تفسير العثيمين: الحجرات - الحديد

ابن عثيمين

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن من توفيق الله - سبحانه وتعالى - ان يسَّر لفضيلة شيخنا - تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه - ضمن لقاءات الباب المفتوح تفسير سور: الحجرات، وق، والذاريات، والطور، والنجم، والقمر، والرحمن، والواقعة، والحديد. وقد عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى فضيلة الشيخ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، أثابه الله، بالعمل لإعداد هذا الكتاب للنشر، فجزاه الله خيراً. نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، موافقاً لمرضاته، نافعاً لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية

تفسير سورة الحجرات

تفسير سورة الحجرات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. فإننا نبدأ بتفسير سور المفصل التي تبتدىء من سورة (ق) عند بعض العلماء، أو من سورة الحجرات عند آخرين. وسنتكلم على سورة الحجرات لما فيها من الآداب العظيمة النافعة التي ابتدأها الله بقوله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} . اعلم أن الله تعالى إذا ابتدأ الخطاب بقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} فإنه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إما خير تُؤمر به، وإما شر تنهى عنه، فأرعه سمعك، واستمع إليه لما فيه من الخير، وإذا صدَّر الله الخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} دل ذلك على أن التزام ما خوطب به من مقتضيات الإيمان، وأن مخالفته نقص في الإيمان، يقول الله عز وجل: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} قيل: معنى {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} أي: لا تتقدموا بين يدي الله ورسوله، والمراد: لا تسبقوا الله ورسوله بقولٍ أو بفعل. وقيل: المعنى لا تقدموا شيئاً بين يدي الله ورسوله. وكلاهما يصبان في مصب واحد، والمعنى: لا تسبقوا الله ورسوله بقولٍ ولا فعلٍ، وقد وقع لذلك أمثلة، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين» (¬1) لأن الذي ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين (1914) ومسلم، كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين (1082) ..

يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين كأنه تقدم بين يدي الله ورسوله، فبدأ بالصوم قبل أن يحين وقته، ولهذا قال عمار بن ياسر رضي الله عنهما: «من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم» (¬1) . ومن التقدُّم بين يدي الله ورسوله البدع بجميع أنواعها، فإنها تقدم بين يدي الله ورسوله؛ بل هي أشد التقدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور» . وأخبر بأن «كل بدعة ضلالة» (¬2) . وصدق - عليه الصلاة والسلام - فإن حقيقة حال المبتدع أنه يستدرك على الله ورسوله ما فات، مما يدعي أنه شرع، كأنه يقول: إن الشريعة لم تكمل، وأنه كملها بما أتى به من البدعة، وهذا معارض تماماً لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} . فيقال لهذا الرجل الذي ابتدع: أهذا الذي فعلته كمال في الدين؟ إن قال: نعم، فإن قوله هذا يتضمن أو يستلزم تكذيب قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} ، وإن قال: ليس كمالاً في الدين، قلنا: إذن هو نقص؛ لأن الله يقول: {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون} فالبدعة كما أنها ضلالة في نفسها فهي في الحقيقة تتضمن الطعن في دين الله، وأنه ناقص، وأن هذا المبتدع كمله بما ¬

(¬1) أخرجه البخاري معلقاً، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا» . (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4607) والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676) وابن ماجه، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42) . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ادعى أنه من شريعة الله - عز وجل - فالمبتدعون كلهم تقدموا بين يدي الله ورسوله، ولم يبالوا بهذا النهي حتى وإن حسن قصدهم؛ فإن فعلهم ضلالة، وقد يُثاب على حسن قصده، ولكنه يؤزر على سوء فعله، ولهذا يجب على كل مبتدع علم أنه على بدعة أن يتوب منها، ويرجع إلى الله - عز وجل - ويلتزم سنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، والبدعة أنواع كثيرة: بدع في العقيدة، وبدع في الأقوال، وبدع في الأفعال. أما البدع في العقيدة، فإنها تدور على شيئين: إما تمثيل، وإما تعطيل. فالتمثيل أن يثبت لله تعالى الصفات، لكن على وجه المماثلة، فإن هذا بدعة؛ لأنه لم يكن من طريق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفائه الراشدين، فيكون بدعة، فمثلاً يثبت أن لله وجهاً ويجعله مماثلاً لأوجه المخلوقين، أو أن لله يداً ويجعلها مماثلة لأيدي المخلوقين، وهلم جرا، فهؤلاء مبتدعة بلا شك، وبدعتهم تكذيب لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} ولقوله: {ولم يكن له كفواً أحد} . ولقوله تعالى: {هل تعلم له سمياً} . أما التعطيل فهو أن ينكر ما وصف الله تعالى به نفسه، فإن كان إنكار جحد وتكذيب، فهو كفر، وإن كان إنكار تأويل فهو تحريف وليس بكفر إذا كان اللفظ يحتمله، فإن كان لا يحتمله فلا فرق بينه وبين إنكار التكذيب، فمثلاً إذا قال إنسان: إن الله سبحانه وتعالى قال: {بل يداه مبسوطتان} والمراد باليدين النعمة نعمة

الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، فهذا تحريف؛ لأن النعمة ليست واحدة، ولا ألف ولا ملايين، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فليست النعمة اثنتين لا بالجنس ولا بالنوع، فيكون هذا تحريفاً وبدعة، لأنه على خلاف ما تلقاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، والأئمة الهداة من بعدهم. أما البدعة في الأقوال: فمثل أولئك الذين يبتدعون تسبيحات أو تهليلات أو تكبيرات، لم ترد بها السنة، أو يبتدعون أدعية لم ترد بها السنة، وليست من الأدعية المباحة. وأما بدع الأفعال: فمثل الذين يصفقون عند الذكر، أو يهزون رؤوسهم عند التلاوة تعبداً، أو ما أشبه ذلك من أنواع البدع، وكذلك الذين يتمسحون بالكعبة في غير الحجر الأسود والركن اليماني، وكذلك الذين يتمسَّحون بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حجرة قبره الشريف، وكذلك الذين يتمسَّحون بالمنبر الذي يقال إنه منبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي، وكذلك الذين يتمسحون بجدران مقبرة البقيع أو بغير ذلك. والبدع كثيرة: العقدية والقولية والفعلية، وكلها من التقدم بين يدي الله ورسوله، وكلها معصية لله ورسوله، فإن الله يقول: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم} والنبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: «إياكم ومحدثات الأمور» . ومن البدع ما يُصنع في رجب، كصلاة الرغائب التي تُصلَّى ليلة أول جمعة من شهر رجب، وهي صلاة ألف ركعة يتعبدون لله بذلك، وهذا بدعة لا تزيدهم من الله إلا بعداً؛ لأن كل من تقرَّب

إلى الله بما لم يشرعه فإنه مبتدع ظالم، لا يقبل الله منه تعبده، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1) . ومن التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله أن يقول الإنسان قولاً يُحكم به بين عباد الله أو في عباد الله، وليس من شريعة الله، مثل أن يقول: هذا حرام، أو هذا حلال، أو هذا واجب، أو هذا مستحب بدون دليل، فإن هذا من التقدم بين يدي الله ورسوله، وعلى من قال قولاً وتبين له أنه أخطأ فيه أن يرجع إلى الحق حتى لو شاع القول بين الناس وانتشر وعَمِلَ به مَن عمل من الناس، فالواجب عليه أن يرجع وأن يُعلن رجوعه أيضاً، كما أعلن مخالفته التي قد يكون معذوراً فيها إذا كانت صادرة عن اجتهاد، فالواجب الرجوع إلى الحق، فإن تمادى الإنسان في مخالفة الحق فقد تقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {واتقوا الله} هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأن التقدم بين يدي الله ورسوله مخالف للتقوى، لكن نص عليه وقدمه لأهميته، ومعنى {واتقوا الله} أي اتخذوا وقاية من عذاب الله - عز وجل - وهذا لا يتحقق إلا إذا قام الإنسان بفعل الأوامر وترك النواهي، بفعل الأوامر تقرُّباً إلى الله تعالى، ومحبة لثوابه، وترك النواهي خوفاً من عذاب الله - عز وجل -، ومن الناس من إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، وتصاعد في نفسه وعز في نفسه، وأوغل في ¬

(¬1) أخرجه مسلم كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718/18) .

الإثم، وانتفخت أوداجه، وقال: أمثلي يُقال له: اتق الله! وما علم المسكين أن الله خاطب من هو أشرف منه ومن هو أتقى عباد الله لله، فأمره بالتقوى، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً} . وقال الله تعالى: {واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} . ومن الذي لا يستحق أن يُؤمر بتقوى الله؟ فكل واحد منَّا يستحق أن يؤمر بتقوى الله - عز وجل - والواجب أنه إذا قيل له: اتق الله. أن يزداد خوفاً من الله، وأن يراجع نفسه، وأن ينظر ماذا أمر به، إنه لم يؤمر أن يتقي فلاناً وفلاناً، إنما أمر أن يتقي الله عز وجل، وإذا فسرنا التقوى بأنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، تقرباً إليه ومحبة لثوابه، وترك نواهيه خوفاً من عقابه، فإن أي إنسان يترك واجباً فإنه لم يتق الله، وقد نقص من تقواه بقدر ما حصل منه من المخالفة، فالتقوى مخالفتها تختلف، فقد تكون مخالفتها كفراًًً وقد تكون دون ذلك، فترك الصلاة مثلاً ترتفع به التقوى نهائياً؛ لأن تارك الصلاة كافر، كما دلَّ على ذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، حتى إن بعض العلماء حكى إجماع الصحابة على أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ومنهم التابعي المشهور عبد الله بن شقيق - رحمه الله - حيث قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) (¬1) . وكذلك نقل إجماعهم إسحاق بن راهويه، ولم يصح عن أي ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة (رقم 2622) .

صحابي أنه قال عن تارك الصلاة: إن تارك الصلاة في الجنة، أو إنه مؤمن، أو ما أشبه ذلك، والزاني لم يتق الله؛ لأنه زنا فخالف أمر الله وعصاه، والسارق لم يتق الله، وشارب الخمر لم يتق الله، والعاق لوالديه لم يتق الله، والقاطع لرحمه لم يتق الله، والأمثلة على هذا كثيرة، فقوله تعالى: {واتقوا الله} كلمة عامة شاملة تشمل كل الشريعة {إن الله سميع عليم} هذه الجملة تحذير لنا أن نقع فيما نهانا عنه من التقدُّم بين يدي الله ورسوله، أو أن نخالف ما أمر به من تقواه {سميع} أي سميع لما تقولون {عليم} أي عليم بما تقولون وما تفعلون؛ لأن العلم أشمل وأعم، إذ إن السمع يتعلق بالمسموعات، والعلم يتعلق بالمعلومات، والله تعالى محيط بكل شيء علماً، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول العلماء - رحمهم الله -: إن السمع الذي اتصف به ربنا - عز وجل - ينقسم إلى قسمين: سمع إدراك وسمع إجابة، فسمع الإدراك معناه أن الله يسمع كل صوت خفي أو ظهر، حتى إنه - عز وجل - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قد سمع الله قول التى تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير} . قالت عائشة - رضي الله عنها -: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كنت في الحجرة - أي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم - والمرأة تجادله وهو يحاورها وإنه ليخفى عليَّ بعض حديثها) (¬1) . والله ¬

(¬1) عزاه السيوطي في الدر المنثور (8/69 - 70) إلى سعيد بن منصور والبخاري تعليقاً وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجه، وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه. وأخرج البخاري الجزء الأول من قولها في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وكان الله سميعاً بصيراً} . والبيهقي في سننه الكبرى (7/382) .

- عز وجل - أخبر بأنه سمع كل ما جرى بين هذه المرأة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا سمع إدراك، ثم إن سمع الإدراك قد يُراد به بيان الإحاطة والشمول، وقد يراد به التهديد، وقد يُراد به التأييد، فهذه ثلاثة أنواع. الأول: يراد به بيان الإحاطة والشمول مثل هذه الآية. الثاني: يُراد به التهديد مثل قوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأَنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} . وانظر كيف قال: {سنكتب ما قالوا} حين وصفوا الله تعالى بالنقص، قبل أن يقول: {وقتلهم الأَنبياء} مما يدلّ على أن وصف الله بالنقص أعظم من قتل الأنبياء. الثالث: سمع يُراد به التأييد، ومنه قوله - تبارك وتعالى - لموسى وهارون: {لا تخافآ إننى معكمآ أسمع وأرى} ، فالمراد بالسمع هنا التأييد يعني: أسمعك وأؤيدك، يعني أسمع ما تقولان وما يُقال لكما. أما سمع الإجابة فمعناه: أن الله يستجيب لمن دعاه، ومنه قول إبراهيم: {إن ربي لسميع الدعاء} . أي مجيب الدعاء، ومنه قول المصلي: (سمع الله لمن حمده) يعني استجاب لمن حمده فأثابه، ولا أدري أنحن ندرك معنى ما نقوله في صلاتنا أو أننا نقوله تعبداً ولا ندري ما المعنى؟! عندما نقول: الله أكبر، تكبيرة الإحرام يعني أن الله أكبر من كل شيء - عز وجل - ولا نحيط بذلك؛ لأنه أعظم من أن تحيط به عقولنا، وعندما نقول: سمع الله

لمن حمده. يعني استجاب الله لمن حمده، وليس المعنى أنه يسمعه فقط، لأن الله يسمع من حمده ومن لا يحمده إذا تكلم، لكن المراد أنه يستجيب لمن حمده بالثواب، فهذا السمع يقتضي الاستجابة لمن دعاه. أما قوله تعالى: {عليم} فالمراد أنه ذو علم واسع، قال الله تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} . فعندما تؤمن بأن الله سميع، وأن الله عليم، هل يمكن وأنت في عقلك الراشد أن تقول ما لا يرضيه؟ لا، لأنه يسمع، فلا ينبغي لك أن تُسمِع الله ما لا يرضاه منك، أسمِعْهُ ما يحبه ويرضاه إذا كنت مؤمناً حقًّا بأن الله سميع، وأعتقد لو أن أباك نهاك عن قول من الأقوال فهل تتجرأ أن تسمعه ما لا يرضاه أو أن تسمعه ما نهاك عنه؟ فالله أعظم وأجلّ، فاحذر أن تسمع الله ما لا يرضاه منك، وإذا آمنت بأنه بكل شيء عليم وهذا أعم من السمع؛ لأنه يشمل القول والفعل وحديث النفس حتى ما توسوس به نفسك يعلمه - عز وجل - إذا علمت ذلك هل يمكن أن تفعل شيئاً لا يُرضيه؟ لا، لأنه ليس المقصود من إخبار الله لنا بأنه عليم بكل شيء، أن نعلم هذا وأن نعتقده فقط. بل المقصود هذا، والمقصود شيء آخر، وهو الثمرة والنتيجة التي تترتب على أنه بكل شيء عليم، فإذا علمنا بأنه بكل شيء عليم فهل نقول بما لا يرضى؟ لا، لأنه سوف يعلمه، وإذا علمنا بأنه على كل شيء عليم هل نعتقد ما لا يرضى؟ لا، لأننا نعلم أنه يعلم ما في قلوبنا، قال الله تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} . وقال تعالى:

{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} ، يحول بينك وبين قلبك، فيجب علينا إذا مر بنا اسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفات الله أن نؤمن بهذا الاسم، وهذه الصفة، وأن نقوم بما هو الثمرة من الإيمان بهذا الاسم، أو الصفة. وما تضمنته الآية الكريمة من أدب عظيم وجه الله تعالى عباده إليه. وهذا هو الأدب الأول. أما الأدب الثاني ففي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ، الآية الأولى فيها النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله في أي شيء، سواء من الأقوال أو الأفعال أو غيرها، أما هذه الآية فهي في رفع الصوت وإن لم يكن هناك تقدم في الأحكام من تحليل أو تحريم أو إيجاب، يقول الله - عز وجل -: {لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي} فإذا خاطبك النبي صلى الله عليه وسلم بصوت فاخفض صوتك عن صوته، وإذا رفع صوته فارفع صوتك لكن لابد أن يكون دون صوت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولهذا قال: {لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي} . {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} يعني لا تنادونه بصوت مرتفع، كما ينادي بعضكم بعضاً، بل يكون جهراً بأدب وتشريف وتعظيم، يليق به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا كقوله: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} . يعني إذا دعاكم لشيء فلا تجعلوا دعاءه كدعاء بعضكم لبعض، إن شئتم أجبتم وإن شئتم فلا تجيبوا، بل يجب عليكم

الإجابة، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وهنا قال: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون بعضكم لبعض} كذلك أيضاً لا تنادونه بما تتنادون به، فلا تقولون: يا محمد، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، وما أشبه ذلك. {أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} يعني كراهة أن تحبط أعمالكم، والمعنى إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته، وعن الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض كراهة أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، ففي هذا دليل على أن الذي يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أو يجهر له بالقول كجهره لبعض الناس، قد يحبط عمله من حيث لا يشعر؛ لأن هذا قد يجعل في قلب المرء استهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ردَّة عن الإسلام توجب حبوط العمل، ولما نزلت هذه الآية كان ثابت بن قيس بن شماس - رضي الله عنه - جهوري الصوت، وكان من خطباء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما نزلت هذه الآية تغيَّب في بيته وصار لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فافتقده الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل عنه فأخبروه أنه في بيته منذ نزلت الآية، فأرسل إليه رسولاً يسأله، فقال: إن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} . وإنه قد حبط عمله، وإنه من أهل النار، فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فحضر، وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، وقال: «أما ترضى أن

تعيش حميداً، وتُقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟» (¬1) قال: بلى رضيت، فقُتل - رضي الله عنه - شهيداً في وقعة اليمامة، وعاش حميداً، وسيدخل الجنة بشهادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولذلك كان ثابت - رضي الله عنه - ممن يُشهد له بأنه من أهل الجنة بعينه؛ لأن كل إنسان يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في الجنة فهو في الجنة، وكل إنسان يشهد له بأنه في النار فهو في النار، وأما من لم يشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم فنشهد له بالعموم، فنقول: كل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار، أو من أهل الجنة إلا من شهد له الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ففي هذه الآية الكريمة بيان تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجهر له بالقول كجهره لسائر الناس، وأنه لا يجوز له أن يرفع صوته على صوت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولما نزلت هذه الآية تأدَّب الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك حتى كان بعضهم يكلمه مسارَّة ولا يفهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقول من إسراره، حتى يستثبته مرة أخرى، وفي هذه الآية دليل على أن كل من استهان بأمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - فإن عمله حابط؛ لأن الاستهانة بالرسول - عليه الصلاة والسلام - ردَّة، والاستهزاء به ردَّة كما قال الله تعالى في المنافقين الذين كانوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} وكانوا يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1) ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (3/137) والحاكم في المستدرك (2343) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأصل القصة في صحيح مسلم.

وأصحابه - أرغب بطوناً - يعني أوسع - ولا أجبن عند اللقاء، ولا أكذب ألسناً، فأنزل الله هذه الآية، ولما سألهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، يعني نتكلم بكلام لا نريده، ولكن لنقطع به عنا عناء الطريق، فأنزل الله هذه الآية. {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} . ولهذا كان الصحيح أن من سب الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً مرتدًّا، فإن تاب قبلنا توبته لكننا لا نرفع عنه القتل، بل نقتله أخذاً بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قتلناه بعد توبته النصوح الصادقة صلينا عليه كسائر المسلمين الذين يتوبون من الكفر أو من المعاصي. ثم أثنى الله تعالى على الذين يغضون أصواتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إن الذين يغضون أصوتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} لما نهى عن رفع الصوت فوق صوته، وعن الجهر له بالقول كجهر بعضنا لبعض، أثنى على الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، أي يخفضونها ويتكلمون بأدب، فلا إزعاج ولا صخب، ولا رفع صوت، لكن يتكلمون بأدب وغض، قال الله تعالى: {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} أعاد الإشارة {أولئك} تعظيماً لشأنهم ورفعة لمنزلتهم، لأن {أولئك} من أسماء الإشارة الدالة على البعد، وذلك لعلو منزلتهم، فأتى باسم الإشارة بياناً لرفعة منزلتهم وعلوها. {امتحن الله قلوبهم} . قال العلماء: معناها أخلصها

للتقوى، فكانت قلوبهم مملوءة بتقوى الله - عز وجل - ولهذا تأدَّبوا بآداب الله تعالى التي وجه لها فغضوا أصواتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبر عن ثوابهم: {لهم مغفرة وأجر عظيم} ، مغفرة من الله لذنوبهم، وأجر عظيم على أعمالهم الصالحة، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الصلاح صلاح القلب، لقوله: {امتحن الله قلوبهم للتقوى} . وكما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح: «التقوى هاهنا» وأشار إلى صدره الذي هو محل القلب ثلاث مرات: «التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا» (¬1) ولا شك أن التقوى تقوى القلب، أما تقوى الجوارح وهي إصلاح ظاهر العمل، فهذا يقع حتى من المنافقين: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} لكن الكلام على تقوى القلب التي هي بها الصلاح، نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك. وبعض الناس يفعل المعاصي كإسبال الثوب مثلاً، أو حلق اللحية، أو شرب الدخان، وتنهاه وتخوِّفه من عقاب الله، فيقول: التقوى هاهنا، كأنه يزكي نفسه، وهو قائم بمعصية الله، فنقول له بكل سهولة: لو كان ما هنا متقياً لكانت الجوارح متقية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله» (¬2) . {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564) (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (52) ، ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599) .

يعقلون} . هذه الآية تشير إلى قوم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان معهم قوم جُفاة لا يقدرون الأمور قدرها، فجعلوا ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته - أي حجرات نسائه - ويرفعون أصواتهم بذلك يريدون أن يخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليهم (¬1) ، يقول الله في هؤلاء: {أكثرهم لا يعقلون} يعني ليس عندهم عقل، والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لأن العقل عقلان: عقل رشد، وعقل تكليف، فأما عقل الرشد فضده السفه، وأما عقل التكليف فضده الجنون، فمثلاً: إذا قلنا: يشترط لصحة الوضوء أن يكون المتوضىء عاقلاً مميزاً، فالمراد بالعقل هنا عقل التكليف، وإذا قلنا: يشترط للتصرف في المال أن يكون المتصرف عاقلاً، أي عقل رشد، يحسن التصرف، فالمراد بقوله هنا: {أكثرهم لا يعقلون} أي عقل رشد؛ لأنهم لو كانوا لا يعقلون عقل تكليف لم يكن عليهم لوم ولا ذم، لأن المجنون فاقد العقل لا يلحقه لوم ولا ذم، وهذا واضح، وقوله: {أكثرهم لا يعقلون} يفهم منه أن بعضهم يعقل وأنه لم يحصل منه رفع صوت، بل هو متأدب مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال تعالى: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم} أي لو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم من بيتك، وتكلمهم بما يريدون لكان خيراً لهم في أنهم يلتزمون الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وحاجتهم ستقضى؛ لأن رسول الله ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (3/488) (6/393 - 394) وانظر تفسير السيوطي الدر المنثور (7/552 - 554) .

صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأته أحد في حاجة إلا قضاها، إذا كان يدركها، وهو أحق الناس بقول الشاعر: ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم {والله غفور رحيم} في قوله: {والله غفور رحيم} إشارة إلى أن الله غفر لهم ورحمهم، وهذا من كرمه - جل وعلا - أنه يغفر ويرحم، وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الله لا يغفر الشرك به، ويغفر ما دون ذلك، أي سوى الشرك لمن يشاء، فكل أحد أذنب ذنباً دون الشرك مهما عظم فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له ما لم يتب، فإذا تاب فلا عذاب، لقوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً} . وقلنا: إن الآية تدل على أن الله غفر لهم ورحمهم؛ لأن الله ختم الآية بقوله: {والله غفور رحيم} وهذا يدل على أنه غفر لهم ورحمهم، ولذلك قال العلماء في قول الله تعالى في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، قال: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأَرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأَرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الأَخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} . أخذ العلماء من هذه الآية أن هؤلاء

المفسدين المحاربين لله ورسوله، إذا تابوا قبل القدرة عليهم سقط عنهم العذاب، واستدلوا بأن الله ختم الآية بقوله: {فاعلموا أن الله غفور رحيم} أي قد غفر لهم فرحمهم، وهذه مسألة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها في الآيات، إن ختم الآية بعد ذكر الحكم دليل على ما تقتضيه هذه الأسماء التي ختمت بها الآية، ولهذا قرأ رجل فقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم} فسمعه أعرابي عنده فقال له: أعد الآية، فأعادها وقال: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم} قال له: أعد الآية، فأعادها فقال: ... {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم} فقال: الآن أصبت، ثم علل فقال: لأنه لو غفر ورحم ما قطع، ولا تتناسب المغفرة والرحمة مع القطع، لكنه عز وحكم فقطع، فتأمل هذا الفهم فإنه مفيد جدًّا، والشاهد من هذا أن قوله تعالى: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم} يدل على أن الله غفر لهم ورحمهم. ثم قال الله - تبارك وتعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} تقدم الكلام على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} : {إن جاءكم فاسق} الفاسق هو من انحرف في دينه وعقيدته ومروءته، وضده العدل وهو من استقام في دينه ومروءته، فإذا جاءنا فاسق منحرف في دينه ومروءته بمعنى أنه مصر على المعاصي تارك للواجبات، لكنه لم يصل إلى حد

الكفر، أو منحرف في مروءته لا يبالي بنفسه يمشي بين الناس مشية الهوجاء، ويتحدث برفع صوت، ويأتي معه بأغراض بيته، يطوف بها في الأسواق وما أشبه ذلك مما يخالف المروءة، فهذا عند العلماء ليس بعدل. {إن جاءكم فاسق بنبإ} أي جاءكم بخبر من الأخبار، وهو فاسق، مثال ذلك: جاءنا رجل حالق للحيته، وحالق اللحية فاسق، لأنه مصر على معصية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أعفوا اللحى» (¬1) . وهذا لم يعف لحيته، بل حلقها، فهذا الرجل من الفاسقين؛ لأنه مصر على معصية، جاءنا بخبر فلا نقبله لما عنده من الفسق، ولا نرده لاحتمال أن يكون صادقاً، ولهذا قال الله - عز وجل -: {فتبينوا} ولم يقل فردوه، ولم يقل فاقبلوه، بل يجب علينا أن نتبين، وفي قراءة (فتثبتوا) وهما بمعنى متقارب، والمعنى: أن نتثبت. فإذا قال قائل: إذن لا فائدة من خبره. قلنا: لا بل في خبره فائدة، وهو أنه يحرك النفس حتى نسأل ونبحث؛ لأنه لولا خبره ما حركنا ساكناً، لكن لما جاء بالخبر نقول: لعله كان صادقاً، فنتحرك ونسأل ونبحث، فإن شهد له الواقع بالحق قبلناه لوجود القرينة الدالة على صدقه، وإلا رددناه، وقوله - سبحانه وتعالى -: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} يفيد أنه إن جاءنا عدل فإننا نقبل الخبر، لكن هذا فيه عند العلماء ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب إعفاء اللحى (5893) ، ومسلم، كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة (259) .

تفصيل، دل عليه القرآن والسنة، فمثلاً الشهادة بالزنا: لو جاءنا رجل عدل في دينه، مستقيم في مروءته، وشهد أن فلاناً زنا فلا نقبل شهادته، وإن كان عدلاً، بل نجلده ثمانين جلدة؛ لأنه قذف هذا الرجل البريء بالزنا، وقد قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً} ، فنجلده ثمانين جلدة ولا نقبل له شهادة أبداً، ونحكم بأنه فاسق، وإن كان عدلاً حتى يتوب، وإذا شهد رجلان عدلان على زيد أنه زنا فلا نقبل شهادتهما، ولا ثلاثة، فإذا كانوا أربعة عدول فنعم؛ لأن الله تعالى قال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون} . وقال تعالى: {لولا جاءو عليه بأربعة شهداء} {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} حتى وإن كانوا صادقين، فلو جاءنا ثلاثة نعرف أنهم ثقات عدول وشهدوا بالزنا على شخص فهم عند الله كاذبون غير مقبولين، نجلد كل واحد ثمانين جلدة، وإذا جاءنا رجل شهد على شخص بأنه سرق فلا نقبل شهادته، بل لابد من رجلين، وإذا جاءنا رجل شهد بأنه رأى هلال رمضان فنقبل شهادته، لأن السنة وردت بذلك، فقد قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: تراءى الناس الهلال - يعني ليلة الثلاثين من شعبان - فرأيته فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصامه، وأمر الناس بالصيام (¬1) ، وإذا كان رجل غنيًّا ثم أصيب بجائحة ثم جاء يسأل الزكاة، وأتى بشاهد أنه ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الصوم، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2342) .

كان غنيًّا وأصابته جائحة وافتقر فلا نقبل شهادة الواحد، ولا نقبل شهادة اثنين، بل لابد من ثلاثة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة: «إنها لا تحل المسألة» وذكر منها رجل أصابته جائحة - يعني اجتاحت ماله - فشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: إن فلاناً قد أصابته جائحة فحلت له المسألة (¬1) (ثلاثة من ذوي الحجا) يعني من ذوي العقل، وكذلك نقبل رجلاً مع يمين المدعي كما لو ادعى شخص على آخر بأنه يطلبه ألف ريال، فقلنا للمدعي: هات بينة، قال: عندي رجل واحد، فإذا أتى برجل واحد وحلف معه، حكمنا له بما ادعاه وهناك أشياء أيضاً لا يتسع المجال لذكرها، وعلى هذا فخبر العدل فيه تفصيل على ما تقدم وخبر الفاسق يتوقف فيه حتى يتبين الأمر، ثم بين الله - عز وجل - الحكمة من كوننا نتبين بخبر الفاسق فقال: {أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} يعني أمرناكم أن تتثبتوا كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة؛ لأن الإنسان إذا تسرع ولم يتثبت فقد يعتدي على غيره بناءً على الخبر الذي سمعه من الفاسق، وقد يكرهه، وقد يتحدث فيه في المجالس، فيصبح بعد أن يتبين أن خبر الفاسق كذب نادماً على ما جرى منه، وفي هذه الآية دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما ينقل من الأخبار ولا سيما مع الهوى والتعصب، فإذا جاءك خبر عن شخص وأنت لم تثق بقول المخبر فيجب أن تتثبت، وألا تتسرع في الحكم؛ لأنك ربما تتسرع وتبني على هذا الخبر الكاذب فتندم فيما بعد، ومن ثم جاء التحذير من النميمة، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة (1044) .

وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا يدخل الجنة قتَّات» (¬1) أي نمَّام، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين يُعذبان، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير» - أي في أمر شاق عليهما - «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول» ، أو لا يستبرىء أو لا يستنزه من البول «وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» يمشي بين الناس ينمّ الحديث إلى الآخرين ليفسد بين الناس، ثم أخذ جريدة رطبة فشقَّها نصفين وغرز في كل قبر واحدة فقالوا: يا رسول الله، لمَ فعلت هذا؟ قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» (¬2) . ومن هذا النوع ما ينسب إلى بعض العلماء من الفتاوى التي لم يتكلم بها إطلاقاً، أو تكلم ولكن فُهِمَ ما ينقل عنه خطأ، فإن بعض الناس قد يفهم من العالِم كلمة على غير مراد العالِم بها، وقد يسأل العالِم سؤالاً يتصوره العالم على غير ما في نفس هذا السائل، ثم يجيب على حسب ما فهمه، ثم يأتي هذا الرجل وينشر هذا القول الذي ليس بصحيح، وكم من أقوال نسبت إلى علماء أجلاء، لم يكن لها أصل؛ لهذا يجب التثبُّت فيما يُنقل عن العلماء أو غير العلماء، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الأهواء، وكثر فيه التعصب، وصار الناس كأنهم يمشون في عمى. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة (6056) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة (105) (169) .. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله (216) ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه (292)

قول الله - تبارك وتعالى -: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإِيمان وزينه في قلوبكم} هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله} وسبب ما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه عن قوم ما ليس فيهم، فأمر الله تعالى بالتأكد من الأخبار إذا جاء بها من لا تُعرف عدالته، وكأن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعاقب هؤلاء الذين بلغه عنهم ما بلغه (¬1) ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل بعد أن نزلت عليه الآية: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} ولكن العبرة بعموم اللفظ وقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم} أي لشق عليكم ما تطلبونه من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا له أمثلة كثيرة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه في رمضان يصلي بهم صلاة القيام فانصرفوا وقد بقي من الليل ما بقي، وقالوا: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا - يعني طلبوا منه أن يقوم بهم كل الليل - ولكنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة» (¬2) ولم يوافقهم على طلبهم، لما في ذلك من العنت والمشقة، ومنها أن نفراً من أصحاب النبي صلى ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير (سورة الحجرات) . (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب شهر رمضان، باب في قيام شهر رمضان (1375) والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان (806) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب قيام شهر رمضان (1327)

الله عليه وعلى آله وسلم بحثوا عن أمره في السر - يعني فيما لا يظهر للناس - وهو العمل الذي يفعله في بيته من العبادات فكأنهم تقالُّوها فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأما هم فلم يكن لهم ذلك، فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1) فحذرهم أن يعملوا عملاً يشق عليهم، ومن ذلك أيضاً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه وعن أبيه - أنه بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله: إنه ليصومن النهار، وليقومن الليل ما عاش، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنت قلت هذا؟» قال: نعم، قال: «إنك لا تطيق ذلك» (¬2) ثم أرشده لما هو أفضل وأهون، والحاصل أنه يوجد من الصحابة - رضي الله عنهم - من له همَّة عالية لكن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يطيعهم في كثير من الأمر؛ لأن ذلك يشق عليهم لو أنه أطاعهم، ثم قال عز وجل: {ولكن الله حبب إليكم الإِيمان} ، قد يقول قائل: ما هو ارتباط قوله: {ولكن الله حبب إليكم الإِيمان} بقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأَمر لعنتم} ؟. والجواب: أنكم تطيعونه - أي الرسول عليه الصلاة ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (5063) ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه ... (1401) .. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم الدهر (1976) ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقًّا ... (1159) .

والسلام - فيما يخالفكم فيه؛ لأن الله حبَّب إليكم الإيمان فتقدمون طاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يخالفكم فيه؛ لأن الله حبَّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم، وهذا استدراك من أبلغ ما يكون من الاستدراك، يعني: ولكن إذا خالفكم النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأمر الذي تريدونه فإنكم لن تكرهوا ذلك، ولن تخالفوه، ولن تحملوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بسببه، {ولكن الله حبب إليكم الإِيمان} - أي جعله محبوباً في قلوبكم - {وزينه في قلوبكم} بحيث لا تتركونه بعد أن تقوموا به - وذلك أن فعل الإنسان الشيء للمحبة قد يكون محبة عارضة، لكن إذا زُيّن له الشيء ثبت في المحبة ودامت، ولهذا قال: {حبب إليكم الإِيمان} وهذا في القلب، {وزينه في قلوبكم} أيضاً في القلب، لكن إذا زين الشيء المحبوب للإنسان فإنه يستمر عليه ويثبت عليه {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} كرّه إليكم الكفر الذي هو مقابل الإيمان، والفسوق الذي هو مقابل الاستقامة، والعصيان الذي هو مقابل الإذعان، وهذا تدرج من الأعلى إلى ما دون: فالكفر أعظم من الفسق، والفسق أعظم من العصيان، فالكفر هو الخروج من الإسلام بالكلية، وله أسباب معروفة في كتب أهل العلم ذكرها الفقهاء - رحمهم الله - في باب أحكام المرتد، وأما الفسق فهو دون الكفر، لكنه فعل كبيرة، مثل أن يفعل الإنسان كبيرة من الكبائر ولم يتب منها، كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، وما أشبه ذلك، والعصيان: هو الصغائر التي تكفَّر بالأعمال الصالحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان،

مكفِّرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» (¬1) . {أولئك هم الراشدون} . أولئك: المشار إليه من حبب الله إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان {هم الراشدون} يعني الذين سلكوا طريق الرشد، والرشد في الأصل: حسن التصرف، وهو في كل موضع بحسبه، فالرشد في المال أن يحسن الإنسان التصرف فيه، ولا يبذله في غير فائدة، والرشد في الدين: هو الاستقامة على دين الله - عز وجل - فهؤلاء الذين حبَّب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون، وهنا تجد هذه الأفعال كلها مضافة إلى الله، ولهذا قال بعدها: {فضلاً من الله} يعني أن الله أفضل عليكم فضلاً أي تفضُّلاً منه، وليس بكسبكم، ولكنه من الله - عز وجل - ولكي يُعلم أنّ الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يجعل الإيمان في الشخص، فمن علم الله منه حُسن النية، وحُسن القصد والإخلاص حبَّب إليه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ومن لم يعلم الله منه ذلك فإنَّ الله تعالى يقول: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ويقول الله - عز وجل -: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} فالذنوب سبب للمخالفة والعصيان، فهؤلاء الذين تفضَّل الله عليهم وأنعم عليهم نعمة الدين هم الذين وُفقوا للحق، قال الله - عز وجل -: {فضلاً من الله ونعمةً} يعني إنعاماً ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ... (233) (16) .

منه عليهم، والنعمة نعمتان: نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخرة، فنعمة الدنيا متصلة بنعمة الآخرة في حقهم. وأما الكفار فهم منعَّمون في الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين} أي تنعُّم، فهؤلاء الكفار عليهم نعمة في الدنيا، لكن في الآخرة عليهم العذاب واللعنة والعياذ بالله، أما المؤمن فإنه يحصل على النعمتين جميعاً، على نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخرة، حتى وإن كان فقيراً أو مريضاً أو عقيماً، أو لا نسب له، فإنه في نعمة، لقول الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} . وخلاصة الكلام في النعمة، أن هناك نعمتين: نعمة عامة لجميع الخلق، الكافر والمؤمن، والفاسق والمطيع، ونعمة خاصة للمؤمن، وهذه النعمة الخاصة تتصل بنعمة الدين والدنيا، وأما الأولى فإنها خاصة بنعمة الدنيا فقط لتقوم على الكفار الحجة {والله عليم حكيم} هذان إسمان من أسماء الله يقرن الله بينهما دائماً: العلم والحكمة، عليم بكل شيء، قال الله تعالى: {لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما} . وقال تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأَرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأى أرض تموت} . وقال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأَرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} . وقال تعالى: {إن الله لا

يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء} . فعلم الله تعالى محيط بكل شيء، والإنسان إذا علم أن الله محيط بكل شيء حتى ما يضمره في قلبه، فإنه يخاف ويرهب ويهرب من الله إليه - عز وجل - ولا يقول قولاً يغضب الله، ولا يفعل فعلاً يغضب الله، ولا يضمر عقيدة تُغضب الله؛ لأنه يعلم أن الله - سبحانه وتعالى - يعلم ذلك، لا يخفى عليه، وأما الحكيم فهو ذو الحكمة البالغة، والحكمة هي أن جميع ما يحكم به جل وعلا موافق ومطابق للمصالح، ما من شيء يحكم الله به إلا وهو حكمة عظيمة، قال الله تبارك وتعالى: {حكمة بالغة فما تغنى النذر} . وقال تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} . وقال تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} . فمعنى الحكيم، أي ذو الحكمة البالغة، وله معنى آخر وهو: ذو الحكم التام، فإن الله تعالى له الحكم، كما قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} . وقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأَخر} ولا أحد يحكم بهواه {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأَرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} {وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} طائفتان مفردها طائفة، وهي الجماعة من الناس، وقوله: {اقتتلوا} جمع، وإنما جمع لأن الطائفة تشتمل على أفراد كثيرين، فلذلك صح أن يعود

الضمير على مثنى؛ مراعاة للمعنى، وإلا لكان مقتضى اللغة أن يقول: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلا) ، ليطابق الضمير مرجعه لكنه عاد إليه بالمعنى. والاقتتال بين المؤمنين له أسباب متعددة، والشيطان قد يئس أن يُعبد في جزيرة العرب، ولكنه رضي في التحريش بينهم (¬1) ، يحرش بينهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، فإذا حصل الاقتتال فالواجب على المؤمنين الآخرين الصلح بينهما، ولهذا قال: {فأصلحوا بينهما} ، أي اسعوا إلى الصلح بكل وسيلة حتى ولو كان ببذل المال، والتنازل عن الحق لأحدهما عن الآخر؛ لأن الصلح لابد فيه من أن يتنازل أحد الطرفين عما يريد من كمال حقه، وإلا لما تم الصلح، ولهذا لما قال الله تعالى: {والصلح خير} وقال: {وأحضرت الأنفس الشح} . لأن كل إنسان يريد أن يتم قوله فلابد من التنازل، فإذا أصلحنا بينهما ثم حصل بغي قال الله عز وجل: {فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التى تبغى} يعني لو فرض أنه بعد الصلح عادت إحدى الطائفتين تقاتل الأخرى فهنا لا صلح، بل نقاتل التي تبغي {حتى تفيء إلى أمر الله} أي ترجع إليه، وأمر الله يعني دينه وشرعه، فانظر في أول الأمر الإصلاح، فإذا تم الصلح وبغت إحداهما على الأخرى، وجب أن نساعد المبغي عليها، فنقاتل معها {فإن فاءت} فإنه يجب الكف عن قتالهم، ولا يجوز أن نجهز على جريح، ولا أن نتبع مدبراً، ولا أن نسلب مالاً ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس ... (2812) .

ولا أن نسبي ذرية، لأن هؤلاء مؤمنون، {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} أي: فإن فاءت إلى أمر الله بعد أن قاتلناها ورجعت ووضعت الحرب، وجب أن نصلح بينهما بالعدل، وهذا غير الإصلاح الأول، الإصلاح الأول لوقف القتال، وهذا الإصلاح بالتقدير فننظر ماذا تلف على كل طائفة، ثم نسوي بينهما، فمثلاً إذا كانت إحدى الطائفتين أتلفت على الأخرى ما قيمته مليون ريال، والثانية أتلفت على الأخرى ما قيمته مليون ريال، فحينئذ تعادل الطائفتان، فإن كانت إحداهما أتلفت على الأخرى ما قيمته ثمانمائة ألف ريال، والأخرى أتلفت ما قيمته مليون فالفرق مائتا ألف ريال تحملها على الأخرى التي أتلفت ما قيمته مليون، ولهذا قال: {فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} أي يحب العادلين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المقسطين على منابر من نور عن يمين الله عز وجل، الذين يعدلون في أهليهم، وما ولوا (¬1) من أمور المسلمين، ثم قال - عز وجل -: {إنما المؤمنون إخوة} هذا كالتعليل لقوله: {فأصلحوا بينهما} يعني إنما أوجب الله علينا الإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين؛ لأن المؤمنين إخوة. الطائفتان المقتتلتان هما أخوان، ونحن أيضاً إخوة لهم حتى مع القتال. فإذا قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (¬2) والكافر ليس أخاً للمؤمن؟ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر ... (1827) .. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر (48) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (64) .

فالجواب أن يقال: إن الكفر الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام هو كفر دون كفر، فليس كل ما أطلق الشرع عليه أنه كفر يكون كفراً، فهنا صرح الله - عز وجل - بأن هاتين الطائفتين المقتتلتين إخوة لنا مع أن قتال المؤمن كفر. فيقال: هذا كفر دون كفر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت» (¬1) ومعلوم أن الطاعن في النسب والنائح على الميت لا يكفر كفراً أكبر، فدل ذلك على أن الكفر في شريعة الله في الكتاب وفي السنة كفران: كفر مخرج عن الملة، وكفر لا يخرج عن الملة {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} وفي هذا من الحمل على العطف على هاتين الطائفتين المقتتلتين ما هو ظاهر في قوله: {فأصلحوا بين أخويكم} كما أنك تصلح بين أخويك الأشقاء من النسب، فأصلح بين أخويك في الإيمان {واتقوا الله لعلكم ترحمون} يعني اتقوا الله تعالى بأن تفعلوا ما أمركم به وتتركوا ما نهاكم عنه؛ لأنكم إذا قمتم بهذا فقد اتخذتم وقاية من عذاب الله، وهذه هي التقوى، وعلى هذا كلما سمعت كلمة تقوى في القرآن فالمعنى أنها اتخاذ الوقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه {لعلكم ترحمون} أي ليرحمكم الله - عز وجل - إذا اتقيتموه. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة (67) .

ثم قال الله - عز وجل - في جملة ما بيّن لعباده من الآداب والأخلاق الفاضلة: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن} . السخرية: هي الاستهزاء والازدراء، ومن المعلوم أن الله تعالى جعل الناس في هذه الحياة الدنيا طبقات، فقال الله تبارك وتعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} أي ليسخِّر بعضهم بعضاً في المصالح، وليس المراد هنا الاستهزاء، وقال الله تبارك وتعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللأَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} إذا ثبت هذا التفضيل بين الناس فهم يتفاضلون في العلم، فبعضهم أعلم من بعض في علوم الشريعة، وعلوم الوسيلة إلى علوم الشريعة كعلوم اللغة العربية من النحو والبلاغة وغيرها، وهم يتفاضلون في الرزق، فمنهم من بسط له في رزقه، ومنهم من قَدَرَ عليه في رزقه، وهم يتفاضلون في الأخلاق، فمنهم ذوو الأخلاق الفاضلة العالية، ومنهم دون ذلك، وهم يتفاضلون في الخلقة، منهم السوي الخلقة، ومنهم من دون ذلك، ويتفاضلون كذلك في الحسب، منهم من هو ذو حسب ونسب، ومنهم دون ذلك، فهل يجوز لأحد أن يسخر ممن دونه؟ يقول الله - عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} فيخاطبنا - جل وعلا - بوصف الإيمان، وينهانا أن يسخر بعضنا من بعض؛ لأن المفضِّل هو الله - عز وجل - وإذا كان هو الله لزم من سخريتك بهذا الشخص الذي هو دونك أن تكون ساخراً بتقدير الله - عز وجل -

وإلى هذا يوحي قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» (¬1) . وفي الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار» (¬2) . فلماذا تسخر من هذا الرجل الذي هو دونك في العلم أو في المال، أو في الخُلُق، أو في الخلقة، أو في الحسب، أو في النسب، لماذا تسخر منه؟ أليس الذي أعطاك الفضل هو الله الذي حرمه هذا - في تصورك - فلماذا، ولهذا قال - عز وجل -: {عسى أن يكونوا خيراً منهم} رب ساخر اليوم مسخور منه في الغد، ورب مفضول اليوم يكون فاضلاً في الغد، وهذا شيء مشاهد، وفي بعض الآثار يروى: «من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» (¬3) . وفي الآثار أيضاً: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك» (¬4) . إذن يجب على الإنسان أن يتأدب بما أدبه الله به، فلا يسخر من غيره عسى أن يكون خيراً منه، {ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن} ونص على النساء والرجال بالتفصيل، حتى لا يقول أحد: إن هذا خاص بالرجال، لو ذكر الرجال وحدهم، أو خاص ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (2246) (5) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {وما يهلكنا إلا الدهر} الآية (4826) ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر (2246) . (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب رقم 53 (2505) وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل. وقال الألباني في ضعيف الجامع: موضوع (5710) . (¬4) أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب رقم 54 (2506) وقال: هذا حديث حسن غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6245) .

بالنساء وحدهن، وبهذا نعرف الفرق بين القوم والنساء. إذا جمع بين القوم والنساء فالقوم هم الرجال والنساء هن الإناث، وإن ذكر القوم وحدهم شمل الرجال والنساء، مثل ما يذكر في الرسل عليهم الصلاة والسلام أنهم أرسلوا إلى قومهم فهو يشمل الذكور والإناث، لكن إذا ذكر القوم والنساء صار النساء هن الإناث، والقوم هم الذكور. وهذا الأدب عام لجميع الأمة، ويجب على كل طالب علم أن يكون أول من يمتثل أمر الله - عز وجل - ويجتنب نهيه؛ لأنه مسؤول عن ذلك من وجهين: الوجه الأول: أنه كغيره من المكلفين. والثاني: أن طالب العلم قدوة، أي عمل يعمله فسوف يقتدي به الناس، ويحتجون به، فإذا كان طالب العلم هو الذي يسخر من العلماء أو من دون العلماء فهذه بلية في الواقع، فالواجب على الإنسان إذا خالف غيره أن يلتمس له العذر، ثم يتصل بهذا المخالف ويبحث معه، فربما يكون الحق مع من خالفه ويناقشه بأدب واحترام وهدوء، حتى يتبين الحق، وأما سخريته بما خالف رأيه أو رأي شيخه فهذا غلط، وكل إنسان يخالفك في قولك فإن الواجب عليك أن تحمله على أحسن المحامل وأن هذا اجتهاده، وأن الله - عز وجل - سيأجره على اجتهاده إذا أخطأ، وإن أصاب فله أجران، ثم تتصل به وتناقشه، ولا تستحي، فربما تبين أن الحق معك فتكون لك منة على هذا الرجل، وربما يتبين لك أن الحق معه فيكون له منة عليك، وأما السخرية فهذا ليس من

آداب طالب العلم، بل ولا من آداب المؤمن مع أخيه. {ولا تلمزوا أنفسكم} اللمز: العيب، بأن تقول: فلان بليد، فلان طويل، فلان قصير، فلان أسود، فلان أحمر، وما أشبه ذلك مما يعد عيباً، وقوله: {ولا تلمزوا أنفسكم} فسَّر بمعنيين: المعنى الأول: لا يلمز بعضكم بعضاً، لأن كل واحد منا بمنزلة نفس الإنسان، أخوك بمنزلة نفسك، فإذا لمزته فكأنما لمزت نفسك. والمعنى الثاني: إن المعنى لا تلمز أخاك، لأنك إذا لمزته لمزك، فلمزك إياه سبب لكونه يلمزك، وحينئذ تكون كأنك لمزت نفسك، وعليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من لعن والديه» فقالوا: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه» (¬1) وعلى كل حال في الآية تحريم عيب المؤمنين بعضهم بعضاً، فلا يجوز لك أن تعيب أخاك بصفة خَلْقية أو صفة خُلُقية، أما الصفة الخَلْقية التي تعود إلى الخلقة فإن عيبك إياه في الحقيقة عيب لخالقه - عز وجل - فالذي خلق الإنسان هو الله عز وجل، والذي جعله على هذه الصفة هو الله عز وجل، والإنسان لا يمكن أن يكمل خِلقته فيكون الطويل قصيراً، أو القصير طويلاً، أو القبيح جميلاً، أو الجميل قبيحاً؟ فأنت إذا لمزت إنساناً وعبته في خلقته فقد عبت الخالق في الواقع، ولهذا لو وجدنا جداراً مبنيًّا مائلاً وعبنا الجدار فعيبنا لباني الجدار، إذن إذا عبت إنساناً في خلقته فكأنما عبت الخالق - عز وجل - ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها (90) .

فالمسألة خطيرة، أما عيبه بالخُلُق بأن يكون هذا الرجل سريع الغضب، شديد الانتقام، بذيء اللسان، فلا تعبه؛ لأنه ربما إذا عبته ابتلاك الله بنفس العيب، ولهذا جاء في الأثر: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك» (¬1) لكن إذا وجدت فيه سوء خُلُق فالواجب النصيحة، أن تتصل به إن كان يمكن الاتصال به، وتبين له ما كان به من عيب، أو أن تكتب له كتاباً: رسالة باسمك أو باسم ناصح مثلاً، {ولا تنابزوا بالأَلقاب} يعني لا ينبز بعضكم بعضاً باللقب، فتقول له مثلاً: يا فاسق، يا فاجر، يا كافر، يا شارب الخمر، يا سارق، يا زاني، لا تفعل هذا؛ لأنك إذا نبزته باللقب فإما أن يكون اللقب فيه، وإما أن لا يكون فيه، فإن كان فيه فقد ارتكبت هذا النهي، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه وارتكبت النهي أيضاً، ثم قال - عز وجل -: {بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان} يعني بئس لكم أن تنقلوا من وصف الإيمان إلى وصف الفسوق، فإذا ارتكبتم ما نهى الله عنه صرتم فسقة، فالإنسان إذا ارتكب كبيرة واحدة من الكبائر صار فاسقاً، وإذا ارتكب صغيرة وكررها وأصرّ عليها صار فاسقاً، فلا تجعل نفسك بعد الإيمان وكمال الإيمان فاسقاً، هذا معنى قوله: {بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان} لأن هذه الجملة جملة إنشائية تفيد الذم، وما أفاد الذم فإنه منهي عنه بلا شك، فاستفدنا من هذه الآية الكريمة تحريم السخرية، وتحريم لمز الغير، وتحريم التنابز بالألقاب، وأن من صنع ذلك فهو فاسق بعد أن كان مؤمناً، والفسق ليس وصفاً على اللسان فقط، بل ¬

(¬1) تقدم تخريجه ص (38) ..

يترتب عليه أحكام، فمثلاً قال العلماء: الفاسق لا يصح أن يكون وليًّا على ابنته، فيزوجها من يصح أن يكون وليًّا من أقاربها، فإن لم يكن لها أقارب أو خافوا من أبيها إن زوَّجها فيزوِّجها القاضي، والفاسق لا تقبل شهادته؛ لأن الله تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} فيشهد عند القاضي بحق، فيقول القاضي: لا نقبلك؛ لأنك فاسق، والفاسق لا يصلح أن يكون إماماً بالناس في الصلاة، والفاسق الذي يظهر فسقه لا يصح أذانه، كل هذا قال به العلماء رحمهم الله، وإن كان في بعض هذه المسائل خلاف، لكني أقول: إن كلمة فاسق ليست بالأمر الهين حتى يقولها الإنسان {بئس الاسم} ولهذا ذمه الله، فقال: {بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} يعني من كان يفعل هذه الأشياء الثلاثة، ولم يتب فأولئك هم الظالمون، فالذي لا يتوب يكون ظالماً، والظلم كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - «ظلمات يوم القيامة» (¬1) ، وإذا كان المؤمنون يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، فهؤلاء الظلمة ليس لهم نور، فيجب الحذر مما نهى الله - عز وجل - لأنك أيها العبد، عبد لله تأتمر بأمره، وتنتهي عن نهيه. فإن قال قائل: ما معنى التوبة؟ فنقول: التوبة من العبد أن ينتقل من معصية الله إلى طاعته، والتوبة من الله أن يقبل الله من العبد فيبدل سيئاته حسنات. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب المظالم، باب الظلم ظلمات يوم القيامة (2447) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2579) .

قال الله تبارك وتعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله} إلى أن قال: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} ، وقد تطلق التوبة من الله على توفيقه العبد إلى التوبة، فلله تعالى على العبد توبتان: توبة بمعنى التوفيق للتوبة، وتوبة بمعنى قبول التوبة. والدليل على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأَرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم} . {ثم تاب عليهم ليتوبوا} أي وفقهم للتوبة فتابوا، أما التوبة الأخرى وهي قبول توبة العبد، فمثل قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات} وتوبة العبد تحتاج إلى شروط، إذ ليس كل توبة مقبولة، وليس كل من قال: أنا تائب إلى الله يكون تائباً، بل لابد من شروط: الشرط الأول: أن يخلص لله تعالى في التوبة، أي لا يحمله على التوبة أنه خائف من أبيه، أو خائف من أخيه الأكبر، أو خائف من السلطات، أو تاب لأجل أن يقال: فلان مستقيم، والإخلاص لله في التوبة أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضى الله - عز وجل - والوصول إلى كرامته، والإخلاص شرط في كل عبادة. الشرط الثاني: الندم على ما فعل، ومعنى يندم أي: يتحسر، ويتكدر أنه وقع منه هذا الشيء. ويخجل من الله عز وجل. الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب في الحال. وذلك بأن

يأتي بالواجب إن أمكن تداركه، أو بدله إذا لم يكن تداركه، وأن يقلع عن المحرم إذا كان الذنب فعلاً محرماً، فإذا كان الذنب في حق الإنسان بأن يكون شخص سرق من إنسان مالاً، والسرقة حرام، وتاب الرجل وندم وعزم على ألا يعود، فلابد أن يوصل هذا المال إلى صاحبه، ولا يمكن أن تتم التوبة إلا بهذا، فإذا قال: أخشى إن ذهبت إلى هذا الرجل وأعطيته المال أن يترتب على ذلك ضرر عليَّ، وعلى سمعتي، وربما أُحبس، وربما يدعي أن المبلغ المسروق أكثر، وأنا قد تبت إلى الله قبل أن يقدر عليَّ فكيف تكون الحال؟ فهل يجوز أن يتصدق به عن صاحبه؟ والجواب: لا يجوز، لأن صاحبه معلوم، أما لو كان مجهولاً كما لو سرق من أناس نسيهم أو جهلهم ولا يدري أين هم، فهنا يتصدق بما سرق عنهم، لكن إذا كان معلوماً لابد أن يوصله، ويمكن أن يعطي شخصاً يثق به، ويقول: يا فلان، إني سرقت هذا المال من فلان، وقد ندمت وتبت إلى الله، ومن فضلك أعطه إياه، وقل له: هذه دراهم من إنسان تستحقها عليه، وهو الآن يبذلها، ولكن لابد أن يكون هذا الرجل الذي وكله أن يوصل الدراهم موثوقاً عند صاحب المال وأميناً لأنه لو لم يكن موثوقاً لاتهمه صاحب المال، وقال: أنت السارق والمسروق أكثر، فلابد أن يكون ثقة، وإذا لم يمكن فيمكن أن ترسل بالبريد، ويقال: هذه دراهم من شخص تستحقها عليه، وفي هذه الحال من المعلوم أنك لن تكتب اسمك، وأيضاً يحسن أن لا تكتبها بقلمك، لأنه ربما يمر عليه ويعرف خطك يوماً من الدهر، هذا إذا

كان الحق مالياً، أما إذا كان الحق غير مالي، مثل أن يكون شخص اغتبته، في مجلس أو مجالس، فكيف تكون التوبة من هذا؟ قال كثير من العلماء: لابد أن تذهب إليه، وتستحله، وإلا فسيأخذ من حسناتك يوم القيامة، فاذهب إليه وقل له: يا فلان سامحني. وقال بعض العلماء: لا يجب أن تستحله، وإنما تستغفر له وتثني عليه في المجالس التي كنت تغتابه فيها، والحسنات يذهبن السيئات، وقد جاء في الحديث: «كفارة من اغتبته أن تستغفر له» (¬1) . القول الثالث: وهو قول وسط، ولعله الصواب: إن كان صاحبك الذي اغتبته قد علم بذلك فلابد من أن تذهب إليه وتستحله، لأنه لن يزول ما في قلبه حتى تستحله، أما إذا لم يعلم فيكفي أن تستغفر له، وأن تثني عليه في المجالس التي كنت تغتابه فيها، والله غفور رحيم، وينبغي لمن جاء إليه أخوه يعتذر منه أن يسامحه، ولا ينبغي أن يناقش ويرى ما الذي حصل، لأنه ربما يذكر شيئاً كبيراً فتعجز نفس صاحبه عن أن يحلله، لأن النفس أمارة بالسوء، فالأولى أن لا يسأل، وأن يحتسب الأجر من الله، ويقول: هذا جاء معتذراً، ومن عفا فأجره على الله، ويرجى في المستقبل أن تعود هذه الغيبة ثناء حسناً، وهذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهو الحق، وهو أنه إن كان ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (رقم 293) ، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (6786) والخطيب البغدادي في تاريخه (7/303) .

عالماً فلابد أن تستحله حتى يزول ما في قلبه، وإن كان غير عالم فلا حاجة إلى استحلاله، هذا بالنسبة للذي اغتاب غيره، أما الذي اغتيب وطُلب منه السماح فالذي نرى أن الأفضل والأكمل أن يحلله، لأنه أخوه جاءه معتذراً نادماً فليحلله. وثقوا أنه إذا حلله ستكون كبيرة وعظيمة على الشخص الذي استحله، سيرى أنه أهدى إليه أكبر هدية، فتنقلب الكراهية التي كانت من قبل إلى محبة وألفة، وهذا هو المطلوب من المسلمين أن يكون بعضهم لبعض إلفاً محبًّا وادًّا. الشرط الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل، أي يكون في نفسه نية عازمة جازمة أن لا يعود لهذا الذنب في المستقبل، فإن تاب وهو يقول: ربما أنه يطرأ علي أن أفعل الذنب، فهذا التائب لا تصح توبته، لأنه لابد أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل. الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت قبولها، لأنه يأتي وقت يسد باب التوبة، ولا تقبل من الإنسان، والباب الذي يغلق عن التائبين عام وخاص، أما العام: فهو طلوع الشمس من مغربها، فسيأتي زمن تخرج الشمس من المغرب، والذي يردها الله - عز وجل - لو اجتمعت الخلائق كلها على أن تردها ما ردتها، لكن يردها الله - عز وجل - الذي أمره {إذآ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ترجع هذه الشمس العظيمة إذا غربت من مغربها، وإذا طلعت الشمس من مغربها آمن كل من على الأرض، اليهودي، والنصراني، والبوذي، والشيوعي، وغيرهم كلهم

يؤمنون؛ لأنهم يرون شيئاً واضحاً في الدلالة على الرب - عز وجل - لكن لا ينفعهم الإيمان، لقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} ، وفسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك} أنه خروج الشمس من مغربها (¬1) وحينئذ لا تنفع التوبة، مع أن الناس كلهم يؤمنون، لكن لا تنفع، لأنه انسد الباب، وإذا سُدَّ كيف يدخل الناس؟ أما الخاص فهو أن يحضر الإنسان أجله، فإذا حضر الإنسان الأجل فلا تنفع التوبة، لقول الله تبارك وتعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الأَن} ، وإني أسأل هل أحد منا يعلم متى يموت؟! أبداً، ربما يموت الإنسان وهو على مكتبه، أو وهو على فراشه، أو وهو في صلاته، في أي لحظة، وإذا كنا نعلم هذا ونوقن به، فالواجب أن نبادر بالتوبة لئلا يفجأنا الموت، فينسد الباب، ولهذا كانت التوبة مما يجب على الفور، فلنبادر بالتوبة إلى الله - عز وجل - {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الأَن} ، هذا الخبر من الله - عز وجل - له أمر واقع يدل عليه لما أغرق الله تعالى فرعون وقومه، قال فرعون حين أدركه الغرق: {آمنت أنه لآ إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرءيل} يعني ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى ... (رقم 2941) .

الله - عز وجل - {وأنا من المسلمين} فقيل له: {ءالئن} أي: الآن تتوب؟ لماذا لم تتب قبل؟ {ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} فلم تقبل توبته - والعياذ بالله - وإذا تاب العبد فإن الله يفرح بهذا فرحاً عظيماً لا يتصوره إنسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم» أو قال «بتوبة عبده من أحدكم براحلته» الراحلة هي البعير «كان عليها طعامه وشرابه فأضلها» يعني ضاعت عنه «فطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت» ضعفت قواه وخارت واضطجع ينتظر الموت «فبينما هو كذلك إذا بناقته متعلقاً زمامها بالشجرة فأخذ الزمام فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك» يريد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك لكنه «أخطأ من شدة الفرح» (¬1) وهل تجدون فرحاً أعظم من هذا؟ لا، لأنه لا فرح أشد من حياة بعد الإشراف على الموت، فالرب - عز وجل - يفرح بتوبة أحدنا أشد من فرحة هذا الرجل بناقته. {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً} . تصدير الخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا} يدل على العناية به، ولهذا روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: إذا سمعت الله يقول {يا أيها الذين آمنوا} فارعها سمعك: فإما خير تؤمر به، وإما شر تُنهى عنه. ويعني: وإما خير تحصل به العبرة والاتعاظ، كما قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأُولى الأَلباب} وهنا يقول - عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب التوبة (6308) ومسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (2744) ..

اجتنبوا كثيراً من الظن} ، الظن: هو أن يكون لدى الإنسان احتمالان يترجح أحدهما على الآخر، وهنا عبر الله تعالى بقوله: {كثيراً من الظن} ولم يقل: اجتنبوا الظن كله، لأن الظن ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ظن خير بالإنسان، وهذا مطلوب أن تظن بإخوانك خيراً ماداموا أهلاً لذلك، وهو المسلم الذي ظاهره العدالة، فإن هذا يُظن به خيراً، ويُثنى عليه بما ظهر لنا من إسلامه وأعماله. القسم الثاني: ظن السوء، وهذا يحرم بالنسبة لمسلم ظاهره العدالة، فإنه لا يحل أن يظن به ظن السوء، كما صرح بذلك العلماء، فقالوا - رحمهم الله -: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة. أما ظن السوء بمن قامت القرينة على أنه أهل لذلك، فهذا لا حرج على الإنسان أن يظن السوء به، ولهذا من الأمثال المضروبة السائرة: (احترسوا من الناس بسوء الظن) ، ولكن هذا ليس على إطلاقه، كما هو معلوم، وإنما المراد: احترسوا من الناس الذين هم أهل لظن السوء فلا تثقوا بهم، والإنسان لابد أن يقع في قلبه شيء من الظن بأحد من الناس لقرائن تحتف بذلك، إما لظهور علامة في وجهه، بحيث يظهر من وجهه العبوس والكراهية في مقابلتك وما أشبه ذلك، أو من أحواله التي يعرفها الإنسان منه أو من أقواله التي تصدر منه فيظن به ظن السوء، فهذه إذا قامت القرينة على وجوده فلا حرج على الإنسان أن يظن به ظن السوء. فإذا قال قائل: أيهما أكثر الظن المنهي عنه أم الظن المباح؟

قلنا: الظن المباح أكثر؛ لأنه يشمل نوعاً كاملاً من أنواع الظن، وهو ظن الخير، ويشمل كثيراً من ظن السوء الذي قامت القرينة على وجوده؛ لأنه إذا لم يكن هناك قرينة تدل على هذا الظن السيء، فإنه لا يجوز للإنسان أن يتصف بهذا الظن، ولهذا قال: {كثيراً من الظن} ولم يقل: أكثر الظن، ولا كل الظن، بل قال: {كثيراً من الظن} ثم قال: {إن بعض الظن إثم} وقد توحي هذه الجملة أن أكثر الظن ليس بإثم، وهو منطبق تماماً على ما بيناه وقسمناه، أن الظن نوعان: ظن خير، وظن سوء، ثم ظن السوء لا يجوز إلا إذا قامت القرينة على وجوده، ولهذا قال: {إن بعض الظن إثم} فما هو الظن الذي ليس بإثم؟ نقول: هو ظن الخير، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا ليس بإثم، لأن ظن الخير هو الأصل، وظن السوء الذي قامت عليه القرينة هذا أيضاً أيدته القرينة. {ولا تجسسوا} التجسس طلب المعايب من الغير، أي أن الإنسان ينظر ويتصنت ويتسمع لعله يسمع شرًّا من أخيه، أو لعله ينظر سوءاً من أخيه، والذي ينبغي للإنسان أن يعرض عن معايب الناس، وأن لا يحرص على الاطلاع عليها، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا يخبرني أحد عن أحد شيئاً» ، يعني شيئاً مما يوجب ظن السوء به «فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (¬1) فلا ينبغي للإنسان أن يتجسس، بل يأخذ الناس على ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في رفع الحديث من المجلس (4860) والترمذي، كتاب المناقب، باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3896) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه..

ظاهرهم، ما لم يكن هناك قرينة تدل على خلاف ذلك الظاهر، وفي هذه الجملة من الآية قراءة أخرى (ولا تحسسوا) فقيل: معناهما واحد، وقيل: بل لكل واحدة منهما معنى، والفرق هو أن التجسس أن يحاول الإنسان الاطلاع على العيب بنفسه، والتحسس أن يلتمسه من غيره، فيقول للناس مثلاً: ما تقولون في فلان، ما تقولون في فلان؟ وعلى هذا فتكون القراءتان مبينتين لمعنيين كلاهما مما نهى الله عنه، لما في هذا من إشغال النفس بمعايب الآخرين، وكون الإنسان ليس له هم إلا أن يطلع على المعايب، ولهذا من ابتلي بالتجسس أو بالتحسس تجده في الحقيقة قلقاً دائماً في حياته، وينشغل بعيوب الناس عن عيوبه، ولا يهتم بنفسه، وهذا يوجد كثيراً من بعض الناس الذين يأتون إلى فلان وإلى فلان، ما تقول في كذا؟ ما تقول في كذا؟ فتجد أوقاتهم ضائعة بلا فائدة، بل ضائعة بمضرة؛ لأن ما وقعوا فيه فهو معصية لله - عز وجل - هل أنت وكيل عن الله - عز وجل - تبحث عن معايب عباده، والعاقل هو الذي يتحسس معايب نفسه، وينظر معايب نفسه ليصلحها، لا أن ينظر في معايب الغير ليشيعها - والعياذ بالله - ولهذا قال الله - عز وجل -: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} فعلى كل حال هذه آداب وتوجيه من الله - عز وجل - إلى أخلاق فاضلة، مأمور بها، وأخلاق منهي عنها. {ولا يغتب بعضكم بعضاً} الغيبة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:

«ذكرك أخاك بما يكره» وهذا تفسير من الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهو أعلم الناس بمراد الله - تبارك وتعالى - في كلامه: «ذكرك أخاك بما يكره» ، سواء كان ذلك في خلقته، أو خلقه، أو في أحواله، أو في عقله، أو في ذكائه، أو في غير ذلك، مثل أن تقول: فلان قبيح المنظر، دميم، فيه كذا، فيه كذا، تريد معايب جسمه، أو في خُلقه بأن تقول: فلان أحمق، سريع الغضب، سيء التصرف، وما أشبه ذلك، أو في خلقته الباطنة كأن تقول: فلان بليد، فلان لا يفهم، فلان سيء الحفظ، وما أشبه هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حدها بحد واضح بيّن «ذكرك أخاك بما يكره» ، قالوا: يا رسول الله، أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (¬1) أي جمعت بين البهتان والغيبة، وعلى هذا فيجب الكف عن ذكر الناس بما يكرهون، سواء كان ذلك فيهم، أو ليس فيهم، واعلم أنك إذا نشرت عيوب أخيك فإن الله سيسلط عليك من ينشر عيوبك، جزاءً وفاقاً، لا تظن أن الله غافل عما يعمل الظالمون، بل سيسلط عليه من يعامله بمثل ما يعامل الناس، لكن إذا كانت الغيبة للمصلحة فإنه لا بأس بها، ولا حرج فيها، ولهذا لما جاءت فاطمة بنت قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستشيره في رجال خطبوها، بيَّن معايب من يرى أن فيه عيباً، فقد خطبها ثلاثة: معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وأبو جهم بن حارث، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أما معاوية فصعلوك لا مال ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والاداب، باب تحريم الغيبة (2589) ..

له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة بن زيد» (¬1) ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عيباً في هذين الرجلين، للنصيحة وبيان الحق، ولا يعد هذا غيبة بلا شك، ولهذا لو جاء إنسان يستشيرك في معاملة رجل، قال: فلان يريد أن يعاملني ببيع، أو شراء، أو إجارة، أو في تزويج أو ما أشبه ذلك، وأنت تعرف أن فيه عيباً فإن الواجب أن تبين له ذلك، ولا يعد هذا كما يقول العامة من قطع الرزق، بل هو من بيان الحق، فإذا عرفت أن في هذا الرجل الذي يريد أن يعامله هذا الشخص ببيع أنه مماطل كذاب محتال، فقل له: يا أخي لا تبع لهذا إنه كذاب مماطل، إنه محتال، ربما يدعي أن في السلعة عيباً وليس فيها عيب، وربما يدعي الغبن وليس مغبوناً، وما أشبه ذلك فتقع معه في صراع ومخاصمة، أو جاء إنسان يستشيرك في شخص خطب منه ابنته، والشخص ظاهره العدالة والاستقامة، وظاهره حسن خلق، ولكنك تعرف فيه خصلة معيبة فيجب عليك أن تبين هذا، فمثلاً: تعرف أن في هذا الرجل كذباً، أو تعرف أنه يشرب الدخان لكنه يجحده ولا يبينه للناس، يجب أن تبين تقول: هذا الرجل ظاهره أنه مستقيم، وأنه خلوق، وأنه طيب، ولكن فيه العيب الفلاني، حتى لو كان هذا متجهاً إلى أن يزوجه، ثم هو بعد ذلك بالخيار؛ لأنه سيدخل على بصيرة، وعلى كل حال يستثنى من الغيبة وهي ذكر الرجل بما يكره، إذا كان على سبيل النصيحة، ومنه ما يذكر في كتب الرجال مثلاً، فلان بن فلان سيء الحفظ، فلان بن فلان كذوب، فلان بن ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها (1480) ..

فلان فيه كذا وكذا، يذكرون ما يكره من أوصافه، نصيحة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإذا كان الغرض من ذكرك أخاك ما يكره النصيحة فلا بأس. كذلك لو كان الغرض من ذلك الظلم والتشكي، فإن ذلك لا بأس به، مثل أن يظلمك رجل وتأتي إلى رجل يستطيع أن يزيل هذه المظلمة، فتقول: فلان أخذ مالي، فلان جحد حقي، وما أشبه ذلك، فلا بأس، فإن هند بنت عتبة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أبا سفيان، تقول: إنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال لها الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (¬1) فذكرت وصفاً يكرهه أبو سفيان بلا شك ولكنه من باب التظلم والتشكي، وقد قال الله تعالى في كتابه {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} يعني فله أن يجهر بالسوء من القول لإزالة مظلمته. ولكن هل يجوز مثل هذا إذا كان قصد الإنسان أن يخفف عليه وطأة الحزن والألم الذي في قلبه بحيث يحكي الحال التي حصلت على صديق له، وصديقه لا يمكن أن يزيل هذه المظلمة لكنه يفرج عنه أو لا؟ الظاهر أنه يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} وهذا يقع كثيراً، كثيراً ما يؤذى الإنسان، ويجنى عليه بجحد مال أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه (5364) . ومسلم، كتاب الأقضية، باب قضية هند (1714) .

فيأتي الرجل إلى صديقه ويقول: فلان قال في كذا، يريد أن يخفف ما في قلبه من الألم والحسرة، أو يتكلم في ذلك مع أولاده، أو مع أهله، أو مع زوجته أو ما أشبه ذلك، هذا لا بأس به؛ لأن الظالم ليس له حرمة بالنسبة للمظلوم. {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله} التقوى يكثر الأمر بها في القرآن الكريم، وكذلك في السنة، فما هي التقوى التي يكثر ورودها في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ إنها كلمة عظيمة، إنها تعني الوقاية من عذاب الله، وتكون الوقاية من عذاب الله بأمرين: الأمر الأول: امتثال أوامر الله - عز وجل - بأن يقول القائل إذا سمع أمر الله {سمعنا وأطعنا} فإن هذا هو قول المؤمنين، قال الله تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ولا تقل: ما الفرق بين كذا وكذا؟ يعني: لماذا يأمر الله بكذا ولا يأمر بكذا، فمثلاً في لحوم الإبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحومها (¬1) ، ولهذا كان أكل لحوم الإبل ناقض للوضوء على القول الراجح من أقوال العلماء، فلا تقل: لماذا يأمرنا بالوضوء من أكل لحم الإبل، ولا يأمرنا بالوضوء من أكل لحم البقر؟ مع أن كل منهما يسمى بدنة، ولا تقل: لماذا تؤمر الحائض بقضاء شهر الصوم ولا تؤمر بقضاء الصلاة، على سبيل التشكيك، ولكن قل: سمعنا وأطعنا. الأمر الثاني: اجتناب ما نهى الله عنه، فإذا نهى الله عن شيء ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل (360) .

فقل: سمعنا وأطعنا، واجتنبنا. وتأمل قول الله - عز وجل - في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام حيث قال: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأَنصاب والأَزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما الخمر والميسر والأَنصاب والأَزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} . أي فبعد هذا التبصير والتبيين هل تنتهون أو لا؟ وهذا الاستفهام بمعنى الأمر، أي فانتهوا، ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم: (انتهينا انتهينا) (¬1) ، فصارت التقوى تتحقق بأمرين: الأول: امتثال أمر الله - عز وجل - دون تردد. والثاني: اجتناب نهي الله - عز وجل - دون تردد. يقول الله - عز وجل -: {إن الله تواب رحيم} هو الله سبحانه وتعالى رحيم وهو رحمن، وقد اجتمع الاسمان في أعظم سورة في كتاب الله، في الفاتحة، قال العلماء: إذا ذكر الرحمن وحده كما في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} أو ذكر الرحيم وحده كما في هذه الآية {تواب رحيم} فمعناهما واحد، يعني أن الرحيم والرحمن ذو الرحمة الواسعة الشاملة، والرحمن إذا ذكر وحده كذلك هو ذو الرحمة الواسعة الشاملة، أما إذا اجتمعا جميعاً فالرحمن باعتبار الوصف، والرحيم باعتبار الفعل، يعني أنه - عز وجل - ذو رحمة واسعة، وهو أيضاً راحم وموصل الرحمة إلى من يشاء من عباده، كما قال ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة (رقم 3049) ، والإمام أحمد (2/351) .

الله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} أسأل الله أن يعمني وجميع إخواننا المسلمين برحمته، وأن يجعلنا من دعاة الخير والإصلاح، إنه على كل شيء قدير. {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعارفوا} الخطاب هنا مصدر بنداء الناس عموماً، مع أن أول السورة وجه الخطاب فيه للذين آمنوا، وسبب ذلك أن هذا الخطاب في هذه الآية موجه لكل إنسان؛ لأنه يقع التفاخر بالأنساب من كل إنسان، فيقول - عز وجل -: {يا أيها الناس} ، والخطاب للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} من ذكر هو آدم، وأنثى هي حواء، هذا هو المشهور عند علماء التفسير، وذهب بعضهم إلى أن المقصود بالذكر والأنثى هنا الجنس، يعني أن بني آدم خُلقوا من هذا الجنس من ذكر وأنثى، وفي الآية دليل على أن الإنسان يتكون من أمه وأبيه أي يخلق من الأم والأب، ولا يعارض هذا قول الله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترآئب} فإذا قلنا: إن المراد بالصلب صلب الرجل، والترائب ترائب المرأة فلا إشكال، وإن قلنا بالقول الراجح: إن الصلب والترائب وصفان للرجل، يعني الماء الدافق هو ماء الرجل، أما المرأة فلا يكون ماؤها دافقاً (¬1) ، وعلى هذا فيكون الإنسان مخلوقاً من ماء الرجل، لكن ماء الرجل وحده لا يكفي، بل لابد أن يتصل بالبويضة التي يفرزها رحم المرأة فيزدوج هذا بهذا، فيكون الإنسان مخلوقاً من ¬

(¬1) انظر تفسير جزء عم لفضيلة الشيخ رحمه الله تعالى..

الأمرين جميعاً، أي من أبيه وأمه، {وجعلنكم شعوباً} أي صيرناكم شعوباً {وقبآئل} فالله تعالى جعل بني آدم شعوباً وهم أصول القبائل، وقبائل وهم ما دون الشعوب، فمثلاً بنو تميم يعتبرون شعباً، وأفخاذ بني تميم المتفرعون من الأصل يسمون قبائل، {وجعلنكم شعوباً وقبآئل} هل الحكمة من هذا الجعل أن يتفاخر الناس بعضهم على بعض، فيقول هذا الرجل: أنا من قريش، وهذا يقول أنا من كذا، أنا من كذا؟ ليس هذا المراد، المراد التعارف، أن يعرف الناس بعضهم بعضاً، إذ لولا هذا الذي صيره الله - عز وجل - ما عرف الإنسان من أي قبيلة، ولهذا كان من كبائر الذنوب أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه (¬1) ، لأنه إذا انتسب إلى غير أبيه غير هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي أنهم شعوب وقبائل من أجل التعارف، فيقال: هذا فلان ابن فلان ابن فلان إلى آخر الجد الذي كان أباً للقبيلة، {لتعرفوا} أي: لا لتفاخروا بالأحساب والأنساب، {إن أكرمكم عند الله أتقكم} ليس الكرم أن يكون الإنسان من القبيلة الفلانية، أو من الشعب الفلاني، الكرم الحقيقي النافع هو الكرم عند الله، ويكون بالتقوى، فكلما كان الإنسان أتقى لله كان عند الله أكرم، فإذا أحببت أن تكون عند الله كريماً، فعليك بتقوى الله - عز وجل - والتقوى كلها الخير، وكلها البركة، وكلها سعادة في الدنيا ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الحدود، باب من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (2609 - 2611) . وأخرجه البخاري بلفظ: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام» ، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (4326، 4327) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم (61 - 63) ..

والآخرة، {ألآ إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} . وما أكثر ما ترد على أسماعنا كلمة التقوى، وليس لفظاً يجري على الألسن ويمر بالآذان بل يجب أن يكون لفظاً عظيماً موقراً معظماً محترماً، ويفوت الإنسان من التقوى بقدر ما خالف فيه أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأينا مثلاً إنساناً يتقدم إلى المسجد ويصلي مع الجماعة ويخشع في صلاته، ويؤديها بكل طمأنينة، وآخر بالعكس يصلي في بيته ويقتصر فيها على الواجب، فالأول أتقى، إذن فهو أكرم عند الله حتى لو كان مولى من الموالي، والآخر من أرفع الناس نسباً، فإن الأتقى لله هو الأكرم عند الله - عز وجل - وكل إنسان يحب أن يحظى عند السلطان في الدنيا، ويكون أقرب الناس إليه، فكيف لا نحب أن نكون أقرب الناس إلى الله، وأكرمهم عنده؟! المسألة هوى وشيطان، وإلا لكان الأمر واضحاً، فعليك بتقوى الله - عز وجل - لتنال الكرم عند الله، {إن الله عليم خبير} بكل شيء، لأنه هنا مطلق، ولم يقيد بحال من الأحوال، {خبير} الخبرة هي العلم ببواطن الأمور، والعلم بالظواهر لا شك أنه صفة مدح وكمال، لكن العلم بالبواطن أبلغ، فيكون عليم بالظواهر، وخبير بالبواطن، فإذا اجتمع العلم والخبرة صار هذا أبلغ في الإحاطة، وقد يقال إن الخبرة لها معنى زائد عن العلم، لأن الخبير عند الناس هو العليم بالشيء الحاذق فيه، بخلاف الإنسان الذي عنده علم فقط، ولكن ليس عنده حذق، فإنه لا يسمى خبيراً، فعلى هذا يكون الخبير متضمناً لمعنى زائد على العلم، ثم قال الله تعالى:

{قالت الأَعراب آمنا} الأعراب اسم جمع لأعرابي، والأعرابي هو ساكن البادية كالبدوي تماماً، فالأعراب افتخروا، فقالوا: آمنا آمنا، افتخروا بإيمانهم، فقال الله - عز وجل -: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} قيل: إن هؤلاء من المنافقين، لقول الله تعالى: {وممن حولكم من الأَعراب منافقون} والمنافق مسلم، ولكنه ليس بمؤمن، لأنه مستثنى في الظاهر، إذ إن حال المنافق أنه كالمسلمين، ولهذا لم يقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، مع علمه بنفاقهم مع أنهم مسلمون ظاهراً لا يخالفون، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا. وقيل: إنهم أعراب غير منافقين، لكنهم ضعفاء الإيمان، يمشون مع الناس في ظاهر الشرع، لكن قلوبهم ضعيفة، وإيمانهم ضعيف. وعلى القول الأول: يكون قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} أنه لم يدخل أصلاً، وعلى الثاني: أي لما يدخل الإيمان الدخول الكامل المطلق، ففيهم إيمان لكن لم يصل الإيمان في قلوبهم على وجه الكمال، والقاعدة عندنا في التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين، فإنها تحمل عليهما جميعاً إذا لم يتنافيا، فإن تنافيا طلب المرجح. فالأعراب الغالب عليهم أنهم لا يعرفون حدود ما أنزل الله على رسوله، فيقولون آمنا، فقال الله تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} ووجه ذلك أن الإسلام في القلب، وهو صعب، والإسلام علامة في

الجوارح، وكل إنسان يمكن أن يعمل بجوارحه عملاً متقناً كأحسن ما يكون، فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج أنهم يقرءون القرآن، وأنهم يصلون، وأن الواحد من الصحابة يحقر صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم، ومع ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم» (¬1) نسأل الله العافية، وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وهذا يدل على أن الإسلام يستطيعه كل إنسان يمكن أن يصلي ويسجد ويقرأ ويصوم ويتصدق وقلبه خالٍ من الإيمان، ولهذا قال: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} وهنا التعبير يقول: {لما يدخل} ولم يقل: (ولم يدخل) ، قال العلماء: إذا أتت (لما) بدل (لم) كان ذلك دليلاً على قرب وقوع ما دخلت عليه، فمثلاً إذا قلت: (فلان لمّا يدخلها) أي أنه قريب منها، ومنه قوله تعالى: {بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب} أي لم يذوقوه، ولكن قريب منه، وهنا قال: (لما يدخل) أي لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من الدخول، {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعملكم شيئاً} إن أطعتم الله ورسوله بالقيام بأمره واجتناب نهيه فإنه لن ينقصكم من أعمالكم شيئاً بل سيوفرها لكم كاملة، كما قال الله تبارك وتعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} . فكل إنسان يجزى على عمله إن خيراً فخير، وإن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هوداً} (رقم 3344) ومسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (رقم 1064) ..

