تأويله حياة لا موت بعدها في الجنة. وأما الريحان ففيه ستة تأويلات: أحدها: أنه الإستراحة عند الموت , قاله ابن عباس. الثاني: الرحمة , قاله الضحاك. الثالث: أنه الرزق , قاله ابن جبير. الرابع: أنه الخير , قاله قتادة. الخامس: أنه الريحان المشموم يُتَلَقَّى به العبد عند الموت , رواه عبد الوهاب. السادس: هو أن تخرج روحه ريحانة , قال الحسن. واختلف في محل الرَوْح على خمسة أقوال. أحدها: عند الموت. الثاني: قبره ما بين موته وبعثه. الثالث: الجنة زيادة على الثواب والجزاء , لأنه قرنه بذكر الجنة فاقتضى أن يكون فيها. الرابع: أن الروح في القبر , والريحان في الجنة. الخامس: أن الروح لقلوبهم , والريحان لنفوسهم , والجنة لأبدانهم. {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه سلامته من الخوف وتبشيره بالسلامة. الثاني: أنه يحيا بالسلام إكراماً , فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل: أحدها: عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت , قاله الضحاك. الثاني: عند مساءلته في القبر , يسلم عليه منكر ونكير. الثالث: عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها.

سورة الحديد مدنية في قول الجمهور، قال الكلبي هي مكية. بسم الله الرحمن الرحيم

الحديد

{سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} قوله تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ} في هذا التسبيح ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أن خلق ما في السموات والأرض يوجب تنزيهه عن الأمثال والأشباه. الثاني: تنزيه الله قولاً مما أضاف إليه الملحدون , وهو قول الجمهور. الثالث: أنه الصلاة , سميت تسبيحاً لما تتضمنه من التسبيح , قاله سفيان , والضحاك. فقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ} يعني الملائكة وما فيهن من غيرهم وما في الأرض يعني في الحيوان والجماد , وقد ذكرنا في تسبيح الجماد وسجوده ما أغنى عن الإعادة. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} في انتصاره , {الْحَكِيمُ} في تدبيره.

{هُوَ الأَوَّلُ وِالأخِرُ} يريد بالأول أنه قبل كل شيء لقدمه , وبالآخر لأنه بعد كل شيء لبقائه. {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: الظاهر فوق كل شيء لعلوه , والباطن إحاطته بكل شيء لقربه , قاله ابن حيان. الثاني: أنه القاهر لما ظهر وبطن كما قال تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِم فََأصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ}. الثالث: العالم بما ظهر وما بطن. {وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ} يعني بالأول والآخر والظاهر والباطن. ولأصحاب الخواطر في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: الأول في ابتدائه بالنعم , والآخر في ختامه بالإحسان , والظاهر في إظهار حججه للعقول , والباطن في علمه ببواطن الامور. الثاني: الأول بكشف أحوال الآخرة حين ترغبون فيها , والآخر بكشف أحوال الدنيا حين تزهدون فيها , والظاهر على قلوب أوليائه حين يعرفونه , والباطن على قلوب أعدائه حين ينكرونه. الثالث: الأول قبل كل معلوم , والآخر بعد كل مختوم , والظاهر فوق كل مرسوم , والباطن محيط بكل مكتوم.

4

{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور}

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} قال مقاتل: من مطر , وقال غيره: من مطر وغير مطر. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} قال مقاتل: من نبات وغير نبات. {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} قال مقاتل: من الملائكة , وقال غيره: من ملائكة وغير ملائكة. ويحتمل وجهاً آخر: ما يلج في الأرض من بذر، وما يخرج منها من زرع، وما ينزل من السماء من قضاء، وما يعرج فيها من عمل، ليعلموا إحاطة علمه بهم فيما أظهروه أو ستروه، ونفوذ قضائه فيهم بما أرادوه أو كرهوه. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} فيه وجهان: أحدهما: علمه معكم أينما كنتم حيث لا يخفى عليه شيء من أعمالكم , قاله مقاتل. والثاني: قدرته معكم أينما كنتم حيث لا يعجزه شيء من أموركم.

7

{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين

أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم} {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} تحتمل هذه النفقة وجهين: أحدهما: أن تكون الزكاة المفروضة. والثاني: أن يكون غيرها من وجوه الطاعات. وفي {ما جَعَلَكْم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} قولان: أحدهما: يعني مما جعلكم معمرين فيه بالرزق , قاله مجاهد. الثاني: مما جعلكم مستخلفين فيه بوراثتكم له عمن قبلكم , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: مما جعلكم مستخلفين على القيام بأداء حقوقه. {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} يحتمل وجهين: أحدهما: معناه ولله ملك السموات والأرض. الثاني: أنهما راجعان إليه بانقباض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق. {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} فيه قولان: أحدهما: لا يستوي من أسلم من قبل فتح مكة وقاتل ومن أسلم بعد فتحها وقاتل , قاله ابن عباس , ومجاهد. الثاني: يعني من أنفق ماله في الجهاد وقاتل , قاله قتادة. وفي هذا الفتح قولان: أحدهما: فتح مكة , قاله زيد بن أسلم. الثاني: فتح الحديبية , قاله الشعبي , قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الأخر , وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى , كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك. {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فيه قولان: أحدهما: أن الحسنى الحسنة , قاله مقاتل. الثاني: الجنة , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أن الحسنى القبول والجزاء.

{مَّن ذَا الَّذِي يُقْرضُ اللَّه قَرْضاً حَسَناً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن القرض الحسن هو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أكبر، رواه سفيان عن ابن حيان. الثاني: أنه النفقة على الأهل , قاله زيد بن أسلم. الثالث: أنه التطوع بالعبادات , قاله الحسن. الرابع: أنه عمل الخير , والعرب تقول لي عند فلان قرض صدق أو قرض سوء , إذا فعل به خيراً أو شراً , ومنه قول الشاعر: (وتجزي سلاماً من مقدم قرضها ... بما قدمت أيديهم وأزلت) الخامس: أنه النفقة في سبيل الله , قاله مقاتل بن حيان. وفي قوله: {حَسَناً} وجهان: أحدهما: طيبة بها نفسه , قاله مقاتل. الثاني: محتسباً لها عند الله , قاله الكلبي , وسمي قرضاً لاستحقاق ثوابه , قاله لبيد: (وإذا جوزيت قرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل) وفي تسميته {حَسَناً} وجهان: أحدهما: لصرفه في وجوه حسنة. الثاني: لأنه لا مَنَّ فيه ولا أذى. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} فيه وجهان: أحدهما: فيضاعف القرض لأن جزاء الحسنة عشر أمثالها. الثاني: فيضاعف الثواب تفضلاً بما لا نهاية له. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: لم يتذلل في طلبه. الثاني: لأنه كريم الخطر. الثالث: أن صاحبه كريم. فلما سمعها أبو الدحداح تصدق بحديقة فكان أول من تصدق بعد هذه الآية.

وروى سعيد بن جبير أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية، فقالوا يا محمد، أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} الآية. {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} وفي نورهم ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ضياء يعطيهم الله إياه ثواباً وتكرمة , وهذا معنى قول قتادة. الثاني: أنه هداهم الذي قضاه لهم , قاله الضحاك. الثالث: أنه نور أعمالهم وطاعتهم. قال ابن مسعود: ونورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم مَن نوره مثل النخلة , وأدناهم نوراً مَن نوره على إبهام رجله يوقد تارة ويطفأ أخرى. وقال الضحاك: ليس أحد يعطى يوم القيامة نوراً , فإذا انتهوا إلى الصراط أطفىء نور المنافقين , فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن ينطفىء نورهم كما طفىء نور المنافقين , فقالوا: {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}. وفي قوله: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وجهان: أحدهما: ليستضيئوا به على الصراط , قاله الحسن. والثاني: ليكون لهم دليلاً إلى الجنة , قاله مقاتل. وفي قوله: {بِأَيْمَانَهِم} في الصدقات والزكوات وسبل الخير. الرابع: بإيمانهم في الدنيا وتصديقهم بالجزاء , قاله مقاتل. قوله تعالى {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} فيه وجهان:

أحدهما: أن نورهم هو بشراهم بالجنات. الثاني: هي بشرى من الملائكة يتلقونهم بها في القيامة , قاله الضحاك.

13

{يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير} {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} الآية. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة أظنها بعد فصل القضاء , ثم يعطون نوراً يمشون فيه. وفي النور قولان: أحدهما: يعطاه المؤمن بعد إيمانه دون الكافر. الثاني: يعطاه المؤمن والمنافق , ثم يسلب نور المنافق لنفاقه , قاله ابن عباس. فيقول المنافقون والمنافقات حين غشيتهم الظلمة. {لِلَّذِينَءَامَنُواْ} حين أعطوا النور الذي يمشون فيه: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي انتظروا , ومنه قول عمرو بن كلثوم: (أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا) {قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً} فيه قولان: أحدهما: ارجعوا إلى الموضع الي أخذنا منه النور فالتمسوا منه نوراً. الثاني: ارجعو فاعملوا عملاً يجعل الله بين أيديكم نوراً. ويحتمل في قائل هذا القول وجهان:

أحدهما: أن يقوله المؤمنون لهم. الثاني: أن تقوله الملائكة لهم. {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه حائط بين الجنة والنار , قاله قتادة. الثاني: أنه حجاب في الأعراف , قاله مجاهد. الثالث: أنه سور المسجد الشرقي , [بيت المقدس] قاله عبد الله بن عمرو بن العاص. {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبلِهِ الْعَذَابُ} فيه قولان: أحدهما: أن الرحمة التي في باطنه الجنة , والعذاب الذي في ظاهره جهنم , قاله الحسن. الثاني: أن الرحمة التي في باطنه: المسجد وما يليه , والعذاب الذي في ظاهره: وادي جهنم يعني بيت المقدس , قاله عبد الله بن عمرو بن العاص. ويحتمل ثالثاً: أن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين , والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين. وفيمن ضرب بينهم وبينه بهذا السور قولان: أحدهما: أنه ضرب بينهم وبين المؤمنين الذي التمسوا منهم نوراً , قاله الكلبي ومقاتل. الثاني: أنه ضرب بينهم وبين النور بهذا السور حتى لا يقدروا على التماس النور.

{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يعني نصلي مثلما تصلون , ونغزو مثلما تغزون , ونفعل مثلما تفعلون. {قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَكُم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالنفاق، قاله مجاهد. الثاني: بالمعاصي، قاله أبو سنان. الثالث: بالشهوات، رواه أبو نمير الهمداني. {وَتَرَبَّصْتُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: بالحق وأهله، قاله قتادة. الثاني: وتربصتم بالتوبة، قاله أبو سنان. {وَارْتَبْتُمْ} يعني شككتم في أمر الله. {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} فيه أربعة أوجه: أحدها: خدع الشيطان , قاله قتادة. الثاني: الدنيا , قاله ابن عباس. الثالث: سيغفر لنا , قاله أبو سنان. الرابع: قولهم اليوم وغداً. {حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: الموت , قاله أبو سنان. الثاني: إلقاؤهم في النار , قاله قتادة. {وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُوْرُ} فيه وجهان: أحدهما: الشيطان , قاله عكرمة. الثاني: الدنيا , قاله الضحاك.

16

{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون}

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها نزلت في قوم موسى عليه السلام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم , قاله ابن حيان. الثاني: في المنافقين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم، قاله الكلبي. الثالث: أنها في المؤمنين من أمتنا، قاله ابن عباس وابن مسعود، والقاسم بن محمد. ثم اختلف فيها على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما رواه أبو حازم عن عون بن عبد الله عن ابن مسعود قال: ما كان بين أن أسلمنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين , فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول ما أحدثنا. قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه. الثاني: ما رواه قتادة عن ابن عباس أن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة , فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ} الآية. الثالث: ما رواه المسعودي عن القاسم قال: مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقالوا يا رسول الله حدثنا , فأنزل الله تعالى: {نَحنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسنَ الْقَصَصِ} ثم ملوا مرة فقالوا: حدثنا يا رسول الله , فأنزل الله {أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}. قال شداد بن أوس: كان يروى لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ).

ومعنى قوله: {أَلَمْ يَأْنِ} ألم يحن , قال الشاعر: (ألم يأن لي يا قلب أن اترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا) وفي {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْر اللَّهِ} ثلاثة تأويلات: أحدها: أن تلين قلوبهم لذكر الله. الثاني: أن تذل قلوبهم من خشية الله. الثالث: أن تجزع قلوبهم من خوف الله. وفي ذكر الله ها هنا وجهان: أحدهما: أنه القرآن , قاله مقاتل. الثاني: أنه حقوق الله , وهو محتمل. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: القرآن , قاله مقاتل. الثاني: الحلال والحرام , قاله الكلبي. الثالث: يحتمل أن يكون ما أنزل من البينات والهدى. {اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلين القلوب بعد قسوتها , قاله صالح المري. الثاني: يحتمل أنه يصلح الفساد. الثالث: أنه مثل ضربه لإحياء الموتى. روى وكيع عن أبي رزين قال: قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الأرض بعد موتها؟ فقال: (يَا أَبَا رُزَينَ أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحَلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضْرَةً؟ قال: بلى , قَالَ كَذَلِكَ يُحْيي اللَّهُ المَوتَى).

18

{إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم

أجر كريم والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} فيه وجهان: أحدهما: المصدقين لله ورسوله. الثاني: المتصدقين بأموالهم في طاعة الله. {وَالَّذِينَءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} أي المؤمنون بتصديق الله ورسله. {وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} فيه قولان: أحدهما: أن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم , قاله زيد بن أسلم. الثاني: أن قوله: {أَوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} كلام تام. وقوله: {وَالشُّهَدَآءُ عِنَدَ رَبِّهِمْ} كلام مبتدأ وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب , قاله الكلبي. الثاني: أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة. وفيما يشهدون به قولان: أحدهما يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية، وهذا معنى قول مجاهد. الثاني: يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة إلى أممهم، قاله الكلبي. وقال مقاتل قولاً ثالثاً: أنهم القتلى في سبيل الله لهم أجرهم عند ربهم يعني ثواب أعمالهم. {وَنُورُهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: نورهم على الصراط. الثاني: إيمانهم في الدنيا , حكاه الكلبي.

20

{اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فيه وجهان: أحدهما: أكل وشرب , قاله قتادة. الثاني: أنه على المعهود من اسمه , قال مجاهد: كل لعب لهو. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن اللعب ما رغَّب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة. ويحتمل رابعاً: أن اللعب الاقتناء، واللهو النساء. {وَزِينَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الدنيا زينة فانية. الثاني: أنه كل ما بوشر فيها لغير طاعة. {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالخلقة والقوة. الثاني: بالأنساب على عادة العرب في التنافس بالآباء. {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ} لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأموال والأولاد , وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعات. ثم ضرب لهم مثلاً بالزرع {كَمَثَلٍ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمََّ يَهِيْجُ} بعد خضرة. {فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ حُطَاماً} بالرياح الحطمة , فيذهب بعد حسنه , كذلك دنيا الكافر. {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَبِّكُمْ} فيه أربعة أوجه:

أحدها: النبي صلى الله عليه وسلم , قاله أبو سعيد. الثاني: الصف الأول , قاله رباح بن عبيد. الثالث: إلى التكبيرة الأولى مع الإمام , قاله مكحول. الرابع: إلى التوبة: قاله الكلبي. {وَجَنَةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ} ترغيباً في سعتها , واقتصر على ذكر العرض دون الطول لما في العرض من الدلالة على الطول , ولأن من عادة العرب أن تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله , قال الشاعر: (كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب حلقة خاتم.) {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِن يَشَآءُ} فيه وجهان: أحدهما: الجنة , قاله الضحاك. الثاني: الدين، قاله ابن عباس. وفي {مَن يَشَآءُ} قولان: أحدهما: من المؤمنين , إن قيل إن الفضل الجنة. الثاني: من جيمع الخلق , إن قيل إنه الدين.

22

{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} فيه وجهان: أحدهما: الجوائح في الزرع والثمار. الثاني: القحط والغلاء. {وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ} فيه أربعة أوجه: أحدها: في الدين , قاله ابن عباس.

الثاني: الأمراض والأوصاب، قاله قتادة. الثالث: إقامة الحدود، قاله ابن حبان. الرابع: ضيق المعاش , وهذا معنى رواية ابن جريج. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ. {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} قال سعيد بن جبير: من قبل أن نخلق المصائب ونقضيها. {لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: من الرزق الذي لم يقدر لكم , قاله ابن عباس , والضحاك. الثاني: من العافية والخصب الذي لم يقض لكم , قاله ابن جبير. {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآءَاتَاكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: من الدنيا , قاله ابن عباس. الثاني: من العافية والخصب , وهذا مقتضى قول ابن جبير. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآءَاتَاكُمْ} قال: ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح , ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً، والخير شكراً. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: الذين يبخلون يعني بالعلم، ويأمرون الناس بالبخل بألا يعلموا الناس شيئاً، قاله ابن جبير. الثاني: أنهم اليهود بخلوا بما في التوارة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الكلبي , والسدي. الثالث: أنه البخل بأداء حق الله من أموالهم , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه البخل بالصدقة والحقوق , قاله عامر بن عبد الله الأشعري. الخامس: أنه البخل بما في يديه، قال طاووس. وفرق أصحاب الخواطر بين البخيل والسخي بفرقين: أحدهما: أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك , والسخي الذي يلتذ بالعطاء.

الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال , والسخي الذي يعطي بغير سؤال.

25

{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} {وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ} فيه قولان: أحدهما: أن الله أنزله مع آدم. روى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاث أشياء نزلت مع آدم: الحجر الأسود , كان أشد بياضاً من الثلج , وعصا موسى وكانت من آس الجنة , طولها عشرة أذرع مثل طول موسى , والحديد , أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة. الثاني: أنه من الأرض غير منزل من السماء , فيكون معنى قوله: {وَأَنزَلْنَا} محمولاً على أحد وجهين: أحدهما: أي أظهرناه. الثاني: لأن أصله من الماء المنزل من السماء فينعقد في الأرض جوهره حتى يصير بالسبك حديداً. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فيه وجهان: أحدهما: لأن بسلاحه وآلته تكون الحرب التي هي بأس شديد. الثاني: لأن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} يحتمل وجهين: أحدهما: ما تدفعه عنهم دروع الحديد من الأذى وتوصلهم إلى الحرب والنصر. الثاني: ما يكف عنهم من المكروه بالخوف عنه. وقال قطرب: البأس السلاح , والمنفعة الآلة.

26

{ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا

وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} {. . وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأْفَةً وَرَحْمَةً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الرأفة اللين، والرحمة الشفقة. الثاني: أن الرأفة تخفيف الكل , والرحمة تحمل الثقل. {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} فيه قراءتان: إحداهما: بفتح الراء وهي الخوف من الرهب. الثانية: بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان ومعناه أنهم ابتدعوا رهبانية ابتدؤوها. وسبب ذلك ما حكاه الضحاك: [أنهم] بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان على منهاج عيسى فقتلوهم , فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا , فليس يسعنا المقام بينهم , فاعتزلوا النساء واتخذوا الصوامع , فكان هذا ما ابتدعوه من الرهبانية التي لم يفعلها من تقدمهم وإن كانوا فيها محسنين. {مَا كتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي لم تكتب عليهم وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها رفض النساء واتخاذ الصوامع , قاله قتادة. الثاني: أنها لحوقهم بالجبال ولزومهم البراري , وروي فيه خبر مرفوع. الثالث: أنها الانقطاع عن الناس والانفراد بالعبادة.

وفي الرأفة والرحمة التي جعلها في قلوبهم وجهان: [الأول]: أنه جعلها في قلوبهم بالأمر بها والترغيب فيها. الثاني: جعلها بأن خلقها فيهم وقد مدحوا بالتعريض بها. {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رَضْوَانِ اللَّهِ} أي لم تكتب عليهم قبل ابتداعها ولا كتبت بعد ذلك عليهم. الثاني: أنهم تطوعوا بها بابتداعها , ثم كتبت بعد ذلك عليهم , قاله الحسن. {فَمَا رَعَوْهَا حِقَّ رِعَايَتِهَا} فيه وجهان: أحدهما: أنهم ما رعوها لتكذيبهم بمحمد. الثاني: بتبديل دينهم وتغييرهم فيه قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم , قاله عطية العوفي.

28

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ} معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد. {يُؤْتِكُم كِفْلَينِ مِن رَّحْمَتِهِ} فيه وجهان: أحدهما: أن أحد الأجرين لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء , والآخر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. الثاني: أن أحدهما: أجر الدنيا , والآخر أجر الآخرة، قاله ابن زيد. ويحتمل ثالثاً: أن أحدهما أجر اجتناب المعاصي، والثاني أجر فعل الطاعات.

ويحتمل رابعاً: أن أحدهما أجر القيام بحقوق الله والثاني أجر القيام بحقوق العباد. {وَيَجْعَلَ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الهدى , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: أنه الدين المتبوع في مصالح الدنيا وثواب الآخرة. وقد روى أبو بريدة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَينِ: رَجُلٌ آمَنَ بِالكِتَابِ الأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الآخِرِ , وَرَجُلٌ كَانَتْ لَه أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا , وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لَسَيِّدِهِ). {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} قال الأخفش: معناه ليعلم أهل الكتاب وأن (لا) صلة زائدة وقال الفراء: لأنْ لا يعلم أهل الكتاب و (لا) صلة زائدة في كلام دخل عليه جحد. {أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: من دين الله وهو الإسلام قاله مقاتل. الثاني: من رزق الله , قاله الكلبي. وفيه ثالث: أن الفضل نعم الله التي لا تحصى.

سورة المجادلة مدنية في قول الجميع إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي. وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: {وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} نزلت بمكة. بسم الله الرحمن الرحيم

المجادلة

{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} قوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} وهي خولة بنت ثعلبة , وقيل بنت خويلد , وليس هذا بمختلف لأن أحدهما أبوها والآخر جدها , فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أوس بن الصامت. قال عروة: وكان امرأً به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته , فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في ذلك. {وتشتكي إلى الله} فيه وجهان: أحدهما: تستغيث بالله. والثاني: تسترحم الله. وروى الحسن أنها قالت: يا رسول الله قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي

ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أوحي إليّ في هذا شيء) فقالت: يا رسول الله أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال: (هو ما قلت لك) فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله , فأنزل الله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك} الآية. وقرأ ابن مسعود: {قَد سَّمِعَ}. قالت عائشة: تبارك الله الذي أوعى سمعه كل شيء , سمع كلام خولة بنت ثعلبة وأنا في ناحية البيت ما أسمع بعض ما تقول , وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي وانقطع ولدي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك , فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية. {والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} والمحاورة مراجعة الكلام , قال عنترة: (لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي.) {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} الظهار قول الرجل لامرأته. أنت عليّ كظهر أمي , سمي ظهاراً لأنه قصد تحريم ظهرها عليه , وقيل: لأنه قد جعلها عليه كظهر أمه , وقد كان في الجاهلية طلاقاً ثلاثاً لا رجعة فيه ولا إباحة بعده فنسخه الله إلى ما استقر عليه الشرع من وجوب الكفارة فيه بالعود.

2

{الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك

لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} ثم قال: {. . ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} تكذيباً من الله تعالى لقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} يعني بمنكر القول الظاهر , وبالزور كذبهم في جعل الزوجات أمهات.

5

{إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} {إن الذين يحادُّون الله ورسوله} فيه وجهان: أحدهما: يعادون الله ورسوله , قاله مجاهد. الثاني: يخالفون الله ورسوله , قاله الكلبي. وفي أصل المحادة وجهان: أحدهما: أن تكون في حد يخالف حد صاحبك , قاله الزجاج. الثاني: أنه مأخوذ من الحديد المعد للمحادة. {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: [أخزوا] كما أخزي الذين من قبلهم , قاله قتادة. الثاني: معناه أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم , قاله الأخفش وأبو عبيدة. الثالث: لعنوا كما لعن الذين من قبلهم , قاله السدي , وقيل هي بلغة مذحج.

الرابع: ردوا مقهورين.

8

{ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} النجوى السرار , ومن ذلك قول جرير: (من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت بنجواهم لؤي بن غالب) والنجوى مأخوذة من النجوة وهي ما له ارتفاع وبعد , لبعد الحاضرين عنه، وفيها وجهان: أحدهما: أن كل سرار نجوى , قاله ابن عيسى. الثاني: أن السرار ما كان بن اثنين , والنجوى ما كان بين ثلاثة، حكاه سراقة. وفي المنهي عنه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود، كانوا يتناجون بما بين المسلمين، فنهوا عن ذلك، قاله مجاهد. الثاني: أنهم المنافقون، قاله الكلبي. الثالث: أنهم المسلمون. روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقال: (ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى). فقلنا تبنا إلى الله يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح يعني الدَّجال فرَقاً منه , فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قالوا: بلى يا رسول الله , قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل). {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله} كانت اليهود إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: السام عليك , وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول: {وعليكم} ويروى أن عائشة حين سمعت ذلك منهم قالت: وعليكم السام والذام , فقال عليه السلام: (إن الله لا يحب الفحش والتفحش). وفي السام الذي أرادوه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الموت، قاله ابن زيد. الثاني: أنه السيف. الثالث: أنهم أرادوا بذلك أنكم ستسأمون دينكم , قاله الحسن , وكذا من قال هو الموت لأنه يسأم الحياة. وحكى الكلبي أن اليهود كانوا إذا رد النبي صلى الله عليه وسلم جواب سلامهم قالوا: لو كان هذا نبياً لاستجيب له فينا قوله وعليكم , يعني السام وهو الموت وليس بنا سامة وليس في أجسادنا فترة، فنزلت فيهم {ويقولون في أنفسهم ولولا يعذبنا الله بما نقول} الآية. وفي قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا} وجهان: أحدهما: ما كان يتناجى به اليهود والمنافقون من الأراجيف بالمسلمين. الثاني: أنها الأحلام التي يراها الإنسان في منامه فتحزنه.

11

{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} {يَأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس. .} فيه أربعة أوجه: أحدها: مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا جلس فيه قوم تشاحوا بأمكنتهم على من يدخل عليهم أن يؤثروه بها أو يفسحوا له فيها , فأمروا بذلك قاله مجاهد. الثاني: أنه في مجالس صلاة الجمعة , قاله مقاتل. الثالث: أنها في مجالس الذكر كلها , قاله قتادة. الرابع: أن ذلك في الحرب والقتال , قاله الحسن. { ... وإذا قيل انشزوا فانشزوا} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه وإذا قيل لكم انهضوا إلى القتال فانهضوا , قاله الحسن. الثاني: إذا دعيتم إلى الخير فأجيبوا , قاله قتادة. الثالث: إذا نودي للصلاة فاسعوا إليها , قاله مقاتل بن حيان. الرابع: أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم هو الآخر عهداً به , فأمرهم الله أن ينشزوا إذا قيل لهم انشزوا , قاله ابن زيد. ومعنى {تفسحوا} توسعوا. وفي {انشزوا} وجهان: أحدهما: معناه قوموا , قاله ابن قتيبة. الثاني: ارتفعوا , مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها. وفيما أمروا أن ينشزوا إليه ثلاثة أوجه: أحدها: إلى الصلاة , قاله الضحاك. الثاني: إلى الغزو , قاله مجاهد. الثالث: إلى كل خير , قاله قتادة. {يرفع الله الذين ءامنوا منكم} يعني بإيمانه على من ليس بمنزلته في الإيمان. {والذين أوتوا العلم درجات} على من ليس بعالم.

ويحتمل هذا وجهين: أحدهما: أن يكون إخباراً عن حالهم عند الله في الآخرة. الثاني: أن يكون أمراً يرفعهم في المجالس التي تقدم ذكرها لترتيب الناس فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم.

12

{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون} {يأيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} اختلف في سببها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن المنافقين كانا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم بما لا حاجة لهم به , فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن النجوى , قاله ابن زيد. الثاني: أنه كان قوم من المسلمين يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشق عليهم ذلك، فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه، قاله الحسن. الثالث: قاله ابن عباس وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه , فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما قال ذلك كف كثير من الناس عن المسألة. وقال مجاهد: لم يناجه إلا عليٌّ قدّم ديناراً فتصدق به , فسأله عن عشر خصال , ثم نزلت الرخصة. {ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات} قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت , وأحسبه [قال] وما كانت إلا ساعة , وقال ابن حبان: كان ذلك ليالي عشراً. وقال ابن سليمان: ناجاه عليّ بدينار باعه بعشرة دراهم في عشر كلمات كل

كلمة بدرهم. وناجاه آخر من الأنصار بآصع وكلمه كلمات , ثم نسخت بما بعدها.

14

{ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم} يعني المنافقين تولوا قوماً غضب الله عليهم هم اليهود. {ما هم منكم} لأجل نفاقهم. {ولا منهم} لخروجهم بيهوديتهم. {ويحلفون على الكذب} أنهم لم ينافقوا. {وهم يعلمون} أنهم منافقون. {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين} فيه قولان: أحدهما: قاله السدي. الثاني: عن سبيل الله في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق. ويحتمل ثالثاً: صدوا عن الجهاد ممايلة لليهود. {استحوذ عليهم الشيطان} فيه قولان: أحدهما: قوي عليهم. الثاني: أحاط بهم , قاله المفضل. وفيه ثالث: أنه غلب واستولى عليهم في الدنيا.

{فأنساهم ذكر الله} يحتمل ذكر الله ها هنا وجهين: أحدهما: أوامره في العمل بطاعته. الثاني: زواجره في النهي عن معصيته. ويحتمل ما أنساهم من ذكره وجهين: أحدهما: بالغفلة عنها. الثاني: بالشرك بها.

20

{إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من حارب الله ورسوله , قاله قتادة والفراء. الثاني: من خالف الله ورسوله , قاله الكلبي. الثالث: من عادى الله ورسوله , قاله مقاتل. {ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما قاله ابن شوذب: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم بدر , جعل يتصدى له , وجعل أبو عبيدة يحيد عنه , فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله.

وروى سعيد بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخاره , قال سعيد: وفيه نزلت هذه الآية. وفيه وجهان: أحدهما: أنه خارج مخرج النهي للذين آمنوا أن يوادوا من حادّ الله ورسوله. الثاني: أنه خارج مخرج الصفة لهم والمدح بأنهم لا يوادون من حادّ الله ورسوله , وكان هذا مدحاً. {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه جعل في قلوبهم الإيمان وأثبته , قال السدي , فصار كالمكتوب. الثاني: كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان. الثالث: حكم لقلوبهم بالإيمان. الرابع: أنه جعل في قلوبهم سمة للإيمان على أنهم من أهل الإيمان , حكاه ابن عيسى. {وأيدهم بروح منه} فيه خمسة أوجه: أحدها: أعانهم برحمته , قاله السدي. الثاني: أيدهم بنصره حتى ظفروا. الثالث: رغبهم في القرآن حتى ءامنوا. الرابع: قواهم بنور الهدى حتى صبروا. الخامس: قواهم بجبريل يوم بدر. {رضي الله عنهم} يعني في الدنيا بطاعتهم. {ورضوا عنه} فيه وجهان: أحدهما: رضوا عنه في الآخرة بالثواب. الثاني: رضوا عنه في الدنيا بما قضاه عليهم فلم يكرهوه. {أولئك حزب الله} فيهم وجهان:

أحدهما: انهم من عصبة الله فلا تأخذهم لومة لائم. الثاني: أنهم أنصار حقه ورعاة خلقه وهو محتمل. القول الثاني: ما روى ابن جريج أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وقد سمع أباه أبا قحافة يسب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط على وجهه , فقال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , فقال: (أو فعلته؟ لا تعد إليه يا أبا بكر). فقال والله لو كان السيف قريباً مني لضربته به، فنزلت هذه الآية. القول الثالث: ما حكى الكلبي ومقاتل أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقد كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح.

سورة الحشر بسم الله الرحمن الرحيم

الحشر

{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب} يعني يهود بني النضير. {من ديارهم} يعني من منازلهم. {لأول الحشر} أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من أُحد إلى أذرعات

الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيراً يحملون عليه ما استقل إلا السلاح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم حين هاجر إلى المدينة أن لا يقاتلوا معه ولا عليه , فكفوا يوم بدر لظهور المسلمين , وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين , فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف , قتله محمد بن مسلمة غيلة. ثم سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم ثلاثاً وعشرين ليلة محارباً حتى أجلاهم عن المدينة. في قوله: {لأول الحشر} ثلاثة أوجه: أحدها: لأنهم أول من أجلاه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود , قاله ابن حبان. الثاني: لأنه اول حشرهم , لأنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة , قاله الحسن. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أجلى بني النضير قال لهم (امضوا فهذا أول الحشر وأنا على الأثر.) الثالث: أنه أول حشرهم لما ذكره قتادة أنه يأتي عليهم بعد ذلك من مشرق الشمس نار تحشرهم إلى مغربها تبيت معهم إذ باتوا [وتقيل معهم حيث قالوا] وتأكل منهم من تخلف. {ما ظننتم أن يخرجوا} يعني من ديارهم لقوتهم وامتناعهم. {وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله} أي من أمر الله. {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} فيه وجهان: أحدهما: لم يحتسبوا بأمر الله. الثاني: قاله ابن جبير والسدي: من حيث لم يحتسبوا بقتل ابن الأشرف. {وقذف في قلوبهم الرعب} فيه وجهان: أحدهما: لخوفهم من رسول الله. الثاني: بقتل كعب بن الأشرف. {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} فيه خمسة أوجه: أحدها: بأيديهم بنقض الموادعة، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، قاله الزهري.

الثاني: بأيديهم في تركها، وأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، قاله أبو عمرو ابن العلاء. الثالث: بأيديهم في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذها المسلمون , وبأيدي المؤمنين في إخراب ظواهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة: كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل , وخربها المسلمون من خارج. الرابع: معناه: أنهم كانوا كلما هدم المسلمون عليهم من حصونهم شيئاً نقضوا من بيوتهم ما يبنون به من حصونهم , قاله الضحاك. الخامس: أن تخريبهم بيوتهم أنهم لما صولحوا على حمل ما أقلته إبلهم جعلوا ينقضون ما أعجبهم من بيوتهم حتى الأوتار ليحملوها على إبلهم , قاله عروة بن الزبير , وابن زيد. وفي قوله: {يخربون} قراءتان: بالتخفيف , وبالتشديد , وفيهما وجهان: أحدهما: أن معناهما واحد وليس بينهما فرق. الثاني: أن معناهما مختلف. وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم , ومن قرأ بالتخفيف أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو. الثاني: أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها. وبالتخفيف أراد فراغها بخروجهم عنها , قاله الفراء. ولمن تعمق بغوامض المعاني في تأويل ذلك وجهان: أحدهما: يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم بأيديهم , يعني باتباع البدع , وأيدي المؤمنين في مخالفتهم. {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} فيه وجهان: أحدهما: يعني بالجلاء الفناء {لعذبهم في الدنيا} بالسبي.

والثاني: يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم {لعذبهم في الدنيا} يعني بالقتل , قاله عروة. والفرق بين الجلاء والإخراج - وإن كان معناهما في الإبعاد واحد - من وجهين: أحدهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد , والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة , والإخراج يكون لجماعة ولواحد. {ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا ست نخلات , وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة , وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره , إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها , فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الإصلاح؟ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل؟ وقال شاعرهم سماك اليهودي: (ألسنا ورثنا كتاب الحكيم ... على عهد موسى ولم نصدف) (وأنتم رعاء لشاء عجاف ... بسهل تهامة والأخيف) (ترون الرعاية مجداً لكم ... لدي كل دهر لكم مجحف) (فيا أيها الشاهدون انتهوا ... عن الظلم والمنطق المؤنف) (لعل الليالي وصرف الدهور ... يدلن عن العادل المنصف) (بقتل النضير وإجلائها ... وعقر النخيل ولم تقطف) فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه: (هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمي عن التوارة يور) (كفرتم بالقرآن وقد أتيتم ... بتصديق الذي قال النذير) (وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير)

ثم إن المسلمين جل في صدورهم ما فعلوه , فقال بعضهم: هذا فساد , وقال آخرون منهم عمر بن الخطاب: هذا مما يجزي الله به أعداءه وينصر أولياءه فقالوا يا رسول الله هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى: {وما قطعتم من لينة} الآية. وفيه دليل على أن كل مجتهد مصيب. وفي اللينة خمسة أقاويل: أحدها: النخلة من أي الأصناف كانت , قاله ابن حبان. الثاني: أنها كرام النخل , قاله سفيان. الثالث: أنها العجوة خاصة , قاله جعفر بن محمد وذكر أن العتيق والعجوة كانا مع نوح في السفينة، والعتيق الفحل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ولذلك شق على اليهود قطعها. الرابع: أن اللينة الفسيلة لأنها ألين من النخلة , ومنه قول الشاعر: (غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام) الخامس: أن اللينة جميع الأشجار للينها بالحياة , ومنه قول ذي الرمة: (طراق الخوافي واقع فوق لينة ... ندى ليلة في ريشه يترقرق) قال الأخفش: سميت لينة اشتقاقاً من اللون لا من اللين.

6

{وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب}

{وما أفاء الله على رسوله منهم} يعني ما رده اللَّه على رسوله من أموال بني النضير. {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} والإيجاف الإيضاع في السير وهو الإسراع , والركاب: الإبل , وفيهما يقول نصيب: (ألارب ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم توجف الركب) {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} ذلك أن مال الفيء هو المأخوذ من المشركين بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب , فجعل الله لرسوله أن يضعه حيث يشاء لأنه واصل بتسليط الرسول عليهم لا بمحاربتهم وقهرهم. فجعل الله ذلك طعمة لرسوله خالصاً دون الناس , فقسمه في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فإنهما ذكرا فقراً فأعطاهما. {كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم} يقال دولة بالضم وبالفتح وقرىء بهما , وفيهما قولان: أحدهما: أنهما واحد , قاله يونس , والأصمعي. الثاني: أن بينهما فرقاً , وفيه أربعة أوجه:

أحدها: أنه بالفتح الظفر في الحرب , وبالضم الغنى عن فقر , قاله أبو عمرو ابن العلاء. الثاني: أنه بالفتح في الأيام , وبالضم في الأموال , قاله عبيدة. الثالث: أن بالفتح ما كان كالمستقر , وبالضم ما كان كالمستعار , حكاه ابن كامل. الرابع: أنه بالفتح الطعن في الحرب , وبالضم أيام الملك وأيام السنين التي تتغير , قاله الفراء , قال حسان: (ولقد نلتم ونلنا منكم ... وكذاك الحرب أحياناً دول) {وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه , وما منعكم منه فلا تطلبوه , قاله السدي. الثاني: ما آتاكم الله من مال الغنيمة فخذوه , وما نهاكم عنه من الغلو فلا تفعلوه , قاله الحسن. الثالث: وما آتاكم من طاعتي فافعلوه , وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه , قاله ابن جريج. الرابع: أنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه لأنه لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد. وحكى الكلبي أنها نزلت في رؤساء المسلمين قالوا فيما ظهر عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أموال المشركين , يا رسول الله صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوه: (لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول.) فأنزل الله هذه الآية.

8

{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}

{للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} يعني بالمهاجرين من هاجر عن وطنه من المسليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار هجرته وهي المدينة خوفاً من أذى قومه ورغبة في نصرة نبيّه فهم المقدمون في الإسلام على جميع أهله. {يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} يعني فضلاً من عطاء الله في الدنيا , ورضواناً من ثوابه في الآخرة. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن الفضل الكفاية , والرضوان القناعة. وروى علي بن رباح اللخمي أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال: من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت , ومن أراد أن يسأل عن الفقة فليأت معاذ بن جبل , ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً , إني بادىء بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن , ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا. قال قتادة: لأنهم اختاروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما كانت من شدة , حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من الجوع , وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها. {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم} ويكون على التقديم والتأخير ومعناه تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان. الثاني: أن الكلام على ظاهره ومعناه أنهم تبوءوا الدار والإيمان قبل الهجرة إليهم يعني بقبولهم ومواساتهم بأموالهم ومساكنهم. {يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} فيه وجهان: أحدهما: غيرة وحسداً على ما قدموا به من تفضيل وتقريب , وهو محتمل. الثاني: يعني حسداً على ما خصوا به من مال الفيء وغيره فلا يحسدونهم عليه , قاله الحسن. {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} يعني يفضلونهم ويقدمونهم

على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة , ومنه قول الشاعر: (أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر) وفي إيثارهم وجهان: أحدهما: أنهم آثروا على أنفسهم بما حصل من فيىء وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم , قاله مجاهد , وابن حيان. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم على المهاجرين ما أفاء الله من النضير ونفل من قريظة على أن يرد المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم فقالت الأنصار بل نقيم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء , فأنزل الله هذه الآية. الثاني: أنهم آثروا المهاجرين بأموالهم وواسوهم بها. روى ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم) فقالوا: أموالنا بينهم قطائع , فقال: (أو غير ذلك) فقالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: (هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر) يعني مما صار إليهم من نخيل بني النضير , قالوا نعم يا رسول الله. {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} فيه ثماينة أقاويل: أحدها: أن هذا الشح هو أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ولا يقنع , قاله ابن جريج وطاووس. الثاني: أنه منع الزكاة، قاله ابن جبير. الثالث: يعني هوى نفسه، قاله ابن عباس. الرابع: أنه اكتساب الحرام، روى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت , قال وما ذاك؟ قال سمعت الله عز وجل يقول: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن،

إنما الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل , وبئس الشيء البخل. الخامس: أنه الإمساك عن النفقة , قاله عطاء. السادس: أنه الظلم , قاله ابن عيينة. السابع: أنه أراد العمل بمعاصي الله , قاله الحسن. الثامن: أنه أراد ترك الفرائض وانتهاك المحارم , قاله الليث. وفي الشح والبخل قولان: أحدهما: أن معناهما واحد. الثاني: أنهما يفترقان وفي الفرق بينهما وجهان: أحدهما: أن الشح أخذ المال بغير حق , والبخل أن يمنع من المال المستحق , قاله ابن مسعود. الثاني: أن الشح بما في يدي غيره , والبخل بما في يديه , قاله طاووس. {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الذين هاجروا بعد ذلك , قاله السدي والكلبي. الثاني: أنهم التابعون الذين جاءوا بعد الصحابة ثم من بعدهم إلى قيام الدنيا هم الذين جاءوا من بعدهم، قاله مقاتل. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل , فمضت منزلتان وبقيت الثالثة: فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وفي قولهم: {اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} وجهان: أحدهما: أنهم أمروا أن يستغفروا لمن سبق من هذه الأمة ومن مؤمني أهل الكتاب. قالت عائشة: فأمروا أن يستغفروا لهم فسبّوهم. الثاني: أنهم أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. {ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا} الآية. في الغل وجهان: أحدهما: الغش , قاله مقاتل. الثاني: العداوة , قاله الأعمش.

11

{ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} {بأسهم بينهم شديد} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد , قاله السدي. الثاني: أنه وعيدهم للمسلمين لنفعلن كذا وكذا , قاله مجاهد. {تحسبهم جيمعاً} فيه قولان: أحدهما: أنهم اليهود. الثاني: أنهم المنافقون واليهود , قاله مجاهد. {وقلوبهم شتى} يعني مختلفة متفرقة , قال الشاعر: (إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى وهي بالأمس جمع) وفي قراءة ابن مسعود (وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ) بمعنى أشد تشتيتاً , أي أشد اختلافاً. وفي اختلاف قلوبهم وجهان:

أحدهما: لأنهم على باطل , والباطل مختلف , والحق متفق. الثاني: أنهم على نفاق , والنفاق اختلاف. وقوله تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريباً} الآية. فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم كفار قريش يوم بدر , قاله مجاهد. الثاني: أنهم قتلى بدر , قاله السدي , ومقاتل. الثالث: أنهم بنو النضير الذين أجلوا من الحجاز إلى الشام , قاله قتادة. الرابع: أنهم بنو قريظة , كان قبلهم إجلاء بني النضير. {ذاقوا وبال أمرهم} بأن نزلوا على حكم سعد [بن معاذ] فحكم فيهم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم , قاله الضحاك. وفيه وجهان: أحدهما: في تجارتهم. الثاني: في نزول العذاب بهم. {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر} فيه قولان: أحدهما: أنه مثل ضربه الله الكافر في طاعته للشيطان , وهو عام في الناس كلهم , قاله مجاهد. الثاني: أنها خاصة في سبب خاص صار به المثل عاماً , وذلك ما رواه عطية العوفي عن ابن عباس أن راهباً كان في بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته , وكان يؤتى من كل أرض يسأل عن الفقه وكان عالماً، وأن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت من أحسن النساء مريضة , وأنهم أرادوا سفراً فكبر عليهم أن يذروها ضائعة , فجعلوا يأتمرون فيما يفعلون، فقال أحدهم: ألا أدلكم على من تتركونها عنده؟ فقال له من؟ فقال: راهب بني إسرائيل، وإن مات قام عليها , وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه، فعمدوا إليه وقالوا: إنا نريد السفر وإنا لا نجد أحداً أوثق في أنفسنا منك ولا آمن علينا

غيرك، فاجعل أختنا عندك فإنها ضائعة مريضة، فإن ماتت فقم عليها , وإن عاشت فاحفظها حتى نرجع , فقال: أكفيكم إن شاء الله , وإنهم انطلقوا , فقام عليها وداواها حتى برئت فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها وحبلت , ثم تقدم منه الشيطان فزين له قتلها وقال: إن لم تفعل افتضحت , فقتلها. فلما عاد إخوتها سألوه عنها فقال: ماتت فدفنتها , قالوا أحسنت , فجعلوا يرون في المنام أن الراهب قتلها وأنها تحت شجرة كذا , فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها قد قتلت , فأخذوه , فقال له الشيطان: أنا الذي زينت لك قتلها بعد الزنى فهل لك أن أنجيك وتطيعني؟ قال: نعم , قال فاسجد لي سجدة واحدة , فسجد ثم قتل , فذلك قوله تعالى: {كمثل الشيطان} فكذا المنافقون وبنو النضير مصيرهم إلى النار.

18

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} {يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله} روى معن أو عون ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال: اعهد لي، فقال: إذا سمعت الله يقول: {يأيها الين ءامنوا} فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. وفي هذه التقوى وجهان: أحدهما: اجتناب المنافقين. الثاني: هو اتقاء الشبهات. {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} قال ابن زيد: ما قدمت من خير أو شر. {لغد} يعني يوم القيامة والأمس: الدنيا. قال قتادة: إن ربكم قدم الساعة حتى جعلها لغد. {واتقوا الله} في هذه التقوى وجهان: أحدهما: أنها تأكيد للأولى.

والثاني: أن المقصود بها مختلف وفيه وجهان: أحدهما: أن الأولى التوبة مما مضى من الذنوب , والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل. الثاني: أن الأولى فيما تقدم لغد , الثانية فيما يكون منكم. {إن الله خبير بما تعملون} فيه وجهان: أحدهما: أن الله خبير بعملكم. الثاني: خبير بكم عليم بما يكون منكم , وهو معنى قول سعيد بن جبير. {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: نسوا الله أي تركوا أمر الله , فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً , قاله ابن حبان. الثاني: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم , قاله سفيان. الثالث: نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً , حكاه ابن عيسى. الرابع: نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة , قاله سهل. ويحتمل خامساً: نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد. {أولئك هم الفاسقون} فيه تأويلان: أحدهما: العاصون: قاله ابن جبير. الثاني: الكاذبون , قاله ابن زيد. {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} يحتمل وجهين: أحدهما: لا يستوون في أحوالهم , لأن أهل الجنة في نعيم , وأهل النار في عذاب. الثاني: لا يستوون عند الله , لأن أهل الجنة من أوليائه , وأهل النار من أعدائه. {أصحاب الجنة هم الفائزون} فيه وجهان: أحدهما: المقربون المكرمون. الثاني: الناجون من النار , قاله ابن حبان.

21

{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله

وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} {لو أنزلنا هذا القرءآن على جبل} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إننا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لما ثبت له بل انصدع من نزوله عليه , وقد أنزلناه عليك وثبتناك له , فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال. الثاني: أنه خطاب للأمة , وأن الله لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً , فهو يقوم بحقه إن أطاع , ويقدرعلى رده إن عصى , لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب. وفيه قول ثالث: إن الله تعالى ضربه مثلاً للكفار أنه إذا نزل هذا القرآن على جبل خشع لوعده وتصدع لوعيده , وأنتم أيها المقهروون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده. {هو الله الذي لا إله إلا هو} كان جابر بن زيد يرى أن اسم الله الأعظم هو الله , لمكان هذه الآية. {عالم الغيب والشهادة} فيه أربعة أقاويل: أحدها: عالم السر والعلانية , قاله ابن عباس. الثاني: عالم ما كان وما يكون. الثالث: عالم ما يدرك وما لا يدرك من الحياة والموت والأجل والرزق. الرابع: عالم بالآخرة والدنيا , قاله سهل. {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس} في {القدوس} أربعة أوجه:

أحدها: أنه المبارك , قاله قتادة , ومنه قول رؤبة: (دعوت رب العزة القدوسا ... دعاء من لا يقرع الناقوسا) الثاني: أنه الطاهر , قاله وهب , ومنه قول الراجز: 89 (قد علم القدوس مولى القدوس.} 9 الثالث: أنه اسم مشتق من تقديس الملائكة , قاله ابن جريج , وقد روي أن من تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح. الرابع: معناه المنزه عن القبائح لاشتقاقه من تقديس الملائكة بالتسبيح فصار معناهما واحد. وأما {السلام} فهو من أسمائه تعالى كالقدوس , وفيه وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من سلامته وبقائه , فإذا وصف المخلوق بمثله قيل سالم وهو في صفة الله سلام , ومنه قول أمية بن أبي الصلت: (سلامك ربنا في كل فجر ... بريئاً ما تعنتك الذموم) الثاني: أنه مأخوذ من سلامة عباده من ظلمه , قاله ابن عباس. [وفي {المؤمن} ثلاثة أوجه: أحدها: الذي يؤمن أولياءه من عذابه] الثاني: أنه مصدق خلقه في وعده , وهو معنى قول ابن زيد. الثالث: أنه الداعي إلى الإيمان , قاله ابن بحر. وأما {المهيمن} فهو من أسمائه أيضاً , وفيه خمسة أوجه: أحدها: معناه الشاهد على خلقه بأعمالهم , وعلى نفسه بثوابهم , قاله قتادة , والمفضل , وأنشد قول الشاعر: (شهيد عليَّ الله أني أحبها ... كفى شاهداً رب العباد المهيمن) والثاني: معناه الأمين، قاله الضحاك. الثالث: المصدق، قاله ابن زيد. الرابع: أنه الحافظ، حكاه ابن كامل، وروي أن عمر بن الخطاب قال: إني داع فهيمنوا، أي قولوا آمين حفظنا الدعاء، لما يرجى من الإجابة.

الخامس: الرحيم، حكاه ابن تغلب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت: (مليك على عرش السمآء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد) {العزيز} هو القاهر , وفيه وجهان: أحدهما: العزيز في امتناعه. الثاني: في انتقامه. {الجبار} فيه أربعة أوجه: أحدها: معناه العالي العظيم الشأن في القدرة والسلطان. الثاني: الذي جبر خلقه على ما شاء , قاله أبو هريرة , والحسن , وقتادة. الثالث: أنه الذي يجبر فاقة عباده , قاله واصل بن عطاء. الرابع: أنه الذي يذل له من دونه. {المتكبر} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: المتكبر عن السيئات , قاله قتادة. الثاني: المستحق لصفات الكبر , والتعظيم , والتكبر في صفات الله مدح , وفي صفات المخلوقين ذم. الثالث: المتكبر عن ظلم عباده. {هو الله الخالق} فيه وجهان: أحدهما: أنه المحدِث للأشياء على إرادته. الثاني: أنه المقدر لها بحكمته. {الْبَارِىءُ} فيه وجهان: أحدهما: المميز للخلق , ومنه قوله: برئت منه , إذا تميزت منه. الثاني: المنشىء للخلق , ومنه قول الشاعر: (براك الله حين براه غيثاً ... ويجري منك أنهاراً عذاباً) {المصور} فيه وجهان: أحدهما: لتصوير الخلق على مشيئته. الثاني: لتصوير كل جنس على صورته. فيكون على الوجه الأول محمولاً على ابتداء الخلق بتصوير كل خلق على ما شاء من الصور. وعلى الوجه الثاني يكون

محمولاً على ما استقر من صور الخلق , فيحدث خلق كل جنس على صورته وفيه على كلا الوجهين دليل على قدرته. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون لنقله خلق الإنسان وكل حيوان من صورة إلى صورة , فيكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير شيخاً هرماً , كما قال النابغة: (الخالق البارىء المصور في ال ... أرحام ماء حتى يصير دماً) {له الأسماء الحسنى} فيه وجهان: أحدهما: أن جميع أسمائه حسنى لاشتقاقه من صفاته الحسنى. الثاني: أن له الأمثال العليا , قاله الكلبي.

سورة الممتحنة مدنية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم

الممتحنة

{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير} قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرد التوجه إلى مكة أظهر أنه يريد خيبر , وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إليهم وأرسل مع امرأة ذكر

أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب , فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك , فأنفذ علياً وأبا مرثد , وقيل عمر بن الخطاب , وقيل الزبير رضي الله عنهم , وقال لهما , اذهبا إلى روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذاه وعودا , فأتيا الموضع فوجداها والكتاب معها , فأخذاه وعادا , فإذا هو كتاب حاطب فقال عمر: ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً , فقالوا: بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم إني بما تعملون خبير. ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم [ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب] ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله كنت امرأ مصلقاً من قريش وكان لي بها مال فكتبت إليهم بذلك , والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب فلا تقولوا له إلآ خيراً. فنزلت هذه الآية والتي بعدها. وفي قوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة} وجهان: أحدهما: تعلمونهم سراً أن بينكم وبينهم مودة. الثاني: تعلمونهم سراً بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمودة بينكم وبينهم.

4

{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} {قد كانت لكم أسوة حسنة} ذكر الكلبي والفراء أنه أراد حاطب بن أبي بلتعة، وفيها وجهان:

أحدهما: سنة حسنة، قاله الكلبي. الثاني: عبرة حسنة، قاله ابن قتيبة. {في إبراهيم والذين معه} من المؤمنين. {إذ قالوا لقومهم} يعني من الكفار. {إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله} فتبرؤوا منهم فهلا تبرأت أنت يا حاطب من كفار أهل مكة ولم تفعل ما فعلته من مكاتبتهم وإعلامهم. ثم قال: {كفرنا بكم} يحتمل وجهين: أحدهما: كفرنا بما آمنتم به من الأوثان. الثاني: بأفعالكم وكذبنا بها. {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ... } فيه وجهان: أحدهما: تأسوا بإبراهيم في فعله واقتدوا به إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به فيه , قاله قتادة. الثاني: معناه إلا إبراهيم فإنه استثنى أباه من قومه في الاستغفار له , حكاه الكلبي. {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} فيه تأويلان: أحدهما: معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا , قاله ابن عباس. الثاني: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فنصير فتنة لهم فيقولوا لو كانوا على حق ما عذبوا , قاله مجاهد , وهذا من دعاء إبراهيم عليه السلام.

7

{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين

قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} فيهم قولان: أحدهما: أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين , قاله ابن زيد. الثاني: أنه إسلام أبي سفيان. وفي مودته التي صارت منه قولان: أحدهما: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان , قاله مقاتل. الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً , فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين , فكانت هذه المودة , قاله الزهيري. {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} الآية. فيهم أربعة أوجه: أحدها: أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين , ثم نسخ بالقتال , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن يبروهم بالوفاء , قاله مقاتل. الثالث: أنهم النساء والصبيان لأنهم ممن لم يقاتل , فأذن الله تعالى ببرهم , حكاه بعض المفسرين. الرابع: ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر , فقدمت عليهم في

المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش , فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء , فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له , فأنزل الله هذه الآية. {وتقسطوا إليهم} فيه وجهان: أحدهما: يعني وتعدلوا فيهم , قاله ابن حبان فلا تغلوا في مقاربتهم , ولا تسرفوا في مباعدتهم. الثاني: معناه أن تعطوهم قسطاً من أموالكم , حكاه ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: أنه الإنفاق على من وجبت نفقته منهم , ولا يكون اختلاف الدين مانعاً من استحقاقها.

10

{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} {يأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} لأنه يعلم بالامتحان ظاهر إيمانهن والله يعلم باطن إيمانهن , ليكون الحكم عليهن معتبراً بالظاهر وإن كان معتبراً بالظاهر والباطن. والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً عام الحديبة فقالت قريش على أن ترد علينا من جاءك منا , ونرد عليك من جاءنا منك , فقال على أن أرد عليكم من جاءنا منكم ولاتردوا علينا من جاءكم منا ممن اختار الكفر على الإيمان،

فقعد الهدنة بينه وبينهم على هذا إلى أن جاءت منهم امرأة مسلمة وجاؤوا في طلبها , واختلف فيها على أربعة أقاويل: أحدها: أنها أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة , ففرت منه وهو يومئذ كافر , فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله , قاله يزيد بن أبي حبيب. الثاني: أنها سعيدة زوج صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة , قاله مقاتل. الثالث: أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط , وهذا قول كثير من أهل العلم. الرابع: أنها سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاءت مسلمة بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الهدنة في الحديبية , فجاء زوجها واسمه مسافر وهو من قومها في طلبها , فقال يا محمد شرطت لنا رد النساء , وطين الكتاب لم يجف , وهذه امرأتي فارددها عليّ , حكاه الكلبي. فلما طلب المشركون رد من أسلم من النساء منع الله من ردهن بعد امتحان إيمانهن بقوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً: فقالت طائفة منهم قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً , فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه , وأبقاه في الرجال على ما كان , وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد برأيه في الأحكام ولكن لا يقره الله تعالى على خطأ. وقالت طائفة من أهل العلم: لم يشترط ردهن في العقد لفظاً وإنما أطلق العقد في رد من أسلم , فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال , فبين الله خروجهن عن العموم , وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم. الثاني: أنهن أرأف قلوباً وأسرع تقلباً منهم. فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم , وقد كانت من أرادت منهن إضرار زوجها قالت سأهاجر إلى محمد فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحانهن. واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقويل: أحدها: ما رواه ابن عباس أنه كان يمتحنها بأن تحلف بالله أنها ما خرجت

من بغض زوجها ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا التماس دينا ولا عشقاً لرجل منا , وما خرجت إلا حباً لله ولرسوله. والثاني: بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , قاله عطية العوفي. الثالث: بما بينه الله في السورة من قوله تعالى: {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات} فهذا معنى قوله: {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن} يعني بما في قلوبهن بعد امتحانهن. {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن} يعني أن المؤمنات محرمات على المشركين من عبدة الأوثان , والمرتدات محرمات على المسلمين. ثم قال تعالى: {وءاتوهم ما أنفقوا} يعني بما أنفقوا مهور من أسلم منهن إذا سأل ذلك أزواجهن , وفي دفع ذلك إلى أهلهن من غير أزواجهن قولان: ثم قال تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن} يعني المؤمنات اللاتي أسلمن غير أزواج مشركين , أباح الله نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عدتهن أو كن غير مدخول بهن. {إذا ءاتيتموهن أجورهن} يعني مهورهن. {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} فيه وجهان: أحدهما: أن العصمة الجمال قاله ابن قتيبة. الثاني: العقد , قاله الكلبي. فإذا أسلم الكافر عن وثنية لم يمسك بعصمتها ولم يقم نكاحها رغبة فيها أو في قومها , فإن الله قد حرم نكاحها عليه والمقام عليها ما لم تسلم في عدتها. فروى موسى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه أنه قال: لما نزلت هذه الآية

طلقت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب , وطلق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن سفيان في الشرك , وطلق أم كلثوم بنت أبي جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها بعده خالد ابن سعيد بن العاص في الإسلام. {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} يعني أن للمسلم إذا ارتدت زوجته إلى المشركين من ذوي العهد المذكور أن يرجع عليه بمهر زوجته كما ذكرنا وأن للمشرك أن يرجع بمهر زوجته إذا أسلمت فإن لم يكن بيننا وبينهم عهد شرط فيه الرد فلا يرجع. ولا يجوز لمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رد من أسلم لأن الرسول كان على وعد من الله بفتح بلادهم ودخولهم في الإسلام طوعاً وكرهاً فجاز له ما لم يجز لغيره. {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار} الآية. والمعنى أن من فاتته زوجته بارتدادها إلى أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم ثم غنمهم المسلمون ردوا عليه مهرها. وفي المال الذي يرد منه هذا المهر ثلاثة أقاويل: أحدها: من أموال غنائمهم لاستحقاقها عليهم , قاله ابن عباس. الثاني: من مال الفيء , قاله الزهري. الثالث: من صداق من أسلمن منهن عن زوج كافر , وهو مروي عن الزهري أيضاً. وفي قوله تعالى: {فعاقبتم} ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه غنمتم لأخذه من معاقبة الغزو , قاله مجاهد والضحاك. الثاني: معناه فأصبتم من عاقبة من قتل أو سبي , قاله سفيان. الثالث: عاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرهامن غنائم المسلمين , قاله ابن بحر. وهذا منسوخ لنسخ الشرط الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالحديبية , وقال عطاء بل حكمها ثابت.

12

{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن

ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} {يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح وبايعة الرجال جاءت النساء بعدهم للبيعة فبايعهن. واختلف في بيعته لهن على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه جلس على الصفا [ومعه عمر أسفل منه] فأمره أن يبايع النساء , قاله مقاتل. الثاني: أنه أمر أميمة أخت خديجة خالة فاطمة بنت رسول الله بعد أن بايعته , أن تبايع النساء عنه، قاله محمد بن المنكدر عن أميمة. الثالث: أنه بايعهن بنفسه وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه , قاله عامر الشعبي. وقيل بل وضع قعباً فيه ماء وغمس فيه يده وأمرهن فغمسن أيديهن , فكانت هذه بيعة النساء. فإن قيل فما معنى بيعتهن ولسن من أهل الجهاد فتؤخذ عليهن البيعة كالرجال؟ قيل: كانت بيعته لهن تعريفاً لهن بما عليهن من حقوق الله تعالى وحقوق أزواجهن لأنهن دخلن في الشرع ولم يعرفن حكمه فبينه لهن , وكان أول ما أخذه عليهن أن لا يشركن بالله شيئاً توحيداً له ومنعاً لعبادة غيره. {ولا يسرقن} فروى أن هند بنت عتبة كانت متنكرة عند أخذ البيعة على

النساء خيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صنعته بحمزة وأكلها كبده , فقالت حين سمعته في أخذ البيعة عليهن يقول: {لا يسرقن} والله إني لا أصيب من أبي سفيان إلا قوتنا ما أدري أيحل لي أم لا , فقال أبو سفيان: ما أصبت مما مضى أو قد بقي فهو لك حلال , فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال: (أنت هند)؟ فقالت عفا اللَّه عما سلف. ثم قال: {ولا يزنين} فقالت هند يا رسول الله أو تزني الحرة؟ ثم قال: {ولا يقتلن أولادهن} لأن العرب كانت تئد البنات , فقالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر , وأنت وهم أبصر. وروى مقاتل أنها قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتوهم كباراً فأنتم وهم أعلم , فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه السحر , قاله ابن بحر. الثاني: المشي بالنميمة والسعي في الفساد. والثالث: وهو قول الجمهور ألا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن لأن الزوجة كانت تلتقط ولداً وتلحقه بزوجها ولداً , ومعنى {يفترينه بين أيديهن} ما أخذته لقيطاً , {وأرجلهن} ما ولدته من زنى , وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح , وما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق. ثم قال: {ولا يعصينك في معروف} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله , قاله ميمون بن مهران. الثاني: ما رواه شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعصينك في معروف قال: هو النوح. الثالث: أن من المعروف ألا تخمش وجهها ولا تنشر شعرها ولا تشق جيباً ولا تدعو ويلاً، قاله أسيد بن أبي أسيد.

الرابع: أنه عام في كل معروف أمر الله ورسوله به , قاله الكلبي. فروي أن هنداً قالت عند ذلك: ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك من شيء وهذا دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المعروف المباح دون المنكر المحظور. {يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} {يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم اليهود، قاله مقاتل. الثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن مسعود. الثالث: جميع الكفار، قاله مجاهد. {قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور} فيه أربعة أوجه: أحدها: يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من بعث من في القبور، قاله ابن عباس. الثاني: قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس أصحاب القبور بعد المعاينة من ثواب الآخرة لأنهم تيقنوا العذاب، قاله مجاهد. الثالث: قد يئسوا من البعث والرجعة كما يئس منها من مات منهم وقبر. الرابع: يئسوا أن يكون لهم في الآخرة خير كما يئسوا أن ينالهم من أصحاب القبور خير.

سورة الصف مدنية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم

الصف

{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في قوم قالوا: لو عملنا أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليه , فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أنها نزلت في قوم كان يقول الرجال منهم: قاتلت ولم يقاتل , وطعنت , ولم يطعن , وضربت , ولم يضرب وصبرت , ولم يصبر , وهذا مروي عن عكرمة. الثالث: أنها نزلت في المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. وهذه الآية وإن كان ظاهرها الإنكار لمن قال ما لا يفعل فالمراد بها الإنكار لمن لم يفعل ما قال , لأن المقصود بها القيام بحقوق الالتيام دون إسقاطه.

{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً} مصطفين صفوفاً كالصلاة , لأنهم إذا اصطفوا مثلاً صفين كان أثبت لهم وأمنع من عدوهم. قال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله للمؤمنين. {كأنهم بنيان مرصوص} فيه وجهان: أحدهما: أن المرصوص الملتصق بعضه إلى بعض لا ترى فيه كوة ولا ثقباً لأن ذلك أحكم في البناء من تفرقه وكذلك الصفوف , قاله ابن جبير , قال الشاعر: (وأشجر مرصوص بطين وجندل ... له شرفات فوقهن نصائب) والثاني: أن المرصوص المبني بالرصاص , قاله الفراء , ومنه قول الراجز: (ما لقي البيض من الحرقوص ... يفتح باب المغلق المرصوص)

5

{وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وفي الزيغ وجهان: أحدهما: أنه العدول , قاله السدي. الثاني: أنه الميل , إلا أنه لا يستعمل إلا في الزيغ عن الحق دون الباطل. ويحتمل تأويله وجهين: أحدهما: فلما زاغوا عن الطاعة أزاغ الله قلوبهم عن الهداية. الثاني: فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ قلوبهم عن الكلام.

وفي المعِنيّ بهذا الكلام ثلاثة أقاويل: أحدها: المنافقون. الثاني: الخوارج , قاله مصعب بن سعيد عن أبيه. الثالث: أنه عام. {ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} وهذه البشرى من عيسى تتضمن أمرين: أحدهما: تبليغ ذلك إلى قومه ليؤمنوا به عند مجيئه , وذلك لا يكون منه بعد إعلام الله له بذلك إلا عن أمر بتبليغ ذلك إلى أمته. الثاني: ليكون ذلك من معجزات عيسى عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم , وهذا يجوز أن يقتصر عيسى فيه على إعلام الله له بذلك دون أمره بالبلاغ. وفي تسمية الله له بأحمد وجهان: أحدهما: لأنه من أسمائه فكان يسمى أحمد ومحمداً قال حسان: (صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد) الثاني: أنه مشتق من اسمه محمود , فصار الاشتقاق اسماً , كما قال حسان: (وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار , واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبادة الأصنام , واسمي في الإنجيل أحمد , واسمي في القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض.)

7

{ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي

أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام} فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار والمنافقون , قاله ابن جريج. الثاني: أنه النضر وهو من بني عبد الدار قال إذا كان يوم القيامة شفعت لي العزى واللات , فأنزل الله هذه الآية , قاله عكرمة. {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} الآية. والإطفاء هو الإخماد , ويستعملان في النار , ويستعاران فيما يجري مجراها من الضياء والنور. والفرق بين الإطفاء والإخماد من وجه وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير , والإخماد يستعمل في الكثير دون القليل , فيقال أطفأت السراج ولا يقال أخمدت السراج. وفي {نور الله} ها هنا خمسة أقاويل: أحدها: القرآن , يريدون إبطاله بالقول , قاله ابن زيد. الثاني: أنه الإسلام , يريدون دفعه بالكلام , قاله السدي. الثالث: أنه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون هلاكه بالأراجيف , قاله الضحاك. الرابع: أنه حجج الله ودلائله , يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذبيهم , قاله ابن بحر. الخامس: أنه مثل مضروب , أي من أرد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً فكذلك من أراد إبطال الحق , حكاه ابن عيسى. وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً , فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود ابشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه , وما كان الله ليتم أمره , فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك , فأنزل الله هذه الآية , ثم اتصل الوحي بعدها. {ليظهره على الدين كله} الآية. وفي الإظهار ثلاثة أقاويل: أحدها: الغلبة على أهل الأديان.

الثاني: العلو على الأديان. الثالث: العلم بالأديان من قولهم قد ظهرت على سره أي علمت به.

10

{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين} {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} وهذا من الله لزيادة الترغيب , لأنه لما وعدهم بالجنة على طاعته وطاعة رسوله علم أن منهم من يريد عاجل النصر لقاء رغبة في الدنيا ولقاء تأييد الدين فوعدهم بما يقوي به الرغبة فقال: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} يعني فتح البلاد عليه وعليهم , وقد أنجز الله وعده في كلا الأمرين من النصر والفتح. وفي قوله: {قريب} وجهان: أحدهما: أنه راجع إلى ما يحبونه أنه نصر من الله وفتح قريب. الثاني: أنه إخبار من الله بأن ما يحبونه من ذلك سيكون قريباً , فكان كما أخبر لأنه عجل لهم الفتح والنصر.

سورة الجمعة بسم الله الرحمن الرحيم

الجمعة

{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم} {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. {بعث في الأميين رسولاً منهم} يعني في العرب , وفي تسميتهم أميين قولان: أحدهما: لأنه لم ينزل عليهم كتاب , قاله ابن زيد. الثاني: لأنهم لم يكونوا يكتبون ولا كان فيهم كاتب , قاله قتادة. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم قريش خاصة لأنها لم تكن تكتب حتى تعلم بعضها في آخر الجاهلية من أهل الحيرة.

الثاني: أنهم جميع العرب لأنه لم يكن لهم كتاب ولا كتب منهم إلا قليل , قاله المفضل. فلو قيل: فما وجه الامتنان بأن بعث نبياً أمياً؟ فالجواب عنه ثلاثة أوجه: احدها: لموافقته ما تقدمت بشارة الأنبياء به. الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم , فيكون أقرب إلى موافقتهم. الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعلمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها. {يتلوا عليهم ءاياته} يعني القرآن. {ويزكيهم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: يطهرهم من الكفر والذنوب، قاله ابن جريج ومقاتل. الثالث: يأخذ زكاة أعمالهم، قاله السدي. {ويعلمهم الكتاب} فيه ثلاثة تلأويلات: أحدها: أنه القرآن، قاله الحسن. الثاني: أنه الخط بالقلم، قاله ابن عباس، لأن الخط إنما فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط. الثالث: معرفة الخير والشر كما يعرفونه بالكتاب ليفعلوا الخير ويكفوا عن الشر , وهذا معنى قول محمد بن إسحاق. {والحكمة} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن الحكمة السنة، قاله الحسن.

الثاني: أنه الفقه في الدين , وهو قول مالك بن أنس. الثالث: أنه الفهم والاتعاظ , قاله الأعمش. {وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم} أي ويعلم آخرين ويزكيهم , وفيه أربعة أقاويل: أحدها: أنهم المسلمون بعد الصحابة , قاله ابن زيد. الثاني: أنهم العجم بعد العرب , قاله الضحاك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت في منامي غنماً سوداً تتبعها غنم عفر) فقال أبو بكر: يا رسول الله تلك العرب يتبعها العجم , فقال: (كذلك عبرها لي الملك). الثالث: أنهم الملوك أبناء الأعاجم , قاله مجاهد. الرابع: أنهم الأطفال بعد الرجال. ويحتمل خامساً: أنهم النساء بعد الرجال. {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها النبوة التي خص الله بها رسوله هي فضل الله يؤتيه من يشاء , قاله مقاتل. الثاني: الإسلام الذي آتاه الله من شاء من عباده , قاله الكلبي. الثالث: ما روي أنه قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، فأمر

ذوي الفاقة بالتسبيح والتحميد والتكبير بدلاً من التصدق بالأموال , ففعل الأغنياء مثل ذلك , فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهَ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) قاله أبو صالح. ويحتمل خامساً: أنه انقياد الناس إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته.

