تفسير السمعاني

السمعاني، أبو المظفر

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين، وَالصَّلَاة على رَسُوله مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ، وَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين، اللَّهُمَّ بَارك ووفق. القَوْل فِي تَفْسِير فَاتِحَة الْكتاب قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل الزَّاهِد جمال الْأَئِمَّة، أَبُو المظفر مَنْصُور بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: اعْلَم أَن لهَذِهِ السُّورَة أَرْبَعَة أسامي: فَاتِحَة الْكتاب، وَأم الْقُرْآن، والسبع المثاني، والسبع من المثاني، بِرِوَايَة عبد خير، عَن عَليّ رضى الله عَنهُ. أما فَاتِحَة الْكتاب فَلِأَن بهَا افْتتح الْكتاب وَهُوَ الْقُرْآن. وَأما أم الْقُرْآن لِأَنَّهَا أصل الْقُرْآن، مِنْهَا بُدِئَ الْقُرْآن. وَأم الشَّيْء: أَصله، وَمِنْه يُقَال لمَكَّة: أم الْقرى؛ لِأَنَّهُ أصل الْبِلَاد. وَأما السَّبع المثاني لِأَنَّهَا سبع آيَات بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة؛ إِلَّا فِي رِوَايَة شَاذَّة أَنَّهَا ثَمَان آيَات. وَسميت مثاني لِأَنَّهَا تثنى فِي الصَّلَاة فتقرأ فِي كل رَكْعَة. وَقَالَ مُجَاهِد: إِنَّمَا سميت مثاني؛ لِأَن الله تَعَالَى استثناها لهَذِهِ الْأمة، كَأَنَّهُ أوحى بهَا لَهُم، وَلم يُعْطهَا أحدا من الْأُمَم. وَأما السَّبع من المثاني فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا سبع آيَات مَخْصُوصَة من المثاني وَهُوَ الْقُرْآن، قَالَ الله تَعَالَى: {كتابا متشابها مثاني} . وَإِنَّمَا سمى الْقُرْآن مثاني؛ لاشْتِمَاله على عُلُوم مثناة من الْوَعْد والوعيد، وَالْأَمر والنهى، وَنَحْوهَا. وَالثَّانِي: أَن السَّبع من المثاني هُوَ السَّبع المثاني؛ و " من " فِيهِ للصلة، وَإِنَّمَا نَشأ هَذَا الْخلاف من قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني} . ثمَّ اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة مَكِّيَّة على قَول ابْن عَبَّاس، وَقَالَ مُجَاهِد: هِيَ مَدَنِيَّة. وَقيل: نزلت مرَّتَيْنِ مرّة بِمَكَّة، وَمرَّة بِالْمَدِينَةِ؛ وَلذَلِك سميت مثاني؛ لِأَنَّهَا ثنيت فِي التَّنْزِيل، وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة.

{بِسم الله}

الفاتحة

قَوْله: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} آيَة من الْفَاتِحَة على قَول بعض الْعلمَاء، وَهُوَ مروى عَن ابْن عَبَّاس وَأم سَلمَة. وَلَيْسَ بِآيَة مِنْهَا على قَول الْبَعْض. وَهَذَا مَذْكُور بدليله فِي الْفِقْه. ثمَّ اعْلَم أَن الْبَاء فِي قَوْله: {بِسم الله} أَدَاة يخْفض مَا بعْدهَا من الْكَلَام، مثل: من، عَن، وَفِي، وعَلى، وأمثالها. وَالْمعْنَى الْمُتَعَلّق بِالْبَاء لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ، وَتَقْدِيره: " أبدأ بِسم الله "، أَو: " بدأت بِسم الله ". وَقَوله: {بِسم الله} أَصله باسم الله، كَقَوْلِه: {اقْرَأ باسم رَبك} ، وَإِنَّمَا حذف الْألف فِي الْكِتَابَة؛ لِأَنَّهُ (لَا يظْهر) فِي اللَّفْظ. وَقيل: إِنَّمَا حذفت لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال تَخْفِيفًا؛ وَلِأَنَّهُ كثر اسْتِعْمَالهَا؛ فاستخفوا حذفهَا، بِخِلَاف قَوْله: {اقْرَأ باسم رَبك} ، ونظائره لِأَن هُنَاكَ لم يكثر الِاسْتِعْمَال. ثمَّ اخْتلفُوا فِي اشتقاق الِاسْم. قَالَ الْمبرد وَجَمَاعَة الْبَصرِيين: الِاسْم مُشْتَقّ من السمو، وَهُوَ الْعُلُوّ والظهور، فَكَأَنَّهُ ظهر على مَعْنَاهُ وَعلا عَلَيْهِ، وَصَارَ مَعْنَاهُ تَحْتَهُ. وَقَالَ ثَعْلَب من الْكُوفِيّين: هُوَ مُشْتَقّ من الوسم والسمة، فَكَأَنَّهُ عَلامَة لمعناه. وَالْأول أولى؛ لِأَن الِاسْم يصغر على الْمُسَمّى. وَلَو كَانَ مشتقا من السعَة، لَكَانَ يصغر على الوسم، كَمَا يُقَال فِي الْوَصْل: وصيل، وَفِي الْوَعْد: وَعِيد. وَأما قَوْله: {الله} تَعَالَى فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْخَلِيل، وَابْن كيسَان هُوَ اسْم علم خَاص لله تَعَالَى لَا اشتقاق لَهُ، وَهُوَ كأسماء الْأَعْلَام للعباد، مثل:

{الرَّحْمَن الرَّحِيم (1) } زيد، وَعَمْرو، وَنَحْوه. وَهُوَ اخْتِيَار الْقفال الشَّاشِي، وَجَمَاعَة من أهل الْعلم. وَقَالَ الْبَاقُونَ: هُوَ اسْم مُشْتَقّ، [و] فِي مَوضِع الِاشْتِقَاق قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مُشْتَقّ من قَوْلهم: أَله إلاهة، أَي: عبد عبَادَة. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " ويذرك وإلاهتك " أَي: عبادتك. وَيُقَال للناسك المتعبد مثأله، وَمِنْه قَول الْقَائِل: (سبحن واسترجعن من تأله) أَي: تعبد، فَيكون مَعْنَاهُ أَنه الْمُسْتَحق لِلْعِبَادَةِ، إِلَيْهِ توجه كل الْعِبَادَات، وَأَنه المعبود فَلَا يعبد غَيره. وَقيل: الْإِلَه من يكون خَالِقًا لِلْخلقِ، رازقا لَهُم، مُدبرا لأمورهم، مقتدرا عَلَيْهِم. وَالثَّانِي: أَن " الله " أَصله إِلَه، وأصل الْإِلَه: ولاه؛ إِلَّا أَن الْوَاو أبدلت بِالْهَمْزَةِ. كَقَوْلِهِم: وشاح وإشاح. واشتقاقه من الوله، وَكَأن الْعباد يولهون الله، ويفزعون إِلَيْهِ ويتضرعون ويلجأون إِلَيْهِ فِي الشدائد. وَأما قَوْله: {الرَّحْمَن الرَّحِيم} قَالَ ابْن عَبَّاس: هما اسمان رقيقان، أَحدهمَا أرق من الآخر. وَحكى عَنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: " الرَّحْمَن ": الرفيق بالعباد، و " الرَّحِيم " العاطف عَلَيْهِم. ثمَّ اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: " الرَّحْمَن " غير " الرَّحِيم " وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا معنى

غير معنى صَاحبه. وَقَالَ بَعضهم: هما وَاحِد. فَأَما من قَالَ: " الرَّحْمَن " غير " الرَّحِيم "، قَالَ: للرحمن معنى الْعُمُوم، وللرحيم معنى الْخُصُوص، فعلى هَذَا " الرَّحْمَن " بِمَعْنى الرازق فِي الدُّنْيَا، والرزق على الْعُمُوم للْكَافِرِ وَالْمُؤمن، و " الرَّحِيم " بِمَعْنى الْعَافِي فِي الْآخِرَة، وَالْعَفو فِي الْآخِرَة على الْخُصُوص للْمُؤْمِنين دون الْكَافرين. وَلذَلِك قيل فِي الدُّعَاء: " يَا رَحْمَن الدُّنْيَا وَرَحِيم الْآخِرَة ". " فالرحمن " من تصل رَحمته إِلَى الْخلق على الْعُمُوم، و " الرَّحِيم " من تصل رَحمته إِلَى الْخلق على الْخُصُوص؛ وَلذَلِك يدعى غير الله رحِيما، وَلَا يدعى رحمانا؛ لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي تصل رَحمته إِلَى الْخلق، كَأَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ورحمتي وسعت كل شَيْء} . وَأما غير الله قد يخص شَيْئا بِالرَّحْمَةِ؛ فَيكون بذلك رحِيما. وَأما من قَالَ: إِن مَعْنَاهُمَا وَاحِد؛ فقد قَالَ قطرب: هما اسمان، ذكر أَحدهمَا

{الْحَمد لله} تَأْكِيدًا للْآخر، مثل: لهفان، ولهيف، وندمان، ونديم. وَقَالَ الْمبرد: (هَذَا تَمام بعد إتْمَام) ، وتفضل بعد تفضل، وتطميع لقلوب الراغبين، ووعد لَا يخيب آمله، وَمَعْنَاهُ: ذُو الرَّحْمَة، وَالرَّحْمَة [هِيَ] الإنعام والتفضل.

2

قَوْله: {الْحَمد لله} اعْلَم أَن الْحَمد يكون بِمَعْنى الشُّكْر على النِّعْمَة، وَيكون بِمَعْنى التَّحْمِيد وَالثنَاء على الْأَوْصَاف المحمودة. يُقَال: حمدت فلَانا على مَا أسدى إِلَيّ من النِّعْمَة. وَيُقَال: حمدت فلَانا على شجاعته وَعلمه. وَأما الشُّكْر لَا يكون إِلَّا على النِّعْمَة؛ فللحمد معنى عَام، وللشكر معنى خَاص. فَكل حَامِد شَاكر، وَلَيْسَ كل شَاكر حامدا. يُقَال: حمدت فلَانا على شجاعته. وَلَا يُقَال: شكرت فلَانا على شجاعته. ثمَّ أعلم أَن حمد الله تَعَالَى لنَفسِهِ حسن لَا كحمد المخلوقين لأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَن [حمد] المخلوقين لَا يَخْلُو عَن نقص؛ فَلَا يَخْلُو مدحه نَفسه عَن كذب؛ فيقبح مِنْهُ أَن يمدح نَفسه. وَأما الله - جلّ جَلَاله - بَرِيء عَن النَّقْص وَالْعَيْب؛ فَكَانَ مدحه نَفسه حسنا. وَقَوله: {الْحَمد لله} هَاهُنَا يحْتَمل مَعْنيين: الْإِخْبَار، والتعليم. أما الْإِخْبَار كَأَنَّهُ يخبر أَن المستوجب للحمد هُوَ الله، وَأَن المحامد كلهَا لله تَعَالَى. وَأما التَّعْلِيم كَأَنَّهُ حمد نَفسه وَعلم الْعباد حَمده، وَتَقْدِيره: " قُولُوا: الْحَمد لله ". وَقَوله: {لله} فَاللَّام تكون للإضافة، وَتَكون للاستحقاق، يُقَال: أكل للدابة،

{رب الْعَالمين (2) الرَّحْمَن الرَّحِيم (3) مَالك يَوْم الدّين (4) } وَالدَّار لزيد، فَاللَّام هَاهُنَا بِمَعْنى الِاسْتِحْقَاق، كَأَنَّهُ يَقُول: الْمُسْتَحق للحمد هُوَ الله تَعَالَى، وَقد فَرغْنَا عَن تَفْسِير قَوْله: {لله} . {رب الْعَالمين} وَأما الرب يكون بِمَعْنى التربية والإصلاح، وَيكون بِمَعْنى الْمَالِك. يُقَال: رب الضَّيْعَة يُرَبِّيهَا، أَي: أتمهَا وَأَصْلَحهَا. وَيُقَال: رب الدَّار لمَالِك الدَّار. فالرب هَاهُنَا يحمل كلا الْمَعْنيين؛ لِأَن الله تَعَالَى مربى الْعَالمين، وَمَالك الْعَالمين. وَأما {الْعَالمُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: هم الْجِنّ والأنس. وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة، وَأَبُو عُبَيْدَة: هم جَمِيع المخلوقين. وَقيل: الأول أولى؛ لِأَن الْخطاب مَعَ الْمُكَلّفين الَّذين هم المقصودون بالخليفة وهم الْجِنّ وَالْإِنْس. وَقيل الْإِنْس عَالم، وَالْجِنّ عَالم. وَالله تَعَالَى وَرَاءه أَربع زَوَايَا، فِي كل زَاوِيَة ألف وَخَمْسمِائة عَالم.

3

وَقد فَرغْنَا عَن تَفْسِير {الرَّحْمَن الرَّحِيم} وَإِنَّمَا ذكره ثَانِيًا لفائدة التوكيد.

4

قَوْله: {مَالك يَوْم الدّين} يقْرَأ بقراءتين: " مَالك، وَملك ". قَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي: " مَالك " بِالْألف أولى؛ لِأَنَّهُ أوسع وَأجْمع، يُقَال: مَالك الدَّار، وَمَالك الطير، وَمَالك العَبْد، وَلَا يسْتَعْمل مِنْهَا اسْم الْملك. وَقَالَ أبوعبيد، والمبرد: " وَملك "، أولى؛ لِأَنَّهُ أتم، فَإِن " الْملك " يجمع معنى " الْمَالِك "، وَالْمَالِك لَا يجمع معنى الْملك، فَإِن كل ملك مَالك، وَلَيْسَ كل مَالك ملكا، وَلِأَنَّهُ أوفق لألفاظ الْقُرْآن، مثل قَوْله - تَعَالَى -: {فتعالى الله الْملك الْحق} ، وَقَوله: {لمن الْملك الْيَوْم} وَنَحْو ذَلِك فمالك: من الْملك والملكة، وَملك من الْملك

{إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين (5) } والملكة، وَالله - تَعَالَى - مَالك، وَملك. وَأما {الْيَوْم} اسْم لزمان مَعْلُوم، وَالْمرَاد بِيَوْم الدّين: يَوْم الْقِيَامَة، وَمَعْنَاهُ: يَوْم الْحساب، وَيَوْم الْجَزَاء. وَقد يكون الدّين بِمَعْنى الطَّاعَة وبمعانشتي، وَلكنه هَاهُنَا على أحد الْمَعْنيين. فَإِن قَالَ قَائِل: لم خص يَوْم الدّين بِالذكر، وَالله - تَعَالَى - مَالك الْأَيَّام كلهَا؟ يُقَال: إِنَّمَا خصّه لِأَن الْأَمر فِي الْقِيَامَة يخلص لَهُ، كَمَا قَالَ: {وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله} . وَأما فِي الدُّنْيَا للملوك أَمر، وللمسلمين أَمر، وللأنبياء أَمر.

5

قَوْله: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} ، قَوْله: {إياك نعْبد} بِمَعْنى نَحن نعبدك، وَالْعِبَادَة: هِيَ الطَّاعَة مَعَ التذلل والخضوع، يُقَال: طَرِيق معبد: أَي مذلل، وَمَعْنَاهُ: نعبدك خاضعين. {وَإِيَّاك نستعين} أَي: نطلب مِنْك المعونة، فَإِن قيل: لم قدم ذكر الْعِبَادَة على الِاسْتِعَانَة؛ تكون قبل الْعِبَادَة؟ وَلم ذكر قَوْله: إياك مرَّتَيْنِ، وَكَانَ يكفى أَن يَقُول: إياك نعْبد ونستعين؛ فَإِنَّهُ أوجز وألخص؟ يُقَال: أما الأول فَإِنَّمَا يلْزم من يَجْعَل الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل، وَنحن بِحَمْد الله نجْعَل الِاسْتِعَانَة والتوفيق مَعَ الْفِعْل، سَوَاء قرنه بِهِ أم أَخّرهُ جَازَ. أَو يُقَال: لِأَن الِاسْتِعَانَة نوع تعبد، فَكَأَنَّهُ ذكر جملَة الْعِبَادَة، ثمَّ ذكر مَا هُوَ من تفاصيلها. وَأما قَوْله: {وَإِيَّاك نستعين} إِنَّمَا كَرَّرَه لِأَنَّهُ لَو اقْتصر على قَوْله: إياك نعْبد ونستعين؛ ليعلم أَنه المعبود، وَأَنه الْمُسْتَعَان، وعَلى أَن الْعَرَب قد تَتَكَلَّم بِمثل هَذَا، قد يدْخل الْكَلَام تجريدا أَو تفخيما وتعظيما. وَلَا يعد ذَلِك عَيْبا، كَمَا تَقول الْعَرَب: " هَذَا الْمَالِك بَين زيد، وَبَين عَمْرو "، وَإِن كَانَ يُفِيد قَوْلهم: " المَال بَين زيد، وَعَمْرو ". مَا يُفِيد الأول، وَلَا يعد ذَلِك عَيْبا فِي الْكَلَام؛ بل عد تفخيما وتجزيلا فِي الْكَلَام.

(اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم (6))

6

قَوْله: (اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم) يعْنى: أرشدنا، وثبتنا. وَالْهِدَايَة فِي الْقُرْآن على معَان، فَتكون الْهِدَايَة بِمَعْنى الإلهام، وَتَكون بِمَعْنى الْإِرْشَاد، وَتَكون بِمَعْنى الْبَيَان، وَتَكون بِمَعْنى الدُّعَاء. أما الإلهام، قَالَ الله تَعَالَى: {رَبنَا الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى} أَي: ألهم. وَأما الْإِرْشَاد، قَوْله تَعَالَى: {واهدنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط} . وَأما الْبَيَان قَوْله: {وَأما ثَمُود فهديناهم} أَي: بَينا لَهُم. وَأما الدُّعَاء، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلكُل قوم هاد} أَي: دَاع فَهُوَ بِمَعْنى الاسترشاد هَاهُنَا. فَإِن قَالَ قَائِل: أَي معنى للاسترشاد، وكل مُؤمن مهتد، فَمَا معنى قَوْله {اهدنا} ؟ قُلْنَا: هَذَا سُؤال من يَقُول بتناهي الألطاف من الله تَعَالَى. وَمذهب أهل السّنة أَن الألطاف والهدايات من الله تَعَالَى لَا تتناهى، فَيكون ذَلِك بِمَعْنى طلب مزِيد الْهِدَايَة، وَيكون بِمَعْنى سُؤال للتثبيت، اهدنا بِمَعْنى ثبتنا، كَمَا يُقَال للقائم: " قُم حَتَّى أَعُود إِلَيْك ". أَي: أثبت قَائِما. وَأما {الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} قَالَ عَليّ، وَابْن مَسْعُود: هُوَ الْإِسْلَام. وَقَالَ جَابر: هُوَ الْقُرْآن وَأَصله فِي اللُّغَة: هُوَ الطَّرِيق الْوَاضِح، وَالْإِسْلَام طَرِيق وَاضح، وَالْقُرْآن طَرِيق وَاضح.

{صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين (7) } وَقد قَالَ الْقَائِل: (أَمِير الْمُؤمنِينَ على صِرَاط ... إِذا اعوج الْمَوَارِد مُسْتَقِيم)

7

قَوْله {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} ، قد قَرَأَ عمر رَضِي الله عَنهُ: " صِرَاط من أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَغير الضَّالّين " وَلكنه فِي الشواذ، وَالْمَعْرُوف هُوَ الْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة. وَقيل: " الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم " هم الْأَنْبِيَاء. وَقيل: كل من ثبته الله على الْإِيمَان من النَّبِيين وَالْمُؤمنِينَ كَافَّة. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة الريَاحي: هم الرَّسُول، وَأَبُو بكر، وَعمر. وَأما قَوْله: {غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} . آمين. فالمغضوب عَلَيْهِم هم الْيَهُود، والضالون هم النَّصَارَى. وروى عَن عدي بن حَاتِم أَنه جَاءَ إِلَى النَّبِي ليسلم، وَقَالَ: " يَا رَسُول الله، من المغضوب عَلَيْهِم؟ فَقَالَ: الْيَهُود. وَقَالَ: فَمن الضالون؟ فَقَالَ النَّصَارَى. قَالَ عدي: أشهد أَنِّي حنيف مُسلم. قَالَ عدي: فَرَأَيْت وَجه رَسُول الله يَتَهَلَّل، ويبتسم؛ فَرحا بِإِسْلَامِي ". وَأما " آمين " فَلَيْسَ من الْقُرْآن. وَالسّنة للقارىء أَن يقف وَقْفَة، ثمَّ يَقُول: آمين. وَفِيه لُغَتَانِ: آمين بِالْمدِّ، وَأمين بِالْقصرِ. وَمَعْنَاهُ: اللَّهُمَّ استجب. وَقيل: إِنَّه طَابع الدُّعَاء.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم القَوْل فِي تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة اعْلَم أَن سُورَة الْبَقَرَة مَدَنِيَّة بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، وَحكى عَن بعض الْعلمَاء أَنه قَالَ: يكره، تَسْمِيَتهَا بِسُورَة الْبَقَرَة، وَالْأولَى أَن يُقَال: السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْبَقَرَة، وَكَذَا فِي سَائِر السُّور من أَمْثَالهَا. وَالأَصَح أَنه يجوز؛ لما روى عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه رمى جَمْرَة الْعقبَة من بطن الْوَادي ثمَّ قَالَ: هَذَا وَالله مقَام الَّذِي أنزلت عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة. وروى عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " تعلمُوا سُورَة الْبَقَرَة، فَإِن أَخذهَا بركَة، وَتركهَا حسرة، وَلَا يستطيعها البطلة " أَي: السَّحَرَة. وَفِي هَذَا دَلِيل على فَضِيلَة هَذِه السُّورَة، وعَلى جَوَاز تَسْمِيَتهَا سُورَة الْبَقَرَة، وسمى بعض الْمُتَقَدِّمين هَذِه السُّورَة: فسطاط الْقُرْآن؛ لشرفها وفضلها.

{آلم (1) }

البقرة

قَوْله تَعَالَى: {آلم} قَالَ الشّعبِيّ وَجَمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين، فِي هَذَا وَسَائِر حُرُوف التهجي فِي فواتح السُّور: والفائدة فِي أَوَائِل السُّور لَا (يعلم) مَعْنَاهَا، وَهِي سر الْقُرْآن، وَلكُل كتاب سر، وسر الْقُرْآن حُرُوف التهجي من فواتح السُّور، والفائدة من ذكرهَا طلب الْإِيمَان بهَا، وَأَن يعلم أَنَّهَا من عِنْد الله تَعَالَى. وَقَالَ غَيرهم: هِيَ مَعْلُومَة الْمعَانِي. وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: معنى قَوْله: {آلم} أَنا الله أعلم، وكل حرف يدل على معنى، وَالْألف دَلِيل قَوْله: " أَنا "، وَاللَّام دَلِيل قَوْله: " الله "، وَالْمِيم دَلِيل قَوْله: " أعلم ". وَكَذَا قَالَ فِي أَمْثَاله، فَقَالَ فِي {آلمص} : مَعْنَاهُ: أَنا الله أعلم وأفصل. وَفِي {آلمر} : أَنا " الله " أعلم وَأرى. وَفِي {آلر} : أَنا الله أرى. قَالَ الزّجاج: هَذَا حسن، وبمثله قَالَت الْعَرَب فِي قَوْلهَا. فَإِن الْعَرَب قد تَأتي فِي كَلَامهَا بِحرف وتريد بِهِ معنى، كَمَا قَالَ الْقَائِل: (قلت لَهَا قفي فَقَالَت قَاف ... لَا تحسبي أَنا نَسِينَا الإيجاف) وَمعنى قَوْلهَا قَاف، أَي: وقفت. فَدلَّ الْحَرْف على معنى، كَذَا هَذَا. وَقَالَ قَتَادَة فِي حُرُوف التهجي: إِنَّهَا اسْم لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ مُجَاهِد: إِنَّهَا أَسمَاء للسور وَقَالَ غَيرهم: هُوَ قسم، أقسم الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْحُرُوف؛ لشرفها وفضلها؛ لِأَنَّهَا مباني كتبه الْمنزلَة.

2

قَوْله عز وَجل: {ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ} ، أما قَوْله: {ذَلِك الْكتاب} أَي: هَذَا الْكتاب، كَمَا قَالَ الْقَائِل:

{ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ هدى لِلْمُتقين (2) } (أَقُول لَهُ وَالرمْح يأطر مَتنه ... تَأمل خفافا إِنَّنِي أَنا ذلكا) [أَي] : أنني أَنا هَذَا. وَقيل: هَذَا مُضْمر فِيهِ، وَمَعْنَاهُ: هَذَا ذَلِك الْكتاب الَّذِي وعدتك يَا مُحَمَّد أَن أنزلهُ عَلَيْك على لِسَان الَّذين قبلك، و " هَذَا " للتقريب و " ذَلِك " للتبعيد. فَأَما {الْكتاب} هُوَ الْقُرْآن، وَالْكتاب بِمَعْنى الْمَكْتُوب كَمَا يُقَال: " ضرب الْأَمِير " أَي: مضروبه. {لَا ريب فِيهِ} أَي: لَا شكّ فِيهِ. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ أخبر قَالَ: " لَا ريب فِيهِ " وَقد ارتاب فِيهِ كثير من النَّاس، وَخبر الله تَعَالَى لَا يكون بِخِلَاف مخبره؟ يُقَال: مَعْنَاهُ أَنه الْحق والصدق لَا شكّ فِيهِ. وَقيل: هُوَ خبر بِمَعْنى النهى، أَي: لَا ترتابوا فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {هدى لِلْمُتقين} وَالْهدى بِمَعْنى الرشد وَالْبَيَان. وَأما المتقون مَأْخُوذ من الاتقاء وَالتَّقوى. وَأَصله الحجز بَين شَيْئَيْنِ، وَمِنْه يُقَال: اتَّقى بترسه، أَي: جعله حاجزا بَين نَفسه وَبَين مَا قصد بِهِ من الْمَكْرُوه. وَفِي الْخَبَر " كُنَّا إِذا احمر الْبَأْس اتقينا برَسُول الله ". أَي: " اشتدت الْحَرْب " جَعَلْنَاهُ حاجزا بَيْننَا وَبَين الْعَدو. فَكَأَن المتقى يَجْعَل امْتِثَال أَمر الله والاجتناب عَن نَهْيه حاجزا بَينه وَبَين الْعَذَاب فيتحرز بِطَاعَة الله عَن عُقُوبَة الله. فَإِن قَالَ قَائِل: لم خص الْمُتَّقِينَ بِالذكر وَهُوَ هدى لجَمِيع الْمُؤمنِينَ؟ قيل: إِنَّمَا خصهم بِالذكر تَشْرِيفًا، أَو لأَنهم هم المنتفعون بِالْهدى، حَيْثُ نزلُوا منزل التَّقْوَى دون غَيرهم،

{الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (3) } فَلهَذَا خصهم بِهِ.

3

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة} قَوْله: {الَّذين} نعت الْمُتَّقِينَ {يُؤمنُونَ} من الْإِيمَان. وَهُوَ التَّصْدِيق، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا} أَي: بمصدق لنا. وَالْإِيمَان فِي الشَّرِيعَة يشْتَمل على الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ، وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَل بالأركان. وَقيل: الْإِيمَان مَأْخُوذ من الْأمان، فسعي الْمُؤمن مُؤمنا؛ لِأَنَّهُ يُؤمن نَفسه من عَذَاب الله. وَالله مُؤمن؛ لِأَنَّهُ يُؤمن الْعباد من عَذَابه. {بِالْغَيْبِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْغَيْب كل مَا أمرت بِالْإِيمَان بِهِ مِمَّا غَابَ عَن بَصرك، وَذَلِكَ مثل الْمَلَائِكَة، وَالْجنَّة، وَالنَّار، والصراط، وَالْمِيزَان، وَنَحْوهَا. وَقَالَ غَيره: الْغَيْب هَاهُنَا هُوَ الله تَعَالَى. وَقَالَ ابْن كيسَان: أَرَادَ بِهِ الْقدر. {يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} ، أَي: بِالْقدرِ. {ويقيمون الصَّلَاة} أَي: يديمون الصَّلَاة. وَحَقِيقَة إِقَامَة الصَّلَاة الْمُحَافظَة على أَدَائِهَا بأركانها وسننها وهيئاتها. فَالصَّلَاة فِي اللُّغَة: الدُّعَاء، وَقد ورد فِي الْخَبَر: " من دعى إِلَى الطَّعَام فليجب، فَإِن كَانَ مُفطرا فَليَأْكُل، وَإِن كَانَ صَائِما فَليصل ". أَي: فَليدع. وَقد قَالَ الشَّاعِر: (تَقول بِنْتي وَقد [قربت] مرتحلا ... يَا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا)

{وَالَّذين يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) } (عَلَيْك مثل الَّذِي صليت فاغتمضي ... عينا فَإِن بِجنب الْمَرْء مُضْطَجعا) معنى قَوْله: صليت أَي: مثل الَّذِي دَعَوْت. وَقيل: الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار، وَمن النَّاس الدُّعَاء، وَهِي فِي الشَّرِيعَة تشْتَمل على أَفعَال مَخْصُوصَة وعَلى الثَّنَاء وَالدُّعَاء. قَوْله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} أما الرزق اسْم لكل مَا ينْتَفع بِهِ الْخلق، فَيدْخل فِيهِ الْوَلَد وَالْعَبْد. {يُنْفقُونَ} من الْإِنْفَاق، وَأَصله الْإِخْرَاج، وَمِنْه نفاق السُّوق؛ لِأَنَّهُ تخرج فِيهِ السّلْعَة وَيُقَال: نفقت الدَّابَّة إِذا خرجت روحها، فَهَذِهِ الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ من مُشْركي الْعَرَب.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك} وَهَذِه الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ من أهل الْكتاب؛ لأَنهم هم الَّذين آمنُوا بِالْقُرْآنِ وَسَائِر الْكتب قبله، وَقد روى فِي حَدِيث صَحِيح عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من آمن بالكتب الْمُتَقَدّمَة وآمن بِالْقُرْآنِ يُؤْتى أجره مرَّتَيْنِ ". وَعَلِيهِ دلّ نَص الْقُرْآن {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ} . وَقَوله: {وبالآخرة هم يوقنون} فالآخرة هِيَ دَار الْآخِرَة. وَسميت الدُّنْيَا دنيا؛ لدنوها من الْخلق، وَسميت الْآخِرَة آخِرَة؛ لتأخرها عَن الْخلق.

{أُولَئِكَ على هدى من رَبهم وَأُولَئِكَ هم المفلحون (5) إِن الَّذين كفرُوا} {هم يوقنون} من الإيقان وَهُوَ الْعلم، وَقيل: الإيقان وَالْيَقِين: علم عَن اسْتِدْلَال، وَلذَلِك لَا يُسَمِّي الله تَعَالَى موقنا إِذْ لَيْسَ علمه عَن اسْتِدْلَال.

5

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ على هدى من رَبهم وَأُولَئِكَ هم المفلحون} فَقَوله {أُولَئِكَ} يَعْنِي الَّذين وَصفهم {على هدى} أَي: على رشد وَبَيَان من رَبهم. فَإِن قيل: لم ذكر الْهدى ثَانِيًا وَقد وَصفهم بِالْهدى مرّة؟ قيل: كَرَّرَه لفائدة التَّأْكِيد أَو يُقَال: الْهدى الأول من الْقُرْآن، وَالْهدى الثَّانِي من الله، وَفِيه بَيَان أَن الْهِدَايَة من الله تَعَالَى وَمن كَلَامه كَمَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة. وَأما {المفلحون} من الْفَلاح، والفلاح يكون بِمَعْنى الْبَقَاء. يُقَال: أَفْلح بِمَا شِئْت. أَي: أبق بِمَا شِئْت. وَقد يكون بِمَعْنى الْفَوْز والنجاة. وأصل الْفَلاح الْقطع والشق، وَمِنْه سمى [الزَّارِع] فلاحا؛ لِأَنَّهُ يشق الأَرْض. وَفِي الْمثل: " الْحَدِيد بالحديد يفلح "، أَي: يشق. قَالَ الشَّاعِر: (قد علمت يَا ابْن أم صحصح ... أَن الْحَدِيد بالحديد يفلح) أَي: يشق. فَمَعْنَى المفلحين أَنهم الْبَاقُونَ فِي نعيم الْأَبَد، والفائزون بِهِ، والمقطوع لَهُم بِالْخَيرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

6

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا} فالكفر مَأْخُوذ من الْكفْر وَهُوَ السّتْر والتغطية، وَمِنْه يُقَال لِليْل: كَافِر؛ لِأَنَّهُ يستر الْأَشْيَاء بظلمته، وسمى الزَّارِع كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يستر الْحبّ بِالتُّرَابِ، وَيُسمى الْكَافِر كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ يستر نعم الله تَعَالَى بِكُفْرِهِ وَيصير فِي غطاء من دَلَائِل الْإِسْلَام وبراهينه. وَقيل: الْكفْر على أَرْبَعَة أنحاء: كفر إِنْكَار، وَكفر جحد، وَكفر عناد، وَكفر نفاق.

{سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ (6) ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى أَبْصَارهم غشاوة وَلَهُم عَذَاب عَظِيم (7) } فَكفر الْإِنْكَار هُوَ أَن لَا يعرف الله أصلا، أَو لَا يعْتَرف بِهِ. وَكفر الْجحْد: هُوَ أَن يعرف الله تَعَالَى، وَلَكِن يجحده، ككفر إِبْلِيس. وَكفر العناد: هُوَ أَن يعرف الله تَعَالَى بِقَلْبِه، ويعترف بِلِسَانِهِ، وَلَكِن لَا يتدين بِهِ وَلَا يَتَّخِذهُ دينا، ككفر أبي طَالب؛ فَإِنَّهُ عرف الله وَرَسُوله بِقَلْبِه وَأقر بِلِسَانِهِ حَتَّى قَالَ: (وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد ... من خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا) (لَوْلَا الْمَلَامَة أَو حذار مسَبَّة ... لَوَجَدْتنِي سَمحا بِذَاكَ مُبينًا) وَأما كفر النِّفَاق: أَن يعْتَرف بِاللِّسَانِ وَلَا يعْتَقد بِالْقَلْبِ؛ فَهَذِهِ أَنْوَاع الْكفْر؛ فَمن لقى الله تَعَالَى بِنَوْع مِنْهَا لم يعف. قَوْله تَعَالَى: {سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ} {سَوَاء عَلَيْهِم} أَي: مستو عَلَيْهِم. (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) أَي: خوفتهم أم لم تخوفهم. والإنذار: تخويف مَعَ الْإِعْلَام. وَقيل: هُوَ أَشد التخويف. يَعْنِي: سَوَاء خوفتهم أم لم تخوفهم لَا يُؤمنُونَ. وَردت هَذِه الْآيَة فِي قوم بأعيانهم علم الله تَعَالَى أَنهم لَا يُؤمنُونَ.

7

قَوْله تَعَالَى: {ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم} ذكر فِي الْآيَة الأولى أَنهم لَا يُؤمنُونَ، وَذكر فِي هَذِه الْآيَة علته، فَقَالَ: {ختم الله على قُلُوبهم} والختم: هُوَ الطَّبْع، وَحَقِيقَته: الاستيثاق من الشَّيْء؛ كَيْلا يدْخلهُ مَا هُوَ خَارج مِنْهُ، وَلَا يخرج عَنهُ مَا هُوَ دَاخل فِيهِ، وَمِنْه الْخَتْم على الْبَاب. فَقَوله: {ختم الله على قُلُوبهم} ذكر ابْن كيسَان أقوالا فِي مَعْنَاهُ: أَحدهَا: أَي: جازاهم على كفرهم بِأَن أختم على قُلُوبهم.

{وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر وَمَا هم بمؤمنين (8) يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا وَمَا يخدعون إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ} وَالثَّانِي وَهُوَ قَول أهل السّنة أَي: ختم على قلبهم بالْكفْر؛ لما سبق من علمه الأزلي فيهم. وَحكى قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: جعل على قُلُوبهم عَلامَة تعرفهم الْمَلَائِكَة بهَا، وَهَذَا تَأْوِيل أهل الاعتزال، نبرأ إِلَى الله مِنْهُ. وَحكى أَبُو عمر غُلَام ثَعْلَب، عَن ثَعْلَب، عَن إِبْرَاهِيم الْأَعرَابِي: أَن الْخَتْم هُوَ منع الْقلب من الْإِيمَان، ذكره فِي كتاب الْيَاء. قَوْله: {وعَلى سمعهم} أَي: أسماعهم، ذكر الْجمع بِلَفْظ (الْوَاحِد) ، وَمثله كثير فِي الْقُرْآن. مَعْنَاهُ: على مَوضِع سمعهم، فختم على قُلُوبهم؛ كَيْلا يقبلُوا الْحق، وعَلى سمعهم؛ كَيْلا يسمعو الْحق. قَول تَعَالَى: {وعَلى أَبْصَارهم غشاوة} هَذَا ابْتِدَاء الْكَلَام وَمَعْنَاهُ: على أَبْصَارهم غطاء. {وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} أَي: كَبِير، وصف عَذَاب الْآخِرَة بالعظم وَلَا شكّ أَنه عَظِيم.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر وَمَا هم بمؤمنين} قَالَ الْكَلْبِيّ: ورد هَذَا فِي شَأْن الْيَهُود. وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنه فِي شَأْن الْمُنَافِقين. وَمَعْنَاهُ: وَمن النَّاس نَاس تَقول آمنا بِاللَّه وباليوم الآخر يَعْنِي: الْقِيَامَة. {وَمَا هم بمؤمنين} نفي الْإِيمَان عَنْهُم؛ حَيْثُ أظهرُوا الْإِسْلَام بِاللِّسَانِ وَلم يعتقدوا بالجنان. وَهَذَا دَلِيل على من يخرج الِاعْتِقَاد من جملَة الْإِيمَان.

9

قَوْله تَعَالَى: {يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا} الْآيَة: المخادعة، والخدع بِمَعْنى وَاحِد وَحَقِيقَة المخادعة: أَن يظْهر شَيْئا ويبطن خِلَافه.

( {9) فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا} وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي فِي كتاب الْيَاء: قَوْله: المخادعة منع الْقلب من الْحق، قَالَه فِي حق الْمُنَافِقين حَيْثُ أظهرُوا الْإِسْلَام بِاللِّسَانِ وأبطنوا خِلَافه. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: {يخادعون الله} وَهَذَا يُوهم الشّركَة فِي المخادعة، وَقد جلّ الله تَعَالَى عَن الْمُشَاركَة فِي المخادعة؟ ! الْجَواب: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَعْنَاهُ يخادعون نَبِي الله. وَقَالَ غَيره من الْمُفَسّرين مَعْنَاهُ: يعاملون الله مُعَاملَة المخادعين. فَأَما قَوْله: {وَمَا يخادعون إِلَّا أنفسهم} يقْرَأ بقراءتين: " يخادعون، ويخدعون ". فَمن قَرَأَ: " يخادعون " فَهُوَ على المشاكلة؛ لِأَنَّهُ ذكر الأول بِلَفْظ المخادعة، وَهَذَا شكله فَذكره بِلَفْظِهِ. وَمن قَرَأَ: " يخدعون " فَهُوَ على الأَصْل، وعَلى أَن لفظ المخادعة لَا يَقْتَضِي الْمُشَاركَة، بَين اثْنَتَيْنِ، وَمثله: طرقت النَّعْل، وطارقت النَّعْل، وَمثله كثير فِي أَلْفَاظ المفاعلة. فَمَعْنَى قَوْله {وَمَا يخادعون إِلَّا أنفسهم} أَي: وبال خديعتهم رَاجع إِلَيْهِم {وَمَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ ذَلِك. يُقَال: شَعرت بِمَعْنى علمت، وَمِنْه قَوْلهم: لَيْت شعري؛ أَي: لَيْت أعلم.

10

قَوْله تَعَالَى: {فِي قُلُوبهم مرض} الْآيَة، أَرَادَ بِالْمرضِ الشَّك والنفاق، بِإِجْمَاع الْمُفَسّرين. ويوصف الْقلب وَالدّين بِالْمرضِ وَالصِّحَّة كَمَا يُوصف الْبدن بِهِ. {فَزَادَهُم الله مَرضا} أَي: شكا ونفاقا؛ فَإِنَّهُ لما نزلت الْآيَات آيَة بعد آيَة فَكلما كفرُوا بِآيَة ازدادوا كفرُوا ونفاقا، وَذَلِكَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم

{وَلَهُم عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكذبُون (10) وَإِذا قيل لَهُم لَا تفسدوا فِي الأَرْض قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون (11) أَلا إِنَّهُم هم المفسدون} مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم) . قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم. فعيل: بِمَعْنى: مفعل؛ كَمَا قَالَ الْقَائِل: (أَمن رَيْحَانَة الدَّاعِي السَّمِيع ... يؤرقني وأصحابي هجوع خُفْيَة) وَأَرَادَ بالسميع المسمع. قَوْله تَعَالَى: {بِمَا كَانُوا يكذبُون} قرىء بقراءتين: مخفف وَمَعْنَاهُ: يكذبُون بِمَا أظهرُوا من الْإِسْلَام وأبطنوا خِلَافه، وَهُوَ مثل قَوْله: {وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} . وقرىء: " يكذبُون " مشددا، وَمَعْنَاهُ: يكذبُون الرَّسُول.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم لَا تفسدوا فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: لَا تكفرُوا، وَالْكفْر أَشد فَسَادًا فِي الأَرْض. {قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون} يعْنى: أَن الَّذِي أظهرنَا من الْإِسْلَام واستفدنا بِهِ من الْعِزّ والأمان مصلحَة لنا وَنحن مصلحون بِهِ.

12

{أَلا إِنَّهُم هم المفسدون} هَذَا ابْتَدَأَ كَلَام من الله. وَقَوله: (أَلا) للتّنْبِيه؛ قَالَ الشَّاعِر: (أَلا إِن هَذَا الدَّهْر يَوْم وَلَيْلَة ... وَلَيْسَ على شَيْء قديم بمستمر) يَقُول الله تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُم هم المفسدون} يَعْنِي: بِمَا أظهرُوا من الْإِسْلَام وأبطنوا خِلَافه، فَهُوَ فَسَاد؛ وَإِن ظنوه صلاحا، وأظهروا خلاف مَا أبطنوا. {وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ.

{وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قيل لَهُم آمنُوا كَمَا آمن النَّاس قَالُوا أنؤمن كَمَا آمن السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُم هم السُّفَهَاء وَلَكِن لَا يعلمُونَ (13) } فَإِن قيل: كَيفَ يلْزمهُم الْحجَّة إِذا كَانُوا لَا يعلمُونَ؟ قيل: يلْزمهُم الْحجَّة بِمَا أوضح من السَّبِيل، وَنصب من الدَّلَائِل، وجهلهم لَا يكون عذرا لَهُم.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم آمنُوا كَمَا آمن النَّاس} الْآيَة. كَمَا آمن النَّاس يعْنى: الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. {قَالُوا أنؤمن كَمَا آمن السُّفَهَاء} سموهم سُفَهَاء فأجابهم الله تَعَالَى بقوله: {أَلا إِنَّهُم هم السُّفَهَاء} وَالسَّفِيه خَفِيف الْعقل رَقِيق الْحلم؛ من قَوْلهم: ثوب سَفِيه، أَي: رَقِيق بَال يَقُول: هم الَّذين خفت عُقُولهمْ، ورقت أحلامهم {وَلَكِن لَا يعلمُونَ} .

14

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا لقوا الَّذين آمنُوا قَالُوا آمنا} الْآيَة، مَعْنَاهُ: وَإِذا لقوا الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار قَالُوا: آمنا. أظهرُوا الْإِسْلَام بِاللِّسَانِ. {وَإِذا خلوا إِلَى شياطينهم} أَي: بشياطينهم، يذكر " إِلَى " بِمَعْنى " الْبَاء " لِأَن الصلات يقوم بَعْضهَا مقَام الْبَعْض. والشيطان: كل عَاتٍ متمرد من الْجِنّ وَالْإِنْس، وَأَصله: الْبعد والامتداد. يُقَال: بِئْر شطون، أَي: بعيد العمق والقعر. وَيُقَال للحبل: شطن؛ لامتداده. وسمى الشَّيْطَان شَيْطَانا؛ لامتداده فِي الشَّرّ وَبعده عَن الْخَيْر. فَأَرَادَ بالشياطين هَاهُنَا عتاتهم ورؤساءهم فِي الْكفْر. يَقُول: إِذا خلوا برءوسهم، قَالُوا: إِنَّا مَعكُمْ فِي دينكُمْ {إِنَّمَا نَحن مستهزئون} بِمَا أظهرنَا من الْإِسْلَام مَعَ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار.

{وَإِذا لقوا الَّذين آمنُوا قَالُوا آمنا وَإِذا خلوا إِلَى شياطينهم قَالُوا إِنَّا مَعكُمْ إِنَّمَا نَحن نَحن مستهزئون (14) الله يستهزىء بهم ويمدهم فِي طغيانهم}

15

وَقَوله تَعَالَى: {الله يستهزىء بهم} الْآيَة. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى الِاسْتِهْزَاء من الله تَعَالَى؟ قُلْنَا فِيهِ أَقْوَال: قَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ يجازيهم على صنيعهم، إِلَّا أَنه سَمَّاهُ الله استهزاء؛ لِأَنَّهُ جَزَاء الِاسْتِهْزَاء؛ كَمَا قَالَ: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَإِن لم يكن الْجَزَاء سَيِّئَة حَقِيقَة. وَقَالَ بَعضهم: يستهزىء بهم أَي يعيبهم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {يكفر بهَا ويستهزأ بهَا} أَي: يعاب كَذَلِك هَذَا. وَقَالَ أهل الرِّوَايَة مَعْنَاهُ: الله يستهزىء بهم فِي الْآخِرَة، والاستهزاء بهم فِي الْآخِرَة يحْتَمل وَجْهَيْن؛ أَحدهمَا: أَن يضْرب للْمُؤْمِنين على الصِّرَاط نورا يَمْشُونَ بِهِ، وَإِذا وصل المُنَافِقُونَ إِلَيْهِ حَال بَينهم وَبَين الْمُؤمنِينَ، فَذَلِك الِاسْتِهْزَاء بهم؛ كَمَا قَالَ: {فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب} . وَالثَّانِي: أَنه يقربهُمْ من الْجنَّة، حَتَّى إِذا رأو زهرتها وحسنها وبهجتها، واستنشقوا رائحتها صرفهم عَنْهَا إِلَى النَّار، فَذَلِك الِاسْتِهْزَاء بهم، وَقد نطق عَنهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِمَعْنَاهُ حَدِيث فِي الصِّحَاح. قَوْله: {ويمدهم} أَي، يمهلهم حَتَّى يستدرجهم. {فِي طغيانهم} أَي: ضلالتهم. {يعمهون} أَي: يتحيرون، قَالَ الشَّاعِر: (ومهمة أطرافها فِي مهمة ... أعمى الْهدى بالجاهلين العمه)

16

قَوْله تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى) لِأَن مَعْنَاهُ: اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَان؛ لأَنهم لما آثروا أَشْيَاء على شَيْء فكأنهم استبدلوا هَذَا بذلك {فَمَا

{يعمهون (15) أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى فَمَا ربحت تِجَارَتهمْ وَمَا كَانُوا مهتدين (16) مثلهم كَمثل الَّذِي استوقد نَارا فَلَمَّا أَضَاءَت مَا} ربحت تِجَارَتهمْ) أَي: فَمَا ربحوا فِي تِجَارَتهمْ. {وَمَا كَانُوا مهتدين} .

17

قَوْله تَعَالَى: {مثلهم كَمثل الَّذِي استوقد نَارا} الْآيَة. الْمثل: قَول سَائِر فِي عرف النَّاس، يعرف بِهِ معنى الشَّيْء من الشَّيْء. وَهَذَا أحد أَقسَام الْقُرْآن؛ فَإِن الْقُرْآن على سَبْعَة أَقسَام. وَقيل مثلهم، أَي: صفتهمْ. {كَمثل الَّذِي استوقد نَارا} أوقد النَّار، واستوقد بِمَعْنى وَاحِد، كَمَا يُقَال: أجَاب، واستجاب. وَقيل: أوقد إِذا فعل بِنَفسِهِ، واستوقد إِذا طلب الإيقاد من غَيره. {فَمَا أَضَاءَت مَا حوله} يعْنى: أَضَاءَت النَّار الموقدة حول المستوقد. ضربه مثلا لِلْمُنَافِقين وَمعنى هَذَا الْمثل قَوْله تَعَالَى: {كَمثل الَّذِي استوقد نَارا} ضربه مثلا لما أظهرُوا بِاللِّسَانِ من الْإِسْلَام. {فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حوله} يعْنى: مَا استفادوا بذلك الْإِسْلَام الظَّاهِر من التجمل والعز والأمان فِي الدُّنْيَا. {ذهب الله بنورهم} قيل: فِيهِ معَان: أَحدهَا: ذهب الله بِمَا أظهرُوا من الْإِسْلَام بِإِظْهَار عقيدتهم على لِسَان النَّبِي وَقيل: مَعْنَاهُ ذهب الله بنورهم، يعْنى فِي الْقَبْر. وَقيل: فِي الْقِيَامَة؛ يعْنى أَن مَا استفادوا بِهِ فِي الدُّنْيَا لَا يَنْفَعهُمْ فِي الْآخِرَة إِذا كَانَ مصيرهم إِلَى النَّار. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {ذهب الله بنورهم} وَلَا نور لَهُم، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} وَلَا نور لَهُم؟ قيل: أَرَادَ بِهِ نور مَا أظهرُوا من الْإِسْلَام؛ وَذَلِكَ نوع نور. وَقيل: قد يذكر مثله على معنى الحرمان كَمَا يُقَال: أخرجتني من صلتك، وَإِن لم

{حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فِي ظلمات لَا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لَا يرجعُونَ (18) أَو كصيب من السَّمَاء فِيهِ ظلمات ورعد} يكن دَاخِلا فِي صلته. بِمَعْنى: أَنَّك حرمتني صلتك، كَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {ذهب الله بنورهم} أَي: حرمهم ذَلِك النُّور. (وتركهم فِي ظلمات) أَي: شَدَائِد {لَا يبصرون} الْحق.

18

قَوْله: (صم بكم عمي فهم لَا يرجعُونَ) فالصم: جمع الْأَصَم، وَهُوَ الَّذِي لَا يسمع، والبكم: جمع الأبكم، وَهُوَ الَّذِي لَا ينْطق، وَولد على الخرس. والعمي: جمع الْأَعْمَى، وَهُوَ الَّذِي لَا يبصر؛ فَمَعْنَاه أَنهم صم لَا يبصرون الْحق، وَلَا يعرفونه كَأَنَّهُمْ لم يسمعوا؛ وَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر: (أَصمّ عَمَّا سَاءَهُ سميع ... ) أَي: لَا يسمع مَا سَاءَهُ مَعَ كَونه سميعا. {بكم} يَعْنِي: أَنهم لما أبطنوا خلاف مَا أظهرُوا؛ فكأنهم لم ينطقوا بِالْحَقِّ. {عمي} أَي: لَا بصائر لَهُم، وَمن لَا بَصِيرَة لَهُ كمن لَا بصر لَهُ. {فهم لَا يرجعُونَ} عَمَّا هم عَلَيْهِ من الضَّلَالَة.

19

قَوْله تَعَالَى {أَو كصيب من السَّمَاء فِيهِ ظلمات ورعد وبرق} الْآيَة. فالصيب: الْمَطَر، وكل مَا نزل من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل فَهُوَ صيب، من قَوْلهم: صاب يصوب، إِذا نزل. وَقيل: الْأَهْل مُضْمر فِيهِ، أَي: كَأَهل الصيب؛ كَقَوْلِه {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة. {من السَّمَاء} كل مَا علا فَهُوَ سَمَاء. فالسقف سَمَاء، والسحاب سَمَاء، وَمَا فَوْقه سَمَاء، وَأَرَادَ بِهِ السَّحَاب هَهُنَا. {فِيهِ ظلمات} يعْنى: فِي السَّحَاب؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن ظلمَة، أَلا ترَاهُ يغشى وَجه

{وبرق يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق حذر الْمَوْت وَالله مُحِيط بالكافرين (19) } الشَّمْس {ورعد وبرق} قَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين: إِن الرَّعْد صَوت ملك يزْجر السَّحَاب، والبرق لمعان سَوط فِي يَد ملك يضْرب بِهِ السَّحَاب يَسُوقهُ إِلَى حَيْثُ قدره الله تَعَالَى. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا سَمِعْتُمْ صَوت الرَّعْد فاذكروا الله فَإِنَّهُ لَا يُصِيب ذَاكِرًا ". وَكَانَ إِذا سمع صَوت الرَّعْد يَقُول: " اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلنَا بِغَضَبِك، وَلَا تُهْلِكنَا بِعَذَابِك، وَعَافنَا قبل ذَلِك ". وَقيل: الرَّعْد اسْم الْملك. وَقيل: صَوت [اختناق] الرّيح إِلَى السَّحَاب. وَالْأول أصح. {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق} يَعْنِي: من الصَّوْت الْعَذَاب، حذر الْمَوْت. وَقيل: الصاعقة قِطْعَة من الْعَذَاب ينزلها الله تَعَالَى على من يَشَاء وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى {وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء} {وَالله مُحِيط بالكافرين} أَي جامعهم. قَالَ مُجَاهِد: يجمعهُمْ فيعذبهم. والإحاطة بالشَّيْء جمعه بِحَيْثُ لَا يشذ مِنْهُ شئ، والإحاطة من الله تَعَالَى تكون بالقهر والاقتدار وَالْعلم. وَمعنى الْمثل فِي هَذَا: أما قَوْله: {أَو كصيب من السَّمَاء} يَعْنِي: إِن شِئْت مثلهم بالمستوقد وَإِن شِئْت مثلهم بالصيب، أَي بِأَهْل الصيب. ضرب الصيب مثلا لما أظهرُوا

{يكَاد الْبَرْق يخطف أَبْصَارهم كلما أَضَاء لَهُم مَشوا فِيهِ وَإِذا أظلم عَلَيْهِم قَامُوا وَلَو شَاءَ لله لذهب بسمعهم وأبصارهم إِن الله على كل شَيْء قدير (20) } بِاللِّسَانِ من الْإِسْلَام. {فِيهِ ظلمات} مثل لما فِي الْإِسْلَام من البلايا والمحن والشدائد {ورعد} مثل لما فِيهِ من المخاوف فِي الْآخِرَة. (وبرق) لما فِيهِ من الْوَعْد والوعيد. وَقيل: ضرب الصيب مثلا لِلْقُرْآنِ الَّذِي كَانُوا يقرءونه بِاللِّسَانِ؛ لِأَن فِي الْقُرْآن حَيَاة الْبَاطِن كَمَا فِي المَاء حَيَاة الظَّاهِر. {فِيهِ ظلمات} مثل لما ذكرنَا فِي الْقُرْآن من أَنْوَاع الْكفْر والنفاق، {ورعد} مثل لما ذكرنَا فِيهِ من الْوَعيد {وبرق} مثل لما فِيهِ من الْبَيَان. {يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم} يعْنى: أَن الْمُنَافِقين إِذا رَأَوْا فِي الْإِسْلَام بلَاء وَشدَّة هربوا وتأخروا؛ حذرا من الْهَلَاك. {وَالله مُحِيط بالكافرين} يعْنى: لَا يَنْفَعهُمْ حذرهم؛ لِأَن الله تَعَالَى من ورائهم يجمعهُمْ فيعذبهم.

20

قَوْله تَعَالَى: {يكَاد الْبَرْق يخطف أَبْصَارهم} الْآيَة {يكَاد} كلمة الْقرب، يكَاد يفعل، أَي: قرب يفعل {يخطف أَبْصَارهم} والخطف: استلاب بِسُرْعَة. وَهَذَا من تَمام الْمثل، وَمَعْنَاهُ على القَوْل الأول: تكَاد دَلَائِل الْإِسْلَام تزعجهم إِلَى النّظر لَوْلَا مَا سبق لَهُم من الشقاوة. وَمَعْنَاهُ على القَوْل الآخر: يكَاد الْقُرْآن يبهر قُلُوبهم. كلما أَضَاء لَهُم مَشوا فِيهِ) مَعْنَاهُ: كلما نالوا غنيمَة وراحة ثبتوا على الْإِسْلَام. {وَإِذا أظلم عَلَيْهِم قَامُوا} يَعْنِي: كلما رَأَوْا شدَّة وبلاء تأخرا. وَقَامُوا، أَي: وقفُوا. {وَلَو شَاءَ الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} يحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا: لَو شَاءَ

{يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم وَالَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (21) } الله لذهب بِمَا استفادوا من الْعِزّ والأمان الَّذِي لَهُم بمنزله السّمع وَالْبَصَر. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: وَلَو شَاءَ الله لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظَّاهِرَة؛ كَمَا ذهب بأسماعهم وأبصارهم الْبَاطِنَة. {إِن الله على كل شَيْء قدير} يَعْنِي: قَادر. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم} الْآيَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: كل مَا ورد فِي الْقُرْآن من قَوْله {يَا أَيهَا النَّاس} فَإِنَّمَا نزل بِمَكَّة، وكل مَا ورد من قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فَإِنَّمَا نزل بِالْمَدِينَةِ.

21

وَقَوله: {يَا أَيهَا النَّاس} يعْنى: يَا هَؤُلَاءِ النَّاس. وَهَذَا وَإِن عَمت صيغته وَلَكِن دخله الْخُصُوص؛ فَإِنَّهُ لَا يتَنَاوَل الصغار والمجانين. {اعبدوا} أَي: وحدوا. قَالَ ابْن عَبَّاس: كل مَا ورد فِي الْقُرْآن من الْعِبَادَة فَهُوَ بِمَعْنى التَّوْحِيد، وكل مَا ورد فِي الْقُرْآن من التَّسْبِيح والسبحة فَهُوَ بِمَعْنى الصَّلَاة. وَقَوله: {اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم} أَي: وحدوا الله الَّذِي خَلقكُم. وَإِنَّمَا خاطبهم بِهِ؛ لِأَن الْكفَّار مقرون أَن الله خالقهم، والخلق: هُوَ اختراع الشَّيْء على غير مِثَال سبق. {وَالَّذين من قبلكُمْ} أَي: وَخلق الَّذين من قبلكُمْ. فَإِن قيل: أَي فَائِدَة فِي قَوْله: {وَالَّذين من قبلكُمْ} فَإِن من عرف أَن الله خالقه فقد عرف أَنه خَالق غَيره من قبله؟ قيل: فَائِدَته الْمُبَالغَة فِي الْبَيَان، أَو يُقَال: فَائِدَته الْمُبَالغَة فِي الدعْوَة، يعْنى: إِذا كَانَ الله خالقكم وخالق من قبلكُمْ فَلَا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه. وَفِيه إِشَارَة لِأَنَّهُ خلق الْأَوَّلين وأماتهم وابتلاهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؛ فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنى أفعل بكم مَا فعلت بهم. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} قيل مَعْنَاهُ: لكَي تتقوا، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَقيل مَعْنَاهُ: كونُوا

{الَّذِي جعل لكم الأَرْض فراشا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأنزل من السَّمَاء مَاء فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا وَأَنْتُم تعلمُونَ (22) } على رَجَاء التَّقْوَى. فَإِن قَالَ قَائِل: التَّقْوَى [هِيَ] (1) الْعِبَادَة، فَأَي شَيْء معنى قَوْله: اعبدوا لكَي تعبدوا؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: اعبدوه وَكُونُوا على حذر مِنْهُ، وَهَذَا دأب العابد أَن يعبد الله وَيكون على حذر مِنْهُ. وَقيل مَعْنَاهُ: اعبدوه وَكُونُوا على رَجَاء التَّقْوَى؛ بِأَن تصيروا فِي ستر ووقاية من عَذَاب الله تَعَالَى، وَحكم الله من وَرَائِكُمْ يفعل بكم مَا يَشَاء؛ وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} أَي: ادعواه إِلَى الْحق وكونا على رَجَاء التَّذَكُّر والخشية مِنْهُ. وَحكم الله وَرَاءه يفعل بِهِ مَا يَشَاء.