شرًّا فشر، لكن رحمة الله تعالى سبقت غضبه (¬1) {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وقد يعاقب، وقد يعفو الله عنه، فالسيئات يمكن أن تمحى، والحسنات لا يمكن أن تنقص، ولهذا قال: {لا يلتكم من أعملكم شيئاً} أي لا ينقصكم. {إن الله غفور رحيم} ختم الآية بالمغفرة والرحمة، إشارة إلى أن هؤلاء الذين قالوا إنهم آمنوا، قريبون من المغفرة والرحمة، لم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولكنه قريب من دخوله. في هذه الآية الكريمة فرق بين الإسلام والإيمان، وكذلك في حديث جبريل عليه السلام فرق بين الإسلام والإيمان، ففي حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» . وفي الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» (¬2) . ففرق بين الإسلام والإيمان، وفي أدلة أخرى يجعل الله الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فهل في هذا تناقض؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} (7404) ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2751) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان (50) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه (8) .

والجواب: لا، فإذا قرن الإسلام بالإيمان صارا شيئين، وإذا ذكر الإسلام وحده، أو الإيمان وحده صارا بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية كثيرة، ولهذا قال أهل السنة والجماعة: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا، يعني إذا ذُكرا في سياق واحد فهما شيئان، وإذا ذُكر أحدهما دون الآخر فهما شيء واحد، ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عدد أعمالاً هي من الإسلام، وجعلها من الإيمان فقال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله» مع أنها من الإسلام، قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله» . «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» . وإماطة الأذى عن الطريق من الإسلام؛ لأنها عمل، والأعمال جوارح «والحياء شعبة من الإيمان» (¬1) وهذا في القلب، فالمهم الإيمان والإسلام إذا افترقا فهما شيء واحد، وإن اجتمعا فهما شيئان. {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} إنما أداة حصر تفيد إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، أي ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد: المؤمنون حقًّا الذين تم إيمانهم إلا هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسوله، آمنوا أقروا إقراراً مستلزماً للقبول والإذعان، وليس مجرد الإقرار كافياً، بل لابد من قبول وإذعان، والدليل على أن مجرد الإقرار ليس بكاف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن عمه أبي طالب أنه في النار، وذلك مع أنه مؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام، مصدق به، يقول في لاميته المشهورة: ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان (9) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (35) (58) .

لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل ويقول عن دين الرسول: ولقد علمت أن دين محمد خير أديان البرية دينا لكنه والعياذ بالله لم يقبل هذا الدين، ولم يذعن له، وكان آخر ما قال: إنه على الشرك على ملة عبد المطلب (¬1) ، فالذين آمنوا بالله ورسوله، هم الذين أقروا إقراراً تامًّا بما يستحق الله عز وجل، وبما يستحق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقبلوا بذلك وأذعنوا، {ثم لم يرتابوا} كلمة، {ثم} هنا في موقع من أحسن المواقع؛ لأن (ثم) تدل على الترتيب والمهلة، ثم استقروا وثبتوا على الإيمان مع طول المدة، {لم يرتابوا} : أي لم يلحقهم شك في الإيمان بالله ورسوله. وهنا ننبه إلى مسألة يكثر السؤال عنها في هذا الوقت - وإن كان أصلها موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام -: وهي الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان، فيلقي الشيطان في قلب الإنسان أحياناً وساوس وشكوكاً في الإيمان أو في القرآن، أو في الرسول، يحب الإنسان أن يمزق لحمه، ويكسر عظمه ولا يتكلم بذلك، فما موقف الإنسان من هذا؟ موقف الإنسان من هذا أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وينتهي، ويعرض عن هذا، ولا يفكر فيه إطلاقاً، وقد أخبر النبي - عليه ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير باب {إنك لا تهدي من أحببت} ، (رقم 4772) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت (رقم 24) .

الصلاة والسلام - أن مثل هذه الوساوس صريح الإيمان، أي خالص الإيمان، وهذا إنما كان خالص الإيمان، لأن الشيطان لا يأتي للإنسان الشاك يشككه في دينه، وإنما يأتي لإنسان ثابت مستقر، ليشككه في دينه، فيفسده عليه (¬1) ، فالمؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه واطمأن قلبه بالإيمان هو الذي يأتيه الشيطان ليفسد عليه، أما من ليس بمؤمن فإن الشيطان لا يأتيه بمثل هذه الوساوس، لأنه منته منه، والمهم أن قوله: {ثم لم يرتابوا} يدل على أنهم ثبتوا على الإيمان، ولو طالت المدة. فإذا قال قائل: ما الطريقة التي توجب للإنسان ثبوت الإيمان واستقراره؟ قلنا: أولاً: أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وأن هذه المخلوقات العظيمة لم تكن وليدة الصدفة، ولم تكن وليدة بنفسها. ثانياً: أن يتفكر في شريعة الله وكمالها. ثالثاً: أن يتفكر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وما إلى ذلك. رابعاً: أن يكثر من ذكر الله - عز وجل - فإنه بذكر الله تطمئن القلوب، ويكثر من الطاعات والأعمال الصالحة، لأن الطاعات والأعمال الصالحة تزيد في الإيمان، كماهو مذهب أهل السنة والجماعة - رحمهم الله -. {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} هذا أيضاً ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (7481) وأبو يعلى في المسند (5964) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1656) (1657) .

معطوف على قوله: {آمنوا} أي هم مع إيمانهم بالله - عز وجل - ويقينهم وعدم ارتيابهم يريدون أن يصلحوا عباد الله بالجهاد في سبيل الله، يجاهدون أعداء الله ليرجعوا إلى دين الله ويستقيموا عليه، لا للانتقام منهم، ولا للانتصار لأنفسهم، ولكن ليدخلوا في دين الله - عز وجل - والجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، لا للانتقام، فالقتال للانتقام ليس إلا مدافعة عن النفس، أو أخذاً بالثأر فقط، لكن الجهاد حقيقة هو أن يقاتل الإنسان لتكون كلمة الله هي العليا، أما الجهاد انتصاراً للنفس، أو دفاعاً عن النفس فقط، فليس في سبيل الله، لكن لاشك أن من قاتل دفاعاً عن نفسه فإنه إن قتل فهو شهيد (¬1) ، وإن قتله صاحبه فصاحبه في النار كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيمن أراد أن يأخذ مالك قال: «لا تعطه» ، قال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلني، قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «أنت شهيد» ، قال: إن قتلته؟ قال: «فهو في النار» (¬2) ، فالجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو الذي حده النبي عليه الصلاة والسلام وفصَّله فصلاً قاطعاً، {أولئك هم الصادقون} في إيمانهم وعدم ارتيابهم، أما الذين قالوا من الأعراب ¬

(¬1) أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد» كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله (2480) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم (141) . (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في قتال اللصوص (4771، 4772) ، والترمذي، كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد (1420، 1421) ..

آمنا ولكنهم لم يؤمنوا حقيقة ولكن أسلموا فإنهم ليسوا صادقين، ولهذا قال الله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} . {قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأَرض} هذا إنكار لقول الذين قالوا آمنا، يعني أتعلمون الله تعالى بأنكم آمنتم وهو عليم بكل شيء، وتعلمون الله بمعنى: تخبرون الله، وليس المراد أن ترفعوا جهله عن حالكم، فهو يعلم حالهم - عز وجل - ويعلم أنهم مؤمنون أو غير مؤمنين، لكن تعلمون هنا بمعنى تخبرون، وليس معناه أن ترفعوا الجهل عن الله - عز وجل - لأن الله ليس جاهلاً بحالهم، بل هو عالم، {أتعلمون الله بدينكم} حينما قلتم آمنا، {والله يعلم ما في السماوات وما في الأَرض} ومنها أي ما في السموات وما في الأرض حالكم إن كنتم مؤمنين أو غير مؤمنين، وفي هذه الآية إشارة إلى أن النطق بالنية في العبادات منكر؛ لأن الإنسان الذي يقول: أريد أن أصلي، يعلّم الله - سبحانه وتعالى - بما يريد من العمل، والله يعلم، والذي يقول: أريد أن أصوم كذلك، والذي يقول: نويت أن أتصدق كذلك، والذي يقول: نويت أن أحج كذلك أيضاً، ولهذا لا يسن النطق بالنية في العبادات كلها لا في الحج ولا في الصدقة، ولا في الصوم، ولا في الوضوء، ولا الصلاة، ولا في غير ذلك، لأن النية محلها القلب، والله عالم بذلك، ولا حاجة إلى أن تخبر الله بها، {والله بكل شيء عليم} ، فما في السموات عام، وما في الأرض عام، فكل شيء يعلمه الله، وقد تقدم لنا الكلام مراراً على هذه الصفة من صفات الله، والتي هي

من أوسع صفاته - جل وعلا - {والله بكل شيء عليم} خفي أو بين، عام أو خاص، فهو عالم به - جل وعلا -. {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} في هذه الآية تكررت {أن} ثلاث مرات: أي يمنون عليك يا محمد بإسلامهم، وحذف الجملة مع (أن) ، مطرد كما قال ابن مالك - رحمه الله - في الألفية. {يمنون عليك أن أسلموا} أي: بأن أسلموا أي بإسلامهم، ويعني بذلك قوماً أسلموا بدون قتال فجعلوا يمنون على الرسول - عليه الصلاة والسلام - يذكرون له الفضائل ويقولون: نحن آمنا بك من دون قتال، مع أن المصلحة لهم، ولهذا قال الله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} ، وقوله: {بل الله يمن عليكم} هذا إضراب لإبطال ما سبق، أي ليس لكم منة على الرسول - عليه الصلاة والسلام - بإسلامكم، بل المنة لله - عز وجل - عليكم أن هداكم للإيمان، ولا شك أن هذا أعظم منة أن يمن الله على العبد بالهداية إلى الإيمان، مع أن الله أضل كثيراً من الأمة عنه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين كلهم في النار وواحداً من الجنة (¬1) ، فمن وفق بأن واحداً في الجنة فإن هذه منة عظيمة، ولهذا كان الأنصار رضي الله عنهم حين جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين كلما ذكر إليهم شيئاً قالوا: الله ورسوله ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج (3348) ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم: أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (222) .

أمن، قال: «ألم أجدكم في ضلال فهداكم الله بي» ، قالوا: الله ورسوله أمن، قال: «ألم أجدكم متفرقين فجمعكم الله بي؟» قالوا: الله ورسوله أمن (¬1) ، كلما ذكر شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن، فالمنة لله على كل من هداه الله بنعمه، فالمنة لله - عز وجل - عليه وقوله: {إن كنتم صادقين} أي إن كنتم من ذوي الصدق القائلين بالصدق، فإن المنة لله عليكم {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} . {إن الله يعلم غيب السماوات والأَرض والله بصير بما تعملون} . أخبر الله في هذه الآية أنه يعلم كل ما غاب في السموات والأرض، وما ظهر فهو من باب أولى، وأخبر - عز وجل - أن من جملة ما يعلمه عمل بني آدم، ولهذا قال: {والله بصير بما تعملون} ، وهذه الآية تفيد مسألة عظيمة في سلوك الإنسان وعمله، وهي أن يعلم بأن الله تعالى بصير بعمله محيط به، فيخشى الله ويتقيه، وفيها الترغيب في الأعمال الصالحة فإنها لن تضيع، وفيها الترهيب من العمل السيىء؛ لأن العبد سيجازى عليه؛ لأن الكل معلوم عند الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية والتوفيق. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف (رقم 4330) ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه (رقم 1061) ..

تفسير سورة (ق)

تفسير سورة (ق) {بسم الله الرحمن الرحيم} ، البسملة سبق الكلام عليها، وأنها آية مستقلة يؤتى بها في ابتداء كل سورة إلا سورة براءة، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكتبوا أمامها بسملة، ولكن جعلوا فاصلاً بينها وبين آخر سورة الأنفال، وليس هناك ذكر يذكر بدلاً عن البسملة، كما يوجد في هامش بعض المصاحف، حيث كتب: (أعوذ بالله من النار، ومن كيد الفجار، ومن غضب الجبار، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين) ، ولا شك أن هذا كلام بدعي لا أصل له. {ق والقرءان المجيد} (ق) حرف من الحروف الهجائية التي يتركب منها الكلام العربي، وهي كسائر الحروف، ليس لها معنى في حد ذاتها، ومن المعلوم أن القرآن نزل بلسان عربي، وإذا كانت هذه الحروف ليس لها معنى باللسان العربي، فهي كذلك ليس لها معنى في كتاب الله - عز وجل - من حيث المعنى الذاتي لها، وأما بالنسبة للمغزى العظيم الكبير، فلها مغزى عظيم كبير، ألا وهو أن هذا القرآن الذي أعجز العرب مع بلاغتهم وفصاحتهم لم يأت بشيء جديد من حروف لم يعرفونها، بل هو بالحروف التي يعرفونها، ومع ذلك عجزوا أن يأتوا بمثله، فدل ذلك على أنه من كلام العزيز الحميد - جل وعلا - ولهذا لا تكاد تجد سورة ابتدأت بالحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن (¬1) . ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك في تفسير قوله تعالى: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه} سورة البقرة.

{والقرءان المجيد} الواو هنا حرف قسم. أقسم الله تعالى بالقرآن، لأن لله تعالى أن يقسم بما شاء، وإقسامه هنا بالقرآن إقسام بكلامه، وكلام الله تعالى من صفاته، وقد ذكر أهل العلم - رحمهم الله - أنه يجوز الإقسام بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، وأما آياته فلا يُقسم بها إلا إذا قصد الإنسان بالآيات كلماته، كالقرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل، وما أشبه ذلك، وأما الآيات الكونية كالشمس والقمر فلا يجوز لنا أن نقسم بها، أما الله - عز وجل - فله أن يقسم بما شاء، والقرآن مأخوذ من قرأ إذا تلي، أو من قرأ إذا جمع، ومنه قرية؛ لأن الناس يجتمعون فيها، والقرآن يتضمن المعنيين، فهو متلو وهو مجموع أيضاً، {المجيد} أي ذي المجد، وهو العظمة والسلطان المطلق، فالقرآن له عظمة عظيمة، مهيمن مسيطر على جميع الكتب السابقة، حاكم عليها، ليس محكوماً عليه، وهو أيضاً مجيد، به يمجد ويعلو ويظهر من تمسك به، وهذا كقوله تعالى: {بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ} (¬1) . {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} هنا لا يتراءى للإنسان التالي جواب القسم، فاختلف العلماء - رحمهم الله - في مثل ذلك: هل له جواب، أو جوابه يعرف من السياق، أو يعرف من المقسم به؟ وأظهر ما يكون أن نقول: إن ¬

(¬1) انظر تفسير جزء عم لفضيلة الشيخ رحمه الله تعالى.

مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب القسم، لأنه معروف من عظمة المقسم عليه، فكأنه أقسم بالقرآن على صحة القرآن، فالقرآن المجيد لكونه مجيداً كان دليلاً على الحق، وأنه منزل من عند الله - عز وجل - وحينئذ لا يحتاج القسم إلى جواب؛ لأن الجواب في ضمن القسم: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} عجبوا: الواو تعود على المكذبين للرسول - عليه الصلاة والسلام - الذين كذبوا رسالته، وكذبوا بالقرآن، وكذبوا بالبعث، وكذبوا باليوم الآخر، ولهذا {عجبوا أن جاءهم منذر منهم} عجبوا عجب استغراب واستنكار، وإنما قلنا ذلك لأن العجب تارة يُراد به الاستنكار والتكذيب، وتارة يراد به الاستحسان، فقول عائشة - رضي الله عنها -: «كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله» (¬1) . والمراد بالعجب هنا الاستحسان، وقوله هنا: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} المراد به الاستنكار والتكذيب، {أن جاءهم منذر منهم} أي: ليس بعيداً عنهم بل هو منهم نسباً وحسباً ومسكناً، يعرفونه، ومع ذلك قالوا هذا شيء عجيب {أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد} لما جاءهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأن الله سوف يبعثهم، وسوف يجازيهم، ويحاسبهم تعجبوا كيف هذا؟ أيحيى الإنسان بعد أن كان رفاتاً، قال الكافرون: {هذا شيء عجيب أءذا متنا وكنا تراباً} إذا من المعروف أنها ظرفية، وكل ظرف ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء والغسل (رقم 167) ومسلم، كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور وغيره (رقم 268) .

يحتاج إلى عامل، والعامل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير [ {أءذا متنا وكنا تراباً} نرجع ونبعث] ثم قال: {ذلك رجع بعيد} ولهذا يحسن عند التلاوة أن تقف على قوله: {أءذا متنا وكنا تراباً} لأن قوله: {ذلك رجع بعيد} جملة استئنافية لا علاقة لها من حيث الإعراب بما قبلها، والاستفهام هنا بمعنى الإنكار والتكذيب، كأنهم يقولون: لا يمكن أن نرجع ونبعث بعد أن كنا تراباً وعظاماً، ولكن بين الله - عز وجل - أنه قادر على ذلك، فلما قالوا: {ذلك رجع بعيد} ومرادهم بالبعد هنا الاستحالة، فهم يرون أن ذلك مستحيل، وربما تلطف بعضهم وقال: {ذلك رجع بعيد} فهم تارة ينكرون إنكاراً مطلقاً، ويقولون هذا محال، وتارة يقولون: هذا بعيد، قال الله تعالى مبيناً قدرته على ذلك: {قد علمنا ما تنقص الأَرض منهم} الأرض تأكل الإنسان إذا مات، فالله تعالى يعلم ما تنقص الأرض من أجزاء بدنه ذرة بعد ذرة، ولو أكلته الأرض، وقوله: {ما تنقص الأَرض منهم} قد يفيد أنها لا تأكل كل الجسم وفي ذلك تفصيل، أما الأنبياء فإن الأرض لا تأكلهم مهما داموا في قبورهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» (¬1) وأما غيرهم فقد يبقى الجسم مدة طويلة لا تأكله الأرض إلى ما شاء الله، وقد تأكله الأرض، لكن إذا أكلته الأرض فإنه يبقى عجب الذنب، وعجب الذنب هو عبارة عن الجزء اليسير من العظم بأسفل الظهر، هذا ¬

(¬1) أخرجه النسائي، كتاب الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبي ? يوم الجمعة (1372) وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب في فضل الجمعة (1085) والدارمي، كتاب الصلاة، باب في فضل يوم الجمعة (1580) .

يبقى بإذن الله لا تأكله الأرض كأنه يكون نواة للجسم عند بعثه يوم القيامة، فإنه منه يخلق الآدمي في قبره، فإذا تم النفخ في الصور قاموا من قبورهم لله - عز وجل - وإذا كان الله تعالى عالم بما نقصت الأرض منهم فهو قادر على أن يرد هذا الذي نقصته الأرض عند البعث، {وعندنا} أي عند الله تعالى {كتاب حفيظ} ، أي: حافظ لكل شيء، قال الله تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحفظين كراماً كتبين يعلمون ما تفعلون} . قال تعالى: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم} بل هنا للإضراب الانتقالي، وليست للإضراب الإبطالي؛ لأن الأول ثابت والثاني زائد عليه، وهذا هو الفرق بين (بل) التي للإضراب الإبطالي، وبين (بل) التي للإضراب الانتقالي، فصارت بل للإضراب دائمة لكن إن كانت تبطل الأول سموها إضراب إبطال، وإن كانت لا تبطله فهو إضراب انتقالي، كأنه انتقل من موضوع إلى آخر {بل كذبوا بالحق لما جاءهم} ولكن قلوبهم موقنة إلا أن ألسنتهم تكذب، كما قال الله تعالى عن آل فرعون: {وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلماً وعلواً} {لما جاءهم} لما هنا بمعنى حين، فهي ظرف وليست حرفاً، {فهم في أمر مريج} الفاء هنا للتعقيب والسببية، والمعنى فهم لما كذبوا بالحق في أمر مريج، أي: مختلط اختلط عليهم الأمر - والعياذ بالله - وهو كقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} يعني لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة وظلوا في طغيانهم يعمهون، هؤلاء لما كذبوا صاروا في أمر مريج، التبس عليهم الأمر، وترددوا في أمرهم، وهكذا كل إنسان يرد الحق أول مرة، فليعلم أنه سيبتلى بالشك والريب في قبول الحق في

المستقبل، ولهذا يجب علينا من حين أن نسمع أن هذا الشيء حق أن نقول: سمعنا وأطعنا، خلافاً لبعض الناس الآن، تقول: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا؟ فيقول: الأمر للوجوب أم للاستحباب؟ سبحان الله، افعل ما أمرك به سواء على الوجوب أو على الاستحباب، لأن معنى قوله: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ معناه إذا كان للاستحباب فأنا في حل منه، وإذا كان للوجوب فعلته، وهذا خطأ، ولكن قل: سمعنا وأطعنا، ثم إذا وقعت المخالفة فحينئذ ربما يكون السؤال عنه: هل هو واجب أو مستحب؟ ربما يكون وجيهاً، أما قبل فلا. قد يقول قائل: أنا أسأل هل هو واجب أو مستحب؟ لأن هناك فرقاً بين الواجب والمستحب، والواجب أحب إلى الله، فأنا أفعله من أجل إذا اعتقدت أنه واجب أُثاب عليه ثواب واجب، وإذا اعتقدت أنه سنة أُثاب عليه ثواب سنة. قلنا: نعم، هذا طيب، لكن ثواب انقيادك للحق لأول مرة وبكل سهولة وبدون سؤال أفضل من كونك تعتقده واجباً أو مستحبًّا، وإذا كان الله قد أوجبه عليك أثابك ثواب الواجب، وإن كنت لا تدري، فالانقياد وتمام الانقياد أفضل بكثير من كون أعتقد هذا واجباً أو مستحبّاً. ثم قال: {أفلم ينظروا إلى السماء} استدل بالآيات الكونية على صحة الآيات الشرعية. والاستفهام هنا للتوبيخ، يوبخهم - عز وجل - لماذا لم ينظروا إلى هذا؟ لماذا لم ينظروا إلى السماء وما فيها من عجائب

القدرة الدالة على أن الله تعالى قادر على إحياء الموتى الذي أنكره هؤلاء المكذبون، وقوله: {أفلم ينظروا إلى السماء} يشمل نظر البصر، ونظر البصيرة، نظر البصر يكون بالعين، ونظر البصيرة يكون بالقلب، أي: التفكر، وقوله: {إلى السماء فوقهم كيف بنينها} قد يقول قائل: إن كلمة: {فوقهم} لا فائدة منها، لأن السماء معروفة أنها فوق، ولكن نقول: إن النص على كونها فوقهم إشارة إلى عظمة هذه السماء، وأنها مع علوها وارتفاعها وسعتها وعظمتها تدل على كمال خلقه وقدرته - جل وعلا - {كيف بنينها} بناها الله - عز وجل - بقوة وجعلها قوية، فقال - جل وعلا -: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} أي قوية، وقال تعالى: {والسماء بنينها بأيد} أي بقوة، وهذا البناء لا نعلم كيف بناها الله - عز وجل - لكننا نعلم أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، خلق الأرض في أربعة، والسماء في يومين، كما قال الله تعالى: {فقضاهن سبع سماوات في يومين} وقوله: {وزينها} أي حسنَّا منظرها، بما خلق الله تعالى فيها من النجوم العظيمة المنيرة المنتظمة في سيرها، وهذه النجوم قال قتادة - رحمه الله - وهو من أئمة التابعين: «خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، وعلامات يُهتدى بها، ورجوماً للشياطين، فمن ابتغى فيها شيئاً سوى ذلك فقد أضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به» (¬1) يشير إلى ما ينتحله المنجمون من الاستدلال بحركات هذه النجوم على الحوادث الأرضية، حتى إنهم يبنون سعادة الشخص وشقاءه على ¬

(¬1) أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم كتاب بدء الخلق، باب في النجوم..

هذه النجوم، مثلاً يقولون: إذا ولد في النجم الفلاني فهو سعيد، وإذا ولد في النجم الفلاني فهو شقي، وهذا لا أثر لها، أعني تحركات النجوم في السماء، ليس لها أثر فيما يحدث في الأرض، ثم قال تعالى: {وما لها من فروج} يعني ليس للسماء من فروج، أي من فطور وتشقق، بل مبنية محكمة قوية. {والأَرض مددناها وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} هذه ثلاثة أمور، أولاً: الأرض مدها الله - عز وجل - مع أنها بالنسبة للسماء صغيرة جداً، لكنها ممدودة للخلق، مسطحة لهم كما قال تعالى: {وإلى الأَرض كيف سطحت} ثانياً: {وألقينا فيها روسى} أي جبال ثابتات لا تزعزعها الرياح فهي قاسية، وكذلك أيضاً ترسي الأرض. ثالثاً: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} أي من كل زوج سار لناظره، والمراد بالزوج هنا الصنف، يعني أن ما ينبت في الأرض أصناف متعددة متنوعة حتى إنك ترى البقعة من الأرض وهي صغيرة تشتمل على أنواع من هذه الأصناف، تختلف في ألوانها، وتختلف في أحجامها، وتختلف في ملمسها ما بين شديدة ولينة إلى غير ذلك من الاختلافات العظيمة، بل إنها تختلف في مذاقها إذا كانت من ذوات الثمر، كما قال تعالى: {ونفضل بعضها على بعض في الأُكل} فمن القادر على أن يخلق هذه الأشياء؟ هو الله سبحانه وتعالى، وهذه التي {فيها من كل زوج بهيج} مع أنها في مكان واحد وتسقى بماء واحد، والأرض أيضاً واحدة، من يقدر على هذا؟ الجواب: هو الله - عزوجل - إنك تأتي الأرض المعشبة

التي أنبت الله تعالى فيها من أصناف النبات، فتتعجب ترى هذه مثلاً زهرتها صفراء، وهذه بيضاء، وهذه بنفسجية، وهذه منفتحة، وهذه منضمة إلى غير ذلك من الآيات العظيمة، فهذا أكبر دليل على أن الله قادر على إحياء الموتى الذي أنكره هؤلاء المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: {أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد} فالقادر على خلق هذه المخلوقات العظيمة قادر على إحياء الموتى، ثم يقال: من الذي خلق الإنسان؟ هو الله، وإعادة الخلق أهون من ابتدائه كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} فإذا كنتم أيها المشركون تقرون بأن الله هو الخالق، وأنه هو الذي خلقكم وأوجدكم، فلماذا تنكرون أن يعيدكم مع أن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. {تبصرةً وذكرى لكل عبد منيب} يعني أن الله تعالى حثنا على أن ننظر إلى السماء وإلى الأرض، وما يحدث فيهما تبصرة، أي لأجل التبصرة والذكرى، قال العلماء: والفرق بين التبصرة والذكرى أن التبصرة مستمرة، والذكرى عند النسيان، فهذه الآيات تذكرك إذا نسيت، وتبصرك إذا جهلت، وقد يقال: إن الفرق بينهما أن التبصرة في مقابل الجهل، والذكرى في مقابل النسيان، وكلا القولان حق، المهم أنك إذا نظرت إلى السماء وإلى الأرض وما فيهما مما أودعه الله - عز وجل - من النبات فإنك سوف تبصر بقلبك، وتذكر أيضاً إذا نسيت، ولكن لمن هذه التبصرة والذكرى {لكل عبد منيب} ، ليست لكل إنسان، ما أكثر ما ينظر الكفار في الآيات، ولكن ما تغني الآيات والنذر عن قوم لا

يؤمنون، إنما الذي ينتفع بها هم كل عبد منيب، أي: رجاع إلى الله - عز وجل -. {ونزلنا من السماء ماءً مبركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} . يقول - جل وعلا -: {ونزلنا} ، لأن المطر ينزل شيئاً فشيئاً، وربما يعبر عنه بأنزل لأنه تجيء به الأودية والشعاب، وقوله: {من السماء} أي من العلو، لأن هذا المطر ينزل من السحاب وليس من السماء التي هي السقف المحفوظ، بدليل قوله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأَرض} ، إذن هو ينزل من العلو، والحكمة في إنزاله من العلو ليشمل قمم الجبال ومراتع الإبل، والسهل والأودية، لأنه لو جاء يمشي سيحاً من الأرض ما وصل إلى قمم الجبال، ولكن الله - عز وجل - جعله من فوق، وقوله: {ماءً مبركاً} من بركته أنه يُنبت به {جنات وحب الحصيد} ، الجنات هي البساتين الكثيرة الأشجار، وسميت البساتين الكثيرة الأشجار جنات، لأنها تُجن أي تستر ما تحتها، وكل بستان ذو شجر ملتف بعضه إلى بعض يسمى جنة، وأما قوله: {وحب الحصيد} يعني به الزروع التي تحصد، فذكر الله هنا الأشجار والزروع، فمن الأشجار تجد الثمار، ومن الزروع تحصد الحبوب، {والنخل باسقات لها طلع نضيد} خص الله النخل لأنها أشرف الأشجار، ولهذا شبه بها المؤمن حيث قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن من الشجر شجراً مثلها مثل المؤمن» قال ابن عمر - رضي الله عنهما - فذهب الناس يخوضون في شجر البوادي، كل يقول: هي الشجرة الفلانية،

يقول ابن عمر: فوقع في قلبي أنها النخلة، لكني كنت أصغر القوم - يعني فاستحيا أن يتكلم وهو أصغرهم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» (¬1) وهي الشجرة المذكورة في قول الله تعالى: {ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء} فلهذا خصها هنا بالذكر فقال: {والنخل باسقات} أي عاليات {لها طلع نضيد} أي منضود، فالطلع في شماريخه تجده منضوداً من أحسن ما يكون النضد، ومع ذلك تجد هذه الثمرات تسقى بالشمراخ الدقيق اللين مع أنه قد يكون فيه أحياناً أكثر من ثلاثين حبة. {رزقاً للعباد} أي فعلنا ذلك، أنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد، والنخل باسقات. فعلنا ذلك رزقاً للعباد أي عطاءً وفضلاً للعباد، والعباد هنا يشمل العباد المؤمنين والعباد الكافرين؛ لأن الكافر عبد لله كما قال الله تعالى: {إن كل من في السماوات والأَرض إلا آتى الرحمن عبداً} . والمراد هنا العبودية الكونية القدرية، أما العبودية الشرعية فلا يكون عبداً لله إلا من كان ممتثلاً لأمره، مجتنباً لنهيه، مصدقاً بخبره، {وأحيينا به بلدةً ميتاً} أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء بلدة ميتة، {بلدةً} لما كانت مؤنثة اللفظ، مذكرة المعنى، صح أن توصف بوصف مذكر، {بلدةً ميتاً} أي بلد ميت، أحياه بهذا الماء الذي نزل من السماء، تجد الأرض هامدة خاشعة ليس فيها نبات، فإذا أنزل الله المطر عجت بالنبات واخضرت وازدهرت، فهذه حياة بعد الموت ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا (61) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن مثل النخلة (2811) ..

{كذلك الخروج} أي مثل ذلك الإحياء {الخروج} ، خروج الناس من قبورهم لله - عز وجل - وإنما ذكر الله تعالى الخروج لأن من عباد الله من أنكر ذلك {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا} وحجتهم أنهم قالوا من يحيي العظام وهي رميم؟ من يحيي العظام بعد أن أرمت وصارت تراباً؟ هذا مستنكر عندهم بعيد، ولكن الله سبحانه وتعالى بين أنه ليس ببعيد، وأنهم كما يشاهدون الأرض الميتة ينزل عليها المطر فتحيا، إذن فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها بنزول المطر قادر على إحياء الأموات بعد موتهم، وهذا قياس جلي واضح، كذلك الخروج. {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخون لوط وأصحاب الأَيكة وقوم تبع} ذكر الله هؤلاء المكذبين لفائدتين: الفائدة الأولى: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ليس أول رسول كُذِّب، بل قد كُذِّبت الرسل من قبل، كما قال الله تعالى: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} . قيل: إنه شاعر، قيل: إنه مجنون، قيل: إنه كاهن. وقد قال الله تعالى: {كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} ، هذه فائدة لذكر قصص الأمم السابقة، وهي تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان إذا رأى غيره قد أصيب بمثل مصيبته يتسلى بلا شك، وتهون عليه المصيبة. الفائدة الثانية: التحذير لمكذبي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في آخر ما ذكر {كل كذب الرسل فحق وعيد} فحق عليهم وعيد الله بالعذاب، وقد قال عز وجل: {فكلا أخذنا بذنبه} يعني كل واحد من هذه الأمم جوزي بمثل ذنبه فعوقب بمثل ذنبه، {كذبت قبلهم

قوم نوح} ، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يعني تسعمائة وخمسين سنة، وهو يدعوهم إلى الله - عز وجل - ولكن لم يستفيدوا من ذلك شيئاً، كلما دعاهم ليغفر لهم {جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم} تغطوا {وأصروا واستكبروا استكباراً} . وبقي فيهم هذه المدة، وقد قال الله تعالى في النهاية: {ومآ آمن معه إلا قليل} . {وأصحاب الرس} قوم جاءهم نبيهم ولكنهم قتلوه بالرس، وهو البئر، أي حفروا بئراً ودفنوه، هذا قول، والقول الثاني: أصحاب الرس، أي أنهم قومٌ حول ماءٍ وليسوا بالكثرة الكافية، ومع هذا كذبوا رسولهم {وثمود} وهم قوم صالح في بلاد الحجر المعروفة، كذبوا صالحاً وقالوا: {ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين} . وهذا تحدٌّ، فأرسل الله عليهم صيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين {وعاد} كذلك أيضاً عاد أرسل الله إليهم هوداً فكذبوه فأهلكهم الله - عز وجل - بالريح العقيم {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} وكانوا يفتخرون بقوتهم ويقولون: {من أشد منا قوةً} . فأراهم الله - عز وجل - قوته وأهلكهم بالريح اللطيفة التي لا يرى لها جسم، ومع ذلك دمرتهم تدميراً، {وفرعون} الذي أرسل الله إليه نبيه موسى عليه السلام، وفرعون كان معروفاً بالجبروت والعناد والاستكبار، حتى إنه استخف قومه وقال لهم إنه رب {فقال أنا ربكم الأَعلى} فأطاعوه فجاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات، لكنهم كذبوا، وأراهم الله تعالى آية كانوا يفتخرون بما يضاد ما جاء به موسى وهو السحر، فجمعوا لموسى عليه الصلاة والسلام كل

السحرة في مصر، واجتمعوا وألقوا الحبال والعصي، وألقوا عليها السحر فصار الناس يشاهدون هذه الحبال والعصي وكأنها حيات وثعابين، ورهب الناس كما قال الله تعالى: {واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم} . حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة؛ لأنه شاهد أن كل الجو حوله ثعابين تريد أن تلتهم ما تقابله، فأوحى الله إلى موسى أن ألقِ عصاك، فألقى العصا فالتهمت جميع هذه الحيات، وهذا من آيات الله، إذ إن الحية كما هو معروف ليست بذات الكبر لكي تأكل هذا، وكان هذا يذهب بخاراً، إذا أكلت هذه الحبال والعصي، فالسحرة رأوا أمراً أدهشهم ولم يملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا مع ذلك إيماناً تامًّا {وألقى السحرة ساجدين} ، وتأمل قوله تعالى: {وألقى السحرة ساجدين} ولم يقل سجدوا، كأن شيئاً اضطرهم إلى السجود، كأنهم سجدوا بغير اختيار لقوة ما رأوا من الآية العظيمة، ومع هذه الآية البينة الواضحة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام لم يؤمن فرعون بل قال: {إن هؤلآء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغآئظون} ، فهمّ بأن يهجم على موسى ومن معه من المؤمنين، فأمر الله موسى أن يخرج من مصر إلى جهة المشرق نحو البحر الأحمر، فامتثل أمر الله، وخرج من مصر إلى هذه الناحية، فتبعهم فرعون بجنوده على حنق، يريد أن يقضي على موسى وقومه، فلما وصلوا إلى البحر قال قوم موسى له: {إنا لمدركون} . {قال كلا} يعني لن ندرك {إن معى ربي سيهدين} فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر، البحر الذي

عرضه مسافات طويلة فضرب البحر فانفلق البحر اثني عشر طريقاً، وصارت قطع الماء كأنها جبال، وصارت هذه الطرق التي كانت رياً من الماء، وطيناً زلقاً، صارت طريقاً يبساً بإذن الله في لحظة، فدخل موسى وقومه عابرين من أفريقيا إلى آسيا من طريق البحر، فلما تكاملوا داخلين وخارجين للناحية الشرقية دخل فرعون وقومه، فلما تكاملوا للدخول أمر الله البحر فانطبق عليهم، فلما أدرك فرعون الغرق أعلن فقال: {آمنت أنه لآ إله إلا الذي آمنت به} . وتأمل أنه لم يقل: آمنت بالله، بل قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، لماذا؟ إذلالاً لنفسه، حيث كان ينكر على بني إسرائيل ويهاجمهم، فأصبح عند الموت يقر بأنه تبع لهم، وأنه يمشي خلفهم، ولكن ماذا قيل له: {ءالئن} تؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنك من المسلمين {وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} . فلم تقبل توبته، لأنه لم يتب إلا حين حضره الموت، والتوبة بعد حضور الموت لا تنفع، كما قال الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الأَن} لا تنفع التوبة إذا حضر الموت، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بتوبة قبل الموت، ولكن الله قال: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءايةً} . ننجيك ببدنك لا بروحك، الروح فارقت البدن، لكن البدن بقي طافياً على الماء. وبيَّن الله الحكمة {لتكون لمن خلفك ءايةً} لأن بني إسرائيل قد أرعبهم فرعون فلو لم يتبين لهم أنه غرق بنفسه لكانت أوهامهم تذهب كل مذهب، لعله لم يغرق، لعله يخرج إلينا من ناحية أخرى، فأقر الله

أعين بني إسرائيل بأن شاهدوا جسمه غارقاً في الماء، {لتكون لمن خلفك ءايةً} . {وإخون لوط} إخوان لوط يعني قوم لوط، أرسل إليهم لوط عليه الصلاة والسلام، لأنهم كانوا - والعياذ بالله - يأتون الذكران، ويدعون النساء، أي أن الواحد يجامع الذكر ويدع النساء، كما قال لهم عليه الصلاة والسلام: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} . دعاهم إلى الله - عز وجل - وأنذرهم وخوَّفهم من هذا الفعل الرذيل، ولكنهم أصروا عليه، فأرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة، يعني معلَّمة، كل حجارة عليها علم، يعني علامة على من تنزل عليه وتصعقه، وهذه الخصلة الرذيلة من أقبح الخصال، ولهذا كان حدها في الشريعة الإسلامية القتل بكل حال، يعني أنها أعظم من الزنا، فإذا كان الزاني لم يتزوج من قبل فإنه يجلد مائة جلدة، ويغرَّب عن البلد سنة كاملة، وإن كان محصناً وهو الذي قد تزوج وجامع زوجته فإنه يرجم حتى يموت، أما اللواط فإن حده القتل بكل حال، يعني لو تلوط شخص بالغ بآخر بالغ باختيار منهما فإنه يجب أن يقتل الفاعل والمفعول به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬1) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن الصحابة أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا كيف يُقتل؟ فقال بعضهم: إنه يحرق بالنار لعظم جرمه، والعياذ بالله، وقال ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي (1456) .

آخرون: إنه يرجم بالحجارة، وقال آخرون: إنه يلقى من أعلى مكان في البلد ويتبع بالحجارة، والشاهد أن ابن تيمية رحمه الله نقل إجماع الصحابة على قتله، وإجماع الصحابة حجة فيكون مؤيداً للحديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» ولأن هذه الفاحشة الكبرى - والعياذ بالله - فاحشة مفسدة للمجتمع، لأنه يصبح المجتمع الرجالي مجتمعاً نسائياً، وهو أيضاً لا يمكن التحرز منه، فالزنا يمكن التحرز منه إذا رؤيت امرأة مع رجل في محل ريبة فإنه يمكن مناقشتهما، لكن إذا رؤي ذكر مع ذكر كيف يمكن أن نناقشهما، والأصل أن الرجل مع الرجل يجتمع ولا يتفرق، لهذا كان القول بوجوب قتلهما هو الحق، أما قوم لوط فإن الله تعالى أرسل عليهم حجارة من سجين، مسومة فدمرهم تدميراً، حتى جعل عالي قريتهم سافلها. {وأصحاب الأَيكة} ، يعني الشجرة، أرسل الله تعالى إليهم شعيباً فدعاهم إلى الله وذكَّرهم به، وحذَّرهم من بخس المكيال والميزان، ولكنهم - والعياذ بالله - بقوا على كفرهم وعنادهم {فأخذهم عذاب يوم الظلة} وهذا العذاب يقال: إن الله تعالى أرسل إليهم حرًّا شديداً ولم يجدوا مفرًّا منه إلا أنه أرسلت غمامة واسعة باردة فصاروا يتدافعون إلى ظلها، يتظللون بها، فأنزل الله عليهم ناراً فأحرقتهم، وفي هذا يقول تعالى: {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} . {وقوم تبع} أيضاً ممن كذبوا الرسل وهم أصحاب تُبّع، وهو ملك من ملوك اليمن أرسل الله إليهم رسولاً فكذبوه ولم ينقادوا له، فيقول - عز

وجل -: {كل كذب الرسل فحق وعيد} أي أن هؤلاء الأمم الذين أشار الله تعالى إلى قصصهم كلهم كذبوا الرسل، فحق عليهم وعد الله - والعياذ بالله - بعذابه وانتقامه. {أفعيينا بالخلق الأَول بل هم في لبس من خلق جديد} الاستفهام هنا للنفي، وعيينا هنا بمعنى تعبنا، والخلق الأول هو ابتداء الخلائق يعني هل نحن عجزنا عن ابتداء الخلائق حتى نعجز عن إعادة الخلائق؟! من المعلوم أن الجواب: لا، كما قال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأَرض ولم يعى بخلقهن} . أي لم يتعب بذلك، فإذا كان الله - جل وعلا - لم يتعب بالخلق الأول فإن إعادة الخلق أهون من ابتدائه كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} وهذا استدلال عقلي يراد به إقناع هؤلاء الجاحدين لإعادة الخلق، فإن الذين كفروا زعموا أن لن يبعثوا وأنه لا بعث، وأنكروا هذا واستدلوا لذلك بدليل واهٍ جدًّا، فقالوا فيما حكاه الله عنهم: {من يحي العظام وهي رميم} فقال الله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم} . ثم ساق الأدلة العقلية الدالة على أن الله تعالى قادر على أن يحيي العظام وهي رميم، قال تعالى: {بل هم في لبس من خلق جديد} أي هم مقرون بأننا لم نعِ بالخلق الأول، وأنا أوجدناه لكن هم في لبس من خلق جديد، ولهذا حصل الإضراب هنا، حيث قال: {بل هم} يعني أن هذا عجبٌ من حالهم كيف يقرون بأول الخلق ثم ينكرون البعث بعد الموت، بل هم {في لبس} أي في شك وتردد {من خلق جديد} وهو إعادة

الخلق. والقادر على ابتداء الخلق يكون قادراً على إعادته من باب أولى، وهذا دليل عقلي لا يمكن لأي إنسان أن يفر منه، ثم قال - عز وجل - مستدلاًّ على قدرته على البعث: {ولقد خلقنا الإنسان} يعني ابتدأنا خلقه وأوجدناه وجعلنا له عقلاً وسمعاً وبصراً وتفكيراً وحديثاً للنفس، {ونعلم ما توسوس به نفسه} يعني ونحن نعلم ما توسوس به نفسه، أي ما تحدثه به نفسه، دون أن ينطق به، فالله تعالى عالم به، بل إن الله عالم بما سيحدث به نفسه في المستقبل، والإنسان نفسه لا يعلم ما يُحدث به نفسه في المستقبل، والله يعلم ما توسوس به نفسك غداً وبعد غدٍ، وإلى أن تموت وأنت لا تعلم وإذا كان الله يعلم ما توسوس به النفس فهذا العلم يوجب لنا مراقبة الله سبحانه وتعالى، وأن لا نحدث أنفسنا بما يُغضبه وبما يكره. فعلينا أن يكون حديث نفوسنا كله بما يرضيه، لأنه يعلم ذلك، أفلا يليق بنا أن نستحيا من ربنا - عز وجل - أن توسوس نفوسنا بما لا يرضاه؟!: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} ، حبل الوريد هو الأوداج، وهما العرقان العظيمان المحيطان بالحلقوم، يسمى الوريد، ويسمى الودج، وجمعه أوداج، ويضرب المثل بهما في القرب، أقرب شيء إلى قلبك هو حبل الوريد، هذا أقرب إلى المخ، وأقرب من كل شيء فيه الحياة هما الوريدان. واختلف المفسرون في قوله: {ونحن أقرب إليه} هل المراد قرب ذاته - جل وعلا - أو المراد قرب ملائكته؟. والصحيح أن المراد قرب ملائكته. ووجه ذلك أن قرب الله تعالى صفة عالية لا يليق أن تكون شاملة لكل إنسان، لأننا لو قلنا:

إن المراد قرب ذات الله لكان قريباً من الكافر وقريباً من المؤمن. لأنه قال: {خلقنا الإنسان} ، أي إنسان المؤمن والكافر {ونحن أقرب إليه} أي إلى هذا الإنسان الذي خلقناه من حبل الوريد، فإذا قلنا الآية الشاملة، وقلنا أن القرب هنا القرب الذاتي صار الله قريباً بذاته من الكافر، وهذا غير لائق، بل الكافر عدو لله - عز وجل - لكن الراجح ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن المراد بالقرب هنا قرب الملائكة، أي أقرب إليه بملائكتنا، ثم استدل لقوله بقوله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان} فإذ بمعنى حين، وهي متعلقة بالقرب، أي أقرب إليه في هذا الحال حين يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. فإن قال قائل: كيف يضيف الله القرب المسند إليه والمراد به الملائكة ألهذا نظير؟. قلنا: نعم، له نظير. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه} قرأناه المراد بذلك جبريل، ونسب الله فعل جبريل إلى نفسه؛ لأنه رسوله، كذلك الملائكة نسب الله قربهم إليه لأنهم رسله، كما قال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} . وما اختاره شيخ الإسلام - رحمه الله - هو الصواب. فإن قال قائل: وهل الله تعالى قريب من المؤمن على كل حال؟. قلنا: بل في بعض الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الذي

تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» (¬1) . فهذا قربٌ في حال الدعاء، مصداق ذلك قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون} . كذلك هو قريب من المؤمن في حال السجود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (¬2) . وعلى هذا فيكون المؤمن قريباً من الله تعالى حال عبادته لربه، وحال دعائه لربه، أما القرب العام فإن المراد به القرب بالملائكة على القول الراجح. وقوله: {إذ يتلقى المتلقيان} هما ملكان بين الله مكانهما من العبد، فقال: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} ، ولم يقل على اليمين وعلى الشمال، لأنهما ليسا على كتفيه، بل هما في مكان قريب، أقرب من حبل الوريد، ولكن قد يقول قائل ملحد: أنا ألتمس حولي لا ألمس أحداً، أين القعيد؟ فنقول: هذا من علم الغيب الذي لا تدركه عقولنا، وعلينا أن نصدق به ونؤمن به، كما لو لمسناه بأيدينا، أو شاهدناه بأعيننا، أو غير ذلك من أدوات الحس، علينا أن نؤمن بذلك، لأنه قول الله - عز وجل - {عن اليمين وعن الشمال قعيد} ، قاعد مستقر، أحدهما يكتب الحسنات، والثاني يكتب السيئات، هذا المكتوب عرضة للمحو والإثبات، لأن المكتوب الذي بأيدي الملائكة عرضة للمحو والإثبات لقول الله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب خفض الصوت بالذكر (2704) (46) . (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود (482) .

الكتاب} . يعني أصل أم الكتاب هو لوح محفوظ مكتوب فيه ما يستقر عليه العبد، فما يستقر عليه العبد مكتوب، لكن ما كان قابلاً للمحو والإثبات في أيدي الملائكة، قال الله - عز وجل -: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} . حسنة تذهب السيئة وتمحوها بعد أن كتبت، وهذا باعتبار ما في أيدي الملائكة، أما أم الكتاب الأصل مكتوب فيها ما يستقر عليه العبد، نسأل الله أن يجعلنا ممن يستقر على الإيمان والثبات في الدنيا والآخرة. {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} {ما يلفظ} : ما هنا نافية، و {قول} مجرورة بمن الزائدة إعراباً المفيدة معنىً، لكن تأتي حروف الجر أحياناً زائدة في الإعراب، لكنها تفيد معنى التوكيد، ولهذا إذا اقترن المنفي بمن الزائدة، أو بالباء الزائدة مثل {ومآ أنا بظلام للعبيد} فإنه أوكد من النفي المجرد من حرف الجر الزائد، {ما يلفظ من قول} إذا جعلنا من زائدة إعراباً مفيدة معنىً ففائدة معناها التوكيد على العموم أي: أي قول يلفظه الإنسان لديه رقيب عتيد، {رقيب} مراقب ليلاً ونهاراً، لا ينفك عن الإنسان، {عتيد} حاضر لا يمكن أن يغيب ويوكل غيره، فهو قاعد مراقب حاضر، لا يفوته شيء {من قول} أي قول نقوله، كل قول لأن {من} هذه زائدة و {قول} نكرة في سياق النفي فهي للعموم، أي قول، وظاهر الآية الكريمة أن القول مهما كان يكتب، سواء كان خيراً أم شرًّا، أم لغواً يكتب، لكن يحاسب على ما كان خيراً أو شرًّا، ولا يلزم من الكتابة أن يحاسب الإنسان عليها، وهذا

ظاهر اللفظ، وهو أحد القولين لأهل العلم. ومن العلماء من يقول: إنه لا يكتب إلا الحسنات والسيئات فقط، أما اللغو فلا يكتب. والقول الأول أولى، وهو العموم، أما النتيجة فواحدة، لأنه حتى على القول بأن الكاتب يكتب كل شيء يقولون: إنه لا يحاسب إلا على الحسنات والسيئات، لكن كوننا نقول بالعموم هو المطابق لظاهر الآية، ثم هو الذي فيه الدليل على أن المَلَكين لا يتركان شيئاً، مما يدل على كمال عنايتهما بما ينطق به الإنسان، وبناءً على ذلك يجب علينا أن نحترز غاية الاحتراز من أقوال اللسان، فكم زلة لسانية أوجبت الهلاك - والعياذ بالله - ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الرجل الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: «من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك» (¬1) قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إنه تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، نسأل الله العافية. احذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق احذر آفات اللسان، إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حفظ اللسان مَلاك الأمر كله، فقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «أفلا أدلك على ملاك ذلك كله» ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فأخذ بلسان نفسه وقال: «كف عليك هذا» . لا تطلقه، لا تتكلم، قال: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى (2621) .

له: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (¬1) فالمؤمن يجب أن يحذر لسانه فإنه آفة عظيمة، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (¬2) . وحينئذ نعرف أن الصمت مفضّل على الكلام؛ لأن الكلام قد لا يدري الإنسان أخيراً هو أم شراً، ثم إني أقول: الكلمة إذا أطلقتها وخرجت من فمك فهي كالرصاصة تطلقها، لا يمكنك أن تمنعها إذا خرجت من فوهة البندقية، إذا انطلقت تفسد أو تصلح، كذلك الكلمة، فالعاقل يمنع لسانه ولا يتكلم إلا بخير، والخير إما في ذات المتكلم به، وإما في غيره، يعني قد يكون الكلام ليس خيراً لا بنفسه، لكنه خير من جهة آثاره، قد يتكلم الإنسان بكلام لغو ليس أمراً بالمعروف ولا نهياً عن منكر، وليس إثماً ووزراً، لكن يتكلم من أجل أن يفتح الباب للحاضرين، لأنه أحياناً تستولي على المجلس الهيبة ولا أحد يتكلم، فيبقى الناس كلهم في غم، فيتكلم من أجل أن يفتح الباب للناس، وتنشرح صدورهم، ويحصل تبادل الكلام الذي قد يكون نافعاً، نقول: هذا الكلام الذي تكلم وفتح به باب الكلام وأزال عن الناس الغم يعتبر خيراً لغيره، وهذا داخل إن شاءالله في قول الرسول عليه الصلاة ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (6018، 6019) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت (47) .

والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» . {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} ، السكرة هنا: هي تغطية العقل كالإغماء ونحوه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للموت سكرات» (¬1) . وقوله: {سكرة الموت} مفرد مضاف، فيشمل الواحدة أو أكثر، وقوله {بالحق} : أي أن الموت حق كما جاء في الحديث: «الموت حق، والجنة حق، والنار حق» (¬2) فهي تأتي بالحق، وتأتي أيضاً بحق اليقين، فإن الإنسان عند الموت يشاهد ما تُوُعِّد به، وما وُعِدَ به؛ لأنه إن كان مؤمناً بُشِّر بالجنة، وإن كان كافراً بُشِّر بالنار - أعاذنا الله منها - {ذلك} أي الموت {ما كنت منه تحيد} اختلف المفسرون في (ما) هل هي نافية؟ فيكون المعنى: ذلك الذي لا تحيد منه، ولا تنفك منه، أو أنها موصولة؟ فيكون المعنى ذلك الذي كنت تحيد منه، ولكن لا مفر منه، فعلى الأول يكون معنى الآية، ذلك الذي لا تحيد منه، بل لابد منه، وقد قال الله تعالى: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم} . وتأمل يا أخي: {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملقيكم} ولم يقل فإنه يدرككم، وما ظنك بشيء تفر منه وهو يلاقيك، إن فرارك منه يعني دنوك منه في الواقع فلو كنت فارًّا من شيء وهو يقابلك فكلما أسرعت في الجري أسرعت في ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب سكرات الموت (6510) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب التهجد بالليل (1120) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (769) .

ملاقاته، ولهذا قال: {فإنه ملقيكم} وفي الآية الأخرى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} ، لأنه ذكر في هذه الآية أن الإنسان مهما كان في تحصنه فإن الموت سوف يدركه على كل حال، وهنا يقول تعالى: {ذلك ما كنت منه تحيد} ، وعلى المعنى الثاني، أي: ذلك الذي كنت تحيد منه وتفر منه في حياتك، قد وصلك وأدركك، وعلى كل حال ففي الآية التحذير من التهاون بالأعمال الصالحة، والتكاسل عن التوبة، وأن الإنسان يجب أن يبادر، لأنه لا يدري متى يأتيه الموت، ثم قال: {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} النافخ في الصور هو ملك، وَكَّله الله تعالى به يسمى إسرافيل، والنفخ في الصور نفختان: الأولى: نفخة الصعق فيسبقها فزع، ثم صعق. والثانية: نفخة البعث. وبينهما أربعون، وقد سئل أبو هريرة راوي الحديث: ما المراد بالأربعين؟ فقال: أبيت (¬1) . أي أني لا أدري ما المراد بالأربعين التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، المهم أن المراد بقوله: {ونفخ في الصور} النفخة الثانية بدليل قوله: {ذلك يوم الوعيد} وهذا يعني أنه بهذه النفخة صار يوم القيامة الذي هو يوم الوعيد. فإن قال قائل: يوم القيامة يوم الوعيد للكفار، ويوم الوعد للمؤمنين، فلماذا ذكر الله تعالى هنا الوعيد دون الوعد؟ فالجواب: لأن السورة كلها مبدوءة بتكذيب المكذبين ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} (رقم 4935) ، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين (رقم 2955) .

للرسول عليه الصلاة والسلام، فناسب أن يغلب فيها جانب الوعيد {ق والقرءان المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر} إلخ.. فكان من الحكمة أن يذكر الوعيد دون الوعد، ومع ذلك فقد ذكر الله تعالى أصحاب الجنة فيما بعد، لأن القرآن مثاني. {وجاءت كل نفس معها سآئق وشهيد} جاءت يعني يوم القيامة كل نفس، أي كل إنسان كل بشر. ويحتمل أن يكون معنى كل نفس من بني الإنسان ومن الجن أيضاً، ممن يلزمون بالشرائع، لأننا إن نظرنا إلى السياق وهو قوله: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} الخ.. قلنا: المراد بالنفس هنا نفس الإنسان، وإذا نظرنا إلى أن الشرائع تلزم الجن كما تلزم الإنس، وأن الجن يحشرون يوم القيامة، ويدخل مؤمنهم الجنة، وكافرهم النار، قلنا: إن هذا عام، فالله أعلم بما أراد، {معها سآئق} يسوقها {وشهيد} يشهد عليها بما عملت، لأن هؤلاء الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قد وكلوا بكتابة أعمال بني آدم من خير وشر، وكما سبق أنهم يكتبون كل شيء: الخير والشر واللغو، لكن لا يحاسب الإنسان إلا على الخير أو الشر، ثم قال تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا} {كنت} الخطاب للإنسان، وفيهاالتفات، والالتفات معناه أن ينتقل الإنسان في أسلوبه من خطاب إلى غيبة، أو من غيبة إلى خطاب، أو من تكلم إلى غيبة، وفائدة ذلك الالتفات أنه يشد ذهن السامع، فبينما الكلام على نسق واحد، إذا به يختلف، انظر إلى قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرءيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيباً} ولم

يقل وبعث، وانظر إلى الفاتحة نقرأها كل يوم في كل ركعة من صلواتنا {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين إياك نعبد} ولم يقل (نعبده) فالالتفات أسلوب من أساليب اللغة العربية، وفائدته شدُّ ذهن السامع لما يلقى إليه من الكلام {لقد كنت في غفلة من هذا} {لقد كنت} هذه الجملة، يقول العلماء: إنها مؤكدة بثلاثة مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: اللام، والثالث: قد، والتقدير (والله لقد كنت في غفلة من هذا) . فإن قيل: أليس خبر الله تعالى حقًّا وصدقاً. سواءٌ أكد أم لم يؤكد؟ قلنا: بلى، ولا شك، ولكن مادام القرآن نزل باللسان العربي، فإنه لابد أن يكون التأكيد في موضعه، وعدم التأكيد في موضعه، لأن المقصود أن يكون هذا القرآن في أعلى مراتب البلاغة {لقد كنت} أي: أيها الإنسان {في غفلة من هذا} أي كنت غافلاً عن هذا اليوم ساهٍ في الدنيا، كأنك خلقت لها {فكشفنا عنك غطاءك} يعني هذا اليوم كشف الغطاء، وبان الخفي، واتضح كل شيء {فبصرك اليوم حديد} أي قوي بعد أن كان في الدنيا أعشى أعمى، غافل، لكن يوم القيامة {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا} {وقال قرينه هذا ما لدى عتيد} قرين الإنسان هو المَلَك الموكل به ليحفظ أعماله؛ لأن الله تعالى وكَّل ببني آدم ملائكة عن اليمين وعن الشمال قعيد، وهذا من عناية الله بك أيها الإنسان، أن وكَّل بك هؤلاء الملائكة يعلمون ما تفعل، ويكتبون، لا يزيدون

فيه ولا ينقصون فيه، فيقول القرين: {هذا ما لدى عتيد} أي: حاضر، ويحضر للإنسان فيقال: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} قوله: {ألقيا} قد يشكل على طالب العلم، لأنه قال: {وقال قرينه هذا ما لدى عتيد} وقرين مفرد، وهنا {ألقيا} فيها ألف التثنية، فكيف صح أن يخاطب الواحد بخطاب الاثنين؟ اختلف المفسرون في الجواب عن هذا، فقال بعض العلماء: ألقيا اتصل بها ضمير التثنية بناءً على تكرار الفعل، مثل قوله: ألقي ألقي، فالتكرار للفعل لا للفاعل. القول الثاني: أن قوله: {وقال قرينه هذا ما لدى عتيد} إما أن يكون مفرداً مضافاً، والمعروف أن المفرد المضاف يكون للعموم، فيشمل كل ما ثبت من قرين، وعلى هذا فيكون {وقال قرينه} أي الملكان الموكلان به. فإذا قال قائل: أروني دليلاً أو شاهداً على أن المفرد يكون لأكثر من واحد. قلنا: يقول الله - عز وجل -: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} . وهل نعمة الله واحدة؟ لا، لأن الله تعالى قال: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنةً} . لكن نعمة الله مفرد مضاف، فتكون شاملة لكل نعمة. ويمكن أن يقول قائل: إن قوله: {وقال قرينه} هو واحد من الملكين، ولا شك أنه يجوز أن يتكلم واحد من الاثنين باسم الاثنين. {كل كفار عنيد منع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر} خمسة أوصاف:

{كفار} ، صيغة مبالغة، فإما أن يقال إنه كان صيغة مبالغة، لأن هذا الكافر قد فعل أنواعاً من الكفر، فإذا جمعت الأنواع صارت كثيرة، وقد يقال: إن هذه الصيغة ليست صيغة مبالغة، وإنما هي صيغة نسبة، كما يقال: نجار، وحداد، وما أشبه ذلك ممن ينسب إلى هذه الحرفة، فكفار، أي: كافر، لكنه قد تمكن الكفر في قلبه - والعياذ بالله -. {عنيد} أي: معاند للحق، لا يقبل مهما عرض له الحق بصورة شيقة بينة واضحة لا يقبل. {مناع للخير} فيمنع الدعوة إلى الله، ويمنع بذل أمواله فيما يرضي الله، ويمنع كل خير، لأن قوله: {للخير} لفظ يشمل كل خير، وقوله: مناع كأنه يلتمس كل خير فيمنعه، فتكون هذه الصيغة صيغة مبالغة. {معتد} أي: يعتدي على غيره، فلم يمنع غيره من الخير فقط، بل يعتدي عليه، وانظروا إلى كفار قريش ماذا صنعوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، منعوه واعتدوا عليه. {مريب} أي: واقع في الريبة والشك والقلق، وكذلك أيضاً يشكك غيره فيدخل في قلبه الريبة، فكلمة {مريب} تقتضي وصف الإنسان بها، وحمل هذا الوصف إلى غيره. {الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر} ، ما أوسع هذه الكلمة، وإذا كانت هذه الكلمة وصفاً للكفَّار العنيد، فالمعنى أنه يعبد مع الله غيره، وكلنا يعلم أن المشركين كانوا يعبدون مع الله غيره، فيعبدون اللات، ويعبدون العزى، ويعبدون مناة، ويعبدون هبل،

وكل قوم لهم طاغية يعبدونها كما يعبدون الله، يركعون لها، ويسجدون لها، ويحبونها كما يحبون الله، ويخافون منها كما يخافون من الله - نسأل الله العافية - هذا إذا جعلنا قوله تعالى: {مع الله إلهاً ءاخر} وصف لهذا الكفَّار العنيد. أما إذا جعلناه أشمل من ذلك فإنها تعم كل إنسان تعبد لغير الله، وتذلل لغير الله، حتى التاجر الذي ليس له هم إلا تجارته وتنميتها فإنه عابد لها، حتى صاحب الإبل الذي ليس له هم إلا إبله هو عابد لها، والدليل على أن من انشغل بشيء عن طاعة الله فهو عابد له، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة» (¬1) . عبد الدينار هذا تاجر الذهب، وعبد الدرهم تاجر الفضة، وعبد الخميصة تاجر الثياب؛ لأن الخميصة هي الثوب الجميل المنقوش، وعبد الخميلة تاجر الفرش، أو ليس بتاجر، يعني لا يتجر بهذه الأشياء لكن مشغول بها عن طاعة الله، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من اشتغل بهذه الأشياء الأربعة عبداً لها، وفي القرآن الكريم ما يدل على أن العبادة أوسع من هذا، قال الله تعالى: {أرءيت من اتخذ إلهه هواه} . فدل ذلك على أن كل من قدم هوى نفسه على هدي ربه فهو قد اتخذ إلهاً غيره، ولهذا يمكننا أن نقول: إن جميع المعاصي داخلة في الشرك في هذا المعنى، لأنه قدمها على مرضاة الله تعالى ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2887) . وفي رواية: (القطيفة) بدل الخميلة.

وطاعته، فجعل هذا شريكاً لله - عز وجل - في تعبده له، واتباعه إياه، فالشرك أمره عظيم، وخطره جسيم، حتى الرجل إذا تصدق بدرهم وهو يلاحظ لعل الناس يرونه ليمدحوه ويقولون: إنه رجل كريم. يعتبر مشركاً مرائياً، والرياء شرك، وأخوف ما خاف النبي عليه الصلاة والسلام على أمته الشرك الخفي، وهو الرياء (¬1) ، فعلى هذا نقول: {الذي جعل مع الله إلهاً ءاخر} ، إن كانت وصفاً خاصًّا بالكفَّار العنيد، فإنها تختص بمن يعبد الصنم والوثن، وإن كانت للعموم فهي تشمل كل من اشتغل بغير الله عن طاعته، وتقدم ذكر الأمثلة والأدلة على ما ذكرنا. قال الله تعالى: {فألقياه في العذاب الشديد} وهو عذاب النار، نسأل الله أن يعيذنا منها بمنه وكرمه، {قال قرينه ربنا مآ أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد} هو يدعي أن قرينه هو الذي أطغاه وهو صده عن سبيل الله، فيقول قرينه: {ربنا مآ أطغيته} ، ما أمرته أن يكذب، ولا أن يكون عنيداً، ولا أن يكون معتدياً، ولا أن يكون مريباً، ولا أن يكون مشركاً مع الله أحداً، ما فعلت هذا {ولكن كان في ضلل بعيد} أي: كان هذا الكافر في ضلال بعيد عن الحق، حينئذ لدينا خصمان: الكفَّار العنيد، والقرين، فالكفَّار العنيد يدعي أن القرين هو الذي أغواه وأطغاه، والقرين ينكر ذلك، فيقول الله - عز وجل - {لا تختصموا لدى} ، الخصومة منقطعة، لأن الحجة قائمة ولا عذر لأحد، {وقد قدمت إليكم ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (3/30) وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة (4204) ..

بالوعيد} ، أي أوعدتكم على المخالفة فلا حجة لكم، {ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد} . يعني لا أحد يستطيع أن يبدل قولي؛ لأن الحكم لله - عز وجل - وحده، فإذا كان الله تعالى قد وعد فهو صادق الوعد سبحانه وتعالى، وأما الإيعاد فقد يغفر ما شاء من الذنوب إلا الشرك {ومآ أنا بظلام للعبيد} يعني لست أظلم أحداً، وكلمة (ظلاَّم) لا تظن أنها صيغة مبالغة، وأن المعنى أني لست كثير الظلم، بل هي من باب النسبة، أي: لست بذي ظلم، والدليل على أن هذا هو المعنى، وأنه يتعين أن يكون هذا المعنى قوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنةً يضاعفها} ، ويقول - عز وجل -: {ومن يعمل من الصالحت وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} . ويقول - عز وجل -: {ولا يظلم ربك أحدًا} . والآيات في هذا كثيرة، أن الله لا يظلم، بل إننا إذا تأملنا وجدنا أن فضل الله وإحسانه أكثر من عدله. جزاء سيئة سيئة مثلها، وجزاء حسنة عشرة أمثالها، ولو أردنا أن نأخذ بالعدل لكان السيئة بالسيئة، والحسنة بالحسنة، لكن فضل الله زائد على عدله - عز وجل - فهو سبحانه وتعالى يجزي بالفضل والإحسان لمن كان محسناً، وبالعدل بدون زيادة لمن كان مسيئاً {ما يبدل القول لدى ومآ أنا بظلام للعبيد} . {يوم نقول لجهنم هل امتلأَت وتقول هل من مزيد} يوم: ظرف زمان، والظروف الزمانية والمكانية، وكذلك حروف الجر لابد لها من متعلق، أي لابد لها من فعل، أو ما كان بمعنى الفعل تتعلق به، فما هو متعلق قوله: {يوم نقول لجهنم} نقول: هو محذوف،

والتقدير: (اذكر يوم نقول لجهنم) وليعلم أنه يوجد في اللغة العربية كلمات تحذف بل ربما جمل تحذف، وذلك فيما إذا دل عليها السياق، فهنا الكلمة التي تتعلق بها كلمة يوم محذوفة، والتقدير: اذكر {يوم نقول لجهنم هل امتلأَت وتقول هل من مزيد} يسألها الله - عز وجل -: {هل امتلأَت} وهو يعلم سبحانه وتعالى أنها امتلأت، أو لم تمتلىء؛ لأنه لا يخفى عليه شيء، لكنه يسألها هل امتلأت، ليقرر لها ما وعدها سبحانه وتعالى، فإن الله يقول: {وتمت كلمة ربك لأَملأَن جهنم من الجنة والناس أجمعين} . فيسألها: {هل امتلأَت} يعني هل حصل ما وعد الله به؛ لأن الله تكفل بأن يملأ الجنة ويملأ النار، فتقول: {هل من مزيد} ، (هل) أداة استفهام، وهي حرف. وهل هي استفهام طلب، بمعنى: أنها تطلب الزيادة، أو استفهام نفي، بمعنى: أنها تقول: لا مزيد على ما فيها؟ في هذا للعلماء قولان: القول الأول: إن المعنى: لا مزيد على ما فيَّ، و (هل) تأتي لاستفهام النفي كما في قوله تعالى: {هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأَرض} أي ما من خالق؟ وعلى هذا فتكون النار امتلأت إذا قالت: لا مزيد على ذلك، فالمعنى أنها امتلأت. القول الثاني: أنها استفهام طلب، يعني تطلب الزيادة. وإذا اختلف العلماء في التفسير أو غير التفسير فلنرجع إلى ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلننظر أي القولين أولى بالصواب، ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «لاتزال جهنم تلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة عليها

قدمه» أو قال عليها رجله «فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط (¬1) » فأولى القولين بالصواب، إنها استفهام طلب يعني تطلب الزيادة، ولكن رحمة الله سبقت غضبه، يضع عليها عز وجل رجله على الوجه الذي أراد، ثم ينزوي بعضها ينضم إلى بعض وتتضايق وتقول: لا مزيد على ذلك، فحقت كلمة الله أنه ملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، وفي الحديث الذي سقته إثبات القدم، أو الرجل لله عز وجل، والمراد رجل حقيقة لله عز وجل، إلا أنها لا تشبه أرجل المخلوقين بأي وجه من الوجوه، نعلم علم اليقين أنها ليست مثل أرجل المخلوقين، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} . والمقصود من قوله تعالى: {يوم نقول لجهنم} هو تحذير للناس، لأن كل واحد منا لا يدري أيكون من حطب جهنم، أو يكون ممن نجا منها؟ نسأل الله أن ينجينا وإياكم منها. {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد} أي قربت للمتقين مكاناً غير بعيد {هذا} أي ما تشاهدون من قرب الجنة {ما توعدون} أي: هذا الذي توعدون، فإن الله تعالى وعد المؤمنين العاملين الصالحات وعدهم الجنة، وصدق وعده عز وجل، ولكن لمن؟ {لكل أواب حفيظ} الأواب: صيغة مبالغة من أبى يئوب بمعنى رجع، أي لكل أواب إلى الله، أي رجاع إليه، {حفيظ} أي: ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته (6661) ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2848) .

حفيظ لما أمره الله به، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: «احفظ الله يحفظك» (¬1) والمعنى أنه حفيظ لأوامر الله، لا يضيعها ولا يقابلها بكسل وتوانٍ بل هو نشيط فيها، وإذا عصى بترك واجب، أو فعل محرم تجده يرجع إلى الله، فهو أواب رجاع إلى الله تعالى من المعاصي إلى الطاعات، وكذلك حفيظ حافظ لما أمر الله به، محافظ عليه، قائم به {من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب} من بدل مما سبقها {خشى الرحمن} أي: خافه عن علم وبصيرة، لأن الخشية لا تكون إلا بعلم، والدليل قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فهي خشية أي خوف ورهبة وتعظيم لله عز وجل، لأنها صادرة عن علم، وقوله: {من خشى الرحمن بالغيب} لها معنيان: المعنى الأول: أنه خشي الرحمن مع أنه لم يره، لكن رأى آياته الدالة عليه. المعنى الثاني: خشيه بالغيب، أي: بغيبته عن الناس، فهو يخشى الله وهو غائب عن الناس، لأن من الناس من يخشى الله إذا كان بين الناس، وإذا انفرد فإنه لا يخشى الله، مثل المرائي المنافق، إذا كان مع الناس تجده من أحسن الناس خشية، وإذا انفرد لا يخشى الله، كذلك أيضاً من الناس من يكون عنده خشية ظاهرية، لكن القلب ليس خاشياً لله عز وجل - فيكون بالغيب، أي ما غاب عن الناس، سواء كان عمله في مكان خاص، أو ما غاب ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 59 (2516) والإمام أحمد (1/293، 303، 307) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

عن الناس بقلبه، فإن خشية القلب هي الأصل {وجاء بقلب منيب} أي جاء يوم القيامة بقلب منيب يعني رجاع إلى الله - عز وجل - يعني أنه مات وهو منيب إلى الله فهو كقوله: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} والمعنى أنه بقي على الإنابة والرجوع إلى الله - عز وجل - إلى أن مات، وإلى أن لقي الله، لأن الأعمال بالخواتيم، نسأل الله أن يختم لنا بالخير. {ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود} ، ادخلوها: أمر، وهل هو أمر إلزام، أو أمر إكرام؟ لا شك أنه أمر إكرام، لأن الآخرة ليس فيها تكليف وإلزام، بل إما إكرام وإما إهانة. فقوله تعالى للمجرمين: {ادخلوا أبوب جهنم} هذا أمر إهانة، وقوله للمؤمنين هنا {ادخلوها بسلام} هذا أمر إكرام وقوله {بسلام} ، الباء هنا للمصاحبة، والمعنى: دخولاً مصحوباً بسلام، سلام من كل آفة، فأصحاب الجنة سالمون من الأمراض، وسالمون من الهرم، وسالمون من الموت، وسالمون من الغل، وسالمون من الحسد، وسالمون من كل شيء، فأهل الجنة سالمون {لهم ما يشاءون فيها} أي لهؤلاء المتقين ما يشاءون {فيها} أي: في الجنة {ولدينا مزيد} يعني مزيد على ما يتمنون ويشاءون، لأن الإنسان بحكمه مخلوقاً يعجز عن أن يستقصي كل شيء وتنقطع نيته بحيث لا يدري ما يتمنى، لكن هؤلاء أهل الجنة، كل ما يشتهون فيها فإنه موجود طيب، لو اشتهى الإنسان ثمرة معينة كرمان أو عنب أو ما أشبه ذلك يجدها في أي وقت، كل شيء يشتهيه الإنسان ويطلبه فإنه موجود لا ينتهي، بل قال الله - عز

وجل -: {ولدينا مزيد} يعني نعطيهم فوق ما يشتهون ويتمنون. ومن الزيادة النظر إلى وجه الله - عز وجل - ولهذا استدل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره من أهل العلم بهذه الآية على إثبات رؤية الله - عز وجل - وقال: إن هذه الآية: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} . كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن يرزقنا النظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم. {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلد هل من محيص} لما كانت قريش تكذب النبي عليه الصلاة والسلام وتنكر البعث، وتقول: {أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون} حذرهم الله - عز وجل - أن يقع بهم ما وقع بمن سبق من الأمم، فقال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} أي: كثيراً من القرون أهلكناهم، والقرن هنا بمعنى القرون، كما قال تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} فأمم كثيرة أهلكها الله - عز وجل - لما كذبت الرسل {فنقبوا في البلد} أي: بحثوا في البلاد يريدون المفر واالجأ من عذاب الله، ولكنهم لم يجدوا مفراً، ولهذا قال: {هل من محيص} أي لا محيص لهم {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} فما أصاب القوم الذين كذبوا الرسل أولاً يصيب من كذب ثانياً؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {أفلم يسيروا في الأَرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها}

{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} {إن في ذلك} أي ما سبق من الآيات العظيمة ومنها ما قص الله تعالى في هذه الآيات الكريمة من إهلاك الأمم السابقة، فيه ذكرى لنوعين من الناس: الأول {لمن كان له قلب} أي: من كان له لب وعقل يهتدي به بالتدبر والثاني: {أو ألقى السمع وهو شهيد} أي استمع إلى غيره ممن يعظه وهو حاضر القلب فبين الله تعالى أن الذكرى تكون لصنفين من الناس: الأول: من له عقل ووعي يتدبر ويتأمل بنفسه ويعرف، والثاني: من يستمع إلى غيره، ولكن بشرط أن يكون شهيداً أي حاضر القلب، وأما من كان لا يستمع للموعظة، أو يستمع بغير قلب حاضر، أو ليس له عقل يتدبر به، فإنه لا ينتفع بهذه الذكرى، لأنه غافل ميت القلب. {ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} هذه ثلاثة مخلوقات عظيمة بين الله - عز وجل - أنه خلقها في ستة أيام، وأكَّد هذا الخبر بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد. لأن تقدير الآية: (والله لقد خلقنا السماوات والأرض) ، فالسماوات معلومة لنا جميعاً وهي سبع سماوات طباقاً، والأرض هي الأرض التي نحن عليها، وهي سبع أراضين، كما جاءت به السنة صريحاً (¬1) ، وكما هو ظاهر القرآن في قوله: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن} . الثالث: ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين (رقم 3195) ومسلم، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (رقم 1612) .

{وما بينهما} أي: بين السماء والأرض، والذي بين السماء والأرض مخلوقات عظيمة، يدل على عظمها أن الله جعلها عديلة لخلق السماوات وخلق الأرض، فهي مخلوقات عظيمة، والآن كلما تقدم العلم بالفلك ظهر من آيات الله - عز وجل - فيما بين السماء والأرض ما لم يكن معلوماً لكثير من الناس من قبل {في ستة أيام} أولها الأحد وآخرها الجمعة، ولو شاء عز وجل لخلقها في لحظة، لأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن. فيكون، لكنه - جل وعلا - يخلق الأشياء بأسباب ومقدمات تتكامل شيئاً فشيئاً حتى تتم، كما لو شاء لخلق الجنين في بطن أمه في لحظة، لكنه يخلقه أطواراً حتى يتكامل، كذلك السماوات لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة، ولكنه عز وجل يخلق الأشياء تتكامل شيئاً فشيئاً، وقال بعض العلماء: فيه فائدة أخرى، وهي أن يعلّم عباده التأني في الأمور، وأن لا يأخذوا الأمور بسرعة، لأن المهم وهو الإتقان وليس الإعجال والإسراع {وما مسنا من لغوب} أي: ما مسنا من تعب وإعياء، وهذا كقوله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأَرض ولم يعى بخلقهن} فهو - عز وجل - خلق هذه السماوات العظيمة، والأراضين، وما بينها، بدون تعب ولا إعياء، وإنما انتفى عنه التعب - جل وعلا - لكمال قوته وقدرته {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً} {فاصبر على ما يقولون} أمر الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يصبر على ما يقولون، وقد قال - عز وجل - في آية أخرى {فاصبر كما

صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار} اصبر، فإن العاقبة للمتقين {فاصبر على ما يقولون} فهم يقولون: إن محمداً كذاب، وساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون، وأنه لا بعث، وإن كانوا يقرون بالرب عز وجل وأنه خالق السماوات والأرض، لكن لا يقرون بأمور الغيب المستقبلة، فأمره الله أن يصبر على ما يقولون، والصبر على ما يقولون يتضمن شيئين: الأول عدم التضجر مما يقول هؤلاء، وأن يتحمل ما يقوله أعداؤه فيه وفيما جاء به، والثاني: أن يمضي في الدعوة إلى الله، وأن لا يتقاعس {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} سبح تسبيحاً مقروناً بالحمد في هذين الوقتين: قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب، قال أغلب المفسرين: المراد بذلك صلاة الفجر وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات الخمس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة» (¬1) والبردان هما الفجر وفيه برودة الليل، والعصر وفيه برودة النهار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها» (¬2) فالصلاة التي قبل ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر (574) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (635) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر (554) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (633) .

طلوع الشمس هي الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي العصر، وفيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم، وأفضلهاالعصر، لأن الله تعالى خصها بالذكر حين أمر بالمحافظة على الصلوات فقال: {حفظوا على الصلوت والصلاة الوسطى} وهي العصر، كما فسرها بذلك أعلم الخلق بكتاب الله وهو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم (¬1) ، {ومن الليل فسبحه} أيضاً سبح الله من الليل و (من) هنا للتبعيض، يعني سبحه أيضاً جزء من الليل، ويدخل في ذلك صلاة المغرب وصلاة العشاء، ويدخل في ذلك أيضاً التهجد {وأدبر السجود} أي وسبح الله أدبار السجود، أي أدبار الصلوات، وهل المراد بالتسبيح أدبار الصلوات النوافل التي تصلى بعد الصلوات كراتبة الظهر بعدها، وراتبة المغرب بعدها، وراتبة العشاء بعدها، أو المراد التسبيح الخاص؟ وهو سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. فيه قولان للمفسرين، ولو قيل بهذا وهذا لكان له وجه {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب} أي انتظر لهذا النداء الذي يكون عند النفخ في الصور وحشر الناس {يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج} من القبور {إنا نحن نحى ونميت وإلينا المصير} (إنا) يقول الله عن نفسه {إنا} تعظيماً له {نحى ونميت} أي: نحيي بعد الموت، ونميت بعد الحياة، فهو قادر على الإحياء بعد الموت، وعلى الموت بعد ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء على المشركين (6396) ومسلم، كتاب المساجد، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى، هي صلاة العصر (205) ..

الإحياء {وإلينا المصير} أي المرجع {يوم تشقق الأَرض عنهم سراعاً} أي مصيرهم إلينا في ذلك الوقت تشقق الأرض، أي: تتفتح عنهم أي عن هؤلاء في قبورهم، تشقق كما تشقق الأرض عند طلوع النبات، {سراعاً} أي يأتون إلى المحشر {ذلك حشر علينا يسير} أي سهل علينا، لأن الله تعالى يقول في كتابه: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} ويقول تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} ويقول تعالى: {إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} وهذا يدل على يسر ذلك على الله عز وجل {نحن أعلم بما يقولون} وهذا وعيد لهؤلاء الذين يقولون في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يقولون، أخبر الله هنا أنه لا يخفى عليه حالهم، وأنه يعلم ما يقولون، ثم قال: {ومآ أنت عليهم بجبار} أي ليست عليه بذي جبروت فتجبرهم على أن يسلموا ويؤمنوا بك، ولهذا قال في آية أخرى: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} {فذكر بالقرءان من يخاف وعيد} أي عظ بالقرآن الكريم من يخاف الوعيد، أي من يخاف وعيدي بالعذاب، لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكر بالقرآن، فالقرآن يذكر به جميع الناس، ولكن لا ينتفع به إلا من يخاف الله عز وجل، نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين بكتابه، المتعظين بآياته.