5

{مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} يحتمل أربعة أوجه: أحدها: معناه تفرون من الداء بالدواء فإنه ملاقيكم بانقضاء الأجل. الثاني: تفرون من الجهاد بالقعود فإنه ملاقيكم بالوعيد. الثالث: تفرون منه بالطيرة من ذكره حذراً من حلوله فإنه ملاقيكم بالكره والرضا. الرابع: إنه الموت الذي تفرون أن تتمنوه حين قال تعالى: {فتمنوا الموت}.

9

{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} {يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} في السعي إليها أربعة أقاويل: أحدها: النية بالقلوب، قاله الحسن.

الثاني: أنه العمل لها، كما قال تعالى: {إن سعيكم لشتى} قاله ابن زيد. الثالث: أنه إجابة الداعي، قاله السدي. الرابع: المشي على القدم من غير إسراع، وذكر أن عمر وابن مسعود كانا يقرآن {فامضوا إلى ذكر الله}. وفي ذكر الله ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها موعظة الإمام في الخطبة , قاله سعيد بن المسيب. الثاني: أنها الوقت , حكاه السدي. الثالث: أنه الصلاة , وهو قول الجمهور. وكان اسم يوم الجمعة في الجاهلية العروبة , لأن أسماء الأيام في الجاهلية كانت غير هذه الأسماء , فكانوا يسمون يوم الأحد أوّل , والأثنين أهون , والثلاثاء جبار , والأربعاء دبار , والخميس مؤنس , والجمعة عروبة , والسبت شيار , وأنشدني بعض أهل الأدب: (أؤمل أن أعيش وإن يومي ... بأوّل أو أهون أو جبار) (أو التالي دبار أو فيومي ... يمؤنس أو عروبة أو شيار) وأول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب , وقيل بل سمي في الإسلام لاجتماع الناس فيه للصلاة. {وذروا البيع} منع الله منه عند صلاة الجمعة وحرمه في وقتها على ما كان مخاطباً بفرضها. وفي وقت التحريم قولان: أحدهما: أنه بعد الزوال [إلى ما] بعد الفراغ منها، قاله الضحاك. الثاني: من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ من الصلاة، قاله الشافعي رحمه الله فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس به لحضور

الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها , وقد كان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم , فإذا اجتمعوا أذن في المسجد , فجعله [عثمان] آذانين في المسجد , وليس يحرم البيع بعده وقبل الخطبة , فإن عقد في هذا الوقت المحرم بيع لم يبطل البيع وإن كان قد عصى الله , لأن النهي مختص بسبب يعود إلى العاقدين دون العقد , وأبطله ابن حنبل تمسكاً بظاهر النهي. {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} يعني أن الصلاة خير لكم من البيع والشراء لأن الصلاة تفوت بخروج وقتها , والبيع لا يفوت. {فإذا قضيت الصلاة} يعني أُدّيتْ. {فانتشروا في الأرض} حكي عن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فرضيتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. {وابتغوا من فضل الله} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الرزق من البيع والشراء , قاله مقاتل والضحاك. الثاني: العمل في يوم السبت , قاله جعفر بن محمد. الثالث: ما رواه أبو خلف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قضيت

الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله , قال: ليس بطلب الدنيا لكن من عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله.) {وإذا رأوا تجارة أولهو أنفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}. {وإذا رأو تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} روى سالم عن جابر قال: أقبلت عير ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في الخطبة فانفتل الناس إليها وما بقي غير اثني عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية. وذكر الكلبي أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما يحتاج إليه نم برودقيق وغيره فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، وكانوا في خطبة الجمعة، فانفضوا إليها، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال، فقال تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها}. والتجارة من أموال التجارات. وفي اللهوها هنا أربعة أوجه: أحدها: يعني لعباً، قاله ابن عباس. الثاني: أنه الطبل، قاله مجاهد. الثالث: أنه المزمار، قاله جابر. الرابع: الغناء. {وتركوك قائماً} يعني في خطبته، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي

نفسي بيده لو ابتدرتموها حتى لا يبقى معي أحد لسال الوادي بكم ناراً، وإنما قال تعالى: {انفضوا إليها} ولم يقل إليهما، لأن غالب انفضاضهم كان للتجارة دون اللهو. وقال الأخفش: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً، وكذلك قرأ ابن مسعود. وفي {انفضوا} وجهان: أحدهما: ذهبوا. الثاني: تفرقوا. فمن جعل معناه ذهبوا أراد التجارة، ومن جعل معناه تفرقوا أراد عن الخطبة وهذا أفصح الوجهين، قاله قطرب، ومنه قول الشاعر: (انفض جمعهم عن كل نائرة ... تبقى وتدنس عرض الواجم الشبم) {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة} يحتمل وجهين: أحدهما: ما عند الله من ثواب صلاتكم من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. الثاني: ما عند الله من رزقكم الذي قسمت لكم خير مما أصبتموه بانفضاضكم من لهوكم وتجارتكم. {والله خير الرازقين} يحتمل وجهين: أحدهما: أن الله سبحانه خير من رزق وأعطى. الثاني: ورزق الله خير الأرزاق.

سورة المنافقون بسم الله الرحمن الرحيم

المنافقون

{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} سئل حذيفة ابن اليمان عن المنافق فقال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به , وهم اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه. {قالوا نشهد إنك لرسول الله} يعني نحلف , فعبر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب , ومنه قول قيس بن ذريح: (وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا) ويحتمل ثانياً: أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم، وهو الأشبه.

وسبب نزول هذه الآية ما روى أسباط عن السدي أن عبد الله بن أبي بن سلول كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وفيها أعراب يتبعون الناس , وكان ابن أبي يصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم طعاماً , فاستقى أعرابي ماء في حوض عمله من أحجار , فجاء رجل من أصحاب ابن أبي بناقة ليسقيها من ذلك الماء فمنعه الأعرابي واقتتلا فشجه الاعرابي , فأتى الرجل إلى عبد الله [بن أبي] ودمه يسيل على وجهه , فحزنه , فنافق عبد الله وقال: ما لهم رد الله أمرهم إلى تبال , وقال لأصحابه: لا تأتوا محمداً بالطعام حتى يتفرق عنه الأعراب , فسمع ذلك زيد بن أرقم وكان حدثاً , فأخبر عمه , فأتى عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه , فبعث إلى ابن أبيّ وكان من أوسم الناس وأحسنهم منطقاً , فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف: والذي بعثك بالحق ما قلت من هذا شيئاً , فصدقه فأنزل الله هذه الآية. {والله يعلم إنك لرسوله} أي إن نافق من نافقك من علم الله بأنك رسوله فلا يضرك. ثم قال: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} يحتمل وجهين: أحدهما: والله يقسم إن المنافقين لكاذبون في أيمانهم. الثاني: معناه والله يعلم أن المنافقين لكاذبون فيها. {اتخذوا أيمانهم جنة} والجنة: الغطاء المانع من الأذى , ومنه قول الأعشى ميمون. (إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة ... من المال سار الذم كل مسير) وفيه وجهان: أحدهما: من السبي والقتل ليعصموا بها دماءهم وأموالهم , قاله قتادة. الثاني: من الموت ألاَّ يُصلَّى عليهم , فيظهر على جميع المسلمين نفاقهم , وهذا معنى قول السدي. ويحتمل ثالثاً: جنة تدفع عنهم فضيحة النفاق.

{فصدوا عن سبيل الله} فيه وجهان: أحدهما: عن الإسلام بتنفير المسلمين عنه. الثاني: عن الجهاد بتثبيطهم المسلمين وإرجافهم به وتميزهم عنهم , قال عمر بن الخطاب: ما أخاف عليكم رجلين: مؤمناً قد استبان إيمانه وكافر قد استبان كفره , ولكن أخاف عليكم منافقاً يتعوذ بالإيمان ويعمل بغيره. {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} يعني حسن منظرهم وتمام خلقهم. {وإن يقولوا تسمع لقولهم} يعني لحسن منطقهم وفصاحة كلامهم. ويحتمل ثانياً: لإظهار الإسلام وذكر موافقتهم. {كأنهم خشب مسندة} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه شبههم بالنخل القيام لحسن منظرهم. الثاني: [شبههم] بالخشب النخرة لسوء مخبرهم. الثالث: أنه شبههم بالخشب المسندة لأنهم لا يسمعون الهدى ولا يقبلونه , كما لا تسمعه الخشب المسندة , قاله الكلبي , وقوله: {مسندة} لأنهم يستندون إلى الإيمان لحقن دمائهم. {يحسبون كل صيحة عليهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لِوَجَلهم وخبثهم يحسبون كل صيحة يسمعونها - حتى لو دعا رجل صاحبه أو صاح بناقته - أن العدو قد اصطلم وأن القتل قد حَلَّ بهم , قاله السدي. الثاني: {يحسبون كل صيحة عليهم} كلام ضميره فيه ولا يفتقر إلى ما بعده , وتقديره: يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم فقال: {هم العدو فاحذرهم} وهذا معنى قول الضحاك. الثالث: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم , وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم , فهم أبداً وجلون ثم وصفهم الله بأن قال: {هم العدو فاحذرهم} حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم. وفي قوله: {فاحذرهم} وجهان: أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم وتميل إلى كلامهم. الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.

{قاتلهم الله} فيه وجهان: أحدهما: معناه لعنهم الله , قاله ابن عباس وأبو مالك. والثاني: أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر , لأن الله تعالى قاهر لكل معاند , حكاه ابن عيسى. وفي قوله: {أني يؤفكون} أربعة أوجه: أحدها: معناه يكذبون , قاله ابن عباس. الثاني: معناه يعدلون عن الحق , قاله قتادة. الثالث: معناه يصرفون عن الرشد , قاله الحسن. الرابع: معناه كيف يضل عقولهم عن هذا , قاله السدي.

5

{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية. روى سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى يصلي فيه , فلما كانت غزوة تبوك بلغة أن ابن أُبَيّ قال: لئن رجعنا إلى المدينة لِيُخرجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ , فارتحل قبل أن ينزل آخرُ الناس , وقيل لعبد الله بن

أُبيّ: ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك , فلوى رأسه , وهذا معنى قوله: {لوَّوْا رؤوسَهم} إشارة إليه وإلى أصحابه , أي حركوها , وأعرضوا يمنة ويسرة إلى غير جهة المخاطب ينظرون شزراً. ويحتمل قولاً ثانيا: أن معنى قوله {يستغفر لكم رسول الله} يستتيبكم من النفاق لأن التوبة استغفار. وفيما فعله عبد الله بن أبيّ حين لوى رأسه وجهان: أحدهما: أنه فعل ذلك استهزاء وامتناعاً من فعل ما دعي إليه من إتيان الرسول للاستغار له , قاله قتادة. الثاني: أنه لوى رأسه بمعنى ماذا قلت , قاله مجاهد. {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} فيه وجهان: أحدهما: يمتنعون , قال الشاعر: (صدَدْتِ الكاسَ عنا أُمَّ عمرو ... وكان الكأسُ مجراها اليمينا) الثاني: يعرضون , قال الأعشى: (صَدَّقَ هُرَيْرةُ عنّا ما تُكَلِّمنا ... جَهْلاً بأُمّ خُلَيْدٍ حبل من تصل) وفيما يصدون عنه وجهان: أحدهما: عما دُعوا إليه من استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: عن الإخلاص للإيمان. {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: متكبرون. الثاني: ممتنعون. {هم الذين يقولون لا تُنفِقوا على مَنْ عِندَ رسولِ الله} الآية يعني عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انكفائه من غزاة بني المصطلق في شعبان سنة ست نزل على ماء المريسيع , فتنازع عليه جهجاه، وكان مسلماً وهو رجل من غفار،

ورجل يقال له سنان، وكان من أصحاب عبد الله بن أُبي، فلطمه جهجاه، فغضب له عبد الله بن أُبيّ وقال: يا معاشر الأوس والخزرج ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أوطأنا هذا الرجلَ ديارنا وقاسمْناهم أموالَنا ولولانا لانفضوا عنه، ما لهم، رد الله أمرهم إلى جهجاه، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم وكان غلاما، فأعاده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر له قومه، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها. {ولله خزائن السموات والأرض} فيه وجهان: أحدهما: خزائن السموات: المطر , وخزائن الأرضين: النبات. الثاني: خزائن السموات: ما قضاه , وخزائن الأرضين: ما أعطاه. وفيه لأصحاب الخواطر (ثالث): أن خزائن السموات: الغيوب , وخزائن الأرض القلوب.

9

{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه عنى بذكر الله [الصلاة] المكتوبة، قاله عطاء. الثاني: أنه أراد فرائض الله التي فرضها من صلاة وغيرها، قاله الضحاك. الثالث: أنه طاعة اللَّه في الجهاد، قاله الكلبي.

الرابع: أنه أراد الخوف من اللَّه عند ذكره. {وَأَنفِقُوا مما رَزَقْناكُم} فيه وجهان: أحدهما: أنها الزكاة المفروضة من المال، قاله الضحاك. الثاني: أنها صدقة التطوع ورفد المحتاج ومعونة المضطر. {ولَن يُؤخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذا جاءَ أَجَلُها} يحتمل وجهين: أحدهما: لن يؤخرها عن الموت بعد انقضاء الأجل , وهو أظهرهما. الثاني: لن يؤخرها بعد الموت وإنما يعجل لها في القبر.

سورة التغابن

التغابن

{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور} قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فْمِنكُمْ كَافِرٌ} بأنه خلقه {وَمِنْكُم مُّؤمنٌ} بأنه خلقه , قاله الزجاج. الثاني: فمنكم كافر به وإن أقرّ به، ومنكم مؤمن به.

قال الحسن: وفي الكلام محذوف وتقديره: فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق، فحذفه لما في الكلام من الدليل عليه. وقال غيره: لا حذف فيه لأن المقصود به ذكر الطرفين. {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون بالقول. الثاني: بإحكام الصنعة وصحة التقدير. وذكر الكلبي ثالثاً: أن معناه خلق السموات والأرض للحق. {وَصَوَّرَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يعني آدم خلقه بيده كرامة له , قاله مقاتل. الثاني: جميع الخلق لأنهم مخلوقون بأمره وقضائه. {فأحْسَنَ صُوَرَكم} أي فأحكمها.

5

{ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد} { ... . فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدونَنا} يعني أن الكفار قالوا ذلك استصغاراً للبشر أن يكونوا رسلاً من اللَّه إلى أمثالهم , والبشر والإنسان واحد في المعنى , وإنما يختلفان في اشتقاق الاسم , فالبشر مأخوذ من ظهور البشرة , وفي الإنسان وجهان: أحدهما: مأخوذ من الإنس. والثاني: من النسيان. {فَكَفَروا} يعني بالرسل {وَتَوَلَّوْا} يعني عن البرهان. {واستغنى اللَّه} فيه وجهان: أحدهما: بسلطانه عن طاعة عباده , قاله مقاتل. الثاني: واستغنى اللَّه بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان من زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية. {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} في قوله {غَنِيٌّ} وجهان:

أحدهما: غني عن صدقاتكم , قاله البراء بن عازب. الثاني: عن عملكم , قاله مقاتل. وفي {حميد} وجهان: أحدهما: يعني مستحمداً إلى خلقه بما ينعم به عليهم , وهو معنى قول عليّ. الثاني: إنه مستحق لحمدهم. وحكي عن ابن عباس فيه ثالث: معناه يحب من عباده أن يحمدوه.

7

{زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير} {زَعَمَ الذين كَفَروا} قال شريح زعموا كُنْيةُ الكذب. {يومَ يَجْمَعُكم ليومِ الجمْعِ} يعني يوم القيامة , ومن تسميته بذلك وجهان: أحدهما: لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته. الثاني: لأنه يجمع فيه بين الظالمين والمظلومين. ويحتمل ثالثاً: لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي.

{ذلك يومُ التغابُنِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه من أسماء يوم القيامة , ومنه قول الشاعر: (وما أَرْتجي بالعيش من دارِ فُرْقةٍ ... ألا إنما الراحاتُ يوم التغابنِ) الثاني: لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار , قال الشاعر: (لعمرك ما شيءٌ يفوتُك نيلُه ... بغبْنٍ ولكنْ في العقول التغابنُ) الثالث: لأنه يوم غَبَنَ فيه المظلومُ الظالمَ , لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً فصار في الآخرة غابناً. ويحتمل رابعاً: لأنه اليوم الذي أخفاه اللهُ عن خَلْقه , والغبن الإخفاء ومنه الغبن في البيع لاستخفائه , ولذلك قيل مَغابِن الجسد لما خفي منه.

11

{ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون} {ما أصابَ مِنْ مُّصيبةٍ} من نفس أو مالٍ أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يوجب عقاباً عاجلاً أو آجلاً. {إلا بإذْنِ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: إلا بأمر اللَّه. الثاني: إلا بحكم اللَّه تسليماً لأمره وانقياداً لحكمه. {ومَن يُؤْمِن باللَّه يَهْدِ قلبَهُ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه يهدي قلبه اللَّه تعالى. الثاني: أنه يعلم أنه من عند اللَّه ويرضى ويسلّم , قاله بشر. الثالث: أن يسترجع فيقول: إنّا للَّه وإنا إليه راجعون. الرابع: هو إذا ابتلي صبر , وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظُلم غفر , قاله الكلبي.

14

{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم} {يا أيها الذين آمنوا إنّ مِنْ أزْواجِكم وأَوْلادِكم عَدوّاً لكم} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنه أراد قوماً أسلموا بمكة فأرادوا الهجرة فمنعهم أزواجهم وأولادهم منها وثبطوهم عنها , فنزل ذلك فيهم؛ قاله ابن عباس. الثاني: من أزواجكم وأولادكم من لا يأمر بطاعة اللَّه ولا ينهى عن معصيته , قاله قتادة. الثالث: أن منهم من يأمر بقطيعة الرحم ومعصية الرب , ولا يستطيع مع حبه ألاّ يطيعه , وهذا من العداوة؛ قاله مجاهد. وقال مقاتل بن سليمان: نبئت أن عيسى عليه السلام قال: من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً. الرابع: أن منهم من هو مخالف للدين , فصار بمخالفة الدين عدواً , قاله ابن زيد.

الخامس: أن من حملك منهم على طلب الدنيا والاستكثار منها كان عدواً لك , قاله سهل. وفي قوله {فاحذروهم} وجهان: أحدهما: فاحذروهم على دينكم؛ قاله ابن زيد. الثاني: على أنفسكم , وهو محتمل. {وإن تعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا} الآية. يريد بالعفو عن الظالم , وبالصفح عن الجاهل , وبالغفران للمسيء. {فإنّ اللَّه غفورٌ} للذنب {رحيم} بالعباد , وذلك أن من أسلم بمكة ومنعه أهله من الهجرة فهاجر ولم يمتنع قال: لئن رجعت لأفعلنّ بأهلي ولأفعلنّ , ومنهم من قال: لا ينالون مني خيراً أبداً , فلما كان عام الفتح أُمِروا بالعفو والصفح عن أهاليهم , ونزلت هذه الآية فيهم. {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} فيه وجهان: أحدهما: بلاء , قاله قتادة. الثاني: محنة , ومنه قول الشاعر: (لقد فتن الناس في دينهم ... وخلّىّ ابنُ عفان شرّاً طويلاً) وفي سبب افتتانه بهما وجهان: أحدهما: لأنه يلهو بهما عن آخرته ويتوفر لأجلهما على دنياه. الثاني: لأنه يشح لأجل أولاده فيمنع حق اللَّه من ماله , لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد مبخلة محزنة مجبنة).

{والله عنده أجْرٌ عظيمٌ} قال أبو هريرة والحسن وقتادة وابن جبير: هي الجنة. ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يكون أجرهم في الآخرة أعظم من منفعتهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا، فلذلك كان أجره عظيماً. {فاتّقوا الله ما اسْتطعتم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني جهدكم، قاله أبو العالية. الثاني: أن يطاع فلا يعصى، قاله مجاهد. الثالث: أنه مستعمل فيما يرجونه به من نافلة أو صدقة , فإنه لما نزل قوله تعالى: {اتّقوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم , فأنزل الله تعالى ذلك تخفيفاً {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى , قاله ابن جبير. ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكْرَه على المعصية غير مؤاخذ بها لأنه لا يستطيع اتقاءها. {واسْمَعوا} قال مقاتل: كتاب الله إذا نزل عليكم. {وأطيعوا} الرسول فيما أمركم أو نهاكم , قال قتادة: عليها بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. {وأنفِقوا خيْراً لأنفُسِكم} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: هي نفقة المؤمن لنفسه، قاله الحسن. الثاني: في الجهاد، قاله الضحاك. الثالث: الصدقة، قاله ابن عباس. {ومَن يُوقَ شُحَّ نفسِهِ فأولئك هم المفلِحونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: هوى نفسه، قاله ابن أبي طلحة.

الثاني: الظلم , قاله ابن عيينة. الثالث: هو منع الزكاة , قال ابن عباس: من أعطى زكاة ماله فقد وقاه الله شح نفسه. {إن تُقْرِضوا اللَّهَ قرْضاً حَسَناً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: النفقة في سبيل اللَّه , قاله عمر رضي اللَّه عنه. الثاني: النفقة على الأهل , قاله زيد بن أسلم. الثالث: أنه قول سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر , رواه ابن حبان. وفي قوله {حَسَناً} وجهان محتملان: أحدهما: أن تطيب بها النفس. الثاني: أن لا يكون بها ممتناً. {يُضاعفْه لكم} فيه وجهان: أحدهما: بالحسنة عشر أمثالها , كما قال تعالى في التنزيل. الثاني: إلى ما لا يحد من تفضله , قاله السدي. {ويَغْفِرْ لكم} يعني ذنوبكم. {واللَّهُ شكورٌ حليمٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن يشكر لنا القليل من أعمالنا وحليم لنا في عدم تعجيل المؤاخذة بذنوبنا. الثاني: شكور على الصدقة حين يضاعفها، حليم في أن لا يعجل بالعقوبة من [تحريف] الزكاة عن موضعها، قاله مقاتل. {عالِمُ الغَيْبِ والشهَادةِ} يحتمل وجهين: أحدهما: السر والعلانية. الثاني: الدنيا والآخرة.

سورة الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم

الطلاق

{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} قوله تعالى {يا أيها النبي إذا طَلّقْتُمُ النّساءَ} الآية. هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم [فهو شامل لأمته فروى قتادة عن أنس قال: (طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساءَ فطلِّقوهُنَّ لعدَّتهنَّ} وقيل له راجعها فإنها قوّأمة صوّامة , وهي من أزواجك في الجنة).] {لعدتهن} يعني في طهر من غير جماع , وهو طلاق السنة. وفي اعتبار العدد في طلاق السنة قولان: أحدهما: أنه معتبر وأن من السنة أن يطلق في كل قرء واحدة , فإن طلقها ثلاثاً معاً في قرء كان طلاق بدعة , وهذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله.

الثاني: أنه غير معتبر , وأن السنة في زمان الطلاق لا في عدده , فإن طلقها ثلاثاً في قرء كان غير بدعة , قاله الشافعي رحمه الله , وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: فطلّقوهن لقُبُلِ عدّتهن. وإن طلقها حائضاً أو طهر جماع كان بدعة , وهو واقع , وزعم طائفة أنه غير واقع لخلاف المأذون فيه فأما طلاق الحامل وغير المدخول بها والصغيرة واليائسة والمختلعة فلا سنة فيه ولا بدعة. ثم قال تعالى: {وأَحْصُوا العِدَّةَ} يعني في المدخول بها , لأن غير المدخول بها لا عدة عليها وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة , ويكون بعدها كأحد الخطاب , ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج. {واتَّقوا اللَّهَ ربَّكم} يعني في نساءكم المطلقات. {لا تُخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} يعني في زمان عدّتهن , لوجود السكنى لهن. {إلاَّ أنْ يأتِينَ بفاحشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الفاحشة يعني الزنا , والإخراج هو إخراجها لإقامة الحد , قاله ابن عمر والحسن ومجاهد. والثاني: أنه البذاء على أحمائها , وهذا قول عبد الله بن عباس والشافعي. الثالث: كل معصية للَّه , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الرابع: أن الفاحشة خروجهن , ويكون تقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن , قاله السدي. {وتلك حُدودُ اللَّهِ} يعني وهذه حدود اللَّه , وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: يعني طاعة اللَّه، قاله ابن عباس. الثاني: سنَّة اللَّه وأمره، قاله ابن جبير.

الثالث: شروط اللَّه، قاله السدّي. {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدودَ اللَّهِ} فيه تأويلان: أحدهما: من لم يرض بها، قاله ابن عباس. الثاني: من خالفها، قاله ابن جبير. {فقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فيه وجهان: أحدهما: فقد ظلم نفسه في عدم الرضا , باكتساب المأثم. الثاني: في وقوع الطلاق في غير الطهر للشهور لتطويل هذه العدة والإضرار بالزوجة. {لا تدري لعلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْد ذلك أَمْراً} يعني رجعة , في قول جميع المفسرين إن طلق دون الثلاث.

2

{فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} {فإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يعني قاربْن انقضاء عدتهن. {فأمْسِكُوهُنَّ بمعروفٍ} يعني بالإمساك الرجعة. وفي قوله {بمعروف} وجهان: أحدهما: بطاعة اللَّه في الشهادة , قاله مقاتل. الثاني: أن لا يقصد الإضرار بها في المراجعة تطويلاً لعدتها. {أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ} وهذا بأن لا يراجعها في العدة حتى تنقضي في منزلها. {وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم} يعني على الرجعة في العدة , فإن راجع من غير شهادة ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء.

{ومن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مَخْرَجاً} فيه سبعة أقاويل: أحدها: أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة , قاله ابن عباس. الثاني: أن المخرج علمه بأنه من قبل اللَّه , فإن اللَّه هو الذي يعطي ويمنع , قاله مسروق. الثالث: أن المخرج هو أن يقنعه اللَّه بما رزقه , قاله عليّ بن صالح. الرابع: مخرجاً من الباطل إلى الحق , ومن الضيق إلى السعة , قاله ابن جريج. الخامس: ومن يتق اللَّه بالطلاق يكن له مخرج في الرجعة في العدة , وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة , قاله الضحاك. والسادس: ومن يتق اللَّه بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة , قاله الكلبي. السابع: أن عوف بن مالك الأشجعي أُسِر ابنُه عوف , فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ذلك مع ضر أصابه , فأمره أن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه , فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه , ثم قدم عوف فوقف على أبيه يناديه وقد ملأ الأقبال إبلاً , فلما رآه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره وسأله عن الإبل فقال: اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك , فنزلت هذه الآية {وَمَن يتق الّلَّه يجعل له مخرجاً} الآية , فروى الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من انقطع إلى اللَّه كفاه اللَّه كل مؤونة ورزقه اللَّه من حيث لا يحتسب , ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللَّه إليها). {إنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ} قال مسروق: إن اللَّه قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن

لم يتوكل عليه، إلا أنَّ مَنْ توكّل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً. {قد جَعَل اللَّه لكل شيء قدْراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: - يعني وقتاً وأجلاً , قاله مسروق. الثاني: منتهى وغاية , قاله قطرب والأخفش. الثالث: مقداراً واحداً , فإن كان من أفعال العباد كان مقدراً بأوامر الله , وإن كان من أفعال اللَّه ففيه وجهان: أحدهما: بمشيئته. الثاني: أنه مقدر بمصلحة عباده.

4

{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} {واللائي يَئِسْنَ مِن المحيْض مِن نِسائِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أَشْهُرٍ} في الريبة ها هنا قولان: أحدهما: إن ارتبتم فيهن بالدم الذي يظهر منهن لكبرهن فلم تعرفوا أحيض هو أم استحاضة , فعدتهن ثلاثة أشهر , قاله مجاهد والزهري. الثاني: إن ارتبتم بحكم عِددهن فلم تعلموا بماذا يعتددن , فعدتهن ثلاثة أشهر. روى عمر بن سالم عن أبيّ بن كعب قال: قلت: يا رسول اللَّه إنّ ناساً من أهل المدينة لما نزلت الآيات التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات

الحمل، فأنزل اللَّه: {اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}. {واللائي لم يَحِضْنَ} يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر , فجعل لكل قرء شهراً , لأنها تجمع في الأغلب حيضاً وطهراً. {وأُولاتُ الأحْمالِ أَجلُهنَّ أَن يَضَعْنَ حَملَهُنَّ} فكانت عدة الحامل وضع حملها في الطلاق والوفاة. {ومَن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مِنْ أمْرِه يُسْراً} فيه وجهان: أحدهما: من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسراً في الرجعة , قاله الضحاك. الثاني: من يتق اللَّه في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة , وهذا معنى قول مقاتل.

6

{أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا} {أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِن وُجْدِكم} يعني سكن الزوجة مستحق على زوجها مدة نكاحها وفي عدة طلاقها بائناً كان أو رجعياً. وفي قوله: {من وجدكم} أربعة أوجه: أحدهما: من قوتكم، قاله الأعمش. الثاني: من سعيكم، قاله الأخفش. الثالث: من طاقتكم، قاله قطرب. الرابع: مما تجدون، قاله الفراء، ومعانيها متقاربة. {ولا تُضارُّوهُنّ لِتُضَيِّقُوا عليهنّ} فيه قولان:

أحدهما: في المساكن، قاله مجاهد. الثاني: لتضيقوا عليهن في النفقة , قاله مقاتل. مقاتل , فعلى قول مجاهد أنه التضييق في المسكن فهو عام في حال الزوجية وفي كل عدة , لأن السكنى للمعتدة واجبة في كل عدة في طلاق يملك فيه الرجعة أو لا يملك. وفي وجوبه في عدة الوفاة قولان؛ وعلى قول مقاتل أنه التضييق في النفقة فهو خاص في الزوجة وفي المعتدة من طلاق رجعي. وفي استحقاقها للمطلقة البائن قولان: أحدهما: لا نفقة للبائن في العدة , وهو مذهب مالك والشافعي رحمهما اللَّه. الثاني: لها النفقة , وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه. {وإن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنفِقوا عليهنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وهذا في نفقة المطلقة الحامل لأنها واجبة لها مدة حملها في قول الجميع سواء كان طلاقاً بائناً أم رجعياً , وإنما اختلفوا في وجوب النفقة لها هل استحقته بنفسها إن كانت بائناً أو بحملها على قولين. {فإن أَرْضَعْنَ لكم فآتوهُن أُجورَهُنّ} وهذا في المطلقة إذا أرضعت فلها على المطلق أجرة رضيعها لأن نفقته ورضاعه واجب على أبيه دونها , ولا أجرة لها إن كانت على نكاحه. {وائْتَمِروا بَيْنكم بمعْروف} فيه وجهان: أحدهما: قاله السدي. الثاني: تراضوا يعني أبوي الولد يتراضيان بينهما إذا وقعت الفرقة بينهما بمعروف في أجرتها على الأب ورضاعها للولد. {وإن تعاسرتم} فيه وجهان: أحدهما: تضايقتم وتشاكستم، قاله ابن قتيبة.

الثاني: اختلفتم. {فسترضعُ له أخرى} واختلافهما نوعان: أحدهما: في الرضاع. الثاني: في الأجر. فإن اختلفا في الرضاع فإن دعت إلى إرضاعه فامتنع الأب مكِّنت منه جبراً , وإن دعاها الأب إلى إرضاعه فامتنعت , فإن كان يقبل ثدي غيرها لم تجبر على إرضاعه ويسترضع له غيرها , وإن كان لا يقبل ثدي غيرها أجبرت على إراضاعه بأجر مثلها. وإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أَوْلى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعاً. وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم شططاً فالأب أولى به , فإذا أعسر الأب بأجرتها أخذت جبراً برضاع ولدها. { ... لا يُكلِّفُ اللَّه نفساً إلا ما آتاها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يكلف اللَّه الأب نفقة المرضع إلا بحسب المكنة , قاله ابن جبير. الثاني: لا يكلفه اللَّه أن يتصدق ويزكي وليس عنده مال مصدق ولا مزكى , قاله ابن زيد. الثالث: أنه لا يكلفه فريضة إلا بحسب ما أعطاه اللَّه من قدرته , وهذا معنى قول مقاتل. {سيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسراً} يحتمل وجهين: أحدهما: يعني بعد ضيق سعة. الثاني: بعد عجز قدرة.

8

{وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى

النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} {قد أنزلَ اللَّهُ إليكم ذِكْراً رَسولاً} الذكر القرآن , وفي الرسول قولان: أحدهما: جبريل , فيكونان جميعاً , منزلين , قاله الكلبي. الثاني: أنه محمد صلى الله عليه وسلم , فيكون تقدير الكلام: قد أنزل اللَّه إليكم ذكراً وبعث إليكم رسولاً. {يتلوا عليكم آيات اللَّه} يعني القرآن , قال الفراء: نزلت في مؤمني أهل الكتاب. {مُبَيِّناتٍ ليُخْرِجَ الذين آمَنوا وَعمِلوا الصالِحَاتِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من ظلمة الجهل إلى نور العلم. الثاني: من ظلمة المنسوخ إلى ضياء الناسخ. الثالث: من ظلمة الباطل إلى ضياء الحق. {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله أحاط بكل شيء علماً} {الله الذي خلق سبع سموات} لا اختلاف بينهم في السموات السبع أنها سماء فوق سماء. ثم قال: {ومن الأرض مثلهن} يعني سبعاً، واختلف فيهن على قولين: أحدهما: وهو قول الجمهور أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، وجعل في كل أرض من خلقه من شاء، غير أنهم تقلّهم أرض وتظلهم أخرى، وليس تظل السماء إلا أهل الأرض العليا التي عليها عالمنا هذا، فعلى هذا تختص دعوة الإسلام

بأهل الأرض العليا ولا تلزم من في غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز. وفي مشاهدتهم السماء واستمداد الضوء منها قولان: أحدهما: أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. والقول الثاني: أنهم لا يشاهدون السماء وإن الله خلق لهم ضياء يستمدونه، وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. القول الثاني: حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض، تفرق بعض، تفرق بينهن البحار وتظل جميعهن السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل هذه الأرض وصول للأخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمت لكان النص بها وارداً ولكان الرسول بها مأموراً، والله أعلم بصحة ما استأثر بعلمه وصواب ما اشتبه على خلقه. ثم قال تعالى: {يتنزل الأمر بينهن} فيه وجهان: أحدهما: الوحي، قاله مقاتل، فعلى هذا يكون قوله {بينهن} إشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. الوجه الثاني: أن المراد بالأمر قضاء الله وقدره، وهو قول الأكثرين، فعلى هذا يكون المراد بقوله " بينهن " الإشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. ثم قال {ليعلموا أن الله على كل شيء قدير} لأن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكنْ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته. {وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} أوجب التسليم بما تفرد به من العلم كما أوجب التسليم بما تفرد به من القدرة، ونحن نستغفر الله من خوض فيما اشتبه وفيما التبس وهو حسب من استعانه ولجأ إليه.

سورة التحريم مدينة في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم

التحريم

{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا} قوله تعالى: {يا أيها النبيُّ لم تُحرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدهاه: أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها , قاله ابن عباس. والثاني: أنه عسل شربه النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه , واختلف فيها فروى عروة

عن عائشة أنه شربه عند حفصة وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة. وروى أسباط عن السدي أنه شربه عند أم سلمة , فقال يعني نساؤه عدا من شرب ذلك عندها: إنا لنجد منك ريح المغافير , وكان يكره أن يوجد منه الريح , وقلن له: جَرَسَتْ نحلة العُرفُط , فحرّم ذلك على نفسه , وهذا قول من ذكرنا. الثالث: أنها مارية أم إبراهيم خلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة بنت عمر وقد خرجت لزيارة أبيها , فلما عادت وعلمت عتبت على النبي صلى الله عليه وسلم فحرمها على نفسه أرضاء لحفصة , وأمرها أن لا تخبر أحداً من نسائه , فأخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما وكانت تتظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أي تتعاونان , فحرّم مارية وطلق حفصة واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوماً , وكان جعل على نفسه أن يُحرّمهن شهراً , فأنزل اللَّه هذه الآية , فراجع حفصة واستحل مارية وعاد إلى سائر نسائه , قاله الحسن وقتادة والشعبي ومسروق والكلبي وهو ناقل السيرة. واختلف من قال بهذا , هل حرّمها على نفسه بيمين آلى بها أم لا , على قولين: أحدهما: أنه حلف يميناً حرّمها بها , فعوتب في التحريم وأُمر بالكفارة في اليمين، قاله الحسن وقتادة والشعبي. الثاني: أنه حرّمها على نفسه من غير يمين , فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين، قاله ابن عباس. {قد فَرَضَ اللَّهُ لكم تَحِلَّةَ أيْمانِكم} فيه وجهان: أحدهما: قد بيّن الله لكم المخرج من أيمانكم.

الثاني: قد قدر الله لكم الكفارة في الحنث في أيمانكم. {وإذْ أسَرًّ النبيُّ إلى بَعْضِ أزْاجِهِ حَديثاً} فيه قولان: أحدهما: أنه أسَرَّ إلى حفصة تحريم ما حرمه على نفسه، فلما ذكرته لعائشة وأطلع اللَّه نبيه على ذلك عرّفها بعض ما ذكرت , وأعرض عن بعضه، قاله السدي. الثاني: أسرّ إليها تحريم مارية , وقال لها: اكتميه عن عائشة وكان يومها منه , وأُسِرّك أن أبا بكر الخليفة من بعدي , وعمر الخليفة من بعده , فذكرتها لعائشة , فلما أطلع اللَّه نبيه {عرّف بعضه وأعرض عن بعض} فكان الذي عرف ما ذكره من التحريم , وكان الذي أعرض عنه ما ذكره من الخلافة لئلا ينتشر , قاله الضحاك. وقرأ الحسن: (عَرَف بعضه) بالتخفف , وقال الفراء: وتأويل قوله: عرف بعضه بالتخفيف أي غضب منه وجازى عليه , {إن تَتوبا إلى اللَّهِ فَقدْ صَغَتْ قلوبُكما} يعني بالتوبة اللتين تظاهرتا وتعاونتا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سائرهن وهما عائشة وحفصة. وفي (صغت) ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني زاغت , قاله الضحاك. الثاني: مالت , قاله قتادة , قال الشاعر: (تُصْغِي القلوبُ إلى أَغَرَّ مُبارَكٍ ... مِن نَسْلِ عباس بن عبد المطلب) والثالث: أثمت , حكاه ابن كامل. وفيما أوخذتا بالتوبة منه وجهان: أحدهما: من الإذاعة والمظاهرة. الثاني: من سرورهما بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من التحريم , قاله ابن زيد. {وإن تَظَاهَرا عليه} عين تعاونا على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. {فإن الله هو مولاه} يعني وليه {وجبريل} يعني وليه أيضاً.

{وصالحُ المؤمنين} فيهم خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الأنبياء، قاله قتادة وسفيان. الثاني: أبو بكر وعمر، قال الضحاك وعكرمة: لأنهما كانا أبوي عائشة وحفصة وقد كانا عونا له عليهما. الثالث: أنه عليّ. الرابع: أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. الخامس: أنهم الملائكة، قاله ابن زيد. ويحتمل سادساً: أن صالح المؤمنين من وقى دينه بدنياه. {والملائكةُ بعَدَ ذلك ظهيرٌ} يعني أعواناً للنبي صلى الله عليه وسلم , ويحتمل تحقيق تأويله وجهاً ثانياً: أنهم المستظهر بهم عند الحاجة اليهم. {عَسى ربُّه إن طَلّقكُنّ أَن يُبدِلَه أَزْواجاً خيراً مِنكُنَّ} أما نساؤه فخير نساء الأمَّة. وفي قوله {خَيْراً مِّنكُنَّ} ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أطوع منكن. والثاني: أحب إليه منكن. والثالث: خيراً منكن في الدنيا , قاله السدي. {مَسْلِماتٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني مخلصات , قاله ابن جبير ونرى ألا يستبيح الرسول إلا مسلمة. الثاني: يقمن الصلاة ويؤتين الزكاة كثيراً , قاله السدي. الثالث: معناه مسلمات لأمر اللَّه وأمر رسوله , حكاه ابن كامل. {مؤمناتٍ} يعني مصدقات بما أُمرْن به ونُهين عنه. {قانتاتٍ} فيه وجهان: أحدهما: مطيعات. الثاني: راجعات عما يكرهه اللَّه إلى ما يحبه.

{تائباتٍ} فيه وجهان: أحدهما: من الذنوب , قاله السدي. الثاني: راجعات لأمر الرسول تاركات لمحاب أنفسهن. {عابداتٍ} فيه وجهان: أحدهما: عابدات للَّه , قاله السدي. الثاني: متذللات للرسول بالطاعة , ومنه أخذ اسم العبد لتذلله , قاله ابن بحر. {سائحاتٍ} فيه وجهان: أحدهما: صائمات , قاله ابن عباس والحسن وابن جبير. قال ابن قتيبة: سمي الصائم سائحاً لأنه كالسائح في السفر بغير زاد. وقال الزهري: قيل للصائم سائح لأن الذي كان يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل , والصائم يمسك عن الأكل , فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً , وإن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح , والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المشتهى , وهو الأكل والشرب والوقاع. وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع عن الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكم وتجلت له أنوار المتنقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة فتحصل له سياحة في عالم الروحانيات. الثاني: مهاجرات لأنهن بسفر الهجرة سائحات , قاله زيد بن أسلم. {ثَيّباتٍ وأبْكاراً} أما الثيب فإنما سميت بذلك لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها , أو إلى غيره إن فارقها , وقيل لأنها ثابَتْ إلى بيت أبويها , وهذا أصح لأنه ليس كل ثيّب تعود إلى زوج. وأما البكر فهي العذراء سميت بكراً لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. قال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون , والبكر مثل مريم بنت عمران. روى خداش عن حميد عن أنس قال عمر بن الخطاب: وافقت ربي في

ثلاث، قلت: يا رسول اللَّه لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى، وقلت: يا رسول اللَّه إنك يدخل إليك البرُّ والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين، فأنزل اللَّه آية الحجاب، وبلغني عن أمهات المؤمنين شىء [فدخلت عليهن فقلت]: لتَكُفُّنّ عن رسول اللَّه أو ليبدلنه اللًَّه أزوجاً خيراً منكن حتى دخلت على إحدى أمهات المؤمنين فقالت: يا عمر أما في رسول اللَّه ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت , فأمسكت فأنزل اللَّه تعالى: {عسى ربُّه إن طلّقكنّ} الآية.

6

{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير} {يا أيها الذين آمَنوا قُوا أَنفُسَكم وأهْليكم ناراً} قال خيثمة: كل شيء في القرآن يا أيها الذين آمنوا ففي التوراة يا أيها المساكين. وقال ابن مسعود: إذا قال اللَّه يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه. وقال الزهري: إذا قال اللَّه تعالى: يا أيها الذين آمنوا افعلوا , فالنبي منهم. ومعنى قوله: {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} أي اصرفوا عنها النار , ومنه قول الراجز: (ولو توقى لوقاه الواقي ... وكيف يوقى ما الموت لاقي)

وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه قوا أنفسكم , وأهلوكم فليقوا أنفسهم ناراً , قاله الضحاك. الثاني: قوا أنفسكم ومروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيكم اللَّه بهم , رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. الثالث: قوا أنفسكم بأفعالكم , وقوا أهليكم بوصيتكم , قاله علي وقتادة ومجاهد. وفي الوصية التي تقيهم النار ثلاثة أقاويل: أحدها: يأمرهم بطاعة اللَّه وينهاهم عن معصيته , قاله قتادة. الثاني: يعلمهم فروضهم ويؤدبهم في دنياهم , قاله علي. الثالث: يعلمهم الخير ويأمرهم به , ويبين لهم الشر , وينهاهم عنه. قال مقاتل: حق ذلك عليه في نفسه وولده وعبيده وإمائه. {وَقودها الناسُ والحجارةُ} في ذكر الحجارة مع الناس ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الحجارة التي عبدوها , حتى يشاهدوا ما أوجب مصيرهم إلى النار , وقد بين الله ذلك في قوله {إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم}. الثاني: أنها حجارة من كبريت وهي تزيد في وقودها النار وكان ذكرها زيادة في الوعيد والعذاب , قاله ابن مسعود ومجاهد. الثالث: أنه ذكر الحجارة ليعلموا أن ما أحرق الحجارة فهو أبلغ في إحراق الناس. روى ابن أبي زائدة قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم} الآية , وعنده بعض أصحابه , ومنهم شيخ فقال الشيخ: يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال والذي نفسي بيده لصخرة من جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها , فوقع الشيخ مغشياً عليه , فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي , فقال: يا شيخ قل لا إله إلا اللَّه , فقال بها , فبشره بالجنة , فقال أصحابه: يا رسول اللَّه أمِن بيننا؟ قال: نعم لقول اللَّه تعالى: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}.

{عليها ملائكة غِلاظٌ شدادٌ} يعني غلاظ القلوب , شداد الأفعال وهم الزبانية. {لا يعْصُون الله ما أمرهم} أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان. {ويَفْعلون ما يُؤْمَرونَ} يعني في وقته فلا يؤخرونه ولا يقدمونه. {يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إلى اللَّه تَوْبةً نَصوحاً} فيه خمسة تأويلات: أحدهها: أن التوبة النصوح هي الصادقة الناصحة , قاله قتادة. الثاني: أن النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره , قاله الحسن. الثالث: أن لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها. الرابع: أن النصوح هي التي لا يحتاج معها إلى توبة. الخامس: أن يتوب من الذنب ولا يعود إليه أبداً , قاله عمر بن الخطاب. وهي على هذه التأويلات مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة. وفي أخذها منها وجهان: أحدهما: لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه. الثاني: لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء اللَّه وألصقته بهم كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض. ومنهم من قرأ نُصوحاً بضم النون , وتأويلها على هذه القراءة توبةَ نُصْح لأنفسكم , ويروي نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم بضالَّته يجدها بأرض فلاة عليها زاده وسقاؤه).

9

{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم

وبئس المصير ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} {يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمنافقين واغْلُظْ عليهم} أما جهاد الكفار فبالسيف , وأما جهاد المنافقين ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه باللسان والقول , قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: بالغلظة عليهم كما ذكر اللَّه , قاله الربيع بن أنس. الثالث: بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه , وليقابلهم بوجه مكفهر , قاله ابن مسعود. الرابع: بإقامة الحدود عليهم , قاله الحسن. {ضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً للذين كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ كانتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادنا صالحْينِ فخانتاهما} في خيانتهما أربعة أوجه: أحدها: أنهما كانتا كافرتين , فصارتا خائنتين بالكفر , قاله السدي. الثاني: منافقتين تظهران الإيمان وتستران الكفر , وهذه خيانتهما قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط , إنما كانت خيانتهما في الدين. الثالث: أن خيانتهما النميمة , إذا أوحى اللَّه تعالى إليهما [شيئاً] أفشتاه إلى المشركين , قاله الضحاك. الرابع: أن خيانة امرأة نوح أنها كانت تخبر الناس أنه مجنون , وإذا آمن أحد به

أخبرت الجبابرة به , وخيانة امرأة لوط أنه كان إذا نزل به ضيف دخّنت لِتُعْلِم قومها أنه قد نزل به ضيف , لما كانوا عليه من إتيان الرجال. قال مقاتل: وكان اسم امرأة نوح والهة , واسم امرأة لوط والعة. وقال الضحاك عن عائشة أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة , واسم امراة لوط والهة. {فلم يُغْنِيا عنهما مِنَ اللَّهِ شيئاً} أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب اللَّه , تنبيهاً بذلك على أن العذاب يُدفع بالطاعة دون الوسيلة. قال يحيى بن سلام: وهذا مثل ضربه اللَّه ليحذر به حفصة وعائشة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة فقال:

11

{وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} {وضَربَ اللَّهُ مَثلاً للذينَ آمنوا امرأةَ فِرْعونَ} قيل اسمها آسية بنت مزاحم. {إذْ قالت رَبِّ ابْنِ لي عندك بيتاً في الجنة} قال أبو العالية: اطّلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها , فقال لهم: فإنها تعبد ربّاً غيري , فقالوا له: اقتلْها , فأوتد لها أوتاداً فشد يديها ورجليها , فدعت آسية ربها فقالت: (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة) الآية،

فكشف لها الغطاء فنظرت إلى بيتها في الجنة , فوافق ذلك حضور فرعون , فضحكت حين رأت بيتها في الجنة , فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها , فعذبها وهي تضحك وقُبض روحها. وقولها: {وَنَجِّني مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِه} فيه قولان: أحدهما: الشرك. الثاني: الجماع , قاله ابن عباس. {وَنجِّني من القوم الظالمين} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل مصر , قاله الكلبي. الثاني: القبط , قاله مقاتل. {ومريمَ ابنَةَ عِمرانَ التي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا} قال المفسرون: إنه أراد بالفرج الجيب لأنه قال {فنفخنا فيه مِن رُوحنا} وجبريل إنما نفخ في جيبها , ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها. {وصَدَّقَتْ بكلماتِ رَبِّها وكُتُبِه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن (كلمات ربها) الإنجيل , و (كتبه) التوراة والزبور. الثاني: أن (كلمات ربها) قول جبريل حين نزل عليها {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً} , {وكتبه} الإنجيل الذي أنزله من السماء , قاله الكلبي. الثالث: أن (كلمات ربها) عيسى , و (كتبه) الإنجيل , قاله مقاتل. {وكانت من القانتين} أي من المطيعين في التصديق. الثاني: من المطيعين في العبادة.

سورة الملك مكية عند الكل بسم الله الرحمن الرحيم

الملك

{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير} قوله عز وجل: {تباركَ الذي بيدِهِ المُلْكُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن التبارُك تفاعُل من البركة , قاله ابن عباس. وهو أبلغ من المبارك لاختصاص اللَّه بالتبارك واشتراك المخلوقين في المبارك. الثاني: أي تبارك في الخلق بما جعل فيهم من البركة , قاله ابن عطاء. الثالث: معناه علا وارتفع , قاله يحيى بن سلام. وفي قوله (الذي بيده الملك) وجهان: أحدهما: ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة. الثاني: ملك النبوة التي أعزّ بها من اتبعه وأذل بها من خالفه , قاله محمد بن إسحاق. {وهو عَلى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ} من إنعام وانتقام.

{ْالذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ} يعني الموت في الدنيا , والحياة في الآخرة. قال قتادة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن اللَّه أذل بني آدم بالموت , وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت , وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء (. الثاني: أنه خلق الموت والحياة جسمين , فخلق الموت في صورة كبش أملح , وخلق الحياة في صورة فرس [أنثى بلقاء] , وهذا مأثور حكاه الكلبي ومقاتل. {ْلِيَبْلُوكم أيُّكم أَحْسَنُ عَمَلاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أيكم أتم عقلاً , قاله قتادة. الثاني: أيكم أزهد في الدنيا , قاله سفيان. الثالث: أيكم أورع عن محارم اللَّه وأسرع إلى طاعة اللَّه , وهذا قول مأثور. الرابع: أيكم للموت أكثر ذِكْراً وله أحسن استعداداً ومنه أشد خوفاً وحذراً , قاله السدي. الخامس: أيكم أعرف بعيوب نفسه. ويحتمل سادساً: أيكم أرضى بقضائه وأصبر على بلائه. {ْالذي خَلَقَ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً} فيه وجهان:

أحدهما: أي متفق متشابه , مأخوذ من قولهم هذا مطابق لهذا أي شبيه له , قاله ابن بحر. الثاني: يعني بعضهن فوق بعض , قال الحسن: وسبع أرضين بعضهن فوق بعض , بين كل سماء وأرض خلق وأمر. {ْما تَرَة في خَلْق الرحمنِ من تفاوُتٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: من اختلاَف , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر: (متفاوتات من الأعنة قطّباً ... حتى وفي عشية أثقالها.) الثاني: من عيب , قاله السدي. الثالث: من تفرق , قاله ابن عباس. الرابع: لا يفوت بعضه بعضاً , قاله عطاء بن أبي مسلم. قال الشاعر: (فلستُ بمُدْركٍ ما فاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ وَلاَ بِليْتَ ولا لَو أنِّي) {ْفارْجِع البَصَرَ} قال قتادة: معناه فانظر إلى السماء. {ْهل تَرَى من فُطور} فيه أربعة أوجه: أحدها: من شقوق , قاله مجاهد والضحاك. الثاني: من خلل , قاله قتادة. الثالث: من خروق قاله السدي. الرابع: من وهن , قاله ابن عباس. {ْثم ارْجع البَصَرَ كَرّتَيْنِ} أي انظر إلى السماء مرة بعد أخرى. ويحتمل أمره بالنظر مرتين وجهين: أحدهما: لأنه في الثانية أقوى نظراً وأحدّ بصراً. الثاني: لأنه يرى في الثانية من سير كواكبها واختلاف بروجها ما لا يراه من الأولى فيتحقق أنه لا فطور فيها. وتأول قوم بوجه ثالث: أنه عنى بالمرتين قلباً وبصراً.

{ْينْقَلِبْ إليك البَصَرُ خَاسئاً وهو حَسيرٌ} أي يرجع إليك البصر لأنه لا يرى فطوراً فيرتد. وفي (خاسئاً) أربعة أوجه: أحدها: ذليلاً , قاله ابن عباس. الثاني: منقطعاً , قاله السدي. الثالث: كليلاً , قاله يحيى بن سلام. الرابع: مبعداً , قاله الأخفش مأخوذ من خسأت الكلب إذا أبعدته. وفي (حسير) ثلاثة أوجه: أحدها: أنه النادم , ومنه قول الشاعر: (ما أنا اليوم على شيء خلا ... يا ابنة القَيْنِ تَولّى بحَسيرْ.) الثاني: أنه الكليل الذي قد ضعف عن إدراك مرآه , قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر: (مَنْ مدّ طرْفاً إلى ما فوق غايته ... ارتدَّ خَسْآنَ مِنه الطّرْفُ قد حَسِرا.) والثالث: أنه المنقطع من الإعياء , قاله السدي , ومنه قول الشاعر: (والخيلُ شُعثٌ ما تزال جيادها ... حَسْرى تغادرُ بالطريق سخالها.)

6

{وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} {ْإذا أُلقُوا فيها} يعني الكفار ألقوا في جهنم.

{ْسمعوا لها شهيقاً} فيه قولان: أحدهما: أن الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار. الثاني: أن الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها , قال ابن عباس: تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وفي الشهيق ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشهيق في الصدور , قاله الربيع بن أنس. الثاني: أنه الصياح , قاله ابن جريج. الثالث: أن الشهيق هو آخر نهيق الحمار , والزفير مثل أول نهيق الحمار , وقيل إن الزفير من الحلق , والشهيق من الصدر. {ْوهي تفورُ} أي تغلي , ومنه قول الشاعر: (تركتم قِدْرَكم لا شيىءَ فيها ... وقِدْرُ القوم حاميةٌ تفورُ) {ْتكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ ... } فيه وجهان: أحدهما: تنقطع , قاله سعيد بن جبير. الثاني: تتفرق , قاله ابن عباس والضحاك. وقوله (من الغيط) فيه ها هنا وجهان: أحدهما: أنه الغليان , قال الشاعر: (فيا قلب مهلاً وهو غضبان قد غلا ... من الغيظ وسط القوم ألا يثبكا) الثاني: أنه الغضب , يعني غضباً على أهل المعاصي وانتقاماً للَّه منهم. {ْألمْ يأتِكم نَذيرٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن النذر من الجن , والرسل من الإنس , قاله مجاهد. الثاني: أنهم الرسل والأنبياء , واحدهم نذير , قاله السدي. {ْفسُحْقاً لأصحاب السّعيرٍ} فيه وجهان: أحدهما: فبعداً لأصحاب السعير يعني جهنم , قاله ابن عباس. الثاني: أنه وادٍ من جهنم يسمى سحقاً , قاله ابن جبير وأبو صالح , وفي هذا الدعاء إثبات لاستحقاق الوعيد.

12

{إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} {ْإنّ الذين يَخْشَوْنَ ربَهم بالغَيْبِ} فيه ستة أوجه: أحدها: أن الغيب اللَّه تعالى وملائكته , قاله أبو العالية. الثاني: الجنة والنار , قاله السدي. الثالث: أنه القرآن , قاله زر بن حبيش. الرابع: أنه الإسلام لأنه يغيب , قاله إسماعيل بن أبي خالد. الخامس: أنه القلب , قاله ابن بحر. السادس: أنه الخلوة إذا خلا بنفسه فذكر ذنبه استغفر ربه , قاله يحيى بن سلام. {ْلهم مغْفرةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالتوبة والاستغفار. الثاني: بخشية ربهم بالغيب. الثالث: لأنهم حلّوا باجتناب الذنوب محل المغفور له. {وأجرٌ كبيرٌ} يعني الجنة. ويحتمل وجهاً آخر: أنه العفو عن العقاب ومضاعفة الثواب. {هو الذي جَعَلَ لكم الأرْضَ ذَلولاً} يعني مذللة سهلة. حكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ , فللسودان اثنا عشر [ألفاً] , وللروم [ثمانية آلاف] , وللفرس ثلاثة آلاف وللعرب ألف. {ْفامْشُوا في مَنَاكِبِها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في جبالها، قاله ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب. الثاني: في أطرفاها وفجاجها، قاله مجاهد والسدي.

الثالث: في طرفها. ويحتمل رابعاً: في منابت زرعها وأشجارها , قاله الحسن. {وكُلوا مِن رِزْقِهِ} فيه وجهان: أحدهما: مما أحله لكم , قاله الحسن. الثاني: مما أنبته لكم , قاله ابن كامل. {وإليه النشور} أي البعث.

16

{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير} {أأمِنتُم مَنْ في السماءِ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم الملائكة , قاله ابن بحر. الثاني: يعني أنه اللَّه تعالى , قاله ابن عباس. {ْأنْ يَخْسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تتحرك , قاله يحيى. الثاني: تدور , قاله قطرب وابن شجرة. الثالث: تسيل ويجري بعضها في بعض , قاله مجاهد , ومنه قول الشاعر: (رَمَيْن فأقصدْن القلوب ولن ترى ... دماً مائراً إلا جرى في الخيازم.)

20

{أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون} {أفمن يْمشيِ مُكِبّاً على وَجْهِه أهْدَى} هذا مثل ضربه اللَّه تعالى للهدى والضلالة , ومعناه ليس من يمشي مُكباً على وجهه ولا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله. كمن يمشي سوياً معتدلاً ناظراً ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله , وفيه وجهان: أحدهما: أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر , فالمكب على وجهه الكافر يهوي بكفره , والذي يمشي سوّياً المؤمن يهتدي بإيمانه , ومعناه: أمَّن يمشي في الضلالة أهدى أم من يمشي مهتدياً , قاله ابن عباس. الثاني: أن المكب على وجهه أبو جهل بن هشام , ومن يمشي سوياً عمار بن ياسر , قاله عكرمة. {ْعلى صراطٍ مستقيم} فيه وجهان: أحدهما: أن الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه , فيكون نعتاً للمثل المضروب. الثاني: هو الحق المستقيم , قاله مجاهد , فيكون جزاء العاقبة الاستقامة وخاتمة الهداية. {ْقُلْ هو الذي ذَرَأَكُمْ في الأرضِ} فيه وجهان: أحدهما: خلقكم في الأرض , قاله ابن عباس. الثاني: نشركم فيها وفرّقكم على ظهرها , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: أنشأكم فيها إلى تكامل خلقكم وانقضاء أجلكم.

{ْوإليهِ تُحْشَرون} أي تُبْعثون بعد الموت. {ْفلما رأَوْه زُلْفَةً سِيئَتْ وُجوهُ الذين كَفروا} فيه وجهان: أحدهما: ظهرت المساءة على وجوههم كراهة لما شاهدوا , وهو معنى قول مقاتل. الثاني: ظهر السوء في وجهوههم ليدل على كفرهم , كقوله تعالى: {يوم تبيضُّ وجوه وتسْوَدُّ وجوه} [آل عمران: 106]. {وقيل هذا الذي كُنْتُمْ به تَدَّعُونَ} وهذا قول خزنة جهنم لهم , وفي قوله {ْكنتم به تدّعون} أربعة أوجه: أحدها: تمترون فيه وتختلفون , قاله مقاتل. الثاني: تشكّون في الدنيا وتزعمون أنه لا يكون , قاله الكلبي. الثالث: تستعجلون من العذاب , قاله زيد بن أسلم. الرابع: أنه دعاؤهم بذلك على أنفسهم , وهو افتعال من الدعاء , قاله ابن قتيبة.

28

{قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين} {ْقُلْ أرَأَيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤكم غُوْراً} فيه وجهان: أحدهما: ذاهباً , قاله قتادة. الثاني: لا تناله الدِّلاء , قاله ابن جبير , وكان ماؤهم من بئر زمزم وبئر ميمون. {ْفَمَنْ يأتيكم بماءٍ مَعِينٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن معناه العذب , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الطاهر , قاله الحسن وابن جبير ومجاهد. الثالث: أنه الذي تمده العيون فلا ينقطع.

الرابع: أنه الجاري , قاله قتادة , ومنه قول جرير: (إنّ الذين غدوا بُلبِّك غادَروا ... وشَلاً بعيْنِك لا يزال مَعِيناً) روى عاصم عن رُزين عن ابن مسعود قال: سورة الملك هي المانعة من عذاب القبر , وهي في التوراة تسمى المانعة , وفي الإنجيل تسمى الواقية , ومن قرأها من كل ليلة فقد أكثر وأطاب.

سورة القلم مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس: من أولها إلى قوله سبحانه " سنسمه على الخرطوم " مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} مدني، ومن بعد ذلك إلى قوله {يكتبون} مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله: {من الصالحين} مدني، وباقي السورة مكي. بسم الله الرحمن الرحيم

القلم

{ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} قوله تعالى {ن} فيه ثمانية أقوال: أحدها: أن النون الحوت الذي عليه الأرض , قاله ابن عباس من رواية أبي الضحى عنه , وقد رفعه.

الثاني: أن النون الدواة , رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثالث: أنه حرف من حروف الرحمن , قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه. الرابع: هو لوح من نور , رواه معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. الخامس: أنه اسم من أسماء السورة , وهو مأثور. السادس: أنه قسم أقسم اللَّه به , وللَّه تعالى أن يقسم بما يشاء , قاله قتادة. السابع: أنه حرف من حروف المعجم. الثامن: أن نون بالفارسية أيذون كن , قاله الضحاك. ويحتمل تاسعاً: إن لم يثبت به نقل أن يكون معناه: تكوين الأفعال والقلم وما يسطرون , فنزل الأقوال جميعاً في قسمه بين أفعاله وأقواله , وهذا أعم قسمة. ويحتمل عاشراً: أن يريد بالنون النفْس لأن الخطاب متوجه إليها بغيرعينها بأول حروفها , والمراد بالقلم ما قدره اللَّه لها وعليها من سعادة وشقاء , لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ. أما {والقلم} ففيه وجهان: أحدهما: أنه القلم الذي يكتبون به لأنه نعمة عليهم ومنفعة لهم , فأقسم بما أنعم , قاله ابن بحر. الثاني: أنه القلم الذي يكتب به الذكر على اللوح المحفوظ , قال ابن جريج: هو من نور , طوله كما بين السماء والأرض. وفي قوله {وما يَسْطرون} ثلاثة أقاويل: أحدها: وما يعلمون , قاله ابن عباس. الثاني: وما يكتبون , يعني من الذكر , قاله مجاهد والسدي.

الثالث: أنهم الملائكة الكاتبون يكتبون أعمال الناس من خير وشر. {ما أنت بنعمةِ ربّك بمجنونٍ} كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون به شيطان , وهو قولهم: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الحجر: 6] فأنزل اللَّه تعالى رداً عليها وتكذيباً لقولهم: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} أي برحمة ربك , والنعمة ها هنا الرحمة. ويحتمل ثانياً: أن النعمة ها هنا قسم , وتقديره: ما أنت ونعمة ربك بمجنون , لأن الواو والباء من حروف القسم. وتأوله الكلبي على غير ظاهره , فقال: معناه ما أنت بنعمة ربك بمخفق. {وإنّ لك لأجْراً غيْرَ مَمْنُونٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: غير محسوب , قاله مجاهد. الثاني: أجراً بغير عمل , قاله الضحاك. الثالث: غير ممنون عليك من الأذى , قاله الحسن. الرابع: غير منقطع , ومنه قول الشاعر: (ألا تكون كإسماعيلَ إنَّ له ... رأياً أصيلاً وأجْراً غيرَ ممنون) ويحتمل خامساً: غير مقدّر وهو الفضل , لأن الجزاء مقدر , والفضل غير مقدر. {وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أدب القرآن , قاله عطية. الثاني: دين الإسلام , قاله ابن عباس وأبو مالك. الثالث: على طبع كريم , وهو الظاهر. وحقيقة الخلُق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه , فأما ما طبع عليه من الآداب فهو الخيم فيكون الخلق الطبع المتكلف , والخيم هو الطبع الغريزي , وقد أوضح ذلك الأعشى في شعره فقال:

(وإذا ذو الفضول ضنّ على المو ... لى وعادت لِخيمها الأخلاقُ) أي رجعت الأخلاق إلى طباعها. {فَسَتبْصِرُ ويُبْصرُونَ} فيه وجهان: أحدهما: فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. الثاني: قاله ابن عباس معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة. {بأَيِّكم المْفتونُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني المجنون , قاله الضحاك. الثاني: الضال , قاله الحسن. الثالث: الشيطان , قاله مجاهد. الرابع: المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته , ومنه قوله تعالى: {يوم هم على النار يُفْتنون} [الذاريات: 13] أي يعذبون.

8

{فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم} {وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيدْهِنونَ} فيه ستة تأويلات: أحدها: معناه ودوا لو تكفر فيكفرون , قاله السدي والضحاك. الثاني: ودوا لو تضعُف فيضعُفون , قاله أبو جعفر. الثالث: لو تلين فيلينون , قاله الفراء. الرابع: لو تكذب فيكذبون , قاله الربيع بن أنس. الخامس: لو ترخص لهم فيرخصون لك , قاله ابن عباس. السادس: أن تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك , قاله قتادة. وفي أصل المداهنة وجهان:

أحدهما: مجاملة العدو وممايلته , قال الشاعر: (لبَعْضُ الغَشْم أحزْم أمورٍ ... تَنوبُك مِن مداهنةِ العدُوِّ.) الثاني: أنها النفاق وترك المناصحة , قاله المفضل , فهي على هذا الوجه مذمومة , وعلى الوجه الأول غير مذمومة. {ولا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ مَهينٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الكذاب , قاله ابن عباس. الثاني: الضعيف القلب , قاله مجاهد. الثالث: أنه المكثار من الشر , قاله قتادة. الرابع: أنه الذليل بالباطل , قاله ابن شجرة. ويحتمل خامساً: أنه الذي يهون عليه الحنث. وفي من نزل ذلك فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق , قاله السدي. الثاني: الأسود بن عبد يغوث , قاله مجاهد. الثالث: الوليد بن المغيرة , عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه , قاله مقاتل. {هَمَّازٍ مَشّاءٍ بِنميمٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه الفتّان الطعان , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: أنه الذي يلوي شدقيه من وراء الناس , قاله الحسن. الثالث: أنه الذي يهمزهم بيده ويضربهم دون لسانه , قاله ابن زيد , والأول أشبه لقول الشاعر: (تُدْلي بِوُدٍّ إذا لاقيتني كذباً ... وإن أغيبُ فأنت الهامز اللُّمَزة.) {مشّاءٍ بنميم} فيه وجهان: أحدهما: الذي ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض , قاله قتادة.

الثاني: هو الذي يسعى بالكذب , ومنه قول الشاعر: (ومَوْلى كبيْتِ النمل لا خير عنده ... لمولاه إلا سعية بنميم.) وفي النميم والنميمة وجهان: أحدهما: أنهما لغتان , قاله الفراء. الثاني: أن النميم جمع نميمة. {منّاعٍ للخيْرِ} فيه وجهان: أحدهما: للحقوق من ظلم. الثاني: الإسلام يمنع الناس منه. {عُتُلٍّ بَعْد ذلك زنيمٍ} يعني بعد كونه (منّاعٍ للخيرٍ) معتدٍ أثيم , هو عتل زنيم , وفيه تسعة أوجه: أحدها: أن العُتُلّ الفاحش , وهو مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: الثاني: أنه القوي في كفره , قاله عكرمة. الثالث: أنه الوفير الجسم , قاله الحسن وأبو رزين. الرابع: أنه الجافي الشديد الخصومة بالباطل , قاله الكلبي. الخامس: أنه الشديد الأسر , قاله مجاهد. السادس: أنه الباغي , قاله ابن عباس. السابع: أنه الذي يعتِل الناس , أي يجرهم إلى الحبس أو العذاب , مأخوذ من العتل وهو الجر , ومنه قوله تعالى: {خذوه فاعتِلوه} [الحاقة: 30]. الثامن: هو الفاحش اللئيم , قاله معمر , قال الشاعر: (يعتل من الرجال زنيم ... غير ذي نجدةٍ وغير كريم.) التاسع: ما رواه شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غَنْم , ورواه ابن

مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنةَ جواظٌ ولا جعظري ولا العتلّ الزنيم) فقال رجل: ما الجواظ وما الجعظري وما العتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجواظ الذي جمع ومنع , والجعظري الغليظ , والعتل الزنيم الشديد الخلق الرحيب الجوف , المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام , الظلوم للناس). وأما الزنيم ففيه ثماني تأويلات: أحدها: أنه اللين , رواه موسى بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أنه الظلوم , قاله ابن عباس في رواية ابن طلحة عنه. الثالث: أنه الفاحش , قاله إبراهيم. الرابع: أنه الذي له زنمة كزنمة الشاة , قال الضحاك: لأن الوليد بن المغيرة كان له أسفل من أذنه زنمة مثل زنمة الشاة , وفيه نزلت هذه الآية , قال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق لأنه حليف ملحق ولذلك سمي زنيماً. الخامس: أنه ولد الزنى , قاله عكرمة. السادس: أنه الدعيّ , قال الشاعر: (زنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً ... كما زِيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارعُ) السابع: أنه الذي يعرف بالأُبنة , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. الثامن: أنه علامة الكفر كما قال تعالى: {سنسمه على الخرطوم} , قاله أبو رزين. {أنْ كان ذا مالٍ وبنينَ} قيل إنه الوليد بن المغيرة , كانت له حديقة بالطائف , وكان له اثنا عشر ابناً , حكاه الضحاك.

وقال عليّ بن أبي طالب: المال والبنون حرث الدنيا , والعمل الصالح حرث الآخرة. {إذا تتْلى عليه آياتُنا} يعني القرآن. {قال أساطيرُ الأوّلين} يعني أحاديث الأولين وأباطيلهم. {سَنَسِمُهُ على الخُرطومِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها سمة سوداء تكون على أنفه يوم القيامة يتميز بها الكافر , كما قال تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41]. الثاني: أنه يضرب في النار على أنفه يوم القيامة , قاله الكلبي. الثالث: أنه إشهار ذكره بالقبائح , فيصير موسوماً بالذكر لا بالأثر. الرابع: هو ما يبتليه اللَّه به في الدنيا في نفسه وماله وولده من سوء وذل وصَغار , قاله ابن بحر واستشهد بقول الأعشى. (فدَعْها وما يَغنيك واعمد لغيرها ... بشِعرك واغلب أنف من أنت واسم.) وقال المبرد: الخرطوم هو من الناس الأنف , ومن البهائم الشفة.