22

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي جعل لكم الأَرْض فراشا} الْآيَة. هَذَا رَاجع إِلَى مَا تقدم يَعْنِي: اعبدوا الَّذِي جعل لكم الأَرْض فراشا، والجعل هَاهُنَا بِمَعْنى: الْخلق {فراشا} أَي: بساطا، وَقيل: وطاء. وَقيل: مقَاما. يعْنى لكم الأَرْض قرارا لِتَكُونُوا عَلَيْهَا {وَالسَّمَاء بِنَاء} أَي: سقفا {وَأنزل من السَّمَاء مَاء} إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى السَّمَاء وَإِن كَانَ ينزل من السَّحَاب؛ لِأَنَّهُ ينزل من جِهَة السَّمَاء. {فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم} قيل: الرزق هُوَ كل مَا يُؤْكَل. وَقيل: كل مَا ينْتَفع بِهِ. {فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا} قَالَ قَتَادَة: الند: هُوَ الْمثل. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الند هُوَ الضِّدّ. وَهَذَا من الأضداد، وَالله تَعَالَى بَرِيء عَن الْمثل والضد. قَالَ حسان بن ثَابت فِي مدح رَسُول الله: (أتهجوه وَلست لَهُ بند ... فشركما لخيركما الْفِدَاء) يعْنى: وَلست لَهُ بِمثل؛ قَالَ لبيد: (أَحْمد الله فَلَا ند لَهُ ... بيدَيْهِ الْخَيْر مَا شَاءَ فعل)

{وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله وَادعوا شهداءكم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين (23) } أَي: لَا مثل لَهُ. وَمعنى قَوْله {فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا} أَي: لَا تَتَّخِذُوا من دونه أَرْبَابًا تعبدونهم كعبادة الله، وتطيعونهم كطاعة الله لَا أَن لَهُ مثلا، أَو لَا مثل لله تَعَالَى. {وَأَنْتُم تعلمُونَ} أَي: فَلَا تعبدوا غَيره وَأَنْتُم تعلمُونَ أَنه خالقكم وخالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.

23

وَقَوله تَعَالَى: (وَإِن كُنْتُم فِي ريب) أَي: شكّ. فَإِن قيل: كَيفَ ذكره على التشكيك وهم فِي ريب على التَّحْقِيق؟ قيل: مثله جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب؛ كَمَا يَقُول الرجل لغيره: إِن كنت رجلا فافعل كَذَا؛ وَإِن عرف أَنه رجل على التَّحْقِيق. قيل: أَرَادَ بِهِ " وَإِذ كُنْتُم " فَيكون على التَّحْقِيق، {مِمَّا نزلنَا} من الْقُرْآن {على عَبدنَا} يَعْنِي: على الرَّسُول. {فَأتوا بِسُورَة} السُّورَة: اسْم للمنزلة الرفيعة؛ وَمِنْه سُورَة الْبناء؛ لارتفاعه. قَالَ الشَّاعِر: (ألم تَرَ أَن الله أَعْطَاك سُورَة ... ترى كل شَيْء دونهَا يتذبذب) أَي: أَعْطَاك سُورَة منزلَة، أَي: منزلَة رفيعة. وَسميت سُورَة الْقُرْآن سُورَة؛ لِأَن القارىء ينَال بِقِرَاءَة كل سُورَة منزلَة؛ حَتَّى يستكمل جَمِيع الْمنَازل باستكمال الْقُرْآن، وَقيل: السُّورَة اسْم لقطعة من الْقُرْآن مَعْلُوم الأول وَالْآخر، وَمِنْه سُؤْر الطَّعَام لما بَقِي مِنْهُ. وَفِي الْخَبَر " إِذا أكلْتُم فاسأروا " أَي: أَبقوا بَقِيَّة. وَإِنَّمَا نزل الْقُرْآن سُورَة سُورَة حَتَّى [أَن] القارىء كلما قَرَأَ سُورَة وافتتح أُخْرَى ازْدَادَ نشاطا، فَيكون أنشط فِي الْقِرَاءَة، أَو لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يُمكنهُ حفظ جَمِيع الْقُرْآن فيحفظ بعض السُّور. {فَأتوا بِسُورَة من مثله} وَقَوله: {من مثله} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا قَالَه ابْن

{فَإِن لم تَفعلُوا وَلنْ تَفعلُوا فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة أعدت للْكَافِرِينَ (24) } عَبَّاس وَجَمَاعَة: أَرَادَ بِهِ من مثل الْقُرْآن. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: من مثل الْقُرْآن، وَلَا مثل لَهُ؟ قيل: أَرَادَ بِهِ من مثله على زعمهم. وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بِهِ من مثل مُحَمَّد؛ لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه مفتري فَقَالَ: فَأتوا بِسُورَة من مفترى مثله. {وَادعوا شهداءكم من دون الله} أَي: اسْتَعِينُوا بأعوانكم وأربابكم من دون الله {إِن كُنْتُم صَادِقين} فِيمَا تَزْعُمُونَ. وَفَائِدَته: أَنهم إِذا اجْتَمعُوا وأحضروا أربابهم فعجزوا كَانَ أبلغ فِي إِلْزَام الْحجَّة.

24

وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن لم تَفعلُوا وَلنْ تَفعلُوا} الْآيَة يعْنى: فَإِن لم تَفعلُوا ذَلِك، وَلنْ تفعلوه أبدا على طَرِيق الْإِخْبَار. " وَتمّ " للماضي، " وَلنْ " للمستقبل. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لبَيَان المعجزة؛ لِأَن الْقُرْآن كَانَ معْجزَة للنَّبِي حَيْثُ عجز الْكل عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ. {فَاتَّقُوا النَّار} أَي: فآمنوا؛ لكَي تتقوا النَّار بِالْإِيمَان {الَّتِي وقودها النَّاس} الْوقُود يَعْنِي: الإيقاد، والوقود بِفَتْح الْوَاو الْحَطب. {وَالنَّاس} أهل جَهَنَّم {وَالْحِجَارَة} قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: هِيَ حِجَارَة الكبريت؛ لِأَنَّهَا أَكثر توقدا والتهابا، وَقَالَ الْبَاقُونَ: هِيَ جَمِيع الْحِجَارَة. وَهَذَا دَلِيل على عظم تِلْكَ النَّار، و {أعدت للْكَافِرِينَ} أَي: هيئت للْكَافِرِينَ، وَهَذَا دَلِيل على أَن النَّار مخلوقة، لَا كَمَا قَالَ أهل الْبِدْعَة. وَدَلِيل على أَنَّهَا مخلوقة للْكَافِرِينَ، وَإِن دَخلهَا بعض الْمُؤمنِينَ تأديبا وتعريكا.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَبشر الَّذين آمنُوا} الْآيَة، الْبشَارَة: اسْم لكل خبر صدق تَتَغَيَّر بِهِ بشرة الْوَجْه وَيظْهر عَلَيْهَا، وَقد تكون فِي الْخَبَر السوء. كَمَا قَالَ: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} إِلَّا أَنه فِي الْخَبَر السار أغلب. {الَّذين آمنُوا عمِلُوا الصَّالِحَات}

{وَبشر الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أَن لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار كلما رزقوا مِنْهَا من ثَمَرَة رزقا قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل وَأتوا بِهِ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ من أهل الطَّاعَة {أَن لَهُم جنَّات} الجنات: جمع جنَّة وَهُوَ اسْم للبستان الَّذِي فِيهِ أَشجَار مثمرة، فَإِذا لم تكن الْأَشْجَار مثمرة لَا تكون جنَّة وَقيل: الْجنَّة مَا فِيهِ النخيل. والفردوس مَا فِيهِ الْكَرم، وَإِنَّمَا سميت جنَّة من الاجتنان؛ لِأَنَّهَا تستر الأَرْض بالتفافها وأرواقها. وَقيل: الْجنان سبع، وَقيل: ثَمَان، وَالْكل فِي الْقُرْآن. {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: من تَحت أشجارها تجْرِي الْمِيَاه من الْأَنْهَار، وَفِي الحَدِيث: " إِن أَنهَار الْجنَّة تجْرِي فِي غير أخدُود " أَي: فِي غير شقّ. {كلما رزقوا مِنْهَا من ثَمَرَة رزقا} أَي: كلما رزقوا شَيْئا من ثمار الْجنَّة قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل. وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: رزقنا من قبل فِي الدُّنْيَا، وَالثَّانِي: أَن الثِّمَار فِي الْجنَّة متشابهة فِي اللَّوْن مُخْتَلفَة فِي الطّعْم، فَإِذا رزقوا مِنْهَا ثَمَرَة ثمَّ رزقوا أُخْرَى ظنُّوا أَنَّهَا الأولى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اللَّوْن ف ( {قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل} وَأتوا بِهِ متشابها) قَالَ مُجَاهِد: أَي متشابها فِي اللَّوْن. كَمَا ذكرنَا، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَعْنَاهُ كلهَا خِيَار لَيْسَ فِيهَا رذال. قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا من ثمار الْجنَّة إِلَّا الْأَسَامِي {وَلَهُم فِيهَا أَزوَاج} قيل: من الْحور الْعين، وَيحْتَمل من أَزوَاج الدُّنْيَا: {مطهرة} من الأدناس؛ لَا يتمخطن، وَلَا يتغوطن، وَلَا يحضن. وَقيل: مطهرة الْأَخْلَاق، فيكُن مطهرات خلقا وخلقا. {وهم فِيهَا خَالدُونَ} أَي: مقيمون لَا يظعنون.

26

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يستحيي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة فَمَا فَوْقهَا} وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الله تَعَالَى لما ضرب الْمثل بالذباب وَالْعَنْكَبُوت، قَالَ الْمُشْركُونَ: إِنَّا

{متشابها وَلَهُم فِيهَا أَزوَاج مطهرة وهم فِيهَا خَالدُونَ (25) إِن الله لَا يستحيي أَن يضْرب مثلا مَا بعوضة فَمَا فَوْقهَا فَأَما الَّذين آمنُوا فيعلمون أَنه} لَا نعْبد إِلَهًا يذكر الذُّبَاب وَالْعَنْكَبُوت، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يستحيي} أَي: لَا يمْتَنع وَلَا يتْرك {أَن يضْرب مثلا} أَي: يذكر مثلا {مَا بعوضة} (مَا) للصلة هَاهُنَا، أَي: مثلا بالبعوضة. قَالَ الشَّاعِر: (قَالَت أَلا ليتما هَذَا الْحمام لنا ... إِلَى حمامتنا أَو نصفه فقد) مَعْنَاهُ أَي: لَيْت هَذَا الْحمام لنا. والبعوض: صغَار البق، سميت بعوضة لِأَنَّهَا بعض البق. {فَمَا فَوْقهَا} مَعْنَاهُ: فَمَا دونهَا؛ كَمَا يُقَال: فلَان جَاهِل، فَيُقَال: وَفَوق ذَلِك. يَعْنِي: أَجْهَل من ذَلِك، فَكَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَمَا فَوْقهَا} يَعْنِي: فِي الصغر، وأصغر من ذَلِك، وَقيل: فَمَا فَوْقهَا على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ ضرب الْمثل بالذباب، وَالْعَنْكَبُوت. قَالَ الرّبيع بن أنس: مثل الْبَعُوضَة مثل صَاحب الدُّنْيَا؛ لِأَن دأب الْبَعُوضَة أَنَّهَا إِذا شبعت هَلَكت، وَإِذا جاعت عاشت؛ كَذَلِك صَاحب الدُّنْيَا إِذا استكثر من الدُّنْيَا هلك، وَإِذا اسْتَقل مِنْهَا فَازَ وَنَجَا. وَقيل: إِن حكم الله تَعَالَى فِي صغَار خلقه أَكثر من حكمه فِي كبار خلقه. قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا فيعلمون أَنه الْحق من رَبهم} يَعْنِي: أَنه الصدْق من رَبهم. {وَأما الَّذين كفرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا} أَي شَيْء أَرَادَ الله بِهَذَا الْمثل؟ يَقُول الله تَعَالَى: {يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا} أَي: أَرَادَ هَذَا، والإضلال: هُوَ الصّرْف عَن الْحق إِلَى الْبَاطِل. وَقيل: الإضلال هُوَ الإهلاك؛ يُقَال: ضل اللَّبن فِي المَاء أَي: هلك. {وَيهْدِي بِهِ كثيرا} أَي: ويرشد بِهِ كثيرا. {وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} يَعْنِي: الْكَافرين. وَالْفِسْق: هُوَ الْخُرُوج عَن طَاعَة الرب؛ يُقَال: فسقت (الرّطبَة) إِذا خرجت

{الْحق من رَبهم وَأما الَّذين كفرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين (26) الَّذين ينقضون} عَن قشرها، وَمعنى إضلالهم بِالْمثلِ أَنه لما ضرب الْمثل فَكَفرُوا بِهِ ازدادوا ضلالا.

27

وَقَوله تَعَالَى: {الَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} أَي: يخالفون أَمر الله. والميثاق: مفعال من التوثقة وَهُوَ الْعَهْد الْمُؤَكّد. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ نقض الْمِيثَاق الأول الَّذِي أَخذه على آدم وَذريته بقوله {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} . وَقيل: أَرَادَ بِهِ نقض الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه على النَّبِيين وَسَائِر الْأُمَم أَن [يُؤمنُوا] بِمُحَمد بقوله: {وَإِذا أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين} الْآيَة. {ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال؛ أَحدهَا: أَنهم يقطعون مَا أمروا بوصله من الْإِيمَان بِمُحَمد وبسائر الرُّسُل. وَقيل: أَرَادَ بِهِ قطع الرَّحِم. وَالْأول أولى؛ لِأَنَّهُ أَعم، وَقيل: أَرَادَ بِهِ قطع الْعَمَل عَن الْقبُول؛ فَإِنَّهُم لم يعملوا بِمَا قبلوا. {ويفسدون فِي الأَرْض} بِالْمَعَاصِي {أُولَئِكَ هم الخاسرون} المغبونون.

28

قَوْله تَعَالَى: {كَيفَ تكفرون بِاللَّه} قَالَه تَعَجبا، تكفرون بِاللَّه بعد نصب الدَّلَائِل ووضوح الْبَرَاهِين؟ ! ثمَّ ذكر الدَّلِيل فَقَالَ: {وكنتم أَمْوَاتًا} هَذَا دَلِيل، أَي: كُنْتُم نطفا فِي أصلاب الْآبَاء. (فأحياكم) أَي: خَلقكُم {ثمَّ يميتكم} عِنْد انْتِهَاء الْأَجَل. {ثمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث {ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون} إِلَى الله مصيركم. وَقيل: أَرَادَ بِالْمَوْتِ الأول: الْمَوْت الْمَعْهُود {وكنتم أَمْوَاتًا} أَي: تصيرون أَمْوَاتًا. فأحياكم أَي: يُحْيِيكُمْ فِي الْقَبْر للسؤال، ثمَّ يميتكم بعده فِي الْقَبْر ثمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث. ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون.

29

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} لكَي تعتبروا

(عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل ويفسدون فِي الأَرْض أُولَئِكَ هم الخاسرون (27) كَيفَ تكفرون بِاللَّه وكنتم أَمْوَاتًا فأحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون (28) هُوَ الَّذِي خلق) وتستدلوا، وَقيل: لكَي تنتفعوا. {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين من السّلف: أَي ارْتَفع وَعلا إِلَى السَّمَاء. وَقَالَ الْفراء وَابْن كيسَان وَجَمَاعَة من النَّحْوِيين مَعْنَاهُ: أقبل على خلق السَّمَاء؛ لِأَنَّهُ خلق الأَرْض أَولا، ثمَّ أقبل على خلق السَّمَاء، كَمَا ذكر فِي " حم السَّجْدَة ". {فسواهن سبع سموات} أَي: خَلقهنَّ مستويات؛ لَا فطر فِيهَا، وَلَا صدع، وَلَا شقّ. {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم بصغار خلقه وكبارهم.

30

قَوْله تَعَالَى {وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} مَعْنَاهُ: وَقَالَ رَبك. " إِذْ " زَائِدَة فِيهِ. وَقيل، مَعْنَاهُ: وَاذْكُر إِذْ قَالَ رَبك. وَالْمَلَائِكَة: جمع الْملك، وأصل الْملك مَالك، فَقبلت الْهمزَة فَصَارَ مَالك ثمَّ اسقط الْهمزَة فَصَارَ ملك، واشتقاقه من الألوكة، وَهِي: الرسَالَة، وَمثلهَا المالكة، والمالكة؛ قَالَ الشَّاعِر: (ألكنى إِلَيْهَا (وَخير) الرَّسُول ... أعلمهم بنواحي الْخَبَر) يعْنى: أَرْسلنِي إِلَيْهَا. {إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} اتَّفقُوا على أَن المُرَاد بِهَذَا الْخَلِيفَة آدم صلوَات الله عَلَيْهِ والخليفة، والخليف بِمَعْنى وَاحِد، وَجمع الخليف خلفاء. وَجمع الْخَلِيفَة خلائف. وَاخْتلفُوا فِي أَنه لما سمى خَليفَة؟ مِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ خَليفَة الْجِنّ؛ فَإِن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض أسكنها الْجِنّ، وَلما خلق السَّمَاء أسكنها الْمَلَائِكَة، ثمَّ لما خلق

{لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فسواهن سبع سموات وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم (29) وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض} آدم أزعج الْجِنّ إِلَى أَطْرَاف الأَرْض؛ فَهُوَ الْخَلِيفَة الْجِنّ فِي الأَرْض. وَقيل: إِنَّمَا سَمَّاهُ خَليفَة؛ لِأَنَّهُ يخلفه غَيره. فَيكون الْخَلِيفَة بِمَعْنى أَنه يخلف غَيره. وَيكون الْخَلِيفَة أَنه يخلفه غَيره. وَقيل: إِنَّمَا سمى خَليفَة لِأَنَّهُ خَليفَة الله فِي الأَرْض؛ لإِقَامَة أَحْكَامه، وتنفيذ قضاياه، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح. قَوْله تَعَالَى: (قَالُوا أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا) الْآيَة قَالَت الْمَلَائِكَة: أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء؟ ! فَإِن قيل: من أَيْن عمِلُوا ذَلِك؟ قيل: إِن الله تَعَالَى أعلمهم بذلك. وَقيل: اطلعوا عَلَيْهِ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. {وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك} هُوَ التَّنْزِيه عَن السوء. وَمَعْنَاهُ: وَنحن ننزهك عَن الأنداد والشركاء. وَقَالَ الْحسن: معنى قَوْله: {وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك} هُوَ قَوْلهم: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ. {ونقدس لَك} يَعْنِي: نثنى عَلَيْك بالقدس وَالطَّهَارَة. وَقيل: مَعْنَاهُ نطهر أَنْفُسنَا بطاعتك وَالثنَاء عَلَيْك. فَإِن قيل: قَوْلهم {أَتجْعَلُ فِيهَا} . يشبه الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ. وَقَوْلهمْ نَحن {نُسَبِّح بحَمْدك} يشبه التفاخر بِالْعَمَلِ؛ وَكِلَاهُمَا لَا يجوز على الْمَلَائِكَة. فَمَا معنى هَذَا الْكَلَام؟ قُلْنَا: أما قَوْلهم: {أَتجْعَلُ فِيهَا} مَعْنَاهُ: أَنْت جَاعل فِيهَا على سَبِيل التَّقْدِير، وَمثله قَول الشَّاعِر: (ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى الْعَالمين بطُون رَاح) يَعْنِي أَنهم بِهَذِهِ الصّفة. وَقَالُوا: إِنَّمَا قَالُوهُ على سَبِيل التَّعَجُّب طلبا لوجه الْحِكْمَة فِيهِ.

{خَليفَة قَالُوا أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس} وَأما قَوْله: {وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك} لَيْسَ على سَبِيل التفاخر بل مَعْنَاهُ: أَنه إِذا أفسدوا وسفكوا الدِّمَاء فَنحْن نبقى على هَيْئَة التَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس أم لَا؟ قَالَ: {إِنِّي أعلم مَالا تعلمُونَ} لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: إِنِّي أعلم فيهم من يعبدني ويطيعني من الْأَنْبِيَاء والأولياء والصلحاء. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: إِنِّي أعلم فِيكُم أَيهَا الْمَلَائِكَة من يعصيني يَعْنِي إِبْلِيس.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا} أما آدم إِنَّمَا سمى آدم؛ لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض، وَلما خلقه الله تَعَالَى علمه أَسمَاء الْأَشْيَاء بأجمعها. قَالَ ابْن عَبَّاس: علمه أَسمَاء الْأَشْيَاء حَتَّى الْقَصعَة والقصيعة، والفسوة والفسية. وَإِنَّمَا علمه ذَلِك تكريما وتشريفا لَهُ. وَذَلِكَ دَلِيل على أَن الْأَنْبِيَاء أفضل من الْمَلَائِكَة وَإِن كَانُوا رسلًا كَمَا ذهب إِلَيْهِ أهل السّنة. {ثمَّ عرضهمْ} قَرَأَ أبي بن كَعْب: " ثمَّ عرضهَا " [وَهِي] فِي الشواذ. وَرجع [الْكِنَايَة] إِلَى المسميات الَّتِي لَا تعقل. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: " ثمَّ عرضهمْ " فَإِن المسميات لما جمعت من يعقل وَمن لَا يعقل؛ كنى بِلَفْظ من يعقل تَغْلِيبًا لَهُ. وَإِنَّمَا عرضهمْ على الْمَلَائِكَة لإِظْهَار فضيلته عَلَيْهِم، فَإِنَّهُم كَانُوا قد قَالُوا: لن يخلق الله خلقا أكْرم عَلَيْهِ منا، فَقَالَ: {أنبئوني} أخبروني {بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين} فِيمَا زعمتم.

32

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا} قد ذكرنَا معنى التَّسْبِيح. وَمعنى الْآيَة: أَنَّك أجل من أَن نحيط بِشَيْء من علمك؛ إِلَّا الَّذِي علمتنا مِنْهُ. {إِنَّك أَنْت الْعَلِيم} أَي: الْعَالم {الْحَكِيم} لَهُ مَعْنيانِ أَحدهَا: الْحَاكِم، وَهُوَ

{لَك قَالَ إِنِّي أعلم مَا لَا تَعْمَلُونَ (30) وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين (31) قَالُوا} القَاضِي بِالْعَدْلِ. وَالثَّانِي: معنى الْحَكِيم: الْمُحكم لِلْأَمْرِ كَيْلا يتَطَرَّق إِلَيْهِ الْفساد، وَمِنْه: أحكمت الدَّابَّة لِأَنَّهَا (تمنعها) من الْفساد.

33

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ} لما عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فعجزوا؛ يَقُول الله تَعَالَى لآدَم: أخْبرهُم بِأَسْمَائِهِمْ {فَلَمَّا أنباهم بِأَسْمَائِهِمْ} فَأخْبرهُم آدم بأسماء تِلْكَ المسميات، وَالْحكمَة الَّتِي لأَجلهَا خلقُوا، فَلَمَّا أخْبرهُم بهَا {قَالَ الله} تَعَالَى للْمَلَائكَة: {ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض} فَإِنَّهُ قد قَالَ لَهُم: {إِنِّي أعلم مَالا تَعْمَلُونَ} وغيب السَّمَوَات وَالْأَرْض كل مَا غَابَ وخفي عَن الْأَبْصَار. (وَأعلم مَا تبدون) أَي قَوْلكُم: أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا. {وَمَا كُنْتُم تكتمون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا كتموا من قَوْلهم: لن يخلق الله خلقا أكْرم عَلَيْهِ منا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ مَا كتمه إِبْلِيس فيهم حِين خلق آدم؛ فَإِنَّهُ قد قَالَ: إِن سلطت عَلَيْهِ لأهلكنه وَإِن سلط عَليّ لَا أطيعه.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} اخْتلفُوا فِي أَن هَذَا الْخطاب مَعَ أَي الْمَلَائِكَة؟ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ خطاب مَعَ مَلَائِكَة الأَرْض خَاصَّة. وَقيل: هُوَ خطاب لجَمِيع الْمَلَائِكَة. هُوَ الْأَصَح لقَوْله تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} . وَالسُّجُود عبَادَة مَعَ التَّوَاضُع والخشوع والخضوع، وَمِنْه شَجَرَة سَاجِدَة إِذا مَاتَت من

{سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا إِنَّك أَنْت الْعَلِيم الْحَكِيم (32) قَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أنبأهم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب} كَثْرَة حملهَا. وَفِي قَوْله: {اسجدوا لآدَم} قَولَانِ أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ اسجدوا إِلَى آدم، فَيكون آدم كالقبلة. وَالسُّجُود لله تَعَالَى. وَالأَصَح: أَن السُّجُود كَانَ لآدَم على الْحَقِيقَة. وتضمن معنى الطَّاعَة لله تَعَالَى بامتثال أمره فِيهِ. فعلى هَذَا يكون السُّجُود لآدَم على سَبِيل التَّحِيَّة لَهُ. وَهُوَ كسجود إخْوَة يُوسُف ليوسف بِمَعْنى التَّحِيَّة لَهُ. ثمَّ نقل ذَلِك إِلَى السَّلَام بَين الْمُسلمين. {فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس} قَالَ بَعضهم: إِبْلِيس مُشْتَقّ من الإبلاس. وَهُوَ الْيَأْس من الْخَيْر، قَالَ الشَّاعِر: (يَا صَاح هَل تعرف (رسما) مكرسا ... قَالَ: نعم أعرفهُ وأبلسا) وَقيل: هُوَ اسْم أعجمي مُعرب لَا اشتقاق لَهُ وَلذَلِك لَا ينْصَرف. وَاخْتلفُوا فِي إِبْلِيس، وَالَّذِي قَالَه ابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين: أَنه كَانَ من الْمَلَائِكَة. وَقَالَ الْحس: كَانَ من الْجِنّ لقَوْله تَعَالَى {كَانَ من الْجِنّ ففسق عَن أَمر ربه} وَلِأَنَّهُ خلق من النَّار، وَالْمَلَائِكَة خلقُوا من النُّور، وَلِأَن لَهُ ذُرِّيَّة وَلَا ذُرِّيَّة للْمَلَائكَة. وَالأَصَح أَنه كَانَ من الْمَلَائِكَة لِأَن خطاب السُّجُود كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَة. وَأما قَوْله: {كَانَ من الْجِنّ} قيل: إِن فرقة من الْمَلَائِكَة سموا جنا خلقهمْ الله تَعَالَى من النَّار. وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} . حَيْثُ قَالُوا الْمَلَائِكَة بَنَات الله. فسماهم جنَّة. وَإِنَّمَا سموا جنا لاستتارهم عَن الْأَعْين. وإبليس كَانَ من ذَلِك الْقَبِيل. وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذُرِّيَّة؛ لِأَنَّهُ أخرجه من الْمَلَائِكَة ثمَّ جعل

{السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأعلم مَا تبدون وَمَا كُنْتُم تكتمون (33) وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس أَبى واستكبر وَكَانَ من} لَهُ ذُرِّيَّة. وَقيل: إِن الله تَعَالَى لما خلق إِبْلِيس أعطَاهُ ملك الأَرْض، وَملك السَّمَاء الدُّنْيَا، وَجعله خَازِن الْجنَّة. قَوْله تَعَالَى: {أَبى} امْتنع {واستكبر} أَي: أنف؛ حَيْثُ ظن أَنه خير من آدم {وَكَانَ من الْكَافرين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ وَصَارَ من الْكَافرين فِي علم الله تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِد: علم الله فِي أزله أَنه تكون مِنْهُ الْمعْصِيَة فخلقه للمعصية.

35

قَوْله تَعَالَى: {وَقُلْنَا يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} أَرَادَ بزوجه حَوَّاء، فَإِن قيل: [لم] أَمرهمَا بِدُخُول الْجنَّة، وَقد وعد أَن من دَخلهَا يكون خَالِدا فِيهَا فَكيف أخرجهُمَا من الْجنَّة؟ قُلْنَا: إِنَّمَا ذَلِك الْوَعْد فِي حق من يدخلهَا للثَّواب وَالْجَزَاء، وآدَم إِنَّمَا دخل الْجنَّة بالكرامة دون الثَّوَاب. {وكلا مِنْهَا رغدا حَيْثُ شئتما} الرغد: الْوَاسِع من الْعَيْش. وَهُوَ أَن يَأْكُل مَا شَاءَ إِذا شَاءَ كَيفَ شَاءَ. {وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} يَعْنِي: للْأَكْل. والشجرة: اسْم لما يقوم على السَّاق، والنجم اسْم لما (لَا) يقوم على سَاق. قَالَ الله تَعَالَى: {والنجم وَالشَّجر يسجدان} وَفِي تِلْكَ الشَّجَرَة ثَلَاثَة أَقْوَال: قَالَ ابْن مَسْعُود: كَانَت شَجَرَة الْعِنَب. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَت شَجَرَة السنبلة. وَقَالَ ابْن جريج: كَانَت شَجَرَة التِّين. وَقيل: إِنَّهَا شَجَرَة الْعَلِيم. {فتكونا من الظَّالِمين} الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه وَفِيه يُقَال: " من أشبه

{الْكَافرين (34) وَقُلْنَا يَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة وكلا مِنْهَا رغدا حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين (35) فأزلهما} باه فَمَا ظلم " أَي: فَمَا وضع الشّبَه فِي غير مَوْضِعه.

36

قَوْله تَعَالَى: {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا} قَرَأَ حَمْزَة: " فأزالهما " وَمَعْنَاهُ: نحاهما وبعدهما عَن الْجنَّة. وَقَوله: (فأزلهما) إِلَى الزلة {فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ} يَعْنِي من نعيم الْجنَّة. وَإِنَّمَا نسب الْإِخْرَاج إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَب فِيهِ. (وَقُلْنَا اهبطوا) الهبوط هُوَ النُّزُول من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل، وَالْخطاب مَعَ آدم، وإبليس، وحواء، والحية، وَهِي الْحَيَّة [الَّتِي] كَانَت من خزان الْجنَّة فخدعها إِبْلِيس حَتَّى أدخلته (الْجنَّة) . {بَعْضكُم لبَعض عَدو} الْعَدو: اسْم للْوَاحِد وَالْجمع، مَعْنَاهُ أَعدَاء. {وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر} أَي: قَرَار {ومتاع} مُتْعَة تتغذون بهَا {إِلَى حِين} إِلَى مُنْتَهى الْآجَال.

37

قَوْله تَعَالَى: {فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات} التلقي: هُوَ قبُول عَن فطنة وَفهم دَلِيل: فَتلقى هُوَ [أَي: تعلم] : {ظلمنَا أَنْفُسنَا} إِلَى آخِره. وَقَالَ عبيد بن عُمَيْر: هِيَ كَلِمَات قَالَهَا آدم حِين ابتلاه الله بالمعصية. {من ربه كَلِمَات} قَالَ ابْن عَبَّاس وَالْأَكْثَرُونَ: الْكَلِمَات هِيَ قَوْله: رَبنَا أَي: تعلم بالمعصية يارب هَذَا شَيْء كتبته عَليّ [أم] ابتدعته من تِلْقَاء نَفسِي؟ فَقَالَ: بل شَيْء كتبته عَلَيْك. فَقَالَ آدم: (فَكَمَا) كتبته عَليّ فاغفره.

{الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين (36) فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم (37) قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا فإمَّا} {فَتَابَ عَلَيْهِ} فَقبل تَوْبَته {إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم} هُوَ الْقَابِل للتَّوْبَة من الْعباد؛ الرَّحِيم بهم.

38

قَوْله تَعَالَى: {قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} الهبوط الأول كَانَ من الْجنَّة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، والهبوط الثَّانِي كَانَ من السَّمَاء الدُّنْيَا إِلَى الأَرْض. (فإمَّا يَأْتينكُمْ مني هدى) أَي: رشد [و] بَيَان شَرِيعَة. {فَمن تبع هُدَايَ} أَي: ذَلِك الرشد والشريعة. {فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} فِي الْآخِرَة.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا} أَي: كفرُوا بِاللَّه وبالرسل وكذبوا بآياته {أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار} يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة {هم فِيهَا خَالدُونَ} .

40

قَوْله تَعَالَى: {يَا بني إِسْرَائِيل} إِسْرَائِيل اسْم يَعْقُوب. وَله فِي الْقُرْآن اسمان: يَعْقُوب وَإِسْرَائِيل. وَمعنى إِسْرَائِيل عبد الله، " إسر " مثل قَوْلنَا " عبد "، و " إيل " مثل قَوْلنَا " الله " {اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم} الذّكر يكون بِالْقَلْبِ، وَيكون بِاللِّسَانِ، وَهُوَ ضد النسْيَان. وَقَوله: {نعمتي} أَي: نعمي، ذكر الْجمع بِلَفْظ الوحدان، وَمثله كثير فِي الْقُرْآن. وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ النعم. قَالَ قَتَادَة: هِيَ النعم الَّتِي خصت بهَا بَنو إِسْرَائِيل من

{يَأْتينكُمْ مني هدى فَمن تبع هُدَايَ فَلَا خوف عَلَيْهِم ولاهم يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (39) يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وأوفوا بعهدي} إنجائهم من فِرْعَوْن بتغريقه، وإرسال مُوسَى إِلَيْهِم، وإنزال التَّوْرَاة عَلَيْهِم، وَنَحْو ذَلِك. وَقَالَ غَيره: هِيَ جَمِيع النعم الَّتِي لله على عباده. فَإِن قَالَ قَائِل: لم أَمرهم بِالذكر وهم كَانُوا ذاكرين لتِلْك النعم؟ قُلْنَا: الذّكر بِمَعْنى الشُّكْر، وَمَعْنَاهُ: اشكروا نعمتي. وَإِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الذّكر؛ لِأَن فِي الشُّكْر ذكرا، وَفِي الْكفْر نِسْيَانا. {وأوفوا بعهدي} أوفي يُوفى، ووفى يَفِي، بِمَعْنى وَاحِد. وَقد جمعهَا الشَّاعِر فِي بَيت وَاحِد فَقَالَ: (أما ابْن عَوْف فقد أوفى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وفى بقلاص النَّجْم حاويها) والعهد: هُوَ الْأَمر الْمُؤَكّد. وَمَعْنَاهُ: " أَوْفوا بعهدي " بامتثال أَمْرِي. {أوف بعهدكم} بِالْقبُولِ وَالثَّوَاب. وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهَذَا الْعَهْد مَا ذكر فِي سُورَة الْمَائِدَة {وَلَقَد أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثْنَي عشر نَقِيبًا} إِلَى آخر الْآيَة. {وإياي فارهبون} فخافوني.

41

قَوْله تَعَالَى {وآمنوا بِمَا أنزلت مُصدقا لما مَعكُمْ} بِمَا أنزلت فِي الْقُرْآن مُصدقا لما مَعكُمْ من التَّوْرَاة. يَعْنِي أَن الْقُرْآن مُصدق لما فِي التَّوْرَاة من التَّوْحِيد ونعت مُحَمَّد

{أوف بعهدكم وإياي فارهبون (40) وآمنوا بِمَا أنزلت مُصدقا لما مَعكُمْ وَلَا تَكُونُوا أول كَافِر بِهِ وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا وإياي فاتقون (41) وَلَا} {وَلَا تَكُونُوا أول كَافِر بِهِ} يَعْنِي أول من كفر بِهِ. وَقيل: أول فريق كَافِر بِهِ. وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. فَإِن قيل: قد كفر بِهِ مشركو الْعَرَب قبلهم، فَكيف قَالَ: وَلَا تَكُونُوا أول كَافِر بِهِ؟ قُلْنَا: أَرَادَ بِهِ من أهل الْكتاب؛ لِأَن الْخطاب مَعَ أهل الْكتاب. {وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا} وَلَا تستبدلوا؛ ذَلِك أَن علماءهم وَأَحْبَارهمْ كَانَت لَهُم مأكلة على أغنيائهم وجهالهم؛ فخافوا أَن تذْهب مأكلتهم إِن آمنُوا بِمُحَمد فغيروا نَعته، وكتموا اسْمه، فَهَذَا معنى بيع الْآيَات بِالثّمن الْقَلِيل. {وإياي فاتقون} فاحذرون.

42

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ} اللّبْس: هُوَ الْخَلْط والتعمية. يُقَال: لبس يلبس لبسا، من اللبَاس. وَلبس يلبس لبسا، من التلبيس. قَالَ الله تَعَالَى {وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ} أَي: خلطنا عَلَيْهِم كَمَا خلطوا. وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِلْحَارِثِ: لَا يكن ملبوسا عَلَيْك، الْحق لَا يعرف بِالرِّجَالِ، أعرف الْحق تعرف أَهله. فَمَعْنَى قَوْله: {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ} أَي: الْإِسْلَام باليهودية والنصرانية، كَذَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ. وَقيل: هُوَ لبس التَّوْرَاة بِمَا غيروا من نعت مُحَمَّد. {وتكتموا الْحق} يَعْنِي نعت مُحَمَّد. {وَأَنْتُم تعلمُونَ} أَنه حق. قَالَ مُحَمَّد ابْن سِيرِين: هَذَا الْخطاب مَعَ قوم من الْيَهُود كَانُوا بِالشَّام رَأَوْا فِي كتبهمْ اسْم مُحَمَّد ونعته، وَأَنه يبْعَث من الْقرى الْعَرَبيَّة، فَخَرجُوا فِي طلبه ونزلوا بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا بعث مُحَمَّد حسدوه، وغيروا اسْمه ونعته؛ خوفًا من ذهَاب مأكلتهم.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} أما الصَّلَاة فقد ذكرنَا. وَأما

{تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتموا الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ (42) وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة واركعوا مَعَ الراكعين (43) أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ وتنسون} الزَّكَاة: فمأخوذ من زكا الزَّرْع، إِذا كثر ونما. وَقيل: هِيَ من تزكّى. أَي: تطهر، وكلا الْمَعْنيين مَوْجُود فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة؛ لِأَن فِيهَا تنمية المَال وتطهيره. (واركعوا مَعَ الراكعين) أَي: صلوا مَعَ الْمُصَلِّين. وأصل الرُّكُوع: عبَادَة مَعَ انحناء. يُقَال: ركعت النَّخْلَة إِذا انحنت، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (أخبر أَخْبَار الْقُرُون الَّتِي مَضَت ... أدب كَأَنِّي كلما قُمْت رَاكِع) وَإِنَّمَا ذكره بِلَفْظ الرُّكُوع؛ لِأَن صَلَاة الْيَهُود مَا كَانَ فِيهَا رُكُوع؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وصلوا صَلَاة ذَات رُكُوع. فَإِن قيل: قد أَمرهم فِي أول الْآيَة بِإِقَامَة الصَّلَاة، فَأَي شَيْء معنى هَذَا الْأَمر الثَّانِي: قُلْنَا: الأول مُطلق فِي حق الْكل، وَهَذَا الثَّانِي خطاب لقوم مخصوصين، قَالَ لَهُم: صلوا مَعَ الَّذين [سبقوكم] بِالْإِيمَان وَالصَّلَاة.

44

قَوْله تَعَالَى: {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ} أَي: بِالطَّاعَةِ {وتنسون أَنفسكُم} أَي: تتركون أَنفسكُم {وَأَنْتُم تتلون الْكتاب} التَّوْرَاة. {أَفلا تعقلون} الْعقل: مَأْخُوذ من عقال الْبَعِير، وَهُوَ مَا يشد بِهِ ركبة الْبَعِير، سمى بِهِ لِأَن يمنعهُ من الشرود، كَذَلِك الْعقل يمْنَع صَاحبه من التمرد وَالْخُرُوج عَن طَاعَته. وَفِي معنى الْآيَة قَولَانِ، أَحدهمَا: أَنه خطاب لأحبارهم، حَيْثُ أمروا أتباعهم بالتمسك بِالتَّوْرَاةِ، ثمَّ خالفوا وغيروا نعت مُحَمَّد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن أهل الْمَدِينَة كَانُوا يشاورون علماءهم فِي اتِّبَاع مُحَمَّد فأشاروا عَلَيْهِم باتباعه ثمَّ خالفوه وَكَفرُوا بِهِ. فِي الحَدِيث: (روى أنس) عَن النَّبِي أَنه قَالَ " رَأَيْت لَيْلَة أسرى بِي فِي السَّمَاء أَقْوَامًا تقْرض شفاهم بمقاريض من نَار، فَسَأَلت من هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ

{أَنفسكُم وَأَنْتُم تتلون الْكتاب أَفلا تعقلون (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة وَإِنَّهَا لكبيرة إِلَّا على الخاشعين (45) الَّذين يظنون أَنهم} الخطباء من أمتك كَانُوا يأمرون النَّاس بِالْبرِّ وينسون أنفسهم ".

45

قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة} الِاسْتِعَانَة طلب المعونة. وَأما الصَّبْر فالأكثرون على أَنه حبس النَّفس عَن الْمعاصِي. وَمِنْه الدَّابَّة المصبورة وَهِي أَن تمسك لترمي كالهدف. وَفِي الحَدِيث: " أنة نهى عَن الدَّابَّة المصبورة ". وَقَالَ فِي الَّذِي يمسك غَيره حَتَّى يقتل: " اصْبِرُوا الصابر واقتلوا الْقَاتِل " أَي: احْبِسُوا الممسك واقتلوا الْمُبَاشر. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الصَّوْم. وَمِنْه سمى شهر رَمَضَان شهر الصَّبْر. فَإِن قيل: مَا معنى الِاسْتِعَانَة بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة؟ قيل: لِأَن الصَّوْم يزهده فِي الدُّنْيَا. (وَكَذَلِكَ) فِي الصَّلَاة يقْرَأ مَا يحثه على الزّهْد فِي الدُّنْيَا. فَكَأَنَّهُ قَالَ: اسْتَعِينُوا بِهَذَيْنِ على الدّين؛ لتقووا على الإقبال على الْآخِرَة والإعراض عَن الدُّنْيَا. {وَإِنَّهَا لكبيرة} لثقيلة. وَفِي قَوْله: {وَإِنَّهَا} قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن (لكناية)

{ملاقو رَبهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون (46) يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين (47) وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس} رَاجِعَة إِلَى الصَّوْم وَالصَّلَاة جَمِيعًا. إِلَّا أَنه اكْتفى بِأحد الْمَذْكُورين وَالْكِنَايَة عَنهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَائِل: (وَمن يَك أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْله ... فَإِنِّي وقيار بهَا لغريب) أَي: لغريبان إِلَّا أَنه اكْتفى بِأَحَدِهِمَا. وَأورد الْأَزْهَرِي فِي كتاب التَّقْرِيب قولا حسنا، فَقَالَ: تَقْدِيره: وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَإنَّهُ لكبير، وبالصلاة وَإِنَّهَا لكبيرة، إِلَّا أَنه حذف أَحدهمَا وَاخْتصرَ الْمَعْنى اختصارا. (إِلَّا على الخاشعين) الخاشع: هُوَ الْمُطِيع المتواضع.

46

{الَّذين يظنون} يستيقنون. وَالظَّن يكون بِمَعْنى الشَّك، وَيكون بِمَعْنى الْيَقِين، قَالَ الله تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه} أَي: استيقنت، وَقَالَ الشَّاعِر: (فَقلت لَهُم ظنُّوا بألفي مقنع ... سراتهم فِي الْفَارِسِي المسرد) وَقَوله تَعَالَى: {أَنهم ملاقوا رَبهم} أَي صائرون إِلَى رَبهم. وكل مَا ورد فِي الْقُرْآن من اللِّقَاء فَهُوَ بِمَعْنى الصيرورة إِلَيْهِ، كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ. وَقيل: هُوَ اللِّقَاء الْمَوْعُود، وَهُوَ رُؤْيَة الله تَعَالَى. وَقَوله تَعَالَى: {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} أَي: صائرون.

47

وَقَوله تَعَالَى: {يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم} مَعْنَاهُ مَا سبق. {وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين} التَّفْضِيل نقيض التَّسْوِيَة. وَأَرَادَ بِهِ التَّفْضِيل بِتِلْكَ النعم الَّتِي سبق ذكرهَا. وَذَلِكَ التَّفْضِيل وَإِن كَانَ فِي حق الْآبَاء وَلَكِن يحصل بِهِ الشّرف للأبناء، فصح الْخطاب مَعَهم. {على الْعَالمين} على عالمي زمانهم.

48

قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا} مَعْنَاهُ: واحذروا

{عَن نفس شَيْئا وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة وَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا عدل ولاهم ينْصرُونَ (48) وَإِذ نجيناكم من آل فِرْعَوْن} عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة. {لَا تجزى نفس عَن نفس شَيْئا} قَالَ الْأَخْفَش: مَعْنَاهُ لَا تقوم نفس مقَام نفس. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ لَا تقضى نفس عَن نفس حَقًا لَزِمَهَا. {وَلَا يقبل مِنْهَا شَفَاعَة} يقْرَأ بقراءتين بِالتَّاءِ وَالْيَاء وَالْكل جَائِز لِأَن الشفع والشفاعة بِمَعْنى وَاحِد كالوعظ وَالْمَوْعِظَة وَالصَّوْت والصيحة بِمَعْنى وَاحِد. ثمَّ يذكر تَارَة بالتذكير على الْمَعْنى. وَتارَة بالتأنيث على اللَّفْظ. قَالَ الله تَعَالَى: {قد جاءتكم موعظة من ربكُم} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه} قَالَ {وَأخذت الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَأخذ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} كَذَا هَذَا. {وَلَا يُؤْخَذ مِنْهَا عدل} الْعدْل وَالْعدْل هُوَ الْمثل، قَالَ الله تَعَالَى {أَو عدل ذَلِك صياما} أَي: مثله. وَالْمرَاد بِالْعَدْلِ هَاهُنَا الْفِدْيَة، وَسميت عدلا، لِأَنَّهَا مثل المفدي بِهِ. وَأما قَوْلهم: لَا يقبل مِنْهُ صرف وَلَا عدل قيل: الصّرْف النَّافِلَة، وَالْعدْل الْفَرِيضَة. وَقيل: الصّرْف الْحِيلَة، وَالْعدْل الْفِدْيَة. (ولاهم ينْصرُونَ) يمْنَعُونَ الْعَذَاب.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا نجيناكم من آل فِرْعَوْن} الإنجاء والتنجية وَاحِد. هُوَ الإنقاذ من الْمَكْرُوه. وَآل فِرْعَوْن: أَتْبَاعه الَّذين اقتدوا بِهِ وبفعله. وَكَذَلِكَ آل النَّبِي أَتْبَاعه.

{يسومونكم سوء الْعَذَاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم (49) وَإِذ فرقنا بكم الْبَحْر فأنجيناكم وأغرقنا} وروى أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " آلى كل مُؤمن تَقِيّ "، فَأَما آل الْقَرَابَة فهم قوم مخصوصون [لَا] تجْرِي عَلَيْهِم الصَّدَقَة. وَقد ذكرُوا فِي الْفِقْه. {يسومونكم سوء الْعَذَاب} أَي: يجشمونكم ويولونكم. وَقيل: يصرفونكم فِي الْعَذَاب مرّة هَكَذَا وَمرَّة هَكَذَا، كَالْإِبِلِ السَّائِمَة فِي الْبَريَّة. {سوء الْعَذَاب} أَشد الْعَذَاب {يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} مَذْكُور على وَجه الْبَدَل عَن قَوْله {يسومونكم} وَمثله قَول الشَّاعِر: (مَتى تأتنا تلمم بِنَا فِي دِيَارنَا ... تَجِد حطبا جزلا وَنَارًا تأججا) وَقَوله: " تلمم بِنَا فِي دِيَارنَا " بدل عَن قَوْله: " مَتى تأتنا ". وَمعنى قَوْله: {يذبحون أبناءكم} أَي: يقتلُون. الذّبْح والذبيح بِمَعْنى وَاحِد. وَسبب ذَلِك أَن فِرْعَوْن رأى فِي الْمَنَام نَارا جَاءَت من نَحْو بَيت الْمُقَدّس، وأحاطت بِمصْر، وأحرقت كل قبْطِي هُنَالك، وَلم تتعرض لبني إِسْرَائِيل، فَعلم بذلك أَن نَبيا يخرج من بني إِسْرَائِيل؛ يكون هلاكهم على يَدَيْهِ، فَأمر بقتل الْأَبْنَاء، وَترك الْبَنَات، حَتَّى قيل: إِنَّه قتل فِي طلب مُوسَى اثْنَي عشر ألف صَبيا. {ويستحيون نساءكم} أَي: يتركون ويستبقون، وَهُوَ استفعال من الْحَيَاة، وَمِنْه

{آل فِرْعَوْن وَأَنْتُم تنْظرُون (50) وَإِذ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ثمَّ اتخذتم} قَول النَّبِي: " اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين واستحيوا شرخهم " أَي: شبابهم، وَأَرَادَ بِهِ الذُّرِّيَّة وَالنِّسَاء. {وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم} الْبلَاء: يكون بِمَعْنى النِّعْمَة وَيكون بالشدة، لِأَنَّهُ من الِابْتِلَاء. وَالله تَعَالَى قد يختبر على النِّعْمَة بالشكر وَقد يختبر على الشدَّة بِالصبرِ. قَالَ الله تَعَالَى: {ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة} قَالَ الشَّاعِر: (جزى الله إحسانا بِمَا فعلا بِهِ ... وأبلاهما خير الْبلَاء الَّذِي يبلو) وَقَوله - تَعَالَى -: {وَفِي ذَلِكُم بلَاء} يحْتَمل هَذَا الْمَعْنيين، أَحدهمَا: فِيمَا لحقكم من فِرْعَوْن من الْأَذَى والشدة بلَاء عَظِيم. وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ: فِيمَا حصل لكم من النجَاة بغرق فِرْعَوْن بلَاء غظيم، أَي: نعْمَة عَظِيمَة.

50

قَوْله - تَعَالَى - {وَإِذ فرقنا بكم الْبَحْر} قيل: فرقنا لكم الْبَحْر. وَقيل: الْبَاء فِي موضعهَا، وَمَعْنَاهُ: فرقنا الْبَحْر بدخولكم إِيَّاه فرقا فرقا فَوق الرَّأْس وفرقا من تَحت الْقدَم أَو فرقا من ذَلِك الْجَانِب، وفرقا من ذَلِك الْجَانِب، وَالْبَحْر سمى بحرا، لاتساعه. وَمِنْه يُقَال للْفرس: بَحر إِذا اتَّسع فِي جريه، وللجواد: بَحر إِذا اتَّسع كَفه للجود. وَقَوله تَعَالَى {فأنجيناكم وأغرقنا آل فِرْعَوْن} قيل فِي الْقَصَص: إِن عدد المنجين مِنْهُم كَانُوا سِتّمائَة ألف [وَعشْرين] ألفا، لَا يعد فيهم ابْن عشْرين لصغره،

{الْعجل من بعده وَأَنْتُم ظَالِمُونَ (51) ثمَّ عَفَوْنَا عَنْكُم من بعد ذَلِك لَعَلَّكُمْ تشكرون (52) وَإِذ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وَالْفرْقَان لَعَلَّكُمْ} وَلَا ابْن سِتِّينَ لكبره. وَأما عدد المغرقين فَالله بهم عليم. وَقيل: كَانَ على مقدمته هامان مَعَ ألف ألف وَسَبْعمائة ألف نفر حِين غرقوا، وَالله أعلم بِمن كَانَ على المؤخرة. {وَأَنْتُم تنْظرُون} إِلَى غرقهم وهلاكهم. وَقيل: تعلمُونَ.

51

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا واعدنا} وَقَرَأَ: " وَإِذ وعدنا " مَعْنَاهُمَا وَاحِد، فَإِن قَالَ قَائِل: المواعدة على وزن المفاعلة، فتقتضي اثْنَيْنِ يتواعدان، فَكيف تكون المواعدة من الله مَعَ مُوسَى؟ قُلْنَا: المواعدة من الله تَعَالَى بِالْأَمر، وَمن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ بِالْقبُولِ وَكَذَلِكَ الْوَعْد. وَأما مُوسَى، اسْم عبري، و " مو " بلغَة العبرية هُوَ المَاء و " شى " هُوَ الشّجر، فَسمى " موشى " لِأَنَّهُ أَخذ من المَاء وَالشَّجر ثمَّ قلب الشين سنا فِي الْعَرَبيَّة فَصَارَ مُوسَى. وَقَوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَة} أَي: انْقِضَاء أَرْبَعِينَ لَيْلَة. أمره الله تَعَالَى أَن يَصُوم أَرْبَعِينَ يَوْمًا لإعطائه التَّوْرَاة، وَكَانَ قد وعده ثَلَاثِينَ؛ إِلَّا أَن الله تَعَالَى كَانَ قد نَهَاهُ أَن يتَنَاوَل شَيْئا فِي هَذِه الثَّلَاثِينَ، فَلَمَّا أتم الثَّلَاثِينَ مر بشجرة، فَتَنَاول من وَرقهَا، أمره الله تَعَالَى أَن يَصُوم عشرَة أَيَّام بِسَبَب ذَلِك. وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَعْرَاف {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة وأتممناها بِعشر} الْآيَة. وَقَوله تَعَالَى {ثمَّ اتخذتم الْعجل من بعده} يَعْنِي: إِلَهًا، وَله قصَّة مَعْرُوفَة ستأتي فِي سُورَة طه.

{تهتدون (53) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم إِنَّكُم ظلمتم أَنفسكُم باتخاذكم الْعجل فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم ذَلِكُم خير لكم عِنْد بارئكم فَتَابَ} {وَأَنْتُم ظَالِمُونَ} باتخاذ الْعجل إِلَهًا.

52

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ عَفَوْنَا عَنْكُم من بعد ذَلِك} . الْعَفو: محو الْآثَار. وَيُقَال: عفت الرِّيَاح كَذَا، إِذا محت الْآثَار. يَقُول: عَفَوْنَا عَنْكُم من بعد اتخاذكم الْعجل إِلَهًا. {لَعَلَّكُمْ تشكرون} ظَاهر الْمَعْنى.

53

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} يَعْنِي: التَّوْرَاة. {وَالْفرْقَان} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه أَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة أَيْضا. إِلَّا أَنه ذكرهَا باسمين، وَمثله قَول الشَّاعِر: (أَلا حبذا هِنْد وَأَرْض بهَا هِنْد ... وَهِنْد أَتَى من دونهَا النأي والبعد) والنأي والبعد اسمان بِمَعْنى وَاحِد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَرَادَ بِهِ الْفرْقَان بَين الْحق وَالْبَاطِل. وَقد أعْطى الله مُوسَى ذَلِك. وَمِنْه سمى يَوْم بدر: يَوْم الْفرْقَان؛ لِأَنَّهُ فرق فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَرَادَ بِهِ انفراق الْبَحْر كَمَا سبق. {لَعَلَّكُمْ تهتدون} بِالتَّوْرَاةِ.

54

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} مَعْنَاهُ: اذكره إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ {يَا قوم إِنَّكُم ظلمتم أَنفسكُم باتخاذكم الْعجل} إِلَهًا. {فتوبوا إِلَى بارئكم} خالقكم {فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} ليقْتل بَعْضكُم بَعْضًا. وَقيل مَعْنَاهُ: استسلموا للْقَتْل. {ذَلِكُم خير لكم عِنْد بارئكم} خالقكم {فَتَابَ عَلَيْكُم} بِالْقبُولِ {إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم} الْقَابِل للتَّوْبَة. وروى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: كَانَ عدد الْقَتْلَى مِنْهُم [سبعين] ألفا فَلَمَّا بلغُوا ذَلِك، أوحى الله تَعَالَى إِلَى مُوسَى: إِنِّي رفعت الْقَتْل عَنْهُم،

{عَلَيْكُم إِنَّه هُوَ التواب الرَّحِيم (54) وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وَأَنْتُم تنْظرُون (55) ثمَّ بعثناكم من بعد موتكم} ورحمت من مضى مِنْهُم، وعفوت عَمَّن بقى، وتبت عَلَيْهِم. وَحكى أَن يُوشَع بن نون خرج عَلَيْهِم حِين تأهبوا للْقَتْل واحتبوا لَهُ، فَقَالَ: إِن الله رحم من حل حبوته. ثمَّ إِن الَّذين لم يعبدوا الْعجل سلوا سيوفهم، وَأَقْبلُوا على قتل الَّذين عبدُوا الْعجل، حَتَّى كَانَ الابْن يقتل أَبَاهُ وَالْأَب يقتل ابْنه، حَتَّى أَتَوا على سبعين ألفا؛ ثمَّ نزل الْوَحْي كَمَا وَصفنَا.

55

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة} هُوَ خطاب للسبعين الَّذين حملهمْ مُوسَى إِلَى الطّور ليسمعوا كَلَام الله؛ فَإِنَّهُم لما سمعُوا كَلَام الله قَالُوا لمُوسَى: لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة. أَي: عيَانًا. وَقيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير يَعْنِي قُلْتُمْ: يَا مُوسَى جهرة لن (نؤمن) (لَك) حَتَّى نرى الله (جهرة) . {فأخذتكم الصاعقة} قَرَأَ عَمْرو: " فأخذتكم الصعقة " وَهُوَ فِي الشواذ: وَقد سبق تَفْسِير الصاعقة. وَالْمرَاد بهَا الْمَوْت هَا هُنَا، أَي: أخذكم {وَأَنْتُم تنْظرُون} . فَإِن قيل: إِذا مَاتُوا كَيفَ نظرُوا؟ قيل: مَعْنَاهُ: ينظر بَعْضكُم إِلَى بعض حِين أخذكم الْمَوْت. قيل: مَعْنَاهُ: تعلمُونَ وَيكون النّظر معنى الْعلم.