تفسير سورة الذاريات

تفسير سورة الذاريات {بسم الله الرحمن الرحيم} تقدم الكلام على البسملة، {والذاريات ذرواً فالحاملات وقراً فالجاريات يسراً فالمقسمات أمراً} أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات لأنها دالة على عظمته تبارك وتعالى، ولما فيها من المصالح والمنافع، أما قوله: {والذاريات ذرواً} فالذاريات هي الرياح تذر التراب وغير التراب، قال الله تبارك وتعالى: {فأصبح هشيمًا تذروه الرياح} أي: تفرقه في أمكنة متعددة، وأقسم الله بالذاريات لما فيها من المصالح الكثيرة، ففي تصريفها حكمة بالغة، فمنها الرياح الدافئة، ومنها الرياح الباردة، على حسب ما تقتضيه حكمة الله - عز وجل - ولأن الرياح تثير سحاباً فيسقي به الله الأرض؛ ولأنها تسير السفن، ففيما سبق كانت السفن تجري على الرياح، قال الله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان} . {فالحاملات وقراً} المراد بها السحاب، تحمل المياه موقرة، أي: مثقلة محملة، قال الله تبارك وتعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينشىء السحاب الثقال} فهي ثقيلة محملة بمياه عظيمة بحار، ولذلك تمطر فتجري الأرض أنهاراً بإذن الله - عز وجل - فالذاريات: الرياح، والحاملات: السحب، والارتباط بينهما ظاهر؛ لأن الرياح هي التي تثير السحاب وهي التي تلقح السحاب بالماء، قال الله تعالى:

{وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه} {فالجاريات} هن السفن {يسراً} أي: بسهولة، قال الله تبارك وتعالى: {إنا لما طغا الماء حملنكم في الجارية} أي: في السفينة، هذه السفينة ميسرة بإذن الله عز وجل بما يسره الله تعالى من الرياح الطيبة، وكلما كانت الريح مناسبة كان سيرها أيسر، والآن جاءت السفن النارية التي لا تحتاج إلى الرياح فصارت أيسر وأيسر، تجدها قرى كاملة تمخر عباب الماء وتسير بسهولة، والارتباط بين هذه الثلاثة أن الرياح تحمل الأمطار، وأن السحب تحمل الأمطار، فتنزل إلى الأرض، فيكون الرزق للمواشي والآدميين، والجاريات أي السفن، هي أيضاً تحمل الأرزاق من جهة إلى جهة، فلا يمكن أن تصل الأرزاق من جهة إلى جهة أخرى بينها وبينها بحر إلا عن طريق السفن. {فالمقسمات أمراً} وهم الملائكة، وجمعهم لأنه يجوز جمع المؤنث باعتبار الجماعات، أي: فالجماعات المقسمات {أمراً} التي تقسم الأمر، أي: شئون الخلق، ويحتمل أن يكون {أمراً} أي: بأمر الله، والمعنى صحيح على كلا التقديرين، فإن الملائكة عليهم الصلاة والسلام يقسمون ما يريد الله - عز وجل - من أرزاق الخلق وغيرها بأمر الله - عز وجل - هذه أربع جمل: الذاريات، الحاملات، الجاريات، المقسمات، كل هذه مقسم بها، والمقسم عليه: {إنما توعدون لصادق} يعني ما وعدكم الله تعالى فهو وعد صادق، والصادق هو المطابق للواقع، وذلك لأن الخبر نوعان: نوع يخالف الواقع، وهذا يسمى كذباً،

ونوع يطابق الواقع، وهذا يسمى صدقاً، سواء كان المخبر عنه ماضٍ أو مستقبلاً، فأقسم الله - عز وجل - بهذه المخلوقات على إنما نوعد صادق. فلابد أن يقع إذا وقع ما نوعد، وهوالبعث يوم القيامة يتلوه الجزاء، ولهذا قال: {وإن الدين لواقع} الدين يعني الجزاء، والدين يطلق أحياناً بمعنى الجزاء، وأحياناً بمعنى العمل، ففي قوله تعالى: {لكم دينكم ولى دين} المراد به العمل، وفي قوله تبارك وتعالى: {مالك يوم الدين} المراد به الجزاء، وهنا {وإن الدين لواقع} أي الجزاء لابد أن يقع، لأن الله على كل شيء قدير. وقد قال الله تعالى: {يوم تشقق الأَرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير} {والسماء ذات الحبك} السماء معروفة، ذات: بمعنى صاحبة {الحبك} يعني الطرق، أي: أنها من حسنها كأنها ذات طرق محبوكة متقنة، كما يكون ذلك في جبال الرمل، يضربها الهواء فتكون مضلعة، إذن السماء كذلك {إنكم لفي قول مختلف} {إنكم} الخطاب للكافرين {لفي قول مختلف} يعني يختلف بعضه عن بعض، فبعض الكفار قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه مجنون، وبعضهم قالوا: إنه ساحر، وبعضهم قالوا: إنه كاهن، وبعضهم قالوا: إنه شاعر، وبعضهم قالوا: إنه كذاب، فهم مختلفون في النبي صلى الله عليه وسلم، واختلاف الأقوال يدل على كذبها وفسادها، وكلما رأيت قولاً مختلفاً متناقضاً فاعلم أنه باطل وليس بصحيح؛ لأن الحق لا يمكن أن يتناقض، فهؤلاء المكذبون للرسول عليه الصلاة والسلام اختلفوا هذا الاختلاف {يؤفك عنه من

أفك} بمعنى يصرف {عنه} قيل: إن الضمير يعود على الرسول عليه الصلاة والسلام، أي يصرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم من صرف من الناس، وقيل: إن الضمير يعود على القوم، وعلى هذا القول: تكون (عن) بمعنى الباء، أي يؤفك بهذا القول من أفك، يصرف بهذا القول عن الحق من صرف، وهما أي المعنيان متلازمان، والأقرب أن الضمير في قوله {عنه} يعود على القوم؛ لأنه أقرب مذكور {يؤفك عنه} أي عن هذا القول أي بسببه {من أفك} أي من صرف عن الحق، وذلك لأن من البيان لسحراً (¬1) فإذا جاءك رجل بليغ فصيح، وصار يورد عليك الشبهات والشكوك ألست تنخدع بقوله؟ بلى، فهؤلاء المكذبون للرسول عليه الصلاة والسلام عندهم فصاحة وبلاغة وتمويه ودجل، فيصرفون الناس، وقوله {من أفك} هل المراد من قدر الله عليه أن يصرف، أو المراد من أفك؟ أي من صرفه هؤلاء المختلفون. هما متلازمان أيضاً، فإن هؤلاء الذين يضلون الناس لا يمكن أن يضلوهم إلا بإذن الله - عز وجل {ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل} فهم الذين يأفكون الناس أي: يصرفونهم فهم السبب، لكن المقدر للصرف هو الله - عز وجل - ولكن اعلم أخي المسلم أنه لا يمكن أن يصرف عن الحق إلا من علم الله منه أنه ليس أهلاً للحق - نسأل الله السلامة - ولهذا قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} وكذلك الله أعلم حيث يجعل رسالته في الذين يمتثلونها ويؤمنون بها. ويدل على ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الخطبة (5146) .

هذا الذي قلنا قول الله تبارك وتعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ولكن احذر إذا رأيت ضالاًّ أن تقول: هذا ليس أهلاً للهداية؛ لأن هناك فرقاً بين القول بالعموم، والقول بالتعيين، فالقول بالتعيين حرام؛ لأنك قد ترى شخصاً ضالاًّ وتقول: هذا لا يهتدي، وإذا به يهديه الله عز وجل، والعكس بالعكس، ربما ترى شخصاً مستقيماً تقول: هذا لا يمكن أن يضل، فإذا به يضله الله، فإياك أن تشهد على معين، لكن حقيقة أنك إذا رأيت ضالاًّ متمرداً مستكبراً عن الحق فإنك بقلبك تستبعد أن الله يهديه، لكن لا تقل: إن الله لا يهديه، ففي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لايزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت عليَّ رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما في يدي قادراً، وقال للمذنب؟ اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار» . قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه (¬1) . وفي رواية مسلم: فقال الله تعالى: «من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له، وأحبطت عملك» (¬2) ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب النهي عن البغي (4901) . (¬2) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى (2621) .

نسأل الله العافية، لهذا لا تعجب بنفسك، ولا تيأس من رحمة الله فيما يتعلق بك، ولا فيما يتعلق بغيرك، فإن الله تعالى على كل شيء قدير، لكن نعلم على سبيل العموم أن الإنسان إذا لم يكن أهلاً للهداية فإنه لن يهتدي، فإذا رأينا هذا الشخص منحرفاً مستكبراً معانداً فلا شك أنه يغلب على ظننا أنه ليس أهلاً للهداية، لكن ليس لنا أن ننطق بذلك، ويحرم أن ننطق بذلك، ويخشى أن يقال لنا كما قيل لهذا الرجل: قد غفرت له وأحبطت عملك، وهنا مسألة مهمة وهي الفرق بين التعيين والإطلاق، فنحن مثلاً نشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة، لكن إذا رأينا شخصاً مستقيماً، ويصلي ويزكي، ويصوم، ويحج، ويتصدق، ويحسن، ويبر والديه، ويصل رحمه، فلا نشهد بأنه في الجنة؟ لأن التعيين شيء والإجمال شيء آخر، وإذا رأينا رجلاً كافراً ملحداً مسلطاً على المسلمين، يمزق كتاب الله ويدوسه برجليه ويستهزىء بالله ورسوله فلا نقول: هذا من أهل النار، بل نقول: من فعل هذا فهو من أهل النار. بلا تعيين، لأنه من الجائز في آخر لحظة أن يمنّ الله عليه ويهديه، فأنت لا تدري، لذلك يجب التفريق بين التعيين والإطلاق، أوالتعيين والإجمال، فإذا مات رجل ونحن نعرف أنه مات على النصرانية حسب ما يبدو لنا من حاله، فلا نشهد له بالنار؛ لأنه إن كان من أهل النار فسيدخل ولو لم نشهد، وإن لم يكن من أهل النار فشهادتنا شهادة بغير علم، فمثل هذه المسائل لا داعي لها، فلو قال قائل: مات رجل من الروس، من الملحدين،

مات رجل من الأمريكان من الملحدين منهم، مات رجل من اليهود من الملحدين، العنه واشهد له بالنار، نقول: لا يمكن، نحن نقول: من مات على هذا فهو من أهل النار، من مات على هذا لعناه، أما الشخص المعين فلا، ولهذا كان من عقيدة أهل السنة والجماعة قالوا: لا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، ولكننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة. {قتل الخراصون} {قتل} كثير من المفسرين يفسرها بلعن، واللعن هوالطرد والإبعاد عن رحمة الله، ولكن الصحيح أنها بمعنى أهلك، لأنه لا داعي أن نصرفها عن ظاهرها، وظاهرها صحيح مستقيم، فمعنى {قتل} : أهلك، و {الخراصون} جمع خراص، وهو الذي يتكلم بالظن والتخمين والارتياب والشك، لأنه منغمر في الجهل والسهو والغفلة، ولهذا وصفهم بقوله: {الذين هم في غمرة ساهون} أي في غمرة من الجهل، قد أحاط بهم الجهل من كل جانب، {ساهون} : غافلون، لا يحاولون أن يقبلوا على ما أنزل الله على رسله - عليهم الصلاة والسلام - ومن جهلهم أنهم {يسئلون أيان يوم الدين} ، سؤال استبعاد وإنكار، لو كانوا يسألون سؤال استعلام واستخبار، لعذروا، كما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «أخبرني عن الساعة» ، استفهاماً واستخباراً، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» (¬1) لكن أولئك الخراصون ¬

(¬1) تقدم تخريجه ص 62..

يسألون: {أيان يوم الدين} يعني متى هو؟ استبعاداً، ولهذا قال الله عنهم في سورة (ق) : {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد} يعني أنرجع بعد أن كنا تراباً، هذا رجع بعيد، فهم يسألون عن القيامة لا سؤال استفهام واستخبار ليستيقنوا، ولكنْ سؤال استبعاد وإنكار، قال الله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} هذا الجواب يعني يوم القيامة: {يوم هم على النار يفتنون} وعلى هذا فيوم هنا ظرف خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: يوم القيامة يوم هم على النار يفتنون، ومعنى: {على النار يفتنون} أي: يعرضون عليها فيحترقون بها، لأن الفتنة بمعنى الاحتراق، ولكنها عديت بعلى، لأنها ضمنت معنى العرض، أي: يعرضون على النار فيحترقون بها، هذا هو يوم الدين {ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} ذوقوا هذه جملة مقول لقول محذوف، والتقدير: يقال لهم: ذوقوا فتنتكم، وهذا أمر إهانة وإذلال، أي ذوقوا احتراقكم في النار التي كنتم تنكرونها {هذا الذي كنتم به تستعجلون} لأنهم يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، فيستعجلون بالقيامة استبعاداً لها، كما قال الله تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق} فيقال لهؤلاء: {ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} ويقال لهم: {أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنماتجزون ما كنتم تعملون} يفتنون على النار فيحترقون بها، ويقال: {ذوقوا فتنتكم} هذا توبيخ وإهانة وإذلال يكون به:

العذاب القلبي، فيجمع لهم بين العذاب البدني وبين العذاب القلبي، فتجده يكون في أشد ما يكون من الحسرة، يتحسرون يقولون: {ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} ، ولما كان القرآن الكريم مثاني، تثنى فيه المعاني الشرعية والخبرية، إذا ذكر الشيء ذكر ضده، لما ذكر عذاب هؤلاء المكذبين الخراصين قال: {إن المتقين في جنات وعيون} المتقون هم الذين اتقوا الله، والتقوى ترد في القرآن الكريم على وجوه متعددة: بالوصف تارة، وبالفعل تارة، وبالأمر تارة، وتارة تكون مضافة إلى الله، وتارة تكون مضافة إلى العقوبة وغير ذلك، مما يدل على أن التقوى شأنها عظيم في الإسلام، وليست التقوى قولاً يقال باللسان، بل هي قول يتبعه فعل وتطبيق، فإن سألتم ما هي التقوى؟ قلنا: التقوى كلمتان: فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، علم وبرهان واحتساب وخوف، تفعل ما أمر الله به، لأنك تعلم أن الله أمر به، تفعل ما أمر الله به لأنك تحتسب ثوابه، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، تترك ما نهى الله عنه؛ لأنك تعلم أن الله نهى عنه. تترك ما نهى الله عنه خوفاً من عقاب الله، لأنك موقن بالعذاب، هذه هي التقوى، يقول الله عز وجل عن المتقين: {في جنات وعيون} أي: مستقرون في جنات وعيون، والجنات جمع جنة، ويمر في القرآن (جنة) مفرداً و (جنات) جمعاً، فهل هي جنات متعددة أو هي جنة واحدة؟ هي جنات متعددة، لكن ذكرت بلفظ المفرد من باب ذكر الجنس، وإلا فهي جنات، وفي آخر سورة الرحمن، ذكر الله أربع جنات،

قال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ثم قال: {ومن دونهما جنتان} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما» (¬1) إذن فالجنات متعددة وجمعت باعتبار أنواعها وأصنافها، وقد جاءت في القرآن مفردة، مثل قوله: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} . وجاءت أيضاً مجموعة فهي مفردة باعتبار الجنس، ومجموعة باعتبار النوع، و (عيون) : جمع عين، وهي الأنهار الجارية، وقد ذكر الله تعالى أنها أربعة أنواع: {أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} {ءاخذين مآ ءاتهم ربهم} . قوله: {ءاخذين} : حال من الضمير المستتر بالخبر، أي: حال كونهم آخذين ما آتاهم ربهم، أي: ما أعطاهم من النعيم، وهذه الآية كالآية التي في سورة الطور {فكهين بمآ ءاتهم ربهم} ، ثم بيَّن السبب الذي وصلوا به إلى هذا، فقال: {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} يعني في الدنيا محسنين، أي: قائمين بطاعة الله على الوجه الذي يرضاه الله - عز وجل - وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (¬2) هذا الإحسان في العبادة، أما الإحسان في معاملة الخلق، فإنَّ أجمع ما يقال فيه ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {ومن دونهما جنتان} (4878) ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (180) .. (¬2) تقدم تخريجه ص 62.

يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» (¬1) هذا هو الإحسان إلى الناس، أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من حسن الخلق، وطلاقة الوجه، وكف الأذى، وبذل الندى إلى غير ذلك مما هو معروف، فهؤلاء محسنون في عبادة الله، ومحسنون إلى عباد الله، ثم ذكر نوعاً من هذا الإحسان فقال: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} . (ما) هنا قيل: إنها زائدة في اللفظ، لكنها زائدة في المعنى، وأن التقدير: كانوا قليلاً يهجعون، أي لا ينامون إلا قليلاً: وماذا يصنعون في هذه اليقظة؟ يصنعون ما ذكره الله تعالى في سورة المزمل: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك} . فهم ليسوا يسهرون على اللهو واللغو، أو يستيقظون على مثله، ولكنهم يقل نومهم للتفرغ لطاعة الله عز وجل: {وبالأَسحار هم يستغفرون} . الأسحار: جمع سحر، وهو آخر الليل، {هم يستغفرون} ، يعني يسألون الله المغفرة، وهذا من حسن عملهم وعدم إعجابهم بأنفسهم، وكونهم يشعرون بأنهم وإن اجتهدوا فهم مقصرون، فيستغفرون الله بعد فعل الطاعة جبراً لما حصل فيها من خلل، ويشرع في نهاية العبادات أن يستغفر الإنسان ربه مما قد يكون فيها من خلل، فبعد الصلاة يستغفر الإنسان ربه ثلاثاً، وبعد الحج قال الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} فهم يسألون المغفرة بعد تهجدهم وقيامهم ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الأول فالأول (1844) .

وسهرهم في طاعة الله، خوفاً من أن يكون هناك تقصير، وهذا مما يدل على معرفتهم بأنفسهم، وأنهم يرون أنفسهم مقصرين، خلافاً لما يفعله بعض الناس الآن إذا تعبد لله تعالى بأدنى عبادة شمخ بنفسه وأدل على الله تعالى بها، وظن أنه من عباد الله الصالحين، صحيح أن الإنسان ينبغي أن يرجو ربه إذا أنعم الله عليه بطاعة أن يقبلها، لكن كونه يرى أنه قد أتم كل شيء. فهذا يخشى أن يحبط عمله وهو لا يشعر. {وفي أموالهم حق للسآئل والمحروم} في أموالهم كلها سواء الأموال الزكوية، أو غير الزكوية فيها حق للسائل والمحروم، إذا أتاهم سائل أعطوه، وإذا رأوا محروماً أي ممنوعاً من الرزق، وهو الفقير أعطوه، فمالهم قد أعدوه لما يرضي الله - عز وجل - من السائلين والمحرومين وغير ذلك من الإنفاق المشروع، فهم يقومون بطاعة الله تهجد في الليل واستغفار وبذل للمال، لكن من غير إسراف ولا مخيلة. {وفي الأَرض ءايات للموقنين} لم يبين الله هذه الآيات بل جاءت منكرة، ليشمل كل آية في الأرض، سواء كانت الآيات فيما يحدث فيها من الحوادث، أو كانت في نفس طبيعة الأرض وتركيب الأرض، فإن فيها آيات عظيمة من حيث التركيب، كما قال الله - عز وجل -: {وفي الأَرض قطع متجاورت} فتجد الحجر الواحد يشتمل على عدة معادن وهو حجر واحد، وترى أحياناً في {الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألونها وغرابيب سود} وتجد فيها الأرض اللينة الرخوة، والأرض الصلبة إلى غير ذلك مما يعرفه علماء الجيولوجيا من الآيات العظيمة، وفيها آيات من جهة

الحوادث التي تحدث فيها من الزلازل والبراكين وغيرها، وفيها آيات أيضاً من جهة طبيعة الجو من حر وبرد، ورياح عاصفة، ورياح باردة، ورياح دافئة، وغير ذلك مما إذا تأمله الإنسان عرف به قدرة الله عز وجل من جهة، وعرف حكمته ورحمته أيضاً من جهة أخرى، لأن آيات الله سبحانه وتعالى يتبصر بها الإنسان من حيث القدرة والعظمة، ومن حيث الحكمة والرحمة، لأن كل شيء تجده مناسباً لمكانه وزمانه، وكل شيء تجده من آثار رحمة الله - تبارك وتعالى - فكلمة (آيات) نكرة عامة لكل ما يحدث في الأرض من آيات، ولكل ما فيها من طبيعتها وتركيبها وغير ذلك {ءايات للموقنين} أي لمن أيقن بوجود الله عز وجل وعظمته وجلاله، أما من شك - والعياذ بالله - فإنه لن ينتفع بهذه الآيات، بل قد تكون هذه الآيات ضرراً عليه، فإن الآيات الكونية، أو الشرعية قد تكون خيراً للإنسان، وقد تكون شرًّا، قال الله تبارك وتعالى: {وإذا مآ أنزلت سورة} يعني من القرآن {فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} كذلك الآيات الكونية من الناس من ينتفع بها ويستدل بها على ما فيها من آيات الله - عز وجل - ومن الناس من يكون بالعكس يؤدي ما يجده في الآيات إلى الإلحاد - والعياذ بالله - ولهذا قال: {وفي الأَرض ءايات للموقنين} يعني لا لكل إنسان بل للموقن، أما الشاك والمتردد والكافر فإنه لن ينتفع بهذه الآيات، {وفي أنفسكم} . أيضاً في

أنفسكم آيات {أفلا تبصرون} وآيات هنا محذوفة، ولهذا نقول في الإعراب: في أنفسكم، جار ومجرور، خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: وفي أنفسكم آيات. والحكمة - والله أعلم - ونحن في علمنا القاصر نظن أن الله حذف هذه الآيات لأنها أمس بالإنسان من الأرض وأدخل بالإنسان من الأرض، لأنها هي في نفسه، في أنفسكم آيات: ليس في تركيب الجسم فحسب، وليس فيما أودعه الله تعالى من القوة فحسب، بل حتى في تقلبات الأحوال، فالإنسان تجده يتقلب من سرور إلى حزن، ومن غم إلى فرح، تقلبات عجيبة عظيمة، حتى إن الإنسان في لحظة يجد نفسه متغيراً، وأحياناً يجد نفسه متغيراً بدون سبب، يكون منشرح الصدر واسع البال مسروراً، وإذا به يغتم بدون سبب، وأحياناً بالعكس، هذا بالنسبة للأحوال النفسية، كذلك أيضاً بالنسبة للأحوال الإيمانية، وهي أعظم وأخطر، تجد الإنسان في بعض الأحيان يكون عنده من اليقين ما كأنه يشاهد أمور الغيب مشاهدة حسية، كأنما يرى كل ما أخبر به الله من علوم الغيب، وفي بعض الأحيان يقل هذا اليقين، لأسباب قد تكون معلومة، وقد تكون غير معلومة، لكن من الأسباب المعلومة قلة الطاعة، فإن قلة الطاعة من أسباب ضعف اليقين، فإذا قلت طاعة الإنسان ضعف يقينه، قال الله تعالى: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} ومنها: اللهو، والغفلة، ولهذا قال الصحابة - رضي الله عنهم - لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - إنا إذا كنا عندك وذكرت الجنة والنار فكأنما نراها رأي العين، فإذا ذهبنا إلى أهلنا

عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا (¬1) . وهكذا الإنسان كلما لهى قل يقينه وقل إيمانه، ومن ثم نهى الشرع عن اللعب واللهو الباطل، الذي يزداد به الإنسان بعداً من الله وبعداً عن طاعة الله وعن التفكير في آيات الله. أيضاً في النفس آيات في نفوس الناس: فمن الناس من تجده هيناً ليناً طليق الوجه مسروراً، كل من رآه سر بوجهه، وكل من جلس إليه زال عنه الغم والهم، ومن الناس من هو بالعكس قطوب، عبوس، بمجرد ما تراه لو كنت مسروراً لأتاك الحزن والسوء، فهذا أيضاً من آيات النفس وهي كثيرة جداً، ومن أراد المزيد من هذا والاطلاع على قدرة الله تعالى فيما في أنفسنا من الآيات فعليه بمطالعة كلام ابن القيم - رحمه الله - في كتاب (مفتاح دار السعادة) يجد العجب العجاب، وكذلك أيضاً كتابه الصغير وهو كبير في المعنى وهو (التبيان في أقسام القرآن) . ذكر من ذلك العجب العجاب {أفلا تبصرون} ، الاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار، كأنما يقول الله - عز وجل - أبصروا في أنفسكم تبصَّروا وتأملوا وتفكروا، فإذا لم تعرفوا هذه الآيات فأنتم لا تبصرون، فيكون الاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار ألا نتبصر، وهي دعوة من الله - عز وجل - لعباده أن يتبصروا في الآيات، فإذا لم تتبصر في الآيات فاعلم أنك محروم، قال الله تعالى: {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} . إذن إذا لم تنتفع بالآيات ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة (2750) .

فاعلم أنك محروم، وأن إيمانك ناقص {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} . فعليك يا أخي أن تتفكر في آيات الله الكونية، وما في هذا الكون العظيم من آيات الله الدالة على عظمته وسلطانه ورحمته وحكمته، وكذلك في آيات الله الشرعية، ومن فتح الله عليه في الآيات الشرعية ينتفع بها أكثر مما ينتفع بالآيات الكونية، إذا تأمل ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات، والأفعال والأحكام، ازداد إيماناً بالله - عز وجل - وعرف بذلك الحكمة والرحمة، وإذا تأمل فيما أخبر الله به عن اليوم الآخر، وما يكون فيه من ثواب وعقاب، وجزاء وحساب ازداد إيماناً بالله، وكلما تأمل الإنسان في آيات الله الشرعية ازداد إيماناً، فبعض الناس الموفقين يكون ازدياد إيمانه بالآيات الشرعية أكثر من ازدياد إيمانه بالآيات الكونية، أما الإنسان الذي يفتح الله عليه في هذا وهذا فيا حبذا. {وفي السماء رزقكم وما توعدون} ذهب كثير من العلماء أن المراد بالرزق هنا المطر، لأن الله تعالى قال: {هو الذي يريكم ءاياته وينزل لكم من السماء رزقاً وما يتذكر إلا من ينيب} . وسمي المطر رزقاً؛ لأنه سبب للرزق، فإذا أنزل الله المطر أخرجت الأرض الماء والمرعى، متاعاً لنا ولأنعامنا، وهذا رزق، كم من ناس يكون رزقهم على ما ينزل من المطر من الزروع والحشيش والمياه وغيرها، بل إن الله تعالى قال: {أفرءيتم الماء الذي تشربون أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} هل أحد يستطيع أن ينزل من المزن ماءً؟ لا يمكن، وهل أحد يستطيع أن

يخلق في المزن ماءً؟ لا يمكن، وإنما الله عز وجل هو الذي يتولى ذلك، هذا هو مادة الرزق، لولا الماء لهلكت، وتأمل قوله تعالى: {أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون} . لم يقل: لو نشاء لم ننزله، مع أنه لو شاء لم ينزله، لكن قال: {لو نشاء جعلناه أجاجاً} يعني لو نشاء أنزلناه لكن جعلناه أجاجاً مالحاً، لا يمكن أن يشرب، وحسرة الإنسان على ماء بين يديه ولكن لا يستطيعه ولا يستسيغه أشد من حسرته على ماء مفقود، لأن ماءً موجوداً لا تنتفع به ولا تستطيع شربه أشد حسرة من ماء مفقود، ولهذا ذكرنا الله هذه الحال، أرأيتك الآن لو أن هذا المطر العذب الزلال اللذيذ صار أجاجاً مالحاً، ماذا تكون الحال؟ تكون صعبة جداً، ولهذا قال: {لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون} . {وفي السماء رزقكم} إذن الرزق هو المطر كما في الآية الكريمة {وينزل لكم من السماء رزقاً} ويمكن أن نقول: إن الرزق الذي في السماء أعم من ذلك، فقد يقال: إن في السماء رزقاً من المطر، وما كتبه الله لنا في اللوح المحفوظ من المصالح والمنافع الجسدية من أموال وبنين وغير ذلك، فيكون هذا القول أشمل وأعم، واعلم أنه ينبغي أن يراعي المستدل بالقرآن والسنة قاعدة مفيدة، وهي إذا فسرنا النص القرآني أو النبوي بمعنى أخص وفسرناه بمعنى أعم، فنأخذ بالأعم، لأن الأعم يدخل فيه الأخص ولا عكس، إلا إذا دل دليل على أنه خاص، فهذا يتبع فيه الدليل، لكن عندما لا يدل الدليل، فخذ بالأعم، لأن الأعم يدخل فيه الأخص ولا عكس، فهنا إذا قلنا: المراد بالرزق ما هو أعم من

المطر، فالجواب صحيح، فيدخل فيه المطر وغيره، وقوله: {وما توعدون} يعني وفيه الذي توعدون، والذي نوعد الجنة، فالجنة في السماء وليست في الأرض، ولهذا قال الله تعالى في قصة آدم: {قلنا اهبطوا منها} . والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل، فالجنة في السماء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة درجات، وأن أعلاها الفردوس، وأنه أعلاها وأوسطها أيضاً، وهو إشارة إلى أن الجنات مثل القبة أعلاها هو وسطها، قال: «منه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن» (¬1) إذن هي أعلى شيء، - نسأل الله أن يجعلنا من ساكنيها إنه على كل شيء قدير -، فالذي نوعد هو الجنة، فالرزق في السماء، والجنة التي نوعدها في الآخرة في السماء، إذا نحن أهل الأرض محتاجون إلى السماء في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ففي السماء رزقنا في الدنيا، وفيها ما نوعد في الآخرة وهو الجنة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها. {فورب السماء والأَرض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون} الفاء عاطفة، والواو للقسم، ورب السماء والأرض هو الله - عز وجل - أقسم بنفسه تبارك وتعالى بمقتضى ربوبيته للسماء والأرض، أن ما يوعدون حق؛ لأنه قال: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} {فورب السماء والأَرض} أي: ما توعدون. ويحتمل أن يكون الضمير عائداً للقرآن، ويحتمل أيضاً أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمعاني الثلاثة كلها متلازمة، وقوله: {إنه لحق} أي: ثابت، لأن الحق والباطل ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله (2790) .

متقابلان، فالباطل هوالزائل الضائع سداً، والحق هو الثابت الذي فيه الفائدة، وفيه الخير والصلاح، وقوله: {مثل مآ أنكم تنطقون} يعني كما أن الإنسان يتيقن نطقه، فإن هذا القرآن حق، ومعلوم أن كل واحد منا لا ينكر نطقه، وإذا نطق تيقن أنه نطق، إذن هذا القرآن كلام الله - عز وجل - حق مثلما أن نطقنا حق. {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل له، ولكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، كأنه قال: هل أتاك أيها المخاطب {حديث ضيف إبراهيم المكرمين} والاستفهام هنا للتشويق، كأنه يشوقك إلى أن تسمع هذا الحديث، ونظيره في التشويق قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} . ليس المراد بهذا الاستفهام أنه يستفهم، لكنه أراد أن يشوق المخاطبين إلى ذلك، ويكون الاستفهام للتهديد والإنذار والتخويف في مثل قوله تعالى: {هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة} فإذا قال قائل: أي شيء يدلنا على أن الاستفهام للتشويق، أو للتهديد، أو للاستخبار أو ما أشبه ذلك؟ نقول: الذي يدلنا على هذا السياق وقرائن الأحوال، والعاقل يفهم هذا وهذا، {هل أتاك حديث} أي: خبر {ضيف إبراهيم} ، ضيف هنا مفرد، لكنه يستوي فيه الجماعة والواحد، وهم جماعة ملائكة كرام عليهم الصلاة والسلام، {ضيف إبراهيم} يعني الذين نزلوا ضيوفاً عنده، وإبراهيم هو الخليل عليه الصلاة

والسلام، وهو أبو العرب، وأبو بني إسرائيل كما قال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} . وهو الذي أمرنا الله تعالى أن نتبع ملته، قال الله تعالى: {ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} . ولهذا ادعت اليهود أن إبراهيم يهودي، والنصارى ادعوا أنه نصراني، ولكن الله تعالى كذبهم في ذلك، فقال: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين} . يقول الله - عز وجل -: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً} يحتمل أن {إذ دخلوا} متعلق بقوله (المكرمين) يعني الذين أكرمهم حين دخولهم عليه، ويحتمل أنها مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكر إذ دخلوا على إبراهيم {فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون} (قالوا سلاماً) ، أي: نسلم سلاماً، وعليه فسلاماً مصدر عامله محذوف، والتقدير: نسلم، {قال سلام} مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: عليكم سلام، وعلى هذا فيكون التسليم هنا ابتداؤه بالجملة الفعلية، وجوابه بالجملة الاسمية، والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله -: إن رد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكمل من تسليم الملائكة، لأن تسليم الملائكة جاء بالصيغة الفعلية، ورد إبراهيم جاء بالصيغة الاسمية، {قوم منكرون} ، قوم خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أنتم قوم، وإنما قال إنهم قوم؛ لأنهم بصورة البشر، وقوله: {منكرون} أي: غير معروفين، كما قال تعالى: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً} . في هذه الآية شاهد لحذف المبتدأ، وحذف الخبر، والشاهد

لحذف الخبر (سلام) ، لأن التقدير: عليكم سلام. والشاهد لحذف المبتدأ (قوم) ، لأن التقدير: أنتم قوم. {فراغ إلى أهله} راغ: انسل بخفية وسرعة، وذلك من حسن ضيافته. لم يقل: انتظروا آتي لكم بالطعام. ولم يقم متباطئاً كأنما يدفع دفعاً، وإنما قام بسرعة منسلاً، لئلا يقوموا إذا رأوه ذهب إلى أهله، فكأنه أخفى الأمر عنهم {أهله} يعني أهل بيته {فجاء بعجل سمين} وفي آية أخرى: {بعجل حنيذ} أي مشوي، واللحم إذا شوي يكون أطعم وألذ، لأن طعمه يبقى فيه لا يمتزج بالماء، بخلاف ما إذا طبخ يمتزج بعضه بالماء، فتقل لذته، لكن إذا كان مشوياً صار أطيب وأحسن، {فجاء بعجل سمين} يعني أنه عليه الصلاة والسلام لا يتخير للضيوف البهائم العجفاء الهزيلة، وإنما يتخير لهم البهائم السمينة، لأنها ألذ وأطيب وأنفع، واختيار العجل إما أن يكون من عادته عليه الصلاة والسلام أن يكرم الناس بهذا، أو أنه يكرم الضيوف بحسب ما تقتضيه الحال، فإذا كانوا كثيرين أتى بالعجل، وإذا كانوا أقل أتى بالغنم، وما أشبه ذلك حسب عادة الكرماء {فقربه إليهم قال ألا تأكلون} أي لم يجعله بعيداً، ويقول: قوموا إلى طعامكم، بل خدمهم حتى جعله بين أيديهم، وقربه إليهم قال: {ألا تأكلون} ولم يقل: كلوا. إنما عرضه عليهم عرضاً، لأن هذا أبلغ في الإكرام، والعرض أخف وألطف من الأمر، إذ إنه لو قال: كلوا. كان يحتمل أنه أراد أن يستعلي عليهم ويوجه الأمر إليهم، لكن قال: ألا تأكلون؟ والفرق بين العبارتين في الرق، فقوله: {ألا تأكلون} أرق

وأرفق. مسألة: هل نقول: إن السنة والأفضل أن الإنسان إذا دعا ضيوفاً، أو أتاه ضيوف أن يقرب إليهم الطعام في مجلس الجلوس أو نقول: هذا يختلف باختلاف الأحوال؟ الثاني هو الأظهر، لأن عموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» (¬1) يدل على أنك تكرمهم بما جرت العادة بإكرامهم به، وعندنا الآن إذا دعوت أصحابك وأصدقاءك وهم قلة فلا يعدون تقديم الطعام في مكان جلوسهم إهانة، لأنهم إخوانكم وأصدقاؤكم، لكن لو نزل بك ضيف أو دعوت ضيفاً ليس بينك وبينه صلة تامة فإنه في عرف الناس الآن ليس من إكرامه أن تقدم الطعام في محل الجلوس، اللهم إلا لضرورة، إذا لم يكن عندك مكان، والآن الإكرام أن تجعل الطعام في مكانه، ثم إذا أراد أن يأكلوا يقول: تفضلوا، ألا تتفضلوا، أو ما أشبه ذلك من الكلمات المتداولة، فالمهم أن قوله تبارك وتعالى عن إبراهيم: {فقربه إليهم قال ألا تأكلون} ينبغي أن يجعل هذا حسب عادة الناس، إذا كان من الإكرام أن تأتي بالطعام إلى محل جلوسهم فأت به، وإذا كان من الإكرام أن تجعله في محل آخر فافعل، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . {فأوجس منهم خيفةً} أي: أحس بنفسه بخيفة منهم، وسبب تلك الخيفة أنه عليه الصلاة والسلام لما قدَّم إليهم الطعام لم ¬

(¬1) تقدم تخريجه ص 94.

يأكلوا منه {فأوجس منهم خيفةً} لأن العادة أن الضيف يأكل مما قدم له المضيف، لكن هؤلاء الملائكة، لم يأكلوا؛ لأن الملائكة صمد أي ليس لهم أجواف، كما جاء ذلك مأثوراً عن السلف، ولهذا لا يحتاجون إلى أكل ولا إلى شرب، فأوجس منهم خيفة {قالوا لا تخف} طمأنوه، قالوا: لا تخف لما رأوا على وجهه من علامة الإنكار والخوف، وكل إنسان يعرف حال قلب المرء المواجه له، هل هو في سرور؟ هل هو في انشراح؟ هل هو خائف؟ هل هو مطمئن؟ لأن هذا أمر معلوم بالفطرة، ولا يحتاج إلى كبير فراسة {وبشروه بغلم عليم} البشارة هي الإخبار بما يسر، أي أخبروه بما يسره وهو الغلام العليم، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد بلغ من الكبر عتيًّا قبل أن يولد له، فبشروه بهذا الغلام، وبشروه بأنه عليم أي سيكون عالماً؛ لأن الله تعالى جعله من الأنبياء، والأنبياء هم أعلم الخلق بالله - عز وجل - وأسمائه وصفاته وأحكامه وأفعاله، وهذا الغلام العليم غير الغلام الحليم، لأن في القرآن أن إبراهيم بُشر بغلام عليم في آيتين من كتاب الله، وبشر بغلام حليم في آية واحدة، وهما غلامان، أما الغلام الحليم فإنه إسماعيل أبو العرب، وأما الغلام العليم فإنه إسحاق أبو بني إسرائيل، ولذلك تجد قصتهما مختلفة، ولقد أبعد عن الصواب، من قال: إن الغلام الحليم هو الغلام العليم، بل ونص صريح في سورة الصافات أنهما غلامان مختلفان، فإن الله تعالى لما ذكر قصة الذبيح في سورة الصافات قال بعدها: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} فكيف يبشر بمن أمر بذبحه، وكان عنده وبلغ معه

السعي، كل هذا مما يدل على أن الغلام الحليم غير الغلام العليم، بشروه بغلام عليم، وهذه بشارة بثلاثة أشياء: أولاً بأنه سيأتيه مولود يصل إلى أن يكون غلاماً، ثانياً: أن هذا المولود ذكر لا أنثى لقوله (غلام) ، ثالثاً: أنه عليم أي ذو علم، وكل هذه البشارات عظيمة، كل واحدة تكفي أن تكون بشارة {فأقبلت امرأته في صرة} امرأته هذه: سارة أم إسحاق، أقبلت لما سمعت البشرى {في صرة} في صيحة سرور، لأنها جاءتها هذه البشرى بعد أن تقدمت بها السن، تصيح وكأنها والله أعلم تقول: غلام غلام، {فصكت وجهها} أي ضربته بيدها كالمتعجبة، كما يصنع الناس إلى اليوم إذا أتاهم خبر نادى: الله أكبر. وضرب على وجهه {وقالت عجوز عقيم} عجوز خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أنا عجوز عقيم، فكأنها تعجبت أن تحصل لها البشرى بهذا الغلام العليم، بعد أن تقدمت بها السن وعقمت من الولد، ولكنهم بينوا لها السبب الوحيد الذي به وجد هذا الولد، فقالوا: {كذلك قال ربك} أي مثلما قلنا وبشرنا به، قال الله - عز وجل - وانظر إلى قوله: {قال ربك} حيث أضاف الربوبية هنا إلى هذه المرأة العجوز العقيم الكبيرة، إشارة إلى أن هذا من عناية الله بها، لأن إضافة الربوبية إلى الشخص المعين تكون ربوبية خاصة، والربوبية العامة لكل أحد، والله رب كل شيء، والخاصة ليست لأحد إلا لمن كان خاصًّا بالله، قال الله عز وجل: {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} الربوبية العامة {برب العالمين} ، والربوبية الخاصة {رب موسى وهارون} ، هنا قالوا لها: {قال

ربك} من باب الربوبية الخاصة التي تقتضي عناية خاصة {قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم} إن شئت فقل: (الحكيم) خبر إن و (هو) ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وإن شئت فقل: (هو) مبتدأ و (الحكيم) خبر هو، والجملة خبر إن، وهنا قدَّم الحكيم على العليم؛ لأن المقام يقتضي هنا تقديم الحكمة على العلم، والحكمة هنا في شيئين: أولاً: تأخير الولادة بالنسبة لهذه المرأة، إن الله لم يؤخر ولادتها إلى أن تبلغ العجز إلا لحكمة، ثانياً: كونها ولدت بعد أن أيست واعتقدت أنها عقيم، فهاهنا حكمتان: حكمة سابقة، وحكمة لاحقة، ومن ثم قدَّم اسم الحكيم على اسم العليم، والقرآن إذا جمع الله فيه بين هذين الاسمين الكريمين: العليم والحكيم يقدم غالباً العليم، لكن هنا قدَّم الحكيم؛ لأن المقام يقتضي ذلك {إنه هو الحكيم العليم} وأكثر الناس يظنون أن معنى (الحكيم) أنه المتصف بالحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في مواضعه، ولكن الواقع أن الحكيم له معنيان: حكيم من الحكمة، وحكيم من الحكم، فالله - عز وجل - حكيم من الحكمة، لأن الله تعالى هو الحكم بين العباد، والحاكم في العباد هو حاكم فيهم، وهو الحكم بينهم، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} . {أليس الله بأحكم الحاكمين} . وهذا استفهام للتقرير، يعني أن الله تعالى أحكم الحاكمين، وكلاهما في محله المناسب، ففي سورة المائدة ذكر الله {ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون} . {الظالمون} . {الفاسقون} ،

وتتابعت الآيات حتى قال: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} . فكأن المقام مقام مفاضلة بين الأحكام فبين أن حكم الله أحسن الأحكام، لكن في سورة التين المقام مقام سلطة وقوة، والله أحكم الحاكمين يعني أن حكمه نافذ وسلطته تامة، ولا أحد يعارض حكمه أبداً مهما قويت شوكته، وانظر إلى قول الله تعالى عن عاد {من أشد منا قوةً} . يعني لا أحد أشد منا قوة، فقال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم} . وعذبهم بألطف الأشياء عذبهم بالريح، الهواء اللطيف الذي لا تحس بملمسه، وإن كان قوياً بأن يدفع كل شيء، وهو أقوى من الماء كما هو معروف، وهذا الهواء اللطيف أهلك به هؤلاء القوم الذين يقولون: من أشد منا قوة، أهلكهم به، فالحاصل أن الله أحكم الحاكمين حكمه نافذ صادر عن قوة وسلطان، ثم إن أحكم الحاكمين تضمن أيضاً حسن الحكم، فصار حكم الله - عز وجل - يتضمن أنه الحاكم في العباد، وأنه الحاكم بين العباد، وأن حكمه أحسن الأحكام، وأنه تعالى أحكم الحاكمين، والحكمة البالغة لله ولا شيء من الأفعال القائمة بالوجود أحكم من حكمة الله، وإذا آمنت بهذا أيها المؤمن سهل عليك أمور كثيرة تشكل على كثير من الناس، منها بعض الأحكام الشرعية لا يدرك الناس، أو أكثرهم، أو بعضهم حكمتها، فهل نقول: إذا لم يدرك الحكمة إنه لا حكمة لها، أو نقول: إن لها حكمة، لكن عقولنا قاصرة، نقول: لها حكمة ولكن عقولنا قاصرة، وإذا آمنا هذا الإيمان اطمأننا إلى كثير من الأمور الشرعية التي تخفى علينا حكمتها، فنحن لا ندرك

الحكمة في كون الصلوات الخمس خمساً، أو أنها سبع عشرة ركعة، وأشياء كثيرة من الأمور الشرعية لا يدرك الإنسان حكمتها، لكن إذا آمنت أن الله حكيم آمنت بأنه لابد لهذا الشيء من حكمة تقتضيه، كذلك في الأمور القدرية قد يرسل الله سبحانه وتعالى عذاباً يشمل الصالح والطالح، وقد يرسل الله عذاباً على قوم لا تتوقع أن يصيبهم العذاب، فهل تقول: ما الحكمة؟ أو تقول: إن الله عز وجل لابد أن يكون تقديره لهذا عن حكمة؟ ولذلك أقول: إن الواجب علينا فيما أمر الله به من الشرائع، وفيما قضاه من الأقدار أن نستسلم غاية التسليم، وأن لا نعترض قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} . أقسم الله - عز وجل - أنه لا يمكن لأحد أن يؤمن إلا بهذه الشروط الثلاثة، هي: أن يحكموك فيما شجر بينهم، والثاني: ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً، يعني لا تضيق صدورهم بحكم الله، الثالث: أن يسلموا تسليماً، وأكد هذا المصدر تسليماً يعني تسليماً تامًّا، فلا يتهاون الإنسان ويتباطأ في تنفيذ حكم الله، فإذا وجدت من نفسك عيباً يتعلق بهذه الأمور الثلاثة فصحح إيمانك، فإذا رأيت أنك تود أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله فصحح الإيمان، وإذا رأيت من قبلك أنك لا تريد إلا حكم الله ورسوله لكن يضيق صدرك بحكم الله ورسوله تحدث نفسك أنك لا يمكن تتحاكم إلى غير الله ورسوله لكن يضيق صدرك فأنت ناقص الإيمان، وإذا كنت لا يضيق صدرك ولا تريد التحاكم لغير الله ورسوله وأنت

منشرح الصدر لحكم الله ورسوله، لكن تتباطأ وتتهاون فأنت ناقص الإيمان، اقرأ قول الله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} . لما لم يؤمنوا به أول مرة ولم يقبلوه من أول مرة صارت - والعياذ بالله - قلوبهم متقلبة، وتركهم الله في طغيانهم يعمهون، ولهذا يجب عليك أيها المؤمن أن تبادر بانقياد تام لحكم الله تعالى القدري. وأتكلم على آداب السلام، حيث إن الملائكة قالوا: (سلاماً) ، فقال إبراهيم: (سلام) ، ذكرنا فيما سبق أن رد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أحسن من ابتداء الملائكة؛ لأن رد إبراهيم عليه السلام جملة اسمية تفيد الثبوت والاستمرار، بخلاف سلام الملائكة عليهم السلام، واعلم أن رد التحية واجب، لقول الله تبارك وتعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ} . فقال: {إذا حييتم} ولم يذكر من يحيينا، فيشمل أي إنسان يحيينا، فإننا نحيه ونرد عليه أحسن من تحيته، أو مثلها كما قال: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ} . فبدأ بالأحسن، لأنه هو الأفضل، أو ردوها، أي: ردوا مثلها، ويشمل هذا ما إذا سلم علينا أحد من اليهود، أو النصارى، أو البوذيين، أو غيرهم، فنرد عليهم، لكننا لا نبدأ اليهود والنصارى بالسلام، لنهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك (¬1) ، ثم إن السلام ¬

(¬1) حيث قال: «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام. فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» . أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم (رقم 2167) .

المشروع هو: السلام عليكم، وأما أهلاً وسهلاً، ومرحباً، وكيف حالك وما أشبهها، فهذا ليس بمشروع، المشروع أن تبدأ أولاً بالسلام، ولهذا في حديث المعراج حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالأنبياء فيسلم عليهم، قال: فرد عليه السلام، وقال: مرحباً بالنبي الصالح (¬1) ، فابدأ أولاً بقولك السلام عليكم، والجواب يكون مثل ذلك أو أحسن، يكون: عليكم السلام، أو وعليكم السلام، أو عليكم السلام ورحمة الله، أو عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كل هذا من المشروع، ونرى كثيراً من الناس إذا سُلِّم عليه يقول: أهلاً وسهلاً، أو يقول: مرحباً بأبي فلان، وهذا لا يجزىء، فلو قال: أهلاً وسهلاً، مدى الدهر فإنه لا يجزىء؛ لأن الله يقول: {فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ} ، ومعلوم أن الذي يقول: السلام عليك، يدعو لك بالسلام من كل نقص ومن كل آفة، ومن كل مرض في القلب والبدن، ولا يكفي أن تقول مرحباً وأهلاً، بل لابد أن تقول: عليك السلام، أو وعليكم السلام، وإن زدت ورحمة الله وبركاته كان أحسن. ثانياً: من السنة أن يسلم الصغير على الكبير؛ لأن حق الكبير على الصغير أعظم من حق الصغير على الكبير، فيبدأ الصغير بالسلام على الكبير، ولكن إذا قدر أن الصغير لم يسلم فهل يدع الكبير السلام، لأن الحق له، أو يسلم لئلا تفوت السنة؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء (349) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ? إلى السموات وفرض الصلوات (163) ..

والجواب: يسلم لئلا تفوت السنة، فكون الإنسان يقول: أنا صاحب الحق، لماذا لم يسلم عليَّ، هذا خطأ، صحيح أنك صاحب الحق وأن المشروع أن يسلم هو عليك، لكن إذا لم يفعل فسلم أنت. ثالثاً: يسلم الماشي على القاعد (¬1) ، ولو كان القاعد أصغر، فإذا مر شخص بإنسان قاعد فليسلم عليه، ولو كان أصغر منه سنًّا، أو قدراً، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه يسلم على الصبيان إذا مر بهم (¬2) ، وفي ذلك فوائد عظيمة منها: التواضع، أن الإنسان يضع نفسه إذا سلم على من هو دونه، ومنها الرحمة؛ لأن سلامك على الصغار نوع من الرحمة، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الراحمين يرحمهم الله (¬3) - عز وجل -، ومنها تعويد هؤلاء الصبيان على السلام، يعني أن الصبي يعرف شعار المسلمين أن يسلم بعضهم على بعض، فيأخذ من هذا أدباً وخلقاً ينتفع به في شبابه وبعد هرمه. رابعاً: يسلم القليل على الكثير كالصغير مع الكبير، فإذا تقابل جماعة خمسة وستة فيسلم الخمسة على الستة، لأن الستة فيهم زيادة، فهذه الزيادة لها حق الزائد، فيسلم القليل على ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب يسلم الراكب على الماشي (6232) ومسلم، كتاب السلام، باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير (2160) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب التسليم على الصبيان (رقم 6247) ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب السلام على الصبيان (رقم 2168) . (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الناس (1924) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

الكثير، وإذا لم يفعلوا فليسلم الكثير على القليل، لئلا تفوت السنة بينهم. خامساً: يسلم الراكب على الماشي، فإذا تقابل رجلان أحدهما يمشي، والثاني راكب في سيارته أو على بعيره فيسلم الراكب على الماشي، لأن الراكب له علو فيسلم على الماشي، لأن السنة جاءت بهذا (¬1) ، كذلك الصاعد على النازل، فلو أن اثنين التقيا في درجة سلم فإن الصاعد هو الذي يسلم على النازل، وإذا لم تأت السنة ممن عليه أن يبدأ بها فليبدأ بها الثاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (¬2) قال: خيرهما، فدل ذلك على أن من بدأ غيره بالسلام فهو خير، وهو كذلك لأنك إذا سلمت حصلت عشر حسنات، ثم إذا رد صاحبك حصل عشر حسنات، والسبب الذي جعله يحصل عشر حسنات هو البادي، لولا أنه سلم ما رد، فتكون أنت متسبباً لهذا الذي عمل عملاً صالحاً فلك أجره، ولهذا قال العلماء: ابتداء السلام سنة، ورده واجب، ثم أوردوا على هذا إشكالاً فقالوا: ابتداء السلام أفضل من رده، فكيف تكون السنة أفضل من الواجب؟ والقاعدة الشرعية أن الواجب أفضل، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرَّب إليَّ بشيء أحبّ إليَّ مما افترضت ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب يسلم الراكب على الماشي (رقم 6232) ومسلم، كتاب السلام، باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير (رقم 2160) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الهجرة (6077) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي (2560) .

عليه» (¬1) أجابوا عن ذلك قالوا هذا الإشكال جوابه: أن هذا الواجب كان مبنيًّا على السنة، فصارت السنة التي بني عليها الواجب، لمن أتى بها ثواب أجره الخاص وثواب أجر الراد. سادساً: ينبغي أن يكون بصوت مسموع، فبعض الناس يلاقيك ويسلم لكن تشك: هل سلم أو لا؟ لأنه لم يرفع صوته، وهذا غلط، ارفع الصوت على وجه يدل على أنك فرح بهذا الأخ الذي قابلك أو الذي سلمت عليه لا بصوت مزعج ولا بخافت لا يسمع، وعلى العكس من ذلك، بعض الناس يسلم بصوت مزعج، والدين وسط بين الغالي والجافي، فنقول: سلم سلاماً مسموعاً يسمعه أخوك ويكون بأدب واحترام. سابعاً: من آداب السلام أيضاً: أن يكون المسلم منبسط الوجه منشرح الصدر، فإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق (¬2) ، فإن طلاقة الوجه وانشراح الصدر والابتسامة في وجه أخيك لا شك أنها من الأمور المطلوبة لما فيها من إدخال السرور على إخوانك، وإدخال السرور على إخوانك من الأمور المستحبة التي تُؤجر عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة» (¬3) . ثامناً: رد السلام المحمول إن كان الحامل له شخصاً وقال: فلان يسلم عليك. فقل: عليك وعليه السلام، وإن شئت فقل: عليه السلام، أي على الذي حمله، أما إذا كان محمولاً بكتابة ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع (6502) . (¬2) أخرجه الإمام أحمد (3/344، 360) . (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب كل معروف صدقة (6021) .

يعني إنسان كتب لك كتاباً، وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإن كنت تريد أن تجيبه بكتاب فرد عليه بجوابك، مثلاً: كتب إليك إنسان كتاباً وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تكتب إليه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قرأت كتابك وفهمت ما فيه، والجواب كذا وكذا، وأكثر الناس الآن لا يهتمون بهذا، تجده يكتب الجواب ويقول في ابتدائه: السلام عليكم ورحمة الله. هذا طيب، لكن الذي سلم عليك يريد جواباً فقل: جواب - يعني -: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وصلني كتابك أو قرأت كتابك، وفهمت ما فيه، وهذا الجواب، وتجيبه بما سألك، وإذا كان لا يحتاج إلى جواب مثل أن يكون الشخص كتب إليك كتاباً يخبرك بخبر لا يحتاج إلى جواب، فهنا إذا قرأت الكتاب فقل: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، لا أقول وجوباً، لأن صاحبك لن يسمع، لكن على سبيل الاستحباب، رجل دعا لك بظهر الغيب فادع له أنت بظهر الغيب. {قال فما خطبكم أيها المرسلون} القائل: ما خطبكم هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أي ما شأنكم أيهاالمرسلون وهم الملائكة {قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارةً من طين} يعني أرسلنا الله - عز وجل -، لأنه من المعلوم أنه لا يرسل أحداً من الملائكة إلا خالقهم سبحانه وتعالى {إلى قوم مجرمين} أي: ذوي جرم عظيم ألا وهو اللواط - والعياذ بالله -، فإنهم كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، فيأتون ما لم يخلق لهم، ويدعون ما خلق لهم، كما قال لهم نبيهم لوط عليه

الصلاة والسلام: {وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم} ، وهذه الفاحشة فاحشة نكراء، لا يقرها عقل، ولا فطرة، ولا دين، ولهذا كانت عقوبتها القتل للفاعل والمفعول به، إذا كانا بالغين عاقلين، سواء كان محصنين أم غير محصنين، بخلاف الزنى، فالزنى أهون عقوبة، لأن الزنى من لم يكن محصناً فعقوبته أن يجلد مائة جلدة ويغرب عن البلد سنة كاملة، وإن كان محصناً وهو الذي قد تزوج وجامع: فعقوبته أن يرجم بالحجارة حتى يموت، أما هذا فعقوبته القتل بكل حال، كما جاء في الحديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬1) ووقعت هذه الفاحشة في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - فأمر أن يحرق كل من الفاعل والمفعول به، لأن الإحراق أعظم عقوبة يعاقب بها بنو آدم، وكذلك جاء عن بعض الخلفاء أنهم أمروا بإحراق اللوطي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على قتل اللوطي فاعلاً كان أو مفعولاً به، لكنهم اختلفوا: كيف يقتل؟ منهم من قال: يحرق، ومنهم من قال: يرمى بالحجارة حتى يموت كالزاني المحصن، ومنهم من قال: يلقى من أعلى شاهق في البلد، يعني في مكان مرتفع، أعلى ما يكون في البلد، ثم يتبع بالحجارة حتى يموت، فالمهم أنهم متفقون على قتله، ولا شك أن قتله هو الحكمة، لأن هذه الفاحشة متى دبت في الرجال صار الرجال كالنساء، وبدأ الذل والعار والخزي على وجه المفعول به، لا ينساه حتى يموت، ثم استغنى الرجال ¬

(¬1) تقدم ص 86، وهو عند الترمذي (1456) ..

بالرجال وبقيت النساء، لأن هذه الفاحشة - والعياذ بالله - إذا ابتلي بها الإنسان لا يلتفت إلى غيرها، لأنها مرض، فتاك ساري، فإذا أعدم هؤلاء وهم في الحقيقة جرثومة فاسدة مفسدة للإنسان، كان ذلك عين المصلحة، ثم اللواط - والعياذ بالله - لا يمكن التحرز منه، لأنه بين ذكرين لا يمكن لأي إنسان يجد ذكرين يمشيان في السوق أن ينكر عليهما اجتماعهما، ولكن الزنى إذا رأيت رجلاً مع امرأة تستنكره أو تتهمه وتتكلم معه، لذلك كانت عقوبة الإعدام في حق اللوطي أوفق ما يكون للحكمة وللرحمة، فهي رحمة بالفاعلين، يعني باللائط والملوط به، حتى لا يبقيا في حياتهما يكتسبان الإثم وتزداد العقوبة عليهما، ورحمة بالمجتمع فتكون عقوبتهما نكالاً حتى لا يفسد المجتمع، لهذا قالت الملائكة لإبراهيم: {إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين} وجرمهم - والعياذ بالله - ما سبقوا عليه، كما قال لهم نبيهم {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} . {لنرسل عليهم حجارةً من طين مسومةً عند ربك للمسرفين} حجارة من طين، لكنه ليس الطين الذي يتفتت بل الصلب العظيم الذي إذا أصابت هذه الحجارة أحداً من الناس وضربته على رأسه خرجت من دبره، لا يردها عظم ولا لحم، لقوتها وشدتها وصلابتها - والعياذ بالله - {مسومةً عند ربك} أي: معلمة عند الله، يعني عليها علامة، لأن كل شيء عند الله بمقدار، لا تظن أن الأمور التي يقدرها الله - عز وجل - تأتي هكذا صدفة، بل هي بمقدار، حتى تباعد ما بين النجوم، وتفاوت ما بينها من الكبر والإضاءة بمقدار، لم يجىء هكذا فلتة أو جاء صدفة، كل

شيء عند الله بمقدار ولابد، فهذه الحجارة معلمة عند الله، وهل هي معلمة بمعنى أن هذه مكتوب عليها مثلاً حجارة عقوبة؟ أو مسومة بالنسبة لمن تقع عليه؟ الجواب: الثاني، لأن هذا أدق، هذه الحجارة لفلان، هذه الحجارة لفلان، مسومة عند ربك {للمسرفين} أي: للمتجاوزين حدودهم، ولا شك أن اللواط مجاوزة للحد والإسراف - والعياذ بالله - قال الله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين} أخرجناهم أي: أمرناهم أمراً قدرياً فخرجوا، قال الله تعالى للوط: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} . فأخرج الله من كان فيها من المؤمنين، وهم لوط وأهله إلا امرأته، ولهذا {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} بيت واحد، قرية كاملة يدعوهم نبيهم إلى توحيد الله وإلى ترك هذه الفاحشة ما اتبعه أحد حتى أهل بيته لم يخلصوا، فيهم من لم يؤمن بلوط، فانتبه يا أخي الداعية، لا تجزع إذا دعوت فلم يستجب لك من المائة إلا عشرة، فالرسل عليهم الصلاة والسلام يبقون في أممهم دهوراً كثيرة ولا يتبعهم إلا القليل، ولوط عليه الصلاة والسلام لم يتبعه من القرية أحد، وتخلف عن دعوته من تخلف، ولهذا قال: {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} وهنا يتساءل الإنسان في نفسه: كيف قال: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} ، هل المسلمون هنا بمعنى المؤمنين في الآية التي قبلها؟ ذهب بعض العلماء إلى ذلك، وقالوا: إن في هذا دليلاً على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وذهب الآخرون إلى

الفرق، وقالوا: أما المؤمنون فقد نجوا، وأما البيت فهو بيت إسلام، لأن المظهر في هذا البيت - بيت لوط - أنه بيت إسلامي، حتى امرأته لم تتظاهر بالكفر، تظاهرت بأنها مسلمة، ولهذا قال الله تعالى في سورة التحريم: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} ليس المعنى خانتاهما بالفاحشة، بل خانتاهما بالكفر، لكنه كفر مستور، وهو خيانة من جنس النفاق، ولهذا يقال للمجتمع الذي فيه المنافقون: إنه مجتمع مسلم، وإن كان فيه المنافقون، لأن المظهر مظهر إسلام، إذن نقول: {فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} إنما قال: من المسلمين، لأن امرأته ليست مؤمنة، ولكنها مسلمة. {وتركنا فيها آيةً للذين يخافون العذاب الأَليم} تركنا فيها آية أي علامة، فما العلامة؟ أهي علامة حسية، أم علامة معنوية، أم علامتان معنوية وحسية؟ والقاعدة المفيدة في التفسير: (إذا احتملت الآية أكثر من معنى لا مرجح لأحدهما على الآخر ولا منافاة بينهما، وجب حملها على المعنيين جميعاً) فهذه الآية حسية ومعنوية، أما الحسية: فما نشاهد مكان قريتهم التي تسمى بحيرة لوط، فإن هذا كان موضع القرية، كل يمر به ويراه ويشاهده، كما قال تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون} وآية معنوية كل من قرأ قصتهم في جميع ما وردت فيه من السور الكريمة اعتبر واتعظ وخاف، لكن من الذي ينتبه لهذه الآيات؟ ومن يتعظ؟ {للذين يخافون العذاب الأَليم} أما المنكرون الذين

قست قلوبهم فإنهم لن ينتفعوا بالآيات، قال الله تعالى: {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين بالآيات. {وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين} يعني في موسى آيات من آيات الله عز وجل، حين أرسله الله تعالى إلى فرعون، وفرعون علم جنس على كل من حكم مصر وهو كافر، وموسى بن عمران عليه السلام أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو في المرتبة الثالثة من الفضل بالنسبة لأولي العزم الخمسة، فإن أفضلهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم نوح، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى {بسلطان مبين} ، أي: بحجة بينة في نفسها مبينة لغيرها، فالآيات التي جاء بها الأنبياء بينات واضحة لكل ذي عدل وإنصاف، وهي أيضاً مبينة لصدق ما جاءت به الرسل، ولهذا اعلم أنه كلما جاء في القرآن كلمة: (مبين) فهي بمعنى مبين في ذاته، مبين لغيره، إلا ما دل السياق أن المراد البين في ذاته، فمن الآيات العظيمة التي جاء بها موسى، عصا موسى، التي كان يستعملها ويتوكأ عليها عند الحاجة، ويهش بها على غنمه أوراق الشجر عند رعيها، وله فيها حاجات أخرى، كما قال هو عليه الصلاة والسلام لما سأله الله {وما تلك بيمينك يموسى قال هي عصاى أتوكؤا عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مأرب أخرى} . فهي آية في كونه إذا وضعها على الأرض صارت ثعباناً مبيناً، أي: حية عظيمة تخيف من رآها، ولهذا رهب منها موسى عليه الصلاة والسلام

حين ألقاها وولى هارباً، فناداه الله - عز وجل - (لا تخف) ومنها أنه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء في الحال، بيضاء لكن بدون سوء. أي بدون عيب يعني ليست بيضاء برص، ولكنها بيضاء مخالفة للون جلده في الحال، حقيقة لا تخيلاً، وقال الله تعالى في سورة الإسراء: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات} المهم أنه أتى إلى فرعون بسلطان مبين وحجة دامغة بالغة، لكنه - والعياذ بالله - {فتولى بركنه} أي: بقوته وسلطانه وجنده، أعرض عن موسى استكباراً وجحوداً وظلماً وعدواناً، قال الله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلماً وعلواً} . {وقال ساحر أو مجنون} يعني أنه اتهم عليه الصلاة والسلام بأنه ساحر، لأنه أتى بآيات تشبه ما يصنعه السحرة، عصا من خشب توضع في الأرض وتكون ثعباناً مبيناً، ويد تدخل في الجيب وتخرج بيضاء في الحال، هذا يشبه السحر، أو {مجنون} ، وذلك بكونه يدعي أن الله وحده خالق السموات والأرض وهو الرب وهو الإله، لأنهم كانوا لا يعرفون الإله إلا فرعون، فإذا جاء شخص يقول: إن الله هو رب العالمين، وأن فرعون ليس إلهاً ولا ربًّا. فإنهم يرمونه بالجنون، هذا مجنون خرج عما نعهد، قال الله تعالى: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم} أي طرحناهم فيه، واليم هو البحر، والبحر الذي هلك فيه فرعون هو البحر الأحمر، الذي بين آسيا وأفريقيا، وذلك أن فرعون جمع جنوده وحشدهم وأراد أن يقضي على موسى وقومه، فخرج موسى عليه السلام وقومه من مصر متجهين إلى الشرق، ولكن حال بينهم وبين مرادهم البحر، فلما وصلوا إلى البحر كان

البحر بين أيديهم، وفرعون وقومه خلفهم، فقال قوم موسى: {إنا لمدركون} يعني هلكنا، لأن فرعون خلفنا والبحر أمامنا فكيف النجاة؟! فقال موسى: {كلا إن معى ربي سيهدين} . وهذه معية خاصة، تقتضي النصر والتأييد، قال: {سيهدين} ولم يقل: سوف يهدين، بل قال: {سيهدين} إشارة إلى قرب هذا الحصر وأنه سيزول قريباً، وهذا هو الذي حصل، فأوحى الله تعالى إليه أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق اثنتي عشرة طريقاً في الحال ويبس في الحال، وصار صالحاً للمشي عليه في الحال، كما قال عز وجل: {فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى} . فعبر موسى وقومه من هذه الطرق العظيمة التي كان الماء بينها كالجبال ولما انتهوا خارجين كان فرعون في أثرهم وانتهوا داخلين، فأمر الله - عز وجل - بقدرته وسلطانه البحر أن يعود إلى ما كان عليه، فانطبق على فرعون وقومه فهلكوا عن آخرهم والحمد لله، ولهذا قال: {وهو مليم} أي: فرعون فاعل ما يلام عليه ولا شك أن رده للرسالة الإلهية، وادعائه أنه الرب وقوله: {ما علمت لكم من إله غيرى} وما أشبه ذلك من الكلمات لا شك أنها كلمات يلام عليها، لأنه قد تبين له الحق، ولكنه عاند وأبى أن ينقاد للحق، كما قال له موسى: {لقد علمت} يعني يا فرعون {مآ أنزل هؤلآء إلا رب السماوت والأَرض بصآئر وإني لأَظنك يفرعون مثبورًا} ثم قال تعالى: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} يعني وفي عاد آيات {إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} عاد في جنوب

الجزيرة العربية، وكانوا قوماً أشداء حتى إنهم قالوا: {من أشد منا قوةً} فقال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً} . فأصابهم القحط والجدب، فجعلوا يترقبون المطر، فأرسل الله عليهم الريح العظيمة الشديدة {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} قال الله تعالى: {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} . فأرسل الله عليهم هذه الريح العقيم التي ليس لهم فيها ثمرة ولم تحمل ماء: كالمرأة العقيم التي لا تلد، هذه أيضاً ريح عظيمة لا تحمل سحاباً ولا مطراً، هذه الريح العقيم هي الريح الغربية، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» (¬1) أي: بالريح الغربية، أرسل الله عليهم هذه الريح العقيم {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} كل شيء تأتي إليه تجعله كالرميم هامداً، حتى إنها تأخذ الرجل - والعياذ بالله - إلى فوق ثم ترده إلى الأرض {كأنهم أعجاز نخل خاوية} . {كأنهم أعجاز نخل منقعر} . هلكوا عن آخرهم، تأمل الآية، قوم عاد قوم أقوياء أشداء هلكوا بهذه الريح اللطيفة، التي لا ترى لها جسماً، وإنما تحس بها بدون أن ترى شيئاً، ومع ذلك قضت عليهم بأمر الله - عز وجل -، ولهذا قال تعالى: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} فهذا فيه آيات من آيات الله - عز وجل -، أرسل الله عليهم هذه الريح، فأهلكتهم عن آخرهم. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (4105) ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور (900) .

{وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين} ثمود هم الذين أرسل الله إليهم نبيه صالحاً - عليه الصلاة والسلام -، فوعظهم وذكرهم، وجعل لهم آية وهي الناقة التي شرفها الله تعالى بإضافتها إلى نفسه الكريمة، حيث قال تبارك وتعالى: {فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقيها} أي احذروا ناقة الله أن تعبثوا فيها، أو أن تنكروها، وهذه الآية (لها شرب) تشرب من البئر التي تسمى بئر الناقة، ولهم شرب يوم معلوم يشربونه، فالناقة تشرب يوماً وهم يشربون يوماً، وهذه الناقة ذكروا أنهم: ما جاء أحد يستقي من هذا البئر في يومها التي تشرب منه إلا أخذ بدل شربها شيئاً من لبنها بقدر ما شربت، فالله أعلم: هل هذا هو الواقع أو يختلف؟ لكن على كل حال هذه الناقة لا شك أنها ناقة ليست كسائر النوق، إذ إنها آية من آيات الله - عز وجل -، لكنهم كذبوا وأبوا وتوعدهم عليه الصلاة والسلام أن يتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام، ولكنهم مازالوا على كفرهم وإنكارهم، ولهذا قال: {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين} وديارهم معروفة الآن، موجودة في مكان يسمى الحجر، ويسمى الآن ديار ثمود، وقد مر بها النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى تبوك، لكنه عليه الصلاة والسلام أسرع حين مر بهذه الديار وقنع رأسه، ونهى أمته أن يدخلوا إلى هذه الأماكن، أماكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، قال: «فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوها أن يصيبكم ما أصابهم» (¬1) وقوله: «أن يصيبكم ما ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب (433) ، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم (2980) (38) .

أصابهم» . لا يلزم منه أن يراد به ما أصابهم من العذاب الجسمي قد يكون المراد ما أصابهم من العذاب الحسي، وما أصابهم من الإعراض والكفر. فلو قال قائل: إنه يوجد أناس يذهبون إلى هذه الأماكن وهم غير باكين ولم يصابوا بشيء. فنقول: الجواب عن هذا من وجهين: أولاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يؤكد أن يصابوا بهذا، ولكن قال: «حذار أن يصيبكم مثل ما أصابهم» (¬1) . الوجه الثاني: أن نقول: لا يتعين أن يكون المراد بذلك أن يأخذوا بما أخذ به هؤلاء من العقوبة الحسية الظاهرة، وهي الرجفة والصيحة التي أماتتهم عن آخرهم، فقد يكون المراد مرض القلب، الذي هو الاستكبار والإعراض ورد الحق. {إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين} ، هذا الحين هو ثلاثة أيام {فعتوا عن أمر ربهم} أي: فأبوا ولم يرجعوا عن غيهم {فأخذتهم الصاعقة} التي صعقتهم، وهي رجفة وصيحة، {وهم ينظرون} أي: ينظر بعضهم إلى بعض يتهاوون ويتساقطون أمواتاً {فما استطعوا من قيام} أي: ما استطاعوا أن يقوموا {وما كانوا منتصرين} ، أي: لم يتمكن بعضهم أن ينصر بعضاً، بل كلهم هلكوا عن آخرهم، وهكذا يفعل الله تعالى بمن كذب أولياءه، وهكذا يفعل الله تعالى بمن كذب رسله عليهم الصلاة والسلام، ¬

(¬1) أخرجه مسلم في الموضع السابق (2980) (39) .

إلا أن العذاب المستأصل رفع عن هذه الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه وتعالى ألا يأخذهم بسنة بعامة، أي بعقوبة عامة، لكن ابتلوا بشيء آخر وهو أن يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً (¬1) ، والأمر كذلك وقع، فإن هذه الأمة لم تصب بعذاب عام كما أصيبت به الأمم التي قبلها، لكن أصيبت بأن جعل الله بأسهم بينهم منذ زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لما اختلفوا على عثمان وعلي - رضي الله عنهما - وحصلت الفتن تتوالى إلى يومنا هذا، ثم هذه الأمة التي جُعل بأسها بينها ليست هي أمة الإجابة فقط، بل أمة الإجابة وأمة الدعوة، ولهذا نقول: ما حصل من الفتن والبلاء في الأرض مشارقها ومغاربها من الكفار وغير الكفار فإنما هو نتيجة للمعاصي، وهي عقوبة هذه الأمة أن الله يذيقهم بأس بعض. {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوماً فسقين} يعني اذكر قوم نوح من قبل، وهم أول أمة أرسل إليهم الرسول، ولكنهم كذبوا، ونوح عليه الصلاة والسلام بقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ويذكرهم ويعظهم، ولكنهم - والعياذ بالله - لم يؤمنوا، ما آمن معهم إلا قليل حتى أنه عليه الصلاة والسلام يقول: {كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم} ، جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا ما يقول، واستغشوا ثيابهم أي تغطوا بها لئلا يبصرون، نسأل الله العافية، وهذا غاية ما يكون من البغضاء لما يقول ولما يفعل، {وأصروا} ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2889) .

على باطلهم {واستكبروا استكباراً} فكان آخر ما قال عليه الصلاة والسلام: {رب لا تذر على الأَرض من الكافرين دياراً} ودعا ربه أني مغلوب فانتصر، قال الله تعالى: {ففتحنآ أبوب السماء بماء منهمر وفجرنا الأَرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر} ولهذا والله أعلم سيكون عليهم نصيب من عذاب المكذبين لأنهم هم أول أمة كذبت الرسل، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (¬1) ، كما أن من قتل نفساً فإن على ابن آدم الذي قتل أخاه كفلاً ونصيباً من عذاب القاتل إلى يوم القيامة (¬2) . ثم قال عز وجل: {والسماء بنينها بأيد وإنا لموسعون} السماء مفعول لفعل محذوف والتقدير، وبنينا السماء، وقوله: {بأيد} أي: بقوة، كما قال الله تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شداداً} فالأيد هنا أي القوة، وليست جمع يد كما يتوهم بعض الناس، ويظنون أن الله تعالى بنى السماء بيديه عز وجل؛ لأن الأيد هنا مصدر آد يئد بمعنى القوة، كما يقال باع يبيع بيعاً، ولهذا لم يضف الله هذه الكلمة إلى نفسه الكريمة كما أضافها إلى نفسه الكريمة في قوله تعالى: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعماً} فمن فسر الأيد بالقوة هنا فإنه لا يقال: إنه من أهل التأويل الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، بل هو من التأويل الصحيح، والإنسان إذا تأمل وتفكر في السماوات عرف أنها قوية شديدة ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (1017) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم وذريته (3335) ، ومسلم، كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل (1677) .

عظيمة، وأن قوتها تدل على قوة بانيها - عز وجل - {وإنا لموسعون} أي: لموسعون لأرجائها، لأنها واسعة عظيمة، ولهذا كانت السماوات أكبر بكثير من الأرض، وهي محيطة بالأرض من كل جانب، وعلى هذا فتكون أوسع من الأرض، وليست الأرض بالنسبة للسماء إلا شيئاً يسيراً، {والأَرض فرشنها} أي: فرشنا لأهلها، جعلناها لهم كالفراش يأوون إليها ويتمتعون بها، لم يجعلها الله تعالى صعبة ولا سهلة، بل هي متوسطة لو كانت لينة رخوة ما تمكن أحد من البقاء عليها، ولو كانت صعبة ما تمكن أحد من الانتفاع بها، ولكنها كانت كما وصفها الله - عز وجل -: {هو الذي جعل لكم الأَرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} . {فنعم المهدون} أثنى على نفسه تبارك وتعالى بذلك، لأنه أهل للثناء، وقد جعل الله تبارك وتعالى الأرض على مستوى نافع للعباد، ليست بالقاسية التي يعجز الناس عن الانتفاع بها، وليست باللينة التي لا يستقرون عليها، بل هي مناسبة تماماً لهم، على أن فيها اختلافاً في الليونة وفي الصلابة، لكن هذا لا يمنع الانتفاع بها. {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} خلق الله تبارك وتعالى من كل شيء زوجين متقابلين، حتى تتم الحال وتصلح باجتماع بعضهما إلى بعض، فالحيوان كله من إنسان وغيره يكون من زوجين بين ذكر وأنثى، كما قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعرفوا} إلا أن آدم عليه

الصلاة والسلام خلقه الله بيده من غير أم ولا أب، وحواء خلقت من أب بلا أم، وعيسى ابن مريم خلق من أم بلا أب، ولهذا ينقسم الناس إلى أربعة أقسام: الأول: من خلق بلا أم ولا أب وهو: آدم، والثاني: من خلق من أب بلا أم وهي: حواء، والثالث: من خلق من أم بلا أب وهو: عيسى، والرابع: بقية البشر خلقوا من ذكر وأنثى، فمن كل شيء خلق الله زوجين، اليابس والرطب، والحرارة والبرودة، واللين والقسوة، وغيره مما إذا تأمله الإنسان عرف بذلك حكمة الله سبحانه وتعالى {لعلكم تذكرون} ، أي: بينا ذلك لكم، لأجل أن تذكروا وتتعظوا بآيات الله تبارك وتعالى، فإن الإنسان كلما كان أعلم بآيات الله الكونية أو الشرعية كان أكثر اتعاظاً واعتباراً، ولهذا حث الله على النظر في الآيات الكونية فقال تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوت والأَرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} . وقال تعالى: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوت والأَرض وما بينهمآ إلا بالحق} ومدح الله تعالى الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض بقوله: {إن في خلق السماوت والأَرض واختلاف الليل والنهار لأَيات لأُولى الأَلباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوت والأَرض ربنآ ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} . لهذا ينبغي الإنسان أن يتعظ ويتذكر ويتدبر آيات الله سبحانه وتعالى الكونية والشرعية. {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين} هذا كأنه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أي قل لهم {ففروا إلى الله إني لكم منه} أي: من

الله، والفرار إلى الله يكون بالقيام بطاعته واجتناب نواهيه، لأنه لا ينقذك من عذاب الله، إلا أن تقوم بطاعة الله، فكأن الإنسان إذا قام بطاعة الله عز وجل كأنه فر من عدو، أرأيت لو أن وادياً عرماً يهدر، أقبل عليك فإنك لن تقف أمامه، بل تهرب منه وتفر منه، كذلك لو أن حريقاً ملتهباً أقبل إليك فإنك لن تقف بل تفر، كذلك نار جهنم أشد وأعظم وأولى بالفرار منها، ولهذا قال: {ففروا إلى الله} ، أي: من عذاب الله {إني لكم منه نذير مبين} أي: منذر {مبين} أي: مظهر لما أنذر به ومبين له، فهو عليه الصلاة والسلام نذير من الله تعالى لعباده، ينذر من خالف أمره بالعذاب، ومع هذا هو صلى الله عليه وسلم بشير لمن آمن وأطاع بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} لكن الله تبارك وتعالى يذكر الإنذار فقط في مقام التهديد والوعيد، وهذه السورة كلها ذكر للأمم السابقين وما حل بهم من العقوبة لمخالفتهم أمر الله تبارك وتعالى، {ولا تجعلوا مع الله إلهاً ءاخر} ، أي: لا تجعلوا معه معبوداً تعبدونه، والمعبود أنواع وأصناف، فمن الناس من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد النجوم، ومنهم من يعبد الحيوان، ومنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد الحجر، ومنهم من يعبد المال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط

سخط» (¬1) فبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن الذي ليس لهم همٍّ إلا المال فإنه عابد له في الحقيقة، وإن كان لا يركع له ولا يسجد، لكن تعلق قلبه به واهتمامه به، وكونه يرضى لحصوله، ويسخط لمنعه، لا شك أنه قد استولى على قلبه استيلاء تامًّا، لكن المعبود تختلف عبادته في الحكم، فإن كان يصرف له شيء من العبادة، فهذا شرك أكبر، وإن كان لا يصرف له شيء من العبادة، ولكنه يتعلق به القلب تعلقاً كاملاً حتى إنه ليدع الواجبات ويقع في المحرمات من أجل الحصول عليه، فهذه عبادة لا تخرج من الدين لكنها حقًّا عبادة {إني لكم منه نذير مبين} كرر ذلك لأهمية الموضوع، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا الاتعاظ والانتفاع بآيات الله تعالى، إنه على كل شيء قدير. {كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} يعني أن الأمر الذي حصل لك يا محمد حصل لمن قبلك، فقوله (كذلك) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر كذلك، يعني أن أمر الأمم السابقة كأمر هؤلاء الذين كذبوك يا محمد، وفسر {كذلك} بقوله: {مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} يعني ما أتاهم رسول إلا قالوا كذا، و (من) في قوله (من رسول) زائدة من حيث الإعراب، كقوله تعالى: {أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} والمعنى ما جاءنا بشير ونذير، لكن تزاد الحروف في بعض الجمل للتأكيد، فما أتى الذين من قبلهم من رسول يعني ما أتاهم رسول إلا وصفوه بهذين الوصفين إلا قالوا: ¬

(¬1) تقدم تخريجه ص (101) ..

ساحر أو مجنون، ساحر باعتبار تأثيره وبيانه وبلاغته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان لسحراً» (¬1) أو مجنون يعني أو قالوا مجنون باعتبار تصرفاته، لأن هذا التصرف في نظر هؤلاء المكذبين جنون، نسأل الله العافية، وفي هذا تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الإنسان إذا علم أن غيره أصابه ما أصابه تسلى بذلك، وهان عليه الأمر، ولهذا قالت الخنساء تماضر وهي ترثي أخاها صخراً: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي وقد دل لذلك قول الله تبارك وتعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} . لأن الإنسان إذا شاركه غيره في العذاب هان عليه، لكن يوم القيامة لا ينفع الإنسان أن يشاركه غيره في عقوبته، والمهم أن في هذه الجملة بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام تسلية حتى لا يحزن، فإن ما أصابه قد أصاب غيره، وفيها أيضاً دليل على أن المكذبين للرسل طريقهم واحدة، ولو تباعدت أزمانهم، ولو تباعدت أقطارهم، لأن المجرم أخو المجرم، فالطريقة واحدة، قال الله تعالى: {أتواصوا به} أي بهذا القول {بل هم قوم طاغون} يعني هل هؤلاء المكذبين للرسل الذين اتفقوا على وصف الرسل بأنهم سحرة ومجانين، هل هم تواصوا بذلك؟ يعني هل كل واحد من هؤلاء الأمم كتب وصية إلى الأمم اللاحقة: أن قولوا لأنبيائكم: ¬

(¬1) تقدم ص 118 وهو عند البخاري (5146) .