17

{إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} {إنا بَلَوناهم كما بَلَوْنا أَصْحابَ الجَنَّةِ} فيهم قولان:

أحدهما: إن الذين بلوناهم أهل مكة بلوناهم بالجوع كرتين , كما بلونا أصحاب الجنة حتى عادت رماداً. الثاني: أنهم قريش ببدر. حكى ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذاً واربطوهم في الحبال , ولا تقتلوا منهم أحداً , فضرب اللَّه بهم عند العدو مثلاً بأصحاب الجنة. {إذ أَقْسموا لَيَصرِمُنّها مُصْبِحينَ} قيل إن هذه الجنة حديقة كانت باليمن بقرية يقال لها ضَروان , بينها وبين صنعاء اليمن اثنا عشر ميلاً , وفيها قولان: أحدهما: أنها كانت لقوم من الحبشة. الثاني: قاله قتادة أنها كانت لشيخ من بني إسرائيل له بنون , فكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله , ويتصدق بالباقي , فجعل بنوه يلومونه ويقولون: لئن ولينا لنفعلن , وهو لا يطيعهم حتى مات فورثوها , فقالوا: نحن أحوج بكثرة عيالنا من الفقراء والمساكين (فأقسموا ليصرُمنّها مصبحين) أي حلفوا أن يقطعوا ثمرها حين يصبحون. {ولا يَسْتَثْنونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يستثنون من المساكين , قاله عكرمة. الثاني: استثناؤهم قول سبحان ربنا , قاله أبو صالح. الثالث: قول إن شاء اللَّه. {فطاف عليها طائفٌ مِن ربِّك وهم نائمونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أمر من ربك , قاله ابن عباس. الثاني: عذاب من ربك , قاله قتادة. الثالث: أنه عنق من النار خرج من وادي جنتهم , قاله ابن جريج. {وهم نائمون} أي ليلاً وقت النوم , قال الفراء: الطائف لا يكون إلا ليلاً. {فأصبحت كالصَريم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كالرماد الأسود , قاله ابن عباس.

الثاني: كالليل المظلم , قاله الفراء , قال الشاعر: (تطاولَ ليلُكَ الجَوْنُ البهيمُ ... فما ينجاب عن صبحٍ , صَريمُ.) الثالث: كالمصروم الذي لم يبق فيه ثمر. روى أسباط عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أياكم والمعاصي , إن العبد ليذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له) ثم تلا: {فطاف عليها طائف من ربك ... } الآيتين قد حرموا خير جنتهم بذنبهم. {فتنادَوْا مُصبِحينَ} أي دعا بعضعهم بعضاً عند الصبح. {أنِ اغْدُوا على حَرْثِكم} قال مجاهد: كان الحرث عنباً. {إن كنتم صارمين} أي عازمين على صرم حرثكم في هذا اليوم. {فانْطَلَقُوا وهم يتخافتونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يتكلمون , قاله عكرمة. الثاني: يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد , قاله عطاء وقتادة. الثالث: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم. الرابع: لا يتشاورون بينهم. {أن لا يدخُلَنّها اليومَ عليكم مِسكين} قاله يحيى بن سلام. {وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين} فيه تسعة أوجه: أحدها: على غيظ , قاله عكرمة. الثاني: على جَدٍّ , قاله مجاهد. الثالث: على منع , قاله أبو عبيدة. الرابع: على قصد , ومنه قول الشاعر: (أقْبَلَ سيلٌ جاء من عندِ الله ... يحْرِدُ حَرْدَ الجَنّة المُغِلّة)

اُي يقصد قصد الجنة المغلة. الخامس: على فقر , قاله الحسن. السادس: على حرص , قاله سفيان. السابع: على قدرة , قاله ابن عباس. الثامن: على غضب , قاله السدي. التاسع: أن القرية تسمى حرداً , قاله السدي. وفي قوله: (قادرين) ثلاثة أوجه: أحدها: يعني قادرين على المساكين , قاله الشعبي. الثاني: قادرين على جنتهم عند أنفسهم , قاله قتادة. الثالث: أن موافاتهم إلى جنتهم في الوقت الذي قدروه , قاله ابن بحر. ويحتمل رابعاً: أن القادر المطاع بالمال والأعوان , فإذا ذهب ماله تفرق أعوانه فعُصيَ وعجز. {فلمّا رأوْها قالوا إنا لَضالُّون} أي أنهم لما رأوا أرض الجنة لا ثمرة فيها ولا شجر قالوا إنا ضالون الطريق وأخطأنا مكان جنتنا , ثم استرجعوا فقالوا: {بل نحن محرومون} أي حُرمنا خير جنتنا , قال قتادة: معناه جوزينا فحُرمنا. {قال أَوْسَطُهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أعدلهم , قاله ابن عباس. الثاني: خيرهم , قاله قتادة. الثالث: أعقلهم , قاله ابن بحر. {أَلَمْ أقُل لكم لولا تُسَبَّحونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لولا تستثنون عند قولهم (ليصرمنها مصبحين) , قاله ابن جريج. الثاني: أن التسبيح هو الاستثناء , لأن المراد بالاستثناء ذكر اللَّه , وهو موجود من التسبيح. الثالث: أن تذكروا نعمة اللَّه عليكم فتؤدوا حقه من أموالكم.

34

{إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان

علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين} {أم لكم أيْمانٌ علينا بالغةٌ} والبالغة المؤكدة باللَه. {إنّ لكم لما تحْكُمُون} فيه وجهان: أحدهما: أم لكم أيمان عيلنا بالغة أننا لا نعذبكم في الدنيا إلى يوم القيامة. {سَلْهم أيُّهم بذلك زعيمٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن الزعيم الكفيل , قاله ابن عباس. الثاني: أنه الرسول , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: أنه القيم بالأمر لتقدمه ورئاسته.

42

{يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون} {يومَ يُكْشَفُ عن ساقٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: عن ساق الآخرة , قاله الحسن. الثاني: الساق الغطاء , قاله الربيع بن أنس , ومنه قول الراجز: (في سَنَةٍ قد كشفتْ عن ساقها ... حمراءَ تبري اللحم عن عراقها) الثالث: أنه الكرب والشدة , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر: (كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصُّراح)

الرابع: هو إقبال الآخرة وذهاب الدنيا , قال الضحاك: لأنه أول الشدائد , كما قال الراجز: (قد كشفت عن ساقها فشُدُّوا ... وجدّت الحربُ بكم فجدوا) فأما ما روي أن اللَّه تعالى يكشف عن ساقه فإن اللَّه تعالى منزه عن التبعيض والأعضاء وأن ينكشف أو يتغطى , ومعناه أنه يكشف عن العظيم من أمره , وقيل يكشف عن نوره. وفي هذا اليوم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يوم الكبر والهرم والعجز عن العمل. الثاني: أنه يوم حضور المنية والمعاينة.

الثالث: أنه يوم القيامة. {ويُدْعَون إلى السجودِ فلا يستطيعون} فمن قال في هذا اليوم إنه يوم القيامة جعل الأمر بهذا السجود على وجه التكليف. ومن جعله في الدنيا فلهم في الأمر بهذا السجود قولان: أحدهما: أنه تكليف. الثاني: تندم وتوبيخ للعجز عنه , وكان ابن بحر يذهب إلى أن هذا الدعاء إلى السجود إنما كان في وقت الاستطاعة , فلم يستطيعوا بعد العجز أن يستدركوا ما تركوا. {فذرْنِي ومَن يُكذّبُ بهذا الحديث} قال السدي: يعني القرآن. ويحتمل آخر أي بيوم القيامة. {سنستدرجهم مِن حيثُ لا يَعْلمون} فيه خمسة أوجه: أحدها: سنأخذهم على غفلة وهم لا يعرفون , قاله السدي. الثاني: نتبع النعمة السيئة وننسيهم التوبة , قاله الحسن. الثالث: نأخذهم من حيث درجوا ودبوا , قاله ابن بحر. الرابع: هو تدريجهم إلى العذاب بإدنائهم منه قليلاً بعد قليل حتى يلاقيهم من حيث لا يعلمون , لأنهم لو علموا وقت أخذهم بالعذاب ما ارتكبوا المعاصي وأيقنوا بآمالهم. الخامس: ما رواه إبراهيم بن حماد , قال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه , وكم من مغبون بالثناء عيه , وكم من مغرور بالستر عليه. والاستدراج: النقل من حال إلى حال كالتدرج , ومنه قيل درجة وهي منزلة بعد منزلة.

48

{فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين}

{فاصْبِرْ لحُكمِ ربّك} فيه وجهان: أحدهما: لقضاء ربك. الثاني: لنصر ربك , قاله ابن بحر. {ولا تكُن كصاحِبِ الحُوتِ} قال قتادة: إن اللَّه تعالى يعزي نبيّه ويأمره بالصبر , وأن لا يعجل كما عجل صاحب الحوت وهو يونس بن متى. {إذ نادى وهو مكظوم} أما نداؤه فقوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. وفي مكظوم أربعة أوجه: أحدها: مغموم , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: مكروب , قاله عطاء وأبو مالك , والفرق بينهما أن الغم في القلب , والكرب في الأنفاس. الثالث: محبوس , والكظم الحبس , ومنه قولهم: فلان كظم غيظه أي حبس غضبه , قاله ابن بحر. الرابع: أنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس , قاله المبرد. {لولا أن تَدارَكه نِعْمةٌ مِن ربِّه} فيه أربعة أوجه: أحدها: النبوة , قاله الضحاك. الثاني: عبادته التي سلفت , قاله ابن جبير. الثالث: نداؤه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين , قاله ابن زيد. الرابع: أن نعمة اللَّه عليه إخراجه من بطن الحوت , قاله ابن بحر. {لنُبِذَ بالعراء} فيه وجهان: أحدهما: لألقي بالأرض الفضاء , قاله السدي , قال قتادة: بأرض اليمن. الثاني: أنه عراء يوم القيامة وأرض المحشر , قاله ابن جرير. {وهو مذموم} فيه وجهان: أحدهما: بمعنى مليم.

الثاني: مذنب , قاله بكر بن عبد الله , ومعناه أن ندعه مذموماً. {وإن يكادُ الذين كَفَروا ليُزْلِقونك بأَبَصارهم} الآية. فيه ستة أوجه: أحدها: معناه ليصرعونك , قاله الكلبي. الثاني: ليرمقونك , قاله قتادة. الثالث: ليزهقونك , قاله ابن عباس , وكان يقرؤها كذلك. الرابع: لينفذونك , قاله مجاهد. الخامس: ليمسونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك , قاله السدي. السادس: ليعتانونك , أي لينظرونك بأعينهم , قاله الفراء. وحكي أنهم قالوا: ما رأينا مثل حجمه ونظروا إليه ليعينوه , أي ليصيبوه بالعين , وقد كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله تجوّع ثلاثاً ثم يتعرض لنفسه أو ماله فيقول: تاللَّه ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر مالاً منه ولا أحسن , فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله , فأنزل اللَّه هذه الآية. {لّما سَمِعوا الذكْرَ} فيه وجهان: أحدهما: محمد. الثاني: القرآن. {وما هو إلا ذِكْرٌ للعالمين} فيه وجهان: أحدهما: شرف للعالمين , كما قال تعالى {وإنه لذكر لك ولقومك} [الزخرف: 44]. الثاني: يذكرهم وعد الجنة ووعيد النار. وفي العالمين وجهان: أحدهما: الجن والإنس , قاله ابن عباس. الثاني: كل أمة من أمم الخلق ممن يُعرف ولا يُعرف.

سورة الحاقة بسم الله الرحمن الرحيم

الحاقة

{الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} قوله تعالى {الحاقّةُ ما الحاقّةُ} فيه قولان: أحدهما: أنه ما حقّ من الوعد والوعيد بحلوله , وهو معنى قول ابن بحر. الثاني: أنه القيامة التي يستحق فيها الوعد والوعيد , قاله الجمهور وفي تسميتها بالحاقة ثلاثة أقاويل: أحدها: ما ذكرنا من استحقاق الوعد والوعيد بالجزاء على الطاعات والمعاصي , وهو معنى قول قتادة ويحيى بن سلام. الثاني: لأن فيها حقائق الأمور , قاله الكلبي. الثالث: لأن حقاً على المؤمن أن يخافها.

وقوله (ما الحاقة) تفخيماً لأمرها وتعظيماً لشأنها. {وما أدْراكَ ما الحاقّة} قال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شىء في القرآن فيه (وما أدراك) فقد أدراه إياه وعلّمه إياه , وكل شيء قال فيه (وما يدريك) فهو ما لم يعلمه إياه. وفيه وجهان: أحدهما: وما أدراك ما هذا الاسم , لأنه لم يكن في كلامه ولا كلام قومه , قاله الأصم. الثاني: وما أدراك ما يكون في الحاقة. {كذّبَتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعةِ} أما ثمود فقوم صالح كانت منازلهم في الحجر فيما بين الشام والحجاز , قاله محمد بن إسحاق: وهو وادي القرى , وكانوا عرباً. وأما عاد فقوم هود , وكانت منازلهم بالأحقاف , والأحقاف الرمل بين عُمان إلى حضرموت واليمن كله , وكانوا عرباً ذوي خَلق وبَسطة , ذكره محمد بن إسحاق. وأما (القارعة) ففيها قولان: أحدهما: أنها قرعت بصوت كالصيحة , وبضرب كالعذاب , ويجوز أن يكون في الدنيا , ويجوز أن يكون في الآخرة. الثاني: أن القارعة هي القيامة كالحاقة , وهما اسمان لما كذبت بها ثمود وعاد. وفي تسميتها بالقارعة قولان: أحدهما: لأنها تقرع بهولها وشدائدها. الثاني: أنها مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين , قاله المبرد. {فأمّا ثمودُ فأهلِكوا بالطاغية} فيها خمسة أقاويل: أحدها: بالصيحة , قاله قتادة. الثاني: بالصاعقة , قاله الكلبي. الثالث: بالذنوب , قاله مجاهد. الرابع: بطغيانهم , قاله الحسن. الخامس: أن الطاغية عاقر الناقة , قاله ابن زيد. {وأمّا عادٌ فأهْلِكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ} روى مجاهد عن ابن عباس قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نُصِرْتُ بالصَّبا وأُهلِكتْ عاد بالدَّبور). فأما صرصر ففيها قولان: أحدهما: أنها الريح الباردة , قاله الضحاك والحسن , مأخوذ من الصر وهو البرد. الثاني: أنها الشديدة الصوت , قاله مجاهد. وأما العاتية ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: القاهرة , قاله ابن زيد. الثاني: المجاوزة لحدها. الثالث: التي لا تبقى ولا ترقب. وفي تسميتها عاتية وجهان: أحدهما: لأنها عتت على القوم بلا رحمة ولا رأفة , قاله ابن عباس. الثاني: لأنها عتت على خزانها بإذن اللَّه. {سَخّرها عليهم سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسوماً} اختلف في أولها على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنّ أولها غداة يوم الأحد , قاله السدي. الثاني: غداة يوم الأربعاء , قاله يحيى بن سلام. الثالث: غداة يوم الجمعة , قاله الربيع بن أنس. وفي قوله {حُسُوماً} أربعة تأويلات: أحدها: متتابعات , قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والفراء , ومنه قول أمية بن أبي الصلت: (وكم يحيى بها من فرط عام ... وهذا الدهر مقتبل حسوم.) الثاني: مشائيم , قاله عكرمة والربيع. الثالث: أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها , لأنها بدأت طلوع الشمس من أول يوم , وانقطعت مع غروب الشمس من آخر يوم , قاله الضحاك.

الرابع: لأنها حسمتهم ولم تبق منهم أحداً , قاله ابن زيد , وفي ذلك يقول الشاعر: (ومن مؤمن قوم هود ... فأرسل ريحاً دَبوراً عقيماً) 89 (توالتْ عليهم فكانت حُسوماً} 9 {فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: البالية , قاله أبو الطفيل. الثاني: الخالية الأجواف , قاله ابن كامل. الثالث: ساقطة الأبدان , خاوية الأصول , قاله السدي. وفي تشبيههم بالنخل الخاوية ثلاثة أوجه: أحدها: أن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن الريح كانت تدخل في أجوافهم من الخيشوم , وتخرج من أدبارهم , فصاروا كالنخل الخاوية , حكاه ابن شجرة. الثالث: لأن الريح قطعت رؤوسهم عن أجسادهم , فصاروا بقطعها كالنخل الخاوية. {وجاءَ فرعونُ ومَن قَبْلَهُ} فيه وجهان: أحدهما: ومن معه من قومه وهو تأويل من قرأ (ومن قِبلَهُ) بكسر القاف وفتح الباء. والثاني: ومن تقدمه , وهو تأويل من قرأ (ومن قَبْلَهُ) بفتح القاف وتسكين الباء. {والمؤتفِكاتُ بالخاطئة} في المؤتفكات قولان: أحدهما: أنها المقلوبات بالخسف. الثاني: أنها الأفكات وهي الاسم من الآفكة , أي الكاذبة. والخاطئة: هي ذات الذنوب والخطايا , وفيهم قولان: أحدهما: أنهم قوم لوط. الثاني: قارون وقومه , لأن اللَّه خسف بهم.

{فعصَوْا رسولَ ربِّهم} فيه وجهان: أحدهما: فعصوا رسول الله إليهم بالتكذيب. الثاني: فعصوا رسالة اللَّه إليهم بالمخالفة , وقد يعبر عن الرسالة بالرسول , قال الشاعر: (لقد كذَبَ الواشون ما بُحْت عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسول.) {فَأَخَذَهُمْ أَخذةً رابيةً} فيه خمسة أوجه: أحدها: شديدة , قاله مجاهد. الثاني: مُهلكة , قاله السدي. الثالث: تربوبهم في عذاب اللَّه أبداً , قاله أبو عمران الجوني. الرابع: مرتفعة , قاله الضحاك. الخامس: رابية للشر , قاله ابن زيد. {إنا لما طَغَى الماءُ حَمَلْناكم في الجاريةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ظَهَر , رواه ابن أبي نجيح. الثاني: زادَ وكثر , قاله عطاء. الثالث: أنه طغى على خزانه من الملائكة , غضباً لربه فلم يقدروا على حبسه , قاله عليّ رضي الله عنه. قال قتادة: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما أرسل من ريح قط إلا بمكيال. وما أنزل الله من قطرة قط إلا بمثقال , إلا يوم نوح وعاد , فإن الماء يوم نوح طغى على خزانه فلم يكن لهم عيله سبيل , ثم قرأ: (إنا لما طغى الماء) الآية. وإن الريح طغت على خزانها يوم عاد فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ. (بريح صرصر عاتية سخرها عليهم) الآية. {حملناكم في الجارية} يعني سفينة نوح , سميت بذلك لأنها جارية على الماء. وفي قوله حملناكم وجهان:

أحدهما: حملنا آباءكم الذين أنتم من ذريتهم. الثاني: أنهم في ظهور آبائهم المحمولين , فصاروا معهم , وقد قال العباس بن عبد المطلب ما يدل على هذا الوجه وهو قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: (من قبلها طِبتَ في الظلال وفي ... مُستودع حيث يُخْصَفُ الورقُ.) (ثم هبطتَ البلادَ لا بشرٌ ... أنت ولا مُضْغةٌ ولا عَلَقُ.) (بل نطفةٌ تركب السَّفينَ وقد ... ألجَمَ نَسراً وأهلَه الغرقُ.) {لنجْعلهَا لكم تذكِرةً} يعني سفينة نوح جعلها اللَّه لكم تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم في قول قتادة , وقال ابن جريج: كانت ألواحها على الجودي. {وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيةٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: سامعة , قاله ابن عباس. الثاني: مؤمنة , قاله ابن جريج. الثالث: حافظة , وهذا قول ابن عباس أيضاً. قال الزجاج: يقال وعيت لما حفظته في نفسك , وأوعيت لما حفظته في غيرك. وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية: (سألت ربي أن يجلعها أُذُنَ عليٍّ) قال مكحول: فكان عليٌّ رضي اللَّه عنه يقول: ما سمعت من رسول الله شيئاً قط نسيته إلا وحفظته. الرابع: [أنالأذن الواعية] أُذن عقلت عن اللَّه وانتفعت بما سمعت من كتاب اللَّه , قاله قتادة.

13

{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}

{فيومئذٍ وقَعَتِ الواقعةُ} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: القيامة. الثاني: الصيحة. الثالث: أنها الساعة التي يفنى فيها الخلق. {وانْشَقّت السماءُ فهِي يومئذٍ واهيةٌ} في انشقاقها وجهان: أحدهما: أنها فتحت أبوابها , قاله ابن جريج. الثاني: أنها تنشق من المجرة , قاله عليّ رضي الله عنه. وفي قوله (واهية) وجهان: أحدهما: متخرقة , قاله ابن شجرة , مأخوذ من قولهم وَهَى السقاءُ إذا انخرق , ومن أمثالهم: (خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤه ... ومَن هُريق بالفلاةِ ماؤهُ) أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. الثاني: ضعيفه , قاله يحيى بن سلام. {والملَكُ على أَرجائها} فيه وجهان: أحدهما: على أرجاء السماء , ولعله قول مجاهد وقتادة. الثاني: على أرجاء الدنيا , قاله سعيد بن جبير. وفي (أرجائها) أربعة أوجه: أحدها: على جوانبها , قاله سعيد بن جبير. الثاني: على نواحيها , قاله الضحاك. الثالث: أبوابها , قاله الحسن. الرابع: ما استدق منها , قاله الربيع بن أنس. ووقوف الملائكة على أرجائها لما يؤمرون به فيهم من جنة أو نار. {ويَحْمِلُ عَرْشَ ربِّك فوقهم يَومئذٍ ثمانيةُ} يعني أن العرش فوق الثمانية وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: ثمانية أملاك من الملائكة , قاله العباس بن عبد المطلب.

الثاني: ثمانية صفوف من الملائكة , قاله ابن جبير. الثالث: ثمانية أجزاء من تسعة , وهم الكروبيون , قاله ابن عباس , وروى أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (يحمله اليوم أربعة , وهم يوم القيامة ثمانية). وفي قوله {فوقهم} ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم يحملون العرش فوق رؤوسهم. الثاني: أن حملة العرش فوق الملائكة الذين على أرجائها. الثالث: أنهم فوق أهل القيامة. {يومئذٍ تُعْرَضونَ} يعني يوم القيامة , روى الحسن عن أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات , أما عرضتان فجدال ومعاذير , وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف من الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله) {لا تَخْفَى منكم خافيةٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: لا يخفى المؤمن من الكافر , ولا البر من الفاجر , قاله عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. الثاني: لا تستتر منكم عورة , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة) الثالث: أن خافية بمعنى خفيّة كانوا يخفونها من أعمالهم حكاه ابن شجرة.

19

{فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق

حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية} {فأمّا مَنْ أُوتي كتابَه بيمينه} لأن إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. {فيقول هاؤم اقْرَؤوا كِتابيهْ} ثقة بسلامته وسروراً بنجاته , لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرج , والشمال من دلائل الغم , قال الشاعر: (أبيني أفي يُمْنَى يديكِ جَعَلْتِني ... فأفرح أم صيرتني من شِمالِك) وفي قوله (هاؤمُ) ثلاثة أوجه: أحدها: بمعنى هاكم اقرؤوا كتابيه فأبدلت الهمزة من الكاف , قاله ابن قتيبة. الثاني: أنه بمعنى هلموا اقرؤوا كتابيه , قال الكسائي: العرب تقول للواحد هاءَ وللاثنين هاؤما وللثلاثة هاؤم. الثالث: أنها كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح روي أن أعرابياً نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ فأجابه هاؤم بطول صوته. والهاء من (كتابيه) ونظائرها موضوعة للمبالغة , وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد. {إني ظننتُ أني مُلاقٍ حِسابِيَهْ} فيه وجهان: أحدهما: أي علمت , قال الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين , ومن الكافر فهو شك , وقال مجاهد: ظن الآخرة يقين , وظن الدنيا شك. الثاني: ما قاله الحسن في هذه الآية , أن المؤمن أحْسن بربه الظن , فأحسن العمل , وأن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل. وفي الحساب ها هنا وجهان: أحدهما: في البعث. الثاني: في الجزاء. {فهو في عِيشَةٍ راضيةٍ} بمعنى مَرْضيّة , قال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري

يرفعانه: إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً , ويصحّون فلا يمرضون أبداً , ويتنعمون فلا يرون بؤساً أبداً , ويشبّون فلا يهرمون أبداً. {في جنة عالية} يحتمل وجهين: أحدهما: رفيعة المكان. الثاني: عظيمة في النفوس. {قطوفها دانيةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: دانية من الأيدي يتناولها القائم والقاعد. الثاني: دانية الإدراك لا يتأخر حملها ولا نضجها.

25

{وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون} {وأمّا من أُوتي كتابه بشماله} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه كان يقول ذلك راجياً. الثاني: أنه كان مستوراً فافتضح , ومن عادة العرب أن تفرق بين القبول والرد وبين الكرامة والهوان , باليمين والشمال , فتجعل اليمين بشيراً بالقبول والكرامة , وتجعل الشمال نذيراً بالرد والهوان. {ولم أَدْرِ ما حِسابِيَهْ} يحتمل وجهين: أحدهما: لما شاهد من كثرة سيئاته وكان يظنها قليلة , لأنه أحصاه اللَّه ونسوه. الثاني: لما رأى فيه من عظيم عذابه وأليم عقابه. {يَا لَيْتَها كانت القاضيةَ} فيه وجهان: أحدهما: يعني موتاً لا حياة فيه بعدها , قاله الضحاك.

الثاني: أنه تمنى أن يموت في الحال , ولم يكن في الدنيا أكره إليه من الموت , قاله قتادة. {ما أغْنَى عَنيِّ مالِيَهْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن كثرة ماله في الدنيا لم يمنع عنه في الآخرة. الثاني: لأن رغبته في زينة الدنيا وكثرة المال هو الذي ألهاه عن الآخرة. {هَلَكَ عني سُلْطانِيَهْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه ضللت عن حُجّتي , قاله مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. الثاني: سلطانه الذي تسلط به على بدنه حتى أقدم به على معصيته , وهذا معنى قول قتادة. الثالث: أنه كان في الدنيا مطاعاً في أتباعه , عزيزاً في امتناعه , وهذا معنى قول الربيع بن أنس. وحكي أن هذا في أبي جهل بن هشام , وذكر الضحاك أنها نزلت في الأسود ابن عبد الأسد. {فليس له اليومَ ها هنا حَميمٌ} الحميم: القريب , ومعناه ليس له قريب ينفعه ويدفع عنه كما كان يفعل معه في الدنيا. {ولا طعامٌ إلا مِنْ غِسْلين} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه غسالة أطرافهم , قاله يحيى بن سلام , قال الأخفش: هو فعلين من الغسل. الثاني: أنه صديد أهل النار , قاله ابن عباس. الثالث: أنه شجرة في النار هي أخبث طعامهم , قاله الربيع بن أنس. الرابع: أنه الحار الذي قد اشتد نضجه , بلغة أزد شنوءة.

38

{فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين} {فلا أُقْسِمُ بما تُبصِرون} قال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمداً ساحر , وقال أبو جهل: إنه شاعر , وقال عقبة بن معيط: إنه كاهن فقال

اللَّه تعالى قسماً على كذبهم (فلا أُقْسِم) أي أقسم , و (لا) صلة زائدة. {وَما لا تُبْصِرونَ} فيه وجهان: أحدهما: بما تبصرون من الخلق وما لا تبصرون من الخلق , قاله مقاتل. الثاني: أنه رد لكلام سبق أي ليس الأمر كما يقوله المشركون. ويحتمل ثالثاً: بما تعلمون وما لا تعلمون , مبالغة في عموم القسم. {إنه لَقْولُ رسولٍ كريمٍ} فيه قولان: أحدهما: جبريل , قاله الكلبي ومقاتل. الثاني: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم , قال ابن قتيبة: وليس القرآن من قول الرسول , إنما هو من قول اللَّه وإبلاغ الرسول , فاكتفى بفحوى الكلام عن ذكره.

44

{ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم} {ولو تَقوَّل علينا بَعْضَ الأقاويل} أي تكلّف علينا بعض الأكاذيب , حكاه عن كفار قريش أنهم قالوا ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم. {لأخْذنا منه باليمين} فيه خمسة تأويلات: أحدها: لأخذنا منه قوّته كلها , قاله الربيع. الثاني: لأخذنا منه بالحق , قاله السدي والحكم , ومنه قول الشاعر: (إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجدٍ ... تَلَقّاها عَرابةُ باليَمينِ) أي بالاستحقاق. الثالث: لأخذنا منه بالقدرة , قاله مجاهد. الرابع: لقطعنا يده اليمنى , قاله الحسن.

الخامس: معناه لأخذنا بيمينه إذلالاً له واستخفافاً به , كما يقال لما يراد به الهوان , خذوا بيده , حكاه أبو جعفر الطبري. {ثم لَقَطَعْنا مِنه الوَتينَ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه نياط القلب ويسمى حبل القلب , وهو الذي القلب معلق به , قاله ابن عباس. الثاني: أنه القلب ومراقّه وما يليه , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه الحبل الذي في الظهر , قاله مجاهد. الرابع: أنه عرق بين العلباء والحلقوم , قاله الكلبي. وفي الإشارة إلى قطع ذلك وجهان: أحدهما: إرادة لقتله وتلفه , كما قال الشاعر: (إذا بَلَّغْتِني وَحَمَلْتِ رحْلي ... عرابة فاشربي بدَمِ الوَتينِ) الثاني: ما قاله عكرمة أن الوَتين إذا قطع لا إن جاع عَرَق , ولا إن شبع عَرَقَ. {وإنه لتَذْكرةٌ للمُتّقِينَ} يعني القرآن , وفي التذكرة أربعة أوجه: أحدها: رحمة. الثاني: ثَبات. الثالث: موعظة. الرابع: نجاة. {وإنّا لَنَعْلَمُ أنَّ منكم مُكذِّبينَ} قال الربيع: يعني بالقرآن. {وإنّه} يعني القرآن. {لَحسْرةٌ على الكافرين} يعني ندامة يوم القيامة. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يزيد حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحدّيهم أن يأتوا بمثله.

{وإنّه لَحقُّ اليقينِ} فيه وجهان: أحدهما: أي حقاً ويقيناً ليكونن الكفر حسرة على الكافرين يوم القيامة , قاله الكلبي. الثاني: يعني القرآن عند جميع الخلق أنه حق , قال قتادة: إلا أن المؤمن أيقن به في الدنيا فنفعه , والكافر أيقن به في الآخرة فلم ينفعه. {فَسَبِّحْ باسْمِ ربِّكَ العظيم} فيه وجهان: أحدهما: فصلِّ لربك , قاله ابن عباس. الثاني: فنزهه بلسانك عن كل قبيح.

سورة المعارج بسم الله الرحمن الرحيم

المعارج

{سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} قوله تعالى: {سأَل سائلٌ} قرأه الجمهور بهذين الحرفين في سأل سائل , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه استخبر مستخبر عن العذاب متى يقع , على التكذيب. الثاني: دعا داع أن يقع البلاء بهم على وجه الاستهزاء , قاله مجاهد. الثالث: طلب طالب. {بعذابٍ واقعٍ} وفي هذا الطالب ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهالنضر بن الحارث , وكان صاحب لواء المشركين يوم بدر , وقد سأل ذلك في قوله {اللهم إن كان هذا هو الحقَ من عندك فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] قاله ابن عباس ومجاهد.

الثاني: أنه أبو جهل: وهو القائل لذلك , قاله ربيع بن أبي حمزة. الثالث: أنه قول جماعة من قريش. وفي هذا العذاب قولان: أحدهما: أنه العذاب في الآخرة , قاله مجاهد. الثاني: أنها نزلت بمكة وعذابه يوم بدر بالقتل والأسر , قاله السدي. وقرأ نافع وزيد بن أسلم وابنه (سأل سايل) غير مهموز , وسايل واد في جهنم , وسمي بذلك لأنه يسيل بالعذاب. {مِن اللَّهِ ذي المعارج} فيه خمسة تأويلات: أحدها: ذي الدرجات , قاله ابن عباس. الثاني: ذي الفواضل والنعم , قاله قتادة. الثالث: ذي العظمة والعلاء. الرابع: ذي الملائكة , لأنهم كانوا يعرجون إليه , قاله قتيبة. الخامس: أنها معارج السماء , قاله مجاهد. {تَعْرُجُ الملائكةُ والروحُ إليه} أي تصعد , وفي الروح ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه روح الميت حين يقبض , قاله قَبيصة بن ذؤيب , يرفعه. الثاني: أنه جبريل , كما قال تعالى: (نزل به الروح الأمين). الثالث: أنه خلق من خلق اللَّه كهيئة الناس وليس بالناس , قاله أبو صالح. {في يوم كان مِقدارُه خمسينَ ألْفَ سنةٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يوم القيامة , قاله محمد بن كعب والحسن. الثاني: أنها مدة الدنيا , مقدار خمسين ألف سنة , لا يدري أحد كم مضى وكم بقي إلا اللَّه , قاله عكرمة. الثالث: أنه مقدار مدة الحساب في عرف الخلق أنه لو تولى بعضهم محاسبة بعض لكان مدة حسابهم خمسين ألف سنة , إلا أن اللَّه تعالى يتولاه في أسرع مدة.

وروى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحاسبهم اللَّه بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب , وأسرع الحاسبين). {فاصْبِرْ صَبْراً جَميلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أنه الصبر الذي ليس فيه جزع , قاله مجاهد. الثاني: أنه الصبر الذي لا بث فيه ولا شكوى. الثالث: أنه الانتظار من غير استعجال , قاله ابن بحر. الرابع: أنه المجاملة في الظاهر , قاله الحسن. وفيما أُمر بالصبر عليه قولان: أحدهما: أُمر بالصبر على ما قذفه المشركون من أنه مجنون وأنه ساحر وأنه شاعر , قاله الحسن. الثاني: أنه أُمر بالصبر على كفرهم , وذلك قبل أن يفرض جهادهم , قاله ابن زيد. {إنهم يَرَوْنه بعيداً} فيه قولان: أحدهما: أنه البعث في القيامة. الثاني: عذاب النار. وفي المراد بالبعيد وجهان: أحدهما: مستحيل غير كائن. الثاني: استبعاد منهم للآخرة. {ونراه قريباً} أي كائناً , لأن ما هو كائن قريب.

8

{يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما

يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى} {يومَ تكونُ السّماءُ كالمُهْلِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كدرديّ الزيت , قاله ابن عباس. الثاني: كمذاب الرصاص والنحاس والفضلة , قاله ابن مسعود. الثالث: كقيح من دم , قاله مجاهد. {وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ} يعني كالصوف المصبوغ , والمعنى أنها تلين بعد الشدة , وتتفرق بعد الاجتماع. {يُبْصّرُونَهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه يبصر بعضهم بعضاً فيتعارفون , قاله قتادة. الثاني: أن المؤمنين يبصرون الكافرين , قاله مجاهد. الثالث: أن الكافرين يبصرون الذين أضلوهم في النار , قاله ابن زيد. الرابع: أنه يبصر المظلوم ظالمه , والمقتول قاتله. {يَوَدّ المجْرِمُ} فيه وجهان: أحدهما: يحب. الثاني: يتمنى , والمجرم هو الكافر. {لو يَفْتَدِي مِن عَذابِ يومِئذ} يعني يفتدي من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه , فلا يقدر. ثم ذكرهم فقال: {ببنيه}. {وصاحبته} يعني زوجته: {وأخيه}. {وفصيلته} فيه وجهان: أحدهما: عشيرته التي تنصره , قاله ابن زيد. الثاني: أنها أمه التي تربيه , قاله مالك , وقال أبو عبيدة: الفصيلة دون القبيلة. {التي تؤويه} فيه وجهان:

أحدهما: التي يأوي إليها في نسبه , قاله الضحاك. الثاني: يأوي إليها في خوفه. {كلا إنها لَظَى} فيه وجهان: أحدهما: أنها اسم من أسماء جهنم , سميت بذلك لأنها التي تتلظى , وهو اشتداد حرها. الثاني: أنه اسم الدرك الثامن في جهنم , قاله الضحاك. {نَزّاعة للشّوَى} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنها أطراف اليدين والرجلين , قاله أبو صالح , قال الشاعر: (إذا نَظَرْتَ عَرَفْت الفخر منها ... وعَيْنيها ولم تعْرِفْ شَواها.) الثاني: قال الضحاك: هي جهنم تفري اللحم والجلد عن العظم , وقال مجاهد: جلدة الرأس ومنه قول الأعشى: (قالت قُتَيْلَةُ ما لَه ... قد جُلِّلَتْ شيْباً شَواتهُ.) الثالث: أنه العصب والعقب , قاله ابن جبير. الرابع: أنه مكارم وجهه , قاله الحسن. الخامس: أنه اللحم والجلد الذي على العظم , لأن النار تشويه , قاله الضحاك. {تَدْعو مَنْ أَدْبَرَ وتَوَلّى} وفي دعائها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تدعوهم بأسمائهم فتقول للكافر: يا كافر إليّ , وللمنافق: يا منافق إليّ , قاله الفراء. الثاني: أن مصير من أدبر وتولى إليها , فكأنها الداعية لهم , ومثله قول الشاعر: (ولقد هَبَطْنا الوادِيَيْن فوادياً ... يَدْعو الأنيسَ به العَضيضُ الأبكمُ.) العضيض الأبكم: الذباب , وهو لا يدعو وإنما طنينه ينبه عليه , فدعا إليه.

الثالث: الداعي خزنة جهنم أضيف دعاؤهم إليها , لأنهم يدعون إليها. وفي ما {أدبر وتولى} عنه أربعة أوجه: أحدها: أدبر عن الطاعة وتولى عن الحق , قاله مجاهد. الثاني: أدبر عن الإيمان وتولى إلى الكفر , قاله مقاتل. الثالث: أدبر عن أمر اللَّه وتولى عن كتاب اللَّه , قاله قتادة. الرابع: أدبر عن القبول وتولى عن العمل. {وجَمَع فأوْعَى} يعني الذي أدبر وتولى جمع المال فأوعى , بأن جعله في وعاء حفظاً له ومنعاً لحق اللَّه منه , قال قتادة: فكان جموعاً منوعاً.

19

{إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون} {إنّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً} قال الضحاك والكلبي: يعني الكافر. وفي الهلوع ستة أوجه: أحدها: أنه البخيل , قاله الحسن. الثاني: الحريص , قاله عكرمة. الثالث: الضجور , قاله قتادة. الرابع: الضعيف , رواه أبو الغياث. الخامس: أنه الشديد الجزع , قاله مجاهد. السادس: أنه الذي قاله الله تعالى فيه: {إذا مسّه الشرُّ ... } الآية , قاله ابن ابن عباس.

وفيه وجهان: أحدهما: إذا مسه الخير لم يشكر , وإذا مسه الشر لم يصبر , وهو معنى قول عطية. الثاني: إذا استغنى منع حق اللَّه وشح , وإذا افتقر سأل وألح , وهو معنى قول يحيى بن سلام. {الذين هُمْ على صَلاتِهم دائمونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحافظون على مواقيت الفرض منها , قاله ابن مسعود. الثاني: يكثرون فعل التطوع منها , قاله ابن جريج. الثالث: لا يلتفتون فيها , قاله عقبة بن عامر. {والذين هم لأماناتِهم وعَهْدِهم راعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أن الأمانة ما ائتمنه الناس عليه أن يؤديه إليهم , والعهد: ما عاهد الناس عليه أن يَفيَ لهم به , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن الأمانة الزكاة أن يؤديها , والعهد: الجنابة أن يغتسل منها وهو معنى قول الكلبي. ويحتمل ثالثاً: أن الأمانة ما نهي عنه من المحظورات , والعهد ما أمر به من المفروضات. {والذين هُم بشهاداتِهم قائمونَ} فيه وجهان: أحدهما: أنها شهادتهم على أنبيائهم بالبلاغ , وعلى أممهم بالقبول أو الامتناع. الثاني: أنها الشهادات في حفظ الحقوق بالدخول فيها عند التحمل , والقيام بها عند الأداء. ويحتمل ثالثاً: أنهم إذا شاهدوا أمراً أقاموا الحق للَّه تعالى فيه , من معروف يفعلونه ويأمرون به , ومنكر يجتنبونه وينهون عنه.

36

{فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ

منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون} {فما للذين كَفَروا قِبلَكَ مُهْطِعينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مسرعين , قاله الأخفش , قال الشاعر: (بمكةَ دارُهم ولقد أراهم ... بمكةَ مُهطِعين إلى السماع) الثاني: معرضين , قاله عطية العوفي. الثالث: ناظرين إليك تعجباً , قاله الكلبي. {عن اليمين وعن الشِّمال عِزِينَ} فيه خمسة أوجه: أحدها: متفرقين , قاله الحسن , قال الراعي: (أخليفةَ الرحمنِ إن عشيرتي ... أمسى سَراتُهُمُ إليك عِزينا.) الثاني: محتبين , قال مجاهد. الثالث: أنهم الرفقاء والخلطاء , قاله الضحاك. الرابع: أنهم الجماعة القليلة , قاله ابن أسلم. الخامس: أن يكونوا حِلقاً وفرقاً. روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق فقال: (ما لي أراكم عزين) قال الشاعر:

(ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حِلقاً عِزينا.) {يوم يَخْرجون من الأجداثِ سِراعاً} يعني من القبور. {كأنهم إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} في (نصب) قراءتان: إحداهما بتسكين الصاد , والأخرى بضمها. وفي اختلافهما وجهان: أحدهما: معناهما واحد , قاله المفضل وطائفة , فعلى هذا في تأويله أربعة أوجه: أحدها: معناه إلى علم يستبقون , قاله قتادة. الثاني: إلى غايات يستبقون , قاله أبو العالية. الثالث: إلى أصنامهم يسرعون , قاله ابن زيد , وقيل إنها حجارة طوال كانوا يعبدونها. الرابع: إلى صخرة بيت المقدس يسرعون. والوجه الثاني من الأصل أن معنى القراءتين مختلف , فعلى هذا في اختلافهما وجهان: أحدهما: أن النُّصْب بالتسكين الغاية التي تنصب إليها بصرك , والنُّصُب بالضم واحد الأنصاب , وهي الأصنام , قاله أبو عبيدة ومعنى (يوفضون) يسرعون , والإيفاض الإسراع , ومنه قول رؤبة: (يمشين بنا الجد على الإيفاض ... بقطع أجواز الفلا انفضاض.)

سورة نوح مكية بسم الله الرحمن الرحيم

نوح

{إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} قوله عز وجل: {إنا أَرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِه} روى قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول نبي أُرسل نوح) قال قتادة: بعث من الجزيرة. واختلف في سنه حين بعث: قال ابن عباس: بعث وهو ابن أربعين سنة. وقال عبد اللَّه بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقال إبراهيم بن زيد: إنما سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه في الدنيا. {أنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أن يأتيَهم عَذابٌ أَليمٌ} فيه وجهان: أحدهما: يعني عذاب النار في الآخرة , قاله ابن عباس. الثاني: عذاب الدنيا , وهو ما ينزل عليهم بعد ذلك من الطوفان , قاله الكلبي،

وكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيباً , وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه , فيقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. {يَغْفِرْ لكم مِن ذُنوبكم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن (من) صلة زائدة , ومعنى الكلام يغفر ذنوبكم , قاله السدي. الثاني: أنها ليست صلة , ومعناه يخرجكم من ذنوبكم , قاله زيد بن أسلم. الثالث: معناه يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها , قاله ابن شجرة. {ويُؤَخِّرْكم إلى أجَلٍ مُسمى} يعني إلى موتكم وأجلكم الذي خط لكم , فيكون موتكم بغير عذاب إن آمنتم. {إنّ أَجَلَ اللَّه إذا جاءَ لا يُؤخَّرُ لو كنتم تَعْلَمونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بأجل اللَّه الذي لا يؤخر يوم القيامة , جعله اللَّه أجلاً للبعث , قاله الحسن. الثاني: يعني أجل الموت إذا جاء لم يؤخر , قاله مجاهد. الثالث: يعني أجل العذاب إذا جاء لا يؤخر , قاله السدي. وفي قوله: (لو كنتم تعلمون) وجهان: أحدهما: أن ذلك بمعنى إن كنتم تعلمون. الثاني: لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل اللَّه إذا جاء لا يؤخر , قاله الحسن.

5

{قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا

والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا} {قال رَبِّ إنّي دَعَوْتُ قَوْمي ليلاً ونهاراً} فيه وجهان: أحدهما: دعوتهم ليعبدوك ليلاً ونهاراً. الثاني: دعوتهم ليلاً ونهاراً إلى عبادتك. {فلم يَزدْهم دُعائي إلاّ فِراراً} يحتمل وجهين: أحدهما: إلا فراراً من طاعتك. الثاني: فراراً من إجابتي إلى عبادتك. قال قتادة: بلغنى أنه كان يذهب الرجل بابنه إلى نوح , فيقول لابنه: احذر هذا لا يغرنك فإن أبي قد ذهب بي غليه وأنا مثلك , فحذرني كما حذرتك. {وإنِّي كلما دَعَوْتُهم لِتَغَفِرَ لهم} يعني كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ما تقدم من الشرك. {جعلوا أصابعهم في آذانهم} لئلا يسمعوا دعاءه ليؤيسوه من إجابة ما لم يسمعوه , قال محمد بن إسحاق: كان حليماً صبوراً. {واستغْشَوا ثيابَهم} أي عطوا رؤسهم وتنكروا لئلا يعرفهم. {وأَصَرُّوا} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه إقامتهم على الكفر , قال قتادة: قدماً قدماً في معاصي اللَّه لالتهائهم عن مخافة اللَّه حتى جاءهم أمر اللَّه. الثاني: الإصرار: أن يأتي الذنب عمداً , قاله الحسن. الثالث: معناه أنهم سكتوا على ذنوبهم فلم يستغفروا قاله السدي. {واستكْبَروا استكباراً} فيه وجهان: أحدهما: أن ذلك كفرهم باللَّه وتكذيبهم لنوح , قاله الضحاك. الثاني: أن ذلك تركهم التوبة , قاله ابن عباس , وقوله (استبكارا) تفخيم.

{ثم إنّي دَعْوتُهم جِهاراً} أي مجاهرة يرى بعضهم بعضاً. {ثم إني أعْلَنْتُ لهم} يعني الدعاء , قال مجاهد: معناه صِحْتُ. {وأسَرَرْتُ لهم إسْراراً} الدعاء عن بعضهم من بعض , وفيه وجهان: أحدهما: أنه دعاهم في وقت سراً , وفي وقت جهراً. الثاني: دعا بعضهم سراً وبعضهم جهراً , وكل هذا من نوح مبالغة في الدعاء وتلطفاً في الاستدعاء. {فقلتُ استغْفِروا ربّكم إنّه كان غَفّاراً} وهذا فيه ترغيب في التوبة , وقد روى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الاستغفار ممحاة للذنوب). وقال: الفضيل: يقول العبد استغفر اللَّه , قال: وتفسيرها أقلني. {يُرْسِلِ السماءَ عليكم مِدْراراً} يعني غيثاً متتابعاً , وقيل إنهم كانوا قد أجدبوا أربعين سنة , حتى أذهب الجدب أموالهم وانقطع الولد عن نسائهم , فقال ترغيباً في الإيمان. {ويُمْدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويَجْعَل لكم جَنّاتٍ ويَجْعَل لكم أنهاراً} قال قتادة: علم نبي اللَّه نوح أنهم أهل حرص على الدنيا , فقال هلموا إلى طاعة اللَّه فإن من طاعته درك الدنيا والآخرة. {ما لكم لا ترجون للَّه وقاراً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: ما لكم لا تعرفون للَّه عظمة , قاله مجاهد , وعكرمة. الثاني: لا تخشون للَّه عقاباً وترجون منه ثواباً , قاله ابن عباس في رواية ابن جبير. الثالث: لا تعرفون للَّه حقه ولا تشكرون له نعمه , قاله الحسن. الرابع: لا تؤدون للَّه طاعة , قاله ابن زيد. الخامس: أن الوقار الثبات , ومنه قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} [الأحزاب: 33] أي اثبتن , ومعناه لا تثبتون وحدانية اللَّه وأنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه , قال

ابن بحر: دلهم على ذلك فقال: {وقد خلقكم أطواراً} في وجهان: أحدهما: يعني طوراً نطفة , ثم طوراً علقة , ثم طوراً مضغة , ثم طوراً عظماً , ثم كسونا العظام لحماً , ثم أنشأناه خلقاً آخر أنبتنا له الشعر وكملت له الصورة , قاله قتادة. الثاني: أن الأطوار اختلافهم في الطول والقصر , والقوة والضعف والهم والتصرف , والغنى والفقر. ويحتمل ثالثاً: أن الأطوار اختلافهم في الأخلاق والأفعال. {ألمْ تَروْا كيف خَلَق اللَّهُ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً} فيها قولان: أحدهما: أنهن سبع سموات على سبع أرضين , بين كل سماء وأرض خلق , وهذا قول الحسن. والثاني: أنهن سبع سموات طباقاً بعضهن فوق بعض , كالقباب , وهذا قول السدي. {وجَعَل القَمَرَ فيهنّ نُوراً} فيه قولان: أحدهما: معناه وجعل القمر فيهن نوراً لأهل الأرض , قاله السدي. الثاني: أنه جعل القمر فيهن نوراً لأهل السماء والأرض , قاله عطاء. وقال ابن عباس: وجهه يضيء لأهل الأرض , وظهره يضيء لأهل السماء. {وجَعَل الشّمْسَ سِراجاً} يعني مصباحاً لأهل الأرض , وفي إضافته لأهل السماء القولان الأولان. {واللَّه أَنْبَتكُم مِنَ الأرضِ نَباتاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني آدم خلقه من أديم الأرض كلها , قاله ابن جريج , وقال خالد بن معدان: خلق الإنسان من طين , فإنما تلين القلوب في الشتاء. الثاني: أنبتهم من الأرض بالكبر بعد الصغر , وبالطول بعد القصر , قاله ابن بحر. الثالث: أن جميع الخلق أنشأهم باغتذاء ما تنبته الأرض وبما فيها , وهو محتمل. {ثم يُعيدُكم فيها} يعني أمواتاً في القبور.

{ويُخْرِجُكم إخراجاً} لنشور بالبعث. {واللَّهُ جَعَل لكم الأرضَ بِساطاً} أي مبسوطة , وفيه دليل على أنها مبسوطة. {لِتَسْلُكوا منها سُبُلاً فجاجاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: طرقاً مختلفة , قاله ابن عباس. الثاني: طرقاً واسعة , قاله ابن كامل. الثالث: طرقاًً أعلاماً , قاله قتادة.

21

{قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} {قال نوحٌ ربِّ إنهم عَصَوْني} قال أهل التفسير: لبث فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاماً داعياً لهم , وهم على كفرهم وعصيانهم , قال ابن عباس: رجا نوح الأبناء بعد الآباء , فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبعة قرون , ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم , وعاش بعد الطوفان ستين سنة , حتى كثر الناس وفشوا. قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين. {واتّبَعوا مَنْ لم يَزِدْه مالُه ووَلدُه إلاّ خَساراً} قرىء ولده بفتح الواو وضمها , وفيهما قولان: أحدهما: أن الولد بالضم الجماعة من الأولاد , والولد بالفتح واحد منهم , قاله الأعمش , قال الربيع بن زياد: (وإن تكَ حَرْبُكم أمست عواناً ... فإني لم أكُنْ مّمن جَناها) (ولكن وُلْدُ سَوْدةَ أرَّثوها ... وحَشّوا نارها لمن اصطلاها) {ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} أي عظيماً , والكبّار أشد مبالغة من كبير. وفيه وجهان , أحدهما: ما جعلوه للَّه من الصاحبة والولد , قاله الكلبي.

الثاني: هو قول كبرائهم لأتباعهم: {وقالوا لا تَذَرُنَّ آلِهتكم ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً} الآية، قاله مقاتل. وفي هذه الأصنام قولان: أحدهما: أنها كانت للعرب لم يعبدها غيرهم ويكون معنى الكلام: كما قال قوم نوح لأتباعهم لا تذرن آلهتكم , قالت العرب مثلهم لأولادهم وقومهم لا تذرنّ وداً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً , ثم عاد الذكر بعد ذلك إلى قوم نوح. واختلف في هذه الأسماء , فقال عروة بن الزبير: اشتكى آدم وعنده بنوه ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر , وكان ود أكبرهم وأبرهم به , وقال غيره: إن هذه الأسماء كانت لرجال قبل قوم نوح , فماتوا فحزن عليهم أبناؤهم حزناً شديداً , فزين لهم الشيطان أن يصورهم لينظروا إليهم ففعلوا , ثم عبدها أبناؤهم من بعدهم. وقال محمد بن كعب: كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح فحدث بعدهم من أخذ في العبادة مأخذهم , فزين لهم إبليس أن يتصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم , ثم عبدها من بعدهم قوم نوح , ثم انتقلت بعدهم إلى العرب فعبدها ولد إسماعيل. فأما ود فهو أول صنم معبود , سمي بذلك لودهم له , وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل من قول ابن عباس وعطاء ومقاتل , وفيه يقول شاعرهم: (حيّاك ودٌّ فإنا لا يحل لنا ... لهْوُ النساءِ وإنّ الدينَ قد عزمَا.) وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر , في قولهم , وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ , في قول قتادة , وقال مقاتل: حي من نجران. قال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث وكان من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أجرد , ويسيرون معه لا يهيجونه , حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل , فيضربون عليه بناء وينزلون حوله. وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع , في قول قتادة وعكرمة وعطاء.

وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول عطاء ونحوه عن مقاتل. {وقد أَضَلّوُا كثيراً} فيه وجهان: أحدهما: يريد أن هذه الأصنام قد ضل بها كثير من قومه. الثاني: أن أكابر قومه قد أضلوا كثيراً من أصاغرهم وأتباعهم. {ولا تَزِدِ الظّالمينّ إلاَّ ضَلالاً} فيه وجهان: أحدهما: إلا عذاباً , قاله ابن بحر واستشهد بقوله تعالى: {إن المجرمين في ضَلالٍ وسُعُرٍ} [القمر: 47]. الثاني: إلا فتنة بالمال والولد , وهو محتمل.

25

{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا} {وقال نوحٌ ربِّ لا تَذَرْ على الأرضِ مِنَ الكافرين دَيّارا} اختلفوا في سبب دعاء نوح على قومه بهذا على قولين: أحدهما: أنه لما نزلت عليه قوله تعالى: {لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36] دعا عليهم بهذا الدعاء , قاله قتادة. الثاني: أن رجلاً من قومه حمل ولده صغيراً على كتفه , فمر بنوح , فقال لابنه: إحذر هذا فإنه يضلك فقال: يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجّهُ , فحينئذٍ غضب نوح ودعا عليهم. وفي قوله {ديّاراً} وجهان: أحدهما: أحداً , قاله الضحاك. الثاني: من يسكن الديار , قاله السدي. {ربِّ اغْفِرْ لي ولوالدّيّ} فيه قولان:

أحدهما: أنه أراد أباه , واسمه لمك , وأمه واسمها منجل , وكانا مؤمنين , قاله الحسن. الثاني: أنه أراد أباه وجده , قاله سعيد بن جبير. {ولمن دَخَل بَيْتِيِ مُؤْمِناً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني صديقي الداخل إلى منزلي , قاله ابن عباس. الثاني: من دخل مسجدي , قاله الضحاك. الثالث: من دخل في ديني , قاله جويبر. {وللمؤمنين والمؤمنات} فيه قولان: أحدهما: أنه أراد من قومه. الثاني: من جميع الخلق إلى قيام الساعة , قاله الضحاك. {ولا تَزِدِ الظالمينَ} يعني الكافرين. {إلا تباراً} فيه وجهان: أحدهما: هلاكاً. الثاني: خساراً , حكاهما السدي.

سورة الجن بسم الله الرحمن الرحيم

الجن

{قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} قوله تعالى {قل أُوحِيَ إليَّ أنّه إسْتَمَعَ نَفَرٌ مِن الجنَّ} اختلف أهل التفسير في سبب حضور النفر من الجن إلى رسوله اللَّه صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن على قولين: أحدهما: أن الله تعالى صرفهم إليه بقوله: {وإذا صَرَفْنا إليك نفراً من الجن} [الأحقاف: 29] , قاله ابن مسعود والضحاك وطائفة. الثاني: أنه كان للجن مقاعد في السماء الدنيا يستمعون منها ما يحدث فيها من أمور الدنيا , فلما بعث اللًّه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم حرست السماء الدنيا من الجن ورجموا بالشهب , قال السدي: ولم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو أثر له ظاهر , قال: فلما رأى أهل الطائف اختلاف الشهب في السماء قالوا: هلك أهل السماء فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم , فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو:

ويحكم أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم , فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها لم يهلك أهل السماء , وإنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمداً فلما رأوها مستقرة كفّواً. وفزعت الجن والشياطين , ففي رواية السدي أنهم أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم , فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوها فشمها فقال: صاحبكم بمكة فبعث نفراً من الجن. . وفي رواية ابن عباس: أنهم رجعوا إلى قومهم فقالوا: ما حال بيننا وبين السماء إلا أمر حدث في الأرض , فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها , ففعلوا حتى أتوا تهامة , فوجدوا محمداً صلى الله عليه وسلم يقرأ. ثم اختلفوا لاختلافهم في السبب , هل شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن أم لا؟ فمن قال إنهم صرفوا إليه قال إنه رآهم وقرأ عليهم ودعاهم , روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (قد أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ فسكتوا , ثم الثانية فسكتوا , ثم الثالثة , فقال ابن مسعود أنا أذهب معك , فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دُب , فخط عليَّ خطاً ثم قال: لا تجاوزه , ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى غشوة فلم أره) قال عكرمة: وكانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل. ومن قال إنهم صرفوا في مشارق الأرض ومغاربها لاستعلام ما حدث فيها , قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرها. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم علىالجن ولا رآهم , وإنما انطلق في نفر من أصحابه إلى سوق عكاظ , فأتوه وهو بنخلة عامداً , إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. قال عكرمة: السورة التي كان يقرؤها {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} واختلف قائلوا هذا

القول في عددهم , فروى عاصم عن زر بن حبيش أنهم كانوا تسعة , أحدهم زوبعة , أتوه في بطن نخلة. وروى ابن جريج عن مجاهد: أنهم كانوا سبعة , ثلاثة من أهل حران , وأربعة من أهل نصيبين , وكانت أسماؤهم: حسى ومسى وماصر وشاصر والأرد وأتيان والأحقم. وحكى جويبر عن الضحاك أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق , وهم سليط وشاصر وماصر وحسا ومنشا ولحقم والأرقم والأرد وأتيان , وهم الذين قالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً , وكانوا قد أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة في صلاة الصبح فصلّوا معه: {فلما قضى ولّوْا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا أجيبوا داعي اللَّه وآمِنوا به}. وقيل إن الجن تعرف الإنس كلها فلذلك توسوس إلى كلامهم. واختلف في أصل الجن , فروى إسماعيل عن الحسن البصري أن الجن ولد إبليس , والإنس ولد آدم , ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون وهم شركاء في الثواب والعقاب فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمناً فهو ولي اللَّه , ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا شياطين وهم يموتون , ومنهم المؤمن والكافر , والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. أصلهم , فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال يدخلون الجنة بإيمانهم , ومن قال هم من ذرية إبليس فلهم فيها قولان: أحدهما: يدخلونها وهو قول الحسن. الثاني: وهو رواية مجاهد , لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. وفي قوله تعالى: {إنا سَمِعْنا قُرآنا عَجَباً} ثلاثة أوجه: أحدها: عجباً في فصاحة كلامه. الثاني: عجباً في بلاغة مواعظة.

الثالث: عجباً في عظم بركته. {يَهْدِي إلى الرُّشْدِ} فيه وجهان: أحدهما: مراشد الأمور. الثاني: إلى معرفة اللَّه. {وأنّه تَعالى جَدُّ ربّنا} فيه عشرة تأويلات: أحدها: أمر ربنا , قاله السدي. الثاني: فعل ربنا , قاله ابن عباس. الثالث: ذكر ربنا , وهو قول مجاهد. الرابع: غنى ربنا , قاله عكرمة. الخامس: بلاء ربنا , قاله الحسن. السادس: مُلك ربنا وسلطانه , قاله أبو عبيدة. السابع: جلال ربنا وعظمته , قاله قتادة. الثامن: نعم ربنا على خلقه , رواه الضحاك. التاسع: تعالى جد ربنا أي تعالى ربُّنا , قاله سعيد بن جبير. العاشر: أنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب , ويكون هذا من قول الجن عن [جهالة]. {وأنه كان يقولُ سَفيهُنا على اللَّهِ شَطَطاً} فيه قولان: أحدهما: جاهلنا وهم العصاة منا , قال قتادة: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. الثاني: أنه إبليس , قاله مجاهد وقتادة ورواه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن قوله: (شططاً) وجهان: أحدهما: جوراً , وهو قول أبي مالك. الثاني: كذباً , قاله الكلبي، وأصل الشطط البعد , فعبر به عن الجور لبعده من العدل , وعن الكذب لبعده عن الصدق.

{وأنّه كانَ رجالٌ من الإنسِ يَعُوذون برجالٍ من الجنِّ} قال ابن زيد: إنه كان الرجل في الجاهلية قبل الإسلام إذا نزل بواد قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي - يعني من الجن - من سفهاء قومه , فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم , وهو معنى قوله: (وأنه كان رجال). وفي قوله: {فَزَادُوهم رَهقاً} ثمانية تأويلات: أحدها: طغياناً , قاله مجاهد. الثاني: إثماً , قاله ابن عباس وقتادة , قال الأعشى: (لا شىءَ ينفعني مِن دُون رؤيتها ... هل يَشْتفي عاشقٌ ما لم يُصبْ رهَقاً.) يعني إثماً. الثالث: خوفاً , قاله أبو العالية والربيع وابن زيد. الرابع: كفراً , قاله سعيد بن جبير. الخامس: أذى , قاله السدي. السادس: غيّاً , قاله مقاتل. السابع: عظمة , قاله الكلبي. الثامن: سفهاً , حكاه ابن عيسى.

8

{وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} {وأنا لَمسْنا السّماءَ} فيه وجهان: أحدهما: طلبنا السماءَ , والعرب تعبر عن الطلب باللمس تقول جئت ألمس الرزق وألتمس الرزق. الثاني: قاربنا السماء , فإن الملموس مقارَب. {فوَجدْناها} أي طرقها.

{مُلئتْ حَرَساً شديداً} هم الملائكة الغلاظ الشداد. {وشُهُباً} جمع شهاب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عند استراق السمع , واختلف في انقضاضها في الجاهلية قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم على قولين: أحدهما: أنها كانت تنقض في الجاهلية , وإنما زادت بمبعث الرسول إنذاراً بحاله , قال أوس بن حجر , وهو جاهلي: (فانقضّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعهُ ... نقعٌ يثورُ تخالُهُ طُنُباً) وهذا قول الأكثرين. الثاني: أن الانقضاض لم يكن قبل المبعث وإنما أحدثه الله بعده , قال الجاحظ: وكل شعر روي فيه فهو مصنوع. {وأنّا كُنّا نَقْعُدُ منها مَقَاعِدَ للسّمْعِ} يعني أن مردة الجن كانوا يقعدون من السماء الدنيا مقاعد للسمع يستمعون من الملائكة أخبار السماء حتى يُلقوها إلى الكهنة فتجري على ألسنتهم , فحرسها اللَّه حين بعث رسوله بالشهب المحرقة , فقالت الجن حينئذٍ: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رَصَداً} يعني بالشهاب الكوكب المحرق , والرصد من الملائكة. أما الوحي فلم تكن الجن تقدر على سماعه , لأنهم كانوا مصروفين عنه من قبل. {وأنّا لا نَدْرِي أشَرٌ أُريدَ بمن في الأرضِ أمْ أرادَ بهم ربُّهم رَشَداً} فيه وجهان: أحدهما: أنهم لا يدرون هل بعث الله محمداً ليؤمنوا به ويكون ذلك منهم رشداً ولهم ثواباً , أم يكفروا به فيكون ذلك منهم شراً وعليهم عقاباً , وهذا معنى قول السدي وابن جريج. الثاني: أنهم لا يدرون حراسة السماء بالشهب هل شر وعذاب أم رشد وثواب، قاله ابن زيد.

11

{وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا} {وأنّا مِنّا الصّالحونَ} يعني المؤمنين. {ومنّا دون ذلك} يعني المشركين. ويحتمل أن يريد بالصالحين أهل الخير , وب (دون ذلك) أهل الشر ومن بين الطرفين على تدريج , وهو أشبه في حمله على الإيمان والشرك لأنه إخبار منهم عن تقدم حالهم قبل إيمانهم. {كُنّا طَرائقِ قِدَداً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني فِرقاً شتى , قاله السدي. الثاني: أدياناً مختلفة , قاله الضحاك. الثالث: أهواء متباينة , ومنه قول الراعي: (القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قِدَدُ) {وأنّا لّما سَمِعْنا الهُدَى آمَنّا به} يعني القرآن سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوه على رسالته , وقد كان رسول الله مبعوثاً إلى الجن والإنس. قال الحسن: بعث اللَّه محمداً إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء , وذلك قوله تعالى: {وما أرسَلْنا مِن قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى}. {فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رَهقاً} قال ابن عباس:

لا يخاف نقصاً في حسناته , ولا زيادة في سيئاته , لأن البخس النقصان , والرهق: العدوان , وهذا قول حكاه الله عن الجن لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم , وقد روى عمار بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال: بينما عمر بن الخطاب جالساً ذات يوم إذ مرّ به رجل , فقيل له: أتعرف المارّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن هو؟ قالوا: سواد بن قارب رجل من أهل اليمن له شرف , وكان له رئيّ من الجن , فأرسل إليه عمر فقال له: أنت سواد بن قارب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين , قال: وأنت الذي أتاك رئيّ من الجن يظهر لك؟ قال: نعم بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل , إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول: (عجبْتُ للجنّ وتطلابها ... وشدِّها العِيسَ بأذْنابها.) (تهوي إلى مكة تبغي الهُدَى ... ما صادقُ الجن ككذّابها.) (فارْحَلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... فليس قد أتاها كاذباً بها.)

فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعساً , ولم أرفع بما قاله رأساً , فلما كان الليلة الثانية أتاني فضربني برجله , وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول: (عجبْتُ للجنّ وتخيارها ... وشدِّها العيس بأكوارها.) (تهوي إلى مكة تبغي الهدي ... ما مؤمن الجن ككفّارِها) (فارحلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ ... ما بين رابيها وأحجارها.) فقلت له دعني فإني أمسيت ناعساً , ولم أرفع بما قال رأساً , فلما كان الليلة الثالثة أتاني وضربني برجله , وقال قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل , إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته , ثم أنشأ يقول: (عجبت للجن وتحساسها ... وشدِّها العيسَ بأحْلاسها.) (تهوي إلى مكة تبغي الهُدي ... ما خَيِّرُ الجنّ كأنجاسها.) (فارحلْ إلى الصفوة من هاشم ... واسم بيديْك إلى رأسها.) قال: فأصبحت قد امتحن الله قلبي بالإسلام , فرحلتُ ناقتي فأتيت المدينة , فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه , فقلت اسمع مقالتي يا رسول اللَّه , قال: هات , فأنشأت أقول: (أتاني نجيّ بين هدءٍ ورقْدةٍ ... ولم يك فيما قد تلوْتُ بكاذبِ) (ثلاث ليال قوله كل ليلةٍ ... أتاك رسولٌ من لؤيّ بن غالب)

(فشمّرتُ من ذيلي الإزار ووسطت ... بي الذملُ الوجناء بين السباسِب) (فأشهَدُ أن اللَّه لا شيءَ غيرهُ ... وأنك مأمولٌ على كل غالبِ.) (وأنك أدني المرسلين وسيلةً ... إلى اللَّه يا بن الأكرمين الأطايب.) (فمُرنْا بما يأتيك يا خيرَ من مشى ... وإن كانَ فيما جاءَ شيبُ الذوائب.) (وكن لي شفيعاً يومَ لا ذو شفاعةٍ ... سِواك بمغنٍ عن سوادِ بن قارب.) ) ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرحاً شديداً , حتى رئي الفرح في وجوههم , قال: فوثب عمر فالتزمه وقال: قد كنت أشتهي أن أسمع منك هذا الحديث , فهل يأتيك رئيك من الجن اليوم؟ قال: [أما] وقد قرأت القرآن فلا , ونعم العوض كتاب اللَّه عن الجن. {وأنّا مِنّا المسْلِمونَ ومِنّا القاسِطونَ} وهذا إخبار عن قول الجن بحال من فيهم من مؤمن وكافر , والقاسط: الجائر , لأنه عادل عن الحق , ونظيره الترِب والمُتْرِب , فالترِب الفقير , لأن ذهاب ماله أقعده على التراب , والمترب الغني لأن كثرة ماله قد صار كالتراب. وفي المراد بالقاسطين ثلاثة أوجه: أحدها: الخاسرون , قاله قتادة. الثاني: الفاجرون , قاله ابن زيد. الثالث: الناكثون , قاله الضحاك. {وأن لو استقاموا على الطريقة} ذكر ابن بحر أن كل ما في هذه السورة من (إن) المكسورة المثقلة فهو حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن فرجعوا إلى قومهم منذرين , وكل ما فيها من (أن) المفتوحة المخففة أو المثقلة فهو من وحي الرسول. وفي هذه الاستقامة قولان: أحدهما: أنها الإقامة على طريق الكفر والضلالة , قاله محمد بن كعب وأبو مجلز وغيرهما. الثاني: الاستقامة على الهدى والطاعة , قاله ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد فمن ذهب إلى أن المراد الإقامة على الكفر والضلال فلهم في قوله {لأَسْقَيْناهم ماءً غَدَقاً} وجهان:

أحدهما: بلوناهم بكثرة الماء الغدق حتى يهلكوا كما هلك قوم نوح بالغرق , وهذا قول محمد بن كعب. الثاني: لأسقيناهم ماء غدق ينبت به زرعهم ويكثر مالهم. {لِنَفْتِنَهم فيه} فيكون زيادة في البلوى , حكى السدي عن عمر في قوله (لأسقيناهم ماء غدقاً) أنه قال: حيثما كان الماء كان المال , وحيثما كان المال كانت الفتنة , فاحتملت الفتنة ها هنا وجهين: أحدهما: افتننان أنفسهم. الثاني: وقوع الفتنة والشر من أجله. وأما من ذهب إلى أن المراد الاستقامة على الهدى والطاعة فلهم في تأويل قوله (لأسقيناهم ماءً غدقاً) أربعة أوجه: أحدها: معناه لهديناهم الصراط المستقيم , قاله ابن عباس. الثاني: لأوسعنا عليهم في الدنيا , قاله قتادة. الثالث: لأعطيناهم عيشاً رغداً , قاله أبو العالية. الرابع: أنه المال الواسع , لما فيه من النعم عليهم بحياة النفوس وخصب الزروع , قاله أبو مالك والضحاك وابن زيد. وفي الغدق وجهان: أحدهما: أنه العذب المعين , قاله ابن عباس , قاله أمية بن أبي الصلت: (مِزاجُها سلسبيلٌ ماؤها غَدَقٌ ... عَذْبُ المذاقةِ لا مِلْحٌ ولا كدرٌ) الثاني: أنه الواسع الكثير , قاله مجاهد , ومنه قول كثير: (وهبتُ لسُعْدَى ماءه ونباته ... فما كل ذي وُدٍّ لمن وَدَّ واهبُ.) (لتروى به سُعدى ويروى محلّها ... وتغْدقَ أعداد به ومشارب)

فعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار عن حالهم في الدنيا. الثاني: أنه إخبار عن حالهم في الآخرة لنفتنهم فيه. فإن قيل إن هذا وارد في أهل الكفر والضلال كان في تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: افتتان أنفسهم بزينة الدنيا. الثاني: وقوع الفتنة والاختلاف بينهم بكثرة المال. الثالث: وقوع العذاب بهم كما قال تعالى: {يوم هم على النار يُفْتًنون} [الذاريات: 13] أي يعذبون. وإن قيل إنه وارد في أهل الهدى والطاعة فهو على ما قدمنا من الوجهين. وهل هو اختبارهم في الدنيا ففي تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: لنختبرهم به , قاله ابن زيد. الثاني: لنطهرهم من دنس الكفر. الثالث: لنخرجهم به من الشدة والجدب إلى السعة والخصب. فإن قيل إنه إخبار عمّا لهم في الآخرة ففي تأويله وجهان: أحدهما: لنخلصهم وننجيهم , مأخوذ من فَتَن الذهب إذا خلّصه مِن غشه بالنار كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {وفَتَنّاك فُتوناً} [طه: 40] أي خلصناك من فرعون. الثاني: معناه لنصرفنهم عن النار , كما قال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أَوْحَينْا إليك لتفْتري علينا غيره} [الإسراء: 73] أي ليصرفونك {ومَنْ يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربِّه} قال ابن زيد: يعني القرآن وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما: عن القبول , إن قيل إنها من أهل الكفر. الثاني: عن العمل , إن قيل إنها من المؤمنين. {يَسْلُكْهُ عذاباً صَعَداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جب في النار , قاله أبو سعيد. الثاني: جبل في النار إذا وضع يده عليه ذابت , وإذا رفعها عادت , وهو مأثور , وهذان الوجهان من عذاب أهل الضلال.