56

وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ بعثناكم من بعد موتكم} يَعْنِي أحييناكم بعد تِلْكَ الموتة بِالطورِ. قَالَ قَتَادَة: أحياهم ليستوفوا آجالهم {لَعَلَّكُمْ تشكرون} .

{لَعَلَّكُمْ تشكرون (56) وظللنا عَلَيْكُم الْغَمَام وأنزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظلمن (57) }

57

قَوْله تَعَالَى {وظللنا عَلَيْكُم الْغَمَام} الْغَمَام: من الْغم. وَأَصله: التغطية والستر وَمِنْه يُقَال للقلب الحزين: مغموم. لِأَن الْحزن غطى قلبه. وللسحاب: غمام لِأَنَّهُ يغطى وَجه الشَّمْس. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة} أَي: ملبوسا عَلَيْكُم. وَمعنى الْآيَة: قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بتظليل الْغَمَام عَلَيْهِم مَا ذكر فِي قَوْله {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} وَسَيَأْتِي شَرحه. وَقَالَ قَتَادَة: إِن قوما من بني إِسْرَائِيل بقوا فِي التيه فعطشوا، وتأذوا بَحر الشَّمْس، وظلل الله عَلَيْهِم غماما، كَيْلا يتأذوا. {وأنزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى} الْأَكْثَرُونَ: على أَن الْمَنّ هُوَ الترنجبين. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ صمغة تقع على الشّجر. وَقَالَ وهب: هُوَ الْخبز الرقَاق. وَأما السلوى: قيل: إِنَّه طَائِر يشبه السماني بِعَيْنِه. وَفِيه قَول غَرِيب: أَنه الْعَسَل. وَفِي الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى كَانَ ينزل عَلَيْهِم ذَلِك كل صباح من طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس قدر مَا يَكْفِي ليومهم؛ إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّهُ كَانَ ينزل صباح الْجُمُعَة والسبت جَمِيعًا، وَمَا كَانَ للْجُمُعَة ينزل عَلَيْهِم يَوْم السبت. وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الكمأة من الْمَنّ، وماؤها شِفَاء للعين " فَلَيْسَ ذَلِك من هَذَا الْمَنّ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهَا من عَطاء الله من غير كلفة وَلَا مشقة.

{وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم رغدا وادخلوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد الْمُحْسِنِينَ (58) فبدل الَّذين ظلمُوا} {كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم} أَي: من حَلَال مَا رزقناكم. {وَمَا ظلمونا} وَمَا بخسوا بحقنا {وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} . فالظلم: بِمَعْنى البخس وَالنَّقْص، وَأَصله مَا بَينا.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة} سميت الْقرْيَة قَرْيَة؛ لِأَنَّهَا تجمع أَهلهَا. وَمِنْه المقرآة للحوض؛ لِأَنَّهُ مجمع المَاء. وَمِنْه قَرْيَة النَّمْل؛ لِأَنَّهَا تجمع النَّمْل، وَالْمرَاد بالقرية هَاهُنَا الْبَيْت الْمُقَدّس. وَقيل: هِيَ أرِيحَا مَوضِع هُنَالك. {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم رغدا} وَمعنى الرغد مَا سبق، وَقيل: هُوَ الرزق الْوَاسِع الَّذِي لَا يضيق (وَلَا يَعْنِي) طَالبه. {وادخلوا الْبَاب سجدا} أَرَادَ بِالْبَابِ: بَاب الْقرْيَة. وَقيل: هُوَ بَاب حطة، وَهُوَ بَاب إيلياء. {سجدا} أَي: ركعا خضعا. وأصل السُّجُود الخضوع وَفِي الرُّكُوع خضوع، وَقَالَ الشَّاعِر (بِجمع تضل البلق فِي حجراته ... ترى الأكم فِيهِ سجدا للحوافر) أَي: ركعا خضعا. {وَقُولُوا حطة} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: مَعْنَاهُ قُولُوا: حط ذنوبنا، وَقَالَ الزّجاج: تَقْدِيره: قُولُوا: مَسْأَلَتنَا حطة. وَقَالَ عِكْرِمَة: هُوَ قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله. {نغفر لكم} تقْرَأ بقراءتين: " نغفر لكم " بالنُّون، و " يغْفر لكم " بِالْيَاءِ وهما

{قولا غير الَّذِي قيل لَهُم فأنزلنا على الَّذين ظلمُوا رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون (59) وَإِذ استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بعصاك الْحجر} وَاحِد. وَهُوَ من الغفر، وَهُوَ السّتْر. وَمِنْه الْمَغْفِرَة؛ لِأَنَّهُ يستر الرَّأْس. كَذَلِك الْمَغْفِرَة تستر الذُّنُوب. {خطاياكم} جمع الْخَطِيئَة وَتجمع على الخطيئات أَيْضا، وَهِي الذُّنُوب. يُقَال: خطئَ يُخطئ خطأ وخطيئة، إِذا أذْنب مُتَعَمدا. وَأَخْطَأ يُخطئ إخطاء إِذا أذْنب خاطئا. {وسنزيد الْمُحْسِنِينَ} من فضلنَا.

59

قَوْله تَعَالَى: {فبدل الَّذين ظلمُوا قولا غير الَّذِي قيل لَهُم} أَجمعُوا على أَنهم بدلُوا قَول الحطة بِالْحِنْطَةِ، وَقَالُوا بلسانهم: هطا سمقاثا. أَي: حِنْطَة حَمْرَاء. وَقيل: إِنَّهُم دخلُوا الْبَاب يزحفون على استاههم، وَكَانَ قد طوطىء لَهُم الْبَاب، فَمَا اسْتَطَاعُوا أَن يدخلُوا قيَاما، وأبوا أَن يدخلُوا سجدا، فَدَخَلُوا يزحفون على استاههم مُخَالفَة فِي الْفِعْل كَمَا بدلُوا القَوْل. قَوْله تَعَالَى: {فأنزلنا على الَّذين ظلمُوا رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون} . الرجز. الْعَذَاب. والرجس: النتن. وَالرجز (بِضَم الرَّاء) صنم على قَول من قَرَأَ {وَالرجز فاهجر} وَقيل: أنزل الله عَلَيْهِم إِذْ فعلوا ذَاك طاعونا أهلك مِنْهُم أَرْبَعَة وَعشْرين ألفا فِي سَاعَة وَاحِدَة. {بِمَا كَانُوا يفسقون} من الْمُخَالفَة فعلا وقولا.

60

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ} الاسْتِسْقَاء طلب السقيا. وَالسَّبَب فِي ذَلِك: أَن بني إِسْرَائِيل بقوا فِي التيه فعطشوا، فسألوا مُوسَى أَن يَسْتَسْقِي لَهُم، فَفعل.

{فانفجرت مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا قد علم كل أنَاس مشربهم كلوا وَاشْرَبُوا من رزق الله وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (60) وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على} قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِب بعصاك الْحجر} اخْتلفُوا فِي ذَلِك الْحجر، مِنْهُم من قَالَ: كَانَ حجرا معينا على قدر رَأس الرجل. وَقيل: كَانَ ذِرَاعا فِي ذِرَاع. وَقيل: كَانَ حجرا من الْأَحْجَار لَا يعنيه، أَي حجر كَانَ. {فانفجرت مِنْهُ} يَعْنِي: فَضرب (وتفجرت) . هَكَذَا تَقْدِيره: مِنْهُ {اثْنَتَا عشرَة عينا} على عدد الأسباط. {قد علم كل أنَاس مشربهم} عرف كل سبط مِنْهُم مشربهم. وَقيل: كَانَ يظْهر فِيهِ بِضَرْب مُوسَى [اثْنَتَيْ عشرَة] حُفْرَة، يعرف كل سبط مِنْهُم حفرته. وَقيل: كَانَ يحمل الْحجر مَعَ نَفسه فِي وعَاء؛ فَكلما احتاجوا إِلَى المَاء ضرب مُوسَى على الْحجر. {كلوا} مِمَّا أنزلنَا عَلَيْكُم من الْمَنّ والسلوى {وَاشْرَبُوا} من هَذِه المشارب. [ {من رزق الله} ] . {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} العيث: أَشد الْفساد. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تسعوا فِي الأَرْض مفسدين.

61

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على طَعَام وَاحِد} كَأَنَّهُمْ أَجمعُوا وسئموا من أكل الْمَنّ والسلوى، فسألوا مُوسَى أَن يسْأَل لَهُم غَيره من الطَّعَام. فَإِن قيل: كَانَ لَهُم الْمَنّ والسلوى، فَلم سماهما وَاحِدًا؟ ! قيل: كَانُوا يَأْكُلُون أَحدهمَا بِالْآخرِ (فَكَانَ) كطعام وَاحِد.

{طَعَام وَاحِد فَادع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قَالَ أتستبدلون الَّذِي هُوَ أدنى بِالَّذِي هُوَ خير اهبطوا مصرا} وَقيل: إِنَّه كَانَ أبدا على نسق وَاحِد، وَكَانَ من حَيْثُ اتساقه كطعام وَاحِد. {فَادع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثائها} سَأَلُوا هَذِه الْأَطْعِمَة. وَقَوله تَعَالَى: {وفومها} اخْتلفُوا فِيهِ. اخْتلفُوا فِيهِ. قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْأَكْثَرُونَ: إِنَّه الْحِنْطَة. وَقيل: الْخبز. وَحكى أَن بعض الْأَعْرَاب قَالَ لامْرَأَته: " فومى لنا " أَي: أجزي لنا. وَقَالَ الضَّحَّاك بن مُزَاحم: أَرَادَ بِهِ الثوم. فأبدل الثَّاء بِالْفَاءِ. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (كَانَت دِيَارهمْ إِذْ ذَاك بارزة ... فِيهَا الفراديس والفومان والبصل) وَقد قَرَأَ أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود: " ونومها " بالثاء {وعدسها وبصلها} . قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أتستبدلون الَّذِي هُوَ أدنى بِالَّذِي هُوَ خير} يَعْنِي: أتختارون الْأَدْنَى على مَا هُوَ خير. فَإِن قيل: أَلَيْسَ فِيمَا سَأَلُوا الْحِنْطَة وَالْخبْز، وَهِي خير من الْمَنّ والسلوى فَلم سَمَّاهُ أدنى؟ قيل: أَرَادَ بِهِ أدنى فِي الْقيمَة، أَو أَرَادَ بِهِ أسهل وجودا على الْعَادة. {اهبطوا مصرا} أَي: انزلوا واذهبوا إِلَى مصر. وَاخْتلفُوا فِيهِ، فالأكثرون على أَنه الْمصر الْمَعْرُوف. وَقد قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " اهبطوا مصر " غير منصرف. وَمن صرفه كَانَ لقلَّة الْحُرُوف. وَقَالَ الْأَعْمَش: أَرَادَ بِهِ مصر الَّذِي عَلَيْهِ صَالح بن عَليّ، وَهُوَ الْمصر الْمَعْرُوف. وَقيل: كَانَ مصرا من الْأَمْصَار لَا بِعَيْنِه يَقُول: أنزلوا مصرا {فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم وَضربت عَلَيْهِم الذلة} قيل: أَرَادَ بِهِ الْجِزْيَة، وَقَالَ عَطاء بن السَّائِب: هُوَ الكستيج والزنار. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَصْحَاب القبالات مِمَّن ضربت عَلَيْهِم الذلة.

{فَإِن لكم مَا سَأَلْتُم وَضربت عَلَيْهِم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ النَّبِيين بِغَيْر الْحق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون (61) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى} {والمسكنة} والفقر، يُقَال: تمسكن الرجل أَي صَار فَقِيرا، وسمى الْفَقِير مِسْكينا لِأَن الْفقر أسْكنهُ وَأَقْعَدَهُ عَن الْحَرَكَة. {وباءوا بغضب من الله} أَي: رجعُوا وَاحْتَملُوا غضب الله. {ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله} وَالْآيَة: الْعَلامَة. وَالْآيَة: الْجَمَاعَة. يُقَال: خرج الْقَوْم بآيهم أَي: بجماعتهم. وَالْآيَة من الْقُرْآن مجمع كَلِمَات مَعْلُوم الأول وَالْآخر. قَوْله تَعَالَى: {وَيقْتلُونَ النَّبِيين} . قَرَأَ نَافِع بِالْهَمْز وَالْمدّ. وَالْبَاقُونَ بالتليين، وَأَصله الإنباء، فَمن همزه كَانَ على الأَصْل. وَمن لينه فلكثرة الِاسْتِعْمَال. وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من النُّبُوَّة وَهِي الْمَكَان الْمُرْتَفع، فعلى هَذَا يكون التليين على الأَصْل. وَفِي الحَدِيث: " أَن رجلا قَالَ: يَا نبيء الله بِالْهَمْز وَالْمدّ فَقَالَ: لست بِنَبِي الله إِنَّمَا أَنا نَبِي الله ". قَوْله تَعَالَى: {وَيقْتلُونَ النَّبِيين بِغَيْر الْحق} فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: " بِغَيْر الْحق " وَقتل النَّبِيين لَا يكون إِلَّا بِغَيْر الْحق؟ ! قُلْنَا: ذكره وَصفا للْقَتْل، وَالْقَتْل يُوصف تَارَة بِالْحَقِّ، وَتارَة بِغَيْر الْحق وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى {قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ} . ذكر الْحق وَصفا للْحكم لَا أَن حكمه يَنْقَسِم إِلَى الْجور وَالْحق.

{وَالصَّابِئِينَ من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (62) وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور} {ذَلِك بِمَا عصوا} من الْمعاصِي {وَكَانُوا يعتدون} يتجاوزون الْحَد.

62

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا} أَرَادَ بالذين هادوا الْيَهُود، وَإِنَّمَا سموا يهودا؛ لأَنهم قَالُوا {إِنَّا هدنا إِلَيْك} أَي: ملنا إِلَيْك. وَقيل: لأَنهم من أَوْلَاد يهودا بن يَعْقُوب. وَالنَّصَارَى قوم يعْرفُونَ. وَإِنَّمَا سمعُوا نَصَارَى؛ لأَنهم نزلُوا قَرْيَة تسمى ناصرة. وَقيل: لقَوْل عِيسَى: من أَنْصَارِي إِلَى الله قَالُوا: نَحن أنصار الله. {وَالصَّابِئِينَ} قَرَأَ نَافِع باللين وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْهَمْز. وَأَصله الصبو وَهُوَ الْميل وَالْخُرُوج. يُقَال: صَبأ نَاب الْبَعِير إِذا خرج. وصبا قلبه إِلَى فلَان أَي: مَال. قَالَ الشَّاعِر: (صبا قلبِي إِلَى هِنْد ... وَهِنْد مثلهَا (يصبي)) أَي: مَال قلبِي إِلَيْهَا وَمثلهَا تميل الْقلب. اختلوا فِي مَعْنَاهُ؛ قَالَ ابْن عَبَّاس: هم قوم من الْيَهُود وَالنَّصَارَى. وَقَالَ قَتَادَة: هم قوم يقرءُون الزبُور، ويعبدون الْمَلَائِكَة، وَيصلونَ إِلَى الْكَعْبَة (من آمن بِاللَّه) . فَإِن قيل: قد ذكر فِي الْجُمْلَة {إِن الَّذين آمنُوا} فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله {من آمن بِاللَّه} ؟ . قيل: هَذَا فِي سلمَان وَأَتْبَاعه الَّذين آمنُوا بِمُحَمد قبل الْبَعْث. ثمَّ أقرُّوا بِهِ بعد الْبَعْث. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من ثَبت على الْإِيمَان. وَقيل: أَرَادَ بالذين آمنُوا: الْمُنَافِقين الَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ.

{خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (63) ثمَّ توليتم من بعد ذَلِك فلولا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لكنتم من الخاسرين (64) وَلَقَد علمْتُم} وَقَوله تَعَالَى: {من آمن بِاللَّه} يَعْنِي بِالْقَلْبِ مَعَ اللِّسَان {بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} فِي الْآخِرَة.

63

قَوْله تَعَالَى: { [وَإِذ] أَخذنَا ميثاقكم} أَي: عهدكم {ورفعنا فَوْقكُم الطّور} قيل: أَرَادَ بِهِ طور سيناء. وَقيل: كل جبل طور. وَفِي الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى قلع جبل طور وَرفع فَوق رَأْسهمْ وَقَالَ لَهُم: إِن لم تقبلُوا التَّوْرَاة أرْسلت هَذَا الْجَبَل عَلَيْكُم، فقبلوا التَّوْرَاة. وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة وظنوا أَنه وَاقع بهم} الْآيَة. {خُذُوا مَا آتيناكم} من التَّوْرَاة {بِقُوَّة} بجد واجتهاد {واذْكُرُوا مَا فِيهِ} وادرسوا مَا فِيهِ. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} النَّار فِي الْآخِرَة.

64

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ توليتم من بعد ذَلِك} أعرضتم من بعد مَا قبلتم التَّوْرَاة {فلولا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته} يَعْنِي: بالإمهال والإدراج {لكنتم من الخاسرين} لمن الْمُعَذَّبين فِي الْحَال؛ كَأَنَّهُ رَحِمهم بالإمهال.

65

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد علمْتُم الَّذين اعتدوا} أَي: جاوزوا الْحَد، وَيُقَال: تعدى طوره. أَي: جَاوز حَده. {مِنْكُم فِي السبت} وأصل السبت: الْقطع، وسمى يَوْم السبت بذلك؛ لِأَن الْيَهُود أمروا فِيهِ يقطع الْأَعْمَال أَرَادَ بِهِ قوم أيله، وَهِي قَرْيَة على شط الْبَحْر وَترك الِاصْطِيَاد فِي يَوْم السبت؛ فخالفوا واصطادوا. وقصتهم تَأتي مشروحة فِي سُورَة

{الَّذين اعتدوا مِنْكُم فِي السبت فَقُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ (65) فجعلناها نكالا لما بَين يَديهَا وَمَا خلفهَا وموعظة لِلْمُتقين (66) } الْأَعْرَاف. {فَقُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ} وَهَذَا أَمر تكوين لَيْسَ للْعَبد فِيهِ صنع وَلَا اخْتِيَار. {خَاسِئِينَ} مبعدين. وَمِنْه يُقَال: [أخسا] أَي: أبعد. فَإِن قيل: لم قَالَ: " قردة خَاسِئِينَ " وَإِنَّمَا تنْعَت القردة بالخاسئات؟ قيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير. وَتَقْدِيره. خَاسِئِينَ قردة.

66

قَوْله تَعَالَى: {فجعلناها نكالا لما بَين يَديهَا} أَي: فَجعلنَا عقوبتهم بالمسخ نكالا. والنكال: اسْم لكل عُقُوبَة تنكل النَّاظر من فعل مَا جعلت الْعقُوبَة جَزَاء عَلَيْهِ. وَمِنْه النّكُول من الْيَمين، وَهُوَ منع الْيَمين. {لما بَين يَديهَا} فَإِن قيل: كَيفَ يكون نكالا لما بَين يَديهَا وهم قد مضوا؟ قيل: أَرَادَ بِهِ الَّذين حَضَرُوا فِي ذَلِك الزَّمَان. {وَمَا خلفهَا} الَّذين يأْتونَ من بعد " وَمَا " هَاهُنَا: بِمَعْنى " من " وَفِيه قَول آخر: أَرَادَ " لما بَين يَديهَا ": مَا سبقت من الذُّنُوب {وَمَا خلفهَا} مَا حضرت من الذُّنُوب الَّتِي أخذُوا بهَا. وَفِيه قَول ثَالِث: أَرَادَ " بِمَا بَين يَديهَا " الْقرى الَّتِي كَانَت مَبْنِيَّة فِي الْحَال. وَمَا خلفهَا: بِالْحَدَثِ من الْقرى من بعد. {وموعظة لِلْمُتقين} من أمة مُحَمَّد.

{وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة قَالُوا أتتخذنا هزوا قَالَ أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين (67) قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا هِيَ قَالَ}

67

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} وَاذْكُر إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} الْبَقَرَة: الْأُنْثَى من الْبَقر. وَهِي مَأْخُوذَة من الْبَقر، وَهُوَ الشق. سميت بذلك لِأَنَّهَا تشق الأَرْض بالحراثة. وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي نهى عَن التبقر فِي الْأَهْل وَالْمَال " أَي: التَّوَسُّع. والقصة فِي ذَلِك: أَنه كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل رجل غَنِي، وَله ابْن عَم فَقير، فاستطال حَيَاته فَقتله، وَحمله إِلَى حَيّ آخر، وَطَرحه بفنائهم، ثمَّ أصبح يطْلب دَمه. فسألوا مُوسَى أَن يسْأَل ربه من الْقَاتِل؟ فَسَأَلَ فَأوحى الله تَعَالَى [إِلَيْهِ] أَن يَأْمُرهُم بِذبح الْبَقَرَة. فَقَالَ: إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة {قَالُوا أتتخذنا هزوا} لأَنهم لما سَأَلُوهُ أَن يسْأَل ربه من الْقَاتِل؟ فَقَالَ: إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة، فلبعد مَا بَين السُّؤَال وَالْجَوَاب، قَالُوا: أتتخذنا هزوا. وَذَلِكَ من شدَّة جهلهم، وتبسطهم فِي الْكَلَام نسبوا نَبِيّهم إِلَى الِاسْتِهْزَاء. {قَالَ أعوذ بِاللَّه} أَعْتَصِم وأمتنع بِاللَّه. {أَن أكون من الْجَاهِلين} بِالْجَوَابِ، لَا على وفْق السُّؤَال. لِأَن كل من سُئِلَ عَن شَيْء فَأجَاب لَا على وفْق السُّؤَال يكون جَاهِلا.

{إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة لَا فارض وَلَا بكر عوان بَين ذَلِك فافعلوا مَا تؤمرون (68) قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا لَوْنهَا قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة صفراء فَاقِع لَوْنهَا}

68

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا هِيَ} هَذَا استيصاف السن {قَالَ إِنَّه يَقُول} يَعْنِي: فَسَأَلَ فَقَالَ: إِنَّه يَقُول: {إِنَّهَا بقرة لَا فارض وَلَا بكر عوان بَين ذَلِك} قيل: الفارض الْكَبِيرَة المسنة، وَالْبكْر: الْفَتى، والعوان مَا بَين ذَلِك. وَمِنْه يُقَال: عونت الْمَرْأَة، إِذا زَادَت على الثَّلَاثِينَ. وَيُقَال: فِي الْمثل " الْعوَان لَا تعلم الْخمْرَة " أَي: الاختمار. وَقيل: الفارض الَّتِي ولدت بطونا، وَالْبكْر: الَّتِي لم تَلد أصلا، والعوان: الَّتِي ولدت بَطنا أَو بطنين. {فافعلوا مَا تؤمرون} من الذّبْح.

69

قَوْله تَعَالَى: {ادْع لنا رَبك} سل لنا رَبك. {يبين لنا مَا لَوْنهَا} هَذَا اسيتصاف اللَّوْن. {قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة صفراء} قَالَ الْحسن: الصَّفْرَاء: السَّوْدَاء. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (تِلْكَ خيلي مِنْهُ وَتلك ركاب ... هن صفر ألوانها كالزبيب) يَعْنِي سود، وَالصَّحِيح: أَنه أَرَادَ بِهِ الصَّفْرَاء الْمَعْهُودَة بِدَلِيل قَوْله: {فَاقِع لَوْنهَا} وَإِنَّمَا يُقَال: أصفر فَاقِع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأبيض يقق. وَيُقَال: ذَلِك للْمُبَالَغَة. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَت صفراء الْقُرُون والظلف. وَالصَّحِيح: أَنه كَانَت صفراء بجميعها. {تسر الناظرين} أَي تعجبهم وَتدْخل السرُور فِي قلبهم من حسنها وَهَذَا دأب كل حسن قد يرى. وَقد قَالَ النَّبِي " من لبس نعلا صفراء لم يزل فِي سرُور حَتَّى يَنْزِعهَا ".

{تسر الناظرين (69) قَالُوا ادْع لنا رَبك يبين لنا مَا هِيَ إِن الْبَقر تشابه علينا وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة لَا ذَلُول تثير الأَرْض}

70

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا ادْع لنا رَبك} سل لنا رَبك. {يبين لنا مَا هِيَ} وَهَذَا استيصاف الْعَمَل أَنَّهَا من العوامل أم لَا؟ {إِن الْبَقر تشابه علينا} أَي: اشْتبهَ. {وَإِنَّا إِن شَاءَ الله لَمُهْتَدُونَ} وَفِي الْخَبَر " أَنهم لَو لم يَقُولُوا: إِن شَاءَ الله مَا اهتدوا أبدا ".

71

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّه يَقُول إِنَّهَا بقرة لَا ذَلُول تثير الأَرْض} الذلول: بَين الذلة، والذليل بَين الذل، وَالْبَقَرَة الذلول الَّتِي أذلها الْعَمَل بإثارة الأَرْض. {وَلَا تسقى الْحَرْث} لَيست بساقية {مسلمة} عَن الْعُيُوب. {لَا شية فِيهَا} قَالَ الزّجاج: لَيْسَ فِيهَا لون يُخَالف مُعظم لَوْنهَا. {قَالُوا الْآن جِئْت بِالْحَقِّ} فَإِن قيل: قد كَانَ جَاءَ بِالْحَقِّ فِي كل مرّة. فَمَا معنى قَوْله {الْآن جِئْت بِالْحَقِّ} ؟ ! قيل: مَعْنَاهُ: الْآن أتيت بِالْبَيَانِ التَّام الشافي الَّذِي لم يبْق مَعَه لبس وَلَا إِشْكَال. {فذبحوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} يَعْنِي: من غلاء ثمنهَا، لِأَنَّهُ روى أَنهم اشتروها بملء مسكها ذَهَبا. وَحكى عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: مَا اشتروها بذلك، إِنَّمَا اشتروها بِثَلَاثَة دَنَانِير. وَقيل: مَعْنَاهُ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ من شدَّة اضطرابهم وَاخْتِلَافهمْ فِيهَا، وَالْأول أصح. وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: {شَدَّدُوا على أنفسهم؛ فَشدد الله عَلَيْهِم. وَلَو

{وَلَا تَسْقِي الْحَرْث مسلمة لَا شية فِيهَا قَالُوا الْآن جِئْت بِالْحَقِّ فذبحوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذ قتلتم نفسا فادارأتم فِيهَا وَالله مخرج مَا كُنْتُم اعْترضُوا بقرة فذبحوها؛ حصل مُرَادهم ".

72

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قتلتم نفسا} هَذَا فِي التِّلَاوَة مُؤخر، وَفِي الْمَعْنى مقدم؛ لِأَنَّهُ أول الْقِصَّة. {فادارأتم فِيهَا} أَي: اعوججتم وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (فنكب عَنْهُم دَرْء الأعادي ... وداووا بالجنون من الْجُنُون) أَي: اعوجاجهم. وَقيل: مَعْنَاهُ: تدافعتم إِذا كَانَ يحِيل بَعضهم على بعض وأصل [الدرء] الدّفع. قَوْله تَعَالَى: {وَالله مخرج مَا كُنْتُم تكتمون} أَي: مظهر مَا كُنْتُم تكتمون؛ فَإِن الْقَاتِل كَانَ يكتم الْقَتْل.

73

قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} أَمر الله تَعَالَى أَن يضْرب الْمَقْتُول بعض الْبَقَرَة. وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك الْبَعْض؛ قَالَ ابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين: كَانَ ذَلِك من الغضروف إِلَى الْكَتف. قَالَ مُجَاهِد: وَهُوَ عجب الذَّنب. وَقَالَ غَيره: هُوَ الْفَخْذ. وَقَالَ بَعضهم: اللِّسَان. وَقيل: بعض مِنْهَا لَا بِعَيْنِه؛ أَي بعض: كَانَ. {كَذَلِك يحيى الله الْمَوْتَى} لِأَنَّهُ أَرَاهُم إحْيَاء الْمَقْتُول حِين ضرب بِبَعْض الْبَقَرَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما ضرب بِبَعْضِهَا قَامَ حَيا وَقَالَ: " قاتلي فلَان "، ثمَّ سقط مَيتا؛ فَحرم قَاتله الْمِيرَاث. وَفِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " مَا ورث قَاتل بعد صَاحب الْبَقَرَة ".

{تكتمون (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِك يحيي الله الْمَوْتَى ويريكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون (73) ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد} {ويريكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون} تمْنَعُونَ أَنفسكُم من الْمعاصِي. وَقيل: إِنَّمَا خص الْبَقَرَة بذلك الذّبْح؛ لأَنهم كَانُوا قد عبدُوا الْعجل، فَأَرَادَ أَن يُرِيهم هوانها، وَأَنَّهَا تعجز عَن دفع الْقَتْل عَن نَفسهَا. أَو ابْتَلَاهُم بِالْأَمر بذبحها حَتَّى [يراهم] هَل يقتلُون أم لَا.

74

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك} يَعْنِي يَبِسَتْ وجفت، وجفاف الْقلب بِخُرُوج الرَّحْمَة والرقة عَنهُ. {من بعد ذَلِك} من بعد مَا ظهر لكم من تِلْكَ الْآيَات. {فَهِيَ كالحجارة} يَعْنِي فِي الصلابة {أَو أَشد قسوة} . فَإِن قيل: لم قَالَ: أَو أَشد قسوة و " أَو " كلمة التشكيك؟ وَلم شبه بِالْحِجَارَةِ وَالْحَدِيد أَصْلَب من الْحِجَارَة؟ . قُلْنَا: أما الأول مَعْنَاهُ وَأَشد قسوة. وَقيل: بل أَشد قسوة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} أَو بل يزِيدُونَ. وَقَالَ جمَاعَة النَّحْوِيين: مَعْنَاهُ إِن شِئْت مثلهم بِالْحِجَارَةِ؛ وَإِن شِئْت مثلهم بِمَا هُوَ أَشد من الْحِجَارَة، فَأَنت مُصِيب فِي الْكل. وَهَذَا قَول حسن. وَإِنَّمَا لم يشبه بالحديد؛ لِأَنَّهُ قَابل للين، فَإِنَّهُ يلين بالنَّار، وَقد لَان لداود عَلَيْهِ السَّلَام، وَالْحِجَارَة لَا تلين قطّ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من الْحِجَارَة لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار} قيل: أَرَادَ بِهِ جَمِيع الْحِجَارَة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْحجر الَّذِي كَانَ يضْرب عَلَيْهِ مُوسَى للأسباط. {وَإِن مِنْهَا لما يشقق فَيخرج مِنْهُ المَاء} أَرَادَ بِهِ عيُونا دون الْأَنْهَار، وَتَكون فِي بعض

{قسوة وَإِن من الْحِجَارَة لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار وَإِن مِنْهَا لما يشقق فَيخرج مِنْهُ المَاء وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) } الْأَحْجَار {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} أَي ينزل من مَخَافَة الله. فَإِن قيل: الْحجر جماد لَا يفهم؛ فَكيف يخْشَى؟ ! قُلْنَا: قد قَالَ أهل السّنة: إِن لله تَعَالَى علما فِي الْموَات لَا يُعلمهُ غَيره. وَقيل: إِن الله تَعَالَى يفهمهم ويلهمهم ذَلِك فيخشون بإلهامه، وبمثل هَذَا وَردت الْأَخْبَار. فَإِنَّهُ روى: " أَن النَّبِي كَانَ عَليّ " ثبير " وَالْكفَّار يطلبونه، فَقَالَ الْجَبَل: أنزل عني فَإِنِّي أَخَاف أَن تُؤْخَذ على فيعاقبني الله بذلك. فَقَالَ لَهُ جبل حراء: إِلَى يَا رَسُول الله ". وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَانَ حجر يسلم على بِمَكَّة قبل أَن أبْعث، وَأَنا أعرفهُ الْآن " الْخَبَر صَحِيح. وَفِي الْبَاب حَدِيث أنس وَسَهل بن سعد، " أَن رَسُول الله كَانَ يخْطب إِلَى جذع فِي الْمَسْجِد قَائِما، فَلَمَّا اتخذ لَهُ الْمِنْبَر تحول إِلَيْهِ فَلَمَّا رقاه حن الْجذع ". ويروي: " أَنه خار كَمَا يخور الثور، حَتَّى ارتج الْمَسْجِد؛ فَنزل رَسُول الله من الْمِنْبَر وَكَانَ الْجذع يخور حَتَّى الْتَزمهُ فسكن. فخيره النَّبِي بَين أَن يكون شَجَرَة فِي الدُّنْيَا أَو شَجَرَة فِي الْجنَّة، فَاخْتَارَ الْجنَّة، فَأمر بِهِ فَدفن ".

{أفتطمعون أَن يُؤمنُوا لكم وَقد كَانَ فريق مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه وهم يعلمُونَ (75) وَإِذا لقوا الَّذين آمنُوا قَالُوا آمنا وَإِذا خلا} وَقد قَالَ مُجَاهِد: لَا ينزل حجر من [الْأَعْلَى] إِلَى الْأَسْفَل إِلَّا من خشيَة الله. وَيشْهد لكل مَا قُلْنَا. قَوْله تَعَالَى: {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله} . {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَي: يُشَاهد مَا تَصْنَعُونَ.

75

قَوْله تَعَالَى: {أفتطمعون} أَي: ترجون {أَن يُؤمنُوا لكم} أَي: يصدقونكم بِمَا تخبرونهم بِهِ. {وَقد كَانَ فريق مِنْهُم يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه} وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم سمعُوا التَّوْرَاة ثمَّ حرفوا مَا فِيهَا من الْأَحْكَام ونعت مُحَمَّد. القَوْل الثَّانِي: أَنه أَرَادَ بِهِ السّبْعين الَّذين حملهمْ مُوسَى إِلَى الطّور حِين قَالُوا: إِن كنت ترى الله فَيَنْبَغِي أَن نرى الله، وَإِن كنت تسمع كَلَام الله؛ فَيَنْبَغِي أَن نسْمع كَلَام الله. فَقَالَ مُوسَى: أما أَنا فَلَا أرى الله، وَلَكِنِّي أسمع كَلَامه، ثمَّ سَأَلَ مُوسَى ربه تَعَالَى أَن يسمعهم كَلَامه فَقَالَ الله تَعَالَى: مرهم فليصوموا كَذَا وليغسلوا أَو ليلبسوا ثيابًا جددا نظيفة، ثمَّ ليحضروا فَفَعَلُوا ذَلِك. وسمعوا كَلَام الله. وَفِي التَّفْسِير: أَنه قَالَ لَهُم: أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا، أخرجتكم من مصر بيد شَدِيدَة فاعبدوني وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئا، وافعلوا كَذَا، وَكَذَا فَلَمَّا سمعُوا كَلَامه، خرجت أَرْوَاحهم وماتوا فأحياهم الله تَعَالَى فَقَالُوا لمُوسَى: إِنَّا لَا نطيق أَن نسْمع كَلَامه، فاسمع أَنْت، وبلغنا إِيَّاه. ثمَّ رجعُوا إِلَى قَومهمْ قَالُوا: قد سمعنَا كَلَام الله، وَقد أمرنَا أَن نَفْعل كَذَا وَكَذَا، لكنه قَالَ: افعلوا إِن شِئْتُم أَو إِن اسْتَطَعْتُم. وَفِي رِوَايَة قَالَ: لَا ترتكبوا كَذَا وَكَذَا إِلَّا أَن يكون لكم بُد؛ فارتكبوا، فَهَذَا معنى

{بَعضهم إِلَى بعض قَالُوا أتحدثونهم بِمَا فتح الله عَلَيْكُم ليحاجوكم بِهِ عِنْد ربكُم أَفلا تعقلون (76) أَولا يعلمُونَ أَن الله يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون} قَوْله {يسمعُونَ كَلَام الله ثمَّ يحرفونه من بعد مَا عقلوه} أَي: فهموه (وهم يعلمُونَ) أَنه الْحق.

76

قَوْله تَعَالَى {وَإِذا لقوا الَّذين آمنُوا قَالُوا آمنا} أنزل فِي قوم من الْيَهُود آمنُوا فنافقوا. {وَإِذا خلا بَعضهم إِلَى بعض قَالُوا أتحدثونهم بِمَا فتح الله عَلَيْكُم} وَالْفَتْح بِمَعْنى الْقَضَاء. قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} أَي: قضينا لَك قَضَاء بَينا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول: تعال إِلَى الفتاح. وَفِي معنى الْآيَة ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم قَالُوا لأهل الْمَدِينَة حِين شاوروهم فِي اتِّبَاع مُحَمَّد: آمنُوا بِهِ فَإِنَّهُ حق. ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض: أتحدثونهم بِمَا فتح الله عَلَيْكُم ليَكُون لَهُم الْحجَّة عَلَيْكُم عِنْد ربكُم أَي: يأخذونكم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم أخبروهم بِمَا عذبهم الله بِهِ على الْجِنَايَات؛ فَقَالَ بَعضهم لبَعض: أتحدثونهم بِمَا فتح الله عَلَيْكُم من الْعَذَاب {ليحاجوكم بِهِ عِنْد ربكُم} ليروا الكرمة لأَنْفُسِهِمْ عَلَيْكُم الله. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن النَّبِي لما فتح خَيْبَر حاصر بني قُرَيْظَة قَالَ لَهُم: " يَا إخْوَة القردة والخنازير. فَقَالَ بَعضهم لبَعض: هَذِه الْكَلِمَة مَا خرجت إِلَّا مِنْكُم، يَعْنِي: أَنْتُم حدثتموه بذلك " {أَفلا تعقلون} .

77

قَوْله تَعَالَى: {أَو لَا يعلمُونَ أَن الله يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون} يَعْنِي: أَنه عَالم بِمَا اسروا (وأعلنوا) .

{وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني وَإِن هم إِلَّا يظنون (78) }

78

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ} الْأُمِّي: الَّذِي لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب. وَفِي اشتاقه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه من الْأُم، فالأمي بَاقٍ على مَا انْفَصل من الْأُم. وَالثَّانِي: من الْأمة 0 وَهِي الخليقة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (وَإِن مُعَاوِيَة الأكرمين ... حسان الْوُجُوه طوال الْأُمَم) يَعْنِي بني مُعَاوِيَة. وطوال الْأُمَم أَي الْخلق. فالأمي: بَاقٍ على مَا كَانَ عَلَيْهِ من أصل الْخلقَة. {لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: قَالَ مُجَاهِد: الْأَمَانِي الأكاذيب. وَمِنْه قَول عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ: مُنْذُ أسلمت مَا تمنيت وَلَا تَغَنَّيْت أَي: مَا كذبت. وَقَالَ ابْن دأب لرجل ذكر شَيْئا: هَذَا شَيْء رويته أم شَيْء تمنيته. أَي: اختلقته واخترعته من تلقائك. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه التِّلَاوَة، أَي: لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا التِّلَاوَة وَمثله وَقَوله: {إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} أَي: تِلَاوَته. وَقيل فِي عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ: (تمنى كتاب الله أول ليله ... [فياليته] مَا لَاقَى حمام المقادر) أَي: تَلا كتاب الله وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَ الْفراء وَالْكسَائِيّ: هُوَ من التَّمَنِّي، وَذَلِكَ هِيَ أمانيهم الْبَاطِلَة من قَوْلهم {لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة} وَمن قَوْلهم: {لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا

{فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا} من كَانَ هودا أَو نَصَارَى) وَمن قَوْلهم: {نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه} فعلى قَوْله هَذَا " إِلَّا " بِمَعْنى " لَكِن " يعْنى: لَا يعلمُونَ الْكتاب لَكِن يتمنون أَشْيَاء لَا تحصل لَهُم. {وَإِن هم إِلَّا يظنون} قَالَ مُجَاهِد: يكذبُون. وَلم يعرف أهل الْبَصْرَة الظَّن بِمَعْنى الْكَذِب؛ فَقَالُوا: مَعْنَاهُ: إِلَّا يخرصون.

79

قَوْله تَعَالَى: {فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم كَانُوا يَكْتُبُونَ من عِنْدهم أَشْيَاء، ثمَّ يَقُولُونَ للأعراب: هَذَا من عِنْد الله، يبتغونها مِنْهُم. وَقيل: أَرَادَ بِهِ مَا غيروا بِأَيْدِيهِم من نعت مُحَمَّد فِي التَّوْرَاة؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِيهَا أَنه أكحل أعين، ربعَة، سبط الشّعْر، فَكَتَبُوا فِيهَا أَنه أشقر، أَزْرَق طَوِيل الْقَامَة، جعد الشّعْر. {ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا فويل لَهُم مَا كتبت أَيْديهم} اخْتلفُوا فِي الويل؛ قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ ويروي ذَلِك مَرْفُوعا عَن النَّبِي أَيْضا " إِن الويل وَاد فِي جَهَنَّم يهوي فِيهِ الْكَافِر سبعين خَرِيفًا ". وَقَالَ عُثْمَان: هُوَ جبل من نَار. وأصل الويل: الْهَلَاك وَدُعَاء الْعَذَاب، فَإِن قيل: مَا

{لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة قل أتخذتم عِنْد الله عهدا فَلَنْ يخلف الله عَهده أم تَقولُونَ على الله مَا لَا تعلمُونَ (80) بلَى من كسب سَيِّئَة وأحاطت} معنى قَوْله: {مِمَّا كتبت أَيْديهم} والكتب لَا يكون إِلَّا بِالْيَدِ؟ قيل: ذكره مُبَالغَة فِي التَّحْقِيق. وَقيل: مَعْنَاهُ أَنهم كتبُوا بِأَنْفسِهِم اختراعا. {وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ} من الْمعاصِي.

80

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَة} اخْتلفُوا فِيهِ، مِنْهُم من قَالَ: أَرَادوا بِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عدد مَا عَبدنَا الْعجل. وَمِنْهُم من قَالَ: سَبْعَة أَيَّام. لِأَن مِقْدَار زمَان الْعَالم سَبْعَة آلَاف سنة فَقَالُوا: نعذب بِكُل ألف سنة يَوْمًا. وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا: سمعنَا أنبياءنا أَنهم قَالُوا: مَا بَين طرفِي جَهَنَّم مسيرَة أَرْبَعِينَ سنة فَنحْن نقطع فِي كل يَوْم مسيرَة سنة فَتبقى مسيرَة جَهَنَّم فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا وننجو مِنْهَا. {قل أتخذتم عِنْد الله عهدا فَلَنْ يخلف الله عَهده} مَعْنَاهُ: أَنِّي لكم بِهَذَا؛ قَول من الله؟ فَلَا يُخَالف قَوْله. قَوْله: {أم تَقولُونَ على الله مَالا تعلمُونَ} .

81

قَوْله تَعَالَى: {بلَى من كسب سَيِّئَة} " بلَى " تذكر فِي جَوَاب النَّفْي. " وَنعم " تذكر فِي جَوَاب الْإِيجَاب. قَالَ الله تَعَالَى: {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} . وَقَالَ: {ألم يأتكم رسل مِنْكُم يَتلون عَلَيْكُم آيَات ربكُم وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا بلَى} . وَقَالَ: {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم} . {بلَى من كسب سَيِّئَة} السَّيئَة: الشّرك. {وأحاطت بِهِ خطيئته} أَي: مَاتَ على الشّرك. وَقيل: أَرَادَ بِالسَّيِّئَةِ: الْكَبِيرَة. {وأحاطت بِهِ خطيئته} أَي: أصر عَلَيْهَا، وَمَات

{بِهِ خطيئته فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (81) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ (82) وَإِذ أَخذنَا مِيثَاق} غير تائب. وَقَالَ ابْن السراج النَّحْوِيّ: مَعْنَاهُ: انسدت عَلَيْهِ مسالك النجَاة. {فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} .

82

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ} إِلَى آخر الْآيَة، ظَاهر الْمَعْنى.

83

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله} قَرَأَ أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود: " لَا تعبدوا إِلَّا الله " على الْأَمر، وَالْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة " لَا تَعْبدُونَ ". وتقرأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء وَمَعْنَاهَا وَاحِد؛ فَإِن الْعَرَب قد تذكر المخاطبة فِي (مَوضِع) المغايبة، والمغايبة فِي مَوضِع المخاطبة. وَفِي هَذَا الْمِيثَاق عهد وَقسم، وَتَقْدِيره: وَالله لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله. {وبالوالدين إحسانا} أَي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وَالْإِحْسَان بهما الْبر والعطف والتحنن، وَالنُّزُول عِنْد أَمرهمَا فِيمَا لَا يُخَالف أَمر الله تَعَالَى. {وَذي الْقُرْبَى} أَي: أهل الْقرَابَات. {واليتامى} الْيَتِيم: اسْم لمن لَا أَب لَهُ من الْآدَمِيّين. وَلمن لَا أم لَهُ من الْبَهَائِم، وَهُوَ اسْم للْفَقِير مِنْهُم. وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " حفظت لكم عَن رَسُول الله سِتا: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، وَلَا عتاق فِي غير الْملك، وَلَا نذر فِي مَعْصِيّة الله، وَلَا يتم بعد الْحلم، وَلَا صمت يَوْم إِلَى اللَّيْل. وَلَا صَوْم وصال ". {وَالْمَسَاكِين} هم الْفُقَرَاء كَمَا سبق.

{بني إِسْرَائِيل لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله وبالوالدين إحسانا وَذي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَقُولُوا للنَّاس حسنا وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة ثمَّ توليتم إِلَّا قَلِيلا مِنْكُم وَأَنْتُم معرضون (83) وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم لَا تسفكون دماءكم وَلَا} {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} تقْرَأ بقراءتين حسنا وحسنا. وَتَقْدِيره: وَقُولُوا للنَّاس قولا حسنا، أَو وَقُولُوا للنَّاس قولا ذَا حسن. وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَة أَقْوَال، أَحدهَا: قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: القَوْل الْحسن هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه اللين فِي القَوْل، والمعاشرة بِحسن الْخلق. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه خطاب لأهل التَّوْرَاة يَعْنِي: وَقُولُوا للنَّاس صدقا فِي نعت مُحَمَّد فِي التَّوْرَاة. {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} سبق تَفْسِيره. {ثمَّ توليتم} أعرضتم {إِلَّا قَلِيلا مِنْكُم} وَذَلِكَ أَن فريقا مِنْهُم قد آمنُوا {وَأَنْتُم معرضون} كإعراض آبائكم.

84

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم لَا تسفكون دماءكم} أَي: لَا يسفك بَعْضكُم دِمَاء بعض. وَقيل: لَا تسفكوا دِمَاء غَيْركُمْ فتسفك دماؤكم؛ فكأنكم سفكتم دِمَاء أَنفسكُم. {وَلَا تخرجُونَ أَنفسكُم من دِيَاركُمْ} أَي: لَا يخرج بَعْضكُم بَعْضًا. وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تسيئوا جوَار من جاوركم؛ فتلجئوهم إِلَى الْخُرُوج؛ بِسوء الْجوَار. {ثمَّ أقررتم} أَي: قبلتم {وَأَنْتُم تَشْهَدُون} تعترفون بِالْقبُولِ.

85

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَنْتُم هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: يَا هَؤُلَاءِ {تقتلون أَنفسكُم} (بقتل) بَعْضكُم بَعْضًا.

{تخرجُونَ أَنفسكُم من دِيَاركُمْ ثمَّ أقررتم وَأَنْتُم تَشْهَدُون (84) ثمَّ أَنْتُم هَؤُلَاءِ تقتلون أَنفسكُم وتخرجون فريقا مِنْكُم من دِيَارهمْ تظاهرون عَلَيْهِم بالإثم} {وتخرجون فريقا مِنْكُم من دِيَاركُمْ تظاهرون} يقْرَأ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف وَأَصله: تتظاهرون. فأدغمت التَّاء فِي الظَّاء. فَصَارَ مشددا وَمَعْنَاهُ: تعاونون. {عَلَيْهِم بالإثم والعدوان} فالإثم والعدوان: الْمُبَالغَة فِي الظُّلم. وَقد روى: " أَن النواس بن سمْعَان سَأَلَ رَسُول الله مَا الْبر؟ فَقَالَ: مَا اطمأنت إِلَيْهِ نَفسك، قَالَ: مَا الْإِثْم؟ فَقَالَ: مَا حاك فِي صدرك ". قَوْله تَعَالَى {وَإِن يأتوكم أُسَارَى} يقْرَأ بقرائتين " أسرى، وأسارى " وَفرق أَبُو عَمْرو بَينهمَا فِي الْمَعْنى، فَقَالَ: الْأُسَارَى لمن كَانَ فِي الْيَد مَعَ الوثاق. والأسرى: لمن كَانَ فِي الْيَد من غير وثاق، وَلم يرْضوا مِنْهُ بِهَذَا الْفرق، وَالصَّحِيح: أَنَّهُمَا وَاحِد. {تفدوهم} و {تفادوهم} قراءتان. قيل: هما فِي الْمَعْنى وَاحِد، وَقيل: (تفادوهم) تقال فِي فدَاء الأسرى بالأسرى. وتفدوهم فِي الْفِدَاء بِالْمَالِ. {وَهُوَ محرم عَلَيْكُم إخراجهم} فِيهِ تَقْدِير وَتَأْخِير. وَتَقْدِيره: وتخرجون فريقا مِنْكُم من دِيَارهمْ؛ وَهُوَ محرم عَلَيْكُم إخراجهم؛ تظاهرون عَلَيْهِم بالإثم والعدوان. {أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض} لأَنهم خالفوا فِي الْبَعْض وامتثلوا فِي الْبَعْض.

{والعدوان وَإِن يأتوكم أُسَارَى تفادوهم وَهُوَ محرم عَلَيْكُم إخراجهم أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض فَمَا جَزَاء من يفعل ذَلِك مِنْكُم إِلَّا خزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم الْقِيَامَة يردون إِلَى أَشد الْعَذَاب وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} قَالَ السدى فِي كشف معنى الْآيَة: إِنَّهُم أمروا بأَرْبعَة أَشْيَاء: أَن لَا يقتل بَعضهم بَعْضًا. وَأَن لَا يخرج بَعضهم بَعْضًا. وَأَن لَا يتعاونوا على الْإِثْم والعدوان. وَأَن يفادوا الْأُسَارَى. فخالفوا فِي الثَّلَاث وامتثلوا فِي المفاداة. والقصة فِيهِ: أَن بني قُرَيْظَة كَانُوا حلفاء الْأَوْس، وَبَنُو النَّضِير كَانُوا حلفاء الْخَزْرَج وَكَانَت بَين القبيلتين مقاتلة، فَوَقَعت الْمُقَاتلَة بَين حلفاء القبيلتين، ثمَّ إِذا وَقع أَسِير من حلفاء إِحْدَى القبيلتين فِي يَد أُخْرَى القبيلتين فأداه حلفاء الْقَبِيلَة الْأُخْرَى، مَعَ كَون الْأَسير من عدوهم، فَإِذا قيل لَهُم: لم تفادون؟ قَالُوا: أمرنَا بالمفاداة. فَإِذا قيل لَهُم: لم تقاتلون؟ قَالُوا: نَحن حلفاؤهم فلابد لنا من الْقِتَال مَعَهم فَهَذَا معنى الْآيَة. وَقَوله تَعَالَى: {فَمَا جَزَاء من يفعل ذَلِك مِنْكُم إِلَّا خزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} يُقَال: خزي يخزى خزيا، من الذل والهوان. وخزي يخزي خزاية. من الخجل والاستحياء والافتضاح. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (وَالْمَوْت خزيان ينظر خزيان ... ) أَي: مستحي. {وَيَوْم الْقِيَامَة يردون إِلَى أَشد الْعَذَاب وَمَا الله بغافل عَمَّا تعلمُونَ} .

86

{أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة} اخْتَارُوا الدُّنْيَا على الْآخِرَة. {فَلَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب ولاهم ينْصرُونَ} يمْنَعُونَ الْعَذَاب.

87

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكتاب} التَّوْرَاة {وقفينا من بعده بالرسل} أتبعنا. أَي: يقفو رَسُول رَسُولا. {وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات} فِيهِ قَولَانِ؛ أَحدهمَا: أَنَّهَا المعجزات الَّتِي أُوتى

( {85) أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة فَلَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب ولاهم ينْصرُونَ (86) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس أفكلما جَاءَكُم رَسُول بِمَا} عِيسَى من إحْيَاء الْمَوْتَى، وإبراء الأكمه والأبرص، وَنَحْو ذَلِك. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا الْإِنْجِيل. {وأيدناه} قويناه من الأيد. وَهُوَ الْقُوَّة. {بِروح الْقُدس} اخْتلفُوا فِي الرّوح، قَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس أَنه أَرَادَ بِهِ جِبْرِيل. وَقيل: إِنَّه أَمر أَن يسير مَعَه حَيْثُ سَار حَتَّى صعد بِهِ إِلَى السَّمَاء. وَقيل: إِن الرّوح هُوَ الِاسْم الْأَعْظَم الَّذِي كَانَ يحيى بِهِ الْمَوْتَى. وَقيل هُوَ الْإِنْجِيل. وَإِنَّمَا سمى روحا؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَببا لحياة الْقُلُوب؛ وَلذَلِك سمى الْقُرْآن روحا. وسمى عِيسَى روحا؛ لِأَنَّهُ حصل بتكوين الله من غير توليد وَالِد. وَأما جِبْرِيل: فَإِنَّمَا سمى روحا؛ للطافته، أَو لمكانه من الْوَحْي الَّذِي هُوَ سَبَب لحياة الْقُلُوب. وَأما الْقُدس: قيل: إِنَّه نعت جِبْرِيل. وأصل الْقُدس: الطَّهَارَة. وَمِنْه القدوس: وَهُوَ الطَّهَارَة. وَالْأَرْض المقدسة: المطهرة؛ وَإِنَّمَا وصف جِبْرِيل بالقدس لِأَنَّهُ لم يقترف ذَنبا قطّ. وَكَانَ طَاهِرا من الذُّنُوب. وَقيل: الْقُدس هُوَ الله تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {أفكلما جَاءَكُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أَنفسكُم} لَا تُرِيدُ قُلُوبكُمْ {استكبرتم} أنفتم وتعظمتم {ففريقا كَذبْتُمْ وفريقا تقتلون} . فالمكذبون: مثل عِيسَى وَمُحَمّد. والمقتولون: مثل زَكَرِيَّا وَيحيى صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ.

88

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبنَا غلف} قَرَأَ ابْن عَبَّاس: غلف بِضَم اللَّام، وَهُوَ قِرَاءَة الْأَعْرَج وَابْن مَحِيض؛ وَهُوَ من الشواذ.

{لَا تهوى أَنفسكُم استكبرتم ففريقا كَذبْتُمْ وفريقا تقتلون (87) وَقَالُوا قُلُوبنَا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا مَا يُؤمنُونَ (88) وَلما جَاءَهُم كتاب} وَالْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة بجزم اللَّام، وهم جمع الأغلف، وَمَعْنَاهُ: قُلُوبنَا فِي أوعية مِمَّا تَقول لَا نفهم شَيْئا من ذَلِك وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة} . وَأما الغلف: بِضَم اللَّام: جمع الغلاف. وَمَعْنَاهُ: قُلُوبنَا أوعية الْعلم، وَلَيْسَ فِيهَا مِمَّا تَقول شَيْء. أَي: مَا تَقوله فَلَيْسَ بِشَيْء. {بل لعنهم الله بكفرهم} طردهم الله عَن الْفَهم وَالرَّحْمَة. وأصل اللَّعْن: الطَّرْد والأبعاد وَقَالَ الشَّاعِر: (ذغرق بِهِ القطا ونفيت عَنهُ ... مقَام الذِّئْب كَالرّجلِ اللعين) أَي: مقَام الذِّئْب اللعين، يَعْنِي: المطرود. (فقليلا مَا تؤمنون) قيل: أَرَادَ بِهِ الْمُشْركين وَمَعْنَاهُ: قَلِيل إِيمَانهم وَالْمرَاد [بِهِ] إِيمَانهم بِأَن الله خالقهم وخالق السَّمَاوَات وَالْأَرْض. وَقيل: أَرَادَ بِهِ أهل الْكتاب؛ لِأَن الَّذين آمنُوا مِنْهُم أقل من الَّذين آمنُوا من الْمُشْركين. وَقيل: مَعْنَاهُ: فَلَا يُؤمنُونَ أصلا. وَحكى الْكسَائي عَن الْعَرَب: قل مَا تنْبت هَذِه الأَرْض إِلَّا الكراث والبصل. أَي: لَا تنْبت إِلَّا الكراث والبصل.

89

قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَهُم كتاب من عِنْد الله} يعْنى الْقُرْآن. {مُصدق لما مَعَهم} من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. {وَكَانُوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفرُوا} يستنصرون؛ وَمِنْه قَول الشَّاعِر:

{من عِنْد الله مُصدق لما مَعَهم وَكَانُوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين (89) بئْسَمَا اشْتَروا بِهِ} (أَلا أبلغ بني عصم رَسُولا ... فَإِنِّي عَن قباحتكم غنى) أَي: عَن نصرتكم. وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ يستفتح بصعاليك الْمُهَاجِرين ". أَي يستنصر بهم فِي الدُّعَاء للغزوات. وَمعنى الْآيَة: أَن الْمُشْركين من قبل كَانُوا يُؤْذونَ الْيَهُود فَرُبمَا تكون الْغَلَبَة لَهُم على الْيَهُود فِي الْقِتَال؛ فَقَالَت الْيَهُود -: اللَّهُمَّ انصرنا بِالنَّبِيِّ الْأُمِّي الَّذِي تبعثه فِي آخر الزَّمَان، فَكَانُوا ينْصرُونَ بِهِ، فَلَمَّا بعث كفرُوا بِهِ. فَهَذَا معنى قَوْله {وَكَانُوا من قبل يستفتحون على الَّذين كفرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين} .

90

قَوْله تَعَالَى: {بئْسَمَا اشْتَروا} بئس: اسْم مستوف لكل ذمّ. وَنعم: اسْم مستوف لكل حمد. {اشْتَروا بِهِ أنفسهم} اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ {أَن يكفروا بِمَا أنزل الله} من الْقُرْآن (بغيا) حسدا. وَالْبَغي: الظُّلم. وَأَصله الطّلب؛ فالباغي طَالب للظلم. والحاسد: ظَالِم لِأَنَّهُ يُرِيد زَوَال النِّعْمَة عَن الْمَحْسُود من غير جِنَايَة مِنْهُ. {أَن ينزل الله من فَضله} من النُّبُوَّة: {على من يَشَاء من عباده} من الْأَنْبِيَاء. {فباءوا} أَي: رجعُوا {بغضب على غضب} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْغَضَب الأول عبَادَة الْعجل. وَالْغَضَب الثَّانِي الْكفْر بِمُحَمد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْغَضَب الأول تَكْذِيب عِيسَى. وَالْغَضَب الثَّانِي تَكْذِيب مُحَمَّد. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْغَضَب الأول الْكفْر بالإنجيل. وَالْغَضَب الثَّانِي الْكفْر بِالْقُرْآنِ. {وللكافرين عَذَاب مهين} أَي: مخز.