إنكم سحرة ومجانين؟ الجواب: لا، ولهذا قال: {بل هم قوم طغون} وهذا إضراب إبطال يعني لم يحصل تواصٍ، ولكن تواردت الخواطر، لأن الهدف واحد وهو تكذيب الرسل، فاتفقت الكلمة، وفي قوله (طاغون) وصف بأن هؤلاء طغاة معتدون، وهذا من أعظم الطغيان - والعياذ بالله - أن يوصف دعاة الحق بأنهم سحرة ومجانين، قال الله تعالى: {فتول عنهم} أي: أعرض عن هؤلاء ولا تهتم بهم {فمآ أنت بملوم} يعني لا أحد يلومك لأنك بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، وصبرت وصابرت، فلقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم، وصابر على أذى قريش وامتهانهم إياه، ولكنه كانت له العاقبة ولله الحمد، ولهذا قال: {فتول عنهم} ، بمعنى أنك لا تتعب نفسك بهم، ولا تهلك نفسك فيهم، فأنت في هذه الحال لا تلام على ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم قام بما يجب عليه، وفي قوله {فتول عنهم فمآ أنت بملوم} أمران: الأمر الأول: عذر النبي عليه الصلاة والسلام وإقامة العذر له. والثاني: تهديد هؤلاء المكذبين: فالله تعالى يهددهم بتولي الرسول عنهم، لأنهم لا خير فيهم. ثم قال: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} أي: ذكر الناس بآيات الله وبأيامه، وشرائعه وما أوجب الله على العباد. وبأيامه: عقابه تبارك وتعالى للمكذبين وإثابته للطائعين، لكن أطلق الله الذكرى وقال: {وذكر} ولم يقل: وذكر المؤمنين، لكن بين أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون فقال: {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} لأن المؤمن إذا ذكر فهو كما وصفه الله عز

وجل: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً} بل يقبلونها بكل رحابة صدر وبكل طمأنينة، وفي الآية الدليل على وجوب التذكير على كل حال، وفيها أن الذي ينتفع بالذكرى هم المؤمنون، وأن من لا ينتفع بالذكر فهو ليس بمؤمن: إما فاقد الإيمان، وإما ناقص الإيمان، وهنا فتش عن نفسك: هل أنت إذا ذكرت بآيات الله وخوفت من الله عز وجل هل أنت تتذكر أم يبقى قلبك كما هو قاسياً، إن كانت الأولى فاحمد الله فإنك من المؤمنين، وإن كانت الثانية فحاسب نفسك، ولا تلومن إلا نفسك، وعليك أن ترجع إلى الله - عز وجل - حتى تنتفع بالذكرى، وفي الآية دليل على أنه كلما كان الإيمان أقوى كان الانتفاع بالذكرى أعظم وأشد، وذلك من قاعدة معروفة عند العلماء، وهي: أن الحكم إذا علق بوصف ازداد بزيادته ونقص بنقصانه. {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي ما أوجدتهم بعد العدم إلا لهذه الحكمة العظيمة، وهي عبادة الله تبارك وتعالى، وحده لا شريك له، واللام في قوله {ليعبدون} للتعليل، لكن هذا التعليل تعليل شرعي، أي لأجل أن يعبدون، حيث آمرهم فيمتثلوا أمري، وليست اللام هنا تعليلاً قدرياً، لأنه لو كان تعليلاً قدرياً للزم أن يعبده جميع الجن والإنس، لكن اللام هنا لبيان الحكمة الشرعية في خلق الجن والإنس، والجن عالم غيبي خلقوا من نار، لأن أباهم هو إبليس كما قال الله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو} فسموا جنًّا

لأنهم مستترون عن الأعين، حيث إنهم يروننا ولا نراهم، هذا هو الأصل أنهم عالم غيبي، لكن قد يظهرون أحياناً، والأصل فيهم أنهم كالإنس منهم المسلمون، ومنهم غير المسلمين، ومنهم الصالحون ومنهم دون ذلك، لكن الإنس يفضلونهم بأنهم أحسن منهم من حيث الابتداء، حيث إنهم خلقوا من الطين، من التراب، من صلصال كالفخار، وأما أولئك الجن فخلقوا من النار، كذلك يمتاز الإنس عنهم بأن منهم الرسل والأنبياء، وأما الجن فليس منهم رسل، ولكن منهم نُذر، يبلغونهم الرسالات من الإنس، كما في قول الله تعالى: {وإذ صرفنآ إليك نفراً من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين} فانظر إلى أدبهم في قولهم: أنصتوا ثم بقائهم حتى انتهى المجلس، ثم ذهبوا دعاة لما سمعوا، قالوا: {أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين} {قالوا يقومنآ إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى} إلى آخر الآية، وأما الإنس فهم بنو آدم البشر، هؤلاء خلقوا لشيء واحد، لعبادة الله، لا لأجل أن ينفعوا الله بطاعتهم، ولا أن يضروه بمعاصيهم، ولا أن يطعموه، ولهذا قال: {مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون} يعني ما أطلب منهم رزقاً أي عطاءً أنتفع به، ولا أن يطعمون فأنتفع بإطعامهم، قال الله تبارك وتعالى: {قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأَرض وهو يطعم ولا يطعم} ، فهو سبحانه وتعالى له الجود والغنى والكرم وهو غني عما سواه، فالحكمة من خلق الجن والإنس العبادة، فلم يخلقوا لأجل أن يعمروا الأرض، ولا لأجل أن يأكلوا، ولا لأجل أن

يشربوا، ولا أن يتمتعوا كما تتمتع الأنعام، وإنما خلقوا لعبادة الله، وخلق لهم ما في الأرض، فنحن مخلوقون للعبادة، وكل ما في الأرض مخلوق لنا، {هو الذي خلق لكم ما في الأَرض جميعاً} والعجب أن قومنا الآن اشتغلوا فيما خلق لهم عما خلقوا له، وهذامن السفه أن يشتغلوا بشيء خلق لهم، عن شيء خلقوا من أجله. والعبادة تطلق على معنيين: المعنى الأول: التعبد، يعني فعل العبد، فيقال: تعبد لله عبادة. والثاني: المتعبد به، وهذا المعنى قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إنه (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) ، فهي اسم جامع لكل شيء، فالصلاة عبادة، والصدقة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والأمر بالمعروف عبادة، والنهي عن المنكر عبادة، وكل ما يقرب إلى الله من قول، أو فعل فإنه عبادة. {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} هو الرزاق يعني هو صاحب العطاء الذي يعطي، فالرزق بمعنى العطاء، ومنه قوله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} أي: أعطوهم، وكلمة (الرزاق) أبلغ من كلمة (الرازق) ؛ لأن (الرزاق) صيغة مبالغة تدل على كثرة الرزق، وعلى كثرة المرزوق، فرزق الله تعالى كثير باعتبار كثرة المرزوقين، فكل دابة في الأرض على الله رزقها، من إنسان وحيوان، ومن طائر وزاحف، ومن صغير وكبير، ولا يمكن أن نحصي أنواع المخلوقات على الأرض، ولو قلت لك أحص

العوالم التي في الأرض ما استطعت، فضلاً عن أفرادها، فكل فرد منها فإن الله تعالى متكلف برزقه {وما من دآبة في الأَرض إلا على الله رزقها} فإذا كان الأمر كذلك صار رزق الله كثيراً باعتبار المرزوق، مَن يحصي المرزوقين؟ لا أحد يحصيهم أبداً، ورزقه كثير باعتبار الواحد، فكم لله عليك من رزق كثير لا يحصى، رزق الله لك دارٍّ عليك ليلاً ونهاراً، رزقك عقلاً، وصحة، ومالاً، وولداً، وأمناً وأشياء لا تحصى، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ، ولهذا جاء اسم الرزَّاق بالتشديد الدال على الكثرة، وقوله: {ذو القوة} أي: صاحب القوة التي لا قوة تضادها، كما قال الشاعر الجاهلي: أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب فقوة الله عز وجل لا يضاهيها قوة، قوته - عز وجل - لا يعتريها ضعف، بخلاف قوة المخلوق، فقوته تنتهي إلى ضعف، كما قال الله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبةً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} أما الرب عز وجل فقوته لا يلحقها ضعف بأي وجه من الوجوه، ولما قالت عاد: من أشد منا قوة؟ قال الله؟ {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً} وصدق الله - عز وجل - وقوله: {المتين} يعني الشديد، شديد في قوته، شديد في عقابه، شديد في كل ما تقتضي الحكمة الشدة فيه، انظر إلى قول الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأَخر وليشهد عذابهما طآئفة من

المؤمنين} . هذه شدة، والله - عز وجل - أرحم الراحمين، ومع ذلك ينهانا أن تأخذنا الرأفة، في الزانية والزاني {ولا تأخذكم بهما رأفة} ، وهذا دليل على القوة، ومن قوته - عز وجل - أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ولم يعِ بخلقهن، ومن قوته وقدرته أنه جل وعلا يبعث الناس كنفس واحدة {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} والأمثلة على هذا كثيرة، فهو جل وعلا له القوة البالغة التي لا يمكن أن تضاهيها أي قوة. ثم قال الله تعالى: {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون} أي: الذين ظلموا بالكفر لهم {ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم} والذنوب في الأصل هو الدلو، أو ما يستقى به، وشاهد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أريقوا على بوله ذنوباً من ماء» (¬1) والمعنى: هؤلاء الظالمون لهم نصيب مثل نصيب من سبقهم {فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم} أي نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم، وانظر كيف سمى الله تعالى السابقين بأزمان بعيدة أصحاباً لهؤلاء، وذلك لاتفاقهم في التكذيب، ورمي الرسل بما لا يستحقون، فهم أصحاب في الواقع وإن تباعدت الأزمان والأماكن {فلا يستعجلون} ، النون هنا مكسورة على أنها نون الوقاية وحذف الضمير: الياء، وأصله فلا يستعجلوني، فحذفت الياء تخفيفاً، ولهذا لا يشكل على الإنسان فيقول: كيف كانت ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (220) ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات ... (284) (99) .

النون مع أن (لا) ناهية؟ والجواب أن نقول: هذه النون ليست نون الإعراب، ولكنها نون الوقاية، فالفعل إذاً مجزوم، والنون للوقاية، والياء التي هي المفعول محذوفة، وفي قوله: {فلا يستعجلون} تهديد واضح أن هؤلاء سيأتيهم العذاب لا محالة، ولكن لا يستعجلون الله - عز وجل - لأن الله تعالى يملي للظالم ويمهله حتى إذا أخذه لم يفلته، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (¬1) وتلا قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} . {فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} ويل: بمعنى الوعيد والعذاب، يعني أنه يتوعدهم - عز وجل - من هذا اليوم الذي يوعدون وهو يوم القيامة؛ لأنهم سيجدون ما أرسل إليهم حقًّا، وسيجدون الذل والعار {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} . {ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً} . فيكونون من بين هذا العالم - نسأل الله العافية - على هذا الوجه، ولهذا قال: {فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون} وسيكون هذا اليوم يوماً عسيراً عليهم، لأنهم كفرة والعياذ بالله. تم تفسير سورة الذاريات. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى} (4686) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2583) .

تفسير سورة الطور

تفسير سورة الطور {بسم الله الرحمن الرحيم} البسملة تقدم الكلام عليها، {والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور} هذه أشياء أقسم الله بها، الأول: الطور وهوالجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فإن الله تعالى كلمه أول ما كلمه على جبل الطور، فكان لهذا الجبل من الشرف والفضل ما سبق به غيره من الجبال، ولهذا أطلق كثير من العلماء أن جبل الطور أفضل الجبال وأشرفها، وعلى هذا يكون أشرف وأفضل من جبل حراء الذي ابتدأ فيه الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا ظاهر إطلاق كثير من العلماء، ولكن في هذا الظاهر نظراً، لأن جبل حراء كُلِّم منه الرسول عليه الصلاة والسلام لكن كلمه جبريل عليه السلام مرسلاً من عند الله، فمنه ابتدأت أفضل الرسالات على أفضل الرسل، وأيضاً حراء داخل الحرم المكي، لأنه من الحرم الذي لا يحل صيده ولا قطع شجره، وبقعة الحرم أفضل البقاع، ويمكن أن يحمل إطلاق كثير من العلماء على هذا، فيقال: إلا جبل حراء {وكتاب مسطور في رق منشور} الكتاب المسطور في الرق، اختلف فيه العلماء، وهذا الخلاف ينبني على كلمة (رق) هل الرق كل ما يكتب فيه من جلد وورق وعظم وحجر وغير ذلك؟ أو هو خاص بما يكتب فيه من جلود ونحوها؟ إن قلنا بالأول صار المراد بالكتاب عدة أشياء،

منها اللوح المحفوظ، ومنها الكتب التي بأيدي الملائكة، ومنها القرآن الكريم، ومنها التوراة، فيشمل عدة كتب، وإذا قلنا إن الرق هوالورق وشبهه مما يكتب فيه عادة، فاللوح المحفوظ لا يدخل في هذا، وإنما المراد به إما التوراة، وإما القرآن، فالذين قالوا: إنه التوراة رجحوا قولهم بأنه قرن بالطور، والطور هو الذي كلَّم منه موسى عليه الصلاة والسلام، فكان الكتاب المسطور هو التوراة التي جاء بها موسى، ومن قال: إن المراد به القرآن الكريم رجح ذلك بأن الله ذكر الطور الذي أوحي منه إلى موسى، وذكر الكتاب الذي هو القرآن أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون الله تبارك وتعالى ذكر أشرف الرسالات في بني إسرائيل إيماء بذكر الطور، وذكر أشرف الرسالات التي بعث بها من بني إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيتعين أن يكون المراد بالكتاب المسطور القرآن الكريم {منشور} صفة لكتاب، ويحتمل أن تكون صفة لرق، والمعنى واحد، والمراد بالمنشور يعني المفرق الذي يكون بأيدي كل قارىء، وهذا يصدق تماماً على القرآن الكريم، فإنه - ولله الحمد - بين يدي كل قارىء حتى الصغار من المسلمين يقرؤونه، {والبيت المعمور} هذا هو الثالث مما أقسم الله به في هذه الآيات، وهو بيت في السماء السابعة يقال له: الضراح، هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه (¬1) ، فبناءً على هذا كم عدد الملائكة؟ لا يحصيهم إلا الله، من ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (رقم 3207) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات (رقم 164) .

يحصي الأيام؟ ثم من يحصي سبعين ألفاً كل يوم يدخلون هذا البيت المعمور ولا يعودون إليه. وقيل: إن المراد بالبيت المعمور بيت الله في الأرض وهو الكعبة؛ لأنه معمور بالطائفين والعاكفين، والقائمين، والركع السجود، فهل يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعاً؟ القاعدة في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين على السواء، وليس بينهما منافاة وجب أن تحمل على كل منهما، لأن المتكلم بها وهو الله - جل وعلا - عالم بما تحتمله من المعاني، وإذا لم يبين أن المراد أحد المعاني فإنه يجب أن تحمل على كل ما تحتمله من المعاني الصحيحة لا المعاني الباطلة، وليس هناك منافاة بين أن يكون المقسم به الكعبة، أو البيت المعمور في السماء، لأن كلا البيتين معظم، ذاك معظم في أهل السماء، وهذا معظم في أهل الأرض، ولا مانع، فالصواب أن الآية شاملة لهذا وهذا، إلا إذا وُجد قرينة ترجح أن المراد به البيت المعمور في السماء {والسقف المرفوع} أقسم الله تعالى بالسقف المرفوع وهو السماء، قال الله تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} وقال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن ءاياتها معرضون} . فالسماء سقف، والسماء مرفوعة، إذن فالسقف المرفوع هو السماء، وسماه الله سقفاً لأنه قد غمر جميع الأرض من جميع الجوانب، كما يغمر السقف الحجرة من جميع الجوانب، وإنما أقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من الآيات العظيمة من نجوم وشمس وقمر، وإحكام وإتقان، قال الله عز وجل: {الذي خلق سبع

سماوات طباقًا ما ترى في خلق الرحمن من تفوت فارجع البصر هل ترى من فطور ... ثم ارجع البصر كرتين} . يعني مرة بعد مرة {ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} وأخبر أنه ليست للسماء فروج، وليس فيها تشقق وليس فيها عيب، وليس فيها تصدُّع، ولا تبلى على طول المدة، فهي جديرة بأن يقسم الله بها {والبحر المسجور} كلمة البحر قيل: إن المراد به البحر الذي عليه عرش الرحمن - عز وجل - كما قال تعالى، {وكان عرشه على الماء} ، وقيل: المراد به البحر الذي في الأرض لأنه المشاهد المعلوم الذي فيه من آيات الله ما يبهر العقول، والصحيح أن المراد به بحر الأرض، لأن (ال) في البحر للعهد الذهني، يعني البحر المعهود الذي تعرفونه، فأقسم الله به لما فيه من آيات الله العظيمة من أسماك وأمواج وغير هذا مما نعلمه وما لا نعلمه، ومن أعظم ما فيه من آيات الله ما أشار إليه تعالى في قوله: {المسجور} يعني الممنوع، ومنه سجرت الكلب يعني ربطته حتى لا يهرب، فالبحر ممنوع بقدرة الله عز وجل، إننا نعلم جميعاً أن الأرض كروية، وهذا البحر لو نظرنا إليه بمقتضى الطبيعة لكان يفيض على الأرض، لأنه لا جدران تمنع، والأرض كروية مثل الكرة فلو نظرنا إلى هذا البحر بمقتضى الطبيعة، لقلنا: لابد أن يفيض على الأرض فيغرقها، ولكن الله تبارك وتعالى أمسكه بقدرته سبحانه وتعالى، فهو مسجور، أي: ممنوع من أن يفيض على الأرض فيغرق أهلها، وهذه آية من آيات الله، فلو صب فوق الكرة ماء، لذهب يغمرها يميناً وشمالاً، لكن هذا البحر لا يمكن أن يفيض

على الأرض بقدرة الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى الحكمة تأتي أيام المد والجزر، نفس البحر يمتد امتداداً عظيماً لعدة أمتار وربما أميال، ثم ينحسر، مَن الذي مده؟ ولو شاء لبقي ممتداً حتى يغرق الأرض، ومن الذي رده؟ هو الله، ولهذا كان هذا البحر جديراً بأن يقسم الله به، وفي البحر آيات عظيمة، يقال: إنه ما من شيء على البر من حيوان وأشجار إلا وله نظير في البحر بل أزيد، لأن البحر بالنسبة لليابس يمثل أكثر من سبعين في المائة، وفيه أشياء لا نرى لها نظيراً في البر، وهذا من آيات الله عز وجل، وأعظم آية في البحر هو أنه مسجور، أي ممنوع من أن يفيض على الأرض فيغرق أهلها. وقيل: المراد بالمسجور الذي سيسجر، أي: يوقد كما قال الله تعالى: {وإذا البحار سجرت} . أي: أوقدت. وهذا يكون يوم القيامة، هذا الماء الذي نشاهده الآن والذي لو سقطت فيه جمرة، أو مر على جمرة لأطفأها، يوم القيامة يكون ناراً يسجر، وهذا من آيات الله - عز وجل - والمراد به المعنيان جميعاً؛ لأنه لا منافاة بين هذا وهذا، فكلاهما من آيات الله - عز وجل - أي سواء قلنا المسجور الممنوع من أن يفيض على الأرض، أو المسجور الذي سيسجر أي يوقد، فكل ذلك من آيات الله، {إن عذاب ربك لواقع} هذا هو جواب القسم، وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم بخمسة أشياء، وإذا كان قسماً بخمسة أشياء صار كأنه أقسم عليها خمس مرات، والثاني: بأن، والثالث: باللام، {إن عذاب ربك لواقع} يعني لابد أن يقع عذاب الله الذي وعد

به، هذه والله جملة عظيمة مؤثرة، لكنها لا تؤثر إلا على قلب لين كلين الزبد أو أشد، أما القلب القاسي فلا يهتم بها، تمر عليه وكأنه حجارة، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآية يمرض حتى يعُاد، يمرض من شدة ما يقع على قلبه من التأثر حتى يُعاد، فإذا كان واقعاً وليس له دافع أليس الجدير بنا أن نخاف؟ بلى والله، هذا هو الجدير، وقوله: {إن عذاب ربك لواقع} يعني لابد أن يقع، ولكن هل هذا التأكيد بالنسبة لعذاب المؤمنين أو لعذاب الكافرين؟ لننظر قال الله تعالى: {سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج} . فضم هذه الآية إلى الآية التي في الطور تجد أن قوله: {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} . على الكافرين، فعذاب الله على الكافرين ليس له دافع، لا أحد يدفعه، لا قبل وقوعه ولا بعد وقوعه، ولهذا لا تنفعهم الشفاعة فيرفع عنهم العذاب، أما عذاب الله للمؤمن المذنب فإن الأصل أنه واقع، كل ذنب توعد الله عليه بالعذاب فالأصل أنه واقع، لكنه مع ذلك قد يرفع بفضل من الله - عز وجل - وقد يرفع بالشفاعة، وقد يرفع بأعمال صالحة تغمر الأعمال السيئة، أما ترى أن الله يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} . ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه» (¬1) فيرتفع عنه العذاب. وعلى هذا نقول: عذاب الله واقع على الكافرين لا محالة، ولا دافع له، أما على ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه (947) .

عصاة المؤمنين فإن الأصل الوقوع، وقد أنذر الله العباد وخوَّفهم، وبيَّن لهم، لكن مع ذلك قد يرتفع بأسباب متعددة، {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} ، (ما) نافية، و (دافع) مبتدأ مؤخر، دخلت عليها (من) الزائدة للتوكيد، يعني ما من أحد ولو عظمت منزلته وقوته يدفع أو يرفع عذاب الله - عز وجل - لأن (دافع) هنا تشمل المنع قبل الوقوع، والرفع بعد الوقوع، لا أحد يدفع عذاب الله ولا يمنعه عن أن ينزل ولا يرفعه إذا نزل، وإنما ذلك إلى الله وحده، نسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه، وأن يغفر لنا ما سلف من ذنوبنا وما حضر، إنه على كل شيء قدير. {يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً فويل يومئذ للمكذبين} هذه الآية: {يوم تمور السماء موراً} متعلقة بقوله: {إن عذاب ربك لواقع} يعني أن العذاب يقع في ذلك اليوم، قوله: {يوم تمور السماء موراً} قد يظن الظانّ أن المصدر هنا (موراً) لمجرد التوكيد، ولكنه ليس كذلك، بل هو لبيان تعظيم هذا المور، والمور بمعنى الاضطراب، يعني أن السماء تضطرب وتتشقق، وتتفتح وتختلف عما هي عليه اليوم، كما قال تعالى: {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت} . ولا إنسان يتصور أو يعلم حقيقة ذلك اليوم، ولكننا نعلم المعنى بما أخبر الله به عنه، أما الحقيقة فهي شيء فوق ما نتصوره الآن، {وتسير الجبال سيراً} أي: تسير سيراً عظيماً، وذلك أن الجبال تكون هباءً منثوراً، وتتطاير كما تتطاير الغيوم، وتسير سيراً عظيماً هائلاً،

لشدة هول ذلك اليوم، وهذه الآية تدل على أن قول الله تبارك وتعالى في سورة النمل: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون} . فإن هذه الآية هي نفس هذه الآية التي في الطور من حيث المعنى، فيكون قوله تبارك وتعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب} يعني يوم القيامة ولا شك، ومن فسرها بأن ذلك في الدنيا وأنه دليل على أن الأرض تدور فقد حرَّف الكَلم عن مواضعه، وقال على الله ما لا يعلم، وتفسير القرآن ليس بالأمر الهين، لأن تفسير القرآن يعني أنك تشهد على أن الله أراد به كذا وكذا، فلابد أن يكون هناك دليل: إما من القرآن نفسه، وإما من السنة، وإما من تفسير الصحابة - رضي الله عنهم - أما أن يحول الإنسان القرآن على المعنى الذي يراه بعقله أو برأيه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (¬1) . والمهم أن تفسير قوله: {وترى الجبال تحسبها جامدةً وهي تمر مر السحاب} يراد به ما في الدنيا، تفسير باطل لا يجوز الاعتماد عليه، ولا المعول عليه، أما كون الأرض تدور أو لا تدور، فهذا يعلم من دليل آخر، إما بحسب الواقع، وإما بالقرآن، وإما بالسنة، ولا يجوز أبداً أن نحمل القرآن معاني لا يدل عليها من أجل أن نؤيد نظرية أو أمراً واقعاً، لكنه لا يدل عليه اللفظ، لأن هذا أمر خطير جداً. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه (2950) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

قال الله تعالى: {فويل يومئذ للمكذبين} ويل كلمة وعيد وتهديد، وإن كان قد روي أنها واد في جهنم (¬1) ، لكن الصواب أنها كلمة تهديد ووعيد، {فويل يومئذ للمكذبين} أي: المكذبين لله ورسوله، الجاحدين لما قامت الأدلة على ثبوته فإنهم سيجدون في ذلك اليوم من العذاب والنكال ما لا يخطر لهم على بال {الذين هم في خوض يلعبون} أي في الدنيا {في خوض} أي: في كلام باطل {يلعبون} أي: لا يقولون الجد ولا يعملون بالجد، وإنما أعمالهم كلها لعب ولهو، ولذلك تجد أعمارهم ليس فيها بركة، تمر بهم الليالي والأيام لا يستفيدون شيئاً {يوم يدعون إلى نار جهنم دعا} هذه متعلقة بما سبق أيضاً، ويُدَعُّون بمعنى يدفعون بعنف وشدة إلى نار جهنم دعًّا؛ لأنهم - والعياذ بالله - تمثل لهم النار كأنها سراب، أي كأنها حوض نهر، وهم على أشد ما يكونوا من العطش، فيذهبون إليها سراعاً، يريدون أن يشربوا منها حتى يزول عنهم العطش، فإذا بلغوها وإذا هي النار - والعياذ بالله - فكأنهم - والله أعلم - يتوقفون لئلا يتساقطوا فيها، فيدعُّون إليها دعًّا، أي يُدفعون بعنف وشدة فيتساقطون فيها - أجارنا الله من ذلك ويقال لهم: {هذه النار التى كنتم بها تكذبون} كانوا في الدنيا يقولون: لا بعث ولا جزاء، ولا عقوبة ولا نار، وإنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع ولا بعث، فيقال لهم توبيخاً على هذا الإنكار: {هذه النار التى كنتم بها ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنبياء عليهم السلام (3164) وقال: هذا حديث غريب.

تكذبون} فما أشد حسرتهم إذا وُبِّخوا على أمر كان في إمكانهم أن يتخلوا عنه، ولكنهم الآن لا يستطيعون لذلك سبيلاً، يقولون إذا وقفوا على النار: {ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} . قال الله تعالى: {بل بدالهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} . أي: حتى لو ردوا إلى الدنيا عادوا وكذبوا، فلن يستقيموا على أمر الله، لكن يقولون هذا تمنياً. {أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون} يعني أفهذا الذي ترون اليوم سحر كما كنتم تقولون ذلك في الدنيا، حيث يقولون: إن ما جاءت به الرسل سحر، ويصفون الرسول بأنه ساحر، فيقال: أسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، يعني لا تبصرون بعين البصيرة، بل أنتم عمي عن الحق - والعياذ بالله - {اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون} أي: احترقوا بها، والأمر هنا للإهانة، كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون} . فانظر إلى هؤلاء كيف تتهكم بهم الملائكة وتذلهم وتخزيهم - والعياذ بالله - وتهينهم، {اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} يعني أن الصبر وعدمه سواء عليكم، ومعنى هذا أنه لن يفرج عنكم، سواء صبرتم أم لم تصبروا، مع أنه في الدنيا إذا أصيب الإنسان بشيء وصبر فإنه يفرج عنه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً» (¬1) . {إنما تجزون ما كنتم تعملون} يعني ما تجزون إلا ما عملتم فلم ¬

(¬1) الإمام أحمد في المسندد ج1/307، والحاكم في المستدرك ج3/624.

تُظلموا شيئاً، ثم ذكر الله تعالى جزاء المؤمنين فقال: {إن المتقين في جنات ونعيم} هذه الجملة خبرية مؤكدة بإن، والتوكيد أسلوب من أساليب اللغة العربية، مستعمل عند العرب، وهذا القرآن نزل بلغة العرب، وإلا ففي الواقع أن خبر الله - عز وجل - لا يحتاج إلى توكيد؛ لأنه أصدق القول، فالرب - عز وجل - إذا أخبر بخبر فإنه لا يحتاج إلى أن يؤكد، لأن خبر الله صدق، لكن لما كان القرآن العظيم نزل بلسان عربي صار جارياً على ما كان يعرفه العرب في لغتهم، فهنا أكد الله - عز وجل - هذه الجملة: {إن المتقين في جنات ونعيم} والمتقون هم الذين قاموا بطاعة الله امتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه، هذه هي التقوى، فالتقوى طاعة الله في امتثال أمره واجتناب نهيه، فالذي يصلي امتثالاً لأمر الله نقول: هو متق، والذي يدع الزنا نقول: هو متقٍ بترك الزنا، وإنما سمي ذلك تقوى لأنه وقاية من عذاب الله، فإن الإنسان إذا قام بطاعة الله فقد اتخذ وقاية من عذاب الله - عز وجل - هؤلاء المتقون يقول الله - عز وجل -: {في جنات ونعيم} ، وجنات جمع جنة، وهي الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين في الآخرة، بدليل قول الله تبارك وتعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأَرض أعدت للمتقين} وإذا قلنا: إن الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى لعباده في الدار الآخرة، فهل يمكن أن تكون في الدنيا؟ نقول: أما بالنسبة لدخول الجنة التي هي الجنة فهذا لا يمكن في الدنيا، أما بالنسبة لكون الإنسان يأتيه من نعيم الجنة ما يأتيه، فهذا يمكن، وذلك في القبر إذا سُئل

الإنسان عن ربه، ودينه، ونبيه، فأجاب الصواب، فإنه يفرش له فراش من الجنة، ويُفتح له باب إلى الجنة، ويُفسح له في قبره مُدَّ البصر (¬1) ، وجمعت الجنات في الآية لأنها أنواع، ذكر الله في سورة الرحمن أربعة أنواع {ولمن خاف مقام ربه جنتان} . ثم قال: {ومن دونهما جنتان} . هذه الجنان الأربع تختلف بما جاء في وصفها في سورة الرحمن، {إن المتقين في جنات ونعيم} أي نعيم البدن، ونعيم القلب، فهم في سرور دائم، وهم في صحة دائمة، وهم في حياة دائمة، فجميع أنواع النعيم كاملة لهم، نسأل الله أن يجعلنا منهم {فاكهين بمآ ءاتهم ربهم} ، الفاكه هو المسرور، كما في قوله تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} . أي: مسرورين {بمآ ءاتهم ربهم} أي: بما أعطاهم ربهم من النعيم، {ووقاهم ربهم عذاب الجحيم} فحصلوا على السلامة من الشرور بوقاية الجحيم، وعلى تمام السرور في جنات النعيم {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} (كلوا واشربوا) فعل أمر، وهذا الأمر ليس تكليفاً وإنما الأمر هنا للتكريم، أي يقال لهم: كلوا من كل ما في الجنة من النعيم {فيهما من كل فاكهة زوجان} . {فيهما فاكهة ونخل ورمان} . وفيها من كل النعيم، {واشربوا} مما فيها من الأنهار، وأنهار الجنة ذكرها الله تعالى أربعة في سورة القتال {مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب المسألة في القبر وعذاب القبر (رقم 4753) وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى (رقم 4269) .

مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} . هذه أربعة أنهار: من ماء غير آسن، أي: غير متغير، والمياه في الدنيا إذا لم يأتها ما يمدها وبقيت راكدة لابد أن تتغير فتكون آسنة، وماء الجنة لا يتغير، غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، واللبن في الدنيا إذا أبقي يتغير ويفسد، لكن في الآخرة لا يتغير، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وخمر الدنيا فيه رائحة كريهة ثم أنه يقلب العاقل إلى مجنون، وفيه أيضاً الصداع، وفيه فساد المعدة، لكنه في الجنة أنهار من خمر لذة للشاربين، وقد قال الله تعالى في سورة الصافات: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} . والرابع {وأنهار من عسل مصفى} {هنيئاً بما كنتم تعملون} الهنيء هو الذي لا يكون له عاقبة سيئة، ولا تبعة من تجاوز، أو إسراف {بما كنتم تعملون} أي: بسبب ما كنتم تعملون، (فالباء) هنا للسببية، وليست الباء للعوض، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لن يدخل الجنة أحد بعمله» (¬1) . فإن قيل: إن الله تعالى قال: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} ، فجعل الله تعالى ذلك بسبب العمل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يدخل الجنة أحد بعمله» مع أن الله يقول: {بما كنتم تعملون} ؟ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت (5673) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى (2816) .

والجواب على هذا الإشكال أن يقال: الباء تأتي للسببية، وتأتي للبدلية، فإذا قيل: دخل الرجل الجنة بعمله، فالمعنى السببية، وإذا قال: لن يدخل الجنة أحد بعمله، فالمعنى البدلية، وأضرب مثلاً يبين هذا: بعتك الثوب بدرهم، فالباء للبدلية، لأن الدرهم صار عوضاً عن الثوب، وإذا قلت: أدبت الولد بعبثه، هذه للسببية، إذن كلنا لن يدخل الجنة بعمله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو حاسبنا على عملنا ما قابل عملنا نعمة من نعم الله، نعمة واحدة. فالنفس الآن الذي هو من ضرورة الحياة يخرج منك ويدخل بدون تعب، وبدون مشقة، وكم يتنفس الإنسان في الدقيقة؟! فلو أننا حوسبنا على أعمالنا بالمعاوضة والمبادلة لكانت نعمة واحدة تستوعب جميع العمل، ونحن الآن لا نحس بنعمة النفس لكن لو أصيب أحد منا بكتم النفس لوجد أن النفس من أكبر نعم الله، لذلك نقول: إن الباء في قوله: {بما كنتم تعملون} للسببية وليست للبدلية، وفي قوله: {بما كنتم تعملون} شمول لكل العمل: الجوارح، والقلب، واللسان. فالجوارح: كالأفعال، كالركوع، والسجود. والأقوال: كالأذكار. والقلوب: كالخوف، والرجاء، والتوكل وما أشبه ذلك، فكل هذه تسمى أعمالنا. {متكئين على سرر} متكئين حال، أي: حال كونهم متكئين، والمتكىء تدل هيئته على أنه في سرور وانشراح وطمأنينة، لأن الاتكاء يدل على ذلك، والسرر جمع سرير، وهي الكراسي الفخمة المهيئة أحسن تهيئة للجالس عليها، {مصفوفة}

أي مصفوف بعضها إلى بعض، يصفها الخدم والولدان، {وزوجنهم بحور عين} ، أي: قرناهم بحور عين، والحور جمع حوراء، والعين جمع عيناء، والأصل الحور هو البياض، وأما العيناء فهي التي كانت جميلة العين في سوادها وبياضها، فهن حسان الوجوه، حسان الأعين، ثم قال - عز وجل - {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمن ألحقنا بهم ذريتهم} أي: الذين آمنوا واتبعتهم الذرية بالإيمان، والذرية التي يكون إيمانها تبعاً هي الذرية الصغار، فيقول الله -عز وجل - {ألحقنا بهم ذريتهم} أي: جعلنا ذريتهم تلحقهم في درجاتهم، وأما الكبار الذين تزوجوا فهم مستقلون بأنفسهم في درجاتهم في الجنة، لا يلحقون بآبائهم، لأن لهم ذرية فهم في مقرهم، أما الذرية الصغار التابعون لآبائهم فإنهم يرقون إلى آبائهم، وهذه الترقية لا تستلزم النقص من ثواب ودرجات الآباء، ولهذا قال: {ومآ ألتنهم من عملهم من شيء} أي: نقصناهم، يعني أن ذريتهم تلحق بهم، ولا يقال: أخصم من درجات الآباء بقدر ما رفعت من درجات الذرية، {كل امرىء بما كسب رهين} هذه قاعدة عامة في جميع العاملين أن كل واحد فإنه رهين بعمله لا ينقص منه شيء، أما الزيادة فهي فضل من الله تبارك وتعالى على من شاء من عباده {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون} أمدهم الله تعالى، أي: أعطاهم عطاء مستمراً إلى الأمد وإلى الأبد بفاكهة وهي ما يتفكه به من المأكولات، {ولحم مما يشتهون} أي: مما يشتهونه ويستلذونه، وقد بين الله تبارك وتعالى نوع هذا اللحم بأنه لحم طير، وهو أشهى ما يكون

من اللحم وأبرأه وأمرأه {يتنزعون فيها كأساً} أي: أن أهل الجنة ينازع بعضهم بعضاً على سبيل المداعبة، وعلى سبيل الأنس والانشراح {كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم} والمراد بها كأس الخمر، ومعنى {لا لغو فيها ولا تأثيم} أنه لا يحصل بها ما يحصل من خمر الدنيا، فإن خمر الدنيا يحصل بها السكر والهذيان، ولكن خمر الآخرة ليس فيها لغو ولا تأثيم، أي: لا يلغو بعضهم على بعض، ولا يتكلمون بالهذيان، ولا يعتدي بعضهم على بعض {ويطوف عليهم} أي: يتردد على أهل الجنة وهم على سررهم متكئين {غلمان لهم} أي: غلمان مهيئون لهم في الخدمة التامة المريحة {كأنهم} أي: الغلمان {لؤلؤ مكنون} أي: محفوظ عن الرياح وعن الغبار وعن غير ذلك مما يفسده، {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} أي صار بعضهم يسائل بعضاً، لكنه على وجه الأدب يتكلم معه وهو مقابل له لوجهه فلا يصعر خده له ولا يستدبره، بل يتكلم معه بأدب ومقابلة تامة {قالوا} أي: قال بعضهم لبعض: {إنا كنا قبل} أي: في الدنيا {في أهلنا مشفقين} أي خائفين من عذاب الله {فمن الله علينا} أي: أنعم علينا بنعمة عظيمة، {ووقانا عذاب السموم} أي: عذاب النار {إنا كنا من قبل} أي: قبل أن نصل إلى هذا المقر، وذلك في الدنيا {ندعوه} أي: نعبده ونسأله، لأن الدعاء يطلق على معنيين: على العبادة، وعلى السؤال، فمن إطلاقه على العبادة قول الله تبارك وتعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين} .

وأما الدعاء بمعنى السؤال ففي قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون} . فقولهم: {إنا كنا من قبل ندعوه} يشمل دعاء العبادة كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج، وبر الوالدين وصلة الأرحام، كل هذا دعاء، وإن كان هو عبادة، فلو سألت الداعي لماذا تعبد الله، ولو سألت العابد لماذا تعبد الله؟ لقال: أرجو رحمته وأخاف عذابه، فتكون هذه العبادة بمعنى الدعاء، كذلك ندعوه دعاء مسألة، لا يسألون غير الله ولا يلجئون إلا إلى الله، لأنهم يعلمون أنهم مفتقرون إليه، وأنه هو القادر على كل شيء {إنه هو البر الرحيم} (البر) بمعنى الواسع الإحسان والرحمة، ومن ذلك البرية، للمكان الخالي من الأبنية، فالمعنى أنه جل وعلا واسع الإحسان والعطاء والجود (الرحيم) أي ذو الرحمة البالغة، يرحم بها من يشاء من عباده تبارك وتعالى، وفي هذه الآيات بيان نعيم أهل الجنة، وفيها أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر عذاب أهل النار ذكر نعيم أهل الجنة، لأن هذا القرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، إذا ذكر فيه الخير ذكر فيه الشر، وإذا ذكر فيه نعيم المتقين ذكر فيه جحيم الكافرين، وهكذا حتى يكون قارىء القرآن بين الخوف والرجاء، إن قرأ آيات النعيم رجا، وإن قرأ آيات العذاب خاف، فيعبد الله تبارك وتعالى بهذا وهذا، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الجنات الناجين من الدركات، إنه على كل شيء قدير. {فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} ،

الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمذكر محذوف، والتقدير: ذكر الناس، أو إن شئت فقل: ذكر من أرسلت إليهم من الجن والإنس، {فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} هذا نفي لما ادعاه المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كاهن أو مجنون، قال الله تعالى: {فذكر فمآ أنت بنعمة ربك} أي بإنعام ربك عليك بما أنزل عليك، من الوحي لست {بكاهن ولا مجنون} ، والكاهن هو الذي يخبر عن الغيبيات في المستقبل، وكانت الكهانة في الجاهلية مشهورة، يكون للإنسان رئي من الجن يصحبه ويخدمه، ثم يصعد الجني إلى السماء يستمع ما يقال في السماء، وينزل به على هذا الكاهن، فيكون هذا علم غيب عن أهل الأرض، لكن الكاهن يزيد عليه أشياء كثيرة يتخرصها، فإذا وقع ما سمعه من السماء صار عظيماً في قومه، لأنه أخبر عن شيء مستقبل فوقع، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جاء بالوحي رده المشركون وكذبوه، وقالوا: إنما جاء به محمد من الكهانة، لأن الكهان يخبرون عن الشيء فيقع، ولأن الكهان أيضاً يأتون بكلام مسجوع يشبه القرآن، والقرآن آيات مفصلة، أتى بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في كلام حمل بن النابغة الذي قال: (يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هو من إخوان الكهان» (¬1) من أجل سجعه الذي سجع، فهم ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الكهانة (5758) ومسلم، كتاب القسامة، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ (1681) (36) ..

يقولون: إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاهن، فنفى الله ذلك، ثم قالوا: إنه مجنون يأتي بما لا يعرف، فكذبهم الله فقال: {فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} هذه الجملة منفية مؤكدة بالباء، الباء الزائدة إعراباً، المفيدة معنى، وأصلها (فما أنت بنعمة ربك كاهناً ولا مجنوناً) لكن زيدت الباء توكيداً للنفي، ثم قال الله تعالى: {أم يقولون شاعر} يعني بل أيقولون، و (أم) هذه تسمى عند المعربين منقطعة، يعني لا عاطفة، لأن (أم) تأتي عاطفة وتأتي منقطعة، فهنا منقطعة، والتقدير (بل أيقولون شاعر؟) والاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار عليهم، والشاعر هو الذي يأتي بكلام مقفى ويتضمن شعره أحياناً حكماً، ولهذا جاء في الحديث: «إن من البيان لسحراً» (¬1) «وإن من الشعر لحكمة» (¬2) فيقولون: محمد شاعر {نتربص به} أي ننتظر به {ريب المنون} أي: حوادث الدهر وقوارعه، فيهلك كما هلك الشعراء من قبله، ولا يكون له أثر، فانظر - والعياذ بالله - كيف يترقبون موت الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون: هذا شاعر من جنس الشعراء يهلك وينتهي أمره، وقوله: {ريب المنون} ، قيل: إن المنون هو الدهر، وقيل: إن المنون هو الموت، وهما متلازمان، والمراد بذلك حوادث الدهر المهلكة المبيدة. {قل} في جوابهم {تربصوا} والأمر هنا للتهديد ¬

(¬1) تقدم ص 118 وهو عند البخاري (5146) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه (6145) .

والتحدي أيضاً، تربصوا بهذا الشاعر ريب المنون، وانظروا هل يموت وتموت دعوته، أو أنكم أنتم تموتون وتموت معارضتكم، {فإني معكم من المتربصين} يعني فأنا منتظر أيضاً، انتظروا أنتم، وأنا أنتظر لمن تكون العاقبة، وصارت العاقبة والحمد لله للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، {أم تأمرهم} أم هنا نقول: إنها منقطعة، وأم المنقطعة تقدر ببل، والتقدير: بل أتأمرهم؟ وهذا انتقال من الأول إلى الثاني {أم تأمرهم أحلمهم بهذآ} فيقولون: إنه مجنون إنه كاهن، إنه شاعر، هل عقولهم تأمرهم بهذا؟ الجواب: {أم تأمرهم أحلمهم بهذآ} أي بل لا تأمرهم عقولهم بهذا، وكثير منهم يعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، لكن غلبتهم الكبرياء - والعياذ بالله - فأنكروا وكذبوا ولهذا قال: {أم هم قوم طاغون} أي: بل هم قوم طاغون معتدون ظالمون، وأصل الطغيان مجاوزة الحد، كما في قوله تعالى: {إنا لما طغا الماء} أي: ازداد وارتفع عن عادته {حملناكم في الجارية} بل هم قوم طاغون. {أم يقولون تقوله} أم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة، والمعنى بل أيقولون تقوله أي: اختلقه وكذب به، وهذاقسم منهم، قالوا: محمد عليه الصلاة والسلام تقوَّل هذا القرآن واختلقه من عنده، وبعضهم يقولون: إنما يعلمه بشر {بل لا يؤمنون} يعني بل هم لا يؤمنون، ولو آمنوا لعلموا أن القرآن لا يمكن أن يتقوَّله بشر، لأن كلام الله عز وجل لا يشبهه أي كلام، ثم تحداهم فقال: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} يعني إذا

كنت أنت تقوَّلته فأنت مثلهم بشر تتكلم كما يتكلمون، وتخطب كما يخطبون، وتقول كما يقولون، فإذا كنت متقوِّلاً له وهو من عندك فليأتوا بحديث مثله، لأن البشر يمكن أن يأتي بكلام يشبه كلام البشر الآخر، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم تقوَّله فهاتوا مثله {فليأتوا} ، اللام هنا للأمر، والمقصود به التحدي والتعجيز، {إن كانوا صادقين} ، وهذا غاية التحدي، فعجزوا وما استطاعوا أن يأتوا بحديث مثله، مع أنهم أمراء البلاغة، وسلاطين الفصاحة، لكن عجزوا، فدل عجزهم على أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من كلام الله - عز وجل - ولهذا قال: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} ومع قوة المعارضة وقوة البلاغة والفصاحة عجزوا أن يأتوا بحديث مثله فما استطاعوا، فدل ذلك على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتقوله، ولن يستطيع أن يأتي بمثله، وفي قوله: {فليأتوا بحديث مثله} كلمة (حديث) نكرة، والنكرة تدل على الإطلاق، لكن جاء في آية أخرى أن الله قال: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} . {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} . وجاء في آية أخرى الإخبار بأنه لن يستطيع أحد أن يعارض القرآن، فقال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} . فتبين بطلان قولهم: إنه تقوَّله؛ لأن الله تحداهم أن يأتوا بمثله، إن كانوا صادقين في دعواهم أنك تقوَّلته فليأتوا

بحديث مثله ولكنهم عجزوا. ثم قال الله تعالى مستدلاً بربوبيته على ألوهيته قال: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} بمعنى بل، والهمزة (بل أخلقوا من غير شيء) أي: من غير خالق، أم هم الخالقون، والجواب: لا خلقوا من غير خالق، ولا هم الخالقون، أما كونهم لم يخلقوا من غير خالق، فلأن القاعدة العقلية الحسية التي أجمع عليها العقلاء أن كل محدث لابد له من محدث، فإذا كان كل محدث لابد له من محدث، فإذا نظرنا في أنفسنا فنحن حادثون قال الله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} . فالواحد منا الذي له عشرون سنة، هو قبل اثنتين وعشرين سنة ليس شيئاً مذكوراً، ولا يعرف ولا يدرى عنه، إذن نحن حادثون، وكل حادث لابد له من مُحدث، فهل أنتم خلقتم بغير محدث؟ الجواب: لا، وهذا جواب عقلي لا ينكر، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ الجواب: لا، لأنهم قبل أن يوجدوا عدم، وكيف يمكن للعدم أن يخلق؟ لا يمكن هذا، فإذا تبين أنهم لم يخلقوا من غير خالق، وأنهم لم يخلقوا أنفسهم تعين أن يكون لهم خالق قادر على إيجادهم وهو الله عز وجل، ولا يستطيع أحد منهم أن يقول: إن الذي خلقني أبي أو أمي، فإذا لم يكن كذلك تعين أن يكون لهم خالق وهو الله تبارك وتعالى، وإذا كان لهم خالق وهم مخلوقون مربوبون مدبرون، فالواجب أن يخضعوا لهذا الخالق، وأن يعبدوه وحده، كما أنه هو الخالق وحده، وهذه الآية سمعها جبير بن مطعم وكان قد قدم إلى المدينة وهو مشرك، على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الفداء لأسرى بدر، وغزوة

بدر انتصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم والحمد لله - وقتلوا من قريش سبعين رجلاً، وأسروا سبعين رجلاً، وجاءوا بهم إلى المدينة، وانقسموا إلى أقسام، منهم من أطلقه النبي عليه الصلاة والسلام، ومنّ عليه، ومنهم من فداه بمال، ومنهم من فداه بأسير ومنهم من فداه بتعليم أهل المدينة الكتابة، وجبير بن مطعم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب فداء أسرى بدر لأنه من صميم قريش، والأسرى أيضاً من قريش، ويظهر لي - والله أعلم - أن جبيراً سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» (¬1) . وذلك أن مطعم بن عدي لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الطائف أجاره، وصار يمشي معه من حين دخل مكة إلى أن وصل إلى الكعبة، وأمر أبناءه وهم متقلدي السيوف أن يقف كل واحد على ركن من أركان الكعبة حتى لا يعتدي على الرسول أحد، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: طف. واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف فأقبل أبو سفيان إلى مطعم، فقال: أمجير أم تابع؟ قال: لا بل مجير. قال: إذاً لا تُخْفَر. فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه. فهو أحسن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام وهو أوفى الناس عليه الصلاة والسلام بكرمه قال: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى» أي: الأسرى، ووصفهم بأنهم نتنى؛ لأن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب ما منّ النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس (3139) .

المشركين نجس، والنتن هو الرائحة الكريهة «في هؤلاء النتنى لتركتهم له» وجبير ابنه فلعله - والله أعلم - سمع بهذه المقالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب فداء الأسرى، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بسورة الطور ولما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} قال جبير: (كاد قلبي يطير) لأن هذه حجة ملزمة لا يمكن أن يتخلص منها أحد، قال: (ووقر الإيمان في قلبي) يعني معناه أنه دخل الإيمان في قلبه، سبحان الله، فانظر تأثير القرآن الكريم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما دعاه في تلك الساعة، لكن سمع هذه الآية العجيبة العظيمة، فكاد قلبه يطير، {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} والجواب بكل سهولة: لا، في الأمرين، لا خلقوا من غير شيء، ولا هم الخالقون، بل لهم خالق وهو الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يمكن أن ينكر هاتين المقدمتين كلها حجة قطعية تدمغ كل كافر، يعني إذا قال: نعم لي خالق خلقني قلنا: إذن لماذا لا تعبده، لأنك عبد له مملوك له {أم خلقوا السماوات والأَرض} انتقل من الأدنى إلى الأعلى خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، فانتقل من الأدنى إلى الأعلى {أم خلقوا السماوات والأَرض} والجواب: لا، لأن أم هنا مثل سابقاتها، بل أخلقوا السموات والأرض، والجواب: لا، وهم يقرون بهذا {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأَرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} . ولكن مع ذلك لا يعترفون بالرسالة، ولهذا قال: {بل لا يوقنون} ، يعني ليس عندهم إيقان في خلق السموات والأرض أن الذي خلقهم هو الله، لأنه لو كان عندهم

يقين لحملهم هذا اليقين على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار برسالته. وهذه الإلزامات العظيمة التي ألزم الله تعالى بها قريشاً كل هذا من أجل إقامة الحجة عليهم، ولو شاء سبحانه وتعالى لعاقبهم بدون أن تكون هذه المجادلة وهذه المناقشة. {أم عندهم خزآئن ربك أم هم المسيطرون} أم هنا بمعنى بل، والهمزة، يعني بل أعندهم خزائن الله، يعني خزائن رزق الله - عز وجل - حتى يمنعوا من شاءوا، ويعطوا من شاءوا، والجواب: ليس عندهم ذلك، ولا يملكون شيئاً من هذا، بل الذي يملك الرزق عطاء ومنعاً هو الله تبارك وتعالى، ولما نفى أن يكون عندهم خزائن الله، قال: {أم هم المسيطرون} يعني بل أهم الذين لهم السيطرة والغلبة والسلطان والكلمة؟ والجواب: لا، فإذا لم يكن لهم شيء من هذا صاروا مربوبين، وصاروا أذلاء أمام قوة الله - عز وجل -، ثم قال تعالى: {أم لهم سلم يستمعون فيه} يعني بل ألهم سلم يستمعون فيه، والسلم هو المصعد والمرقى، والمعنى: هل لهم سلم يصعدون فيه على السماء يستمعون ما يقال في السماء؟ والجواب: لا، فإن ادعوا ذلك {فليأت مستمعهم بسلطان مبين} أي: بحجة بينة ظاهرة على أنه استمع ما يقال في السماء، والجواب: لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً، اللهم إلا الكهنة الذين لهم رئي من الجن يستمع إلى ما يقال في السماء، ثم يكذب مئة كذبة على ما سمع، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء، ثم قال تعالى: {أم له البنت ولكم البنون} وهذا أيضاً بمعنى بل، والاستفهام للتوبيخ والإنكار، يعني أيكون لله

البنات ولهم البنون، لأنهم ادعوا أن جند الله تعالى بنات، وأن لهم البنين، ومعلوم أن من له البنين غالب على من له البنات، لأن جنده رجال ذكور، أقوى وأحزم وأقدم من النساء، وقد جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، كما قال الله تعالى عنهم ذلك قال: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إنثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون} . يعني لم يشهدوا خلقهم حتى يقولوا: إنهم بنات {ستكتب شهادتهم} أي شهادتهم هذه التي هي زور وكذب، {ويسئلون} ، فهؤلاء المكذبون للرسول عليه الصلاة والسلام من قريش قالوا: لهم البنون ولله البنات، قال الله تعالى: {ويجعلون لله البنت سبحانه ولهم ما يشتهون} . والذين يشتهون هم الذكور حتى إن أحدهم إذا بُشِّر بالأنثى {ظل وجهه مسودا وهو كظيم} . أي: مملوء غيظاً وغمًّا {يتوارى من القوم} يختبىء من القوم {من سوء ما بشر به} . ثم يتردد {أيمسكه على هون} أي: على ذل وهوان {أم يدسه في التراب} يرميه فيه وهذه المؤودة {ألا ساء ما يحكمون} . {أم تسئلهم أجراً فهم من مغرم مثقلون} يعني بل أتسألهم، والاستفهام هنا للنفي وكل (أم) هنا الاستفهام للنفي والتوبيخ، يعني هل أنت يا محمد حين دعوتهم إلى الله - عز وجل - هل أنت تقول أعطوني أجراً مثقلاً كبيراً لا يستطيعونه حتى يردوك، والجواب: لا، قال الله تعالى: {قل مآ أسئلكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين} . فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لأي واحد: أعطني أجراً على دعوتي إياك، بل هو صلى الله عليه وسلم يبذل المال ليؤلف القلوب، كما أعطى

المؤلفة قلوبهم من الأموال شيئاً عظيماً، وليس يطلب من أحد أي عوض على ما جاء به من الرسالة، واستدل بعض أهل العلم على أنه لا يجوز للإنسان أن يأخذ أجراً على تعليم العلم بمعنى مؤاجرة، يقول الإنسان: لا أعلمك إلا بكذا وكذا، لكن هذا فيه نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» (¬1) . {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} أي: ماغاب عن الناس فهم يحفظونه، والجواب: لا، ليس عندهم علم الغيب، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه لا يعلم شيئاً من الغيب، يكون الشيء في داره لا يعلمه، حتى إنه دخل ذات يوم والبرمة على النار تغلي باللحم، ولم يعلم ما هو، وحتى إن أبا هريرة كان معه فانخنس منه ولم يعلم لأي شيء ذهب، فالحاصل أن الرسول نفسه لا يعلم الغيب، فمن دونه من باب أولى، وقد أمره الله تعالى أن يعلن بأنه لا يعلم الغيب، فقال تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} . وهنا يقول تعالى لهؤلاء المكذبين {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} ، والجواب: لا، ثم قال: {أم يريدون كيداً} يعني أيريد هؤلاء أن يكيدوا لك يا محمد بإبطال دعوتك، وإهلاكك وإماتتك، الجواب: نعم، ولكن كيدهم ليس بشيء بالنسبة إلى كيد الله عز وجل، قال الله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} . وقد كادوا له أعظم كيد، فإنهم اجتمعوا ماذا يصنعون بمحمد لما رأوا دعوته تنتشر، وأنه لا قبل لهم بردها، اجتمعوا يتشاورون، وذكروا ثلاثة ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب (5737) .

آراء: الحبس، والقتل والإخراج، {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} أي: يحبسوك {أو يقتلوك أو يخرجوك} ، قال الله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله} واستقر رأيهم على القتل، لكن من يستطيع أن يقتله، لأن بني هاشم سوف يطالبون؟ قالوا: يجتمع عشرة شبان من قبائل متفرقة من العرب، ويعطى كل واحد منهم سيفاً صارماً، ويضربون محمداً ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل فتعجز بنو هاشم عن المطالبة، فعلوا ذلك، ولكنهم مكروا ومكر الله {والله خير الماكرين} فأنجاه الله منهم ثم أذن له أن يهاجر، فهاجر إلى المدينة، {أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون} الجملة هنا جملة اسمية معرف طرفاها مفصولة بضمير الفصل، مما يدل على التوكيد والحصر يعني فالكيد للذين كفروا. وهنا قال تعالى: {أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون} لم يقل: أم يريدون كيداً فهم المكيدون، وهذا الأسلوب عند علماء البلاغة يسمى الإظهار في موضع الإضمار، ومعناه بدل أن يقال: (فهم المكيدون) قال الله تعالى: {فالذين كفروا} ولهذا فائدة بل أكثر، إذا قال (فالذين كفروا) معناه أن هؤلاء كفار، ومعناه أن من كان كافراً فهو المكيد، وإن كان من غير هؤلاء، هاتان فائدتان معنويتان، الفائدة الثالثة: تنبيه المخاطب، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد ربما يغفل الإنسان، لكن إذا جاء شيء يخرج الكلام عن النسق انتبه، ثم قال تعالى: {أم لهم إله غير الله} يعني بل ألهم إله غير الله؟ والجواب حقيقة: لا. وادعاءً: نعم لهم آلهة غير الله يعبدونها: اللات

والعزى ومناة، وهبل وغيرها من الأصنام المعروفة عند العرب، ولهذا قال: {سبحان الله عما يشركون} فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عما يشرك به هؤلاء، ليبين أن هذه الأصنام باطلة، وأن الله منزه عن كل شريك. {وإن يروا كسفاً من السماء سقطاً يقولوا سحاب مركوم} الكسف معناه قطع العذاب، {يقولوا سحاب مركوم} وهذا يدل على أنهم يرون أنهم على حق، وأنهم غير مستحقين للعذاب، وأن هذا الكسف النازل قطع العذاب ما هي إلا سحب متراكمة، وهذا كقول عاد حين رأوا الرياح مقبلة عليهم قالوا: {هذا عارض ممطرنا} . لأن هؤلاء المكذبين - والعياذ بالله - معاندون يرون أنهم على حق، وأنهم غير مستحقين للعذاب، فإذا رأوا العذاب قالوا: هذا شيء عادي، ولن نهابه ولن نخافه، قال الله تعالى: {فذرهم} أتركهم {في خوضهم} بأقوالهم {يلعبون} بأفعالهم ويلهون في الدنيا ويرون أنهم على حق {حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} وهو يوم موتهم، يعني اترك هؤلاء فإن مآلهم إلى الموت وإن فروا، وهم إذا لاقوا يومهم الذي يوعدون عرفوا أنهم على باطل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم على الحق {يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئاً ولا هم ينصرون} فإذا جاءهم الموت ما أغنى عنهم كيدهم شيئاً؛ لأنهم في قبضة الله، وقد انتهى استعتابهم، وليس أمامهم إلا العذاب {وإن للذين ظلموا} والمراد بهم الكفار، قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} . {عذاباً دون ذلك} ، يعني دون عذاب الموت، وهو ما أصيبوا به من الجدب والقحط والخوف

والحروب وغير ذلك مما كان قبل الموت {ولكن أكثرهم لا يعلمون} ، بل أكثرهم في غفلة عن هذا، ولا يظنون أن ذلك من العذاب في شيء. {واصبر لحكم ربك} اصبر يا محمد عليه الصلاة والسلام، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقوله {لحكم ربك} يشمل الحكم الكوني، والحكم الشرعي، يعني اصبر لما حكم به ربك من وجوب إبلاغ الرسالة وإن أصابك ما يصيبك، واصبر لحكم ربك القدري الكوني، وهو ما يقدره الله تعالى عليك من هؤلاء السفهاء من السخرية والعدوان والظلم، ولقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم كما أوذي إخوانه من المرسلين، أوذي إيذاءً عظيماً، وضع الكفار سلا الجزور على ظهره وهو ساجد تحت الكعبة، في أأمن مكان (¬1) ، وضرب، ورمي بالحجارة حين خرج إلى أهل الطائف حتى أدموا عقبه صلوات الله وسلامه عليه، ولم يفق إلا وهو في قرن الثعالب (¬2) ، ويلقون القاذورات والأنتان على عتبة بابه عليه الصلاة والسلام، ويقول: «أي جوار هذا» وهذا من امتثال أمر الله، حيث قال الله له: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} أي: فإننا نراك بأعيننا ونراقبك ونلاحظك، ونعتني بك، وهذا كما يقول القائل لمن أشفق عليه وأحبه: أنت في عيني، ومن المعلوم أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته (رقم 240) ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (رقم 1794) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين (رقم 3231) ، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (رقم 1795) .

مثل هذا الأسلوب لا يعني أن مخاطبه حال في عينه، بل المعنى أنت مني على مرأى، وعلى رقابة، وعلى حماية. وفي هذه الآية إثبات العين لله - عز وجل - وهي حقيقية ولكنها لا تماثل أعين الخلق، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} . {وسبح بحمد ربك حين تقوم} أي: قل: سبحان الله وبحمده {حين تقوم} من أي شيء، حين تقوم من مجلسك، أو حين تقوم من منامك، فهي عامة، ولهذا كان كفارة المجلس أن يقول الإنسان: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» (¬1) ، فينبغي للإنسان كلما قام من مجلس أن يختم مجلسه بهذا: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» ، {ومن الليل فسبحه} يعني وسبح ربك من الليل لا كل الليل، و (من) هنا للتبعيض، ولهذا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بأقوام من أصحابه قال أحدهم: (أنا أقوم ولا أنام) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فأقوم وأنام، ومن رغب عن سنتي فليس مني» (¬2) ولذلك يكره للإنسان أن يقوم الليل كله حتى لو كان فيه قوة ونشاط، فلا يقوم الليل كله إلا في العشر الأواخر من رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحيي ليلها كله (¬3) ، {وإدبار النجوم} يعني وقت أدبارها، وهل المراد ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس (3433) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (¬2) تقدم ص 29. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب فضل ليلة القدر، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (رقم 2024) ومسلم، كتاب الاعتكاف، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (رقم 1174) .

أدبار ضوئها بانتشار نور الشمس، أو أدبار ذواتها عند الغروب؟ فالجواب هذا وهذا، والمراد بذلك صلاة الفجر، لأن صلاة الفجر بها تدبر النجوم، وصلاة الفجر وصلاة العصر هما أفضل الصلوات الخمس، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا» (¬1) والمراد بالصلاة قبل طلوع الشمس أي صلاة الفجر، وقبل غروبها صلاة العصر، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة» (¬2) والبردان هما صلاة الفجر، وصلاة العصر، فصلاة الفجر براد الليل، وصلاة العصر براد النهار، {ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} وبهذا انتهى الكلام بما يسر الله عز وجل على سورة الطور، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. ¬

(¬1) تقدم ص 111.. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر (رقم 574) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما (رقم 635) .

تفسير سورة النجم

تفسير سورة النجم {بسم الله الرحمن الرحيم} ، تقدم الكلام عليها، {والنجم إذا هوى} النجم اسم جنس يُراد به جميع النجوم، وقوله {إذا هوى} : لها معنيان، المعنى الأول: إذا غاب، والمعنى الثاني: إذا سقط منه شهاب على الشياطين التي تسترق السمع وهو مقسم به {ما ضل صاحبكم وما غوى} هذا جواب القسم، أي المقسم عليه {ما ضل صاحبكم} أي: ما جهل، {وما غوى} أي: ما عاند، لأن مخالفة الحق إما أن تكون عن جهل، وأما أن تكون عن غي، قال الله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} فإذا انتفى عن النبي صلى الله عليه وسلم الجهل، وانتفى عنه الغي تبين أن منهجه صلى الله عليه وسلم علم ورشد، علم ضد الجهل وهو الضلال، {ما ضل صاحبكم} ورشد ضد الغي {قد تبين الرشد من الغي} إذاً النبي عليه الصلاة والسلام كلامه حق وشريعته حق، لأنها عن علم ورشد، وقوله: {ما ضل صاحبكم} يخاطب قريشاً، جاء بهذا الوصف لفائدتين: الأولى: الإشارة إلى أنهم يعرفونه، ويعرفون نسبه، ويعرفون صدقه، ويعرفون أمانته، فهو ليس شخصاً غريباً عنهم حتى يقولوا لا نؤمن به، لأننا لا نعرفه، بل هو صاحبهم الذي نشأ فيهم، فكيف بالأمس يصفونه بالأمين، والآن يصفونه بالكاذب الخائن. الثانية: أنه إذا كان صاحبهم فإن مقتضى الصحبة أن يصدقوه وينصروه لا أن يكونوا أعداء له. فهو لم يقل «ما ضل

رسول الله» أو «ما ضل محمد» ، بل قال: {ما ضل صاحبكم} ، فالفائدة من هذا هو أن مقتضى الصحبة أن يكونوا عارفين به، ومقتضى الصحبة أن يكونوا مناصرين له {وما ينطق عن الهوى} أي: لا يتكلم بشيء صادر عن الهوى بأي حال من الأحوال، فما حكم بشيء من أجل الهوى، ولكنه ينطق بما أوحي إليه من القرآن، وما أوحي إليه من السنة، وما اجتهد به صلى الله عليه وعلى آله وسلم اجتهاداً يريد به المصلحة، فنطقه عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام: الأول: أن ينطق بالقرآن. الثاني: أن ينطق بالسنة الموحاة إليه التي أقرها الله تعالى على لسانه. الثالث: أن ينطق باجتهاد لا يريد به إلا المصلحة، أما نحن فننطق عما نريد به المصلحة، وننطق عن الهوى، وليس كل إنسان منا سالم من الهوى، يميل مع صاحبه، ويميل مع قريبه، ويميل مع الغني، ويميل مع الفقير، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتكلم عن هوى، وإذا كان لايمكن أن ينطق عن الهوى صار لا ينطق إلا بحق {إن هو إلا وحى يوحى} يعني ما القرآن {إلا وحى يوحى} ، أي: وحي من الله - عز وجل - والواسطة بين الله وبين الرسول {علمه شديد القوى} يعني علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوحي شديد القوى، أي: ذو القوة الشديدة، فهو من إضافة الصفة إلى موصوفها، وهو جبريل عليه السلام، كما قال الله تعالى: {إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين} فجبريل عليه السلام قوي شديد أمين كريم، لا يمكن أبداً أن يفرط بهذا الوحي الذي نقله إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى: {نزل به الروح الأَمين على

قلبك لتكون من المنذرين} . {ذو مرة فاستوى} المرة: الهيئة الحسنة، فهو ذو قوة، وذو جمال وحسن، وقد رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صورته التي خُلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق (¬1) ، فهو الذي نزل بهذا القرآن، حتى ألقاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نزل به الروح الأَمين على قلبك لتكون من المنذرين} . وقوله: {فاستوى} أي فعلى، أو فكمل؛ لأن الاستواء في اللغة العربية تارة يذكر مطلقاً دون أن يقيد، فيكون معناه الكمال، ومنه قوله تعالى: {ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا} أي: كمل، وتارة يقيد بعلى فيكون معناه العلو، كما في قوله تعالى: {وجعل لكم من الفلك والأَنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} فقال: {لتستووا على ظهوره} ، وقال: {إذا استويتم عليه} أي: علوتم عليه، ومنه قوله تعالى فيما وصف به نفسه: {الرحمن على العرش استوى} أي: علا عليه - عز وجل - العلو الخاص بالعرش، وهذا غير العلو المطلق على جميع المخلوقات، وتارة يتعدى بإلى، ويقال: استوى إلى كذا، فيفسر بأنه القصد والانتهاء، ومنه قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} وتارة يقيد بالواو فيكون معناه التساوي مثل قولهم: استوى الماء والخشبة، أي ساواه، فقوله هنا: {فاستوى} يحتمل أن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب بدء االق، باب إذا قال أحدكم: آمين (رقم 3232) و (رقم 3235) ومسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: {ولقد رآه نزلة أخرى} (رقم 177) (290) .

المعنى استوى على؛ لأن جبريل ينزل من السماء، فيلقي الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم يصعد إلى السماء، ويحتمل معناه كمل، ويكون كامل القوة، والهيئة، وكامل من كل وجه مما يليق بالمخلوقات، {وهو} ، أي جبريل عليه الصلاة والسلام {بالأُفق الأَعلى} أي: الأرفع، وهو أفق السماء، {ثم دنا} أي من النبي صلى الله عليه وسلم، {فتدلى} أي: قرب من فوق، {فكان} أي: جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم {قاب قوسين أو أدنى} ، وهذا مثل يضرب للقرب، {قاب قوسين} يعني قريباً جداً، بل أدنى، فقوله {أو أدنى} بمعنى بل، أي بل هو أدنى من ذلك، {فأوحى} أي: جبريل {إلى عبده مآ أوحى} أي: إلى عبد الله، فالضمير في {أوحى} يعود على جبريل والضمير في {عبده ما أوحى} يعود إلى الله عز وجل، أي: أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحى، ولم يبين ما أوحى به تعظيماً له، لأن الإبهام يأتي مراداً به التفخيم والتعظيم، ومنه قوله تعالى: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} أي: غشيهم شيء عظيم، وهنا أوحى إلى عبده ما أوحى أي من الشيء العظيم، ولا كلام أعظم من القرآن الكريم؛ لأنه كلام الله - عز وجل -. ثم قال الله تبارك وتعالى في قصة المعراج: {ما كذب الفؤاد ما رأى} اعلم أيها الأخ المسلم أن للنبي صلى الله عليه وسلم إسراءً ومعراجاً، فالإسراء ذكره الله في سورة الإسراء. والمعراج ذكره الله في سورة النجم وكلاهما في ليلة واحدة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، أو سنة ونصف، اختلف المؤرخون في هذا، ثم إن الإسراء والمعراج كان ببدن الرسول صلى الله عليه وسلم وروحه، وليس بروحه

فقط، وأما قوله تعالى: {وما جعلنا الرءيا التى أريناك إلا فتنةً للناس} فالمراد بها رؤية العين، لا رؤية المنام، يقول الله تعالى في سياق الآيات في المعراج: {ما كذب الفؤاد ما رأى} الفؤاد القلب، والمعنى أن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم بعينه فإنه رآه بقلبه وتيقنه وعلمه، وذلك أن العين قد ترى شيئاً فيكذبها القلب، وقد يرى القلب شيئاً فتكذبه العين، فمثلاً قد يرى الإنسان شبحاً بعينه فيظنه فلاناً ابن فلان، ولكن القلب يأبى هذا، لأنه يعلم أن فلاناً ابن فلان لم يكن في هذا المكان، فهنا العين رأت، والقلب كذَّب، أو بالعكس، قد يتخيل الإنسان الشيء بقلبه ولكن العين تكذبه، أما ما رآه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة المعراج فإنه رآه حقًّا ببصره وبصيرته، ولهذا قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} بل تطابق القلب مع رؤية العين، فلم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاذباً فما رآه من الآيات العظيمة في تلك الليلة بل هو صادق، ولكن المشركين كذبوه، وقالوا: كيف يمكن أن يصل إلى بيت المقدس ويعرج إلى السماء في ليلة واحدة، ولهذا قال: {أفتمارونه على ما يرى} والاستفهام هنا للإنكار والتعجب، ومعنى تمارونه أي: تجادلونه بقصد الغلبة، لهذا عداها بعلى دون (في) ، فلم يقل: (أفتمارونه في ما يرى) بل قال {على ما يرى} ، إشارة إلى أن الفعل ضمن معنى المغالبة، أي أفتجادلونه تريدون أن تغلبوه على ما يرى، أي: على شيء رآه، ولكنه عبر عن الماضي بالمضارع إشارة إلى استحضار هذا الشيء، وأنه عليه الصلاة والسلام حين أخبر به كأنما يراه الآن، لأن الإنسان إذا حدث عن ماضي فربما

يقول قائل: لعله نسي فأخطأ، ولكن إذا عبر بالمضارع صار كأنه يتحدث عن شيء هو يشاهده، فالمعنى على ما رأى من قبل، ولكن عبر عمّا رأى من قبل بالمضارع لحكمة بالغة، والحكمة البالغة، حيث تكون تعبيرات القرآن الكريم إذا عبر بخلاف ما يتوقع فلابد أن يكون هناك حكمة تظهر للمتأمل {ولقد رءاه نزلةً أخرى} رآه الفاعل محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمفعول به جبريل، أي رأى محمدٌ جبريلَ {نزلةً أخرى} ، أي: مرة أخرى حين نزل، والمرة الأولى رأى الرسولُ عليه الصلاة والسلام جبريلَ وهو في غار حراء، رآه على خلقته التي كان عليها، رآه وله ستمائة جناح قد سد الأفق، كل الأفق الذي حول الرسول عليه الصلاة والسلام في حراء انسد من أجنحة هذا الملك الكريم، وهذا يدل على عظمته، ولهذا وصفه الله أنه ذو قوة عند ذي العرش مكين، وبأنه ذو مرة أي هيئة حسنة كما سبق في هذه السورة، والمرة الثانية: في السماء فوق السماء، فتارة رآه من تحت السماء من فوق الأرض، وتارة من فوق السماء، ولهذا قال: {ولقد رءاه نزلةً أخرى} أي مرة أخرى {عند سدرة المنتهى} ، أي رآه عند السدرة، والسدرة شجرة معروفة في الأرض، لكن السدرة التي في السماء السابعة ليست كصفة السدرة التي في الدنيا، بل نبقها كالقلال، وأوراقها كآذان الفيلة (¬1) ، فهي شجرة عظيمة، وسميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها كل صاعد من الأرض، وينتهي إليها كل نازل من عند الله عز ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ? (162) 259.

وجل (¬1) ، فهي منتهى من الطرفين: الطرف الأول: ما يصعد من الأرض إلى السماء، ينتهي عند هذه السدرة، وما ينزل من الرب عز وجل ينتهي عند هذه السدرة، {عندها جنة المأوى} ، أي: عند هذه السدرة جنة المأوى، إذاً الجنة فوق السماء السابعة، لأنه إذا كانت السدرة فوق السماء السابعة وكانت الجنة عندها لزم أن تكون الجنة فوق السماء السابعة، وهو كذلك، وأعلاها وأوسطها الفردوس، - جعلنا الله من أهلها - فوقها عرش الرحمن جل وعلا، ولهذا قال تعالى: {كلا إن كتاب الأَبرار لفي عليين} وعليين مبالغة من العلو، يعني في أعلى الشيء، {المأوى} يعني المصير، مأوى من جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، يأوون إليها ويخلدون فيها، وأما النار فهي مأوى الكافرين والعياذ بالله، وفي هذا دليل واضح على أن غاية الخلائق الجن والإنس إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا ثالث لهما، فالجن والإنس إما في النار وإما في الجنة، قال السفاريني - رحمه الله - في عقيدته: وكل إنسان وكل جِنةٍ في دار نارٍ أو نعيم جنة ويستفاد من قوله {المأوى} أن القبور ليست هي المأوى والمثوى، لأن القبور ممر ومعبر، إذ إن وراء القبور بعث، ويذكر أن بعض الأعراب في البادية سمع قارئاً يقرأ قول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر} فقال الأعرابي بفطرته وعربيته: «والله ما الزائر بمقيم، وإن وراء ذلك شيئاً» ، لأن الزائر يزور ويمشي، والقبور يمكث الناس فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى (173) 279..

يخرجون منها، قال الله تعالى: {ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون} فالناس لابد أن يبعثوا، والعبارة التي نسمعها أو نقرأها أحياناً أن الرجل حملوه إلى مثواه الأخير، يعني إلى المقبرة عبارة غير صحيحة، لأن القبور ليست المثوى الأخير، ولو كان قائلها يعتقد معناها لكان لازم ذلك أنه ينكر البعث {إذ يغشى السدرة ما يغشى} السدرة هي سدرة المنتهى، لأنه تعالى قال: {ولقد رءاه نزلةً أخرى عند سدرة المنتهى} : {إذ يغشى السدرة} وأل في مثل هذه العبارة تسمى عند النحويين (ال) للعهد الذكري كقوله تعالى: {كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذنه أخذاً وبيلاً} {ما يغشى} ، أبهم الله ذلك للتفخيم والتعظيم، يعني غشيها شيء عظيم بأمر الله عزوجل بلحظة، كن فيكون، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنه غشيها من الحسن والبهاء ما لايستطيع أحد أن يصفها (¬1) ، {ما زاغ البصر وما طغى} البصر بصر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول العلماء: {زاغ} أي انحرف يميناً وشمالاً، {وما طغى} أي: تجاوز أمامه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان على كمال الأدب في هذا المقام العظيم، لم يلتفت يميناً وشمالاً، ولم يتقدم بصره أكثر مما أذن له فيه، وهذا من كمال أدبه عليه الصلاة والسلام، وجرت العادة أن الإنسان إذا دخل منزلاً غريباً تجده ينظر يميناً وشمالاً في هذا المنزل، وخصوصاً إذا تغير تغيراً عظيماً في هذه اللحظة، لابد أن ينظر ما الذي حدث، لكن لكمال أدب النبي صلى الله عليه وسلم ورباطة جأشه صلوات الله وسلامه عليه وتحمله ما لا ¬

(¬1) انظر تفسير الدر المنثور (7/643 652) ..

يتحمله بشر سواه صار في هذا الأدب العظيم، ولهذا قال تعالى عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم} . ثم قال - عز وجل -: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} وأنت أخي المسلم القارىء للقرآن يمر بك مثل هذا التعبير دائماً {ولقد رءاه} ، {لقد خلقنا الإنسان في كبد} ، {ولقد خلقنا الإنسان من سللة من طين} والأمثلة كثيرة، هذه الجملة يقول العلماء: إنها مؤكدة بأنواع ثلاثة من المؤكدات: الأول: قسم مقدر، والثاني: اللام. والثالث: قد، لأن المعنى: (والله لقد) فتكون جملة مؤكدة بالقسم واللام، وقد، والقسم مقدر لكن دل عليه السياق، ورأى يعني النبي صلى الله عليه وسلم {من آيات ربه الكبرى} ، الآية هي العلامة المخصصة لمدلولها التي لا يشركه فيها أحد، وإلا لم تكن آية، فالآية لابد أن تكون خاصة بمدلوها، فليس كل علامة آية، بل هي التي تختص بمدلولها، فهذا الذي رآه النبي عليه الصلاة والسلام من آيات الله كبير عظيم، وقوله {الكبرى} قيل: إنها مفعول ثان لرأى، أي: لقد رأى من آيات ربه الكبرى، وقيل: إن الكبرى صفة لآياته، والمعنى أنه رأى من آيات الله الكبيرة، والثاني أصح وأقرب، يعني أنه رأى من الآيات الكبرى ما رأى، وليس ما رآه أكبر شيء، بل قد يكون هناك شيء أكبر لا نعلمه، والحاصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في هذا المعراج من آيات الله الكبير ما لم يكن يره من قبل، وما لا يستطيع الصبر عليه أحد من البشر، ونحن لو رأينا سرادقاً عظيماً لملك من الملوك لانبهرنا وتعجبنا، وجعلنا نلتفت يميناً وشمالاً، لكن الرسول عليه

الصلاة والسلام لم يتغير عقله ولا اتزانه، بل كان على أكمل ما يكون الاتزان، وإلا فقد أسري به من المسجد الحرام من الحجر عند الكعبة - والحجر من الكعبة - أسري به من ذلك المكان إلى بيت المقدس مسيرة شهرين، في لحظة لأنه ركب البراق، والبراق دابة عظيمة قوية سريعة، خطوته مد بصره، وسريع جداً وصل إلى هناك وصلى بالأنبياء، ثم عُرج به إلى السماء، والسماء بعيدة جداً، ثم من سماء إلى سماء وتتلقاه الملائكة تسأل جبريل: من معك؟ فيقول: محمد، فيسألونه هل أرسله إلى الناس؟ فيقول: نعم، ثم يسلم على بعض من في السموات من أنبياء، ثم تفرض عليه الصلاة ويتردد بين الله عز وجل وموسى كل هذا وهو ثابت الجأش عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء حقيقي هو بنفسه عليه الصلاة والسلام صعد، ولهذا لما جاء وحدث الناس من الغد أنكرته قريش، لأنها تنكر ما لا يمكن في عقلها، وإنكار ما لا يمكن في العقل ليس خاصًّا بكفار قريش حتى فيمن ينتسب إلى هذه الأمة أنكروا من صفات الله ما أثبته الله لنفسه، لأنه على زعمهم لا يمكن في العقل، فقريش أنكرت هذا المعراج: ولو كان مناماً لم تنكره قريش، لأن المنامات يكون فيها مثل هذا، لكنه أمر حسي حقيقي أسري بالرسول عليه الصلاة والسلام بجسده وعُرج به في ليلة واحدة، وحصلت كل هذه الأمور ثم عاد إلى الأرض وصلى الفجر في مكة عليه الصلاة والسلام. {لقد رأى من ءايات ربه الكبرى} ، وفي هذا إشارة إلى أن آيات الله - عز وجل - منها الكبير ومنها ما دون ذلك، ولا نقول: منها الصغير. لأن الكبرى

اسم تفضيل. وغلط من قال من المفسرين المتأخرين: إن الكبرى اسم فاعل، بل هي اسم تفضيل، لأن آيات الله - عز وجل - إما كبيرة، وإما كبرى عظمى، فالمعراج الذي حصل لا شك أنه من الآيات الكبرى العظيمة. ولما بين الله سبحانه وتعالى ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات ربه العظيمة في الآفاق، قال: {أفرءيتم اللات والعزى} وهذا الاستفهام للتحقير وانحطاط رتبة هذه الأصنام التي ذكرها الله - عز وجل - يعني أخبروني بعد أن سمعتم من آيات الله الكبرى ما سمعتم، أخبروني عن شأن هذه الأصنام وما قيمتها، وما مرتبتها، وما عزتها {أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى} هذه ثلاثة أصنام مشهورة عند العرب يعبدونها من دون الله، ويخضعون لها كما يخضعون لله، ويتقربون إليها كما يتقربون لله - عز وجل -، ومع ذلك هم يعتقدون أنها لا تنفعهم عند الشدة، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، وعلموا أنه لا منجي من هذه الشدة إلا رب العالمين، لكن الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم في عبادة هذه الأصنام التي يدعون أنها تقربهم من الله تعالى، كما قال الله عنهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} ولكن في الحقيقة لا تقربهم إلى الله بل تبعدهم منه، {أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأُخرى} الثالثة بالنسبة لاثنتين قبلها {الأُخرى} يعني المتأخرة وكأنها - والله أعلم - دون اللات والعزى في المرتبة عند العرب، ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء المشركين {ألكم الذكر وله الأُنثى} يعني أتجعلون لكم الذكور،

ولله الإناث، وذلك بقولهم إن الملائكة بنات الله، وهم لم يشهدوا خلق الملائكة، ولم يطلعوا على ذلك، كما قال الله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم} والجواب: لا، لم يشهدوا خلقهم، ولكن مع ذلك ستكتب هذه الشهادة عليهم ويسألون، نسأل الله العافية، وهم {وإذا بشر أحدهم بالأُنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} ، ومع ذلك يجعلون لرب العالمين الذي خلق الذكر والأنثى البنات، ويجعلون لأنفسهم البنين، وهذه القسمة قسمة جور، {تلك إذاً قسمة ضيزى} ، يعني تلك القسمة، وهي أن يجعل لله البنات ولهم البنين {قسمة ضيزى} أي: جائرة مائلة عن الحق، لأننا لو قلنا بأنه جائز أن يكون لله ولد لكان الأولى أن يكون له البنون، لأن البنين أعلى من البنات بلا شك، وهو سبحانه وتعالى أعلى من المخلوقين، فيجب أن يكون الأعلى للأعلى، والأدنى للأدنى، هذه القسمة العادلة، ثم هناك قسمة أخرى دونها في العدل، ولكن فيها عدل أن يجعلوا لله البنات ولهم بنات، ولله البنين، ولهم بنين لكن ما فعلوا هذا، جعلوا الأدنى للخالق، والأعلى لهم، ولهذا قال عز وجل: {تلك إذاً قسمة ضيزى} ثم عاد الله - عز وجل - إلى بيان حقيقة هذه الأصنام المعبودة، فقال: {إن هي إلا أسماء سميتموهآ} {إن} هنا نافية بمعنى ما، وهذا ضابط ينتفع به طالب العلم أنه إذا أتت (إلا) مثبتة بعد (أن) فإن (إن) هنا تكون نافية مثل: إن هذا إلا بشر، إن هذا إلا مجتهد، وما أشبه ذلك فـ (إن) هنا نافية بمعنى، ما هي إلا أسماء سميتموها، يعني ما

هذه الأصنام إلا مجردأسماء لا حقيقة لها، سموها إلهاً معبوداً، ولكنه لا حقيقة لذلك، ما هي إلا مجرد أسماء، والاسم لا يدل على مسماه، فلو أنك سميت الحديد خشباً، ما صار خشباً، ولو سميت الخشب حديداً، ما صار حديداً، ولو سميت البغل حماراً، لم يكن حماراً، وهكذا هذه الأصنام يسمونها آلهة، ولا تكون إلهاً، بل مجرد اسم، والاسم بلا مسمى لا فائدة منه، ولهذا قال {إن هي} ، أي: ما هذه الأصنام والمسميات {إلا أسماء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان} ، المخاطبون هم الذين أدركوا البعثة. وآباؤكم يعني الأجداد السابقين مجرد أسماء {مآ أنزل الله بها من سلطان} (ما) نافية، والمعنى أن الله - عز وجل - لم ينزل بها دليلاً، وسمي الدليل سلطاناً لأن صاحب الدليل معه سلطة يعلو بها على خصمه، ومن ليس له دليل ليس له سلطان، فالسلطان يأتي دائماً بمعنى الحجة أي الدليل، لأن من معه الدليل ذو سلطة على خصمه {إن يتبعون إلا الظن} . (إن) نافية بمعنى (ما) {يتبعون} أي: هؤلاء وآباؤهم {إلا الظن} ، أي: الوهم الذي لا حقيقة له، لأنهم يقولون هذه آلهة، واعتمدوا في ذلك على الوهم، فالظن هنا بمعنى الوهم، يعني ما يتبع هؤلاء بقولهم إنها آلهة إلا الظن، أي الوهم الخيال الذي لا حقيقة له، {وما تهوى الأَنفس} ، يعني وما تميل إليه نفوسهم من الباطل، ثم قال - عز وجل -: {ولقد جاءهم من ربهم الهدى} الجملة هنا مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم المحذوف، واللام، وقد، وتقديره: والله لقد جاءهم من ربهم الهدى، فيؤكد الله هنا أنه قد جاءهم من ربهم

الهدى، وفي قوله: {من ربهم} ولم يقل: من الله. إشارة إلى أنه لا يجوز تلقي الشريعة إلا من عند الله، لأن الله سبحانه وتعالى هو الرب، والرب هو الخالق المالك المدبر {الهدى} ، فاعل والمراد به العلم المقابل بقوله {إن يتبعون إلا الظن} فهم يتبعون الظن، والعلم جاء من عند الله، {ولقد جاءهم من ربهم الهدى} أي: العلم على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام، الذين خُتموا بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم {أم للإنسان ما تمنى} (أم) هنا منقطعة؛ لأنها تأتي منقطعة وتأتي متصلة، فإذا كان هناك مقابل فهي متصلة، وإذا لم يكن مقابل فهي منقطعة، فإذا قلت: أعندك زيد أم عمرو؟ فهي متصلة، وإذا قلت في مثل هذه الآية {أم للإنسان ما تمنى} فهي بمعنى بل، وهمزة استفهام، يعني بل أللإنسان ما تمنى، والاستفهام هنا للإنكار والنفي، أي ليس للإنسان ما تمنى، كم يتمنى الإنسان من شيء ولكن لا يحصل، لأن هناك مدبراً، وهو الله - عز وجل - فليس للإنسان ما تمنى، وفي هذا إشارة إلى رد صنيع هؤلاء المشركين الذين يعبدون الأصنام، ويقولون: إنها تقربهم إلى الله، وليس لهم ذلك، وأيضاً رد لقولهم: إن لله البنات ولهم البنين، وليس لهم ذلك، وهم وإن تمنوا ذلك وصار في مخيلتهم فإنه لا يحصل، وليس للإنسان ما تمنى، كثيراً ما يتمنى الإنسان شيئاً ولكن لا يحصل، كثيراً ما يتمنى الشيء ويسعى في أسبابه ولكن لا يحصل، لأن الأمر بيد الله - جل وعلا - ولهذا قال: {فلله الآخرة والأُولى} وبدأ بالآخرة، لأن ملك الله - عز وجل - في الآخرة يظهر أكثر مما في الدنيا،

فالدنيا فيها ملوك، وفيها رؤساء، وفيها زعماء، يرى العامة أن لهم تدبيراً، لكن في الآخرة لا يوجد هذا {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} قال الله - عز وجل - {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} كم تكثيرية لأنها تأتي تكثيرية، وتأتي استفهامية، فإذا قلت: كم مالك؟ فهي استفهامية، وهنا {وكم من ملك في السماوات} يعني كثير من الملائكة في السماوات لا تغني شفاعتهم وهنا نقول: كم من ملك وما أكرم الملائكة، كما قال الله تعالى: {بل عباد مكرمون} {في السماوات} لا في الأرض، والسماوات أعلى من الأرض وإذا كان هؤلاء الملائكة الكرام الذين مقرهم السماوات - إلا من أذن له ينزل الأرض - إذا كانت شفاعتهم لا تنفع، فهل يمكن أن تنفع شفاعة اللات والعزى ومناة؟ الجواب: لا، كأن الله تعالى يقول لهؤلاء: ما أصنامكم هذه التي تشفعون بها إلى الله، كم من ملك وهو أشرف من هذه الأصنام في السماوات وهي أشرف من الأرض، لا تغني شفاعتهم شيئاً لو شفع إلا بثلاثة شروط: الأول: أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بأن يشفع فيشفع، الثاني: أن يرضى عن المشفوع له، الثالث: يرضى عن الشافع لأنه لا يمكن أن يأذن للشافع إلا بعد أن يرضى عنه، ولابد أن يرضى عن المشفوع له وإلا فلا تنفع الشفاعة، كما قال عز وجل: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} فأصنامكم هذه لن تنفع ولن يقبل الله شفاعتها، فشروط الشفاعة ثلاثة: الأول: رضى الله عن الشافع

بأن يكون أهلاً للشفاعة لكونه من المقربين لله - عز وجل - والثاني: أن يرضى عن المشفوع له، بأن يكون أهلاً لأن يشفع له، أما الكافر فما تنفعهم شفاعة الشافعين. الثالث: الإذن لقوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقوله تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغنى شفعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وهذا فيه تيئيس هؤلاء المشركين من شفاعة آلهتهم. {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأُنثى} أكد الله هذا الخبر بمؤكدين هما القسم المقدر واللام: ومعنى {لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يصدقون بها ولا بما فيها من الثواب والعقاب، إذ إن الإيمان بالآخرة لابد أن يكون إيماناً بأن هذا اليوم سيكون، وإيماناً بكل ما ثبت من حصوله ووقعه فيه، إما في القرآن وإما في السنة، حتى إن شيخ الإسلام - رحمه الله - قال: إن مما يدخل في الإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان بما يكون بعد الموت من فتنة القبر، وعذاب القبر، ونعيم القبر، وصدق رحمه الله، لأن الإنسان إذا مات قامت قيامته، وانتهى من الدنيا كأن لم يكن، فكما أنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فسيأتي عليه حين من الدهر لم يكن إلا خبراً من الأخبار، كما قال الشاعر الحكيم: في الدنيا بين يرى الإنسان فيه مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار فأنت الآن تخبر تقول: حصل كذا وحصل كذا، وقال فلان كذا وفي يوم من الأيام. سوف يخبر عنك، قال فلان كذا وأنت

رميم، فالإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور: الأول: الإيمان بوقوع اليوم الآخر أنه لابد كائن. الثاني: الإيمان بما سيكون في هذا اليوم من: أهوال، وحساب، وموازين، وصراط، وجنة، ونار لابد من هذا، الثالث: الإيمان باليوم الآخر الإيمان بما يكون في القبر من فتنة القبر، سؤال الملكين الميت عن ثلاثة أشياء: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ {إنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة} هل أحد من الناس لا يؤمن بالآخرة؟ نعم كثير من الناس، أكثر الناس لا يؤمنون بالآخرة، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال في الإنسان: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً} يعجزنا فيه {ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم} ما أحسن قوله: {ونسي خلقه} قبل أن يقول مقالة هذا الإنسان، يعني هذا الإنسان قال: {من يحي العظام وهي رميم} {ونسي خلقه} ، ما هو خلقه؟ إنه لم يكن شيئاً، خلق من ماء دافق، فصار عظاماً وعصباً ولحماً، وصار إنساناً ينطق ويخاصم {من يحي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} وذكر الأدلة على إمكان ذلك (¬1) ، فمن الناس من ينكر اليوم الآخر، ويقول: لا بعث. وهذا من سفهه في عقله وضلاله في دينه، وإلا فهل من الحكمة أن تخلق هذه الخليقة وتبتلى بالأمر والنهي، ويحصل الجهاد وقتال الأعداء، واستحلال دمائهم وأموالهم، ونسائهم ثم يكون نتيجة هذا لا شيء، هذا لا يمكن، وتأباه الحكمة، إذاً ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك في تفسير فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - لسورة يس.