والوجه الثالث: أنه مشقة من العذاب يتصعد , قاله مجاهد.

18

{وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا} {وأنَّ المساجدَ للَّهِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: يعني الصلوات للَّه , قاله ابن شجرة. الثاني: أنها الأعضاء التي يسجد عليها للَّه , قاله الربيع. الثالث: أنها المساجد التي هي بيوت اللَّه للصلوات , قاله ابن عباس. الرابع: أنه كل موضع صلى فيه الإنسان , فإنه لأجل السجود فيه يسمى مسجداً. {فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحَداً} أي فلا تعبدوا معه غيره , وفي سببه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما حكاه الأعمش أن الجن قالت: يا رسول الله ائذن لنا نشهد معك الصلاة في مسجدك , فنزلت هذه الآية. الثاني: ما حكاه أبو جعفر محمد بن علّي أن الحمس من مشركي أهل مكة وهم كنانة وعامر وقريش كانوا يُلبّون حول البيت: لبيّك اللهم لبيّك , لبيّك لا شريك

لك , إلا شريكاً هو لك , تملكه وما ملك , فأنزل اللَّه هذه الآية نهياً أن يجعل للَّه شريكاً , وروى الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى وقال: (وأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً) اللهم أنا عبدك وزائرك , وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار (وإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال:) اللهم صُبَّ الخير صبّاً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الخير جداً (. {وأنه لما قام عبدُ اللَّهِ يدعوه} يعني محمداً , وفيه وجهان: أحدهما: أنه قام إلى الصلاة يدعو ربه فيها , وقام أصحابه خلفه مؤتمين , فعجبت الجن من طواعية أصحابه له , قاله ابن عباس. الثاني: أنه قام إلى اليهود داعياً لهم إلى اللَّه , رواه ابن جريج. {كادوا يكونون عليه لِبَداً} فيه وجهان: أحدهما: يعني أعواناً , قاله ابن عباس. الثاني: جماعات بعضها فوق بعض , وهو معنى قول مجاهد , ومنه اللبد لاجتماع الصوف بعضه على بعض , وقال ذو الرمة: (ومنهلٍ آجنٍ قفرٍ مواردهُ ... خُضْرٍ كواكبُه مِن عَرْمَصٍ لَبِدِ.) وفي كونهم عليه لبداً ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم المسلمون في اجتماعهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن جبير. الثاني: أنهم الجن حين استمعوا من رسول اللَّه قراءته , قاله الزبير بن العوام. الثالث: أنهم الجن والإنس في تعاونهم على رسول اللَّه في الشرك , قاله قتادة. {قلْ إني لا أَمْلِكُ لكم ضَرّاً ولا رَشَداً} يعني ضراً لمن آمن ولا رشداً لمن كفر , وفيه ثلاثة أوجه:

أحدها: عذاباً ولا نعيماً. الثاني: موتاً ولا حياة. الثالث: ضلالاً ولا هدى. {قل إني لن يُجيرَني مِنَ اللَّهِ أَحدٌ} روى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال: انطلقتُ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط خطاً ثم تقدم عليهم فازدحموا عليه , فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أزجلهم عنك , فقال: (إني لن يجيرني من اللَّه أحد) ويحتمل وجهين: أحدهما: لن يجيرني مع إجارة اللَّه لي أحد. الثاني: لن يجيرني مما قدره الله علي أحد. {ولن أجدَ مِن دُونهِ مَلْتَحداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني ملجأ ولا حرزاً , قاله قتادة. الثاني: ولياً ولا مولى , رواه أبو سعيد. الثالث: مذهباً ولا مسلكاً , حكاه ابن شَجرة , ومنه قول الشاعر: (يا لهفَ نفْسي ولهفي غيرُ مُجْديةٍ ... عني وما مِن قضاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ.) {إلا بلاغاً مِن اللَّه ورسالاتِه} فيه وجهان: أحدهما: لا أملك ضراً ولا رشداً إلا أن أبلغكم رسالات اللَّه , قاله الكلبي. الثاني: لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالات اللَّه , قاله مقاتل. روى مكحول عن ابن مسعود: أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة , وكانوا سبعين ألفاً , وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر.

25

{قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين

يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} {عالِمُ الغيْب} فيه أربعة أوجه: أحدها: عالم السر , قاله ابن عباس. الثاني: ما لم تروه مما غاب عنكم , قاله الحسن. الثالث: أن الغيب القرآن , قاله ابن زيد. الرابع: أن الغيب القيامة وما يكون فيها , حكاه ابن أبي حاتم. {فلا يُظْهِرُ على غيْبه أَحَداً , إلا من ارتضى من رسول} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلا من ارتضى من رسول الله هو جبريل , قاله ابن جبير. الثاني: إلا من ارتضى من نبي فيما يطلعه عليه من غيب , قاله قتادة. {فإنه يَسْلُكُ مِن بَيْن يَدَيْه ومِنْ خَلْفه رَصَداً} فيه قولان: أحدهما: الطريق , ويكون معناه فإنه يجعل له إلى علم بعض ما كان قبله وما يكون بعده طريقاً , قاله ابن بحر. الثاني: أن الرصد الملائكة , وفيهم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الجن والشياطين من أمامه وورائه , قاله ابن عباس وابن زيد , قال قتادة: هم أربعة. الثاني: أنهم يحفظون الوحي فما جاء من الله قالوا إنه من عند الله , وما ألقاه الشيطان قالوا إنه من الشيطان , قاله السدي. الثالث: يحفظون جبريل إذا نزل بالوحي من السماء أن يسمعه الجن إذا

استرقوا السمع ليلقوه إلى كهنتهم قبل أن يبلغه الرسول إلى أمته , قاله الفراء. {ليعْلَمَ أنْ قد أبْلَغوا رسالاتِ ربِّهم} فيه خمسة أوجه: أحدها: ليعلم محمد أن قد بلغ جبريل إليه رسالات ربه , قاله ابن جبير , وقال: ما نزل جبريل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة من الملائكة. الثاني: ليعلم محمد أن الرسل قبله قد بلغت رسالات الله وحفظت , قاله قتادة. الثالث: ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغت عن ربها ما أمرت به , قاله مجاهد. الرابع: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل الله عليهم , ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم , قاله ابن قتيبة. الخامس: ليعلم الله أن رسله قد بلغوا عنه رسالاته , لأنبيائه , قاله الزجاج. {وأحاط بما لديهم} قال ابن جريج: أحاط علماً. {وأحْصى كُلَّ شيءٍ عَدَداً} يعني من خلقه الذي يعزب إحصاؤه عن غيره.

سورة المزمل مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين منها: قوله {واصبر على ما يقولون} والتي بعدها. بسم الله الرحمن الرحيم

المزمل

{يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} قوله تعالى: {يا أيها المزمِّلُ} قال الأخفش: أصله المتزمل فأدغم التاء في الزاي , وكذا المدثر. وفي أصل المزمل: قولان: أحدهما: المحتمل , يقال زمل الشيء إذا حمله , ومنه الزاملة التي تحمل القماش. الثاني: المزمل هو المتلفف , قال امرؤ القيس:

(كأن ثبيراً في عرائين وبْله ... كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مُزَمّلِ.) وفيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يا أيها المزمل بالنبوة , قاله عكرمة. الثاني: بالقرآن , قاله ابن عباس. الثالث: بثيابه , قاله قتادة. قال إبراهيم: نزلت عليه وهو في قطيفة. {قُمِ الليلَ إلا قليلاً} يعني صلِّ الليل إلا قليلاً , وفيه وجهان: أحدهما: إلا قليلاً من أعداد الليالي لا تقمها. الثاني: إلا قليلاً من زمان كل ليلة لا تقمه وقد كان فرضاً عليه. وفي فرضه على مَنْ سواه من أُمّته قولان: أحدهما: فرض عليه دونهم لتوجه الخطاب إليه , ويشبه أن يكون قول سعيد ابن جبير. الثاني: أنه فرض عيله وعليهم فقاموا حتى ورمت أقدامهم , قاله ابن عباس وعائشة. وقال ابن عباس: كانوا يقومون نحو قيامه في شهر رمضان ثم نسخ فرض قيامه على الأمة , واختلف بماذا نسخ عنهم على قولين: أحدهما: بالصلوات الخمس وهو قول عائشة. الثاني: بآخر السورة , قاله ابن عباس. واختلفوا من مدة فرضه إلى أن نسخ على قولين: أحدهما: سنة , قال ابن عباس: كان بين أول المزمل وآخرها سنة. الثاني: ستة عشر شهراً , قالته عائشة , فهذا حكم قيامه في فرضه ونسخه على الأمة. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضاً عليه , وفي نسخه عنه قولان: أحدهما: المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين. الثاني: أنها عشر سنين إلى أن خفف عنها بالنسخ زيادة في التكليف لتميزه بفضل الرسالة , قاله سعيد بن جبير.

قوله (قم الليلَ إلاّ قليلاً) لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن فاستثنى منه القليل لراحة الجسد , والقليل من الشيء ما دون النصف. حكي عن وهب بن منبه أنه قال: القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل: القليل الثلث. وَحدُّ الليل ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني. ثم قال تعالى: {نِصْفَهُ أو انقُصْ مِنْهُ قليلاً} فكان ذلك تخفيفاً إذا لم يكن زمان القيام محدوداً , فقام الناس حتى ورمت أقدامهم , فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الليل فقال: أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون , فإن اللَّه لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل , وخير الأعمال ما ديم عليه. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (عَلِم أنْ لن تُحْصوه فتابَ عليكم فاقْرَؤوا ما تيسّر من القرآن). {أوزِدْ عليه ورَتِّل القرآنَ تَرْتيلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بيّن القرآن تبياناً , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم. الثاني: فسّرْه تفسيراً , قاله ابن جبير. الثالث: أن تقرأه على نظمه وتواليه , لا تغير لفظاً ولا تقدم مؤخراً مأخوذ من ترتيل الأسنان إذا استوى نبتها وحسن انتظامها , قاله ابن بحر. {إنّا سنُلْقي عليكَ قوْلاً ثَقيلاً} وهو القرآن , وفي كونه ثقيلاً أربعة تأويلات: أحدها: أنه إذا أوحي إليه كان ثقيلاً عليه لا يقدر على الحركة حتى ينجلي عنه , وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير. الثاني: العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه وحلاله وحرامه , قاله الحسن وقتادة. الثالث: أنه في المزان يوم القيامة ثقيل , قاله ابن زبير.

الرابع: ثقل بمعنى كريم , مأخوذ من قولهم: فلان ثقيل عليّ أي كريم عليّ , قاله السدي. ويحتمل تأويلً خامساً: أن يكون ثقيل بمعنى ثابت , لثبوت الثقيل في محله , ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً. {إنّ ناشئةَ الليل هي أَشدُّ وطْئاً} فيها ستة تأويلات: أحدها: أنه قيام الليل , بالحبشية , قاله ابن مسعود. الثاني: أنه ما بين المغرب والعشاء , قاله أنس بن مالك. الثالث: ما بعد العشاء الآخرة , قاله الحسن ومجاهد. الرابع: أنها ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة , قاله ابن قتيبة. الخامس: أنه بدء الليل , قاله عطاء وعكرمة. السادس: أن الليل كل ناشئة , قال ابن عباس: لأنه ينشأ بعد النهار. وفي (أشد وطْئاً) خمسة تأويلات: أحدها: مواطأة قلبك وسمعك وبصرك , قاله مجاهد. الثاني: مواطأة قولك لعملك , وهو مأثور. الثالث: مواطأة عملك لفراغك , وهو محتمل. الرابع: أشد نشاطاً , قاله الكلبي , لأنه زمان راحتك. الخامس: قاله عبادة: أشد وأثبت وأحفظ للقراءة. وفي قوله: {وأَقْوَمُ قِيلاً} ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه أبلغ في الخير وأمعن في العدل , قاله الحسن. الثاني: أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم , قاله مجاهد وقتادة , وقرأ أنس بن مالك (وأهيأ قيلاً) وقال أهيأ وأقوم سواء. الثالث: أنه أعجل إجابة للدعاء , حكاه ابن شجرة. {إن لك في النهارِ سَبْحاً طويلاً} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني فراغاً طوياً لنَومك وراحتك , فاجعل ناشئة الليل لعبادتك , قاله ابن عباس وعطاء.

الثاني: دعاء كثيراً , قاله السدي وابن زيد والسبح بكلامهم هو الذهاب , ومنه سبح السابح في الماء. {واذكر اسم ربك} فيه وجهان: أحدهما: اقصد بعملك وجه ربك. الثاني: أنه إذا أردت القراءة فابدأ بسم الله الرحمن الرحيم , قاله ابن بحر. ويحتمل وجهاً ثالثاً: واذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتتوفر على طاعته وتعدل عن معصيته. {وتَبتَّلْ إليه تَبْتِيلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أخلص إليه إخلاصاً , قاله مجاهد. الثاني: تعبد له تعبداً , قاله ابن زيد. الثالث: انقطع إليه انقطاعاً , قاله أبو جعفر الطبري , ومنه مريم البتول لانقطاعها إلى الله تعالى , وجاء في الحديث النهي عن التبتل الذي هو الانقطاع عن الناس والجماعات. الرابع: وتضرّع إليه تضرّعاً. {ربُّ المشْرِقِ والمْغرِبِ} فيه قولان: أحدهما: رب العالَمِ بما فيه لأنهم بين المشرق والمغرب , قاله ابن بحر. الثاني: يعني مشرق الشمس ومغربها. وفي المراد بالمشرق والمغرب ثلاثة أوجه: أحدها: أنه استواء الليل والنهار , قاله وهب بن منبه. الثاني: أنه دجنة الليل ووجه النهار , قاله عكرمة. الثالث: أنه أول النهار وآخره , لأن نصف النهار أوله فأضيف إلى المشرق , ونصفه آخره فأضيف إلى المغرب.

{فاتّخِذْهُ وَكيلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مُعيناً. الثاني: كفيلاً. الثالث: حافظاً.

10

{واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا} {واهْجُرهم هَجْراً جَميلاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: اصفح عنهم وقل سلام , قاله ابن جريج. الثاني: أن يعرض عن سفههم ويريهم صغر عداوتهم. الثالث: أنه الهجر الخالي من ذم وإساءة. وهذا الهجر الجميل قبل الإذن في السيف. {وذَرْني والمُكَذِّبينَ أُولي النّعْمةِ} قال يحيى بن سلام: بلغني أنهم بنو المغيرة , وقال سعيد بن جبير: أُخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً من قريش. ويحتمل قوله تعالى: (أولي النّعْمةِ) ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قال تعريفاً لهم إن المبالغين في التكذيب هم أولي النعمة. الثاني: أنه قال ذلك تعليلاً , أي الذين أطغى هم أولوا النعمة. الثالث: أنه قال توبيخاًً أنهم كذبوا ولم يشكروا من أولاهم النعمة. {ومهِّلْهم قليلاً} قال ابن جريج: إلى السيف.

{إنّ لدينا أنْكالاً وجَحيماً} في (أنكالاً) ثلاثة أوجه: أحدها: أغلالاً , قاله الكلبي. الثاني: أنها القيود , قاله الأخفش وقطرب , قالت الخنساء: (دَعاك فَقَطّعْتَ أنكاله ... وقد كُنّ قبْلك لا تقطع.) الثالث: أنها أنواع العذاب الشديد , قاله مقاتل , وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يحب النكل على النكل , قيل: وما النكل؟ قال: الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب) ومن ذلك سمي القيد نكلاً لقوته , وكذلك الغل , وكل عذاب قوي واشتد. {وطعاماً ذا غُصَّةٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولايخرج , قاله ابن عباس. الثاني: أنها شجرة الزقوم , قاله مجاهد. {وكانت الجبالُ كَثيباً مَهيلاً} فيه وجهان: أحدهما: رملاً سائلاً , قاله ابن عباس. الثاني: أن المهيل الذي إذا وطئه القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال أعلاه , قاله الضحاك والكلبي. {فأخَذْناه أَخْذاً وبيلاً} فيه أربعة تأويلات: أحدهما: شديداً , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: متتابعاً , قاله ابن زيد. الثالث: ثقيلاً غليظاً , ومنه قيل للمطر العظيم وابل , قاله الزجاج. الرابع: مهلكاً , ومنه قول الشاعر: (أكْلتِ بَنيكِ أَكْلَ الضّبِّ حتى ... وَجْدتِ مرارةَ [الكلإ الوبيل].) {فكيف تتّقونَ} يعني يوم القيامة.

{إن كفَرتم يوماً يجْعَل الولدان شيباً} الشيب: جمع أشيب , والأشيب والأشمط الذي اختلط سواد شعره ببياضه , وهو الحين الذي يقلع فيه ذو التصابي عن لهوه , قال الشاعر: (طرْبتَ وما بك ما يُطرِب ... وهل يلعب الرجلُ الأَشْيَبُ) وإنما شاب الولدان في يوم القيامة من هوْله. {السماءُ مُنفطرٌ به} فيه أربعة أوجه: أحدها: ممتلئة به , قاله ابن عباس. الثاني: مثقلة , قاله مجاهد. الثالث: مخزونة به , قاله الحسن. الرابع: منشقة من عظمته وشدته , قاله ابن زيد. {وكانَ وعْدُه مَفْعولاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وعده بأن السماء منفطر به , وكون الجبال كثيباً مهيلاً , وأن يجعل الولدان شيباً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: وعده بأن يظهر دينه على الدين كله , قاله مقاتل. الثالث: وعده بما بشّر وأنذر من ثوابه وعقابه. وفي المعنى المكنى عنه في قوله (به) وجهان: أحدهما: أن السماء منفطرة باليوم الذي يجعل الولدان شيباً , فيكون اليوم قد جعل الولدان شيباً , وجعل السماء منفطرة ويكون انفطارها للفناء. الثاني: معناه أن السماء منفطرة بما ينزل منها بأن يوم القيامة يجعل الولدان شيباً , ويكون انفطارها بانفتاحها لنزول هذا القضاء منها.

19

{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم

مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} { ... . واللَّهُ يُقدِّرُ الليلَ والنهارَ} يعني يقدر ساعتهما , فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: تقديرهما لأعمال عباده. الثاني: لقضائه في خلْقه. {عَلِمَ أن لن تُحْصُوهُ} فيه وجهان: أحدهما: لن تطيقوا قيام الليل , قاله الحسن. الثاني: يريد تقدير نصف الليل وثلثه وربعه , قاله الضحاك. {فتابَ عليكم} يحتمل وجهين: أحدهما: فتاب عليكم من تقصيركم فيما مضى , فاقرؤوا في المستبقل ما تيسر. الثاني: فخفف عنكم. {فاقْرءُوا ما تيسّر مِنَ القُرآنِ} فيه وجهان: أحدهما: فصلّوا ما تيسّر من الصلاة , فعبر عن الصلاة بالقرآن لما يتضمنها من القرآن. فعلى هذا يحتمل في المراد بما تيسر من الصلاة وجهان: أحدهما: ما يتطوع به من نوافله لأن الفرض المقدر لا يؤمر فيه بما تيسر. الثاني: أنه محمول على فروض الصلوات الخمس لانتقال الناس من قيام الليل إليها , ويكون قوله (ما تيسر) محمولاً على صفة الأداء في القوة والضعف , والصحة والمرض , ولا يكون محمولاً على العدد المقدر شرعاً. الثاني: أن المراد بذلك قراءة ما تيسر من القرآن حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ. فعلى هذا فيه وجهان:

أحدهما: أن المراد به قراءة القرآن في الصلاة فيكون الأمر به واجباً لوجوب القراءة في الصلاة. واختلف في قدر ما يلزمه أن يقرأ به من الصلاة , فقدره مالك والشافعي بفاتحة الكتاب , لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها , وقدرها أبو حنيفة بآية واحدة من أيّ القرآن كانت. والوجه الثاني: أن المراد به قراءة القرآن من غير الصلاة , فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولاً على الوجوب أو على الاستحباب؟ على وجهين: أحدهما: أنه محمول على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه , ودلائل التوحيد فيه وبعث الرسل , ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه , لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. الثاني: أنه محمول على الاستحباب دون الوجوب , وهذا قول الأكثرين لأنه لو وجب عليه أن يقرأه وجب عليه أن يحفظه. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقاويل: أحدها: جميع القرآن , لأن اللَّه تعالى قد يسره على عباده , قاله الضحاك. الثاني: ثلث القرآن , حكاه جويبر. الثالث: مائتا آية , قاله السدي. الرابع: مائة آية , قاله ابن عباس. الخامس: ثلاث آيات كأقصر سورة , قاله أبو خالد الكناني. {عَلِم أنْ سيكونُ منكم مَّرْضَى} ذكر الله أسباب التخفيف , فذكر منها المرض لأنه يُعجز. ثم قال: {وآخرون يَضْرِبون في الأرض} فيه وجهان: أحدهما: أنهم المسافرون , كما قال عز وجلّ: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}. الثاني: أنه التقلُّب للتجارة لقوله تعالى: {يبتغونَ من فضلِ اللَّه} , قاله ابن مسعود يرفعه , وهو قول السدي.

{وآخَرونَ يُقاتِلون في سبيل اللَّهِ} يعني في طاعته , وهم المجاهدون. {فاقْرؤوا ما تيسّر منه} نسخ ما فرضه في أول السورة من قيام الليل وجعل ما تيسر منه تطوعاً ونفلاً , لأن الفرض لا يؤمر فيه بفعل ما تيسر منه. وقد ذكرنا في أول السورة الأقاويل في مدة الفرض. {وأقيموا الصلاة} يعني المفروضة , وهي الخمس لوقتها. {وآتُوا الزكاةَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ها هنا طاعة اللَّه والإخلاص له , قاله ابن عباس. الثاني: أنها صدقة الفطر , قاله الحارث العكلي. الثالث: أنها زكاة الأموال كلها , قاله قتادة وعكرمة. {وأقْرِضوا اللَّه قَرْضاً حَسَناً} فيه خمسة تأويلات: أحدها: أنه النوافل بعد الفروض , قاله ابن زيد. الثاني: قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر , قاله ابن حبان. الثالث: النفقة على الأهل , قاله زيد بن أسلم. الرابع: النفقة من سبيل الله , وهذا قول عمر رضي الله عنه. الخامس: أنه أمر بفعل جميع الطاعات التي يستحق عليها الثواب. {تجدُوه عِندَ اللهِ} يعني تجدوا ثوابه عند الله {هو خيراً} يعني مما أعطيتم وفعلتم. {وأعظم أجرا} قال أبو هريرة: الجنة. ويحتمل أن يكون (أعظم أجرا) الإعطاء بالحسنة عشراً. {واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} يعني من ذنوبكم. {إنّ اللَّه غَفورٌ} لما كان قبل التوبة. {رحيمُ} بكم بعدها , قاله سعيد بن جبير.

سورة المدثر بسم الله الرحمن الرحيم

المدثر

{يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} قوله تعالى: {يا أيها المدَّثِّر} فيه قولان: أحدهما: يا أيها المدثر بثيابه , قاله قتادة. الثاني: بالنبوة وأثقالها , قاله عكرمة. {قم} من نومك {فأنذر} قومك عذاب ربك. ويحتمل وجهاً ثالثاً: يا أيها الكاتم لنبوته اجهر بإنذارك. ويحتمل هذا الإنذار وجهين: أحدهما: إعلامهم بنبوته لأنه مقدمة الرسالة. الثاني: دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود بها. قال ابن عباس وجابر هي أول سورة نزلت. {وثيابَك فَطِّهرْ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن المراد بالثياب العمل. الثاني: القلب.

الثالث: النفْس. الرابع: النساء والزوجات. الخامس: الثياب الملبوسات على الظاهر. فمن ذهب على أن المراد بها العمل قال تأويل الآية: وعملك فأصلح , قاله مجاهد , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات فيها) يعني عمله الصالح والطالح. ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب القلب فالشاهد عليه قول امرىء القيس: (وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ ... فسلّي ثيابي من ثيابكِ تنسلِ) ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي , قاله ابن عباس وقتادة. الثاني: وقلبك فطهر من الغدر وهذا مروي عن ابن عباس , واستشهد بقول الشاعر: (فإني بحْمدِ الله لا ثوْبَ فاجر ... لبست ولا مِن غَدْرةٍ أَتَقَنّع.) ومن ذهب إلى أن المراد بالثياب النفس فلأنها لابسة الثياب , فكنى عنها بالثياب , ولهم في تأويل الآية ثلاثة أوجه: أحدها: معناه ونفسك فطهر مما نسبك إليه المشركون من شعر أو سحر أو كهانة أو جنون , رواه ابن أبي نجيح وأبو يحيى عن مجاهد. الثاني: ونفسك فطهرها مما كنت تشكو منه وتحذر , من قول الوليد بن المغيرة , قاله عطاء. الثالث: ونفسك فطهرها من الخطايا , قاله عامر. ومن ذهب إلى أن المراد النساء والزوجات فلقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم

لباس لهن} [البقرة: 187] ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف. الثاني: الاستمتاع بهن من القبل دون الدبر , وفي الطهر دون الحيض , حكاهما ابن بحر. ومن ذهب إلى أن المراد بها الثياب الملبوسة على الظاهر , فلهم في تأويله أربعة أوجه: أحدها: معناه وثيابك فأنْقِ , رواه عطاء عن ابن عباس , ومنه قول امرىء القيس: (ثياب بني عَوفٍ طهارى نقيّةٌ ... وأَوْجُهُهُمْ عند المشاهد غُرّان) الثاني: وثيابك فشمّر وقصّر , قاله طاووس. الثالث: وثيابك فطهر من النجاسات بالماء , قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء. الرابع: معناه لا تلبس ثياباً إلا [من] كسب حلال مطهرة من الحرام. {والرُّجْزَ فاهْجُرْ} فيه ستة تأويلات: أحدها: يعني الآثام والأصنام , قاله جابر وابن عباس وقتادة والسدي. الثاني: والشرك فاهجر، قاله ابن جبير. الثالث: والذنب فاهجر , قاله الحسن. الرابع: والإثم فاهجر , قال السدي. الخامس: والعذاب فاهجر , حكاه أسباط. السادس: والظلم فاهجر , ومنه قول رؤبة بن العجاج. (كم رامنا من ذي عديد منه ... حتى وَقَمْنا كيدَه بالرجزِ.) قاله السدي: الرَّجز بنصب الراء: الوعيد. {ولا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} فيه أربعة تأويلات:

أحدها: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها , قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة , قال الضحاك: هذا حرمه الله تعالى على رسول وأباحه لأمته. الثاني: معناه لا تمنن بعملك تستكثر على ربك , قاله الحسن. الثالث: معناه لا تمنن بالنبوة على الناس تأخذ عليها منهم أجراً , قاله ابن زيد. الرابع: معناه لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه , قاله مجاهد. ويحتمل تأويلاً خامساً: لا تفعل الخير لترائي به الناس. {ولِربِّك فاصْبِرْ} أما قوله (وَلِرَبِّكَ) ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لأمر ربك. الثاني: لوعد ربك. الثالث: لوجه ربك. وفي قوله (فاصْبِرْ سبعة تأويلات: أحدها: فاصْبِرْ على ما لاقيت من الأذى والمكروه قاله مجاهد. الثاني: على محاربة العرب ثم العجم , قاله ابن زيد. الثالث: على الحق فلا يكن أحد أفضل عندك فيه من أحد , قاله السدي. الرابع: فاصْبِرْ على عطيتك لله , قاله إبراهيم. الخامس: فاصْبِرْ على الوعظ لوجه الله , قاله عطاء. السادس: على انتظام ثواب عملك من الله تعالى , وهو معنى قول ابن شجرة. السابع: على ما أمرك الله من أداء الرسالة وتعليم الدين , حكاه ابن عيسى. {فإذا نُقِرَ في الناقُورِ} فيه تأويلان: أحدهما: يعني نفخ في الصور , قاله ابن عباس , وهل المراد النفخة الأولى أو الثانية؟ قولان: أحدهما: الأولى. والثاني: الثانية. - الثاني: أن الناقور القلب يجزع إذا دعي الإنسان للحساب , حكاه ابن كامل. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن الناقور صحف الأعمال إذا نشرت للعرض.

11

{ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر} {ذرْني ومَنْ خَلَقْتُ وَحيداً} قال المفسرون يعني الوليد بن المغيرة المخزومي وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه , وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة لأذى الرسول. وفي قوله تعالى: (وحيداً) تأويلان: أحدهما: أن الله تفرد بخلقه وحده. الثاني: خلقه وحيداً في بطن أُمّه لا مال له ولا ولد , قاله مجاهد , فعلى هذا الوجه في المراد بخلقه وحيداً وجهان: أحدهما: أن يعلم به قدر النعمةعليه فيما أعطي من المال والولد. الثاني: أن يدله بذلك على أنه يبعث وحيداً كما خلق وحيداً. {وجَعَلْتُ له مالاً مَمْدوداً} فيه ثمانية أقاويل: أحدها: ألف دينار , قاله ابن عباس. الثاني: أربعة الآف دينار , قاله سفيان. الثالث: ستة الآف دينار , قاله قتادة. الرابع: مائة ألف دينار , قاله مجاهد. الخامس: أنها أرض يقال لها ميثاق , وهذا مروي عن مجاهد أيضاً. السادس: أنها غلة شهر بشهر , قاله عمر رضي الله عنه. السابع: أنه الذي لا ينقطع شتاء ولا صيفاً , قاله السدي. الثامن: أنها الأنعام التي يمتد سيرها في أقطار الأرض للمرعى والسعة , قاله ابن بحر.

ويحتمل تاسعاً: أن سيتوعب وجوه المكاسب فيجمع بين زيادة الزراعة وكسب التجارة ونتاج المواشي فيمد بعضها ببعض لأن لكل مكسب وقتاً. ويحتمل عاشراً: أنه الذي يتكون نماؤه من أصله كالنخل والشجر. {وبَنينَ شُهوداً} اختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم كانوا عشرة , قاله السدي. الثاني: قال الضحاك: كان له سبعة ولدوا بمكة , وخمسة ولدوا بالطائف. الثالث: أنهم كانوا ثلاثة عشر رجلاً , قاله ابن جبير. وفي قوله (شهوداً) ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم حضور معه لا يغيبون عنه , قاله السدي. الثاني: أنه إذا ذكر ذكروا معه , قاله ابن عباس. الثالث: أنهم كلهم رب بيت , قاله ابن جبير. ويحتمل رابعاً: أنهم قد صاروا مثله من شهود ما كان يشهده , والقيام بما كان يباشره. {ومَهّدْت له تَمْهيداً} فيه وجهان: أحدها: مهدت له من المال والولد , قاله مجاهد. الثاني: مهدت له الرياسة في قومه , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: أنه مهد له الأمر في وطنه حتى لا ينزعج عنه بخوف ولا حاجة. {ثم يَطْمَعُ أنْ أَزيدَ} فيه وجهان: أحدهما: ثم يطمع أن أدخله الجنة , كلاّ , قاله الحسن. الثاني: أن أزيده من المال والولد (كلاّ) قال ابن عباس: فلم يزل النقصان في ماله وولده. ويحتمل وجهاً ثالثاً: ثم يطمع أن أنصره على كفره. {كلاّ إنه كان لآياتِنَا عَنيداً} في المراد (بآياتنا) ثلاثة أقاويل: أحدها: القرآن , قاله ابن جبير. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله السدي.

الثالث: الحق , قاله مجاهد. وفي قوله (عنيداً) أربعة تأويلات: أحدها: معاند , قاله مجاهد وأبو عبيدة , وأنشد قول الحارثي: (إذا نزلت فاجعلاني وسطا ... إني كبير لا أطيق العُنَّدا) الثاني: مباعد , قاله أبو صالح , ومنه قول الشاعر: (أرانا على حال تفرِّق بيننا ... نوى غُرْبَةٍ إنّ الفراق عنود.) الثالث: جاحد , قاله قتادة. الرابع: مُعْرض , قاله مقاتل. ويحتمل تأويلاً خامساً: أنه المجاهر بعداوته. {سأرْهِقُه صَعُوداً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: مشقة من العذاب , قاله قتادة. الثاني: أنه عذاب لا راحة فيه , قاله الحسن. الثالث: أنها صخرة في النار ملساء يكلف أن يصعدها , فإذا صعدها زلق منها , وهذا قول السدي. الرابع: ما رواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم (سأرهقه صعودا) قال: (هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده , فإذا وضع يده عيله ذابت , وإذا رفعها عادت , وإذا وضع رجله ذابت , وإذا رفعها عادت). ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل قولاً خامساً: أنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه. {إنه فكَّر وقَدَّر} قال قتادة: زعموا أن الوليد بن المغيرة قال: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل فإذا هو ليس بشعر , وإن له لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإنه ليعلو وما يُعْلَى , وما أشك أنه سحر , فهو معنى قوله (فكر وقدّر) أي فكر في القرآن فيما إنه سحر وليس بشعر.

ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون فكّر في العداوة وقدّر في المجاهدة. {فقُتِلَ كيف قَدَّرَ} فيه وجهان: أحدهما: أي عوقب ثم عوقب , فيكون العقاب تكرر عليه مرة بعد أخرى. الثاني: أي لعن ثم لعن كيف قدر أنه ليس بشعر ولا كهانة , وأنه سحر. {ثم نَظَرَ} يعني الوليد بن المغيرة , وفي ما نظر فيه وجهان: أحدهما: أنه نظر في الوحي المنزل من القرآن , قاله مقاتل. الثاني: أنه نظر إلى بني هاشم حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر , ليعلم ما عندهم. ويحتمل ثالثاً: ثم نظر إلى نفسه فيما أُعطِي من المال والولد فطغى وتجبر. {ثم عَبَسَ وبَسَرَ} أما عبس فهو قبض ما بين عينينه , وبَسَرَ فيه وجهان: أحدهما: كلح وجهه , قاله قتادة , ومنه قول بشر بن أبي خازم: (صبحنا تميماً غداة الجِفار ... بشهباءَ ملمومةٍ باسِرةَ) الثاني: تغيّر , قاله السدي , ومنه قول توبة: (وقد رابني منها صدودٌ رأيتُه ... وإعْراضها عن حاجتي وبُسورها.) واحتمل أن يكون قد عبس وبسر على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه. واحتمل أن يكون على من آمن به ونصره. وقيل إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحاورة , وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة. {ثم أَدْبَر واسْتَكْبَرَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أدبر عن الحق واستكبر عن الطاعة. الثاني: أدبر عن مقامه واستكبر في مقاله. {فقال إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤْثَر} قال ابن زيد: إن الوليد بن المغيرة قال: إنْ هذا القرآن إلا سحر يأثره محمد عن غيره فأخذه عمن تقدمه. ويحتمل وجهاً آخر: أن يكون معناه أن النفوس تؤثر لحلاوته فيها كالسحر.

{إنْ هذا إلا قَوْلَ البَشِرِ} أي ليس من كلام الله تعالى , قال السدي: يعنون أنه من قول أبي اليسر عَبْدٌ لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم , فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. {سأصْليه سَقَرَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه اسم من أسماء جهنم مأخوذ من قولهم: سقرته الشمس إذا آلمت دماغه , فسميت جهنم بذلك لشدة إيلامها. {وما أدراك ما سَقَر لا تُبقي ولا تذر} فيه وجهان: أحدهما: لا تبقي من فيها حياً , ولا تذره ميتاً , قاله مجاهد. الثاني: لا تبقي أحداً من أهلها أن تتناوله , ولا تذره من العذاب , حكاه ابن عيسى. ويحتمل وجهاً ثالثاً: لا تبقيه صحيحاً , ولا تذره مستريحاً. {لوّاحَةً للبَشَرِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: مغيرة لألوانهم , قال أبو رزين تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل. الثاني: تحرق البشر حتى تلوح العظم , قاله عطية. الثالث: أن بشرة أجسادهم تلوح على النار , قاله مجاهد. الرابع: أن اللواح شدة العطش , والمعنى أنها معطشة للبشر , أي لأهلها , قاله الأخفش , وأنشد: (سَقَتْني على لوْحٍ من الماءِ شَرْبةً ... سقاها به الله الرهامَ الغواديا.) يعني باللوح شدة العطش: ويحتمل خامساً: أنها تلوح للبشر بهولها حتى تكون أشد على من سبق إليها , وأسرّ لمن سلم منها. وفي البشر وجهان: أحدهما: أنهم الإنس من أهل النار , قالهالأخفش والأكثرون. الثاني: أنه جمع بشرة , وهي جلدة الإنسان الظاهرة , قاله مجاهد وقتادة.

{عليها تسعةَ عَشَرَ} هؤلاء خزنة جهنم وهم الزبانية , وعددهم هذا الذي ذكره الله تعالى , وروى عامر عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم , فأهوى بأصابع كفيه مرتين , فأمسك الإبهام في الثانية , وأخبر الله عنهم بهذا العدد , وكان الاقتصار عليه دون غيره من الأعداد إخباراً عمن وكل بها وهو هذا العدد , وموافقة لما نزل به التوراة والإنجيل من قبل. وقد يلوح لي في الاقتصار على هذا العدد معنى خفي يجوز أن يكون مراداً , وهو أن تسعة عشر عدد يجمع أكثر القليل من العدد وأقل الكثير , لأن العدد آحاد وعشرات ومئون وألوف , والآحاد أقل الأعداد , وأكثر الآحاد تسعة , وما سوى الآحاد كثير وأقل الكثير عشرة , فصارت التسعة عشر عدداً يجمع من الأعداد أكثر قليلها , وأقل كثيرها , فلذلك ما وقع عليها الاقتصار والله أعلم للنزول عن أقل القليل وأكثر الكثير فلم يبق إلا ما وصفت. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يكون الله حفظ جهنم حتى ضبطت وحفظت بمثل ما ضبطت به الأرض وحفظت به من الجبال حتى رست وثبتت , وجبال الأرض التي أرسيت بها واستقرت عليها تسعة عشر جبلاً , وإن شعب فروعها تحفظ جهنم بمثل هذا العدد , لأنها قرار لعُصاة الأرض من الإنس والجن , فحفظت مستقرهم في النار بمثل العدد الذي حفظ مستقرهم في الأرض , وحد الجبل ما أحاطت به أرض تتشعب فيها عروقه ظاهره ولا باطنه , وقد عد قوم جبال الأرض فإذا هي مائة وتسعون جبلاً , واعتبروا انقطاع عروقها رواسي وأوتاداً , فهذان وجهان يحتملهما الاستنباط , والله أعلم بصواب ما استأثر بعلمه. وذكر من يتعاطى العلوم العقلية وجهاً ثالثاً: أن الله تعالى حفظ نظام خلقه ودبر ما قضاه في عباده بتسعة عشر جعلها المدبرات أمراً وهي سبعة كواكب واثنا عشر

برجاً , فصار هذا العدد أصلاً في المحفوظات العامة , فلذلك حفظ جهنم , وهذا مدفوع بالشرع وإن راق ظاهره. ثم نعود إلى تفسير الآية , روى قتادة أن الله تعالى لما قال: (عليها تسعة عشر) قال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم أكثر منهم. قال السدي: وقال أبو الأشد بن الجمحي: لا يهولنكم التسعة عشر أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة , وبمنكبي الأيسر التسعة ثم تمرون إلى الجنة , يقولها مستهزئاً.

31

{وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} {وما جَعَلْنَا أصحابَ النارِ إلا ملائكةً وما جعلْنا عدَّتهم إلا فِتْنةً للذين كَفَروا} وروى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم نعت خزنة جهنم فقال: كأن أعينهم البرق , وكأن

أفواههم الصياصي , يجرون شعورهم , لأحدهم مثل قوة الثقلين , يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار , ويرمي الجبل عليهم. {ليَسْتَيْقِنَ الذين أُوتوا الكتابَ} فيه وجهان: أحدهما: ليستيقنوا عدد الخزنة لموافقة التوراة والإنجيل , قاله مجاهد. الثاني: ليستيقنوا أن محمداً نبي لما جاء به من موافقة عدة الخزنة. {ويَزْدادَ الذين آمَنوا إيماناً} بذلك , قاله جريج. {وما هي إلا ذِكْرى للبَشَرِ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما نار جهنم إلا ذكرى للبشر , قاله قتادة. الثاني: وما هذه النار في الدنيا إلا تذكرة لنار الآخرة , حكاه ابن عيسى. الثالث: وما هذه السورة إلا تذكرة للناس , قاله ابن شجرة. {كلا والقَمرِ} الواو في (والقمر) واو القسم , أقسم الله تعالى به , ثم أقسم بما بعده فقال: {والليلِ إذا أَدْبَرَ} فيه وجهان: أحدهما: إذ ولّى , قاله ابن عباس. الثاني: إذ أقبل عند إدبار النهار قاله أبو عبيدة , وقرأ الحسن وأبو عبد الرحمن إذا دبر , وهي قراءة ابن مسعود وأُبي بن كعب. واختلف في أدبر ودبر على قولين: - أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد , قاله الأخفش. - الثاني: أن معناهما مختلفان , وفيه وجهان: أحدهما: أنه دبر إذا خلقته خلفك , وأدبر إذا ولى أمامك , قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه دبر إذا جاء بعد غيره وعلى دبر , وأدبر إذا ولى مدبراً , قاله ابن بحر. {والصُّبْحِ إذا أَسْفَرَ} يعني أضاء وهذا قسم ثالث. {إنها لإحْدَى الكُبَرِ} فيها ثلاثة تأويلات: أحدها: أي أن تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم لإحدى الكبر , أي الكبيرة من الكبائر، قاله

ابن عباس. الثاني: أي أن هذه النار لإحدى الكبر , أي لإحدى الدواهي. الثالث: أن هذه الآية لإحدى الكبر , حكاه ابن عيسى. ويحتمل رابعاً: أن قيام الساعة لإحدى الكبر , والكُبَرُ هي العظائم والعقوبات والشدائد , قال الراجز: (يا ابن المُغَلّى نزلتْ إحدى الكُبَرْ ... داهية الدهرِ وصَمّاءُ الغِيَرْ.) {نذيراً للبشر} فيه وجهان: أحدهما: أن محمداً صلى الله عليه وسلم نذير للبشر حين قاله له (قم فأنذر) قاله ابن زيد. الثاني: أن النار نذير للبشر , قال الحسن: والله ما أنذر الخلائق قط بشيء أدهى منها. ويحتمل ثالثاً: أن القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد. {لمن شاءَ منكم أن يتقدّم أو يتأَخّرَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتقدم في طاعة الله , أو يتأخر عن معصية الله , وهذا قول ابن جريج. الثاني: أن يتقدم في الخير أو يتأخر في الشر , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أن يتقدم إلى النار أو يتأخر عن الجنة , قاله السدي. ويحتمل رابعاً: لمن شاء منكم أن يستكثر أو يقصر , وهذا وعيد وإن خرج مخرج الخبر.

38

{كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره

وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} {كلُّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهينةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ان كل نفس مرتهنة محتسبة بعملها لتحاسب عليه , إلا أصحاب اليمين , وهم أطفال المسلمين فإنه لا حساب عليهم لأنه لا ذنوب لهم , قاله عليٌّ رضي الله عنه. الثاني: كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار إلا أصحاب اليمين وهم المسلمون , فإنهم لا يرتهنون , وهم إلى الجنة يسارعون , قاله الضحاك. الثالث: كل نفس بعملها محاسبة إلا أصحاب اليمين وهم أهل الجنة , فإنهم لا يحاسبون , قاله ابن جريج. {وكنّا نَخُوض مع الخائضينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: نكذب مع المكذبين , قاله السدي. الثاني: كلما غوى غاو غوينا معه , قاله قتادة. الثالث: قولهم محمد كاهن , محمد ساحر , محمد شاعر , قاله ابن زيد. ويحتمل رابعاً , وكنا أتباعاً ولم نكن مبتوعين. {وكنّا نًكذّب بيوم الدِّين} يعني يوم الجزاء وهو يوم القيامة. {حتى أتانا اليقين} فيه وجهان: أحدهما: الموت , قاله السدي. الثاني: البعث يوم القيامة. {فما لهم عن التَذْكِرَةِ مُعْرِضين} قال قتادة: عن القرآن. ويحتمل ثالثاً: عن الاعتبار بعقولهم. {كأنهم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرةٌ} قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء , يعني مذعورة وقرأ الباقون بكسرها , يعني هاربة , وأنشد الفراء: (أمْسِكْ حمارَك إنه مُستنفِرٌ ... في إثْر أحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ.) {فَرَّتْ من قَسْورةٍ} فيه ستة تأويلات:

أحدها: أن القسورة الرماة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه القناص أي الصياد , ومنه قول علي: (يا ناس إني مثل قسورةٍ ... وإنهم لعداة طالما نفروا.) الثالث: أنه الأسد , قاله أبو هريرة , روى يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه الأسد بلسان الحبشة , قال الفرزدق: (إلى هاديات صعاب الرؤوس ... فساروا للقسور الأصيد.) الرابع: أنهم عصب من الرجال وجماعة , رواه أبو حمزة عن ابن عباس. الخامس: أنه أصوات الناس , رواه عطاء عن ابن عباس. السادس: أنه النبيل , قاله قتادة. {بل يريد كلُّ امرىءٍ منهم أنْ يُؤْتى صحُفاً مُنَشّرةً} يعني كتباً منشورة وفيه أربعة أوجه: أحدها: أن يؤتى كتاباً من الله أن يؤمن بمحمد , قاله قتادة. الثاني: أن يؤتى براءة من النار أنه لا يقذف بها , قاله أبو صالح. الثالث: أن يؤتى كتاباً من الله بما أحل له وحرم عليه , قاله مقاتل. الرابع: أن كفار قريش قالوا إن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد ذنباً وجده مكتوباً في رقعة , فما بالنا لا نرى ذلك فنزلت الآية , قاله الفراء. {هو أهل التقْوَى وأهل المغْفِرةِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هو أهل أن تتقى محارمه , وأهل أن يغفر الذنوب , قاله قتادة. الثاني: هو أهل أن يتقى أن يجعل معه إله غيره , وأهل لمن اتقاه أن يغفر له , وهذا معنى قول رواه أنس مرفوعاً. الثالث: هو أهل أن يتقى عذابه وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته. ويحتمل رابعاً: أهل الانتقام والإنعام.

سورة القيامة بسم الله الرحمن الرحيم

القيامة

{لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} قوله تعالى: {لا أُقسِم بيومِ القيامةِ} اختلفوا في (لا) المبتدأ بها في أول الكلام على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها صلة دخلت مجازاً ومعنى الكلام أقسم بيوم القيامة , قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة , ومثله قول الشاعر: (تَذكّرْت ليلى فاعْتَرْتني صَبابةٌ ... وكاد ضمير القلْبِ لا يتَقطّع.) ... الثاني: أنها دخلت توكيداً للكلام كقوله: لا والله , وكقول امرىء القيس: (فلا وأبيكِ ابنةَ العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أَفِرْ.) قاله أبو بكر بن عياش. الثالث: أنها رد لكلام مضى من كلام المشركين في إنكار البعث , ثم ابتدأ

القسم فقال: أقسم بيوم القيامة , فرقاً بين اليمين المستأنفة وبين اليمين تكون مجدداً , قاله الفراء. وقرأ الحسن: لأقْسِمُ بيوم القيامة , فجعلها لاماً دخلت على ما أُقسم إثباتاً للقسم , وهي قراءة ابن كثير. {ولا أُقْسِم بالنّفْسِ اللوّامةِ} فيه وجهان: أحدهما: أنه تعالى أقسم بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة فيكونان قَسَمَيْن , قاله قتادة. الثاني: أنه أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة , قاله الحسن , ويكون تقدير الكلام: أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة. وفي وصفها باللوامة قولان: أحدهما: أنها صفة مدح , وهو قول من جعلها قسماً: الثاني: أنها صفة ذم , وهو قول من نفى أن يكون قسماً. فمن جعلها صفة مدح فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها التي تلوم على ما فات وتندم , قاله مجاهد , فتلوم نفسها على الشر لم فعلته , وعلى الخير أن لم تستكثر منه. الثاني: أنها ذات اللوم , حكاه ابن عيسى. الثالث: أنها التي تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها. فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى اللائمة. ومن جعلها صفة ذم فلهم في تأويلها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها المذمومة , قاله ابن عباس. الثاني: أنها التي تلام على سوء ما فعلت. الثالث: أنها التي لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها , فهي كثيرة اللوم فيها , فعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون اللوامة بمعنى الملومة. {أيَحْسَب الإنسان} يعني الكافر. {أنْ لن نَجْمَعَ عِظامَه} فنعيدها خلقاً جديداً بعد أن صارت رفاتاً.

{بلى قادِرينَ على أنْ نُسوّيَ بَنانه} في قوله (بلى) وجهان: أحدهما: أنه تمام قوله (أن لن نجمع عظامه) أي بلى نجمعها , قاله الأخفش. الثاني: أنها استئناف بعد تمام الأول بالتعجب بلى قادرين , الآية وفيه وجهان: أحدهما: بلى قادرين على أن نسوي مفاصله ونعيدها للبعث خلقاً جديداً , قاله جرير بن عبد العزيز. الثاني: بلى قادرين على أن نجعل كفه التي يأكل بها ويعمل حافر حمار أو خف بعير , فلا يأكل إلا بفيه , ولا يعمل بيده شيئاً , قاله ابن عباس وقتادة. {بل يريد الإنسان ليَفْجُرَ أمامَه} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه أن يقدم الذنب ويؤخر التوبة , قاله القاسم بن الوليد. الثاني: يمضي أمامه قدُماً لا ينزع عن فجور , قاله الحسن. الثالث: بل يريد أن يرتكب الآثام في الدنيا لقوة أمله , ولا يذكر الموت , قاله الضحاك. الرابع: بل يريد أن يكذب بالقيامة ولا يعاقب بالنار , وهو معنى قول ابن زيد. ويحتمل وجهاً خامساً: بل يريد أن يكذب بما في الآخرة كما كذب بما في الدنيا , ثم وجدت ابن قتيبة قد ذكره وقال إن الفجور التكذيب واستشهد بأن أعرابياً قصد عمر بن الخطاب وشكا إليه نقب إبله ودبرها , وسأله أن يحمله على غيرها , فلم يحمله , فقال الأعرابي: (أقسم بالله أبو حفصٍ عُمَرْ ... ما مسّها مِن نَقَبٍ ولا دَبَرْ) 89 (فاغفر له اللهم إنْ كان فجَرْ} 9 يعني إن كان كذبني بما ذكرت. {فإذا بَرِقَ البصرُ} فيه قراءتان: إحداهما: بفتح الراء , وقرأ بها أبان عن عاصم , وفي تأويلها وجهان: أحدهما: يعني خفت وانكسر عند الموت , قاله عبد الله بن أبي إسحاق. الثاني: شخص وفتح عينه عند معاينة ملك الموت فزعاً , وأنشد الفراء:

(فنْفسَكَ فَانْعَ ولا تْنعَني ... وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ.) أي ولا تفزع من هول الجراح. الثانية: بكسر الراء وقرأ بها الباقون , وفي تأويلها وجهان: أحدهما: عشى عينيه البرق يوم القيامة , قاله أشهب العقيلي , قال الأعشى: (وكنتُ أرى في وجه مَيّةَ لمحةً ... فأبرِق مَغْشيّاً عليّ مكانيا.) الثاني: شق البصر , قاله أبو عبيدة وأنشد قول الكلابي: (لما أتاني ابن عمير راغباً ... أعطيتُه عيساً صِهاباً فبرق.) {وخَسَفَ القمرُ} أي ذهب ضوؤه , حتى كأنّ نوره ذهب في خسفٍ من الأرض. {وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه جمع بينهما في طلوعهما من المغرب [أسودين مكورين] مظلمين مقرنين. الثاني: جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف لتكامل إظلام الأرض على أهلها , حكاه ابن شجرة. الثالث: جمع بينهما في البحر حتى صارا نار الله الكبرى. {يقولُ الإنسانُ يومئذٍ أين المفرُّ} أي أين المهرب , قال الشاعر: (أين أفِرّ والكباشُ تنتطحْ ... وأيّ كبشٍ حاد عنها يفتضحْ.) ويحتمل وجهين: أحدهما: (أين المفر) من الله استحياء منه. الثاني: (أين المفر) من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة من عرصة القيامة دون المؤمن , ثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوه منها.

ويحتمل هذا القول وجهين: أحدهما: من قول الله للإنسان إذا قاله (أين المفر) قال الله له (كلاّ لا وَزَرَ) الثاني: من قول الإنسان إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه (كلا لا وَزَرَ) {كلاّ لا وَزَرَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أي لا ملجأ من النار , قاله ابن عباس. الثاني: لا حصن , قاله ابن مسعود. الثالث: لا جبل , [قاله الحسن]. الرابع: لا محيص , قاله ابن جبير. {إلى ربِّك يومئذٍ المُسْتَقَرُّ} فيه وجهان: أحدهما: أن المستقر المنتهى , قاله قتادة. الثاني: أنه استقرار أهل الجنة في الجنة , وأهل النار في النار , قاله ابن زيد. {يُنَبّأ الإنسان يوميئذٍ بما قدَّمَ وأَخّرَ} يعني يوم القيامة وفي (بما قدم وأخر) خمسة تأويلات: أحدها: ما قدم قبل موته من خير أو شر يعلم به بعد موته , قاله ابن عباس وابن مسعود. الثاني: ما قدم من معصية , وأخر من طاعة , قاله قتادة. الثالث: بأول عمله وآخره , قاله مجاهد. الرابع: بما قدم من الشر وأخر من الخير , قال عكرمة. الخامس: بما قدم من فرض وأخر من فرض , قاله الضحاك. ويحتمل سادساً: ما قدم لدنياه , وما أخر لعقباه. {بل الإنسانُ على نَفْسِه بَصيرةٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه شاهد على نفسه بما تقدم به الحجة عليه , كما قال تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}. الثاني: أن جوارحه شاهدة عليه بعمله , قاله ابن عباس , كما قال تعالى: {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم وتُكَلِّمنا أيْديهم وتشْهدُ أرجُلُهم بما كانوا يكْسِبون}. الثالث: معناه بصير بعيوب الناس غافل عن عيب نفسه فيما يستحقه لها وعليها من ثواب وعقاب.

والهاء في (بصيرة) للمبالغة. {ولو أَلْقَى معاذيرَه} فيه أربعة تأويلات: أحدها: معناه لو اعتذر يومئذ لم يقبل منه , قاله قتادة. الثاني: يعني لو ألقى معاذيره أي لو تجرد من ثيابه , قاله ابن عباس. الثالث: لو أظهر حجته , قاله السدي وقال النابغة: 89 (لدىّ إذا ألقى البخيلُ معاذِرَه.} 9 الرابع: معناه ولو أرخى ستوره , والستر بلغة اليمن معذار , قاله الضحاك , قال الشاعر: (ولكنّها ضَنّتْ بمنزلِ ساعةٍ ... علينا وأطّت فوقها بالمعاذرِ) ويحتمل خامساً: أنه لو ترك الاعتذار واستسلم لم يُترك.

16

{لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة} {لا تُحرِّكْ به لسانَكَ لِتعْجَلَ به} فيه وجهان: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن حرك به لسان يستذكره. مخافة أن ينساه , وكان ناله منه شدة , فنهاه الله تعالى عن ذلك وقال: {إنّ علينا جَمْعَه وقرآنه} , قاله ابن عباس. الثاني: أنه كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له وحلاوته في لسانه , فنهي عن ذلك حتى يجتمع , لأن بعضه مرتبط ببعض , قاله عامر الشعبي.

{إنّ علينا جَمْعَهُ وقُرْآنَه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إن علينا جمعه في قلبك لتقرأه بلسانك , قاله ابن عباس. الثاني: عيلنا حفظه وتأليفه , قاله قتادة. الثالث: عيلنا أن نجمعه لك حتى تثبته في قلبك , قاله الضحاك. {فإذا قرأناه فاتّبعْ قُرْآنَه} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فإذا بيّناه فاعمل بما فيه , قاله ابن عباس. الثاني: فإذا أنزلناه فاستمع قرآنه , وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. الثالث: فإذا تلي عليك فاتبع شرائعه وأحكامه , قاله قتادة. {ثم إنْ علينا بَيانَه} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام , قاله قتادة. الثاني: علينا بيانه بلسانك إذا نزل به جبريل حتى تقرأه كما أقرأك , قاله ابن عباس. الثالث: علينا أن نجزي يوم القيامة بما فيه من وعد أو وعيد , قاله الحسن. {كلاّ بل تُحِبُّونَ العاجلةَ وتذَرُونَ الآخِرَة} فيه وجهان: أحدهما: تحبون ثواب الدنيا وتذرون ثواب الآخرة , قاله مقاتل. الثاني: تحبون عمل الدنيا وتذرون عمل الآخرة. {وُجوهٌ يومئذٍ ناضِرةٌ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني حسنة , قاله الحسن. الثاني: مستبشرة , قاله مجاهد. الثالث: ناعمة , قاله ابن عباس. الرابع: مسرورة , قاله عكرمة. {إلى رَبِّها ناظرةٌ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تنظر إلى ربها في القيامة، قاله الحسن وعطية العوفي. الثاني: إلى ثواب ربها، قاله ابن عمر ومجاهد.

الثالث: تنتظر أمر ربها , قاله عكرمة. {ووجوهُ يومئذٍ باسرةٌ} فيه وجهان: أحدهما: كالحة , قاله قتادة. الثاني: متغيرة , قاله السدي. {تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرةٌ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أن الفاقرة الداهية , قاله مجاهد. الثاني: الشر , قاله قتادة. الثالث: الهلاك , قاله السدي. الرابع: دخول النار , قاله ابن زيد.

26

{كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} {كلا إذا بَلَغَتِ التّراقِيَ} يعني بلوغ الروح عند موته إلى التراقي، وهي أعلى الصدر، واحدها ترقوه. {وقيلَ مَنْ راقٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قال أَهْله: من راقٍ يرقيه بالرُّقى وأسماء الله الحسنى، قاله ابن عباس. الثاني: مَنْ طبيبٌ شافٍ، قاله أبو قلابة، قال الشاعر:

(هل للفتى مِن بنات الدهرِ من واقى ... أم هل له من حمامِ الموتِ من راقي) الثالث: قال الملائكة: مَن راقٍ يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب , رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. {وظَنَّ أنّه الفِراق} أي تيقن أنه مفارق الدنيا. {والْتَفّتِ الساقُ بالساقِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: اتصال الدنيا بالآخرة , قاله ابن عباس. الثاني: الشدة بالشدة والبلاء بالبلاءِ , وهو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع , قاله عكرمة ومجاهد , ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي: (أخو الحرب إن عضّت به الحربُ عضّها ... وإن شمّرتْ عن ساقها الحرب شمّرا.) الثالث: التفّت ساقاه عند الموت , وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أن التفاف الساق بالساق عند الميثاق , قال الحسن: ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوّالاً. الرابع: أنه اجتمع أمران شديدان عليه: الناس يجهزون جسده , والملائكة يجهزون روحه , قاله ابن زيد. {إلى ربِّك يومئذٍ المساقُ} فيه وجهان: أحدهما: المنطلق , قاله خارجة. الثاني: المستقر , قاله مقاتل. {فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى} هذا في أبي جهل , وفيه وجهان: أحدهما: فلا صدّق بكتاب الله ولا صلّى للَّه , قاله قتادة. الثاني: فلا صدّق بالرسالة ولا آمن بالمرسل , وهو معنى قول الكلبي. ويحتمل ثالثاً: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. {ولكن كَذَّبَ وتَوَلَّى} فيه وجهان: أحدهما: كذب الرسول وتولى عن المرسل. الثاني: كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة. {ثم ذَهَبَ إلى أَهْلِه يَتَمَطَّى} يعني أبا جهل، وفيه ثلاثة أوجه:

أحدها: يختال في نفسه، قاله ابن عباس. الثاني: يتبختر في مشيته، قال زيد بن أسلم وهي مشية بني مخزوم. الثالث: أن يلوي مطاه، والمطا: الظهر، وجاء النهي عن مشية المطيطاء وذلك أن الرجل يلقي يديه مع الكفين في مشيه. {أوْلَى لك فأوْلَى ثم أوْلَى لك فأوْلَى} حكى الكلبي ومقاتل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل ببطحاء مكة وهو يتبختر في مشيته , فدفع في صدره وهمزه بيده وقال: (أوْلى لك فأولى) فقال أبو جهل: إليك عني أوعدني يا ابن أبي كبشة ما تستطيع أنت ولا ربك الذي أرسلك شيئاً , فنزلت هذه الآية. وفيه وجهان: أحدهما: وليك الشر , قال قتادة , وهذا وعيد على وعيد. الثاني: ويل لك , قالت الخنساء: (هَممْتُ بنفسي بعض الهموم ... فأوْلى لنَفْسيَ أوْلَى لها. (سأحْمِلُ نَفْسي على آلةٍ ... فإمّا عليها وإمّا لها.) الآلة: الحالة , والآلة: السرير أيضاً الذي يحمل عليه الموتى. {أيَحْسَبُ الإنسانُ أنْ يُتْرَك سُدىً} فيه أربعة أوجه: أحدها: فهل لا يفترض عليه عمل , قاله ابن زيد. الثاني: يظن ألا يبعث , قاله السدي. الثالث: ملغى لا يؤمر ولا ينهى , قاله مجاهد. الرابع: عبث لا يحاسب ولا يعاقب , قال الشاعر:

(فأُقسِم باللَّه جهدَ اليمين ... ما ترك اللَّه شيئاً سُدى) {ألمْ يكُ نُطْفةً مِنْ مَنيٍّ يُمْنَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن معنى يُمنى يراق , ولذلك سميت منى لإراقة الدماء فيها. الثاني: بمعنى ينشأ ويخلق , ومنه قول يزيد بن عامر: (فاسلك طريقك تمشي غير مختشعٍ ... حتى تلاقيَ ما يُمني لك الماني.) الثالث: أنه بمعنى يشترك أي اشتراك ماء الرجل بماء المرأة. {ثم كان عَلَقَةً} يعني أنه كان بعد النطفة علقة. {فخَلَقَ فسوَّى} يحتمل وجهين. أحدهما: خلق من الأرحام قبل الولادة وسوي بعدها عند استكمال القوة وتمام الحركة. الثاني: خلق الأجسام وسواها للأفعال , فجعل لكل جارحة عملاً , والله أعلم.

سورة الإنسان بسم الله الرحمن الرحيم

الإنسان

{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} قال ابن عباس ومقاتل والكلبي ويحيى بن سلام: هي مكية , وقال آخرون فيها مكي من قوله تعالى: {إنا نحن نزّلنا عليك القرآنَ تنزيلاً} إلى آخرها وما تقدم مدني. قوله تعالى: {هلْ أتَى على الإنسان حينٌ من الدهْرِ لم يكُنْ شيئاً مذكوراً} في قوله (هل) وجهان: أحدهما: أنها في هذا الموضع بمعنى قد , وتقدير الكلام: (قد أتى على الإنسان) الآية , على معنى الخبر , قاله الفراء وأبو عبيدة. الثاني: أنه بمعنى (أتى على الإنسان) الآية، على وجه الاستفهام، حكاه ابن عيسى. وفي هذا (الإنسان) قولان: أحدهما: أنه آدم , قاله قتادة والسدي وعكرمة , وقيل إنه خلقه بعد خلق السموات والأرض , وما بينهما في آخر اليوم السادس وهو آخر يوم الجمعة.

الثاني: أنه كل إنسان , قاله ابن عباس وابن جريج. وفي قوله تعالى: {حينٌ من الدهر} ثلاثة أقاويل: أحدهأ: أنه أربعون سنة مرت قبل أن ينفخ فيه الروح , وهو ملقى بين مكة والطائف , قاله ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. الثاني: أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة , ثم من حمأ مسنون أربعين سنة , ثم من صلصال أربعين سنة , فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة , ثم نفخ فيه الروح , وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك. الثالث: أن الحين المذكور ها هنا وقت غير مقدر وزمان غير محدود , قاله ابن عباس أيضاً. وفي قوله {لم يكن شيئاً مذكوراً} وجهان: أحدهما: لم يكن شيئاً مذكوراً في الخلق , وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً , لا يذكر ولا يعرف , ولا يدري ما اسمه , ولا ما يراد به , ثم نفخ فيه الروح فصار مذكوراً , قاله الفراء , وقطرب وثعلب. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير , وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً , لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً. {إنّا خلقْنا الإنسانَ من نُطْفَةٍ أمْشاجٍ} يعني بالإنسان في هذا الموضع كل إنسان من بني آدم في قول جميع المفسرين. وفي النطفة قولان: أحدهما: ماء الرجل وماء المرأة إذا اختلطا فهما نطفة , قاله السدي. الثاني: أن النطفة ماء الرجل , فإذا اختلط في الرحم وماء المرأة صارا أمشاجاً. وفي الأمشاج أربعة أقاويل: أحدها: أنه الأخلاط، وهو أن يختلط ماء الرجل بماء المرأة، قاله الحسن وعكرمة، ومنه قول رؤبة بن العجاج:

(يطرحن كل مُعْجَل نشاجِ ... لم يُكْسَ جلداً في دم أمشاج.) الثاني: أن الأمشاج الألوان , قاله ابن عباس , وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء , ونطفة المرأة خضراء وصفراء. روى سعيد عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل غليظ أبيض , وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما سبق أو علا فمنه يكون الشبه). الثالث: أن الأمشاج: الأطوار , وهو أن الخلق يكون طوراً نطفة , وطوراً علقة , وطوراً مضغة , ثم طوراً عظماً , ثم يكسى العظم لحماً , قاله قتادة. الرابع: أن الأمشاج العروق التي تكون في النطفة , قاله ابن مسعود. وفي قوله {نَبْتَلِيه} وجهان: أحدهما: نختبره. الثاني: نكلفه بالعمل. فإن كان معناه الاختبار ففيما يختبر به وجهان: أحدهما: نختبره بالخير والشر , قاله الكلبي. الثاني: نختبر شكره في السراء , وصبره في الضراء , قاله الحسن. ومن جعل معناه التكليف ففيما كلفه وجهان: أحدهما: العمل بعد الخلق، قاله مقاتل. الثاني: الدين، ليكون مأموراً بالطاعة، ومنهياً عن المعاصي. {فَجَعَلْناه سميعاً بصيراً} ويحتمل وجهين: أحدهما: أي يسمع بالأذنين ويبصر بالعينين أمتناناً بالنعمة عليه. الثاني: ذا عقل وتمييز ليكون أعظم في الامتنان حيث يميزه من جميع الحيوان. وقال الفراء ومقاتل: في الآية تقديم وتأخير أي فجعلناه سميعاً بصيراً أن نبتليه , فعلى هذا التقديم في الكلام اختلفوا في ابتلائه على قولين: أحدهما: ما قدمناه من جعله اختباراً أو تكليفاً.

الثاني: لنبتليه بالسمع والبصر , قاله ابن قتيبة. {إنّا هَدَيْناه السّبيلَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: سبيل الخير والشر , قاله عطية. الثاني: الهدى من الضلالة , قاله عكرمة. الثالث: سبيل الشقاء والسعادة , قاله مجاهد. الرابع: خروجه من الرحم , قاله أبو صالح والضحاك والسدي. ويحتمل خامساً: سبيل منافِعِه ومضارِّه التي يهتدي إليها بطبعه , وقيل: كمال عقله. {إمّا شاكراً وإمّا كَفوراً} فيه وجهان: أحدهما: إما مؤمناً وإما كافراً , قاله يحيى بن سلام. الثاني: إما شكوراً للنعمة وإما كفوراً بها , قاله قتادة. وجمع بين الشاكر والكفور ولم يجمع بين الشكور والكفور - مع إجتماعهما في معنى المبالغة - نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر , لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى فانتفت عنه المبالغة , ولم تنتف عن الكفر المبالغة , فقل شكره لكثرة النعم عليه , وكثر كفره وإن قل مع الإحسان إليه.

4

{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} {إن الإبرار يَشْربونَ} في الأبرار قولان: أحدهما: أنهم الصادقون، قاله الكلبي. الثاني: المطيعون، قاله مقاتل.

وفيما سُمّوا أبراراً ثلاثة أقاويل: أحدها: سمّوا بذلك لأنهم برّوا الآباء والأبناء، قاله ابن عمر. الثاني: لأنهم كفوا الأذى , قاله الحسن. الثالث: لأنهم يؤدون حق الله ويوفون بالنذر , قاله قتادة. وقوله {مِن كأسٍ} يعني الخمر , قال الضحاك: كل كأس في القرآن فإنما عنى به الخمر. وفي وقوله {كان مِزاجها كافوراً} قولان: أحدهما: أن كافوراً عين في الجنة اسمها كافور , قاله الكلبي. الثاني: أنه الكافور من الطيب فعلى هذا في المقصود منه في مزاج الكأس به ثلاثة أقاويل: أحدها: برده , قال الحسن: ببرد الكافور وطعم الزنجبيل. الثاني: بريحه , قاله قتادة: مزج بالكافور وختم بالمسك. الثالث: طعمه , قال السدي: كأن طعمه طعم الكافور. {عَينْاً يَشْرَبُ بها عبادُ اللَّهِ} يعني أولياء اللَّه , لأن الكافر لا يشرب منها شيئاً وإن كان من عباد الله , وفيه وجهان: أحدهما: ينتفع بها عباد الله , قاله الفراء. الثاني: يشربها عباد الله. قال مقاتل: هي التسنيم , وهي أشرف شراب لاجنة , يشرب بها المقربون صِرفاً , وتمزج لسائر أهل الجنة بالخمر واللبن والعسل. {يُفَجِّرونَها تفْجيراً} فيه وجهان: أحدهما: يقودونها إلى حيث شاءوا من الجنة، قاله مجاهد. الثاني: يمزجونها بما شاءوا، قاله مقاتل. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يستخرجوه من حيث شاءوا من الجنة. وفي قوله (تفجيراً) وجهان:

أحدهما: أنه مصدر قصد به التكثير. الثاني: أنهم يفجرونه من تلك العيون عيوناً لتكون أمتع وأوسع. {يُوفُونَ بالنّذْرِ} فيه أربعة أوجه: أحدها: يوفون بما افترض الله عليهم من عبادته , قاله قتادة. الثاني: يوفون بما عقدوه على أنفسهم من حق الله , قاله مجاهد. الثالث: يوفون بالعهد لمن عاهدوه , قاله الكلبي. الرابع: يوفون بالإيمان إذا حلفوا بها , قاله مقاتل. ويحتمل خامساً: أنهم يوفون بما أُنذِروا به من وعيده. {ويَخافون يوْماً كان شَرُّه مُسْتَطيراً} قال الكلبي عذاب يوم كان شره مستطيراً , وفيه وجهان: أحدهما: فاشياً , قاله ابن عباس والأخفش. الثاني: ممتداً , قاله الفراء , ومنه قول الأعشى: (فبانتْ وقد أَوْرَثَتْ في الفؤادِ ... صَدْعاً على نأيها مُستطيرا) أي ممتداً. ويحتمل وجهاً ثالثاً يعني سريعاً. {ويُطْعمونَ الطعامَ على حُبِّهِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: على حب الطعام، قاله مقاتل. الثاني: على شهوته، قاله الكلبي. الثالث: على قلته، قاله قطرب. {مسكيناً ويتيماً وأسيراً} في الأسير ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه المسجون المسلم، قاله مجاهد. الثاني: أنه العبد , قاله عكرمة. الثالث: أسير المشركين، قاله الحسن وسعيد بن جبير. قال سعيد بن جبير: ثم نسخ أسير المشركين بالسيف، وقال غيره بل هو ثابت الحكم في الأسير بإطعامه، إلا أن يرى الإمام قتله.