{أنفسهم أَن يكفروا بِمَا أنزل الله بغيا أَن ينزل الله من فَضله على من يَشَاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عَذَاب مهين (90) وَإِذا قيل لَهُم آمنُوا بِمَا أنزل الله قَالُوا نؤمن بِمَا أنزل علينا ويكفرون بِمَا وَرَاءه وَهُوَ الْحق}

91

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم آمنُوا بِمَا أنزل الله} من الْقُرْآن. {قَالُوا نؤمن بِمَا أنزل علينا} يكفينا مَا أنزل علينا من التَّوْرَاة. {ويكفرون بِمَا وَرَاءه} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بِمَا بعده. قَالَ الْفراء: بِمَا سواهُ من الْكتب. وَهُوَ الْأَصَح. {وَهُوَ الْحق} يَعْنِي: الْقُرْآن {مُصدقا لما مَعَهم} من التَّوْرَاة. {قل فَلم تقتلون أَنْبيَاء الله من قبل إِن كُنْتُم مُؤمنين} فَإِن قَالَ قَائِل: الْقَتْل كَانَ من آبَائِهِم فَكيف خَاطب الْأَبْنَاء بِهِ؟ الْجَواب قُلْنَا: قتل الْأَنْبِيَاء وَإِن وجد من الْآبَاء لَكِن الْأَبْنَاء رَضوا بِهِ، ووالوهم عَلَيْهِ؛ فَلهَذَا خَاطب الْأَبْنَاء بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {فَلم تقتلون أَنْبيَاء الله من قبل} على صِيغَة الِاسْتِقْبَال، فَكَانَ اللَّائِق بِالْحَال أَن يَقُول فَلم قُلْتُمْ؟ وَأما قَوْله: {فَلم تقتلون} مَعْنَاهُ: فَلم قتلتم، لَكِن الْعَرَب قد تضع الْمَاضِي فِي مَوضِع الْمُسْتَقْبل، والمستقبل فِي مَوضِع الْمَاضِي، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله: {من قبل إِن كُنْتُم مُؤمنين} يَعْنِي فِي زعمكم. وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا كُنْتُم مُؤمنين على النَّفْي. كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل إِن كَانَ للرحمن ولد} أَي: مَا كَانَ للرحمن ولد. وَفِيه قَول آخر سَيَأْتِي.

92

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جَاءَكُم مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بالمعجزات. {ثمَّ اتخذتم الْعجل من بعده} فِي الْهَاء قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه عَائِد إِلَى مُوسَى وَالثَّانِي: عَائِد إِلَى الْمَجِيء. {وَأَنْتُم ظَالِمُونَ} بذلك.

93

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة} قد ذَكرْنَاهُ. {واسمعوا} واقبلوا {قَالُوا سمعنَا وعصينا} يَعْنِي: سمعنَا بالآذان

{مُصدقا لما مَعَهم قل فَلم تقتلون أَنْبيَاء الله من قبل إِن كُنْتُم مُؤمنين (91) وَلَقَد جَاءَكُم مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثمَّ اتخذتم الْعجل من بعده وَأَنْتُم ظَالِمُونَ (92) وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واسمعوا قَالُوا} وعصينا بالقلوب. وَقيل: إِنَّهُم لما سمعُوا وخالفوا بِالْعَمَلِ؛ فكأنهم قَالُوا: سمعنَا وعصينا. وَإِن لم يَقُولُوا ذَلِك وَمثله قَول الشَّاعِر: (امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا رويدا قد مَلَأت بَطْني) فَقدر القَوْل من الْحَوْض وَإِن لم يقل شَيْئا. {وأشربوا} أَي: خلطوا، وَمِنْه فلَان مشرب اللَّوْن إِذا اخْتَلَط بياضه بالحمرة. {فِي قُلُوبهم الْعجل} أَي: حب الْعجل. فَحذف الْمُضَاف، وَاكْتفى بالمضاف إِلَيْهِ، وَمثله قَول الشَّاعِر: (وَكَيف تواصل من أَصبَحت ... خلالته كَأبي مرحب) أَي كخلالة أبي مرحب. وَفِي الْقَصَص: أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ أَمر أَن يبرد الْعجل بالمبرد، ثمَّ أَمر أَن يذر فِي النَّهر، وَأمرهمْ بالشرب مِنْهُ، فَكل من بَقِي فِي قلبه شَيْء من حب الْعجل ظَهرت سحالة الذَّهَب على شَاربه. {قل بئْسَمَا يَأْمُركُمْ بِهِ إيمَانكُمْ} أَي: بئس إِيمَان يَأْمر بِهَذَا. {إِن كُنْتُم مُؤمنين} .

94

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن كَانَت لكم الدَّار الْآخِرَة عِنْد الله خَالِصَة من دون النَّاس} لأَنهم قَالُوا: لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى؛ فعيرهم بذلك. {فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} لِأَن من علم بِدُخُول الْجنَّة إِذا مَاتَ يتَمَنَّى الْمَوْت وَلَا يشق عَلَيْهِ أَن يَمُوت.

95

قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم} أخبر أَنهم لن يتمنوا ذَلِك،

{سمعنَا وعصينا وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم قل بئْسَمَا يَأْمُركُمْ بِهِ إيمَانكُمْ إِن كُنْتُم مُؤمنين (93) قل إِن كَانَت لكم الدَّار الْآخِرَة عِنْد الله خَالِصَة من دون النَّاس فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين (94) وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا بِمَا} كَأَن الله صرفهم عَن تمني الْمَوْت؛ تَصْدِيقًا للرسول، وتحقيقا لمعجزته، إِذْ كَانَ يُمكن أَن يتَمَنَّى بَعضهم ذَلِك تَكْذِيبًا للرسول. وَفِي الْخَبَر قَالَ: " لَو تمنوا ذَلِك لأخذهم الْمَوْت فِي الْحَال ". {وَالله عليم بالظالمين} مِنْهُم.

96

قَوْله: {ولتجدنهم أحرص النَّاس على حَيَاة} يَعْنِي الْيَهُود. {وَمن الَّذين أشركوا} أَي: وأحرص من الَّذين أشركوا. وَهُوَ مثل قَوْلهم: " فلَان أسخى النَّاس وَمن هرم " أَي: وأسخى من هرم. يُرِيدُونَ بِهِ هرم بن سِنَان. كَانَ رجلا مَعْرُوفا بالسخاوة، وَله شَاعِر يُقَال لَهُ: " زُهَيْر بن أبي سلمى ". وَالْمرَاد بالذين أشركوا هَا هُنَا: الْمَجُوس وَذَلِكَ أَنهم يَقُول بَعضهم لبَعض: عش ألف سنة " بزء هزا رسال " فَأخْبر الله تَعَالَى أَن الْيَهُود أحرص النَّاس على حب الْحَيَاة وَمن الْمَجُوس الَّذين يَقُولُونَ ذَلِك. {يود أحدهم لَو يعمر ألف سنة} كَمَا وَصفنَا {وَمَا هُوَ بمزحزحه} بمبعده {من الْعَذَاب أَن يعمر} يَعْنِي لَا يبعدهم طول الْعُمر من الْعَذَاب. {وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

97

قَوْله تَعَالَى: {قل من كَانَ عدوا لجبريل} فِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ:

{قدمت أَيْديهم وَالله عليم بالظالمين (95) ولتجدنهم أحرص النَّاس على حَيَاة وَمن الَّذين أشركوا يود أحدهم لَو يعمر ألف سنة وَمَا هُوَ بمزحزحه من الْعَذَاب أَن يعمر وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ (96) قل من كَانَ عدوا لجبريل فَإِنَّهُ} أَحدهمَا: أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ للْيَهُود: أنْشدكُمْ بالرحمن الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى هَل تَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي كتابكُمْ؟ فَسَكَتُوا. ثمَّ عاودهم ثَانِيًا، فَقَالُوا: نعم. قَالَ عمر: فَلم لم تؤمنوا بِهِ؟ قَالُوا: لِأَنَّهُ ينزل عَلَيْهِ جِبْرِيل؛ وَهُوَ عدونا؛ وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْعَذَابِ، وَلَو نزل عَلَيْهِ مِيكَائِيل لآمَنَّا بِهِ. فَقَالَ عمر: أشهد أَن من كَانَ عدوا لجبريل فَهُوَ عَدو لميكائيل، وَمن كَانَ عدوا لَهما فَالله عَدو لَهُ، فَنزلت الْآيَة على وفْق قَول عمر. وَقد روى عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " وَافَقت رَبِّي فِي ثَلَاث ". ويروى: وَافقنِي رَبِّي فِي ثَلَاث ". أَحدهَا: هَذَا وَالثَّانِي: آيَة الْحجاب؛ وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} . وَالثَّالِثَة: الصَّلَاة خلف مقَام إِبْرَاهِيم، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} . وَالْقَوْل الثَّانِي: فِي سَبَب نزُول الْآيَة: {أَن ابْن صوريا الْأَعْوَر وَكَانَ أعلم الْيَهُود أَتَى النَّبِي وَقَالَ: إِنِّي سَائِلك مسَائِل لَا يعرفهَا إِلَّا نَبِي، فَإِن أجبتني عرفتك صَادِقا. فَقَالَ: سل. قَالَ ابْن صوريا: مَا عَلامَة النَّبِي؟ قَالَ: أَن تنام عَيناهُ وَلَا ينَام قلبه. قَالَ: صدقت. ثمَّ قَالَ: كَيفَ خلق الْوَلَد من الماءين؟ قَالَ: إِذا علا مَاء الرجل مَاء الْمَرْأَة أذكر بِإِذن الله، وَإِذا علا مَاء الْمَرْأَة مَاء الرجل أنث بِإِذن الله. وَقَالَ: وَمن ينزل عَلَيْك من الْمَلَائِكَة؟ قَالَ جِبْرِيل فَقَالَ: لَو نزل عَلَيْك مِيكَائِيل لآمَنَّا

{نزله على قَلْبك بِإِذن الله مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ وَهدى وبشرى للْمُؤْمِنين (97) من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ} بك؛ فَإِنَّهُ عدونا فَنزل قَوْله تَعَالَى {قل من كَانَ عدوا لجبريل} . (وَفِيه أَربع قراءات: " جِبْرِيل " على الْكسر واللين، " وَجِبْرِيل " على الْفَتْح واللين، " وَجِبْرِيل " على الْفَتْح والهمزة والإشباع " وجبرئيل " على الْفَتْح والهمز من غير إشباع. و" جبر " بِمَعْنى العَبْد، و " ئيل " اسْم الله، وَكَذَلِكَ مِيكَائِيل، وَمَعْنَاهُ: " عبد الله "، أَو " عبد الرَّحْمَن ". كَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْحسن بن عَليّ. فجبريل على وزن قنديل وبرطيل وزنبيل، وجبرئيل على وزن عندليب، وَجِبْرِيل لَا مِثَال لَهُ. {فَإِنَّهُ نزله على قَلْبك} يَعْنِي: قلب مُحَمَّد {بِإِذن الله مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ} من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {وَهدى وبشرى للْمُؤْمِنين} .

98

قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل. [وميكال] فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ} . هَذَا الَّذِي نزل على وفْق قَول عمر رَضِي الله عَنهُ وَقَوله: {وَجِبْرِيل و (ميكال} ) وَإِن دخل فِي جملَة الْمَلَائِكَة الرُّسُل؛ لَكِن خصهما بِالذكر تَشْرِيفًا.

99

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْك آيَات بَيِّنَات} يَعْنِي الْقُرْآن وآياته. {وَمَا يكفر بهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} أَي: الْكَافِرُونَ.

100

قَوْله تَعَالَى: {أَو كلما عَاهَدُوا عهدا نبذه فريق مِنْهُم} قيل: أَرَادَ بِهِ الْعَهْد الَّذِي

{وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْك آيَات بَيِّنَات وَمَا يكفر بهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَو كلما عَاهَدُوا عهدا نبذه فريق مِنْهُم بل أَكْثَرهم لَا يُؤمنُونَ (100) وَلما جَاءَهُم رَسُول من عِنْد الله مُصدق لما مَعَهم نبذ فريق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب كتاب} أَخذه الله على الْيَهُود أَن يُؤمنُوا بِمُحَمد؛ فخالفوا ونبذوا. وَقيل: هُوَ الْعَهْد الَّذِي أَخذه رَسُول الله على بني قُرَيْظَة وَالنضير أَن لَا يعاونوا الْمُشْركين على قِتَاله. فخالفوا ونبذوا. والنبذ. الطرح، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (نظرت إِلَى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا) {بل أَكْثَرهم لَا يُؤمنُونَ} وَقد آمن قَلِيل مِنْهُم.

101

قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَهُم رَسُول من عِنْد الله} يَعْنِي: مُحَمَّدًا. {مُصدق لما مَعَهم} من الْكتب {نبذ فريق من الَّذين أَتَوا الْكتاب كتاب الله وَرَاء ظُهُورهمْ} أَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة. قَالَ الشّعبِيّ: كَانُوا يقرءُون التَّوْرَاة وَلَا يعْملُونَ بهَا. فَكَذَلِك نبذهم. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: أدرجوها فِي الْحَرِير والديباج، وَحلوهَا بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، ثمَّ لم يعملوا بهَا، فهم نابذون. وَقيل: أَرَادَ بِالْكتاب الْقُرْآن {كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ} أَي: لما خالفوا مَا علمُوا كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ.

102

قَوْله تَعَالَى: {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين} يَعْنِي: الْيَهُود {مَا تتلوا الشَّيَاطِين} أَي: مَا تلت، مُسْتَقْبل بِمَعْنى الْمَاضِي. قَالَ الحطيئة: (شهد الحطيئة حِين يلقِي ربه ... أَن الْوَلِيد أَحَق بالغدر) يَعْنِي: يشْهد. وَمعنى قَوْله: {تتلوا} أَي: تحكي وتقص {على ملك سُلَيْمَان} على عهد

{الله وَرَاء ظُهُورهمْ كَأَنَّهُمْ لَا يعلمُونَ (101) وَاتبعُوا مَا تتلو الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان وَمَا كفر سُلَيْمَان وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا يعلمُونَ النَّاس السحر وَمَا} ملك سُلَيْمَان. وَقيل: فِي ملك سُلَيْمَان. والقصة فِي ذَلِك: مَا روى أَن فِي زمن سُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَت سحرة، وَلَهُم فِي ذَلِك كتب، فَانْتزع سلمَان كتب السحر من أَيْديهم ودفنها فِي صندوق تَحت كرسيه، فَلَمَّا توفّي قَالَت الشَّيَاطِين للإنس: أَلا ندلكم على كنز كَانَ سُلَيْمَان يفعل بِهِ مَا كَانَ: فَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْكتب. وَقَالَ الْجُهَّال مِنْهُم: بِهِ كَانَ يفعل سُلَيْمَان مَا يفعل. وَقيل: لما لم نزع الله الْملك من سُلَيْمَان، كتب الشَّيَاطِين كتب السحر، وَدَفَنُوهَا تَحت الْكُرْسِيّ، فَلَمَّا رد الله الْملك إِلَيْهِ. بَقِي ذَلِك السحر مَدْفُونا كَمَا كَانَ، فَلَمَّا توفّي سُلَيْمَان اسْتخْرجُوا تِلْكَ الْكتب وَقَالُوا إِن سُلَيْمَان كَانَ يفعل بِهِ مَا يفعل. وَقيل: إِن الشَّيْطَان تمثل فِي صُورَة النَّبِي وَقَالَ لَهُم ذَلِك. وَقيل: إِنَّه وسوس إِلَيْهِ ذَلِك، فَهَذَا الَّذِي تلت الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان. {وَمَا كفر سُلَيْمَان} أَي: وَمَا سحر سُلَيْمَان. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْكفْر الْمَعْهُود. {وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا} يقْرَأ مخففا ومشددا فَإِذا شدد عمل فِي نصب الشَّيَاطِين. وَإِذا خفف بَقِي على الرّفْع {كفرُوا} سحروا. وَيحْتَمل الْكفْر الْمَعْهُود {يعلمُونَ النَّاس السحر} وَالسحر فِي اللُّغَة عبارَة عَن تمويهات وتخييلات وخدع، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: {أرانا موضِعين (لحتم} غيب ... ونسحر بِالطَّعَامِ وبالشراب) أَي: نخدع. وَقَالَ الْفراء: السحر: قَول يَقُوله إِنْسَان يَأْخُذ بِهِ الرجل عَن امْرَأَته.

{أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل هاروت وماروت وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا} وَحكى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: السحر يحِيل ويمرض وَقد يقتل. وَالسحر يتَحَقَّق وجوده على مَذْهَب أهل السّنة ويؤثر، وَلَكِن الْعَمَل بِهِ كفر، وتأثيره مَا ذكرنَا، وَقيل: إِنَّه يُؤثر فِي قلب الْأَعْيَان؛ فَيجْعَل الآدمى على صُورَة الْحمار، وَالْحمار على صُورَة الْكَلْب. وَالأَصَح أَنه يخيل ذَلِك كَمَا بَينا. وَقد سحر رَسُول الله فأثر فِيهِ؛ روى: " أَن لبيد بن أعصم الْيَهُودِيّ سحر النَّبِي حَتَّى كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَنه يفعل الشَّيْء وَلَا يَفْعَله، فأطلعه الله عَلَيْهِ، فَأمر بِهِ فاستخرج مِنْهُ بِئْر ذِي [أروان] وَكَانَ عَلَيْهِ إِحْدَى عشرَة عقدَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ المعوذتين؛ إِحْدَى عشرَة آيَة، فَكلما قَرَأَ آيَة انْحَلَّت عقدَة، حَتَّى إِذا انْحَلَّت العقد فَكَأَنَّمَا أنشط من عقال ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ} قرىء على النَّفْي وَهُوَ محكي عَن عَطِيَّة بن عَوْف، فعلى هَذَا فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، تَقْدِيره: وَمَا كفر سُلَيْمَان، وَمَا أنزل على الْملكَيْنِ بِبَابِل هاروت وماروت وَلَكِن الشَّيَاطِين كفرُوا، يعلمُونَ النَّاس السحر، وَمَا يعلمَانِ من أحد وَهَذَا قَول غَرِيب. وَالصَّحِيح: أَن " مَا " بِمَعْنى " الَّذِي "، يَعْنِي: وَالَّذِي أنزل على الْملكَيْنِ. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس على " الْملكَيْنِ " بِكَسْر اللَّام وَهُوَ فِي الشواذ. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هما كَانَا علجين من علوج بابل، وَلم يَكُونَا ملكَيْنِ. وَالصَّحِيح أَنَّهُمَا كَانَا ملكَيْنِ وَهُوَ الْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة. والقصة فِي ذَلِك مَا حكى ابْن عمر عَن كَعْب الْأَحْبَار؛ وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي رَبَاح، وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين قَالُوا: إِن الْمَلَائِكَة تعجبوا من كَثْرَة معاصي بني آدم، فَقَالَ

{نَحن فتْنَة فَلَا تكفر فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه وَمَا هم} لَهُم الله تَعَالَى: لَو أنزلتكم إِلَى الأَرْض. وَركبت فيهم مَا ركبت فِيكُم؛ لفعلتم مثل مَا فعلوا. فَاخْتَارُوا من خيارهم ملكَيْنِ؛ هاروت وماروت؛ فأنزلهما الله تَعَالَى إِلَى الأَرْض، وَأخذ عَلَيْهِمَا أَن أَلا يشركا وَلَا يقتلا، وَلَا يزنيا. قَالَ كَعْب: فَمَا مضى عَلَيْهِمَا الْيَوْم إِلَّا (وفعلا) الْكل. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُزنِيّ بهَا كَانَت زهرَة؛ فمسخت شهابا، وَرفعت إِلَى السَّمَاء، فَكَانَ ابْن عمر كلما رَآهَا لعنها. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهُمَا لما ارتكبا ذَلِك خيرهما الله تَعَالَى بَين عَذَاب الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة؛ فاختارا عَذَاب الدُّنْيَا؛ فعلقا بِأَرْجُلِهِمَا. قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح رؤوسهما [مطوية] تَحت أجنحتهما. وَأما بابل: قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ أَرض الْكُوفَة. وَقيل: هُوَ جبل دماوند. وَقيل: هُوَ من نَصِيبين إِلَى رَأس الْعين. وَإِنَّمَا سمي بابل لِأَنَّهُ تبلبلت فِيهِ الألسن. أَي: تَفَرَّقت وانتشرت فِي الْبِلَاد. {وَمَا يعلمَانِ من أحد حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحن فتْنَة فَلَا تكفر} والفتنة: الِابْتِلَاء. وَمِنْه يُقَال: فتنت الذَّهَب فِي النَّار. أَي: اختبرته، ليتبين الْجيد من الرَّدِيء. فَإِن قيل: مَا معنى إِنْزَال السحر على الْملكَيْنِ، وَمَا معنى تَعْلِيم السحر من الْملكَيْنِ، وَكِلَاهُمَا مستبعد؟ ! قيل: أما إِنْزَال السحر: بِمَعْنى التَّعْلِيم والإلهام يَعْنِي علما وألهما السحر. وَقيل: هُوَ حَقِيقَة الْإِنْزَال، وَهُوَ إِنْزَال هَيْئَة السحر وكيفيته؛ لِيَنْتَهُوا عَنهُ، وَأما تَعْلِيم السحر من الْملكَيْنِ: بِمَعْنى الْإِعْلَام. وَمثله قَول الشَّاعِر:

{بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق ولبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم لَو كَانُوا} (تعلم أَن بعد [الغي رشدا] ... وَأَن لهَذِهِ الغبر انقشاعا) يعْنى: اعْلَم. وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة التَّعْلِيم، ثمَّ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا يعلمَانِ كَيْفيَّة السحر لِيَنْتَهُوا) عَنهُ كَانَ الرجل يأتيهما فَيَقُول: مَا الَّذِي نهى الله عَنهُ؟ فَيَقُولَانِ: الشّرك. فَيَقُول: وَمَا الشّرك؟ فَيَقُولَانِ: كَذَا وَكَذَا. ويأتيهما آخر فَيَقُول: مَا الَّذِي نهى الله عَنهُ؟ فَيَقُولَانِ: السحر. فَيَقُول: وَمَا السحر [فيعلمانه] كَيْفيَّة السحر لينتهي عَنهُ، وَكَذَا فِي كل الْمعاصِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه تَعْلِيم ابتلاء، سلطهما الله على تَعْلِيم السحر ابتلاء للنَّاس حَتَّى أَن كل من تعلم واعتقد وَعمل بِهِ كفر وَمن لم يتَعَلَّم وَلم يعْمل بِهِ؛ لم يكفر. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نَحن فتْنَة} أَي: بلية {فَلَا تكفر} أَي: لَا تتعلم السحر. فتعمل بِهِ؛ فتكفر. وَقَوله تَعَالَى: {فيتعلمون مِنْهُمَا مَا يفرقون بِهِ بَين الْمَرْء وزوجه} يَعْنِي السحر الَّذِي يُؤْخَذ بِهِ الرجل عَن امْرَأَته كَمَا وَصفنَا. {وَمَا هم بضارين بِهِ من أحد إِلَّا بِإِذن الله} مَعْنَاهُ: إِلَّا بتكوين الله، فالساحر يسحر، وَالله يكون. قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: مَعْنَاهُ: إِلَّا بِقَضَاء الله وَقدره. {ويتعلمون مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ} يَعْنِي: السحر يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ. (وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ) اخْتَارَهُ {مَاله فِي الْآخِرَة من خلاق} من نصيب.

(يعلمُونَ (102) وَلَو أَنهم آمنُوا وَاتَّقوا لمثوبة من عِنْد الله خير لَو كَانُوا يعلمُونَ (103) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَقولُوا رَاعنا وَقُولُوا انظرنا واسمعوا وللكافرين) {ولبئس مَا شروا بِهِ أنفسهم لَو كَانُوا يعلمُونَ} بئس اخْتِيَار اختاروه لأَنْفُسِهِمْ. فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد قَالَ: {وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَاله فِي الْآخِرَة من خلاق} فَمَا معنى قَوْله: {لَو كَانُوا يعلمُونَ} وَقد أخبر أَنهم قد علمُوا؟ قيل: أَرَادَ بقوله: {وَلَقَد علمُوا} الشَّيَاطِين. وَبِقَوْلِهِ: {لَو كَانُوا يعلمُونَ} الْيَهُود. وَقيل: كِلَاهُمَا فِي الْيَهُود؛ لكِنهمْ لما لم يعملوا بِمَا علمُوا؛ فكأنهم لم يعلمُوا.

103

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَنهم آمنُوا وَاتَّقوا} آمنُوا بك يَا مُحَمَّد {وَاتَّقوا} الْكفْر وَالسحر {لمثوبة} لثواب {من عِنْد الله خير لَو كَانُوا يعلمُونَ} .

104

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَقولُوا رَاعنا} . مَعْنَاهُ: أرعنا سَمعك واسمع منا وَحَقِيقَته (فرغ) سَمعك لكلامنا. {وَقُولُوا أنظرنا} أَي: انتظرنا، وَقيل: انْظُر إِلَيْنَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " أنظرنا " أَي: أمهلنا. وَقَالَ الشَّاعِر: {أَبَا هِنْد فَلَا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا} أَي: أمهلنا. {واسمعوا} أَي: أطِيعُوا. {وللكافرين عَذَاب أَلِيم} أَي: عَذَاب مؤلم. وَفِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الصَّحَابَة كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي: " رَاعنا " ويريدون بِهِ مَا ذكرنَا، فَسَمعهُ الْيَهُود. وَكَانَ ذَلِك عِنْدهم سبا وَهُوَ بِمَعْنى يَا أَحمَق. وَقد قَرَأَ الْأَعْمَش: " رَاعنا " منونا، وَقَرَأَ الْحسن: " راعونا " وهما لُغَتَانِ من الرعونة،

{عَذَاب أَلِيم (104) مَا يود الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَلَا الْمُشْركين أَن ينزل عَلَيْكُم من خير من ربكُم وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل} فَلَمَّا سَمعه الْيَهُود فرحوا بِهِ؛ حَيْثُ رَأَوْهُمْ يَسُبُّونَهُ وَلَا يعلمُونَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك للنَّبِي مُوَافقَة للْمُسلمين فِي الظَّاهِر، وَيضْحَكُونَ فِيمَا بَينهم، إِنَّا نسبه وهم لَا يعلمُونَ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {لَا تَقولُوا رَاعنا وَقُولُوا أنظرنا} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْلهم " رَاعنا " كَانَ فِيهِ جفوة وخشونة؛ لِأَن حَقِيقَته فرغ سَمعك لكلامنا حَتَّى تفهم، وَفِي هَذَا نوع جفَاء؛ فَنزل قَوْله: {لَا تَقولُوا رَاعنا وَقُولُوا انظرنا} حَتَّى يَقُولُوا مَا يَقُولُوا على طَرِيق التبجيل وَالْمَسْأَلَة. ويختاروا من الْأَلْفَاظ أحْسنهَا وَمن الْمعَانِي أحكمها.

105

قَوْله تَعَالَى: {مَا يود الَّذين كفرُوا} أَي: مَا يحب، والود: الْحبّ. وَمعنى الْآيَة: أَن الْأَنْبِيَاء قبله بعثوا من ولد إِسْحَاق، فَلَمَّا بعث النَّبِي من ولد إِسْمَاعِيل؛ لم يَقع ذَلِك بود الْيَهُود ومحبتهم. وَأما الْمُشْركُونَ فَإِنَّمَا لم تقع نبوته بودهم، لِأَنَّهُ جَاءَ بتضليلهم، وعيب آلِهَتهم، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {مَا يود الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَلَا الْمُشْركين أَن ينزل عَلَيْكُم} يَعْنِي عَلَيْك يَا مُحَمَّد. ذكر الْوَاحِد بخطاب الْجمع على مَا هُوَ عَادَة الْعَرَب {من خير من ربكُم} يَعْنِي النُّبُوَّة. {وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس وَأكْثر الْمُفَسّرين: الرَّحْمَة بِمَعْنى النُّبُوَّة هَاهُنَا. وَقيل: بِمَعْنى الْإِسْلَام. وَالْهِدَايَة إِلَيْهِ. {وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} الْفضل [ابْتِدَاء] إِحْسَان بِلَا عِلّة.

106

قَوْله تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة} قَرَأَ ابْن عَامر " مَا ننسخ " بِضَم النُّون وَكسر السِّين وَمَعْنَاهُ مَا تَجدهُ مَنْسُوخا وَهُوَ مثل قَوْلهم: أحمدت فلَانا. أَي: وجدته مَحْمُودًا، وأبخلت فلَانا. أَي. وجدته بَخِيلًا. الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة {مَا ننسخ} على الْفَتْح.

{الْعَظِيم (105) مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا ألم تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير (106) } والنسخ فِي اللُّغَة: رفع الشَّيْء وَإِقَامَة غَيره مقَامه. يُقَال: نسخت الشَّمْس الظل. أَي رفعته وأقامت الضياء مقَامه. وَقد يكون بِمَعْنى رفع الشَّيْء من غير إِقَامَة غَيره مقَامه. يُقَال: نسخت الرِّيَاح الْآثَار إِذا رفعتها من أَصْلهَا من غير شَيْء يقوم مقَامهَا. والنسخ جَائِز فِي الْجُمْلَة بِاتِّفَاق الْأمة. وَنسخ الْقُرْآن على وُجُوه: مِنْهَا نسخ يُوجب رفع التِّلَاوَة وَالْحكم جَمِيعًا. وَذَلِكَ مثل مَا روى عَن أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف " أَن قوما من الصَّحَابَة قَامُوا لَيْلَة ليقرءوا سُورَة فَلم يذكرُوا مِنْهَا إِلَّا قَوْله: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} فَغَدوْا على النَّبِي وَأَخْبرُوهُ بذلك فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " تِلْكَ سُورَة رفعت بتلاوتها وأحكامها ". وَقيل إِن سُورَة الْأَحْزَاب كَانَت مثل سُورَة الْبَقَرَة؛ فَرفع أَكْثَرهَا تِلَاوَة وَحكما. وَمن النّسخ مَا يُوجب رفع التِّلَاوَة دون الحكم وَذَلِكَ مثل آيَة " الرَّجْم " رفعت تلاوتها وَبَقِي حكمهَا. وَمِنْه مَا يُوجب رفع الحكم دون التِّلَاوَة. مثل آيَة " \ الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين " وَآيَة " عدَّة الْوَفَاة بالحول " وَمثلهَا آيَة " التَّخْفِيف فِي الْقِتَال " وَآيَة " الممتحنة " وَنَحْو ذَلِك. وَمن وُجُوه النّسخ مَا يُوجب رفع الحكم وَإِقَامَة غَيره مقَامه، وَذَلِكَ مثل الْقبْلَة نسخت إِلَى الْكَعْبَة، وَالْوَصِيَّة نسخت إِلَى الْمِيرَاث، وعدة الْوَفَاة نسخت من الْحول إِلَى أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، ومقاومة الْوَاحِد الْعشْرَة فِي الْقِتَال نسخت إِلَى مقاومة الْوَاحِد الِاثْنَيْنِ. وَنَحْو ذَلِك.

{ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا} وَمِنْهَا: رفع الحكم من غير إِقَامَة شَيْء مقَامه؛ وَذَلِكَ مثل امتحان النِّسَاء، نسخ من غير خلف. وَكَذَلِكَ أَمْثَال هَذَا. رَجعْنَا إِلَى تَفْسِير الْآيَة فَقَوله: {مَا ننسخ من آيَة} أَي: نرفع من آيَة. فَأَما قَوْله: {أَو ننسها} اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: أَو نتركها فَلَا ننسخ. وَهُوَ مثل قَوْله: {نسو الله فنسيهم} أَي تركُوا الله فتركهم. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (إِن عَليّ عقبَة أقضيها ... لست بناسيها وَلَا منسيها) أَي: لست بناسيها وَلَا تاركها. فعلى هَذَا يرجع قَوْله: {نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا} إِلَى قَوْله: {مَا ننسخ من آيَة} . وَقيل: معنى قَوْله: {أَو ننسها} يعْنى ننسيها على قَلْبك يَا مُحَمَّد. وَذَلِكَ مثل مَا روينَا فِي حَدِيث أبي أُمَامَة. وروت عَائِشَة " أَن رَسُول الله سمع رجلا يقْرَأ سُورَة، فَقَالَ: إِن هَذَا الرجل ذَكرنِي آيَة كنت نسيتهَا ". وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {سنقرئك فَلَا تنسى إِلَّا مَا شَاءَ الله} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " مَا ننسك من آيَة أَو ننسخها " وَهَذَا يُؤَيّد هَذَا القَوْل؛ فعلى هَذَا يكون الإنساء على الْقلب فِي معنى النّسخ. وَفِيه قَول ثَالِث: معنى قَوْله أَو " ننسها " أَي: نأمر بِتَرْكِهَا، ونبيح تَركهَا، وَذَلِكَ مثل نسخ آيَة الممتحنة وَنَحْوهَا. فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ الإنساء بِمَعْنى إِبَاحَة التّرْك. فَأَي فرق بَينه وَبَين النّسخ. قُلْنَا: هما وَجْهَان من النّسخ إِلَّا أَنه أَرَادَ بالنسخ الأول: رفع الحكم وَإِقَامَة غَيره مقَامه، وَأَرَادَ بِالثَّانِي: نسخ الحكم، من غير إِقَامَة غَيره مقَامه. كَمَا ذكرنَا.

{نصير (107) أم تُرِيدُونَ أَن تسألوا رَسُولكُم كَمَا سُئِلَ مُوسَى من قبل وَمن وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو. وَابْن كثير " أَو ننسأها " على الْفَتْح والهمز وَحكى أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام، عَن أبي نعيم الْقَارئ. أَنه قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله فِي الْمَنَام، فَقَرَأت عَلَيْهِ بِحرف أبي عَمْرو فَغير على شَيْئَيْنِ: فَقَوله: " وأرنا " فَقَالَ: " قل وأرنا " بِكَسْر الرَّاء قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَأَحْسبهُ قَالَ الْحَرْف الثَّانِي: قَوْله: أَو " ننسأها " فَقَالَ: قل: " أَو ننسها " النِّسَاء والإنساء: بِمَعْنى التَّأْخِير، تَقول الْعَرَب: أنسأ الله أَجلك ونسأ الله فِي أَجلك. فِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: " أَو ننساها " أَي: نرفع تلاوتها، ونؤخر حكمهمَا، كَمَا فعل فِي آيَة " الرَّجْم ". وَيكون النّسخ الأول بِمَعْنى رفع التِّلَاوَة وَالْحكم جَمِيعًا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: " أَو ننسأها " أَي نؤخر إنزالها، ونتركها فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَلَا تنزل. وَقَوله: " مَا ننسخ من آيَة " يَعْنِي: مَا ينزل، أَو " ننسأها " فَلَا ينزل، نأتي بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا. فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله: {نأت بِخَير [مِنْهَا] } وآيات الْقُرْآن سَوَاء، لَا فضل لبعضها على بعض. وَإِن أَرَادَ بِهِ الْخَيْر فِي السهولة، فقد نسخ الأسهل بالأشق، مثل الصَّوْم كَانَ على التَّخْيِير بَينه وَبَين الْفِدْيَة، فنسخه بِصَوْم رَمَضَان على الحتم. فَمَا معنى الْخَيْرِيَّة؟ قُلْنَا: قد قيل، تَقْدِيره: نأت مِنْهَا بِخَير، أَي: نرفع آيَة ونأت بِآيَة. وَالصَّحِيح: أَنه أَرَادَ بِالْخَيرِ الْأَفْضَل، يَعْنِي فِي النَّفْع والسهولة. وَمَعْنَاهُ: نأت بِخَير مِنْهَا، أَي: أَنْفَع وأسهل.

{يتبدل الْكفْر بِالْإِيمَان فقد ضل سَوَاء السَّبِيل (108) ود كثير من أهل الْكتاب {أَو مثلهَا} فِي النَّفْع والسهولة. وَإِن نسخ الأسهل بالأشق فَمَعْنَى الْخَيْر فِيهِ بالثواب. فَإِن ثَوَاب الأشق أَكثر. فَإِن قيل: هما سَوَاء فِي (امْتِثَال) الْأَمر فَكيف يَخْتَلِفَانِ فِي الثَّوَاب؟ وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى يجوز أَن يثيب على الأشق أَكثر مِمَّا يثيب على الأسهل، وَقد وعد الثَّوَاب على صَوْم رَمَضَان مَا لم يعد على الصَّوْم الْمُخَير فِيهِ أَولا. وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بقوله: {نأت بِخَير مِنْهَا} فِي نسخ الْقبْلَة خَاصَّة. وَبِقَوْلِهِ: {أَو مثلهَا} على الْعُمُوم، وَذَلِكَ أَن التَّوَجُّه إِلَى الْكَعْبَة كَانَ خيرا للْعَرَب وأدعى لَهُم إِلَى الْإِسْلَام؛ إِذْ كَانَت فِي قُلُوبهم نفرة عَن التَّوَجُّه إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس؛ لِأَنَّهُ قبله الْيَهُود. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بقوله: {نأت بِخَير مِنْهَا} يعْنى: فِي حَال نسخ الأول فَإِن الثَّانِي - الَّذِي نزل جَدِيدا وَيعْمل بِهِ - خير من الأول الْمَنْسُوخ الَّذِي لَا يعْمل بِهِ، وَهَذَا قَول بعيد.

107

قَوْله تَعَالَى: {ألم تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير} فَقَوله: {ألم تعلم} وَإِن كَانَ على صِيغَة الِاسْتِفْهَام، لَكِن المُرَاد بِهِ التَّقْرِير. وَمَعْنَاهُ: أَنَّك تعلم أَن الله على كل شَيْء قدير. وَكَذَلِكَ قَوْله: {ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَأما الْملك: هُوَ الْقُدْرَة التَّامَّة. وَمِنْه الْملك. وَهُوَ السُّلْطَان التَّام الْقُدْرَة. {وَمَا لكم من دون الله} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: من بعد الله. وَقَالَ غَيره: بِمَا سوى الله. {من ولى} أَي: وَال وَهُوَ الْقيم بالأمور {وَلَا نصير} وَلَا مَانع من الْعَذَاب.

108

قَوْله: {أم تُرِيدُونَ أَن تسألوا رَسُولكُم} " أم " ترد فِي اللُّغَة على وُجُوه.

{لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا من عِنْد أنفسهم من بعد مَا تبين لَهُم} فَتكون بِمَعْنى التَّقْرِير وَهُوَ المُرَاد هَاهُنَا. وَمَعْنَاهُ: أَنْتُم تُرِيدُونَ. وَقد ترد بِمَعْنى التشكيك، يُقَال: رَأَيْت زيدا أم عمرا؟ وَقد ترد " أم " بِمَعْنى بل، قَالَ الشَّاعِر: (بَدَت مثل قرن الشَّمْس فِي رونق الضُّحَى ... وَصورتهَا أم أَنْت فِي الْعين أَمْلَح) أَي: بل أَنْت فِي الْعين أَمْلَح. {أَن تسألوا رَسُولكُم كَمَا سُئِلَ مُوسَى من قبل} وفى مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم سَأَلُوا الرَّسُول فَقَالُوا: لن نؤمن لَك حَتَّى تَأتي بِاللَّه وَالْمَلَائِكَة قبيلا كَمَا قَالَ قوم مُوسَى لمُوسَى: {لن نؤمن لَك حَتَّى نرى الله جهرة} . وَالثَّانِي: أَنهم سَأَلُوا الرَّسُول أَن يَجْعَل الصَّفَا ذَهَبا؛ كَمَا سَأَلَ قوم عِيسَى من عِيسَى الْمَائِدَة. وَالْأول أظهر. وَالْمرَاد بِالْآيَةِ: مَنعهم عَن السؤالات الْمَفْتُوحَة بعد ظُهُور الْبَرَاهِين. {وَمن يتبدل الْكفْر بِالْإِيمَان} أَي: يسْتَبْدل الْكفْر بِالْإِيمَان. وَذَلِكَ أَن مثل ذَلِك السُّؤَال بعد ظُهُور الْبُرْهَان كفر. {فقد ضل سَوَاء السَّبِيل} أَي: وسط السَّبِيل. وَقيل: قصد السَّبِيل. وهما سَوَاء، وَحكى عَن عِيسَى بن عمر النَّحْوِيّ أَنه قَالَ: مازلت أكتب حَتَّى انْقَطع سوائي أَي: وسطي.

109

قَوْله تَعَالَى: {ود كثير من أهل الْكتاب} يَعْنِي: أحب وَتمنى كثير من أهل

{الْحق فاعفوا واصفحوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره إِن الله على كل شَيْء قدير (109) الْكتاب {لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا} قيل: نزل ذَلِك فِي عمار وَحُذَيْفَة؛ فَإِن الْيَهُود دعوهم إِلَى دينهم فَقَالَ عمار: كَيفَ نقض الْعَهْد فِيكُم؟ قَالُوا: شَدِيد. قَالَ عمار: فقد عَاهَدت الله أَلا أكفر بِمُحَمد. فَقَالُوا لِحُذَيْفَة: مَا تَقول أَنْت؟ قَالَ: الله ربى وَمُحَمّد نبيي، وَالْقُرْآن إمامي. فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقيل: هُوَ فِي حق الْكفَّار وَالْمُسْلِمين على الْعُمُوم؛ لأَنهم مازالوا يودون عود الْمُسلمين إِلَى الْكفْر. {حسدا} وَذَلِكَ أَنهم عرفُوا أَن مُحَمَّدًا نبيي حق، وَأَنَّهُمْ باتباعه نالوا من الْإِسْلَام مَا لم ينالوه؛ فحسدوهم على دينهم. فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله {حسدا من عِنْد أنفسهم} وَلَا يكون الْحَسَد من عِنْد الْغَيْر؟ قيل: مَعْنَاهُ: من تلقائهم لم ينزل بِهِ كتاب وَلَا ورد بِهِ أَمر. وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: ود كثير من أهل الْكتاب من عِنْد أنفسهم لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا. {من بعد مَا تبين لَهُم الْحق} من بعد مَا ظهر أَنه حق. قَوْله تَعَالَى: {فاعفوا واصفحوا} الْعَفو: المحو، والصفح: الْإِعْرَاض، وَإِنَّمَا نزل هَذَا قبل آيَة الْقِتَال، ثمَّ نسخ بِآيَة الْقِتَال. {حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره} يَعْنِي: بشرع الْقِتَال. وَقَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: حَتَّى يَأْتِي الله بِأَمْر: من فتح قسطنطينية، ورومية، وعمورية. وَقيل: حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره: من فتح قرى الْيَهُود، مثل خَبِير، وفدك، وإجلاء بني النَّضِير، وَمثل بني قُرَيْظَة. {إِن الله على كل شَيْء قدير} أَي قَادر.

{وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (110) وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى تِلْكَ أمانيهم قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين (111) بلَى من أسلم وَجهه لله وَهُوَ

110

قَوْله تَعَالَى: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} مَعْلُوم. {وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير} من طَاعَة {تَجِدُوهُ عِنْد الله} ذخيرة لَا تضيع {إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} .

111

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى} تَقْدِيره: قَالَت الْيَهُود: لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ يَهُودِيّا. وَقَالَت النَّصَارَى: لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ نَصْرَانِيّا؛ فاختصر اختصارا. نزلت الْآيَة فِي وَفد نَجْرَان، وَكَانُوا نَصَارَى، اجْتَمعُوا فِي مجْلِس رَسُول الله مَعَ الْيَهُود، فتنازعوا وَكفر بَعضهم بَعْضًا، وَكذب بَعضهم بَعْضًا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَات ". {تِلْكَ أمانيهم} يعْنى: تمنيهم الْبَاطِل {قل هاتوا برهانكم} ائْتُوا بِالْحجَّةِ على مَا زعمتم {إِن كُنْتُم صَادِقين بلَى من أسلم} يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمر على تمنوا بل الحكم لِلْإِسْلَامِ

112

{من أسلم وَجهه} أخْلص عِبَادَته لله {وَهُوَ محسن} مُؤمن {فَلهُ أجره عِنْد ربه وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} .

113

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت الْيَهُود لَيست النَّصَارَى على شَيْء وَقَالَت النَّصَارَى لَيست الْيَهُود على شَيْء} وَهُوَ مَا جرى فِي مجْلِس رَسُول الله من مُنَازعَة الْيَهُود مَعَ النَّصَارَى. فَأَما قَوْله: {وهم يَتلون الْكتاب} يَعْنِي: أَنه يكذب بَعضهم بَعْضًا ويضلل بَعضهم بَعْضًا وهم يَتلون الْكتاب، وَلَيْسَ فِي كِتَابهمْ هَذَا الِاخْتِلَاف، فدلت تلاوتهم الْكتاب ومخالفتهم مَا فِي الْكتاب على كَونهم على الْبَاطِل. {كَذَلِك قَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ مثل قَوْلهم} قيل: أَرَادَ بِهِ الْمُشْركين. قَالَه ابْن عَبَّاس وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ عوام النَّصَارَى. {فَالله يحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يُرِيهم دُخُول الْمُسلمين

{محسن فَلهُ أجره عِنْد ربه وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَت الْيَهُود لَيست النَّصَارَى على شَيْء وَقَالَت النَّصَارَى لَيست الْيَهُود على شَيْء وهم يَتلون الْكتاب كَذَلِك قَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ مثل قَوْلهم فَالله يحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا الْجنَّة ودخولهم النَّار.

114

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن منع مَسَاجِد الله أَن يذكر فِيهَا اسْمه وسعى فِي خرابها} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين: أَرَادَ بِالْآيَةِ النَّصَارَى الَّذِي عاونوا بخْتنصر الْمَجُوسِيّ على تخريب بَيت الْمُقَدّس. {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يدخلوها إِلَّا خَائِفين} وَذَلِكَ أَن بَيت الْمُقَدّس مَوضِع حج النَّصَارَى، وَمَوْضِع زيارتهم، فَلَا يدْخلهُ نَصْرَانِيّ إِلَّا خَائفًا، من ذَلِك الْوَقْت إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي} أَي: جِزْيَة لذميهم وَقتل لحربيهم {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} أَي: عَذَاب النَّار. وَفِيه قَول آخر: أَن الْآيَة نزلت فِي الْمُشْركين الَّذين منعُوا رَسُول الله من دُخُول مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة. وَقَوله تَعَالَى: {وسعى فِي خرابها} لأَنهم منعُوا الْمُسلمين من دُخُول الْمَسْجِد. وَلم يسلمُوا حَتَّى دخلُوا؛ فكأنهم سعوا فِي خرابها. {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يدخلوها إِلَّا خَائِفين} وَهَذَا شرعنا أَلا يُمكن مُشْرك من دُخُول الْحرم. وَلَا يدْخلهُ أحد مِنْهُم إِلَّا خَائفًا. {لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي} هوان {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} .

115

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه الْمشرق وَالْمغْرب فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي نسخ الْقبْلَة أَي: الْكَعْبَة؛ فَإِنَّهَا لما حولت إِلَى الْكَعْبَة عير الْيَهُود الْمُسلمين، وَقَالُوا: لَيست لَهُم قبْلَة مَعْلُومَة، فَتَارَة يستقبلون هَكَذَا، وَتارَة هَكَذَا، فَنزلت الْآيَة ردا لقَولهم.

{كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمن أظلم مِمَّن منع مَسَاجِد الله أَن يذكر فِيهَا اسْمه وسعى فِي خرابها أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُم أَن يدخلوها إِلَّا خَائِفين لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي} وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا روى عمر " أَن رَسُول الله كَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته أَيْنَمَا تَوَجَّهت بِهِ رَاحِلَته؛ فَنزلت الْآيَة فِي إِبَاحَة النَّافِلَة على الرَّاحِلَة أَيْنَمَا تَوَجَّهت بِهِ الرَّاحِلَة ". وَالْقَوْل الثَّالِث: روى جَابر أَنه قَالَ: " كُنَّا فِي سفر، فاشتبهت علينا الْقبْلَة، فصلى كل وَاحِد منا إِلَى جِهَة، وَخط بَين يَدَيْهِ خطا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا فَإِذا الخطوط إِلَى غير الْقبْلَة، فسألنا عَن ذَلِك رَسُول الله، فَلم يَأْمُرنَا بِالْإِعَادَةِ، وَنزلت الْآيَة فِي مَعْنَاهُ ". وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه نزلت فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، حِين لم تكن الْقبْلَة مَعْلُومَة، وَجَازَت الصَّلَاة إِلَى أَي جِهَة شَاءُوا. فعلى هَذَا تكون الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة الْقبْلَة، وَهَذَا قَول غَرِيب. وَأما قَوْله: {فثم وَجه الله} قَالَ مُجَاهِد: قبْلَة الله. الْوَجْه: بِمَعْنى الْقبْلَة، وَكَذَلِكَ الوجهة والجهة: هِيَ الْقبْلَة. وَقيل: مَعْنَاهُ رضَا الله، وَقيل: مَعْنَاهُ قصد الله، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (اسْتغْفر الله ذَنبا لست أحصيه ... رب الْعباد إِلَيْهِ الْوَجْه وَالْعَمَل) يَعْنِي: إِلَيْهِ الْقَصْد وَالْعَمَل. وَقد ذكر الله تَعَالَى الْوَجْه فِي كِتَابه فِي أحد عشر موضعا، وَهُوَ صفة لله تَعَالَى وَتَفْسِيره: قِرَاءَته وَالْإِيمَان بِهِ. وَسَيَأْتِي.

{وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم (114) وَللَّه الْمشرق وَالْمغْرب فأينما توَلّوا فثم وَجه الله إِن الله وَاسع عليم (115) وَقَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ بل لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون (116) بديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَإِذا قضى أمرا} {إِن الله وَاسع} أَي: غَنِي يُعْطي من السعَة {عليم} أَي: عَالم بالأمور.

116

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتخذ الله ولدا} يَعْنِي: النَّصَارَى {سُبْحَانَهُ} تَنْزِيه {بل لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} ملكا وملكا {كل لَهُ قانتون} القانت: الْمُطِيع، وأصل الْقُنُوت: الْقيام. وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي سُئِلَ عَن أفضل الصَّلَاة، فَقَالَ: طول الْقُنُوت " أَي: طول الْقيام. وَقَوله: {كل لَهُ قانتون} أَي: قائمون بالعبودية. وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ عَام بِمَعْنى الْخُصُوص. وَالْمرَاد بِهِ الْمُسلمُونَ، وَبِه قَالَ الْفراء. وَلم يرضه من الْفراء نحاة الْبَصْرَة، وَقَالُوا: الْكل يَقْتَضِي الْإِحَاطَة بالشَّيْء، بِحَيْثُ لَا يشذ مِنْهُ شَيْء وَمَعْنَاهُ: كل الْعباد قانتون. فالمسلم يسْجد طَوْعًا. وَالْكَافِر يسْجد ظله كرها، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} . وَالْقَوْل الثَّانِي: مَعْنَاهُ: {كل لَهُ قانتون} مذللون مسخرون لما خلقُوا لَهُ. وَالْقَوْل الثَّالِث: {كل لَهُ قانتون} يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة.

117

قَوْله تَعَالَى: {بديع السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: مبدعها، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْخَالِق لَا على مِثَال سبق. وَمِنْه المبتدع؛ لِأَنَّهُ أحدث مَا لم يسْبق إِلَيْهِ. {وَإِذا قضى أمرا} أَي: أحكم وأتقن. وأصل الْقَضَاء: الْفَرَاغ وَمِنْه يُقَال لمن مَاتَ قضى نحبه لفراغه من الدُّنْيَا وَمِنْه قَضَاء القَاضِي. لِأَنَّهُ فرغ عَن فصل الْحُكُومَة. وَمِنْه قَضَاء الله وَقدره. لِأَنَّهُ فرغ عَنهُ تَقْديرا وتدبيرا. وَقَالَ الشَّاعِر:

{فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون (117) وَقَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا الله أَو تَأْتِينَا آيَة كَذَلِك قَالَ الَّذين من قبلهم مثل قَوْلهم تشابهت قُلُوبهم قد بَينا الْآيَات لقوم} (وَعَلَيْهِمَا (مسرودتان) قضاهما ... دَاوُد وصنع السوابغ تبع) أَي: صناع السوابغ، وَقَوله: قضاهما دَاوُد، أَي: أحكمهما، فَكَذَلِك قَوْله: {وَإِذا قضى أمرا} أَي: أحكم وأتقن {فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ، والمعدوم لَا يُخَاطب؟ قيل: قد قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ أَي: لأجل تكوينه، فعلى هَذَا ذهب معنى الْخطاب. وَقيل: هُوَ وَإِن كَانَ مَعْدُوما، لكنه لما قدر وجوده، وَهُوَ كَائِن لَا محَالة، كَانَ كالموجود: فصح الْخطاب. وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه خرج على مَا يفهمهُ النَّاس فِي الْعَادة؛ فَإِن كل من يُرِيد فعلا فإمَّا أَن يَقُول قولا، أَو يفعل فعلا. وَمَعْنَاهُ: التكوين فَحسب إِلَّا أَنه قَالَ: {فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ} لِأَنَّهُ كَذَا يفهمهُ النَّاس. فَأَما قَوْله تَعَالَى: {فَيكون} قَرَأَ ابْن عَامر. " فَيكون " بِنصب النُّون، وَهُوَ أظهر على النَّحْو؛ لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر بِالْفَاءِ. فَيكون على النصب. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: " فَيكون " بِالرَّفْع. وَمَعْنَاهُ: فَهُوَ يكون.

118

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْيَهُود. وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ النَّصَارَى. (لَوْلَا يُكَلِّمنَا الله) أَي: هلا يُكَلِّمنَا الله، " وَلَوْلَا " فِي كل الْقُرْآن بِمَعْنى " هلا " إِلَّا فِي مَوضِع وَاحِد؛ وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين} مَعْنَاهُ: فَلَو لم يكن من المسبحين.

{يوقنون (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَلَا تسْأَل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم (119) وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم قل إِن هدى الله هُوَ {أَو تَأْتِينَا آيَة} أَي: آيَة نقترحها، كَمَا اقترحوا من الْآيَات. {كَذَلِك قَالَ الَّذين من قبلهم} من الْكفَّار فِي الْقُرُون الْمَاضِيَة. {مثل قَوْلهم تشابهت قُلُوبهم} أَي: أشبه بَعْضهَا بَعْضًا فِي الْقَسْوَة وَطلب الْمحَال. {قد بَينا الْآيَات لقوم يوقنون} .

119

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ} أَي: مَعَ الْحق، والصلات تتعاقب، وَمثله قَوْله تَعَالَى {فادخلي فِي عبَادي} أَي: مَعَ عبَادي. وَالْمرَاد بِالْحَقِّ: الْقُرْآن. وَقيل: شَرِيعَة الْإِسْلَام. {بشيرا وَنَذِيرا} أَي: مبشرا ومنذرا (وَلَا تسئل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم) قرئَ بقراءتين. " وَلَا تسْأَل ". " وَلَا تسْأَل ". فَأَما قَوْله {وَلَا تسْأَل} : يَعْنِي: أَرْسَلْنَاك غير مسئول عَن حَال الْكفَّار. وَذَلِكَ مثل قَوْله: {فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وعلينا الْحساب} . وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود " وَمَا تسْأَل " وَقَرَأَ أبي بن كَعْب. " وَلنْ تسْأَل " وَمعنى الْكل وَاحِد، وَأما قَوْله: " وَلَا تسْأَل " لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَنه على معنى قَوْلهم: لَا تسْأَل عَن شَرّ فلَان؛ فَإِنَّهُ فَوق مَا تحسب. وَقيل: هُوَ على النهى، وَسَببه مَا روى مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: " أَن رَسُول الله قَالَ: لَيْت شعري مَا فعل أبواي. فَنزل قَوْله تَعَالَى: (وَلَا تسئل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم) والجحيم: اسْم للنار الشَّدِيدَة الالتهاب.

{الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولي وَلَا نصير (120) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يتلونه حق تِلَاوَته أُولَئِكَ يُؤمنُونَ بِهِ وَمن يكفر

120

قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم} مَعْنَاهُ: وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود إِلَّا باليهودية، وَلَا النَّصَارَى إِلَّا بالنصرانية. {حَتَّى تتبع ملتهم} وَالْملَّة: الطَّرِيقَة، وَمِنْه خبز الْملَّة. سمى الرماد الَّذِي جعل فِيهِ الْخبز: مِلَّة؛ لِأَنَّهُ يظْهر فِيهِ آثَار وخطوط. {قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى} يَعْنِي: دين الله: هُوَ الدّين الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ. {وَلَئِن اتبعت أهواءهم} قيل: إِنَّه خطاب للنَّبِي، وَالْمرَاد بِهِ الْأمة لِأَنَّهُ كَانَ مَعْصُوما من اتِّبَاع الْأَهْوَاء، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} {بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَالك من الله من ولي وَلَا نصير} مَعْلُوم. وَقيل معنى الْآيَة: أَن الْيَهُود طلبُوا من النَّبِي المهادنة وَقَالُوا: لَا تحاربنا وَلَا تَقْتُلنَا، وأمهلنا؛ فَرُبمَا نسلم. فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم} يَعْنِي: إِنَّك إِن هادنتهم فَلَنْ يرضون بهَا. وَإِنَّمَا يطْلبُونَ ذَلِك تعللا وافتعالا، وَلَا يرضون عَنْك إِلَّا بِاتِّبَاع ملتهم.

121

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب} قيل: أَرَادَ بِهِ قوما من الْيَهُود أَسْلمُوا. وَقيل: أَرَادَ بِهِ قوما من النَّصَارَى جَاءُوا مَعَ جَعْفَر بن أبي طَالب حِين قدم من الْحَبَشَة فأسلموا. {يتلونه حق تِلَاوَته} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن مَسْعُود: يحللون حَلَاله، ويحرمون حرَامه وَلَا يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه. وَقَالَ الْحسن: يعْملُونَ بأوامره، ويؤمنون بمحكمه، ويكلون الْمُتَشَابه إِلَى الله تَعَالَى. وَقَالَ عِكْرِمَة: يتبعونه حق اتِّبَاعه من قَوْلهم: تَلا أَي تبع وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا} .

{بِهِ فَأُولَئِك هم الخاسرون (121) يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين (122) وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا وَلَا} {أُولَئِكَ يُؤمنُونَ بِهِ} يَعْنِي: مَا ذكرنَا {وَمن يكفر بِهِ فَأُولَئِك هم الخاسرون} أَي: الغالبون أنفسهم.

122

قَوْله - تَعَالَى - {يَا بني إِسْرَائِيل اذْكروا نعمتي الَّتِي انعمت عَلَيْكُم واني فضلتكم على الْعَالمين} أَعَادَهُ تَأْكِيدًا لما سبق.