الذين لا يؤمنون بالآخرة، سفهاء عقولاً، ضلال ديناً {ليسمون الملائكة تسمية الأُنثى} يعني يجعلون الملائكة إناثاً كالمشركين، قالوا: الملائكة بنات الله، فسموا الملائكة تسمية الأنثى، وهي البنت، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولو آمنوا بالعقاب ما قالوا هذا، لكنهم لا يؤمنون، فيقولون ما يريدون، قال الله تعالى: {وما لهم به من علم} نفى أن يكون لهم بذلك علم، لأن هذا هو الواقع: هل شهدوا خلق الملائكة؟ ولهذا قال الله في آية أخرى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم} والجواب: لا، لكن {ستكتب شهادتهم ويسئلون} حين لا يجدون جواباً فهؤلاء الذين قالوا: الملائكة بنات الله، يقول الله - عز وجل -: {ما لهم به من علم} وعلم هنا مجرورة بحرف الجر وحرف الجر، هنا عند المعربين، حرف جر زائد، الفائدة منه توكيد النفي، ولهذا هنا قاعدة مفيدة: جميع الحروف الزائدة يقصد بها التوكيد، وهي من أدوات التوكيد. {وما لهم به من علم} يعني لا قليل ولا كثير، لأنهم لم يشهدوا خلقهم {إن يتبعون إلا الظن} ، {إن} هنا بمعنى ما، والضابط أنه إذا جاءت {إلا} بعد {إن} فهي بمعنى ما، {إن هذا إلا بشر} أي: ما هذا إلا بشر {إن هذا إلا ملك كريم} أي: ما هذا إلا ملك كريم {إن أنتم إلا بشر مثلنا} أي: ما أنتم إلا بشر مثلنا: {وإن هم إلا يظنون} أي ما هم إلا يظنون، والأمثلة على هذا كثيرة {إن يتبعون إلا الظن} يعني ما يتبعون إلا الظن، والمراد بالظن هنا الوهم الكاذب، وليس المراد بالظن هنا الراجح من أحد

الاحتمالين، وانتبه لهذا فالظن يأتي بمعنى التهمة، ويأتي بمعنى رجحان الشيء، ويأتي بمعنى اليقين. قال الله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم} والمراد: اليقين ولا يكفي الظن في اليوم الآخر، بل لابد تيقن، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب (¬1) » والتحري هنا يعني هو الظن الغالب. {وإن هم إلا يظنون} ظن الاتهام يعني يظنون ظنًّا، هو وهم، ليس له أصل، وبعض العلماء أخذ من هذه الآية أنه لا يجوز العمل بالظن في المسائل الفقهية وغيرها، وهذا خطأ، لأن كثيراً من المسائل الفقهية ظنية: إما لخفاء الدليل، أو خفاء الدلالة: ليس كل مسألة في الفقه يقول بها الإنسان على سبيل اليقين أبداً، بل بعضها يقين وبعضها ظن، والظن إذا تعذر اليقين مما أحل الله، ومن نعمة الله أنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، فليس كل ظن منكراً، لكن الظن الذي ليس له أصل يبنى عليه منكر. فهؤلاء الذين سموا الملائكة تسمية الأنثى لا علم لهم بذلك بل هو ظن مبني على وهم، وربما يكون مبنياً على أهواء، يعني لم يطرأ على بالهم أنهم إناث، ولكن تبعوا آباءهم {وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} أي: هذا الظن المبني على الوهم لا على القرائن لا يغني من الحق شيئاً، أي لا يفيد شيئاً من الحق، لأنه وهم باطل، والوهم الباطل لا يمكن أن يفيد، ثم قال - عز وجل -: {فأعرض عن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (401) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (572) .

من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا} {فأعرض} الخطاب للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو المراد به كل من يصح أن يوجه إليه الخطاب، فعلى الأول يكون المعنى: أعرض يا محمد، وعلى الثاني يكون: أعرض أيها الإنسان المؤمن {عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا} يعني أعرض عنه لا تتبعه ولا يهمنك أمره، وليس المعنى: أعرض عنه لا تنصحه. لأن التذكير واجب، قال الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} يعني ذكر كل أحد، فمن الناس من ينتفع، ومنهم لا ينتفع، والذي ينتفع هو المؤمن، فعلى هذا نقول معنى أعرض يعني لا تبالي به ولا يهمنك أمره، ولا تستحسر من أجل توليه، بل ادع إلى سبيل الله - عز وجل - أيا كان، لكن من أعرض وتولى لا يهمك أمره، {عن ذكرنا} هو القرآن، ويحتمل أن يكون الذكر بمعنى التذكير، أي عن تذكيرنا، وكلا المعنيين متلازمان صحيحان. لأن القرآن ذكر كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك} وقال تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرءان مبين} أو المعنى {عن ذكرنا} أي: عن تذكيرنا بالمواعظ التي ينزلها الله - عز وجل - {ولم يرد إلا الحياة الدنيا} يعني لا يريد الآخرة ولا يهتم بها، بل همه الدنيا ما المركوب؟ وما الملبوس؟ وما المسكن؟ فلا يهتم بالآخرة، وأهم شيء عنده الدنيا، أما ذكر الله القرآن، أو تذكير الله فإنه متول عنه - والعياذ بالله - نسأل الله السلامة والعافية، والحياة الدنيا وصفها بالدنيا من الدنو وهو القرب، وذلك لانحطاط مرتبتها، ولسبقها على الآخرة، لأن الدار الدنيا هي أول دار ينزلها الإنسان، وهي سابقة

في الزمن على الآخرة، فهي دنيا قريبة، وهي أيضاً دنيا من حيث المرتبة، ليست بشيء بالنسبة للآخرة، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: «لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها (¬1) » فليست خيراً من الدنيا التي أنت فيها فقط؛ بل من الدنيا منذ أن خلقها الله إلى أن تفنى، موضع السوط الذي يكون بقدر المتر في الجنة خير من الدنيا وما فيها، إذاً هي دنيا حقيقة، ولهذا إذا مات الإنسان وهو مؤمن - جعلنا الله منهم - ثم حمل من بيته الذي يسكنه ويأوي إليه، وفيه أهله وماله وحشمه، إذا خرج تقول روحه: قدموني قدموني، لأن ما ستذهب إليه خير مما تخرج منه، قال الله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} لكن لمن؟ {لمن اتقى} لكنها شر لمن لم يتق، ويذكر أن ابن حجر - رحمه الله - وكان رئيس القضاء في مصر، مر يوماً من الأيام في موكبه على العربة تجرها البغال، وحوله الجنود برجل يهودي زيَّات يبيع الزيت، قد تدنست ثيابه بالزيت، وشقي في طلب المعيشة فأوقفه اليهودي وقال لابن حَجَر: إن نبيكم يزعم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر! فكيف يتفق هذا الحديث مع الواقع، أنت الآن مؤمن وهو يهودي فأيهما الشقي؟ قال: نعم ما أنا فيه الآن بالنسبة للآخرة سجن، لأن الآخرة خير لمن اتقى، وما أنت فيه بالنسبة للآخرة جنة، لأن الآخرة ليس لك فيها إلا النار وبئس القرار، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فانظر كيف فتح الله عليه ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2892) ..

حيث ظهر صدق كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بكل سهولة، فالآخرة خير من الدنيا وما فيها، ولهذا ذم الله تعالى الذي أعرض عن ذكر الله، {ولم يرد إلا الحياة الدنيا} ومن أراد الحياة الدنيا لن تحصل له قطعاً، قال الله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} أي: ما يشاء الله، لا ما يشاء هو {ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا} . وقال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه} لأنه يعطى الدنيا والآخرة {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} أي بعضها وليس كلها {وما له في الآخرة من نصيب} . {ذلك مبلغهم من العلم} والمشار إليه كونهم متولين معرضين، لا يريدون إلا الحياة الدنيا، يعني ذلك منتهى بلوغ علمهم، لأن علمهم قاصر، لا ينظرون إلى المستقبل، ولا يصدقون بخبر، فتجد أكبر همهم أن يصلحوا حالهم في الدنيا معرضين عن حالهم في الآخرة، وفي الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا» (¬1) ، ثم قال - عز وجل -: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} هو أعلم - عز وجل - بمن ضل عن سبيله فعلاً، ومن سيضل، لأنه عالم بما كان وبما يكون، فقوله: {بمن ضل} لا تعني أنه لا يعلم إلا من حصل منه الضلال بالفعل بل هو يعلم من حصل منه الضلال ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب رقم 79 (رقم 3502) وقال: هذا حديث حسن غريب.

بالفعل، ومن سيحصل منه، لأن الله - سبحانه وتعالى - موصوف بالعلم التام في الحاضر والمستقبل والماضي، وقوله: {وهو أعلم بمن اهتدى} ضد الضلال، فالناس بين فئتين: إما مهتدٍ وإما ضال، وإنما بيَّن الله سبحانه وتعالى أنه أعلم بمن ضل عن سبيله، وبمن اهتدى؛ لفائدتين: الفائدة الأولى: أن نعلم أن ما وقع من الضلال والهداية فهو صادر عن علم الله وبإرادته، إذ لا يمكن أن يوجد في خلقه خلاف معلومه، ولو قدر أن يوجد في خلقه خلاف معلومه لكان الله جاهلاً - وحاشاه من ذلك -. الفائدة الثانية: التحذير من الضلال، والترغيب في الاهتداء، مادام الإنسان يعلم أن أي عمل صدر منه فعلمه عند الله، فإنه سوف يخشى أن يعصي الله، وسوف يسعى أن يرضي الله - عز وجل -. كأنه يقول: إن ضللت فالله أعلم بك، وإن اهتديت فالله أعلم بك، فيجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. {ولله ما في السماوات وما في الأَرض} يقول علماء البلاغة: إنه إذا تقدم شيء حقه التأخير فهو دليل على الحصر والتخصيص، فلننظر في هذه الآية هل فيه تأخير وتقديم: {ولله ما في السماوات وما في الأَرض} (لله) خبر مقدم (وما في السموات) مبتدأ مؤخر، إذاً قدم فيها ما حقه التأخير وهو الخبر؛ لأن حق الخبر أن يكون متأخراً عن المبتدأ. تقول: الرجل قائم ولا تقول: قائم الرجل،

فالأصل أن المبتدأ على اسمه يكون هو الأول والخبر هو الثاني، لكن أحياناً يقدم الخبر لفائدة، فهنا الفائدة: الحصر يعني: لله لا لغيره {ما في السماوات وما في الأَرض} ولا أحد يملك ما في السماوات ولا ما في الأرض إلا الله تبارك وتعالى، ونحن نملك ما نملك من أموالنا ولكن ملكنا ليس عاماً، فملكي ليس ملكاً لك، وملكك ليس ملكاً لي، فأملاكنا ليست عامة، ثم نحن لا نملك التصرف بما هو ملكنا كما نشاء، فتصرفنا محدود حسب الشريعة، ولهذا لو تراضى اثنان في بيع الربا قلنا: لا تملكان ذلك، ولو أراد الإنسان أن يحرق ماله قلنا: هذا ممنوع، فملك غير الله قاصر، وغير شامل، والملك التام الواسع الشامل لله - عز وجل - ولهذا قال: {ولله ما في السماوات وما في الأَرض} فهو مالك لذواتهما، ومالك لما فيهما أيضاً، وكم من ملك في السماوات، وكم من مخلوق في الأرض كله ملك لله - عز وجل - يتصرف فيه كما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته، وإيماننا بأن لله ملك السماوات والأرض يفيد فائدتين عظيمتين: الفائدة الأولى: الرضى بقضاء الله، وأن الله عز وجل لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض، ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض، لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء، فهو كما يتصرف في السحاب يمطر أو لا يمطر، يمضي أو لا يمضي، ويتصرف في الشمس والقمر، ويتصرف في المخلوقات، يتصرف فيك أيضاً كما يشاء، إن شاء أعطاك صحة، وإن شاء سلبها، إن شاء أعطاك عقلاً، وإن شاء سلبك، إن شاء أعطاك مالاً، وإن شاء سلبك، أنت ملكه، فإذا آمنت بهذا رضيت بقضائه.

الفائدة الثانية: الرضا بشرعه وقبول شرعه والقيام به، لأنك ملكه، إذا قال لك: افعل. فافعل، وإذا قال: لا تفعل. فلا تفعل، أرأيت لو كان لك عبد رقيق فأمرته، ولكنه لم يفعل، أو نهيته ففعل، فالسيادة ناقصة، إذاً أنت إذا عصيت ربك: إما بفعل محرم وإما بترك واجب، فإنك خرجت عن مقتضى العبودية التامة؛ لأن مقتضى العبودية التامة أن تخضع لشرعه، كما أنك خاضع كرهاً أو طائعاً لقضائه وقدره، فانتبه ليس معنى قوله تعالى: {ولله ما في السماوات وما في الأَرض} أن يخبرنا أنه مالك فقط، لكن لأجل أن نعتقد مقتضى هذا الملك، وهو الرضا بقضائه، والرضا بشرعه، هذه حقيقة الملك. {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى} جاءت كلمة {ليجزى} كأن قائلاً يقول: وإذا تبين أن الملك لله - عز وجل - فما النتيجة؟ النتيجة أن الناس بين محسن وبين مسيء كما قال - عز وجل -: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وإذا كانوا بين محسن ومسيء فما جزاء كل واحد {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا} الذين أساءوا هم الذين خالفوا المأمور أو ارتكبوا المحظور، هؤلاء الذين أساءوا ليجزيهم بما عملوا، السيئة بالسيئة لا تزيد، أو يعفو - عز وجل - عمن يستحق العفو، وهو كل من مات على غير الشرك {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلا يمكن أن يزيد سيئة لم يعملها الإنسان، ولهذا قال: {ليجزى الذين أساءوا بما عملوا} . بدون زيادة {ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى} ولم يقل: بما عملوا، لأن فضل الله أوسع من أعمالنا، يجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فأنت إذا فعلت حسنة

فتكون عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ونضرب مثلاً قريباً، الصلاة المفروضة عندما تتوضأ وتسبغ الوضوء ثم تخرج إلى الصلاة لا يخرجك من بيتك إلا الصلاة فما الثمرات التي تحصل عليها؟ كل خطوة تخطوها يرفع الله لك بها درجة، ويحط عنك بها خطيئة، فخطواتك لا يحصيها إلا الله عز وجل، مع أن المقصود شيء واحد وهو الصلاة، لكن سعيك إلى الصلاة فيه أجر مادمت خرجت من بيتك لا يخرجك إلا الصلاة، وتأهبت في بيتك، أسبغت الوضوء في بيتك، فأنت لا تخطو خطوة إلا رفع الله لك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، والخطوات لا يحصيها إلا الله، ثم إذا وصلت المسجد وصليت ما شاء الله، ثم انتظرت الصلاة ولو تأخر مجيء الإمام لصلاة الجماعة يكتب لك أجر المصلي، «لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة» (¬1) ، وهذا أحسن من أعمالنا ولهذا قال: {ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى} أي بما هو أحسن وأكثر من عملهم، وهذا يدلك على سعة فضل الله - عز وجل - وإحسانه وكمال عدله. فالمسيئون يجازيهم بالعدل أو يعفو، والمحسنون يجازيهم بالفضل ثم ذكر شيئاً من أوصافهم فقال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} أي: يبتعدون عنه، وسمي الابتعاد اجتناباً؛ لأن الإنسان في جانب، والذي أبعد عنه في جانب آخر، فيبعدون، ولا يتصلون بكبائر الإثم والفواحش إلا اللمم {كبائر الإثم} ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القعود في المسجد وانتظار الصلاة من الفضل (رقم 330) وقال: حديث حسن صحيح.

كبائر جمع كبيرة، والكبيرة بعض العلماء عدها، وبعض العلماء حدها، والصواب الحد، أي أنها محدودة وليست معدودة، والذين ذكروا عدداً الظاهر - والله أعلم - أنهم أرادوا المثال، فمثلاً إذا قال الإنسان: هي الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، هذه سبع، إذا قال الإنسان هذه هي الكبائر ليس معنى قوله إنها محصورة في هذا، إذ من الممكن أن يحمل كلامه أن ذلك على سبيل التمثيل فقط، أما الذين حدوها يعني جعلوا له ضابطاً. فقالوا في ضابطها: (كل ذنب رتب الله عليه لعنة، أو غضباً، أو سخطاً، أو تبرأ منه، أو ما أشبه ذلك فهو كبيرة) ، ورأيت لبعضهم ومنهم شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه قال: (كل ذنب جعلت له عقوبة خاصة إما في الدنيا، أو في الآخرة فهو كبيرة) ، فالزنا كبيرة، لأن فيه عقوبة وهو الجلد أو الرجم، والسرقة كبيرة، وقطع الطرق كبيرة، وعقوق الوالدين كبيرة، وهلم جرا، فكلما رأيت شيئاً من الذنوب جعل الشارع له عقوبة خاصة فهو كبيرة، أما الذنب الذي نهى عنه فقط فهو صغيرة: كنظر الرجل للمرأة الأجنبية للشهوة، هذا ليس كبيرة هو صغيرة من الصغائر، لكن إن أصر الإنسان عليه وصار هذا ديدنه، صار كبيرة بالإصرار لا بالفعل. ومكالمة المرأة الأجنبية على وجه التلذذ حرام وليس بكبيرة، ولكن إذا أصر الإنسان عليه وصار ليس له هم إلا أن يشغل الهاتف على هؤلاء النساء ويتحدث إليهن صار كبيرة، فالإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من حيث

الإصرار، لأن إصراره على الصغيرة يدل على تهاونه بالله - عز وجل -، وأنه غير مبال بما حرم الله، وقوله: {والفواحش} أي: كبائر الكبائر، لأن الكبائر منه ما هو فاحش يستفحش ويستعظم ويستقبح بشدة، ومنها ما هو دون ذلك، فمثلاً الزنا فاحشة {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} واللواط فاحشة أعظم من الزنا، لأن الله قال في الزنا: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} وقال في اللواط: {أتأتون الفاحشة} فأتى بأل الدالة على القبح، وأنها جامعة لكل أنواع الفواحش، ونكاح المحارم فاحشة، قال الله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً} فهو أشد من الزنا، فلو زنا الإنسان بامرأة أجنبية منه، وبأم زوجته مثلاً صار زناه بأم زوجته أعظم وأشد وأشنع، ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن من زنا بامرأة من محارمه وإن لم يكن محصناً فإنه يرجم، لأن الله فرق بين الزنا وبين نكاح ذوات المحارم فالزنا بذوات المحارم وصفه الله تعالى: {إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً} والزنا وصفه بوصف بواحد وهو: {إنه كان فاحشةً} وجاءت السنة بالتفريق بين من زنا بامرأة من محارمه أو بامرأة أجنبية، فجعلت حد الأول القتل بكل حال، وإن لم يتزوج وإن لم يكن ثيباً، لأن هذا أعظم والعياذ بالله، إنسان يزني بأمه أو أخته أو أم زوجته، أو بنت زوجته التي دخل بها هذا فاحشة عظيمة، إذاً هم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، والفواحش كبائر الكبائر وأعظم، ونأخذ من هذه الآية الكريمة أن

الكبائر والفواحش تختلف؛ لأن كبائر وصف كل ما كان أعظم صار أشد كبيرة، والفواحش كذلك، وفيما سقناه من الآيات دليل على ذلك: {ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً} {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} ففرق الله بينها، مع أنها كلها فواحش، لكن بعضها أعظم من بعض. قوله: {إلا اللمم} قيل: إنه استثناء متصل. وقيل: إنه استثناء منقطع، لأن اللمم الشيء القليل، فهل المعنى إلا الشيء القليل من الكبائر، أي أنهم يأتون الشيء القليل من الكبائر، أو المعنى إلا الصغائر من الذنوب. إن قلنا بالأول، فالاستثناء متصل، وإن قلنا بالثاني، فالاستثناء منقطع. وتكون بمعنى لكن، والمعنى الثاني أقرب من حيث التقسيم، لأن الله ذكر الكبائر والفواحش والصغائر، وعلى هذا فيكون معنى {إلا اللمم} يعني: أن هؤلاء الذين أحسنوا يأتون الصغائر، والصغائر والحمد لله مكفرة بالحسنات، قال الله تعالى: {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئتكم} وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر (¬1) ، وقال عليه الصلاة والسلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ... (رقم 233) (16) .

بينهما» (¬1) ، وعلى هذا فيكون المعنى أن الصغائر تقع مكفرة إما باجتناب الكبائر، أو باجتناب الكبائر مضموماً إليها فعل هذه الحسنات العظيمة: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والخلاصة أن الصغائر التي تقع مغفورة للإنسان إذا اجتنب الكبائر، وإذا أحسن في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان {إن ربك وسع المغفرة} في هذه الجملة إشارة إلى قوله: {إلا اللمم} يعني أن اللمم يقع في سعة مغفرة الله - عز وجل - فيغفره الله - عز وجل - والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه، ولا يكفي ستر الذنب بل لابد من تجاوز، والدليل على هذا أمران: لغوي وسمعي، أما اللغوي فلأن المغفرة مشتقة من المغفر، والمغفر وهو ما يوضع على الرأس عند القتال ويسمى خوذة، ويسمى بيضة، يوضع على الرأس ليتقي السهم. هذا الذي يوضع على الرأس جمع بين أمرين الوقاية والستر، فإذا المغفرة لابد من ستر ووقاية، وأما السمعي فهو أن الله تبارك وتعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه وأقر قال: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» (¬2) فدل هذا على أن الوقاية من الذنوب وعدم المؤاخذة من المغفرة، نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها (1773) ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349) .. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه (6070) ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول القاتل وإن كثر قتله (2768) .

وفي قوله تعالى: {إن ربك واسع المغفرة} إشارة إلى أن الصغائر تغفر، وقد ثبت في القرآن الكريم أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر، فقال جل وعلا: {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} . ولهذا قال: {إن ربك واسع المغفرة} أما إذا قلنا: اللمم القليل من الفواحش والكبائر، فيكون قوله: {إن ربك واسع المغفرة} إشارة إلى أن الكبائر إذا تاب الإنسان منها غفر الله له، وكأنها لم تكن، وإن لم يتب منها فهو تحت المشيئة: إن شاء غفر الله له، وإن شاء عاقبه بما يستحق، هذه الكبيرة، وللأسف يوجد قوم من هذه الأمة يقولون: إن الكبيرة لا تغفر، وهم الخوارج والمعتزلة يقولون: إن الإنسان إذا فعل كبيرة خرج من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: خارج من الإيمان داخل في الكفر. والمعتزلة يقولون: خارج من الإيمان غير داخل في الكفر بل هو في منزلة بين منزلتين، لكن قولهم باطل، والصواب: أن فاعل الكبيرة داخل تحت قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلو قال قائل: إذا قلت هذا فتحت الباب على مصراعيه لفعل الكبائر، لأن أي إنسان يفعل كبيرة ويقول: أنا يمكن أن يغفر الله لي، وهذا يحتج به العوام، يقول: إذا كان الله يقول: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أي ما دون الشرك لمن يشاء، إذاً سأفعل الكبائر، ويغفر الله لي، فهذه حجة فكيف تجيبه؟ نجيبه: أن الله تعالى قال: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ولم يقل لكل أحد بل قال: {لمن يشاء} فهل أنت تتيقن أنك ممن

يغفر الله له، أأحد يتقين هذا؟ لا أحد يتيقن، إذاً لا حجة في هذه للعاصي، ثم إن قوله تعالى: {لمن يشاء} نعلم أن الله حكيم، لا يشاء أن يغفر للمذنب غير الشرك إلا إذا اقتضت الحكمة أن يغفر ذلك، ومن منا يستطيع أن يقول إن حكمة الله تقتضي أن يغفر لي؟ لا أحد يقول هذا، بل لو قال هذا لقلنا: إن قولك هذا من أسباب المؤاخذة والمعاقبة؛ لأنك تأليت على الله. ثم قال - عز وجل -: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأَرض} أعلم بنا من ذاك الوقت الطويل البعيد {إذ أنشأكم من الأَرض} ، أي بخلق أبينا آدم، لأن آدم خلق من التراب، ثم صار طيناً، ثم صار صلصالاً، ثم خلقه الله بيده جسماً ونفخ فيه الروح، فصار آدميًّا إنساناً، هذا معنى قوله تعالى: {إذ أنشأكم من الأَرض} ، إذاً نحن من الأرض أول نشأة: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى} أي الإخراج الذي ليس بعده وفاة يوم القيامة، ولذلك الآن بنو آدم كالأرض تماماً، فيهم الحزم الصلب الشديد، وفيهم السهل، وفيهم ما بين ذلك، وفيهم الأبيض، وفيهم الأحمر، وفيهم الأسود، لأن الأراضي تختلف، هكذا، وقد ذُكر أن الله لما أراد أن يخلق آدم أخذ من كل الأرض سهلها وحزنها، وأسودها وأبيضها كلها (¬1) : {وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} هذه النشأة الثانية (أجنة) جمع جنين وهو الحمل، وسمي الحمل جنيناً، لأنه مستتر {وإذ أنتم أجنة} أي مستترين {في بطون ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب التفسير، باب ومن سورة البقرة (رقم 2955) . وقال: هذا حديث حسن صحيح.

أمهاتكم} ، أي من حين كان الإنسان نطفة، ومن النطفة يخلق، وهذا معنى قوله: {ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين} فمن حين يكون نطفة يكون جنيناً ثم يتطور أربعة، أولاً: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة، ثم أنشأناه خلقاً آخر. الطور الأخير الذي تحل فيه الروح، إذاً هو عالم بنا حين النشأة الأولى، وحين النشأة الثانية في بطون أمهاتنا: {فلا تزكوا أنفسكم} أي: لا تزكوها وتقول عملت كذا وكذا، وصليت، وزكيت، وصمت، وجاهدت، وحججت، لا تقل هكذا، تُدل بعملك على ربك، هذا لا يجوز. فإن قال قائل: أليس الله يقول: {قد أفلح من زكاها} ؟ فالجواب: بلى، لكن معنى {من زكاها} أي: من عمل عملاً تزكو به نفسه، وليس المعنى من زكاها من أثنى عليها ومدحها بأنها عملت وعملت، بل المراد عمل عملاً تزكو به نفسه، فلا معارضة بين الآيتين، ولهذا نقول: من زكى نفسه بذكر ما عمل من الصالحات فإنه لم يزك نفسه. فمن زكى نفسه بمدحها فإنه لم يزكِّ نفسه، وفرق بينهما، فالتزكية التي يحمد عليها الإنسان أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً تزكو به نفسه، والتزكية التي يذم عليها أن يدل بعمله على ربه ويمدح، وكأنه يمن على الله، يقول: صليت، وتصدقت، وصمت، وحججت، وجاهدت، وبريت والدي وما أشبه ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يزكي نفسه، وفي هذا رد على أولئك الصوفية الذين يدعون أنهم أئمة ويزكون أنفسهم، ويقولون: وصلنا إلى حد لا تلزمنا الطاعة،

وصلنا: إلى عالم الملكوت فليس علينا صلاة، ولا صدقة، ولا صيام، ولا يحرم علينا شيء، وهؤلاء منسلخون من الدين انسلاخاً تامًّا، ولذلك نقول: هؤلاء الذين يزكون أنفسهم هم أبعد الناس عن الزكاة، لأنهم أعجبوا بأعمالهم، وأدلوا بها على الله - عز وجل - وجعلوا لأنفسهم منصباً لم يجعله الله تعالى لهم {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} كأنه يقول: لماذا تزكون أنفسكم؟ أتريدون أن تعلموا الله بما أنتم عليه؟ الجواب: لا، ولهذا قال: {هو أعلم بمن اتقى} يعني إن كنت متقٍ لله، فالله أعلم بك، ولا حاجة أن تقول لله: إني فعلت وفعلت، وفي هذا إشارة إلى أن النطق بالنية عند فعل العبادة قد يدخل في نوع من التزكية، فإذا أردت أن تتوضأ فلا تقل: اللهم إني نويت أن أتوضأ وبعض العلماء يقول: قلها سرًّا، بينك وبين نفسك، وعللوا هذا قالوا: من أجل أن يطابق اللسان القلب، فالقلب نوى، لكن قل باللسان: اللهم إني نويت أن أتوضأ، وأنت تصلي قل: اللهم نويت أن أصلي الظهر مثلاً أو العصر، وبعض العلماء يقول هكذا، وهم علماء أجلاء من الفقهاء. فيقال: هذا غلط، وهذا قياس في مقابلة النص: والرسول عليه الصلاة والسلام لم يشرع لأمته النطق بالنية، لا في حديث صحيح ولا ضعيف، ومن الطرف الطريفة أن رجلاً عامياً في المسجد الحرام سمع شخصاً يريد أن يصلي، فقال بعد أن أقيمت الصلاة: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات في المسجد الحرام، ولما أراد أن يكبر قال الرجل: باقي عليك، قال: ما

الباقي؟ قال: باقي التاريخ، قل: في اليوم الفلاني. أنت الآن ذكرت المكان، وذكرت العمل، فاذكر التاريخ قل: في اليوم الفلاني، من الشهر الفلاني، من السنة الفلانية. فانتبه الرجل فقال: هل أنت تعلم ربك بنيتك؟ الله أعلم بنيتك {يعلم خائنة الأَعين وما تخفي الصدور} وعند الصيام مثلاً إذا تسحر الإنسان وأراد أن يصوم فإنه لا يقول: اللهم إني نويت الصيام من الليل؟ لأن هذا من البدع، بقي أن يقال في الحج هل تقول: اللهم إني نويت العمرة، أو نويت الحج، أو نية القران أو التمتع؟ لا تقل هذا، حتى عندما تغتسل وتلبس الإحرام، لا تقل: اللهم إني نويت العمرة أو نويت الحج، تكفي التلبية لأنك سوف تقول: لبيك عمرة، إن كنت في عمرة، أو لبيك حجًّا، إن كنت في حج، أو لبيك عمرة وحجًّا، إن كنت قارناً، فلا حاجة إلى التلفظ بالنية فكل العبادات لا ينطق فيها بالنية، ولهذا قال عز وجل: {هو أعلم بمن اتقى} . {أفرأيت الذي تولى} الخطاب في قوله: {أفرأيت} للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويجوز أن يراد به كل من يتوجه إليه الخطاب، فيكون المعنى على الأول: أفرأيت يا محمد، وعلى القول الثاني: أفرأيت أنت أيها المخاطب أي أخبرني وكلما جاءت (أرأيت) في القرآن فهي بمعنى أخبرني {الذي تولى} ، أي: عن طاعة الله - عز وجل - وعن الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعن إقامة شعائر الإسلام، {وأعطى قليلاً وأكدى} يعني أحياناً يعطي، وإذا أعطى أعطى قليلاً، وأحياناً

يكدي، أي: يمنع فلا يعطي شيئاً، لأنه ليس ينفق المال ابتغاء وجه الله، فلذلك كانت حاله بين أمرين: إما المن، أو الإعطاء قليلاً، قالوا: وأكدى مأخوذة من الكدية، وهي الصخرة الشديدة التي لا تتفتت إلا بالمعاول، فهذا الرجل ليس مطيعاً لله وليس نافعاً لعباد الله فهو متولٍ عن طاعة الله، وهو مانع فضل الله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {أفرأيت} وهذا الاستخبار ليس لعدم علمه جل وعلا، ولكن لشحذ النفوس والهمم إلى الاستماع إلى ما يلقى، وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى، يزعم أنه إذا بعث فإنه سوف يعطي المال الكثير، وهذه عادة من ينكر البعث، كما في صاحب الجنة الذي قال: {ولئن رددت إلى ربي لأَجدن خيراً منها منقلباً} فهو يظن أنه سوف يمتع في الدنيا ويمتع في الآخرة أكثر وأكثر إن كان آمن بها، قال الله تعالى: {أعنده علم الغيب فهو يرى} وهذا الاستفهام استفهام استنكار بمعنى النفي، يعني ليس عنده علم الغيب، وهو يرى أنه سينتقل إلى دار أفضل من التي هو فيها، وعلى هذا فتكون الجملة جملة نفي، وليست جملة إثبات، وليست جملة استخبار، بل هي جملة نفي واستنكار، إذ لا أحد عنده علم الغيب، ولولا ما أخبر الله به من النعيم في الجنة والجحيم لأهل النار، ما علمنا بهذا شيء. {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} أم هنا للإضراب والمعنى بل: {لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى} ذكر موسى لأن موسى عليه السلام أفضل أنبياء بني إسرائيل والتوراة هي التي عليها عمدة ما نزل على بني إسرائيل. وصحف إبراهيم عليه

السلام أنزلها الله تعالى على إبراهيم فيها المواعظ، وفيها الأحكام، لكن لم يبين لنا منها شيئاً سوى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان على التوحيد وعلى الملة المستقيمة، كما قال الله تعالى: {إن إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكراً لأَنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} . {وإبراهيم الذي وفى} ذكر إبراهيم عليه السلام لأنه أبو الأنبياء، فهو أبو الأنبياء في بني إسماعيل، وأبو الأنبياء في بني إسرائيل، وهنا قدم موسى على إبراهيم، وفي سورة الأعلى قدم إبراهيم على موسى، ولا شك أن الأحق بالتقديم إبراهيم عليه السلام؛ لأنه أسبق زمناً وأعلى مرتبة، ولكن مراعاة لفواصل الآيات قدم موسى، ولأجل الثناء الخاص بإبراهيم قدم موسى، وقوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} أي وفَّى بما أمر به ربه، ومن أعظم ما وفاه أنه أمر بذبح ابنه فامتثل أمر الله - عز وجل - وصمم على تنفيذه، حتى إنه تله على جبينه ليمر السكين على رقبته، ولكن الفرج من عند الله {وفديناه بذبح عظيم} والذي في هذه الصحف قال: {ألا تزر وازرة وزر أخرى} هذه بيان ما في صحف إبراهيم وموسى {ألا تزر وازرة وزر أخرى} أي: لا تحمل إثم {وزر أخرى} أي: أن الإنسان لا يحمل ذنب غيره، إلا أنه يستثنى من ذلك، إذا كان صاحب سنة آثمة فإن عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولكن الحقيقة أن هذا لا يتحمل وزر غيره، لأن غيره قد وزر وأثم، لكن هو تحمل إثم السنة السيئة والبدء بالشر، فيكون حقيقة أنه لم يوزر وزر غيره ولكنه وزر بوزر نفسه {ألا تزر وازرة وزر أخرى} وقد

كذَّب الله تعالى قول الذين كفروا للذين آمنوا {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} فقال الله تعالى: {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون} حتى لو قال لك القائل: افعل هذا الذنب والإثم عليَّ فإنه لا يتمكن من هذا، ولا يمكن، فإن فعل هذا، وقيل له: الإثم عليَّ فالإثم على الفاعل، ثم إن كان الفاعل ممن يغتر بالقول ولا يفهم، فعلى القائل إثم التغرير، أي أنه غرر وخدع {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} يعني ليس للإنسان من الثواب إلا ثواب ما سعى وما عمل، فلا يمكن أن يعطى من ثواب غيره، يعني لا يمكن أن نأخذ من أجر زيد ونعطيه عمراً، كما لا يمكن أن نأخذ من سيئات زيد ونضيفها إلى سيئات عمرو، فهذا لا يمكن إلا ما ورد من اقتصاص المظلوم من الظالم، فصار الإنسان مرتهن بكسبه: {كل امرئ بما كسب رهين} {كل نفس بما كسبت رهينة} فلا يمكن أن يؤخذ من حسناته إلى غيره، ولا أن يؤخذ من أوزار غيره فيحمل عليها إلا ما ورد من اقتصاص المظلوم من الظالم. وقد استدل بعض أهل العلم على أنه لا يمكن أن ينتفع الميت بثواب عمل غيره، لأن الله قال: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وعلى هذا فلو أنك صليت ركعتين لزيد وهو ميت، أو صمت يوماً لزيد وهو ميت فإنه لا ينفعه، لعموم قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فإذا أورد عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (¬1) قالوا: هذا في الواجب، لأن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم (1952) ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت (1147) .

عليه صيام وليس في التطوع، وكذلك الحج الواجب لحديث: «أفحج عنه؟» قال: «نعم» (¬1) ، وإذا أورد عليهم أن رجلاً قال يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو بقيت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم» (¬2) ، قالوا: هذا مستثنى بالنص، وليس لنا أن نرد النص. والعام يجوز تخصيصه بحكم مخالف، وإذا أورد عليهم قول سعد بن عبادة - رضي الله عنه - في مخارفه أي في نخله الذي يخرف أنه يريد أن يجعله صدقة لأمه فأجاز النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (¬3) قالوا: هذا ورد به النص، وما ورد به النص فإنه لا يمكن أن يرد، لأن نصوص الشريعة الإسلامية جاءت بتخصيص العام، يعني بإخراج بعض أفراد العام، فيحكم له بحكم مخالف لأحكام العام، وعلى هذا نقول: لا يمكن أن ينتفع الإنسان بعمل غيره حيًّا كان أو ميتاً إلا ما وردت به السنة، ولا شك أن هذا القول له وجهة نظر قوية، ولكن الإمام أحمد - رحمه الله - قال: أي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت أو حي من المسلمين فإن ذلك ينفعه، وقال: إن الذي وقع قضايا أعيان، بمعنى أن رجلاً حصلت له حادثة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجازها، فإذا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصيد، باب حج المرأة عن الرجل (رقم 1855) ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة أو هرم ونحوهما أو للموت (رقم 1334) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة (1388) ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه (1004) . (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب إذا قال: أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمي فهو جائز (رقم 2756) ..

أجاز الرسول عليه الصلاة والسلام جنس العبادات ولو كانت مالية دل ذلك على جواز جنس جميع العبادات، وقالوا أيضاً: الصيام ليس عبادة مالية، ومع ذلك قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وإذا أجيز هذا في الواجب، والواجب متحتم، فهو كالدين، والدين إذا قضاه الغير عن المدين أجزى، وحملوا قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} على أن المعنى أنه لا يمكن أن يأخذ من عمل غيره، لكن إذا أهدى إليه غيره من العمل فإنه لا بأس به، كما أن الإنسان ليس له التصرف في مال غيره، ولو أعطاه شخص مالاً لتصرف فيه. وقد نقل الجمل في حاشيته على الجلالين (الفتوحات الإلهية) في هذا الموضع عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجوز إهداء القرب وأن الميت ينتفع بذلك، وذكر لهذا أكثر من عشرين وجهاً، فمن أحب أن يراجعه فليراجعه. وعلى كل حال حتى ولو قلنا بما ذهب إليه الإمام أحمد - رحمه الله - من أي قربة فعلها الإنسان وجعلها لمسلم فإن ما عليه عمل الناس اليوم مخالف لهذا الكلام، إذ إن الناس اليوم تجدهم يهدون كثيراً من العمل الصالح للأموات، يعتمر للميت دائماً ويصوم عنه تطوعاً دائماً، ويضحي عنه دائماً، ولو ضحى لنفسه كل هذا ليس من عمل السلف، والسلف يهتدون بهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬1) فأرشد إلى الدعاء للميت، لكن كونك ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631) .

كل ما سبحت قلت: اللهم اجعل ثوابه لأبي، لأمي، وكل ما عملت تقول: اجعل ثوابه إلى أبي إلى أمي، أو جدي، أو خالي، أو عمي فهذا غير صحيح، وأنت محتاج إلى العمل كما هم محتاجون للعمل، فلا تجعل عملك لهم، اجعل لهما ما أرشدك إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الدعاء، أما العمل فخص به نفسك. {وأن سعيه سوف يرى} سعيه يعني عمله سوف يرى، وهل المراد ثواب السعي يرى في الآخرة عند الجزاء، أو أن السعي يرى في الدنيا ويعرف، الجواب: أن هذا عام سوف يرى في الدنيا وفي الآخرة، الذي يرى في الآخرة وفي الدنيا هو نفس العمل، ولهذا قال الله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} يعني عملكم لن يخفى علي {فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} . وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن بعض الناس إذا عمل عملاً كمكتبة، أو مسجد، أو عمارة للفقراء أو ما أشبه ذلك كتب: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وهذا لا يجوز، لأن أحد الأطراف الثلاثة لا يمكن أن يراه، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، صحيح أن الله - عز وجل - يرى والمؤمنون في هذا الوقت يرون، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يرى، ثم هذا في المنافقين وهو تهديد لهم وليس ثناء عليهم، وعلى كل حال نقول: سعي الإنسان سوف يرى، ولكن قد يستر الله تعالى عن العبد ذنوبه فضلاً منه ومنة، وإذا لاقاه في الآخرة خلا به سبحانه وتعالى وقرره بذنوبه وقال: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا

أغفرها لك اليوم» (¬1) ، لكن في الأصل أن سعي الإنسان سوف يرى {ثم يجزاه الجزاء الأَوفى} أي: بعد أن يرى يجزى عليه الجزاء الأوفى، أي: الأكمل، والأوفى في الصالح زيادة المثوبة، والأوفى في السيء العدل بحيث لا يزاد في سيئاته، وعلى هذا فالأوفى يفسر بمعنى العدل، ويفسر بالزيادة والفضل، العدل في السيئة لا يمكن أن يزاد سيئة. والفضل في الحسنات، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. {وأن إلى ربك المنتهى} هذه الآية فيها قراءتان: القراءة الأولى فتح الهمزة: {وأن إلى ربك المنتهى} والثانية كسر الهمزة {وإنَّ إلى ربك المنتهى} وكلاهما قراءتان صحيحتان سبعيتان، إذا قرأ الإنسان بإحداهما صح، بل الأولى للإنسان الذي يعرف القراءات أن يقرأ بهذه القراءة مرة، وبهذه القراءة مرة أخرى، لكن لا يقرأ على ملأ من الناس وسماع منهم، لأن العامة إذا سمعوك تقرأ على خلاف ما يقرأون فسيحصل بذلك مفسدة، إما أن يقولوا: إن هذا الرجل لا يعرف القرآن، وإما أن يتشككوا في القرآن، حيث يظن العامي أن القرآن يمكن أن يبدل أو يغير، لذلك ننصح إخواننا الذين أعطاهم الله تعالى علماً في القراءات أن لا يقرأوا إلا بالقراءة المعروفة عند العامة حتى لا يحصل اللبس، لكن فيما بينك وبين نفسك إذا كنت تدرك القراءة الثانية إدراكاً تامًّا فاقرأ بها أحياناً؛ لأن الكل كلام الله - عز وجل - فإذا كانت بالكسر: {وإنَّ إلى ربك المنتهى} صارت هذه الجملة وما بعدها ¬

(¬1) تقدم تخريجه ص 234.

ليست في {صحف إبراهيم وموسى} بل تكون استئنافية، وإذا كانت بالفتح صارت الجملة وما بعدها مما جاء في صحف إبراهيم وموسى، وعلى كلٌّ فهي كلام الله عز وجل. {وأن إلى ربك المنتهى} أي: المنتهى في أمور الدين والدنيا، فإلى الله المنتهى في مسائل العلم، فعندما تشكل علينا مسألة من مسائل العلم فننتهي إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئاً من عنده، إنما هو من عند الله - عز وجل - فيكون المنتهى إلى الله في الحكم بين الناس وفي الحكم للناس: {إلى ربك المنتهى} أي منتهى الخلائق أيضاً؛ لأن هذا الخلق الموجود الآن سوف يفنى وينتقل إلى خلق آخر، كما قال الله - عز وجل -: {أفعيينا بالخلق الأَول بل هم في لبس من خلق جديد} والمنتهى على هذا التقدير هو يوم القيامة، فإلى الله المنتهى، وإلى الله المصير، فمنتهى أحوالنا وأحكامنا وجميع ما يصدر منا وعلينا إلى الله - عز وجل - وإذا كان إلى الله المنتهى، فإلى من تشكو إذا أصابك الضر؟ إلى الله - عز وجل - وإذا أردت النفع فتطلبه من الله عز وجل، لأنه المنتهى، وكم من إنسان انعقدت له أسباب الرزق وإذا هو يحرم منها في آخر لحظة، إذاً لا يجلب لك الخير إلا الله، ولا يمنع عنك الضرر إلا الله - عز وجل - فاجعله منتهاك في كل أمورك، {وأنه هو أضحك وأبكى} هل المراد حقيقة الضحك، أو المراد لازم ذلك وهو الفرح، وكذلك يقال في أبكى: هل المراد حقيقة البكاء، أو المراد الحزن، إذا نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: الضحك الحقيقي،

والضحك الحقيقي لا ينشأ إلا عن سرور، وأبكى البكاء الحقيقي، وهو لا يحصل إلا عن حزن، فالله تعالى أضحك في الدنيا وأبكى، وأضحك في الآخرة، وأبكى، والكفار في الدنيا يضحكون على المسلمين، وعلى المؤمنين {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} لكن هذا الضحك سيعقبه بكاء يوم القيامة {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} فالذي أضحك في الدنيا وأبكى، والذي أضحك في الآخرة وأبكى هو الله عز وجل، إذاً هو مقدر ما يكون به الضحك، ومقدر ما يكون به البكاء، وأتى بالأمرين وهما متقابلان، ليعلم بذلك أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وهو القادر على خلق الضدين، {وأنه هو أمات وأحيا} أي: أمات في الدنيا وأحيا في الدنيا، وأمات في الدنيا وأحيا في الآخرة، أمات وأحيا البشر، تجد هذا تنفخ فيه الروح اليوم، فيكون الله قد أحياه، والآخر تنزع روحه من بدنه ويكون الله قد أماته، وهكذا دواليك، هو الذي أمات وأحيا، وهناك أيضاً ميتة عامة وحياة عامة، أمات العالم في الدنيا، وأحياهم في الآخرة، فهو الذي خلق الموت، وهو الذي خلق الحياة، وهذان أيضاً متضادان، حياة وموت، كلها من عند الله - عز وجل -، لأن الله تعالى على كل شيء قدير، {وأنه خلق الزوجين الذكر والأُنثى من نطفة إذا تمنى} ، الزوج بمعنى الصنف، ومثاله قوله تعالى: {وآخر من شكله أزواج} أي: أصناف، وقوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} ليس المراد زوجاتهم، بل المراد بأزواجهم، أي: أصنافهم، إذاً الزوجين يعني الصنفين، ثم بين هذين الزوجين

فقال: {الذكر والأُنثى} من مادة واحدة، {نطفة} وهي المني {إذا تمنى} أي: تراق وتصب في رحم المرأة، فالله - عز وجل - خلق هذين الصنفين المختلفين خلقاً، والمختلفين مزاجاً، والمختلفين عقلاً، والمختلفين فكراً، خلقهما من شيء واحد من نطفة، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في آخر سورة القيامة: {فجعل منه الزوجين الذكر والأُنثى أليس ذلك بقدر على أن يحيى الموتى} الجواب: بلى، فالله تعالى خلق الزوجين من شيء واحد، وهذا يدل على كمال قدرته - جل وعلا - إذ إنه خلق صنفين مختلفين في كل الأحوال: في القوة البدنية والعقلية، والفكرية، والتنظيمية يختلف الذكر عن الأنثى، وبذلك نعرف ضلال أولئك القوم الذين يريدون أن يلحقوا المرأة بالرجل في أعمال تختص بالرجل، فإنهم سفهاء العقول، ضلال الأديان، فكيف يمكن أن نسوي بين صنفين، فرَّق الله بينهما خلقة وشرعاً، فهناك أحكام يطالب بها الرجل ولا تطالب بها المرأة، وأحكام تطالب بها المرأة ولا يطالب بها الرجل، وأما قدراً وخلقة فالأمر واضح، لكن هؤلاء الذين لم يوفقوا وسلب الله عقولهم وأضعف أديانهم يحاولون الآن أن يلحقوا النساء بالرجال، وهذه لا شك أنها فكرة خاطئة مخالفة للفطرة، ومخالفة للطبيعة كما أنها مخالفة للشريعة {وأن عليه النشأة الأُخرى} أي: على الله، وفي هذا دليل على أن الله أوجب على نفسه أن يبعث الناس، لأنه لو كان الناس يحيون ويموتون بلا إرجاع لكان هذا عبثاً محضاً؛ لأننا نعلم الآن أن الناس في الدنيا يختلفون في الغنى والفقر، والقوة والضعف،

والذكاء والعقل وغير ذلك، ولو كان الخلق هكذا فقط بدون إرجاع لكان هذا منافٍ للحكمة تماماً، لكن لابد من رجوع، ولهذا قال: {وأن عليه تصدى} وعلى تفيد الوجوب، فيكون الله أوجب على نفسه أن ينشأ الناس مرة أخرى، ولا مانع من أن الله يفرض على نفسه ما شاء، كما قال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} أي: أوجب على نفسه الرحمة، كذلك هنا قال: {وأن عليه النشأة الأُخرى} أي أن الله أوجب على نفسه أن ينشىء الناس نشأة أخرى للجزاء، كل بحسب عمله، والنشأة الأخرى تفيد بأن هناك نشأة قبل وهي النشأة الأولى، وهي خلق الناس فابتداء خلق الناس من عند الله - عز وجل - وفي قوله: {الأُخرى} فائدة عظيمة وهي الإشارة إلى أن القادر على الأولى قادر على الآخرة، والنشأة الآخرة أهون من الأولى، كما قال الله عز وجل: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} والهين يختلف باعتبار ذاته لا باعتبار قدرة الله فإنها لا تختلف: كن. فيكون، سواء كان أعلى شيء أو أدنى شيء، لكن بالنسبة للمقدور عليه الإعادة أهون، أما بالنسبة لقدرة الله فكلها واحد، لأن المسألة لا تعدو أن يقول: كن. فيكون، وبهذا نعرف أن بعض المفسرين - رحمهم الله وعفا عنهم - قالوا في قوله: {وهو أهون عليه} (أي: وهو هين عليه) وهذا غلط، كيف يقول الله عن نفسه {وهو أهون عليه} ويقول: وهو هين، لكن نقول الهون له نسبتان: نسبة للمفعول، ونسبة للفاعل، بالنسبة للفاعل هما سواء، لأن كل شيء منهما يتكون بكلمة واحدة كن فيكون، وبالنسبة للمفعول

يختلف لا شك أن الأول أشد من الثاني. {وأنه هو أغنى} أي: أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فهو الذي أغنى من شاء من خلقه {وأقنى} قيل: المعنى أفقر؛ لأنها في مقابلة (أغنى) وقيل: أغنى بالكفاية، وأقنى بما زاد على الكفاية، فالله عز وجل بسط لعباده الرزق، فمنهم من أغناه عن غيره، ومنهم من أقناه، أي: جعل له قنية وهي الزائد عن الكفاية، والقاعدة: أن الكلمة إذا كانت تحتمل معنيين لا منافاة بينهما ولا مرجح لأحدهما على الآخر فإنها تحمل عليهما؛ لأنه أعم للمعنى، فالذي يغني هو الله عز وجل، والذي يقني هو الله عز وجل، وليست هذه الأصنام التي هي مناة والعزى، بل ذلك إلى الله عز وجل. {وأنه هو رب الشعرى} أتى بضمير الفصل تأكيداً للجملة، و {رب الشعرى} أي: هو خالقها ومالكها ومدبرها، والشعرى هي النجم المضيء الذي يخرج في شدة الحر، ونص على هذا النجم؛ لأن بعض العرب كانوا يعبدونها ويعظمونها، فبين تبارك وتعالى أن الشعرى من جملة المخلوقات المربوبات وليست إلهاً، ولا تستحق أن تعبد، {وأنه} أي: الله - عز وجل - {أهلك عاداً الأُولى} وهم قوم هود، و (الأولى) وصف كاشف، وليس وصفاً مقيداً، يعني ليس هناك عاد أولى وعاد ثانية، بل هي واحدة، لكنها عاد قديمة سابقة، ولهذا وصفها بأنها الأولى أي: أنها القديمة السابقة وليس ثمة عاد أخرى، وهم قوم هود، وكان الله تعالى قد أعطاهم من القوة والنشاط وشدة البطش ما ليس

لغيرهم، حتى إنهم قالوا من أشد منا قوة، قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وكانوا بآياتنا يجحدون} فهؤلاء القوم يفتخرون بشدتهم وقوتهم فأهلكهم الله بألطف الأشياء، أهلكهم {بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} ابتدأت من بعد الفجر وانتهت عند الغروب فصارت الأيام ثمانية، والليالي سبعاً، {فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} تحمل الإنسان إلى القمة ثم تقذف به على الأرض فصاروا {كأنهم أعجاز نخل خاوية} والعياذ بالله، فهؤلاء القوم مع شدة بطشهم وشدة بأسهم لم يمنعهم ذلك من عذاب الله - عز وجل - وقوله: {وثمود فما أبقى} أي: وأهلك ثموداً وما أبقاهم، وثمود هم أصحاب الحجر، أرسل الله إليهم صالحاً فكذبوه، وكان الله تعالى قد أعطاهم قوة، وأعطاهم معرفة وعلماً بهندسة البناء، لكن مع ذلك ما دفعوا ما أراد الله بهم، صيح بهم ورجفت بهم الأرض {فأصبحوا في دارهم جاثمين} والعياذ بالله {وقوم نوح من قبل} يعني وأهلك قوم نوح من قبل بالغرق، كما قال الله تعالى عن نبيهم نوح {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} وفي قراءة {ففتَّحنا} مما يدل على الكثرة وشدة الانفتاح {أبواب السماء بماء منهمر} يعني نازل بشدة: {وفجرنا الأَرض عيوناً} الأرض كلها كانت عيوناً يعني ليس فيها موضع شبر إلا وهو يفور، حتى إن التنور الذي هو محل الإيقاد صار يفور مع أن محل الإيقاد أبعد ما يكون عن الرطوبة لكنه فار، فصارت

الأرض كلها عيوناً والسماء تمطر، والتقى الماء، ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدر، يعني أمر مقدر محدد بدون زيادة ولا نقص، فغرق القوم حتى بلغ الماء قمم الجبال، ويذكر أن امرأة كان معها صبي فكلما علا الماء صعدت الجبل، كلما علا الماء صعدت الجبل، حتى وصل الماء إلى قمة الجبل ووصل إلى المرأة وارتفع إلى جسدها، وكان معها صبي، فحملت الصبي على يديها ترفعه، لئلا يغرق قبلها، وجاء في الحديث: «لو رحم الله أحداً لرحم أم الصبي» (¬1) لكن إذا حقت كلمة الله فلا راد لقضاء الله تعالى، أجارني الله وإياكم من العذاب الأليم، وقوله: {إنهم كانوا هم أظلم وأطغى} اختلف المفسرون في مرجع الضمير فقيل: إن الضمير يعود على قوم نوح فقط. وقيل: إنه يعود على كل الأمم التي ذكرها الله - عز وجل - ممن أهلكهم. فعلى القول الأول يكون المعنى أن قوم نوح أظلم وأطغى من قوم ثمود وعاد، ووجه ذلك أنهم حصل منهم عتو واستكبار مع طول المدة، حيث إن نوحاً - عليه الصلاة والسلام - لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، يقول الله تبارك وتعالى عنه: {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً وإني كلما دعوتهم ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/342) (2/547) وقال في الموضعين: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي في الموضع الأول بقوله: إسناده مظلم، وموسى ليس بذاك. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/203) رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن معين وغيره وضعفه ابن المديني وبقية رجاله ثقات.

لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذنهم} حتى لا يسمعوا {واستغشوا ثيابهم} تغطوا بها حتى لا يبصروا، وهذا يدل على شدة كراهتهم لما يدعوهم إليه عليه الصلاة والسلام، {واستكبروا استكباراً} أي: استكباراً عظيماً فلم يخضعوا لعبادة الله - عز وجل -، فكانوا أظلم وأطغى من عاد ومن ثمود. وعلى القول الثاني: إن الضمير يعود على كل هؤلاء الأمم، يكون المعنى: أن هؤلاء كانوا أظلم وأطغى من قريش الذين كذبوك يا محمد، فيكون في هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أهلك هؤلاء القوم مع أنهم أظلم وأطغى من قومك، والذي أهلك من سبق قادر على أن يهلك من لحق، وكلا المعنيين صحيح، فهؤلاء الأمم أظلم وأطغى من قريش، وقوم نوح أظلم وأطغى من عاد وثمود، ثم قال - عز وجل -: {والمؤتفكة أهوى} أي: أسقط، والمؤتفكة هي قرى قوم لوط، وأهوى بمعنى أنزل، واختلف المفسرون في قوله {أهوى} هل المعنى أنه أهوى بها من فوق إلى أسفل بناءً على أن الله تعالى رفع هذه القرى إلى فوق ثم قلبها. أو أن المعنى أنه أهوى أسقطها، أي: أرسل عليها الحجارة حتى تهدم البناء فصار أعلى البناء أسفله، المهم أن الله تعالى أخبر عن قوم لوط بأنه أهواهم أي أسقطهم، سواء من الجو، أو من سقوط أعلى البناء على أسفله (¬1) {فغشاها} أي: غطاها، {ما غشى} مبهم للتعظيم والتفخيم، كقوله تعالى: {فغشيهم من اليم ما غشيهم} أي غشيهم شيء عظيم، فالإبهام أحياناً يراد به ¬

(¬1) انظر وفقك الله تفسير فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى لسورة الصافات ص (289) .

التعظيم والتهويل والتفخيم، كما في هذه الآية. {فبأي آلاء ربك تتمارى} الاستفهام هنا للتوبيخ و {آلاء} : النعم، و {تتمارى} أي: تتشكك، أي: بأي نعم الله تتشكك أيها الإنسان، إذ إن الواجب أن الإنسان يقر بنعم الله ويشكر الله عليها، لا أن يتشكك، ويقول: هذا من عملي. هذا من كذا. هذا من كذا، كما كانت العرب تقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، يعني بالنجم وينسون الخالق - عز وجل - ثم قال - جل وعلا -: {هذا نذير من النذر الأُولى} المشار إليه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم {نذير} بمعنى منذر، والمنذر هو الذي يعلم بالشيء على وجه التخويف، لأن الإنذار هو إعلام بتخويف، والبشارة إعلام برجاء: {هذا نذير من النذر الأُولى} ولم يقل بشير؛ لأن المقام لا يقتضي إلا ذكر الإنذار، إذ إن الله تحدث من أول السورة إلى آخرها عن قريش، وتكذيبها للرسول صلى الله عليه وسلم وعبادتها للأصنام، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم {نذير من النذر الأُولى} أي: من الرسل السابقين، وكما أن الذين كذبوا الرسل حل بهم العقاب والنكال فأنتم أيها المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يحل بكم النكال والعقوبة، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم مثل غيره نذير من النذر، فإذا كان نذير من النذر فإن من كذبه سوف يقع به مثل ما وقع بالأمم السابقة {أزفت الآزفة} أي: قربت القيامة، ومنه قول الشاعر: أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد فالآزفة هي القيامة، لأن الساعة قريبة، كما قال الله

تعالى: {وما يدريك لعل الساعة قريب} وقال الله تعالى في الآية الأخرى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} فهي قريبة، ويدل لقربها أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فمعناه أن الأمر قريب، وأما كون الله تعالى يذكر أن الأمر قريب وبيننا وبين نزول القرآن أربعة عشر قرناً، ونحن في القرن الخامس عشر، ومع ذلك يذكر الله - عز وجل - أن الساعة قريبة، ومن هنا نعرف أن عُمر الدنيا طويل وبعيد، ولكن هل نأخذ بقول هؤلاء الذين يتخرصون، ويقولون: عمر الدنيا الماضي كذا وكذا؟ والجواب: لا نأخذ بقولهم، ولا نصدقهم ولا نكذبهم، أحياناً يقولون: إنهم عثروا على آثار حيوان له كذا وكذا من ملايين السنين، أو على أحجار، فهذا لا نصدق ولا نكذب، لأنهم لا يعلمون الغيب الماضي، وإنما يقيسونه بحال الحاضر، أي يقيسون عمر هذا الأثر بحسب المؤثرات في الوقت الحاضر، لكن من يعلمنا أن المؤثرات في الوقت الحاضر هي المؤثرات في الوقت الماضي لا ندري، قد يتغير الطقس من حرارة إلى برودة، ومن برودة إلى حرارة، وقد تتغير الرياح والأمطار وغير ذلك، وما نقرأه أو نسمع به من علوم هؤلاء موقفنا نحوه أن لا نصدق ولا نكذب، أما في المستقبل فيجب أن نكذب كل من أخبر عن شيء مستقبل؛ لأنه يدعي الغيب، والله عز وجل يقول: {قل لا يعلم من في السماوات والأَرض الغيب إلا الله} فعليه: {أزفت الآزفة} أي قربت القيامة لكن هل يمكن أن نحدد مدى القرب؟ لا يمكن، ومن ادعى أنه يعلم أنه متى تقوم الساعة فإنه مكذب لله ورسوله، أما الله فقد قال تعالى: {يسئلك

الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فإن جبريل لما سأله قال: «أخبرني عن الساعة؟» قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» (¬1) يعني إذا كنت تجهلها فأنا مثلك، فمن ادعى أن الساعة تقوم بعد مليون سنة، أو مائة ألف سنة، أو أقل، أو أكثر فإننا يجب علينا أن نكذبه، ونقول: إنه كافر، لأنه مكذب لله ورسوله. {ليس لها من دون الله كاشفة} لها معنيان: المعنى الأول: كاشفة يعني مانعة، يعني لا أحد يكشفها أي: يمنعها، كما في قوله: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} . والمعنى الثاني: كاشفة يعني عالمة تكشفها وتبينها، وعلى كل حال فلا أحد يمنع الساعة إذا شاء الله، ولا أحد اطلع على الساعة متى تكون. {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا} الخطاب هنا للمكذبين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستفهام في قوله: {أفمن هذا الحديث} للإنكار والتعجب من هؤلاء المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالآيات البينات، وأخبر عن الأمم السابقة، وبيَّن أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نذير من النذر الأولى، ويخشى على من كذبه أن يناله من العذاب ما نال المكذبين للنذر الأولى، يقول الله - عز وجل -: {أفمن هذا الحديث تعجبون} أيها المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى {تعجبون} أي: ترونه عجباً منكراً، ولهذا قالوا: {أجعل الآلهة إلهاً وحداً إن هذا لشيء عجاب} ¬

(¬1) تقدم في ص 62.

وقال الله تعالى: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} فهم يتخذون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عجباً، والمراد عجب الإنكار والاستبعاد، {وتضحكون} : يعني استهزاء بهذا الحديث الذي هو القرآن، وكذلك يضحكون بشرائع هذا الحديث، حيث كانوا يضحكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعباداته ويسخرون به، إذاً {تعجبون} إنكاراً {وتضحكون} استهزاء {ولا تبكون} ، أي: لا تبكون من هذا الحديث خشية وخوفاً وإنابة إلى الله - عز وجل - بل هم أقسى الناس قلوباً، - والعياذ بالله - أو من أقسى الناس قلوباً لا تلين قلوبهم ولا يبكون من خشية الله {وأنتم سامدون} أي: غافلون بما تمارسونه من اللغو والغناء وغير ذلك، لأن منهم من إذا سمعوا كلام الله - عز وجل - جعلوا يغنون، كما قال الله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون} فسامدون قيل: المعنى مغنون، وقيل: المعنى غافلون، والصواب أن المراد غافلون عنه بالغناء وغيره مما تتلهون به، حتى لا تسمعوا كلام الله - عز وجل -، وهذا نظير ما قاله المكذبون لأول رسول أرسل إلى بني آدم، حيث قال الله تبارك وتعالى عن قوم نوح: {وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذنهم} حتى لا يسمعوا {واستغشوا ثيابهم} أي: تغطوا بها حتى لا يروا ولا يبصروا {وأصروا واستكبروا استكباراً} فما كان في أول أمة كان في آخر أمة، {فاسجدوا لله واعبدوا} اسجدوا لله خضوعاً وذلاًّ، والمراد بالسجود هنا الصلوات كلها، وليس الركن الخاص الذي هو السجود، وليس أيضاً سجود

التلاوة بل هو عام في كل الصلوات، {واعبدوا} ، هذا عام لكل العبادات، وخص الصلاة بالذكر وقدَّمها؛ لأنها أهم العبادات البدنية الظاهرة بعد الشهادتين، وعلى هذا فيكون العطف في قوله: {واعبدوا} على قوله {فاسجدوا} من باب عطف العام على الخاص كما أن قوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} من باب عطف الخاص على العام، وبهذا انتهى الكلام الذي منَّ الله به في تفسير هذه السورة، سورة النجم، أسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم به.

تفسير سورة القمر

تفسير سورة القمر {بسم الله الرحمن الرحيم} البسملة تقدم الكلام عليها. {اقتربت الساعة وانشق القمر} اقتربت بمعنى قربت، لكن العلماء يقولون: إن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، وهنا اقتربت فيها زيادة المبنى على قربت، والزيادة: الهمزة والتاء، فيدل على أن القرب قريب جداً، فمعنى اقتربت أي قربت جداً، والساعة هي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى فيها: {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتةً فقد جاء أشراطها} أي: علاماتها، ومن علاماتها بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام وكونه خاتم الأنبياء دليل على أنه قد قربت الساعة، ولهذا حقق النبي عليه الصلاة والسلام هذا بقوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين» (¬1) وقال بإصبعه الوسطى والسبابة، والسبابة قريبة من الوسطى ليس بينهما إلا جزء يسير مقدار الظفر، وهذا يدل على قربها، لكن مع ذلك كم بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ نحن في القرن الخامس عشر الهجري بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة، ومع ذلك مازالت الدنيا باقية مما يدل على أن ما مضى طويل جداً، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس قال: «إنه لم يبق من الدنيا - يعني بالنسبة لمن سبقكم - إلا كما بقي من يومكم هذا» (¬2) , {وانشق القمر} كأن الله أشار ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ?: بعثت أنا والساعة كهاتين (6504) ومسلم، كتاب الفتنة وأشراط الساعة، باب قرب الساعة (2951) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب (رقم 557) ..

إلى أن هذا من أشراط الساعة، {وانشق القمر} والمعنى أنه صار فرقتين تميز بعضهما عن بعض، أحدهماعلى جبل أبي قبيس، والثانية على جبل قعيقعان يعني فلقة على الصفا وفلقة على المروة، والمسافة السماوية في رؤيا العين ما بين الصفا والمروة بعيدة جداً، قد تستغرق سنوات، انشق القمر بلحظة بأمر الله - عز وجل - وتباعدت أجزاؤه بلحظة، لأن قريشاً كانوا يتحدون الرسول عليه الصلاة والسلام ويطلبون منه الآيات، وقد قال الله ردًّا عليهم: {قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} لكن لم يكفهم، لأنهم معاندون لا يريدون الحق، أتوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قالوا: يا محمد أنت تقول إنك رسول، وإنك يأتيك الخبر من السماء وكذا وكذا فأرنا آية، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى القمر ودعا ربه فانفلق فرقتين بلحظة (¬1) ، ومن يفلق هذا الجسم العظيم الأفقي العالي إلا رب العالمين - عز وجل -؟! أراهم إياه، ولكن لم ينفعهم، وقالوا: سحرنا محمد، وبعضهم قال: سحر القمر، وأنكروا، فقال بعضهم لبعض: اسألوا المسافرين إذا قدموا هل رأوه أم لا؟ فصاروا يسألون المسافرين من كل وجه: هل رأوه أم لا؟ فيقولون: نعم، رأيناه في الليلة الفلانية كذا وكذا، وهذا بالنسبة للقريبين منهم كأهل الجزيرة مثلاً، أما البعيدون فقد لا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قول الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} (رقم 4864) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر (رقم 2800) ..

يرونه، وكما نعلم الآن أن الليل هنا يكون نهاراً في مكان آخر، أو لوجود غيوم وضباب كثير يمنع الرؤيا؛ ولهذا لا يمكن أبداً لأي عاقل أن ينكر انشقاق القمر انشقاقاً حسيًّا، لأنه لم يذكر في تاريخ اليونان، ولم يذكر في تاريخ الهند ولم يذكر في كذا وكذا، هذا ليس حجة يبطل به ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من أن القمر انشق فعلاً انشقاقاً حسيًّا، ونحن نؤمن بأن القادر على أن يطوي السماوات بيمينه كطي السجل للكتب، قادر على أن يفرق القمر فرقتين، ولا شيء يعجزه، {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً} ولهذا لا وجه لإنكار من أنكر ذلك ممن ينتسبون إلى الإسلام، ويقولون: إن الأفلاك السماوية لا يمكن أن تتغير، نقول: الله أكبر، مَن الذي خلق الأفلاك السماوية أليس الله؟ بلى، إذن هو قادر على أن يغيرها {إنما أمره إذآ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ، فانشقاق القمر انشقاق حسي، انفلق فرقتين، ورآه الناس وشاهدوه، ولكن المكابر المعاند لا يقبل شيئاً، ولهذا قال: {وإن يروا آيةً يعرضوا} {آيةً} نكرة في سياق الشرط، أي آية يرونها يعرضون عنها ولا يقبلونها، ويجمعون بين الإعراض وبين الإنكار باللسان، {يعرضوا} أي: بقلوبهم وأبدانهم، ويقولوا بألسنتهم: {سحر مستمر} ، أي: هذا سحر، والسحر لا يؤثر في قلب الأعيان، ولكن يؤثر في رؤية الأعيان، والدليل أن موسى عليه الصلاة والسلام لما ألقى السحرة سحرهم، كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى حية، وانقلب الوادي كله حيات تسعى،

حتى إن موسى أوجس في نفسه خيفة من هول ما رأى، لكن هذه الحبال والعصي لم تنقلب إلى حيات، لكن حسب نظر الرائي أنها حيات، فهم يقولون: سحرنا محمد حتى كانت أعيننا ترى القمر وهو واحد تراه فرقتين {ويقولوا سحر مستمر} مستمر، قيل: إن المعنى زائل ذاهب من مر بالشيء إذا تجاوزه، يقولون: هذا سحر ولن يستقر ولا قرار له، وقيل: مستمر يعني أن كل الآيات التي يأتي بها سحر، أي مستمر من مرار الشيء ودوام الشيء، وأيًّا كان فإنهم أنكروا وكذبوا، ولهذا قال تعالى: {وكذبوا} ، أي: كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بآياته، {واتبعوا أهواءهم} أي: ما يريدون من الباطل {وكل أمر مستقر} ، أي: كل أمر لابد له من قرار، فهؤلاء المكذبون قرارهم الذل والخسران في الدنيا، والنار في الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه أمرهم مستقر بالنصر والتأييد في الدنيا، والجنة في الآخرة، جعلنا الله منهم. {ولقد جاءهم من الأَنباء ما فيه مزدجر} هذه الجملة فيها اللام وقد، وهما من أدوات التوكيد، وفيها قسم مقدر دلت عليه اللام في قوله: {ولقد جاءهم} ، وعليه فتكون هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، القسم واللام وقد، والله سبحانه وتعالى صادق بغير توكيد لخبره، لكن هذا القرآن بلسان عربي مبين، واللسان العربي من بلاغته تأكيد الأشياء الهامة حتى تثبت وترسخ في الذهن، {ولقد جاءهم} أي: قريشاً جاءهم من الأنباء التي فيها رشدهم وصلاحهم وفلاحهم {ما فيه مزدجر} أي: ازدجار عن الشرك والعصيان، ولكنهم لم ينتفعوا بذلك.

{حكمة بالغة} يعني أن الأنباء التي جاءتهم حكمة، وهذا كقوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} والحكمة هي تنزيل الشيء منزلته اللائقة به، ولا شك أن شريعة الله حكمة كلها ومطابقة لما فيه صلاح العباد في معاشهم ومعادهم، وقوله: {بالغة} أي: تامة واصلة إلى الغرض المقصود منها {فما تغني النذر} (ما) يحتمل أن تكون نافية، يعني أن النذر لا تغنيهم شيئاً، ويحتمل أن تكون استفهاماً على وجه التوبيخ، يعني فأي شيء تغنيهم، وكلاهما صحيح، فالنذر لم تغنهم شيئاً، وإذا لم تغنهم هذه النذر المشتملة على حكمة بالغة فأي شيء يغنيهم؟ الجواب: لا شيء، لأنهم معاندون مستكبرون، لهذا قال - عز وجل -: {فتول عنهم} ، الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم تول عن هؤلاء؛ لأنهم معاندون مستكبرون، سوف يأتيهم ما وُعدوا به، وسوف يتحقق لك ما وُعدت به، ويحسن أن يقف القارىء على قوله: {فتول عنهم} ثم يستأنف ويقول: {يوم يدعو الداع إلى شيء نكر} ، لأن القارىء لو وصل لأوهم أن التولي يكون يوم يدع الداع، ومعلوم أن التولي في الدنيا وليس يوم يدع الداع، وقوله: {يوم يدعو الداع} ظرف، والظرف لابد له من عامل، كالجار والمجرور، لابد له من عامل، وكجميع المفعولات لابد لها من عامل، فما هو العامل؟ العامل قوله: يخرجون {خشعاً أبصرهم يخرجون} فهي متعلقة بـ (يخرجون) أي: سوف يأتيهم العذاب في ذلك الوقت يوم {يخرجون من الأَجداث كأنهم جراد منتشر} وقوله: {يوم يدعو الداع إلى شيء نكر} هو داعي يوم القيامة {إلى شيء

نكر} أي: منكر عظيم لشدة أهواله، فإنه لا شيء أنكر على النفوس من ذلك اليوم؛ لأنهم لم يشاهدوا له نظيراً {خشعاً أبصارهم} يعني أن أبصارهم خاشعة ذليلة، كما قال الله - عز وجل -: {ينظرون من طرف خفي} هم الآن مستكبرون رافعو رؤوسهم، يرون أن الناس تحتهم، وأنهم فوق الناس، لكن سيأتي اليوم الذي يكونون بالعكس {خشعاً أبصرهم يخرجون من الأَجداث كأنهم جراد منتشر} ، الأجداث هي القبور، والجراد المنتشر هو المنبث في الأرض الذي لا يدري أين وجهه ليس له طريق قائمة، لا يعرف كيف ينتهي، ولكنهم منتشرون، وهذا من أدق التشبيهات، لأن الجراد المنتشر تجده يذهب يميناً ويساراً لا يدري أين يذهب، فهم سيخرجون من الأجداث على هذا الوجه، بينما هم في الدنيا لهم قائد، ولهم أمير، ولهم موجِّه يعرفون طريقهم، وإن كان طريقاً فاسداً {مهطعين إلى الداع} يعني أنهم مسرعون خاضعو الأعناق، كالرجل إذا أسرع وركض تجده يقدم رأسه يخضعه، فهم يخرجون من الأجداث مهطعين إلى الداعي، أي مسرعين خافضو رؤوسهم من الفزع والهول والشدة {يقول الكافرون هذا يوم عسر} وتأمل قوله: {يقول الكافرون} ولم يقل: يقول الناس، لأن هذا اليوم العسر لا شك أنه في حد ذاته عسر شديد عظيم ولكنه على الكافرين عسير، وعلى المؤمنين يسير، كما قال الله تبارك وتعالى: {وكان يوماً على الكافرين عسيراً} وقال تعالى: {على الكافرين غير يسير} وأما على المؤمنين فهو يسير، ولله الحمد جعلنا الله منهم.

ثم بدأ الله - عز وجل - بقصص الأنبياء على وجه مختصر في هذه السورة، لكنه مؤثر تأثيراً بالغاً، لو قرأتها بتمهل وتدبر لوجدت أنها مؤثرة جدًّا، كلمات مختصرة لكنها رادعة تماماً {كذبت قبلهم قوم نوح} ونوح هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض بدلالة القرآن والسنة، قال الله تبارك وتعالى: {إنا أوحينآ إليك كما أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده} وقال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} وبهذا نعرف أن ما ذكره بعض المؤرخين من أن إدريس هو الجد لنوح، كذب لا شك فيه، وليس قبل نوح رسول وفي حديث الشفاعة التصريح بأنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض (¬1) ، ولذلك كان من عقيدتنا أن أول الرسل نوح، وأن آخر الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم، {كذبت قبلهم قوم نوح} لم يفصل الله عز وجل هذا التكذيب، لكنه أنزل في ذلك سورة تامة وهي سورة نوح، فصل الله فيها تفصيلاً تامًّا في تكذيبهم وأخذهم، {فكذبوا عبدنا} وهو نوح وصفه الله بالعبودية، لأن العبودية أشرف ألقاب البشر، وهي التذلل لله بالطاعة والإنابة والتوكل وغير ذلك، والعبودية من حيث هي ثلاثة أنواع: عبودية عامة: تشمل جميع الخلق، وهي التذلل للأمر الكوني كقوله تبارك وتعالى: {إن كل من في السماوات والأَرض إلا آتى الرحمن عبداً} . أي: ما كل من في السموات والأرض إلا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً} (4712) ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (194) .