ويحتمل وجهاً رابعاً: أن يريد بالأسير الناقص العقل , لأنه في أسر خبله وجنونه , وإن أسر المشركين انتقام يقف على رأي الإمام وهذا بر وإحسان. {إنّما نُطْعِمُكم لوجْهِ اللهِ} قال مجاهد: إنهم لم يقولوا ذلك , لكن علمه الله منهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب. {لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً} جزاء بالفعال , وشكوراً بالمقال وقيل إن هذه الآية نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر , وهم سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعيد وأبو عبيدة. {إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قمْطريراً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن العبوس الذي يعبس الوجوه من شره , والقمطرير الشديد , قاله ابن زيد. الثاني: أن العبوس الضيق , والقمطرير الطويل , قاله ابن عباس , قال الشاعر: (شديداً عبوساً قمطريراً تخالهُ ... تزول الضحى فيه قرون المناكب.) الثالث: أن العُبوس بالشفتين , والقمطرير بالجبهة والحاجبين , فجعلها من صفات الوجه المتغير من شدائد ذلك اليوم , قاله مجاهد , وأنشد ابن الأعرابي: (يَغْدو على الصّيْدِ يَعودُ مُنكَسِرْ ... ويَقْمَطُّر ساعةً ويكْفَهِرّ.) {فَوَقاهمُ الله شَرَّ ذلك اليومِ ولَقّاهُمْ نَضْرةً وسُروراً} قال الحسن النضرة من الوجوه , والسرور في القلوب. وفي النضرة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها البياض والنقاء , قاله الضحاك. الثاني: أنها الحسن والبهاء , قاله ابن جبير.

الثالث: أنها أثر النعمة , قاله ابن زيد. {وجَزاهم بما صَبروا} يحتمل وجهين: أحدهما: بما صبروا على طاعة الله. الثاني: بما صبروا على الوفاء بالنذر. {جَنَّةً وحريراً} فيه وجهان: أحدهما: جنة يسكنونها , وحريراً يلبسونه. الثاني: أن الجنة المأوى , والحرير أبد العيش في الجنة , ومنه لبس الحرير ليلبسون من لذة العيش. واختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين: أحدهما: ما حكاه الضحاك عن جابر أنها نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذراً فوفاه. الثاني: ما حكاه عمرو عن الحسن أنها نزلت في علي وفاطمة ... رضي الله عنهما - وذلك أن علياً وفاطمة نذرا صوماً فقضياه , وخبزت فاطمة ثلاثة أقراص من شعير ليفطر علّي على أحدها وتفطر هي على الآخر , ويأكل الحسن والحسين الثالث , فسألها مسكين فتصدقت عليه بأحدها , ثم سألها يتيم فتصدقت عيله بالآخر , ثم سألها أسير فتصدقت عليه بالثالث , وباتوا طاوين.

13

{متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا} {مُتّكِئينَ فيها على الأرائِك} وفيها مع ما قدّمناه من تفسيرها قولان:

أحدهما: أنها الأسرّة , قاله ابن عباس. الثاني: أنها كل ما يتكأ عليه , قاله الزجاج. {لا يَرَوْنَ فيها شمْساً ولا زَمْهَريراً} أما المراد بالشمس ففيه وجهان: أحدهما: أنهم في ضياء مستديم لا يحتاجون فيه إلى ضياء , فيكون عدم الشمس مبالغة في وصف الضياء. الثاني: أنهم لا يرون فيها شمساً فيتأذون بحرها , فيكون عدمها نفياً لأذاها. وفي الزمهرير ثلاثة أوجه: أحدها: أنه البرد الشديد , قال عكرمة لأنهم لا يرون في الجنة حراً ولا برداً. الثاني: أنه لون في العذاب , قاله ابن مسعود. الثالث: أنه من هذا الموضع القمر , قاله ثعلب وأنشد: (وليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ... قطْعتها والزمهريرُ ما ظَهَرْ) وروي ما زهر , ومعناه أنهم في ضياء مستديم لا ليل فيه ولا نهار , لأن ضوء النهار بالشمس , وضوء الليل بالقمر. { ... وذُلِّلّتْ قُطوفُها تذْليلاً} فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد، قاله قتادة. الثاني: أنه إذا قام ارتفعت , وإذا قعد نزلت، قاله مجاهد.

ويحتمل ثالثاً: أن يكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها وتخلص من نواها. { ... وأَكْوابٍ كانت قَواريرَا قواريرَا من فِضّةٍ} أما الأكواب فقد ذكرنا ما هي من جملة الأواني. وفي قوله تعالى: (قوارير من فضة) وجهان: أحدهما: أنها من فضة من صفاء القوارير , قاله الشعبي. الثاني: أنها من قوارير في بياض الفضة , قاله أبو صالح. وقال ابن عباس: قوارير كل أرض من تربتها , وأرض الجنة الفضة فلذلك كانت قواريرها فضة. {قَدَّرُوها تقْديراً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أنهم قدروها في أنفسهم فجاءت على ما قدروها , قاله الحسن. الثاني: على قدر ملء الكف , قاله الضحاك. الثالث: على مقدار لا تزيد فتفيض , ولا تنقص فتغيض , قاله مجاهد. الرابع: على قدر ريهم وكفايتهم , لأنه ألذ وأشهى , قاله الكلبي. الخامس: قدرت لهم وقدروا لها سواء , قاله الشعبي. {ويُسْقَونَ فيها كأساً كان مِزاجُها زَنْجبيلاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: تمزج بالزنجبيل , وهو مما تستطيبه العرب لأنه يحذو اللسان ويهضم المأكول , قاله السدي وابن أبي نجيح. الثاني: أن الزنجبيل اسم للعين التي فيها مزاج شراب الأبرار , قاله مجاهد. الثالث: أن الزنجبيل طعم من طعوم الخمر يعقب الشرب منه لذة , حكاه ابن شجرة , ومنه قول الشاعر:

(وكأن طعْمَ الزنجبيلِ به ... اذْ ذُقْتُه وسُلافَةَ الخمْرِ) {عْيناً فيها تُسَمّى سَلْسَبيلاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنه اسم لها , قاله عكرمة. الثاني: معناه سلْ سبيلاً إليها , قاله علّي رضي الله عنه. الثالث: يعني سلسلة السبيل , قاله مجاهد. الرابع: سلسلة يصرفونها حيث شاءوا , قاله قتادة. الخامس: أنها تنسلّ في حلوقهم انسلالاً , قاله ابن عباس. السادس: أنها الحديدة الجري , قاله مجاهد أيضاً , ومنه قول حسان بن ثابت: (يَسْقُون من وَرَدَ البريصَ عليهم ... كأساً تُصَفِّقُ بالرحيق السِّلْسَل) وقال مقاتل: إنما سميت السلسبيل لأنها تنسل عليهم في مجالسهم وغرفهم وطرقهم. {ويَطوفُ عليهم وِلْدانٌ مُخَلّدونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مخلدون لا يموتون , قاله قتادة. الثاني: صغار لا يكبرون وشبابٌ لا يهرمون، قاله الضحاك والحسن. الثالث: أي مُسَوَّرون، قاله ابن عباس، قال الشاعر: (ومُخَلّداتٍ باللُّجَيْنِ كأنما ... أعْجازُهنّ أقاوزُ الكُثْبانِ.) {إذا رَأَيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤاً مَنْثوراً} فيه قولان: أحدها: أنهم مشبهون باللؤلؤ المنثور لكثرتهم , قاله قتادة. الثاني: لصفاء ألوانهم وحسن منظرهم وهو معنى قول سفيان. {وإذا رأَيْتَ ثمَّ} يعني الجنة. {رأَيْتَ نَعيماً} فيه وجهان: أحدهما: يريد كثرة النعمة.

الثاني: كثرة النعيم. {ومُلْكاً كبيراً} فيه وجهان: أحدهما: لسعته وكثرته. الثاني: لاستئذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام. ويحتمل ثالثاً: أنهم لا يريدون شيئاً إلا قدروا عليه. {وسقاهم ربُّهم شَراباً طَهوراً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه وصفه بذلك لأنهم لا يبولون منه ولا يُحْدِثون عنه , قاله عطية , قال إبراهيم التميمي: هو عَرَق يفيض من أعضائهم مثل ريح المسك. الثاني: لأن خمر الجنة طاهرة , وخمر الدنيا نجسة , فلذلك وصفه الله تعالى بالطهور , قاله ابن شجرة. الثالث: أن أنهار الجنة ليس فيها نجس كما يكون في أنهار الدنيا وأرضها حكاه ابن عيسى.

23

{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما} {ولا تُطِعْ منهم آثِماً أو كَفوراً} قيل إنه عنى أبا جهل , يريد بالآثم المرتكب للمعاصي , وبالكفور الجاحد للنعم. {واذكُر اسمَ رَبِّك بُكرَةً وأصيلاً} يعني في أول النهار وآخره، ففي أوله صلاة الصبح، وفي آخره صلاة الظهر والعصر. {ومِنَ الليلِ فاسْجدْ له} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. {وسَبِّحْهُ ليلاً طويلاً} يعني التطوع من الليل.

قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن هو صلاة. {إنّ هؤلاءِ يُحِبّونَ العاجلةَ} يحتمل في المراد بهم قولين: أحدهما: أنه أراد بهم اليهود وما كتموه من صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوّته. الثاني: أنه أراد المنافقين لاستبطانهم الكفر. ويحتمل قوله {يحبون العاجلة} وجهين: أحدهما: أخذ الرشا على ما كتموه إذا قيل إنهم اليهود. الثاني: طلب الدنيا إذا قيل إنهم المنافقون. {ويَذَرُونَ وراءَهم يوماً ثقيلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: ما يحل بهم من القتل والجلاء إذا قيل إنهم اليهود. الثاني: يوم القيامة إذا قيل إنهم المنافقون. فعلى هذا يحتمل قوله (ثقيلاً) وجهين: أحدهما: شدائده وأحواله. الثاني: للقِصاص من عباده. {نحن خَلقْناهم وشَدَدْنا أَسْرَهم} في أسرهم ثلاثة أوجه: أحدها: يعني مفاصلهم , قاله أبو هريرة. الثاني: خلقهم , قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة قال لبيد: (ساهم الوجه شديد أسْرُه ... مشرف الحارك محبوك الكفل.) الثالث: أنه القوة , قاله ابن زيد , قال ابن أحمر في وصف فرس: (يمشي لأوظفةٍ شدادٍ أسْرُها ... صُمِّ السنابِك لاتقى بالجَدْجَدِ.) ويحتمل هذا القول منه تعالى وجهين: أحدهما: امتناناً عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. الثاني: تخويفاً لهمن بسلب النعم. {وإذا شئنا بدّلْنا أمثالَهم تبديلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: أمثال من كفر بالنعم وشكرها.

الثاني: من كفر بالرسل بمن يؤمن بها. {إنّ هذه تَذْكِرةٌ} يحتمل بالمراد ب (هذه) وجهين: أحدهما: هذه السورة. الثاني: هذه الخلقة التي خلق الإنسان عليها. ويحتمل قوله (تذكرة) وجهين: أحدهما: إذكار ما غفلت عنه عقولهم. الثاني: موعظة بما تؤول إليه أمورهم. {فَمَنْ شاءَ اتَخَذَ إلى ربِّه سَبيلاً} يحتمل وجهين: أحدهما: طريقاً إلى خلاصه. الثاني: وسيلة إلى جنته.

سورة المرسلات مكية من قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها، وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} فمدينة. بسم الله الرحمن الرحيم

المرسلات

{والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين} قوله تعالى: {والمرسلات عُرْفاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الملائكة ترسل بالمعروف , قاله أبو هريرة وابن مسعود. الثاني: أنهم الرسل يرسلون بما يُعرفون به من المعجزات , وهذا قول أبي صالح. الثالث: أنها الرياح ترسل بما عرفها الله تعالى. ويحتمل رابعاً: أنها السحب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت فيه , ومن أرسلت إليه.

ويحتمل خامساً: أنها الزواجر والمواعظ. وفي قوله (عُرْفاً) على هذا التأويل ثلاثة أوجه: أحدها: متتابعات كعُرف الفرس , قاله ابن مسعود. الثاني: جاريات , قاله الحسن يعني القلوب. الثالث: معروفات في العقول. {فالعاصِفاتِ عَصْفاً} فيه قولان: أحدهما: أنها الرياح العواصف , قاله ابن مسعود. الثاني: الملائكة , قاله مسلم بن صبيح. ويحتمل قولاً ثالثاً: أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف. وفي قوله (عصفاً) وجهان: أحدهما: ما تذروه في جريها. الثاني: ما تهلكه بشدتها. {والنَّاشِراتِ نَشْراً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب , قاله ابن مسعود. الثاني: أنها الملائكة تنشر الكتب , قاله أبو صالح أيضاً. الثالث: أنه المطر ينشر النبات , قاله أبو صالح أيضاً. الرابع: أنه البعث للقيامة تُنشر فيه الأرواح , قاله الربيع. الخامس: أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد , قاله الضحاك. {فالفارِقات فَرقاً} فيه أربعة أقاويل: أحدها: الملائكة التي تفرق بين الحق والباطل , قاله ابن عباس. الثاني: الرسل الذين يفرقون بين الحلال والحرام , قاله أبو صالح. الثالث: أنها الرياح , قاله مجاهد. الرابع: القرآن. وفي تأويل قوله (فَرْقاً) على هذا القول وجهان: أحدهما: فرقه آية آية , قاله الربيع. الثاني: فرق فيه بين الحق والباطل، قاله قتادة.

{فالمُلْقِياتِ ذِكْراً} فيه قولان: أحدهما: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي والقرآن إلى من أرسلت إليه من الأنبياء , قاله الكلبي. الثاني: الرسل يلقون على أممهم ما أنزل إليهم، قاله قطرب. ويحتمل ثالثاً: أنها النفوس تلقي في الأجساد ما تريد من الأعمال. {عُذْراً أو نُذْراً} يعني عذراً من الله إلى عباده، ونُذْراً إليهم من عذابه. ويحتمل ثانياً: عذراً من الله بالتمكن، ونذراً بالتحذير. وفي ما جعله عذراً أو نذراً ثلاثة أقاويل: أحدها: الملائكة، قاله ابن عباس. الثاني: الرسل , قاله أبو صالح. الثالث: القرآن , قاله السدي. {إنما تُوعَدُونَ لَواقعٌ} هذا جواب ما تقدم من القسم , لأن في أول السورة قسم , أقسم الله تعالى إنما توعدون على لسان الرسول من القرآن في أن البعث والجزاء واقع بكم ونازل عليكم. ثم بيّن وقت وقوعه فقال: {فإذا النجومُ طُمِسَتْ} أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب. {وإذا السماءُ فُرِجَتْ} أي فتحت وشققت. {وإذا الجبالُ نُسِفَتْ} أي ذهبت , وقال الكلبي: سويت بالأرض. {وإذا الرّسُلُ أُقِّتَتْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني أُودت , قاله إبراهيم. الثاني: أُجلت , قاله مجاهد. الثالث: جمعت , قاله ابن عباس. وقرأ أبو عمرو (وقتت) ومعناها عرفت ثوابها في ذلك اليوم , وتحتمل هذه القراءة وجهاً آخر أنها دعيت للشهادة على أممها.

16

{ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين

ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين} {ألم نُهلِكِ الأوَّلينِ} يعني من العصاة، وفيمن أريد بهم وجهان: أحدهما: قوم نوح عليه السلام لعموم هلاكهم بالطوفان لأن هلاكهم أشهر وأعم. الثاني: أنه قوم كل نبي استؤصلوا , لأنه في خصوص الأمم أندر. {ثُمّ نُتْبِعُهُم الآخِرينَ} يعني في هلاكهم بالمعصية كالأولين، إما بالسيف وإما بالهلاك. {كذلك نَفْعَلُ بالمْجرمين} يحتمل وجهين: أحدهمأ: أنه تهويل لهلاكهم في الدنيا اعتباراً. الثاني: أنه إخبار بعذابهم في الآخرة استحقاقاً. {أَلمْ نَخْلُقْكُم مِنْ ماءٍ مَهينٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من صفوة الماء , قاله ابن عباس. الثاني: من ماء ضعيف , قاله مجاهد وقتادة. الثالث: من مني سائل , قاله ابن كامل. {فَجَعَلْناه في قرارٍ مَكينٍ} فيه وجهان: أحدهما: قاله وهب بن منبّه في رحم أُمّه لا يؤذيه حَرّ ولا برد. الثاني: مكين حريز لا يعود فيخرج ولا يبث في الجسد فيدوم , قاله الكلبي. {إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍِ} إلى يوم ولادته. {فقدرنا فنِعْم القادِرون} في قراءة نافع مشددة , وقرأ الباقون مخففة , فمن قرأ بالتخفيف فتأويلها: فملكنا فنعم المالكون. ومن قرأ بالتشديد فتأويلها: فقضينا فنعم القاضون , وقال الفراء: هما لغتان ومعناهما واحد.

{ألمْ نجْعَلِ الأرضَ كِفاتاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني كِنّاً , قاله ابن عباس. الثاني: غطاء , قاله مجاهد. الثالث: مجمعاً , قاله المفضل. الرابع: وعاء قال الصمصامة بن الطرماح: (فأنت اليومَ فوق الأرض حيٌّ ... وأنت غداً تَضُمُّكَ من كِفات.) {أحْياءً وأَمْواتاً} فيه وجهان: أحدهما: أن الأرض تجمع الناس أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها , قاله قتادة والشعبي. الثاني: أن من الأرض أحياء بالعمارة والنبات , وأمواتاً بالجدب والجفاف , وهو أحد قولي مجاهد.

29

{انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين} {انْطَلِقوا إلى ظِلٍّ ذي ثلاثِ شُعَبٍ} قيل إن الشعبة تكون فوقه , والشعبة عن يمينه , والشعبة عن شماله، فتحيط به، قاله مجاهد. الثاني: أن الشعب الثلاث الضريع والزقوم والغسلين، قاله الضحاك. ويحتمل ثالثاً: أن الثلاث الشعب: اللهب والشرر والدخان، لأنه ثلاثة أحوال هي غاية أوصاف النار إذا اضطرمت واشتدت. {لا ظَليلٍ} في دفع الأذى عنه.

{ولا يُغْني مِن اللهَب} واللهب ما يعلو عن النار إذا اضطرمت من أحمر وأصفر وأخضر. {إنها تَرْمي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ} والشرر ما تطاير من قطع النار , وفي قوله (كالقصر) خمسة أوجه. أحدها: أنه أصول الشجر العظام , قاله الضحاك. الثاني: كالجبل , قاله مقاتل. الثالث: القصر من البناء وهو واحد القصور , قاله ابن مسعود. الرابع: أنها خشبة كان أهل الجاهلية يقصدونها , نحو ثلاثة أذرع , يسمونها القصر , قاله ابن عباس. الخامس: أنها أعناق الدواب , قاله قتادة. ويحتمل وجهاً سادساً: أن يكون ذلك وصفاً من صفات التعظيم , كنى عنه باسم القصر , لما في النفوس من استعظامه , وإن لم يُردْ به مسمى بعينه. {كأنّه جِمالةٌ صُفْرٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني جِمالاً صُفراً وأراد بالصفر السود , سميت صفراً لأن سوادها يضرب إلى الصفرة , وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة , قال الشاعر: (تلك خَيْلي منه وتلك رِكابي ... هُنّ صُفْرٌ أولادُها كالزبيبِ.) الثاني: أنها قلوس السفن , قاله ابن عباس وسعيد بن جبير. الثالث: أنها قطع النحاس , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وفي تسميتها بالجمالات الصفر وجهان: أحدهما: لسرعة سيرها. الثاني: لمتابعة بعضها لبعض. {فإنْ كانَ لكم كَيْدٌ فَكِيدُونِ} فيه وجهان: أحدهما: إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم، قاله مقاتل. الثاني: إن استطعتم أن تمتنعوا عني فامتنعوا، وهو معنى قول الكلبي.

41

{إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون} {وإذا قِيلَ لهم ارْكَعوا لا يَرْكَعون} أي صلّوا لا يصلّون، قال مقاتل. نزلت في ثقيف امتنعوا عن الصلاة فنزل ذلك فيهم، وقيل إنه قال ذلك لأهل الآخرة تقريعاً لهم. {فبأيِّ حديثٍ بَعْدَه يُؤْمنُون} أي فبأي كتاب بعد القرآن يصدّقون.

سورة النبأ

النبأ

{عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا} قوله تعالى {عَمَّ يتساءَلونَ عن النبإ العَظيمِ} يعني عن أي شيء يتساءل المشركون؟ لأن قريشاً حيث بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت تجادل وتَختصم في الذي دعا إليه. وفي {النبأ العظيم} أربعة أقاويل: أحدها: القرآن، قاله مجاهد. الثاني: يوم القيامة، قاله ابن زيد. الثالث: البعث بعد الموت، قاله قتادة. الرابع: عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

{الذي هُمْ فيه مُختَلِفَونَ} هو البعث، فأما الموت فلم يختلفوا فيه، وفيه قولان: أحدهما: أنه اختلف فيه المشركون من بين مصدق منهم ومكذب , قاله قتادة. الثاني: اختلف فيه المسلمون والمشركون , فصدّق به المسلمون وكذّب به المشركون , قاله يحيى بن سلام. {كَلاَّ سيعْلَمون ثم كلا سيعلمون} فيه قولان: أحدهما: أنه وعيد بعد وعيد للكفار , قاله الحسن , فالأول: كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في القيامة , والثاني: كلا سيعلمون ما ينالهم من العذاب في جهنم. القول الثاني: أن الأول للكفار فيما ينالهم من العذاب في النار , والثاني للمؤمنين فيما ينالهم من الثواب في الجنة , قاله الضحاك. {وجَعَلْنا نَوْمَكم سُباتاً} فيه أربعة تأويلات: أحدها: نعاساً , قاله السدي. الثاني: سكناً , قاله قتادة. الثالث: راحة ودعة , ولذلك سمي يوم السبت سبتاً لأنه يوم راحة ودعة , قال أبو جعفر الطبري: يقال سبت الرجل إذا استراح. الرابع: سُباتا أي قطعاً لأعمالهم , لأن أصل السبات القطع ومنه قولهم سبت الرجل شعره إذا قطعه , قال الأنباري: وسمي يوم السبت لانقطاع الأعمال فيه. ويحتمل خامساً: أن السبات ما قرت فيه الحواس حتى لم تدرك بها الحس. {وجَعَلْنا اللّيلَ لِباساً} فيه وجهان: أحدهما: سكناً، قاله سعيد بن جبير والسدي. الثاني: غطاء، لأنه يغطي سواده كما يغطى الثوب لابسه، قاله أبو جعفر الطبري. {وجَعَلنا النهارَ مَعاشاً} يعني وقت اكتساب، وهو معاش لأنه يعاش فيه.

ويحتمل ثانياً: أنه زمان العيش واللذة. {وجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً} يعني بالسراج الشمس، وفي الوهّاج أربعة أقاويل: أحدها: المنير، قاله ابن عباس. الثاني: المتلألىء، قاله مجاهد. الثالث: أنه من وهج الحر، قاله الحسن. الرابع: أنه الوقّاد، الذي يجمع بين الضياء والجمال. {وأَنْزَلْنا من المُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ان المعصرات الرياح , قاله ابن عباس وعكرمة , قال زيد بن أسلم هي الجنوب. الثاني: أنها السحاب , قاله سفيان والربيع. الثالث: أن المعصرات السماء , قاله الحسن وقتادة. وفي الثجاج قولان: أحدهما: الكثير قاله ابن زيد. الثاني: المنصبّ , قاله ابن عباس , وقال عبيد بن الأبرص: (فثجّ أعلاه ثم ارتج أسفلُه ... وضاق ذَرْعاً بحمل الماء مُنْصاحِ) {لنُخرج به حبّاً ونَباتاً} فيه قولان: أحدهما: ان الحب ما كان في كمام الزرع الذي يحصد، والنبات: الكلأ الذي يرعى، وهذا معنى قول الضحاك. الثاني: أن الحب اللؤلؤ، والنبات: العشب، قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبتت في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. ويحتمل ثالثاً: أن الحب ما بذره الآدميّون، والنبات ما لم يبذروه. {وجنّاتٍ أَلْفافاً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها الزرع المجتمع بعضه إلى جنب بعض، قاله عكرمة. الثاني: أنه الشجرالملتف بالثمر، قاله السدي. الثالث: أنها ذات الألوان، قاله الكلبي.

ويحتمل رابعاً: أنها التي يلف الزرع أرضها والشجر أعاليها، فيجتمع فيها الزرع والشجر ملتفات.

17

{إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا} {إنّ يومَ الفصلِ} يعني يوم القيامة , سمي بذلك لأنه يفصل فيه الحكم بين الأولين والآخرين والمثابين والمعاقبين. {كانَ مِيقاتاً} فيه وجهان: أحدهما: ميعاداً للإجتماع. والثاني: وقتاً للثواب والعقاب. {وسُيِّرتِ الجبالُ فكانتْ سَراباً} فيه وجهان: أحدهما: سُيّرت أي أزيلت عن مواضعها. الثاني: نسفت من أصولها. (فكانت سراباً) فيه وجهان: أحدهما: فكانت هباءً. الثاني: كالسراب لا يحصل منه شيء كالذي يرى السراب يظنه ماء وليس بماء. {إنّ جهنّمَ كانت مِرْصاداً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني أنها راصدة فجازتهم بأعمالهم , قاله أبو سنان. الثاني: أن على النار رصداً , لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه , فمن جاء بجواز جاز , ومن لم يجىء بجواز لم يجز , قاله الحسن. الثالث: أن المرصاد وعيد أوعد الله به الكفار , قاله قتادة.

{للطّاغينَ مَآباً} فيه قولان: أحدهما: مرجعاً ومنقلباً , قاله السدي. الثاني: مأولى ومنزلاً , قاله قتادة. والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر أو في دنياه بالظلم. {لابِثينَ فيها أَحْقاباً} يعني كلما مضى حقب جاء حقب وكذلك إلى الأبد واختلفوا في مدة الحقب على سبعة أقاويل: أحدها: ثمانون سنة , قاله أبو هريرة. الثاني: أربعون سنة , قاله ابن عمر. الثالث: سبعون سنة , قاله السدي. الرابع: أنه ألف شهر , رواه أبو أمامة مرفوعاً. الخامس: ثلاثمائة سنة , قاله بشير بن كعب. السادس: سبعون ألف سنة , قاله الحسن. السابع: أنه دهر طويل غير محدود , قاله قطرب. وفي تعليق لبثهم بالأحقاب قولان: أحدهما: أنه على وجه التكثير , كلما مضت أحقاب جاءَت بعدها أحقاب , وليس ذلك بحد لخلودهم في النار. الثاني: أن ذلك حد لعذابهم بالحميم والغسّاق , فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب. {لا يَذُوقونَ فيها بَرداً ولا شَراباً} في البرد ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه برد الماء , وبرد الهواء , وهو قول كثير من المفسرين. الثاني: أنه الراحة , قاله قتادة. الثالث: أنه النوم , قاله مجاهد والسدي وأبو عبيدة. وأنشد قول الكندي: (بَرَدَتْ مَراشِفُها علىَّ فَصَدَّني ... عنها وعن تَقْبيلِها البَرْدُ) يعني النوم. والشراب ها هنا: العذاب. ويحتمل أن يريد بالشراب الري , لأن الشراب يروي وهم فيها عطاش أبداً. {إلاّ حَميماً وغَسّاقاً} أما الحميم ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه الحارّ الذي يحرق , قاله ابن عباس. الثاني: دموع أعينهم في النار تجتمع في حياض في النار فيُسقونْه , قاله ابن زيد. الثالث: أنه نوع من الشراب لأهل النار , قاله السدي. وأما الغسّاق ففيه أربعة أقاويل: أحدهاك أنه القيح الغليظ , قاله ابن عمر. الثاني: أنه الزمهرير البارد الذي يحرق من برده , قاله ابن عباس. الثالث: أنه صديد أهل النار , قاله قتادة. الرابع: أنه المنتن باللغة الطحاوية , قاله ابن زيد. {جزاءً وِفاقاً} وهو جمع وفق , قال أهل التأويل: وافق سوءُ الجزاء سوءَ العمل. {إنهم كانوا لا يَرْجُونَ حِساباً} فيه وجهان: أحدهما: لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً , قاله ابن عباس. الثاني: لا يخافون وعيد الله بحسابهم ومجازاتهم , وهذا معنى قول قتادة. {وكذّبوا بآياتِنا كِذّاباً} يعني بآيات القرآن , وفي (كِذّاباً) وجهان:

أحدهما: أنه الكذب الكثير. الثاني: تكذيب بعضهم لبعض , ومنه قول الشاعر: (فَصَدَقْتُها وَكَذَبْتُها ... والمرءُ يَنْفعُهُ كِذابُهْ) وهي لغة يمانية.

31

{إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا} {إنّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} فيه وجهان: أحدهما: نجاة من شرها , قاله ابن عباس. الثاني: فازوا بأن نجوا من النار بالجنة , ومن العذاب بالرحمة , قاله قتادة , وتحقيق هذا التأويل أنه الخلاص من الهلاك , ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها مفازة تفاؤلاً بالخلاص منها. {وكَواعِبَ أَتْراباً} في الكواعب قولان: أحدهما: النواهد , قاله ابن عباس. الثاني: العذارى , قاله الضحاك , ومنه قول قيس بن عاصم: (وكم مِن حَصانٍ قد حَويْنا كريمةٍ ... ومِن كاعبٍ لم تَدْرِ ما البؤسُ مُعْصر) وفي الاتراب أربعة أقاويل: أحدها: الأقران , قاله ابن عباس. الثاني: الأمثال , قاله مجاهد. الثالث: المتصافيات , قاله عكرمة. الرابع: المتآخيات , قاله السدي. {وكأساً دِهاقاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: مملوءة , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر:

(أتانا عامرٌ يَبْغي قِرانا ... فأَتْرَعنا له كأساً دِهاقاً) الثاني: متتابعة يتبع بعضها بعضاً , قاله عكرمة. الثالث: صافية , رواه عمر بن عطاء , قال الشاعر: (لأنْتِ آلى الفؤادِ أَحَبُّ قُرْباً ... مِن الصّادي إلى كأسٍ دِهَاقِ.) {لا يَسْمعونَ فيها لَغْواً ولا كِذّاباً} في اللغو ها هنا أربعة أقاويل: أحدها الباطل , قاله ابن عباس. الثاني: الحلف عند شربها , قاله السدي. الثالث: الشتم , قاله مجاهد. الرابع: المعصية , قاله الحسن. وفي (كِذّاباً) ثلاثة أقاويل: أحدهاك لا يكذب بعضهم بعضاً , قاله سعيد بن جبير. الثاني: أنه الخصومة , قاله الحسن. الثالث: أنه المأثم , قاله قتادة. وفي قوله {لا يَسْمَعونَ فيها} وجهان: أحدهما: في الجنة , قاله مجاهد. الثاني: في شرب الخمر , قاله يحيى بن سلام. {جزاءً من ربكَ عَطاءً حِساباً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: كافياً , قاله الكلبي. الثاني: كثيراً , قاله قتادة. الثالث: حساباً لما عملوا , فالحساب بمعنى العد.

37

{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر

المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} {يومَ يقومُ والرُّوحُ الملائكةُ صَفّاً} في الروح ها هنا ثمانية أقاويل: أحدها: الروح خلق من خلق الله كهيئة الناس وليسوا أناساً , وهم جند للَّه سبحانه , قاله أبو صالح. الثاني: أنهم أشرف الملائكة , قاله مقاتل بن حيان. الثالث: أنهم حفظة على الملائكة , قاله ابن أبي نجيح. الثالث: أنهم حفظة على الملائكة خلقاً , قاله ابن عباس. الرابع: أنه ملك من أعظم الملائكة خلقاً , قاله ابن عباس. الخامس: هو جبريل عليه السلام , قاله سعيد بن جبير. السادس: أنهم بنو آدم , قاله قتادة. السابع: أنهم بنو آدم , قاله قتادة. الثامن: أنه القرآن , قاله زيد بن أسلم. {لا يتكلمونَ إلا مَنْ أَذِنَ له الرحمنُ} فيه قولان: أحدهما: لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة , قاله الحسن. الثاني: لا يتكلمون في شيء إلا من أذن له الرحمن شهادة أن لا إله إلا الله , قاله ابن عباس. {وقالَ صَواباً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني حقاً , قاله الضحاك. الثاني: قول لا إله إلا الله , قاله أبو صالح. الثالث: أن الروح يقول يوم القيامة: لا تُدخل الجنة إلا بالرحمة , ولا النار إلا بالعمل , فهو معنى قوله (وقال صواباًَ) قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: أنه سؤال الطالب وجواب المطلوب , لأن كلام الخلق في القيامة مقصور على السؤال والجواب. {ذلك اليومُ الحقُّ} يعني يوم القيامة , وفي تسميته الحق وجهان: أحدهما: لأن مجئيه حق وقد كانوا على شك. الثاني: أنّ الله تعالى يحكم فيه بالحق بالثواب والعقاب. {فمن شاءَ اتّخَذ إلى ربِّه مآباً} فيه وجهان:

أحدهما: سبيلاً , قاله قتادة. الثاني: مرجعاً , قاله ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: اتخذ ثواباً لاستحقاقه بالعمل لأن المرجع يستحق على المؤمن والكافر. {إنّا أنذْرْناكم عَذاباَ قريباً} فيه وجهان: أحدهما: عقوبة الدنيا , لأنه أقرب العذابين , قاله قتادة , وقاله مقاتل: هو قتل قريش ببدر. الثاني: عذاب يوم القيامة , لأنه آت وكل آت قريب , وهو معنى قول الكلبي. {يومَ ينظُرُ المْرءُ ما قدَّمَتْ يَداهُ} يعني يوم ينظر المرء ما قدّم من عمل خير , قال الحسن: قدَّم فقَدِم على ما قَدَّم. ويحتمل أن يكون عامّاً في نظر المؤمن إلى ما قدّم من خير , ونظر الكافر إلى ما قدّم من شر. {ويقولُ الكافرُ يا لَيْتني كنتُ تُراباً} قال مجاهد يبعث الحيوان فيقاد للمنقورة من الناقرة، وللمركوضة من الراكضة، وللمنطوحة من الناطحة، ثم يقول الرب تعالى: كونوا تراباً بلا جنة ولا نار , فيقول الكافر حينئذ: يا ليتني كنت تراباً وفي قوله ذلك وجهان: أحدهما: يا ليتني صرت اليوم مثلها تراباً بلا جنة ولا نار، قاله مجاهد. الثاني: يا ليتني كنت مثل هذا الحيوان في الدنيا وأكون اليوم تراباً، قاله أبو هريرة: وهذه من الأماني الكاذبة كما قال الشاعر: (ألا يا ليتني والمْرءُ مَيْتُ ... وما يُغْني من الحدثانِ لَيْت.) قال مقاتل: نزل قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدّمت يداهُ} في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي , ونزل قوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} في أخيه الأسود بن عبد الأسد.

سورة النازعات بسم الله الرحمن الرحيم

النازعات

{والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} قوله تعالى {والنَّأزِعاتِ غَرْقاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم , قاله ابن مسعود ومسروق. الثاني: هو الموت ينزع النفوس، قاله مجاهد. الثالث: هي النفوس حين تنزع، قاله السدي. الرابع: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، ومن المشرق إلى المغرب، قاله الحسن وقتادة. والخامس: هي القسيّ تنزع بالسهم، قاله عطاء. السادس: هي الوحش تنزع من الكلأ وتنفر، حكاه يحيى بن سلام , ومعنى (غرقاً) أي إبعاداً في النزع. {والناشِطات نَشْطاً} فيه ستة تأويلات:

أحدها: هي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين بسرعة كنشط العقال , قاله ابن عباس. الثاني: النجوم التي تنشط من مطالعها إلى مغاربها , قاله قتادة. الثالث: هو الموت ينشط نفس الإنسان , قاله مجاهد. الرابع: هي النفس حيث نشطت بالموت , قاله السدي. الخامس: هي الأوهاق , قاله عطاء. السادس: هي الوحش تنشط من بلد إلى بلد , كما أن الهموم تنشط الإنسان من بلد إلى بلد , قاله أبو عبيدة , وانشد قول همام بن قحافة: (أمْسَتْ همومي تنشط المناشِطا ... الشامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسطاً.) {والسّابحاتِ سَبْحاً} فيه خمسة أوجه: أحدها: هي الملائكة سبحوا إلى طاعة الله من بني آدم , قاله ابن مسعود والحسن. الثاني: هي النجوم تسبح في فلكها , قاله قتادة. الثالث: هو الموت يسبح في نفس ابن آدم , قاله مجاهد. الرابع: هي السفن تسبح في الماء , قاله عطاء. الخامس: هي الخيل , حكاه ابن شجرة , كما قال عنترة: (والخيلُ تعْلم حين تس ... بَحُ في حياضِ المْوتِ سَبْحاً) ويحتمل سادساً: أن تكون السابحات الخوض في أهوال القيامة. {فالسّابقاتِ سَبْقاً} فيه خمسة تأويلات: أحدها هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء , قاله عليّ رضي الله عنه ومسروق. وقال الحسن: سبقت إلى الايمان. الثاني: هي النجوم يسبق بعضها بعضاً , قاله قتادة. الثالث: هوالموت يسبق إلى النفس , قاله مجاهد. الرابع: هي النفس تسبق بالخروج عند الموت , قاله الربيع.

الخامس: هي الخيل , قاله عطاء. ويحتمل سادساً: أن تكون السابقات ما سبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار. {فالمُدَبِّرات أمْراً} فيهم قولان: أحدهما: هي الملائكة , قاله الجمهور , فعلى هذا في تدبيرها بالأمر وجهان: أحدهما: تدبير ما أمرت به وأرسلت فيه. الثاني: تدبير ما وكلت فيه من الرياح والأمطار. الثاني: هي الكواكب السبعة , حكاه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل؛ وعلى هذا في تدبيرها للأمر وجهان. أحدهما: تدبير طلوعها وأفولها. الثاني: تدبير ما قضاه الله فيها من تقلب الأحوال. ومن أول السورة إلى هذا الموضع قسم أقسم الله به , وفيه وجهان: أحدهما: أن ذكرها بخالقها. الثاني: أنه أقسم بها وإن كانت مخلوقة لا يجوز لمخلوق أن يقسم بها , لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه. وجواب ما عقد له القسم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه مضمر محذوف وتقديره لو أظْهر: لتُبْعَثُن ثم لُتحاسبُن , فاستغنى بفحوى الكلام وفهم السامع عن إظهاره , قاله الفراء. الثاني: أنه مظهر , وهو قوله تعالى: {إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى} قاله مقاتل. الثالث: هو قوله تعالى: {يومَ ترْجفُ الراجفةُ تَتْبعُها الرادِفةُ} وفيهما ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الراجفة القيامة , والرادفة البعث , قاله ابن عباس. الثاني: أن الراجفة النفخة الأولى تميت الأحياء , والرادفة: النفخة الثانية تحيي الموتى , قاله الحسن وقتادة.

وقال قتادة: ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينهما أربعون , ما زادهم على ذلك ولا سألوه , وكانوا يرون أنها أربعون سنة). وقال عكرمة: الأولى من الدنيا , والثانية من الآخرة. الثالث: أن الراجفة الزلزلة التي ترجف الأرض والجبال والرادفة إذا دكّتا دكة واحدة , قاله مجاهد. ويحتمل رابعاً: أن الراجفة أشراط الساعة , والرادفة: قيامها. {قلوبٌ يومئذٍ واجِفَةٌ} فيه وجهان: أحدهما: خائفة , قاله ابن عباس. الثاني: طائرة عن أماكنها , قاله الضحاك. {أَبْصارُها خاشِعَة} فيه وجهان: أحدهما: ذليلة , قاله قتادة. الثاني: خاضعة , قاله الضحاك. {يقولون أئنا لَمْردودُونَ في الحافِرةِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الحافرة الحياة بعد الموت , قاله ابن عباس والسدي وعطية. الثاني: أنها الأرض المحفورة , قاله ابن عيسى. الثالث: أنها النار , قاله ابن زيد. الرابع: أنها الرجوع إلى الحالة الأولى تَكذيباً بالبعث , من قولهم رجع فلان على قومه إذا رجع من حيث جاء , قاله قتادة , قال الشاعر: (أحافرة على صَلَعٍ وشيْبٍ ... معاذَ اللَّه من جَهْلٍ وطَيْشِ) {أَئِذا كْنَا عِظاماً نَخِرةً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: بالية , قاله السدي. الثاني: عفنة , قاله ابن شجرة. الثالث: خالية مجوفة تدخلها الرياح فتنخر , أي تصوّت , قاله عطاء والكلبي.

ومن قرأ (ناخرة) فإن الناخرة البالية , والنخرة التي تنخر الريح فيها. {تلك إذاً كَرّةٌ خاسِرةٌ} فيه تأويلان: أحدهما: باطلة لا يجيء منها شيء , كالخسران , وليست كاسبة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: معناه لئن رجعنا أحياء بعد الموت لنخسرنّ بالنار , قاله قتادة ومحمد بن كعب. ويحتمل ثالثاً: إذا كنا ننتقل من نعيم الدنيا إلى عذاب الآخرة فهي كرة خاسرة. {فإنّما هي زجْرةٌ واحدةٌ} فيه تأويلان: أحدهما: نفخة واحدة يحيا بها الجميع فإذا هم قيام ينظرون , قاله الربيع بن أنس. الثاني: الزجرة الغضب , وهو غضب واحد , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: أنه لأمر حتم لا رجعة فيه ولا مثنوية. {فَإذَا هم بالسّاهرةِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: وجه الأرض , قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد , والعرب تسمي وجه الأرض ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهره , قال أمية بن أبي الصلت: (وفيها لحْمُ ساهرةٍ وبَحرٌ ... وما فاهوا به لهمُ مُقيم) وقال آخر يوم ذي قار لفرسه: (أَقْدِمْ مَحاجِ إنها الأساوِره ... ولا يهولنّك رِجْلٌ بادِرهْ) (فإنما قَصْرُكَ تُرْبُ السّاهرهْ ... ثم تعودُ , بَعْدها في الحافرهْ) 89 (من بَعْد ما صِرْتَ عظاماً ناخِرهْ} 9 الثاني: أنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشام , وهو الصقع الذي بين جبل أريحا وجبل حسّان , يمده الله تعالى كيف يشاء , قاله عثمان بن أبي العاتكة.

الثالث: أنها جبل بيت المقدس , قاله وهب بن منبه. الرابع: أنه جهنم , قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أنها عرضة القيام لأنها أول مواقف الجزاء , وهم في سهر لا نوم فيه.

15

{هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} {هلْ أتاكَ حديثُ موسى إذ ناداه ربه بالوادِ المقدَّسِ طُوَىً} فيه قولان: أحدهما: وهو قول مبشر بن عبيد هو واد بأيلة. الثاني: وهو قول الحسن , هو واد بفلسطين. وفي (المقدَّس) تأويلان: أحدهما: المبارك , قاله ابن عباس. الثاني: المطهر , قاله الحسن: قدّس مرتين. وفي (طُوَىً) أربعة أقاويل: أحدها: أنه أسم الوادي المقدس , قاله مجاهد وقتادة وعكرمة. الثاني: لأنه مر بالوادي فطواه , قاله ابن عباس. الثالث: لأنه طوي بالبركة , قاله الحسن. الرابع: يعني طأ الوادي بقدمك , قاله عكرمة ومجاهد. ويحتمل خامساً؛ أنه ما تضاعف تقديسه حتى تطهّر من دنس المعاصي , مأخوذ من طيّ الكتاب إذا ضوعف. {فَقُلْ هل لك إلى أن تَزَكّى} فيه قولان: أحدهما: إلى أن تُسْلِم , قال قتادة. الثاني: إلى أن تعمل خيراً، قاله الكلبي.

{فأَراهُ الآيةَ الكُبْرَى} فيها قولان: أحدهما: أنها عصاه ويده، قاله الحسن وقتادة. الثاني: أنها الجنة والنار، قاله السدي. ويحتمل ثالثاً: أنه كلامه من الشجرة. قوله {فَحَشَرَ فنادَى} فيه وجهان: أحدهما: حشر السحرة للمعارضة، ونادى جنده للمحاربة. الثاني: حشر الناس للحضور ونادى أي خطب فيهم. {فأخَذَهُ الله نَكالََ الآخرة والأُولى} فيها أربعة أقاويل: أحدها: عقوبة الدنيا والآخرة , قال قتادة: عذبه الله في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار. الثاني: عذاب أول عُمرِه وآخره , قاله مجاهد. الثالث: الأولى قوله: (ما علمت لكم مِن إلهٍ غيري) والآخرة قوله (أنا ربكم الأعلى) , قاله عكرمة , قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة , وقال مجاهد: ثلاثون سنة , قال السدي: وهي الآخرة ثلاثون سنة. الرابع: عذاب الأولى الإمهال , والآخرة في النار , من قوله تعالى: {النار يعرضون عليها} الآية , قاله الربيع.

27

{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم} {وأَغْطَشَ لَيْلَها وأَخْرَجَ ضُحاها} معناه أظلم ليلها , وشاهد الغطش أنه الظلمة قول الأعشى: (عَقَرْتُ لهم مَوْهِنا ناقتي ... وغامِرُهُمْ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ) يعني يغمرهم ليلهم لأنه غمرهم بسواده.

وفي قوله: (وأخرج ضُحاها) وجهان: أحدهما: أضاء نهارها وأضاف الليل والضحى إلى السماء لأن منهما الظلمة والضياء. الثاني: قال ابن عباس أن أخرج ضحاها: الشمس. {والأرضَ بَعْد ذلك دَحاها} في قوله (بَعْد) وجهان: أحدهما: مع وتقدير الكلام: والأرض مع ذلك دحاها , لأنها مخلوقة قبل السماء , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أن (بعد) مستعملة على حقيقتها لأنه خلق الأرض قبل السماء ثم دحاها بعد السماء , قاله ابن عمر وعكرمة. وفي (دحاها) ثلاثة أوجه: أحدها: بسطها , قاله ابن عباس , قال أمية بن أبي الصلت: (وَبَثَّ الخلْق فيها إذْ دَحاها ... فَهُمْ قُطّانُها حتى التنادي) قال عطاء: من مكة دحيت الأرض , وقال عبد الله بن عمر: من موضع الكعبة دحيت. الثاني: حرثها وشقها , قاله ابن زيد. الثالث: سوّاها , ومنه قول زيد بن عمرو: (وأسْلَمْتُ وجهي لمن أسْلَمتْ ... له الأرضُ تحمل صَخْراً ثِقالا) (دحاها فلما اسْتَوتْ شدّها ... بأيْدٍ وأرْسَى عليها الجبالا)

34

{فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر

من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} {فإذا جاءت الطامّةُ الكُُبْرى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنها النفخة الآخرة، قاله الحسن. الثاني: أنها الساعة طمت كل داهية، والساعة أدهى وأمّر، قاله الربيع. الثالث: أنه اسم من أسماء القيامة يسمى الطامة، قاله ابن عباس. الرابع: أنها الطامة الكبرى إذا سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، قاله القاسم بن الوليد، وهو معنى قول مجاهد. وفي معنى (الطامّة) في اللغة ثلاثة وجوه: أحدها: الغاشية. الثاني: الغامرة. الثالث: الهائلة , ذكره ابن عيسى , لأنها تطم على كل شيء أي تغطيه. {وأمّا مَنْ خاف مَقام رَبِّهِ ونَهَى النفْسَ عن الهَوى} فيه وجهان: أحدهما: هو خوفه في الدنيا من الله عند مواقعة الذنب فيقلع , قاله مجاهد. الثاني: هو خوفه في الآخرة من وقوفة بين يدي الله للحساب , قاله الربيع بن أنس , ويكون معنى: خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى , قال الكلبي: وزجر النفس عن المعاصي والمحارم. {فإنّ الجنّةَ هي المأوَى} أي المنزل , وذكر أنها نزلت في مصعب بن عمير. {يسألونَكَ عن الساعةِ أيّانَ مُرْساها} قال ابن عباس: متى زمانها , قاله الربيع {فيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها} فيه وجهان: أحدهما: فيم يسألك المشركون يا محمد عنها ولست ممن يعلمها , وهو معنى قول ابن عباس. الثاني: فيم تسأل يا محمد عنها وليس لك السؤال , وهذا معنى قول عروة بن الزبير.

{إلى ربِّك مُنْتَهاها} يعني منتهى علم الساعة: فكف النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال وقال: يا أهل مكة إن الله احتجب بخمس لم يُطْلع عيهن مَلَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فمن ادعى علمهن فقد كفر: {إن اللَّه عنده علم الساعة ... } إلى آخر السورة. {إنّما أنْتَ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. {مَنْذِرُ مَنْ يَخْشَاها} يعني القيامة. {كأنّهم يومَ يَرَوْنَها} يعني الكفار يوم يرون الآخرة. {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا. {إلاَّ عَشيّةً} وهي ما بعد الزوال. {أو ضُحاها} وهو ما قبل الزوال , لأن الدنيا تصاغرت عندهم وقلّت في أعينهم , كما قال تعالى: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعةً من نهارٍ}.

سورة عبس مكية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم

عبس

{عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} قوله تعالى {عَبَسَ وتَوَلّى أنْ جاءَه الأَعْمَى} روى سعيد عن قتادة أن ابن أم مكتوم , وهو عبد الله بن زائدة من بني فهر , وكان ضريراً , أتى رسول الله رسول الله صلى الله عليه سلم يستقرئه وهو يناجي بعض عظماء قريش - وقد طمع في إسلامهم - قال قتادة: هو أمية بن خلف , وقال مجاهد: هما عتبة وشيبة ابنا ربيعة , فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمى وعبس في وجهه , فعاتبه الله تعالى في إعراضه وتوليه فقال (عبس وتولّى) أي قطّب واعرض (أن جاءه الأعمى) يعني ابن أم مكتوم. {وما يُدريك لعلّه يَزَّكى} فيه أربعة أوجه: أحدها: يؤمن , قاله عطاء. الثاني: يتعبد بالأعمال الصالحة، قاله ابن عيسى. الثالث: يحفظ ما يتلوه عليه من القرآن، قاله الضحاك.

الرابع: يتفقه في الدين , قاله ابن شجرة. {أوْ يَذَّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَى} قال السدّي: لعله يزّكّى ويّذكرُ , والألف صلة , وفي الذكرى وجهان: أحدها: الفقه. الثاني: العظة. قال ابن عباس: فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر إليه مقبلاً بسط له رداءه حتى يجلس عليه إكراماً له. قال قتادة: واستخلفه على صلاة الناس بالمدينة في غزاتين من غزواته , كل ذلك لما نزل فيه. {كلاّ إنّها تَذْكِرةٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن هذه السورة تذكرة , قاله الفراء والكلبي. الثاني: أن القرآن تذكرة , قاله مقاتل. {فَمَن شَاءَ ذكَرَهُ} فيه وجهان: أحدهما: فمن شاء الله ألهمه الذكر , قاله مقاتل. الثاني: فمن شاء أن يتذكر بالقرآن أذكره الله , وهو معنى قول الكلبي. {في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مكرمة عند الله , قاله السدي. الثاني: مكرمة في الدين لما فيها من الحكم والعلم , قاله الطبري. الثالث: لأنه نزل بها كرام الحفظة. ويحتمل قولاً رابعاً: أنها نزلت من كريم , لأن كرامة الكتاب من كرامة صاحبه. {مرفوعةٍ} فيه قولان: أحدهما: مرفوعة في السماء , قاله يحيى بن سلام. الثاني: مرفوعة القدر والذكر , قاله الطبري.

ويحتمل قولاً ثالثاً: مرفوعة عن الشُبه والتناقض. {مُطَهّرةٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدهأ: من الدنس , قاله يحيى بن سلام. الثاني: من الشرك , قاله السدي. الثالث: أنه لا يمسها إلا المطهرون , قاله ابن زيد. الرابع: مطهرة من أن تنزل على المشركين , قاله الحسن. ويحتمل خامساً: لأنها نزلت من طاهر مع طاهر على طاهر. {بأيْدِى سَفَرَةٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن السفرة الكتبة , قاله ابن عباس , قال المفضل: هو مأخوذ من سفر يسفر سفراً , إذا كتب , قال الزجاج: إنما قيل للكتاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه , كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر , وسفرت المرأة إذا كشفت نقابها. الثاني: أنهم القّراء , قال قتادة لأنهم يقرؤون الأسفار. الثالث: هم الملائكة , لأنهم السفرة بين يدي الله ورسله بالرحمة , قال زيد , كما يقال سَفَر بين القوم إذا بلغ صلاحاً , وأنشد الفراء: (وما أدَعُ السِّفارةَ بين قوْمي ... وما أَمْشي بغِشٍ إنْ مَشَيْتُ) {كِرام بَرَرةٍ} في الكرام ثلاثة أقاويل: أحدها: كرام على ربهم , قاله الكلبي. الثاني: كرام عن المعاصي فهم يرفعون أنفسهم عنها , قاله الحسن. الثالث: يتكرمون على من باشر زوجته بالستر عليه دفاعاً عنه وصيانة له , وهو معنى قول الضحاك. ويحتمل رابعاً: أنهم يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وفي (بررة) ثلاثة أوجه: أحدها: مطيعين , قاله السدي.

الثاني: صادقين واصلين , قاله الطبري. الثالث: متقين مطهرين , قاله ابن شجرة. ويحتمل قولاً رابعاً: أن البررة مَن تعدى خيرهم إلى غيرهم , والخيرة من كان خيرهم مقصوراً عليهم.

17

{قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم} {قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَرَه} في (قتل) وجهان: أحدهما: عُذِّب. الثاني: لعن. وفي (الإنسان) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه إشارة إلى كل كافر , قاله مجاهد. الثاني: أنه أمية بن خلف , قاله الضحاك. الثالث: أنه عتبة بن أبي لهب حين قال: إني كفرت برب النجم إذا هوى , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللَّهم سلّطْ عليه كلبك) فأخذه الأسد في طريق الشام , قاله ابن جريج والكلبي. وفي (ما أكْفَرَه) ثلاثة أوجه: أحدها: أن (ما) تعجب , وعادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا قاتله الله ما أحسنه , وأخزاه الله ما أظلمه , والمعنى: أعجبوا من كفر الإنسان لجميع ما ذكرنا بعد هذا. الثاني: أي شيء أكفره , على وجه الاستفهام , قاله السدي ويحيى بن سلام.

الثالث: ما ألعنه , قاله قتادة. {ثم السبيلَ يَسّرَهُ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: خروجه من بطن أمه , قاله عكرمة والضحاك. الثاني: سبيل السعادة والشقاوة , قاله مجاهد. الثالث: سبيل الهدى والضلالة , قاله الحسن. ويحتمل رابعاً: سبيل منافعه ومضاره. {ثُمَّ أَماتَهُ فأَقْبَرَهُ} فيه قولان: أحدهما: جعله ذا قبر يدفن فيه , قاله الطبري , قال الأعشى: (لو أسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاشَ ولم يُنْقلْ إلى قابر) الثاني: جعل من يقبره ويواريه , قاله يحيى بن سلام. {ثُمَّ إذا شاءَ أَنشَرَهُ} يعني أحياه , قال الأعشى: (حتى يقولَ الناسُ مما رأوْا ... يا عجباً للميّت الناشِرِ) {كلاّ لّما يَقْضِ ما أَمَرَهُ} فيه قولان: أحدهما: أنه الكافر لم يفعل ما أمر به من الطاعة والإيمان , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه على العموم في المسلم والكافر , قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه , وكلاّ ها هنا لتكرير النفي وهي موضوعة للرد. ويحتمل وجه حمله على العموم أن الكافر لا يقضيه عمراً , والمؤمن لا يقضيه شهراً. {فَلْيَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِه} فيه وجهان: أحدهما: إلى طعامه الذي يأكله وتحيا نفسه به , من أي شيء كان , قاله يحيى.

الثاني: ما يخرج منه أي شيء كان؟ ثم كيف صار بعد حفظ الحياة وموت الجسد. قال الحسن: إن ملكاً يثني رقبة ابن آدم إذا جلس على الخلاء لينظر ما يخرج منه. ويحتمل إغراؤه بالنظر إلى وجهين: أحدهما: ليعلم أنه محل الأقذار فلا يطغى. الثاني: ليستدل على استحالة الأجسام فلا ينسى. {أنّا صَبَبْنا الماءَ صبّاً} يعني المطر. {ثم شَقَقْنا الأرضَ شقّاً} يعني بالنبات. {فَأَنْبَتْنَا فيها حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً} والقضب: القت والعلق سمي بذلك لقضبه بعد ظهوره. {وزَيْتوناً ونخْلاً وحدائقَ غُلْباً} فيه قولان: أحدهما: نخلاً كراماً , قاله الحسن. الثاني: الشجر الطوال الغلاظ , قال الكلبي: الْغلب الغِلاط , قال الفرزدق: (عَوَى فأَثارَ أغْلَبَ ضَيْغَميّاً ... فَوَيْلَ ابنِ المراغةِ ما استثار) وفي (الحدائق) ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها ما التف واجتمع , قاله ابن عباس. الثاني: أنه نبت الشجر كله. الثالث: أنه ما أحيط عليه من النخل والشجر , وما لم يحط عليه فليس بحديقة حكاه أبو صالح. ويحتمل قولاً رابعاً: أن الحدائق ما تكامل شجرها واختلف ثمرها حتى عم خيرها.

ويحتمل الغُلْب أن يكون ما غلبت عليه ولم تغلب فكان هيناً. {وفاكهةً وأبّاً} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن الأبّ ما ترعاه البهائم , قاله ابن عباس: وما يأكله الآدميون الحصيدة , قال الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: (له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها يُنْبِتُ الله الحصيدة والأَبّا) الثاني: أنه كل شيء ينبت على وجه الأرض , قاله الضحاك. الثالث: أنه كل نبات سوى الفاكهة , وهذا ظاهر قول الكلبي. الرابع: أنه الثمار الرطبة , قاله ابن أبي طلحة. الخامس: أنه التبن خاصة , وهو يحكي عن ابن عباس أيضاً , قال الشاعر: (فما لَهم مَرْتعٌ للسّوا ... م والأبُّ عندهم يُقْدَرُ) ) ووجدت لبعض المتأخرين سادساً: أن رطب الثمار هو الفاكهة , ويابسها الأبّ. ويحتمل سابعاً: أن الأبّ ما أخلف مثل أصله كالحبوب , والفاكهة ما لم يخلف مثل أصله من الشجر. روي أن عمر بن الخطاب قرأ {عبس وتولّى} فلما بلغ إلى قوله تعالى: {وفاكهة وأبّا} قال: قد عرفنا الفاكهة , فما الأبّ؟ ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا هو التكلف وألقى العصا من يده. وهذا مثل ضربه الله تعالى لبعث الموتى من قبورهم فهم كنبات الزرع بعد دثوره , وتضمن امتناناً عليهم بما أنعم.

33

{فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه

لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة} {فإذا جاءَتِ الصّاخّةُ} فيها قولان: أحدهما: أنها النفخة الثانية التي يصيخ الخلق لاستماعها , قاله الحسن , ومنه قول الشاعر: (يُصِيخُ للنْبأَة أَسْماعه ... إصاخَةَ الناشدِ للمُنْشِد) الثاني: أنه اسم من أسماء القيامة , لإصاخة الخلق إليها من الفزع , قاله ابن عباس. {يوم يَفِرُّ المرءُ مِن أخيه وأُمِّه وابيه وصاحِبتِه وبنيه} وفي فراره منهم ثلاثة أوجه: أحدها: حذراً من مطالبتهم إياه للتبعات التي بينه وبينهم. الثاني: حتى لا يروا عذابه. الثالث: لاشتغاله بنفسه , كما قال تعالى بعده: {لكل امرىء منهم يومئذ شأنٌ يُغْنِيهِ} أي يشغله عن غيره. {وجوهٌ يومئذٍ مُسفِرةٌ} فيه وجهان: أحدهما: مشرقة. الثاني: فرحة , حكاه السدي. {ضَاحكةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: ضاحكة من مسرة القلب. الثاني: ضاحكة من الكفار شماتة وغيظاً , مستبشرة بأنفسها مسرة وفرحاً. {ووجوهٌ يومَئذٍ عليها غبرَةٌ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه غبار جعل شيناً لهم ليتميزوا به فيعرفوا. الثاني: أنه كناية عن كمد وجوههم بالحزن حتى صارت كالغبرة. {ترْهقُها قَتَرةٌ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: تغشاها ذلة وشدة، قاله ابن عباس.

الثاني: خزي , قال مجاهد. الثالث: سواد , قاله عطاء. الرابع: غبار , قاله السدي , وقال ابن زيد: القترة ما ارتفعت إلى السماء والغبرة: ما انحطت إلى الأرض. الخامس: كسوف الوجه , قاله الكلبي ومقاتل. {أولئك هم الكَفَرَةُ الفَجرَةُ} يحتمل جمعه بينهما وجهين: أحدهما: أنهم الكفرة في حقوق الله , الفجرة في حقوق العباد. الثاني: لأنهم الكفرة في أديانهم , الفجرة في أفعالهم.

سورة التكوير بسم الله الرحمن الرحيم

التكوير

{إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت} قوله تعالى: {إذا الشمسُ كُوِّرَتْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: يعني ذهب نورها وأظلمت , قاله ابن عباس. الثاني: غُوِّرَت , وهو بالفارسية كوبكرد , قاله ابن جبير. الثالث: اضمحلت , قاله مجاهد. الرابع: نكست , قاله أبو صالح. الخامس: جمعت فألقيت , ومنه كارة الثياب لجمعها , وهو قول الربيع بن خيثم. {وإذا النجوم انْكَدَرَتْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: تناثرت , قاله الربيع بن خيثم. الثاني: تغيرت فلم يبق لها ضوء , قاله ابن عباس.

الثالث: تساقطت , قاله قتادة , ومنه قول العجاج: (أبصَرَ خرْبان فضاء فانكَدَرْ ... تَقضِّيَ البازي إذا البازي كَسَر) ويحتمل رابعاً: أن يكون انكدارها طمس آثارها , وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها. {وإذا الجبالُ سُيِّرتْ} يعني ذهبت عن أماكنها , قال مقاتل: فسويت بالأرض كما خلقت أول مرة وليس عليها جبل ولا فيها واد. {وإذا العِشارُ عُطِّلتْ} والعشار: جمع عشراء وهي الناقة إذا صار لحملها عشرة أشهر , وهي أنفس أموالهم عندهم , قال الأعشى: (هو الواهبُ المائةَ المصْطفا ... ةَ إمّا مخاضاً وإمّا عِشاراً) فتعطل العشار لاشتغالهم بأنفسهم من شدة خوفهم. وفي (عطلت) تأويلان: أحدهما: أُهملت , قاله الربيع. الثاني: لم تحلب ولم تدر , قاله يحيى بن سلام. وقال بعضهم: العشار: السحاب تعطل فلا تمطر. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أنها الأرض التي يعشر زرعها فتصير للواحد عُشراً , تعطل فلا تزرع. {وإذا الوُحوشُ حُشِرتْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: جمعت , قاله الربيع. الثاني: اختلطت , قاله أبي بن كعب فصارت بين الناس.

الثالث: حشرت إلى القيامة للقضاء فيقتص للجمّاء من القرناء , قاله السدي. الرابع: أن حشرها بموتها , قاله ابن عباس. {وإذا البحارُ سُجِّرتْ} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: فاضت , قاله الربيع. الثاني: يبست , قاله الحسن. الثالث: ملئت , أرسل عذبها على مالحها , ومالحها على عذبها حتى امتلأت , قاله أبو الحجاج. الرابع: فجرت فصارت بحراً واحداً , قاله الضحاك. الخامس: سيرت كما سيرت الجبال , قاله السدي. السادس: هو حمرة مائها حتى تصير كالدم , مأخوذ من قولهم عين سجراء أي حمراء. السابع: يعني أوقدت فانقلبت ناراً , قاله عليّ رضي الله عنه وابن عباس وأُبي بن كعب. الثامن: معناه أنه جعل ماؤها شراباً يعذب به أهل النار , حكاه ابن عيسى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف (سجرت) إخباراً عن حالها مرة واحدة , وقرأ الباقون بالتشديد إخباراً عن حالها في تكرار ذلك منها مرة بعد أخرى. {وإذا النفوسُ زُوِّجَتْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني عُمل بهن عملٌ مثل عملها , فيحشر العامل بالخير مع العامل بالخير إلى الجنة , ويحشر العامل بالشر مع العامل بالشر إلى النار , قاله عطية العوفي: حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة. الثاني: يزوج كل رجل نظيره من النساء فإن من أهل الجنة زوّج بامرأة من

اهل الجنة , وإن كان من أهل النار زوّج بامرأة من أهل النار , قاله عمر بن الخطاب , ثم قرأ: {احْشُروا الذين ظلموا وأزواجهم} الثالث: معناه ردّت الأرواح إلى الأجساد , فزوجت بها أي صارت لها زوجاً , قاله عكرمة والشعبي. الرابع: أنه قرن كل غاو بمن أغواه من شيطان أو إنسان , حكاه ابن عيسى. ويحتمل خامساً: زوجت بأن أضيف إلى كل نفس جزاء عملها , فصار لاختصاصها به كالتزويج. {وإذا الموءوجة سُئِلَتْ} والموءودة المقتولة , كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت امرأته بنتاً دفنها حية , إما خوفاً من السبي والاسترقاق , وإما خشية الفقر والإملاق , وكان ذوو الشرف منهم يمتنعون من هذا ويمنعون منه حتى افتخر الفرزدق فقال: (ومِنّا الذي مَنَعَ الوائداتِ ... فأحْيا والوئيدَ فلم تُوأَدِ) وسميت موءودة للثقل الذي عليها من التراب , ومنه قوله تعالى: {ولا يئوده حفظهما} أي لا يثقله , وقال متمم بن نويرة: (وموءودةٍ مقبورة في مفازةٍ ... بآمتها موسودة لم تُمهّدِ) فقال توبيخاً لقاتلها وزجراً لمن قتل مثلها {وإذا الموءودة سئلت} واختلف هل هي السائلة أو المسئولة , على قولين: أحدهما: وهو قول الأكثرين أنها هي المسئولة: {بأيِّ ذَنْبِ قُتِلَتْ} فتقول: لا ذنب لي , فيكون ذلك أبلغ في توبيخ قاتلها وزجره. الثاني: أنها هي السائلة لقاتلها لم قتلت , فلا يكون له عذر , قاله ابن عباس وكان يقرأ: وإذا الموءودة سألت.

قال قتادة: يقتل أحدهما بنته ويغذو كلبه , فأبى الله سبحانه ذلك عليهم. {وإذا الصُّحُف نُشِرَتْ} يعني صحف الأعمال إذا كتب الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير وشر، تطوى بالموت وتنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها قيقول: ({ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحْصاها}. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد نشّرت على تكرار النشر , وقرأ الباقون بالتخفيف على نشرها مرة واحدة , فإن حمل على المرة الواحدة فلقيام الحجة بها , وإن حمل على التكرار ففيه وجهان: أحدهما: للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع. الثاني: لتكرير ذلك من الإنسان والملائكة الشهداء عليه. {وإذا السماءُ كُشِطَتْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها يعني ذهبت , قاله الضحاك. الثاني: كسفت , قاله السدي. الثالث: طويت , قاله يحيى بن سلام , كما قال تعالى: {يوم نطوي السماء} الآية. {وإذا الجحيمُ سُعِّرَتْ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أحميت , قاله السدي. الثاني: أُوقدت , قاله معمر عن قتادة. الثالث: سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم , قاله سعيد عن قتادة. {وإذا الجنّةُ أُزْلِفَتْ} أي قرّبت , قال الربيع: إلى هاتين الآيتين ما جرى الحديث فريق في الجنة وفريق في السعير. {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرتْ} يعني ما عملت من خير وشر. وهذا جواب {إذا الشمس كورت} وما بعدها , قال عمر بن الخطاب: لهذا جرى الحديث , وقال الحسن: {إذا الشمس كورت} قسم وقع على قوله {علمت نفسٌ ما أَحضَرَتْ}.

15

{فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس

إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} {فلا أُقسِمُ بالخُنّسِ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت , قاله الحسن وقتادة. الثاني: خمسة الأنجم وهي: زحل وعطارد والمشتري والمريخ والزهرة , قاله عليّ. وفي تخصيصها بالذكر وجهان: أحدهما: لأنها لا تستقبل الشمس، قاله بكر بن عبد الله المزني. الثاني: لأنها تقطع المجرة، قاله ابن عباس. الثالث: أن الخنس بقر الوحش، قاله ابن مسعود. الرابع: أنها الظباء، قاله ابن جبير. ويحتمل تأويلاً خامساً: أنها الملائكة لأنها تخنس فلا تُرى , وهذا قَسَمٌ مبتدأ، و (لا) التي في قوله {فلا أقسم بالخنس} فيها الأوجه الثلاثة التي في {لا أقسم بيوم القيامة}. {الجوار الكُنّسِ} فيها التأويلات الخمسة: أحدها: النجوم , قاله الحسن، سميت بالجواري الكنس لأنها تجري في مسيرها. الثاني: أنها النجوم الخمسة، وهو قول عليّ.

والكنّس , الغيّب , مأخوذ من الكناس وهو كناس الوحش التي تختفي فيه , قال أوس بن حجر: (ألم تر أن الله أنزل مُزْنَهُ ... وعُفْرُ الظباءِ في الكِناس تَقَمّعُ) الثالث: أنها بقر الوحش لاختفائها في كناسها , قاله ابن مسعود. الرابع: الظباء , قاله ابن جبير. الخامس: هي الملائكة. {والليلِ إذا عَسْعَسَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أظلم , قاله ابن مسعود ومجاهد , قال الشاعر: (حتى إذ ما لَيْلُهُنَّ عَسْعَسا ... رَكِبْنَ مِن حَدِّ الظّلامِ حِنْدساً) الثاني: إذا ولى , قاله ابن عباس وابن زيد , قال الشاعر: (حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا) الثالث: إذا أقبل , قاله ابن جبير وقتادة , وأصله العس وهو الامتلاء , ومنه قيل للقدح الكبير عس لامتلائه بما فيه , فانطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه , وانطلق على ظلامه لاستكمال امتلائه , {والصبحِ إذا تَنَفّسَ} فيه تأويلان: أحدهما: طلوع الفجر , قاله عليّ وقتادة. الثاني: طلوع الشمس , قاله الضحاك. وفي (تنفّسَ) وجهان: أحدهما: بان إقباله. الثاني: زاد ضوؤه. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن يكون تنفس بمعنى طال , مأخوذ من قولهم قد تنفس النهار إذا طال.

{إنه لَقَوْلُ رسولٍ كريمٍ} وهو جواب القسم , يعني القرآن. وفي الرسول الكريم قولان: أحدهما: جبريل , قاله الحسن وقتادة والضحاك. الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم , قاله ابن عيسى , فإن كان المراد به جبريل فمعناه قول رسول للَّه كريم عن رب العاليمن لأن أصل القول الذي هو القرآن ليس من الرسول , إنما الرسول فيه مبلغ على الوجه الأول , ومبلغ إليه على الوجه الثاني. {مُطاعٍ ثَمَّ أمينٍ} هو جبريل في أصح القولين , يعني مطاعاً فيمن نزل عليه من الأنبياء , أميناً فيما نزل به من الكتب. {وما صاحبكم بمجنونٍ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم. {ولقد رآه بالأفق المبين} وفي الذي رآه قولان: أحدهما: أنه رأى ربه بالأفق المبين , وهو معنى قول ابن مسعود. الثاني: رأى جبريل بالأفق المبين على صورته التي هو عليها , وفيها قولان: أحدهما: أنه رآه ببصره , قاله ابن عباس وعائشة. الثاني: بقلبه , ولم يره ببصره , قاله أبو ذر. وفي (الأفق) قولان: أحدهما: أنه مطلع الشمس. الثاني: أقطار السماء ونواحيها , قال الشاعر: (أخَذْنا بآفاقِ السماءِ عليكمُ ... لنا قَمَراها والنُّجومُ الطّوالعُ) فعلى هذا فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه رآه في أفق السماء الشرقي، قاله سفيان. والثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة.

الثالث: أنه رآه نحو أجياد، وهو مشرق مكة، قاله مجاهد، {وما هو على الغَيْبِ بضنين} قرأ بالظاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وفيه وجهان: أحدهما: وما محمد على القرآن بمتهم أن يأتي بما لم ينزل عليه , قاله ابن عباس. الثاني: بضعيف عن تأديته , قاله الفراء. وقرأ الباقون بالضاد , وفيه وجهان: أحدهما: وما هو ببخيل أن يعلِّم كما تعلّم. الثاني: وما هو بمتهم أن يؤدي ما لم يؤمر به. {فأيْنَ تَذْهَبون} فيه وجهان: أحدهما: فإلى أين تعدلون عن كتاب الله تعالى وطاعته , قاله قتادة. الثاني: فأي طريق أهدى لكم وأرشد من كتاب الله , حكاه ابن عيسى. ويحتمل ثالثاً: فأين تذهبون عن عذابه وعقابه. {وما تشاؤون إلا أن يشاءَ اللهُ ربُّ العالَمين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وما تشاؤون الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله لكم. الثاني: وما تشاؤون الهداية إلا أن يشاء الله بتوفيقه: وقيل إن سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل: ذلك إلينا إن شئنا استقمنا , وإن شئنا لم نستقم , فأنزل الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله ربّ العالمين}.