123

قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقوا يَوْمًا لَا تجزى نفس عَن نفس شَيْئا} قد ذكرنَا مَعْنَاهُ. {وَلَا يقبل مِنْهَا عدل وَلَا تنفعها شَفَاعَة وَلَا هم ينْصرُونَ} إِن قيل: أَلَيْسَ قد جعل الشَّفَاعَة للأنبياء وَغَيرهم، حَيْثُ قَالَ: {وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى} وَقَالَ النَّبِي: " شَفَاعَتِي لأهل الْكَبَائِر من أمتِي "؟ قيل: أَرَادَ بقوله: {وَلَا تنفعها شَفَاعَة} فِي قوم مخصوصين، وهم الْيَهُود وَالْكفَّار.

124

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ ابتلى إِبْرَاهِيم ربه} أَي: اختبر، وَمعنى ابتلاء الْعباد، لَيْسَ ليعلم أَحْوَالهم بالابتلاء لِأَنَّهُ عَالم بهم وَبِمَا يملكُونَ مِنْهُم وَلَكِن ليعلم الْعباد أَحْوَالهم، حَتَّى يعرف بَعضهم بَعْضًا. {بِكَلِمَات} وَأما الْكَلِمَات: قيل: هِيَ الَّتِي وَردت فِي الْخَبَر فِي قَوْله " عشر من الْفطْرَة: خمس فِي الرَّأْس، وَخمْس فِي الْجَسَد. وَالْخمس الَّتِي فِي الرَّأْس الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وقص الشَّارِب، والسواك، وَفرق الرَّأْس. وَأما اللواتي فِي الْجَسَد مثل قلم الْأَظْفَار، ونتف الْإِبِط، وَحلق الْعَانَة، والختان، والاستنجاء فِي رِوَايَة وَغسل البراجم ".

{يقبل مِنْهَا عدل وَلَا تنفعها شَفَاعَة وَلَا هم ينْصرُونَ (123) وَإِذ ابتلى إِبْرَاهِيم ربه بِكَلِمَات فأتمهن قَالَ إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا قَالَ وَمن ذريتي قَالَ لَا ينَال عهدي} وَفِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل إِلَى إِبْرَاهِيم أَن تطهر لي، فَتَمَضْمَض، ثمَّ بعث إِلَيْهِ أَن تطهر لي، فاستنشق هَكَذَا إِلَى الْعشْر، فَلَمَّا أمره فِي الْمرة الْعَاشِرَة: أَن تظهر لي. فَنظر إِلَى بدنه، فَلم يجد شَيْئا ينظفه فَتنبه على الْخِتَان فاختتن. وَفِي الْخَبَر: " أَنه اختتن بعد ثَمَانِينَ سنة بالقدوم ". وَهُوَ اسْم مَوضِع، وعاش بعده ثَمَانِينَ. وَفِي الْأَخْبَار: " أَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ. أول من قصّ الشَّارِب، وَأول من اختتن وَأول من قلم الْأَظْفَار، وَأول من رأى الشيب، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ يَا رب مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الْوَقار فَقَالَ يَا رب زِدْنِي وقارا ". {فأتمهن} أَي فأداهن بِهِ تَامَّة، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا أَتَى أحد بسهام الْإِسْلَام كَمَا أَتَى بهَا الْخَلِيل إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ. وَفِيه قَولَانِ آخرَانِ: أَن معنى الْكَلِمَات: هُوَ أَن الله تَعَالَى ابتلاه بالكوكب فرضى عَنهُ، وابتلاه بالقمر فرضى عَنهُ، وابتلاه بالشمس فرضى عَنهُ. وابتلاه بِنَار نمروذ فرضى عَنهُ. وابتلاه بِذبح الْوَلَد فرضى عَنهُ. وابتلاه بالختان فرضى عَنهُ. وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا} يَعْنِي فِي الْخَيْر، وَقد يكون الإِمَام فِي الشَّرّ؛ على طَرِيق الْمجَاز. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار} وَحَقِيقَة الإِمَام: أَن يقْصد، من فعله مَا يقْصد وَهُوَ من الْأُم: وَهُوَ الْقَصْد.

{الظَّالِمين (124) وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وآمنا وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل أَن طهرا بَيْتِي للطائفين والعاكفين والركع {قَالَ وَمن ذريتي} أَي: اجْعَل من ذريتي أَئِمَّة. {قَالَ لَا ينَال عهدي الظَّالِمين} أَي: لَا يَنَالهُ من كَانَ فيهم ظَالِما. وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الْعَهْد، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ النُّبُوَّة. وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَة. وَهُوَ الْأَلْيَق بِظَاهِر النسق، وَفِيه قَول آخر: أَنه الْأمان من النَّار. والظالم: الْفَاسِق، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْمُشرك هَاهُنَا. وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} أَي: بشرك {أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن} فَجعل الْأَمْن لمن لَا يُشْرك بِهِ، فَكَذَلِك قَوْله: {لَا ينَال عهدي الظَّالِمين} أَي: أَن أماني لَا يَنَالهُ الْمُشْركُونَ مِنْهُم.

125

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا} قَالَ عَطاء: مثابة أَي: مجمعا. وَقَالَ غَيره: مثابة أَي: مرجعا، وَهُوَ مَأْخُوذ من ثاب، أَي: رَجَعَ، وَالْبَيْت مثابة؛ لأَنهم يعودون إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى. قَالَ الضَّحَّاك: لَا يقضون مِنْهُ وطرا، أَي: لَا يملون مِنْهُ. والمثاب والمثابة بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر: (مثاب لأفناء الْقَبَائِل كلهَا ... تخب إِلَيْهِ اليعملات الذوامل) وَأما قَوْله: {وَأمنا} أَي: ذَا أَمن. قَالَ ابْن عَبَّاس: أَمنه أَن يدْخلهُ الْجَانِي فَيَأْمَن وَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَتَّى يخرج، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: أَنه مأمن من أَيدي الْمُشْركين؛ فَإِنَّهُم مَا كَانُوا يتعرضون لأهل مَكَّة وَيَقُولُونَ: إِنَّهُم أهل الله وخاصته. وَإِنَّمَا كَانُوا يتعرضون لمن حوله. كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} فَأَما قَول

{السُّجُود (125) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا وارزق أَهله من الثمرات} ابْن عَبَّاس فَمَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب. وَذَلِكَ الأولى عندنَا؛ أَن لَا يتَعَرَّض لَهُ حَتَّى يخرج، لَكِن مَعَ هَذَا أجَاز الِاسْتِيفَاء؛ لِأَن الْحرم لَا يمْنَع اسْتِيفَاء الْحُقُوق. قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} قرىء بقراءتين: " وَاتَّخذُوا " على الْخَبَر، " وَاتَّخذُوا " على الْأَمر. وَأما الْمقَام بِالْفَتْح: مَوضِع الْإِقَامَة. وَالْمقَام بِالضَّمِّ: فعل الْإِقَامَة. وَمَعْنَاهُ على القَوْل الصَّحِيح: أَن مقَام إِبْرَاهِيم هُوَ الْحجر الَّذِي فِي الْمَسْجِد، يُصَلِّي إِلَيْهِ الْأَئِمَّة وَذَلِكَ الْحجر الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم عِنْد بِنَاء الْبَيْت، وَبِذَلِك سمى مقَام إِبْرَاهِيم. وَقيل: كَانَ أثر أَصَابِع رجله بَيِّنَة فِيهِ، واندرس من كَثْرَة مسح الْأَيْدِي. وَفِي الْخَبَر: " أَن الرُّكْن وَالْمقَام ياقوتتان من يَوَاقِيت الْجنَّة. وَلَوْلَا مَا مسته أَيدي الْمُشْركين. لأضاءا مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب ". وَقد روى عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: وَافقنِي رَبِّي فِي ثَلَاث: قلت لرَسُول الله: لَو اتَّخذت من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} . وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بمقام إِبْرَاهِيم: جَمِيع مشَاهد الْحَج، مثل عَرَفَة والمزدلفة، وَسَائِر الْمشَاهد.

{من آمن مِنْهُم بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر قَالَ وَمن كفر فأمتعه قَلِيلا ثمَّ أضطره إِلَى عَذَاب النَّار وَبئسَ الْمصير (126) وَإِذ يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل رَبنَا} وَقَوله: {مصلى} أَي: مدعا؛ أَمرهم أَن يتخذوها مَوَاضِع للدُّعَاء. وَقَوله تَعَالَى: {وعهدنا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل} أَي: أمرنَا، والعهد هَاهُنَا بِمَعْنى الْأَمر. وَأما إِسْمَاعِيل: أَصله: اسْمَع إيل، وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ يَدْعُو الله أَن يرزقه ولدا، وَيَقُول: اسْمَع إيل. فَلَمَّا رزقه [الله] الْوَلَد سَمَّاهُ إِسْمَاعِيل. وَقَوله تَعَالَى: {أَن طهرا بَيْتِي} يَعْنِي من الشّرك والأوثان {للطائفين} الدائرتين حول الْكَعْبَة. {والعاكفين} المقيمين المجاورين {والركع السُّجُود} الْمُصَلِّين. ركع: جمع رَاكِع، وَالسُّجُود جمع ساجد. قَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل: الطائفين: هم الغرباء. والعاكفين: أهل مَكَّة. قَالَ عَطاء وَمُجاهد: الطّواف للغرباء أفضل؛ لِأَنَّهُ يفوتهُمْ، وَالصَّلَاة لأهل مَكَّة أفضل؛ لِأَنَّهُ لَا يفوتهُمْ.

126

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا} أَي: اجْعَل الْحرم ذَا أَمن {وارزق أَهله من الثمرات} وَإِنَّمَا دَعَا بذلك لِأَنَّهُ كَانَ بواد غير ذِي زرع. وَفِي الْقَصَص: أَن الطَّائِف كَانَت مَدِينَة من مَدَائِن الشَّام بأردن، فَلَمَّا دَعَا إِبْرَاهِيم هَذَا الدُّعَاء، أَمر الله تَعَالَى جِبْرِيل حَتَّى قلعهَا من أَصْلهَا، وأدارها حول الْبَيْت سبعا، ثمَّ وَضعهَا موضعهَا الَّذِي هِيَ الْآن فِيهِ، فَمن تِلْكَ ثَمَرَات أهل مَكَّة. {من آمن مِنْهُم بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} دَعَا إِبْرَاهِيم أَن يرْزق من الثمرات الْمُؤمنِينَ خَاصَّة. {قَالَ وَمن كفر} يَقُول الله تَعَالَى: والكافرين أَيْضا؛ وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعد الرزق لِلْخلقِ كَافَّة، مؤمنهم وكافرهم.

{تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم (127) رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك وأرنا مناسكنا وَتب علينا إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم (128) رَبنَا وَابعث {فأمتعه قَلِيلا} يقْرَأ مخففا ومشددا ومعناهما وَاحِد يَعْنِي: أبقيه فِي النِّعْمَة قَلِيلا. وَإِنَّمَا ذكر الْقَلِيل؛ لِأَن الإمتاع أَصله الطول وَالْكَثْرَة. يُقَال: متع النَّهَار. أَي: طَال وارتفع. ونخلة ماتعة. أَي: طَوِيلَة. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الإمتاع فِي الدُّنْيَا وَهُوَ قَلِيل؛ لانقطاعه. {ثمَّ اضطره} ألجئه {إِلَى عَذَاب النَّار وَبئسَ الْمصير} أَي: الْمرجع.

127

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت} قَالَ الْفراء: الْقَوَاعِد: أسس الْبَيْت. وَقَالَ الْكسَائي: هِيَ جدر الْبَيْت، وَحكى أَن ابْن الزبير لما هدم الْبَيْت ليبنيه؛ ظَهرت أَحْجَار بيض كبار فَقَالَ: هَذِه هِيَ الْقَوَاعِد الَّتِي بنى عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم الْبَيْت. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا بنى الْبَيْت من خَمْسَة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وَهُوَ جبل بِالشَّام والجودى، وَهُوَ جبل بالجزيرة، وحراء وَهُوَ جبل بِمَكَّة. وَفِي الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى بنى فِي السَّمَاء بَيْتا وَهُوَ الْبَيْت الْمَعْمُور، وَيُسمى صراح وَأمر الْمَلَائِكَة أَن يبنوا الْكَعْبَة فِي الأَرْض بحذائه، على قدره ومثاله. وَقيل: أول من بنى الْكَعْبَة آدم صلوَات الله عَلَيْهِ - فاندرس ذَلِك زمَان الطوفان، ثمَّ أظهره الله تَعَالَى لإِبْرَاهِيم حَتَّى بناه. قَالَ: {وَإِسْمَاعِيل رَبنَا تقبل منا} قَرَأَ أبي بن كَعْب " يَقُولَانِ رَبنَا تقبل منا " وَهُوَ فِي الشواذ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى. {إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم}

128

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك} يَقُول: مستسلمين، خاضعين، منقادين.

{فيهم رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آياتك وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة ويزكيهم إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (129) وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا من سفه نَفسه وَلَقَد} {وَمن ذريتنا أمة} وَالْأمة: أَتبَاع الْأَنْبِيَاء {مسلمة لَك} خاضعة لَك {وأرنا} قَرَأَ أَبُو عَمْرو " مختلسا "، وَقَرَأَ غَيره بِكَسْر الرَّاء {مناسكنا} أَي: متعبداتنا. والنسك: الْعِبَادَة، وَمِنْه يُقَال للعابد: ناسك، مَعْنَاهُ: مَوَاضِع حجنا {وَتب علينا إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم} .

129

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا وَابعث فيهم رَسُولا مِنْهُم} يَعْنِي مُحَمَّدًا، وَفِي الْخَبَر، أَن النَّبِي قَالَ: " أَنا دَعْوَة أبي إِبْرَاهِيم وبشرى عِيسَى " وَأَرَادَ بدعوة إِبْرَاهِيم هَذَا؛ فَإِنَّهُ دَعَا أَن يبْعَث فِي بني إِسْمَاعِيل رَسُولا مِنْهُم. قَالَ ابْن عَبَّاس: كل الْأَنْبِيَاء من بني إِسْرَائِيل إِلَّا عشرَة: نوح، وَهود، وَصَالح، وَشُعَيْب، وَلُوط، وَإِبْرَاهِيم، وَإِسْمَاعِيل، وَإِسْحَاق، وَيَعْقُوب، وَمُحَمّد صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ. وَفِي الْقَصَص: أَن لكل نَبِي مِمَّن مضى [اسْما وَاحِدًا] فِي الْقُرْآن إِلَّا نبين يَعْقُوب وَعِيسَى. أما يَعْقُوب لَهُ اسمان: يَعْقُوب، وَإِسْرَائِيل، وَأما عِيسَى لَهُ اسمان:

{اصطفيناه فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين (130) إِذْ قَالَ لَهُ ربه أسلم قَالَ أسلمت لرب الْعَالمين (131) ووصى بهَا إِبْرَاهِيم بنيه وَيَعْقُوب يَا بني إِن الله} عِيسَى، والمسيح. {يَتْلُو عَلَيْهِم آياتك} يَعْنِي من الْقُرْآن {وَيُعلمهُم الْكتاب} الْقُرْآن {وَالْحكمَة} فِيهَا أَقْوَال: قيل: الْحِكْمَة فهم الْقُرْآن، وَقَالَ أَبُو بكر بن دُرَيْد صَاحب الجمهرة: الْحِكْمَة كل كلمة زجرتك ووعظتك ونهتك عَن قَبِيح، ودعتك إِلَى حسن، وَقيل: الْحِكْمَة الْفِقْه. وَهَذَا قَول حسن. {ويزكيهم} أَي: يطهرهم، ويجعلهم أزكياء طهرة. وَفِيه قَول آخر: أَنه بِمَعْنى التَّزْكِيَة. يشْهد الرُّسُل بِالنُّبُوَّةِ من سَائِر الْأُمَم وَذَلِكَ أَن مؤمني سَائِر الْأُمَم شهدُوا للرسل بِالنُّبُوَّةِ وتبليغ الرسَالَة فَهَذِهِ الْأمة تزكّى أُولَئِكَ الشُّهُود. {إِنَّك أَنْت الْعَزِيز} قيل: هُوَ الْمُمْتَنع، وَالله مُمْتَنع لَا تناله الْأَيْدِي، وَلَا يصل إِلَيْهِ شَيْء. وَقيل: هُوَ الْقوي الْغَالِب. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وعزني فِي الْخطاب} أَي: غلبني. وَيُقَال فِي الْمثل: " من عز بز " أَي: من غلب سلب {الْحَكِيم} مَعْلُوم.

130

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يرغب عَن مِلَّة إِبْرَاهِيم} أَي: طَريقَة إِبْرَاهِيم {إِلَّا من سفه نَفسه} حكى أَبُو عبيد عَن أبي عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: أهلك نَفسه. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ جهل نَفسه، وكل سَفِيه جَاهِل، وَذَلِكَ أَن من جهل نَفسه لم يعرف الله. وَفِي الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى دَاوُد: اعرف نَفسك واعرفني. فَقَالَ

{اصْطفى لكم الدّين فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ (132) أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ حضر يَعْقُوب الْمَوْت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبدُونَ من بعدِي قَالُوا نعْبد إلهك وإله آبَائِك} يَا رب كَيفَ أعرف نَفسِي، وَكَيف أعرفك؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ: اعرف نَفسك بالضعف وَالْعجز والفناء، واعرفني بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة والبقاء. وَقيل: مَعْنَاهُ سفه نَفسه وَجعله سَفِيها، وَفِيه قَول رَابِع: مَعْنَاهُ سفه فِي نَفسه، فَحذف كلمة " فِي " فَصَارَ: سفه نَفسه. {وَلَقَد اصطفيناه} اخترناه {فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين} من الْأَنْبِيَاء.

131

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لَهُ ربه أسلم} يَعْنِي أَي: استسلم وأخلص عبادتك لله. {قَالَ أسلمت لرب الْعَالمين} أخلصت وفوضت إِلَيْهِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَقد حقق التَّفْوِيض إِلَيْهِ، وَلم يستعن بِأحد من الْمَلَائِكَة حِين ألْقى فِي النَّار.

132

قَوْله تَعَالَى: {ووصى بهَا إِبْرَاهِيم بنيه وَيَعْقُوب} قرىء " وَأوصى " من الْإِيصَاء. " ووصى " من التوصية وَهِي للْمُبَالَغَة والتكثير، يَعْنِي أوصى إِبْرَاهِيم بنيه. وَأوصى يَعْقُوب بنيه. {يَا بني إِن الله اصْطفى لكم الدّين} اخْتَار لكم دين الْإِسْلَام {فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: فَلَا تموتمن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ وَلَيْسَ بيدهم أَن لَا يموتوا إِلَّا مُسلمين؟ قيل مَعْنَاهُ: داوموا على الْإِسْلَام حَتَّى لَا يصادفكم الْمَوْت. إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ، وَهَذَا كَقَوْل الْقَائِل: لَا أريتك تفعل كَذَا مَعْنَاهُ: لَا تفعل كَذَا، حَتَّى لَا أَرَاك وَأَنت فَاعل لَهُ.

{إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إِلَهًا وَاحِدًا وَنحن لَهُ مُسلمُونَ (133) تِلْكَ أمة قد خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ (134) وَقَالُوا}

133

قَوْله تَعَالَى: {أم كُنْتُم شُهَدَاء} بِمَعْنى: أَكُنْتُم شُهَدَاء وَالْمرَاد بِهِ مَا كُنْتُم شُهَدَاء. {إِذا حضر يَعْقُوب الْمَوْت} أَي: مَا كُنْتُم حضورا حِين قرب يَعْقُوب من الْمَوْت. {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} وهم اثْنَا عشر سبطا. على مَا سَيَأْتِي {مَا تَعْبدُونَ من بعدِي} أَي: أيش تَعْبدُونَ من بعدِي {قَالُوا نعْبد إلهك وإله آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب إِلَهًا وَاحِدًا وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَعَاصِم الجحدري. " وإله أَبِيك " كَأَنَّهُ على هَذِه الْقِرَاءَة لم يَجْعَل الْعم وَلَا الْجد أَبَا. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة " وإله آبَائِك " فَجعل الْجد وَالْعم أباء. وَإِبْرَاهِيم هُوَ الْجد وَإِسْمَاعِيل هُوَ الْعم. وَقد سمى رَسُول الله عَمه الْعَبَّاس أَبَا حَيْثُ قَالَ: " إِنَّه من بَقِيَّة آبَائِي ". وَقَالَ: " ردوا على أبي كَيْلا تفعل بِهِ قُرَيْش مَا فعلت ثَقِيف بِعُرْوَة بن مَسْعُود " وَذَلِكَ أَنهم قَتَلُوهُ.

134

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ أمة قد خلت} أَي: مَضَت {لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعلمُونَ} مَعْنَاهُ: يجازي كل بِكَسْبِهِ، وَيسْأل كل عَن عمله. وَالله أعلم.

135

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا كونُوا هودا أَو نَصَارَى} هود جمع هائد، وَهُوَ مثل حَائِل وحول. وَقيل: كَانَ أَصله كونُوا يهودا فحذفت الْيَاء فَصَارَ: هودا. وَقيل: هود مصدرها يهود هودا، فَهُوَ مصدر بِمَعْنى الْجمع كَمَا يُقَال: قوم صَوْم

{كونُوا هودا أَو نَصَارَى تهتدوا قل بل مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (135) قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق} وَقوم فطر. وَمَعْنَاهُ: قَالَت الْيَهُود: كونُوا يهودا وَقَالَت النَّصَارَى كونُوا نَصَارَى فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى {كونُوا هودا أَو نَصَارَى تهتدوا} . {قل بل مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} قَرَأَ الْأَعْرَج " بل مِلَّة " بِالرَّفْع. وَمَعْنَاهُ بل ملتنا مِلَّة إِبْرَاهِيم. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: {بل مِلَّة إِبْرَاهِيم} أَي: بل نتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم. وَقيل: مَعْنَاهُ: بل نَكُون على مِلَّة إِبْرَاهِيم، فَحذف " على " فَصَارَ مَنْصُوبًا. قَالَ الْكسَائي: هُوَ نصب على الإغراء كَأَنَّهُ يَقُول: اتبعُوا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا، وَأما الحنيف: هُوَ الْمُسلم، وَأَصله الْميل، وَمِنْه الْأَحْنَف وَهُوَ: المائل الْقدَم، وَالْمُسلم مائل من سَائِر الْأَدْيَان إِلَى مِلَّة الْإِسْلَام. وَقيل: مَعْنَاهُ الْمُسْتَقيم، فَسَماهُ حَنِيفا على الضِّدّ كَمَا يُقَال للمهلكة: مفازة وللديغ سليم. وَقيل: الحنيف هُوَ الْحَاج المختتن؛ وَذَلِكَ أَنه لم يبْق مَعَ الْعَرَب من مِلَّة إِبْرَاهِيم إِلَّا الْحَج والختان، وَكَانُوا يعْرفُونَ كل من حج واختتن على مِلَّة إِبْرَاهِيم، وَعرفُوا الرجل بذلك حَنِيفا. فَقَالَ: بل مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا على وفْق مَا عرفُوا {وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} .

136

قَوْله تَعَالَى: {قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتى مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتى النَّبِيُّونَ من رَبهم} . قَالَ الضَّحَّاك: علمُوا أَوْلَادكُم أَسمَاء الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين فِي الْقُرْآن كي يُؤمنُوا بهم، وَلَا تظنوا أَن الْإِيمَان بِمُحَمد يَكْفِي عَن الْإِيمَان بِسَائِر الْأَنْبِيَاء.

{وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ (136) فَإِن آمنُوا بِمثل مَا أمنتم بِهِ فقد اهتدوا وَإِن} وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَرَأَ فِي الرَّكْعَة الأولى من رَكْعَتي الْفجْر هَذِه الْآيَة قَوْله تَعَالَى {آمنا بِاللَّه} إِلَى آخرهَا. وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة {قل آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل علينا} إِلَى آخرهَا ". أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. حكى عَن السّلف أَنهم كَانُوا إِذا قيل للرجل مِنْهُم: [أمؤمن أَنْت] ؟ قَرَأَ {آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا} الْآيَة. وَأما الأسباط: هم اثْنَا عشر سبطا وهم أَوْلَاد يَعْقُوب والأسباط فِي بني إِسْرَائِيل كالقبائل فِي [الْعَرَب] . وَقيل: السبط: الشّجر، سمى بذلك لِكَثْرَة فروعه. {لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} أَي: نؤمن بِالْكُلِّ، وَلَا نفضل الْبَعْض عَن الْبَعْض.

137

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن آمنُوا بِمثل مَا آمنتم بِهِ} قَرَأَ ابْن عَبَّاس " بِالَّذِي آمنتم بِهِ " وَهُوَ الْمَعْنى. فَقيل مَعْنَاهُ: بِمَا أمنتم بِهِ. والمثل: ضد كَمَا فِي قَوْله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ كَهُوَ شَيْء. قَالَ الشَّاعِر: (يَا عاذلي دَعْنِي عَن عذلكا ... مثلي لَا يقبل من مثلكا)

{توَلّوا فَإِنَّمَا هم فِي شقَاق فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (137) صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة وَنحن لَهُ عَابِدُونَ (138) } أَي: لَا يقبل مِنْك. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ فَإِن أَتَوا بِإِيمَان كإيمانكم، وتصديق كتصديقكم، وتوحيد كتوحيدكم، وَقَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: مَعْنَاهُ فَإِن آمنُوا بِكِتَابِكُمْ كَمَا آمنتم بِكِتَابِهِمْ. {فقد اهتدوا وَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا هم فِي شقَاق} أَي: مُنَازعَة؛ لِأَن كل مُنَازع يكون فِي شقّ آخر عِنْد الْمُنَازعَة. {فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} وعده أَن يَكْفِيهِ شرهم، وَقد كفى بإجلاء بني النَّضِير وَقتل بني قُرَيْظَة، وَضرب الْجِزْيَة على الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقتل الْمُشْركين. (وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم) ظَاهر الْمَعْنى.

138

قَوْله تَعَالَى: {صبغة الله} قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ وَقَتَادَة، وَالْحسن، وَعِكْرِمَة، والسدى: مَعْنَاهُ: دين الله. وَإِنَّمَا سَمَّاهُ صبغة؛ لِأَنَّهُ يظْهر أثر الدّين على المتدين كَمَا يظْهر أثر الصَّبْغ على الثَّوْب. وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: فطْرَة الله. وَهَذَا يقرب من الأول. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْخِتَان. وَقَوله (صبغة الله) أَي: تَطْهِير الله بالختان، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ صبغة؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مقَام فعل النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يصبغون الْوَلَد فِي مَاء أصفر بدل الْخِتَان فِي زِيّ الْيَهُود. ويعدونه تَطْهِيرا للْوَلَد فَالله تَعَالَى أَقَامَ التَّطْهِير بالختان فِي حق الْمُسلمين مقَام مَا صبغوا. قَالَ الْكسَائي: هُوَ نصب على الإغراء وَتَقْدِيره: ألزموه دين الله. وَمن أحسن من الله دينا، أَو ألزموا تَطْهِير الله {وَمن أحسن من الله صبغة} أَي: تَطْهِيرا {وَنحن لَهُ عَابِدُونَ} .

{قل أتحاجوننا فِي الله وَهُوَ رَبنَا وربكم وَلنَا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم وَنحن لَهُ مخلصون (139) أم تَقولُونَ إِن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط

139

قَوْله تَعَالَى: {قل أتحاجوننا فِي الله وَهُوَ رَبنَا وربكم} والمحاجة: المجادلة بِالْحجَّةِ لإِظْهَار الْحق. نزلت فِي الْيَهُود ونصارى نَجْرَان حَيْثُ حاجوا رَسُول الله وَقَالُوا: ديننَا أقدم من دينكُمْ وَكِتَابنَا أقدم من كتابكُمْ، فَنحْن أولى بِاللَّه مِنْكُم، فَنزل قَوْله: قل يَا مُحَمَّد {أتحاجوننا فِي الله وَهُوَ رَبنَا وربكم} أَي: نَحن وَأَنْتُم سَوَاء فِي الله فَإِنَّهُ رَبنَا وربكم. (وَلنَا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم) أَي: نجازي بأعمالنا وتجازون بأعمالكم (وَنحن لَهُ مخلصون) يَعْنِي: كَيفَ تدعون أَنكُمْ أولى بِاللَّه وَنحن لَهُ مخلصون وَأَنْتُم بِهِ مشركون؟

140

قَوْله تَعَالَى {أم تَقولُونَ} يَعْنِي: أتقولون؟ والصيغة صِيغَة الِاسْتِفْهَام، وَمَعْنَاهُ التوبيخ يَعْنِي أتقولون (إِن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط كَانُوا هودا أَو نَصَارَى) . وَذَلِكَ أَنهم ادعوا أَن هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء كَانُوا يهودا أَو نَصَارَى. {قل أأنتم أعلم أم الله} وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى قد أعلم الْمُسلمين أَنهم كَانُوا على الدّين الحنيفية وَمَا كَانَ يهودا وَلَا نَصَارَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفا مُسلما} . {وَمن أظلم مِمَّن كتم شَهَادَة عِنْده من الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ بِهِ أَن الله تَعَالَى قد أشهدهم فِي كتبهمْ عَليّ أَن إِبْرَاهِيم كَانَ على الدّين الحنيفية، وَلم يكن يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا؛ فَكَتَمُوا تِلْكَ الشَّهَادَة. وَقيل أَرَادَ بِالشَّهَادَةِ على نعت مُحَمَّد. {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا تَعْمَلُونَ.

141

قَوْله تَعَالَى: (تِلْكَ أمة قد خلت) أَي: مَضَت {لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا

{كَانُوا هودا أَو نَصَارَى قل أأنتم أعلم أم الله وَمن أظلم مِمَّن كتم شَهَادَة عِنْده من الله وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أمة قد خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس مَا ولاهم} {كسبتم وَلَا تسْأَلُون عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} يَعْنِي: أَنكُمْ غير مسؤولين عَن أَعْمَالهم بل هم المسئولون. فَإِن قيل: هَذَا تكْرَار؛ فَإِنَّهُ قد ذكره مرّة. قُلْنَا: أما الأول: كَانَ فِي الْأَنْبِيَاء الَّذين سبق ذكرهم. وَهَذَا الثَّانِي: فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى الَّذِي سبق ذكرهم فِي هَذِه الْآيَات. أَو كَرَّرَه تَأْكِيدًا. وَحكى عَن بعض الْعلمَاء أَنه سُئِلَ عَمَّا وَقع من الْفِتَن بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة رضوَان الله عَلَيْهِم - فَقَرَأَ {تِلْكَ أمة قد خلت لَهَا مَا كسبت وَلكم مَا كسبتم} الْآيَة وَهَذَا جَوَاب حسن فِي مثل هَذَا السُّؤَال.

142

قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس} أَي: يَقُول السُّفَهَاء الْجُهَّال، وَالسَّفِيه: خَفِيف الْحلم وَالْعقل. وَمِنْه الثَّوْب يَعْنِي السَّفِيه وَيُقَال: رمح سَفِيه، أَي: سريع النّفُوذ. {مَا ولاهم} مَا عدلهم وحرفهم {عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يَعْنِي: بَيت الْمُقَدّس {قل لله الْمشرق وَالْمغْرب} يُوَجه الْعباد إِلَى أَيهمَا شَاءَ {يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: طَرِيق مُسْتَقِيم. وَالطَّرِيق الْمُسْتَقيم: هُوَ الْموصل إِلَى الْمَقْصُود. وَنزلت الْآيَة فِي الْيَهُود؛ حَيْثُ عيروا الْمُسلمين على تحويلهم من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة.

143

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} يَعْنِي: كَمَا اخترنا الْأَنْبِيَاء واخترنا بني إِسْرَائِيل من الْخلق فَكَذَلِك اخترناكم من الْأُمَم. (أمة وسطا) أَي: عدلا خيارا. قَالَ الشَّاعِر:

{عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قل لله الْمشرق وَالْمغْرب يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَيكون} (هم وسط يرضى الْأَنَام بحكمهم ... إِذا نزلت إِحْدَى اللَّيَالِي بمعظم) وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " إِنَّكُم توفون سبعين أمة أَنْتُم خَيرهَا وأعدلها " وَقد ورد فِي الْخَبَر عَنهُ أَنه قَالَ: " خير الدّين النمط الْأَوْسَط " يَعْنِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ غلو وَلَا تَقْصِير. وَذَلِكَ دين الْإِسْلَام؛ لِأَن النَّصَارَى غلوا فِي دينهم، وَالْيَهُود قصروا. وَأما الْمُسلمُونَ أخذُوا بالنمط الْأَوْسَط. (لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس) وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة، حِين يسْأَل الْأُمَم عَن إبلاغ الرُّسُل، فينكرون تبليغهم الرسَالَة. فَيسْأَل الرُّسُل فَيَقُولُونَ: بلغنَا، فَيُقَال لَهُم: وَمن يشْهد لكم؟ فَيَأْتُونَ بِهَذِهِ الْأمة فَيَشْهَدُونَ لَهُم بالبلاغ. فَتَقول الْأُمَم: إِنَّهُم أَتَوا بَعدنَا فَكيف يشْهدُونَ بذلك؟ فَيسْأَل هَذِه الْأمة. فَيَقُولُونَ: أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا، وأنزلت علينا كتابا، وأخبرتنا فِيهِ ببلاغ الرُّسُل، وَأَنت صَادِق فِيمَا أخْبرت، فبذلك نشْهد لَهُم بالبلاغ. (وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا) على أَعمالكُم. وَقيل: مَعْنَاهُ مزكيا مُصدقا عَليّ شهادتكم. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا} أَي: مَا حولنا الْقبْلَة من بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة {إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ} فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: {إِلَّا لنعلم} وَهُوَ عَالم بالأشياء قبل كَونهَا؟

{الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا وَمَا جعلنَا الْقبْلَة الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلَّا لنعلم من يتبع الرَّسُول مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَت لكبيرة إِلَّا على الَّذين هدى الله وَمَا كَانَ الله} قُلْنَا بلَى كَانَ عَالما بِهِ علم الْغَيْب، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا: الْعلم الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَهُوَ الْعلم بِوُجُود الأتباع؛ فَإِن كَونه مَوْجُودا إِنَّمَا يعلم بعد الْوُجُود. وَقيل: مَعْنَاهُ إِلَّا لنرى، وَهُوَ قريب من الأول. وَقيل: الِابْتِلَاء مُضْمر فِيهِ، وَتَقْدِيره: إِلَّا لنبتلي فَيظْهر المتبع من المنقلب، وَفِي الْخَبَر: " أَن الْقبْلَة لما حولت إِلَى الْكَعْبَة، ارْتَدَّ قوم من الْمُسلمين إِلَى الْيَهُودِيَّة، وَقَالُوا: إِن مُحَمَّدًا رَجَعَ إِلَى دين آبَائِهِ ". فَهَذَا معنى قَوْله: {مِمَّن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ} وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن كَانَت لكبيرة} لثقيلة. قيل: مَعْنَاهُ: وَإِن كَانَت الْقبْلَة لكبيرة. قَالَ الزّجاج: وَإِن كَانَت التحويلة لكبيرة. {إِلَّا على الَّذين هدى الله} أَي: هدَاهُم الله. {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} نزل هَذَا فِي قوم مُعينين. ذَلِك مَا روى: " أَن الْقبْلَة لما حولت سَأَلَ قوم رَسُول الله فَقَالُوا: إِن قوما منا كَانُوا قد صلوا إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وماتوا، فَمَا شَأْنهمْ؟ مِنْهُم أسعد بن زُرَارَة، وَأَبُو أُمَامَة والبراء بن معْرور فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} أَي: صَلَاتكُمْ فَجعل الصَّلَاة إِيمَانًا، وَهَذَا دَلِيل على المرجئة؛ حَيْثُ لم يجْعَلُوا الصَّلَاة من الْإِيمَان. وَإِنَّمَا سموا مرجئة لأَنهم أخروا الْعلم عَن الْإِيمَان. وَحكى: أَن أَبَا يُوسُف شهد عِنْد شريك بن عبد الله القَاضِي فَرد شَهَادَته، قيل لَهُ أترد شَهَادَة يَعْقُوب؟ فَقَالَ: كَيفَ أقبل شَهَادَة من يَقُول: إِن الصَّلَاة لَيست من الْإِيمَان؟ ! . وَقيل: معنى قَوْله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} بالتحويل. {إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم} والرأفة: أَشد الرَّحْمَة.

144

قَوْله تَعَالَى: {قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء} هَذِه الْآيَة وَإِن كَانَت

{لِيُضيع إيمَانكُمْ إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم (143) قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء فلنولينك قبْلَة ترضاها فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم} مُتَأَخِّرَة فِي التِّلَاوَة لَكِنَّهَا مُتَقَدّمَة فِي الْمَعْنى؛ فَإِنَّهَا رَأس الْقِصَّة. وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى جَابر: " أَن النَّبِي بعد مَا قدم الْمَدِينَة صلى إِلَى بَيت الْمُقَدّس سِتَّة عشر شهرا أَو سَبْعَة عشر شهرا وَكَانَ يود أَن يحوله الله إِلَى الْكَعْبَة فَكَانَ يَقُول لجبريل: وددت لَو حولني الله إِلَى الْكَعْبَة؛ فَإِنَّهَا قبْلَة أبي إِبْرَاهِيم، وَكَانَ يَقُول لجبريل: سل رَبك فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: سل أَنْت فَإنَّك عِنْد الله بمَكَان، وَكَانَ كلما نزل جِبْرِيل تردد وَجهه فِي السَّمَاء؛ رَجَاء أَن ينزل بالنسخ ". قَالَ السدى: إِنَّه كلما افْتتح صَلَاة، كَانَ يردد وَجهه فِي السَّمَاء رَجَاء أَن يحوله الله إِلَى الْكَعْبَة، فأقامه الله عَلَيْهِ سِتَّة عشر شهرا، ثمَّ نزل قَوْله تَعَالَى: {قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء فلنولينك قبْلَة ترضاها} أَي: تودها وتهواها؛ لِأَن الْقبْلَة الأولى كَانَت [ترضيه] أَيْضا. {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} أَي نَحْو الْبَيْت. {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} أَي: نَحوه. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " هَذِه الْقبْلَة وَأَشَارَ إِلَى الْبَيْت ". {وَإِن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم} يَعْنِي التَّحْوِيل إِلَى الْكَعْبَة {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: أول مَا نسخ بَعْدَمَا قدم الْمَدِينَة هُوَ الْقبْلَة.

{فَوَلوا وُجُوهكُم شطره وَإِن الَّذين أُوتُوا الْكتاب ليعلمون أَنه الْحق من رَبهم وَمَا الله بغافل عَمَّا يعْملُونَ (144) وَلَئِن آتيت الَّذين أُوتُوا الْكتاب بِكُل آيَة مَا تبعوا} وَقيل: أول صَلَاة صليت إِلَى الْكَعْبَة كَانَت صَلَاة الْعَصْر. وروى " أَنَّهَا حولت إِلَى الْكَعْبَة وَكَانُوا فِي الصَّلَاة. وَالصَّحِيح: أَن التَّحْوِيل كَانَ خَارج الصَّلَاة. وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك فِي حق أهل قبَاء؛ فَإِنَّهُم شرعوا فِي صَلَاة الْعَصْر، وَكَانَت صَلَاة الْعَصْر نَحْو بَيت الْمُقَدّس، فَأَتَاهُم آتٍ وَقَالَ: " أشهد أَنِّي صليت هَذِه الصَّلَاة مَعَ رَسُول الله إِلَى الْكَعْبَة؛ فاستداروا إِلَى الْكَعْبَة وبنوا على صلَاتهم ".

145

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أتيت الَّذين أُوتُوا الْكتاب بِكُل آيَة مَا تبعوا قبلتك} مَعْنَاهُ: لَو أتيتهم بِكُل معْجزَة مَا تبعوك فِي الْكَعْبَة. {وَمَا أَنْت بتابع قبلتهم} يَعْنِي: قبْلَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى (وَمَا بَعضهم بتابع قبْلَة بعض) يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَذَلِكَ أَن قبْلَة الْيَهُود بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ الْمغرب، وقبلة النَّصَارَى الْمشرق، وَأما قبْلَة الْمُسلمين هِيَ الْكَعْبَة. وَقد روى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة " قَالَ ابْن عمر: يَعْنِي لأهل الْمشرق. وَصورته أَن يَجْعَل مشرق الشتَاء فِي أقصر يَوْم من السّنة على يسَاره. ومغرب الصَّيف فِي أطول يَوْم من السّنة عَن يَمِينه، فَيكون وَجهه إِلَى الْكَعْبَة وَذَلِكَ بِأَن يتَوَجَّه إِلَى مسْقط قلب الْعَقْرَب حِين يسْقط. فَهَذَا معنى قَوْله: " مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب قبله. . ". {وَلَئِن اتبعت أهواءهم} وَإِن كَانَ الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَلَكِن المُرَاد بِهِ الْأمة كَمَا سبق.

{قبلتك وَمَا أَنْت بتابع قبلتهم وَمَا بَعضهم بتابع قبْلَة بعض وَلَئِن اتبعت أهواءهم من بعد مَا جَاءَك من الْعلم إِنَّك إِذا لمن الظَّالِمين (145) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَإِن فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ (146) الْحق من} {من بعد مَا جَاءَك من الْعلم إِنَّك إِذا لمن الظَّالِمين} مَعْلُوم التَّفْسِير.

146

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} قيل: أَرَادَ بِهِ الْقبْلَة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ مُحَمَّدًا. وروى أَن عبد الله بن سَلام قَالَ: معرفتي بِهَذَا النَّبِي أَشد من معرفتي بِابْني. قَالَ لَهُ عمر: وَكَيف ذَاك؟ قَالَ: لِأَنِّي لَا أعرف مَا أحدثت النِّسَاء، وَأعرف أَنه نَبِي حق. فَقَالَ عمر: لله دَرك. {وَإِن فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ

147

الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين) أَي: الشاكين.

148

قَوْله تَعَالَى: {وَلكُل وجهة هُوَ موليها} قَالَ مُجَاهِد: هُوَ موليها وجهة. يَعْنِي: الْقبْلَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم، عَن الْأَخْفَش مَعْنَاهُ: الله موليها. فَقَوله: " هُوَ " كِنَايَة عَن الله تَعَالَى يَعْنِي: الله مولي الْأُمَم إِلَى قبلتهم. وَقَرَأَ ابْن عَامر: " هُوَ مَوْلَاهَا " أَي: الْمُسْتَقْبل مَصْرُوف إِلَيْهَا. {فاستبقوا الْخيرَات} أَي: بَادرُوا، وَالْمرَاد هَاهُنَا: الْمُبَادرَة إِلَى الْقبُول من الله {أَيْن مَا تَكُونُوا يَأْتِ بكم الله جَمِيعًا إِن الله على كل شَيْء قدير} .

149

قَوْله تَعَالَى: {وَمن حَيْثُ خرجت فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} أَي: نَحوه. {وَإنَّهُ للحق من رَبك} ذكره تَأْكِيدًا للْأولِ {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

{رَبك فَلَا تكونن من الممترين (147) وَلكُل وجهة هُوَ موليها فاستبقوا الْخيرَات أَيْن مَا تَكُونُوا يَأْتِ بكم الله جَمِيعًا إِن الله على كل شَيْء قدير (148) وَمن حَيْثُ خرجت فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَإنَّهُ للحق من رَبك وَمَا الله بغافل عَمَّا}

150

قَوْله تَعَالَى: {وَمن حَيْثُ خرجت فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره لِئَلَّا يكون للنَّاس عَلَيْكُم حجَّة} يَعْنِي: الْيَهُود؛ وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: إِن مُحَمَّدًا اتبع قبلتنا، فسيعود إِلَى ملتنا. {إِلَّا الَّذين ظلمُوا} وهم الْمُشْركُونَ. وَقيل: " إِلَّا " بِمَعْنى " وَلَا " الَّذين ظلمُوا وَمثله: قَول الشَّاعِر: (وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ ... لعَمْرو أَبِيك إِلَّا الفرقدان) يَعْنِي: وَلَا الفرقدان. وَالصَّحِيح: أَنه اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، " وَإِلَّا " بِمَعْنى " لَكِن " الَّذين ظلمُوا يخاصمونكم ويحاجونكم بِالْحجَّةِ الْبَاطِلَة، وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين قَالُوا حِين تحولت الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة: إِنَّه رَجَعَ إِلَى قبلتنا فسيعود إِلَى ملتنا، وَالْحجّة الْبَاطِلَة قد تسمى حجَّة، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {حجتهم داحضة} فَكَأَنَّهُ أبطل حجَّة الْيَهُود بالتحويل إِلَى الْكَعْبَة: ثمَّ أبطل حجَّة الْمُشْركين بِدَلِيل سواهُ. {إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فَلَا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عَلَيْكُم ولعلكم تهتدون} قَالَ سعيد بن جُبَير: لَا تتمّ نعْمَته على الْمُسلم إِلَّا بِأَن يدْخلهُ الْجنَّة. وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي سمع رجلا يَقُول الْحَمد لله على الْإِسْلَام، فَقَالَ: لقد حمدت الله على نعْمَة عَظِيمَة ".

151

قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم} فَإِن قَالَ قَائِل: الْكَاف للتشبيه فَأَيْنَ الْمُشبه بِهِ؟ قُلْنَا: قَالَ عَليّ رَضِي الله: عَنهُ تَقْدِيره: فاذكره لي، كَمَا

{تَعْمَلُونَ (149) وَمن حَيْثُ خرجت فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره لِئَلَّا يكون للنَّاس عَلَيْكُم حجَّة إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فَلَا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عَلَيْكُم ولعلكم تهتدون (150) كَمَا أرسلنَا} أرسلنَا فِيكُم رَسُولا فَيكون الذّكر على هَذَا القَوْل بِمَعْنى الشُّكْر. وَقيل: تَقْدِيره: ولأتم نعمتي عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم، وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ قد دَعَا دعوتين: دَعَا أَن يبْعَث فيهم رَسُولا مِنْهُم، ودعا إتْمَام النِّعْمَة على ذُريَّته بالرزق من الثمرات، فَأجَاب إِحْدَى الدعوتين بِأَن بعث فيهم رسلًا، ثمَّ أجَاب الدعْوَة الثَّانِيَة فَقَالَ: ولأتم نعمتي عَلَيْكُم، كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم. {يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا} يَعْنِي: الْقُرْآن {ويزكيكم} كَمَا بَينا {ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة} وَقد ذكرنَا. وَقيل: الْحِكْمَة السّنة، وَقيل: مواعظ الْقُرْآن. {ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ

152

فاذكروني أذكركم) قيل: ذكر الله هَاهُنَا بِمَعْنى الْمَدْح وَالثنَاء عَلَيْهِ. وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي " أَن الله تَعَالَى يَقُول: أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي، وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي، فَإِن ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي، وَإِن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُ، وَإِن تقرب إِلَى شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا، وَإِن تقرب إِلَيّ ذِرَاعا، تقربت إِلَيْهِ باعا وَإِن أَتَانِي يمش أَتَيْته هرولة " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وَقيل: مَعْنَاهُ: فاذكروني كَمَا أرسلنَا، وَهَذَا قريب من قَول عَليّ. وَقيل: الذّكر من العَبْد الطَّاعَة، وَمن الله الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة. وَمَعْنَاهُ: فاذكروني بِالطَّاعَةِ أذكركم بالمغفرة وَالرَّحْمَة. {واشكروا لي وَلَا تكفرون} يَعْنِي واشكروا لي بِالطَّاعَةِ وَلَا تكفروني بالمعصية. فَإِن من أطَاع الله فقد شكره، وَمن عَصَاهُ فقد كفره.

{فِيكُم رَسُولا مِنْكُم يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا ويزكيكم ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ (151) فاذكرني أذكركم واشكروا لي وَلَا تكفرون (152) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة إِن الله مَعَ الصابرين} وَحكى أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ سَأَلَ ربه فَقَالَ: مَا الشُّكْر الَّذِي يَنْبَغِي لَك؟ فَقَالَ أَن لَا يزَال لسَانك رطبا بذكرى.

153

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة} فالاستعانة: طلب المعونة. وَفِي الصَّبْر قَولَانِ: أَحدهمَا: الثَّبَات على الدّين، وَالْآخر: الصَّوْم. وَوجه الِاسْتِعَانَة بهما مَا سبق. (إِن لله مَعَ الصابرين) قَالَ عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس: بِالْحِفْظِ والنصر.

154

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات} نزلت الْآيَة فِي قوم مُعينين، اسْتشْهدُوا يَوْم بدر، وَكَانَ يَقُول الْمُسلمُونَ: مَاتَ فلَان، فَلم يرض الله تَعَالَى ذَلِك مِنْهُم، وَأنزل الله هَذِه الْآيَة. (بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون) أَي: شُهَدَاء؛ لِأَن الشَّهِيد حَيّ. وَقيل: مَعْنَاهُ مَا ورد فِي الْخَبَر: " أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تعلف من ثمار الْجنَّة أَي تَأْكُل وتأوى إِلَى قناديل معلقَة تَحت الْعَرْش ". فَذَلِك قَوْله: {بل أَحيَاء عِنْد رَبهم} . وَقيل: مَعْنَاهُ أَحيَاء بالثواب وَالثنَاء الْحسن، وَلَيْسوا بأموات بِالذكر السيء وَعدم الثَّوَاب.

155

قَوْله تَعَالَى: {ولنبلونكم بِشَيْء من الْخَوْف} وَاللَّام فِيهِ لجواب الْقسم. وَتَقْدِيره: وَالله لنبلونكم. وَحِكْمَة الِابْتِلَاء لإِظْهَار الْمُطِيع من العَاصِي، لَا ليعلم شَيْئا

( {153) وَلَا تَقولُوا لمن يقتل فِي سَبِيل الله أموات بل أَحيَاء وَلَكِن لَا تشعرون (154) ولنبلونكم بِشَيْء من الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس لم يكن عَالما بِهِ، وَاخْتلفُوا فِيمَن نزلت الْآيَة فِيهِ، مِنْهُم من قَالَ: نزلت فِي الْيَهُود وَقيل: نزلت فِي الْمُسلمين. {بِشَيْء من الْخَوْف} خوف الْعَدو {والجوع} بِالْقَحْطِ والجدب (وَنقص من الْأَمْوَال) بالخسران والهلاك {والأنفس} بِالْمرضِ والشيب وَالْمَوْت {والثمرات} بالجوائح، وَقيل: بالأولاد؛ وَذَلِكَ أَنهم ثَمَرَات الْقُلُوب، وَحِكْمَة الِابْتِلَاء بِهَذِهِ الْأَشْيَاء: حَتَّى إِذا صَبَرُوا عَلَيْهِ فَكل من سمع بِهِ بعدهمْ؛ علم أَنهم أَنما صَبَرُوا عَلَيْهِ لما عرفُوا من الْحق. {وَبشر الصابرين

156

الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون) . قَالَ سعيد بن جُبَير: كلمة الاسترجاع لم تعط [لأحد] من الْأُمَم سوى هَذِه الْأمة. أَلا ترى أَن يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ لما ابْتُلِيَ بِفِرَاق يُوسُف قَالَ: {يَا أسفي على يُوسُف} وَلم يقل: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون؟ وَمَعْنَاهُ: إِنَّا لله ملكا وعبودية، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون فِي الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا قيد بِهَذَا لِأَن الْأَمر فِي الْقِيَامَة يخلص لله تَعَالَى. وَرُوِيَ: " أَن رَسُول الله طفيء سراجه، فَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون. فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: كل مَا أَذَى الْمُؤمن فَهُوَ مُصِيبَة لَهُ ".

157

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون} وَمعنى الصَّلَوَات هَاهُنَا الرَّحْمَة بعد الرَّحْمَة؛ لِأَن الصَّلَاة من الله: الرَّحْمَة. وَمن الْمَلَائِكَة: الاسْتِغْفَار، وَمن النَّاس الدُّعَاء. قَالَ الشَّاعِر:

{والثمرات وَبشر الصابرين (155) الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِم صلوَات من رَبهم وَرَحْمَة وَأُولَئِكَ هم المهتدون (صلي على يحي وأشياعه ... رب كريم وشفيع مُطَاع} يَعْنِي: ترحم عَلَيْهِ. قَوْله: (وَرَحْمَة) ذكرهَا تَأْكِيدًا للْأولِ {وَأُولَئِكَ هم المهتدون} قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: نعم العدلان ونعمت العلاوة، والعدلان: الصَّلَوَات وَالرَّحْمَة، والعلاوة: الْهِدَايَة. وَقد ورد فِي ثَوَاب الْمُصِيبَة أَخْبَار كَثِيرَة، مِنْهَا: مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " مَا أُصِيب العَبْد الْمُؤمن بمصيبة إِلَّا كفر عَنهُ، حَتَّى الشَّوْكَة يشاكها ".

158

قَوْله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} الصَّفَا: جبل بِأحد طرفِي الْمَسْعَى. والمروة: جبل بالطرف الثَّانِي، والصفا: الْحجر الصلب، والمروة: الْحجر الرخو. قَوْله تَعَالَى {من شَعَائِر الله} فالشعائر: جمع الشعيرة، وَهِي: الْأَعْلَام الَّتِي على مَنَاسِك الْحَج. وَمثله المشاعر، فالموقف شعيرَة، والمطاف شعيرَة، والمنحر شعيرَة، والمشعر شعيرَة. {فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر} فَأصل الْحَج: الْقَصْد. قَالَ الشَّاعِر: (وَأشْهد من عَوْف حلولا كَثِيرَة ... يحجون سبّ الزبْرِقَان المزعفرا) أَي: يقصدون. وأصل الْعمرَة: الزِّيَارَة. قَالَ الشَّاعِر: (وجاشت النَّفس لما جَاءَ فَلهم ... وراكب جَاءَ من تثليث مُعْتَمر) أَي زَائِرًا وَفِي الْحَج وَالْعمْرَة قصد وزيارة.

( {157) إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما وَمن تطوع خيرا فَإِن الله شَاكر عليم (158) إِن الَّذين يكتمون مَا} وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما ". وَهِي قِرَاءَة أنس، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي مصحف أبي بن كَعْب، وَابْن مَسْعُود. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: {أَن يطوف بهما} . وَقد روى عَن عُرْوَة بن الزبير: أَنه قَالَ لعَائِشَة: " أَنا لَا أرى جنَاحا على من لَا يطوف بَين الصَّفَا والمروة، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة. فَقَالَت عَائِشَة: بئْسَمَا رَأَيْت يَا ابْن أُخْتِي وَذكرت الْقِصَّة فِي سَبَب نزُول الْآيَة ". والقصة فِي ذَلِك أَنه كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة على الصَّفَا والمروة صنمان: إساف ونائلة، وَكَانَ إساف على الصَّفَا، ونائلة على الْمَرْوَة، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يطوفون بَين الصَّفَا والمروة تَعْظِيمًا للصنمين، فَلَمَّا فتح النَّبِي مَكَّة، وَكسر الْأَصْنَام. وَكَانَ الْمُسلمُونَ يتحرجون عَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة لمَكَان الصنمين اللَّذين كَانَا عَلَيْهِم؛ فَنزلت الْآيَة فِي رفع ذَلِك الْحَرج. ثمَّ وجوب السَّعْي بالْخبر؛ وَهُوَ قَوْله: " إِن الله تَعَالَى كتب عَلَيْكُم السَّعْي فَاسْعَوْا ".

{أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا فَأُولَئِك أَتُوب عَلَيْهِم أَنا} فَأَما تِلْكَ الْقِرَاءَة " أَن لَا يطوف بهما " فَهِيَ قِرَاءَة مهجورة فَلَا تتْرك بهَا الْقِرَاءَة الْمَعْهُودَة. وَقيل: " لَا " فِيهِ صلَة. وَالْمرَاد: أَن يطوف. قَالَ الشَّاعِر: (لَا ألوم الْبيض أَلا تسخرا ... لما رأين الشمط القفندرا) أَي: أَن تسخر. قَوْله تَعَالَى: {وَمن تطوع خيرا} قَرَأَ حَمْزَة: " وَمن يطوع " مشدد. وَمَعْنَاهُ يتَطَوَّع وَالْمَعْرُوف {وَمن تطوع} . ثمَّ من قَالَ: إِن السَّعْي لَيْسَ بِرُكْن صرف قَوْله: {وَمن تطوع} إِلَى السَّعْي. وَمن قَالَ: إِنَّه ركن صرفه إِلَى أصل الْحَج وَالْعمْرَة. وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ التَّطَوُّع بِسَائِر الْأَعْمَال. {فَإِن الله شَاكر عليم} وَالشُّكْر من الله: أَن يُعْطي فَوق مَا يسْتَحق العَبْد.

159

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب} نزلت الْآيَة فِي الْيَهُود. {أُولَئِكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} قَالَ ابْن عَبَّاس: اللاعنون: هم كل الْخَلَائق سوى الْجِنّ وَالْإِنْس. وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الأَرْض إِذا أجدبت يلعن كل شَيْء عصاة بني آدم؛ حَتَّى الخنافس يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَن عصاة بني آدم؛ فَإنَّا حرمنا الرزق بشؤم معاصيهم ". وَقَالَ قَتَادَة: اللاعنون: هم الْمَلَائِكَة والمؤمنون. وَقيل: هم الْجِنّ وَالْإِنْس.

{التواب الرَّحِيم (160) إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم كفار أُولَئِكَ عَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ (161) خَالِدين فِيهَا لَا يخف عَنْهُم الْعَذَاب وَلَا هم} وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: مَا تلاعن اثْنَان وَلم يَكُونَا مستحقين إِلَّا رجعت اللَّعْنَة على الْيَهُود.

160

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} أَي: أَسْلمُوا {وَأَصْلحُوا} أَي: داموا على التَّوْبَة {وبينوا} مَا كتموا {فَأُولَئِك أَتُوب عَلَيْهِم وَأَنا التواب الرَّحِيم} .

161

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم كفار أُولَئِكَ عَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: {النَّاس أَجْمَعِينَ} والملعون من جملَة النَّاس؛ فَكيف يلعن نَفسه؟ قيل: يلعن نَفسه فِي الْقِيَامَة. قَالَ الله تَعَالَى: {ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا} .

162

وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا} يَعْنِي فِي اللَّعْنَة، وَيحْتَمل فِي النَّار وَإِن لم تكن مَذْكُورَة فِي الْآيَة {لَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب وَلَا هم ينظرُونَ} مَعْلُوم التَّفْسِير.