هذه حاله: أنه آتي الرحمن عبداً، وهذه العبودية للأمر الكوني، لأن أمر الله عز وجل الكوني لا يمكن لأحد أن يفر منه، مهما كانت قوته. النوع الثاني: العبودية الخاصة بالمؤمنين: مثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأَرض هوناً} فهذه عامة لكل مؤمن. الثالث: العبودية الخاصة بالأنبياء: وهذه مثل قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} . {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} . {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} . ومن ذلك هذه الآية: {فكذبوا عبدنا} . وقد لبث فيهم نوح عليه الصلاة والسلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، لكنهم كلما دعاهم إلى الله ليغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قوله، واستغشوا ثيابهم حتى لا يروه، ولا أبلغ من هذا الاستكبار أن يضع الإنسان يده في أذنيه حتى لا يسمع قول الداعي، وأن يستغشي ثوبه فيتغطى به حتى لا يراه {وقالوا مجنون} المجنون فاقد العقل الذي يهذي بما لا يدري قالوا: إنه مجنون، وهذه القولة قيلت لكل الرسل، قال الله تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} و (أو) هنا إما للتنويع يعني بعضهم يقول: ساحر، وبعضهم يقول: مجنون، أو أنها للتنويع يعني بمعنى أن بعض المكذبين يقول ساحر، وبعضهم يقول: مجنون، أو أنهم يقولون هذا وهذا. {وازدجر} أي: زجر زجراً شديداً، والزجر هو

النهر بشدة وعنف، والدال هنا منقلبة عن تاء، وقد قال العلماء: إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، والمعنى: أنه زجرٌ شديدٌ، وقوله: {وازدجر} ينبغي ألا توصل بما قبلها، لأنك لو وصلت وقلت: {وقالوا مجنون وازدجر} لتوهَّم السامع أنهم يقولون مجنون وازدجر، يعني زجره غيرنا، لكن المعنى خلاف ذلك، المعنى كذبوا وازدجروه، فإذن الأولَى أن تقف على قوله، {وقالوا مجنون} ثم تصل وتقول: {وازدجر} فيكون هنا لم يقتصر هؤلاء المكذبون على أن كذبوا بل كذبوا وزجروا وتوعدوا وسخروا، ولما طال الأمد {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} الله أكبر، كلمتان {أني مغلوب فانتصر} ولقد دعا أهلاً للإجابة - جل وعلا - فأجاب الله قال: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} ، وفي قراءة (فتَّحْنَا) وكلاهما حق، وينبغي لمن علم القراءة الأخرى أن يقرأ بهذه تارة وهذه تارة، بشرط ألا يكون ذلك بحضرة العوام، لأن العوام لا ينبغي أن تقرأ عليهم قراءة خارجة عن المصحف الذي بأيديهم فتحدث لهم تشويشاً، وربما تهبط منزلة القرآن في نفوسهم، أو ينسبوك إلى الغلط والتحريف، لكن عند طلبة العلم وعند التعليم، أو بينك وبين نفسك ينبغي أن تقرأ بالقراءات الثابتة مرة بهذه ومرة بهذه، كما نقول هذا أيضاً في العبادات المتنوعة تفعل هذه مرة وهذه مرة، كالاستفتاحات ونحوها {ففتحنا أبواب السماء} كل باب في السماء انفتح {بماء منهمر} أي: منصب صبًّا شديداً، فكان كأفواه القرب، ليس كالذرات المعروفة، بل أشد، {وفجرنا الأَرض عيوناً} ، أي عيوناً من المياه، وتأمل قوله

تعالى: {وفجرنا الأَرض عيوناً} ولم يقل فجرنا عيون الأرض، كأن الأرض كلها كانت عيوناً متفجرة، حتى التنور الذي هو أبعد ما يكون عن الماء لحرارته ويبوسته صار يفور، كما قال الله - عز وجل -: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} وفي هذا من الدلالة على قدرة الله تبارك وتعالى ما لا يخفى، وأن هذه الفيضانات التي تحدث إنما تحدث بأمر الله - عز وجل -، وليست كما قال الطبيعيون: إنها من الطبيعة، يقولون: هاجت الطبيعة، غضبت الطبيعة، وما أشبه ذلك نسأل الله العافية، بل هي بأمر من يقول للشيء كن فيكون، {فالتقى الماء على أمر قد قدر} هنا ماءان: ماء نازل من السماء دل عليه قوله: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} وماء من الأرض نابع دل عليه قوله: {وفجرنا الأَرض عيوناً} فلماذا لم يقل فالتقى الماءان، لأن المراد ماء السماء وماء الأرض؟ قال العلماء: إنه أراد الجنس، لأن الجنس هنا واحد، ماء الأرض وماء السماء، أو يقال: لأنه لما كان المقصود بهذين الماءين شيئاً واحداً وهو عذابهم صح إفراده {على أمر قد قدر} أي: على شيء قد قضاه الله تعالى وقدره في الأزل، فإنه ما من شيء يحدث إلا وهو مكتوب، قال الله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} يعني من أعمال بني آدم، ومما يقع في الأرض كل شيء محصى، ولهذا قال {على أمر قد قدر} . {وحملناه على ذات ألواح ودسر} أي: حملنا نوحاً وأهله إلا من سبق عليه القول منهم، وأمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل، حمله الله على

ذات ألواح ودسر، يعني على سفينة ذات ألواح ودسر، وكان نوح عليه الصلاة والسلام يصنعها، فيمر به قومه ويسخرون منه قال الله عز وجل: {ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} وهذه السفينة وصفها الله بأنها ذات ألواح، وألواح جمع منكر يدل على شيئين: الشيء الأول كثرة ألواحها، والثاني: عظمة هذه الألواح، ومتانتها، وحق لسفينة تحمل البشر على ظهرها أن تكون ذات ألواح عظيمة {ودسر} أي: مسامير، وقيل: إن الدسر ما تربط به الأخشاب فيكون أعم من المسامير، لأن الأخشاب قد تربط بالمسامير وقد تربط بالحبال، فالمهم أن توثيق هذه الألواح بعضها ببعض كان قويًّا، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى مادة صنع السفينة، وأنها من الأخشاب والمسامير، أو الروابط التي تربط بين تلك الأخشاب؛ ليكون ذلك تعليماً للبشر أن يصنعوا السفن على هذا النحو، {تجري} أي: تسير على هذا الماء العظيم الذي بلغ قمم الجبال، والتقى فيه ماء الأرض وماء السماء، {بأعيننا} أي: ونحن نراها بأعيننا، ونكلأها ونحفظها، والباء في قوله: {بأعيننا} للمصاحبة يعني أن عين الله - عز وجل - تصحب هذه السفينة، فيراها الله - عز وجل - ويكلأها ويحفظها، لأنها سفينة بنيت لتقوى الله - عز وجل - وإنجاء أولياءه من الغرق، الذي شمل أعداءه {جزاءً لمن كان كفر} أي: مكافأة لمن كان كُفِر به وهو نوح عليه الصلاة والسلام - لأن قومه كفروا به وكذبوه - فبين الله - عز وجل - أن

إنجاء نوح بهذه السفينة كان جزاء له، والله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين أكثر من إحسانهم {ولقد تركناها آيةً} الضمير (هاء) اختلف فيها المفسرون هل المعنى: ولقد تركنا هذه القصة - وهي قصة نوح - وإغراق قومه، أبقيناها آية لمن يأتي بعدهم، الوجه الثاني: ولقد تركناها، أي: السفينة، والمراد الجنس، أي جنس هذه السفينة أبقيناها آية لمن بعد نوح، وكلا الأمرين محتمل، والقاعدة في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي بعضهما الآخر، وليس أحدهما بأرجح من الآخر، فإنها تحمل على المعنيين جميعاً، فنقول: إن الله ترك القصة آية وعبرة لمن يأتي بعد نوح، وترك السفينة آية وعبرة يصنع مثلها من يأتي بعده، ويدل لهذا القول وأنه غير ممتنع، أن الضمائر أحياناً تعود إلى الجنس لا إلى الفرد، نظير قول الله تبارك وتعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين} {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} المراد بالإنسان آدم، {ثم جعلناه نطفةً} ليس آدم هو الذي جعل نطفة في قرار مكين، بل الإنسان الذي هو جنس آدم، وهم بنو آدم، ومثل ذلك عند بعض العلماء قوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير} ليست المصابيح التي في السماء هي التي ترجم الشياطين، ولكنها شهب تخرج منها فترجم الشياطين. {فهل من مدكر} الاستفهام هنا للتشويق، يعني هل أحد يدَّكر ويتعظ بما جرى للمكذبين للرسل من إهلاكهم وتدميرهم،

وقيل: إن الاستفهام للأمر، وأن المعنى فادكروا، وسواء قلنا للتشويق أو للأمر، فإن الواجب علينا أن نتذكر وأن نخشى من عقاب الله تبارك وتعالى، وعقاب الله تعالى لهذه الأمة خاصة لا يمكن أن يشملهم جميعاً، لكن قد يشمل مناطق معينة تؤخذ بالعذاب بما فعل السفهاء منهم، كما قال الله تعالى: {واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} {فكيف كان عذابي ونذر} كيف هنا للتفخيم والتعجب، يعني: ما أعظم العذاب والنذر! وقيل: إن الاستفهام للتقرير، يعني أن الله يقررنا بالعذاب وبالنذر، لكن المعنى الأول أقرب للتفخيم والتعظيم، أي ما أعظم عذابي النازل بأعدائي، وما أعظم نذري التي تنذر وتخوف من العقاب أن ينزل بمن خالف، فهذا العذاب الذي حصل لقوم نوح عذاب يعتبر من النذر المخوفة لنا من مخالفة أمر الله ورسوله، {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر} يعني سهلنا، والقرآن هو كتاب الله الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وسمي قرآناً، لأنه يقرأ أي يتلى، وقوله {للذكر} ، قال بعضهم: للحفظ، وأن القرآن ميسر لمن أراد أن يحفظه، وقيل: يسر معانيه لمن تدبر، ويسر ألفاظه لمن حفظ، وقيل المراد بالذكر الادكار والاتعاظ، يعني أن من قرأ القرآن ليتذكر به ويتعظ به سهل عليه ذلك واتعظ وانتفع، وهذا المعنى أقرب للصواب بدليل قوله: {فهل من مدكر} يعني: هل أحد يدكر، مع أن الله سهل القرآن للذكر، أفلا يليق بنا وقد سهل الله القرآن للذكر أن نتعظ ونتذكر؟ بلى هذا هو اللائق، فهل من مدكر.

{كذبت عاد} هذه هي الأمة الثانية ممن قصهم الله علينا في هذه السورة الكريمة، وعاد تتلوا قوم نوح غالباً، وقد تتقدم عليها كما في سورة (الذاريات) ، ولكن الغالب أن قصة نوح هي الأولى في قصص الأنبياء لأنه أول نبي أرسل إلى أهل الأرض، وعاد هم قوم هود، كما قال تعالى: {ألا بعدًا لعاد قوم هود} كذبوا نبيهم هوداً عليه الصلاة والسلام، وكانوا أقوياء أشداء، وكانوا يفتخرون بشدتهم وقوتهم، ويقولون: {من أشد منا قوةً} ، قال الله تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} يقول هنا {كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر} ، والجواب: كان شديداً عظيماً واقعاً موقعه، فالاستفهام للتفخيم والتعظيم والتقرير، وهو أن عذاب الله كان عظيماً، وكان واقعاً موقعه، {ونذر} يعني: آياته، كذلك كانت عظيمة واقعة موقعها، فبماذا أهلكهم الله؟ أهلكهم الله بألطف شيء وهو الريح التي تملأ الآفاق، ومع ذلك لا يحس الإنسان بها، لأنها سهلة لينة يخترقها الإنسان بسهولة، مكاننا الذي نحن فيه مملوء بالهواء ومع ذلك نخترقه ولا نحس به، فهي من ألطف الأشياء، فأهلك الله عاداً الذين يفتخرون بقوتهم بهذه الريح، {إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر} الجملة هنا مؤكدة بإن و {أرسلنا} يعني الرب - عز وجل - نفسه، وجمع الضمير للتعظيم {عليهم} ، أي على عاد {ريحاً صرصراً} ، أي: ذات صرير لقوتها وشدتها، حتى إن مجرد نفوذها يسمع له صرير، وإن لم تصطدم بما يقتضي الصرير، لأنها قوية جداً، وهي الريح

الغربية، أتت من جهة الغرب لعاد، فقالوا: هذا عارض ممطرنا. وكانوا قد أجدبوا قبل ذلك سنوات، فلما أقبلت بسوادها وعظمتها وزمجرتها قالوا: هذا عارض ممطرنا، ولكن الأمر كان بالعكس، كانت ريحاً فيها عذاب أليم، كانت ريحاً عقيمة ليس فيها مطر، ولا يرجى أن يأتي منها مطر، {في يوم نحس مستمر} ، أي: في يوم شؤم مستمر بالنسبة لعاد، وليس كل وقت، فاليوم الذي أهلكوا فيه ليس هو نفسه نحساً مستمر، ولكنه بالنسبة لهؤلاء كان يوم نحس مستمراً، كما قال الله تعالى عن قوم نوح: {أغرقوا فأدخلوا ناراً} هؤلاء أهلكوا بالريح فأدخلوا النار، فالنحس أي الشؤم كان مستمراً معهم، فعذاب الآخرة متصل بعذاب الدنيا {تنزع الناس} أي: تأخذهم بشدة وقوة وترفعهم إلى السماء - نسأل الله العافية - حتى قال بعضهم: ترفعهم حتى يغيب الإنسان عن الرؤية من علوه، ثم تطرحه في الأرض، وإذا سقطوا على الأرض سقطوا على أم رؤوسهم ثم انفصل الرأس عن الجسد من شدة الصدمة، تنزع الناس {كأنهم} في حال سقوطهم الأرض {أعجاز نخل منقعر} ، أعجاز أي أصول، والنخل معروف، والمنقعر الساقط من أصله، يعني كأنهم نخل سقط من أصله بقيت جثته، وصاروا كأعواد النخل؛ لأنه ليس لهم رؤوس على ما قال المفسرون، حيث إن رؤوسهم انفصلت من شدة الصدمة، فسبحان القوي العزيز، هؤلاء القوم الأشداء الأقوياء وصلوا إلى هذه الحال بريح من عند الله - عز وجل - تنزع الناس: {كأنهم أعجاز نخل منقعر} .

وهنا قال الله تعالى: {كأنهم أعجاز نخل منقعر} ، وفي الحاقة قال تعالى: {كأنهم أعجاز نخل خاوية} ، والمعنى متقارب، لكن من بلاغة القرآن أن يجري الكلام فيه على نسق واحد، فهناك {كأنهم أعجاز نخل خاوية} مناسب للفواصل التي في الحاقة، أما هنا {كأنهم أعجاز نخل منقعر} مناسب للفواصل التي في سورة القمر، لأن تناسب الكلام واتساقه من كمال بلاغته {فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر} ، كرر الله تعالى هذا عند آخر كل قصة من أجل أن نحرص على التذكر بالقرآن، وتدبر القرآن، وتفهم القرآن؛ لأنه ميسر، والجملة مؤكدة بمؤكدات ثلاثة: القسم، واللام، وقد، مما يدل على الترغيب في تذكر القرآن والتذكر به، فهل من مدكر، نرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المدكرين بكتاب الله - عز وجل -. {كذبت ثمود بالنذر} أي: بما جاءهم من النذر، وهي الآيات التي جاء بها صالح عليه الصلاة والسلام، وديارهم معروفة الآن ببلاد الحجر في طريق تبوك من المدينة، وكان صالح عليه الصلاة والسلام أُرسل إلى قومه، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له كسائر الأنبياء، قال الله تعالى: {ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} أرسله الله عز وجل إلى قومه، وأعطاه آية وهي ناقة لها شرب ولهم شرب، أي

أن بئر الناقة الكبير الغزير الماء، وقد ذكروا أنها إذا شربت إناء من الماء فإن الذي يسقيها إناء من الماء يحلب من لبنها بقدر ما أسقاها، وهذا من آيات الله أن ناقة تشرب ماء ثم تخرجه في الحال لبناً، فإن هذا ليس له عادة، ولكنها آية من آيات الله - عز وجل - أراهم الله تبارك وتعالى إياها حتى يعتبروا، لأن الله لم يرسل رسولاً إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، رحمة منه وحكمة، لأنه لا يعقل أن رجلاً من بين الناس يأتي ويقول: إني رسول الله إليكم. إلا إذا أتاه الله آيات تدل على صدقه. قال العلماء: وما من آية أوتيها نبي من أنبياء الله السابقين إلا كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثلها أو أشد، ولكن قد تكون غير متوفرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنها موجودة في أمته الذين اتبعوه، ولهذا كان من القواعد المقررة عند العلماء. (أن كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي اتبعه) ، لأن هذه الكرامة تشهد بصدق ما كان عليه الولي، وهذا الولي تابع لرسول سابق، فيكون في ذلك آية على أن هذا الشرع الذي عليه هذا الولي حق، وهذه تكون آية للنبي، وعليه فنقول: من آيات موسى أنه يضرب الحجر، وإذا ضربه انفجر عيوناً، تنبع ماء من حجر يابس، فهل كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثله؟ الجواب: كان له أعظم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جيء إليه بقدح من ماء وليس مع الناس ماء إلا ما في هذه الركوة فوضع يده فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع يده

كالعيون (¬1) ، سبحان الله، وهذا أعظم من آية موسى، لأن آية موسى يخرج الماء من الحجر، وخروج الماء من الحجر معتاد، كما قال تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأَنهار} لكن لم تجر العادة أن يخرج الماء من الإناء الذي بينه وبين الأرض فاصل إذن هذه أعظم، وموسى عليه الصلاة والسلام ضرب البحر فانفلق فكان أسواقاً يابسة، وهذه لا شك آية عظيمة، وجرى لهذه الأمة أعظم من هذه، مشوا على الماء دون أن يضرب لهم طريق يبس، مشوا على الماء المائع الهين الذي يغوص فيه من يقع فيه، مشوا بدوابهم وأرجلهم ولم يغرقوا، وذلك في قصة العلاء بن الحضرمي (¬2) ، وفي قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، مشوا على الماء، وهذا أعظم من أن يمشوا على الأرض التي تفرق عنها الماء، وآية صالح عليه السلام هذه الناقة لها شرب ولثمود شرب، لها يوم ولهؤلاء يوم، وقد وقع مثلها لرسول الله عليه الصلاة والسلام في الهجرة، فإنه مر براعي غنم وعنده ماعز أو ضأن ليس فيها لبن، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها فجعلت تبش من اللبن (¬3) ، فالمهم أنه ما من نبي بعثه الله إلا أعطاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، قلنا: هذا رحمة وحكمة: رحمة بالناس من أجل أن تحملهم هذه الآيات على التصديق فينجو من عذاب الله، وحكمة، لأنه ليس من الحكمة أن يقوم إنسان من بين الناس ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب شرب البركة والماء المبارك (رقم 5639) . (¬2) انظر: صفة الصفوة (1/352 - 353) . (¬3) انظر: صفة الصفوة (1/70 - 71) ..

ويقول: أنا رسول الله. حتى يؤتى آيات. يقول عز وجل: {كذبت ثمود بالنذر} النذر جمع نذير، والمراد به الآيات التي أوتيها صالح عليه الصلاة والسلام، فقالوا من جملة ما قالوا في تكذيبهم {أبشراً منا واحداً نتبعه} أنكروا الآيات وما كأنها أتت، يعني أنتبع بشراً منا واحداً، لا نقبل، وهذا النفي بمعنى الإنكار، يعني لا يمكن أن نتبع واحداً منا {إنا إذاً لفي ضلال وسعر} يعني إنا إن اتبعناه لفي ضلال وسعر، أي لفي جهل وفي عذاب، كأنه وعدهم بأنهم إن اتبعوه اهتدوا ونجوا من النار، فقالوا بالعكس: لو اتبعناه لضللنا واحترقنا بالسعر بالنار، عكس ما قال، وهذا من أشد المراغمة للرسل عليهم الصلاة والسلام، والمحادة لله تبارك وتعالى، {أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر} هذا أيضاً استفهام احتقار، يعني كيف يلقى الذكر عليه من بيننا، ما الذي ميزه، وكل ما ذكروا شبهات، لا دلالات، فكونه بشراً لا يمنع أن يكون رسولاً، بل لابد أن يكون رسول البشر بشراً، لأن الله قال: {وقالوا لولآ أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضى الأَمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً} يعني لو أرسلنا ملكاً للزم أن نجلعه في صورة البشر حتى يمكن أن يختلط بالناس ويأتلف بهم، وإذا جعلنا الملك بشراً لبسنا عليهم ما يلبسون، فعادت المسألة مختلطة. الشبهة الثانية: أنه منا لا يتميز علينا بشيء، الثالثة: أنه واحد لم يؤيد، والله عز وجل يقول: {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون} وهؤلاء يقولون: واحد لابد يعزز بثانٍ وثالث، الرابعة: أألقي الذكر عليه من بيننا؟ يعني كيف يلقى عليه

الذكر والوحي من بيننا؟ هذا لا يمكن، أربع شبهات وهم يرونها حججاً توجب رد صالح عليه الصلاة والسلام، والواقع إنها ليست بحجج، بل هي شبه وتضليل، وهكذا المبطلون في كل زمان ومكان يوردون الشبه على الحق، ولكن الله سبحانه وتعالى لابد أن يبين الحق، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة، ثم قالوا: {بل هو كذاب أشر} {بل} هنا لإبطال دعواه أنه حق {كذاب} صيغة مبالغة وفي نفس الوقت وصف، لأن كلمة فعال تأتي للمبالغة وتأتي للوصف، فإذا قلت: فلان نجار، يعني من النجارين، وإن لم ينجر إلا مرة واحدة، وإذا قلت فلان نجار لكثرة النجارة صارت مبالغة، فهم يرون - والعياذ بالله - أنه كذاب موصوف بالكذب، ليس له صفة إلا الكذب، وكثير الكذب أيضاً {أشر} أي: بطر متعال، متعاظم مستكبر، مدعٍ ما ليس له، قال الله تعالى: {سيعلمون غداً من الكذاب الأَشر} سيعلمون غداً أي: يوم القيامة، والسين هنا للتحقيق والتقريب، لأنك إذا قلت سيقوم زيد فهذا تأكيد وتقريب أيضاً، فإذا قال قائل: التقرير معروف أن الساعة آتية لا ريب فيها، لكن كيف التقريب؟ قلنا: إن الله يقول: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} ومن الأمثال العابرة (كل آت قريب) ، والذي بقي عليه ألف سنة أقرب من الذي لم يمض عليه إلا عشر دقائق، لأن الذي مضى عليه عشر دقائق لا يمكن أن يرجع، لكن المستقبل لابد أن يأتي، {إن ما توعدون لآت} وسمي يوم القيامة غداً لأنه يأتي بعد يومه، {سيعلمون غداً من الكذاب الأَشر} ، أصالح هو أم هؤلاء

الكذاب الأشر، وهذا وعيد عظيم، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} والإنسان في غفلة عن هذا اليوم العظيم، قال الله تعالى: {بل قلوبهم في غمرة من هذا} يعني من عمل الآخرة، {في غمرة} مغطاة عن عمل الآخرة، {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} يعني أعمال الدنيا هم لها عاملون، وأتى بجملة اسمية يعني أنهم محققون للعمل فيها لا يتركونها ولا يفرطون فيها، وأما الآخرة فهم في غفلة منها {إنا مرسلوا الناقة فتنةً لهم} {إنا} يعني نفسه - جل وعلا - وأتى بصيغة الجمع تعظيماً له - جل وعلا - لعظمة صفاته، وكثرة كلماته، وكثرة جنوده، فلذلك يكني عن نفسه بصيغة التعظيم، {إنا مرسلوا الناقة فتنةً لهم} ، يعني باعثوها فتنة لهم واختباراً، هل يؤمنون أو لا يؤمنون، فلم يؤمنوا، وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى قد يظهر للإنسان من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، حتى إذا استكبر كان استكباره عن علم، فكان عقابه أشد وأوجع، ولهذا جعل الله الناقة فتنة، لأنها أظهرت الحق لهم، ولكن لم يقبلوه، وانتبه لهذا الاستدراج من الله - عز وجل - إذا يسر الله لك أسباب المعصية، فلا تفعل، فإن الله ربما ييسر أسباب المعصية للإنسان فتنة له، أرأيتم أصحاب السبت من بني إسرائيل يسرت لهم أسباب المعصية فتنة، وهي أن الله حرَّم عليهم صيد السمك يوم السبت فكانت الحوت تأتي يوم السبت شرَّعاً على وجه الماء وبكثرة عظيمة، لكنهم ملتزمون لم يصيدوا السمك في يوم السبت، فلما طال عليهم الأمد عجزوا عن ملك أنفسهم، فرجعوا إلى طبيعتهم وهي الغدر والحيلة والمكر،

فاحتالوا على صيد السمك، صاروا يجعلون شباكاً يوم الجمعة فتأتي الحيتان وتدخل في الشباك، فإذا كان يوم الأحد أخذوا الحيتان، وهذه حيلة واضحة، فقلبهم الله قردة، قال الله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} وفي صدر هذه الأمة حرم الله على المحرمين الصيد {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} فبعث الله الصيد عليهم وهم محرمون تناله أيديهم ورماحهم، يعني أن الذي يمشي على الأرض يمسكونه باليد مثل الأرنب والغزال يمسكه الواحد باليد. والطائر الذي كان لا ينال إلا بالسهم لأنه بعيد، صار يطير وكأنه على الأرض، الرمح يدركه، فتنة، فهنا يسر الله لهم أسباب المعصية، لكن الصحابة - رضي الله عنهم - وهم خير الناس لم يأخذ أحد منهم صيدة واحدة رضي الله عنهم، بينما بنو إسرائيل تحيلوا وخادعوا الله، أما سلف هذه الأمة، وفقنا الله لموافقتهم في الدنيا في أعمالهم وفي الآخرة في مساكنهم فإنهم لم يأخذوا. وهذه الناقة أرسلها الله تعالى فتنة لثمود لكن ما أغنتهم {إنا مرسلوا الناقة فتنةً لهم فارتقبهم واصطبر} أي: ارتقب عذابهم، أو ارتقب أفعالهم، وانظر ماذا يفعلون {واصطبر} يعني اصبر، وأصل اصطبر (اصتبر) بالتاء للمبالغة، لكن قلبت التاء طاء لعلة تصريفية اقتضتها اللغة العربية، يعني أن الله قال لرسولهم صالح عليه السلام: ارتقب هؤلاء واصطبر فالنصر قريب، {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} ، أخبرهم أن الماء قسمة بينهم كل له شرب وللناقة شرب، ولهذا قال {كل شرب محتضر} ، يعني كل شرب يحضره

من يستحقه، إما الناقة وإما هم، وبقوا على هذا لكن لم يستمروا، {فنادوا صحبهم} الذي يرونه قويًّا شجاعاً، وقالوا له: هذه الناقة ضايقتنا لو أننا عقرناها لكنا نشرب كل يوم، فطلبوا منه أن يعقرها - نسأل الله العافية - وهذا الصاحب القوي الشجاع الذي يرونه أشد منهم إقداماً، بقطع النظر عن اسمه، فبعض المفسرين سماه، لكن لا يهمنا لم يتأخر، بل بادر {فتعاطى فعقر} تعاطى تفاعل من العطاء يعني بذل نفسه وبسرعة، ويدل على السرعة الفاء في قوله {فتعاطى} من حين نادوه، وافق {فعقر} ، عقر الناقة - نسأل الله العافية - قطع أطرافها أولاً، ثم نحرها ثانياً، وهي من آيات الله - عز وجل - ومن مصالحهم - لكن نسأل الله العافية - نفوسهم لا تقبل، {فكيف كان عذابي ونذر} يقول الله - عز وجل - مخاطباً الإنسان: {فكيف كان عذابي ونذر} ؟ هل وقع موقعه؟ وهل كان شديداً؟ الجواب: نعم، كان في موقعه، وكان شديداً، ما هذا العذاب؟ {إنا أرسلنا عليهم صيحةً واحدة فكانوا كهشيم المحتظر} صيح بهم - والعياذ بالله - مع الرجفة، ففي السماء أصوات، وفي الأرض رجفان، أخذتهم الرجفة والصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأنهم لم يغنوا فيها، كأنهم ما وجدوا {فكانوا كهشيم المحتظر} يعني الحضار يجعله الإنسان لغنمه فالأعرابي في البادية يجعل على الغنم حضار من الشجر اليابس ومن عسب النخل، وما أشبه ذلك، لئلا تخرج، ولئلا تعدو عليها السباع. هذا الحضار مع طول الزمن والشمس والرياح يتفتت حتى يتلاشى، كان هؤلاء الأقوياء الأشداء المكذبين لرسولهم كانوا كهشيم المحتضر، أي كالحضار حينما

يتلف، وهذا من آيات الله - عز وجل - وتمام قدرته وسلطانه {إنما أمره إذآ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} فكانوا كهشيم المحتضر {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر} سبق تفسيرها، والمعنى أن الله تعالى يسر القرآن، أي يسر معانيه لمن تدبره، ويسر ألفاظه لمن حفظه، فإذا اتجهت اتجاهاً سليماً للقرآن للحفظ يسره الله عليك، وإذا اتجهت اتجاهاً حقيقيًّا إلى التدبر وتفهم المعاني يسره الله عليك {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر} وهل للتشويق، يشوقنا الله - عز وجل - إلى أن ندكر القرآن فنتعظ به، جعلنا الله ممن يتلونه حق تلاوته لفظاً ومعنى وعملاً، إنه على كل شيء قدير. {كذبت قوم لوط} قوم لوط هم أناس كفروا بالله - عز وجل - وأشركوا به، وكان مما اختصوا به من المعاصي هذه الفعلة القبيحة الشنيعة وهي اللواط، أي إتيان الذكر، وحذرهم نبيهم من هذا وقال لهم {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} ولكنهم - والعياذ بالله - استمروا على هذا حتى جاءهم العذاب {بالنذر} النذر: جمع نذير، وهي الكلمات التي أنذرهم بها لوط عليه الصلاة والسلام، وجمعها يدل على أنه كان يكرر عليهم هذا، ولكنهم أبوا وأصروا على هذا الفعل، فبين الله عقوبتهم بقوله: {إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر} {حاصباً} أي: شيئاً يحصبهم من السماء، أمطر الله عليهم حجارة من سجيل، فهدمت بيوتهم حتى كان عاليها سافلها، لأن البناء إذا تهدم صار أعلاه أسفله {إلا آل

لوط} ، آل لوط هم أهل بيته، إلا زوجته كما قال تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} وانظر نبي يبعث إلى قومه ولم يتبعه إلا آل بيته إلا امرأته أيضاً فكانت كافرة ومع ذلك فهو صابر حتى أذن له بالخروج {نجيناهم بسحر} أي: في السحر بالصباح، وذلك أن هؤلاء القوم أخذهم العذاب صباحاً، كما ابتدأ عذاب عاد بالصباح، سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، لأنه ابتدأ بالصباح فأخذهم العذاب - والعياذ بالله - في الصباح، فأهلكهم الله {نعمةً من عندنا} ، أي: أنعمنا على آل لوط نعمة من عند الله - عز وجل - من وجهين: الوجه الأول: أن الله أنجاهم. والوجه الثاني: أن الله أهلك عدوهم، لأن إهلاك العدو من نعمة الله، فصارت نعمة الله على آل لوط بالنجاة وإهلاك العدو {كذلك نجزي من شكر} أي: مثل هذا الجزاء، وهو الإنجاء والنعمة {نجزي من شكر} نعمة الله، وشكر نعمة الله تعالى هي القيام بطاعته، وليست مجرد قول الإنسان: أشكر الله، بل لابد من القيام بالطاعة، ولهذا من قال أشكر الله، وهو مقيم على معاصيه فإنه ليس بشاكر، بل هو كافر بالنعمة مستهزئ بالله - عز وجل -، إذ إن مقتضى النعمة أن يشكر الله، ولكنه عكس الأمر، قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار} فكل من شكر الله فإن الله تعالى ينجيه ويهلك عدوه، {ولقد أنذرهم بطشتنا} يعني أن لوطاً عليه الصلاة والسلام أنذر قومه البطشة، وهي الأخذ بالقوة

{فتماروا بالنذر} أي: تشككوا فيه ولم يؤمنوا به، {ولقد راودوه عن ضيفه} ، أي: راودوا لوطاً عن ضيفه الذي جاء إليه من الملائكة، وكان الله تعالى قد بعث إليه الملائكة على صورة شباب مُرد، ذوي جمال وهيئة، امتحاناً من الله - عز وجل -، فلما سمع قوم لوط بهؤلاء الضيف أتوا يهرعون إليه يسرعون، يريدون هؤلاء الضيف، ليفعلوا بهم الفاحشة - والعياذ بالله - {فطمسنا أعينهم} أي: فطمس الله أعينهم، أما كيف طمس أعينهم هل جبريل عليه السلام ضربهم بجناحه أو غير ذلك؟ الله أعلم، إنما علينا أن نؤمن بأن الله تعالى طمس أعينهم، حتى أصبحوا لا يبصرون، {فذوقوا عذابي ونذر} الأمر هنا للامتهان، أو إنه أمر كوني، يعني أن الله أمرهم أمر إهانة، أو أمراً كونياً أن يذوقوا العذاب، ومثل هذا قول الله تبارك وتعالى عن صاحب الجحيم {ذق إنك أنت العزيز الكريم} فإن هذا الأمر أمر إهانة بلا شك وليس أمر إكرام ولا أمر إباحة، {ولقد صبحهم بكرةً عذاب مستقر} يعني أن العذاب صبحهم أتاهم في الصباح على حين قيامهم من النوم، واستقبالهم يومهم وهم فرحون، كل واحد منهم يفكر فيما يفعل هذا اليوم، فإذا بالعذاب يقع بهم، نسأل الله العافية {فذوقوا عذابي ونذر} {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر} من العبر في هذه الآية أن هؤلاء الذين قلب الله فطرتهم وطبيعتهم قلب الله عليهم البنيان برميهم بحجارة من سجيل، فتهدم البنيان حتى صار أعلاه أسفله، وقيل: إن الله تعالى قلب بهم ديارهم اقتلعها من أساسها حتى رفعها ثم قلبها، فإن صح هذا فالله على كل شيء

قدير، وإن لم يصح فليس لنا إلا أن نأخذ بظاهر القرآن، أنهم أمطروا بحجارة من سجيل، فتهدم البناء عليهم (¬1) ، وأخذ أهل العلم من ذلك أن اللوطي يقتل بكل حال، الفاعل والمفعول به، وهذا هو القول الراجح أن اللواط يجب فيه القتل على كل حال وليس كالزنا، فالزنا يفرق فيه بين المتزوج وغير المتزوج، أما اللواط فيقتل فيه على كل حال مادام الفاعل والمفعول به بالغين عاقلين، فإنه يجب قتلهما بكل حال إلا المكره، فليس عليه شيء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على قتل الفاعل والمفعول به، إلا أنهم اختلفوا كيف يقتلان، فقال بعضهم: يقتلان بالرجم بالحجارة حتى يموتا، وقال بعضهم: يقتلان بأن يلقيا من أعلى مكان في البلد ويتبعان بالحجارة، وحرق أبو بكر - رضي الله عنه - اللوطي بالنار، وكذلك خالد بن الوليد وأحد خلفاء بني أمية حرقوهم بالنار لعظم جرمهم - والعياذ بالله -، ولأن هذه الفاحشة إذا انتشرت في قوم صار الرجال نساء، وصار الواحد منهم يتتبع فحول الرجال حتى يفعلوا به الفاحشة - والعياذ بالله - وانقلبت الأوضاع وضاع النسل بمعنى أن الناس ينصرفون إلى الذكور، ويدعون النساء اللاتي هن حرث للرجال، والتحرز منه صعب، لأنه لا يمكن أن نجد اثنين ونقول: كيف صحبت هذا؟ لكن لو وجدنا رجلاً وامرأة يمكن التحرز منهما، فلذلك كان دواء المجتمع من هذه الفعلة القبيحة الشنيعة أن يقتل الفاعل والمفعول به، وقد جاء في ذلك حديث ¬

(¬1) انظر تفسير فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - سورة الصافات، الآيات: 133 - 138..

عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬1) ولهذا يجب علينا أن نحترز من هذا غاية الاحتراز، وأن نتفقد أبناءنا أين ذهبوا ومن أين جاءوا، ومَن أصدقاءهم، وهل هم على الاستقامة أو لا؛ حتى نحمي المجتمع من هذا العمل الخبيث، ثم قال - عز وجل -: {ولقد يسرنا القرءان للذكر فهل من مدكر} يسر الله - عز وجل - القرآن للذكر لحفظه ولفهم معناه، وهذا الخبر يراد به الحث على حفظ القرآن وعلى تدبر معناه؛ لأنه ميسر سهل، وأنت جرب تدبَّر في آيات الله - عز وجل - لتفهم معناها، وانظر كيف ييسر الله - عز وجل - لك فهمها حتى تفهم منها ما لا يفهمه كثير من الناس، ولهذا قال {فهل من مدكر} ؟ والاستفهام هنا للتشويق، والمعنى هل أحد يدكر ويتعظ بما في القرآن الكريم. {ولقد جاء ءال فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} الجملة مؤكدة بالقسم المقدر واللام وقد، {ولقد جاء ءال فرعون النذر} يعني قومه وعلى رأسهم فرعون، كما أخبر الله تعالى في آيات أخرى متعددة أنه أرسل موسى إلى فرعون وملئه، والنذر قيل: بمعنى الإنذار والتخويف. وقيل: إنه جمع نذير وهو كل ما ينذر به العبد، والمراد به الآيات التي جاء بها موسى، كما قال الله تعالى: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات} وهذا الأخير هو الصحيح أن النذر جمع نذير، وليست بمعنى الإنذار، ويدل لهذا قوله {كذبوا بآياتنا كلها} أي: كل الآيات الدالة ¬

(¬1) تقدم (ص 86) ..

على صدق رسالة موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كذبوا بها وقالوا: إن موسى مجنون، وإنه ساحر، حتى إن فرعون من كبريائه قال: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} ، ولما كذبوا بالآيات أخذهم الله {أخذ عزيز} أي: غالب، {مقتدر} أي: قادر، ولكنها أبلغ من كلمة (قادر) لما فيها من زيادة الحروف، وإنما ذكر الله تعالى أنه أخذهم {أخذ عزيز مقتدر} لأن فرعون كان متكبراً، وكان يقول: {أنا ربكم الأَعلى} ، وكان يسخر من موسى ومن أرسله، فناسب أن يذكر الله تعالى أخذه أخذ عزيز مقتدر، وقد أجمل الله تعالى هذه القصة في هذه الآية، ولكنه بينها في آيات كثيرة، وأن أخذهم كان بإغراقهم في البحر، فأغرقه الله - عز وجل - بمثل ما كان يفتخر به، لأنه كان يقول لقومه: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، يقررهم بهذا، سيقولون: بلى، أفلا تبصرون. {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} ، يعني بذلك موسى، فأغرقهم الله في اليم حين جمع فرعون جنوده واتبع موسى ومن اتبعه ليقضي عليهم، ولكن الله بحمده وعزته قضى عليهم، ثم قال تعالى: {أكفاركم خير من أولائكم} الخطاب هنا لقريش، أي: يعني هل كفاركم خير من هذه الأمم السابقة التي أهلكها الله؟ {أم لكم براءة في الزبر} يعني أم لكم براءة في الكتب أن الله مبرئكم من عاقبة أفعالكم؟ والجواب لا هذا ولا هذا، يعني إما أن يكون كفاركم خير من الكفار السابقين، وإما أن يكون لكم براءة من الله - عز وجل - كتبها الله لكم ألا يعاقبكم، وكل هذا لم يكن، فليس كفارهم خيراً من

الكفار السابقين، وليس لهم براءة في الزبر، ولهم دعوى ثالثة {أم يقولون نحن جميع منتصر} ، أم هنا بمعنى بل الإضرابية، وهي إضراب الانتقال، يعني: بل يقولون نحن، والضمير لقريش {جميع منتصر} ، جميع هنا بمعنى جمع، ولهذا قال {منتصر} ، ولم يقل منتصرون، يعني جمع كثير منتصر على محمد وقومه، هذا معنى كلامهم، فأعجبوا بأنفسهم، وظنوا أنهم قادرون على القضاء على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورسالته، فماذا كان جوابهم من الله تعالى، قال الله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} أي: يخذلون شر خذيلة، ويولون الدبر، ولا يستطيعون المقاومة ولا المدافعة ولا المهاجمة، مع أنهم كانوا يقولون نحن جميع منتصر، ولكن لا انتصار لهم، وهذا هو الذي وقع ولله الحمد، وأول ما وقع في غزوة بدر حين اجتمع كبراؤهم ورؤساؤهم وصناديدهم في نحو ما بين تسعمائة إلى ألف رجل، في مقابل ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً مع النبي صلى الله عليه وسلم فهزموا - والحمد لله - شر هزيمة، وتحدثت بهم الأخبار، وألقي أربعة وعشرون نفراً من رؤسائهم في قليب من قلب بدر خبيثة منتنة، وهذه شر هزيمة لا شك، ولذا قال: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} ، هذه عقوبتهم في الدنيا، أما في الآخرة: {بل الساعة موعدهم} يعني أضف إلى ذلك أن الساعة موعدهم وهو يوم البعث {والساعة أدهى وأمر} أي: أشد فتكاً، وأمرُّ مذاقاً، لأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، ثم قال الله - عز وجل - مبيناً ماذا يحدث لهم ولأمثالهم فقال: {إن المجرمين في ضلال وسعر}

الضلال في الدنيا لا يهتدون، والسعر في الآخرة، أي: في نار شديدة التأجج تحرقهم، كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها، ليذوقوا العذاب. ويحتمل أن قوله {في ضلال} أي: في ضلال عن الطريق الذي يهتدون به إلى الجنة، لأنهم ضلوا في الدنيا فضلوا في الآخرة {يوم يسحبون في النار على وجوههم} يسحبون سحباً كما تسحب الجيفة، ليبعد بها عن المنازل، وليسوا يسحبون على ظهورهم ولكن على وجوههم - والعياذ بالله - ويقال: {ذوقوا مس سقر} ولقد قال الله تعالى في آية أخرى: {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة} أي: يتقي بوجهه وكان يتقي في الدنيا الحر بيديه لوقاية وجهه، لكنه في النار ليس له ما يقي وجهه النار، بل يتقي بوجهه نسأل الله العافية، فهم يسحبون في النار على وجوههم، وهذه ليست أساطير الأولين، وليست قصصاً تقال، هذه حقيقة نشهد بها - والله - كأننا نراها رأي العين، لابد أن يكون هذا لكل مجرم {يوم يسحبون في النار على وجوههم} الساحب هم الملائكة الموكلين بهم، لأن للنار ملائكة موكلين بها، ويقال {ذوقوا مس سقر} ، انظر إلى الإذلال: جسدي وقلبي، الجسدي هو أنهم يسحبون على وجوههم، والقلبي أنهم يوبخون، ويقال: {ذوقوا مس سقر} ، مس أي: صلاها، وسقر من أسماء النار - نسأل الله العافية ثم قال - جل وعلا -: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} لما ذكر عذاب أهل النار ثم سيذكر نعيم أهل الجنة، ذكر بينهما أن هذا الخلق وتفاوته بقدر الله - عز وجل - فكل شيء مخلوق فهو بقدر، كل ذرة في رملة فهي مخلوقة بقدر،

وكل نقطة تقع على الأرض من السحاب فهي مخلوقة بقدر، وكل شيء تعم ما سوى الخالق، لأنه ما ثم إلا مخلوق وخالق، فإذا كان كل شيء مخلوقاً كان الخالق وحده الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» (¬1) العجز يعني تكاسل الإنسان، والكيس يعني حزم الإنسان ونشاطه في طلب ما ينفعه والبعد عما يضره، وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الإنسان مخلوق لله تعالى، وأن أفعاله مخلوقة لله، وأن كل شيء قد قدر وانتهى، وإذا كان كذلك فيلجأ الإنسان إذا أصابته ضراء إلى الله الخالق، وإذا أراد السراء أيضاً يلتجىء إلى الله الخالق، لا يفخرن ويعجبن بنفسه إذا حصل له مطلوب، ولا ييأسن إذا أصابه المكروب، فالأمر بيد الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف» (¬2) القوي في إيمانه، والقوي في إرادته وهمته ونشاطه، وليس المراد القوي في بدنه، فقوة البدن إما لك وإما عليك، إن استعملتها في العمل الصالح فهي لك، وإن عجزت عنه مع فعلك إياه في حال القوة كتب لك، وإن استعملت هذه القوة في معصية الله كانت عليك، لكن المراد بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «القوي» أي: في إيمانه وإرادته، أما قوة البدن فهي لك أو عليك، قال: «وفي كلِّ خير» أي: في كل ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر (2655) .. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز (2664) .

من القوي والضعيف خير، وهذه الجملة يسميها علماء البلاغة جملة احترازية، لأنه لما قال: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف» يظن الظان أن المؤمن الضعيف ليس فيه خير، فقال: «وفي كل خير» . ولها نظائر قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} يعني من قبل صلح الحديبية {أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} كلاًّ من هؤلاء وهؤلاء، يعني فلا تظنوا أن هذا التفاوت يحط من قدر الآخرين ويحرمهم الخير، وقال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً} فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» (¬1) فإذا فعلت ذلك حرصت على ما ينفع واستعنت بالله، وكنت حازماً نشيطاً وقويًّا في مرادك، إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله يعني هذا قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان، أنت عليك أن تسعى للخير، وليس عليك أن يتم لك ما تريد، المهم أن كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، فمن قدر الله له الهداية، ومن قدر له الشقاء فهو بقدر، ولكن السبب لتقدير الله الشقاء على العبد هو نفس العبد، لقول الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين} . ¬

(¬1) تقدم ص 292.

{ومآ أمرنا إلا واحدة} يعني ما أمرنا فيما نريد أن يكون {إلا واحدة} أي: إلا مرة واحدة، بدون تكرار {كلمح بالبصر} بدون تأخر - سبحان الله - أمر الله - عز وجل - واحدة لا تكرار، بسرعة فورية أسرع ما يمكن أن يكون كلمح للبصر، كن فيكون، واشتهر عند العوام يقولون: يا من أمره بين الكاف والنون، وهذا غلط ليس أمر الله بين الكاف والنون، بل بعد الكاف والنون، لأن الله قال: كن فيكون، بعد كن، فقولهم بين الكاف والنون غلط لأنه لا يتم الأمر بين الكاف والنون، بل لا يتم الأمر إلا بالكاف والنون، أي بعد الكاف والنون فوراً كلمح بالبصر، وإن شئت أن ترى عجائب ذلك فانظر إلى الزلازل تصيب مئات القرى، أو آلاف القرى وبلحظة واحدة تعدمها، لو جاءت المعاول والدركترات والقنابل ما فعلت مثل فعل لحظة واحدة من أمر الله - عز وجل -، واسأل الخبراء بالزلازل تجد الجواب، وانظر إلى ما هو أعظم من ذلك، الموتى في قبورهم، والحشرات والحيوانات وكل الأشياء تبعث يوم القيامة بكلمة واحدة، كما قال - جل وعلا -: {إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم جميع لدينا محضرون} صيحة واحدة فقط، {فإذا هم جميع} ، كلهم {لدينا} أي عندنا {محضرون} فصدق الله - عز وجل - وعده {ومآ أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} مثل لمح البصر. {ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر} الخطاب لكفار قريش، وقوله: {أشياعكم فهل من مدكر} أي: أشباهكم من الكفار السابقين، وقد قص الله - سبحانه وتعالى - في هذه السورة من

نبئهم ما فيه عبرة وعظة، قص علينا ما حصل لقوم نوح، وما حصل لعاد، ولثمود، ولقوم لوط، ولآل فرعون، وفي هذا مدكر لمن أراد الادكار، ولهذا قال: {فهل من مدكر} ، يعني هل من متعظ ومعتبر بما جرى على السابقين أن يجري على اللاحقين، لأن الله سبحانه وتعالى ليس بينه وبين عباده محاباة أو نسب، بل أكرمهم عند الله أتقاهم له من أي جنس كان، وفي أي مكان كان، وفي أي زمان كان، كما قال الله - تبارك وتعالى -: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ثم قال الله - عز وجل -: {وكل شيء فعلوه في الزبر} كل مبتدأ {في الزبر} خبره، وليس هذا من باب الاشتغال، بل هو خبر محض، لأن (كل) لا يمكن أن تكون مفعولاً لفعلوه، بل هي مبتدأ، {وكل شيء فعلوه} أي: فعلته الأمم السابقة، أو الأمم اللاحقة، فإنه مكتوب {في الزبر} أي في الكتب، وكتابة الأعمال كتابة سابقة، وكتابة لاحقة. والكتابة السابقة كتابة على أن هذا سيفعل كذا، وهذه الكتابة لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، لأن المرء لم يكلف بها بعد، وكتابة لاحقة وهي كتابة أنه فعل، فإذا فعل الإنسان حسنة كتبها الله، وإذا فعل سيئة كتبها الله، وهذه الكتابة اللاحقة هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، وبما قررناه يزول الإشكال عند بعض الناس في قول الله تبارك وتعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} فإن بعض الناس قد يشكل عليه هذه الآية، كيف يقول - عز وجل - {حتى نعلم} وهو

قد علم؟ فيقال: {حتى نعلم} يعني العلم الذي يترتب عليه الثواب، وأما علم الله السابق فإنه لا يترتب عليه الثواب ولا العقاب. والكتابة السابقة معناها أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، كما جاء في الحديث الصحيح: «أن الله لما خلق القلم قال له: اكتب، قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة» (¬1) . فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، نؤمن بهذا، قال الله تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأَرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير} . وقال - عز وجل -: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأَرض يرثها عبادي الصالحون} أما الكتابة اللاحقة فهي أن الله سبحانه وتعالى إذا عمل الإنسان عملاً كتبه، قال الله تعالى: {كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين} وهذه الكتابة هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، {وكل شيء فعلوه في الزبر} ، ومعنى الآية: أن كل شيء يفعله الإنسان فإنه مكتوب، فلا تظن أنه يضيع عليك شيء أبداً، كما قال عز وجل: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا} . سبحان الله، بعد ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة ن والقلم (رقم 3319) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

مئات السنين التي لا يعلمها إلا الله يجدونه حاضراً، لا يظلم ربك أحداً، {وكل صغير وكبير مستطر} ، كل صغير وكبير مما يحدث في هذا الكون من المخلوقات، وأوصافها، وأعمالها، {مستطر} ، أي: مسطر في الكتاب العزيز، اللوح المحفوظ، كل صغير وكبير حتى الشوكة يشاكها الإنسان تكتب، حتى ما يزن مثقال ذرة من الأعمال يكتب، كل صغير وكبير، وإذا آمنت بذلك ويجب عليك أن تؤمن به، فإنه يجب عليك الحذر من المخالفة، فإياك أن تخالف بقولك، أو فعلك، أو تركك، لأن كل شيء مكتوب، قال الله - عز وجل -: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وما يفعل من فعل كذلك لديه رقيب عتيد، لأنه إذا كانت الأقوال تكتب وهي أكثر بآلاف المرات من الأفعال، فما تنطق به لا يحصى، فإذا كانت الأقوال تكتب، فالأفعال من باب أولى، فعليك أن تتقي الله - عز وجل - ولا تخالف الله، إذا سمعت الله يقول خبراً، فقل: آمنت به وصدقت، وإذا سمعت الله يقول شيئاً أمراً، فقل: آمنت به سمعاً وطاعة، نهياً آمنت به، وسمعاً وطاعة. فاترك المنهي عنه، وافعل المأمور به، {إن المتقين في جنات ونهر} هذا مقابل قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم} {إن المتقين في جنات ونهر} الجنات جمع جنة، وقد ذكر الله تعالى أصنافها في سورة الرحمن فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ثم قال: {ومن دونهما جنتان} فهي إذن أربع ذكرها الله في سورة الرحمن، إذاً {في جنات} يعني في هذه الجنات الأربع، هذه الأصناف لكن أنواعها

كثيرة، والجنات نفسرها بأنها شرعاً هي: (الدار التي أعدها الله للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ، لكن عندما تقرأ قول الله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} تفسر الجنة بأنها البستان الكثير الأشجار، وعندما تقرأ: {كلتا الجنتين آتت أكلها} تفسر بأنها بستان كثير الأشجار، لكن لا تفسر جنة النعيم في الآخرة بهذا التفسير، لأنك إن فسرتها بهذا التفسير قلَّت الرغبة فيها وهبطت عظمتها في قلوب الناس، لكن قل: هي الدار التي أعدها الله لأوليائه، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سكانها خير البشر، النبيون، والصديقون، والشهداء والصالحون، حتى تحفز النفوس على العمل لها، وحتى لا يتصور الجاهل أن ما فيها كأمثال ما في الدنيا وقوله: {ونهر} يعني بذلك الأنهار، وذكر الله تعالى أصنافها أربعة في سورة القتال: {أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} . أما المكان: {في مقعد صدق عند مليك} يعني في مقعد صدق ليس فيه كذب لا في الخبر عنه ولا في وصفه، كله حق وعند من؟ {عند مليك مقتدر} وهو الله جل وعلا، - اللهم اجعلنا منهم - عند مليك مقتدر، يتنعمون بلذة النظر إلى الله - عز وجل - وهو أنعم ما يكون لأهل الجنة، قال الله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، وقال تعالى {وجوه يومئذ ناضرة} يعني حسنة بهية يكسوها الله تعالى نضراً، أي: حسناً وجمالاً وبهاءً؛ لتكون مستعدة للنظر إلى الله - عز وجل -

{إلى ربها ناظرة} ثم ينظرون إلى الله فيزدادون حسناً إلى حسنهم، ولهذا إذا رجعوا إلى أهلهم، قال لهم أهلوهم: إنكم ازددتم بعدنا حسناً بالنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى (¬1) ، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا أن تجعلنا من هؤلاء بمنك وكرمك، إنك على كل شيء قدير. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم الجمال (رقم 2833) .

تفسير سورة الرحمن

تفسير سورة الرحمن {بسم الله الرحمن الرحيم} البسملة تقدم الكلام عليها، {الرحمن علم القرءان خلق الإنسان علمه البيان} {الرحمن} مبتدأ، وجملة {علم القرءان} خبر، {خلق الإنسان} خبر ثان، {علمه البيان} خبر ثالث، والمعنى أن هذا الرب العظيم، الذي سمى نفسه بالرحمن تفضل على عباده بهذه النعم، والرحمن هو ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء، كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} . وابتدأ هذه السورة بالرحمن عنواناً على أن ما بعده كله من رحمة الله تعالى، ومن نعمه {علم القرءان} أي: علمه من شاء من عباده، فعلمه جبريل عليه السلام أولاً، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً، ثم بلغه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثالثاً إلى جميع الناس، والقرآن هو هذا الكتاب العزيز الذي أنزله الله تعالى باللغة العربية، كما قال الله تعالى: {إنا جعلناه قرءاناً عربياً لعلكم تعقلون} وقال تعالى: {نزل به الروح الأَمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} وتعليم القرآن يشمل تعليم لفظه، وتعليم معناه، وتعليم كيف العمل به، فهو يشمل ثلاثة أشياء، {خلق الإنسان} المراد الجنس، فيشمل آدم وذريته، أي: أوجده من العدم، فالإنسان كان معدوماً قبل وجوده، وقبل خلقه، قال الله - عز وجل -: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً

مذكوراً} يعني أتى عليه حين من الدهر قبل أن يوجد، وليس شيئاً مذكوراً ولا يعلم عنه، وبدأ الله تعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان وإلا فمن المعلوم أن خلق الإنسان سابق على تعليم القرآن، لكن لما كان تعليم القرآن أعظم منة من الله - عز وجل - على العبد قدمه على خلقه {علمه} أي: علم الإنسان {البيان} ، أي: ما يبين به عما في قلبه، وأيضاً ما يستبين به عند المخاطبة، فهنا بيانان: البيان الأول من المتكلم، والبيان الثاني من المخاطب، فالبيان من المتكلم يعني التعبير عما في قلبه، ويكون باللسان نطقاً، ويكون بالبنان كتابة، فعندما يكون في قلبك شيء تريد أن تخبر به، تارة تخبر به بالنطق، وتارة بالكتابة، كلاهما داخل في قوله {علمه البيان} ، وأيضاً {علمه البيان} كيف يستبين الشيء وذلك بالنسبة للمخاطب يعلم ويعرف وما يقول صاحبه، ولو شاء الله تعالى لأسمع المخاطب الصوت دون أن يفهم المعنى فالبيان سواء من المتكلم، أو من المخاطب كلاهما منة من الله - عز وجل - فهذه ثلاث نعم: {علم القرءان خلق الإنسان علمه البيان} . {الشمس والقمر بحسبان} لما تكلم عن العالم السفلي بين العالم العلوي فقال: {الشمس والقمر بحسبان} أي: بحساب دقيق معلوم متقن منتظم أشد الانتظام، يجريان كما أمرهما الله - عز وجل - ولم تتغير الشمس والقمر منذ خلقهما الله

عز وجل إلى أن يفنيهما يسيران على خط واحد، كما أمرهما الله، وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى، وكمال سلطانه، وكمال علمه أن تكون هذه الأجرام العظيمة تسير سيراً منظماً، لا تتغير على مدى السنين الطوال، {والنجم والشجر يسجدان} النجم اسم جنس، والمراد به النجوم تسجد لله - عز وجل - فهذه النجوم العليا التي نشاهدها في السماء تسجد لله - عز وجل - سجوداً حقيقياً، لكننا لا نعلم كيفيته، لأن هذا من الأمور التي لا تدركها العقول، والشجر يسجد لله عز وجل سجوداً حقيقياً، لكن لا ندري كيف ذلك، والله على كل شيء قدير، وانظر إلى الأشجار إذا طلعت الشمس تتجه أوراقها إلى الشمس تشاهدها بعينك، وكلما ارتفعت، ارتفعت الأشجار، وإذا مالت للغروب مالت، لكن هذا ليس هو السجود، إنما السجود حقيقة لا يُعلم، كما قال - عز وجل -: {تسبح له السماوات السبع والأَرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليمًا غفورًا} فالنجوم كلها تسجد لله، والأشجار كلها تسجد لله - عز وجل - قال الله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأَرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} ويقابله، {وكثير حق عليه العذاب} فلا يسجد - والعياذ بالله - {والسماء رفعها} يعني ورفع السماء ولم يحدد في القرآن الكريم مقدار هذا الرفع، لكن جاءت السنة بذلك، فهي رفيعة عظيمة ارتفاعاً عظيماً شاهقاً، {ووضع الميزان} أي: وضع العدل، والدليل على أن المراد بالميزان هنا العدل قوله تعالى: {لقد

أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} يعني العدل، وليس المراد بالميزان هنا الميزان ذا الكفتين المعروف ولكن المراد بالميزان العدل، ومعنى وضع الميزان أي أثبته للناس، ليقوموا بالقسط أي بالعدل {ألا تطغوا في الميزان} يعني ألا تطغوا في العدل، يعني وضع العدل لئلا تطغوا في العدل فتجوروا، فتحكم للشخص وهو لا يستحق، أو على الشخص وهو لا يستحق، {وأقيموا الوزن بالقسط} ، يعني وزنكم للأشياء، أقيموه ولا تبخسوه فتنقصوا، لهذا قال: {ولا تخسروا الميزان} أي لا تخسروا الموزون، فصار الميزان يختلف في مواضعه الثلاثة: {ووضع الميزان} أي: العدل {ألا تطغوا في الميزان} لا تجوروا في الوزن {ولا تخسروا الميزان} أي: الموزون. {والأَرض وضعها للأَنام} يعني: أن من نعم الله - عز وجل - أن الله وضع الأرض للأنام أي: أنزلها بالنسبة للسماء، والأنام هم الخلق، ففيها الإنس، وفيها الجن، وفيها الملائكة، تنزل بأمر الله - عز وجل - من السماء، وإن كان مقر الملائكة في السماء لكن ينزلون إلى الأرض، مثل الملكين اللذين عن اليمين وعن الشمال قعيد، والملائكة الذين يحفظون من أمر الله المعقبات، والملائكة الذين ينزلون في ليلة القدر وغير ذلك، {فيها} ، أي في الأرض {فاكهة} أي: ثمار يتفكه بها الناس، وأنواع الفاكهة كثيرة، كالعنب والرمان والتفاح والبرتقال وغيرها {والنخل ذات الأَكمام} نص على النخل، لأن ثمرتها أفضل

الثمار فهي حلوى وغذاء وفاكهة، وشجرتها من أبرك الأشجار وأنفعها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم شبه النخلة بالمؤمن فقال: «إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن» ، فخاض الصحابة - رضي الله عنهم - في الشجر حتى أخبرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها النخلة (¬1) وقوله: {ذات الأَكمام} جمع كم وهو غلاف الثمرة، فإن ثمرة النخل أول ما تخرج يكون عليها كم قوي، ثم تنمو في ذلك الكم حتى يتفطر وتخرج الثمرة، {والحب ذو العصف} الحب يعني الذي يؤكل من الحنطة والذرة والدخن والأرز وغير ذلك، وقوله: {ذو العصف} يعني ما يحصل من ساقه عند يبسه وهو ما يعرف بالتبن؛ لأنه يعصف أي تطؤه البهائم بأقدامها حتى ينعصف، {والريحان} هذا الشجر ذو الرائحة الطيبة، فذكر الله في الأرض الفواكه، والنخل، والحب، والريحان، لأن كل واحد من هذه الأربع له اختصاص يختص به، وكل ذلك من أجل مصلحة العباد ومنفعتهم {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} الخطاب للجن والإنس، والاستفهام للإنكار، أي: أي نعمة تكذبون بها {خلق الإنسان من صلصال كالفخار} خلق الإنسان يعني جنسه من صلصال، والصلصال هو الطين اليابس الذي له صوت، عندما تنقره بظفرك يكون له صوت كالفخار، هو الطين المشوي، وهذا باعتبار خلق آدم عليه السلام، فإن الله خلقه من تراب، من طين، من صلصال كالفخار، من حمأ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا (رقم 61) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب مثل المؤمن مثل النخلة (رقم 2811) ..

مسنون، كل هذه أوصاف للتراب ينتقل من كونه تراباً، إلى كونه طيناً، إلى كونه حمأ، إلى كونه صلصالاً، إلى كونه كالفخار، حتى إذا استتم نفخ الله فيه من روحه فصار آدمياً، {وخلق الجآن} وهم الجن {من مارج من نار} ، المارج هو المختلط الذي يكون في اللهب إذا ارتفع صار مختلطاً بالدخان، فيكون له لون بين الحمرة والصفرة، فهذا هو المارج من نار، والجان، خلق قبل الإنس، ولهذا قال إبليس لله - عز وجل -: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} أي: بأي نعمة من نعم الله تكذبون، حيث خلق الله - عز وجل - الإنسان من هذه المادة، والجن من هذه المادة، وأيهما خير التراب أم النار؟ التراب خير، لا شك فيه، ومن أراد أن يطلع على ذلك فليرجع إلى كلام ابن القيم - رحمه الله - في كتاب «إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان» {رب المشرقين ورب المغربين} يعني هو رب، فهي خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو رب المشرقين ورب المغربين، يعني أنه مالكهما ومدبرهما، فما من شيء يشرق إلا بإذن الله، ولا يغرب إلا بإذن الله وما من شيء يحوزه المشرق والمغرب إلا لله - عز وجل - وثنى المشرق هنا باعتبار مشرق الشتاء ومشرق الصيف، فالشمس في الشتاء تشرق من أقصى الجنوب، وفي الصيف بالعكس، والقمر في الشهر الواحد يشرق من أقصى الجنوب ومن أقصى الشمال، وفي آية أخرى قال الله تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} فجمعها، وفي آية ثالثة {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} فما

الجمع بينها؟ نقول: أما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف، أما جمع المغارب والمشارق فباعتبار مشرق كل يوم ومغربه، لأن الشمس كل يوم تشرق من غير المكان الذي أشرقت منه بالأمس، فالشمس يتغير شروقها وغروبها كل يوم، ولاسيما عند تساوي الليل والنهار، فتجد الفرق دقيقة، أو دقيقة ونصفاً بين غروبها بالأمس واليوم، وكذلك الغروب، أو باعتبار الشارقات والغاربات، لأنها تشمل الشمس والقمر والنجوم، وهذه لا يحصيها إلا الله - عز وجل -، أما قوله: {رب المشرق والمغرب} فباعتبار الناحية، لأن النواحي أربع: مشرق، ومغرب، وشمال، وجنوب، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} أي: بأي شيء من نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس؟ فما جوابنا على هذه الاستفهامات بهذه الآيات كلها؟ جوابنا: ألا نكذب بشيء من آلائك يا ربنا، ولهذا ورد حديث في إسناده ضعف عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن، ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد» . لكن هذا الحديث ضعيف (¬1) ، يذكره المفسرون هنا، وكل آية أعقبت {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} فهي تتضمن نعماً عظيمة، فما النعم التي يتضمنها اختلاف المشرق ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الرحمن (3291) وقال: هذا حديث غريب.

والمغرب؟ النعم ما يترتب على ذلك من مصالح الخلق: صيفاً، وشتاء، ربيعاً، وخريفاً، وغير ذلك مما لا نعلم، فهي نعم عظيمة باختلاف المشرق والمغرب، ثم قال سبحانه وتعالى: {مرج البحرين يلتقيان} مرج بمعنى أرسل البحرين، يعني المالح والعذب {يلتقيان} ، يلتقي بعضهما ببعض، البحر المالح هذه البحار العظيمة، البحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر الأطلسي، وهذه البحار كلها مالحة، وجعلها الله تبارك وتعالى مالحة، لأنها لو كانت عذبة لفسد الهواء وأنتنت، لكن الملح يمنع الإنتان والفساد، والبحر الآخر البحر العذب وهو الأنهار التي تأتي: إما من كثرة الأمطار، وإما من ثلوج تذوب وتسيح في الأرض، فالله سبحانه وتعالى أرسلهما بحكمته وقدرته حيث شاء - عز وجل - {يلتقيان} أي: يلتقي بعضهما ببعض عند مصب النهر في البحر فيمتزج بعضهما ببعض، لكن حين سيرهما أو حين انفرادهما، يقول الله - عز وجل -: {بينهما برزخ} وهو اليابس من الأرض {لا يبغيان} أي: لا يبغي أحدهما على الآخر، ولو شاء الله تعالى لسلط البحار ولفاضت على الأرض وأغرقت الأرض، لأن البحر عندما تقف على الساحل لا تجد جداراً يمنع انسيابه إلى اليابس مع أن الأرض كروية، ومع ذلك لا يسيح البحر لا هاهنا، ولا هاهنا بقدرة الله عز وجل، ولو شاء الله - سبحانه وتعالى - لساحت مياه البحر على اليابس من الأرض ودمرتها، إذن البرزخ الذي بينهما هو اليابس من الأرض هذا قول علماء الجغرافيا، وقال بعض أهل العلم: بل البرزخ أمر معنوي يحول

بين المالح والعذب أن يختلط بعضهما ببعض، وقالوا: إنه يوجد الآن في عمق البحار عيون عذبة تنبع من الأرض، حتى إن الغواصين يغوصون إليها ويشربون منها كأعذب ماء، ومع ذلك لا تفسدها مياه البحار، فإذا ثبت ذلك فلا مانع من أن نقول بقول علماء الجغرافيا وقول علماء التفسير، والله على كل شيء قدير {فبأي ءالآء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} أي: يخرج من البحرين العذب والمالح اللؤلؤ والمرجان، وهو قطع من اللؤلؤ أحمر جميل الشكل واللون مع أنها مياه، وقوله تعالى: {منهما} أضاف الخروج إلى البحرين العذب والمالح، وقد قيل: إن اللؤلؤ لا يخرج إلا من المالح ولا يخرج من العذب، والذين قالوا بهذا اضطربوا في معنى الآية، كيف يقول الله {منهما} وهو من أحدهما؟ فأجابوا: بأن هذا من باب التغليب، والتغليب أن يغلب أحد الجانبين على الآخر، مثلما يقال: العمران، لأبي بكر وعمر، ويقال: القمران، للشمس والقمر، فهذا من باب التغليب، فـ {منهما} المراد واحد منهما، وقال بعضهم: بل هذا على حذف مضاف، والتقدير: يخرج: من أحدهما، وهناك قول ثالث: أن تبقى الآية على ظاهرها لا تغليب ولا حذف، ويقول {منهما} أي: منهما جميعاً يخرج اللؤلؤ والمرجان، وإن امتاز المالح بأنه أكثر وأطيب. فبأي هذه الأقوال الثلاثة، نأخذ؟ نأخذ بما يوافق ظاهر القرآن، فالله - عز وجل - يقول: {يخرج منهما} وهو خالقهما وهو يعلم ماذا يخرج منهما، فإذا كانت الآية ظاهرها أن اللؤلؤ يخرج

منهما جميعاً وجب الأخذ بظاهرها، لكن لا شك أن اللؤلؤ من الماء المالح أكثر وأطيب، لكن لا يمنع أن نقول بظاهر الآية، بل يتعين أن نقول بظاهر الآية، وهذه قاعدة في القرآن والسنة: إننا نحمل الشيء على ظاهره، ولا نؤول، اللهم إلا لضرورة، فإذا كان هناك ضرورة، فلابد أن نتمشى على ما تقتضيه الضرورة، أما بغير ضرورة فيجب أن نحمل القرآن والسنة على ظاهرهما {فبأي ءالاء ربكما تكذبان} لأن ما في هذه البحار وما يحصل من المنافع العظيمة، نِعم كثيرة لا يمكن للإنسان أن ينكرها أبداً. {وله الجوار المنشئات في البحر كالأَعلام} أي لله - عز وجل - ملكاً وتدبيراً وتيسيراً {الجوار} بحذف الياء للتخفيف، وأصلها الجواري جمع جارية، وهي السفينة تجري في البحر كما قال الله - عز وجل -: {ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمت الله} {المنشئات} أي: التي أنشأها صانعوها ليسيروا عليها في البحر، وقوله: {في البحر} متعلق بالجواري أي الجواري في البحر، وليست فيما يظهر متعلقة بالمنشآت، يعني الجواري التي تصنع في البحر، لأن السفن تصنع في البر أولاً، ثم تنزل في البحر، وقوله: {كالأَعلام} تشبيه، والأعلام جمع علم وهو الجبل، كما قال الشاعر: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار كأنه جبل، ومن شاهد السفن في البحار رأى أن هذا التشبيه منطبق تماماً عليها، فهي كالجبال تسير في البحر بأمر الله - عز وجل -، وإنما نص الله عليها لأنها تحمل الأرزاق من جانب إلى

جانب، ولولا أن الله تعالى يسرها لكان في ذلك فوات خير كثير للبلاد التي تنقل منها والبلاد التي تنقل إليها، وفي هذا العصر جعل الله تبارك وتعالى جواري أخرى، لكنها تجري في الجو، كما تجري هذه في البحر، وهي الطائرات، فهي منة من الله - عز وجل - كمنته على عباده في جواري البحار، بل ربما نقول: إن السيارات أيضاً من جواري البر، فتكون الجواري ثلاثة أصناف: بحرية، وبرية، وجوية، وكلها من نعم الله - عز وجل -، ولهذا قال: {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} أي بأي: نعمة من نعم الله تكذبان، والخطاب للإنس والجن، ثم قال - عز وجل -: {كل من عليها} أي: كل من على الأرض {فان} أي: ذاهب من الجن والإنس والحيوان والأشجار، قال الله تبارك وتعالى: {إنا جعلنا ما على الأَرض زينةً لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} أي: خالية، وقال الله تعالى: {ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً} أي: يذر الأرض قاعاً صفصفاً، أو يذر الجبال بعد أن كانت عالية شامخة قاعاً كالقيعان مساوية لغيرها، صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} أي: يبقى الله - عز وجل - ذو الوجه الكريم، وكان بعض السلف إذا قرأ هاتين الآيتين وصل بعضهما ببعض، قال: ليتبين بذلك كمال الخالق ونقص المخلوق (¬1) ؛ لأن المخلوق فانٍ والرب باقٍ، وهذه الملاحظة ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير رحمه الله سورة الرحمن حيث نسبه للشعبي رحمه الله..

جيدة أن تصل فتقول: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وهذا هو محط الثناء والحمد على الله - عز وجل - أن تفنى الخلائق ويبقى الله - عز وجل - وقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} فيه إثبات الوجه لله - سبحانه وتعالى - ولكنه وجه لا يشبه أوجه المخلوقين، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} يعني أنت تؤمن بأن لله وجهاً، لكن يجب أن تؤمن بأنه لا يماثل أوجه المخلوقين بأي حال من الأحوال، لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ولما ظن بعض أهل التعطيل أن إثبات الوجه يستلزم التمثيل أنكروا أن يكون لله وقالوا: المراد بقوله {ويبقى وجه ربك} أي ثوابه، أو أن كلمة {وجه} زائدة، وأن المعنى: ويبقى ربك! ولكنهم ضلوا سواء السبيل، وخرجوا عن ظاهر القرآن وحرفوه وخرجوا عن طريق السلف الصالح، ونحن نقول: إن لله وجهاً، لإثباته له في هذه الآية، ولا يماثل أوجه المخلوقين لنفي المماثلة في قوله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وبذلك نسلم ونجري النصوص على ظاهرها، المراد بها، وقوله: {ذو الجلال} أي: ذو العظمة {والإكرام} أي: إكرام من يطيع الله - عز وجل - كما قال تعالى: {أولئك في جنات مكرمون} فالإكرام أي أنه يكرم من يستحق الإكرام من خلقه، ويحتمل أن يكون لها معنى آخر وهو أنه يُكْرَم من أهل العبادة من خلقه، فيكون الإكرام هذا المصدر صالحاً للمفعول والفاعل، فهو مكرَم ومكرِم {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} وهذه الآية تكررت عدة مرات في هذه

السورة، ومعناها أنه بأي نعمة من نعم الله تكذبان يا معشر الجن والإنس، وهذا كالتحدي لهم، لأنه لن يستطيع أحد أن يأتي بمثل هذه النعم، ثم قال سبحانه وتعالى: {يسأله من في السماوات والأَرض كل يوم هو في شأن} أي: يسأل الله من في السماوات والأرض، والذي في السماوات هم الملائكة يسألون الله - عز وجل - ومن سؤالهم أنهم {ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} إلى آخره، ويسأله من في الأرض من الخلائق، وسؤال أهل الأرض لله - عز وجل - قسمان: الأول: السؤال بلسان المقال، وهذا إنما يكون من المؤمنين، فالمؤمن يسأل ربه دائماً حاجاته، لأنه يعلم أنه لا يقضيها إلا الله - عز وجل - وسؤال المؤمن ربه عبادة، سواء حصل مقصوده أم لم يحصل، فإذا قلت: يا رب أعطني كذا. فهذه عبادة، كما جاء في الحديث: «الدعاء عبادة (¬1) » . وقال تعالى {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} فقال {ادعوني} ثم قال: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} وهذا دليل على أن الدعاء عبادة، النوع الثاني: دعاء بلسان الحال، وهو أن كل مخلوق مفتقر إلى الله ينظر إلى رحمته، فالكفار مثلاً ينظرون إلى الغيث النازل من السماء، وإلى نبات الأرض، وإلى صحة الحيوان، وإلى كثرة الأرزاق وهم يعلمون إنهم لا ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة (2969) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

يستطيعون أن يجدوا ذلك بأنفسهم، فهم إذن يسألون الله بلسان الحال، ولذلك إذا مستهم ضراء اضطروا إلى سؤال الله بلسان المقال {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} . {كل يوم هو في شأن} من يحصي الأيام؟ لا أحد إلا الله - عز وجل - ومن يحصي الشهور؟ لا أحد إلا الله - عز وجل - {كل يوم هو في شأن} ، يغني فقيراً، ويفقر غنيًّا، ويمرض صحيحاً، ويشفي سقيماً، ويؤمّن خائفاً ويخوف آمناً، وهلم جرا، كل يوم يفعل الله تعالى ذلك، هذه الشئون التي تتبدل عن حكمة ولا شك، قال الله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} وقال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدًى} فنحن نؤمن أن الله لا يقدر قدراً إلا لحكمة، لكن قد نعلم هذه الحكمة وقد لا نعلم، ولهذا قال: {كل يوم هو في شأن} ، ولكن اعلم أيها المؤمن أن الله تعالى لا يقدر لك قدراً إلا كان خيراً لك، إن أصابتك ضراء فاصبر وانتظر الفرج، وقل: الحمد لله على كل حال. وكما يقال: دوام الحال من المحال، فينتظر الفرج فيكون خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس هذا لأحد إلا للمؤمن {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} نقول فيها ما قلنا في الآيات السابقة أن المعنى بأي نعمة من نعم الله تكذبان؟ والجواب: لا نكذب بشيء من نعم الله، بل نقول: هي من عند الله، فله الحمد وله الشكر، ومن نسب النعمة إلى غير الله فهو مكذب. وإن لم يقل إنه مكذب قال الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} وهذه الآية يعني بها قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث

أصحابه على إثر مطر كان، قال لهم بعد صلاة الصبح: «هل تدرون ماذا قال ربكم» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب» (¬1) . {سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي ءالآء ربكما تكذبان} هذه الجملة المقصود بها الوعيد، كما يقول قائل لمن يتوعده سأتفرغ لك، وأجازيك. وليس المعنى أن الله تعالى يشغله شأن عن شأن ثم يفرغ من هذا، ويأتي إلى هذا، هو سبحانه يدبر كل شيء في آن واحد في مشارق الأرض ومغاربها وفي السماوات، وفي كل مكان يدبره في آن واحد، ولا يعجزه. فلا تتوهمن أن قوله: {سنفرغ} أنه الآن مشغول وسيفرغ. بل هذه جملة وعيدية تعبر بها العرب، والقرآن الكريم نزل بلغة العرب وفي قوله: {سنفرغ لكم} من التعظيم ما هو ظاهر حيث أتى بضمير الجمع، {سنفرغ} تعظيماً لنفسه - جل وعلا - وإلا فهو واحد، وقوله: {أيها الثقلان} يعني الجن والإنس، وإنما وجه هذا الوعيد إليهما، لأنهما مناط التكليف، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} سبق تفسيرها فلا حاجة إلى التكرار {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأَرض فانفذوا} بعد الوعيد قال: {إن استطعتم أن تنفذوا} أي: مما نريده بكم {من أقطر السماوات والأَرض ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم (846) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (71) .

فانفذوا} ولكنكم لا تستطيعون هذا، فالأمر هنا للتعجيز، ولهذا قال: {لا تنفذون إلا بسلطان} يعني ولا سلطان لكم، ولا يمكن أحد أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض إلى أين يذهب؟ لا يمكن ثم قال: {فبأي ءالآء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار} يعني لو استطعتم، أو لو حاولتم لكان هذا الجزاء {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس} أي: محمى بالنار {فلا تنتصران} أي: فلا ينصر بعضكم بعضاً، وهذه الآية في مقام التحدي، وقد أخطأ غاية الخطأ من زعم أنها تشير إلى ما توصل إليه العلماء من الطيران، حتى يخرجوا من أقطار الأرض ومن جاذبيتها، وإلى أن يصلوا كما يزعمون إلى القمر أو إلى ما فوق القمر، فالآية ظاهرة في التحدي، والتحدي هو توجيه الخطاب إلى من لا يستطيع، ثم نقول: إن هؤلاء هل استطاعوا أن ينفذوا من أقطار السماوات، لو فرضنا أنهم نفذوا من أقطار الأرض ما نفذوا من أقطار السماوات، فالآية واضحة أنها في مقام التحدي، وأنها لا تشير إلى ما زعم هؤلاء أنها تشير إليه، ونحن نقول الشيء الواقع لا نكذبه، ولكن لا يلزم من تصديقه أن يكون القرآن دل عليه أو السنة، الواقع واقع، فهم خرجوا من أقطار الأرض، وهذا واقع لا يحتاج إلى دليل، وهذه الآية في سياقها إذا تأملتها وجدت أن هذا التحدي يوم القيامة، لأنه قال: {كل من عليها فان} ، ثم ذكر {يسأله من في السماوات والأَرض} ثم ذكر {يا معشر الجن} ، ثم ذكر ما بعدها يوم القيامة، {فإذا انشقت السماء} يعني تفتحت وذلك يوم القيامة، كما قال تعالى: {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض

مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت ... أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} {فكانت وردةً} أي: مثل الوردة في الحمرة {كالدهان} ، كالجلد المدهون، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} {فيومئذ} أي: إذا انشقت {لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جآن} لماذا؟ لأن كل شيء معلوم، والمراد لا يسأل سؤال استرشاد واستعلام، لأن كل شيء معلوم، أما سؤال تبكيت فيسأل مثل قوله تعالى: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأَنباء يومئذ فهم لا يتساءلون} وقال - عز وجل -: {إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} وقال - عز وجل - لأهل النار وهم يلقون فيها: {أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} وأمثالها كثير، إذن لا يسأل عن ذنبه سؤال استرشاد واستعلام، وإنما يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ، وما جاء من سؤال الإنس والجن عن ذنوبهم: هل أنت عملت أو لم تعمل؟ فهو سؤال تبكيت وتوبيخ، وهناك فرق بين سؤال الاسترشاد وسؤال التوبيخ فلا تتناقض الآيات، فما جاء أنهم يسألون فهو سؤال توبيخ، وما جاء أنهم لا يسألون فهو سؤال استرشاد واستعلام، لأن الكل معلوم ومكتوب، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم} أي: بعلامتهم يعرفون، ومن علاماتهم - والعياذ بالله - أنهم سود الوجوه، قال الله تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} وأنهم يحشرون يوم القيامة زرقاً إما أنهم زرق أحياناً وسود أحياناً، وإما أنهم سود الوجوه زرق العيون، وإما

أنهم زرق زرقة يعني بالغة يحسبها الإنسان سوداء {يعرف المجرمون بسيمهم فيؤخذ بالنواصي والأَقدام} النواصي مقدم الرأس، والأقدام معروفة، فتؤخذ رجله إلى ناصيته، هكذا يطوى طيًّا إهانة له وخزياً له، فيؤخذ بالنواصي والأقدام، ويلقون في النار {فبأي ءالآء ربكما تكذبان هذه جهنم التى يكذب بها المجرمون} يعني يقال هذه جهنم التي تكذبون بها، وقال {المجرمون} ولم يقل: تكذبون بها، إشارة إلى أنهم مجرمون، وما أعظم جرم الكفار الذين كفروا بالله ورسوله، واستهزؤا بآيات الله واتخذوها هزواً ولعباً، {يطوفون بينها} أي: يترددون بينها {وبين حميم ءان} أي: شديد الحرارة - والعياذ بالله -. أما كيف يكون ذلك فالله أعلم، لكننا نؤمن بأنهم يطوفون بينها وبين الحميم الحار الشديد الحرارة، والله أعلم بذلك، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} ، ثم ذكر جزاء أهل الجنة فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} يعني أن من خاف المقام بين يدي الله يوم القيامة، فإن له جنتين. وهذا الخوف يستلزم شيئين: الشيء الأول: الإيمان بلقاء الله - عز وجل - لأن الإنسان لا يخاف من شيء إلا وقد تيقنه. والثاني: أن يتجنب محارم الله، وأن يقوم بما أوجبه الله خوفاً من عقاب الله تعالى، فعليه يلزم كل إنسان أن يؤمن بلقاء الله - عز وجل -، لقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} وقال تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} ، وأن يقوم بما أوجبه الله، وأن يجتنب محارم الله فمن خاف هذا المقام بين يدي الله - عز وجل - فله جنتان {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} سبق الكلام عليها {ذواتآ

أفنان} أي صاحبتا أفنان، والأفنان جمع فنن وهو الغصن، أي أنهما مشتملتان على أشجار عظيمة ذواتي أغصان كثيرة وهذه الأغصان كلها تبهج الناظرين {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} ، ثم قال {فيهما عينان تجريان} أي: في الجنتين عينان تجريان، وقد ذكر الله تعالى أن في الجنة أنهاراً من أربعة أصناف، فقال - جل وعلا -: {مثل الجنة التى وعد المتقون فيهآ أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} والعينان اللتان تجريان، يظهر - والله أعلم - أنهما سوى هذه الأنهار الأربعة {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} وقوله: {فيهما من كل فاكهة زوجان} أي: في هاتين الجنتين من كل فاكهة، والفاكهة كل ما يتفكه الإنسان به مذاقاً ونظراً، فيشمل أنواع الفاكهة الموجودة في الدنيا، وربما يكون هناك فواكه أخرى ليس لها نظير في الدنيا، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} {متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق وجنى الجنتين دان} أي: يتنعمون بهذه الفاكهة حال كونهم متكئين، وعلى هذا فكلمة متكئين حال من فاعل والفعل المحذوف، أي: يتنعمون ويتفكهون، متكئين، والاتكاء قيل: إنه التربع، لأن الإنسان أريح ما يكون إذا كان متربعاً، وقيل {متكئين} أي: معتمدين على مساند من اليمين والشمال ووراء الظهر {على فرش} يعني جالسين {على فرش بطآئنها من إستبرق} يعني بطانة الفراش وهو ما يدحى به الفراش من استبرق وهو غليظ الديباج، وأما أعلى هذه الفرش فهو من سندس، وهو رقيق الديباج، وكله من الحرير {وجنى الجنتين دان} تأمل أو تصور هذه الحال إنسان متكىء مطمئن

مستريح يريد أن يتفكه من هذه الفواكه هل يقوم من مكانه الذي هو مستقر فيه متكىء فيه ليتناول الثمرة؟ بيّن الله بقوله تعالى ذلك {وجنى الجنتين دان} قال أهل العلم: إنه كلما نظر إلى ثمرة وهو يشتهيها، مال الغصن حتى كانت الثمرة بين يديه لا يحتاج إلى تعب وإلى قيام، بل هو متكىء، ينظر إلى الثمرة مشتهياً إياها، فتتدلى له بأمر الله - عز وجل - مع أنها جماد، لكن الله تعالى أعطاها إحساساً بأن تتدلى عليه إذا اشتهاها ولا تستغرب فهاهي الأشجار في الغالب تستقبل الشمس، انظر إلى وجوه الأوراق أول النهار تجدها متجهة إلى المشرق، وفي آخر النهار تجدها متجهة إلى المغرب ففيها إحساس، كذلك أيضاً جنى الجنتين دان قريب يحس، إذا نظر إليه الرجل أو المرأة فإنه يتدلى حتى يكون بين يديه، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف} {فيهن} أكثر العلماء يقولون: إن الضمير يعود إلى الجنتين، وأن الجمع باعتبار أن لكل واحد من الناس جنة خاصة به، فيكون {فيهن} أي في جنة كل واحد ممن هو في هاتين الجنتين قاصرات الطرف، وعندي أن قوله {فيهن} يشمل الجنات الأربع، هاتين الجنتين، والجنتين اللتين بعدهما، {قاصرات الطرف} يعني أنها تقصر طرفها أي نظرها على زوجها فلا تريد غيره، والوجه الآخر: قاصرات الطرف، أي: أنها تقصر طرف زوجها عليها فلا يريد غيرها، وعلى القول الأول يكون قاصرات مضافة إلى الفاعل، وعلى الثاني مضاف إلى المفعول {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن} أي: لم يجامعهن، وقيل: إن الطمث مجامعة البكر، والمعنى

أنهن أبكار لم يجامعهن أحد من قبل لا إنس ولا جن، وفي هذا دليل واضح على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان} أي: في الحسن والصفاء كالياقوت والمرجان، وهما جوهران نفيسان، الياقوت في الصفاء، والمرجان في الحمرة، يعني أنهن مشربات بالحمرة مع صفاء تام {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} ، ثم قال - عز وجل -: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} يعني ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، الإحسان الأول: العمل، والإحسان الثاني: الثواب، أي: ما جزاء إحسان العمل إلا إحسان الثواب، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان} أي: من دون الجنتين السابقتين جنتان من نوع آخر، وقد جاء ذلك مبيناً في السنة، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما (¬1) » والآية صريحة أن هاتين الجنتين دون الأوليان {فبأي ءالآء ربكما تكذبان مدهآ متان} أي: سوداوان من كثرة الأشجار {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان} أي: تنضخ بالماء، أي: تنبع، وفي الجنتين السابقتين قال: {فيهما عينان تجريان} ، والجري أكمل من النبع، لأن النبع لايزال في مكانه لكنه لا ينضب، أما الذي يجري فإنه يسيح، فهو أعلى وأكمل، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان} وهناك يقول: {فيهما من كل فاكهة زوجان} ، أما هذا فقال {فيهما فاكهة ونخل ورمان} ، والنخل والرمان معروفان في الدنيا، ولكن ¬

(¬1) تقدم ص (124) .