سورة الانفطار مكية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم

الانفطار

{إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون} قوله تعالى: {إذا السماءُ انْفَطَرتْ} فيه وجهان: أحدهما: انشقت. الثاني: سقطت , قال الشاعر: (كانوا سعوداً سماءَ الناس فانفطرت ... فأصبح الشمل لم ترفع له عُمُد) {وإذا البحار فُجِّرَتْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يبست , قاله الحسن. الثاني: خلطت فصارت بحراً واحداً , وهذا معنى قول ابن عباس , قال: وهو سبعة أبحر فتصير بحراً واحداً.

الثالث: فجر عذبها في مالحها: ومالحها في عذبها , قاله قتادة. ويحتمل رابعاً: أي فاضت. {وإذا القبور بُعْثِرتْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بحثت وثوّرت , قاله ابن عباس وعكرمة , وقال الفراء: فيخرج ما في بطنها من الذهب والفضة , وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها ثم تخرج الموتى. الثاني: حركت للبعث , قاله السدي. الثالث: بعث من فيها من الأموات , قاله قتادة. {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قدَّمَتْ وأَخرَتْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما عملت وما تركت , قاله أبو رزين. الثاني: ما قدمت من طاعة , وأخرت من حق الله , قاله ابن عباس. الثالث: ما قدمت من الصدقات وما أخرت من الميراث. ويحتمل ما قدمت من معصية وأخرت من طاعة , لأنه خارج مخرج الوعيد , وهذا جواب {إذا السماء انفطرت} لأنه خبر , وجعلها الحسن قَسَماً وقعت على قوله {علمت نفس} الآية. والأظهر ما عليه الجماعة من أنه خبر وليس بقسم. {يا أيها الإنسان ما غّرَّك بربِّكَ الكريم} في الإنسان ها هنا ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه إشارة إلى كل كافر. الثاني: أنه أبي بن خلف، قاله عكرمة. الثاث: أنه أبو الأشد بن كلدة بن أسد الجمحي، قاله ابن عباس. وفي الذي غرَّه قولان: أحدهما: عدوه الشيطان، قاله قتادة. الثاني: جهله، وهو قول عمر بن الخطاب.

ويحتمل قولاً ثالثاً: إنه إمهاله. (الكريم) الذي يتجاوز ويصفح , وروى الحسن أن عمر بن الخطاب لما قرأ {يا أيها الإنسان} ... . . الآية , قال: حمقه وجهله. {الذي خَلَقَك فسَوَّاك فَعدَلك} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: فسوى خلقك وعدل خلقتك. الثاني: فسوَّى أعضاءك بحسب الحاجة وعدلها في المماثلة لا تفضل يد على يد , ولا رجل على رجل. الثالث: فسواك إنساناً كريماً وعدل بك عن أن يجعلك حيواناً بهيماً. قال أصحاب الخواطر: سوّاك بالعقل وعدلك بالإيمان. {في أَيِّ صورَةٍ ما شاءَ رَكّبَكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ما شاء ركبك من شبه أم أو أب أو خال أو عم , قاله مجاهد. الثاني: من حسن أو قبح أو طول أو قصر أو ذكر أو أنثى , قاله ابن عيسى. الثالث: في أي صورة من صور الخلق ركبك حتى صرت على صورتك التي أنت عليها أيها الإنسان لا يشبهك شيء من الحيوان. وروى موسى بن علي بن رباح اللخمي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجده: ما ولِدَ لك؟ قال: يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية , قال رسول الله: ومن عسى أن يشبه؟ قال: إما أباه وإما أمه , فقال عليه السلام عندها: مه لا تقولن هكذا , إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم أما قرأت في كتاب الله: في أي صورة ما شاء ركبك. {كلاّ بَلْ تُكّذِّبونَ بالدِّين} فيه ثلاثة تأويلات:

أحدها: بالحساب والجزاء , قاله ابن عباس. الثاني: بالعدل والقضاء , قاله عكرمة. الثالث: بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم , حكاه ابن عيسى. {وإنَّ عليكم لحافِظِينَ} يعني الملائكة , يحفظ كلَّ إنسان ملكان , أحدهما عن يمينه يكتب الخير , والآخر عن شماله يكتب الشر. {كِراماً كاتِبينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كراماً على الله , قاله يحيى بن سلام. الثاني: كراماً بالإيمان , قاله السدي. الثالث: لأنهم لا يفارقون ابن آدم إلا في موطنين عند الغائط وعند الجماع يعرضان عنه ويكتبان ما تكلم به , فلذلك كره الكلام عند الغائط والجماع. ويحتمل رابعاً: كراماً لأداء الأمانة فيما يكتبونه من عمله فلا يزيدون فيه ولا ينقصون منه.

13

{إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} وفي قوله تعالى: {إنّ الأبرارَ لفي نَعيم وإن الفُجّارَ لقي جَحيمٍ} قولان: أحدهما: في الآخرة فيكون نعيم الأبرار في الجنة بالثواب , وجحيم الفجار في النار بالعقاب.

والقول الثاني: أنه في الدنيا , فعلى هذا فيه أربعة أوجه ذكرها أصحاب الخواطر. أحدها: النعيم القناعة , والجحيم الطمع. الثاني: النعيم التوكل , والجحيم الحرص. الثالث: النعيم الرضا بالقضاء , والجحيم السخط فيما قدر وقضى. الرابع: النعيم بالطاعة , والجحيم بالمعيصية. {وما هُمْ عنها بغائبين} فيه وجهان: أحدهما: عن القيامة تحقيق للبعث فعلى هذا يجوز أن يكون هذا الخطاب متوجهاً إلى الأبرار والفجار جميعاً. الثاني: عن النار , ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفجار دون الأبرار , والمراد بأنهم لا يغيبون عنها أمران: أحدهما: تحقيق الوعيد. الثاني: تخليد الفجار. {وما أدْراك ما يومُ الدِّين ثُمَّ ما أدْراكَ ما يومُ الدِّين} يعني يوم الجزاء , وهو يوم القيامة , وفي تكراره وجهان: أحدهما: تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره. الوجه الثاني: أن الأول خطاب للفجار والثاني خطاب للأبرار ترغيباً. {يومَ لا تَمْلِك نفسٌ لنَفْسٍ شيئاً} يعني لا يملك مخلوق لمخلوق نفعاً ولا ضراً. {والأمر يومئذٍ للَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: في الجزاء بالثواب والعقاب. الثاني: في العقوبة والانتقام.

سورة المطففين

المطففين

{ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} قوله تعالى: {ويْلٌ للمطفّفين} قال ابن عباس: كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلاً , إلى أن أنزل الله تعالى: {ويل للطففين} فأحسنوا الكيل , قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلاً إلى يومهم هذا. أعمض بعض المتعمقة فحمله على استيفاء العبادة بين الناس جهراً , وفي النقصان سراً.

وفي (ويل) سبعة أقاويل: أحدها: أنه واد في جهنم , رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً. الثاني: صديد أهل النار , قاله ابن مسعود. الثالث: أنه النار , قاله عمر مولى عفرة. الرابع: أنه الهلاك , قاله بعض أهل اللغة. الخامس: أنه أشق العذاب. السادس: أنه النداء بالخسار والهلاك , وقد تستعمله العرب في الحرب والسلب. السابع: أن أصله ويْ لفلان , أي الجور لفلان , ثم كثر استعمال الحرفين فوصلا بلام الإضافة. والمطفف: مأخوذ من الطفيف وهو القليل , والمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن. قال الزجاج: بل مأخوذ من طف الشيء وهي جهته. {الذين إذا اكْتالوا على الناسِ يَسْتوْفُونَ} أي من الناس , ويريد بالاستيفاء الزيادة على ما استحق. {وإذا كالُوهم أو وَزَنُوهم يُخْسِرون} يعني كالوا لهم أو وزنوا لهم بحذف هذه الكلمة لما في الكلام من الدلالة عليها , {يخسرون} , ينقصون فكان المطفف يأخذ زائداً ويعطي ناقصاً. {يومَ يَقُومُ الناسُ لربِّ العَالَمِينَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يوم يقومون من قبورهم , قاله ابن جبير. الثاني: يقومون بين يديه تعالى للقضاء , قاله يزيد بن الرشك. قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري: (كيف أنت صانع يوم يقوم

الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين , لا يأتيهم فيه خبر ولا يؤمر فيه بأمر ,) قال بشير: المستعان الله. الثالث: أنه جبريل يقوم لرب العالمين , قاله ابن جبير. ويحتمل رابعاً: يقومون لرب العالمين في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا.

7

{كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} {كلاّ إنّ كتابَ الفُجّارِ لفي سِجِّينٍ} أما (كلا) ففيه وجهان: أحدهما: حقاً. الثاني: أن كلا للزجر والتنبيه. وأما (سجّين) ففيه ثمانية أقاويل: أحدها: في سفال , قاله الحسن. الثاني: في خسار , قاله عكرمة. الثالث: تحت الأرض السابعة , رواه البراء بن عازب مرفوعاً. قال ابن أسلم: سجّين: الأرض السافلة , وسجّيل: سماء الدنيا.

قال مجاهد: سجّين صخرة في الأرض السابعة , فيجعل كتاب الفجار تحتها. الرابع: هو جب في جهنم , روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الفلق جُبٌّ في جهنم مغطّى , وسجّين جب في جهنم مفتوح.) الخامس: أنه تحت خد إبليس , قاله كعب الأحبار. السادس: أنه حجر أسود تحت الأرض تكتب فيه أرواح الكفار , حكاه يحيى بن سلام. السابع: أنه الشديد قاله أبو عبيدة وأنشد: 89 (ضرباً تَواصَتْ به الأبطالُ سِجِّينا} 9 الثامن: أنه السجن , وهو فِعّيل من سجنته , وفيه مبالغة , قاله الأخفش عليّ بن عيسى , ولا يمتنع أن يكون هو الأصل واختلاف التأويلات في محله. ويحتمل تاسعاً: لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان {كِتابٌ مَرْقومٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: مكتوب , قاله أبو مالك. الثاني: أنه مختوم , وهو قول الضحاك. الثالث: رُقِم له بَشَرٌ لا يزاد فيهم أحد , ولا ينقص منهم أحد، قاله محمد بن كعب وقتادة. ويحتمل قولاً رابعاً، إن المرقوم المعلوم. {كلاّ بل رانَ على قُلوبِهم ما كانوا يَكْسبونَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن (ران): طبع على قلوبهم , قاله الكلبي. الثاني: غلب على قلوبهم , قاله ابن زيد، ومنه قول الشاعر:

(وكم ران من ذنْب على قلب فاجر ... فتاب من الذنب الذي ران وانجلى) الثالث: ورود الذنب على الذنب حتى يعمى القلب , قاله الحسن. الرابع: أنه كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق , وهذا قول الزجاج.

18

{كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون} {كلاّ إنّ كتابَ الأبرارِ لفِي علّيِّينَ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن عليين الجنة , قاله ابن عباس. الثاني: السماء السابعة , قاله ابن زيد , قال قتادة: وفيها أرواح المؤمنين. الثالث: قائمة العرش اليمنى , قاله كعب. الرابع: يعني في علو وصعود إلى الله تعالى , قاله الحسن. الخامس: سدرة المنتهى , قاله الضحاك. ويحتمل سادساً: أن يصفه بذلك لأنه يحل من القبول محلاً عالياً. {تَعْرِفُ في وُجوههم نَضْرَةَ النّعيم} فيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها الطراوة والغضارة , قاله ابن شجرة. الثاني: أنها البياض , قاله الضحاك. الثالث: أنها عين في الجنة يتوضؤون منها ويغتسلون فتجري عليهم نضرة النعيم , قاله عليّ.

ويحتمل رابعاً: أنها استمرار البشرى بدوام النعمة. {يُسقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} وفي الرحيق ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه عين في الجنة مشوب بمسك , قاله الحسن. الثاني: أنه شراب أبيض يختمون به شرابهم , قاله ابن أبي الدرداء. الثالث: أنه الخمر في قول الجمهور , ومنه قول حسان: (يسقون من ورد البريص عليهم ... بَرَدَى يُصَفِّق بالرحيق السّلْسَلِ) لكن اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقاويل: أحدها: أنها الصافية , حكاه ابن عيسى. الثاني: أنها أصفى الخمر وأجوده , قاله الخليل. الثالث: أنها الخالصة من غش , حكاه الأخفش. الرابع: أنها العتيقة. وفي (مختوم) ثلاثة أقاويل: أحدها: ممزوج , قاله ابن مسعود. الثاني: مختوم في الإناء بالختم , وهو الظاهر. الثالث: ما روى أُبيّ بن كعب , قال: قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال: (غُدران الخمر.) {خِتامُه مِسْكٌ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: مزاجه مسك , قاله مجاهد. الثاني: عاقبته مسك , ويكون ختامه آخره , كما قال الشاعر: (صرف ترقرق في الحانوت باطنه ... بالفلفل الجون والرمان مختوما) قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. الثالث: أن طعمه وريحه مسك , رواه ابن أبي نجيح. الرابع: أن ختمه الذي ختم به إناؤه مِسْك , قاله ابن عباس.

{وفي ذلك فلْيَتنافَسِ المُتنافِسونَ} فيه وجهان: أحدهما: فليعمل العاملون , قاله مجاهد. الثاني: فليبادر المبادرون , قاله أبو بكر بن عياش والكلبي. وفيما أخذ منه التنافس والمنافسة وجهان: أحدهمأ: أنه مأخوذ من الشيء النفيس , قاله ابن جرير. الثاني: أنه مأخوذ من الرغبة فيما تميل النفوس إليه , قاله المفضل. {ومِزاجُهُ مِن تَسْنيمٍ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها أن التسنيم الماء , قاله الضحاك. الثاني: أنها عين في الجنة , فيشربها المقربون صرفاً , وتمزج لأصحاب اليمين , قاله ابن مسعود. وقال حذيفة بن اليمان: تسنيم عين في عدْن , وعدْن دار الرحمن وأهل عدْن جيرانه. الثالث: أنها خفايا أخفاها الله لأهل الجنة , ليس لها شبه في الدنيا ولا يعرف مثلها. وأصل التسنيم في اللغة أنها عين ماء تجري من علو إلى سفل , ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه , وكذلك تسنيم القبور. ويحتمل تأويلاً رابعاً: أن يكون المراد به لذة شربها في الآخرة أكثر من لذته في الدنيا , لأن مزاج الخمر يلذ طعمها , فصار مزاجها في الآخرة بفضل لذة مزاجها من تسنيم لعلو الآخرة على الدنيا.

29

{إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار

يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} {وإذا انقَلَبوا إلى أهْلِهم انقَلَبوا فَكِهينَ} قرأ عاصم في رواية حفص فكهين بغير ألف وقرأ غيره بألف , وفي القراءتين أربعة تأويلات: أحدها: فرحين , قاله السدي. الثاني: معجبين , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر: (وقد فكهت من الدنيا فقاتلوا ... يوم الخميس بِلا سلاح ظاهر) الثالث: لاهين. الرابع: ناعمين , حكى هذين التأويلين عليّ بن عيس. وروى عوف عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال ربكم عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين , ولا أجمع له أمنين , فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة , وإذا أمني في الدنيا أخفته يوم القيامة). {هل ثوِّب الكفارُ ما كانوا يَفْعَلونَ} هذا سؤال المؤمنين في الجنة عن الكفار حين فارقوهم , وفيه تأويلان: أحدهما: معناه هل أثيب الكفار ما كانوا يعلمون في الكفر , قاله قتادة. الثاني: هل جوزي الكفار على ما كانوا يفعلون , قاله مجاهد. فيكون (ثُوِّب) مأخوذاً من إعطاء الثواب. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن يكون معناه هل رجع الكفار في الآخرة عن تكذيبهم في الدنيا على وجه التوبيخ , ويكون مأخوذاً من المثابِ الذي هو الرجوع , لا من الثواب الذي هو الجزاء , كما قال تعالى: {وإذا جعَلْنا البيتَ مثابةً للناس} أي مرجعاً. ويحتمل تأويلاً رابعاً: هل رجع من عذاب الكفار على ما كانوا يفعلون , لأنهم قد علموا أنهم عذبوا , وجاز أن يظنوا في كرم الله أنهم قد رحموا.

سورة الانشقاق مكية في قول الجميع بسم الله الرحمن الرحيم

الانشقاق

{إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور بلى إن ربه كان به بصيرا} قوله عز وجل: {إذا السماءُ انشَقّتْ} وهذا من أشراط الساعة , قال عليّ رضي الله عنه: تنشق السماء من المجرة , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه محذوف الجواب وتقديره: إذا السماء انشقت رأى الإنسان ما قدّم من خير وشر. الثاني: أن جوابه {كادح إلى ربك كدحاً}. الثالث: معناه أذكر إذا السماء انشقت. {وأَذِنَتْ لِرّبها وحُقّتْ} معنى أذنت لربها أي سمعت لربها , ومنه قول

النبي صلى الله عليه وسلم ما أذن الله لشيء كإذانه لنبي يتغنى بالقرآن أي ما استمع الله لشيء , وقال الشاعر: (صُمٌّ إذا سَمِعوا خيْراً ذُكِرتُ به ... وإنْ ذُكِرْتُ بسُوءٍ عندهم أَذِنوا) أي سمعوا. {وحُقّتْ} فيه وجهان: أحدهما: أطاعت , قاله الضحاك. الثاني: معناه حق لها أن تفعل ذلك , قاله قتادة , ومنه قول كثيّر: (فإن تكُنْ العُتْبى فأهْلاً ومرحبا ... وحُقّتْ لها العُتبى لديْنَا وَقَلَّت.) ويحتمل وجهاً ثالثاً: أنها جمعت , مأخوذ من اجتماع الحق على نافيه وحكى ابن الانباري أن {أذنت لربها وحقت} جواب القسم , والواو زائدة. {وإذا الأرضُ مُدَّتْ} فيها قولان: أحدهما: أن البيت كان قبل الأرض بألفي عام , فمدت الأرض من تحته , قاله ابن عمر. الثاني: أنها أرض القيامة , قاله مجاهد , وهو أشبه بسياق الكلام. وفي {مُدَّتْ} وجهان: أحدهما: سويت , فدكّت الجبال ويبست البحار , قاله السدي. الثاني: بسطت , قاله الضحاك , وروى عليّ بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مدّ الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه). {وأَلقْتْ ما فيها وتَخلّتْ} فيه وجهان: أحدهما: ألقت ما في بطنها من الموتى , وتخلت عمن على ظهرها من الأحياء , قاله ابن جبير. الثاني: ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها وتخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها , وهو معنى قول قتادة. ويحتمل ثالثاً: هو أعم , أنها ألقت ما استوعدت , وتخلت مما استحفظت لأن الله استودعها عباده أحياء وأمواتاً , واستحفظها بلاده مزارع وأقواتاً. {يا أيها الإنسانُ إنك كادحٌ إلى ربك كدْحاً فملاقيه} فيه قولان: أحدهما: إنك ساعٍ إلى ربك سعياً حتى تلاقي ربك , قاله يحيى بن سلام , ومنه قول الشاعر: (ومَضَتْ بشاشةُ كلِّ عَيْشٍ صالحٍ ... وَبقيتُ أكْدَحُ للحياةِ وأَنْصَبُ) أي أعمل للحياة. ويحتمل قولاً ثالثاً: أن الكادح هو الذي يكدح نفسه في الطلب إن تيسّر أو تعسّر. {فأمّا مَنْ أَوتي كِتابَه بيمينه} روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعرض الناس ثلاث عرضات , فأما عرضتان فجدال ومعاذير , وفي الثالثة تطير الكتب من الأيدي , فبين آخذٍ كتابه بيمينه , وبين آخذٍ كتابه بشماله). {فسوف يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً} وفي الحساب ثلاثة أقاويل: أحدها: يجازى على الحسنات ويتجاوز له عن السيئات , قاله الحسن. الثاني: ما رواه صفوان بن سليم عن عائشة قالت: سئل رسول الله عن

الذي يحاسب حساباً يسيراً , فقال: (يعرف عمله ثم يتجاوز عنه , ولكن من نوقش الحساب فذلك هو الهالك.) الثالث: أنه العرض , روى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} فقال: (ذلك العرض يا عائشة , من نوقش في الحساب يهلك). {وَيَنقَلِبُ إلى أهْلِه مَسْروراً} قال قتادة: إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة. ويحتمل وجهاً ثانياً: أن يريد أهله الذين كانوا له في الدنيا ليخبرهم بخلاصه وسلامته. {إنَّه ظَنَّ أن لن يَحُورَ} أي لن يرجع حياً مبعوثاً فيحاسب ثم يثاب أو يعاقب , يقال: حار يحور , إذا رجع , ومنه الحديث: (أعوذ بالله من الحْور بعد الكْور ,) يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة , وروي: (بعد الكوْن) , ومعناه انتشار الأمر بعد تمامه. وسئل معمر عن الحور بعد الكْون فقال: الرجل يكون صالحاً ثم يتحول امرء سوء. وقال ابن الأعرابي: الكُنْنّي: هو الذي يقول: كنت شاباً وكنت شجاعاً , والكاني: هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب وكان لي خيل وكنت أركب , وأصل الحور الرجوع , قال لبيد: (وما المرءُ إلا كالشهاب وضوئه ... يَحُورُ رماداً بَعْد إذ هو ساطعُ.) وقال عكرمة وداود بن أبي هند: يحور كلمة بالحبشية , ومعناها يرجع وقيل

للقصار حواري لأن الثياب ترجع بعمله إلى البياض. {بلى إنّ ربّه كان به بَصيراً} يحتمل وجهين: أحدهما: مشاهداً لما كان عليه. الثاني: خبيراً بما يصير إليه.

16

{فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} {فلا أُقْسِمُ بالشّفَقِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أنه شفق الليل وهو الحمرة , قاله ابن عباس. الثاني: أنه بقية ضوء الشمس , قاله مجاهد. الثالث: أنه ما بقي من النهار , قاله عكرمة. الرابع: أنه النهار , رواه ابن أبي نجيح. {واللّيلِ وما وَسقَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: وماجمع , قاله مجاهد , قال الراجز: (إن لنا قلائصاً حقائقا ... مستوسقات أو يجدن سائقا) الثاني: وما جَنّ وستر , قاله ابن عباس. الثالث: وما ساق , لأن ظلمة الليل تسوق كل شيء إلى مأواه , قاله عكرمة. الرابع: وما عمل فيه , قاله ابن جبير , وقال الشاعر: (ويوماً ترانا صالحين وتارةً ... تقوم بنا كالواسق المتَلَبّبِ) أي كالعامل.

{والقَمَرِ إذا اتّسَق} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: إذا استوى , قاله ابن عباس , وقولهم اتسق الأمر إذا انتظم واستوى. قال الضحاك: ليلة أربع عشرة هي ليلة السواء. الثاني: والقمر إذا استدار , قاله عكرمة. الثالث: إذا اجتمع , قاله مجاهد , ومعانيها متقاربة. ويحتمل رابعاً: إذا طلع مضيئاً. {لَتَرْكَبُنَّ طُبقاً عَنِ طَبَقٍ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: سماء بعد سماء , قاله ابن مسعود والشعبي. الثاني: حالاً بعد حال , فطيماً بعد رضيع وشيخاً بعد شاب , قاله عكرمة , ومنه قول الشاعر: (كذلك المرءُ إن يُنْسَأ له أجَلٌ ... يَرْكبْ على طَبَقٍ مِن بَعْده طَبَقٌ) الثالث: أمراً بعد أمر , رخاء بعد شدة , وشدة بعد رخاء , وغنى بعد فقر , وفقراً بعد غنى , وصحة بعد سقم , وسقماً بعد صحة , قاله الحسن. الرابع: منزلة بعد منزلة , قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة , وقوم كانوا مرتفعين في الدنيا فاتضعوافي الآخرة , قاله سعيد بن جبير. الخامس: عملاً بعد عمل , يعمل الآخر عمل الأول , قاله السدي. السادس: الآخرة بعد الأولى , قاله ابن زيد. السابع: شدة بعد شدة , حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء , وفي كل حال من هذه شدة , وقد روى معناه جابر مرفوعاً. {واللهُ أعْلَمُ بما يُوعُونَ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بما يُسِرون في قلوبهم , قاله ابن عباس.

الثاني: بما يكتمون من أفعالهم , قاله مجاهد. الثالث: بما يجمعون من سيئاتهم , مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه وهو معنى قول ابن زيد. {فلهم أَجْرٌ غيرُ ممنون} فيه أربعة تأويلات: أحدها: غير محسوب , قاله مجاهد. الثاني: غير منقوص , قاله السدي. الثالث: غير مقطوع , قاله ابن عباس. الرابع: غير مكدّر بالمن والأذى , وهو معنى قول الحسن.

سورة البروج بسم الله الرحمن الرحيم

البروج

{والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} قوله تعالى {والسماءِ ذاتِ البُروجِ} هذا قَسَمٌ، وفي البروج أربعة أقاويل: أحدها: ذات النجوم، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك. الثاني: ذات القصور، قاله ابن عباس. الثالث: ذات الخلْق الحسن، قاله المنهال بن عمرو. الرابع: ذات المنازل، قاله يحيى بن سلام وهي اثنا عشر برجاً رصدتها العرب والعجم , وهي منازل الشمس والقمر. {واليومِ الموْعُودِ} روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوم القيامة، وسمي بذلك لأنهم وعدوا فيه بالجزاء بعد البعث.

{وشاهدٍ ومَشْهودٍ} فيه خمسة أقاويل: أحدها: أن الشاهد يوم الجمعة , والمشهود يوم عرفة , روى ذلك أبو عرفة , روى ذلك أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن الشاهد يوم النحر , والمشهود يوم عرفة , قاله إبراهيم. الثالث: أن الشاهد الملائكة , والمشهود الإنسان , قاله سهل بن عبد الله. الرابع: أن الشاهد الجوارح , والمشهود النفس , وهو محتمل. الخامس: أن المشهود يوم القيامة. وفي الشاهد على هذا التأويل خمسة أقاويل: أحدها: هو الله تعالى , حكاه ابن عيسى. الثاني: هو آدم عليه السلام , قاله مجاهد. الثالث: هو عيسى ابن مريم , رواه ابن أبي نجيح. الرابع: هو محمد صلى الله عليه وسلم , قاله الحسن بن علي وابن عمر وابن الزبير , لقوله تعالى: {فكيفَ إذا جِئْنا من كلِّ أمَّةٍ بشهيد وجئْنَا بِك على هؤلاءِ شَهيداً}. الخامس: هو الإنسان , قاله ابن عباس. {قُتِل أصحابُ الأُخْدُودِ} قال الفراء: هذا جواب القسم , وقال غيره: الجواب {إنّ بَطْشَ ربِّكَ لَشديدٌ} والأخدود: الشق العظيم في الأرض , وجمعه أخاديد , ومنه الخد لمجاري الدموع فيه , والمخدّة لأن الخد يوضع عليها , وهي حفائر شقت في الأرض وأوقدت ناراً وألقي فيها مؤمنون امتنعوا من الكفر. واختلف فيهم، فقال عليّ: إنهم من الحبشة , وقال مجاهد: كانوا من أهل نجران , وقال عكرمة كانوا نبطاً، وقال ابن عباس: كانوا من بني إسرائيل، وقال عطية

العوفي: هم دانيال وأصحابه، وقال الحسن: هم قوم من أهل اليمن، وقال عبد الرحمن بن الزبير: هم قوم من النصارى كانوا بالقسطنطينية زمان قسطنطين، وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمن قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تُبَّع الحميري وكانوا نيفاً وثمانين رجلاً، وحفر لهم أخدوداً أحرقهم فيه، وقال السدي: الأخدود ثلاثة: واحد بالشام وواحد بالعراق، وواحد باليمن. وفي قوله: {قُتِل أصحابُ الأُخْدُودِ} وجهان: أحدهما: أُهلك المؤمنون. الثاني: لُعن الكافرون الفاعلون، وقيل إن النار صعدت إليهم وهم شهود عليها فأحرقتهم، فلذلك قوله تعالى: {فلهُم عذابُ جهنَّمَ ولهْم عذابُ الحريق} يعني في الدنيا. {وهُمْ على ما يَفْعلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن أصحاب الأخدود هم على عذاب المؤمنين فيها شهود , وهو ظاهر من قول قتادة. الثاني: أنهم شهود على المؤمنين بالضلال , قاله مقاتل.

11

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} {إنه هو يُبْدِىءُ ويُعيدُ} فيه أربعة تأويلات:

أحدها: يحيى ويميت، قاله ابن زيد. الثاني: يميت ثم يحيى، قاله السدي. الثالث: يخلق ثم يبعث، قاله يحيى بن سلام. الرابع: يبدىء العذاب ويعيده، قاله ابن عباس. ويحتمل خامساً: يبدىء ما كلف من أوامره ونواهيه , ويعيد ما جزى عليه من ثواب وعقاب. {وهو الغَفورٌ الوَدُودُ} في الغفور وجهان: أحدهما: الساتر للعيوب. الثاني: العافي عن الذنوب. وفي الودود وجهان: أحدهما: المحب. الثاني: الرحيم. وفيه ثالث: حكاه المبرد عن اسماعيل بن إسحاق القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له , وأنشد قول الشاعر: (وأرْكبُ في الرّوْع عُريانةً ... ذلول الجناح لقاحاً وَدُوداً) أي لا ولد لها تحن إليه , ويكون معنى الآية أنه يغفر لعباده , وليس ولد يغفر لهم من أجله، ليكون بالمغفرة متفضلاً من غير جزاء. {ذو العَرْشِ المجيدُ} فيه وجهان: أحدهما: الكريم، قاله ابن عباس. الثاني: العالي , ومنه المجد لعلوه وشرفه. ثم فيه وجهان: أحدهما: أنه من صفات الله تعالى، وهو قول من قرأ بالرفع.

الثاني: أنه من صفة العرش، وهو قول من قرأ بالكسر. ويحتمل إن كان صفة للعرش وجهاً ثالثاً: أنه المحكم. {بل هو قُرآنٌ مَجِيْدٌ في لَوْحٍ مَّحفوظٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن اللوح هو المحفوظ عند الله تعالى , وهو تأويل من قرأ بالخفض. الثاني: أن القرآن هو المحفوظ , وهو تأويل من قرأ بالرفع وفيما هو محفوظ منه وجهان: أحدهما: من الشياطين. الثاني: من التغيير والتبديل. وقال بعض المفسرين: إن اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه.

سورة الطارق بسم الله الرحمن الرحيم

الطارق

{والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر} قوله تعالى {والسماءِ والطارقِ} هما قسمَان: (والسماءِ) قَسَمٌ , (والطارقِ) قَسَمٌ. (الطارق) نجم , وقد بيّنه الله تعالى بقوله: {وما أدْراكَ ما الطارقُ النجْمُ الثّاقبُ} ومنه قول هند بنت عتبة: (نحْنُ بنات طارِق ... نمْشي على النمارق) تقول: نحن بنات النجم افتخاراً بشرفها , وإنما سمي النجم طارقاً لاختصاصه بالليل , والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقاً , قال الشاعر: (ألا طَرَقَتْ بالليلِ ما هجَعوا هندُ ... وهندٌ أَتى مِن , دُونها النأيُ والصَّدّ) وأصل الطرق الدق , ومنه سميت المطرقة , فسمي قاصد الليل طارقاً لاحتياجه في الوصول إلى الدق.

وفي قوله (النجم الثاقب) ستة أوجه: أحدها: المضيء , قاله ابن عباس. الثاني: المتوهج , قاله مجاهد. الثالث: المنقصّ , قاله عكرمة. الرابع: أن الثاقب الذي قد ارتفع على النجوم كلها , قاله الفراء. الخامس: الثاقب: الشياطين حين ترمى , قاله السدي. السادس: الثاقب في مسيره ومجراه , قاله الضحاك. وفي هذا النجم الثاقب قولان: أحدهما: أنه زُحل , قاله عليّ. الثاني: الثريّا , قاله ابن زيد. {إن كُلُّ نفْسٍ لّما عليها حافِظٌ} فيه وجهان: أحدهما: (لّما) بمعنى إلاّ، وتقديره: إنْ كل نفس إلاَّ عليها حافظ، قاله قتادة. الثاني: أن (ما) التي بعد اللام صله زائدة , وتقديره: إن كل نفس لعليها حافظ، قاله الأخفش. وفي الحافظ قولان: أحدهما: حافظ من الله يحفظ عليه أجله ورزقه، قاله ابن جبير. الثاني: من الملائكة يحفظون عليه عمله من خير أو شر، قاله قتادة. ويحتمل ثالثاً: أن يكون الحافظ الذي عليه عقله، لأنه يرشده إلى مصالحه، ويكفّه عن مضاره. {يَخْرُجُ مِنْ بَيْن الصُّلْبِ والتّرائِب} فيه قولان: أحدهما: من بين صلب الرجل وترائبه، قاله الحسن وقتادة.

الثاني: بمعنى أصلاب الرجال وترائب النساء. وفي الترائب ستة أقاويل: أحدها: أنه الصدر , قاله ابن عياض , ومنه قول دريد بن الصمة. (فإنَّ تُدْبروا نأخذكُم في ظهوركم ... وإنْ تُقْبِلُوا نأخذكُم في الترائب) الثاني: ما بين المنكبين إلى الصدر , قاله مجاهد. الثالث: موضع القلادة , قاله ابن عباس , قال الشاعر: (والزعفران على ترائبها ... شرق به اللّباتُ والنحْرُ) الرابع: أنها أربعة أضلاع من الجانب الأسفل , قاله ابن جبير , وحكى الزجاج أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر. الخامس: أنها بين اليدين والرجلين والعينين , قاله الضحاك. السادس: هي عصارة القلب , قاله معمر بن أبي حبيبة. {إنّه على رَجْعِهِ لقادرٌ} فيه خمسة أوجه: أحدها: على أن يرد المني في الإحليل , قاله مجاهد. الثاني: على أن يرد الماء في الصلب , قاله عكرمة. الثالث: على أن يرد الإنسان من الكبر إلى الشباب , ومن الشباب إلى الصبا , ومن الصبا إلى النطفة , قاله الضحاك. الرابع: على أن يعيده حيّاً بعد موته , قاله الحسن وعكرمة وقتادة. الخامس: على أن يحبس الماء فلا يخرج. ويحتمل سادساً: على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة لأن الكفار يسألون الله فيها الرجعة. {يومَ تُبْلَى السّرائرُ} أي تَظْهَر. ويحتمل ثانياً: أن تبتلى بظهور السرائر في الآخرة بعد استتارها في الدنيا.

وفيها قولان: أحدهما: كل ما استتر به الإنسان من خير وشر , وأضمره من إيمان أو كفر , كما قال الأحوص: (ستُبلَى لكم في مُضْمَرِ السِّرِّ والحشَا ... سَريرةُ ودٍّ يومَ تُبلَى السرائرُ.) الثاني: هو ما رواه خالد عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأمانات ثلاث: الصلاة والصوم والجنابة , استأمن الله ابن آدم على الصلاة , فإن شاء قال: قد صليت ولم يُصلّ , استأمن الله ابن آدم على الصوم , فإن شاء قال: قد صمت ولم يصم , استأمن الله ابن آدم على الجنابة , فإن شاء قال: قد اغتسلت ولم يغتسل , اقرؤوا إن شئتم:) يوم تُبْلى السّرائرُ (. {فما لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا ناصَرٍ} فيه قولان: أحدهما: أن القوة العشيرة , والناصر: الحليف , قاله سفيان. الثاني: فما له من قوة في بدنه , ولا ناصر من غيره يمتنع به من الله , أو ينتصر به على الله , وهو معنى قول قتادة. ويحتمل ثالثاً: فما له من قوة في الامتناع , ولا ناصر في الاحتجاج.

11

{والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} {والسماءِ ذاتِ الّرجْعِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: ذات المطر , لأنه يرجع في كل عام , قاله ابن عباس. الثاني ذات السحاب , لأنه يرجع بالمطر. الثالث: ذات الرجوع إلى ما كانت , قاله عكرمة. الرابع: ذات النجوم الراجعة , قاله ابن زيد. ويحتمل خامساً: ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد , وهذا قَسَمٌ.

{والأرضِ ذاتِ الصّدْعِ} فيها أربعة أقاويل: أحدها: ذات النبات لانصداع الأرض عنه , قاله ابن عباس. الثاني: ذات الأودية , لأن الأرض قد انصدعت بها , قاله ابن جريج. الثالث: ذات الطرق التي تصدعها المشاة , قاله مجاهد. الرابع: ذات الحرث لأنه يصدعها. ويحتمل خامساً: ذات الأموات , لانصداعها عنهم للنشور وهذان قسمان: {إنّهُ لَقَولٌ فَصْلٌ} على هذا وقع القَسَمُ , وفي المراد بأنه قول فصل قولان: أحدهما: ما قدّمه عن الوعيد من قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر) الآية. تحقيقاً لوعيده , فعلى هذا في تأويل قوله (فَصْل) وجهان: أحدها: حد , قاله ابن جبير. الثاني: عدل , قاله الضحاك. القول: ان المراد بالفصل القرآن تصديقاً لكتابه , فعلى هذا في تاويل قوله (فصل) وجهان: أحدهما: حق , قاله ابن عباس. الثاني: ما رواه الحارث عن عليّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتابِ الله فيه خير ما قبلكم، وحكم ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَنْ تركه مِن جبّار قصمه الله , ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.) {وما هو بالهزْلِ} وهذا تمام ما وقع عليه القسم , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: باللعب، قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: بالباطل، قاله وكيع والضحاك. الثالث: بالكذب، قاله السدي. {إنّهم يَكِيدُونَ كيْداً} يعني أهل مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم , كما قال تعالى: {وإذ يمْكَرُ بك الذين كَفَروا لِيُثْبِتوكَ أو يَقْتلوكَ أو يُخْرِجوكَ} فقال ها هنا: (إنهم يكيدون كيداً) أي يمكرون مكراً.

{وأكيدُ كيْداً} يعني بالانتقام في الآخرة بالنار , وفي الدنيا بالسيف. {فمهّلِ الكافرين أَمْهِلْهم رُوَيْداً} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قريباً , قاله ابن عباس. الثاني: انتظاراً , ومنه قول الشاعر: (رُويْدك حتى تنطوي ثم تنجلي ... عمايةُ هذا العارضِ المتألّقِ) الثالث: قليلاً , قاله قتادة. قال الضحاك: فقتلوا يوم بدر. وفي (مهّل) (وأمْهل) وجهان: أحدهما: أنهما لغتان معناهما واحد. الثاني: معناهما مختلف , فمهّل الكف عنهم , وأمْهِل انتظار العذاب لهم.

سورة الأعلى بسم الله الرحمن الرحيم

الأعلى

{سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى} قوله تعالى {سَبِّح اسمَ رَبِّكَ الأعْلَى} فيه أربعة أقاويل: أحدها: عظّم ربك الأعلى , قاله ابن عباس والسدي , والاسم صلة قصد بها تعظيم المسّمى , كما قال لبيد: (إلى الحْولِ ثم اسم السلام عليكما ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فقد اعتذر) الثاني: نزّه اسم ربك عن أن يسمى به أحد سواه , ذكره الطبري. الثالث: معناه ارفع صوتك بذكر ربك , قال جرير: (قَبَحَ الإلهُ وَجوه تَغْلبَ كلّما ... سَبَحَ الحجيجُ وكبّروا تكبيرا)

الرابع: صلّ لربك , فعلى هذا في قوله (اسم ربك) ثلاثة أوجه: أحدها: بأمر ربك. الثاني: بذكر ربك أن تفتتح به الصلاة. الثالث: أن تكون ذاكراً لربك بقلبك في نيتك للصلاة. وروي أن عليّاً وابن عباس وابن عمر كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا: (سبحان ربي الأعلى) امتثالاً لأمره تعالى في ابتدائها , فصار الاقتداء بهم في قراءتها , وقيل إنها في قراءة أُبيّ: (سبحان ربي الأعلى) وكان ابن عمر يقرؤها كذلك. {الذي خَلَقَ فَسَوَّى} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: يعني أنشأ خلقهم ثم سوّاهم فأكملهم. الثاني: خلقهم خلقاً كاملاً وسوّى لكل جارحة مثلاً. الثالث: خلقهم بإنعامه وسوّى بينهم في أحكامه , قال الضحاك: خلق آدم فَسوّى خلقه. ويحتمل رابعاَ: خلق في أصلاب الرجال , وسوّى في أرحام الأمهات. ويحتمل خامساً: خلق الأجساد فسّوى الأفهام. {والذي قَدَّرَ فَهَدَى} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: قدّر الشقاوة والسعادة , وهداه للرشد والضلالة , قاله مجاهد. الثاني: قدر أرزاقهم وأقواتهم , وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنساً , ولمراعيهم إن كانوا وحشاً. الثالث: قدرهم ذكوراً وإناثاً , وهدى الذكر كيف يأتى الأنثى , قاله السدي. ويحتمل رابعاً: قدر خلقهم في الأرحام , وهداهم الخروج للتمام. ويحتمل خامساً: خلقهم للجزاء , وهداهم للعمل. {والذي أَخْرَجَ المْرعى} يعني النبات , لأن البهائم ترعاه , قال الشاعر: (وقد يَنْبُتُ المرعى على دِمَنِ الثّرَى ... وتَبْقَى حَزازاتُ النفوسِ كما هِيا) {فَجَعَلهُ غُثاءً أَحْوَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الغثاء ما يبس من النبات حتى صار هشيماً تذروه الرياح.

الأحوى: الأسود , قال ذي الرمة: (لمياءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللّثاتِ وفي أنْيابها شَنَبُ) وهذا معنى قول مجاهد. الثاني: أن الغثاء ما احتمل السيل من النبات , والأحوى: المتغير , وهذا معنى قول السدي. الثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً , ومعناه أحوى فصار غثاء , والأحوى: ألوان النبات الحي من أخضر وأحمر وأصفر وأبيض , ويعبر عن جميعه بالسواد كما سمي به سواد العراق , وقال امرؤ القيس: (وغيثٍ دائمِ التهْتا ... نِ حاوي النبتِ أدْهم) والغثاء: الميت اليابس , قال قتادة: وهو مثل ضربه الله تعالى للكفار لذهاب الدنيا بعد نضارتها. {سنُقْرئك فلا تَنسَى} فيه وجهان: أحدهما: أن معنى قوله: فلا تنسى , أي فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن يترخص لك فيه , فعلى هذا التأويل يكون هذا نهياً عن الشرك. والوجه الثاني: أنه إخبار من الله تعالى أنه لا ينسى ما يقرئه من القرآن , حكى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه خيفة أن ينساه , فأنزل الله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) يعني القرآن. {إلا ما شاءَ اللهُ} فيه وجهان: أحدهما: إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه , قاله الحسن وقتادة. الثاني: إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله عليك فلا تقرؤه , حكاه ابن عيسى. {إنهُ يَعْلَمُ الجهْرَ وما يَخْفَى} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك , وما يخفى هو ما نسخ من حفظك. الثاني: أن الجهر ما علمه , وما يخفى ما سيتعلمه من بعد , قاله ابن عباس.

الثالث: أن الجهر ما قد أظهره , وما يخفى ما تركه من الطاعات. {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: نيسرك لأن تعمل خيراً , قاله ابن عباس. الثاني: للجنة , قاله ابن مسعود. الثالث: للدين واليسر وليس بالعسر , قاله الضحاك. {فذكّرْ إن نَّفَعتِ الذِّكْرَى} وفيما يذكر به وجهان: أحدهما: بالقرآن , قاله مجاهد. الثاني: بالله رغبة ورهبة , قاله ابن شجرة. وفي قوله: {إنْ نَفَعَتِ الذّكْرى} وجهان: أحدهما: يعني إن قبلت الذكرى وهو معنى قول يحيى بن سلام. الثاني: يعني ما نفعت الذكرى , فتكون (إنْ) بمعنى ما الشرط , لأن الذكرى نافعة بكل حال , قاله ابن شجرة. {سَيّذَّكَرُ مَن يَخْشى} يعني يخشى الله , وقد يتذكر من يرجوه , إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء , وإن تعلقت بالخشية والرجاء. {وَيَتَجَنَّبُها الأشْقَى} يعني يتجنب التذكرة الكافر الذي قد صار بكفره شقياً. {الذي يَصْلَى النّارَ الكُبْرىَ} فيه وجهان: أحدهما: هي نار جهنم , والصغرى نار الدنيا , قاله يحيى بن سلام. الثاني: الكبرى نار الكفار في الطبقة السفلى من جهنم , والصغرى نار المذنبين في الطبقة العليا من جهنم , وهو معنى قول الفراء. {ثم لا يَمُوتُ فيها ولا يَحْيَا} فيه وجهان: أحدهما: لا يموت ولا يجد روح الحياة , ذكره ابن عيسى. الثاني: أنه يعذب لا يستريح ولا ينتفع بالحياة , كما قال الشاعر: (ألا ما لنفسٍ لا تموتُ فَيَنْقَضِي ... عَناها ولا تحْيا حياةً لها طَعمْ.)

14

{قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} {قد أفْلَحَ من تَزَكّى} فيه أربعة تأويلات: أحدها: من تطهّر من الشرك بالإيمان , قاله ابن عباس. الثاني: من كان صالح عمله زكياً نامياً , قاله الحسن والربيع. لم يذكر الثالث راجع التعليق ص. 44. الرابع: أنه عنى زكاة الأموال كلها , قاله أبو الأحوص. ويحتمل خامساً: أنه من ازداد خيراً وصلاحاً. {وذكَرَ اسمَ ربِّه فَصَلّى} فيه ستة أوجه: أحدها: أن يوحد الله , قاله ابن عباس. الثاني: أن يدعوه ويرغب إليه. الثالث: أن يستغفروه ويتوب إليه. الرابع: أن يذكره بقلبه عند صلاته فيخاف عقابه ويرجو ثوابه , ليكون استيفاؤه لها وخشوعه فيها بحسب خوفه ورجائه. الخامس: أن يذكر اسم ربه بلسانه عند إحرامه بصلاته , لأنها لا تنعقد إلا بذكره. السادس: أن يفتتح كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم. وفي قوله (فصلّى) ثلاثة أقاويل: أحدها: الصلوات الخمس , قاله ابن عباس. الثاني: صلاة العيد , قاله أبو سعيد الخدري. الثالث: هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاة , قاله أبو الأحوص. وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. {بل تُؤْثرون الحياةَ الدُّنْيا} فيه وجهان:

أحدهما: أن المراد بها الكفار , فيكون تأويلها: بل تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة. الثاني: أن المراد بها المسلمون , فيكون تأويلها: يؤثرون الاستكثار من الدنيا للاستكثار من الثواب. {والآخِرةُ خَيْرٌ وأَبْقَى} فيه وجهان: أحدهما: خير للمؤمن من الدنيا , وأبقى للجزاء. الثاني: ما قاله قتادة خير في الخير وأبقى في البقاء. ويحتمل به وجهاً ثالثاً: يتحرر به الوجهان: والآخرة خير لأهل الطاعة وأبقى على أهل الجنة. {إنّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعني أن الآخرة خير وأبقى في الصحف الأولى، قاله قتادة. الثاني: أن ما قصَّهُ الله في هذه السورة هو من الصحف الأولى. الثالث: هي كتب الله كلها، وحكى وهب بن منبه في المبتدإ أن جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه مائة صحيفة وخمس صحف وأربعة كتب، منها خمسة وثلاثون صحيفة أنزلها على شيث بن آدم وخمسون صحيفة أنزلها على إدريس، وعشرون صحيفة أنزلها على إبراهيم , وأنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى، والفرقان على محمد عليهم السلام.

سورة الغاشية بسم الله الرحمن الرحيم

الغاشية

{هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع} قوله تعالى {هلْ أتاكَ حديثُ الغاشِيةِ} فيها قولان: أحدهما أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال، قاله ابن عباس والضحاك. الثاني: أنها النار تغشى وجوه الكفار، قاله ابن جبير. ويحتمل ثالثاً: أنها في هذا الموضع النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى جميع الخلق. و (هل) فيها وجهان: أحدهما: أنها في موضع قد , وتقدير الكلام قد أتاك حديث الغاشية، قاله قطرب. الثاني: أنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله، ومعناه ألم يكن قد أتاك حديث الغاشية، فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبي. {وُجوهٌ يومئذٍ خاشِعَةٌ} في الوجوه ها هنا قولان: أحدهما: عنى وجوه الكفار كلهم , قاله يحيى بن سلام.

الثاني: أنها وجوه اليهود والنصارى , قاله ابن عباس. وفي قوله (يومئذٍ) وجهان: أحدهما: يعني يوم القيامة , قاله سعيد بن جبير. الثاني: في النار , قاله قتادة. (خاشعة) فيه وجهان: أحدهما: يعني ذليلة بمعاصيها , قاله قتادة. الثاني: أنها تخشع بعد ذل من عذاب الله فلا تتنعم , قاله سعيد بن جبير. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أن تكون خاشعة لتظاهرها بطاعته بعد اعترافها بمعصيته. {عامِلةٌ نَّاصِبَةٌ} في (عاملة) وجهان: أحدهما: في الدنيا عاملة بالمعاصي , قاله عكرمة. الثاني: أنها تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى , فأعملها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب , قاله قتادة. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أي باذلة للعمل بطاعته إن ردّت. وفي قوله (ناصبة) وجهان: أحدهما: ناصبة في أعمال المعاصي. الثاني: ناصبة في النار، قاله قتادة. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أي ناصبة بين يديه تعالى مستجيرة بعفوه. {تَصْلَى ناراً حاميةً} فإن قيل فما معنى صفتها بالحماء وهي لا تكون إلا حامية وهو أقل أحوالها , فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل قد اختلف في المراد بالحامية ها هنا على أربعة أوجه: أحدها: أن المراد بذلك أنها دائمة الحمى وليست كنار الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها. الثاني: أن المراد بالحامية أنها حمى يمنع من ارتكاب المحظورات وانتهاك

المحارم , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن لكل ملك حمى , وإن حمى الله محارمه , ومن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه). الثالث: معناه أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها أو ترام مماستها كما يحي الأسد عرينه , ومثله قول النابغة: (تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي صولة المستأسد الحامي.) الرابع: أنها حامية مما غيظ وغضب , مبالغة في شدة الانتقام , وقد بيّن الله ذلك بقوله {تكاد تميّز من الغيظ}. {تُسْقَى مِن عَيْنٍ آنِيةٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: قاله ابن زيد. الثاني: حاضرة. الثالث: قد بلغت إناها وحان شربها , قاله مجاهد. الرابع: يعني قد أنى حرها فانتهى واشتد , قاله ابن عباس. {ليس لَهُمْ طعامٌ إلاّ مِن ضَريعٍ} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنها شجرة تسميها قريش الشبرق , كثيرة الشوك , قاله ابن عباس , قال قتادة وإذا يبس في الصيف فهو ضريع , قال الشاعر: (رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعاً نازعته النحائص) الثاني: السّلم , قال أبو الجوزاء: كيف يسمن من يأكل الشوك. الثالث: أنها الحجارة , قاله ابن جبير.

الرابع: أنه النوى المحرق , حكاه يوسف بن يعقوب عن بعض الأعراب. الخامس: أنه شجر من نار , قاله ابن زيد. السادس: أن الضريع بمعنى المضروع , أي الذي يضرعون عنده طلباً للخلاص منه , قاله ابن بحر.

8

{وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة} {في جَنّةٍ عاليةٍ} فيها وجهان: أحدهما: أن الجنة أعلى من النار فسميت لذلك عالية , قاله الضحاك. الثاني: أعالي الجنة وغرقها , لأنها منازل العلو والارتفاع. فعلى هذا في ارتفاعهم فيها وجهان: أحدهما: ليلتذوا بالعو والارتفاع. الثاني: ليشاهدوا ما أعد الله لهم فيها من نعيم. {لا تسْمَعُ فيها لاغيةً} قال الفراء والأخفش: أي لا تسمع فيها كلمة لغو وفي المراد بها سبعة أقاويل: أحدها: يعني كذباً , قاله ابن عباس. الثاني: الإثم , قاله قتادة. الثالث: أنه الشتم , قاله مجاهد. الرابع: الباطل , قاله يحيى بن سلام. الخامس: المعصية , قاله الحسن. السادس: الحلف فلا تسمع في الجنة حالف يمين برة ولا فاجرة , قاله الكلبي.

السابع: لا يسمع في كلامهم كلمة تلغى , لأن أهل الجنة لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم , قاله الفراء. {فيها سُرُرٌ مرفوعةٌ} والسرر جمع سرير , وهو مشتق من السرور وفي وصفها بأنها مرفوعة ثلاثة أوجه: أحدها: لأن بعضها مرفوع فوق بعض. الثاني: مرفوعة في أنفسهم لجلالتها وحبهم لها , قاله الفراء. الثالث: أنها مرفوعة المكان لارتفاعها وعلوها. فعلى هذا في وصفها بالعلو والارتفاع وجهان: أحدهما: ليلتذ أهلها بارتفاعها , قاله ابن شجرة. الثاني: ليشاهدوا بارتفاعهم ما أُعطوه من مُلك وأُوتوه من نعيم , قاله ابن عيسى. فأما قوله {وأكوابٌ موضوعةٌ} فالأكواب: الأواني , وقد مضى القول في تفسيرها. وفي قوله (موضوعة) وجهان: أحدهما: في أيديهم للاستمتاع بالنظر إليها لأنها من ذهب وفضة. الثاني: يعني أنها مستعملة على الدوام , لاستدامة شربهم منها , قاله المفضل. {ونمارقُ مَصْفوفَةٌ} فيه وجهان: أحدهما: الوسائد , واحدها نمرقة , قاله قتادة. الثاني: المرافق , قاله ابن أبي طلحة , قال الشاعر: (وريم أحمّ المقلتين محبّب ... زرابيُّه مبثوثةٌ ونمارِقُه) {وزرابيُّ مْبْثوثةٌ} فيها وجهان: أحدهما: هي البسط الفاخرة، قاله ابن عيسى. الثاني: هي الطنافس المخملة، قاله الكلبي والفراء. وفي (المبثوثة) أربعة أوجه: أحدها: مبسوطة، قاله قتادة. الثاني: بعضها فوق بعض، قاله عكرمة.

الثالث: الكثيرة، قاله الفراء. الرابع: المتفرقة، قاله ابن قتيبة.

17

{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم} {أفلا يَنظُرونَ إلى الإبلِ كيف خُلِقت} الآيات , وفي ذكره لهذه ثلاثة أوجه: أحدها: ليستدلوا بما فيها من العبر على قدره الله تعالى ووحدانيته. الثاني: ليعلموا بقدرته على هذه الأمور أنه قادر على بعثهم يوم القيامة , قاله يحيى بن سلام. الثالث: أن الله تعالى لما نعت لهم ما في الجنة عجب منه أهل الضلالة , فذكر لهم ذلك مع ما فيه من العجاب ليزول تعجبهم , قاله قتادة. وفي (الإبل) ها هنا وجهان: أحدهما: وهو أظهرهما وأشهرهما: أنها الإبل من النَعَم. الثاني: أنها السحاب , فإن كان المراد بها السحاب فلما فيها من الآيات الدالة على قدرة الله والمنافع العامة لجميع خلقه. وإن كان المراد بها من النَعَم فإن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات , لأن ضروبه أربعة: حلوبة , وركوبة , وأكولة , وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع , فكانت النعمة بها أعم , وظهور القدرة فيها أتم. ثم قال تعالى بعد ذلك ({فَذَكِّرْ إنّما أنت مُذكِّر} فيه وجهان: أحدهما: إنما أنت واعظ. الثاني: ذكّرهم النعم ليخافوا النقم.

{لَسْتَ عليهم بِمُسْيْطِر} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لست عليهم بمسلط , قاله الضحاك. الثاني: بجبار , قاله ابن عباس. الثالث: برب , قاله الحسن , ومعنى الكلام لست عليهم بمسيطر أن تكرههم على الإيمان. ثم قال: {إلاّ مَن تَولّى وكَفَر} فلست له بمذكر , لأنه لا يقبل تذكيرك , قاله السدي. الثاني: إلا من تولى وكفر فكِلْه غلى الله تعالى , وهذا قبل القتال , ثم أمر بقتالهم , قاله الحسن. وفي) تولَّى وكفر (وجهان: أحدهما: تولى عن الحق وكفر بالنعمة. الثاني: تولى عن الرسول وكفر بالله تعالى , قاله الضحاك. {فيُعذِّبه الله العذَابَ الأكْبَر} يعني جهنم. ويحتمل أن يريد الخلود فيها , لأنه يصير بالاستدامة أكبر من المنقطع. {إنّ إليْنا إيابَهُمْ} أي مرجعهم. {ثم إنّ علينا حِسابَهم} يعني جزاءَهم على أعمالهم , فيكون ذلك جامعاً بين الوعد والوعيد ثواباً على الطاعات وعقاباً على المعاصي.

سورة الفجر بسم الله الرحمن الرحيم

الفجر

{والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد} قوله تعالى {والفَجْر} قسم أقسم الله تعالى به , وهو انفجار الصبح من أفق المشرق , وهما فجران: فالأول منهما مستطيل كذنب السرحان يبدو كعمود نور لا عرض له , ثم يغيب لظلام يتخلله , ويسمى هذا الفجر المبشر للصبح , وبعضهم يسميه الكاذب لأنه كذب بالصبح. وهو من جملة الليل لا تأثير له في صلاة ولا صوم. وأما الثاني فهو مستطيل النور منتشر في الأفق ويسمى الفجر الصادق لأنه صدقك عن الصبح , قال الشاعر:

(شعب الكلاب الضاريات فزاده ... ناراً بذي الصبح المصدق يخفق) وبه يتعلق حكم الصلاة والصوم , وقد ذكرنا ذلك من قبل. وفي قسم الله بالفجر أربعة أقاويل: أحدها: أنه عنى به النهار وعبر عنه بالفجر لأنه أوله , قاله ابن عباس. الثاني: أن الفجر الصبح الذي يبدأ به النهار من كل يوم , قاله علّي رضي الله عنه. الثالث: أنه عنى به صلاة الصبح , وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. الرابع: أنه أراد به فجر يوم النحر خاصة , قاله مجاهد. وفي {وليالٍ عشْرٍ} - وهي قسم ثان - أربعة أقاويل: أحدها: هي عشر ذي الحجة , قاله ابن عباس , وقد روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والفجر وليال عشر) , قال: عشر الأضحى (. الثاني: هي عشر من أول المحرم , حكاه الطبري. الثالث: هي العشر الأواخر من شهر رمضان , وهذا مروي عن ابن عباس. الرابع: هي عشر موسى عليه السلام التي أتمها الله سبحانه له , قاله مجاهد. {والشّفْعِ والوَتْرِ} وهذا قسم ثالث , وفيهما تسعة أقاويل: أحدها: أنها الصلاة , فياه شفع وفيها وتر , رواه عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: هي صلاة المغرب , الشفع منها ركعتان , والوتر الثالثة , قاله الربيع بن أنس وأبو العالية. الثالث: أن الشفع يوم النحر , والوتر يوم عرفة , رواه ابن الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. الرابع: أن الشفع يوما منى الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة , والوتر الثالث بعدهما , قاله ابن الزبير. الخامس: أن الشفع عشر ذي الحجة , والوتر أيام منى الثلاثة , قاله الضحاك. السادس: أن الشفع الخلق من كل شيء , والوتر هو آدم وحواء , لأن آدم كان فرداً فشفع بزوجته حواء فصار شفعاً بعد وتر , رواه ابن نجيح. التاسع: أنه العدد لأن جميعه شفع ووتر , قاله الحسن. ويحتمل حادي عشر: أن الشفع ما يَنْمى , والوتر مالا يَنْمى. {واللّيْلِ إذا يَسْرِ} وهذا قسم رابع , وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: هي ليلة القدر لسراية الرحمة فيها واختصاصها بزيادة الثواب فيها. الثاني: هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله , وسئل محمد بن كعب عن قوله تعالى {والليل إذا يَسْرِ} فقال أسْر يا ساري , ولا تبيتنّ إلا بجمع , يعني بمزدلفة. الثالث: أنه أراد عموم الليل كله. وفي قوله {إذا يسرِ} ثلاثة أوجه: أحدها: إذا أظلم , قاله ابن عباس.

الثاني: إذا سار , لأن الليل يسير بمسير الشمس والفلك فينتقل من أفق إلى أفق , ومنه قولهم جاء الليل وذهب النهار. الثالث: إذا سار فيه أهله , لأن السرى سير الليل. {هل في ذلك قَسَمٌ لذي حجْرٍ} وفي ذي الحجر لأهل التأويل خمسة أقاويل: أحدها: لذي عقل , قاله ابن عباس. الثاني: لذي حلم , قاله الحسن. الثالث: لذي دين , قاله محمد بن كعب. الرابع: لذي ستر , قاله أبو مالك. الخامس: لذي علم , قاله أبو رجاء. والحجر: المنع , ومنه اشتق اسم الحجر لامتناعه بصلابته , ولذلك سميت الحجرة لامتناع ما فيها بها , ومنه سمي حجر المَولَّى عليه لما فيه من منعه عن التصرف , فجاز أن يحمل معناه على كل واحد من هذه التأويلات لما يضمنه من المنع. وقال مقاتل (هل) ها هنا في موضع إنّ , وتقدير الكلام: إن في ذلك قسماً لِذي حِجْر. {ألم تَرَ كيف فَعَل ربُّك بعادٍ إرَمَ} فيه سبعة أقاويل: أحدها: أن إرم هي الأرض , قاله قتادة. الثاني: دمشق , قاله عكرمة. الثالث: الإسكندرية , قاله محمد بن كعب. الرابع: أن إرم أُمة من الأمم , قاله مجاهد , قال الشاعر: (كما سخرت به إرم فأضحوا ... مثل أحلام النيام.) الخامس: أنه اسم قبيلة من عاد , قاله قتادة.

السادس: أن إرم اسم جد عاد , قاله محمد بن إسحاق , وحكى عنه أنه أبوه , وأنه عاد بن إرم بن عوض بن سام بن نوح. السابع: أن معنى إرم القديمة , رواه ابن أبي نجيح. الثامن: أنه الهلاك , يقال: أرم بنو فلان , أي هلكوا , قاله الضحاك. التاسع: أن الله تعالى رمّهم رّماً فجعلهم رميماً , فلذلك سماهم , قاله السدي. {ذاتِ العمادِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: ذات الطُّول , قال ابن عباس مأخوذ من قولهم رجل معمّد , إذا كان طويلاً , وزعم قتادة. أنه كان طول الرجل منهم اثني عشر ذراعاً. الثاني: ذات العماد لأنهم كانوا أهل خيام وأعمدة , ينتجعون الغيوث , قاله مجاهد. الثالث: ذات القوة والشدة , مأخوذ من قوة الأعمدة , قاله الضحاك , وحكى ثور بن يزيد أنه قال: أنا شداد بن عاد , وأنا الذي رفعت العماد , وأنا الذي شددت بذراعي بطن السواد , وأنا الذي كنزت كنزاً على سبعة أذرع لا تخرجه إلا أمة محمد. الرابع: ذات العماد المحكم بالعماد , قاله ابن زيد. {التي لم يُخْلَقْ مِثْلُها في البلادِ} فيه وجهان: أحدهما: لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد في البلاد , قاله عكرمة. الثاني: لم يخلق مثل قوم عاد في البلاد , لطولهم وشدتهم , قاله الحسن. {وثمودَ الذين جابُوا الصّخْرَ بالوادِ} فيه وجهان: أحدهما: يعني قطعوا الصخر ونقبوه ونحتوه حتى جعلوه بيوتاً , كما قال تعالى:

{وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين} قال الشاعر: (ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطِلٌ ... وكلُّ نعيمِ لا مَحالةَ زائلُ) وقال آخر: (وهم ضربوا في كل صماءَ صعدة ... بأيدٍ شديد من شداد السواعد.) الثاني: معناه طافوا لأخذ الصخر بالوادي , كما قال الشاعر: (ولا رأَيْت قلوصاً قبْلها حَمَلَتْ ... ستين وسقاً ولا جابَتْ به بَلَدا) وأما (الواد) فقد زعم محمد بن إسحاق أنه وادي القرى , وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة تبوك على وادي ثمود , وهو على فرس أشقر , فقال: أسرعوا السير فإنكم في واد ملعون. {وفرعونَ ذِي الأوْتادِ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن الأوتاد الجنود , فلذلك سمي بذي الأوتاد لكثرة جنوده , قاله ابن عباس. الثاني: لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد يشدها في أيديهم , قاله الحسن , ومجاهد , قال الكلبي: بمثل ذلك عذب فرعون زوجته آسية بنت مزاحم عندما آمنت حتى ماتت. الثالث: أن الأوتاد البنيان فسمي بذي الأوتاد لكثرة بنائه , قاله الضحاك. الرابع: لأنه كانت له فطال وملاعب على أوتاد وحبال يلعب له تحتها , قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أنه ذو الأوتاد لكثرة نخلة وشجرة , لأنها كالأوتاد في الأرض. {فَصَبَّ عليهم ربُّك سَوْطَ عذابٍ} فيه أربعة أوجه: أحدها: قسط عذاب كالعذاب بالسوط , قاله ابن عيسى.

الثاني: خلط عذاب , لأنه أنواع ومنه قول الشاعر: (أحارثُ إنّا لو تُساطُ دماؤنا ... تَزَيّلْنَ حتى لا يَمسَّ دَمٌ دَمَا) الثالث: أنه وجع من العذاب , قاله السدي. الرابع: أنه كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب , قاله قتادة. وقال قتادة: كان سوط عذاب هو الغرق. {إنّ ربك لبالمرصاد} فيه وجهان: أحدهما: بالطريق. الثاني: بالانتظار , كما قال طرفة: (أعاذلُ إنّ الجهْلَ من لَذِةِ الفتى ... وإنّ المنايا للرجال بمرصَد.)

15

{فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما} {وتأكُلون التُّراثَ أكْلاً لمّاً} والتراث: الميراث , وفي قوله (لمّاً) أربعة تأويلات: أحدها: يعني شديداً , قاله السدي. الثاني: يعني جمعاً , من قولهم لممت الطعام لَمّاً , إذا أكلته جمعاً , قاله الحسن. الثالث: معناه سفه سفاً , قاله مجاهد. الرابع: هو أنه إذا أكل مال نفسه ألمّ بمال غيره فأكله , ولا يتفكر فيما أكل من خبيث وطيب , قاله ابن زيد. ويحتمل خامساً: أنه ألمّ بما حرم عليه ومنع منه.

{وتُحِبُّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً} فيه تأويلان: أحدهما: يعني كثيراً , قاله ابن عباس , والجمّ الكثير , قال الشاعر: (إنْ تَغْفِر اللهم تغْفِرْ جَمّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا أَلَمّاً) الثاني: فاحشاً تجمعون حلاله إلى حرامه , قاله الحسن: ويحتمل ثالثاً: أنه يحب المال حب إجمام له واستبقاء فلا ينتفع به في دين ولا دنيا وهو أسوأ أحوال ذي المال.

21

{كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} {يومئذٍ يَتذكّرُ الإنسانُ وأنَّى له الذِّكْرَى} فيه تأويلان: أحدهما: يتوب وكيف له بالتوبة , لأن التوبة بالقيامة لا تنفع , قاله الضحاك. الثاني: يتذكر ما عمل في دنياه وما قدم لآخرته , وأنى له الذكرى في الآخرة , وإنما ينتفع في الدنيا , قاله ابن شجرة. {يقولُ يا ليتني قَدَّمْتُ لحياتي} فيه وجهان: أحدهما: قدمت من دنياي لحياتي في الآخرة , قاله الضحاك. الثاني: قدمت من حياتي لمعادي في الآخرة ذكره ابن عباس. {فيومئذٍ لا يُعَذِّب عذابَه أَحَدٌ ولا يُوثِقُ وثاقهَ أَحَدٌ} قرأ الكسائي لا يعذَّب ولا يوثق بفتح الذال والثاء وتأويلها على قراءته لا يعذَّب عذاب الكافر الذي يقول (يا ليتني قدمت لحياتي) أحدٌ , وقرأ الباقون بكسر الذال والثاء وتأويلها أنه لا يعَذِّب عذابَ الله أحدٌ غَفَر الله له , قاله ابن عباس والحسن , فيكون تأويله على

القراءة الأولى محمولاً على الآخرة , وعلى القراءة الثانية محمولاً على الدنيا. {يا أيّتُها النّفْسُ المطْمئِنّةُ} فيه سبعة تأويلات: أحدها: يعني المؤمنة , قاله ابن عباس. الثاني: المجيبة , قاله مجاهد. الثالث: المؤمنة بما وعد الله , قاله قتادة. الرابع: الآمنة , وهو في حرف أُبيّ بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. الخامس: الراضية , قاله مقاتل. السادس: ما قاله بعض أصحاب الخواطر: المطمئنة إلى الدنيا , ارجعي إلى ربك في تركها. السابع: ما قاله الحسن أن الله تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن اطمأنت النفس إلى الله عز وجل , واطمأن الله إليها. {ارْجِعي إلى ربِّكِ} فيه وجهان: أحدهما: إلى جسدك عند البعث في القيامة , قاله ابن عباس. الثاني: إلى ربك عند الموت في الدنيا , قاله أبو صالح. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: إلى ثواب ربك في الآخرة. {راضيةً مَرْضِيّةً} فيه وجهان: أحدهما: رضيت عن الله ورضي عنها , قاله الحسن. الثاني: رضيت بثواب الله ورضي بعملها , قاله ابن عباس. {فادْخُلي في عِبادي} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: في عبدي , وهو في حرف أُبيّ بن كعب: فادخلي في عبدي. الثاني: في طاعتي , قاله الضحاك. الثالث: معناه فادخلي مع عبادي , قاله السدي. {وادْخُلي جَنَتي} فيه قولان: أحدهما: في رحمتي , قاله الضحاك. الثاني: الجنة التي هي دار الخلود ومسكن الأبرار , وهو قول الجمهور.

وقال أسامة بن زيد: بشرت النفس المطمئنة بالجنة عند الموت , وعند البعث وفي الجنة. واختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل: أحدها: أنها نزلت في أبي بكر , فروى ابن عباس أنها نزلت وأبو بكر جالس فقال: يا رسول الله ما أَحسن هذا , فقال صلى الله عليه وسلم: (أما أنه سيقال لك هذا). الثاني: أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة , قاله الضحاك. الثالث: أنها نزلت في حمزة , قاله بريدة الأسلمي. الرابع: أنها عامة في كل المؤمنين , رواه عكرمة والفراء.

سورة البلد بسم الله الرحمن الرحيم

البلد

{لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين} قوله تعالى {لا أُقْسِمُ بهذا البَلَد} ومعناه على أصح الوجوه: أُقْسِم بهذا البلد , وفي (البلد) قولان: أحدهما: مكة , قاله ابن عباس. الثاني: الحرم كله , قاله مجاهد. {وأنتَ حلٌّ بهذا البَلَدِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتال أو غيره , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: أنت مُحِل في هذا البد غير مُحْرِم في دخولك عام الفتح , قاله الحسن وعطاء. الثالث: أن يستحل المشركون فيه حرمتك وحرمة من اتبعك توبيخاً للمشركين. ويحتمل رابعاً: وأنت حالٌّ أي نازل في هذا البلد , لأنها نزلت عليه وهو بمكة

لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤْذن له في القتال , وكانت حرمة مكة فيها أعظم , والقسم بها أفخم. {ووالدٍ وما وَلَدَ} فيه أربعة أوجه. أحدها: آدم وما ولد , قاله مجاهد وقتادة والحسن والضحاك. الثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد , قاله أبو عمران الجوني. الثالث: أن الوالد هو الذي يلد , وما ولد هو العاقر الذي لا يلد , قاله ابن عباس. الرابع: أن الوالد العاقر , وما ولد التي تلد , قاله عكرمة. ويحتمل خامساً: أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم , لتقدم ذكره , وما ولد أُمتّه , لقوله عليه السلام إنما أنا لكم مثل الوالد أعلّمكم , فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في تشريفه. {لقد خَلقنا الإنسانَ في كَبَدٍ} إلى هاهنا انتهى القسم وهذا جوابه. وفي قوله (في كَبَد) سبعة أقاويل: أحدها: في انتصاب في بطن أُمّه وبعد ولادته , خص الإنسان بذلك تشريفاً , ولم يخلق غيره من الحيوان منتصباً , قاله ابن عباس وعكرمة.