163

قَوْله تَعَالَى: {وإلهكم إِلَه وَاحِد} وَسبب نزُول [هَذِه] الْآيَة مَا روى أَن الْمُشْركين قَالُوا لرَسُول الله أنسب لنا رَبك، أوصف لنا رَبك؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى {وإلهكم إِلَه وَاحِد} وَسورَة الْإِخْلَاص. قَالَ الْأَزْهَرِي: الْوَاحِد: الَّذِي لَا نَظِير لَهُ، يُقَال: فلَان وَاحِد الْعَالم أَي: لَا نَظِير لَهُ فِي الْعَالم. وَحَقِيقَة الْوَاحِد: هُوَ الْمُنْفَرد الَّذِي لَا نَظِير لَهُ وَلَا شريك. {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم} روى شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد النهشلية عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اسْم الله الْأَعْظَم فِي آيَتَيْنِ من سُورَة الْبَقَرَة: آيَة الْكُرْسِيّ، وَهَذِه الْآيَة {وإلهكم إِلَه وَاحِد} ".

164

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} روى أَنه لما نزل قَوْله:

{ينظرُونَ (162) وإلهكم إِلَه وَاحِد لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم (163) إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع} {وإلهكم إِلَه وَاحِد} قَالَ الْمُشْركُونَ لرَسُول الله: مَا الدَّلِيل على أَنه وَاحِد؛ فَنزل قَوْله: {إِن فِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض} والخلق: هُوَ ابتداع الشَّيْء وَتَقْدِيره، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (ولأنت تفري مَا خلقت وَبَعض ... الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفري) أَي: يقطع مَا قدرت. وَالسَّمَاوَات: جمع سَمَاء، وَهِي سبع سماوات، وَكَذَلِكَ الأرضون سبع، على الصَّحِيح. وَإِنَّمَا ذكر السَّمَاوَات بِلَفْظ الْجمع، وَالْأَرْض يلفظ الْوَاحِد؛ لِأَن كل سَمَاء من جنس آخر. والأرضون كلهَا من جنس وَاحِد. وَهُوَ التُّرَاب، وَالْآيَة فِي السَّمَاوَات: سمكها [وسعته] وارتفاعها من غير عمد وَلَا علاقَة، وَمَا ترى فِيهَا من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم. وَالْآيَة فِي الأَرْض: مدها وبسطها وسعتها وَمَا يرى فِيهَا من الْأَشْجَار والأنهار وَالْجِبَال والبحار والجواهر والنبات. وَقَوله تَعَالَى: {وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} وَذَلِكَ [ذهابهما ومجيئهم] وَمِنْه قَوْلهم: فلَان يخْتَلف إِلَى فلَان. أَي: يذهب وَيَجِيء مرّة بعد أُخْرَى. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة} أَي: يخلف أَحدهمَا الآخر، وَالْآيَة فِي اللَّيْل وَالنَّهَار نقصانهما وزيادتهما وَأَن يذهب ضوء النَّهَار فَلَا يدْرِي أَيْن ذهب، وَيذْهب سَواد اللَّيْل فَلَا يدْرِي أَيْن ذهب.

{النَّاس وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا وَبث فِيهَا من كل دَابَّة وتصريف الرِّيَاح والسحاب المسخر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لآيَات لقوم} وَقَوله تَعَالَى: {والفلك الَّتِي تجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا ينفع النَّاس} والفلك: اسْم للْجمع والواحدان فَإِذا أُرِيد بِهِ الْجمع يؤنث، وَإِذا أُرِيد بِهِ الْوَاحِد يذكر، وَقد ورد بالصيغتين فِي الْقُرْآن، وَالْمرَاد هَا هُنَا الْجمع. وَالْآيَة فِي الْفلك تسخيره [وجريها] على وَجه المَاء. وَهِي موفرة مثقلة لَا ترسب تَحت المَاء بل تعلو على وَجه المَاء. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء} قيل: إِن الله تَعَالَى يخلق المَاء فِي السَّحَاب، فعلى هَذَا؛ السَّمَاء هَا هُنَا بِمَعْنى السَّحَاب. وَقيل: بل يخلق المَاء فِي السَّمَاء، وَمن السَّمَاء ينزل إِلَى السَّحَاب ثمَّ من السَّحَاب ينزل إِلَى الأَرْض. وَقَوله تَعَالَى: {فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا} أَي: بعد يبسها وجدوبتها. فَإِن الأَرْض إِذا أجدبت فقد مَاتَت. وَإِذا أخصبت فقد حييت. وَقَوله تَعَالَى: {وَبث فِيهَا من كل دَابَّة} أَي: فرق فِيهَا. وَقَوله: {وتصريف الرِّيَاح} قيل: تصريفها أَن الرِّيَاح تَارَة تكون شمالا وَتارَة تكون جنوبا، وَتارَة تكون قبولا، وَتارَة تكون دبورا، وَتارَة نكباء، والنكباء: فَهِيَ الَّتِي لَا تعرف لَهَا جِهَة. وَقيل: تصريفها: أَن الرّيح تَارَة تكون لينًا، وَتارَة عاصفا، وَتارَة حارة، وَتارَة بَارِدَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: أعظم جنود الله الرّيح وَالْمَاء. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: للريح جَنَاحَانِ، والسحاب: غلاف مَمْلُوء نت المَاء. وَفِي مصحف حَفْصَة (وتصريف الْأَرْوَاح) وَهُوَ قريب من الرِّيَاح. وَسميت الرّيح ريحًا؛ لِأَنَّهَا تريح النَّفس. قَالَ شُرَيْح القَاضِي: مَا هبت ريح إِلَّا لشفاء سقيم أَو لسقم صَحِيح. وَقَوله تَعَالَى: {والسحاب المسخر} أَي: الْمُذَلل {بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لآيَات لقوم يعْقلُونَ} .

{يعْقلُونَ (164) وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا اشد حبا لله وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا إِذْ يرَوْنَ الْعَذَاب أَن الْقُوَّة لله} قَالَ وهب بن مُنَبّه: ثَلَاثَة لَا يدْرِي من أَيْن تَجِيء: الرَّعْد، والبرق، والسحاب.

165

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا} كَأَنَّهُ عَابَ الْمُشْركين حَيْثُ اتَّخذُوا من دونه أندادا بَعْدَمَا أظهر الدَّلَائِل، وَنصب الْبَرَاهِين، على الوحدانية {أندادا} أَي: أصناما. قَوْله تَعَالَى: {يحبونهم كحب الله} قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد النَّحْوِيّ: معنى قَوْله: {يحبونهم كحب الله} أَي: يحبونَ آلِهَتهم كحب الْمُؤمنِينَ لله. وَقيل مَعْنَاهُ: يحبونَ الْأَصْنَام كَمَا يحبونَ الله؛ لأَنهم أشركوها مَعَ الله. {وَالَّذين آمنُوا اشد حبا لله} لأَنهم لَا يختارون على الله مَا سوى الله. وَالْمُشْرِكُونَ إِذا اتَّخذُوا صنما ثمَّ رَأَوْا أحسن مِنْهُ، طرحوا الأول واختاروا الثَّانِي. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا إِذْ يرَوْنَ الْعَذَاب} قرىء هَذَا بقراءتين. " وَلَو يرى " بِالْيَاءِ. " وَلَو ترى " بِالتَّاءِ. وَالْمعْنَى: اعْلَم أَولا أَن جَوَاب " لَو " هَاهُنَا مَحْذُوف، وَمثله كثير فِي الْقُرْآن. قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم} وَقَالَ: {وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال أَو قطعت بِهِ الأَرْض أَو كلم بِهِ الْمَوْتَى} ثمَّ حذف الْجَواب اخْتِصَار السبقه إِلَى الإفهام.

{جَمِيعًا وَأَن الله شَدِيد الْعَذَاب (165) إِذْ تَبرأ الَّذين اتبعُوا من الَّذين اتبعُوا وَرَأَوا} ثمَّ من قَرَأَ " وَلَو يرى " بِالْيَاءِ، فتقديره: وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا شدَّة عَذَاب الله وعقوبته حِين يرَوْنَ الْعَذَاب لعرفوا أَن مَا اتَّخذُوا من الْأَصْنَام لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ. وَمن قَرَأَ " وَلَو ترى " بِالتَّاءِ فَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَو ترى يَا مُحَمَّد الَّذين ظلمُوا فِي شدَّة الْعَذَاب حِين رَأَوْا الْعَذَاب لرأيت أمرا عجيبا. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: قل يَا مُحَمَّد: أَيهَا الظَّالِم، وَلَو ترى الَّذين ظلمُوا فِي شدَّة الْعَذَاب لتعجبت مِنْهُ ولرأيت أمرا فظيعا. وَقَوله تَعَالَى: {أَن الْقُوَّة لله جَمِيعًا وَأَن الله شَدِيد الْعَذَاب} قَوْله: " أَن الْقُوَّة " يقْرَأ بِكَسْر الْألف، وَفتحهَا، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ، كَانَ على الِابْتِدَاء بعد تَمام الأول، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح كَانَ تَمام الأول، وَمَعْنَاهُ: لِأَن الْقُوَّة لله.

166

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تَبرأ الَّذين اتبعُوا من الَّذين اتبعُوا} هَذَا فِي الْقِيَامَة، حِين يجمع الله القادة وأتباعهم، يبرأ بَعضهم من بعض. {وَرَأَوا الْعَذَاب وتقطعت [بهم] الْأَسْبَاب} أَي: الوصلات فِي الدُّنْيَا من [الْقرَابَات] والصداقات. قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي الْوَصْل وَهُوَ قريب من الأول. وَقيل الْأَسْبَاب: الْأَعْمَال. وَقد ترد بِمَعْنى: أَبْوَاب السَّمَاوَات وَالْأَرْض.

{الْعَذَاب وتقطعت بهم الْأَسْبَاب (166) وَقَالَ الَّذين اتبعُوا لَو أَن لنا كرة فنتبرأ مِنْهُم كَمَا تبرءوا منا كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم وَمَا هم بِخَارِجِينَ من النَّار (167) } وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات} أَي: أَبْوَابهَا. قَالَ الشَّاعِر: (وَمن هاب أَسبَاب المنايا [يتلقها] ... وَإِن رام أَسبَاب السَّمَاء بسلم) وأصل السَّبَب: مَا يُوصل. وَمِنْه يُقَال: للحبل سَبَب، وَقَوله تَعَالَى: {وتقطعت بهم} أَي: عَنْهُم، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {فاسأل بِهِ خَبِيرا} أَي: عَنهُ خَبِيرا.

167

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين اتبعُوا لَو أَن لنا كرة} أَي: رَجْعَة إِلَى الدُّنْيَا. {فنتبرأ مِنْهُم كَمَا تبرءوا منا كَذَلِك يُرِيهم الله أَعْمَالهم حسرات عَلَيْهِم وَمَا هم بِخَارِجِينَ من النَّار} . وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يُرِيهم مَا ارتكبوا من السَّيِّئَات؛ فَتلك الحسرات. وَالثَّانِي: أَنه يُرِيهم مَا تركُوا من الْخيرَات والحسنات؛ ليَكُون عَلَيْهِم حسرات.

{يَا أَيهَا النَّاس كلوا مِمَّا فِي الأَرْض حَلَالا طيبا وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (168) إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء وَأَن تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ (169) وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ}

168

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس كلوا مِمَّا فِي الأَرْض} حكى عَن أبي مُحَمَّد سُفْيَان بن عُيَيْنَة الْهِلَالِي أَنه سُئِلَ عَن أكل الطين فَقَالَ: لَا تَأْكُل لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {كلوا مِمَّا فِي الأَرْض} وَلم يقل: كلوا من الأَرْض {حَلَالا طيبا} فالحلال: كل مَا أحله الشَّرْع. وَفِي الطّيب قَولَانِ: أَحدهمَا: كل مَا يستطاب ويستلذ فَهُوَ طيب. وَالْمُسلم يَسْتَطِيب الْحَلَال ويعاف الْحَرَام. وَقيل: الطّيب: الطَّاهِر. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا قَالَ مُجَاهِد: هِيَ خَطَايَا الشَّيْطَان. وَقَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد السدُوسِي: هِيَ النذور فِي الْمعاصِي. وَالْقَوْل الثَّالِث: هِيَ كل أَعمال الشَّيْطَان. واشتقاقها من الخطوة؛ لِأَن للخطا آثارا تبقى {إِنَّه لكم عَدو مُبين} ظَاهر الْمَعْنى.

169

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْمُركُمْ بالسوء والفحشاء} فالسوء: الْمعْصِيَة. والفحشاء فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ بِهِ الزِّنَا. وَقيل: الْبُخْل، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (عقيلة مَال الْفَاحِش المتشدد ... ) أَي: الْبَخِيل المتشدد {وَأَن تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ}

170

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا} أَي: وجدنَا. {عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ} مَعْنَاهُ: كَيفَ يتبعُون

{آباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء ونداء صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ (171) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} آبَاءَهُم وآباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ؟ ! وَفِي هَذَا نهي عَن تَقْلِيد الْآبَاء فِي الدّين.

171

قَوْله تَعَالَى: {وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء} النعق: صَوت الرَّاعِي بالغنم قَالَ الأخطل. (فانعق بضأنك يَا جرير فَإِنَّمَا ... منتك نَفسك فِي الْخَلَاء ضلالا) وَفِي الْآيَة مَحْذُوف مقدره. وتقديرها: مثل الْكفَّار وَمثلك يَا مُحَمَّد فِي دُعَائِهِمْ كَمثل الرَّاعِي ينعق بالغنم وَهِي لَا تسمع إِلَّا صَوتا وَلَا تفهم إِلَّا دُعَاء. {ونداء صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ} وَقيل: مَعْنَاهُ: مثل الْكفَّار فِي دُعَاء الْأَصْنَام. على هَذَا القَوْل إِشْكَال لِأَن؛ الْأَصْنَام لَا يسمعُونَ النداء وَلَا الدُّعَاء. وَكَيف يكون مثلا أَن يسمع ذَلِك كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع كَمَا بَينا؟ قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أَرَادَ بِالَّذِي ينعق: الصائح فِي الْجَبَل يَصِيح فَيسمع صَوتا؛ وَهُوَ الصدى. وَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْقُول وَلَا مَفْهُوم. وَضرب الْمثل بِهِ للْكفَّار فِي قلَّة الْفَهم وَالْعقل.

172

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم} وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَمر الله الْمُؤمنِينَ بِمَا أَمر بِهِ الْمُرْسلين فَقَالَ: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات} وَقَالَ للْمُؤْمِنين {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله} " وَقد ذكرنَا معنى الطَّيِّبَات.

{كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ (172) إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل بِهِ لغير الله فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا} {واشكروا لله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} يَعْنِي: أَنكُمْ كَمَا تعبدونه على الإلهية، فاشكروه على الْإِحْسَان.

173

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة} " إِنَّمَا " لنفي وَالْإِثْبَات؛ لِأَنَّهَا مركبة من حرفي النَّفْي وَالْإِثْبَات " فَإِن " للإثبات " وَمَا " للنَّفْي. تَقول: إِن فِي الدَّار زيدا. يفهم مِنْهُ وجود زيد فِي الدَّار. فَإِذا قلت: " إِنَّمَا زيد فِي الدَّار " يفهم مِنْهُ أَنه لَا أحد فِي الدَّار إِلَّا زيد. وَأما الْميتَة: اسْم لما خرج روحه من غير ذَكَاة {وَالدَّم} مَعْرُوف وَفِيهِمَا تَخْصِيص؛ فَإِن الشَّرْع أَبَاحَ من الْميتَة: السّمك وَالْجَرَاد، وَمن الدِّمَاء: الكبد وَالطحَال. وَقَوله تَعَالَى: {وَلحم الْخِنْزِير} أَي: الْخِنْزِير بِلَحْمِهِ وشحمه وَجَمِيع أَجْزَائِهِ. {وَمَا أهل بِهِ لغير الله} أَي: ذبح على اسْم الْأَصْنَام، وأصل الإهلال: رفع الصَّوْت، وَكَانُوا يرفعون أَصْوَاتهم على الذَّبَائِح، قَالَ ابْن أَحْمَر: (يهل بالفرقد ركبانها ... كَمَا يهل الرَّاكِب الْمُعْتَمِر) قَوْله تَعَالَى: {فَمن اضْطر} يقْرَأ بقراءتين: بِكَسْر النُّون، ورفعها، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ على الأَصْل وَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَلَا تبَاع ضمة الطَّاء، والاضطرار إِلَى أكل الْميتَة {غير بَاغ وَلَا عَاد} قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: غير بَاغ أَي: غير خَارج على السُّلْطَان. {وَلَا عَاد} وَلَا مُتَعَدٍّ، عَاص فِي سَفَره. فَفِي هَذَا دَلِيل على أَن العَاصِي فِي سَفَره لَا يترخص بِأَكْل الْميتَة. وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: {غير بَاغ} أَي: غير طَالب للميتة على الشِّبَع؛ فيأكله تلذذا. {وَلَا عَاد} وَلَا مجاوزا بِأَكْلِهِ حد الْحَاجة. {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

{عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (173) إِن الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْكتاب ويشترون بِهِ ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار وَلَا يكلمهم}

174

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزل الله من الْكتاب ويشترون بِهِ ثمنا قَلِيلا} قد سبق تَفْسِيره. وَقَوله تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُون فِي بطونهم إِلَّا النَّار} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الَّذين أكلُوا من الرِّشْوَة فالمأكلة تصير فِي بطونهم نَارا. وَقيل: مَعْنَاهُ أَن ذَلِك الْأكل لما كَانَ يُفْضِي بهم إِلَى النَّار؛ فكأنهم يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا. وَمثله قَول الشَّاعِر: (وَأم سليم فَلَا تجزعن ... فللموت مَا تَلد الوالدة) وَقَالَ آخر: (لدوا للْمَوْت وَابْنُوا للخراب ... فكلكم يصير إِلَى الْفَوات) وَمَعْلُوم أَن الْوَلَد لَا يُولد للْمَوْت، وَلَكِن لما كَانَ يؤول إِلَى الْمَوْت لَا محَالة أَضَافَهُ إِلَيْهِ. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَا يكلمهم وَلَكِن يكلمهم بالتهديد والتوبيخ. وَقيل: فِي مَعْنَاهُ: أَنه غَضْبَان عَلَيْهِم؛ كَمَا يُقَال: فلَان لَا يكلم فلَانا؛ إِذا كَانَ عَلَيْهِ غَضْبَان.

{الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (174) أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة فَمَا أصبرهم على النَّار (175) ذَلِك بِأَن الله نزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِي الْكتاب لفي شقَاق بعيد (176) لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق وَالْمغْرب وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَالْمَلَائِكَة} {وَلَا يزكيهم} أَي: لَا يطهرهم من الذُّنُوب {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} .

175

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى وَالْعَذَاب بالمغفرة فَمَا أصبرهم على النَّار} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: أَي شَيْء صبرهم على النَّار؟ ! وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء: مَعْنَاهُ: فَمَا أجرأهم على النَّار، وَحكى الْكسَائي: أَن أعرابيين اخْتَصمَا إِلَى قَاض، فَحلف الْمُنكر، فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي: مَا أصبرك على النَّار، أَي: مَا أجرأك على النَّار. وَقَالَ بعض النَّحْوِيين: مَعْنَاهُ: فَمَا أبقاهم فِي النَّار، يُقَال: فلَان مَا أصبره على الْحَبْس، أَي: مَا أبقاه فِي الْحَبْس، " وَمَا " للتعجب هَاهُنَا. قَالَ الْكسَائي: التَّعَجُّب من الله بِمَعْنى: التَّعَجُّب لِلْخلقِ

176

{ذَلِك بِأَن الله نزل الْكتاب بِالْحَقِّ} وهم منكرون لذَلِك. {وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِي الْكتاب لفي شقَاق بعيد} أَي: خلاف طَوِيل. وَإِنَّمَا سمى الْخلاف: شقاقا؛ لِأَن الْمُخَالف يكون فِي شقّ، وَصَاحبه فِي شقّ آخر.

177

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق وَالْمغْرب} فالبر: كل عمل خير، يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الْجنَّة. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْخطاب مَعَ الْمُسلمين، فَإِنَّهُم كَانُوا فِي الِابْتِدَاء يأْتونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، والصلوات إِلَى أَي جِهَة شَاءُوا. فَقَالَ: لَيْسَ كل الْبر أَن تصلوا قبل الْمشرق وَالْمغْرب {وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه} فَأَمرهمْ بِسَائِر الشَّرَائِع الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة.

{وَالْكتاب والنبيين وَآتى المَال على حبه ذَوي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل والسائلين وَفِي الرّقاب وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة والموفون بعهدهم إِذا} وَقيل: هُوَ خطاب للْيَهُود وَالنَّصَارَى إِذْ كَانَ قبْلَة الْيَهُود الْمغرب، وقبلة النَّصَارَى الْمشرق. فَقَالَ: لَيْسَ الْبر أَن توَلّوا وُجُوهكُم قبل الْمشرق أَيهَا النَّصَارَى، وَقبل الْمغرب أَيهَا الْيَهُود، وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه. وَفِي تَقْدِيره قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن تَقْدِيره وَلَكِن ذَا الْبر من آمن بِاللَّه، وَالثَّانِي: أَن تَقْدِيره: وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه {وَالْيَوْم الآخر وَالْمَلَائِكَة وَالْكتاب والنبيين وَآتى المَال على حبه} أَي: حب المَال. قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ أَن تَتَصَدَّق وَأَنت صَحِيح شحيح، تَأمل الْبَقَاء، وتخشى الْفقر {ذَوي الْقُرْبَى} أهل الْقرَابَات. {واليتامى وَالْمَسَاكِين} قد ذَكَرْنَاهُمْ. {وَابْن السَّبِيل} هُوَ الْمُنْقَطع. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الضَّيْف {والسائلين} مَعْلُوم {وَفِي الرّقاب} يَعْنِي: المكاتبين. {وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة والموفون بعهدم إِذا عَاهَدُوا} فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: " والموفون " على الرّفْع؟ قيل: فِيهِ قَولَانِ. أصَحهمَا: أَنه مَعْطُوف على خبر لَكِن، وَتَقْدِيره: وَلَكِن ذَا الْبر الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّه والموفون. وَقيل تَقْدِيره: وهم الموفون كَأَنَّهُ عد أصنافا، ثمَّ قَالَ: هم والموفون كَذَا وَكَذَا. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْكَلَام إِذا طَال فالعرب قد تخَالف فِي الْأَعْرَاب. {وَالصَّابِرِينَ} نصب على الْمَدْح. وَقيل تَقْدِيره: أَعنِي الصابرين. قَالَ الشَّاعِر: (لَا يبعدن قومِي الَّذين هم ... سم العداة وَآفَة الجزر) (النازلين بِكُل معترك ... والطيبين معاقد الْأرز) وَقَوله تَعَالَى: {فِي البأساء} هُوَ الْجُوع {وَالضَّرَّاء} الْمَرَض وَالضَّرَر.

{عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البأساء وَالضَّرَّاء وَحين الْبَأْس أُولَئِكَ الَّذين صدقُوا وَأُولَئِكَ هم المتقون (177) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء} {وَحين الْبَأْس} وَحين الْقِتَال {أُولَئِكَ الَّذين صدقُوا} وفوا بالعهد، وَقيل: صدقت أفعالهم أَقْوَالهم {وَأُولَئِكَ هم المتقون} .

178

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى} أَي: فرض عَلَيْكُم. {الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، وَكَانَ الْقصاص بَين الْحر وَالْحر، وَالْعَبْد مَعَ العَبْد، وَالْأُنْثَى مَعَ الْأُنْثَى، وَمَا كَانَ يقتل الْحر بِالْعَبدِ، وَلَا العَبْد بِالْحرِّ، وَلَا الذّكر بِالْأُنْثَى، وَلَا الْأُنْثَى بِالذكر: ثمَّ نسخ ذَلِك بقوله: {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ} فَجرى الْقصاص بَين الْكل. وَأما عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فقد قَالَ فِي الْحر إِذا قتل عبدا: يقتل الْحر بِهِ، ثمَّ سيد العَبْد يغرم لولى الْقَاتِل الْحر، مَا بَين دِيَته وَقِيمَة العَبْد، وَإِذا قتل العَبْد حرا، يقتل العَبْد بِهِ، ثمَّ يغرم سيد العَبْد الْقَاتِل لولى الْحر الْمَقْتُول مَا بَين دِيَته وَقِيمَة العَبْد. وَفِيه قَول آخر محكي عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة نزلت فِي قبيلتين، كَانَ لأحديهما على الْأُخْرَى فضل. فَقَالَت الْقَبِيلَة الفاضلة: يقتل الْحر مِنْكُم بِالْعَبدِ منا، وَالذكر مِنْكُم بِالْأُنْثَى منا؛ فَنزلت الْآيَة ردا لقَولهم. وَقَوله تَعَالَى: {فَمن عفى لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان} وأصل الْعَفو: التّرْك. وَأظْهر الْأَقْوَال فِيهِ: مَذْهَب عَامَّة الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ؛ أَن من عَفا عَن الْقصاص فَلهُ أَخذ الدِّيَة، فَهَذَا يتبع بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي: لَا يطْلب الْمَزِيد على قدر حَقه. وَيُؤَدِّي ذَلِك بِالْإِحْسَانِ، أَي: لَا يماطل فِي الْأَدَاء.

{إِلَيْهِ بِإِحْسَان ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم (178) وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (179) كتب عَلَيْكُم} قَالَ الْأَزْهَرِي: فِي الْآيَة تَقْدِير: وَمَعْنَاهُ: فَمن جعل لَهُ من مَال أَخِيه يَعْنِي الْقَاتِل أَو فَمن جعل لَهُ من بدل دم أَخِيه يَعْنِي الْمَقْتُول عَفْو أَي: فضل، فَليتبعْ الطَّالِب بِالْمَعْرُوفِ، وليؤد الْمَطْلُوب بِالْإِحْسَانِ. وَظَاهره يَقْتَضِي أَن أخوة الدّين لَا تَنْقَطِع بَين الْقَاتِل والمقتول، حَيْثُ قَالَ: من أَخِيه، وَهُوَ الَّذِي نقُول بِهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ أخوة النّسَب. وَقيل: إِنَّمَا سَمَّاهُ أَخا حَال إِنْزَال الْآيَة، وَحَال نزُول الْآيَة كَانَ أَخا لَهُ قبل حُصُول الْقَتْل، لَا أَنه يبْقى أَخا لَهُ، فَإِن الْقَتْل يقطع الْمُوَالَاة بَين الْقَاتِل والمقتول، وَيُوجب الْبَرَاءَة [مِنْهُ] ؛ لفسقه وَقَتله. {ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة} وَمَعْنَاهُ: أَن الدِّيَة كَانَت فِي شرع النَّصَارَى حتما، وَالْقصاص فِي شرع الْيَهُود حتما، وخيرت هَذِه الْأمة بَين الْقصاص وَالدية، [فَذَلِك] التَّخْفِيف. {فَمن اعْتدى بعد ذَلِك} أَي: قتل بعد الْعَفو. {فَلهُ عَذَاب أَلِيم} أَي: الْقصاص. قَالَ ابْن جريج: إِن الْقصاص حتم عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَا يقبل الْعَفو.

179

قَوْله تَعَالَى: {وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} وَمعنى الْحَيَاة: أَنه إِذا فكر أَنه لَو قتل قتل، لم يقتل؛ فَيبقى والمقتول حيين. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} ترتدعون عَن الْقَتْل.

180

قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم} أَي: فرض عَلَيْكُم {إِذا حضر أحدكُم

{إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ (180) فَمن بدله بَعْدَمَا سَمعه فَإِنَّمَا إثمه على الَّذين يبدلونه إِن الله} الْمَوْت) إِذا قَارب أَوَان الْمَوْت. {إِن ترك خيرا} أَي: مَالا وسعة، وَالْخَيْر فِي كل الْقُرْآن بِمَعْنى المَال. {الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ} وَذَلِكَ أَن الْوَصِيَّة كَانَت وَاجِبَة فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام للْوَالِدين والأقربين، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الْمِيرَاث. قَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى قد أعْطى كل ذِي حق حَقه، أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث ". وَقَالَ الْحسن، وَطَاوُس، وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك،: إِن النّسخ فِي الْوَالِدين دون الْأَقْرَبين. ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَن أوصى بِثلث مَاله للْأَجْنَبِيّ، فَقَالَ بَعضهم: ثلث مَا أوصى بِهِ للأقربين، وثلثاه للْأَجْنَبِيّ. وَقَالَ بَعضهم: ثُلُثَاهُ للأقربين، وَثلثه للْأَجْنَبِيّ. وَقَالَ بَعضهم: كل الثُّلُث للأقربين، وَلَا شَيْء للْأَجْنَبِيّ، وَالأَصَح: أَنه صَار مَنْسُوخا فِي حق الْكل، وَبَقِي الِاسْتِحْبَاب فِي حق الْأَقْرَبين الَّذين لَا يَرِثُونَ. وَقيل: هُوَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام كَانَ على النّدب، وَالْمَنْدُوب فِي الْوَصِيَّة: بِمَا دون الثُّلُث. وَحكى عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: الْخمس مَعْرُوف، وَالرّبع جهد، وَالثلث غَايَة تنفذها الْقُضَاة.

181

قَوْله تَعَالَى: {فَمن بدله بعد مَا سَمعه} فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: {فَمن

{سميع عليم (181) فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا فَأصْلح بَينهم فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (182) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على} بدله) بعلامة التَّذْكِير، وَالْمَذْكُور مؤنث، وَهِي: الْوَصِيَّة؟ قيل مَعْنَاهُ: فَمن بدل أَمر الْوَصِيَّة. وَقيل: مَعْنَاهُ: فَمن بدل قَول الْمُوصي؛ لِأَن الْوَصِيَّة تصدر عَن قَول الْمُوصي؛ فَرجع إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَمن جَاءَهُ موعظة} أَي: جَاءَهُ وعظ، فَرجع إِلَى الْمَعْنى، كَذَا وَأَرَادَ بالتبديل: تَبْدِيل الشُّهَدَاء والأوصياء والأولياء. {فَإِنَّمَا إثمه على الَّذين يبدلونه} لَا على الْمُوصي. {إِن الله سميع} لما أوصى بِهِ الْمُوصي {عليم} بتبديل المبدلين.

182

قَوْله تَعَالَى: {فَمن خَافَ من موص جنفا أَو إِثْمًا} الْخَوْف هَا هُنَا بِمَعْنى الْعلم. وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله} وَقَوله: {وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا} . أَي: علمْتُم، وَإِنَّمَا عبر بالخوف عَن الْعلم؛ لِأَن الْخَوْف طرف إِلَى الْعلم فَإِنَّهُ إِنَّمَا يخَاف الْوُقُوع فِي الشَّيْء؛ للْعلم بِهِ. وَقَوله تَعَالَى: {من موص} قرىء بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، يُقَال: أوصى ووصى بِمَعْنى وَاحِد. وَأما الجنف: الْميل، وَالْإِثْم: الظُّلم، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ: (تجانف عَن جو الْيَمَامَة نَاقَتي ... وَمَا كَانَ قصدي أَهلهَا لسوائكا)

{الَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (183) أَيَّامًا معدودات فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين فَمن تطوع} وَقَالَ السدى: الجنف: الْخَطَأ، وَالْإِثْم: الْعمد. وَمعنى الْآيَة على قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: أَن الرجل إِذا حضر وَصِيَّة الْمُوصي فَرَآهُ يمِيل، إِمَّا بتقصير، أَو بإسراف، أَو وضع الْوَصِيَّة فِي غير موضعهَا؛ فأرشده، ورده إِلَى الْحق فَهُوَ مُبَاح لَهُ، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فَأصْلح بَينهم فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} . وَقيل: هَذَا فِي الْوَصِيَّة للأقربين حِين كَانَت وَاجِبَة، فَإِذا رَآهُ يُوصي لغير الْأَقْرَبين، يردهُ إِلَى الْوَصِيَّة للأقربين. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الإِمَام يصلح بَين الْمُوصي لَهُم وَالْوَرَثَة، فيردهم إِلَى الْحق. {فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} أَي: فَلَا حرج عَلَيْهِ {إِن الله غَفُور رَحِيم} .

183

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام} أَي: فرض عَلَيْكُم الصّيام. وَالصِّيَام فِي اللُّغَة: هُوَ الْإِمْسَاك. يُقَال: صَامت الْخَيل: إِذا أَمْسَكت عَن الْعلف، وَالسير، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (خيل صِيَام وخيل غير صَائِمَة ... تَحت العجاج وَأُخْرَى تعلك اللجما) وَمِنْه يُقَال: صَامَ النَّهَار: إِذا ارْتَفَعت الشَّمْس وَصَارَت فِي إبطاء السّير كالواقفة؛ وَذَلِكَ فِي وَقت الهاجرة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (فدعها وسل النَّفس عَنْك بجسرة ... [ذمول] إِذا صَامَ النَّهَار وهجرا) وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي نذرت للرحمن صوما} أَي: صمتا، وَفِي الصمت إمْسَاك عَن الْكَلَام.

{خيرا فَهُوَ خير لَهُ وَأَن تَصُومُوا خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (184) شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل} وَأما الصَّوْم فِي الشَّرِيعَة: هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء، مَعَ النِّيَّة، فِي وَقت مَخْصُوص. {كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ} اخْتلفُوا فِي هَذَا التَّشْبِيه. قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ الصَّوْم فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام وَاجِبا من الْعَتَمَة إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة، وَكَذَا كَانَ وَاجِبا على من قبلنَا. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: صَوْم رَمَضَان كتب على الْمُسلمين كَمَا كتب على الَّذين من قبلهم، يَعْنِي: النَّصَارَى. قَالَ دَغْفَل بن حَنْظَلَة: كَانَ الصَّوْم وَاجِبا على النَّصَارَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثمَّ إِن ملكا مِنْهُم مرض، فَقَالَ: إِن شفاني الله أَزِيد عشرَة، فشفاه الله فَزَاد عشرَة، ثمَّ إِن ملكا آخر مِنْهُم مرض وَقَالَ: إِن شفاني الله أَزِيد فِيهِ سَبْعَة أَيَّام، فشفاه الله فَزَاد سَبْعَة. قَالُوا: مَا هَذَا النُّقْصَان؟ ! أكملوه بِخَمْسِينَ. وَقَالُوا: نصومه فِي وَقت لَا حر وَلَا قر. فَكَانُوا يَصُومُونَ الْخمسين فِي وَقت الرّبيع، فَهَذَا أصل صَوْم الْخمسين فِي حق النَّصَارَى. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر: كَانَ وَاجِبا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، كَمَا كتب على الْيَهُود. روى معَاذ بن جبل: " أَن النَّبِي لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، رأى الْيَهُود يَصُومُونَ ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، وَيَوْم عَاشُورَاء، ففرضه الله عَلَيْهِ كَذَلِك ". وَكَانَ يصومها سَبْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، من الرّبيع إِلَى الرّبيع، ثمَّ نسخ ذَلِك بِصَوْم

{فِيهِ الْقُرْآن هدى للنَّاس وبينات من الْهدى وَالْفرْقَان فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} رَمَضَان. وَقيل: كَانَ يَصُوم الثَّلَاث فِي أَيَّام الْبيض. قَالَ ابْن عَبَّاس: أول مَا نسخ بعد الْهِجْرَة: أَمر الْقبْلَة، وَالصَّوْم. قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} يَعْنِي: بِالصَّوْمِ؛ لِأَن الصَّوْم وصلَة إِلَى التَّقْوَى بِمَا فِيهِ من قهر النَّفس وَكسر الشَّهَوَات. وَقيل: مَعْنَاهُ لَعَلَّكُمْ تخترزون عَن الشَّهَوَات من الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء.

184

قَوْله تَعَالَى: {أَيَّامًا معدودات} فَإِن قُلْنَا بنسخ الْآيَة فَهُوَ صَوْم كَانَ وَاجِبا ثمَّ نسخ. وَإِن قُلْنَا: الْآيَة غير مَنْسُوخَة فَالْمُرَاد بقوله: {أَيَّامًا معدودات} أَيَّام رَمَضَان، وَفِيه إِشَارَة إِلَى التَّيْسِير، حَيْثُ لم يُوجب صَوْم كل السّنة، وَإِنَّمَا أوجبه أَيَّامًا معدودات {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} قَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: يجب على الْمُسَافِر صَوْم عدَّة من أَيَّام أخر وَإِن صَامَ رَمَضَان قولا بِظَاهِر الْآيَة. وَالْجُمْهُور على أَن فِيهِ إضمارا وَتَقْدِيره: فَأفْطر، فَعدَّة من أَيَّام أخر. ثمَّ اخْتلفُوا فِي حد الْمَرَض الَّذِي يُبِيح الْفطر، فَقَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: هُوَ مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْمَرَض. وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين من السّلف. وَقَالَ الْحسن: هُوَ الْمَرَض الَّذِي تجوز مَعَه الصَّلَاة قَاعِدا. وَمذهب الشَّافِعِي: هُوَ الْمَرَض الَّذِي يخَاف من الصَّوْم مَعَه الزِّيَادَة فِي الْمَرَض. فَأَما حد السّفر الَّذِي يُبِيح الْفطر اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ دَاوُد وَمن تَابعه: هُوَ مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم السّفر. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه مَسَافَة الْقصر، سِتَّة عشر فرسخا.

{وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم} وَمذهب أبي حنيفَة رَضِي الله [عَنهُ] أَنه مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام، كَمَا قَالَ فِي الْقصر. قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} فِي الْآيَة قراءات: فالقراءة الْمَعْرُوفَة: هَذَا. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وعباس وَعَائِشَة وَهُوَ صَحِيح، عَن ابْن عَبَّاس: و " على الَّذين يطوقونه " وَقَرَأَ مُجَاهِد: " وعَلى الَّذين يطوقونه "، وهما من الشواذ. فَأَما قِرَاءَة: " فديَة طَعَام مِسْكين " فِيهِ قراءتان معروفتان: أَحدهمَا هَذِه، وَالثَّانيَِة: قِرَاءَة أهل الْمَدِينَة وَالشَّام " فديَة طَعَام مَسَاكِين " بِالْألف. وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة} أَرَادَ بِهِ: فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام كَانُوا مخيرين بَين الصَّوْم والفدية، فَقَالَ: وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة؛ إِن اخْتَارُوا الْفِدْيَة. وَقيل مَعْنَاهُ: وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فِي حَال الشَّبَاب، وعجزوا عَنهُ فِي الْكبر الْفِدْيَة إِذا أفطروا، وَهُوَ مروى عَن على، فعلى هَذَا لَا تكون الْآيَة مَنْسُوخَة. فَأَما قِرَاءَة ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: وعَلى الَّذين يطوقونه فَلَا يطيقُونَهُ الْفِدْيَة.

{الْعسر ولتكلموا الْعدة ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ ولعلكم تشكرون (185) } وَأما قِرَاءَة مُجَاهِد يطوقونه أَي: يتطوقونه وَيُكَلِّفُونَهُ فَلَا يطيقُونَهُ. وَأما قَوْله: {فديَة طَعَام مَسَاكِين} إِنَّمَا أضَاف الْفِدْيَة إِلَى الطَّعَام لِأَن الْفِدْيَة قدر من الطَّعَام، وَالطَّعَام اسْم الْجِنْس، وَهُوَ كَمَا يُقَال خَاتم فضَّة، وثوب خَز، وَنَحْو ذَلِك. وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة {فديَة} رفع على الِابْتِدَاء {طَعَام مِسْكين} تَفْسِير لَهُ وَبدل عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: " مِسْكين؛ لِأَن كل يَوْم يطعم مِسْكينا. وَمن قَرَأَ: " مَسَاكِين " لِأَن جملَة طَعَام أَيَّام الصَّوْم تكون لمساكين. وَقَوله تَعَالَى: {فَمن تطوع خيرا فَهُوَ خيرا لَهُ} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: من أطْعم مسكينين وَعَلِيهِ طَعَام مِسْكين وَاحِد، أَو أطْعم صَاعا وَعَلِيهِ مد، فَهُوَ خير لَهُ. قَوْله تَعَالَى: {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} إِن قُلْنَا بقول النّسخ، مَعْنَاهُ: وَأَن تَصُومُوا خير لكم من الْفِدْيَة. وَإِن قُلْنَا: الْآيَة غير مَنْسُوخَة فَمَعْنَاه: وَأَن تَصُومُوا فِي حَال الشَّبَاب خير لكم من الْفِدْيَة فِي حَال الْكبر وَالْعجز. وَقيل: هَذَا فِي حق الشَّيْخ الْهَرم، أَن يتَكَلَّف الصَّوْم خير لَهُ من أَن يفْدي. وَالصَّحِيح: أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين {إِن كُنْتُم تعلمُونَ} .

185

قَوْله تَعَالَى: {شهر رَمَضَان} سمى الشَّهْر بذلك لشهرته. وَأما رَمَضَان كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يُسمى شهر رَمَضَان ناتقا. قَالَ أَبُو عَليّ قطرب: إِنَّمَا سمى: رَمَضَان؛ لأَنهم كَانُوا يَصُومُونَ فِي الْحر الشَّديد، وَمِنْه الرمضاء: للرمل الَّذِي حمى بالشمس. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ اسْم من أَسمَاء الله، وَلذَلِك لَا يجمع على رمضانات، ويروى هَذَا

عَن النَّبِي غَرِيبا، وَالصَّحِيح أَنه اسْم الشَّهْر. وَقد ورد فِي فضل الشَّهْر وَالصَّوْم أَخْبَار، مِنْهَا مَا روى مَرْفُوعا: " سيد الشُّهُور شهر رَمَضَان ". وَصَحَّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ أول لَيْلَة من رَمَضَان فتحت أَبْوَاب الرَّحْمَة، وغلقت أَبْوَاب جَهَنَّم، وسلسلت الشَّيَاطِين " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وَقَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم؛ فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ. . " الْخَبَر. وَاخْتلفُوا فِي تَخْصِيص الصَّوْم، مِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ أَشد الْعِبَادَات فِي كسر

الشَّهَوَات وقمع النَّفس. وَمِنْهُم من قَالَ: لِأَنَّهُ سر بَين العَبْد وَبَين ربه. وَقَوله تَعَالَى: {الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا أنزل الْقُرْآن فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة فَكيف قَالَ: أنزل فِيهِ الْقُرْآن؟ وَالْجَوَاب: قَالَ ابْن عَبَّاس: أنزل الله تَعَالَى الْقُرْآن جملَة فِي رَمَضَان إِلَى بَيت فِي السَّمَاء الدُّنْيَا يُسمى بِبَيْت الْعِزَّة، ثمَّ مِنْهُ أنزل إِلَى الأَرْض إرْسَالًا. روى وائله بن الْأَسْقَع عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أنزلت صحف إِبْرَاهِيم فِي أول لَيْلَة من رَمَضَان، وأنزلت التَّوْرَاة فِي اللَّيْلَة السَّادِسَة من رَمَضَان، وَأنزل الْإِنْجِيل فِي لَيْلَة الثَّالِث عشر من رَمَضَان، وَأنزل الْقُرْآن لأَرْبَع وَعشْرين من رَمَضَان ". وَفِيه قَول ثَالِث مَعْنَاهُ: أنزل فِيهِ الْقُرْآن بفريضة صَوْم رَمَضَان. وَإِنَّمَا سمى الْقُرْآن قُرْآنًا؛ لِأَنَّهُ يجمع السُّور والآي، والحروف، وأصل الْقُرْآن: الْجمع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللَّوْن لم تقْرَأ جَنِينا) وَقَوله تَعَالَى {هدى للنَّاس} رشاد وَبَيَان. وَقَوله تَعَالَى: {وبينات من الْهدى وَالْفرْقَان} أَي: دلالات واضحات من الْحَلَال وَالْحرَام، وَالْفرْقَان: المفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل. وَقَوله تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد الْمبرد: مَعْنَاهُ فَمن كَانَ مِنْكُم مُقيما فِي الْحَضَر فَأدْرك الشَّهْر فليصمه. ثمَّ اخْتلفت الصَّحَابَة فِيمَن أدْرك الشَّهْر وَهُوَ مُقيم، ثمَّ سَافر على قَوْلَيْنِ: فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: لَا يجوز لَهُ أَن يفْطر. وَأكْثر الصَّحَابَة على أَنه يجوز الْفطر،

وَهُوَ الْأَصَح؛ لما صَحَّ عَن رَسُول الله بِرِوَايَة جَابر " أَنه سَافر فِي رَمَضَان فَلَمَّا بلغ كرَاع الغميم أفطر وَأفْطر النَّاس ". وَقَوله تَعَالَى: {فليصمه} أَي بِقدر مَا أدْرك وَهُوَ مُقيم {وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} إِنَّمَا أعَاد هَذَا ليعلم أَن هَذَا الحكم فِي النَّاسِخ مثل مَا كَانَ فِي الْمَنْسُوخ. وَقَوله تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} يَعْنِي فِي إِبَاحَة الْفطر بِالْمرضِ وَالسّفر، وَتَأْخِير الصَّوْم إِلَى أَيَّام أخر. وَحكى عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: مَا خير رجل بَين أَمريْن فَاخْتَارَ أيسرهما؛ إِلَّا كَانَ ذَلِك أحبهما إِلَى الله. وروى محجن بن أدرع: " أَن النَّبِي أخبر بِرَجُل كَانَ يُطِيل الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد طول النَّهَار فجَاء إِلَيْهِ وَأخذ بمنكبيه وهزهما هزا، ثمَّ قَالَ: إِن الله تَعَالَى رَضِي لهَذِهِ الْأمة باليسير، وَكره لَهُم الْعسر، وَإِن هَذَا الرجل رَضِي بالعسر وَيكرهُ الْيُسْر ". ومشهور عَن رَسُول الله: " أَن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه كَمَا يحب أَن تُؤْتى عَزَائِمه ".

( {وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان فليستجيبوا لي} ولتكملوا الْعدة) أَي: عدَّة الشَّهْر بِقَضَاء مَا أفطر فِي الْمَرَض أَو السّفر. {ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} أَي: لتعظموه على مَا أرشدكم إِلَى مَا رضى بِهِ من صَوْم رَمَضَان. قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ تَكْبِيرَات لَيْلَة الْفطر وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر، وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا. وَقَالَ: حق على كل مُسلم أَن يكبر لَيْلَة الْفطر إِلَى أَن يفرغ من صَلَاة الْعِيد {ولعلكم تشكرون} .

186

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب} فِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الصَّحَابَة قَالُوا: يَا رَسُول الله أَقَرِيب رَبنَا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فَنزلت الْآيَة ". وَالثَّانِي: أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {ادْعُونِي استجب لكم} قَالُوا: يَا رَسُول الله كَيفَ نَدْعُوهُ وَمَتى نَدْعُوهُ؛ فَنزلت الْآيَة. وَقَول: {فَإِنِّي قريب} أَي: لَا يخفى على شَيْء، وَهُوَ أقرب إِلَى الْعباد من حَبل الوريد، وَأقرب إِلَى الْقلب من ذِي الْقلب. وَقَوله تَعَالَى: {أُجِيب دَعْوَة الداع إِذا دعان} فِيهِ حذف. وَتَقْدِيره: أُجِيب دَعْوَة الداع إِن شِئْت. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ} . قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: أسمع دَعْوَة الدَّاعِي، تَقول الْعَرَب: فلَان يَدْعُو من لَا يُجيب، أَي من لَا يسمع، وَهَذَا لِأَنَّهُ قد يدعى فَلَا يُجيب، فَدلَّ أَنه أَرَادَ بالإجابة السماع. وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة الْإِجَابَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يخيب من دَعَاهُ، فَإِنَّهُ إِن دَعَاهُ بِمَا قدر

{وليؤمنوا بِي لَعَلَّهُم يرشدون (186) أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ علم الله أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا لَهُ أعْطى، وَإِن دَعَاهُ بِمَا لم يقدر لَهُ يدّخر لَهُ الثَّوَاب فِي الْآخِرَة فَلَا يخيب دعاءه. وَقد ورد عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " مَا من عبد يَقُول [يَا رب] إِلَّا قَالَ الله تَعَالَى: لبيْك عَبدِي، فيعجل مَا شَاءَ، ويدخر مَا شَاءَ ". قَوْله تَعَالَى: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بِي} قيل: الاستجابة هَاهُنَا بِمَعْنى الْإِجَابَة، وَعَلِيهِ يدل قَول الشَّاعِر: (وداع دعايا من يُجيب إِلَى الندى ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب) أَي: فَلم يجبهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ فليستدعوا مني الْإِجَابَة. وَحَقِيقَته فليطيعوا لي. {وليؤمنوا بِي لَعَلَّهُم يرشدون} ظَاهر الْمَعْنى.

187

قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم} أَي: أُبِيح لكم (لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم) . قيل: والرفث: كل مَا يُريدهُ الرجل من امْرَأَته، وَهُوَ بِمَعْنى الْوَطْء هَاهُنَا. قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن الله حييّ كريم، يكنى بالْحسنِ عَن الْقَبِيح. {هن لِبَاس لكم وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ} قيل: مَعْنَاهُ: هن سكن لكم، وَأَنْتُم سكن لَهُنَّ. وَقيل: لَا يسكن شَيْء إِلَى شَيْء كسكون أحد الزَّوْجَيْنِ إِلَى الآخر. وَقيل: أَرَادَ بِهِ حَقِيقَة اللبَاس، فَإِن أَحدهمَا يصير لباسا لصَاحبه عِنْد الْمُبَاشرَة، قَالَ

{عَنْكُم فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم} الشَّاعِر: (إِذا مَا الضجيع ثنى جيده ... تثنت فَصَارَت عَلَيْهِ لباسا) قَالَ الرّبيع بن أنس: مَعْنَاهُ: هن فرش لكم، وَأَنت لحف لَهُنَّ. وَقَوله تَعَالَى: (علم الله أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم) هُوَ افتعال: من الْخِيَانَة، أَي: تخونون أَنفسكُم بمخالفة الْأَمر، وَترك الْوِقَايَة. وَقَوله تَعَالَى: {فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا عَنْكُم فَالْآن باشروهن} قيل: أَرَادَ بِهِ الْوَطْء. وَقيل: مَا دون الْوَطْء. وَقَوله تَعَالَى: {وابتغوا مَا كتب الله لكم} قَالَ أنس بن مَالك: أَرَادَ بِهِ طلب الْوَلَد. وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ ابْتِغَاء لَيْلَة الْقدر. وَقَالَ قَتَادَة وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال: يَعْنِي: وابتغوا مَا كتب الله لكم من الرُّخْصَة بِإِبَاحَة الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء، فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس فِي الشواذ: " وَاتبعُوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا ". وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الله تَعَالَى كَانَ قد أوجب الصَّوْم فِي الِابْتِدَاء من الْعَتَمَة إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة، وَكَانَ كل من نَام أَو صلى الْعشَاء حرم عَلَيْهِ الْأكل، وَالشرب، وَالْوَطْء " فروى أَن رجلا يُقَال لَهُ: صرمة أَبُو قيس ظلّ يعْمل جَمِيع النَّهَار، ثمَّ آوى إِلَى منزله، وَطلب من امْرَأَته طَعَاما، فأبطأت، فغلبه النّوم، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ كَانَ قد حرم الطَّعَام وَالشرَاب فَأصْبح وَقد جهد جهدا شَدِيدا، حَتَّى خر مغشيا عَلَيْهِ، فَأخْبر بِهِ

{الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} رَسُول الله؛ فَنزلت الْآيَة بِإِبَاحَة الْأكل وَالشرب بِاللَّيْلِ. وَسبب إِبَاحَة الْمُبَاشرَة: مَا روى أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " يَا رَسُول الله إِنِّي أصبت امْرَأَتي بعد مَا نمت، فَقَالَ: مَا كنت جَدِيرًا بِهَذَا يَا عمر ". " وروى أَن رجلا من الصَّحَابَة أخبر النَّبِي بِمثل ذَلِك، فَنزلت الْآيَة بِإِبَاحَة الْمُبَاشرَة " وَذَلِكَ معنى قَوْله: {كُنْتُم تختانون أَنفسكُم} . فَأَما قَوْله: {وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: أَرَادَ بالخيط: اللَّوْن، وَمَعْنَاهُ: بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل. وَقَوله تَعَالَى: {من الْفجْر} سَبَب نُزُوله مَا روى " أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة أَخذ عدي ابْن حَاتِم عِقَالَيْنِ، أَحدهمَا أَبيض، وَالْآخر أسود، وَوَضعهمَا تَحت وسادته فَلَمَّا أصبح كَانَ ينظر إِلَيْهِمَا، ويتسحر، حَتَّى يتَبَيَّن الْأَبْيَض من الْأسود، فَأخْبر بِهِ النَّبِي فَقَالَ: إِنَّك لَعَرِيض الوساد ". وَفِي رِوَايَة: " إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا، إِنَّمَا هُوَ بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل " وَهِي كلمة لَهُم يكنون بهَا عَن قلَّة الْفَهم؛ فَنزل قَوْله {من الْفجْر} وَالْفَجْر فجران:

{وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تقربوها كَذَلِك} أَحدهمَا فجر مستطيل كذنب السرحان، يطاع صاعدا، ثمَّ يغيب، ويغلب الظلام، وَهُوَ الْفجْر الْكَاذِب. وَالثَّانِي بعده: فجر مستطير، ينتشر فِي الْأُفق سَرِيعا، وَقيل: يخْتَلط بِهِ الْحمرَة، وَهُوَ الْفجْر الصَّادِق الَّذِي يحرم الطَّعَام ويبيح الصّيام. وَتقول الْعَرَب: الْفجْر (بشير) الشَّمْس. ويحكى عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان خلافًا غَرِيبا، وَهُوَ مَعْرُوف عَنهُ، أَنه قَالَ: أَرَادَ بِالْفَجْرِ طُلُوع الشَّمْس، وَكَانَ يُبِيح التسحر بعد طُلُوع الْفجْر. وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} وَهَذَا يَقْتَضِي حُرْمَة الصَّوْم بِاللَّيْلِ لِأَنَّهُ قد جعله حدا. وَقد قَالَ: " من صَامَ بِاللَّيْلِ فقد تَعب وَلَا أجر لَهُ ". وَقَالَ أَيْضا: " إِذْ أقبل اللَّيْل من هَاهُنَا، وَأدبر النَّهَار من هَاهُنَا، فقد أفطر الصَّائِم ". قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} والعكوف: هُوَ الْمقَام فِي الْموضع. وَقيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُسلمين كَانُوا يخرجُون من الِاعْتِكَاف، ويباشرون الْأَهْل، ثمَّ يعودون إِلَى الْمُعْتَكف، فَحرم الله تَعَالَى الْمُبَاشرَة فِي الِاعْتِكَاف.

{يبين الله آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام لتأكلوا فريقا من أَمْوَال النَّاس بالإثم وَأَنْتُم تعلمُونَ (188) يَسْأَلُونَك} وَالِاعْتِكَاف جَائِز فِي كل الْمَسَاجِد، وَحكى عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان خلافًا شاذا فِيهِ فَقَالَ: لَا يجوز الِاعْتِكَاف إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَسَاجِد: فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى، وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَكَانَ يعيب على عبد الله بن مَسْعُود اعْتِكَافه فِي غَيرهَا من الْمَسَاجِد، وَكَانَ عبد الله يُنكره وَيرد عَلَيْهِ قَوْله، وَالْأمة على قَول عبد الله. وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُود الله} وَهِي مَا منع الله تَعَالَى عَنْهَا من الْمعاصِي. وأصل الْحَد: الْمَنْع. وَمِنْه الْحداد للبواب؛ لِأَنَّهُ يمْنَع النَّاس، وَمِنْه الْحَدِيد؛ لِأَنَّهُ يحتمي بِهِ للامتناع من الأعادي. وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا تقربوها} أَي: فَلَا ترتكبوها. وَقَوله تَعَالَى: {كَذَلِك يبين الله آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

188

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} أَي: لَا يَأْكُل بَعْضكُم أَمْوَال بعض بِالْبَاطِلِ. وَالْأكل بِالْبَاطِلِ نَوْعَانِ: أَحدهمَا: أَن يكون بطرِيق الْغَصْب والنهب وَالظُّلم. وَالْآخر: بطرِيق اللَّهْو مثل الْقمَار والرهان وَأُجْرَة الْمُغنِي وَنَحْو ذَلِك. وَقَوله تَعَالَى: {وتدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام} قيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تدلوا بهَا إِلَى الْحُكَّام، أَي لَا ترشوهم وتصانعوهم فيحكموا لكم بالجور. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ وتنسبونه إِلَى قَول الْحُكَّام وتتخذون قَوْلهم حجَّة. {وَأَنْتُم تعلمُونَ} خلَافَة، هَذَا دَلِيل على من يَقُول بنفوذ الْقَضَاء ظَاهرا وَبَاطنا. والإدلاء: الْإِلْقَاء يُقَال: أدلى دلوه، إِذا أرسل، ودلى إِذا أخرج.

{عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا وَلَكِن الْبر من اتَّقى وَأتوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون (189) } وَقَوله تَعَالَى: {لتأكلوا فريقا} أَي: طَائِفَة {من أَمْوَال النَّاس بالإثم} بالظلم {وَأَنْتُم تعلمُونَ} .

189

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة} وَهِي جمع الْهلَال، وَهُوَ اسْم للقمر أول مَا يَبْدُو دَقِيقًا وَإِنَّمَا سمى هلالا؛ لِأَن النَّاس يرفعون أَصْوَاتهم عِنْد رُؤْيَته. يُقَال: اسْتهلّ الصَّبِي: إِذا صَاح بالبكاء، وَالْعرب تسمى كل ثَلَاثَة من الشَّهْر باسم خَاص، فَتَقول للثَّلَاثَة الأولى: غرر، ثمَّ يَلِيهِ، نفل، ثمَّ يَلِيهِ، تسع، ثمَّ يَلِيهِ، عشر، ثمَّ يَلِيهِ، بيض، ثمَّ يَلِيهِ، ربع، وَالأَصَح روع، ثمَّ يَلِيهِ، ظلم، ثمَّ يَلِيهِ، حناوس، ثمَّ يَلِيهِ، وَادي، ثمَّ يَلِيهِ محاق. وَسبب نزُول الْآيَة: مَا روى أَن معَاذ بن جبل، وثعلبة بن عثيمة، قَالَا: " يَا رَسُول الله، مَا بَال حَال الْقَمَر يَبْدُو دَقِيقًا؛ ثمَّ يمتلئ فَوْرًا ثمَّ يعود دَقِيقًا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج} . يَعْنِي: فعلت مَا فعلت؛ ليَكُون مَوَاقِيت لصومكم، وفطركم، وحجكم، وآجال ديونكم ". وَقَوله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} قَالَ الْبَراء بن عَازِب: نزلت الْآيَة فِينَا معشر الْأَنْصَار، كَانَ الرجل منا إِذا خرج إِلَى الْحَج ثمَّ عَاد، لَا يدْخل دَاره من الْبَاب، وَلَكِن ينقب نقبا فِي مُؤخر الْبَيْت، فَيدْخل مِنْهُ، ويعد الدُّخُول من بَاب الْبَيْت فجورا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} أَي: بآخرها. {وَلَكِن الْبر من اتَّقى} أَي: بر من اتَّقى {وَأتوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا} ردهم إِلَى الْأَبْوَاب {وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} .