يجب أن تعلم أنه لا يستوي هذا وهذا. الاسم واحد والمسمى يختلف اختلافاً كثيراً، ودليل ذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} ولو كانت النخل والرمان كالنخل والرمان في الدنيا لكنا نعلم، لكننا لا نعلم، فالاسم واحد، ولكن الحقيقة مختلفة، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط» (¬1) ، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان} {فيهن} وهذا جمع، وقد قال قبل ذلك {فيهما} ، لأن هذا الجمع يعود على الجنان الأربع، ففي الجنان الأربع قاصرات الطرف كما سبق، وفي الجنان الأربع {خيرات حسان} أي: في الأخلاق. الأخلاق طيبة، حسان الوجوه والبدن، فالأول حسن الباطن وهذا حسن الظاهر {فبأي ءالآء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام} الحوراء هي الجميلة، التي جملت في جميع خلقها، وبالأخص العين: شديدة البياض، شديدة السواد، واسعة مستديرة من أحسن ما يكون، {مقصورات} أي: مخبئات، {في الخيام} : جمع خيمة، والخيمة معروفة هي بناء له عمود وأروقة، لكن الخيمة في الآخرة ليست كالخيمة في الدنيا، بل هي خيمة من لؤلؤة طولها في السماء مرتفع جداً، ويرى من في باطنها من ظاهرها، ولا تسأل عن حسنها وجمالها، هؤلاء الحور مقصورات مخبئات في هذه الخيام على أكمل ما يكون من الدلال والتنعيم {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن} يعني لم يجامعهن ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (رقم 124) .

أحد، بل هي باقية على بكارتها إلى أن يغشاها زوجها، جعلنا الله منهم، {ولا جآن} أي: ولا جن، وهذا يدل على أن الجن يدخلون الجنة مع الإنس وهو كذلك، لأن الله لا يظلم أحداً، والجن منهم صالحون، ومنهم دون ذلك، ومنهم مسلمون ومنهم كافرون، كالإنس تماماً، كما أن الإنس فيهم مطيع وعاصٍ، وفيهم كافر ومؤمن، كذلك الجن، والجن المسلم فيه خير، ويدل على الخير، وينبىء بالخير، ويساعد أهل الصلاح من الإنس، والجن الفاسق أو الكافر مثل الفاسق أوالكافر من بني آدم سواء بسواء، وكافرهم يدخل النار، بإجماع المسلمين كما في القرآن: {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار} وهذا نص القرآن، وأجمع العلماء على أن الكافر من الجن يدخل النار، ومؤمن الجن يدخل الجنة، وقوله تعالى: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن} يدل على أن الجن يدخلون الجنة، وهو كذلك {فبأي ءالآء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان} أي: معتمدين بأيديهم وظهورهم {على رفرف} أي: على مساند ترفرف مثل ما يكون على أطراف المساند، ويكون في الأسرّة، هكذا يرفرف، {متكئين على رفرف خضر} ، لأن اللون الأخضر أنسب ما يكون للنظر، وأشد ما يكون بهجة للقلب، {وعبقري حسان} ، العبقري هو الفرش الجيدة جداً، ولهذا يسمى الجيد من كل شيء عبقري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية التي رآها حين نزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «فما رأيت عبقرياً يفري فريه» (¬1) أي: ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ?: لو كنت متخذاً خليلاً (3676) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2393) .

ينزع نزعه: من قوته رضي الله عنه، {فبأي ءالآء ربكما تكذبان} المعنى التقرير، يعني أن النعم واضحة فبأي شيء تكذبون؟ الجواب: لا نكذب بشيء، نعترف بآلاء الله ونعمه ونقر بها ونعترف بأننا مقصرون، لم نشكر الله تعالى حق شكره، ولكننا نؤمن بأن الله أوسع من ذنوبنا، وأن الله تبارك وتعالى عفو كريم يحب توبة عبده، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم» وذكر الرجل في فلاة أضل راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فطلبها ولم يجدها، فأيس منها فاضطجع في ظل شجرة ينتظرالموت، آيس من الحياة، فإذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة، فأخذه وقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» (¬1) ، يريد أنت ربي وأنا عبدك، لكن من شدة الفرح أخطأ فقال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك» ، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا الرجل بناقته، اللهم تب علينا يا رب العالمين {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} ختم الله تبارك وتعالى هذه السورة بهذه الجملة العظيمة، أي ما أعظم بركة الله - عز وجل - وما أعظم البركة باسمه، حتى إن اسم الله يحلل الذبيحة أو يحرمها، لو ذبح الإنسان ذبيحة ولم يقل باسم الله تكون ميتة حراماً نجسة مضرة على البدن، حتى لو ذبح ونسي ¬

(¬1) أخرجه البخاري كتاب الدعوات، باب التوبة (6308، 6309) ومسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (2747) ..

أن يقول: بسم الله. فهي حرام نجسة تفسد البدن، فيجب أن يسحبها للكلاب، لأنها نجسة، قال الله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} فانظر البركة، والإنسان إذا توضأ ولم يسم فوضوؤه عند بعض العلماء فاسد لابد من الإعادة، لأن البسملة واجبة عند بعض أهل العلم، والإنسان إذا رأى الصيد الزاحف، أو الطائر فيرميه ولم يسمِ يكون هذا الصيد حراماً ميتة نجساً مضراً على البدن، فانظر البركة، والإنسان إذا أتى أهله يعني جامع زوجته وقال: «بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا» كان هذا حماية لهذا الولد الذي ينشأ من هذا الجماع، حماية له من الشيطان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: «بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا. فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً (¬1) » والإنسان يسعى يميناً وشمالاً لحماية ولده ويخسر الدراهم الكثيرة، وهنا هذا الدواء من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يسير من ناحية العمل، وسهل، وكل هذا دليل على بركة اسم الله عز وجل، {ذي الجلال والإكرام} أي: ذي العظمة والإكرام، {ذي الجلال والإكرام} : بمعنى صاحب، وهي صفة لرب، لا لـ (اسم) ولو كانت صفة لـ (اسم) لكانت ذو، والإكرام يعني هو يُكرِم وهو يُكرَم، فهو يكرم ويحترم ويعظم - عز وجل - وهو أيضاً يكرم، قال الله تعالى في أصحاب الجنة {أولئك في جنات مكرمون} فهو ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التسمية على كل حال وعند الوقاع (141) ومسلم، كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (1434) ..

ذو الجلال والإكرام يكرم من يستحق الإكرام، وهو يكرمه - عز وجل - عباده الصالحون جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.

تفسير سورة الواقعة

تفسير سورة الواقعة {بسم الله الرحمن الرحيم} ، البسملة تقدم الكلام عليها {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأَرض رجاً} حذف الله جواب الشرط في هذه الآيات من أجل أن يذهب الذهن في تقديره كل مذهب، يعني إذا وقعت الواقعة صارت الأهوال العظيمة، وصار انقسام الناس، وحصل ما حصل مما أخبر به الله ورسوله مما يكون في يوم القيامة، وقوله: {إذا وقعت الواقعة} كقوله: {الحاقة ما الحآقة} والمراد بذلك يوم القيامة {ليس لوقعتها كاذبة} أي: ليست لوقعتها كذب، بل وقعتها حق ولابد، والإيمان بيوم القيامة أحد أركان الإيمان الستة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره» (¬1) وكثيراً ما يقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر، لأن الإيمان باليوم الآخر يحدو بالإنسان أن يعمل العمل الصالح، وأن يبتعد عن العمل السيء لأنه يؤمن أن هناك يوماً آخر يجازى فيه الإنسان المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته {خافضة رافعة} يعني هي خافضة رافعة، أي: يخفض فيها الناس ويرفع فيها آخرون. ولكن من الذي يرفع؟ قال الله - عز وجل -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فأهل العلم والإيمان هم الذين لهم الرفعة ¬

(¬1) تقدم ص (62) .

في الدنيا والآخرة، ومن سواهم فإنهم موضوعون بحسب بعدهم عن الإيمان والعلم، وتخفض أهل الجهل والعصيان، وكم من إنسان في الدنيا رفيع الجاه، معظم عند الناس يكون يوم القيامة من أحقر عباد الله، والجبارون المتكبرون يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم (¬1) ، مع أنهم في الدنيا متبخترون مستكبرون عالون على عباد الله، لكنهم يوم القيامة موضوعون مهينون قد أخزاهم الله - عز وجل - {إذا رجت الأَرض رجاً} يعني زلزلت زلزلة عظيمة، ولهذا قال: {رجاً} أي: رجًّا عظيماً، وأنت تصور أنك ترج إناء فيه ماء كيف يكون اضطراب الماء فيه، فالأرض يوم القيامة ترج بأمر الله - عز وجل -، وهذا كقوله تعالى: {إذا زلزلت الأَرض زلزالها} وقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} ، {وبست الجبال بساً} أي: بعثرت وهبطت وصارت كثيباً مهيلاً، ولهذاقال: {فكانت هباءً منبثاً} كالهباء الذي نراه حينما تنعكس أنوار الشمس في حجرة مظلمة، ترى هذا الهباء من خلال ضوء الشمس منبثًّا متفرقاً، هذه الجبال الصم الصلبة التي يكون الصخر فيها أكبر من الجبال، بل ربما يكون الجبل الواحد صخرة واحدة يكون يوم القيامة هباء منبثًّا بأمر الله - عز وجل -، فتبقى الأرض ليس فيها جبال ولا شجر ولا أودية ولا رمال، كما قال الله - عز وجل -: {ويسئلونك عن الجبال فقل ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب صفةالقيامة، باب 47 (رقم 2492) وقال: هذا حديث حسن صحيح..

ينسفها ربي نسفاً ينسفها ربي نسفاً فيذرها} أي الأرض {قاعاً صفصفاً لا ترىفيها عوجاً ولا أمتاً} {وكنتم} الخطاب للآدميين عموماً {أزواجاً ثلاثة} أي أصنافاً، كما قال الله عز وجل: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أي: أصنافهم، وقال تعالى: {وءاخر من شكله أزواج} أي: أصنافاً، فمعنى أزواجاً يعني أصنافاً (ثلاثة) لا رابع لها: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، فينقسم الناس يوم القيامة ثلاثة أقسام لا رابع لها {فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة مآ أصحاب المشئمة والسابقون السابقون} ذكرهم الله تعالى غير مرتبين في الفضل، فبدأ الله بأصحاب الميمنة ثم ثنَّى بأصحاب الشمال، ثم ثلَّث بالسابقين، لكن عند التفصيل بدأ بهم مرتبين على حسب الفضل فبدأ بالسابقين، ثم بأصحاب اليمين، ثم بأصحاب الشمال، وهذا التفصيل المرتب خلاف الترتيب المجمل، وهو من أساليب البلاغة، {فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة} . يعني أنه - عز وجل - أخبر بأن أحد الأصناف أصحاب الميمنة، ثم قال {مآ أصحاب الميمنة} من هم، وسيأتي إن شاءالله ذكرهم مفصلاً، {وأصحاب المشئمة} أي: ذوو الشؤم، وسيأتي أيضاً ذكرهم مفصلاً، {والسابقون السابقون} هؤلاء أفضل الأصناف، وقوله {والسابقون السابقون} . أصح الأعاريب فيها أن قوله {والسابقون} مبتدأ، وخبره {السابقون} ، يعني أن السابقين إلى الأعمال الصالحة هم السابقون إلى الثواب في الآخرة، فكأنه قال: السابقون في الدنيا بالأعمال الصالحة هم السابقون في الآخرة بالثواب {أولئك المقربون} ، أي: إلى الله

- عز وجل - فهم في أعلى الجنان، وأعلى الجنان أقرب إلى الرحمن - عز وجل -، لأن الفردوس وهو أعلى درجات الجنة فوقه عرش الله - عز وجل -، {أولئك المقربون} ذكر منزلتهم قبل ذكر منزلهم، وكما يقال: الجار قبل الدار، وكما قالت امرأة فرعون: {رب ابن لى عندك} بدأت بالجوار {بيتاً في الجنة} وهنا قال: {أولئك المقربون} قبل أن يبدأ بذكر الثواب؛ لأن قربهم من الله - عز وجل - فوق كل شيء، جعلنا الله منهم {أولئك المقربون في جنات النعيم} أي في هذا المقر العظيم الذي فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأضاف الجنات إلى النعيم، لأن ساكنها منعم في بدنه، ومنعم في قلبه، كما قال - عز وجل - في سورة الإنسان: {إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرةً وسروراً} نضرة في الوجوه، وسروراً في القلوب، فهم في نعمتين: هما نعيم البدن، ونعيم القلب، {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} هذا من نعيم البدن أيضاً {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون} هذا من نعيم البدن إلى غير ذلك مما ذكره الله - عز وجل - من النعيم في الجنة، ولو لم يكن فيها إلا أن الإنسان يخلد فيها لا يموت، ويصح فلا يسقم، ويشب يكون شابًّا دائماً فلا يهرم، وفوق ذلك كله النظر إلى وجه الله - عز وجل -، كما قال الله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} يعني فوق الحسنى وفسر النبي صلى الله عليه وعلى آله

وسلم الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله (¬1) ، اللهم اجعلنا ممن ينظرون إليك في جنات النعيم {ثلة من الأَولين} قيل: إن المراد بذلك الأمم السابقة {وقليل من الأَخرين} يعني أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى هذا القول تكون قلة هذه الأمة باعتبار كثرة الأمم السابقة، وليس المعنى أن الذين يدخلون الجنة من الأمم السابقين باعتبار كل نبي أكثر من الذين يدخلون الجنة من هذه الأمة، وقيل: المراد بالأولين أول هذه الأمة، أي: ثلة من أول هذه الأمة، وقليل من آخرها، وهذا القول هو الصحيح، بل هو المتعين، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إني أرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة» (¬2) أي نصفهم، وفي حديث آخر: «إن أهل الجنة مائة وعشرون صفًّا منهم ثمانون من هذه الأمة» (¬3) وعلى هذا لا يصح أن نقول قليل من هذه الأمة، وكثير من الأمم السابقة، بل نقول: ثلة أي كثير من هذه الأمة من أولها، وقليل من آخرها، {على سرر موضونة} سرر جمع سرير، وهو ما يتخذه الإنسان للجلوس والنوم، {موضونة} قال العلماء: منسوجة من الذهب، {متكئين عليها} أي: معتمدين ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (رقم 181) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج (3348) ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (222) . (¬3) أخرجه أبو نعيم في صفة الجنة (رقم 239) والترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة أهل الجنة (رقم 2546) وقال: هذا حديث حسن..

على أيديهم وعلى ظهورهم، فهم في راحة في اليد وفي الظهر {متقابلين} أي: يقابل بعضهم بعضاً، وهذا يدل على سعة المكان، لأن المكان إذا كان ضيقاً لا يمكن أن يكون الناس متقابلين، وهذه الآية تدل على أن الأمكنة واسعة وهو كذلك، ولهذا كان أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه ألفي عام (¬1) ، ينظر أقصاه كما ينظر أدناه، والله على كل شيء قدير، والجنة عرضها كعرض السماوات والأرض، ومن يحيط بسماء واحدة، كيف وهي عرض السماوات السبع، والسماوات السبع بعضها من فوق بعض؟! وكلما كان الشيء فوق كانت دائرته أوسع، فمن يحيط بهذا إلا الله - عز وجل -، إذن هم متقابلون لأن أمكنتهم واسعة، ولأن لديهم من كمال الأدب ما لا يمكن أن يستدبر أحدهم الآخر، كلهم مؤدبون، كلهم قلوب صافية، قال الله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين} ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن التدابر (¬2) . والتدابر يشمل التدابر القلبي بحيث يكون كل واحد متجه إلى وجه، والتدابر البدني إلا عند الحاجة أو الضرورة، وإلا فمتى ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (2/13، 64) وعبد بن حميد (رقم 819) والترمذي، كتاب صفة الجنة، باب منه رقم 17 (رقم 2553) وفي كتاب التفسير، باب ومن سورة القيامة (رقم 3330) . (¬2) قال صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» . أخرجه البخاري، كتاب الآدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (رقم 6065) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر (رقم 2559) .

أمكن التقابل فهو أفضل، فلو أن أحداً يكلمك وقد ولاَّك ظهره هل يكون سماعك له ومحبتك له كما لو كان يحدثك مستقبلاً إياك؟ وهذا شيء مشاهد معلوم، فأهل الجنة على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين، وفي حال الاتكاء {يطوف عليهم ولدان مخلدون} الولدان جمع ولد، أو جمع وليد: كغلمان جمع غلام {يطوف عليهم} يتردد عليهم، {ولدان مخلدون} أي: خلقوا ليخلدوا، وهم غلمان شباب إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، لجمالهم وصفائهم وكثرتهم وانتشارهم في أملاك أسيادهم، إذا رأيتهم أي: إذا رأيت الولدان، فإذا كان الولدان تحسبهم لؤلؤاً منثوراً، فكيف بالسادة؟ أعظم وأعظم {يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين} أكواب هي عبارة عن كؤوس لها عرى، والأباريق أيضاً أواني لها عرى {وكأس من معين} ليس له عروة، قوله: {من معين} أي: من خمر معين {لا يصدعون عنها ولا ينزفون} يعني لا يوجع بها الرأس، ولا ينزف بها العقل، بخلاف خمر الدنيا فإنها تؤلم الرأس وتذهب العقل، {وفاكهة} معطوفة على قوله بأكواب، أي: ويطوف عليهم الولدان بفاكهة {مما يتخيرون} لطيبها منظراً، وطيبها مشمًّا، وطيبها مأكلاً، وهذه الفاكهة طيبة في منظرها، وطيبة في رائحتها، وطيبة في مأكلها ومذاقها؛ لأن الله قال: {مما يتخيرون} والإنسان لايعاف الشيء إلا لقبح منظره، أو لقبح رائحته، أو لقبح مأكله، والفاكهة في الجنة طيبة في لونها، وحجمها، وريحها، ومذاقها، وسبحان الله يؤتون بها متشابهة في اللون والحجم والرائحة، لكن

في المذاق مختلفة، وهذا مما يزيد الإنسان فرحاً وسروراً وإيماناً بقدرة الله - عز وجل - {ولحم طير مما يشتهون} أي: ويطوف عليهم هؤلاء الولدان بلحم طير، وذكر لحم الطير؛ لأن لحوم الطير أنعم اللحوم وألذها، وهذا الطير من أين يتغذى؟ الجواب: ليس لنا أن نسأل عن هذا، لأن أمور الغيب يجب علينا أن نؤمن بها بدون سؤال، فنقول: إن كانت هذه الطيور تحتاج إلى غذاء فما أكثر ما تتغذى به، لأنها في الجنة، وإن كان لا تحتاج إلى غذاء، فالله على كل شيء قدير. {وحور عين} الحور هن البيض، وعين: أي حسنات الأعين، وهن ذات العيون الواسعة الجميلة {كأمثال اللؤلؤ المكنون} أي: المغطى حتى لا تفسده الشمس ولا الهواء ولا الغبار فيكون صافياً من أحسن اللؤلؤ {جزاءً بما كانوا يعملون} أي: يجزون بهذا الثواب الجزيل {جزاءً بما كانوا يعملون} أي: بعملهم، أو بالذي كانوا يعملونه لأن (ما) في قوله {بما كانوا يعملون} يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون اسماً موصولاً، والباء هنا للسببية، والباء لها معانٍ كثيرة بحسب السياق فتكون للعوض كقولهم: بعت الثوب بدينار، وتكون للسببية كما في قوله تعالى: {فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} فقوله: {فأخرجنا به} أي: بسببه، ولا يصح أن تكون الباء في قوله تعالى: {جزاءً بما كانوا يعملون} للعوض؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لن يدخل الجنة أحد بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا

أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (¬1) فالباء في قوله: {جزاءً بما كانوا يعملون} أي: بسبب عملهم، وليس المعنى أنه عوض؛ لأن الله تعالى لو أراد أن يعاوضنا لكانت نعمة واحدة تحيط بجميع أعمالنا {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فانتبه لهذا، ولذلك استشكل بعض العلماء قوله تعالى: {جزاءً بما كانوا يعملون} والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «لن يدخل أحد الجنة بعمله» والجواب أن الباء في النفي باء العوض، والباء في الإثبات باء السببية {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاما سلاما} أي: أهل الجنة لا يسمعون كلاماً لا فائدة منه، ولا كلاماً يأثم به الإنسان، فالكلام الذي لا خير فيه، والكلام القبيح لا يوجد في الجنة {إلا قيلاً سلاما سلاما} الاستثناء هنا استثناء منقطع؛ لأن المستثنى من غير جنس المستثنى منه، فالسلام ليس من اللغو ولا من التأثيم، وعلامة الاستثناء المنقطع أن تجعل بدل {إلا} (لكن) فيستقيم الكلام، وهنا لو قيل في غير القرآن: لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً ولكن قيلاً سلاماً سلاماً لاستقام الكلام. ومثل ذلك قوله تعالى: {فذكر إنمآ أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأَكبر} فالاستثناء هنا {إلا من} منقطع؛ لأن ما بعد {إلا} ليس من جنس ما قبلها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت (رقم 5673) ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى (رقم 2816) ..

بمصيطر لا على الكافرين ولا على غيرهم، فتكون {إلا} بمعنى لكن، ولهذا جاءت الفاء {فيعذبه الله العذاب الأَكبر} وعليه لو أن قارئاً وقف على قوله تعالى: {لست عليهم بمسيطر} فالوقف صحيح. {سلاما سلاما} أي: إلا قول فيه السلامة وإدخال السرور والفرح بين أهل الجنة جعلنا الله منهم {وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين} هذه الطبقة الثانية وهي دون الأولى، والاستفهام في قوله: {مآ أصحاب اليمين} استفهام تعجب وتفخيم، يعني: أي قوم هؤلاء؟! {في سدر مخضود} السدر شجر معروف ظله بارد ومنشط، ولكن السدر الذي في الجنة ليس كالسدر الذي في الدنيا، الاسم واحد والمعنى مختلف، كما قال تعالى: {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} ولو كان ما في الجنة كالذي في الدنيا لكنا نعلم. والمخضود الذي لا شوك فيه {وطلح منضود} الطلح قيل: إنه شجر الموز، والمنضود الذي ملىء ثمرة {وظل ممدود} أي: لا نهاية له؛ لأن الجنة ليس فيها شمس بل هي ظل، وصفها بعض السلف بأنها كالنور الذي يكون قرب طلوع الشمس، تجد الأرض مملوءة نوراً ولكن لا تشاهد شمساً، فهو ظل ممدود في المساحة والزمن {وماء مسكوب} أي: ماء مستمر دائماً، كما قال تعالى: {فيهما عينان تجريان} وغير الماء أنهار أخرى من عسل ولبن وخمر، فالأنواع أربعة، وقد ورد أن هذه الأنهار تجري في غير أخدود، قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في النونية:

أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان فإذا قال قائل: هل هذا ممكن؟! فالجواب: نقول لا تتحدث هل هذا ممكن، بل صدق، وأخبار الغيب لا يمكن أن يرد عليها هذا السؤال، أليس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر (¬1) ؟ الجواب: بلى، والواجب التصديق، وأن لا نقول: كيف؟ ولِمَ؟ لأن أمور الغيب ثابتة في القرآن والسنة فلا تسأل مثل هذا السؤال، لأنه لا يمكن الإحاطة بها، بل قل: آمنت بالله ورسوله، واستقم. {وفاكهة كثيرة} الفاكهة كل طعام أو شراب يتفكه به الإنسان؛ لأن الطعام والشراب يكون أحياناً ضرورياً معتاداً لا تتفكه به بل هو ضروري للبقاء، وأحياناً يكون الطعام والشراب فاكهة يتفكه به الإنسان {كثيرة} أي: في أي وقت من الأوقات تجد هذه الفاكهة بينما في الدنيا الفواكه لها أوقات معينة تنقطع، ولهذا قال تعالى: {لا مقطوعة} أي: لا تقطع أبداً في كل الأوقات {ولا ممنوعة} أي: لا أحد يمنعها، بل قد قال الله تعالى: {قطوفها دانية} أي: ما يقطفه الإنسان من الثمرة داني، حتى إنه إذا اشتهى الإنسان الثمرة وهي فوق تدلى الغصن حتى يكون بين يديه بدون تعب، وفاكهة الدنيا مقطوعة تأتي في وقت ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل (رقم 1145) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (رقم 758) .

دون وقت، وممنوعة فلا يمكن أن تدخل بستان أحدٍ إلا بإذنه، أما في الآخرة فلا {وفرش مرفوعة} الفراش ما ينام عليه الإنسان {مرفوعة} أي عالية، ولما كان الذي مع الإنسان في الفراش الحور العين، قال الله تعالى: {إنآ أنشأناهن إنشاءً} أي: أنشأناهن إنشاءً عجيباً غريباً بديعاً، وفسر هذا الإنشاء بقوله تعالى: {فجعلناهن أبكاراً} أي: هؤلاء الزوجات أبكار مهما أتاها زوجها عادت بكراً {إنمآ أمره إذآ أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} ونساء الدنيا إذا افتض الزوج بكارة الزوجة لا تعود، ولكن في الآخرة تعود بكراً {عرباً أتراباً} العرب المتحببات إلى أزواجهن، وهذا يدل على كمال المتعة أن تكون الزوجة تتحبب إلى زوجها وتتقرب إليه وتغريه بنفسها، وتفعل كل ما يوجب محبته لها، {أتراباً} أي: على سن واحدة لا تختلف {لأصحاب اليمين} أي: ذلك المذكور من النعيم النفسي والبدني لأصحاب اليمين. {ثلة من الأَولين وثلة من الأَخرين} هؤلاء هم أصحاب اليمين الذين هم في المرتبة الثانية، والمرتبة الأولى السابقون السابقون، قال الله تعالى فيهم: {ثلة من الأَولين وقليل من الأَخرين} يعني ثلة من الأولين من هذه الأمة، وقليل من الآخرين، فإن خير قرون الأمة القرن الأول الذي هو قرن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم تتناقص، أما أصحاب اليمين فقال الله تعالى فيهم: {ثلة من الأَولين وثلة من الأَخرين} أي: جماعة من هؤلاء وجماعة من هؤلاء، ثم ذكر الله القسم الثالث، فقال: {وأصحاب الشمال مآ أصحاب

الشمال} وهم الكفار والمنافقون {في سموم وحميم} هذا القسم في سموم، أي: حرارة شديدة - والعياذ بالله -، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في آيات كثيرة كيفيتها، فقال الله تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً} وأخبر أنه {يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد} والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقوله: {حميم} ، الحميم هو الماء الحار الشديد الحرارة، فهم - والعياذ بالله - محاطون بالحرارة من كل وجه، ومن كل جانب {وظل من يحموم} اليحموم هو الدخان المحض، وقد وصفه الله بأنه {لا بارد ولا كريم} يعني ليس بارداً يقيهم الحر، ولا كريم حسن المنظر يتنعمون به، ويستريحون فيه فهو لا بارد كما هو الشأن في الظل، ولا كريم، أي: حسن المظهر لأنه دخان كريه منظره حار مخبره - نسأل الله العافية -، ثم بين حالهم من قبل فقال: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} ، وذلك في الدنيا، قد أترف الله أبدانهم، وهيأ لهم من نعيم البدن ما وصلوا فيه إلى حد الترف، لكن هذا لم ينفعهم - والعياذ بالله - ولم ينجهم من النار، {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} ، يصرون أي: يستمرون عليه، والحنث العظيم هو الشرك؛ لأن الأصل في الحنث الإثم، والعظيم هو الشرك، قال الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} وكانوا أيضاً ينكرون البعث: {وكانوا يقولون أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون أو ءابآؤنا الأَولون} ينكرون هذا إنكاراً عظيماً،

يقولون: أإذا بليت عظامنا وصارت رفاتاً هل نبعث؟ وأيضاً هل يبعث آباؤنا الأولون؟ ولهذا يحتجون يقولون: {ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} ، وهذه حجة باطلة؛ لأنه لا يقال لهم: إنكم ستبعثون اليوم، وإنما تبعثون يوم القيامة، فكيف تتحدون وتقولون هاتوا آباءنا؟ فاليوم الآخر ليس هو اليوم الحاضر حتى يتحدوا ويقولوا هاتوا آباءنا نقول: إن هذا يكون يوم القيامة، قال الله - عز وجل -: {قل إن الأَولين والأَخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} الأولون من المخلوقين والآخرون كلهم سيبعثون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لا جبال ولا أشجار، ولا كروية بل تمد الأرض مسطحة، يرى أقصاهم كما يرى أدناهم، والآن لما كانت الأرض كروية فإن البعيد لا تراه؛ لأنه منخفض، لكن إذا كان يوم القيامة سطحت الأرض، وصارت كالأديم، أي: كالجلد الممدود، فيبعث الخلائق كلهم على هذا الصعيد، وقوله: {إلى ميقات يوم معلوم} أي: عند الله - عز وجل - لقول الله: {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي} {ثم إنكم} أي بعد البعث {أيها الضآلون المكذبون} الضالون في العمل فهم لا يعملون، المكذبون للخبر فهم لا يصدقون - والعياذ بالله - {لأَكلون من شجر من زقوم} أي: آكلون من شجر، وهذا الشجر نوعه من زقوم، كما تقول: خاتم من حديد، وباب من خشب، وجدار من طين، فقوله {من شجر من زقوم} من شجر متعلقة بأكلهم، ومن زقوم بيان للشجر، وسمي زقوماً لأن الإنسان - والعياذ بالله - إذا أكله يتزقمه تزقماً، لشدة بلعه لا يبتلعه

بسهولة {فمالئون منها البطون} أي: أنهم يملأون البطون من هذا الشجر، مع أن هذا الشجر مرّ خبيث الرائحة، كريه المنظر، لكن لشدة جوعهم يأكلونه كما يأكل الجائع المضطر، فهم يأكلونه على تكره، كما قال الله - عز وجل -: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} ، فهم يأكلون من هذا الشجر، ويملأون البطون منها، يأتيهم شغف عظيم جداً للأكل، حتى يملأوا بطونهم مما يكرهونه، وهذا أشد في العذاب - نسأل الله العافية - ثم إذا ملأوا بطونهم من هذا الطعام اشتدت حاجتهم إلى الشرب، فكيف يشربون؟ قال الله تعالى: {فشاربون عليه من الحميم} الحميم: هو الماء الحار، يشربون ماءً حارًّا بعد أن يستغيثوا مدة طويلة، وقد وصف الله هذا الماء بقوله: {بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقًا} وقال الله - عز وجل -: {وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} فتأمل يا أخي هذا: إذا قربوه من الوجه يشويه وإذا دخل بطونهم قطع أمعاءهم، ومع ذلك يشربونه بشدة: {شرب الهيم} ، أي: شرب الإبل، والهيم: جمع هائمة، أو جمع هيماء، يعني أنها شديدة العطش لا يرويها الشيء القليل، فيملأون بطونهم - والعياذ بالله - من الشجر الزقوم، ويشربون من الحميم شرب الهيم، أسأل الله أن يجيرني وإياكم من النار. {هذا نزلهم يوم الدين} أي: هذه ضيافتهم، بخلاف المؤمنين فإن ضيافتهم جنات الفردوس {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها

حولاً} ثم قال - عز وجل -: {نحن خلقناكم فلولا تصدقون} وهذا أمر لا أحد ينكره: أن خالقنا هو الله، حتى المشركون الذين يشركون مع الله إذا سئلوا: من خلقهم؟ قالوا: الله، {نحن خلقناكم فلولا تصدقون} أي: أول مرة {فلولا تصدقون} أي: في إعادتكم ثاني مرة، ولولا هنا بمعنى هلا تصدقون، كان الواجب عليهم وهم يصدقون بأن خالقهم أول مرة هو الله، أن يصدقوا بالخلق الآخر؛ لأن القادر على الخلق الأول قادر على الخلق الآخر من باب أولى، كما قال - عز وجل -: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} . وقال - عز وجل -: {وأن عليه النشأة الأُخرى} ثم ضرب الله تعالى أمثالاً بما فيه وجودنا، وما فيه بقاؤنا، وما فيه استمتاعنا، فقال: {أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} أي: أخبروني عن هذا المني الذي يخرج منكم: هل أنتم تخلقونه أم الله؟ والجواب: الله - عز وجل - هو الذي يخلقه، فيخرج من بين الصلب والترائب، وهو الذي يخلقه في الرحم خلقاً من بعد خلق، فنحن لا نوجد هذا المني ولا نطوره في الرحم، بل ذلك إلى الله - عز وجل - {أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} الجواب: بل أنت يا ربنا. {نحن قدرنا بينكم الموت} أي: قضيناه بينكم، {كل نفس ذآئقة الموت} ، ولابد حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون} {وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون} أي: لا أحد يسبقنا فيمنعنا أن نبدل أمثالكم، بل نحن قادرون على ذلك، وسوف

يبدل الله تعالى أمثالنا أي ينشئنا خلقاً آخر وذلك يوم القيامة. {وننشئكم في ما لا تعلمون} وذلك يوم القيامة {ولقد علمتم النشأة الأُولى} وهي أنكم نشأتم في بطون أمهاتكم، وأخرجكم الله - عز وجل - من العدم {فلولا تذكرون} أي: فهلا تذكرون وتتعظون، وهذا دليل عقلي من الله - عز وجل - يعرضه على عباده ومعناه: إنا بدأناكم أول مرة فإذا بدأناكم أول مرة، فلسنا بمسبوقين على أن نعيدكم ثاني مرة. {أفرءيتم ما تحرثون أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} أي: أخبروني أيها المكذبون بالبعث عن الذي تزرعونه بالحرث: هل أنتم الذين تخرجونه زرعاً بعد الحب أم نحن الزارعون؟ الجواب: بل أنت يا ربنا، أنت الذي تزرعه، أي تنبته حتى يكون زرعاً، كما قال - جل وعلا -: {إن الله فالق الحب والنوى} فلا أحد يستطيع أن يفلق هذه الحبة حتى تكون زرعاً، ولا هذه النواة حتى تكون نخلاً، إلا الله - عز وجل - {لو نشاء لجعلناه حطاماً} ولم يقل - عز وجل - لو نشاء لم نخرجه بل قال: {لجعلناه حطاماً} أي: بعد أن يخرج ويكون زرعاً وتتعلق به النفوس يجعله الله تعالى حطاماً، وهذا أشد ما يكون سبباً للحزن والأسى؛ لأن الشيء قبل أن يخرج لا تتعلق به النفوس، فإذا خرج وصار زرعاً ثم سلط الله عليهم آفة، فكان حطاماً، أي: محطوماً لا فائدة منه، فهو أشد حسرة {فظلتم تفكهون} أي: تتفكهون بالكلام تريدون أن تذهبوا الحزن عنكم، فتقولون {إنا لمغرمون} أي لحقنا الغرم بهذا الزرع الذي صار حطاماً، ثم تستأنفون فتقولون: {بل نحن

محرومون} أي: حرمنا هذا الزرع، وصار حطاماً ففقدناه، ثم انتقل الله - عز وجل - إلى مادة أخرى، وهي مادة الحياة، وهي الماء فقال: {أفرءيتم الماء الذي تشربون} أي: أخبرونا عنه من الذي خلقه؟ من الذي أوجده {أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} ؟ والجواب: بل أنت يا ربنا، والمعنى: هل أنتم أنزلتم الماء الذي تشربونه من المزن أي من السحاب أم نحن المنزلون؟ الجواب: هو الله - عز وجل -، لأنه يرسل إلينا السحاب فينزل المطر فمنه ما يبقى على الأرض، وما شربته الأرض يسلكه الله تعالى ينابيع في الأرض، ويستخرج من الآبار، ويجري من العيون، فأصل الماء الذي نشرب من المزن، من السحاب، ولذلك إذا قلَّ المطر في بعض الجهات قل الماء وغار، واحتاج الناس إلى الماء {لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون} أي: جعلناه مالحاً، كريه الطعم لا يمكن أن يشرب، وهنا يقول: {لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون} ولم يقل: لو نشاء لغورناه، أو منعنا إنزاله؛ لأن كونهم ينظرون إلى الماء رأي العين ولكن لا يمكنهم شربه، أشد حسرة مما لو لم يكن موجوداً، والله - عز وجل - يريد أن يتحداهم بما هو أعظم شيء في حسرة نفوسهم {فلولا تشكرون} أي فهلا تشكرون الله - عز وجل - على إنزاله من المزن، وعلى كونه سائغاً عذباً لذيذ الطعم سريع الهضم، ثم انتقل الله تعالى إلى أمر ثالث يصلح به الطعام والشراب وهو النار، فقال: {أفرءيتم النار التى تورون} أي: توقدون {أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون} والجواب: بل أنت يا ربنا، وشجرة النار هي شجر معروف في

الحجاز، وربما يكون معروفاً غيره، يسمى المرخ والعفار، وهذا الشجر له خاصية إذا ضرب بالمرو أو بشيء ينقدح مع المماسة، اشتعل ناراً يوقد منه وهو معروف، ولهذا يقال: في كل شجر النار واستنجد المرخ والعفار يعني صار أعظمها، هذه النار التي نوقدها، ونطبخ عليها طعامنا، ونسخن مياهنا وننتفع بها أنشأها الله عز وجل {نحن جعلناها تذكرةً} أي: تذكر هذه النار بنار الآخرة، مع أن نار الآخرة فضلت بتسعة وستين جزءاً على نار الدنيا كلها، لما فيها من النيران الحارة الشديدة {ومتاعا للمقوين} أي: للمسافرين يتمتعون بالنار بالتدفئة، والدلالة على المكان، لأنهم في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب كان الناس يستدلون على الأمكنة بنار يضعونها على مكان مرتفع تهدي الضال، ويضرب المثل في الدلالة بالعلم عليه النار، كما قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار {فسبح باسم ربك العظيم} أي: سبح الله - عز وجل - بهذا الاسم، فقل: سبحان ربي العظيم، والتسبيح يعني أن الله تعالى منزه عن كل نقص وعيب، فإذا قلت: سبحان الله، فالمعنى أني أنزهك يا ربي من كل نقص وعيب، وقوله: {العظيم} أي: ذو العظمة البالغة، ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» . ولما نزلت {سبح اسم ربك الأَعلى} قال: «اجعلوها في سجودكم» (¬1) ، ولهذا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (رقم 869) وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب التسبيح في الركوع والسجود (رقم 887) .

ينبغي للإنسان إذا كان يصلي وقال: سبحان ربي العظيم. أن يستحضر أمر الله في قوله: {فسبح باسم ربك العظيم} وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «اجعلوها في ركوعكم» حتى يجمع بين الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} يخبر الله تبارك وتعالى أنه يقسم بمواقع النجوم، ولا في قوله {فلا أقسم} للتنبيه والتوكيد وليست للنفي؛ لأن المراد إثبات القسم وليس نفيه وهذا كقوله تعالى: {لا أقسم بهذا البلد} وقوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} وقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون} وأمثال ذلك يؤتى بـ (لا) بصورة النفي، والمراد بذلك التوكيد والتنبيه. والقسم تأكيد الشيء بذكر معظم بأدوات مخصوصة، وهي الواو والباء والتاء، وقوله: {بمواقع النجوم} اختلف فيها العلماء رحمهم الله، فمنهم من قال: إن المراد بذلك أوقات نزول القرآن؛ لأن القرآن نزل مفرقاً، والشيء المفرق يسمى منجماً، كما يقال في الدين المقسط على سنوات أو أشهر، يقال: إنه دين منجم، وقيل: المراد بمواقع النجوم مواقع الطلوع والغروب؛ لأن مواقع غروبها إيذان بالنهار، ومواقع طلوعها إيذان بالليل، وتعاقب الليل والنهار من آيات الله العظيمة الكبيرة التي لا يقدر عليها إلا الله - عز وجل - فيكون الله تبارك وتعالى أقسم بما يدل على إقبال الليل وإدباره، وقيل المراد

بمواقع النجوم: الأنواء، وكانوا في الجاهلية يعظمونها حتى إنهم يقولون: إن المطر ينزل بالنوء. ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، والمهم أن الله تعالى أقسم بمواقع النجوم على أمر من أعظم الأمور، وهو قوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرءان كريم} لكن الله بين عظم هذا القسم قبل أن يبين المقسم عليه، فقال {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} وأتى بالجملة الاعتراضية في قوله: {لو تعلمون} إشارة على أنه يجب أن نتفطن لهذا القسم وعظمته حتى نكون ذوي علم به {إنه لقرءان كريم} أي: إن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم {لقرءان كريم} ، والكرم يراد به الحسن والبهاء والجمال، كما في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن وأمره أن يبين للناس أن عليهم زكاة في أموالهم قال: «إياك وكرائم أموالهم» (¬1) والكرائم جمع كريمة، والمراد بها الشاة الحسنة الجميلة، وهو كريم أعني القرآن كريم في ثوابه، فالحرف بحسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، وهو كريم في آثاره على القلوب وصلاحها، فإن قراءة القرآن تلين القلوب، وتوجب الخشوع لله - عز وجل - وكريم في آثاره بدعوة الناس إلى شريعة الله كما قال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} فالمهم أن القرآن كريم بكل معنى الكرم {في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} اختلف العلماء - رحمهم الله - في ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء (1496) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (19) .

الكتاب المكنون، فقيل: إنه اللوح المحفوظ لقوله تعالى: {بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ} . وقيل: المراد به الكتب التي بأيدي الملائكة كما قال تعالى: {فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} وهذا القول رجحه ابن القيم - رحمه الله - في كتابه «التبيان في أقسام القرآن» وأكثر المفسرين على أن المراد به اللوح المحفوظ. {لا يمسه} أي: لا يمس هذا الكتاب المكنون {إلا المطهرون} وهم الملائكة طهرهم الله تعالى من الشرك والمعاصي، ولهذا لا تقع من الملائكة معصية، بل هم ممتثلون لأمر الله قائمون به على ما أراد الله، وذهب بعض المفسرين إلى قول غريب، وقالوا: المراد بقوله: {لا يمسه إلا المطهرون} أي لا يمس القرآن إلا طاهر، ولكن هذا قول ضعيف لا تدل عليه الآية (¬1) ، لأنه لو كان المراد ذلك لقال (إلا المتطهرون) يعني المتطهرين ولكنه قال: {المطهرون} أي من قبل الله - عز وجل -، فهذا القول ضعيف، ولولا أنه يوجد في بعض التفاسير التي بأيدي الناس ما تعرضنا له، لأنه لا قيمة له، والصواب أن المراد بذلك الملائكة، فإن قلنا: إن المراد بالكتاب المكنون الصحف التي بأيديهم فواضح في قوله: {لا يمسه إلا المطهرون} وإذا قيل المراد به اللوح المحفوظ فكذلك المطهرون قد يمسونه بأمر الله - عز وجل -، وقد لا يمسونه. ¬

(¬1) انظر حكم مس المصحف بغير طهارة في فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ - رحمه الله تعالى - (11/212) .

{تنزيل من رب العالمين} أي: هذا القرآن تنزيل من رب العالمين، نزل من عند الله - عز وجل -، لأنه كلامه، وكلام الله تعالى منزل غير مخلوق، ويستفاد من هذه الآية الكريمة أن القرآن ليس بمخلوق، لأنه نزل من الله فهو كلامه، وكلامه من صفاته تعالى، وصفاته غير مخلوقة، وفي قوله: {تنزيل من رب العالمين} إشارة إلى أنه يجب علينا أن نعمل به؛ لأن الذي أنزله هو الرب المطاع الخالق الرازق، الذي يجب أن نطيعه بما أمر، وننتهي عما نهى عنه وزجر و {العالمين} كل من سوى الله، وسموا عالمين؛ لأنهم علم على خالقهم، فإن هذا الخلق إذا تأمله الإنسان دله على ما لله - عز وجل - من عظمة وسلطان ورحمة وغير ذلك من صفاته {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} يعني أبعد هذا البيان لعظمة القرآن الكريم تدهنون به الكفار وتسكتون عن بيانه وعن العمل به، وهذا الاستفهام للإنكار، لأن الواجب على من آمن بأنه {تنزيل من رب العالمين} ، وأنه قرآناً كريماً، وأنه لا يمسه إلا المطهرون الواجب أن يصارح ويصرح ولا يدهن، وقد قال الله تعالى في آيات أخرى: {ودوا لو تدهن فيدهنون} ولكن هذا ليس بحاصل، فالواجب على المؤمن أن يبرز بدينه ويفتخر به ويظهره، خلاف ما كان عليه كثير من الناس اليوم مع الأسف، تجد الرجل منهم إذا قام ليصلي يستحي أن يصلي، وربما يداهن ويؤخر الصلاة عن وقتها موافقة لهؤلاء الذين لا يصلون، وهذا غلط عظيم، بل الواجب أن يكون الإنسان صريحاً فلا يداهن في دين الله - عز وجل - {وتجعلون رزقكم أنكم

تكذبون} أي: تجعلون عطاء الله إياكم تكذيباً له كما قال - عز وجل -: {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها} ومن ذلك أن ينسب الإنسان نعمة الله - عز وجل - إلى السبب متناسياً المسبب سبحانه وتعالى، كقوله مثلاً: مطرنا بنوء كذا فينسب المطر إلى النوء لا إلى الخالق - عز وجل -، فهذا نوع من الشرك، كما جاء ذلك صريحاً في حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى بهم صلاة الصبح ذات يوم في الحديبية وقد نزل مطر، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر» يعني انقسموا إلى قسمين مؤمن وكافر، «فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» (¬1) . {فلولا إذا بلغت الحلقوم} أي: الروح، والذي يعين المرجع هنا السياق كما في قول الله تبارك وتعالى: {فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب} أي: الشمس، ولم يسبق لها ذكر، ولكن السياق يدل على ذلك، فمرجع الضمير تارة يكون مذكوراً، وتارة يكون معلوماً: إما بالسياق وإما بشيء آخر، والحلقوم هو مجرى النفس، وفي جانب الرقبة الأسفل مجريان: مجرى الطعام والشراب، ويسمى المريء، ومجرى ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (رقم 4147) ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (رقم 71) .

النفس وهو الحلقوم، وهو عبارة عن خرزات دائرية لينة منفتحة، أما المريء فإنه بالعكس فإنه كواحد من الأمعاء، ووجه ذلك أن مجرى النفس لابد أن يكون مفتوحاً، لأن النفس لو كان مجراه مغلقاً لكان التنفس شديداً، لكن برحمة الله جعل الله هذا مثل الأنبوب، لكنه لين، خرزات مستديرة، حتى يهون على المرء رفع رأسه وخفضه، أما المريء فهو مثل الأمعاء العادية، والطعام والشراب قوي يفتحه عند النزول إليه، وذكر الله الحلقوم دون المريء، لأن الحلقوم مجرى النفس، وبانقطاعه يموت الإنسان، فإذا بلغت الروح الحلقوم وهي صاعدة من أسفل البدن إلى هذا الموضع، حينئذ تنقطع العلائق من الدنيا، ويعرف الإنسان أنه أقبل على الآخرة وانتهى من الدنيا {وأنتم حينئذ تنظرون} أي تنظرون إلى الميت وما يعانيه من المشاق والسكرات، ولا تستطيعون أن تردوا ذلك عنه، ولو كنتم أقرب قريب إليه، وأحب حبيب إليه فإنه لا يقدر أحد على منع الروح إذا بلغت الحلقوم {ونحن أقرب إليه منكم} يعني أن الله تعالى أقرب إلى الحلقوم من أهله، ولكن المراد أقرب بملائكتنا، ولهذا قال: {ولكن لا تبصرون} والله تعالى يضيف الشيء إلى نفسه إذا قامت به ملائكته، لأن الملائكة رسله عليهم السلام، وليس هذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولكنه من باب تفسير الشيء بما يقتضيه السياق، لأنه ربما يقول قائل: إن ظاهر الآية {ونحن أقرب إليه منكم} أن الأقرب هو الله - عز وجل - فلماذا تحرفونه؟ فنقول: نحن لا نحرفها، بل فسرناها بما يقتضيه ظاهرها، لأن الله

قال: {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} وهذا يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة لاستحالة ذلك في حق الله تعالى، وأيضاً فإن القرب مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة لقوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} ، فإن قيل: كيف يضيف الله الشيء إلى نفسه والمراد الملائكة؟ قلنا: لا غرابة في ذلك، فإن الله يضيف الشيء إلى نفسه وهو من فعل الملائكة لأنهم رسله، ففعلهم فعله، ألم تر إلى قول الله تبارك وتعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه} والمراد قراءة جبريل عليه السلام لا قراءة الله، لكنه أضاف فعل جبريل إليه لأنه بأمره، وهو الذي أرسله به، إذن {ونحن أقرب إليه منكم} يعني ملائكتنا أقرب إليه منكم، لأنهم حضروا لقبض الروح، والله تبارك وتعالى قد حفظ الإنسان في حياته وبعد مماته، ففي حياته هناك ملائكة يحفظونه من أمر الله، وبعد مماته ملائكة يقبضون الروح ويحفظونها لا يفرطون فيها إطلاقاً، فهم قريبون من الميت ولكننا نحن لا نبصرهم، لأن الملائكة عالم غيبي لا يُرون {فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونهآ} أي: فهلا إن كنتم غير مجزيين: أي غير مبعوثين ومجازين على أعمالكم ترجعونها إن كنتم صادقين، الجواب: لا يمكن، وحينئذ يجب أن تصدقوا بالبعث والجزاء، لأنكم لا تقدرون على رد الروح حتى لا تجازى، فأيقنوا بالبعث.

ثم قسم الله تعالى المحتضرين إلى ثلاثة أقسام فقال في القسم الأول: {فأمآ إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم} - اللهم اجعلنا منهم - وهم الذين أتوا بالواجبات، وتركوا المحرمات، وأتوا بالمستحبات، وتنزهوا عن المكروهات، أي: أكملوا دينهم، والمقربون هم السابقون، الذين ذكروا في أول السورة، السابقون إلى الخيرات {فروح وريحان وجنت نعيم} اختلف المفسرون - رحمهم الله - في قوله: {فروح} ، فقيل: فراحة، لأن المؤمن وإن كان يكره الموت لكنه يستريح به، لأنه يبشر عند النزع بروح وريحان، ورب غير غضبان، فيسر ويبتهج ولا يكره الموت حينئذ بل يحب لقاء الله - عز وجل -، وهذا لا شك راحة له من نكد الدنيا ونصبها وهمومها، وقيل: الروح بمعنى الرحمة، كما قال الله تعالى عن يعقوب عليه السلام حين قال لبنيه: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايييسوا من روح الله} أي: من رحمته، وهذا المعنى أعم من الأول، لأن الرحمة أعم من أن تكون راحة، أو راحة مع حصول المقصود، وإذا كان المعنى أعم كان حمل الآية عليه أولى، إذن {فروح} أي: رحمة، ومن الرحمة الراحة {وريحان} قيل: المراد بالريحان كل ما يسر النفس، وليس خاصًّا بالريحان ذي الرائحة الطيبة، بل كل ما فيه راحة النفس ولذتها من مأكول، ومشروب، وملبوس، ومنكوح ومشموم، فهو شامل، وقيل: المراد بالريحان الرائحة الطيبة كالريحان المعروف، والأول: أشمل. فتحمل الآية عليه {وجنت نعيم} أي: جنة

ينعم بها، وهي الدار التي أعدها الله لأوليائه - جعلنا الله منهم - ينعم الإنسان فيها ببدنه وقلبه، فهو لا يتعب ولا ينصب، ولا يمرض ولا يحزن، ولا يهتم ولا يغتم، بل هو في نعيم دائم، والدنيا فيها نعيم لكنه نعيم منغص على حد قول الشاعر: فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر وهكذا الدنيا إذا سرَّت يوماً فاستعد للإساءة من غد، وإذا أساءت يوم فقد تنعم في الثاني، أو لا تنعم، أما الجنة في الآخرة فهي دار نعيم في القلب ونعيم في البدن {وأمآ إن كان من أصحاب اليمين} وهم الذين أتوا بالواجبات وتركوا المحرمات، لكنَّ فيهم نقصاً في المستحبات والتنزه عن المكروهات {فسلام} أي: سلامة {لك} أي: أيها المحتضر {من أصحاب اليمين} أي: أنت من أصحاب اليمين، والمعنى: فسلام لك حال كونك من أصحاب اليمين، والأولون هم المقربون إليهم، وأصحاب اليمين لا سابقين ولا مخذولين، بين بين، لكنهم ناجون من العذاب، ولهذا قال: {فسلام لك من أصحاب اليمين} وهذا القسم الثاني، أما القسم الثالث: {وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين} بالخبر {الضآلين} في العمل فلا تصديق ولا التزام، فكل كافر داخل في هذه الآية حتى المنافق {فنزل من حميم} أي: فله نزل من حميم، والنزل بمعنى الضيافة التي تقدم للضيف أول ما يقدم، فهؤلاء - والعياذ بالله - حظهم هذا النزل نزل من حميم، والحميم هو شديد الحرارة {وتصلية جحيم} أي يصلون الجحيم فيخلدون فيها، والجحيم من أسماء النار - اعاذنا الله وإياكم منها -

{إن هذا لهو حق اليقين} أي: إن هذا المذكور لكم، وهو انقسام الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة {لهو حق اليقين} أي: اليقين المتحقق المتأكد وصدق الله - عز وجل - لا يمكن أن يخرج الناس عن هذه الأقسام الثلاثة. وهم المقربون، وأصحاب اليمين، والمكذبون الضالون، لا يمكن يخرجوا عن هذا {فسبح باسم ربك العظيم} سبح بمعنى نزه، والذي ينزه الله - عز وجل - عنه كل نقص وعيب، أو مماثلة للمخلوق، فهو منزه عن كل نقص لكمال صفاته وعن مماثلة المخلوق، قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وقال: {ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} أي: من تعب وإعياء، وقوله: {باسم ربك} قيل: إن الباء زائدة، وأن المعنى سبح اسم ربك، كما قال الله تعالى: {سبح اسم ربك الأَعلى} وقيل: إنها ليست بزائدة، وأن المعنى سبح الله باسمه فلابد من النطق بالتسبيح، فتقول: سبحان الله، أما لو نزهته بقلبك فهذا لا يكفي، فعلى هذا تكون الباء للمصاحبة يعني سبح الله تسبيحاً مصحوباً باسمه {باسم ربك العظيم} الرب هو الخالق المالك المدبر، والعظيم ذو العظمة والجلال - جل وعلا -. هذه السورة لو لم ينزل في القرآن إلا هي، لكانت كافية في الحث على فعل الخير وترك الشر، فقد ذكر الله تعالى في أولها يوم القيامة {إذا وقعت الواقعة} ثم قسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام: السابقون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، ثم ذكر الله في آخرها حال الإنسان عند الموت، وقسم كل الناس إلى ثلاثة

أقسام: مقربون، وأصحاب يمين، ومكذبون ضالون، وكذلك ذكر الله فيها ابتدأ الخلق في قوله: {أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} والرزق من طعام وشراب وما يصلحهما فهي سورة متكاملة، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتدبرها إذا قرأها، كما يتدبر سائر القرآن لكن هي اشتملت على معاني عظيمة والله الموفق.

تفسير سورة الحديد

تفسير سورة الحديد {بسم الله الرحمن الرحيم} تقدم الكلام عليها، {سبح لله ما في السماوات والأَرض وهو العزيز الحكيم} معنى سبح أي نزه الله - عز وجل - عن كل عيب ونقص، وعن مماثلة المخلوقين، ودليل تنزهه عن كل عيب ونقص قول الله تبارك وتعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} واللغوب يعني التعب والإعياء، وهذا يدل على كمال قوته - عز وجل - وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} وقال تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون} فنزه الله تعالى نفسه عن الغفلة، وقال تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً} فنزه نفسه عن العجز، ودليل تنزهه عن مماثلة المخلوقين، قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وأثبت الله لنفسه وجهاً في قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ، وأثبت الله لنفسه أنه استوى على العرش، والإنسان يستوي على البعير، أي يركب البعير ويستقر عليه ويعلو عليه، ليس استواؤه سبحانه وتعالى على العرش كاستواء الإنسان على البعير، والدليل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فكل صفة يثبتها الله لنفسه وللمخلوق مثلها فإن ذلك موافقة للاسم فقط، أما في الحقيقة فليس كمثله شيء، مثال ذلك: أثبت الله لنفسه علماً، وأثبت للمخلوق علماً، فقال الله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} فأثبت الله لنا علماً، وأثبت لنفسه علماً {علم الله أنكم كنتم تختانون

أنفسكم} وليس العلم الذي أثبته لنفسه كعلم المخلوق والدليل قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فالله - عزوجل - لا يمكن أن يماثله شيء من المخلوقات لا في ذاته، ولا في صفاته، ولهذا لا يمكننا أن ندرك الله - عز وجل - نعلمه بآياته وصفاته وأفعاله، لكنا لا ندرك حقيقته - عز وجل - لأنه مهما قدرت من شيء فالله تعالى مخالف له غير مماثل، وقوله: {ما في السماوات والأَرض} أي: كل ما في السماوات والأرض، فإنه يسبح الله - عز وجل - وينزهه، ويشمل الآدمي، والجن، والملائكة، والحشرات، والحيوانات، وكل شيء، فكل ما في السماوات والأرض يسبح الله، وهل يسبحه بلسان المقال بمعنى يقول: سبحان الله، أو بلسان الحال، بمعنى أن تنظيم السماوات والأرض والمخلوقات على ما هي عليه يدل على كمال الله - عز وجل - وتنزهه عن كل نقص، الجواب: أنه يسبح الله بلسان الحال وبلسان المقال، إلا الكافر، فإنه يسبح الله بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأن الكافر يصف الله بكل نقص، يقول: اتخذ الله ولداً، ويقول: إن معه إلهاً، وربما ينكر الخالق أصلاً، لكن حاله وخلقته وتصرفه تسبيح لله - عز وجل -. وهل الحشرات والحيوانات تسبح الله بلسان المقال؟ الجواب: نعم، قال الله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} الحشرات كلها تسبح الله بلسان المقال، والحصى يسبح الله كما كان ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) {وهو العزيز الحكيم} العزيز يعني ذو العزة، والعزة هي ¬

(¬1) انظر: فتح الباري (6/592) حيث عزاه الحافظ ابن حجر إلى البزار والطبراني في الأوسط.

الكبرياء والغلبة والسلطان وما أشبه ذلك، فالعزيز هو ذو السلطان الكامل والغلبة الكاملة، فلا أحد يغلبه - عز وجل - يقول الشاعر الجاهلي: أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب والحكيم لها معنيان: المعنى الأول: ذو الحكمة، والمعنى الثاني: ذو الحكم التام، فهي مشتقة من شيئين: من الحكمة والحكم، فالحكمة هي أن جميع أفعاله وأقواله وشرعه حكمة، وليس فيه سفه بأي حال من الأحوال، ولهذا قيل في تعريف الحكمة: (إنها وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها) ، فما من شيء من أفعال الله، أو من شرع الله إلا وله حكمة، فإذا قدر الله الحر الشديد الذي يهلك الثمار فهو حكمة لا شك، وإذا منع الله المطر فهو حكمة، وإذا ألقى الله الموت بين الناس فهو حكمة، وكل شيء فهو حكمة، والشرائع كلها حكمة فإذا أحل الله البيع وحرم الربا فهو حكمة، لأنا نعلم أن الله حكيم، ففرق الله - عز وجل - بين البيع والربا، فالبيع أحله الله، والربا حرمه، فإذا قال قائل: لماذا؟ قلنا: الله أعلم، الله حكيم - عز وجل -، ولهذا لما قالت المرأة لعائشة - رضي الله عنها - يا أم المؤمنين ما بال الحائض تقضي الصوم - يعني إذا حاضت في رمضان - ولا تقضي الصلاة؟ سؤال فيه إشكال، لماذا الحائض إذا أفطرت في رمضان يلزمها قضاء الصوم، وإذا تركت الصلاة لا يلزمها قضاء الصلاة، وكلاهما فرض، قالت لها - رضي الله عنها -: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (¬1) » فاستدلت - رضي ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة (321) ومسلم، كتاب الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (335) (69) .

الله عنها - بالحكم على الحكمة، لأنا نعلم أن الله حكيم - عز وجل - فلم يوجب عليها قضاء الصوم دون قضاء الصلاة إلا لحكمة، لكن أحياناً نعرف الحكمة وأحياناً لا نعرفها، لماذا أحل الله البيع وحرم الربا؟ نقول: لأن الله أحل البيع وحرم الربا، ولذلك لما قال أهل الربا: إنما البيع مثل الربا. رد الله قولهم فقال: {وأحل الله البيع وحرم الربا} ، فإذا حكم الله بشيء شرعاً، أو حكم بشيء قدراً فلا يشكل عليك، إن وفقك الله لمعرفة الحكمة فهذا خير، وإن لم تعرف فاعلم أن الله حكيم وله أيضاً الحكم - عز وجل - قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} من يستطيع أن يرفع حكم الله - عز وجل - فيما إذا نزل به الموت؟ لا أحد، قال الله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونهآ إن كنتم صادقين} لا يمكن، لأن الله حكم بهذا، وإذا حكم - عز وجل - بحروب وفتن من يرفع هذا إلا الله عز وجل، والله تعالى له الحكم في الأمور الشرعية قال الله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} فالحكم لله - عز وجل - فإذا عرفت أن الله تعالى له الحكمة فيما شرع، وفيما خلق، وقدر، حينئذ تستسلم ولا تجادل، لأن الذي حكم بذلك هو الله، وإذا علمت أن الحكم لله - عز وجل - بين العباد فترجع الأمور الشرعية، إلى الكتاب والسنة، وفي الأمور القدرية ترجع إلى الله، فإذا حكم عليك بالمرض تفزع إلى الله - عز وجل -، وإذا حكم عليك بالفقر تفزع إلى الله، اللهم

أغنني من الفقر، واقضِ عني الدين، فإذا آمن الإنسان بأن الحكم كله لله إن كان حكماً قدرياً استسلم، وقال: هذا أمر الله، وأنا عبد الله ولا يمكن أن يكون سوى ما كان، وإذا كان شرعيًّا. قال الله - عز وجل - أعلم وأحكم بما يصلح العباد. {له ملك السماوات والأَرض} أي: لله تعالى وحده ملك السماوات والأرض خلقاً وتدبيراً، فلا يملك السماوات والأرض أحد إلا الله عزوجل {يحي ويميت} أي: يجعل الجماد حياً، ويميت ما كان حياً، فبينما نرى الإنسان ليس شيئاً مذكوراً إذا به يكون شيئاً مذكوراً كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} ثم يبقى في الأرض ثم يعدم ويفنى، فإذا هو خبر من الأخبار {وهو على كل شيء قدير} هذه جملة خبرية عامة في كل شيء من موجود ومعدوم، والقدرة صفة تقوم بالقادر حيث يفعل الفعل بلا عجز. {هو الأَول والأَخر والظاهر والباطن} أربعة أشياء {الأَول} أي الذي ليس قبله شيء، لأنه لو كان قبله شيء لكان الله مخلوقاً، وهو عز وجل الخلق، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم {الأَول} الذي ليس قبله شيء (¬1) ، فكل الموجودات بعد الله فليس معه أحد ولا قبله {والأَخر} الذي ليس بعده شيء، لأنه لو كان بعده شيء لكان ما يأتي بعده غير مخلوق لله، والمخلوقات كلها مخلوقة لله عز وجل، فهو الأول لا ابتداء له، والآخر لا انتهاء له، ليس بعده شيء {والظاهر} ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: تفسيرها: «الذي ليس فوقه شيء» فكل المخلوقات تحته جل وعلا، فليس فوقه شيء ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم (رقم 2713) .

{والباطن} قال النبي صلى الله عليه وسلم «الذي ليس دونه شيء» (¬1) أي: لا يحول دونه شيء، خبير عليم بكل شي، لا يحول دونه جبال، ولا أشجار، ولا جدران ولا غير ذلك، ليس دونه شيء، {الأَول والأَخر} اشتملا على عموم الزمان، {والظاهر والباطن} على عموم المكان. {وهو بكل شيء عليم} ، كل شيء فالله عليم به، {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء} فلو عمل الإنسان في جوف بيته في حجرة مظلمة فإن الله تعالى يعلم عمله، بل زد على ذلك أنه يعلم ما توسوس به نفسك كما قال الله - عز وجل -: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} . وأنت إذا فكرت في شيء فالله يعلم به قبل أن يكون، ويعلم الماضي البعيد، ويعلم المستقبل البعيد ويعلم بكل شيء، ولهذا قال موسى - عليه الصلاة والسلام - لما سأله فرعون: {فما بال القرون الأُولى} يعني شأنها قصها علينا {قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} لا يضل معناه لا يجهل، لأن الضلال معناه الجهل، كما قال الله - عز وجل - في نبيه: {ووجدك ضآلا فهدى} ضال ليس معناها فاسق، بل معناه أنه جاهل لا يدري كما قال تعالى: {وكذلك أوحينآ إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} وقال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} إذن الله بكل شيء عليم، وإذا علمت أن الله بكل شيء عليم هل يمكنك أن تقدم على معصية الله وأنت في خفاء عن الناس؟ لا، لأنك تعلم أن الله يعلمك، قال الله - عز ¬

(¬1) تقدم تخريجه في ص 361.

وجل -: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم} الجواب: بلى، {ورسلنا لديهم يكتبون} ، فإذن إذا آمنت بأن الله - جل وعلا - عليم بكل شيء فإنه يستلزم أن لا تقوم بمعصيته ولو في الخفاء، وأن لا تترك طاعته ولو في الخفاء، ولقد قال الله - عز وجل - عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في ءاذانهم} لأجل أن لا يسمعوا، {واستغشوا ثيابهم} لئلا يبصروا بها - والعياذ بالله - لأنهم يكرهون الحق وقوله: {وهو بكل شيء عليم} يشمل أفعال العباد وأقوال العباد، بل إنه يعلم سبحانه وتعالى ما في قلب الإنسان وإن لم يظهره، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} فإياك أن تضمر في قلبك شيئاً يحاسبك الله عليه، لكن الوساوس التي تطرأ على القلب ولا يميل الإنسان إليها بل يحاربها، ويحاول البعد عنها بقدر إمكانه لا تضره شيئاً، بل هي دليل على إيمانه لأن الشيطان إنما يأتي إلى القلب فيلقي عليه الوساوس إذا كان قلباً سليماً، أما إذا كان قلباً غير سليم فإن الشيطان لا يوسوس له، لأنه قد انتهى. {هو الذي خلق السماوات والأَرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأَرض} خلق السماوات والأرض أي: أوجدها - عز وجل - بكل نظام وتقدير، والسماوات سبع والأرضون سبع، والأرض سابقة على السماء، لأن الله تعالى قال في سورة فصلت لما ذكر خلق الأرض قال: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأَرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتآ أتينا طآئعين} ، لكن الله يبدأ بالسماوات لأنها

أشرف من الأرض وأعلى من الأرض، والسماوات بينها مسافة بعيدة جداً جداً، وهذا يلزم أن يكون أصغر السماوات سماء الدنيا ويليها الثانية والثالثة، كل واحدة أوسع من الأخرى سعة عظيمة، وهي طباق متطابقة بعضها فوق بعض، وفي حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلما صعد إلى سماء استفتح ففتح له (¬1) ، والأرض جعلها تعالى في القرآن بصيغة الإفراد، لكن الله تعالى أشار إلى أنها متعددة في قوله: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن} أي: مثلهن في العدد لا في الصفة، لأن التماثل في الصفة بين الأرض والسماء بعيد جداً، لكن مثلهن في العدد، وصرحت بذلك السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله يوم القيامة به من سبع أراضين» (¬2) وخلقها الله عزوجل في ستة أيام، والأيام أطلقها الله - عز وجل - ولم يبين أن اليوم خمسين ألف سنة، أو أقل، أو أكثر، وإذا أطلق يحمل على المعروف المعهود وهي أيامنا هذه، وقد جاء في الحديث أنها الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، (¬3) فالجمعة منتهى خلق السماوات ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء (رقم 349) ، ومسلم، كتاب الإيمان باب الإسراء برسول الله ? إلى السماوات وفرض الصلوات (رقم 163) .. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض (2453) ومسلم كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) . (¬3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله ? بيدي فقال: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور يوم الأربعاء. وبث فيها الدواب يوم الخميس. وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة ... » . وأخرجه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام (رقم 2789) .

والأرض ومبتدئه الأحد، والسبت ليس فيه خلق لا ابتداء ولا انتهاء. فإذا قال قائل: أليس الله قادراً على أن يخلقها في لحظة؟ فالجواب: بلى، لأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن. فيكون، وإنما خلقها في ستة أيام - والله أعلم - لحكمتين: الحكمة الأولى: أن هذه المخلوقات يترتب بعضها على بعض، فرتب الله تعالى بعضها على بعض حتى أحكمها، وانتهى منها في ستة أيام. الحكمة الثانية: أن الله علّم عباده التؤدة والتأني، وأن الأهم إحكام الشيء لا الفراغ منه، حتى يتأنى الإنسان فيما يصنعه، فعلم الله سبحانه عباده التأني في الأمور التي هم قادرون عليها، وكلا الأمرين وجيه، وقد تكون هناك حكم أخرى لا نعلمها، ومع هذا لا نجزم به ونقول: الله أعلم {ثم استوى على العرش} ، استوى عليه يعني على وجه يليق بجلاله، ولا يمكن أن نمثله بخلقه لأن الله ليس كمثله شيء، والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الذي خلقه - عز وجل -، وقد جاء في الحديث: أن السماوات السبع، والأرضين السبع في الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، الحلقة حلقة الدرع المكون من حلق من الحديد، فالحلقة من الحديد من الدرع تكون بالنسبة للفلاة لا شيء، فلاة من الأرض واسعة ضاع فيها حلقة من حلق الدرع ماذا تكون نسبتها وماذا

تشغل من الأرض؟! لا شيء، قال صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة» (¬1) إذن لا يعلم قدره إلا الله - عز وجل - وليس لنا أن نسأل: من أين مادة الكرسي؟ من ذهب، من فضة، من لؤلؤ؟ ليس لنا الحق في أن نتكلم في هذا. هو عرش عظيم كما وصفه الله {رب العرش العظيم} {ذو العرش المجيد} ، عرش عظيم جداً جداً، لا يعلم قدره إلا الله، استوى الله عليه لكمال سلطانه - جل وعلا - و (ثم) في قوله: {ثم استوى على العرش} تدل على الترتيب، أي أن خلق السماوات والأرض سابق على الاستواء على العرش، ومعنى {استوى} أي: على؛ لأن الاستواء في اللغة العربية إذا تعد بـ (على) كان معناها العلو، مثاله قول الله تبارك وتعالى: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} ، ومن ذلك قوله تعالى عن نوح: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظلمين} . فقوله: {استويت أنت ومن معك على الفلك} يعني علوت عليه، ¬

(¬1) أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة (2/569 - 570رقم 206) . وابن حبان كما في الموارد (1/191- 192 رقم 94) والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 109) .

إذن {استوى على العرش} يعني على العرش، وإذا رأيت من يقول استوى على العرش أي استولى على العرش، فقد كذب على الله - عز وجل - لأن الله تعالى نزل هذا القرآن العظيم باللغة العربية، واللغة العربية تدل على أن استوى إذا تعدت بعلى فهي بمعنى العلو لا غيره، فيكون الذي يفسرها باستولى كاذب على الله - عز وجل - جانياً على نصوص الكتاب، محرفاً لها، وجنايته عليها من وجهين: الوجه الأول: صرفها عن ظاهرها. والوجه الثاني: إحداث معنى لا يدل عليه الظاهر، وهذا قد يوجد كثيراً في كتب الأشاعرة، سواء كانوا مفسرين أو غير مفسرين لكنهم بهذا والله والله والله قد ضلوا ضلالاً مبيناً، نسأل الله العافية، فمن الذي استولى على العرش حين خلق السماوات والأرض؟! إذا كان الله لم يستولِ عليه إلا بعد خلق السماوات والأرض فهو لمن من قبل؟! نعم يلزمهم أن يقولوا لغير الله، وإلا فقد أخطأوا يعني تبين خطأهم وهم مخطئون والحمد لله، {يعلم ما يلج في الأَرض} أي: ما يدخل فيها من جثث الموتى، ومن الحبوب التي تنبت بإذن الله، ومن المياه التي يسلكها الله ينابيع في الأرض ثم يخرجها، وغير ذلك من الحشرات وغيرها، فكل ما يلج في الأرض يعلمه الله. {وما يخرج منها} أي: من النبات والمياه والمعادن وغيرها، {وما ينزل من السماء} أي: من الملائكة والأمطار والشرائع وغير ذلك، {وما يعرج فيها} أي: إليها، لكن جاءت بلفظ

{فيها} بدل إليها لنستفيد فائدتين: الفائدة الأولى: العروج يعني الصعود. الفائدة الثانية: الدخول، لأن {في} يناسبها من الأفعال الدخول، تقول: دخل في المكان، أما عرج ويعرج فالذي يناسبها إلى، لكن الله - عز وجل - عدل عن قوله (يعرج إليها) إلى قوله {يعرج فيها} ليفيد الصعود، والدخول. وضمن يعرج معنى يدخل. والتضمين موجود في القرآن الكريم، وفي اللغة العربية قال الله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً} المناسب ليشرب (من) كما قال تعالى: {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} يعني منه، {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} وهنا قال: {يشرب بها} قال العلماء: الحكمة أن يشرب هنا ضمنت معنى يروى، أي: يروى بها. ومعلوم أنك إذا قلت: يروى بها. فقد تضمن معنى يشرب، وزيادة. والتضمين فن مهم في باب البلاغة، ينبغي لطالب العلم أن يدرسه ويحققه، حتى يستفيد إذا اختلفت الحروف مع عواملها، {يعرج فيها} من الأشياء ما يصل إلى السماء الدنيا ويقف، ومنها ما يعرج في السماء الدنيا حتى يصل إلى الله - عزوجل - {وهو معكم} هو الضمير يعود إلى الله - عز وجل - {معكم} أي: مصاحب لكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل» (¬1) لكن هذه الصحبة ليست صحبة مكان. بمعنى أننا إذا كنا ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره (1342) .

في مكان كان الله معنا. حاشا وكلا، لا يمكن هذا، وكيف يتصور عاقل أن الله معنا في مكاننا، وكرسيه وسع السماوات والأرض؟! هذا مستحيل، والكرسي موضع القدمين، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه (¬1) ، فإذا كان كذلك هل يعقل أن رب السماوات والأرض الذي يوم القيامة تكون السماوات مطويات بيمينه، والأرض جميعاً قبضته هل يمكن أن يكون معنا في أماكننا الضيقة والواسعة؟ لا يمكن، إذا {معكم} أي: مصاحب لكم، والمصاحب قد يكون بعيد عنك، يقول العرب في أسلوبهم: ما زلنا نسير والقمر معنا، مازلنا نسير والقطب معنا. ما زلنا نسير والجبل الفلاني معنا، وليس معهم في مكانهم. ومعلوم أن القمر في السماء، والنجم في السماء، والجبل قد يكون بينك وبينه مسافة أيام، ومع ذلك فالعرب تطلق عليه المعية مع البعد في المكان، وكوننا نؤمن بأن الله معنا إذن هوعالم بنا، سميع لأقوالنا، بصير بأفعالنا، له القدرة علينا والسلطان، ومدبر لنا بكل معنى تقتضيه المعية، واعلم أن من الضلال من يقول: إن الله معنا في أمكنتنا، نسأل الله العافية، وينكرون أن الله في السماء عالياً فأتوا داهيتين عظيمتين، الأولى: إنكار علو الله. والثانية: اعتقاد أنه في الأرض. سبحان الله! هل يعقل أن يعتقد عاقل فضلاً عن مؤمن أنه إذا كان في المرحاض كان الله معه؟ أعوذ بالله، الذي ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (12/39 رقم 12404) والحاكم (2/282) والخطيب البغدادي في تاريخه (9/251 252) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/313) : رجاله رجال الصحيح..

يعتقد هذا أشهد بالله أنه كافر، لأن أعظم استهزاء بالله وأعظم حط من قدر الله هو هذا، ثم نقول: إذا كان الله - كما يقولون - في كل مكان يعني أنه في الحجرة، وفي السوق، وفي المسجد، ثم من الذي يكون مع أناس في الحجرة، وأناس في الشارع؟ أهما إلهان؟ لا يمكن أن يقولوا إنه متعدد، هل هو متجزء؟ إذن بطل أن يكون معنا بذاته في أمكنتنا لأنه إما أن يكون متعدداً، وإما أن يكون متجزءاً، وكلاهما باطل، قررت هذا لأنه يوجد من يعتقد أن الله في كل مكان فنقول: المعية هي المصاحبة، ولا يلزم من المصاحبة المقارة في المكان، وكيف يمكن أن يكون الله معك في مكانك وهو سبحانه وتعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، ولكن هؤلاء الذين يعتقدون أنه في كل مكان ما قدروا الله حق قدره، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوا عظمته وجلاله قال الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأَرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويت بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} فكيف يعتقد أن الله معنا في مكاننا، فيجب على الإنسان أن يعرف نعمة الله عليه بكونه يؤمن بالقرآن الكريم ظاهره معظماً لله حق تعظيمه {أين ما كنتم} أي: في أي مكان، لأن أين ظرف مكان {والله بما تعملون بصير} أي: بما تعملون من الأعمال كلها بصير، والبصر هنا يشمل بصر الرؤية قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (¬1) ويشمل بصر العلم، فمن المعلوم أن ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام وفي قوله حجابة النور ... (رقم 179) .

أعمالنا قد تكون مرئية الحركة، وقد تكون مسموعة كالأقوال، فرؤية المسموع العلم. {له ملك السماوات والأَرض} أي: لله تعالى وحده ملك السماوات والأرض خلقاً وتدبيراً، فلا يملك السماوات والأرض أحد إلا الله - عز وجل - لا استقلالاً ولا مشاركة، قال تعالى: {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأَرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} فنفى الاستقلال ونفى المشاركة {وما له} أي: ما لله {من ظهير} أي: من مساعد ساعده على خلق السماوات والأرض، فله ملك السماوات والأرض وعددها سبع، قال الله تعالى: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم} والأرضون أيضاً عددهم سبع كما جاء ذلك ظاهراً في القرآن وصريحاً في السنة، قال الله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن} يعني في العدد، وثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه يوم القيامة من سبع أراضين» (¬1) {وإلى الله ترجع الأُمور} ، كل الأمور أي الشؤون العامة والخاصة، الدينية، والدنيوية، والأخروية كلها ترجع إلى الله - عز وجل - يتصرف كما شاء يحكم بما شاء ولا معقب لحكمه - عز وجل - فكل أمور الإنسان الخاصة ترجع إلى الله، ولذلك يجب عليك إذا ألمَّت بك ملمة أن ترجع ¬

(¬1) تقدم ص 364..

إلى الله - عز وجل - لأن المشركين وهم مشركون - إذا ألمت بهم الملمات التي يعجزون عنها يرجعون إلى الله - عز وجل - فإذا عصفت بهم الرياح في أعماق البحار على السفن يلجئون إلى الله عز وجل، ويرجعون إلى الله، ويسألونه أن ينجيهم وهم مشركون، فكيف بك أنت أيها المسلم، فالجأ إلى الله في كل صغير أو كبير، ديني أو دنيوي خاص بك أو بأهلك، لا تلجأ لغير الله، فمن أنزل حاجته بالله قُضيت، ومن أنزل حاجته بغير الله وُكل إليه، فنقول: إلى الله ترجع الأمور عامة: الأمور الدينية والدنيوية والأخروية، والخاصة والعامة، وإذا آمنت بهذا ويجب أن تؤمن به صرت لا تلجأ إلا إلى الله - عز وجل - {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} ، يولج أي يُدخل الليل في النهار، ويولج النهار أي يُدخله في الليل، وهذا يعني اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر، أحياناً يبدأ الليل في الزيادة فيدخل على النهار، فهذا {يولج الليل في النهار} . وأحياناً يبدأ الليل ينقص ويزيد النهار، فيدخل النهار على الليل، ولا أحد يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، لو اجتمع الخلق كلهم إنسهم وجنهم، والملائكة ما استطاعوا أن يولجوا دقيقة واحدة من الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، والله - عز وجل - يولج الليل في النهار أو من النهار في الليل، ثم هذا الإيلاج لا يأتي دفعة واحدة، ولكنه يأتي تدريجياً شيئاً فشيئاً، أول ما يبدأ بالزيادة تجده يأخذ قليلاً في اليومين أو الثلاثة دقيقة واحدة، ثم يبدأ يزداد حتى يكون عند تساوي الليل والنهار يأخذ حوالي دقيقتين في اليوم تدريجيًّا،

أرأيتم لو جاء دفعة واحدة، كنا مثلاً في أطول يوم في السنة وإذا بنا في اليوم الثاني إلى أقصر يوم في السنة، فيترتب على ذلك مفاسد عظيمة؛ لأن الناس سينقلبون من حر مزعج إلى برد مؤلم في خلال أربع وعشرين ساعة، وهذا لا شك أنه مضر بالأبدان والنبات والجو، ولكنه - عز وجل - يولجه على تنظيم موافق للحكمة تماماً، ولا أحد يستطيع أن يفعل هذا أبداً مهما بلغ من القوة، {وهو عليم بذات الصدور} ، أي: صاحبة الصدور يعني القلوب، والدليل أنها القلوب قول الله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور} إذن هو عليم بما في القلب، وإذا كنت تصدق بذلك فهل يمكن أن تضمر في قلبك ما لا يرضاه الله، إن كنت مؤمناً؟ لا يمكن، فطهِّر قلبك من الرياء والنفاق، والغل على المسلمين والحقد والبغضاء، لأن قلبك معلوم عند الله - عز وجل -، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا. فطهر القلب من هذا، واملأه محبة لله تعالى وتعظيماً، كما يليق به ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيماً، كما يليق به، ومحبة للمؤمنين، ومحبة لشريعة الله تعالى، فلا تضمر في هذا القلب شيئاً يكرهه الله، فإن فعلت فالله عليم به لا يخفى عليه، فطهر قلبك حتى يكون نقياً سليماً، لأنه لا ينفع يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم كما قال - عز وجل -: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} وتغيرات القلب تغيرات سريعة وعجيبة، ربما ينتقل من كفر إلى إيمان، أو من إيمان إلى كفر في لحظة، نسأل الله الثبات، وتغير القلب يكون على حسب

ما يحيط بالإنسان، وأكثر ما يوجب تغير القلب إلى الفساد حب الدنيا، فحب الدنيا آفة، والعجب أننا متعلقون بها، ونحن نعلم أنها متاع الغرور، وأن الإنسان إذا سرّ يوماً أسيء يوماً آخر، كما قال الشاعر: ويوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر كل لذة في الدنيا فهي محوطة بمنغص، لذلك احرص على تطهير القلب من التعلق بالدنيا إلا فيما ينفعك في الآخرة، كأن تتعلق بالدنيا لتصبح غنياً تنفق مالك في سبيل الله وفيما يرضي الله، - عز وجل - فهذا شيء آخر، وطلب المال للأعمال الصالحة خير، لكن طلب المال لمزاحمة أهل الدنيا في دنياهم شر. {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} {آمنوا} ، الخطاب للعباد كلهم، {بالله} رب العالمين {ورسوله} محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والأمر هنا للوجوب الذي هو أشد أنواع الوجوب تحتماً، والإيمان بالله أن تؤمن بأنه رب العالمين، وأن تؤمن بأنه الإله المعبود حقًّا الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأن تؤمن بأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأن تؤمن بأنه الفعال لما يريد، وأن تؤمن أنه لا معقب لحكمه وهو السميع العليم، وأن تؤمن أن مرجع الخلائق إليه في الأحكام الشرعية والأحكام الكونية، فمن يدبر الخلق إلا الله - عز وجل - والذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون هو الله - عز وجل - {ورسوله} محمد عليه الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى إلى جميع الخلق والإنس والجن. وختم به النبوات، فلا

نبي بعده، والدليل {ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً} . يعني كان رسول الله خاتم النبيين فلا نبي بعده، فمن ادعى النبوة بعده فهو كافر، يجب أن يقص عنقه إلا أن يتوب ويرجع، {وأنفقوا} ، الإنفاق البذل، {مما جعلكم مستخلفين فيه} يعني المال؛ لأن الله جعلنا مستخلفين في المال فهو الذي ملكنا إياه، فلا منة لنا على الله بما ننفق، بل المنة لله علينا بما أعطى، والمنة له علينا بما شرع لنا من الإنفاق، ولولا أن الله شرع لنا أن ننفق لكان الإنفاق ضياعاً وبدعة، ولكن شرع لنا أن ننفق، فلله تعالى المنة أولاً فيما ملكنا من المال، وله المنة ثانياً بما شرع لنا من إنفاقه، وله المنة ثالثاً بالإثابة عليه {فالذين آمنوا منكم} أي: آمنوا بالله ورسوله؛ لأنه قال: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا} أي مما جعلهم مستخلفين فيه، {لهم أجر كبير} ، والآيات في هذا كثيرة {لهم أجر كبير} ، {ولهم أجر عظيم} {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ، فوصف الله الأجور على العمل بأنه كبير عظيم كثير، الكثير نأخذه من قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وبهذا نعرف منة الله علينا: يأمرنا بالعمل ونعمل به ويأجرنا عليه أجراً كثيراً، أجراً عظيماً، أجراً كبيراً، منة عظيمة كبيرة، فعلينا أن نشكر الله، وأن ننفق مما جعلنا مستخلفين فيه، فهل ننفق كل ما نملك أو بعض ما نملك؟ قال الله تعالى: {وأنفقوا مما} ومن هذه هل هي للتبعيض أو هي لبيان ما ينفق منه إذا كانت للتبعيض فالمعنى أنفقوا بعض ما رزقكم وليس

كله. إذا جعلناها للبيان، فالمعنى أنفقوا مما جعلكم حسب ما تقتضيه المصلحة: إما الكل وإما البعض، والأحسن أن تجعل {مما} للبيان، وإذا جعلناها للبيان صار الإنسان مخيراً ينفق كل ماله، أو بعض ماله، أكثره أو أقله، حسب ما تقتضيه المصلحة، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أوسع كان الأخذ به كان أولى، والقرآن الكريم العظيم معانيه واسعة عظيمة، ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم مرة على الصدقة، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتسابقون إلى الخير، كل واحد يحب أن يكون هو السابق، فقال عمر - رضي الله عنه -: اليوم أسبق أبا بكر؛ لأن هذين الرجلين هما أخص الصحابة بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأحب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر أشد من حب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، مع أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عمه وزوج ابنته، لكن أبا بكر - رضي الله عنه - يحبه أشد وأكثر، فقد سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «أبو بكر (¬1) » وقال: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر (¬2) » والمهم أن عمر كان هو وأبو بكر - رضي الله عنهما - كفرسي رهان، يحب أن يسبقه لا حسداً لأبي بكر - رضي الله عنه - ولكن حبًّا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ?: لو كنت متخذاً خليلاً (3662) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2384) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ?: سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر (رقم 3654) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2382) ..