الثاني: في اعتدال , لما بيّنه بعد من قوله {ألم نَجْعَلْ له عَيْنَين} الآيات , حكاه ابن شجرة. الثالث: يعني من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة , يتكبد في الخلق مأخوذ من تكبد الدم وهو غلظه , ومنه أخذ أسم الكبد لأنه دم قد غلظ , وهو معنى قول مجاهد. الرابع: في شدة لأنها حملته كرهاً ووضعته كرهاً , مأخوذ من المكابدة , ومنه قول لبيد: (يا عين هلاّ بكيْتِ أَرْبَدَ إذ ... قُمْنا وقامَ الخصومُ في كَبَدِ.) رواه ابن أبي نجيح. الخامس: لأنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة , قاله الحسن. السادس: لأنه خلق آدم في كبد السماء , قاله ابن زيد. السابع: لأنه يكابد الشكر على السّراء والصبر على الضّراء , لأنه لا يخلو من أحدهما , رواه ابن عمر. ويحتمل ثامناً: يريد به أنه ذو نفور وحميّة , مأخوذ من قولهم لفلان كبَد , إذا كان شديد النفور والحمية. وفيمن اريد بالإنسان ها هنا قولان: أحدهما: جميع الناس. الثاني: الكافر يكابد شبهات. {أيَحْسَب أنْ لَنْ يَقْدِر عليه أحَدٌ} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه الله أن يبعثه بعد الموت , قاله السدي. الثاني: أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد بأخذ ماله , قاله الحسن. الثالث: أيحسب أن لن يذله أحد , لأن القدرة عليه ذل له. {يقولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً} فيه وجهان:

أحدهما: يعني كثيراً. الثاني: مجتمعاً بعضه على بعض , ومنه سمي اللّبْد لاجتماعه وتلبيد بعضه على بعض. ويحتمل ثالثاً: يعني مالاً قديماً , لاشتقاقه من الأبد , أو للمبالغة في قدمه من عهد لَبِد , لأن العرب تضرب المثل في القدم بلبد , وذكر قدمه لطول بقائه وشدة ضَنِّه به. وقيل إن هذا القائل أبو الشد الجمحي , أنفق مالا كثيراً في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله , وقيل بل هو النضر بن الحارث. وهذا القول يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغياناً منه. الثاني: أن يكون أسفاً عليه , فيكون ندماً منه. {أيحْسَبُ أن لم يَرَهُ أَحَدٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن لم يره الله , قاله مجاهد. الثاني: أن لم يره أحد من الناس فيما أنفقه , قاله ابن شجرة. ويحتمل وجهاً ثالثاً: أيحسب أن لم يظهر ما فعله أن لا يؤاخذ به , على وجه التهديد , كما يقول الإنسان لمن ينكر عليه فعله , قد رأيت ما صنعت , تهديداً له فيكون الكلام على هذا الوجه وعيداً , وعلى ما تقدم تكذيباً. {وهَدَيْناه النَّجْدَيْنِ} فيهما أربعة تأويلات: أحدها: سبيل الخير والشر , قاله علي رضي الله عنه والحسن. الثاني: سبيل الهدى والضلالة , قاله ابن عباس. الثالث: سبيل الشقاء والسعادة , قاله مجاهد. الرابع: الثديين ليتغذى بهما , قاله قتادة والربيع بن خثيم.

قال قطرب: والنجد هو الطريق المرتفع , فأرض نجد هي المرتفعة , وأرض تهامة هي المنخفضة. ويحتمل على هذا الاشتقاق خامساً: أنهما الجنة والنار , لارتفاعهما عن الأرض.

11

{فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة} {فلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ} فيها خمسة أقاويل: أحدها: أنها طريق النجاة , قاله ابن زيد. الثاني: أنها جبل في جهنم , قاله ابن عمر. الثالث: أنها نار دون الحشر , قاله قتادة. الرابع: أنها الصراط يضرب على جهنم كحد السيف , قاله الضحاك , قال الكلبي: صعوداً وهبوطاً. الخامس: أن يحاسب نفسه وهواه وعدوّه الشيطان , قاله الحسن. قال الحسن: عقبة والله شديدة. ويحتمل سادساً: اقتحام العقبة خالصة من الغرض. وفي معنى الكلام وجهان: أحدهما: اقتحام العقبة فك رقبة , قاله الزجاج. الثاني: معناه فلم يقتحم العقبة إلا مَنْ فكَّ رقبة أو أطعم , قاله الأخفش. ثم قال: {وما أدْراكَ ما العَقَبَةُ} وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه اقتحام العقبة. ثم بين تعالى ما تقتحم به العقبة. فقال: {فَكُّ رَقَبَةٍ} فيه وجهان:

أحدهما: إخلاصها من الأسر. الثاني: عتقها من الرق , وسمي المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط من رقبته , وسمي عتقاً فكها لأنه كفك الأسير من الأسر , قال حسان بن ثابت: (كم مِن أسيرٍ فككناه بلا ثَمنٍ ... وجَزّ ناصية كُنّأ مَواليها) وروى عقبة بن عامر الجهني أن النبي عليه السلام قال: من أعتق مؤمنة فهي فداؤه من النار. ويحتمل ثالثاً: أنه أرد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات , لا يمنع الخبر من هذا التأويل , وهو أشبه الصواب. ثم قال تعالى: {أو إطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغَبَةٍ} أي مجاعة , لقحط أو غلاء. {يتيماً ذا مَقْرَبةٍ} ويحتمل أن يريد ذا جوار. {أو مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ} فيه سبعة أوجه: أحدها: أن ذا المتربة هو المطروح على الطريق لا بيت له , قاله ابن عباس , الثاني: هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره , قاله مجاهد. الثالث: أنه ذو العيال , قاله قتادة. الرابع: أنه المديون , قاله عكرمة. الخامس: أنه ذو زمانة , قاله أبو سنان. السادس: أنه الذي ليس له أحد , قاله ابن جبير. السابع: أن ذا المتربة: البعيد التربة , يعني الغريب البعيد عن وطنه , رواه عكرمة عن ابن عباس. {ثُمَّ كانَ مِنَ الذين آمَنوا وَتَوَاصَوْا بالصَّبْر} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: بالصبر على طاعة الله , قاله الحسن. الثاني: بالصبر على ما افترض الله عليه , قاله هشام بن حسان. الثالث: بالصبر على ما أصابهم , قاله سفيان.

ويحتمل رابعاً: بالصبر على الدنيا وعن شهواتها. {وتَواصَوْا بالمَرْحَمَةِ} أي بالتراحم فيما بينهم , فرحموا الناس كلهم ويحتمل ثانياً: وتواصوا بالآخرة لأنها دار الرحمة , فيتواصوا بترك الدنيا وطلب الآخرة. {أولئك أصحابُ المَيْمَنَةِ} يعني الجنة , وفي تسميتهم أصحاب الميمنة أربعة أوجه: أحدها: لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيمن , قاله زيد بن أسلم. الثاني: لأنهم أوتوا كتابهم بأيمانهم , قاله محمد بن كعب. الثالث: لأنهم ميامين على أنفسهم , قاله يحيى بن سلام. الرابع: لأنه منزلهم على اليمين , قاله ميمون. {والّذِين كَفَروا بآياتِنا} فيه وجهان: أحدهما: بالقرآن , قاله ابن جبير. الثاني: هي جميع دلائل الله وحُججه , قاله ابن كامل. {هُمْ أصحابُ المشْأَمةٍ} يعني جهنم , وفي تسميتهم بذلك أربعة أوجه: أحدها: لأنهم أُخذوا من شق آدم الأيسر , قاله زيد بن أسلم. الثاني: لأنهم أُوتوا كتابهم بشمالهم , قاله محمد بن كعب. الثالث: لأنهم مشائيم على أنفسهم , قاله يحيى بن سلام. الرابع: لأن منزلهم عن اليسار , وهو مقتضى قول ميمون. {عليهم نارٌ مُّؤصَدَةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: المؤصدة المطبقة , قاله ابن عباس وأبو هريرة وقتادة. الثاني: مسدودة , قاله مجاهد. الثالث: لها حائط لا باب له، قاله الضحاك.

سورة الشمس مكية عند جميعهم بسم الله الرحمن الرحيم

الشمس

{والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} مكية عند جميعهم قوله تعالى {والشّمْسِ وضُحاها} هذان قسمان: قَسَمٌ بالشمس , وقَسَم بضحاها , وفي ضحاها أربعة أوجه: أحدها: هو إشراقها , قاله مجاهد. الثاني: هو إنبساطها , قاله اليزيدي. الثالث: حرها , قاله السدي. الرابع: هذا النهار , قاله قتادة. ويحتمل خامساً: أنه ما ظهر بها من كل مخلوق , فيكون القسم بها وبالمخلوقات كلها. {والقَمَرِ إذا تَلاها} ففيه وجهان: أحدهما: إذا ساواها , قاله مجاهد. الثاني: إذا تبعها , قاله ابن عباس. وفي اتباعه لها ثلاثة أوجه:

أحدها: أول ليلة من الشهر إذا سقطت الشمس يرى القمر عند سقوطها , قاله قتادة. الثاني: الخامس عشر من الشهر يطلع القمر مع غروب الشمس , قاله الطبري. الثالث: في الشهر كله فهو في النصف الأول يتلوها , وتكون أمامه وهو وراءها , وإذا كان في النصف الأخير كان هو أمامها وهي وراءه , قاله ابن زيد. ويحتمل رابعاً: أنه خلفها في الليل , فكان له مثل ما لها في النهار لأن تأثير كل واحد منهما في زمانه , فللشمس النهار. وللقمر الليل. {والنّهارِ إذا جَلاَها} فيه وجهان: أحدهما: أضاءها , يعني الشمس لأن ضوءها بالنهار يجلي ظلمة الليل , قاله مجاهد. الثاني: أظهرها , لأن ظهور الشمس بالنهار , ومنه قول قيس بن الخطيم: (تجلب لنا كالشمس بين غمامةٍ ... بدا حاجبٌ منها وضنّتْ بحاجب) ويحتمل ثالثاً: أن النهار جلّى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر لاستتاره ليلاً وانتشاره نهاراً. {والليل إذا يَغْشاها} فيه وجهان: أحدهما: أظلمها , يعني الشمس , وهو مقتضى قول مجاهد. الثاني: يسترها , ومنه قول الخنساء: (أرْعَى النجومَ وما كُلِّفْتُ رِعْيَتَها ... وتارةً أتغشى فَضْلَ أطْماري) {والسّماءِ وما بَناها} فيه وجهان: أحدهما: والسماء وبنائها , قاله قتادة. الثاني: معناه ومن بناها وهو الله تعالى , قاله مجاهد والحسن. ويحتمل ثالثاً: والسماء وما في بنائها , يعني من الملائكة والنجوم , فيكون هذا

قسَماً بما في السماءِ , ويكون ما تقدمه قسَماً بما في الأرض. {والأرْضِ وما طَحَاهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه بَسطها , قاله سفيان وأبو صالح. الثاني: معناه قسَمها , قاله ابن عباس. الثالث: يعني ما خلق فيها , قاله عطية العوفي , ويكون طحاها بمعنى خلقها , قال الشاعر: (وما تَدري جذيمةُ مَنْ طحاها ... ولا من ساكنُ العَرْشِ الرّفيع) ويحتمل رابعاً: أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز , لأنه حياة لما خلق عليها. {ونَفْسٍ وما سَوَّاها} في النفس قولان: أحدهما: آدم , ومن سواها: الله تعالى , قاله الحسن. الثاني: أنها كل نفس. وفي معنى سواها على هذا القول وجهان: أحدهما: سوى بينهم في الصحة , وسوى بينهم في العذاب جميعاً , قاله ابن جريج. الثاني: سوى خلقها وعدل خلقها , قاله مجاهد. ويحتمل ثالثاً: سوّاها بالعقل الذي فضّلها به على جميع الحيوانات. {فأَلْهَمَهَا فجُورَها وتَقْواها} في (ألهمها) تأويلان: أحدهما: أعلمها , قاله مجاهد. الثاني: ألزمها , قاله ابن جبير. وفي (فجورها وتقواها) ثلاثة تأويلات: أحدها: الشقاء والسعادة , قاله مجاهد. الثاني: الشر والخير , قاله ابن عباس. الثالث: الطاعة والمعصية , قاله الضحاك.

ويحتمل رابعاً: الرهبة والرغبة لأنهما داعيا الفجور والتقوى. وروى جوبير عن الضحاك عن ابن عباس أن النبي عليه السلام كان إذا قرأ هذه الآية (فألهمها فجورها وتقواها) رفع صوته: اللهم آتِ نفسي تقواها , أنت وليها ومولاها , وأنت خير من زكّاها. {قد أفْلَحَ مَن زكّاها} على هذا وقع القسم , قال ابن عباس: فيها أحد عشر قسماً. وفيه وجهان: أحدهما: قد افلح من زكى الله نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال. الثاني: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال. وفي زكاها وجهان: أحدهما: طهّرها , وهو قول مجاهد. الثاني: أصلحها , وهو قول سعيد بن جبير. {وقد خابَ من دَسّاها} فيه وجهان: أحدهما: على ما قضى وقد خاب من دسّى الله نفسه. الثاني: من دسّى نفسه. وفي (دسّاها) سبعة تأويلات: أحدها: أغواها وأضلها , قاله مجاهد وسعيد بن جبير , لأنه دسّى نفسه في المعاصي , ومنه قول الشاعر: (وأنت الذي دَسْيت عَمْراً فأصْبَحَتْ ... حلائلهم فيهم أراملَ ضُيّعاً) الثاني: إثمنها وفجورها , قاله قتادة. الثالث: خسرها , قاله عكرمة.

الرابع: كذبها , قاله ابن عباس. الخامس: أشقاها , قاله ابن سلام. السادس: جنبها في الخير , وهذا قول الضحاك. السابع: أخفاها وأخملها بالبخل , حكاه ابن عيسى.

11

{كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها} {كذّبَتْ ثمودُ بِطَغْواها} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بطغيانها ومعصيتها , قاله مجاهد وقتادة. الثاني: بأجمعها , قاله محمد بن كعب. الثالث: بعذابها , قاله ابن عباس. قالوا كان اسم العذاب الذي جاءها الطّغوى. {فدمْدم عليهم ربهم بذَنْبِهم} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه فغضب عليهم. الثاني: معناه فأطبق عليهم. الثالث: معناه فدمّر عليهم , وهو مثل دمدم , كلمة بالحبشية نطقت بها العرب. {فسوّاها} فيه وجهان: أحدهما: فسوى بينهم في الهلاك , قاله السدي ويحيى بن سلام. الثاني: فسوّى بهم الأرض , ذكره ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: فسوّى مَن بعدهم مِنَ الأمم. {ولا يخافُ عُقباها} فيه وجهان: أحدهما: ولا يخاف الله عقبى ما صنع بهم من الهلاك , قاله ابن عباس. الثاني: لا يخاف الذي عقرها عقبى ما صنع من عقرها , قاله الحسن. ويحتمل ثالثاً: ولا يخاف صالح عقبى عقرها , لأنه قد أنذرهم ونجاه الله تعالى حين أهلكهم.

سورة الليل بسم الله الرحمن الرحيم

الليل

{والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى} قوله تعالى {واللّيلِ إذا يَغْشَى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إذا أظلم , قاله مجاهد. الثاني: غطى وستر , قاله ابن جبير. الثالث: إذا غشى الخلائق فعّمهم وملأهم , قاله قتادة , وهذا قَسَم. {والنّهارِ إذا تَجَلّى} فيه وجهان: أحدهما: إذا أضاء , قاله مجاهد. الثاني: إذا ظهر , وهو مقتضى قول ابن جبير. ويحتمل ثالثاً: إذا أظهر ما فيه من الخلق , وهذا قسم ثانٍ. {وما خَلَقَ الذّكّرّ والأُنثى} قال الحسن: معناه والذي خلق الذكر والأنثى فيكون هذا قسماً بنفسه تعالى. ويحتمل ثانياً: وهو أشبه من قول الحسن أن يكون معناه وما خلق من الذكر

والأنثى , فتكون (من) مضمرة المعنى محذوفة اللفظ , وميزهم بخلقهم من ذكر وأنثى عن الملائكة الذين لم يخلقوا من ذكر وأنثى , ويكون القسم بأهل طاعته من أوليائه وأنبيائه , ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفاً. وفي المراد بالذكر والأنثى قولان: أحدهما: آدم وحواء , حكاه ابن عيسى. الثاني: من كل ذكر وأنثى. فإن حمل على قول الحسن فكل ذكر وأنثى من آدمي وبهيمة , لأن الله خلق جميعهم. وإن حمل على التخريج الذي ذكرت أنه أظهر , فكل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته , وهذا قسم ثالث: {إنّ سَعْيَكم لشَتّى} أي مختلف , وفيه وجهان: أحدهما: لمختلف الجزاء , فمنكم مثاب بالجنة , ومنكم معاقب بالنار. الثاني: لمختلف الأفعال , منكم مؤمن وكافر , وبر وفاجر , ومطيع وعاص. ويحتمل ثالثاً: لمختلف الأخلاق , فمنكم راحم وقاس , وحليم وطائش , وجواد وبخيل , وعلى هذا وقع القسم. وروى ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه , وفي أمية وأبّي ابني خلف حين عذّبا بلالاً على إسلامه , فاشتراه أبو بكر , ووفي ثمنه بردةً وعشر أوراقٍ , وأعتقه للَّه تعالى , فنزل ذلك فيه. {فأمّا من أَعْطَى واتّقَى} قال ابن مسعود يعني أبا بكر. وفي قوله (أعطى) ثلاثة أوجه: أحدها: من بذل ماله , قاله ابن عباس. الثاني: اتقى محارم الله التي نهى عنها , قال قتادة. الثالث: اتقى البخل , قاله مجاهد. {وصَدَّق بالحُسْنَى} فيه سبعة تأويلات: أحدها: بتوحيد الله , وهو قول لا إله إلا الله , قاله الضحاك.

الثاني: بموعود الله , قاله قتادة. الثالث: بالجنة , قاله مجاهد. الرابع: بالثواب , قاله خصيف. الخامس: بالصلاة والزكاة والصوم , قاله زيد بن أسلم. السادس: بما أنعم الله عليه , قاله عطاء. السابع: بالخلف من عطائه , قاله الحسن , ومعاني أكثرها متقاربة. {فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرىَ} فيه تأويلان: أحدهما: للخير , قاله ابن عباس. الثاني: للجنة , قاله زيد بن أسلم. ويحتمل ثالثاً: فسنيسر له أسباب الخير والصلاح حتى يسهل عليه فعلها. {وأمّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغنَى} قال ابن مسعود: يعني بذلك أُمية وأبيّاً ابني خلف. وفي قوله (بخل) وجهان: أحدهما: بخل بماله الذي لا يبقى , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: بخل بحق الله تعالى , قاله قتادة. (واستغنى) فيه وجهان: أحدهما: بماله , قاله الحسن. الثاني: عن ربه , قاله ابن عباس. {وكَذَّبَ بالحُسْنَى} فيه التأويلات السبعة. {فَسنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى} فيه وجهان: أحدهما: للشر من الله تعالى , قاله ابن عباس. الثاني: للنار , قاله ابن مسعود. ويحتمل ثالثاً: فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها فعند نزول هاتين الآيتين يروي قتادة عن خليد عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: (ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وملكان يناديان: اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً ,) ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى}. الآية والتي بعدها. {وما يُغْنِي عنه ماله إذا تَرَدَّى} فيه وجهان: أحدهما: إذا تردّى في النار , قاله أبو صالح وزيد بن أسلم. الثاني: إذا مات فتردى في قبره , قاله مجاهد وقتادة. ويحتمل ثالثاً: إذا تردى في ضلاله وهوى في معاصيه.

12

{إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} {إنّ علينا لَلْهُدَى} فيه وجهان: أحدهما: أن نبيّن سبل الهدى والضلالة قاله يحيى بن سلام. الثاني: بيان الحلال والحرام , قاله قتادة. ويحتمل ثالثاً: علينا ثواب هداه الذي هدينا. {وإنَّ لنا لَلآخِرةَ والأُولى} فيه وجهان: أحدهما: ثواب الدنيا والآخرة , قاله الكلبي والفراء. الثاني: ملك الدنيا وملك الآخرة , قاله مقاتل. ويحتمل ثالثاً: الله المُجازي في الدنيا والآخرة. {فأنذَرْتُكم ناراً تَلَظَّى} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه تتغيظ , قاله الكلبي. الثاني: تشتعل , قاله مقاتل. الثالث: تتوهج , قاله مجاهد , وأنشد لعلّي رضي الله عنه:

(كأن الملح خالطه إذا ما ... تلظّى كالعقيقة في الظلال) {لا يَصلاها إلا الأشْقَى} أي الشقّي. {والذي كذّب وتولّى} فيه وجهان: أحدهما: كذّب بكتاب الله وتولّى عن طاعة الله , قاله قتادة. الثاني: كذّب الرسولَ وتولّى عن طاعته. {وما لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمةٍ تُجْزَى إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأَعْلَى} فيه وجهان: أحدهما: وما لأحد عند الله تعالى من نعمة يجازيه بها إلا أن يفعلها ابتغاء وجه ربه فيستحق عليها الجزاء والثواب , قاله قتادة. الثاني: وما لبلال عند أبي بكر حين اشتراه فأعتقه من الرق وخلّصه من العذاب نعمةٌ سلفت جازاه عليها بذلك إلا ابتغاء وجه ربه وعتقه , قاله ابن عباس وابن مسعود {ولَسوفَ يَرْضَى} يحتمل وجهين: أحدهما: يرضى بما أعطيه لسعته. الثاني: يرضى بما أعطيه لقناعته , لأن من قنع بغير عطاء كان أطوع لله.

سورة الضحى بسم الله الرحمن الرحيم

الضحى

{والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث} قوله تعالى {والضُّحَى} هو قَسَمٌ , وفيه أربعة أوجه: أحدها: أنه أول ساعة من النهار إذا ترحلت الشمس , قاله السدي. الثاني: أنه صدر النهار , قاله قتادة. الثالث: هو طلوع الشمس , قاله قطرب. الرابع: هو ضوء النهار في اليوم كله , مأخوذ من قولهم ضحى فلان الشمس , إذا ظهر لها، قاله مجاهد، والاشتقاق لعلي بن عيسى. {والليلِ إذا سَجى} وهو قَسَم ثان , وفيه خمسة تأويلات: أحدها: إذا أقبل، قاله سعيد بن جبير. الثاني: إذا أظلم، قاله ابن عباس. الثالث: إذا استوى، قاله مجاهد. الرابع: إذا ذهب، قاله ابن حنطلة عن ابن عباس.

الخامس: إذا سكن الخلق فيه , قاله عكرمة وعطاء وابن زيد , مأخوذ من قولهم سجى البحر إذا سكن , وقال الراجز: (يا حبذا القمراءُ والليلِ الساج ... وطُرُقٌ مِثْلُ ملاءِ النسّاج) {ما ودَّعَكَ ربُّكَ وما قَلَى} اختلف في سبب نزولها , فروى الأسود بن قيس عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رُمي بحجر في إصبعه فدميت , فقال: (هل أنت إلاّ أصبعٌ دَميتِ ... وفي سبيل اللَّه ما لَقِيتِ) قال فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم , فقالت له امرأة يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك , فنزل عليه: {ما ودعك ربك وما قلى}. وروى هشام عن عروة عن أبيه قال: أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم فجزع لذلك جزعاً شديداً , قالت عائشة: فقال كفار قريش: إنا نرى ربك قد قلاك , مما رأوا من جزعه , فنزلت: {ما ودعك ربك وما قلى} , وروى ابن جريج أن جبريل لبث عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشرة ليلة فقال المشركون: لقد ودع محمداً ربُّه , فنزلت: {ما ودعك ربك وما قلى}. وفي (وَدَّعَك) قراءتان: أحدهما: قراءة الجمهور ودّعك , بالتشديد , ومعناها: ما انقطع الوحي عنك توديعاً لك. والثانية: بالتخفيف , ومعناها: ما تركك إعراضاً عنك. (وما قلى) أي ما أبغضك , قال الأخطل:

(المهْديات لمن هوين نسيئةً ... والمحْسِنات لمن قَلَيْنَ مقيلاً) {ولَلآخرةُ خير لك مِنَ الأُولى} روى ابن عباس قال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده، فسُرّ بذلك، فأنزل الله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأُولى) الآية. وفي قوله {وللآخرة خير لك من الأولى} وجهان: أحدهما: وللآخرة خير لك مما أعجبك في الدنيا , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أن مآلك في مرجعك إلى الله تعالى أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا , قاله ابن شجرة. {ولسوف يُعْطيك ربُّك فَتَرْضَى} يحتمل وجهين: أحدهما: يعطيك من النصر في الدنيا , وما يرضيك من إظهار الدين. الثاني: يعطيك المنزلة في الآخرة , وما يرضيك من الكرامة. {ألمْ يَجِدْك يتيماً فآوَى} واليتيم بموت الأب , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أبويه وهو صغير , فكفله جده عبد المطلب , ثم مات فكفله عمه أبو طالب , وفيه وجهان: أحدهما: أنه أراد يتم الأبوة بموت من فقده من أبويه , فعلى هذا في قوله تعالى (فآوى) وجهان: أحدهما: أي جعل لك مأوى لتربيتك , وقيمّاً يحنو عليك ويكفلك وهو أبو طالب بعد موت عبد الله وعبد المطلب , قاله مقاتل. الثاني: أي جعل لك مأوى نفسك , وأغناك عن كفالة أبي طالب , قاله الكلبي. والوجه الثاني: أنه أراد باليتيم الذي لا مثيل له ولا نظير , من قولهم درة يتيمة , إذا لم يكن لها مثيل , فعلى هذا في قوله (فآوى) وجهان: أحدهما: فآواك إلى نفسه واختصك برسالته.

الثاني: أن جعلك مأوى الأيتام بعد أن كنت يتيماً , وكفيل الأنام بعد أن كنت مكفولاً , تذكيراً بنعمه عليه , وهو محتمل. {وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدَى} فيه تسعة تأويلات: أحدها: وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه , قاله ابن عيسى. الثاني: ووجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها , قاله الطبري. الثالث: ووجد قومك في ضلال فهداك إلى إرشادهم , وهذا معنى قول السدي. الرابع: ووجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها. الخامس: ووجدك ناسياً فأذكرك , كما قال تعالى: {أن تَضِل إحداهما}. السادس: ووجدك طالباً القبلة فهداك إليها , ويكون الضلال بمعنى الطلب , لأن الضال طالب. السابع: ووجدك متحيراً في بيان من نزل عليك فهداك إليه , فيكون الضلال بمعنى التحير , لأن الضال متحير. الثامن: ووجدك ضائعاً في قومك فهداك إليه , ويكون الضلال بمعنى الضياع، لأن الضال ضائع. التاسع: ووجدك محباً للهداية فهداك إليها , ويكون الضلال بمعنى المحبة، ومنه قوله تعالى: {قالوا تاللَّه إنك لفي ضلالك القديم} أي في محبتك، قال الشاعر: (هذا الضلال أشاب مِنّي المفرقا ... والعارِضَيْن ولم أكنْ مُتْحقّقاً) (عَجَباً لَعِزّةَ في اختيارِ قطيعتي ... بعد الضّلالِ فحبْلُها قد أخْلقاً) وقرأ الحسن: ووجدَك ضالٌّ فهُدِي , أي وجَدَك الضالُّ فاهتدى بك , {ووجَدَك عائلاً فأَغْنَى} فيه أربعة أوجه: أحدها: وجدك ذا عيال فكفاك , قاله الأخفش , ومنه قول جرير: (الله أنْزَلَ في الكتابِ فَرِيضةً ... لابن السبيل وللفقير العائلِ) الثاني: فقيراً فيسَّر لك، قاله الفراء، قال الشاعر:

(وما يَدْري الفقيرُ متى غناه ... وما يَدْري الغنيُّ متى يَعيِلُ) أي متى يفتقر. الثالث: أي وجدك فقيراً من الحُجج والبراهين , فأغناك بها. الرابع: ووجدك العائلُ الفقير فأغناه الله بك , روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بصوته الأعلى ثلاث مرات: (يَمُنّ ربي عليّ وهو أهلُ المَنّ) {فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَرْ} فيه خمسة أوجه: أحدها: فلا تحقر , قاله مجاهد. الثاني: فلا تظلم , رواه سفيان. الثالث: فلا تستذل , حكاه ابن سلام. الرابع: فلا تمنعه حقه الذي في يدك , قاله الفراء. الخامس: ما قاله قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم , وهي في قراءة ابن مسعود: فلا تكْهَر , قاله أبو الحجاج: الكهر الزجر. روى أبو عمران الجوني عن أبي هريره أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه , فقال: (إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطْعِم المسكينَ) {وأَمّا السائلَ فلا تَنْهَر} في رده إن منعته , ورُدّه برحمة ولين , قاله قتادة. الثاني: السائل عن الدين فلا تنهره بالغلظة والجفوة , وأجِبْهُ برفق ولين , قاله سفيان. {وأمّا بِنَعْمِة ربِّكَ فحدِّثْ} في هذه النعمة ثلاثة تأويلات: أحدها: النبوة , قاله ابن شجرة , ويكون تأويل قوله فحدث أي ادعُ قومك. الثاني: أنه القرآن , قاله مجاهد , ويكون قوله: فحدث أي فبلّغ أمتك. الثالث: ما أصاب من خير أو شر , قاله الحسن. (فحدث) فيه على هذا وجهان: أحدهما: فحدّث به الثقة من إخوانك , قاله الحسن. الثاني: فحدِّث به نفسك , وندب إلى ذلك ليكون ذِكرها شكراً.

سورة الشرح مكية بالإجماع بسم الله الرحمن الرحيم

الشرح

{ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب} قوله تعالى {أَلمْ نَشْرَحْ لك صَدْرَكَ} وهذا تقرير من الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم عند انشراح صدره لما حمله من نبوّته. وفي (نشرح) وجهان: أحدهما: أي أزال همك منك حتى تخلو لما أُمِرت به. الثاني: أي نفتح لك صدرك ليتسع لما حملته عنه فلا يضيق , ومنه تشريح اللحم لأنه فتحه لتقديده. وفيما شرح صدره ثلاثة أقاويل: أحدها: الإسلام , قاله ابن عباس. الثاني: بأن ملىء حكمة وعلماً , قاله الحسن. الثالث: بما منّ عليه من الصبر والاحتمال , قاله عطاء. ويحتمل رابعاً: بحفظ القرآن وحقوق النبوّة. {ووَضَعْنا عنك وِزْرَكَ} فيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: وغفرنا لك ذنبك , قاله مجاهد , وقال قتادة: كان للنبي ذنوب أثقلته فغفرها الله تعالى له. الثاني: وحططنا عنك ثقلك , قاله السدي. وهي في قراءة ابن مسعود , وحللنا عنك وِقرك. الثالث: وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس حتى نزل عليك الوحيُ وأنت مطهر من الأدناس. ويحتمل رابعاً: أي أسقطنا عنك تكليف ما لم تُطِقْه , لأن الأنبياء وإن حملوا من أثقال النبوة على ما يعجز عنه غيرهم من الأمة فقد أعطوا من فضل القوة ما يستعينون به على ثقل النبوة , فصار ما عجز عنه غيرهم ليس بمطاق. {الذي أنقَضَ ظَهْرَكَ} أي أثقل ظهرك , قاله ابن زيد كما ينقض البعير من الحمل الثقيل حتى يصير نِقْضاً. وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أثقل ظهره بالذنوب حتى غفرها. الثاني: أثقل ظهره بالرسالة حتى بلّغها. الثالث: أثقل ظهره بالنعم حتى شكرها. {ورَفَعْنا لك ذِكْرَكَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ورفعنا لك ذكرك بالنبوة , قاله يحيى بن سلام. الثاني: ورفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا. الثالث: أن تذكر معي إذا ذكرت , روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول أتدري كيف رفعْت ذكرك؟ فقال: الله أعلم , فقال: إذا ذُكرتُ ذُكِرْتَ) قاله قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة , فليس خطيب يخطب ولا يتشهد , ولا صاحب صلاة إلا ينادي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. {فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً} فيه وجهان:

أحدهما: إن مع اجتهاد الدنيا خير الآخرة. الثاني: إن مع الشدة رخاء , ومع الصبر سعة , ومع الشقاوة سعادة , ومع الحزونة سهولة. ويحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن مع العسر يسراً عند الله ليفعل منهما ما شاء. الثاني: إن مع العسر في الدنيا يسراً في الآخرة. الثالث: إن مع العسر لمن بُلي يسراً لمن صبر واحتسب بما يوفق له من القناعة أو بما يعطى من السعة. قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده لو كان العسر في حَجَرٍ لطلبه اليسر حتى يدخل عليه (ولن يغلب عسْرٌ يُسْرَين). وإنما كان العسر في الموضعين واحداً , واليسر اثنين , لدخول الألف واللام على العسر وحذفها من اليسر. وفي تكرار (مع العسر يسرا) وجهان: أحدهما: ما ذكرنا من إفراد العسر وتثنية اليسر , ليكون أقوى للأمل وأبعث على الصبر , قاله ثعلب. الثاني: للإطناب والمبالغة , كما قالوا في تكرار الجواب فيقال بلى بلى , لا لا , قاله الفراء وقال الشاعر: (هممتُ بِنْفسيَ بَعْضَ الهُموم ... فأَوْلَى لنفْسِيَ أولى لها.) {فإذا فَرَغتَ فانَصَبْ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: فإذا فرغت من الفرائض فانصب من قيام الليل , قاله ابن مسعود. الثاني: فإذا فرغت من صلاتك فانصب في دعائك , قاله الضحاك.

الثالث: فإذا فرغت من جهادك عدوك فانصب لعبادة ربك , قاله الحسن وقتادة. الرابع: فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك , قاله مجاهد. ويحتمل تأويلاً خامساً: فإذا فرغت من إبلاغ الرسالة فانصب لجهاد عدّوك. {وإلى ربِّكَ فارْغَبْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: فارغب إليه في دعائك قاله ابن مسعود. الثاني: في معونتك. الثالث: في إخلاص نيتك , قاله مجاهد. ويحتمل رابعاً: فارغب إليه في نصرك على أعدائك.

سورة التين بسم الله الرحمن الرحيم

التين

{والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين} مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: هي مدنية. قوله تعالى {والتّينِ والزَّيْتُونِ} هما قَسَمان، وفيهما ثمانية تأويلات: أحدها: أنهما التين والزيتون المأكولان، قاله الحسن وعكرمة ومجاهد. الثاني: أن التين دمشق، والزيتون بيت المقدس، قاله كعب الأحبار وابن زيد. الرابع: أن التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس، قاله الحارث وابن زيد. الخامس: الجبل الذي عليه التين، والجبل الذي عليه الزيتون، قاله ابن قتيبة , وهما جبلان بالشام يقال لأحدهما طور زيتا، وللآخر طور تيناً، وهو تأويل الربيع.

وحكى ابن الأنباري أنهما جبلان بين حلوان وهمدان , وهو بعيد. السادس: أن التين مسجد أصحاب الكهف , والزيتون مسجد ايليا , قاله محمد بن كعب. السابع: أن التين مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي , والزيتون مسجد بيت المقدس , قاله ابن عباس. الثامن: أنه أراد بهما نعم الله تعالى على عباده التي منها التين والزيتون , لأن التين طعام , والزيتون إدام. {وطورِ سِينينَ} وهو قَسَم ثالث وفيه قولان: أحدهما: أنه جبل بالشام , قاله قتادة. الثاني: أنه الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام , قاله كعب الأحبار. وفي قوله (سينين) أربعة أوجه: أحدها: أنه الحسن بلغة الحبشة , ونطقت به العرب , قاله الحسن وعكرمة. الثاني: أنه المبارك , قاله قتادة. الثالث: أنه اسم البحر , حكاه ابن شجرة. الرابع: أنه اسم للشجر الذي حوله , قاله عطية. {وهذا البلدِ الأَمينِ} يعني بالبلد مكة وحرمها , وفي الأمين وجهان: أحدهما: الآمن أهله من سبي أو قتل , لأن العرب كانت تكف عنه في الجاهلية أن تسبي فيه أحداً أو تسفك فيه دماً. الثاني: يعني المأمون على ما أودعه الله تعالى فيه من معالم الدين , وهذا قَسَم رابع. {لقد خَلَقْنا الإنسانَ} وفي المراد بالإنسان ها هنا قولان: أحدهما: أنه أراد عموم الناس، وذكر الإنسان على وجه التكثير لأنه وصفه بما يعم لجميع الناس. الثاني: أنه أراد إنساناً بعينه عناه بهذه الصفة، وإن كان صفة الناس.

واختلف فيمن أراده الله تعالى، على خمسة أوجه: أحدها: أنه عنى كلدة بن أسيد، قاله ابن عباس. الثاني: أبا جهل، قاله مقاتل. الخامس: أنه عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي قوله {في أَحْسَنِ تقْويمٍ} أربعة أقاويل: أحدها: في أعدل خلق، قاله ابن عباس. الثاني: في أحسن صورة، قاله أبو العالية. الثالث: في شباب وقوة , قاله عكرمة. الرابع: منتصب القامة , لأن سائر الحيوان مُنْكَبٌّ غير الإنسان , فإنه منتصب , وهو مروي عن ابن عباس. ويحتمل خامساً: أي في أكمل عقل , لأن تقويم الإنسان بعقله , وعلى هذا وقع القَسَم. {ثم ردَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ} فيه قولان: أحدهما: إلى الهرم بعد الشباب , والضعف بعد القوة , قاله الضحاك والكلبي , ويكون أسفل بمعنى بعد التمام. الثاني: بعد الكفر , قاله مجاهد وأبو العالية , ويكون أسفل السافلين محمولاً على الدرك الأسفل من النار. ويحتمل ثالثاً: إلى ضعف التمييز بعد قوّته. {فلهم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنونٍ} فيه ستة أوجه: أحدها: غير منقوص , قاله ابن عباس , وقال الشاعر: (يا عين جودي بدمع غير ممنون ... ... ... ... ... ) الثاني: غير محسوب , قاله مجاهد. الثالث: غير مكدر بالمنّ والأذى , قاله الحسن. الرابع: غير مقطوع , قاله ابن عيسى.

الخامس: أجر بغير عمل , قاله الضحاك. وحكي أن من بلغ الهرم كتب له أجر ما عجز عنه من العمل الصالح. السادس: أن لا يضر كل أحد منهم ما عمله في كبره , قاله ابن مسعود. {فما يُكذِّبُكَ بَعْدُ بالدِّينِ} فيه وجهان: أحدهما: حكم الله تعالى , قاله ابن عباس. الثاني: الجزاء , ومنه قول الشاعر: (دِنّا تميماً كما كانت أوائلُنا ... دانَتْ أوائلَهم في سالفِ الزَّمَنِ) {أليْسَ اللهُ بأحْكَمِ الحاكِمينَ} وهذا تقرير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم , وفيه وجهان: أحدهما: بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً , قاله ابن عيسى. الثاني: أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلاً بين الخلق وفيه مضمر محذوف , وتقديره: فلِمَ ينكرون مع هذه الحال البعث والجزاء. وكان عليّ رضي الله عنه إذا قرأ {أليس الله بأحكم الحاكمين} قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين , ونختار ذلك.

سورة العلق بسم الله الرحمن الرحيم

العلق

{اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} قوله: {اقرأ باسْمِ ربِّك الذي خَلَقَ} روي عن عبيد بن عمير قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أتاه بنمط فغطّه فقال: اقرأ , فقال: والله ما أنا بقارىء , فغطّه ثم قال: اقرأ , فقال: والله ما أنا بقارىء فغطّه غطاً شديداً ثم قال: {اقرأ باسم ربك الذي خَلَقَ} أي استفتح قراءتك باسم ربك الذي خلق وإنما قال الذي خلق لأن قريشاً كانت تعبد آلهة ليس فيهم خالق غيره تعالى , فميّز نفسه بذلك ليزول عنه الالتباس. روت عائشة رضي الله عنها أنها أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعدها (نون والقلم) ثم بعدها (يا أيها المدثر) ثم بعدها (والضحى). {خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} يريد بالإنسان جنس الناس كلهم , خلقوا من علق بعد النطفة , والعلق جمع علقة , والعلقة قطعة من دم رطب سميت بذلك لأنها تعلق

لرطوبتها بما تمر عليه , فإذا جفت لم تكن علقة , قال الشاعر: (تركْناه يخرُّ على يديْه ... يَمُجُّ عليهما عَلَقَ الوتين) ويحتمل مراده بذلك وجهين: أحدهما: أن يبين قدر نعمته على الإنسان بأن خلقه من علقة مهيئة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً متميزاً. الثاني: أنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتى استكمل , كذلك نقلك من الجهالة إلى النبوة حتى تستكمل محلها. {اقْرَأ وربُّكَ الأكْرَمُ} أي الكريم. ويحتمل ثانياً: اقرأ بأن ربك هو الأكرم , لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه دل بها على نعمة كرمه. قال إبراهيم بن عيسى اليشكري: من كرمه أن يرزق عبده وهو يعبد غيره. {الذي علّمَ بالقَلَمِ} أي عَلّم الكاتب أن يكتب بالقلم , وسمي قلماً لأنى يقلم أي يقطع , ومنه تقليم الظفر. وروى مجاهد عن ابن عمر قال: خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده ثم قال لسائر الخلق: كن , فكان , القلم والعرش وجنة عدن وآدم. وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أراد آدم عليه السلام , لأنه أول من كتب , قاله كعب الأحبار. الثاني: إدريس وهو أول من كتب , قاله الضحاك. الثالث: أنه أراد كل من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله له , وجمع بذلك بين نعمته تعالى عليه في خلقه وبين نعمته تعالى عليه في تعليمه استكمالاً للنعمة عليه. {علَّمَ الإنسانَ مالم يَعْلَمْ} فيه وجهان: أحدهما: الخط بالقلم , قاله قتادة وابن زيد. الثاني: علمه كل صنعه علمها فتعلم , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: علمه من حاله في ابتداء خلقه ما يستدل به على خلقه وأن ينقله من بعد على إرادته.

6

{كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب} {كلا إنّ الإنسانَ لَيطْغَى} في (كلا) ها هنا وجهان: أحدهما: أنه ردّ وتكذيب , قاله الفراء. الثاني: أنه بمعنى إلا , وكذلك {كلا سوف يعلمون} , قاله أبو حاتم السجستاني. وفي قوله (ليطغى) أربعة أوجه: الثاني: ليبطر , قاله الكلبي. الثالث: ليرتفع من منزلة إلى منزلة , قاله السدي. الرابع: ليتجاوزه قدره , ومنه قوله تعالى {إنّا لما طَغَى الماءُ} قاله ابن شجرة. {أَن رآه اسْتَغْنَى} أي عن ربه , قاله ابن عباس. ويحتمل ثانياً: استغنى بماله وثروته , وقال الكلبي: نزلت في أبي جهل. {إنّ إلى ربِّك الرُّجْعَى} فيه وجهان: أحدهما: المنتهى , قاله الضحاك. الثاني: المرجع في القيامة. ويحتمل ثالثاً: يرجعه الله إلى النقصان بعد الكمال , وإلى الموت بعد الحياة. {أَرَأَيْتَ الذي يَنْهَى عَبْداً إذا صَلَّى} نزلت في أبي جهل , روى أبو هريرة أن أبا جهل قال: واللات والعزّى لئن رأيت محمداً يصلّي بين أظهركم لأطأن رقبته ولأعفرن وجهه في التراب , ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته , فما فجأه منه

إلا وهو ينكص , أي يرجع على عقبيه , فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهواء وأجنحة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً). وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ لكل أمة فرعون , وفرعون هذه الأمة أبو جهل). وكانت الصلاة التي قصد فيها أبو جهل رسول الله صلاة الظهر. وحكى جعفر بن محمد أن أول صلاة جماعة جمعت في الإسلام , يوشك أن تكون التي أنكرها أبو جهل , صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عليّ رضي الله عنه فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال: صل جناح ابن عمك , وانصرف مسروراً يقول: (إنَّ عليّاً وجعفرا ثقتي ... عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ) (والله لا أخذل النبيّ ولا ... يخذله من كان ذا حَسَبِ) (لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ... أخي لأمي من بنيهم وأبي) فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. {أرأيْتَ إن كان على الهُدَى أو أمَرَ بالتّقْوَى} فيه قولان: أحدهما: يعني أبا جهل , ويكون فيه إضمار , وتقديره: ألم يكن خيراً له. الثاني: هو النبي صلى الله عليه وسلم كان على الهدى في نفسه , وأمر بالتقوى في طاعة ربه. وفي قوله (أرأيْتَ) احتمال الوجهين: أحدهما: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: خطاب عام له ولأمته , والمراد به على الوجهين هدايته , ويكون في الكلام محذوف , وتقديره: هكذا كان يفعل به. {أرأَيْتَ إن كَذَّبَ وَتَوَلّى} يعني أبا جهل , وفيه وجهان: أحدهما: كذب بالله وتولى عن طاعته. الثاني: كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان. ويحتمل ثالثاً: كذب بالرسول وتولى عن القبول.

{ألم يَعْلَمْ بأنَّ الله يَرَى} يعني أبا جهل , وفيه وجهان: أحدهما: ألم تعلم يا محمد أن الله يرى أبا جهل؟ الثاني: ألم تعلم يا أبا جهل أن الله يراك؟ وفيه وجهان: أحدهما: يرى عمله ويسمع قوله. الثاني: يراك في صلاتك حين نهاك أبو جهل عنها. ويحتمل ثالثاً: يرى ما همّ به أبو جهل فلا يمكنه من رسوله. {كلا لئِن لم يَنْتَهِ لنسفعاً بالنّاصِيةِ} يعني أبا جهل , وفيه وجهان: أحدهما: يعني لنأخذن بناصيته , قاله ابن عباس , وهو عند العرب أبلغ في الاستذلال والهوان , ومنه قول الخنساء: (جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنّون أنْ لن تُجَزَّا) الثاني: معناه تسويد الوجوه وتشويه الخلقة بالسفعة السوداء , مأخوذ من قولهم قد سفعته النار أو الشمس إذا غيرت وجهه إلى حالة تشويه , وقال الشاعر: (أثافيَّ سُفْعاً مُعَرَّس مِرَجلٍ ... ونُؤْياً كجِذم الحوضِ لم يَتَثَلّمِ) والناصية شعر مقدم الرأس , وقد يعبّر بها عن جملة الإنسان , كما يقال هذه ناصية مباركة إشارة إلى جميع الإنسان. ثم قال: {ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ} يعني ناصية أبي جهل كاذبة في قولها , خاطئة في فعلها. {فلْيَدْعُ نادِيَةُ} يعني أبا جهل , والنادي مجلس أهل الندى والجود ومعنى (فليدع نادية) أي فليدع أهل ناديه من عشيرة أو نصير. {سَنَدْعُ الزّبانِيةَ} والزبانية هم الملائكة من خزنة جهنم , وهم أعظم الملائكة خلقاً وأشدهم بطشاً , والعرب تطلق هذا الإسم على من اشتد بطشه، قال الشاعر:

(مَطاعيمُ في القُصْوى مَطاعينُ في الوَغى ... زبانيةٌ غُلْبٌ عِظَامٌ حُلومها) {كلا لا تُطِعْهُ} قال أبو هريرة: كلا لا تطع أبا جهل في أمره. ويحتمل نهيه عن طاعته وجهين: أحدهما: لا تقبل قوله إن دارك ولا رأيه إن قاربك. الثاني: لا تجبه عن قوله , ولا تقابله على فعله , ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم لا تطع فينا مسافراً) أي لا تجب دعاءه لأن المسافر يدعو بانقطاع المطر فلو أجيبت دعوته لهلك الناس. {واسْجُدْ واقْتَرِبْ} فيه وجهان: أحدهما: اسجد أنت يا محمد مصلياً , واقترب أنت يا أبا جهل من النار , قاله زيد بن أسلم. الثاني: اسجد أنت يا محمد في صلاتك لتقرب من ربك , فإن أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى إذا سجد له. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أنزل في أبي جهل أربع وثمانون آية , وأنزل في الوليد بن المغيرة مائة وأربع آيات , وأنزل في النضر بن الحارث اثنتان وثلاثون آية. وإذا كانت هذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الأكثرين فقد روي في ترتيب السور بمكة والمدينة أحاديث , أوفاها ما رواه آدم ابن أبي أناس عن أبي شيبة شعيب بن زريق عن عطاء الخراساني قال: بلغنا أن هذا ما نزل من القرآن بمكة والمدينة الأول فالأول , فكان أول ما نزل فيما بلغنا: (اقرأ باسم ربك) ثم (ن والقلم، المزمل، المدثر، تبّت , إذا الشمس كورت , سبّح اسم ربك، الليل، الفجر، الضحى، ألم نشرح، العصر، العاديات، الكوثر، ألهاكم، أرأيت، الكافرون، الفيل، الفلق، الإخلاص، النجم، عبس، القدر، والشمس، البروج، التين، لإيلاف،

القارعة، القيامة، الهُمزة، المرسلات، ق، البلد، الطارق، القمر، ص، الأعراف، قل أوحى، يس، الفرقان، الملائكة، مريم، طه، الواقعة، الشعراء، النمل، القصص، بنو إسرائيل، يونس، هود، يوسف، الحجر، الأنعام، الصافات، لقمان، سبأ، الزمر، المؤمن، حم السجدة، عسق، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، الذاريات، الغاشية، الكهف، النحل، نوح، إبراهيم، الأنبياء، قد أفلح، السجدة، الطور، الملك، الحاقة، سأل سائل، النبأ، النازعات، الانفطار، الانشقاق، الروم، العنكبوت، المطففين. فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة. وكان فيما نزل بالمدينة البقرة، ثم الأنفال، آل عمران، الأحزاب، الممتحنة، النساء، الزلزلة، الحديد، سورة محمد، الرعد، الرحمن، هل أتى، الطلاق، لم يكن، الحشر، النصر، النور، الحج، المنافقون، المجادلة، الحجرات، التحريم، الجمعة، الصف، الفتح، المائدة، براءة. فهذه سبع وعشرون سورة نزلت بالمدينة. ولم تكن الفاتحة والله أعلم ضمن ما ذكره , وقد اختلف الناس في نزول السور اختلافاً كثيراً، لكن وجدت هذا الحديث أوفى وأشفى فذكرته.

سورة القدر مكية في قول الأكثرين، ومدنية في قول الضحاك، وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. بسم الله الرحمن الرحيم

القدر

{إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر} قوله تعالى {إنا أنزلناه في ليلة القدر} فيه وجهان: أحدهما: يعني جبريل , أنزله الله في ليلة القدر بما نزل به من الوحي. الثاني: يعني القرآن؛ وفيه قولان: أحدهما: ما روى ابن عباس قال: نزل القرآن في رمضان وفي ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة من عند الله تعالى في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا , فنجمته السفرة على جبريل في عشرين ليلة , ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة , وكان ينزل على مواقع النجوم أرسالاً في الشهور والأيام.

القول الثاني: أن الله تعالى ابتدأ بإنزاله في ليلة القدر , قاله الشعبي. واختلف في ليلة القدر مع اتفاقهم أنها في العشر الأواخر من رمضان , وأنها في وتر العشر أوجد , إلا ابن عمر فإنه زعم أنها في الشهر كله. فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنها في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري , وذهب أبيّ بن كعب وابن عباس إلى أنها في ليلة سبع وعشرين. واختلف في الدليل , فاستدل أبيّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من علامتها أن تصبح الشمس لا شعاع لها ,) قال: وقد رأيت ذلك في صبيحة سبع وعشرين , واستدل ابن عباس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سورة القدر ثلاثون كلمة فهي في قوله (سلام) و (هي) الكلمة السابعة والعشرون , فدل أنها فيها. وقال آخرون: هي في ليلة أربع وعشرين للخبر المروي في تنزيل الصحف , وقال آخرون: إن الله تعالى ينقلها في كل عام من ليلة إلى أخرى ليكون الناس في جميع العشر مجتهدين , ولرؤيتها متوقعين. وفي تسميتها ليلة القدر أربعة أوجه: أحدها: لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن. الثاني: لأن الله تعالى يقدر فيها أمور السنة , أي يقضيها , وهو معنى قول مجاهد. الثالث: لعظم قدرها وجلالة خطرها , من قولهم رجل له قدر , ذكره ابن عيسى. الرابع: لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. {وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ} تنبيهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على فضلها , وحثّاً على العمل فياه , قال الشعبي: وليلتها كيومها , ويومها كليلتها.

قال الفراء: كل ما في القرآن من قوله تعالى: (وما أدراك) فقد أدراه , وما كان من قوله (وما يدريك) فلم يدره. قال الضحاك: لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم , ويقدر في غيرها البلايا والنقم , وقال عكرمة: كان ابن عباس يسمي ليلة القدر ليلة التعظيم , وليلة النصف من شعبان ليلة البراءة , وليلتي العيدين ليلة الجائزة. {ليلةُ القدْرِ خيرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ} فيه ستة أقاويل: أحدها: ليلة القدر خير من عمر ألف شهر , قاله الربيع. الثاني: أن العمل في ليلة القدر خير من العمل في غيرها ألف شهر , قاله مجاهد. الثالث: أن ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر , قاله قتادة. الرابع: أنه كان رجل في بني إسرائيل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدوّ حتى يمسي , ففعل ذلك ألف شهر , فأخبر الله تعالى أن قيام ليلة القدر خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر , رواه ابن أبي نجيح ومجاهد. الخامس: أن ملك سليمان كان خمسمائة شهر , وملك ذي القرنين كان خمسمائة شهر , فصار ملكهما ألف شهر , فجعل العمل في ليلة القدر خيراً من زمان ملكهما. {تَنَزَّلُ الملائكةُ والرُّوحُ فيها} قال أبو هريرة: الملائكة في ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى. وفي (الروح) ها هنا أربعة أقاويل: أحدها: جبريل عليه السلام , قاله سعيد بن جبير. الثاني: حفظة الملائكة , قاله ابن أبي نجيح. الثالث: أنهم أشرف الملائكة وأقربهم من الله , قاله مقاتل. الرابع: أنهم جند من الله من غير الملائكة , رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً.

ويحتمل إن لم يثبت فيه نص قولاً خامساً: أن الروح والرحمة تنزل بها الملائكة على أهلها , دليله قوله تعالى: {ينزّل الملائكة بالرُّوح من أمْره على من يشَاءُ من عباده} أي بالرحمة. {بإذْن ربِّهم} يعني بأمر ربهم. {مِن كل أمْرٍ} يعني يُقضى في تلك الليلة من رزق وأجل إلى مثلها من العام القابل. وقرأ ابن عباس: من كل امرىء , فتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة فيسلمون على كل امرىء مسلم. {سلامٌ هي حتى مطلع الفَجْر} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن ليلة القدر هي ليلة سالمة من كل شر، لا يحدث فيها حدث ولا يرسل فيها شيطان، قاله مجاهد. الثاني: أن ليلة القدر هي سلام وخير وبركة، قاله قتادة. الثالث: أن الملائكة تسلم على المؤمنين في ليلة القدر إلى مطلع الفجر، قاله الكلبي.

سورة البينة مكية في قول يحيى بن سلام، وعند الجمهور مدنية وهو الصواب. بسم الله الرحمن الرحيم

البينة

{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} قوله تعالى {لم يَكُنِ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكينَ مُنفَكِّينَ} معناه لم يكن الذين كفروا من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب , ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب , وغيرهم الذين ليس لهم كتاب. . (منفكين) فيه أربعة تأويلات: أحدها: لم يكونوا منتهين عن الشرك {حتى تأتيهم البَيِّنَةُ} حتى يتبين لهم الحق. وهذا قول ثان: لم يزالوا مقيمين على الشرك والريبة حتى تأتيهم البينة , يعنى الرسل , قاله الربيع. الثالث: لم يفترقوا ولم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم رسولاً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وتفرقوا , فمنهم من آمن بربه , ومنهم من كفر , قاله ابن عيسى. الرابع: لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله تعالى , حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها عليهم الحجة , قال امرؤ القيس: (إذا قُلْتُ أَنْفَكَّ مِن حُبّها ... أبى عالقُ الحُبِّ إلا لُزوما)

وفي (البيّنة) ها هنا ثلاثة أوجه: أحدها: القرآن، قاله قتادة. الثاني: الرسول الذي بانت فيه دلائل النبوة. الثالث: بيان الحق وظهور الحجج. وفي قراءة أبيّ بن كعب: ما كان الذي كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين , وفي قراءة ابن مسعود: لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين. {رسولٌ مِن الله} يعني محمداً. {يَتْلُواْ صُحُفاً مُطَهّرَةً} يعني القرآن. ويحتمل ثانياً: يتعقب بنبوته نزول الصحف المطهرة على الأنبياء قبله. وفي {مطهرة} وجهان: أحدهما: من الشرك , قاله عكرمة. الثاني: مطهرة الحكم بحسن الذكر والثناء , قاله قتادة. ويحتمل ثالثاً: لنزولها من عند الله. {فيها كُتُبٌ قَيِّمةٌ} فيه وجهان: أحدهما: يعني كتب الله المستقيمة التي جاء القرآن بذكرها , وثبت فيه صدقها , حكاه ابن عيسى. الثاني: يعني فروض الله العادلة , قاله السدي. {وما تَفَرَّقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} يعني اليهود والنصارى. {إلاّ مِن بَعْدِ ما جاءتْهم البْيِّنَةُ} فيه قولان: احدهما: القرآن , قاله أبو العالية. الثاني: محمد صلى الله عليه وسلم , قاله ابن شجرة. ويحتمل ثالثاً: البينة ما في كتبهم من صحة نبوته. {وما أُمِروا إلاّ ليَعْبُدوا الله مُخْلِصينَ له الدِّينَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مُقِرِّين له بالعبادة. الثاني: ناوين بقلوبهم وجه الله تعالى في عبادتهم. الثالث: إذا قال لا إله إلا الله أن يقول على أثرها (الحمد لله)، قاله ابن جرير.

ويحتمل رابعاً: إلا ليخلصوا دينهم في الإقرار بنبوته. {حُنفاءَ} فيه ستة أوجه: أحدها: متبعين. الثاني: مستقيمين , قاله محمد بن كعب. الثالث: مخلصين , قاله خصيف. الرابع: مسلمين , قاله الضحاك , وقال الشاعر: (أخليفة الرحمنِ إنا مَعْشرٌ ... حُنفاءُ نسجُدُ بُكرةً وأصيلاً) الخامس: يعني حجّاجاً , قاله ابن عباس؛ وقال عطية العوفي: إذا اجتمع الحنيف والمسلم كان معنى الحنيف الحاج وإذا انفرد الحنيف كان معناه المسلم , وقال سعيد بن جبير: لا تسمي العرب الحنيف إلا لمن حج واختتن. السادس: أنهم المؤمنون بالرسل كلهم , قاله أبو قلابة. {ويُقيموا الصّلاةَ ويُؤْتُوا الزّكاةَ وذلكَ دينُ القَيِّمَةِ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه وذلك دين الأمة المستقيمة. الثاني: وذلك دين القضاء القيم , قاله ابن عباس. الثالث: وذلك الحساب المبين , قاله مقاتل. ويحتمل رابعاً: وذلك دين من قام لله بحقه. {إِنَّ صلى الله عليه وسلم 1649 - ; لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ صلى الله عليه وسلم 1649 - ; لْكِتَابِ وَصلى الله عليه وسلم 1649 - ; لْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَ صلى الله عليه وسلم 1648 - ; ئِكَ هُمْ شَرُّ صلى الله عليه وسلم 1649 - ; لْبَرِيَّةِ إِنَّ صلى الله عليه وسلم 1649 - ; لَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ صلى الله عليه وسلم 1649 - ; لصَّالِحَاتِ أُوْلَ صلى الله عليه وسلم 1648 - ; ئِكَ هُمْ خَيْرُ صلى الله عليه وسلم 1649 - ; لْبَرِيَّةِ جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا صلى الله عليه وسلم 1649 - ; لأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ صلى الله عليه وسلم 1649 - ; للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}

سورة الزلزلة مدنية في قول ابن عباس وقتادة وجابر. بسم الله الرحمن الرحيم

الزلزلة

{إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} قوله تعالى {إذا زُلزِلت الأرض زِلزالها} أي حركت الأرض حركتها , والزلزلة شدة الحركة , فيكون من زل يزل. وفي قوله {زِلزالها} وجهان: أحدهما: لأنها غاية زلازلها المتوقعة. الثاني: لأنها عامة في جميع الأرض , بخلاف الزلازل المعهودة في بعض الأرض. وهذا الخطاب لمن لا يؤمن بالبعث وعيد وتهديد , ولمن يؤمن به إنذار وتحذير , واختلف في هذه الزلزلة على قولين: أحدهما: أنها في الدنيا من أشراط الساعة , وهو قول الأكثرين.

الثاني: أنها الزلزلة يوم القيامة , قاله خارجة بن زيد وطائفة. {وأَخْرَجَتِ الأرضُ أَثْقَالَها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الثاني: ما عليها من جميع الأثقال , وهذا قول عكرمة. ويحتمل قول الفريقين. ويحتمل رابعاً: أخرجت أسرارها التي استودعتها , قال أبو عبيدة: إذا كان الثقل في بطن الأرض فهو ثقل لها , وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. {وقالَ الإنسانُ ما لَها} يحتمل وجهين: أحدهما: ما لها زلزلت زلزالها. الثاني: ما لها أخرجت أثقالها. وفي المراد بهذا (الإنسان) قولان: أحدهما: أن المراد جميع الناس من مؤمن وكافر , وهذا قول من جعله في الدنيا من أشراط الساعة لأنهم لا يعلمون جميعأً أنها من أشراط الساعة في ابتداء أمرها حتى يتحققوا عمومها , فلذلك سأل بعضهم بعضاً عنها. الثاني: أنهم الكفار خاصة , وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة , لأن المؤمن يعترف بها فهو لا يسأل عنها , والكافر جاحد لها فلذلك يسأل عنها. {يومئذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها , قاله أبو هريرة ورواه مرفوعاً , وهذا قول من زعم أنها زلزلة القيامة. الثالث: تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها , قال ابن مسعود: فتخبر بأن أمر الدنيا قد انقضى , وأن أمر الآخرة قد أتى , فيكون ذلك منها جواباً عند سؤالهم , وعيداً للكافر وإنذاراً للمؤمن. وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل:

أحدها: أن الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك. الثاني: أن الله تعالى يُحدث الكلام فيها. الثالث: يكون الكلام منها بياناً يقوم مقام الكلام. {بأنَّ ربّك أوْحَى لَهَا} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه أوحى إليها بأن ألهمها فأطاعت , كما قال العجاج: (أَوْحى لها القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ ... وشَدَّها بالراسياتِ الثُّبّتِ) الثاني: يعني قال لها , قاله السدي. الثالث: أمرها , قاله مجاهد. وفيما أوحى لها وجهان: أحدهما: أوحى لها بأن تحدث أخبارها. الثاني: بأن تخرج أثقالها. ويحتمل ثالثاً: أوحى لها بأن تزلزل زلزالها. {يومئذٍ يَصْدُرُ الناسُ أَشْتاتاً} فيه قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة يصدرون من بين يدي الله تعالى فرقاً فرقاً مختلفين في قدرهم وأعمالهم , فبعضهم إلى الجنة وهم أصحاب الحسنات , وبعضهم إلى النار وهم أصحاب السيئات , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنهم في الدنيا عند غلبة الأهواء يصدرون فرقاً , فبعضهم مؤمن , وبعضهم كافر , وبعضهم محسن , وبعضهم مسيء , وبعضهم محق , وبعضهم مبطل. {ليُرَوْا أَعْمالَهم} يعني ثواب أعمالهم يوم القيامة. ويحتمل ثالثاً: أنهم عند النشور يصدرون أشتاتاً من القبور على اختلافهم في الأمم والمعتقد بحسب ما كانوا عليه في الدنيا من اتفاق أو اختلاف ليروا أعمالهم في

موقف العرض من خير أو شر فيجازون عليها بثواب أو عقاب , والشتات: التفرق والاختلاف , قال لبيد: (إنْ كُنْتِ تهْوينَ الفِراقَ ففارقي ... لا خيرَ في أمْر الشتات) {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} في هذه الآية ثلاثة أقاويل: أحدها: أن معنى يَرَه أي يعرفْهُ. الثاني: أنه يرى صحيفة عمله. الثالث: أن يرى خير عمله ويلقاه. وفي ذلك قولان: أحدهما: يلقى ذلك في الآخرة , مؤمناً كان أو كافراً , لأن الآخرة هي دار الجزاء. الثاني: أنه إن كان مؤمناً رأى جزاء سيئاته في الدنيا , وجزاء حسناته في الآخرة حتى يصير إليها وليس عليه سيئة. وإن كان كافراً رأى جزاء حسناته في الدنيا , وجزاء سيئاته في الآخرة حتى يصير إليها وليس له حسنة , قاله طاووس. ويحتمل ثالثاً: أنه جزاء ما يستحقه من ثواب وعقاب عند المعاينة في الدنيا ليوفاه في الآخرة. ويحتمل المراد بهذه الآية وجهين: أحدهما: إعلامهم أنه لا يخفى عليه صغير ولا كبير. الثاني: إعلامهم أنه يجازي بكل قليل وكثير. وحكى مقاتل بن سليمان أنها نزلت في ناس بالمدينة كانوا لا يتورعون من الذنب الصغير من نظرة أو غمزة أو غيبة أو لمسة , ويقولون إنما وعد الله على الكبائر , وفي ناس يستقلون الكسرة والجوزة والثمرة ولا يعطونها , ويقولون إنما نجزى على ما تعطيه ونحن نحبه , فنزل هذا فيهم. وروي أن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه , فقرأ

عليه هذه الآية , فقال صعصعة: حسبي حسبي إن عملت مثقال ذرة خيراً رأيته , وإن عملت مثقال ذرة شراً رأيته. وروى أبو أيوب الأنصاري: قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يتغذيان إذا نزلت هذه السورة، فقاما وأمسكا.

سورة العاديات مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدينة في قول ابن عباس وأنس بن مالك وقتادة. بسم الله الرحمن الرحيم

العاديات

{والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير} قوله تعالى: {والعادياتِ ضَبْحاً} في العاديات قولان: أحدهما: أنها الخيل في الجهاد , قاله ابن عباس وأنس والحسن , ومنه قول الشاعر: (وطعنةٍ ذاتِ رشاشٍ واهيهْ ... طعنْتُها عند صدور العاديْه) يعني الخيل. الثاني: أنها الإبل في الحج , قاله عليٌّ رضي الله عنه وابن مسعود ومنه قول صفية بنت عبد المطلب: (فلا والعاديات غَداة جَمْعٍ ... بأيديها إذا صدع الغبار)

يعني الإبل , وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو , وهو تباعد الرجل في سرعة المشي؛ وفي قوله (ضبحاً) وجهان: أحدهما: أن الضبح حمحمة الخيل عند العدو , قاله من زعم أن العاديات الخيل. الثاني: أنه شدة النّفس عند سرعة السير , قاله من زعم أنها الإبل , وقيل إنه لا يضبح بالحمحمة في عدوه إلا الفرس والكلب , وأما الإبل فضبحها بالنفَس؛ وقال ابن عباس: ضبحها: قول سائقها أج أج؛ وهذا قَسَمٌ , {فالموريات قَدْحاً} فيه ستة أقاويل: أحدها: أنها الخيل توري النار بحوافرها إذا جرت من شدة الوقع , قاله عطاء. الثاني: أنها نيران الحجيج بمزدلفة , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنها نيران المجاهدين إذا اشتعلت فكثرت نيرانها إرهاباً , قاله ابن عباس. الرابع: أنها تهيج الحرب بينهم وبين عدوهم , قاله قتادة. الخامس: أنه مكر الرجال , قاله مجاهد؛ يعني في الحروب. السادس: أنها الألسنة إذا ظهرت بها الحجج وأقيمت بها الدلائل وأوضح بها الحق وفضح بها الباطل , قاله عكرمة , وهو قَسَمٌ ثانٍ. {فالمغيرات صُبْحاً} فيها قولان: أحدهما: أنها الخيل تغير على العدو صبحاً , أي علانية , تشبيهاً بظهور الصبح , قاله ابن عباس. الثاني: أنها الإبل حين تعدو صبحاً من مزدلفة إلى منى , قاله عليّ رضي الله عنه. {فأثَرنَ به نَقْعاً} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: فأثرن به غباراً , والنقع الغبار , قاله قتادة , وقال عبد الله بن رواحة:

(عدمت بُنَيّتي إن لم تَروْها ... تثير النقْعَ من كنفي كَداءِ) الثاني: النقع ما بين مزدلفة إلى منى , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه بطن الوادي , فلعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع. {فَوَسَطْنَ به جَمْعاً} فيه قولان: أحدهما: جمع العدو حتى يلتقي الزخف , قاله ابن عباس والحسن. الثاني: أنها مزدلفة تسمى جمعاً لاجتماع الحاج لها وإثارة النقع في الدفع إلى منى , قاله مكحول. {إنّ الإنسانَ لِربِّه لَكَنُودٌ} فيه سبعة أقاويل: أحدها: لكفور قاله قتادة , والضحاك , وابن جبير , ومنه قول الأعشى: (أَحْدِثْ لها تحدث لوصْلك إنها ... كُنُدٌ لوصْلِ الزائرِ المُعْتادِ) وقيل: إن الكنود هو الذي يكفر اليسير ولا يشكر الكثير. الثاني: أنه اللوام لربه , يذكر المصائب وينسى النعم , قاله الحسن , وهو قريب من المعنى الأول. الثالث: أن الكنود الجاحد للحق , وقيل إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها , وقال إبراهيم بن زهير الشاعر: (دع البخلاءَ إن شمخوا وصَدُّوا ... وذكْرى بُخْلِ غانيةٍ كَنوُدِ) الرابع: أن الكنود العاصي بلسان كندة وحضرموت , وذكره يحيى بن سلام. الخامس: أنه البخيل بلسان مالك بن كنانة , وقال الكلبي: الكنود بلسان كندة وحضرموت: العاصي , وبلسان مضر وربيعة: الكفور , وبلسان مالك بن كنانة: البخيل. السادس: أنه ينفق نعم الله في معاصي الله. السابع: ما رواه القاسم عن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكنود

الذي يضرب عبده ويأكل وحده ويمنع رفده , وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة , وعلى هذا وقع القسم بجميع ماتقدم من السورة. {وإنَّه على ذلك لَشهيدٌ} فيه قولان: أحدهما: أن الله تعالى على كفر الإنسان لشهيد , قاله ابن جريج. الثاني: أن الإنسان شاهد على نفسه , لأنه كنود , قاله ابن عباس. {وإنه لِحُبِّ الخيرِ لشديدٌ} يعني الإنسان , وفي الخير ها هنا وجهان: أحدهما: المال , قاله ابن عباس , ومجاهد وقتادة. الثاني: الدنيا , قاله ابن زيد. ويحتمل ثالثاً: أن الخير ها هنا الاختيار , ويكون معناه: وإنه لحب اختياره لنفسه لشديد. وفي قوله {لشديد} وجهان: أحدهما: لشديد الحب للخير , وشدة الحب قوته وتزايده. الثاني: لشحيح بالمال يمنع حق الله منه , قاله الحسن , من قولهم فلان شديد أي شحيح. {أفَلاَ يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ ما في القُبورِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: من فيها من الأموات. الثاني: معناه مات. الثالث: بحث , قاله الضحاك , وهي في قراءة ابن مسعود: بُحْثِرَ ما في القبور. {وحُصِّلَ ما في الصُّدُورِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ميز ما فيها , قاله الكلبي. الثاني: استخرج ما فيها. الثالث: كشف ما فيها. {إنَّ ربَّهم بهم يومئذٍ لَخبيرٌ} أي عالم , ويحتمل وجهين: أحدهما: لخبير بما في نفوسهم. الثاني: لخبير , بما تؤول إليه أمورهم.

سورة القارعة مكية في قولهم جميعاً بسم الله الرحمن الرحيم

القارعة

{القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية} قول تعالى {القارِعَةُ ما القارِعَةُ} فيه وجهان: أحدهما: أنها العذاب , لأنها تقرع قلوب الناس بهولها. ويحتمل ثانياً: أنها الصيحة لقيام الساعة , لأنها تقرع بشدائدها. وقد تسمى بالقارعة كل داهية , كما قال تعالى: {ولا يزالُ الذِّين كفروا تُصيبُهم بما صَنَعوا قارعةٌ} [الرعد: 31] قال الشاعر: (متى تُقْرَعْ بمرْوَتكم نَسُؤْكم ... ولم تُوقَدْ لنا في القدْرِ نارُ) {ما القارعة} تعظيماً لها , كما قال تعالى: {الحاقّة ما الحاقّة}.