190

قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم} قيل: كَانَ فِي ابْتِدَاء

{وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ (190) واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم وأخرجوهم من حَيْثُ أخرجوكم والفتنة أَشد من الْقَتْل} الْإِسْلَام، أَمر الله تَعَالَى نبيه بالكف عَن قتال الْمُشْركين ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة أمره بقتالهم إِذا قَاتلُوا؛ بقوله تَعَالَى: {وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم} [ثمَّ] أمره بقتالهم قَاتلُوا أَو لَو يقاتلوا. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تَعْتَدوا} أَي: لَا تبدءوهم بِالْقِتَالِ. وَقيل: وَلَا تَعْتَدوا أَي: لَا تقتلُوا المعاهدين مِنْهُم {إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} .

191

قَوْله تَعَالَى: {واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم} قيل: نسخت الْآيَة الأولى بِهَذِهِ كَمَا بَينا. وَقيل: بل نسخت بقوله تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . وَقَالُوا: نسخت بهَا قَرِيبا من سبعين آيَة. {حَيْثُ ثقفتموهم} أَي: وَجَدْتُمُوهُمْ. وَقَوله تَعَالَى {وأخرجوهم من حَيْثُ أخرجوكم} وَذَلِكَ أَنهم أخرجُوا الْمُسلمين من مَكَّة؛ فَقَالَ: أخرجوهم من دِيَارهمْ كَمَا أخرجوكم من دِيَاركُمْ. {والفتنة أَشد من الْقَتْل} يَعْنِي بالفتنة: الْكفْر، وَسبب ذَلِك: أَن الله تَعَالَى لما حرم بدايتهم بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْر الْحَرَام، بَادر إِلَى قِتَالهمْ بعض الْمُسلمين، فعيرهم الْكفَّار عَلَيْهِ، فَقَالَ الله تَعَالَى {والفتنة أَشد من الْقَتْل} يَعْنِي: الشّرك الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ أَشد من قِتَالهمْ الَّذِي بدءوا بِهِ. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تقاتلوهم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} كَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاء حَرَامًا بدايتهم بِقِتَال فِي الْبَلَد الْحَرَام، ثمَّ صَار مَنْسُوخا.

{وَلَا تقاتلوهم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام حَتَّى يقاتلونكم فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِك جَزَاء الْكَافرين (191) فَإِن انْتَهوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (192) وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين لله فَإِن انْتَهوا فَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين (193) الشَّهْر} قَالَ عَطاء: لم يصر هَذَا مَنْسُوخا. وَالأَصَح أَن الْآيَة مَنْسُوخَة. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِك جَزَاء الْكَافرين}

192

{فَإِن انْتَهوا} يَعْنِي فَإِن أَسْلمُوا. {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} لما سلف.

193

قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي: شرك {وَيكون الدّين لله} أَي: قاتلوهم حَتَّى يسلمُوا لله. وَقيل: حَتَّى لَا تكون سَجْدَة إِلَّا لله. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن انْتَهوا فَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين} أَي: فَإِن أَسْلمُوا فَلَا نهب، وَلَا أسر، وَلَا قتل، إِلَّا على الَّذين بقوا على الشّرك.

194

قَوْله تَعَالَى: {الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص} فِي معنى الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ بِهِ فِي أَمر الْعمرَة، وَذَلِكَ مَا روى " أَن النَّبِي خرج مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقعدَة، فَلَمَّا بلغ الْحُدَيْبِيَة صده الْمُشْركُونَ، فَصَالحهُمْ على أَن يعود فِي الْعَام الْمقبل، ثمَّ عَاد مُعْتَمِرًا فِي الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة فأقضاه الله تَعَالَى مَا فَاتَ فِي الْعَام الأول بِمَا فعله فِي الْعَام الثَّانِي " فَهَذَا معنى قَوْله: {الشَّهْر الْحَرَام بالشهر الْحَرَام} يَعْنِي ذَا الْقعدَة. {والحرمات قصاص} يَعْنِي: حُرْمَة الشَّهْر الْحَرَام، وَحُرْمَة الْبَلَد الْحَرَام، وَحُرْمَة الْإِحْرَام. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه وَارِد فِي أَمر الْقِتَال، وَمَعْنَاهُ فَإِن بدءوكم بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْر الْحَرَام، وانتهكوا حرمته فَقَاتلهُمْ فِيهِ وَلَا تبالوا بحرمته؛ فَإِنَّهُ قصاص بِمَا فعلوا. {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} والاعتداء: الظُّلم،

{الْحَرَام بالشهر الْحَرَام والحرمات قصاص فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وأنفقوا فِي سَبِيل وَإِنَّمَا سمى الْجَزَاء على الظُّلم: اعتداء، على ازدواج الْكَلَام، وَمثله قَوْله تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} . وَتقول الْعَرَب: ظَلَمَنِي فلَان فظلمته، أَي: جازيته على الظُّلم. وَيُقَال: جهل فلَان على فجهلت عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر: (أَلا لَا يجهلهن أحد علينا ... فنجهل فَوق جهل الجاهلينا) وَقَالَ آخر: (ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للْجَهْل بِالْجَهْلِ مسرج) (وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ)

195

قَوْله تَعَالَى: {وأنفقوا فِي سَبِيل الله} أَرَادَ بِهِ: الْإِنْفَاق فِي الْجِهَاد، وكل خير سَبِيل الله، وَلَكِن إِذا أطلق سَبِيل الله، ينْصَرف إِلَى الْجِهَاد. {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} قيل: الْبَاء زَائِدَة، وَتَقْدِيره: وَلَا تلقوا أَيْدِيكُم، وَعبر بِالْأَيْدِي عَن الْأَنْفس، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {بِمَا كسبت أَيْدِيكُم} أَي: بِمَا كسبتم. وَقيل الْبَاء فِي موضعهَا، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: وَلَا تلقوا أَنفسكُم بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة. والتهلكة والهلاك: وَاحِد. وَقيل: بَينهمَا فرق، فالتهلكة: مَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ، والهلاك: مَا لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة بترك الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله. وَالثَّانِي: قَالَ النُّعْمَان بن بشير، والبراء بن عَازِب: إِن المُرَاد بِهِ: أَن يُذنب الرجل

{الله وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة وأحسنوا إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي وَلَا تحلقوا رءوسكم حَتَّى} ذَنبا ثمَّ يَقُول: لَا تَوْبَة لي، فيقنط من رَحْمَة الله ونعوذ بِاللَّه. وَالْأول أصح. لما روى عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِينَا معشر الْأَنْصَار فَإِن الله تَعَالَى لما نصر دنيه، وأعز نبيه، قُلْنَا: لَو أَقَمْنَا فِي أَمْوَالنَا نُصْلِحهَا، ونترك الْجِهَاد، فَإِنَّهَا تضيع، فَنزلت الْآيَة: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} يَعْنِي: بترك الْإِنْفَاق فِي الْجِهَاد، وَالْإِقَامَة على الْأَمْوَال، حَتَّى روى: أَنه لما نزلت الْآيَة مازال أَبُو أَيُّوب يَغْزُو حَتَّى آخر غَزْوَة غَزَاهَا بقسطنطينية، فِي بعث بعثة مُعَاوِيَة وَتُوفِّي (هُنَالك) وَدفن فِي أصل سور قسطنطينية وهم يستسقون بِهِ. وَقَوله تَعَالَى: {وأحسنوا} يَعْنِي: بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيل الله. وَقَالَ عِكْرِمَة: مَعْنَاهُ: أَحْسنُوا الظَّن بِاللَّه. وَقيل مَعْنَاهُ: أَدّوا فَرَائض الله {إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ} قَالَ فُضَيْل بن عِيَاض: من كَانَت تَحت يَده دجَاجَة فَلم يحسن إِلَيْهَا لم يكن من الْمُحْسِنِينَ.

196

قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: فِي الشواذ: " وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة إِلَى الْبَيْت " من غير قَوْله: " لله " وَقَرَأَ الشّعبِيّ: وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله على الِابْتِدَاء. وَاخْتلفُوا معنى الْإِتْمَام، قَالَ عمر: إِتْمَامهمَا أَن لَا ينْسَخ إِذْ كَانَ جَائِزا نسخه فِي الِابْتِدَاء. وَقَالَ عَليّ، وَابْن مَسْعُود: إِتْمَامهمَا أَن يحرم بهما من دويرة الْأَهْل. وَقيل: إِتْمَامهمَا أَن يكون الزَّاد وَالنَّفقَة من الْحَلَال. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: إِتْمَامهمَا أَن يقْصد

{يبلغ الْهَدْي مَحَله فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو} الْحَج وَلَا يقْصد التِّجَارَة. وَقيل: إِتْمَامهمَا أَن لَا يَعْصِي الله فِيهِ، وَيَأْتِي بِهِ على وَجهه كَمَا أَمر. ثمَّ اعْلَم أَن الْعمرَة وَاجِبَة، وَهُوَ قَول ابْن عمر، وَعند أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ سنة، وَهُوَ مروى عَن جَابر. وَالدَّلِيل على وُجُوبهَا: ظَاهر الْآيَة، وَهُوَ قَوْله: {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} وَظَاهر الْأَمر للْوُجُوب. وَقد ورد فِي فضل الْحَج وَالْعمْرَة أَخْبَار، مِنْهَا: مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " العمرتان تكفران مَا بَينهمَا، وَالْحج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة ". وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم} قَالَ ابْن عمر: الْإِحْصَار: من الْعَدو. (وَقَالَ ابْن مَسْعُود: الْإِحْصَار: من الْعَدو) وَالْمَرَض كِلَاهُمَا مُعْتَبر. وَعَن ابْن عَبَّاس فِيهِ رِوَايَتَانِ. والإحصار والحصر بِمَعْنى وَاحِد. وَقَالَ الْفراء: الْإِحْصَار: بِالْحَبْسِ، والحصر: منع الْعَدو. وَالصَّحِيح أَنه من الْعَدو دون الْمَرَض لقَوْله: {فَإِذا أمنتم} والأمن: من الْعَدو. وَمن قَالَ: بِالْأولِ قَالَ فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره. فَإِذا أمنتم من الْعَدو، وبرأتم من الْمَرَض. وَقَول تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى} وَأَقل مَا يجب مِنْهُ: ذبح الشَّاة، والأعلى: نحر بَدَنَة، والأوسط: ذبح بقرة، وَالْهدى والتهدية وَالْهدى بِمَعْنى وَاحِد؛ وَهُوَ مَا يهدي إِلَى مَوضِع، أَو إِلَى شخص. قَالَ الشَّاعِر: (حَلَفت بِرَبّ مَكَّة والمصلى ... وأعناق الْهدى مقلدات) وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهدى مَحَله} أَي: حَتَّى

{صَدَقَة أَو نسك فَإِذا أمنتم فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي فَمن} يذبح فِي مَوْضِعه، وَمَوْضِع الذّبْح عندنَا: حَيْثُ أحْصر وتحلل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: مَوْضِعه: مَكَّة. وَمَا قُلْنَاهُ أصح؛ لِأَن رَسُول الله " لما بلغ الْحُدَيْبِيَة مُعْتَمِرًا، فصده الْمُشْركُونَ، تحلل وَذبح هُنَالك ". قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَبُو بِهِ أَذَى من رَأسه} نزل هَذَا فِي كَعْب بن عجْرَة. روى عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى. عَن كَعْب بن عجْرَة أَنه قَالَ: " كنت مَعَ رَسُول الله بِالْحُدَيْبِية، وَكنت أنفخ تَحت الْقدر وَالْقمل يتهافت على وَجْهي، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: مَا هَذَا؟ ! احْلق رَأسك، وَاذْبَحْ شَاة، أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو أطْعم سِتَّة مَسَاكِين ". فَهَذَا معنى قَوْله: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} يَعْنِي: ذبح الشَّاة. وَذَلِكَ الْمَذْهَب عندنَا، أَن يذبح فِي فديَة الْأَذَى: شَاة، أَو يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام، أَو يتَصَدَّق بفرق من طَعَام، وَالْفرق: ثَلَاثَة أصوع، كل صَاع أَرْبَعَة أَمْدَاد، فَيتَصَدَّق على كل مِسْكين بمدين. وَقَالَ عَطاء: يطعم عشرَة مَسَاكِين. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا أمنتم فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج} قَالَ ابْن الزبير: يخْتَص التَّمَتُّع بالمحصر؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أمنتم} وَعَامة الصَّحَابَة على أَنه جَائِز على الْعُمُوم للكافة. ثمَّ مَذْهَب الْمَدَنِيين، والكوفيين: أَن التَّمَتُّع هُوَ: أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج،

{لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} ثمَّ يُقيم بِمَكَّة، ويحج من عَامه ذَلِك. وسمى تمتعا؛ لِأَنَّهُ يسْتَمْتع بالمحظورات إِذا تحلل عَن الْعمرَة إِلَى أَن يحرم بِالْحَجِّ. وَقَالَ طَاوس: لَا يخْتَص التَّمَتُّع بأشهر الْحَج، بل إِذا أحرم بِالْعُمْرَةِ فِي غير أشهر الْحَج يكون مُتَمَتِّعا. وَقَوله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى} أَي: ذبح الشَّاة. وَقَوله تَعَالَى: {فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج} وَذَلِكَ بِأَن يَصُوم يَوْمًا قبل التَّرويَة، وَيَوْم التَّرويَة، وَيَوْم عَرَفَة، وَيجوز أَن يَصُوم الثَّلَاثَة مُتَفَرِّقَة. وَقَالَ ابْن عمر، وَعَائِشَة: يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام منى، وَذَلِكَ التَّشْرِيق وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم. وَقَوله تَعَالَى: {وَسَبْعَة إِذا رجعتم} قَالَ ابْن عمر: مَعْنَاهُ إِذا رجعتم إِلَى الْأَهْل. وَالصَّحِيح: أَنه إِذا أَرَادَ الرُّجُوع عَن الْحَج حَتَّى لَو صَامَ السَّبع فِي الطَّرِيق جَازَ وَيجوز مُتَفَرقًا أَيْضا. وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} فَإِن قَالَ قَائِل: لَا يشكل أَن الثَّلَاثَة والسبع عشرَة، فَلم قَالَ: تِلْكَ عشرَة كَامِلَة؟ قُلْنَا: قيل: إِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا، وَمثله قَول الفرزدق: (ثَلَاث وَاثْنَتَانِ فهن خمس ... وسادسة تميل إِلَى شمام) وَهَذَا لِأَن الْعَرَب مَا كَانُوا يَهْتَدُونَ إِلَى الْحساب، وَكَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى فضل شرح وَزِيَادَة بَيَان.

( {196) الْحَج أشهر مَعْلُومَات فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفث وَلَا فسوق وَلَا جِدَال} وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا حبس إبهامه فِي الكرة الثَّالِثَة ". فَأَشَارَ إِلَيْهِم بأصابعه ليعرفوا الْحساب. وَقيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، يَعْنِي: فَصِيَام عشرَة أَيَّام: ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج، وَسَبْعَة إِذا رجعتم، وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لقطع توهم الزِّيَادَة، فَإِن قَوْله: فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم. يُوهم وَخَمْسَة إِذا فَعلْتُمْ كَذَا، وَنَحْو ذَلِك، فَقَالَ: تِلْكَ عشرَة ليقطع توهم الزِّيَادَة. وَقَوله: {كَامِلَة} أَي: كَامِلَة فِي الْأجر. وَقيل: كَامِلَة فِيمَا أُرِيد بِهِ وَإِقَامَة الصَّوْم مقَام الْهدى. قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك لمن لم يكن أَهله حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام} قَالَ بعض الصَّحَابَة: أَرَادَ بحاضري الْمَسْجِد الْحَرَام: أهل مَكَّة، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: يَا أهل مَكَّة لَا تمتّع لكم. إِنَّمَا التَّمَتُّع للغرباء. وَقيل: هم جَمِيع أهل الْحرم. وَقَالَ الشَّافِعِي: كل من كَانَ من مَكَّة على مَا دون مَسَافَة الْقصر؛ فَهُوَ من حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام. {وَاتَّقوا الله} أَي: فِي أَدَاء الْأَوَامِر {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} على ارْتِكَاب المناهي.

197

قَوْله تَعَالَى: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِهِ: شَوَّال، وَذُو الْقعدَة، وَعشر من ذِي الْحجَّة. وَقَالَ مَالك: كل ذِي الْحجَّة وَقَوله تَعَالَى: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج} قَالَ ابْن عمر، وَابْن مَسْعُود: أَرَادَ بِهِ: فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج بِالتَّلْبِيَةِ. أَي: فَمن لبّى.

{فِي الْحَج وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى واتقون يَا} وَعِنْدنَا يخْتَص إِحْرَام الْحَج بأشهر الْحَج، وَعند أبي حنيفَة يجوز فِي جَمِيع السّنة. وَفِيه خلاف الصَّحَابَة، وَهُوَ مَذْكُور فِي الْفِقْه. وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا رفث} قيل: هُوَ الْوَطْء. وَقيل: الرَّفَث: الإفحاش فِي القَوْل. وَقيل: هُوَ أَن يتَعَرَّض لأمر الْوَطْء مَعَ النِّسَاء، وَذَلِكَ بِأَن يَقُول: إِذا حللنا فعلنَا كَذَا. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ محرما فَأَنْشد: (فهن يَمْشين بِنَا هَميسا ... إِن تصدق الطير نَنكْ لَميسا) فَقيل لَهُ: أَتَرْفُثُ وَأَنت محرم؟ فَقَالَ: الرَّفَث: هُوَ مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاء، أَي: يذكر فِي مشاهدتهن. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا فسوق} الفسوق: السباب. وَقيل: هُوَ كل الْمعاصِي. وَقَوله: {وَلَا جِدَال فِي الْحَج} قَالَ ابْن مَسْعُود: الْجِدَال: أَن يمارى الرجل صَاحبه حَتَّى يغضبه. وَقيل: أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة من الِاخْتِلَاف فِي أَمر الْحَج، حَتَّى كَانَ بَعضهم يقف بِعَرَفَة، وَبَعْضهمْ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانَ يحجّ بَعضهم فِي ذِي الْقعدَة، وَبَعْضهمْ فِي ذِي الْحجَّة، وكل يَقُول: مَا فعلته فَهُوَ صَوَاب، فَقَالَ: {وَلَا جِدَال فِي الْحَج} أَي: اسْتَقر أَمر الْحَج على مَا فعله الرَّسُول، فَلَا خلاف فِيهِ من بعد وَذَلِكَ معنى قَوْله " أَلا إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته ... " الحَدِيث. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله} أَي: لَا يخفى عَلَيْهِ وَلَا يضيعه، بل يثيب عَلَيْهِ.

{أولي الْأَلْبَاب (197) لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن يَبْتَغُوا فضلا من ربكُم فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام واذكروه كَمَا هدَاكُمْ وَإِن كُنْتُم من قبله} وَقَوله تَعَالَى: {وتزودوا} نزل فِي قوم من الْيمن، كَانُوا يخرجُون إِلَى الْحَج من غير زَاد ويسألون النَّاس الزَّاد، وَرُبمَا يُفْضِي الْحَال بهم فِي السَّلب والنهب، فَقَالَ: {وتزودوا} أَي: اخْرُجُوا مَعَ الزَّاد. وَقَوله: {فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} يَعْنِي: من السَّلب وَالسُّؤَال. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: تزودوا بالكعك والسويق. وَقَالَ غَيره: وتزودوا بالخشكنانج، والسويق. وَقَوله تَعَالَى: {واتقون يَا أولي الْأَلْبَاب} مَعْلُوم الْمَعْنى.

198

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} فِي سَبَب نزُول هَذَا قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا روى عَن أبي أُمَامَة التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: قلت لِابْنِ عمر: إِنَّا نكرى فِي هَذَا الْوَجْه يَعْنِي إِلَى مَكَّة وَالنَّاس يَقُولُونَ: لَا حج لكم، فَقَالَ ابْن عمر: أَلَسْت تقف؟ أَلَسْت تسْعَى؟ أَلَسْت تَطوف؟ قلت: نعم. فَقَالَ: لَك حج. وروى ابْن عمر " أَن رَسُول الله سُئِلَ عَن ذَلِك، فَلم يجب بِشَيْء حَتَّى نزل جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَة ". وَالثَّانِي: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة أسواق يُقَال لَهَا عكاظ، والمجنة، وَذُو الْمجَاز، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتجرون مِنْهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كَانَ الْمُسلمُونَ يتحرجون عَن التِّجَارَة فِي تِلْكَ الْأَسْوَاق، فَنزل قَوْله: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} يَعْنِي: بِالتِّجَارَة فِي تِلْكَ الْأَسْوَاق. وَقَرَأَ ابْن الزبير: فضلا من ربكُم فِي مواسم الْحَج. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات} أما عَرَفَات: سمى بذلك؛ لِأَن

{لمن الضَّالّين (198) ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور} جِبْرِيل لما وقف بإبراهيم، كَانَ يَقُول لَهُ: عرفت. فَيَقُول: عرفت. والإفاضة: الدّفع بِكَثْرَة، يُقَال: فاض الْإِنَاء. إِذا امْتَلَأَ حَتَّى سَالَ من الجوانب، وَمِنْه: رجل فياض، إِذا كَانَ كثير الْعَطاء، قَالَ الشَّاعِر: (وأبيض فياض يَدَاهُ غمامة ... على معتقيه مَا تغب نوافله) وَإِنَّمَا قَالَ: {فَإِذا أَفَضْتُم} لِأَنَّهُ يدْفع بَعضهم بَعْضًا بِكَثْرَة عِنْد الرُّجُوع. وَقَوله تَعَالَى: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} والمشعر الْحَرَام، والمزدلفة، وَالْجمع أسامي مَوضِع وَاحِد. فالمشعر: الْمعلم فَإِن الْمزْدَلِفَة معلم للمبيت، وَالْوُقُوف، وَالدُّعَاء، وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ. وَإِنَّمَا سمى: جمعا؛ لِأَنَّهُ يجمع هُنَالك بَين الْمغرب وَالْعشَاء. وسمى: مُزْدَلِفَة، من الازدلاف وَهُوَ: الِاجْتِمَاع، والمزدلفة: مَوضِع بَين جبلين، يُسمى أَحدهمَا: قزَح يقف عَلَيْهِ الإِمَام، وَهُوَ من جملَة الْحرم وَلذَلِك سمى الْمشعر الْحَرَام. وَقَوله تَعَالَى: {واذكروه كَمَا هدَاكُمْ} أَي: واذكروه بِالتَّوْحِيدِ والتعظيم، كَمَا ذكركُمْ بالهداية. وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم من قبله لمن الضَّالّين} قيل: مَا كُنْتُم من قبله إِلَّا من الضَّالّين، وَقيل: مَعْنَاهُ: قد كُنْتُم من قبله لمن الضَّالّين.

199

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} يَعْنِي: من عَرَفَات. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ثمَّ أفيضوا بِكَلِمَة التعقيب والإفاضة من عَرَفَات إِنَّمَا تكون قبل الْوُصُول إِلَى الْمزْدَلِفَة؟ قُلْنَا: " ثمَّ " بِمَعْنى " الْوَاو " هَهُنَا، يَعْنِي: وأفيضوا. وَهُوَ مثل قَوْله: {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} أَي: وَكَانَ من الَّذين آمنُوا، فَيكون

{رَحِيم (199) فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا} جمعا بَين الْحكمَيْنِ. وَقيل: تَقْدِيره: ثمَّ أَمركُم أَن تفيضوا من عَرَفَات. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} (وَإِنَّمَا آتَاهُ الْكتاب قبل مُحَمَّد لَكِن مَعْنَاهُ ثمَّ أخْبركُم أَنا آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب) ، كَذَلِك هَاهُنَا، فَيكون عمل " ثمَّ " فِي الْأَمر لَا فِي الْإِفَاضَة. وَأما الْكَلَام فِي الْمَعْنى: قيل: إِن قُريْشًا وأحلافهم كَانُوا يقفون بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ نَحن أهل حرم الله فَلَا نخرج من حرم الله. لِأَن عَرَفَات كَانَت فِي الْحل، وَأما سَائِر الْعَرَب كَانُوا يقفون بِعَرَفَات. فَقَوله: {ثمَّ أفيضوا} خطاب لقريش، يَعْنِي: قفوا بِعَرَفَات، وأفيضوا مِنْهَا {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} يَعْنِي: سَائِر الْعَرَب. وَقيل أَرَادَ بِالنَّاسِ فِي قَوْله: {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} إِبْرَاهِيم، وَقد يُسمى الْوَاحِد نَاسا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} وَأَرَادَ بِهِ: نعيم ابْن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ وَحده. وَقَرَأَ الضَّحَّاك، وَسَعِيد بن جُبَير {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} يَعْنِي: آدم عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم} .

200

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم} يَعْنِي: فَرَغْتُمْ من الْمَنَاسِك، وَذَلِكَ عِنْد رمي جَمْرَة الْعقبَة والاستقرار بمنى، وَقَوله: {فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم}

{فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق (200) وَمِنْهُم من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار (201) } يَعْنِي: فاذكروا الله بِالتَّكْبِيرِ والتمجيد وَالثنَاء عَلَيْهِ. وَفِي قَوْله: {كذكركم آبَاءَكُم} قَولَانِ، قَالَ عَطاء: هُوَ أَن الصَّبِي أول مَا يتَكَلَّم فَإِنَّمَا يلهج بِذكر أَبِيه، فَيَقُول: يَا أَبَة. لَا يذكر غَيره، فَقَالَ تَعَالَى: {فاذكروا الله} لَا غَيره {كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا} . وَالثَّانِي: هُوَ أَن الْعَرَب كَانُوا إِذا فرغوا من الْحَج، ذكرُوا مفاخر آبَائِهِم، فَقَالَ تَعَالَى: {فاذكروا الله بدل ذكركُمْ آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا. وَقَوله تَعَالَى: {فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا} أَرَادَ بِهِ: الْمُشْركين، كَانُوا لَا يسْأَلُون الله فِي الْحَج إِلَّا الدُّنْيَا، وَكَانَ الرجل مِنْهُم يَقُول: اللَّهُمَّ إِن أبي كَانَ عَظِيم الْقبَّة كَبِير الْجَفْنَة، كثير المَال، اللَّهُمَّ فاعطني مثل مَا أَعْطيته. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق} من نصيب.

201

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} أَرَادَ بِهِ الْمُسلمين، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: {فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} يَعْنِي: الْعلم وَالْعِبَادَة، {وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} يَعْنِي: الْجنَّة. وَحكى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ {فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} الْمَرْأَة الصَّالِحَة، {وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} الْجنَّة. وَقد ورد فِي الحَدِيث مَرْفُوعا: " من أُوتِيَ قلبا شاكرا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَامْرَأَة صَالِحَة تعينه على أَمر دينه، فقد جمع لَهُ خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ".

{أُولَئِكَ لَهُم نصيب مِمَّا كسبوا وَالله سريع الْحساب (202) } وَقَالَ قَتَادَة: {فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} يَعْنِي: الْعَافِيَة، {وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} يَعْنِي: الْعَاقِبَة. وروى أنس عَن النَّبِي: " أَنه عَاد مَرِيضا قد أنهكه الْمَرَض حَتَّى صَار كالفرخ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِمَ كنت تَدْعُو؟ فَقَالَ الرجل: قلت: اللَّهُمَّ إِن كنت معاقبي بِشَيْء فِي الْآخِرَة فعجله لي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، مَا تطِيق ذَلِك، هلا قلت: {رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} ". وَقيل: كَانَ هَذَا أَكثر دُعَاء رَسُول الله. وَقَوله تَعَالَى: {وقنا عَذَاب النَّار} أَي: اصرف عَنَّا عَذَاب النَّار.

202

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُم نصيب} أَي: الاستجابة {مِمَّا كسبوا} من الدُّعَاء. {وَالله سريع الْحساب} قَالَ أهل التَّفْسِير: يُحَاسب الْعباد أسْرع من لمح الْبَصَر. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: يُحَاسب الْعباد من غير تَدْبِير وَلَا رُؤْيَة؛ لكَونه عَالما بِمَا للعباد، وَمَا على الْعباد فَلَا يحْتَاج إِلَى رُؤْيَة. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: أَن الله آتٍ بالقيامة عَن قريب، فَإِن مَا هُوَ كَائِن لَا محَالة فَهُوَ قريب، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى قرب الْقِيَامَة.

{فِي أَيَّام معدودات فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ لمن اتَّقى وَاتَّقوا الله اعلموا أَنكُمْ إِلَيْهِ تحشرون (203) وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيشْهد}

203

قَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدودات} يَعْنِي: أَيَّام منى، وَهِي أَيَّام التَّشْرِيق. قَالَ ابْن عمر: الْأَيَّام المعلومات وَالْأَيَّام المعدودات فِي أَرْبَعَة أَيَّام، فَيوم النَّحْر ويومان بعده هِيَ الْأَيَّام المعلومات، وَثَلَاثَة أَيَّام بعد يَوْم النَّحْر هِيَ الْأَيَّام المعدودات. والمعدودات المحصيات، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لقلتهن، وَالْمرَاد بِالذكر مِنْهَا هَهُنَا هُوَ التَّكْبِيرَات أدبار الصَّلَوَات. وَقَوله تَعَالَى: {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} أَرَادَ بِهِ: النَّفر فِي الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام التَّشْرِيق، يَعْنِي: فَمن تعجل بالنفر بِالرُّجُوعِ من منى فِيهِ فَلَا حرج عَلَيْهِ. وَقَوله تَعَالَى: {وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} يَعْنِي: من تَأَخّر بالنفر الثَّانِي فِي الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام التَّشْرِيق فَلَا حرج عَلَيْهِ. فَإِن قيل: الْآيَة فِيمَن رَجَعَ على إتْمَام الْمَنَاسِك، فَكيف نفى الْحَرج عَنهُ وَهُوَ بِمحل اسْتِحْقَاق الثَّوَاب لَا بِمحل الْحَرج؟ قُلْنَا: قَالَ ابْن مَسْعُود: أَرَادَ بِهِ: من [نفى] الْحَرج: أَنه رَجَعَ مغفورا لَهُ. وَهَذَا مؤيد بِالْحَدِيثِ، وَمَا روى مَرْفُوعا " من حج هَذَا الْبَيْت وَلم يرْفث وَلم يفسق؛ رَجَعَ كَيَوْم وَلدته أمه ". وَقَالَ النَّخعِيّ مَعْنَاهُ: فَمن تعجل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بالتعجيل، وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ. وَفِيه قَول ثَالِث: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك، لِأَن بَعضهم كَانَ يزِيد فِي الْمقَام بمنى على الثَّلَاث تبررا وتقربا؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: من رَجَعَ فِي الْيَوْم الثَّانِي أَو الثَّالِث وَلم يزدْ على الثَّلَاث فَلَا حرج عَلَيْهِ. يَعْنِي: فِي ترك الزِّيَادَة.

{الله على مَا فِي قلبه وَهُوَ أَلد الْخِصَام (204) وَإِذا تولى سعي فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك} وَفِيه قَول رَابِع: حسن، مَعْنَاهُ: من ترخص بالتعجيل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بالترخص، وَمن تَأَخّر فَلَا إِثْم عَلَيْهِ بترك التَّرَخُّص؛ وَذَلِكَ أَن النَّبِي كَانَ قد ندب إِلَى الرُّخْصَة بقوله: " إِن الله يحب أَن تُؤْتى رخصه كَمَا يحب أَن تُؤْتى عَزَائِمه ". قَوْله تَعَالَى: {لمن اتَّقى} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: مَعْنَاهُ: لمن اتَّقى الله بعد الْحَج فِي جَمِيع عمره. وَقَالَ الْآخرُونَ: مَعْنَاهُ: لمن اتَّقى الْمعاصِي فِي الْحَج، وَقَوله تَعَالَى: {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَنكُمْ إِلَيْهِ تحشرون} ظَاهر الْمَعْنى.

204

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} نزلت الْآيَة فِي الْأَخْنَس بن شريق حَلِيف بني زهرَة فَإِنَّهُ أَتَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ: " إِنِّي أحبك، وَأُرِيد أَن أُؤْمِن بك، وَالله يعلم مَا فِي قلبِي، وَكَانَ يبطن بغضه، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يُعجبهُ قَوْله (وَيسر بِهِ) فَنزلت الْآيَة: {وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} " يَعْنِي فِي الْعَلَانِيَة. وَأما قَوْله: {وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: وشهيد الله على مَا فِي قلبه. وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه، وهما فِي الشواذ، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول. وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ أَلد الْخِصَام} أَي: شَدِيد الْخُصُومَة قَالَ الشَّاعِر: (إِن تَحت (التُّرَاب) حزما وجودا ... وخصيما أَلد ذَا معلاق)

{الْحَرْث والنسل وَالله لَا يحب الْفساد (205) وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم فحسبه جَهَنَّم ولبئس المهاد (206) وَمن النَّاس، من يشري نَفسه ابْتِغَاء مرضات الله وَالله رؤوف} وَقَالَ مُجَاهِد: {أَلد الْخِصَام} أَي: الظَّالِم فِي الْخُصُومَة.

205

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا} فِيهِ نزلت الْآيَة أَيْضا؛ فَإِنَّهُ خرج من عِنْد النَّبِي فَرَأى حمارا فعقره، وَمر بزرع فأحرقه فَهَذَا معنى قَوْله: {سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك الْحَرْث والنسل} فالحرث: الزَّرْع. والنسل: ولد كل دَابَّة. {وَالله لَا يحب الْفساد} أَي: لَا يرضى الْفساد، وَقيل: من الْفساد: كسر الدِّرْهَم، وشق الثَّوْب من غير مصلحَة.

206

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة بالإثم} فِيهِ نزلت الْآيَة أَيْضا. {وَإِذا قيل لَهُ اتَّقِ الله أَخَذته الْعِزَّة} أَي: حمية الْجَاهِلِيَّة {بالإثم} أَي: بالظلم، والعزة: التكبر والمنعة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فِي عزة وشقاق} . وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كفى بِالْمَرْءِ إثمان أَن يُقَال لَهُ: اتَّقِ الله، فَيَقُول: أَنْت الَّذِي تَأْمُرنِي بالتقوى. وروى أَنه قيل لعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: اتَّقِ الله. فَوضع خَدّه على الأَرْض تواضعا لله. وَفِي رِوَايَة قيل لعمر: اتَّقِ الله: فَأنْكر الْمُغيرَة بن شُعْبَة على قَائِله، فَقَالَ عمر: إِنَّكُم لَا تزالون بِخَير مَا قَالُوا ذَلِك لنا، وَقَبلنَا مِنْهُم. وَقَوله تَعَالَى: {فحسبه جَهَنَّم} أَي: كافيه. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس. (وتملأ بيتنا أقطا وَسمنًا ... وحسبك من غنى شبع وروى) وَقَوله تَعَالَى: {ولبئس المهاد} المهاد: كل فرَاش يسْتَقرّ الْمَرْء عَلَيْهِ.

{بالعباد (207) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (208) فَإِن زللتم من بعد مَا جاءتكم الْبَينَات فاعلموا أَن الله عَزِيز حَكِيم (209) هَل}

207

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يشري نَفسه ابْتِغَاء مرضات الله} قَالَ سعيد ابْن الْمسيب: " نزلت الْآيَة فِي صُهَيْب بن سِنَان، وَذَلِكَ أَنه خرج من مَكَّة مُهَاجرا إِلَى الْمَدِينَة فَتَبِعَهُ الْمُشْركُونَ ولحقوه، فنثر كِنَانَته وَقَالَ: إِنَّكُم تعلمُونَ أَنِّي من أرماكم، وَالله لَا تصلونَ إِلَيّ حَتَّى أرمي جَمِيع مَا بكنانتي ثمَّ أَخذ سَيفي وأضرب حَتَّى أعجز أَو ترجعوا عني ومالكم مَالِي ثمَّة، فَقَالُوا: أَيْن مَالك؟ فدلهم عَلَيْهِ، فَرَجَعُوا عَنهُ، فَلَمَّا سمع ذَلِك رَسُول الله قَالَ: ربح البيع يَا أَبَا يحيى ". فَهَذَا معنى قَوْله: و {وَمن النَّاس من يشري نَفسه} أَي: يَبِيع. وَالشِّرَاء: البيع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (وشريت بردا لَيْتَني ... من بعد برد [صرت هامه] ) قَالَ رجل كَانَ لَهُ غُلَام يُسمى بردا، وَكَانَ مفتونا بِهِ، فَبَاعَهُ فندم عَلَيْهِ. وَقَوله تَعَالَى: {وَالله رءوف بالعباد} أَي: شَدِيد الرَّحْمَة بهم.

208

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة} آمنُوا: أَي صدقُوا. ادخُلُوا فِي السّلم كَافَّة، أَي: ادخُلُوا جَمِيعًا فِي الْإِسْلَام. قَالَ الْأَزْهَرِي السّلم الصُّلْح، وَالسّلم: الانقياد، وَالْمرَاد بِهِ: الْإِسْلَام هَهُنَا.

{ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة وَقضي الْأَمر وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (210) سل بني إِسْرَائِيل كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله} وَقَالَ الْأَزْهَرِي أَيْضا: مَعْنَاهُ: ادخُلُوا فِي الْإِسْلَام وشرائعه كَافَّة. وَفِيه قَول ثَالِث، مَعْنَاهُ: ادخُلُوا فِي الْإِسْلَام إِلَى مُنْتَهى شرائعه، كافين عَن الْمُجَاوزَة إِلَى غَيره، من الْكَفّ. قَالَ ابْن عَبَّاس: نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن سَلام، وَقوم من الْيَهُود أَسْلمُوا، وَأَرَادُوا أَن يجمعوا بَين الْإِسْلَام واليهودية، فَقَالُوا: نلزم السبت فَلَا نَأْكُل لُحُوم الْإِبِل وَنَحْو ذَلِك، فَنزلت الْآيَة. أَي: كونُوا لِلْإِسْلَامِ خَاصَّة، وَلَا تجمعُوا بَينه وَبَين الْيَهُودِيَّة، وَكفوا عَن الْمُجَاوزَة إِلَى غَيره. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ خَاطب الْمُؤمنِينَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَام؟ قيل: يحْتَمل مَعْنَاهُ: الثَّبَات على الْإِسْلَام، وَيحْتَمل أَنه خطاب للَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ وَلم يُؤمنُوا بِالْقَلْبِ. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} أَي: آثَار الشَّيْطَان، وَهِي جمع الخطوة. والخطوة: مَا بَين الْقَدَمَيْنِ {إِنَّه لكم عَدو مُبين} .

209

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن زللتم} زل يزل: إِذا ضل وَتَنَحَّى عَن الطَّرِيق، وأزل يزل: إِذا أسدى نعْمَة إِلَى غَيره. وَمِنْه قَوْله: " من أزلت إِلَيْهِ نعْمَة فليشكرها ". وَقَوله تَعَالَى: {من بعد مَا جاءتكم الْبَينَات} الدلالات الواضحات. {فاعلموا أَن الله عَزِيز حَكِيم} فالعزيز: الْغَالِب الَّذِي لَا يفوتهُ شَيْء، والحكيم: ذُو الْإِصَابَة فِي الْأَمر.

210

قَوْله تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} وَالْآيَة من المتشابهات.

{شَدِيد الْعقَاب (211) زين للَّذين كفرُوا الْحَيَاة الدُّنْيَا ويسخرون من الَّذين آمنُوا وَالَّذين اتَّقوا} وروى أَصْحَاب الحَدِيث عَن أبي بن كَعْب وَمُجاهد، أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَفْسِير الْآيَة: يَأْتِي الله يَوْم الْقِيَامَة فِي ظلل من الْغَمَام. وَأما أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن النقاش الْمُفَسّر فَلم يتَعَرَّض لِلْآيَةِ بِشَيْء، وَقَالَ الزّجاج: يحْتَمل معنى الْآيَة من حَيْثُ اللُّغَة: يَأْتِي الله بِمَا وعدهم من الْعقَاب. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: وَالْأولَى فِي هَذِه الْآيَة وَمَا يشاكلها أَن نؤمن بِظَاهِرِهِ وَنكل علمه إِلَى الله تَعَالَى وننزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن سمات الْحَدث وَالنَّقْص. وَأما قَوْله: {فِي ظلل} فَهُوَ جمع الظلة وَهُوَ الستْرَة من الْغَمَام. قد ذكرنَا معنى الْغَمَام. {وَالْمَلَائِكَة} قرئَ بِالرَّفْع والخفض. فَإِذا قرئَ بِالرَّفْع، فَهُوَ منسوق على الله، وَإِذا قرئَ بالخفض فَهُوَ منسوق على الظلل. {وَقضى الْأَمر} أَي: فرغ من الْأَمر، وَذَلِكَ فصل الله الْقَضَاء بِالْحَقِّ بَين الْخلق. {وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} قَالَ قطرب: إِنَّمَا خص بِهِ يَوْم الْقِيَامَة؛ لِأَن الْأَمر يخلص يَوْمئِذٍ لله تَعَالَى.

211

قَوْله تَعَالَى: {سل بني إِسْرَائِيل} هُوَ خطاب للرسول، يَعْنِي: سل الَّذين أَسْلمُوا مِنْهُم {كم آتَيْنَاهُم من آيَة بَيِّنَة} أَي: من دلَالَة وَاضِحَة على نبوة مُوسَى. وَقيل: مَعْنَاهُ: الدلالات الَّتِي آتَاهُم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل على نبوة مُحَمَّد {وَمن يُبدل نعْمَة الله من بعد مَا جَاءَتْهُ فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} فِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَمن يُغير عهد الله. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: وَمن يُنكر الدّلَالَة الَّتِي على نبوة مُحَمَّد.

{فَوْقهم يَوْم الْقِيَامَة وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب (212) كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَمَا}

212

قَوْله تَعَالَى: {زين للَّذين كفرُوا الْحَيَاة الدُّنْيَا} . قَالَ الزّجاج: المزين هُوَ الشَّيْطَان. فَإِن الله تَعَالَى قد زهد الْخلق فِي الدُّنْيَا، ورغبهم فِي الْآخِرَة. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: المزين هُوَ الله تَعَالَى والتزيين من الله هُوَ أَنه خلق الْأَشْيَاء الْحَسَنَة والمناظر المعجبة، فَنظر الْخلق إِلَيْهَا بِأَكْثَرَ من قدرهَا، فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِك، ففتنوا بِهِ؛ [فَلذَلِك] التزيين من الله. {ويسخرون من الَّذين آمنُوا} أَي: يستهزئون. وهم رُؤَسَاء قُرَيْش كَأبي جهل وَغَيره، وَكَانُوا يسخرون من الْفُقَرَاء. قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بالذين آمنُوا: عبد الله بن مَسْعُود، وعمار بن يَاسر، وخباب بن الْأَرَت، وَأَبا ذَر. {وَالَّذين اتَّقوا} أَي هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء {فَوْقهم يَوْم الْقِيَامَة} لأَنهم فِي أَعلَى عليين، وَأُولَئِكَ فِي أَسْفَل السافلين. {وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} فِيهِ أَقْوَال، أَحدهَا: أَنه يُوسع على من يَشَاء من غير مضايقة وَلَا تقتير. وَالْقَوْل الثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنه لَا يَأْخُذ شَيْئا من شَيْء مُقَدّر، كَالْعَبْدِ يَأْخُذ ألفا من أَلفَيْنِ، فَيعْطى قدرا من مقره فيخاف الإجحاف على مَاله؛ وَلَكِن الله يرْزق الْعباد من خزائنه الَّتِي لَا تنفذ. وَالثَّالِث: مَعْنَاهُ: أَنه يقتر على من يَشَاء، ويبسط على من يَشَاء، وَلَا يُعْطي كل أحد على قدر حَاجته؛ بل يُعْطي الْكثير من لَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَلَا يُعْطي الْقَلِيل من يحْتَاج إِلَيْهِ. وَالْقَوْل الرَّابِع: قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِيمَا سهل الله تَعَالَى على رَسُوله من

{اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيا بَينهم فهدى الله الَّذين آمنُوا لما} الِاسْتِيلَاء على بني قُرَيْظَة وَالنضير، على اسهل وَجه من غير قتال وَلَا تَعب.

213

وَقَوله تَعَالَى: {كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة} فالأمة فِي اللُّغَة: على وُجُوه، مِنْهَا: الْأمة بِمَعْنى الدّين، وَمِنْه قَول النَّابِغَة: (حَلَفت، فَلم أترك لنَفسك رِيبَة ... وَهل يأثمن ذُو أمة وَهُوَ طائع) أَي ذُو دين. وَالْأمة: الْفرْقَة من النَّاس وَغَيرهم، فالترك أمة، وَالروم أمة، وَالْفرس أمة، وَمن الطير أمة، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} . وَالْأمة: الْحِين، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وادكر بعد أمة} أَي: بعد حِين. وَالْأمة: الإِمَام الَّذِي يَقْتَدِي بِهِ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة} . وَالْأمة: الْمعلم للخير. وَالْأمة: الْقَامَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (وَإِن مُعَاوِيَة الأكرمين ... حسان الْوُجُوه طوال الْأُمَم) وَالْأمة بِكَسْر الْألف: النِّعْمَة، وَالْمرَاد بالأمة هَهُنَا الدّين. يَعْنِي: كَانَ النَّاس على دين وَاحِد ثمَّ اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ بَعضهم وَهُوَ قَول مُجَاهِد أَرَادَ بِهِ آدم، كَانَ أمة وَاحِدَة. وَقيل وَهُوَ قَول قَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير: أَرَادَ بِهِ عشْرين قرنا من بني آدم ونوح كَانُوا على الْإِسْلَام.

{اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (213) أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى} وَقيل: أَرَادَ بِهِ النَّاس فِي زمن إِبْرَاهِيم كَانُوا على مِلَّة الْكفْر. {فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يحكم الْكتاب؟ قيل قَرَأَ عَاصِم الجحدري: " ليحكم بَين النَّاس " بِضَم الْيَاء فَيكون الحكم من الْأَنْبِيَاء. وَأما قَوْله: {ليحكم بَين النَّاس} يَعْنِي: ليحكم الَّذين أُوتُوا الْكتاب من النَّبِيين. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه} يَعْنِي: أُوتُوا الْكتاب. {من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيا بَينهم} أَي: حسدا وظلما. {فهدى الله الَّذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ} قَالَ زيد بن أسلم: اخْتلفُوا فِي الْقبْلَة، فهدانا الله إِلَى الْكَعْبَة، وَاخْتلفُوا فِي الْأَيَّام، فَاخْتَارَ الْيَهُود السبت، وَالنَّصَارَى يَوْم الْأَحَد، فهدانا الله للْجُمُعَة، وَاخْتلفُوا فِي عِيسَى، فَقَالَ بَعضهم: كَذَّاب. وَقَالَ بَعضهم: ابْن الله فهدانا الله لكَونه نَبيا عبدا، وَاخْتلفُوا فِي إِبْرَاهِيم، فَادَّعَاهُ كل فرقة فهدانا الله لكَونه حَنِيفا مُسلما. وروى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ، وَأول النَّاس دُخُولا الْجنَّة، بيد أَنهم أُوتُوا الْكتاب قبلنَا وأوتيناه من بعدهمْ، النَّاس لنا تبع، فاليوم لنا، يَعْنِي: الْجُمُعَة وَغدا للْيَهُود، وَبعد غَد لِلنَّصَارَى ". {وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}

{يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه حَتَّى نصر الله أَلا إِن نصر الله قريب (214) يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل مَا أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل وَمَا تَفعلُوا}

214

قَوْله تَعَالَى: {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة} . نزل فِي الْمُهَاجِرين إِلَى الْمَدِينَة حِين أَصَابَهُم حر شَدِيد وفاقة عَظِيمَة فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة؛ تطييبا لقُلُوبِهِمْ وتسلية لَهُم. فَقَوله: (أم) كلمة لِلْخُرُوجِ من كَلَام إِلَى كَلَام، ونكون بِمَعْنى: بل يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ} يَعْنِي: وَلم يصبكم مَا أَصَابَهُم، وَقَوله تَعَالَى: {مثل الَّذين خلوا} أَي: صفة الَّذين خلوا. {من قبلكُمْ مستهم البأساء} الْفقر {وَالضَّرَّاء} الْمَرَض {وزلزلوا} حركوا بِشدَّة وخوفوا. {حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله} حَتَّى استبطئوا نصر الله. {أَلا إِن نصر الله قريب} .

215

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل مَا أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين} قيل: المُرَاد بِهِ الْوَصِيَّة الَّتِي كَانَت وَاجِبَة فِي الِابْتِدَاء للْوَالِدين والأقربين. وَقيل: أَرَادَ بِهِ التطوعات وَالصَّدقَات جعلهَا للْوَالِدين، والأقربين، واليتامى، وَالْمَسَاكِين، وَابْن السَّبِيل. وَقيل: إِنَّه كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ نسخت بِآيَة الزَّكَاة. {وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم} أَي: يحصي ويجازي عَلَيْهِ. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} أَي: يرى الْجَزَاء على الْعَمَل؛ لِأَن الْعَمَل فَائت فَلَا يرَاهُ.

216

قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم} أَي: شاق عَلَيْكُم. وَاعْلَم أَن أَكثر الْعلمَاء على أَن الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة، وَقَالَ عَطاء وَهُوَ قَول الثَّوْريّ: أَنه تطوع قَالُوا: وَالْآيَة فِي الَّذين أمروا بِالْقِتَالِ من الصَّحَابَة.

{من خير فَإِن الله بِهِ عليم (215) كتب عَلَيْكُم الْقِتَال وَهُوَ كره لكم وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَهُوَ خير لكم وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا وَهُوَ شرا لكم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (216) يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ قل فِيهِ كَبِير وَصد عَن سَبِيل الله وَكفر بِهِ} {وَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا} يَعْنِي: الْقِتَال {وَهُوَ خير لكم} بِإِصَابَة الشَّهَادَة، وحيازة الْغَنِيمَة، وَالظفر بالعدو. (وَعَسَى أَن تحبوا شَيْئا) يَعْنِي: الْقعُود عَن الْقِتَال {وَهُوَ شَرّ لكم} بفوت الْمنَازل. قَالَ ابْن عَبَّاس: " كنت رَدِيف رَسُول الله فَقَالَ لي: يَا غُلَام ارْض بِمَا قدر الله لَك؛ فَعَسَى أَن تكره شَيْئا وَهُوَ خير لَك، وَعَسَى أَن تحب شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَك، وتلا هَذِه الْآيَة: {وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} ".

217

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ} أَي: عَن قتال فِيهِ، خفض على الْبَدَل {قل قتال فِيهِ كَبِير} عَظِيم. ثمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {وَصد عَن سَبِيل الله} يَعْنِي: صدكم الْمُسلمين عَن الْإِسْلَام. {وَكفر بِهِ} أَي: كفركم بِاللَّه. {وَالْمَسْجِد الْحَرَام} أَي: وصدكم الْمُسلمين عَن الْمَسْجِد الْحَرَام. {وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ} أَي: إِخْرَاج أهل مَكَّة من مَكَّة {أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل} أَي: وَالْكفْر الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ، وأفعالكم تِلْكَ، أكبر عِنْد الله، وَأَشد من قتال الْمُسلمين فِي الشَّهْر الْحَرَام. قَالَ عُرْوَة بن الزبير: سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى " أَن النَّبِي بعث عبد الله بن جحش مَعَ ثَمَانِيَة نفر قبل مَكَّة، وَدفع إِلَيْهِم كتابا وَقَالَ: لَا تفكوه إِلَّا بعد يَوْمَيْنِ، فَلَمَّا مضى يَوْمَانِ فكوا الْكتاب، فَإِذا فِيهِ: امضوا إِلَى بطن النّخل وَذَلِكَ مَوضِع بَين مَكَّة والطائف وَفِيه استعلموا أَخْبَار قُرَيْش، فنزلوا هُنَالك، وَكَانُوا يستعلمون خُفْيَة، فَمر بهم عير من الطَّائِف عَلَيْهِم عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ مَعَ زبيب وأدم، فَرَمَاهُ وَاحِد من

{وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمن يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (217) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ يرجون رحمت الله وَالله غَفُور رَحِيم} الْمُسلمين فَقتله وقادوا العير إِلَى رَسُول الله. وَكَانَ ذَلِك فِي آخر يَوْم من جُمَادَى الآخر، أَو فِي أول يَوْم من رَجَب وَكَانُوا شاكين فِيهِ فعيرهم الْمُشْركُونَ بِقَتْلِهِم ابْن الْحَضْرَمِيّ فِي الشَّهْر الْحَرَام فَنزلت الْآيَة ". يَعْنِي الَّذِي فَعلْتُمْ أَنْتُم من تِلْكَ الْأَفْعَال أكبر وَأَشد من قَتلهمْ فِي الشَّهْر الْحَرَام. وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي لم يمد يَده إِلَى شَيْء من ذَلِك العير حَتَّى نزلت الْآيَة، ثمَّ قسمهَا بَين الْمُسلمين ". {وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا} يَعْنِي: الْمُشْركين كَانُوا يُقَاتلُون الْمُسلمين ويعيرونهم على الْإِسْلَام. {وَمن يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وألئك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} .

218

قَالَ تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله} هَذِه الْآيَة مُتَّصِلَة بِالْأولَى فِي الْمَعْنى وَذَلِكَ أَن عبد الله بن جحش لما مر بالسرية وَقتل ابْن الْحَضْرَمِيّ من قَتله قَالَ: الْمُشْركُونَ إِن لم يُصِيبُوا وزرا فَلَا ينالون خيرا فَنزلت هَذِه الْآيَة {إِن الَّذين آمنُوا} يَعْنِي عبد الله بن جحش وَقَومه {وَالَّذين وَهَاجرُوا} من أوطانهم {وَجَاهدُوا} يَعْنِي بالغزو فِي سَبِيل الله {أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله} أخبر أَنهم على رَجَاء الرَّحْمَة، وَإِنَّمَا لم يقطعوا لأَنْفُسِهِمْ بِالرَّحْمَةِ؛ لِأَن الْإِنْسَان يعرف من نَفسه أَنه لَا يُمكنهُ تأدية حق الله تَعَالَى على وَجهه فَلَا يَأْمَن تقصيرا؛ فَلَا يُمكنهُ الْقطع لنَفسِهِ بِالرَّحْمَةِ.

( {218) يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من} وَلِأَنَّهُ رُبمَا يرتكب فِي الْمُسْتَقْبل مَا يسْتَوْجب بِهِ الْعقَاب. {وَالله غَفُور رَحِيم} فالغفور: الستور. والرحيم: العطوف.

219

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر} فالخمر: كل شراب مُسكر، وسمى الْمُسكر: خمرًا؛ لِأَنَّهُ يخَامر الْعقل ويستره. وأصل الْخمر: السّتْر والتغطية. وَمِنْه الْخمار؛ لِأَنَّهُ يستر الرَّأْس. وَيُقَال: دخل فلَان فِي خمار النَّاس، أَي تستر فيهم. وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: الْخمر مَا خامر الْعقل. وَهُوَ حجَّة أَصْحَاب الحَدِيث على أَن كل مُسكر خمر، وَمِنْه يُقَال للسكران من أَي شراب: كَانَ مخمورا. وَالْميسر: الْقمَار. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: دعوا الكعاب فَإِنَّهُ من الميسر. وَقَالَ ابْن سِيرِين: كل مَا يعلب بِهِ فَهُوَ ميسر، حَتَّى الْجَوْز الَّذِي يلْعَب بِهِ الصّبيان. ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَحْرِيم الْخمر أَنه بِأَيّ آيَة كَانَ؟ . قَالَ بَعضهم: هُوَ بِهَذِهِ الْآيَة، فَإِنَّهُ قَالَ: (قل فيهمَا إِثْم كَبِير) " وَلَفظ الْإِثْم " يدل على التَّحْرِيم؛ فَإِنَّهُ حرم الْخمر بِلَفْظ الْإِثْم فِي آيَة أُخْرَى، حَيْثُ قَالَ: {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم} وَأَرَادَ بِهِ: الْخمر. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (شربت الْإِثْم حَتَّى ضل عَقْلِي ... كَذَاك الْإِثْم يذهب بالعقول) وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَأكْثر الْمُفَسّرين: إِن تَحْرِيم الْخمر بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَة الْمَائِدَة. بِأَنَّهُ لما نزلت هَذِه الْآيَة: {قل فيهمَا إِثْم كَبِير} فَانْتهى بَعضهم، وَلم ينْتَه الْبَعْض. فَنزل قَوْله: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} فَكَانُوا يتحينون للشُّرْب حَتَّى كَانَ

الرجل يشرب بعد الْعشَاء الْأَخِيرَة فَيُصْبِح وَقد زَالَ السكر، ثمَّ يشرب بعد صَلَاة الصُّبْح فيصحو إِذا جَاءَ وَقت الظّهْر، فَنزلت آيَة الْمَائِدَة. قَالَ ابْن عمر: حرمت الْخمر بِآيَة الْمِائَة، وروى هُوَ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " تَحْرِيم الْخمر بِآيَة الْمَائِدَة ". وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه لما سمع قَوْله: {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} قَالَ: انتهينا رَبنَا. {قل فيهمَا إِثْم كَبِير} قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: بالثاء وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كَبِير بِالْبَاء، فالكبير: بِمَعْنى الْعَظِيم، وَالْكثير: لِكَثْرَة عدد الآثام فِي الْخمر الَّتِي ذكرهَا فِي آيَة الْمَائِدَة {إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء} الْآيَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَنَافع للنَّاس} فالإثم فِي الْخمر: هُوَ مَا يَقع فِيهِ من الْعَدَاوَة والبغضاء والصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة. وَأما الْمَنَافِع فِي الْخمر: اللَّذَّة، والفرح، واستمراء الطَّعَام، وَالرِّبْح فِي التِّجَارَة فِيهِ. وَقد قَالَ حسان بن ثَابت: فِي الْخمر ونفعها: (ونشربها فتتركنا أسودا ... ولبوثا مَا ينهنهنا اللِّقَاء) وَقَالَ آخر: (وَإِذا سكرت فإنني ... رب (الخورنق) والسدير) (وَإِذا صحوت فإنني ... رب الشويهة وَالْبَعِير) وَأما الْمَنَافِع للنَّاس فِي الميسر: فَهُوَ إِصَابَة المَال فِيهِ من غير كد وتعب. وَالْإِثْم فِيهِ: أَنه إِذا ذهب مَاله من غير عوض يَأْخُذهُ يسوءه ذَلِك؛ فيعادى صَاحبه، ويقصده بالسوء.