للفضل لنفسه، قال: اليوم أسبق أبا بكر، فجاء بنصف ماله لينفقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر، «ماذا تركت لأهلك» ؟ قال: تركت لهم الشطر، يعني النصف، وجاء أبو بكر فقال: «ما تركت لأهلك» ؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، أي أتى بكل ماله، فقال عمر: - رضي الله عنه - والله لا أسابقك على شيء بعد هذا (¬1) ، عرف أنه يعجز أن يسبق أبا بكر، والشاهد من هذا الحديث أن أبا بكر - رضي الله عنه - تصدق بجميع ماله، فإذا رأى الإنسان المصلحة في أن يتصدق بجميع ماله، وأن عنده من قوة التوكل والاعتماد على الله واكتساب الرزق ما يمكنه أن يسترد شيئاً من المال لأهله ونفسه، فحينئذ نقول: تصدق بجميع مالك، وإذا كان الأمر بالعكس فكان رجلاً أخرق لا يعرف أن يكتسب، وليس هناك داع أن ينفق كثيراً، فهنا نقول: الأولى أن تنفق بعض المال، وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحقق إيمانه ويثبته، وكلما رأى فيه تزعزعاً استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ومضى إلى سبيله، وأن ينفق من المال، والمال محبوب قال الله تعالى: {وتحبون المال حباً جماً} وقال - عز وجل -: {وإنه لحب الخير لشديد} ولا يمكن أن يبذل الإنسان شيئاً محبوباً إليه إلا لما هو أحب، فإذا بذل الإنسان المحبوب إليه ابتغاءً لرضوان الله، علمنا أن الرجل يحب رضوان الله أكثر من المال، وبذلك يتحقق الإيمان، أسأل الله تعالى أن يجعلنا من ذوي العلم الراسخ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (رقم 3675) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

والإيمان الثابت، إنه على كل شيء قدير. {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين} هذا معطوف على الآية التي قبلها وهي {آمنوا بالله ورسوله} {وما لكم لا تؤمنون بالله} يعني أي شيء يمنعكم من الإيمان بالله، وقد تمت أسباب وجوب الإيمان به، وذلك بدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال عز وجل: {والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم} يعني أخذ الله تعالى العهد أن تؤمنوا به وبرسوله، فصار هناك سببان للإيمان، الأول: دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه، والثاني: الميثاق الذي أخذه الله علينا، وذلك بما أعطانا - عز وجل - من الفطرة والعقل والفهم الذي ندرك به ما ينفعنا ويضرنا، هذا هو الصحيح في معنى الميثاق، وقيل: إنه الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم حين أخرجهم من ظهره، إن صح الحديث الوارد في ذلك (¬1) المهم أن الله تعالى ينكر على من لم يؤمن فيقول: ما الذي حملك على أن لا تؤمن، وقد تمت أسباب وجوب الإيمان بدعوة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبأخذ الميثاق {إن كنتم مؤمنين} يعني إن كنتم مؤمنين فالزموا الإيمان بالله ورسوله، {هو الذي ينزل على عبده ءايات بينات} لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو إلى الإيمان بين ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (1/27 28) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر. ووافقه الذهبي وأخرجه أيضاً في (2/544) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي..

أنه نزل عليه صلى الله عليه وسلم {ءايات} أي: علامات دالة على صدقه، وأن ما جاء به هو الحق، {بينات} ظاهرات بما اشتملت عليه من القصص النافعة، والأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، والفصاحة التامة، والبيان العجيب، حتى إن العرب وهم أئمة البلاغة وأمراؤها تحداهم الله - عز وجل - عدة مرات أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولم يستطيعوا، {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} قوله: {ليخرجكم} يحتمل أن يكون المراد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أي يكون سبباً في إخراجكم من الظلمات إلى النور، ويحتمل أن يعود إلى الله - عز وجل - أي ليخرجكم الله تعالى بهذه الآيات من الظلمات إلى النور، وكلا المعنيين حق، قال الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} وقال الله تعالى: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} فالنبي صلى الله عليه وسلم سبب في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأما المخرج حقيقة فهو الله - عز وجل -، والمراد بالظلمات: ظلمات الجهل، وظلمات الشرك، وظلمات العدوان، وظلمات العصيان، وكل ما خالف الحق فهو ظلمة، وكل ما وافقه فهو نور، {وإن الله بكم لرءوف رحيم} ، هذه الجملة خبرية مؤكدة بإن، واللام {لرءوف رحيم} الرأفة أرق الرحمة، والرحمة أعم، فهو - عز وجل - رؤوف رحيم، أي ذو رحمة بالمؤمنين كما قال تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً} ورحمة الله سبحانه وتعالى إما عامة وإما خاصة، فالعامة الشاملة لجميع الناس، والخاصة بالمؤمنين، كما قال - عز وجل -: {وكان بالمؤمنين رحيماً} فإذا قال قائل:

أي رحمة من الله للكافر؟ فالجواب: أمده بأنعام وبنين، وعقل، وأمن، ورزق، بل الكفار قد عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا قال الله عز وجل: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} فإذا سألك سائل: هل لله رحمة على الكافر؟ لا تقل: نعم ولا لا، أما بالمعنى العام فنعم رحمة، ولولا رحمة الله به لهلك، وأما بالمعنى الخاص فلا، الرحمة الخاصة للمؤمنين فقط قال - عز وجل -: {وكان بالمؤمنين رحيماً} {وإن الله بكم لرءوف رحيم} ولما أمرنا أن ننفق مما جعلنا مستخلفين قال: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} يعني أي شيء يمنعهم، والإنفاق في سبيل الله يشمل كل شيء أمر الله بالإنفاق فيه، ففي سبيل الله هنا عامة، وعليه يدخل في ذلك الإنفاق على النفس، والإنفاق على الزوجة، والإنفاق على الأهل، والإنفاق على الفقراء واليتامى، والإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فكل ما أمر الله تعالى بالإنفاق فيه فهو داخل في هذه الآية حتى إنفاقك على نفسك صدقة، وإنفاقك على زوجك صدقة، ولكن لاحظ النية، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - «واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها» (¬1) ، فلزم هذا القيد، لابد أن تبتغي بها وجه الله إلا أجرت، أي: أثبت عليها، {ولله ميراث السماوات والأَرض} يعني كيف لا تنفق والذي سيرث السماوات ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب رقى النبي ? سعد بن خولة (1295) ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث (1628) ..

والأرض هو الله، ومن جملة ذلك مالك الذي بخلت به سيرثه الله - عز وجل - وترجع الأمور كلها لله سبحانه وتعالى. قال أهل العلم: إن الشح في إنفاق المال سفه في العقل، لأن هذا المال إما أن يفنى في حياتك فتعدمه، وإما أن يبقى بعد موتك فإذا ورث مالك من بعدك فإما أن يرثه صالح فيكون أسعد به منك، وإما أن يرثه مفسد فتكون خلفت له ما يستعين به على إفساده، فإذا خلفت المال فإما أن تخلفه إلى من ينفقه في سبيل الله فيكون هو أسعد بمالك منك، وإما أن تخلفه لمفسد يستعين به على معصية الله فتكون أعنته على معصية الله، بما خلفت له من المال، إذن اللائق بك أن تنفقه في سبيل الله حتى يكون لك غنم وتسلم من غائلته لو ورثه من يفسد به، فتذكر يا أخي عندما تفكر في الإنفاق فيأتيك الشيطان فيأمرك بالبخل ويعدك الفقر، فكر أنك إذا خلفت هذا المال فلابد أن يورث، لن يدفن معك، لابد أن يورث ويكون الإرث دائراً بين الأمرين السابقين. {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} دين الإسلام دين العدل في العمل والجزاء، وانتبه دين العدل في العمل والجزاء وليس كما يقول المحدَثون: «إنه دين المساواة» ، هذا غلط عظيم، لكن يتوصل به أهل الآراء والأفكار الفاسدة إلى مقاصد ذميمة، حتى يقول: المرأة والرجل، والمؤمن والكافر سواء، ولا فرق، وسبحان الله إنك لن تجد في القرآن كلمة المساواة بين الناس، بل لابد من فرق، بل أكثر ما في القرآن نفي المساواة {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وآيات كثيرة، فاحذر أن تتابع فتكون كالذي ينعق بما لا يسمع إلا

دعاء ونداء، بدل من أن تقول: (الدين الإسلامي دين مساواة) قل: (دين العدل الذي أمر الله به، يعطي كل ذي حق حقه) ، أرأيت المرأة مع الرجل في الإرث، وفي الدية، وفي العقيقة، وفك الرهان يختلفون. وفي الدين: المرأة ناقصة إذا حاضت لم تصل ولم تصم، وفي العقل المرأة ناقصة: شهادة الرجل بشهادة امرأتين، وهلم جرا، والذين ينطقون بكلمة مساواة إذا قررنا هذا وأنه من القواعد الشرعية الإسلامية ألزمونا بالمساواة في هذه الأمور، وإلا لصرنا متناقضين، فنقول: دين الإسلام هو دين العدل يعطي كل إنسان ما يستحق، حتى جاء في الحديث: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود (¬1) » يعني إذا أخطا الإنسان الشريف الوجيه في غير الحدود فاحفظ عليه كرامته وأقله، هذا الذي تقيله إذا كان من الشرفاء، إقالتك إياه أعظم تربية من أن تجلده ألف جلدة، لأنه كما قيل: الكريم إذا أكرمته ملكته، لكن لو وجد إنسان فاسق ماجن فهذا اشدد عليه العقوبة وأعزره، ولهذا لما كثر شرب الخمر في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضاعف العقوبة بدل أربعين جعلها ثمانين (¬2) ، كذلك الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن: «من شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه» (¬3) ، لأن لا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الحدود، باب في الحد يشفع (4375) . وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1185) .. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (رقم 6779) . (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد في الرابعة فاقتلوه (1444) وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 6309) .

فائدة في جلده، ثلاث مرات نعاقبه ولا فائدة إذن خير له ولغيره أن يقتل، وإذا قتلناه استراح من الإثم، كما قال الله عز وجل: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأَنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين} والخلاصة أن التعبير بأن دين الإسلام دين ااساواة غلط وليس بصحيح، بل هو دين العدل ولا شك، والعجب أن هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام، يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى (¬1) » فيتناقضون، والحديث لم ينف مطلقاً، وإنما قال: «إلا بالتقوى» فهم يختلفون بالتقوى، ثم إن هذا الحديث لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه قال: «إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم (¬2) » ففضل، ولا شك أن جنس العرب أفضل من جنس غير العرب لا شك عندنا في هذا، والدليل على هذا أن الله جعل في العرب أكمل نبوة ورسالة، محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فالأجناس تختلف، وقال عليه الصلاة والسلام: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا (¬3) » فاحذر أن تتابع في العبارات التي ترد من ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (5/411) . وقال الهيتمي في مجمع الزوائد (3/269) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ? وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (رقم 2276) . (¬3) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (3353) ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل يوسف عليه السلام (2378) .

المحدِثين المحدَثين حتى تتأملها وما فيها من الإيحاءات التي تدل على مفاسد ولو على المدى البعيد، أسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير. {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} أي: لا يكونوا سواء، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبين قريش، وذلك في ذي القعدة من عام ستة من الهجرة، وسمي فتحاً، لأنه صار فيه توسيع للمسلمين وتوسيع أيضاً للمشركين. واختلط الناس بعضهم ببعض، وأمن الناس بعضهم بعض حتى يسر الله - عز وجل - أن نقضت قريش العهد، فكان من بعد ذلك الفتح الأعظم، فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان قال الله - عز وجل -: {أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} وذلك لأن الأولين أنفقوا وقاتلوا وسبقوا إلى الإسلام وكان الإسلام في حاجة لهم ولإنفاقهم، فكانوا أفضل ممن أنفق من بعد وقاتل، والله سبحانه وتعالى يجزي بالعدل بين عباده، ولكن لما كان تفضيل السابقين قد يفهم منه أن لا فضل للاحقين قال: {وكلا وعد الله الحسنى} أي: كل من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعدهم الله الحسنى، يعني الجنة، {والله بما تعملون خبير} أي: عليمببواطن أموركم كظواهركم لا يخفى عليه شيء، وإذا كان عالماً بها فسوف يجازي - جل وعلا - كل عامل بما عمل، قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل

مثقال ذرة شراً يره} . ثم قال - عز وجل -: حاثًّا ومرغباً في الإنفاق في سبيله، فقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} أي: أين الذين يقرضون الله قرضاً حسناً، أي: ينفقون فيما أمرهم بالإنفاق فيه، وأشار الله في هذا إلى شيئين: إلى الإخلاص في قوله، {من ذا الذي يقرض الله} يعني لا يرى سوى الله - عز وجل - والمتابعة في قوله: {حسناً} ؛ لأن العمل الحسن ما كان موافقاً للشريعة الإسلامية، والإخلاص والمتابعة هما شرطان في كل عمل: أن يكون مخلصاً لله، وأن يكون متابعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووصف الله تعالى الإنفاق في سبيله بالقرض تشبيهاً بالقرض الذي يقرضه الإنسان غيره، لأنك إذا أقرضت غيرك فإنك واثق من أنه سيرده عليك، هكذا أيضاً العمل الصالح سيرد على الإنسان بلا شك، بل {فيضاعفه له} والمضاعفة هنا الزيادة، وقد بين الله تبارك وتعالى قدرها في سورة البقرة، فقال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} فأنت إذا أنفقت درهماً فجزاؤه سبعمائة درهم، ثواباً من عند الله - عز وجل - والله فضله أكثر من عدله وأوسع، ورحمته سبقت غضبه، فيضاعفه له إلى سبعمائة بل إلى أكثر كما جاء في الحديث إلى أضعاف كثيرة، {وله أجر كريم} ، أي: حسن واسع، وذلك فيما يجده في الجنة، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال - عز وجل -: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات} أي: أذكر للأمة يوم ترى أيها الإنسان {المؤمنين

والمؤمنات} يوم القيامة {يسعى نورهم بين أيديهم} أي: أمامهم {وبأيمانهم} يكون من الأمام ومن اليمين، أما من الأمام فلأجل أن يقتدي الإنسان به، وأما عن اليمين فتكريماً لليمين يكون بين أيديهم وبأيمانهم، وقوله: {يسعى نورهم} يفيد أن هذا النور على حسب الإيمان، لأن الحكم إذا علق بوصف كان قويًّا بقوة ذلك الوصف، وضعيفاً بضعفه، إذن نورهم على حسب إيمانهم الذكر والأنثى. {بشراكم اليوم جنات} تقول الملائكة لهم {بشراكم} أي: ما تبشرون به {اليوم} يعني يوم القيامة {جنات تجرى من تحتها الأنهار} هذه الجنات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها ما يشاءون، كما قال الله عز وجل: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} وجمعها لأنها جنات متعددة متنوعة، ودرجات مختلفة حسب قوة الإيمان والعمل وقوله {تجرى من تحتها الأنهار} أي: تسير، وقد بين الله تبارك وتعالى في سورة القتال أنها أربعة {أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} وهذه الأنهار لا تحتاج إلى حفر ساقية ولا إلى جدول، بل تسير على سطح الأرض، حيث شاء أهلها، قال ابن القيم - رحمه الله -: أنهارها من غير أخدود جرت ... سبحان ممسكها عن الفيضان فلا تذهب يميناً ولا شمالاً إلا حيث أراد أهلها، وقوله {من تحتها} إشارة إلى علو قصورها وأشجارها، يعني تكون هذه الأنهار من تحت هذه القصور العالية والأشجار الرفيعة {خالدين فيها} أي:

ماكثين فيها، وقد جاءت آيات متعددة بأن هذا المكث دائم ليس فيه زوال ولا انقطاع ولا تغير، {ذلك هو الفوز العظيم} المشار إليه ما وعدهم الله به الجنات التي تجري من تحتها الأنهار هو الفوز العظيم، و {هو} يسميها العلماء ضمير فصل، وهو مفيد للتوكيد والاختصاص، أي هذا الذي ذكر هو الفوز العظيم، لأنه لا فوز مثله، كما أنه لا فوز أعظم منه، نسأل الله أن يجعلنا من أهله إنه على كل شيء قدير. {يوم يقول المنافقون والمنافقت للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} {يوم يقول} أي: اذكر يوم يقول، فكلمة {يوم يقول} ظرف زمان، ولابد للظرف الزماني والمكاني، والجار والمجرور من شيء تتعلق به، والعلماء يقدرون المحذوف في كل مكان بما يناسب، وهنا المناسب أن يكون التقدير: اذكر أيها الإنسان يوم يقول المنافقون، هذا اليوم هو يوم القيامة، والمنافقون هم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} ولم يظهر النفاق إلا بعد أن قويت شوكة المسلمين بعد غزوة بدر، وكانت غزوة بدر في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، انتصر فيها المسلمون انتصاراً ساحقاً على الكفار، فلما بزغ فجر الإسلام وقويت شوكته ظهر النفاق. والنفاق هو أن الإنسان يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فظهر ذلك في المسلمين، فكانوا يأتون إلى الناس ويحضرون الجماعة لكنها ثقيلة عليهم، «وأثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء

وصلاة الفجر (¬1) » ، لأنه ليس هناك أضواء يشاهدون فيها، وهم إنما يصلون يراءون الناس، وفي يوم القيامة يظهر نور للمؤمنين والمنافقين، ثم ينطفىء نور المنافقين، وأنت تعلم أيها الإنسان أن انطفاء النور بعد ظهوره يكون أشد ظلمة مما لو لم يكن هناك نور، ولهذا لو أطفأت النور القوي ثم فتحت عينيك لم تر شيئاً إلا بعد برهة من الزمن، فيكون انطفاء النور بعد وجوده أشد عليهم مما لو لم يكن هناك نور، ثم تكون الحسرة أشد، فيقول المنافقون للذين آمنوا: {انظرونا نقتبس من نوركم} ، أي: نأخذ شيئاً قليلاً بقدر الحاجة، {قيل ارجعوا وراءكم} ، والقيل هذا إما من المؤمنين، أو من الملائكة، فالله أعلم لا ندري. {ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} وهل هو حقيقة يريدون أن يذهبوا إلى مكان النور، الذي انطفأ فيه النور لعله يتجدد النور، أو أن هذا من الاستهزاء بهم والسخرية؟ الآية محتملة هذا وهذا {فضرب بينهم} أي بين المنافقين والمؤمنين {بسور له باب} هذا سور عظيم، له باب يمنع من القفز، له باب يدخل منه المؤمنون ويمنع منه المنافقون، {باطنه فيه الرحمة} أي: باطن هذا السور فيه الرحمة للمؤمنين، {وظاهره من قبله العذاب} للمنافقين، وأنت لا تستطيع أن تتصور هذه الحال، لأن الحال أعظم من أن نتصورها، حال عظيمة {ينادونهم} ، المنادى المنافقون، والمنادى المؤمنون، {ألم نكن معكم} يعني ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل العشاء في الجماعة (657) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها (651) (252) ..

في الدنيا كنا نصلي معكم ونتصدق ونذكر الله، {قالوا بلى} يعني أنتم معنا، ولكن في الظاهر دون الباطن، ولهذا قالوا: {ولكنكم فتنتم أنفسكم} يعني أضللتموها {وتربصتم} ، انتظرتم بنا الدوائر {وارتبتم} شككتم في الأمر، فليس عندكم إيمان {وغرتكم الأماني} أي: ظننتم أنكم محسنون لأنكم تقولون إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، نوفق بين المؤمنين والكافرين، وبين الإيمان والكفر، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا فهم مع المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، فهم مع الكفار، ظنوا أنهم بهذه المداهنة كسبوا المعركة، فغرتهم الأماني {حتى جاء أمر الله} ، وذلك بموتهم {وغركم بالله الغرور} . الغرور هو الشيطان ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى عنه حين وسوس إلى أبوينا قال الله عنه {فدلاهما بغرور} ، فالغرور هو الشيطان، {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} الأسير في الدنيا يمكن أن يفدي نفسه ويبذل المال فيسلم، لكن في الآخرة ليس فيه فدية، {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} أيها المنافقون، {ولا من الذين كفروا} الذين أعلنوا الكفر وصاروا أشجع من هؤلاء المنافقين فلا فدية لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، {مأواكم النار} أي: مثواكم ومآلكم النار {هي مولاكم} الذي تتولونه، والتي تتولاكم، فهم يتولون النار بعمل أهلها، والنار تتولاهم لأنهم مستحقون لها {وبئس المصير} أي: المرجع وهذا تقبيح لها، أعاذنا الله منها، نسأل الله أن يجعلنا ممن زحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن الفائزين المتقين المفلحين. {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} أي: ألم

يحق لهؤلاء المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: أن تذل وتنقاد غاية الانقياد لذكر الله تعالى في القلوب واللسان والجوارح {وما نزل من الحق} ، يعني القرآن الكريم، وهو من ذكر الله، وذكره بخصوصه لأهميته، {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأَمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} ، الذين أوتوا الكتاب من قبل هم اليهود والنصارى {فطال عليهم الأَمد} يعني طال بهم الزمن ونسوا حظهم مما ذكروا به فقست قلوبهم - والعياذ بالله - وكثير منهم فاسقون وبعضهم مستقيم، ففي هذه الآية الكريمة يبين الله - تبارك وتعالى - انه قد حق للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ولكتاب الله، وأن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم لبعدهم عن زمن الرسالات، وفي هذا إشارة إلى أن أول الأمة خير من آخرها، وأخشع قلوباً؛ وذلك لقربهم من عهد الرسالة، وقد صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬1) وفي هذا التنديد التام باليهود والنصارى لأنها قست قلوبهم لما طال عليهم الأمد، وفيه العدالة التامة في حكم الله - عز وجل - حيث قال: {وكثير منهم فاسقون} ولم يعمم، وهذا هو الواجب على من تحدث عن قوم أن يبين الواقع؛ لأن بعض الناس إذا رأى من قوم زيغاً في ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2652) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2533) ..

بعضهم عمم الحكم على الجميع، والواجب العدل إن كان الأكثر هم الفاسقون، فقل: أكثرهم، وإن كان كثير منهم فاسقين فعبر بالكثير على حسب ما تقتضيه الحال، لأن الواجب أن يقوم الإنسان بالعدل ولو على نفسه أو والديه والأقربين. {اعلموا أن الله يحي الأَرض بعد موتها قد بينا لكم الأيات لعلكم تعقلون} اعلموا: فعل أمر، فأمر بالعلم بهذه القضية الهامة، وهي أن الله يحيي الأرض بعد موتها، يعني أن الأرض تجدها يابسة ليس بها نبات فينزل الله عليها المطر فتنبت وتحيا وتنمو، إذا علمنا هذا ونحن عالمون به ونشاهده، فإننا نستدل به على قدرة الله - تبارك وتعالى - على إحياء الموتى، فإن الناس أحياء الآن، ثم يموتون، ثم يبعثون يوم القيامة، فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأجسام بعد موتها من أجل الحساب والجزاء؛ لأنه ليس من الحكمة أن يخلق الله - تبارك وتعالى - خلقاً يأمرهم وينهاهم ويبيح دماء من لم يستجب وأموالهم ثم تكون النتيجة أن يموت الإنسان فقط، بل لابد من حياة، هي الحياة الحقيقية، كما قال - عز وجل -: {وإن الدار الأَخرة لهي الحيوان} ومعنى الحيوان، أي: الحياة الحقيقية التامة الكاملة التي ليس بعدها موت، وليس المراد بالحيوان الحيوانات الدواب، فالقادر على أن يجعل العيدان اليابسة خضراء نامية، قادر على أن يحيي الموتى وبكلمة واحدة، قال الله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة ... فإذا هم بالساهرة} وقال عز وجل: {إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} وقال

- عز وجل -:. {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} {قد بينا لكم الأيات لعلكم تعقلون} أي: أظهرناها لكم، والآيات هي العلامات الدالة على كمال قدرة الله - جل وعلا - وعلى كمال رحمته وسلطانه، وأضرب لذلك مثلاً: إذا أنزل الله المطر ونبتت الأرض، وشبعت البهائم، وطابت الأجواء فهذا من آثار رحمته، فنستدل بهذا على رحمة الله، ونستدل بما خلق الله في الكون من الشمس والقمر والنجوم، وما خلق الله تعالى في الأرض من الجبال والأنهار وغيرها على كمال حكمة الله - عز وجل - لأنك إذا تدبرتها وجدت فيها من الحكمة ما يبهر العقل، {لعلكم تعقلون} لعل هنا للتعليل وليست للرجاء، مع أنها في اللغة العربية تأتي للرجاء كثيراً، لكنها هنا للتعليل؛ لأن الرجاء لا يمكن في حق الله، إذ إن الرجاء طلب شيء فيه نوع من العسر، لكن الله - عز وجل - لا يتصور في حقه الرجاء، لكن تأتي لعل للتعليل، أي لأجل أن تعقلوا، والمراد بالعقل هنا: عقل الرشد، أي: تعقلوا عقلاً ترشدون به، ويكون دليلاً لكم على ما فيه الخير {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم} ، {إن المصدقين} أصلها: إن المتصدقين، لكن قلبت التاء صاداً لعلة تصريفية معروفة عند أهل النحو، {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} أي: أنفقوا في سبيل الله إنفاقاً حسناً، والإنفاق الحسن ما جمع شرطين، الأول: الإخلاص لله - عز وجل -. والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالمرائي الذي ينفق رياء لم يقرض الله قرضاً حسناً، ومثال ذلك:

إنسان تصدق على فقير من أجل أن يراه الناس، فيقولون: إن فلاناً كثير الصدقة، فهذا مرائي وصدقته لا تنفعه، ولا تقبل منه؛ لأن كل عمل يراد به غير الله فهو غير مقبول، قال الله - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (¬1) وإنسان آخر يتعبد لله تعالى بعبادات غير مشروعة، صاحب بدعة لكنه مخلص، لو سألته لِمَ فعلت هذا؟ قال: أريد ثواب الله، وأريد التقرب إلى الله، فلا تنفعه هذه العبادة، لعدم المتابعة، فقوله - عز وجل -: {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} أي: مخلصين فيه لله، متبعين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فإن قال قائل: لماذا عبر الله تعالى بالقرض وهو الغني سبحانه وتعالى؟ فالجواب: يقول هذا - جل وعلا - ليبين أن أجرهم مضمون، كما أن القرض مضمون، وسيرد عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، لكن كيف تكون الواحدة بعشرة وهي ربا في القرض، كيف يكون هذا؟ الجواب: أولاً: لا ربا بين العبد وبين ربه. ثانياً: القرض إذا أعطاك المقترض شيئاً بدون شرط فهو حلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استقرض بكراً، والبكر يعني بعيراً صغيراً، وردَّ ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (2985) .

خيراً منه وقال: «خيركم، أحسنكم قضاء» (¬1) ، ولهذا عبارة الفقهاء: (كل شرط جر نفعاً للمقرض فهو ربا) ، ولم يقولوا كل زيادة، {يضاعف لهم} هذا خبر (إن) يعني إن المتصدقين والمتصدقات وأقرضوا قرضاً حسناً يضاعف لهم، أي: يعطون أجرهم مضاعفاً، عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، {ولهم أجر كريم} أي: ثواب كريم، والكريم هو الحسن الطيب، وذلك أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأصل الكرم الحسن، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - لما بعثه لليمن: «إياك وكرائم أموالهم» يعني إذا أخذت الزكاة اجتنب كرائم الأموال، يعني أحاسنه، «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» (¬2) ثم قال - عز وجل -: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء: الأول: الإيمان بوجوده. الثاني: الإيمان بربوبيته. الثالث: الإيمان بألوهيته. والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئاً فقضى خيراً منه (رقم 1601) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء (رقم 1496) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (رقم 19) .

والإيمان بوجود الله لا ينكره إلا مكابر في الواقع، لأن كل إنسان يعرف أن هذا الكون المستقر المنظم لابد له من موجد ومنظم، والموجد والمنظِّم هو الله - عز وجل - لأن كل إنسان يعلم أنه لا يستطيع أحد من البشر أن يتصرف بهذا الكون، مَن الذي يأتي بالليل مع وجود النهار؟ ومن الذي يأتي بالنهار مع وجود الليل؟ لا أحد يقدر، إذن كل إنسان عاقل فهو مؤمن بقلبه وإن أنكر بلسانه، مؤمن بوجود الله - عز وجل -، وجه ذلك أن هذه الخليقة العظيمة لابد لها من مدبر، لو قال قائل: إنها جاءت هكذا صدفة، فنقول: إن الشيء إذا جاء صدفة لا يكون منظماً، ولو قال قائل: هي أوجدت نفسها، نقول: هذا أيضاً محال عقلاً، كيف توجد نفسها وهي عدم، هذا لا يمكن، إذن لابد لها من موجد، ولهذا قال الله تعالى في سورة الطور: {أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} والجواب: بل أنت يا ربنا، نحن لا نقدر أن نخلق جنيناً في بطن أمه أبداً، قال الله - عز وجل -: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} استمعوا يا أيها الناس، خطاب للناس كلهم: الكافر والمؤمن، ولهذا إذا قرأت الآية يجب أن تستمع {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً} هذا الذباب المهين لا يمكن أن يخلقوه {ولو اجتمعوا له} ، كل المعبودات لا يمكن أن تخلق ذباباً وهو من أصغر الحيوان وأذلها، زد على هذا، {وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه} يعني لو أن الذباب أخذ من هذه الأصنام شيئاً ما استطاعت أن تستنقذه منه، قال أهل العلم: المعنى لو وقع الذباب على أحد هذه الأصنام

وامتص من الطيب الذي فيها، لأنهم يطيبون أصنامهم، ما استطاعت الأصنام أن تستنقذه، {ضعف الطالب والمطلوب} ، فلا يمكن لأحد أن ينكر من صميم قلبه وجود الله - عز وجل - أبداً، لأنه باتفاق العقلاء أن كل حادث لابد له من مُحدث، ولا أحد يحدث هذا الكون إلا الله - عز وجل -. الثاني: الإيمان بربوبيته، أي أنه وحده الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للكون إلا الله، ولا مالك للكون إلا الله - عز وجل - حتى ملك الإنسان ما في يده ليس ملكاً حقيقيًّا، والدليل أنه لا يمكن أن يتصرف فيما في يده كما يشاء، لو أردت أن أحرقه منعت شرعاً، وحرام عليَّ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن إضاعة المال (¬1) ، إذن ملك الإنسان ما بيده ليس ملكاً حقيقياً، بل إنه يختص به عن غيره فقط. الثالث: الألوهية: هي أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله - عز وجل - وعبادة الأصنام غير حق، كما قال - عز وجل -: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} إذن الألوهية أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله - عز وجل - وما عبد من دونه فهو باطل، وعليه فلا تصرف العبادة إلا لله. الرابع: الإيمان بالأسماء والصفات: قال الله - عز وجل -: ¬

(¬1) أخرجه البخاري معلقاً، كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (ص 278) .

{ولله الأسماء الحسنى} وصفاته كذلك عليا ليس فيها صفة نقص، قال الله تبارك وتعالى: {للذين لا يؤمنون بالأَخرة مثل السوء ولله المثل الأَعلى} أي الوصف الأعلى، وأسماء الله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها مهما أردت، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - «ما من إنسان يصيبه هم أو غم أو حزن ثم يقول: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» (¬1) . فجعل الله الأسماء ثلاثة أقسام، ما أنزله في كتابه، مثال الاسم الذي جاء في القرآن (الرحمن) أو علمته أحداً من خلقك مثل (الرب، الشافي) ، جاء في السنة، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب» (¬2) . وقال عليه الصلاة والسلام: «أما الركوع فعظِّموا فيه الرب» (¬3) فهذا مما علمه أحداً من خلقه. «أو استأثرت به في علم الغيب عندك» هذا القسم الثالث ما استأثر الله به في علم الغيب، واستأثر بمعنى انفرد، وما انفرد الله بعلمه فلم ينزله في الكتاب ولم يعلمه أحداً من الخلق لا يمكن الإحاطة به ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (1/391، 452) والحاكم (1/509 - 510) وأبو يعلى (رقم 5297) وابن السني (رقم 339، 340) . (¬2) أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الصوم، باب السواك الرطب واليابس للصائم (ص 367) . (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود (479) .

إذن أسماء الله لا يمكن الإحاطة بها ولا هي محصورة بعدد، لأننا لا نعلمها، وأما قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» (¬1) فالمعنى أن من الأسماء تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هذا المعنى، ومعنى (أحصاها) أي: عرفها لفظاً، وعرفها معنى، وتعبد لله بمقتضاها، وليس المراد أن تحفظها فقط، بل لابد من حفظ اللفظ وفهم المعنى، والتعبد لله بها بمقتضاها، فمثلاً: إذا علمت أن الله - سبحانه وتعالى - غفور فتعرض للمغفرة، لا تقل: الله غفور، وتفعل الذنب متى شئت، بل تعرض للمغفرة واستغفر الله تجد الله غفوراً رحيماً، وإذا علمت أن الله عزيز فتتعبد الله بمقتضى هذا وتخاف منه وتحذر، وهلم جرا. أما الإيمان بالرسل فإنه يتضمن تصديقهم كلهم من أولهم إلى آخرهم بما أخبروا به، إذا صح عنهم، وأما العمل بشرائعهم فإننا لا يلزمنا العمل إلا بشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لأن الشرائع السابقة كلها نسخت بهذه الشريعة، لقول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحداً (7392) ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677) (6) .

نصراني ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار» (¬1) {أولئك} ، أي: الذين آمنوا بالله ورسله {هم الصديقون} أي: البالغون في الصدق مبلغاً كبيراً، لأن الصديق صيغة مبالغة، والصدق يكون بالقصد وبالقول وبالفعل، فأما الصدق بالقصد فأن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تبارك وتعالى لا يقصد غيره، وإذا قصد بعبادته شيئاً غير الله فقد أشرك ولا يقبل عمله، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (¬2) . الثاني: الصدق في القول بأن يكون الإنسان صادقاً فيما يخبر به، وقد أثنى الله تعالى على الصادقين، وأمرنا أن نكون معهم، فقال - جل وعلا -: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وأثنى على المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق وحث عليه، ورغَّب فيه، فقال: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولايزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ? إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (153) . (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (رقم 2985) .

الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولايزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً» (¬1) . أما الصدق بالفعل فمتابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن من كان صادقاً فيما يدعي من محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} وقد سمى بعض السلف هذه الآية آية المحنة، يعني الامتحان، فمن ادعى حب الله ورسوله قلنا له: عليك باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن اتبعه فهو صادق، وإن خالفه فليس بصادق، {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم من قُتلوا في سبيل الله، والقتال في سبيل الله: أن يقاتل الإنسان عدو الله لتكون كلمة الله هي العليا، قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه: أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (¬2) . فالشجاع يحب القتال، كالصياد يحب أن يصيد، ويخرج ويتجشم المصائب ليصيد الصيد، وإذا صادها صارت عنده ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (6094) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً (123) ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (1904) .

أرخص من كل شيء، فهذا يقاتل شجاعة، لأنه شجاع يحب أن يقاتل، ويقاتل حمية يعني عصبية لقومه، ويقاتل ليُرى مكانه، أي: رياء كما جاء في اللفظ الآخر، «ويقاتل رياء» قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» ومن قاتل ليسترد أرضه المغصوبة فهو من باب الحمية إلا إذا قال: أريد أن أستردها لأقيم عليها شعائر الإسلام، فهذا في سبيل الله، أما من قاتل لأن هذه أرضه ويريد أن ترد إليه، فهذا حمية ليس له أجر الشهداء إذا قتل، هؤلاء الشهداء {لهم أجرهم عند ربهم} أي: ثوابهم العظيم كما قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بمآ ءاتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} ولما ذكر - عز وجل - أهل الإيمان وثوابهم ذكر أصحاب الشمال بعد ذلك قال: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} لأن القرآن مثاني، تثنى فيه الأمور والمعاني، ولهذا تجد القرآن الكريم في الغالب إذا ذكر الله الجنة ذكر النار، وإذا ذكر أولياء الله ذكر أعداء الله، والحكمة من ذلك أن لا يمل الإنسان، لأنه كلما تنقل المعنى إلى معنى آخر نشط الإنسان، وحكمة أخرى أن يكون الإنسان سائراً إلى الله، أي متعبداً إلى الله بين الخوف والرجاء؛ لأنه إذا مرت به صفات المؤمنين قوي جانب الرجاء، وإذا ذكرت أحوال الكافرين غلب جانب الخوف. {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} عطف التكذيب على

الكفر وهو نوع منه؛ لأنه أشد، فالذي يكفر ولم يكذب أهون من الذي يكفر ويكذب، فعطف كذبوا بآياتنا على كفروا من باب عطف الخاص على العام، كعطف الروح على الملائكة وهو منهم، قال الله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} والروح جبريل وهو من الملائكة، {أولئك أصحاب الجحيم} . الجحيم اسم من أسماء النار، وأصحابها يعني الملازمين لها، ولهذا إذا مرت آية فيها (أصحاب) فالمعنى أنهم ملازمون لها مخلدون فيها، نسأل الله العافية، وفي هذه الآيات الترغيب بالأوصاف التي توصل إلى الجنات، لأن الله تعالى لم يذكر لنا هذه الأمور لنتطلع عليها فقط، ولكن لنسعى لها، وفيها التحذير من الكفر والتكذيب؛ لئلا يقع الإنسان في هذا العقاب الأليم. لما ذكر الله أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين وهم في الدنيا، كل يعمل على شاكلته، بين حقيقة الدنيا ما هي، وأمرنا أن نعلم من أجل أن يجتهد الإنسان في التأمل والتفكر، فالأمر بالعلم بشيء واقع يعني أن المطلوب أن تتأمل كثيراً حتى يتبين لك الأمر، {اعلموا أنما الحياة الدنيا} وهي حياتنا هذه {لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال} ، خمسة أشياء: اللعب بالجوارح، بأن يعمل الإنسان أعمالاً تصده عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما اللهو بالقلوب فهو الغفلة، وهذا أشد وأعظم، وغفلة القلب - اعاذنا الله منها وأحيا قلوبنا - الغفلة عظيمة تفقدك جميع لذات الطاعة، وتحرم من جميع آثارها لقول الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} لم يقل: لا تطع من أسكتنا لسانه،

بل قال: {من أغفلنا قلبه} ، وما أكثر ذكرنا باللسان مع غفلة الجنان، وهذا لا شك أنه ينقص الثواب، وينقص الآثار المترتبة على الذكر من صلاح القلب، والاتجاه إلى الله، والإنابة إليه وغير ذلك: {وزينة} أي: زينة بالملابس، وزينة بالمراكب، وزينة بالمساكن، وزينة في كل شيء، ولذلك تجد الإنسان ولو كان فقيراً يحب أن يزين بيته، وكذلك سيارته عند الزواج إذا أراد الزواج يركب سيارة يجعلون عليها عقوداً من الأزهار وغيرها من الزينة {وتفاخر بينكم} أي: كل واحد يفخر على الثاني، إما بالقبيلة، أو بالعلم، يكون هذاعنده علم بالطب، وهذا لا يعرف، وهذا علمه بالهندسة وهذا لا يعرف، فيفخر عليه، وأقبح من ذلك التفاخر بالعلم الشرعي، لأن العلم الشرعي يجب على الإنسان إذا اكتسبه ومنَّ الله عليه به أن يزداد تواضعاً، وأن يعرف نفسه وقدر نفسه، ومن ذلك ما يحصل بين الشعراء في بعض الأحيان من التطاول على الآخرين ومن التفاخر كما يوجد في بعض الأفراح وبعض المناسبات مما نسمع. {وتكاثر في الأموال والأولاد} أي يحب أن يكون أكثر أموالاً وأكثر أولاداً. وهذا كقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} هذه حقيقة الدنيا، ومع هذا اللهو واللعب والتفاخر والزينة لا تبقى، فلابد أن تزول، وإذا طال الزمان عاد الإنسان إلى الهرم، وفي هذا يقول الشاعر: لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم

كل إنسان إذا فكر في عيشه وأنه في نعيم يقول: ما بعد ذلك؟! ما الذي بعده، إما موت أو هرم، إما أن تموت وتنتهي من الدنيا، وإما أن تهرم، وتكون عالة على ابنك وبنتك حتى أهلك يملونك، ولهذا أشار الله - عز وجل - إلى هذه الحالة فقال: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف} لأنهما إذا بلغاالكبر اختل تفكيرهما وصارا يتعبان، فأنت إما أن تموت وإلا تصل إلى حال الهرم، هذا إن بقيت لك الدنيا، وإلا فقد تسلب إياها قبل أن تصل إلى الهرم وقبل أن تموت، فنأخذ من هذا الحذر من فتنة الدنيا، وكم من إنسان أطغته الحياة الدنيا فهلك، وفي الحديث القدسي: «إن من عبادي من إذا أغنيته أفسده الغنى» بل قد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس فيها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم» (¬1) وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فأكثر الفسقة، وأكثر الكفرة من الملأ والأشراف، واقرأوا القرآن، مَن يكذب الرسل؟ هم الملأ والأشراف، واعتبروا بالواقع الآن، أكثر من يفسد الدنيا هم الأثرياء والأغنياء، الذين فتحت عليهم الدنيا، فليحذرها العاقل اللبيب، وليقتصر منها على ما ينفعه في الآخرة. ثم ضرب الله لها مثلاً؛ لأن الأمثال تقرب المعاني، إذ إن المثل يعني قياس المعنى على المحسوس {كمثل غيث} أي: ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب 12 (4015) ومسلم، كتاب الزهد والرقائق (2961) .

مطر تنبت به الأرض وتزول به الشدة، {كمثل غيث أعجب الكفار نباته} أي النبات الناشىء عنه، وأعجبهم: أي استحسنوه، والكفار هم الكافرون بالله - عز وجل - لأن الكافر تعجبه الدنيا ويفرح بها ويسر بها، وقلبه متعلق بها ليس له هم إلا ما يراه من زينتها ولهوها، فهو قد أعجب الكفار بالله، وخص الكفار لأن الكفار هم الذين يستحسنون الدنيا ويعجبون بها وتتعلق قلوبهم بها، أما المؤمنون فهم على العكس لا يهمهم إلا ما فيه مصلحة الآخرة، وقيل: إن المراد بالكفار هنا الزراع، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن إطلاق الكفار على الزراع نادر جداً، هذا إن صح، والذين يقولون: إن المراد بهم الزراع يقولون: لأن الزارع يكفر الحب، أي: يستره في الأرض، ولكن ما قررناه أولاً هو الصواب: أن المراد بالكفار، هم الكفار بالله، يعجب الكفار نباته ثم بعدما يظهر ويعجب الكفار ويستحسنونه ويتعجبون منه {يهيج} أي: ييبس ويجف، {فتراه مصفراً} بعد أن كان أخضر نامياً يكون مصفرًّا دائماً، {ثم يكون حطاماً} يعني: يتحطم ويتكسر؛ لأنه يبس، فماذا كانت النتيجة لهذا الزرع؟ التلف، والزوال، هذه حال الدنيا، تزهو للإنسان بنعيمها وقصورها ومراكبها وأموالها وأولادها وغير ذلك، وإذا بها تتحطم، كم من غني كان مسروراً في أهله، منعماً في بيته وفي مركوبه وفي ثيابه، وفي كل أحواله، وإذا به يعود فقيراً، فتتحطم دنياه، فإن لم تكن مات وتحطمت دنياه بفراق هذه الدنيا، فلابد من أحد أمرين: فإما أن تفارقك الدنيا، وإما أن تفارقها، هذه حال الدنيا، وهذا أمر لا يشك فيه في

الواقع، لكن النفوس معها غفلة يسهو بها الإنسان عن مثل هذا الأمر الواقع، فيظن أن كل شيء على ما يرام، ويستبعد زوال الدنيا، أو زواله هو عن الدنيا، أما الآخرة فاستمع إليها، قال: {وفي الأَخرة عذاب شديد} للكافرين، {ومغفرة من الله ورضوان} للمؤمنين، فأيما أحق أن يؤثر الإنسان؟ الدنيا التي مآلها الفناء والزوال، أو الآخرة؟! يؤثر الآخرة هذا العقل، لأنك إن آثرت الدنيا ففي الآخرة عذاب شديد، وإن آثرت الآخرة ففيها مغفرة من الله ورضوان، {ومغفرة} للذنوب {ورضوان} بالحسنات، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} هذه الجملة فيها حصر طريقة النفي والإثبات، وهو أعلى طرق الحصر، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} ، يغتر بها الإنسان، فيلهو ويلعب ويفرح ويبطر ثم تزول، كل هذه الجمل وهذه الأوصاف يريد الله عز وجل - وهو أعلم - أن يزهد الإنسان في الدنيا ويرغبه في الآخرة، ومن زهد بالدنيا ورغب في الآخرة لم يفته شيء من نعيم الدنيا حتى وإن افتقر، فإنه لا يفوته نعيم الدنيا، ودليل هذا من القرآن والسنة، قال الله - عز وجل -: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً} لم يقل لنكثرن ماله وأولاده وقصوره {فلنحيينه حياة طيبةً} مطمئنة مستريح البال فيها، {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} ، وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك في قوله: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء فصبر فكان

خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له» (¬1) . ثم قال - عز وجل -: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} أمر بالمسابقة، وقد جاء الأمر في آية أخرى بالمسارعة فيجمع الإنسان بين المسابقة وهي شدة العدو في حال السير، وبين المسارعة يعني المبادرة إلى فعل الخير {إلى مغفرة من ربكم} وذلك بفعل أسباب المغفرة، ومن أسباب المغفرة أن تسأل الله المغفرة، تقول: اللهم اغفر لي، أو تقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ومن أسباب المغفرة فعل ما تكون به المغفرة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه» (¬2) وكقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه، غفر الله بهما ما تقدم من ذنبه (¬3) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله وبحمده، مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (¬4) والأمثلة على هذا كثيرة، {وجنة} هي دار النعيم التي أعدها الله - عز وجل - للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها فاكهة ونخل ورمان، وعسل ولبن وغير ذلك، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير (2999) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان (38) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان (759) . (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب المضمضة في الوضوء (164) ومسلم، كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله (226) . (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح (6405) ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (2691) ..

لكن لا تظن أن ما فيها يشابه ما في الدنيا؛ لأن الله يقول: {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين} وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط، اسم رمان لكن يختلف عن رمان الدنيا، فاكهة تختلف عن فاكهة الدنيا، فرش يختلف عن فرش الدنيا، وهلم جرا، وفي الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (¬1) {عرضها كعرض السماء والأَرض} ، وفي سورة آل عمران: {عرضها السماوات والأَرض} ولا منافاة لأن الأول: عرضها كعرض السماء تشبيه. والثاني: عرضها السماوات والأرض أيضاً تشبيه، لكن يسميه أهل البلاغة تشبيه بليغ {كعرض السماء والأَرض} ، ومَن يستطيع أن يقدر عرض السماء والأرض؟ لا أحد يستطيع، السماوات بسعتها، السماء الدنيا واسعة جدًّا، كم بينها وبين الأرض من مسافة وهي محيطة بها، والسماء الثانية فوقها وهي أوسع منها، والثالثة أوسع وهلم جرا، إلى أن تصل إلى الكرسي. والكرسي يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» (¬2) حلقة المغفر صغيرة، ألقها في فلاة في الأرض ماذا تكون بالنسبة للفلاة؟ لا شيء، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} (7498) ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824) . (¬2) تقدم ص 365.

الحلقة» (¬1) فلن نستطيع أن ندرك عرض السماوات والأرض، والجنة عرضها كعرض السماء والأرض، ولذلك كان أقل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه مسافة ألفي سنة (¬2) ، وإنما ذكر الله تعالى أن عرضها عرض السماوات والأرض من أجل أن نحرص على ملء هذه الأرض أرض الجنة، وفي الحديث: «أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اقرىء أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة قيعان، وإن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» (¬3) فاحرص يا أخي على أن تملأ ما تستحقه من هذه الجنة بذكر الله، وتلاوة كتابه، وغير ذلك مما يقرب إلى الله {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} أعدها الله - عز وجل - كما قال - عز وجل - {أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} ، ومعنى الإعداد التهيئة للشيء، {للذين آمنوا بالله ورسله} آمنوا بالله، وبكل ما أوجب الله الإيمان به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وقوله {ورسله} يشمل جميع الرسل الذين أولهم نوح وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام، لكن إيماننا بالرسل يختلف عن إيماننا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإيماننا بالرسل بأن نؤمن بأنهم صادقون مبلغون عن الله، ونؤمن بكل ما ¬

(¬1) تقدم ص 365.. (¬2) تقدم ص 332. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب 58 (3462) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه..

صح من أخبارهم، أما اتباعهم فلا اتباع إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم يشتركون مع الرسول بأن نؤمن بأنهم صادقون، وأن كل ما أخبروا به صدق، وأن كل ما جاءوا به فهو عدل ومناسب لأحوال أممهم في وقتهم، أما الاتباع فلا نتبع إلا واحداً منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: {آمنوا بالله ورسله} يدل على أن أهل الكتاب اليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة، لأنهم لم يؤمنوا برسل الله، والدليل أنهم كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، والكافر برسول من الرسل كافر بالجميع، كيف وقد جاء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنسخ جميع الشرائع السابقة، قال الله - عز وجل -: {كذبت قوم نوح المرسلين} مع أنه لم يسبق نوحاً أحد من الرسل؛ لأن من كذب رسولاً من الرسل فقد كذب جميع الرسل، فكيف بمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم الذي نسخت شريعته جميع الشرائع، والذي قال الله فيه: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به} أخذ ميثاق النبيين كلهم. {قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} وهذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، الرسل كلهم يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا في ليلة الإسراء كان محمد صلى الله عليه وسلم إمامهم في صلاتهم، فاليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يؤمنوا برسله، لأنهم كفروا بمحمد، بل هم كفروا برسلهم أيضاً، لقوله تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} ولأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بشرهم بمحمد، قال الله - عز وجل - في

سورة الصف {وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرءيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} فلما جاءهم هذا الرسول الذي بشر به عيسى، قالوا: هذا سحر مبين، وكفروا به، فهم كفروا بعيسى وردوا بشارته وأنكروها، ولا يجوز لنا أبداً أن نقول أو نعتقد أن أديان اليهود والنصارى اليوم أديان صحيحة أبداً، بل هي أديان باطلة، غير مقبولة عند الله، كما قال الله - عز وجل -: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} أي ما أعد الله لهؤلاء المؤمنين بالله ورسله فضل الله في أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسله واتبعوا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أثيبوا بهذه الجنات، {يؤتيه من يشاء} المشيئة هنا مقترنة بالحكمة، يعني من كان أهلاً للفضل آتاه الله الفضل، ومن لم يكن أهلاً له لم يؤته، والدليل قول الله - تبارك وتعالى -: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فلن يجعل رسالته إلا فيمن هو أهل لها، وقال الله - عز وجل - {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال - عز وجل -: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون} فلا تظن أن الله يعطي الفضل لمن شاء بدون سبب، لابد من سبب، فمتى علم الله في قلب الإنسان خيراً آتاه الخير، قال الله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأَسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} فأصلح قلبك فيما بينك وبين الله تجد الخير كله، {والله ذو الفضل العظيم} ، أي: صاحب الفضل العظيم - عز وجل -، فلا أحد أعظم منة من الله تعالى، أوجدك من

العدم، وأعدك وأمدك بالنعم، يسر لك الهدى، فلا أحد أعظم منة من الله، ولهذا قال الله - عز وجل -: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} ولما جمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصار في غزوة حنين حين قسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم كان يقرر عليهم قال لهم: «ألم أجدكم ضلاَّلاً فهداكم الله بي» قالوا: الله ورسوله أمن. قال: «ألم أجدكم متفرقين فألف الله قلوبكم بي» ؟ (¬1) قالوا: الله ورسوله أمن. كلما قال قولاً قالوا: الله ورسوله أمن، يعني أعظم منة، فالحاصل أن الله تعالى ذو الفضل العظيم، ولكن يؤتي فضله من هو مستحق له، كما قال - عز وجل -: {ويؤت كل ذي فضل فضله} اللهم إني أسألك من فضلك العظيم أن تهدي قلوبنا وتصلح أعمالنا، وتختم لنا بخير إنك على كل شيء قدير. {مآ أصاب من مصيبة في الأَرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير} يعني جميع المصائب التي تصيب الإنسان في الأرض أو في نفسه قد كتبت من قبل. والمصيبة في الأرض كالجدب، وقلة الأمطار، وغور المياه وصعوبة منالها، وربما يقال أيضاً الفتن والحروب وغيرها {ولا في أنفسكم} أي: في نفس الإنسان ذاته من مرض، أو فقد حبيب، أو فقد مال، أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها {إلا في كتاب} ، هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ، كتب الله فيه مقادير كل شيء، لما خلق الله سبحانه وتعالى القلم قال له: اكتب ¬

(¬1) تقدم ص 69.

قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (¬1) . سبحان الله ما أعظم هذا اللوح الذي يسع كل شيء إلى يوم القيامة، ولكن ليس هذا بغريب على قدرة الله - عز وجل -، لأن أمر الله تعالى إذا أراد شيئاً، يقول له: كن. فيكون، ولقد كان الإنسان يتعجب من قبل ولكن لا يستبعد أن يكتب في هذا اللوح مقادير كل شيء، فقد ظهر الآن من صنع الآدمي قطعة صغيرة يسجل فيها آلاف الكلمات وهي عبارة عن لوحة صغيرة كالقرص تسجل فيها آلاف الكلمات، وقد يسجل فيها جميع كتب الحديث المؤلفة، أو جميع التفاسير، أو جميع كتب الفقهاء وهي من صنع الآدمي، فكيف بصنع من يقول للشيء كن فيكون، ولما قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فالمصائب التي تصيب الناس هي في أمر سابق، ولهذا قال: {إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ} ، وقوله: {نبرأهآ} قيل: إنها تعود على المصيبة، وقيل: على الأرض، وقيل: على النفس، وقيل: على الجميع، والصحيح أنها على الجميع، أي من قبل أن نبرأ كل هذه الأشياء، أي: أن نخلقها، وذلك لأن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، {إن ذلك على الله يسير} يعني إن كتابة هذه المصائب يسير على الله - عز وجل - لأنه قال للقلم اكتب فكتب وهذا يسير، كلمة واحدة حصل بها كل شيء {إن ذلك على الله يسير} ، كل شيء فهو يسير على الله، ¬

(¬1) تقدم ص 296.

لأن الأمر كلمة واحدة كن فيكون، أرأيتم الخلائق يوم القيامة تبعث بكلمة واحدة، قال الله عز وجل: {إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} وقال - عز وجل -: {فإنما هي زجرة واحدة} أي: على وجه الأرض خرجوا من القبور، هذا يسير، ولما قال زكريا لله - عز وجل - حين بشره بالولد قال: {قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعآئك رب شقياً} يعني من الكبر {وقد بلغت من الكبر عتياً} قال الله - عز وجل -: {كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً} فالله - عز وجل - لا يعجزه شيء، ولا يستعصي عنه شيء، ولا يتأخر عن أمره الكوني شيء، {لكيلا تأسوا على ما فاتك} أي: أخبرناكم بأن كل مصيبة تقع فهي في كتاب، {لكيلا تأسوا} اللام للتعليل، وكي بمعنى أن، أي: لأن لا تأسوا، ومعنى تأسوا تندمواعلى ما فاتكم مما تحبون {ولا تفرحوا بما آتاكم} أي: لا تفرحوا فرح بطر واستغناء عن الله بما آتاكم من فضله، فإذا علمت أن الشيء مكتوب من قبل فلا تندم على ما فات لأنه مكتوب، والمكتوب لابد أن يقع، ولا تفرح فرح بطر واستغناء إذا آتاك الله الفضل، لأنه من الله مكتوب من قبل، فكن متوسطاً لا تندم على ما مضى، ولا تفرح فرح بطر واستغناء بما آتاك الله من فضله، لأنه من الله، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» . القوي في إيمانه وليس القوي في بدنه، وأصحاب الرياضة يجعلون هذا عنواناً: «المؤمن

القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» ويقول: المراد بالمؤمن القوي في بدنه. وهذا غلط، (المؤمن القوي) هنا وصف يعود إلى ما سبقه وهو الإيمان، «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» ، وهذا يسميه البلاغيون الاحتراس، بمعنى أنه قد يظن الظان أن الضعيف لا خير فيه، قال: «وفي كل خير» ثم قال: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (¬1) والإنسان إذا علم أن كل شيء مقدر ولابد أن يقع رضي بما وقع، وعلم أنه لا يمكن رفع ما وقع أبداً، ولهذا يقال: دوام الحال من المحال، وتغيير الحال - بمعنى رفع الشيء بعد وقوعه - من المحال، {والله لا يحب كل مختال فخور} ، مختال في فعله، فخور في قوله، ومن الاختيال في الفعل أن يجر ثوبه، أو مشلحه، أو عباءته، أو غير ذلك مما يدل على الخيلاء، حتى وإن لبس ثوباً وإن لم يكن نازلاً لكنه يعد خيلاء فهو خيلاء، الفخور هو المعجب بنفسه الذي يقول: فعلت وفعلت وفعلت، يفخر به على الناس، لأنك مادمت فاعلاً الشيء تريد ثواب الله فلا حاجة أن تفخر به على الناس، بل اشكر الله عليه، وحدِّث به على أنه من نعمة الله عليك. ثم ذكر الله تعالى أوصافهم فيما بعد فقال {الذين يبخلون} أي: يمنعون ما يجب عليهم بذله من مال، أو ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (2664) .

جاه، أو علم، مثال الأول: الذي يبخل بالزكاة وهي أعظم وأوجب ما ينفق، والإنفاق على من تجب نفقته من الأقارب والزوجات. ومثال الثاني: أن يجد الإنسان شخصاً مسلماً واقعاً في مظلمة يتطلب المقام أن يشفع فيها، ليرفع عنه هذا الظلم ولكنه يبخل، فهذا بخل بجاه. ومثال الثالث: أن يبخل بتعليم الناس مما علمه الله - عز وجل - وأن يبخل بالجواب والفتوى إذا استفتي عن مسألة دينية وتعين عليه أن يفتي فيها، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «البخيل من إذا ذكرت عنده ولم يصلِّ عليَّ» (¬1) اللهم صلِّ وسلم عليه، وهذا نوع من البخل، لأنه بخل بما يجب عليه، إذ إن القول الراجح أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب على من سمعه أن يصلي عليه، بدليل الحديث الذي في السنن أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «رغم أنف امرء ذكرت عنده فلم يصلِّ عليك. قل: آمين. فقال: آمين» (¬2) {ويأمرون الناس بالبخل} أي: يقولون للرجل: لا تنقص من مالك، لا تتعب نفسك في الشفاعة لفلان، لا تتعب نفسك في تعليم العلم، فهؤلاء أمروا بالبخل فصاروا - والعياذ بالله - فاسدين مفسدين، قال الله - عز وجل -: {ومن يتول} أي: يعرض عن طاعة الله، {فإن الله هو ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله ?: رغم أنف رجل (3346) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله ?: رغم أنف رجل (3545) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه..

الغنى الحميد} ، من يتول فإن الله ليس بحاجة إليه فهو - عز وجل - غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وهوالحميد، أي: المحمود على غناه، لأنه ليس كل غني يكون محموداً، فالغني البخيل غير محمود، لكن الله - عز وجل - غني حميد يحمد على غناه؛ لأن الله - عز وجل - واسع العطاء، كثير العطاء، وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان الذي يتولى عن طاعة الله إنما يضر نفسه، ولا يضر الله شيئاً، فإن الله غني، وفي الحديث القدسي: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً» (¬1) . {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} هذه جملة مؤكدة باللام وقد، والقسم المقدر، والتقدير: والله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، ولعل قائلاً يقول: كيف يقسم الله - عز وجل -؟ وكيف يؤكد الله خبره بالقسم وهو الصادق بدون ذلك؟ والجواب أن يقال: القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي المبين يؤكد الأشياء الهامة، أو الأشياء المنكرة بأنواع المؤكدات حتى يطمئن المخاطب ولا يرتاب المرتاب، وهذا يذكر في القرآن كثيراً، والتوكيد هنا ليس منصباً على إرسال الرسل، لأن إرسال الرسل معلوم {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} لكنه منصب على قوله بالبينات أي أن الرسل جاءوا بالبينات، والبينات صفة لموصوف محذوف، والتقدير بالآيات البينات أي العلامات البينة الدالة على صدق رسالتهم وصحتها، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (رقم 2577) .

فإن الله تعالى ما بعث نبياً إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهذا من الحكمة والرحمة، أما كونه من الحكمة فليس من الحكمة أن يأتي رجل من بني آدم ويقول للناس: أنا رسول الله إليكم بدون آية، بدون بينة، ولو كلف الناس بالإيمان برسل الله بدون بينة لكان في ذلك مشقة عظيمة، ومن رحمة الله أن الله أيد الرسول بالآيات البينات الظاهرة، قال العلماء: والله تعالى من حكمته ورحمته جعل لكل نبي من الآيات ما يتبين به رسالتهم، مثال ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وأعطاه آيات بينات، قال الله تعالى: {ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات} منها العصا العجيبة، عصا عادية فيها آيات من آيات الله، منها أنه لما اجتمع السحرة الفجار بأمر فرعون ومساندته وألقوا حبالهم وعصيهم، وصارت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين أرهبت الناس حتى موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة، لأنها فوق ما يتصور، سحرة مهرة أتوا بكل قوتهم وألقوا فملؤوا الأرض حبالاً وعصياً، فجعلت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين، {فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم} ، أوحى الله إليه أن يلقي العصا، فانقلبت هذه العصا حية، وجعلت تلقف ما يأفكون. كل الحبال التي جاءوا بها أكلتها هذه الحية، فهذه من آيات الله العظيمة، كيف تكون هذه الحية تأكل كل هذه الحبال والعصي، أين تذهب؟ لكنها - والله أعلم - بمجرد ما تأكلها تكون كالبخار، وإلا فبطن هذه الحية لا يسعها، لكن هذه آية، ونحن نتصور هذه

الواقعة خبراً، ولكن لو رأيناها نظراً كان الأمر أشد وأعظم، فنحن الآن لا نتصورها إلا في الخبر وفي الذهن فقط، ولكن لو شاهدت عرفت أن الآية عظيمة. والآية الثانية في هذه العصا أن موسى استسقاه قومه وطلبوا منه الماء فضرب حجراً من الحجارة فتفجر عيوناً، اثنتا عشرة عيناً، لأن بني إسرائيل كانوا اثنتي عشرة قبيلة، والآية الثالثة: أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أدركه فرعون وحشره إلى البحر أيقن أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام أنهم هالكون، وقالوا: إنا لمدركون، ليس لنا مفر، البحر أمامنا، إن خضناه غرقنا، وفرعون وجنوده خلفنا سيقضون علينا، قال أصحابه: إنا لمدركون. ولكن انظر إلى الإيمان واليقين، قال: {كلا} لن ندرك، {إن معى ربي سيهدين} أي: سيدلني على ما فيه النجاة. فأوحى الله إليه بأن اضرب بعصاك البحر فانفلق، فضرب البحر مرة واحدة بالعصا فانفلق اثني عشر طريقاً على عدد قبائل بني إسرائيل، وكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل، وانظر إلى الإيمان أيضاً كيف دخلوا في هذه الطرق والمياه على أيمانهم وعلى شمائلهم ولكنه الإيمان، لأنهم عرفوا أنهم ناجون ولابد. وعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أعطاه الله تعالى آيات بينات، كان يبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله، وهذان المرضان لا حيلة للأطباء فيهما إلى الآن، اللهم إلا الأكمه، وكان يحيي الموتى بإذن الله، يقول للجنازة أمام الناس: احيي. فتحيا بإذن الله، وكان يخرج الموتى من قبورهم، يقف على القبر ويأمر صاحب القبر بأن يخرج ويخرج حيًّا، من يستطيع هذا إلا الله - عز

وجل - وجعله آية لهذا النبي عليه السلام. وكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخه فيطير، قال الله - عز وجل -: {فيكون طيرًا بإذن الله} وفي قراءة ثانية: (يكون طائراً) ، وإذا جمعت بين القراءتين صار المعنى طيراً بإذن الله يطير، لأنه ما كل طير يطير، فالنعامة لها جناح ولكنها لا تطير، لكن يكون طيراً يطير يشاهد في الجو وهو خلقه من طين، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وجعله الله آية لعيسى. فإن قال قائل: لماذا خص الله موسى بالعصا وخص عيسى بإحياء الموتى وخلق الطيور؟ قال أهل العلم: إن الله - عز وجل - حكيم يجعل لكل نبي من الآيات ما يناسب الوقت، وحال الناس حتى يعجزهم، فالسحر ترقى إلى حد بعيد في عهد موسى عليه الصلاة والسلام فأراهم الله آية يعجزون عنها بالسحر، ولهذا السحرة في قصة موسى العارفون بالسحر ما ملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا، ألقي السحرة ساجدين، كأنهم بغير اختيار، فسجدوا وقالوا إعلاناً: {قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} وعيسى عليه الصلاة والسلام ترقى في عهده الطب ترقياً عظيماً فأعطاه الله آية لا يستطيع الأطباء أن يأتوا بمثلها، أما محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه بعث في زمن البلاغة العظيمة التي ترقت إلى أعلى ما يكون في العرب واللسان العربي المبين أفصح الألسنة وأدلها على ما في الضمير، فبعثه الله - عز وجل - بقرآن كريم أعجز العرب أن يأتوا بمثله، ولن يأتي أحد بمثله لا الجن ولا الإنس، قال الله - عز

وجل -: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} وصدق الله - عز وجل - فالقرآن كلام الله فكما أن الله ليس كمثله شيء، فكلامه ليس مثله كلام، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ما بعث نبيًّا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر حتى تقوم الحجة، قال: «وإنما الذي أوتيته وحي أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» (¬1) ، وحصل ما توقع والحمد لله، لأن آيته الكبرى هي القرآن العظيم، والقرآن العظيم باق، وكل الناس يقرأونه ويستنتجون منه من الآيات ما يزدادون به إيماناً، ويعلمون به صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن قال قائل: ما الحاجة إلى إعطاء الأنبياء آيات؟ فنقول: الحاجة واقعة بل للضرورة، بل العقل أيضاً، لأنه ليس من العقل أن يأتي شخص ويقول: إنه رسول ثم يتبع، لابد أن يكون هناك بينة تدل على أنه رسول، ولو جاء إنسان في غير أمة محمد عليه الصلاة والسلام وقال: إنه رسول ولم يأت بآية، فالناس معذورون إذا لم يتبعوه، وإلا لكان كل واحد يدعي أنه رسول، أما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فالنبوة انقطعت؛ لأنه كان خاتم النبيين، لذلك لابد أن يكون مع الأنبياء آيات تدل على صدقهم وعلى صحة ما جاءوا به من الشريعة {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} الكتاب: هو الوحي الذي ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي ?: بعثت بجوامع الكلم (رقم 7274) . ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ? إلى جميع الناس (رقم 152) ..

أوحاه الله تعالى إليهم وما من رسول إلا معه كتاب، بخلاف النبي، فالنبي قد لا يكون معه كتاب، لكن الرسول لابد أن يكون معه كتاب، لأن الرسول لابد أن يعطي الناس الذين يدعوهم ما يشاهدونه بأعينهم. وفيه الأمر والنهي، والخبر والقصص وغير ذلك مما تقتضيه الحال. وقوله: {الكتاب} المراد الجنس، يعني الكتب، وقوله: {والميزان} أي: العدل الذي توزن به الأشياء ويعرف قدرها وحالها، وهذا يدل دلالة واضحة على أن القياس الصحيح مما بعث به الرسل، لأن القياس تسوية فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، وقد قال الله - عز وجل -: {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} أي: العدل والمقايسة بين الأمور {ليقوم الناس بالقسط} أي ليقوم الناس في الدين والدنيا بالقسط بالعدل في حق الله، وفي حق العباد، والعدل في حق الله ما ذكره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال له: «أتدري يا معاذ ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً» (¬1) . يعني أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئاً، أما حق المخلوق، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأت منيته وهو يؤمن ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي ? أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى (7373) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (30) .

بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» (¬1) هذا الشاهد، أي: أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولو أننا عاملنا الناس بهذا لاستقام العدل ولم يتجرأ أحد على ظلم أحد، ولو أننا شعرنا للناس بما نشعر به لأنفسنا لحلت في قلوبنا الرحمة والتواضع، لأن كل إنسان يحب أن يعامله الناس بالرحمة والتواضع، فعامل الناس أيضاً بالرحمة والتواضع. فاللام في قوله {ليقوم} للتعليل يعني أرسلنا الرسل وأنزلنا معهم الكتاب، وأنزلنا معهم الميزان لهذه الحكمة، ليقوم الناس بالقسط، ولهذا لا تجد أعدل من دين الله - عز وجل - في كل زمان ومكان، وكل ما خالف دين الله - عز وجل - فهو جور وظلم، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أظلم الظلم أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك. ثم سئل: أي الظلم أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك» (¬2) فلو مشى الناس على شريعة الله لقاموا بالقسط، لكن كل من لم يتمش على شريعة الله فهو جائر، قال الله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر} يعني من السبيل ما هو جائر وهو سبيل الظالمين، ثم ذكر الله تبارك وتعالى ما يحصل به النصر من جهة أخرى، لأن النصر يكون بالوحي ويكون بالبأس وهو ما ذكره في قوله: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844) . (¬2) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى {ولا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} (رقم 4477) ومسلم، كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (رقم 86) .

أنزلنا الحديد يعني خلقناه لهم من المعادن واستنبط بعض العلماء من قوله: {وأنزلنا الحديد} على أن المعدن إذا كان في قمم الجبال فهو أقوى وأنفع مما إذا كان في أسفل، لأن النزول إنما يكون من أعلى، فالله أعلم هذا يرجع إلى علم الجيولوجيا، لكن أنزلنا بمعنى وضعنا لهم الحديد، وهو معدن معروف من أقوى المعادن {فيه بأس شديد} أي: في الحرب، تصنع منه السيوف والخناجر وجميع آلات الحرب، وإنما ذكره بعد ذكر الكتب، لأن الدين لا يقوم إلا بهذا: بالدعوة والقتال. فإذا أبى الكفار أن يكون دين الله هو العالي فحينئذ يقاتلون، بالحديد {ومنافع للناس} جمع المنافع لأنها لا تحصى أجناسها، فضلاً عن أنواعها وأفرادها، فمن يحصي المنافع التي تحصل بالحديد؟! ولهذا جاءت بالجمع المعروف بصيغة منتهى الجموع، {ومنافع للناس} دينية ودنيوية، فردية وجماعية {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} معطوفة على {ليقوم الناس بالقسط} والمراد علم الظهور الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب، أما علم أنه سيكون، فهذا سابق على إرسال الرسل وإنزال الكتب، لأنه سبحانه لم يزل ولايزال عالماً بكل شيء، ولكن لا يشكل عليك الأمر، لا تقل: إن الله لا يعلم إلا بعد هذا، نقول: العلم علمان: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم بالشيء بعد وجوده. والعلم السابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب حتى يمتحن للناس، {من ينصره} ، أي: ينصر دينه، وليس المعنى ينصر نفس الله، لأن الله غني عن العالمين، ولهذا قال الله تعالى: {ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم

ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} . فلو قال قائل: كيف تفسر الآية ينصر دينه والله يقول: {من ينصره} هذا تفسير مخالف للفظ وأنتم تنكرون على من يفسر القرآن بما يخالف ظاهر اللفظ، فما الجواب؟ فالجواب: نحن لا ننكر على الناس إذا فسروا القرآن بما يخالف ظاهر اللفظ إذا كان ذلك بدليل، ولهذا إذا قال قائل في قوله تعالى: {فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} المعنى إذا قرأت القرآن أي أردت قراءته، فهذا فسره بخلاف ظاهره، ولكنه تفسير صحيح، لأن الإنسان يستعيذ بالله إذا أراد أن يقرأ، وليس إذا تم القراءة. بدليل فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولأن هذا هو الذي يفيد أن يستعيذ الإنسان بالله قبل أن يقرأ ليقرأ والشيطان بعيد عنه، على كل حال إذا قال لك قائل: كيف تفسر قوله تعالى: {من ينصره} أي من ينصر دينه وأنت تنكر على من يفسر القرآن بخلاف ظاهره، فالجواب: أننا لا ننكر على من يفسر القرآن بخلاف ظاهره إذا كان في ذلك دليل صحيح، والدليل على أن المراد ينصر دينه قوله: {إن الله قوى عزيز} ليس به حاجة، ولا يحتاج إلى أحد، فهو قوي عزيز غالب، غالب بقوة، لا يلحقها ضعف، وقوله - عز وجل -: {ورسله} نصر الرسل، إذا كان الرسول حيًّا فالمراد ينصر الرسول نفسه وشريعته، وبعد موته ينصر شريعته، وفي هذا دليل على أن نصر الشريعة نصر لمن جاء بها، فلا يشكل على هذا أن الله سبحانه وتعالى قد يميت الرسول قبل أن يرى النصر الواسع له، لأننا نقول: نصر شريعته نصر له، وقوله: {بالغيب} أي: أنه ينصر الله

- عز وجل - وينصر رسله وهو لم ير الله، لأن الله تعالى ينصر ولا يُبصَر في الدنيا، ولهذا قال بعض السلف: (ينصرونه ولا يبصرونه) تفسيراً لقوله: {بالغيب} ينصرونه ولا يبصرونه، فالمراد لا يبصرونه في الدنيا، أما في الآخرة فنظر الله تعالى حق ثابت بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - إذن بالغيب، أي: ينصرون الله وهو غائب، ويحتمل أن يكون المعنى بالغيب، أي: بغيبتهم عن الناس، فيكون في هذا دليل على إخلاصهم، وأنهم ليسوا ممن يعبدون الله إذا كانوا بين الناس، بل يعبدون الله تعالى في الغيب والشهادة {إن الله قوى عزيز} هذه الجملة استئنافية لبيان أن نصر الله - عز وجل - ليس عن ضعف ولا عن قهر، بل هو قوي عزيز لا يحتاج إلى أحد ينصره بنفسه، ولكن النصر لدينه، نسأل الله أن يجعلنا من أنصار دينه إنه على كل شيء قدير. {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} هذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات، الأول: القسم المحذوف. والثاني: اللام. والثالث: قد، ونوح عليه الصلاة والسلام هو أول الرسل عليه الصلاة والسلام من أولي العزم الخمسة، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء من بعده، وإليه يرجع الأنبياء، أي: إلى ملته، ولهذا يتنازع فيه المسلمون واليهود والنصارى، فاليهود يقولون: إنه يهودي، والنصارى يقولون: إنه نصراني، والمسلمون يقولون: إنه حنيف مسلم، وهذا هو الحق، والعجب أن اليهود والنصارى يقولون: إنه يهودي

أو نصراني، وما كانوا يهوداً ونصارى إلا من بعده، ولكنهم ليس لهم عقول، {وجعلنا في ذريتهما} أي: ذرية نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام النبوة والكتاب، يعني الرسل عليهم الصلاة والسلام. وفي هذا دليل على أن آدم ليس برسول، وأن إدريس ليس قبل نوح كما ذكره بعض المؤرخين، وهو خطأ مخالف للقرآن الكريم، فليس قبل نوح رسول، وآدم نبي مكلم كلمه الله - عز وجل - بما شاء من وحيه، ثم سار على نهجه بنوه من بعده، فلما انتشر الناس وكثروا صار بينهم اختلاف، كما قال - عز وجل -: {كان الناس أمةً واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} . وقوله: {الكتاب} ، المراد الجنس، لأن كل رسول معه كتاب، كما قال - عز وجل -: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} {فمنهم مهتد} أي: بعضهم مهتد، وحذفت الياء كما هي القاعدة في اللغة العربية، وأصلها مهتدي بالياء، لكن حذفت للتخفيف {وكثير منهم فاسقون} أي: غير مهتدين، وهذا هو الواقع أن بني آدم أكثرهم ضال، كما قال - عز وجل -: {وإن تطع أكثر من في الأَرض يضلوك عن سبيل الله} . {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وءاتينه الإنجيل} قفينا بمعنى اتبعنا، مأخوذ من القفا، لأن من يمشى من قفاك هو تابع لك {على آثارهم} أي: آثار نوح وإبراهيم ومن كان من الرسل الآخرين عليهم الصلاة والسلام {برسلنا} أي: التابعين لهم، {وقفينا بعيسى ابن مريم} نص على عيسى عليه السلام لأنه ليس

بينه وبين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم رسول، بل ولا نبي أيضاً، ليس بينه رسول ولا نبي، وما يقال: إن خالد بن معادن وغيره له النبوة فكله كذب، {وءاتينه الإنجيل} هو كتاب أنزله الله - عز وجل - على عيسى، ويعتبر مكملاً للتوراة، لأن التوراة هي أم الكتب في بني إسرائيل، {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً ابتدعوها} ، ثلاثة أشياء جعلها الله في قلوب النصارى الذين اتبعوا عيسى {رأفةً} الرأفة نوع من الرحمة ولكنها أرق وألطف {ورحمةً} فهم من أرق الناس قلوباً، وأرحمهم بالخلق لما كانوا على شريعة عيسى عليه السلام، ولكن بعد أن كفروا بمحمد صاروا أغلظ الناس، أو من أغلظ الناس، كما جرى بين المسلمين وبين النصارى في الحروب الصليبية وغيرها {ورهبانيةً} الانقطاع عن الدنيا للعبادة، {ابتدعوها} يعني من عند أنفسهم، كما فعلت بعض فرق المسلمين، ابتدعوا رهبانية ما أنزل الله بها من سلطان، لكن معهم رقة ورحمة {ما كتبنها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله} يعني أنا لم نفرضها عليهم، ولكن هم طلبوا رضوان الله، ولهذا نقول: {إلا ابتغاء رضوان الله} استثناء منقطع، ولكن مع كونهم ابتدعوها واختاروا بأنفسهم {فما رعوها حق رعايتها} يعني ما قاموا برعايتها الواجبة من إحسان هذه الرهبانية التي ابتدعوها، وإنما تصرفوا فيها كما يشاؤون، {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} أي: ثوابهم {وكثير منهم فاسقون} أي: كثير من هؤلاء النصارى فاسق، أي: خارج عن طاعة الله - عز وجل -، وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا ابتدع بدعة فإنه لا

يوفق لإقامتها، فيكون ضالاًّ في الأصل، وضالاًّ في الفرع، حتى لو اجتهد، حتى لو خشع، إنك تجد كثيراً من الناس الذين ابتدعوا أذكاراً، أو صلوات، أو أدعية، أو ما أشبه ذلك تجدهم خاشعين، قلوبهم باكية، قلوبهم خاشعة لكن لا ينفعهم ذلك، لأنهم على ضلال، نسأل الله السلامة والعافية. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم} يا أيها الذين آمنوا، المراد بهم هذه الأمة، فيكون قوله: {اتقوا الله وآمنوا برسوله} يعني اثبتوا على الإيمان، ولا تبدلوا الإيمان، لأن الإيمان قد حصل، حيث قال {يا أيها الذين آمنوا} ، فيكون المعنى {يا أيها الذين آمنوا} بقلوبكم {اتقوا الله} بجوارحكم {وآمنوا برسوله} أي: حققوا الإيمان واثبتوا عليه، وليس كل من آمن يكون مؤمناً حقًّا، وهذا هو ما يعنيه العلماء بقولهم، هذا نفي كمال الإيمان مثل قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬1) ، ليس المراد نفي مطلق الإيمان، بل نفي الإيمان المطلق الكامل، وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية في أهل الكتاب، لأنه قال: {وآمنوا برسوله} ، ولكن هذا قول ضعيف جدًّا، ولا يمكن أن ينادي الله - عز وجل - أهل الكتاب وهم كفرة بوصف الإيمان أبداً، لا يمكن أن يكون المراد بقوله: {يا أيها ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (رقم 13) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير (رقم 45) ..

الذين آمنوا} يا أيها اليهود والنصارى، لأنهم حين نزول القرآن إذا بقوا على يهوديتهم ونصرانيتهم ليسوا بمؤمنين، والمراد برسوله هنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن الإيمان بجميع الرسل، كما قال - عز وجل -: {آمن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملئكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} يعني في الإيمان به، لا في الاتباع، ففي الاتباع نفرق بين الرسل، فتبع منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، لكن الإيمان كلهم على حد سواء، نؤمن بأنهم رسل الله حقًّا، {يؤتكم كفلين من رحمته} أي: نصيبين من رحمة الله، ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذه الأمة بالنسبة لما قبلها كرجل استأجر أجراء، منهم طائفة من أول النهار إلى نصف النهار، وطائفة من نصف النهار إلى العصر، وطائفة من العصر إلى غروب الشمس، فالطائفة الأولى أعطى كل واحد منهم ديناراً، والطائفة الثانية أعطى كل واحد ديناراً، والثالثة أعطى كل واحد دينارين فاحتج الأولون: لماذا تعطي هؤلاء دينارين، وهم أقل منا عملاً؟ فأجابهم بقوله: «هل نقصتكم من أجركم شيئاً» ؟ قالوا: لا، قال: «ذلك فضلي أوتيه من أشاء» (¬1) ، فالحمد لله هذه الأمة لها مثل أجر الأمم السابقة مرتين، {ويجعل لكم نوراً تمشون به} ، أي: أنكم إذا آمنتم وحققتم الإيمان مع التقوى يثبكم ثوابين {ويجعل لكم نوراً تمشون به} أي: علماً تسيرون به إلى الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب (رقم 557) ..

- عز وجل - على بصيرة، وفي هذا دليل على أن التقوى من أسباب حصول العلم، وما أكثر الذين ينشدون العلم، وينشدون الحفظ، ويطلبون الفهم، فنقول: إن تحصيله يسير، وذلك بتقوى الله - عز وجل - وتحقيق الإيمان، الذي هو موجب العلم، فاعمل بما علمت يحصل لك علم ما لم تعلم، فتقوى الله - عز وجل - من أسباب زيادة العلم ولا شك، ولهذا قال {ويجعل لكم نوراً تمشون به} أي: تسيرون به، أي: بسببه سيراً صحيحاً يوصلكم إلى الله - عز وجل - {ويغفر لكم} أي: يسترها عليكم، ويعفو عنكم، فلا عقاب ولا فضيحة {والله غفور رحيم} أي: ذو مغفرة ورحمة، كما قال الله - عز وجل -: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} وقال - عز وجل -: {وربك الغفور ذو الرحمة} فالغفور يعني ذا المغفرة، والرحيم يعني ذي الرحمة، وذلك أن الإنسان محتاج إلى مغفرة ذنوب وقعت منه، وإلى رحمة تسدده ويتجنب بها المعاصي، ويهتدي إلى التوبة إن عصى، ثم قال: {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله} أي: جعل لكم هذا الثواب، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، وأنهم لا يستطيعون أن يحسدوكم على ما آتاكم اللهمن فضله، مع محاولتهم الشديدة أن يحسدوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم} فيقول - عز وجل - هنا {لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله} لا إعطاء ولا منعاً {وأن الفضل بيد الله} - عز

وجل - وهو المدبر لكل ما يريد على حسب ما تقتضيه حكمته {والله ذو الفضل العظيم} أي: صاحب الفضل العظيم، وما أعظم فضل الله - عز وجل - على عباده، فقد قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون} نسأل الله تعالى أن يؤتينا من فضله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1