{يومَ يكونُ النّاسُ كالفَراشِ المبْثُوثِ} وفي الفراش قولان: أحدهما: أنه الهمج الطائر من بعوض وغيره , ومنه الجراد , قاله الفراء , الثاني: أنه طير يتساقط في النار ليس ببعوض ولا ذباب , قاله أبو عبيدة وقتادة. وفي {المبثوث} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه المبسوط , قاله الحسن. الثاني: المتفرق , قاله أبو عبيدة. الثالث: أنه الذي يحول بعضه في بعض , قاله الكلبي. وإنما شبه الناس الكفار يوم القيامة بالفراش المبثوث لأنهم يتهافتون في النار كتهافت الفراش. {وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنْفُوشِ} والعِهن: الصوف ذو الألوان في قول أبي عبيدة , وقرأ ابن مسعود: (كالصوف). وقال {كالْعِهْنِ المَنْفُوشِ} لخفته , وضعفه , فشبه به الجبال لخفتها , وذهابها بعد شدَّتها وثباتها. ويحتمل أن يريد جبال النار تكون كالعهن لحمرتها وشدة لهبها , لأن جبال الأرض تسير ثم تنسف حتى يدك بها الأرض دكّا. {فأمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُه} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه ميزان ذو كفتين توزن به الحسنات والسيئات , قاله الحسن , قال أبو بكر رضي الله عنه: وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً. الثاني: الميزان هو الحساب , قاله مجاهد , ولذلك قيل: اللسان وزن الإنسان , وقال الشاعر: (قد كنت قبل لقائكم ذا مِرّةٍ ... عندي لكل مُخاصِمٍ مِيزانُه) أي كلام أعارضه به.

الثالث: أن الموازين الحجج والدلائل , قاله عبد العزيز بن يحيى , واستشهد فيه بالشعر المتقدم. وفي الموازين وجهان: أحدهما: جمع ميزان. الثاني: أنه جمع موزون. {فهو في عِيشةٍ راضِيةٍ} فيه وجهان: أحدهما: يعني في عيشة مرضية , قال قتادة: وهي الجنة. الثاني: في نعيم دائم , قاله الضحاك , فيكون على الوجه الأول من المعاش , وعلى الوجه الثاني من العيش. {وأمّا مَنْ خَفّتْ مَوازِينُه فأمُّهُ هاويةٌ} فيه وجهان: أحدهما: أن الهاوية جهنم , سماها أُمَّا له لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أُمّه , قاله ابن زيد، ومنه قول أمية بن أبي الصلت. (فالأرضُ مَعْقِلُنا وكانتْ أُمّنا ... فيها مقابِرُنا وفيها نُولَدُ) وسميت النار هاوية لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها. الثاني: أنه أراد أُمّ رأسه يهوي عليها في نار جهنم , قاله عكرمة. وقال الشاعر: (يا عَمروُ لو نَالَتْك أَرْحامُنا ... كُنْتَ كَمن تَهْوِي به الهاوِيَة.)

سورة التكاثر بسم الله الرحمن الرحيم

التكاثر

{ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} قوله تعالى: {ألْهاكُم التّكاثُرُ} في {ألهاكم} وجهان: أحدهما: شغلكم. الثاني: أنساكم , ومعناه ألهاكم عن طاعة ربكم وشغلكم عن عبادة خالقكم. وفي {التكاثر} ثلاثة أقاويل: أحدها: التكاثر بالمال والأولاد , قاله الحسن. الثاني: التفاخر بالعشائر والقبائل , قاله قتادة. الثالث: التشاغل بالمعاش والتجارة , قاله الضحاك. {حتى زُرْتُم المقابِرَ} فيه وجهان: أحدهما: حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زوّاراً ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار.

الثاني: ما حكاه الكلبي وقتادة: أن حيّين من قريش , بني عبد مناف وبني سهم , كان بينهما ملاحاة فتعادّوا بالسادة والأشراف أيهم أكثر , فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيّداً وعزاً وعزيزاً وأعظم نفراً , وقال بنو سهم مثل ذلك , فكثرهم بنو عبد مناف , فقال بنو سهم إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعُدّوا الأحياء والأموات , فعدّوهم فكثرتهم بنو سهم , فأنزل الله تعالى {ألهاكم التكاثر} يعني بالعدد {حتى زرتم المقابر} أي حتى ذكرتم الأموات في المقابر. {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمونَ ثم كلاّ سَوْفَ تَعلَمونَ} هذا وعيد وتهديد , ويحتمل أن يكون تكراره على وجه التأكيد والتغليظ. ويحتمل أن يعدل به عن التأكيد فيكون فيه وجهان: أحدهما: كلا سوف تعلمون عند المعاينة أن ما دعوتكم إليه حق , ثم كلا سوف تعلمون عند البعث أن ما وعدتكم صدق. الثاني: كلا سوف تعلمون عند النشور أنكم مبعوثون , ثم كلا سوف تعلمون في القيامة أنكم معذَّبون. {كلاّ لو تَعْلَمون عِلْمَ اليَقِين} معناه لو تعلمون في الحياة قبل الموت من البعث والجزاء ما تعلمونه بعد الموت منه. {عِلْمَ اليقين} فيه وجهان: أحدهما: علم الموت الذي هو يقيني لا يعتريه شك , قاله قتادة. الثاني: ما تعلمونه يقيناً بعد الموت من البعث والجزاء , قاله ابن جريج. وفي {كَلاَّ} في هذه المواضع الثلاثة وجهان: أحدهما: أنها بمعنى (إلا) , قاله أبو حاتم. الثاني: أنها بمعنى حقاً , قاله الفراء. {لَتَروُنَّ الجَحيمَ} فيه وجهان: أحدهما: أن هذا خطاب للكفار الذين وجبت لهم النار. الثاني: أنه عام , فالكافر هي له دار والمؤمن يمر على صراطها.

روى زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرفع الصراط وسط جهنم , فناج مسلّم , ومكدوس في نار جهنم). {ثم لَتَروُنَّها عَيْنَ اليَقين} فيه وجهان: أحدهما: أن عين اليقين المشاهدة والعيان. الثاني: أنه بمعنى الحق اليقين , قاله السدي. ويحتمل تكرار رؤيتها وجهين: أحدهما: أن الأول عند ورودها. والثاني: عند دخولها. {ثم لتُسْأَلُنَّ يومَئذٍ عن النَّعيمِ} فيه سبعة أقاويل: أحدها: الأمن والصحة , قاله ابن مسعود؛ وقال سعيد بن جبير: الصحة والفراغ , للحديث. الثاني: الإدراك بحواس السمع والبصر , قاله ابن عباس. الثالث: ملاذّ المأكول والمشروب , قاله جابر بن عبد الله الأنصاري. الرابع: أنه الغداء والعشاء , قاله الحسن. الخامس: هو ما أنعم الله عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم , قاله محمد بن كعب. السادس: عن تخفيف الشرائع وتيسير القرآن , قاله الحسن أيضاً والمفضل. السابع: ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم لتسألن يومئذٍ عن النَعيم) عن شبع البطون وبارد الماء وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم , وهذا السؤال يعم المؤمن والكافر , إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن جمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة , وسؤال الكافر تقريع لأنه قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية , ويحتمل أن يكون ذلك تذكيراً بما أوتوه , ليكون جزاء على ما قدموه.

سورة العصر مكية، وفي إحدى الروايتين عن ابن عباس وقتادة أنها مدنية. بسم الله الرحمن الرحيم

العصر

{والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} قوله تعالى {والعَصْرِ} وهذا قَسَمٌ , فيه قولان: أحدهما: أن العصر الدهر , قاله ابن عباس وزيد بن أسلم. الثاني: أنه العشي ما بين زوال الشمس وغروبها , قاله الحسن وقتادة , ومنه قول الشاعر: (تَرَوّحْ بنا يا عمرُو قد قصر العَصْرُ ... وفي الرَّوْحةِ الأُولى الغنيمةُ والأَجْرُ) وخصه بالقسم لأن فيه خواتيم الأعمال. ويحتمل ثالثاً: أن يريد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم لفضله بتجديد النبوة فيه. وفيه رابع: أنه أراد صلاة العصر , وهي الصلاة الوسطى , لأنها أفضل الصلوات , قاله مقاتل. {إنّ الإنسانَ لَفي خُسْر} يعني بالإنسان جنس الناس. وفي الخسر أربعة أوجه:

أحدها: لفي هلاك , قاله السدي. الثاني: لفي شر , قاله زيد بن أسلم. الثالث: لفي نقص , قاله ابن شجرة. الرابع: لفي عقوبة , ومنه قوله تعالى: {وكان عاقبة أمْرِها خُسْراً} وكان عليّ رضي الله عنه يقرؤها: والعصر ونوائب الدهر إنّ الإنسان لفي خُسْرِ وإنه فيه إلى آخر الدهر. {إلا الذين آمنوا وعَمِلوا الصّالحاتِ وتَواصَوْا بالحَقِّ} في الحق ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه التوحيد , قاله يحيى بن سلام. الثاني: أنه القرآن , قاله قتادة. الثالث: أنه الله , قاله السدي. ويحتمل رابعاً: أن يوصي مُخَلَّفيه عند حضور المنية ألا يمُوتنَّ إلا وهم مسلمون. {وتَوَاصوا بالصَّبْر} فيه وجهان: أحدهما: على طاعة الله , قاله قتادة. الثاني: على ما افترض الله , قاله هشام بن حسان. ويحتمل تأويلاً ثالثاً: بالصبر عن المحارم واتباع الشهوات.

سورة الهمزة بسم الله الرحمن الرحيم

الهمزة

{ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة} قوله تعالى {وَيْلٌ لكلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: أن الهمزة المغتاب , واللمزة العيّاب , قاله ابن عباس , ومنه قول زياد الأعجم: (تُدْلي بوُدّي إذا لاقيتني كَذِباً ... وإن أُغَيّبْ فأنْتَ الهامزُ اللُّمَزة) الثاني: أن الهمزة الذي يهمز الناس , واللمزة الذي يلمزهم بلسانه , قاله ابن زيد. الثالث: أن الهمزة الذي يهمز في وجهه إذا أقبل , واللمزة الذي يلمزه من خلفه إذا أدبر , قاله أبو العالية , ومنه قول حسان:

(همزتك فاخْتَضَعْتَ بذُلَّ نفْسٍ ... بقافيةٍ تأَجج كالشُّواظِ) الرابع: أن الهمزة الذي يعيب جهراً بيد أو لسان , واللمزة الذي يعيبهم سراً بعين أو حاجب , قاله عبد الملك بن هشام. قال رؤبة: (في ظل عَصْرَيْ باطِلي وَلَمزِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... . .) واختلفوا فيمن نزلت فيه على خمسة أقاويل: أحدها: في أُبي بن خلف , قاله عمار. الثاني: في جميل بن عامر الجمحي , قاله مجاهد. الثالث: في الأخنس بن شريق الثقفي , قاله السدي. الرابع: في الوليد بن المغيرة , قاله ابن جريج. الخامس: أنها مرسلة على العموم من غير تخصيص , وهو قول الأكثرين. {الذي جَمَعَ مَالاً وعَدَّدَه} فيه اربعة أوجه: أحدها: يعني أحصى عدده , قاله السدي. الثاني: عددّ أنواع ماله , قاله مجاهد. الثالث: لما يكفيه من الشين , قاله عكرمة. الرابع: اتخذ ماله لمن يرثه من أولاده. ويحتمل خامساً: أنه فاخر بعدده وكثرته. {يَحْسَبُ أَنّ مالَه أَخْلَدَهُ} فيه وجهان: أحدهما: يزيد في عمره , قال عكرمة. الثاني: يمنعه من الموت , قال السدي. ويحتمل ثالثاً: ينفعه بعد موته. {كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ في الحُطَمَةِ} وفيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه اسم باب من أبواب جهنم , قاله ابن واقد , وقال الكلبي هو الباب السادس. الثاني: أنه اسم درك من أدراك جهنم , وهو الدرك الرابع , قاله الضحاك. الثالث: أنه اسم من أسماء جهنم , قاله ابن زيد. وفي تسميتها بذلك وجهان:

أحدهما: لأنها تحطم ما أُلقي فيها , أي تكسره وتهده , ومنه قول الراجز: (إنا حَطْمنا بالقضيب مُصْعَبا ... يومَ كَسَرنا أَنْفَه ليَغْضَبا) {التي تَطّلِعُ على الأَفئدةِ} روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت , ثم إذا صدروا تعود , فذلك قوله {نار الله الموقدة , التي تطلع على الأفئدة} ويحتمل اطلاعها على الأفئدة وجهين: أحدهما: لتحس بألم العذاب مع بقاء الحياة ببقائها. الثاني: استدل بما في قلوبهم من آثار المعاصي وعقاب على قدر استحقاقهم لألم العذاب , وذلك بما استبقاه الله تعالى من الإمارات الدالة عليه. {إنَّها عليهم مْؤْصَدَةٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مطبقة , قاله الحسن والضحاك. الثاني: مغلقة بلغة قريش , يقولون آصد الباب إذا أغلقه , قاله مجاهد ومنه قول عبيد الله بن قيس الرقيات: (إن في القَصْر لو دَخَلنْا غَزالاً ... مُصْفقاً مُوصَداً عليه الحجابُ) الثالث: مسدودة الجوانب لا ينفتح منها جانب , قاله سعيد بن المسيب , وقال مقاتل بن سليمان: لا يدخلها روْح ولا يخرج منها غم. {في عَمَدٍ مُمَدَّدةٍ} فيه خمسة أوجه: أحدها: أنها موصدة بعمد ممددة , قاله ابن مسعود , وهي في قراءته (بعَمَدٍ ممدّدة). الثاني: أنهم معذبون فيها بعُمد محددة , قاله قتادة. الثالث: أن العُمد الممدة الأغلال في أعناقهم , قاله ابن عباس. الرابع: أنها قيود في أرجلهم , قاله أبو صالح. الخامس: معناه في دهر ممدود , قاله أبو فاطمة.

سورة الفيل بسم الله الرحمن الرحيم

الفيل

{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول} قوله تعالى: {ألمْ تَرَ كيفَ فَعَلَ ربُّكَ بأصْحابِ الفِيل} فيه وجهان: أحدهما: ألم تخبر فتعلم كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. الثاني: ألم ترَ آثار ما فعل ربك بأصحاب الفيل , لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل. واختلف في مولده عليه السلام من عام الفيل على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن مولده بعد أربعين سنة من عام الفيل , قاله مقاتل: الثاني: بعد ثلاث وعشرين سنة منه , قاله الكلبي وعبيد بن عمير. الثالث: أنه عام الفيل , روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه أنه قال: ولدت يوم الفيل. واختلف في سبب الفيل على قولين:

أحدهما: ماحكاه ابن عباس: أن أبرهة بن الصباح بنى بيعة بيضاء يقال لها القليس , وكتب إلى النجاشي إني لست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب , فسمع ذلك رجل من كنانة , فخرج إلى القليس ودخلها ليلاً فأحدث فيها , فبلغ ذلك أبرهة فحلف بالله ليسيرن إلى الكعبة فيهدمها , فجمع الأحابيش وجنّد الأجناد , وسار , ودليله أبو رغال , حتى نزل بالمغمّس , وجعل على مقدمته الأسود بن مقصود حتى سبى سرح مكة وفيه مائتا بعير لعبد المطلب قد قلّد بعضها , وفيه يقول عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف: (لأهمّ أخْزِ الأسود بن مقصودِ ... الآخذ الهجمة فيها التقليدْ) (بين حراء , وثبير فالبيد ... يحبسها وفي أُولات التطريدْ) (فضمّها إلى طماطم سُودْ ... قد أجْمعوا ألا يكون معبودْ.) (ويهْدموا البيت الحرام المعمود ... والمروتين والمشاعر السودْ) 89 (اخْفره يا ربِّ وأنت محمودْ} 9 وتوجه عبد المطلب وكان وسيماً جسيماً لا تأخذه العين إلى أبرهة , وسأله في إبله التي أخذت , فقال أبرهة: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك وقد زهدت الآن فيك , قال: ولم؟ قال: جئت لأهدم بيتاً هو دينك ودين آبائك فلم تكلمني فيه , وكلمتني في مائتي بعير لك , فقال عبد المطلب: الإبل أنا ربها , وللبيت رب سيمنعه , فقال أبرهة: ما كان ليمنعه مني , فقال عبد المطلب: لقد طلبته تبّع وسيف بن ذي يزن وكسرى فلم يقدروا عليه , وأنت ذاك فرد عليه إبله , وخرج عبد المطلب وعاد إلى مكة , فأخبر قريشاً بالتحرز في الجبال , وأتى البيت وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول: (لاهمّ إنّ العْبدَ يَمْ ... نَعُ رحْلَهُ فامْنَع حَلالَكْ.) (لا يَغْلبنّ صَليبُهم ... ومحالُهم غَدْواً مِحالكْ.) (إنْ كنتَ تاركَهم وقب ... لَتَنا فأمْرٌ ما بدا لَكَ.) المحال: القوة.

الثاني: ما حكاه الكلبي ومقاتل يزيد أحدهما وينقص أن فتية من قريش خرجوا إلى أرض الحبشة تجاراً , فنزلوا على ساحل البحر على بيعة النصارى في حقف من أحقافها , قال الكلبي تسمى البيعة ما سرجيان , وقال مقاتل: تسمى الهيكل , فأوقدوا ناراً لطعامهم وتركوها وارتحلوا فهبت ريح عاصف فاضطرمت البيعة ناراً فاحترقت , فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره , فاستشاط غضباً , وأتاه أبرهة بن الصبّاح وحجر بن شراحبيل وأبو يكسوم الكِنْديون , وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة , وكان النجاشي هو الملك , وأبرهة صاحب الجيش , وأبو يكسوم نديم الملك وقيل وزيره , وحجر بن شراحبيل من قواده , وقال مجاهد: أبو يكسوم هو أبرهة بن الصبّاح , فساروا بالجيش ومعهم الفيل , قال الأكثرون: هو فيل واحد , وقال الضحاك: كانت ثمانية فيلة , ونزلوا بذي المجاز , واستاقوا سرح مكة , وفيها إبل عبد المطلب , وأتى الراعي نذيراً فصعد الصفا وصاح: واصباحاه! ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل , فخرج عبد المطلب وتوجه إلى أبرهة وسأله في إبله , فردّها مستهزئاً ليعود لأخذها إذا دخل مكة. واختلف في النجاشي هل كان معهم أم لا , فقال قوم: كان معهم , وقال الآخرون: لم يكن معهم. وتوجه الجيش إلى مكة لإحراق الكعبة , فلما ولى عبد المطلب بإبله احترزها في جبال مكة , وتوجه إلى مكة من طريق منى , وكان الفيل إذا بعث إلى الحرم أحجم , وإذا عدل به عنه أقدم , قال محمد بن إسحاق: كان اسم الفيل محمود , وقالت عائشة: رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين مقعدين يستطعمان أهل مكة. ووقفوا بالمغمّس فقال عبد الله بن مخزوم: (أنت الجليل ربنا لم تدنس ... أنت حبست الفيل بالمغمّس) (حبسته في هيئة المكركس ... وما لهم من فرجٍ ومنفسِ.) المكركس: المطروح المنكوس.

وبصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر , فقال عبد المطلب: إن هذه لطير غريبة بأرضنا , ما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية , وإنها أشباه اليعاسيب , وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة , فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم حتى هلكوا , قال عطاء بن أبي رباح: جاءت الطير عشية فبانت , ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم , وقال عطية العوفي: سألت عنها أبا سعيد الخدري: فقال: حمام مكة منها. وأفلت من القوم أبرهة ورجع إلى اليمن فهلك في الطريق. وقال الواقدي: أبرهة هو جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أيقنوا بهلاك القوم , قال الشاعر: (أين المفر والإله الطالبْ ... والأَشرمُ المغلوبُ ليس الغالبْ) يعني بالأشرم أبرهة , سمي بذلك لأن أرياط ضربه بحربة فشرم أنفة وجبينه , أي وقع بعضه على بعض. وقال أبو الصلت بن مسعود , وقيل بل قاله عبد المطلب: (إنّ آياتِ ربِّنا ناطِقاتٌ ... لا يُماري بهنّ إلا الكَفُور.) (حَبَسَ الفيلَ بالمغّمس حتى ... مَرَّ يعْوي كأنه مَعْقورُ.) {ألمْ يَجْعَلْ كَيْدَهم في تَضْليل} لأنهم أرادوا كيد قريش بالقتل والسبي , وكيد البيت بالتخريب والهدم. يحكى عن عبد المطلب بعد ما حكيناه عنه أنه أخذ بحلقة الباب وقال: (يا رب لا نرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا.) (إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا.) ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس له سريع , ينظر ما لقوا فإذا القوم مشدخون , فرجع يركض كاشفاً عن فخده , فلما رأى ذلك أبوه قال: إن ابني أفرس العرب وما كشف عن فخذه إلا بشيراً أو نذيراً. فلما دنا من ناديهم بحيث يُسمعهم قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعاً , فخرج عبد المطلب وأصحابه فأخذوا أموالهم , فكانت أموال بني عبد المطلب , وبها كانت رياسة عبد المطلب لأنه احتمل

ما شاء من صفراء وبيضاء , ثم خرج أهل مكة بعده فنهبوا، فقال عبد المطلب: (أنتَ مَنعْتَ الحُبْشَ والأَفْيالا ... وقد رَعَوا بمكةَ الأَجيالا) (وقد خَشِينا منهم القتالا ... وكَلَّ أمرٍ لهمن مِعضالا) 89 (وشكراً وحْمداً لك ذا الجلالا.} 9 ويحتمل تضليل كيدهم وجهين: أحدهما: أن كيدهم أضلهم حتى هلكوا. الثاني: أن هلاكهم أضل كيدهم حتى بطل. {وأرْسَلَ عليهم طَيْراً أَبابِيلَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها من طير السماء , قاله سعيد بن جبير: لم ير قبلها ولا بعدها مثلها ويروي جويبر عن الضحاك عن ابن عباس , قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها طير بين السماء والأرض تعشعش وتفرخ). القول الثاني: أنها العنقاء المغرب التي تضرب بها الأمثال , قاله عكرمة. الثالث: أنها من طير الأرض , أرسلها الله تعالى من ناحية البحر , مع كل طائر ثلاثة أحجار , حجران في رجليه , وحجر في منقاره , قاله الكلبي , وكانت سوداً , خضر المناقير طوال الأعناق , وقيل: بل كانت أشباه الوطاويط , وقالت عائشة: كن أشباه الخطاطيف. واختلف في (أبابيل) على خمسة أقاويل: أحدها: أنها الكثيرة , قاله الحسن وطاوس. الثاني: المتتابعة التي يتبع بعضها بعضاً , قاله ابن عباس ومجاهد. الثالث: أنها المتفرقة من ها هنا وها هنا , قاله ابن مسعود والأخفش , ومنه قول الشاعر:

(إن سلولاً عداك الموت عارفة ... لولا سلول مشينا أبابيلا) أي متفرقين. الرابع: أن الأبابيل المختلفة الألوان , قاله زيد بن أسلم. الخامس: أن تكون جمعاً بعد جمع , قاله أبو صالح وعطاء , ومنه قول الشاعر: (وأبابيل من خيول عليها ... كأسود الأداء تحت العوالي.) وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث: الأبابيل مأخوذ من الإبل المؤبلة , وهي الأقاطيع. واختلف النحويون هل للأبابيل واحد من جنسه , فذهب أبو عبيدة والفراء وثعلب إلى أنه لا واحد له كالعباديد والسماطيط , وذهب آخرون إلى أن له واحد , واختلفوا في واحده , فذهب أبو جعفر الرؤاسي إلى أن واحدة إبّالة مشددة , وقال الكسائي: واحدها إبول , وقال ابن كيسان واحدة إبيّل. {تَرْميهم بحجارةٍ مِن سِجّيلٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: أن السجيل كلمة فارسية هي سنك وكل , أولها حجر , وآخرها: طين , قال ابن عباس. الثاني: أن السجيل هو الشديد , قاله أبو عبيدة , ومنه قول ابن مقبل: (ورجْلةٍ يضْرِبون البَيْضَ عن عَرَضٍ ... ضَرْباً تواصى به الأَبطالُ سِجِّيلاً) الثالث: أن السجيل اسم السماء الدنيا , فنسبت الحجارة إليها لنزولها منها , قاله ابن زيد. الرابع: أنه اسم بحر من الهواء , منه جاءت الحجارة فنسبت إليه , قاله عكرمة وفي مقدار الحجر قولان: أحدهما: أنه حصى الخذف , قاله مقاتل. الثاني: كان الحجر فوق العدسة ودون الحمصة , قاله أبو صالح: رأيت في دار أم هانىء نحو قفيز من الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل مخططة بحمرة كأنها الجزع , وقال ابن مسعود: ولما رمت الطير بالحجارة بعث الله ريحها فزادتها شدة , وكانت لا تقع على أحد إلا هلك ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة , فقال: (فإنكِ لو رأيْتِ ولم تريهِ ... لدى جِنْبِ المغَمِّسِ ما لَقينا) (خَشيتُ الله إذ قدْبَثَّ طَيْراً ... وظِلَّ سَحابةٍ مرَّتْ علينا) (وباتت كلُّها تدْعو بحقٍّ ... كأنَّ لها على الحُبْشانِ دَيْنا) {فجعَلَهم كعَصْفٍ مأكولٍ} فيه خمسة أقاويل:

أحدها: أن العصف ورق الزَّرع , والمأكول الذي قد أكله الدود , قاله ابن عباس. الثاني: أن العصف المأكول هو الطعام , وهذا قول حسين بن ثابت. الثالث: أنه قشر الحنطة إذا أكل ما فيه , رواه عطاء بن السائب. الرابع: أنه ورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته , قاله ابن زيد. الخامس: أن العصف التين والمأكول القصيل للدواب , قاله سعيد بن جبير والحسن , واختلف فيما فعله الله بهم , فقال قوم: كان ذلك معجزة لنبيّ كان في ذلك الزمان , وقيل إنه كان خالد بن سنان. وقال آخرون: بل كان تمهيداً وتوطيداً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ولد في عامه وقيل في يومه.

سورة قريش مكية في قول الأكثرين، ومدينة في قول الضحاك. بسم الله الرحمن الرحيم

قريش

{لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وفي قوله تعالى {لإيلافِ قُريْشٍ} الإيلاف مأخوذ من أَلِف يأْلَف , وهي العادة المألوفة , ومنه قولهم ائتلف القوم. وفي قوله {لإيلاف قريش} أربعة أقاويل: أحدها: نعمتي على قريش , لأن نعمة الله عليهم أن ألفه لهم , قاله ابن عباس ومجاهد. الثاني: لإيلاف الله لهم لأنه آلفهم إيلافاً , قاله الخليل بن أحمد. الثالث: لإيلاف قريش حَرَمي وقيامهم ببيتي , وهذا معنى قول الحسن. الرابع: لإيلاف ما ذكره من رحلة الشتاء والصيف في معايشهم , قاله مكحول. وفي اللام التي في (لإيلاف قريش) قولان: أحدهما: أنه صلة يرجع إلى السورة المتقدمة من قولهم {ألم تر كيف} إلى أن قال: {فجعلهم كعصْف مأكولٍ} لإيلاف قريش , فصار معناه أن ما فعله بأصحاب الفيل لأجل إيلاف قريش , قاله ثعلب , وكان عمر وأبيّ بن كعب لا يفصلان بين

السورتين ويقرآنهما كالسورة الواحدة , ويريان أنهما سورة واحدة , أي: ألم تر لإيلاف قريش. الثاني: أن اللام صلة ترجع إلى ما بعدها من قوله {فَلْيَعْبُدوا رب هذا البَيْتِ} ويكون معناه لنعمتي على قريش فَلْيَعْبُدوا رَبَّ هذا البيت , قاله أهل البصرة , وقرأ عكرمة , ليألف قريش , وكان يعيب على من يقرأ (لإيلاف قريش). وقرأ بعض أهل مكة: إلاف قريش , واستشهد بقول أبي طالب يوصي أخاه أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا تَتْركْنهُ ما حَييتَ لمعظمٍ ... وكن رجلاً ذا نَجدةٍ وعفافِ) (تَذودُ العِدا عن عُصْبةٍ هاشميةٍ ... ألا فُهُمُ في الناس خيرُ إلافِ) وأما قريش تلده فهم بنو النضير بن كنانة , وقيل بنو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة , ومن لم تلده فهر فليس من قريش , وعلى المشهور أن بني النضر بن كنانة ومن تلده: من قريش , وإن لم يكونوا من بني فهر , وقد كانوا متفرقين في غير الحرم فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوه مسكناً , قال الشاعر: (أبونا قصيٌّ كان يُدْعى مجمّعاً ... به جمع اللَه القبائلَ مِن فهر) واختلفوا في تسميتهم قريشاً على أربعة أقاويل: أحدها: لتجمعهم بعد التفرق , والتقريش التجميع , ومنه قول الشاعر: (إخوةٌ قرَّشوا الذنوب علينا ... في حَديثٍ مِن دَهْرِهم وقَديمِ) الثاني: لأنهم كانوا تجاراً يأكلون من مكاسبهم , والتقريش التكسب. الثالث: أنهم كانوا يفتشون الحاج عن ذي الخلة فيسدون خلته , والقرش: التفتيش , قال الشاعر: (أيها الشامتُ المقِّرشُ عَنّا ... عند عَمرو فهل له إبْقاءُ) الرابع: أن قريشاً اسم دابة في البحر , من أقوى دوابه , سميت قريشاً لقوتها وأنها تأكل ولا تؤكل , وتعلو ولا تعلى , قاله ابن عباس واستشهد بقول الشاعر:

(هكذا في العباد حيُّ قريش ... يأكلون البلادَ أكْلاً كشيشاً) (ولهم آخرَ الزمان نبيٌّ ... يَكثر القتل فيهمُ والخموشا) (يملأُ الأرضَ خَيلةً ورجالاً ... يحشُرون المطيَّ حشْراً كميشاً) (تأكل الغثَّ والسَمينَ ولا تت ... رُكُ يوماً في جناحين ريشاً.) (وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشاً.) (سلّطت بالعلو في لجج البحر ... على سائر البحور جيوشاً.) {إيلافِهم رِحْلَةَ الشتاءِ والصَّيْفِ} كانت لقريش في كل عام رحلتان والرحلة السفرة , لما يعانى فيها من الرحيل والنزول , رحلة في الصيف ورحلة في الشتاء طلباً للتجارة والكسب. واختلف في رحلتي الشتاء والصيف على قولين: أحدهما: أن كلتا الرحلتين إلى فلسطين , لكن رحلة الشتاء في البحر , طلباً للدفء , ورحلة الصيف على بصرى وأذرعات , طلباً للهواء , قاله عكرمة. الثاني: أن رحلة الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد حامية , ورحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة , قاله ابن زيد. فإن قيل فما المعنى في تذكيرهم رحلة الشتاء والصيف؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنهم كانوا في سفرهم آمنين من العرب لأنهم أهل الحرم , فذكرهم ذلك ليعلموا نعمته عليهم في أمنهم مع خوف غيرهم. الثاني: لأنهم كانوا يكسبون فيتوسعون ويطعمون ويصلون , كما قال الشاعر فيهم: (يا أيها الرجلُ المحوِّل رَحْلَه ... هَلاَّ نَزَلْتَ بآلِ عبدِ مَنافِ.) (الآخذون العهدَ من آفاقِها ... والراحلون لرحلة الإيلافِ.) (والرائشون وليس يُوجد رائشٌ ... والقائلون هَلُمَّ للأَضْيافِ.) (والخالطون غنيَّهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرُهم كالكافي.) (عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجافِ.) فذكرهم الله تعالى هذه النعمة.

ولابن عباس في رحلة الشتاء والصيف قول ثالث: أنهم كانوا يشتون بمكة لدفئها , ويصيفون بالطائف لهوائها , كما قال الشاعر: (تَشْتي بِمكة نعمةً ... ومَصيفُها بالطائِف) وهذه من جلائل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة. {فَلْيَعْبدوا ربَّ هذا البَيْتِ} أمرهم الله تعالى بعبادته، وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان: أحدهما: لأنه كانت لهم أوثان، فميز نفسه عنها. الثاني: أنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً بنعمته. وفي معنى هذا الأمر والضمير في دخول الفاء على قوله (فليعبدوا) أربعة أوجه: أحدها: فليعبدوا رب هذا البيت بأنه أنعم عليهم برحلة الشتاء والصيف. الثاني: فليألفوا عبادة رب هذا البيت كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف. الثالث: فليعبدوا رب هذا البيت لأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. الرابع: فليتركوا رحلة الشتاء والصيف بعبادة رب هذا البيت , فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ليتوفروا بالمقام على نصرة رسوله والذب عن دينه. {الذي أطْعَمَهم من جُوعٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أطعمهم من جوع بما أعطاهم من الأموال وساق إليهم من الأرزاق , قاله ابن عيسى. الثاني: أطعمهم من جوع بما استجاب فيهم دعوة إبراهيم عليه السلام. حين قال: {وارْزُقهم من الثمرات} قاله ابن عباس. الثالث: أن جوعاً أصابهم في الجاهلية , فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً , فحملوه، فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم , فخرجوا إليهم متحرزين , فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات , فهو معنى قوله {الذي أطعمهم من جوع}.

{وآمَنَهُم مِنْ خوْفٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: آمنهم من خوف العرب أن يسبوهم أو يقاتلوهم تعظيماً لحرمة الحرم، لما سبقت لهم من دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {ربِّ اجْعَلْ هذا بلداً آمِناً} , قاله ابن عباس. الثاني: من خوف الحبشة مع الفيل , قاله الأعمش. الثالث: آمنهم من خوف الجذام , قاله الضحاك والسدي وسفيان الثوري. الرابع: يعني آمن قريشاً ألا تكون الخلافة إلا فيهم , قاله علّي رضي الله عنه.

سورة الماعون مكية في قول عطاء وجابر، ومدينة في قول ابن عباس وقتادة. بسم الله الرحمن الرحيم

الماعون

{أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون} قوله تعالى {أرأيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدِّينِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يعني بالحساب , قاله عكرمة ومجاهد. الثاني: بحكم الله تعالى , قاله ابن عباس. الثالث: بالجزاء الثواب والعقاب. واختلف فيمن نزل هذا فيه على خمسة أوجه: أحدها: أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي , قاله الكلبي ومقاتل. الثاني: في الوليد بن المغيرة , قاله السدي. الثالث: في أبي جهل. الرابع: في عمرو بن عائذ , قاله الضحاك. الخامس: في أبي سفيان وقد نحر جزوراً , فأتاه يتيم , فسأله منها , فقرعه بعصا , قاله ابن جريج. {فذلك الذي يَدُعُّ اليتيمَ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: بمعنى يحقر البيت , قاله مجاهد. الثاني: يظلم اليتيم , قاله السدي. الثالث: يدفع اليتيم دفعاً شديداً , ومنه قوله تعالى: {يوم يُدَعُّونَ إلى نارِ جهنَّمَ دعّاً} أي يُدفعون إليها دفعاً. وفي دفعه اليتيم وجهان: أحدهما: يدفعه عن حقه ويمنعه من ماله ظلماً له وطمعاً فيه , قاله الضحاك. الثاني: يدفعه إبعاداً له وزجراً , وقد قرىء (يَدَعُ اليَتيم) مخففة , وتأويله على هذه القراءة يترك اليتيم فلا يراعيه اطراحاً له وإعراضاً عنه. ويحتمل على هذه القراءة تأويلاً ثالثاً: يدع اليتيم لاستخدامه وامتهانه قهراً واستطالة. {ولا يَحُضُّ على طعامِ المِسْكِينِ} أي لا يفعله ولا يأمر به , وليس الذم عاماً حتى يتناول من تركه عجزاً , ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم يقولون {أنطعم من لو يشاءُ الله أطْعَمَهُ} فنزلت هذه الآية فيهم , ويكون معنى الكلام لا يفعلونه إن قدروا , ولا يحثون عليه إن عجزوا. {فَويْلٌ للمُصَلَّينَ} الآية , وفي إطلاق هذا الذم إضمار , وفيه وجهان: أحدهما: أنه المنافق , إن صلاها لوقتها لم يرج ثوابها , وإن صلاها لغير وقتها لم يخش عقابها , قاله الحسن. الثاني: أن إضماره ظاهر متصل به , وهو قوله تعالى: {الذين هم} الآية. وإتمام الآية في قوله: {فويل للمصلين} ما بعدها من قوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} إضماراً فيها وإن كان نطقاً ظاهراً. وليس السهو الذي يطرأ عليه في صلاته ولا يقدر على دفعه عن نفسه هو الذي ذم به , لأنه عفو. وفي تأويل ما استحق به هذا الذم ستة أوجه: أحدها: أن معنى ساهون أي لاهون , قاله مجاهد.

الثاني: غافلون , قاله قتادة. الثالث: أن لا يصلّيها سراً ويصليها علانية رياء للمؤمنين , قاله الحسن. الرابع: هو الذي يلتفت يمنة ويسرة وهواناً بصلاته , قاله أبو العالية. الخامس: هو ألا يقرأ ولا يذكر الله , قاله قطرب. السادس: هو ما روى مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (الذين هم عن صلاتهم ساهون) فقال: (هم الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها). {الذين هم يُراءونَ} فيه وجهان: أحدهما: المنافقون الذين يراءون بصلاتهم , يصلّونها مع الناس إذا حضروا , ولا يُصلّونها إذا غابوا , قاله علي وابن عباس. الثاني: أنه عامّ في ذم كل من راءى لعمله ولم يقصد به إخلاصاً لوجه ربه. روي عن النبي صلى الله عيله وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: مَن عَمِل عملا لغيري فقد أشرك بي وأنا أغنى الشركاء عن الشرك). {ويَمْنَعُونَ الماعونَ} فيه ثمانية تأويلات: أحدها: أن الماعون الزكاة , قاله علي وابن عمر والحسن وعكرمة وقتادة , قال الراعي:

(أخليفة الرحمن إنا مَعْشَرٌ ... حُنَفاءُ نسجُد بكرةً وأصيلاً.) (عَرَبٌ نرى لله في أمْوالِنا ... حقَّ الزكاة مُنزّلا تنزيلاً) (قَوْمٌ على الإسلام لمّا يَمْنعوا ... ماعونَهم ويضَيِّعوا التهْليلا) الثاني: أنه المعروف , قاله محمد بن كعب. الثالث: أنه الطاعة , قاله ابن عباس. الرابع: أنه المال بلسان قريش , قاله سعيد بن المسيب والزهري. الخامس: أنه الماء إذا احتيج إليه ومنه الماء المعين وهو الجاري , قال الأعشى: (بأجود منا بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغِم) السادس: أنه ما يتعاوره الناس بينهم , مثل الدلو والقدر والفاس , قاله ابن عباس , وقد روي مأثوراً. السابع: أنه منع الحق , قاله عبد الله بن عمر. الثامن: أنه المستغل من منافع الأموال , مأخوذ من المعنى وهو القليل , قاله الطبري وابن عيسى. ويحتمل تاسعاً: أنه المعونة بما خف فعله وقل ثقله.

سورة الكوثر بسم الله الرحمن الرحيم

الكوثر

{إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر} قوله تعالى {إنّا أَعْطَيْناك الكَوْثَر} فيه تسعة تأويلات: أحدها: أن الكوثر النبوة , قاله عكرمة. الثاني: القرآن , قاله الحسن. الثالث: الإسلام , حكاه المغيرة. الرابع: أنه نهر في الجنة , رواه ابن عمر وأنس مرفوعاً. الخامس: أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة قاله عطاء.

السادس: أنه الخير الكثير , قاله ابن عباس. السابع: أنه كثرة أمته , قاله أبو بكر بن عياش. الثامن: أنه الإيثار , قاله ابن كيسان. التاسع: أنه رفعة الذكر , وهو فوعل من الكثرة. {فَصَلِّ لِربِّكَ وانحَرْ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: الصلاة المكتوبة , وهي صلاة الصبح بمزدلفة , قاله مجاهد. الثاني: صلاة العيد , قاله عطاء. الثالث: معناه اشكر ربك , قاله عكرمة. {وانحَرْ} فيه خمسة تأويلات: أحدها: وانحر هديك أو أضحيتك , قاله ابن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة. الثاني: وانحر أي وسل , قاله الضحاك. الثالث: معناه أن يضع اليمين على الشمال عند نحره في الصلاة , قاله عليّ وابن عباس رضي الله عنهما. الرابع: أن يرفع يديه في التكبير , رواه عليّ. الخامس: أنه أراد واستقبل القبلة في الصلاة بنحرك , قاله أبو الأحوص ومنه قول الشاعر:

(أبا حَكَمٍ هَلْ أَنْتَ عَمُّ مُجالدٍ ... وسيدُ أهْلِ الأبْطحِ المتناحرِ) أي المتقابل. {إنّ شانِئَكَ هو الأبْتَرُ} في شانئك وجهان: أحدهما: مبغضك , قاله ابن شجرة. الثاني: عدوّك , قاله ابن عباس. وفي (الأبتر) خمسة تأويلات: أحدها: أنه الحقير الذليل , قاله قتادة. الثاني: معناه الفرد الوحيد , قاله عكرمة. الثالث: أنه الذي لا خير فيه حتى صار مثل الأبتر , وهذا قول مأثور الرابع: أن قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده , قد بتر فلان فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه القاسم بمكة , وابراهيم بالمدينة , قالوا بتر محمد فليس له من يقوم بأمره من بعده , فنزلت الآية , قاله السدي وابن زيد. الخامس: أن الله تعالى لما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا قريش إلى الإيمان , قالوا ابتتر منا محمد , أي خالفنا وانقطع عنا , فأخبر الله تعالى رسوله أنهم هم المبترون , قاله عكرمة وشهر بن حوشب. واختلف في المراد من قريش بقوله {إنّ شانئك هو الأبتر} على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه أبو لهب، قاله عطاء. الثاني: أبو حهل , قاله ابن عباس. الثالث: أنه العاص بن وائل , قاله عكرمة , والله أعلم.

سورة الكافرون مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك. بسم الله الرحمن الرحيم

الكافرون

{قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين} {قُل يا أيُّها الكافِرونَ} الآيات , ذكر محمد بن إسحاق أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة , والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد. ونعبد ما تعبد , ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله , فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه , وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما بيديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه , فأنزل الله تعالى {قل يا أيها الكافرون} فصار حرف الأمر في هذه السورة وسورة الإخلاص والمعوذتين متلوّاً , لأنها نزلت جواباً , عنى بالكافرين قوماً معينين , لا جميع الكافرين , لأن منهم من آمن , فعبد الله , ومنهم من مات أو قتل على كفره , وهم المخاطبون بهذا القول فمنهم المذكورون. {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ} يعني من الأوثان.

{ولا أنتم عابدون ما أَعْبُدُ} يعني الله تعالى وحده , الآيات. فإن قيل: ما فائدة هذا التكرار؟ قيل: فيه وجهان: أحدهما: أن قوله في الأول (لا أعبد) و (لا تعبدون) يعني في الحال , وقوله الثاني: يعني في المستقبل , قاله الأخفش. الثاني: أن الأول في قوله (لا أعبد) و (لا أنتم) الآية يعني في المستقبل , والثاني: إخبار عنه وعنهم في الماضي , فلم يكن ذلك تكراراً لاختلاف المقصود فيهما. فإن قيل: فلم قال (ما أَعْبُدُ) ولم يقل (من أَعبُدُ)؟ قيل: لأنه مقابل لقوله: {ولا أنا عابد ما عَبَدْتُم} وهي أصنام وأوثان , ولا يصلح فيها إلا (ما) دون (من) فحمل الثاني على الأول ليتقابل الكلام ولا يتنافى. {لكم دِينكم ولي دينِ} فيه وجهان: أحدهما: لكم دينكم الذي تعتقدونه من الكفر , ولي ديني الذي أعتقده من الإسلام , قاله يحيى بن سلام. الثاني: لكم جزاء عملكم , ولي جزاء عملي. وهذا تهديد منه لهم , ومعناه وكفى بجزاء عملي ثواباً , قاله ابن عيسى. قال ابن عباس: ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة , لأنها توحيد وبراءة من الشرك.

سورة النصر بسم الله الرحمن الرحيم

النصر

{إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} قوله تعالى {إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ والفتحُ} أما النصر فهو المعونة مأخوذ من قولهم قد نصر الغيث الأرض إذا أعان على نباتها ومنع من قحطها , قال الشاعر: (إذا انسلَخَ الشهرُ الحرامُ فَودِّعي ... بلادَ تميمٍ وانْصُري أرضَ عامِرِ) وفي المعنيّ بهذا النصر قولان: أحدهما: نصر الرسول على قريش , قاله الطبري. الثاني: نصره على كل من قاتله من أعدائه , فإن عاقبة النصر كانت له. وقيل: إذا جاء نصره بإظهاره إياك على أعدائك , والفتح: فتحه مكة وقيل المراد حين نصر الله المؤمنين وفتح مكة وسائر البلاد عليهم. وإنما عبر عن الحصول بالمجيء تجوزاً للإشعار بأن المقدرات متوجهة حين إلى أوقاتها المعينة لها , فتعرف منها شيئاً فشيئاً , وقد قرب النصر من قوته فكن مترقباً لوروده مستعداً لشكره.

وفي هذا الفتح قولان: أحدهما: فتح مكة , قاله الحسن ومجاهد. الثاني: فتح المدائن والقصور , قاله ابن عباس وابن جبير , وقيل ما فتحه عليه من العلوم. {ورأيْتَ الناسَ يَدْخُلون في دِيْنِ اللهِ أَفْواجاً} فيهم قولان: أحدهما: أنهم أهل اليمن , ورورى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين يمانٍ والفقه يمانٍ والحكمة يمانية) وروي عنه عليه السلام أنه قال: (إني لأجد نَفَس ربكم مِن قِبل اليمن) وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً. الثاني: معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه بأهل اليمن , وهم الأنصار. القول الثاني: أنهم سائر الأمم الذين دخلوا في الإسلام , قاله محمد بن كعب. وقال الحسن: لما فتح الله على رسوله مكة , قالت العرب بعضهم لبعض: أيها القوم ليس لكم به ولا بالقوم يد , فجعلوا يدخلون في دين الله أفواجاً أمة أمة. قال الضحاك: والأمة أربعون رجلاً , وقال ابن عباس: الأفواج (الزمر) , وقال الكلبي: الأفواج القبائل. وروى جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّ الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون أفواجاً).

(أفواجاً) جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وقبائل سائر العرب. (يدخلون) حال , على أن (رأيت) بمعنى أبصرت , أو مفعول ثان على أن رأيت بمعنى علمت. {فسبّحْ بحْمد ربِّك واسْتَغْفِره إنه كان توّاباً} في أمره بهذا التسبيح والاستغفار وجهان: أحدهما: أنه أراد بالتسبيح الصلاة , قاله ابن عباس , وبالاستغفار مداومة الذكر. الثاني: أنه أراد صريح التسبيح , الذي هو التنزيه والاستغفار من الذنوب. روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك , أستغفرك وأتوب إليك , فقلت: يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها؟ فقال: (جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها) وفي قوله {إنه كان توّاباً} وجهان: أحدهما: قابل التوبة. والثاني: متجاوز عن الصغائر. وفي أمره بهذابعد النصر والفتح وجهان: أحدهما: ليكون ذلك منه شكراً لله تعالى على نعمه , لأن تجديد النعم يوجب تجديد الشكر. الثاني: أنه نعى إليه نفسه , ليجد في عمله. قال ابن عباس: وداعٌ من الله , ووداعٌ من الدنيا , فلم يعش بعدها إلا سنتين مستديماً التسبيح والاستغفار كما أُمِرَ , وكان قد لبث أربعين سنة لم يوح إليه , ورأى رؤيا النبوة سنتين , ومات في شهر ربيع الأول وفيه هاجر. وقال مقاتل: نزلت هذه السورة بعد فتح الطائف , والفتح فتح مكة،

والناس أهل اليمن , وهي آية موت النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت قرأها على أبي بكر وعمر ففرحا بالنصر وبدخول الناس أفواجاً في دين الله عز وجل , وسمعها العباس فبكى , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا عم؟) فقال: نعيت إليك نفسك , قال: (إنه لكما تقول). وهذه السورة تسمى التوديع , عاش النبي بعدها حولاً على قول مقاتل , وحولين على قول ابن عباس , ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قابل , فنزل {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية , فعاش بعدها ثمانين يوماً , ثم نزلت (لقد جاءكم رسول) فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً , ثم نزلت {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} فعاش بعدها واحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل: عاش بعدها سبعة أيام , والله أعلم وصلوات الله عليه متتابعة لا تنقطع على مر الأزمان وكر الأوان , وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

سورة المسد بسم الله الرحمن الرحيم

المسد

{تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد} قوله تعالى: {تبّتْ يدا أبي لهب} اختلف في سبب نزولها في أبي لهب على ثلاثة أقاويل: أحدها: ما حكاه عبد الرحمن بن زيد أن أبا لهب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أُعطَى إن آمنتُ بك يا محمد؟ قال: ما يعطَى المسلمون , قال: ما عليهم فضل؟ قال: وأي شيء تبتغي؟ قال: تبَّا لهذا من دين أن أكون أنا وهؤلاء سواء , فأنزل الله فيه: {تبت يدا أبي لهب}. الثاني: ما رواه ابن عباس أنه لما نزل {وأنذر عشيرتك الأقربين} أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليها , ثم نادى يا صباحاه! فاجتمع الناس إليه , فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم , صدقتموني؟ قالوا:

نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد , فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟! فأنزل الله تعالى هذه السورة. الثالث: ما حكاه عبد الرحمن بن كيسان أنه كان إذا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وفْدٌ انطلق إليهم أبو لهب , فيسألونه عن رسول الله ويقولون: أنت أعلم به , فيقول لهم أبو لهب: إنه كذاب ساحر , فيرجعون عنه ولا يلقونه , فأتاه وفد , ففعل معهم مثل ذلك , فقالوا: لا ننصرف حتى نراه ونسمع كلامه , فقال لهم أبو لهب: إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبّاً له وتعساً , فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فاكتأب له , فأنزل الله تعالى (تَبّتْ) السورة , وفي (تبّتْ) خمسة أوجه: أحدها: خابت , قاله ابن عباس. الثاني: ضلّت , وهو قول عطاء. الثالث: هلكت , قاله ابن جبير. الرابع: صفِرت من كل خير , قاله يمان بن رئاب. حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان بن عفان سمع الناس هاتفاً يقول: (لقد خلّوْك وانصدعوا ... فما آبوا ولا رجعوا) (ولم يوفوا بنذرِهمُ ... فيا تبَّا لما صَعنوا) والخامس: خسرت , قاله قتادة , ومنه قول الشاعر: (تواعَدَني قوْمي ليَسْعوْا بمهجتي ... بجارية لهم تَبّا لهم تبّاً) وفي قوله {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وجهان: أحدهما: يعني نفس أبي لهب , وقد يعبر عن النفس باليد كما قال تعالى {ذلك بما قدمت يداك} أي نفسك. الثاني: أي عمل أبي لهب , وإنما نسب العمل إلى اليد لأنه في الأكثر يكون بها.

وقيل إنه كني أبا لهب لحُسنه وتلهّب وجنته , وفي ذكر الله له بكنيته دون اسمه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان بكنيته أشهر منه باسمه. الثاني: لأنه كان مسمى بعبد هشم , وقيل إنه عبد العزى فلذلك عدل عنه. الثالث: لأن الاسم أشرف من الكنية , لأن الكنية إشارة إليه باسم غيره , ولذلك دعا الله أنبياءه بأسمائهم. وفي قوله {وتَبَّ} أربعة أوجه: أحدها: أنه تأكيد للأول من قوله {تبت يدا أبي لهب} فقال بعده (وتب) تأكيداً. الثاني: يعني تبت يدا أبي لهب بما منعه الله تعالى من أذى لرسوله , وتب بما له عند الله من أليم عقابه. الثالث: يعني قد تبّ , قاله ابن عباس. الرابع: يعني وتبّ ولد أبي لهب , قاله مجاهد. وفي قراءة ابن مسعود: تبت يدا أبي لهبٍ وقد تب , جعله خبراً , وهي على قراءة غيره تكون دعاء كالأول. وفيما تبت عنه يدا أبي لهب وجهان: أحدهما: عن التوحيد , قاله ابن عباس. الثاني: عن الخيرات , قاله مجاهد. {ما أَغْنَى عَنْه مالُه وما كَسَب} في قوله (ما أغنى عنه) وجهان: أحدهما: ما دفع عنه. الثاني: ما نفعه , قاله الضحاك. وفي {مالُه} وجهان: أحدهما: أنه أراد أغنامه , لأنه كان صاحب سائمة , قاله أبو العالية. الثاني: أنه أراد تليده وطارفه , والتليد: الموروث , والطارف: المكتسب. وفي قوله {وما كَسَبَ} وجهان:

أحدهما: عمله الخبيث , قاله الضحاك. الثاني: ولده , قاله ابن عباس. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أولادكم من كسبكم) وكان ولده عتبة بن أبي لهب مبالغاً في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم كأبيه , فقال حين نزلت {والنجم إذا هوى} كفرت بالنجم إذا هوى , وبالذي دنا فتدلى , وتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فأكله الأسد. وفيما لم يغن عنه ماله وما كسب وجهان: أحدهما: في عداوته النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: في دفع النار عنه يوم القيامة. {سَيَصْلَى ناراً ذاتَ لَهَبٍ} في سين سيصلى وجهان: أحدهما: أنه سين سوف. الثاني: سين الوعيد , كقوله تعالى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} و {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا} وفي {يَصْلًى} وجهان: أحدهما: صلي النار , أي حطباً ووقوداً , قاله ابن كيسان. الثاني: يعني تُصليه النار , أي تنضجه , وهو معنى قول ابن عباس , فيكون على الوجه الأول صفة له في النار , وعلى الوجه الثاني صفة للنار. وفي {ناراً ذاتَ لَهَبٍ} وجهان: أحدهما: ذات ارتفاع وقوة واشتعال , فوصف ناره ذات اللهب بقوتها , لأن قوة النار تكون مع بقاء لهبها. الثاني: ما في هذه الصفة من مضارعة كنيته التي كانت من نذره ووعيده. وهذه الآية تشتمل على أمرين:

أحدهما: وعيد من الله حق عليه بكفره. الثاني: إخبار منه تعالى بأنه سيموت على كفره , وكان خبره صدقاً , ووعيده حقاً. {وامرأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ} وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان. وفي {حمالة الحطب} أربعة أوجه: أحدها: أنها كانت تحتطب الشوك فتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً , قاله ابن عباس. الثاني: أنها كانت تعيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر , فكان يحتطب فعيرت بأنها كانت تحتطب , قاله قتادة. الثالث: أنها كانت تحتطب الكلام وتمشي بالنميمة , قاله الحسن والسدي فسمي الماشي بالنميمة حمال الحطب لأنه يشعل العداوة كما تشعل النار الحطب , قال الشاعر: (إنّ بني الأَدْرَمِ حَمّالو الحَطَبْ ... هم الوُشاةُ في الرِّضا وفي الغَضَبْ.) 89 (عليهمُ اللعْنةُ تَتْرى والحرَبْ.} 9 وقال آخر: (مِنَ البِيضِ لم تُصْطَدْ على ظهر لأمةٍ ... ولم تمشِ بَيْن الحيّ بالحَطَب والرطْبِ.) الرابع: أنه أراد ما حملته من الآثام في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كالحطب في مصيره إلى النار. {في جِيدِها حَبْل مِنْ مَسَدِ} جيدها: عنقها. وفي {حبل من مسد} سبعة أقاويل: أحدها: أنه سلسلة من حديد , قاله عروة بن الزبير , وهي التي قال الله تعالى فيها: {ذرعها سبعون ذراعاً} قال الحسن: سميت السلسلة مسداً لأنها ممسودة , أي مفتولة.

الثاني: أنه حبل من ليف النخل , قاله الشعبي , ومن قول الشاعر: (أعوذ بالله مِن لَيْل يُقرّبني ... إلى مُضاجعةٍ كالدَّلْكِ بالمسَدِ.) الثالث: أنها قلادة من ودع , على وجه التعيير لها , قاله قتادة. الرابع: أنه حبل ذو ألوان من أحمر وأصفر تتزين به في جيدها , قاله الحسن , ذكرت به على وجه التعيير أيضاً. الخامس: أنها قلادة من جوهر فاخر , قالت لأنفقنها في عداوة محمد , ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة. السادس: أنه إشارة إلى الخذلان , يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء كالمربوطة في جيدها بحبل من مسد. السابع: أنه لما حملت أوزار كفرها صارت كالحاملة لحطب نارها التي تصلى بها. روى الوليد بن كثير عن ابن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر أنه لما نزلت (تبت يدا) في أبي لهب وامرأته أم جميل أقبلت ولها ولولة وفي يدها قهر وهي تقول: (مُذَمَّماً عَصَيْنَا ... وأَمْرَهُ أَبَيْنا) 89 (ودِينَه قَلَيْنا.} 9 ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد , ومعه أبو بكر , فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت وإني أخاف أن تراك , فقال: إنها لن تراني , وقرأ قرآناً اعتصم به , كما قال تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} فأقبلت على أبي بكر , ولم تر رسول الله , فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني , فقال: لا ورب هذا البيت , ما هجاك , فولت فعثرت في مرطها , فقالت: تعس مذمم، وانصرفت.

سورة الاخلاص مكية في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر، ومدينة في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي. بسم الله الرحمن الرحيم

الإخلاص

{قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} قوله تعالى: {قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ} اختلف في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الله خَلَق الخلْق , فمن خلَقَ الله؟ فنزلت هذه السورة جواباً لهم , قاله قتادة. الثاني: أن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك , فأنزل الله هذه السورة , وقال: يا محمد انسبني إلى هذا , وهذا قول أُبي بن كعب. الثالث: ما رواه أبو روق عن الضحاك أن المشركين أرسلوا عامر بن

الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: قل له شققت عصانا وسببت آلهتنا وخالفت دين آبائك , فإن كنت فقيراً أغنيناك وإن كنت مجنوناً داويناك , وإن هويت امرأة زوجناكها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لست بفقير ولا مجنون ولا هويت امرأة , أنا رسول الله إليكم , أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته ,) فأرسلوه ثانية وقالوا له: قل له بيّن لنا جنس معبودك , فأنزل الله هذه السورة , فأرسلوه ثالثة وقالوا: قل له لنا ثلاثمائة وستون صنماً لا تقوم بحوائجنا , فكيف يقوم إله واحِد بحوائج الخلق كلهم؟ فأنزل الله سورة الصافات إلى قوله {إن إلهاكم لواحد} يعني في جميع حوائجكم , فأرسلوه رابعة وقالوا: قل له بيّن لنا أفعال ربك , فأنزل الله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض} الآية , وقوله {الذي خلقكم ثم رزقكم}. {قل هو الله أحد} خرج مخرج جواب السائل عن الله تعالى , فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم {قل هو اللهُ أحَدٌ} والأحد: هو المتفرد بصفاته الذي لا مِثل له ولا شبه. فإن قيل: فلم قال (أحَدٌ) على وجه النكرة , ولم يقل الأحَدُ؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أنه حذف لام التعريف على نية إضمارها فصارت محذوفة في الظاهر , مثبتة في الباطن , ومعناه قل هو الله الأحد. الثاني: أنه ليس بنكرة , وإنما هو بيان وترجمة , قاله المبرد. فأما الأحد والواحد ففيهما وجهان: أحدهما: أن الأحد لا يدخل العدد , والواحد يدخل في العدد , لأنك تجعل للواحد ثانياً , ولا تجعل للأحد ثانياً. الثاني: أن الأحد يستوعب جنسه , والواحد لا يستوعب , لأنك لو قلت فلان لا

يقاومه أحد , لم يجز أن يقاومه اثنان ولا أكثر , فصار الأحد أبلغ من الواحد. وفي تسميتها بسورة الإخلاص ثلاثة أوجه: أحدها: لأن في قراءتها خلاصاً من عذاب الله. الثاني: لأن فيها إخلاص لله من كل عيب ومن كل شريك وولد , قاله عبد الله ابن المبارك. الثالث: لأنها خالصة لله ليس فيها أمر ولا نهي. {اللَّهُ الصّمَدُ} فيه عشرة تأويلات: أحدها: أن الصمد المصمت الذي لا جوف له , قاله الحسن وعكرمه والضحاك وابن جبير , قال الشاعر: (شِهابُ حُروب لا تَزالُ جيادُه ... عوابسَ يعْلُكْنَ الشكيمَ المُصَمّدا) الثاني: هو الذي لا يأكل ولا يشرب , قاله الشعبي. الثالث: أنه الباقي الذي لا يفنى , قاله قتادة , وقال الحسن: إنه الدائم الذي لم يزل ولا يزال. الرابع: هو الذي لم يلد ولم يولد , قاله محمد بن كعب. الخامس: أنه الذي يصمد الناس إليه في حوائجهم , قاله ابن عباس , ومنه قول الشاعر: (ألا بكّر الناعي بخَيريْ بني أسدْ ... بعمرِو بن مَسعودٍ وبالسيّد الصَّمَد.) السادس: أنه السيد الذي قد انتهى سؤدده , قاله أبو وائل وسفيان وقال الشاعر: (عَلوْتُه بحُسامٍ ثم قلت له ... خُذْها حُذَيْفَ فأنت السيّد الصَّمَدُ.) السابع: أنه الكامل الذي لا عيب فيه , قاله مقاتل , ومنه قول الزبرقان: (ساروا جَميعاً بنصْفِ الليلِ واعْتَمدوا ... ألاّ رهينةَ إلا السيّدُ الصَمَدُ.)

الثامن: أنه المقصود إليه في الرغائب , والمستغاث به في المصائب , قاله السدي. التاسع: أنه المستغني عن كل أحد قاله أبو هريرة. العاشر: أنه الذي يفعل مايشاء ويحكم بما يريد , قاله الحسين بن فضيل. {لم يَلِدْ ولم يُولَدْ} فيه وجهان: أحدهما: لم يلد فيكون والداً , ولم يولد فيكون ولداً , قاله ابن عباس. الثاني: لم يلد فيكون في العز مشاركاً , ولم يولد فيكون موروثاً هالكاً , قاله الحسين بن فضيل. وإنما كان كذلك لأمرين: أحدهما: أن هاتين صفتا نقص فانتفتا عنه. الثاني: أنه لا مثل له , فلو وَلَدَ أو وُلدِ لصار ذا مثل , والله تعالى منزه عن أن يكون له مثل. {ولم يَكُن له كُفُواً أَحَدٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لم يكن له مثل ولا عديل , قاله أبي بن كعب وعطاء. الثاني: يعني لم تكن له صاحبة , فنفى عنه الولد والوالدة والصاحبة , قاله مجاهد. الثالث: أنه لا يكافئه في خلقه أحد , قاله قتادة وفيه تقديم وتأخير , تقديره: ولم يكن له أحدٌ كُفواً , فقدم خبر كان على اسمها لتنساق أواخر الآي على نظم واحد.

سورة الفلق مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدينة في أحد قولي ابن عباس وقتادة. بسم الله الرحمن الرحيم

الفلق

{قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد} وهذه والناس معوذتا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود , وقيل إن المعوذتين كان يقال لهما (المقشقشتان) أي مبرئتان من النفاق , وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به وليستا من القرآن , وهذا قول خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت. {قُلْ أَعُوذُ بربِّ الفَلَقِ} فيه ستة تأويلات:

أحدها: أن الفلق سجن في جهنم , قاله ابن عباس. الثاني: أنه اسم من أسماء جهنم , قاله أبو عبد الرحمن. الثالث: أنه الخلق كله , قاله الضحاك. الرابع: أنه فلق الصبح , قاله جابر بن عبد الله ومنه قول الشاعر: (يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتفقا ... أرْعى النجومَ إلى أنْ نوَّرَ الفَلَقُ.) الخامس: أنها الجبال والصخور تنفلق بالمياه. السادس: أنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شيء من نبات وغيره , قاله الحسن. ولأصحاب الغوامض أنه فلق القلوب للأفهام حتى وصلت إليها ووصلت فيها , وأصل الفلق الشق الواسع , وقيل للصبح فلق لفلق الظلام عنه كما قيل له فجر لانفجار الضوء منه. {مِن شَرِّ ما خَلَق} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن شر ما خلق جهنم , قاله ثابت البناني. الثاني: إبليس وذريته , قاله الحسن. الثالث: من شر ما خلق في الدنيا والآخرة , قاله ابن شجرة. وفي هذا الشر وجهان: أحدهما: أنه محمول على عمومه في كل شر. الثاني: أنه خاص في الشر الذي يستحق المصاب به الثواب. {ومن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ} فيه أربعة تأويلات: أحدها: يعني الشمس إذا غربت , قاله ابن شهاب. الثاني: القمر إذا ولج أي دخل في الظلام. روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: أخذ رسول

الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة تعوذي بالله من شر غاسقٍ إذا وقب , وهذا الغاسق إذا وقب. الثالث: أنه الثريا إذا سقطت , وكانت الأسقام والطواعين تكثر عنذ وقوعها , وترتفع عند طلوعها , قاله ابن زيد. الرابع: أنه الليل , لأنه يخرج السباع من آجامها , والهوام من مكامنها ويبعث أهل الشر على العبث والفساد , قاله ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي , قال الشاعر: (يا طيْفَ هِنْدٍ لقد أبقيْتَ لي أرَقا ... إذ جئْتَنا طارِقاً والليلُ قد غَسَقا) وأصل الغسق الجريان بالضرر , مأخوذ من قولهم غسقت القرحة إذا جرى صديدها , والغسّاق: صديد أهل النار , لجريانه بالعذاب وغسقت عينه إذا جرى دمعها بالضرر في الحلق. فعلى تأويله أنه الليل في قوله (إذا وقب) أربعة تأويلات: أحدها: إذا أظلم , قاله ابن عباس. الثاني: إذا دخل , قاله الضحاك. الثالث: إذا ذهب , قاله قتادة. الرابع: إذا سكن , قاله اليمان بن رئاب. {ومِن شَرِّ النّفّاثاتِ في العُقَدِ} قال أهل التأويل: من السواحر ينفثن في عقد الخيوط للسحر , قال الشاعر: (أعوذ بربي من النافثا ... تِ في عِضَه العاضه المعْضِه) وربما فعل قوم في الرقى مثل ذلك , طلباً للشفاء , كما قال متمم بن نويرة: (نَفَثْت في الخيط شبيه الرُّقَى ... من خشيةِ الجِنّة والحاسدِ.) وقد روى الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عقد عقدة ثم

نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك , ومن تعلق شيئاً وكل إليه ,) والنفث: النفخ في العقد بلا ريق , والتفل: النفخ فيها بريق , وفي {شر النفاثات في العقد} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إيهام للأذى وتخيل للمرض من غير أن يكون له تأثير في الأذى والمرض , إلا استشعار ربما أحزن , أو طعام ضار ربما نفذ بحيلة خفية. الثاني: أنه قد يؤذى بمرض لعارض ينفصل فيتصل بالمسحور فيؤثر فيه كتأثير العين , وكما ينفصل من فم المتثائب ما يحدث في المقابل له مثله. الثالث: أنه قد يكون ذلك بمعونة من خدم الجن يمتحن الله بعض عباده. فأما المروي من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد أثبته أكثرهم , وأن قوماً من اليهود سحروه وألقوا عقدة سحره في بئر حتى أظهره الله عليها. روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة , فبينا هو بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه , والآخر عند رجليه , فقال أحدهما: ما شكواه؟ فقال الآخر: مطبوب , (أي مسحور , والطب: السحر) قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي فطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها , فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فاستخرج السحر منها , ويروى أن فيه إحدى عشرة عقدة , فأمر بحل العقد , فكان كلما حل عقدة وجد راحة , حتى حلت العقد كلها , فكأنما أنشط من عقال , فنزلت عليه المعوذتان , وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد , وأمر أن يتعوذ بهما. وأنكره آخرون , ومنعوا منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صح في غيره , لما في استمراره عليه من خبل العقل , وأن الله تعالى قد أنكر على من قال في رسوله حيث يقول: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً}. {ومن شر حاسد إذا حسد} أما الحسد فهو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها , والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل , فالحسد شر

مذموم، والمنافسة رغبة مباحة , وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يغبط والمنافق يحسد.) وفي الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد وجهان: أحدهما: من شر نفسه وعينه , فإنه ربما أصاب بها فعان وضر , والمعيون المصاب بالعين , وقال الشاعر: (قد كان قومُك يَحْسبونك سيّدا ... وإخال أنك سيدٌ مَعْيونُ) الثاني: أن يحمله فرط الحسد على إيقاع الشر بالمحسود فإنه يتبع المساوىء ويطلب العثرات , وقد قيل إن الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض فحسد إبليس آدم حتى أخرجه من الجنة , وأما في الأرض فحسد قابيل بن آدم لأخيه هابيل حتى قتله , نعوذ بالله من شر ما استعاذنا منه. وافتتح السورة ب (قُلْ) لأن الله تعالى أمر نبيه أن يقولها , وهي من السورة لنزولها معها , وقد قال بعض فصحاء السلف: احفظ القلاقل , وفيه تأويلان: أحدهما: قل (قل) في كل سورة ذكر في أوائلها لأنه منها. والثاني: احفظ السورة التي في أولها (قل) لتأكيدها بالأمر بقراءتها.

سورة الناس بسم الله الرحمن الرحيم

الناس

{قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} {قُلْ أعُوذُ بِربِّ النّاسِ} وإنما ذكر أنه رب الناس , وإن كان ربّاً لجميع الخلق لأمرين: أحدهما: لأن الناس معظمون , فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: لأنه أمر بالاستعاذة من شرهم , فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يُعيذ منهم. {مَلِكِ النّاسِ إلَهِ النّاسِ} لأن في الناس ملوكاً , فذكر أنه ملكهم , وفي الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم ومعبودهم. {مِن شَرَّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ} الخّناس هو الشيطان , وفي تسميته بذلك وجهان: أحدهما: لأنه كثير الاختفاء , ومنه قوله تعالى: {فلا أُقْسِمُ بالخُنَّس} يعني النجوم لاختفائها بعد الظهور. الثاني: لأنه يرجع عن ذكر الله , والخنس الرجوع , قال الراجز: (وصاحب يَمْتَعِسُ امْتِعاسا ... يزدادُ من خَنسِه خناسا)

وأما (الوسواس) ها هنا ففيه وجهان: أحدهما: أنه الشيطان لأنه يوسوس للإنسان , وقد روى ابن جبير عن ابن عباس في قوله (الوسواس الخناس) قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم , فإذا سها وغفل وسوس , وإذا ذكر الله تعالى خنس , فعلى هذا يكون في تأويل الخناس وجهان: أحدهما: الراجع بالوسوسة على الهوى. الثاني: أنه الخارج بالوسوسة في اليقين. الوجه الثاني: أنه وسواس الإنسان من نفسه , وهي الوسوسة التي يحدث بها نفسه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ الله تعالى تجاوز لأمتى عما وسوست به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به). {الذي يُوسْوِسُ في صُدورِ النّاسِ} وسوسة الشيطان هي الدعاء إلى طاعته بما يصل إلى القلب من قول متخيل , أو يقع في النفس من أمر متوهم ومنه الموسوس إذا غلب عليه الوسوسة , لما يعتريه من المسرة , وأصله الصوت الخفي , قال الأعشى: (تسمع للحلْي وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل.) {من الجِنّة والنّاسِ} أما وسواس الجنة فهو وسواس الشيطان على ما قدمناه , وأما وسواس الناس ففيه وجهان: أحدهما: أنها وسوسة الإنسان من نفسه , قاله ابن جريج. الثاني: أنه إغواء من يغويه من الناس. قال قتادة: إن من الإنس شياطين , وإن من الجن شياطين , فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ حسناً وحسيناً فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامّة , ومن كل عْينٍ لامّةٍ , ونحن نسعتيذ بالله مما عوذ ونستمده جميل ما عوّد. وفقنا الله وقارئه لتدبر ما فيه وتفهم معانيه , فيه توفيقنا وعليه توكلنا , والحمد لله وحده وكفى , وصلواته على رسوله محمد المصطفى , وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين , وعلى آله وأصحابه الطاهرين.

§1/1