{نفعهما ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون (219) } وَقَوله {وإثمهما أكبر من نفعهما} قيل: مَعْنَاهُ: إثمهما بعد التَّحْرِيم أكبر من نفعهما قبل التَّحْرِيم. وَقيل: إثمهما أكبر من نفعهما قبل التَّحْرِيم، يَعْنِي: الْإِثْم الَّذِي يصير الْخمر سَببا فِيهِ من الْعَدَاوَة والعربدة أكبر من نفعهما. قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} قَرَأَ أَبُو عَمْرو وَحده بِضَم الْوَاو، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ؛ فتقديره مَا الَّذِي يُنْفقُونَ، فَقَالَ: قل الَّذِي يُنْفقُونَ الْعَفو؛ وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فتقديره: مَاذَا يُنْفقُونَ؟ فَقَالَ: قل: يُنْفقُونَ الْعَفو. وَاخْتلفُوا فِي معنى الْعَفو، فَقَالَ طَاوس: هُوَ الْيَسِير من كل شَيْء، وَقَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: الْعَفو: الْفضل، وَذَلِكَ أَن الصَّدَقَة إِنَّمَا تجب فِي الْفَاضِل عَن الْحَاجة، وَكَانَت الصَّحَابَة يكتسبون المَال، ويمسكون قدر النَّفَقَة، وَيَتَصَدَّقُونَ بِالْفَضْلِ، بِحكم هَذِه الْآيَة، ثمَّ نسخ ذَلِك بِآيَة الزَّكَاة. وَقيل مَعْنَاهُ: [التَّصَدُّق] عَن ظهر الْغنى؛ وَذَلِكَ أَن يتَصَدَّق وَهُوَ غَنِي، وَلَا يتَصَدَّق وَهُوَ فَقير. فَيبقى كلا على النَّاس. وَهُوَ معنى قَوْله: " أفضل الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى ". وَحَقِيقَة الْعَفو: الميسور. وَمِنْه قَوْله: {خُذ الْعَفو} أَي: مَا تيَسّر من أَخْلَاق الرِّجَال.

{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ويسألونك عَن الْيَتَامَى قل إصْلَاح لَهُم خير وَإِن تخالطوهم فإخوانكم وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم إِن الله عَزِيز حَكِيم (220) } {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون

220

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: يبين الله لكم الْآيَات فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَعَلَّكُمْ تتفكرون فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؛ فتعرفون فضل الْآخِرَة على الدُّنْيَا. فتزهدون فِي الدُّنْيَا، وتنفقون رَغْبَة فِي الْآخِرَة. وَقَوله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْيَتَامَى} روى أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا} تحرج الْمُسلمُونَ من أَمْوَال الْيَتَامَى تحرجا شَدِيدا، حَتَّى عزلوا أَمْوَال الْيَتَامَى عَن أَمْوَالهم فِي المرعى، وَالطَّعَام، والإدام، فَنزلت هَذِه الْآيَة بِإِبَاحَة المخالطة فِي ذَلِك كُله؛ لَكِن بِشَرْط أَنه إِن استخدم غُلَام الْيَتِيم يَخْدمه، وَإِن أكل بطعامه يُبدلهُ. قَالَ مُجَاهِد: يُوسع عَلَيْهِ من طَعَام نَفسه لَا يتوسع من طَعَام الْيَتِيم. وَقَوله تَعَالَى: {قل إصْلَاح لَهُم خير} قَرَأَ الضَّحَّاك: قل إصْلَاح إِلَيْهِم خير، والمتلو: قل إصْلَاح لَهُم. وَمَعْنَاهُ: إصْلَاح لَهُم خير لكم فِي الدّين. {وَإِن تخالطوهم فإخوانكم} هُوَ إِبَاحَة المخالطة. {وَالله يعلم الْمُفْسد} يَعْنِي: الَّذِي يخالط فيخون {من المصلح} وَهُوَ الَّذِي يخالط فَلَا يقْصد الْخِيَانَة. {وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لأهلككم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يَجْعَل مَا أصبْتُم من أَمْوَال الْيَتَامَى موبقا لكم. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَو شَاءَ الله لما أَبَاحَ لكم المخالطة. وَقَالَ أهل اللُّغَة: الْعَنَت: الْمَشَقَّة. وَمَعْنَاهُ: {وَلَو شَاءَ الله لأعنتكم} أَي: كلفكم فِي كل شَيْء مَا يشق عَلَيْكُم. {إِن الله عَزِيز حَكِيم} فالعزيز: هُوَ الَّذِي يَأْمر بعزة؛ سهل على الْعباد، أَو لم يسهل، والحكيم، قد ذكرنَا مَعْنَاهُ.

{وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم}

221

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا يجوز نِكَاح الكوافر أبدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؛ بِحكم هَذِه الْآيَة. وَسَائِر الْمُفَسّرين وَالْعُلَمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم، على أَن الْآيَة مَنْسُوخَة فِي الكتابيات، بقوله: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب} . وروى عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَنه تزوج بنائلة بنت فرافصة وَكَانَت نَصْرَانِيَّة فَأسْلمت تَحْتَهُ. وَعَن طَلْحَة بن عبيد الله: أَنه تزوج بنصرانية. وَعَن حُذَيْفَة: أَنه تزوج يَهُودِيَّة. وَقَالَ قَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير: أَرَادَ بالمشركات: الوثنيات. فَإِن قَالَ قَائِل: الْكفَّار عنْدكُمْ مشركون كلهم، فَمن لَا يُنكر إِلَّا نبوة مُحَمَّد كَيفَ يكون مُشْركًا بِاللَّه؟ قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس صَاحب الْمُجْمل: هُوَ مُشْرك؛ لِأَنَّهُ يَقُول: الْقُرْآن الَّذِي أَتَى بِهِ مُحَمَّد كَلَام غير الله، وَهَذَا الْقُرْآن معجز لَا يَقُوله إِلَّا من كَانَ إِلَهًا، فَإِذا هُوَ كَلَام غير الله. وَكَأَنَّهُم أشركوا بِاللَّه غير الله. وَأما سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى " أَن أَبَا مرْثَد الغنوي كَانَت لَهُ حَبِيبَة بِمَكَّة، وَكَانَ يُصِيبهَا بِالْفُجُورِ وَتسَمى عنَاقًا فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة وَأسلم، تمنت لَهُ حَاجَة، فَرجع إِلَى مَكَّة، فتزينت لَهُ، فَقَالَ أَبُو مرْثَد: إِنِّي قد دخلت فِي دين الْإِسْلَام، وَإِن الزِّنَا حرَام فِي ديني، فحتى أرجع فَاسْتَأْذن رَسُول الله أَن أَتزوّج بك، فَرجع وَاسْتَأْذَنَ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} ". وَقَوله: {وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة} نزل هَذَا فِي عبد الله بن رَوَاحَة. " كَانَت لَهُ أمة سَوْدَاء فلطمها، ثمَّ أخبر رَسُول الله بذلك فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ:

{وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم أُولَئِكَ يدعونَ إِلَى النَّار وَالله يدعوا إِلَى الْجنَّة وَالْمَغْفِرَة بِإِذْنِهِ وَيبين آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يتذكرون (221) ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي} إِنَّهَا مُؤمنَة، تؤمن بِاللَّه وَالرسل، وتحسن الْوضُوء، وَالصَّلَاة. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: بئْسَمَا صنعت. فَقَالَ: وَالله لأَتَزَوَّجَن بهَا، فَأعْتقهَا، وَتزَوج بهَا. وَكَانَ قد عرضت عَلَيْهِ حرَّة مُشركَة، فَعَيَّرَهُ الْمُشْركُونَ على نِكَاح الْأمة السَّوْدَاء؛ فَنزل قَوْله: {وَلأمة مُؤمنَة خير من مُشركَة وَلَو أَعجبتكُم} ". {وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا} فِي هَذَا إِجْمَاع، أَن الْمسلمَة لَا تنْكح من الْمُشْركين أجمع {ولعَبْد مُؤَن خير من مُشْرك وَلَو أعجبكم} ، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {خير من مُشْرك} وَلَا خير فِي الْمُشرك؟ قيل: يجوز مثله كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {ءآلله خير أما يشركُونَ} وَيُقَال: الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل. {أُولَئِكَ يدعونَ إِلَى النَّار} أَي: إِلَى أَسبَاب النَّار {وَالله يَدْعُو إِلَى الْجنَّة وَالْمَغْفِرَة بِإِذْنِهِ} أَي: بِقَضَائِهِ وإرادته {وَيبين آيَاته للنَّاس لَعَلَّهُم يتذكرون}

222

قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْمَحِيض} أما السَّائِل عَنهُ: هُوَ أسيد بن حضير، وَعباد بن بشير. وَأما الْمَحِيض: مفعل من الْحيض. وَالْمرَاد بِهِ: نفس الْحيض. قَالَ الْأَزْهَرِي: يُقَال: حَاضَت الْمَرْأَة حيضا، ومحيضا: إِذا نزل بهَا الدَّم من الرَّحِم فِي وَقت مَعْلُوم. وَيُقَال: استحيضت الْمَرْأَة: إِذا نزل بهَا الدَّم من عرق لَا من الرَّحِم لَا فِي وَقت مَعْلُوم.

{الْمَحِيض وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن فَإِذا تطهرن فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين (222) } {قل هُوَ أَذَى} أَي: قذر. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: الْأَذَى: هُوَ الدَّم. {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى عَن أنس: أَن الْيَهُود كَانُوا يعتزلون الْمَرْأَة فِي حَالَة الْحيض أَشد الاعتزال، وَكَانُوا لَا يؤاكلونها، وَلَا يشاربونها، ويخرجونها من الْبَيْت، فسألوا رَسُول الله عَن ذَلِك فَنزلت الْآيَة. وَلم يرد بِهَذَا الاعتزال مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الاعتزال بترك الْوَطْء حَتَّى تحل المضاجعة، وَسَائِر أَنْوَاع الْمُبَاشرَة. وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اصنعوا كل شَيْء إِلَّا الْوَطْء ". وَفِيه قَول آخر: أَنه يفعل كل شَيْء ويجتنب مَا تَحت الْإِزَار، وَذَلِكَ مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. {وَلَا تقربوهن} أَرَادَ بِهِ القربان: بِالْوَطْءِ؛ فَإِن قربانها بِغَيْر الْوَطْء مُبَاح. {حَتَّى يطهرن} يقْرَأ مخففا. وَالْمرَاد بِهِ حَتَّى يطهرن من الْمَحِيض. وَقَرَأَ أهل الْكُوفَة غير حَفْص " حَتَّى يطهرن " مشدد. وَقَرَأَ أبي بن كَعْب، وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا: " حَتَّى يتطهرن " فِي الشواذ. وَقَوله: {يطهرن} بِمَعْنى: يتطهرن؛ إِلَّا أَنه أدغم التَّاء فِي الطَّاء. وَمَعْنَاهُ: حَتَّى

{نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنِّي شِئْتُم وَقدمُوا لأنفسكم وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا} يغتسلن. قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: قَوْله: {يطهرن} على التَّخْفِيف قد يكون بِمَعْنى الِاغْتِسَال، من فعل الطَّهَارَة. وَالْكل حجَّة الشَّافِعِي فِي وجوب الِاغْتِسَال (لإباحة الْوَطْء فَإِنَّهُ) مد التَّحْرِيم إِلَيْهِ. وَقَوله: {فَإِذا تطهرن} أَي: اغْتَسَلْنَ {فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: من حَيْثُ أَمركُم الله بالاجتناب فِي حَال الْحيض. وَالثَّانِي وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة مَعْنَاهُ: من حَيْثُ أَبَاحَ الله، وَذَلِكَ بطرِيق النِّكَاح. {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} قيل: مَعْنَاهُ: التوابين من الذُّنُوب. والمتطهرين من الْعُيُوب. وَالْقَوْل الثَّانِي: معنى التوابين الرجاعين إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَار، وَمعنى المتطهرين: المتبرئين من حول أنفسهم وقوتهم. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن التوابين: من التَّوْبَة، والمتطهرين يَعْنِي: بالاستنجاء بِالْمَاءِ. وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المتطهرين} يَعْنِي: المتطهرين بالاستنجاء بِالْمَاءِ بعد الْحجر.

223

قَوْله تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم} أَي: مَوضِع حرث لكم ومزدرع، وَقد قَالَ الشَّاعِر: (إِذا أكل الْجَرَاد حروث قوم ... فحرثي همه أكل الْجَرَاد)

سمى الْعِيَال: حرثا، أنْشدهُ الْمبرد. {فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} وَسبب نزُول هَذَا: مَا روى جَابر: أَن الْيَهُود قَالُوا من أَتَى امْرَأَته مولية جَاءَ وَلَده أَحول؛ فَنزلت الْآيَة. {فَأتوا حَرْثكُمْ أَنِّي شِئْتُم} أَي: (مقبلة ومدبرة) وقائمة وَقَاعِدَة، وَكَيف شِئْتُم. وَقيل: مَعْنَاهُ: مَتى شِئْتُم. قَالَ ابْن عَبَّاس: معنى قَوْله: {أَنى شِئْتُم} أَي: إِن شِئْتُم فاعزلوا، وَإِن شِئْتُم فَلَا تعزلوا. قَالَ الشَّيْخ: وَاعْلَم أَن الْآيَة لَا تدل على إِبَاحَة إتْيَان النِّسَاء فِي غير المأتي؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ} فَخص الْإِتْيَان بِموضع الْحَرْث، وَهُوَ الْقبل. وروى نَافِع، عَن ابْن عمر. أَنه كَانَ يُبِيح إتْيَان الْمَرْأَة فِي الدبر، وأنكروا هَذَا على نَافِع. وَقَالُوا: كذب العَبْد على سَيّده عبد الله بن عمر فَإِنَّهُ مَا كَانَ يبيحه قطّ، وَحكى ذَلِك عَن مَالك أَيْضا، وَأنْكرهُ أَصْحَابه. وَقد ورد عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِن الله لَا يستحي من الْحق، لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن ". وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هِيَ اللوطية الْكُبْرَى. وَقَالَ فِي الْعَزْل: هِيَ الموؤدة الصُّغْرَى. وَقَوله تَعَالَى: {وَقدمُوا لأنفسكم} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ التَّسْمِيَة على الْوَطْء. وَقيل: هُوَ طلب الْوَلَد. وَقيل: سَائِر أَفعَال الْخَيْر.

{أَنكُمْ ملاقوه وَبشير الْمُؤمنِينَ (223) وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن تبروا وتتقوا وتصلحوا بَين النَّاس وَالله سميع عليم (224) لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي} {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَنكُمْ ملاقوه} صائرون إِلَيْهِ {وَبشر الْمُؤمنِينَ} يَا مُحَمَّد.

224

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم} نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن رَوَاحَة، كَانَ لَهُ ختن على ابْنَته، فَحلف أَن لَا يبره فَإِذا قيل لَهُ: أَلا تصل ختنك؟ فَقَالَ: حَلَفت وَكَانَ من أقربائه فَنزلت الْآيَة. {وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن تبروا} والعرضة: كل مَا يعْتَرض فَيمْنَع من الشَّيْء. وَمَعْنَاهُ: وَلَا تجْعَلُوا الْحلف بِاللَّه سَببا يمنعكم عَن الْبر وَالتَّقوى. وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تَسْتَكْثِرُوا من الْإِيمَان؛ فَإِن من كثر يَمِينه فقد جعل اسْم الله عرضة للهتك. وَفِيه قَول آخر: مَعْنَاهُ: وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَن لَا تبروا، " وَلَا " محذوفة، وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (فَقَالَت يَمِين الله أَبْرَح قَاعِدا ... وَإِن قطعت رَأْسِي لديك وأوصالي) أَي: لَا أَبْرَح قَاعِدا. {وتتقوا وتصلحوا بَين النَّاس وَالله سميع عليم}

225

قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي إيمَانكُمْ} اللَّغْو: كل مطرح (من) الْكَلَام وَفِي مَعْنَاهُ هَاهُنَا خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: وَهُوَ قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: يَمِين اللَّغْو: قَول الرجل: لَا وَالله، وبلى وَالله، وإي وَالله. وَهَذَا قَول الشَّافِعِي. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس: وَهُوَ أَن يحلف الرجل على شَيْء أَنه فعله وَلم يَفْعَله، أَو على عَكسه وَهَذَا قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ الشّعبِيّ: هُوَ الْيَمين فِي

{أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ وَالله غَفُور حَلِيم (225) للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر فَإِن فاءوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (226) وَإِن عزموا} حَال الْغَضَب. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْحلف بِتَحْرِيم الْحَلَال. وَقَالَ زيد بن أسلم: هُوَ أَن يَقُول الرجل: أعمى الله بَصرِي، أَو أتلف مَالِي، إِن لم أفعل كَذَا؛ فَهَذَا يَمِين اللَّغْو، وَالله لَا يُؤَاخذ بِهِ، وَلَو يُؤَاخذ بِهِ النَّاس لعجل عقوبتهم. وَالأَصَح: مَا قَالَت عَائِشَة؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا كسبت قُلُوبكُمْ} وَكسب الْقلب: هُوَ الْقَصْد بِالْقَلْبِ إِلَى الْيَمين؛ فَدلَّ أَن يَمِين اللَّغْو: مَا لم يقْصد بِالْقَلْبِ. {وَالله غَفُور} أَي: ستور {حَلِيم} وَهُوَ الَّذِي لَا يعجل بالعقوبة.

226

قَوْله تَعَالَى: {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة اشهر} الألية: الْيَمين. وَكَذَلِكَ الْإِيلَاء قَالَ الشَّاعِر: (قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه ... وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت) فَقَوله: {للَّذين يؤلون} أَي: يحلفُونَ. قَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا ينْعَقد الْإِيلَاء إِذا حلف على ترك الْوَطْء أبدا ومطلقا. وَمذهب أبي حنيفَة أَنه ينْعَقد الْإِيلَاء بِالْحلف على أَرْبَعَة أشهر. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه إِنَّمَا يصير موليا بِالْحلف على أَرْبَعَة أشهر، وَهِي {تربص أَرْبَعَة اشهر} أَي: انْتِظَار أَرْبَعَة أشهر. {فَإِن فاءوا} أَي: فَإِن رجعُوا عَن الْيَمين بِالْوَطْءِ فِي حق من يقدر على الْوَطْء، أَو بالْقَوْل فِي حق من لَا يقدر على الْوَطْء {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " فَإِن فاءوا فِيهِنَّ " يَعْنِي فِي الْمدَّة، وَهَذَا يُوَافق قَول أبي حنيفَة.

227

{وَإِن عزموا الطَّلَاق} يَعْنِي: بالإيقاع {فَإِن الله سميع عليم} لقَوْل الزَّوْج، عليم بِمَا يضمره. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه تجوز الْفَيْئَة بعد الْمدَّة بوقف حَتَّى يفِيء أَي: يُطلق، وَهُوَ

{الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم (227 والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء وَلَا} مروى عَن عمر، وعَلى، وَأبي الدَّرْدَاء رَضِي الله عَنْهُم. وَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى أَنَّهَا تطلق طَلْقَة بَائِنَة بِانْقِضَاء الْمدَّة. وَهُوَ مروى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَابْن مَسْعُود، وَعلي، فِي رِوَايَة ضَعِيفَة، وَالْمَسْأَلَة فِي الخلافيات.

228

قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات} يَعْنِي المخليات يُقَال: أطلق الْأَسير وَأطلق الْبَعِير إِذا خلاه. {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ينتظرن {ثَلَاثَة قُرُوء} والقرء: الطُّهْر، وَهُوَ قَول أهل الْحجاز. قَالَ الزُّهْرِيّ: لم يقل أحد من أهل الْحجاز: أَن الْأَقْرَاء الْحيض؛ إِلَّا سعيد بن الْمسيب. وَمذهب أبي حنيفَة. أَن الْأَقْرَاء الْحيض وَهُوَ مروى عَن عمر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَهُوَ قَول أهل الْكُوفَة. وَقَالَ أَبُو عمر بن الْعَلَاء: الْقُرْء اسْم ينْطَلق على الْحيض، وينطلق على الطُّهْر، وَيذكر بمعناهما أَيْضا. وأصل الْقُرْء: الْجمع. وَقيل: هُوَ مَأْخُوذ من الْقُرْء بِمَعْنى الْوَقْت، يُقَال: أَقرَأت الرِّيَاح إِذا هبت لوَقْتهَا. وقرأت النُّجُوم إِذا أفلت. وَيكون بِمَعْنى طلعت لوقت مَعْلُوم. وأنشدوا فِي الْأَقْرَاء بِمَعْنى الْأَطْهَار قَول الْأَعْشَى: (أَفِي كل عَام أَنْت جاشم غَزْوَة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا) (مورثة مَالا وَفِي الْحَيّ رفْعَة ... لما ضَاعَ فِيهَا من قُرُوء نسائكا)

{يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن إِن كن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك إِن أَرَادوا إصلاحا ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة وَالله عَزِيز حَكِيم (228) الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك} وَإِنَّمَا يضيع فِي السّفر زمَان الْأَطْهَار لَا زمَان الْحيض؛ لِأَنَّهُمَا مضيعة. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} يَعْنِي: من الْحيض، وَالْحَبل. قَالَ قَتَادَة: علم الله تَعَالَى أَن يكون فِي النِّسَاء لوائم، تَقول الْمَرْأَة: حِضْت، وَلم تَحض، وطهرت وَلم تطهر، وحبلت وَلم تحبل. قَوْله تَعَالَى: {إِن كن يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {إِن كن يُؤمن بِاللَّه} وَالْحكم فِي الْكَافِرَة مثل الحكم فِي المؤمنة؟ قيل: مَعْنَاهُ: أَن هَذَا من فعل الْمُؤْمِنَات، كَمَا يُقَال: إِن كنت مُؤمنا فأد حَقي. يَعْنِي: من فعل الْمُؤمنِينَ أَدَاء الْحُقُوق. وَقَوله {وبعولتهن} أَي: أَزوَاجهنَّ {أَحَق بردهن} أَي: برجعتهن {فِي ذَلِك} يَعْنِي: فِي تِلْكَ الْمدَّة. {إِن أَرَادوا إصلاحا} مَعْنَاهُ: إِن أَرَادوا بالرجعة الصّلاح، وَحسن الْعشْرَة، وَلم يكن قَصده الْإِضْرَار، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة. كَانَ الرجل مِنْهُم يُطلق امْرَأَته، ثمَّ يُرَاجِعهَا إِذا أشرفت الْعدة على الِانْقِضَاء. ثمَّ يطلقهَا، ثمَّ يُرَاجِعهَا كَذَلِك، يقْصد بِهِ تَطْوِيل الْعدة عَلَيْهَا. {ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي مَعْنَاهُ: إِنِّي أحب أَن أتزين لامرأتي كَمَا تحب امْرَأَتي أَن تتزين لي؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {ولهن مثل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَفِيه قَول آخر، مَعْنَاهُ: على الرجل أَن يَتَّقِي لحقها كَمَا على الْمَرْأَة أَن تتقي لحقه يَعْنِي: من الْحَرَام. {وللرجال عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} قَالَ مُجَاهِد: بِالْجِهَادِ وَالْمِيرَاث. وَقيل: يَعْنِي: فِي الطَّلَاق؛ لِأَن الطَّلَاق بيد الرِّجَال. وَقَالَ حميد: باللحية. {وَالله عَزِيز} أَي: منيع

( {بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان وَلَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا إِلَّا أَن يخافا أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا} حَكِيم) .

229

قَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاق مَرَّتَانِ فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} . قَالَ عُرْوَة بن الزبير: كَانَ النَّاس فِي الِابْتِدَاء يطلقون من غير حصر وَلَا عدد، فيطلق الرجل امْرَأَته فَلَمَّا قاربت انْقِضَاء الْعدة رَاجعهَا، ثمَّ طَلقهَا كَذَلِك، ثمَّ رَاجعهَا، وَقَالَ: لَا أخليك تتزوجين أبدا، فَنزلت الْآيَة {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} " وَيَعْنِي: الطَّلَاق الَّذِي يملك عَقِيبه الرّجْعَة مَرَّتَانِ. {فإمساك بِمَعْرُوف} هُوَ الرّجْعَة، وَقيل: هُوَ الْإِمْسَاك بعد الرّجْعَة للصحبة. وَقَوله: {بِمَعْرُوف} هُوَ كل مَا يعرف فِي الشَّرْع من أَدَاء حُقُوق النِّكَاح، وَحسن الصُّحْبَة. {أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} هُوَ أَن يَتْرُكهَا بعد الطَّلَاق حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا. " وَسُئِلَ رَسُول الله أَيْن الطَّلقَة الثَّالِثَة؟ فَقَالَ: أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان ". وَلَفظ السراح والفراق صريحان مثل الطَّلَاق عِنْد الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الصَّرِيح لفظ وَاحِد وَهُوَ الطَّلَاق. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا} يَعْنِي: غصبا وظلما، وَذَلِكَ مثل قَوْله فِي سُورَة النِّسَاء: {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا أتأخذونه بهتانا وإثما مُبينًا} . وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا أَن يخافا أَلا يُقِيمَا حُدُود الله} يَعْنِي: إِنَّمَا يحل الْأَخْذ عِنْد

إِرَادَة الْخلْع، وَوُجُود الْخَوْف. وَقَوله: {إِلَّا أَن يخافا} يقْرَأ بِفَتْح الْيَاء وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَحَمْزَة: " إِلَّا أَن يخافا " بِضَم الْيَاء. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " إِلَّا أَن تخافوا ". أما الأول: رَاجع إِلَى الزَّوْجَيْنِ. وَأما قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: فَهِيَ خطاب للولاة والقضاة. وَأما قِرَاءَة حَمْزَة: قيل: إِنَّه قصد اعْتِبَار معنى قِرَاءَة ابْن مَسْعُود، وَمَعْنَاهُ: إِلَّا أَن يخَاف الزَّوْجَانِ؛ [فَيعلم] الْوُلَاة والقضاة. وَقَالُوا: إِنَّه لم يصب. وَاخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْخَوْف، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة إِمَام اللُّغَة: الْخَوْف بِمَعْنى الْعلم. قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: هُوَ على حَقِيقَة الْخَوْف، مَعْنَاهُ إِلَّا أَن يغلب على الظَّن خوف أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْخَوْف بِمَعْنى الظَّن، قَالَ الشَّاعِر: (أَتَانِي كَلَام من نصيب (يَقُوله) وَمَا خفت يَا سَلام أَنَّك [عائبي] ) أَي: مَا ظَنَنْت. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُود الله فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} أَي: فِيمَا اخْتلعت بِهِ. وَاخْتلفُوا فِي الْخلْع، قَالَ طَاوس، وَالربيع بن أنس: يخْتَص جَوَاز الْخلْع بِحَال خوف النُّشُوز؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: يخْتَص جَوَاز الْخلْع بِقدر مَا سَاق إِلَيْهَا من الْمهْر، حَتَّى لَا يجوز بِالزِّيَادَةِ. وَقَالَ الْحسن: الْخلْع إِنَّمَا يجوز للولاة والقضاة؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة.

{افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (229) فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره فَإِن طَلقهَا فَلَا جنَاح} وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْخلْع يجوز بِكُل حَال، وَبِكُل قدر تَرَاضيا عَلَيْهِ من الزَّوْجَيْنِ وَغَيرهمَا. وَإِنَّمَا الْآيَة خرجت على وفْق الْعَادة فِي أَن الْخلْع إِنَّمَا يكون فِي حَال خوف النُّشُوز، وَهُوَ الأولى أَن يُؤْتى بِالْخلْعِ فِي حَال النُّشُوز، وبقدر الْمهْر. وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُود الله فَلَا تعتدوها} أَي: فَلَا تجاوزوها، وحدود الله: كل مَا منع الشَّرْع من الْمُجَاوزَة عَنهُ. وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} . ظَاهر الْمَعْنى.

230

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن طَلقهَا فَلَا تحل لَهُ من بعد} هُوَ الطَّلقَة الثَّالِثَة. وَحكمهَا تَحْرِيم العقد إِلَى أَن يُوجد الزَّوْج الثَّانِي. ثمَّ التَّحْلِيل للزَّوْج الأول إِنَّمَا يحصل بِالْعقدِ وَالْوَطْء جَمِيعًا، على قَول أَكثر الْعلمَاء. وَحكى عَن سعيد بن الْمسيب وَقيل: عَن سعيد بن جُبَير أَنه يحصل بِمُجَرَّد النِّكَاح. بظاهرة الْآيَة. وَقد عد هَذَا من شواذ الْخلاف. وَالدَّلِيل على صِحَة القَوْل الأول: مَا روى " أَن امْرَأَة رِفَاعَة الْقرظِيّ جَاءَت إِلَى رَسُول الله، وَقَالَت: إِن رِفَاعَة بت طَلَاقي، وَتَزَوَّجت بعده بِعَبْد الرَّحْمَن بن الزبير، وَإِنَّمَا مَعَه مثل هدبة الثَّوْب. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أَتُرِيدِينَ أَن تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَة؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك ". فدلت السّنة على اشْتِرَاط الْوَطْء وَهَذَا خبر صَحِيح. وَقَوله تَعَالَى: {حَتَّى تنْكح زوجا غَيره} فَالنِّكَاح بِمَعْنى الْوَطْء، وَيكون بِمَعْنى

{عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا إِن ظنا أَن يُقِيمَا حُدُود الله وَتلك حُدُود الله يبينها لقوم يعلمُونَ (230) وَإِذ طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فأمسكوهن بِمَعْرُوف أَو سرحوهن بِمَعْرُوف وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا وَمن يفعل ذَلِك فقد ظلم نَفسه وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات الله هزوا واذْكُرُوا نعمت الله عَلَيْكُم وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب} العقد. {فَإِن طَلقهَا} يَعْنِي: الزَّوْج الثَّانِي {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا} وَأَرَادَ بالرجعة هَاهُنَا: إنْشَاء النِّكَاح مَعَ الزَّوْج الأول. وَقَوله تَعَالَى: {إِن ظنا أَن يُقِيمَا حُدُود الله} يَعْنِي: إِن علما أَن يكون بَينهمَا الصّلاح، وَحسن الصُّحْبَة. وَقَوله: {وَتلك حُدُود الله يبينها لقوم يعلمُونَ} أَي: يعلمُونَ مَا أَمر الله بِهِ

231

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ} أَي: قاربن بُلُوغ الْأَجَل كَمَا يُقَال: بلغت الْمنزل، إِذا قاربه. وَقَوله: {فأمسكوهن بِمَعْرُوف} أَي: راجعوهن بِالْمَعْرُوفِ. {أَو سرحوهن بِمَعْرُوف} أَو اتركوهن حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة. {وَلَا تمسكوهن ضِرَارًا لتعتدوا} أَي: لَا تقصدوا بالرجعة الضرار بِالْمَرْأَةِ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ. {وَمن يفعل ذَلِك فقد ظلم نَفسه} أَي: أضرّ بِنَفسِهِ لَا بِغَيْرِهِ. (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَات الله هزوا) قَالَت عَائِشَة وَهُوَ الْأَصَح: هُوَ النَّهْي عَن قصد الْإِضْرَار (بالرجعة) فَإِن كل من خَالف أَمر الشَّرْع فَهُوَ متخذ آيَات الله هزوا. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء وَهُوَ قَول الْحسن: هُوَ أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يُطلق، ثمَّ يَقُول: مَا كنت جادا، وَيعتق، ثمَّ يَقُول: مَا كنت جادا، كنت لاعبا. وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه نهى عَن الزِّيَادَة على قدر الطَّلَاق الثَّلَاث.

{وَالْحكمَة يعظكم بِهِ وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِكُل شَيْء عليم (231) وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ إِذا تراضوا بَينهم} وَقَوله تَعَالَى: {واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم} قَالَ عَطاء: أَرَادَ بِهِ نعْمَة الْإِسْلَام. {وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَالْحكمَة} يَعْنِي: السّنة. {يعظكم بِهِ} يرشدكم بِهِ {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِكُل شَيْء عليم} .

232

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ} أَرَادَ ببلوغ الْأَجَل فِي هَذِه الْآيَة: تَمام انْقِضَاء الْعدة. قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} والعضل: الْمَنْع. قَالَ الْخَلِيل: يُقَال: دَجَاج معضل، إِذا نشبت فِيهَا الْبَيْضَة وامتنعت من الْخُرُوج؛ لضيق الْمخْرج. وَمِنْه الدَّاء العضال، وَهُوَ الَّذِي لَا يُطَاق علاجه. وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: أعضل بِي أهل الْكُوفَة. أَي: ضيقوا عَليّ، وأوقعوا بِي فِي أَمر شَدِيد. وَأكْثر الْعلمَاء والمفسرين على أَنه خطاب للأولياء، نَهَاهُم عَن الِامْتِنَاع من التَّزْوِيج. وَقد قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا بَين، أَنه دَلِيل على أَن الْمَرْأَة لَا تلِي عقد النِّكَاح. وَنزلت الْآيَة فِي معقل بن يسَار الْمُزنِيّ؛ فَإِنَّهُ زوج أُخْته من رجل فَطلقهَا وَتركهَا حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا، ثمَّ جَاءَ يخطبها مَعَ الْخطاب، ورغبت الْمَرْأَة فِيهِ، فَقَالَ معقل: زَوجتك أُخْتِي دون غَيْرك، وخطبها أَشْرَاف قومِي فاخترتك! أطلقتها، لَا أنكحتكها أبدا؛ فَنزلت الْآيَة. وَفِيه قَول آخر: أَنه خطاب للأزواج؛ لِأَن ابْتِدَاء الْآيَة خطاب لَهُم. وَمنع الْأزْوَاج هُوَ مَا ذكرنَا من أَن يطلقن، ثمَّ يُرَاجع، ثمَّ يُطلق. وَالْأول أصح. وَقَوله تَعَالَى: {إِذا تراضوا بَينهم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِك يوعظ بِهِ من كَانَ مِنْكُم

{بِالْمَعْرُوفِ ذَلِك يوعظ بِهِ من كَانَ مِنْكُم يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِكُم أزكى لكم وأطهر وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (232) والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ لَا} يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر) إِنَّمَا خصهم لِأَن الْوَعْظ إِنَّمَا يُؤثر فِي الْمُؤمنِينَ. وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِكُم أزكى لكم وأطهر} أزكى لكم أَي: خير لكم، وأطهر أَي: أصلح. {وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} .

233

قَوْله تَعَالَى: (والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ) هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر. {حَوْلَيْنِ كَامِلين لمن أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة} . فالحولان: (مُدَّة) الرَّضَاع، فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: كَامِلين؟ قيل: لِأَن الْحَوْلَيْنِ قد ينْطَلق على الْحول وَبَعض الْحول الثَّانِي، كَمَا فِي قَوْله: {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} أطلق الْأَشْهر على شَهْرَيْن وَبَعض الثَّالِث، فَقَالَ: كَامِلين ليعرف أَنه أَرَادَ تَمام الْحَوْلَيْنِ. وَقيل: إِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا. وروى أَن امْرَأَة أَتَت بِولد لسِتَّة أشهر من وَقت النِّكَاح، فجَاء زَوجهَا إِلَى عُثْمَان فِي ذَلِك. فهم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ برجمها، فَقَالَ عَليّ: لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} وَقَالَ: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} فَإِذا ذهب الفصال حَوْلَيْنِ، بَقِي للْحَمْل سِتَّة أشهر، فَتَركهَا عُثْمَان، وَدَرَأَ الْحَد. وَقَوله تَعَالَى: {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ} يَعْنِي: الزَّوْج أَبُو الْوَلَد. {رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ} وَذَلِكَ نَفَقَة مُدَّة الرَّضَاع. {لَا تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا} إِلَّا طاقتها،

{تكلّف نفس إِلَّا وسعهَا لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُود لَهُ بولده وعَلى الْوَارِث مثل ذَلِك فَإِن أَرَادَ فصالا عَن ترَاض مِنْهُمَا وتشاور فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا وَإِن أردتم أَن} يَعْنِي: على الموسع بِقدر وَسعه، وعَلى المقتر بِقدر طاقته. وَقَوله تَعَالَى: {لَا تضار وَالِدَة بِوَلَدِهَا} بِفَتْح الرَّاء. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَغَيره بِضَم الرَّاء. وَقَرَأَ أبان [عَن] عَاصِم: " لَا تضارر " وَفِي الشواذ. فَمن قَرَأَ بِفَتْح الرَّاء فَمَعْنَاه: لَا تضار الْمَرْأَة بِوَلَدِهَا. يَعْنِي: لَا ينتزع الْأَب وَلَدهَا مِنْهَا، فيسلمه إِلَى غَيرهَا وَهِي راغبة فِي الْإِرْضَاع. وَيحْتَمل أَن مَعْنَاهُ: أَن الْمَرْأَة لَا تضار بِوَلَدِهَا فتتركه (لغَيْرهَا) ، وتمتنع من الْإِرْضَاع. وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَهَذَا أَيْضا مَعْنَاهُ، وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الثَّالِثَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا مَوْلُود لَهُ بولده} يَعْنِي الْأَب لَا يضر بولده فَيسلم إِلَى غير الْأُم. وَقَوله تَعَالَى: {وعَلى الوراث مثل ذَلِك} قَالَ عمر: أَرَادَ بِهِ على غير الْوَالِدين مثل ذَلِك النَّفَقَة، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة، فَإِنَّهُ يُوجب نَفَقَة الْقَرَابَة على الْإِخْوَة والأعمام. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَرَادَ بِمثل ذَلِك: ترك المضارة. وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَلم ير النَّفَقَة على غير الْوَالِدين. وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَفِيه قَول ثَالِث: أَرَادَ بالوارث هَذَا: الْوَلَد، عَلَيْهِ نَفَقَته من مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن أَرَادَا فصالا} أَي: فِيمَا دون الْحَوْلَيْنِ. {عَن ترَاض مِنْهُمَا} يَعْنِي: من الْوَالِدين {وتشاور} أَي: يشاور أهل الْعلم بِهِ حَتَّى يخبروا أَن الفصال فِي ذَلِك الْوَقْت لَا يضر بِالْوَلَدِ. والمشاورة: اسْتِخْرَاج الرَّأْي.

{تسترضعوا أَوْلَادكُم فَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِذا سلمتم مَا آتيتم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (233) وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا فَإِذا بلغن أَجلهنَّ فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا فعلن} وَقيل: إِن عمر ركب فرسا يشوره، أَي: يسْتَخْرج سيره، فَعَطب تَحْتَهُ، فَحكم شريحا؛ فقضي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ. وَقَالَ: إِنَّمَا ركبته سوما؛ فولاه الْقَضَاء، فَقضى بعد ذَلِك سبعين سنة. وَقَوله: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا} أَي: فَلَا حرج فِي الفصال قبل تَمام الْحَوْلَيْنِ. وَقَوله: {وَإِن أردتم أَن تسترضعوا أَوْلَادكُم} أَي: تستأجروا مُرْضِعَة لأولادكم، وَاللَّام محذوفة. وَمَعْنَاهُ: أَن تسترضعوا لأولادكم. وَقَوله: {فَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِذا سلمتم مَا آتيتم بِالْمَعْرُوفِ} . يقْرَأ: " آتيتم " ممدودا، وَيقْرَأ: " أتيتم " مَقْصُورا وَمعنى الأول: إِذا سلمتم إِلَى الْأُم، وَمَا آتيتم أَي: مَا سميتم لَهَا من أجر الرَّضَاع بِقدر مَا أرضعت. وَيحْتَمل التَّسْلِيم إِلَى الْمُسْتَأْجرَة أجرتهَا إِلَى الرَّضَاع. وَمن قَرَأَ " أتيتم " فَمَعْنَاه: إِذا سلمتم مَا أتيتم بِالْمَعْرُوفِ، يَعْنِي: إِذا سلمتم لأَمره وانقدتم لحكمه فِيمَا فَعلْتُمْ من الْمَعْرُوف. {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} .

234

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم} قَرَأَ عَليّ: " يتوفون " بِفَتْح الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: يستوفون أعمارهم. وَالْمَعْرُوف بِضَم الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: وَالَّذين يموتون ويتوفى آجالهم {ويذرون أَزْوَاجًا} أَي: ويتركون أَزْوَاجًا وَالْمرَاد بالأزواج: الزَّوْجَات. {يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن {بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} الْآيَة فِي عدَّة الْوَفَاة، وَهِي مقدرَة بأَرْبعَة أشهر وَعشر بِاتِّفَاق الْأمة لنَصّ الْكتاب.

{فِي أَنْفسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (234) وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء أَو أَكُنْتُم فِي أَنفسكُم علم الله أَنكُمْ ستذكرونهن} وَقيل: إِنَّمَا قدر بِتِلْكَ الْمدَّة لحكمة، وَهِي أَن الْوَلَد يرتكض فِي بطن الْحَامِل لنصف مُدَّة الْحمل وَأَرْبَعَة أشهر وَعشر قريب من نصف مُدَّة الْحمل. والارتكاض: بِمَعْنى التحرك، وَيُقَال: امْرَأَة مركضة إِذا تحرّك [فِي] بَطنهَا، قَالَ الشَّاعِر: (ومركضة صريحي أَبوهَا ... يهان لَهَا الغلامة والغلام) وَأما قَوْله: {وَعشرا} فَهِيَ لَيَال، يُقَال: عشرَة أَيَّام وَعشر لَيَال، وَإِنَّمَا خص اللَّيَالِي لِأَن كل أجل يبتدىء من اللَّيْل. وَقَالَ الْمبرد: أَرَادَ بِهِ: عشر مدد، كل مُدَّة يَوْم وَلَيْلَة. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا بلغن أَجلهنَّ} أَي: انْقَضتْ عدتهن. {فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي: فِيمَا فعلن من اخْتِيَار الْأزْوَاج دون العقد، وَالْعقد إِلَى الْوَلِيّ. وَقيل: مَعْنَاهُ فِيمَا (تزين) للأزواج زِينَة لَا ينكرها الشَّرْع. {وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} .

235

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا عرضتم بِهِ من خطْبَة النِّسَاء} التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ فِي أَوَان الْعدة جَائِز. وَالْخطْبَة: خطْبَة العقد، يُقَال: خطب يخْطب خطْبَة إِذا خطب العقد. وخطب يخْطب خطْبَة إِذا خطب النَّاس بِكَلَام مَعْلُوم الأول وَالْآخر. وَصُورَة التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ: أَن يَقُول للْمَرْأَة: إِنَّك لجميلة، وَإنَّك عَليّ لكريمة، وَإِنِّي لراغب فِي النِّسَاء، أَو مَا قضى الله يكون، وَنَحْو ذَلِك. فَهَذَا لَا بَأْس بِهِ فِي حق الْمُعْتَدَّة. وَلَا يجوز التَّصْرِيح بِالْخطْبَةِ. وَقَالَ مُجَاهِد: وَذَلِكَ أَن يَقُول: لَا تسبقيني بِالنِّكَاحِ، أَو يَقُول: لَا تفوتي على نَفسك، أَو أخطبك حَتَّى إِذا حللت أتزوجك، وَنَحْو هَذَا.

{وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله وَاعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَن الله} وَقيل: إِن ذَلِك يجوز مَعَ الْوَلِيّ بِأَن يَقُول لَهُ: لَا تسبقني بِالنِّكَاحِ وَنَحْو ذَلِك. وَإِنَّمَا لَا يجوز التَّصْرِيح مَعهَا. وَالدَّلِيل على جَوَاز التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ: مَا روى أَن سكينَة بنت حَنْظَلَة تأيمت عَن زَوجهَا، فَدخل عَلَيْهَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر، وَقَالَ: تعلمين قَرَابَتي من رَسُول الله، وَقَرَابَتِي من عَليّ، وحقي فِي الْإِسْلَام، وشرفي فِي الْعَرَب. فَقَالَ سكينَة: أَتَخْطُبُنِي وَأَنا مُعْتَدَّة وَأَنت أَنْت يَعْنِي: مِنْك يُؤْخَذ الْعلم؟ ! فَقَالَ: مَا خطبتك، وَلَكِن ذكرت منزلتي. ثمَّ روى " أَن رَسُول الله دخل على أم سَلمَة وَكَانَت فِي عدَّة زَوجهَا أبي سَلمَة، فَذكر عَلَيْهِ السَّلَام كرامته على الله، ومنزلته عِنْد الله، وَكَانَ يذكر من ذَلِك ويعتمد على يَدَيْهِ حَتَّى أثر الْحَصِير فِي يَدَيْهِ ". فَهَذَا كُله من التَّعْرِيض بِالْخطْبَةِ، وَدلّ الحَدِيث على جَوَازه. وَقَوله تَعَالَى: {أَو أكننتم فِي أَنفسكُم} أَي: أضمرتم فِي أَنفسكُم أَمر النِّكَاح {علم الله أَنكُمْ ستذكرونهن} يَعْنِي: فِي أَنفسكُم. {وَلَكِن لَا تواعدوهن سرا إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا} فِي معنى هَذَا السِّرّ أَقْوَال، أَصَحهَا: أَنه أَخذ مِيثَاق النِّكَاح مِمَّا، نهى الشَّرْع عَنهُ فِي حَال الْعدة. وَقيل: السِّرّ: الزِّنَا. وَقيل: هُوَ الْوَطْء. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (أَلا زعمت بسباسة الْيَوْم أنني ... كَبرت وَأَن لَا يحسن السِّرّ أمثالي) يَعْنِي: الْجِمَاع. قَالَ الشَّافِعِي قَوْله: {لَا تواعدهن سرا} هُوَ أَن يصف نَفسه بِكَثْرَة الْجِمَاع؛ ليرغبها فِي نِكَاحه. وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا أَن تَقولُوا قولا مَعْرُوفا} هُوَ مَا ذكرنَا من التَّعْرِيض الْمُبَاح. قَوْله: {وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح} أَي: لَا تحققوا الْعَزْم على عقد النِّكَاح فِي الْعدة {حَتَّى يبلغ الْكتاب أَجله} أَي: فرض الْكتاب؛ لِأَن الْعدة من فرض الْكتاب. {وَاعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي أَنفسكُم فَاحْذَرُوهُ} هَذَا فِي التحذير عَمَّا نَهَاهُم عَنهُ. {وَاعْلَمُوا أَن الله غَفُور حَلِيم} .

{غَفُور حَلِيم (235) لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة ومتعوهن على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة}

236

قَوْله تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} تَقْدِيره: وَلم تمَسُّوهُنَّ، وَلم تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة. هَذِه الْآيَة فِي الْمُطلقَة قبل الْفَرْض والمسيس. وَفِي الْآيَة دَلِيل على جَوَاز إخلاء النِّكَاح عَن تَسْمِيَة الْمهْر. وفيهَا دَلِيل على وجوب الْمُتْعَة فِي الْجُمْلَة؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {ومتعوهن} . قَالَ ابْن عَبَّاس فِي الْمُتْعَة: أَعْلَاهَا خَادِم، وأوسطها الْوَرق، وَأَدْنَاهَا ثوب للكسوة. قَالَ الشَّافِعِي: وَاسْتحْسن فِي الْمُتْعَة أَن تكون من عشْرين درهما إِلَى ثَلَاثِينَ، وَفِي الْجُمْلَة هِيَ مفوضة إِلَى اجْتِهَاد الْحُكَّام، فَيُوجب على كل وَاحِد تَقْدِير مَا يرى {على الموسع قدره وعَلى المقتر قدره مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ} . قَالَ شرح: هَذَا إرشاد وَندب إِلَى الإمتاع، وَلم ير وجوب الْمُتْعَة، وَسَائِر الْعلمَاء ذَهَبُوا إِلَى وجوب الْمُتْعَة، فمذهب عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن لكل مُطلقَة مُتْعَة. وَقَالَ ابْن عمر: لكل مُطلقَة مُتْعَة؛ إِلَّا الَّتِي فرض لَهَا زَوجهَا، وَطَلقهَا قبل الدُّخُول، حسبها نصف الْمُسَمّى، وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِي. وَفِيه قَول ثَالِث: أَنَّهَا لَا تجب إِلَّا للَّتِي لم يفْرض لَهَا، وَطلقت قبل الدُّخُول.

237

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم} هَذِه الْآيَة فِي الْمُطلقَة بعد الْفَرْض قبل الْمَسِيس، وَجب لَهَا نصف الْمُسَمّى عِنْد الطَّلَاق قبل الدُّخُول. {إِلَّا أَن يعفون} هَذَا فِي الزَّوْجَات، يُقَال: تَعْفُو، تعفوان، يعفون. وَمعنى عَفْو الْمَرْأَة: هُوَ الْفضل بترك النّصْف الَّذِي وَجب لَهَا. {أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح} قَالَ عَليّ وَهُوَ مَذْهَب شُرَيْح، وَالشعْبِيّ:

{فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح وَأَن تَعْفُو أقرب للتقوى وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (237) حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَقومُوا لله قَانِتِينَ (238) فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا} إِن المُرَاد بِهِ: الزَّوْج، وعفوه: الْفضل بِإِعْطَاء تَمام الْمهْر. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْوَلِيّ وَهُوَ الْأَلْيَق بنظم الْآيَة وَرَأى جَوَاز إِبْرَاء الْوَلِيّ عَن مهر الْمَرْأَة. وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه فِي أَب الْبكر خَاصَّة، وَله الْعَفو عَن مهر ابْنَته مَا دَامَت بكرا. وَالْفَتْوَى على أَن لَيْسَ إِلَى الْوَلِيّ من الْعَفو شَيْء. وَإِنَّمَا الْآيَة فِي الزَّوْج، كَمَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ. {وَأَن تَعْفُو أقرب للتقوى} الْخطاب مَعَ الْكل. {وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} أَي: أفضال بَعْضكُم على بعض. {إِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} .

238

قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} أَمر بالمحافظة على جَمِيع الْأَوْقَات. وَأما الصَّلَاة الْوُسْطَى فَفِيهَا سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ عمر، وَعلي، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو أَيُّوب، وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم هِيَ صَلَاة الْعَصْر، لِأَنَّهَا وسط (صَلَاتي) اللَّيْل وصلاتي النَّهَار. وَعَن حَفْصَة أَنَّهَا قَالَت لكاتب مصحفها: إِذا بلغت قَوْله: {حَافظُوا على الصَّلَوَات} فَأَعْلمنِي، فَلَمَّا بلغه أعلمها، فَقَالَت: اكْتُبْ: وَالصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر. وَقد صَحَّ الْخَبَر عَن رَسُول الله أَنه قَالَ يَوْم الخَنْدَق: " شغلونا عَن صَلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر مَلأ الله بطونهم وقبورهم نَارا ". وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول زيد بن ثَابت: أَنَّهَا صَلَاة الظّهْر، لِأَنَّهَا وسط النَّهَار.

وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَجَابِر: أَنَّهَا صَلَاة الصُّبْح. وَهُوَ [اخْتِيَار] الشَّافِعِي لِأَنَّهَا وسط صَلَاتي اللَّيْل وصلاتي النَّهَار. ووراء هَذَا فِيهِ أَربع أَقْوَال غَرِيبَة: أَحدهَا قَالَه قبيصَة بن ذُؤَيْب: أَنَّهَا صَلَاة الْمغرب؛ لِأَنَّهَا وسط فِي عدد الرَّكْعَات. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب، وَالربيع بن خثيم: أَنَّهَا كل صَلَاة من الصَّلَوَات الْخمس؛ لِأَن كل صَلَاة من الصَّلَوَات الْخمس: وسطى بَين الْأَرْبَع. وَإِنَّمَا خصّه بعد ذكر الصَّلَوَات تَأْكِيدًا وتحريضا على الْمُحَافظَة على جَمِيع الصَّلَوَات. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْجُمُعَة. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا الْجَمَاعَة. وَاخْتلفُوا فِي صَلَاة الصُّبْح أَنَّهَا من صَلَاة اللَّيْل، أَو من صَلَاة النَّهَار. فَأكْثر الْعلمَاء على أَنَّهَا من صَلَاة النَّهَار. وَقَالَ بَعضهم: أَنَّهَا [من] صَلَاة اللَّيْل. وَهَذَا الْخلاف يرجع إِلَى أَن النَّهَار من وَقت طُلُوع الْفجْر أَو [من] وَقت طُلُوع الشَّمْس. فَمن قَالَ: إِنَّه من وَقت طُلُوع الْفجْر؛ جعل صَلَاة الصُّبْح من صَلَاة النَّهَار. وَمن قَالَ: إِن النَّهَار من وَقت طُلُوع الشَّمْس؛ جعلهَا من صَلَاة اللَّيْل. وَاسْتدلَّ قَائِل هَذَا القَوْل بقول أُميَّة بن الصَّلْت. (وَالشَّمْس تطلع كل آخر لَيْلَة ... حَمْرَاء يصبح لَوْنهَا يتورد) وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: ليل مَحْض، ونهار مَحْض، ومشترك بَين اللَّيْل، وَالنَّهَار فَصَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء الْآخِرَة فِي مَحْض اللَّيْل. وَصَلَاة الظّهْر وَالْعصر فِي مَحْض النَّهَار، وَصَلَاة الصُّبْح مُشْتَرك بَين اللَّيْل وَالنَّهَار.

{فَإِذا أمنتم فاذكروا الله كَمَا علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ (239) وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج فَإِن خرجن فَلَا} وَفِيه قَول آخر هُوَ الْمُخْتَار: أَنه ليل لُغَة ونهار شرعا. وَقَوله: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} أَي: مُطِيعِينَ ساكتين. وَذَلِكَ أَن الْكَلَام كَانَ مُبَاحا فِي الصَّلَاة فِي الِابْتِدَاء، فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة؛ سكتوا. والقارئ فِي الصَّلَاة سَاكِت عَن الْكَلَام. وَمذهب الشَّافِعِي أَنه [لَو] حلف لَا يتَكَلَّم فَقَرَأَ الْقُرْآن لم يَحْنَث؛ لِأَنَّهُ كَلَام الله لَا كَلَامه. خلافًا لأبي حنيفَة قَالَ: يَحْنَث.

239

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن خِفْتُمْ فرجالا أَو ركبانا} هَذِه فِي صَلَاة الْخَوْف، يصلونَ مشَاة وفرسانا. وَقَوله: {فَإِذا أمنتم فاذكروا الله كَمَا علمكُم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ} يَعْنِي: كَمَا علمكُم من أصل الصَّلَاة فِي حَال الْأَمْن.

240

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم} . يقْرَأ بِالْفَتْح، وَتَقْدِيره: أوصوا وَصِيَّة. وَيقْرَأ بِالضَّمِّ: وَتَقْدِيره: عَلَيْكُم وَصِيَّة، وَهَذَا ورد فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين كَانَت (الْعدة للوفاة) حولا كَامِلا، وَكَانَت نَفَقَة جَمِيع الْحول على الزَّوْج وَاجِبَة، وَكَانَ يجب عَلَيْهِ الْوَصِيَّة بِالْإِنْفَاقِ إِذا مَاتَ، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول} أَي: نَفَقَة الْحول. وَقَوله: {غير إِخْرَاج} وَحرم على الْوَارِث إِخْرَاج الْمُعْتَدَّة من الْبَيْت قبل تَمام الْحول، لَكِن إِذا خرجت بِنَفسِهَا سَقَطت نَفَقَتهَا. فنسخ ذَلِك بِآيَة عدَّة الْوَفَاة كَمَا سبق، وَتلك

{جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف وَالله عَزِيز حَكِيم (240) وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تعقلون (242) ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف حذر الْمَوْت} الْآيَة وَإِن كَانَت مُتَقَدّمَة فِي التِّلَاوَة وَلكنهَا مُتَأَخِّرَة فِي الْمَعْنى، وَهِي ناسخة لهَذِهِ الْآيَة. وَقيل لعُثْمَان: أَلا تضع تِلْكَ الْآيَة مَكَان هَذِه الْآيَة، وَهَذِه مَكَان تِلْكَ؟ فَقَالَ: أكره أَن أغير الْقُرْآن عَن مَوْضِعه. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن خرجن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِي مَا فعلن فِي أَنْفسهنَّ من مَعْرُوف} هُوَ مَا ذكرنَا بعد الْفَرَاغ من الْعدة. وَقَوله تَعَالَى: {وَالله عَزِيز حَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

241

قَوْله تَعَالَى: {وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ} أعَاد ذكر الْمُتْعَة تَأْكِيدًا. وَسبب نزُول الْآيَة: مَا روى أَنهم لما سمعُوا قَوْله تَعَالَى: {مَتَاعا بِالْمَعْرُوفِ حَقًا على الْمُحْسِنِينَ} قَالُوا: إِن شِئْنَا نمتع، وَإِن شِئْنَا لَا نمتع، فَنزلت هَذِه الْآيَة. {وللمطلقات مَتَاع بِالْمَعْرُوفِ} أَي: الْمُتْعَة لَهُنَّ ملكا، جعلهَا لَهُنَّ بلام التَّمْلِيك. وَقَوله: {حَقًا على الْمُتَّقِينَ} يَعْنِي: وَاجِبا على الْمُؤمنِينَ.

242

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته} لِأَنَّهُ ذكر فِيمَا قبل كثيرا من الْآيَات، وَالْأَحْكَام، فَأَرَادَ بِهِ ذَلِك. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تعقلون} أَي: تفهمون وتفقهون.

243

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين خَرجُوا من دِيَارهمْ وهم أُلُوف} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا أَرْبَعَة آلَاف، وَقَالَ غَيره: كَانُوا ثَمَانِيَة آلَاف، وَقَالَ السّديّ: كَانُوا [بضعَة]

فَقَالَ لَهُم الله موتوا ثمَّ أحياهم إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون (243) وقاتلوا فِي سَبِيل الله وَاعْلَمُوا أَن الله سميع عليم (244) من ذَا) وَثَلَاثِينَ ألفا وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: أَرْبَعِينَ ألفا، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: أُلُوف، أَي: مؤتلفة قُلُوبهم، وَالصَّحِيح أَن المُرَاد بِهِ: الْعدَد كَمَا بَينا. وَقَوله: {حذر الْمَوْت فَقَالَ لَهُم الله موتوا} أَي: أماتهم الله {ثمَّ أحياهم} هَذَا [فِي] قوم من بني إِسْرَائِيل هربوا من الطَّاعُون، وَقَالُوا: نَذْهَب إِلَى أَرض لَيْسَ بهَا طاعون، فَذَهَبُوا فأماتهم اله تَعَالَى هُنَالك وبقوا سَبْعَة أَيَّام كَذَلِك، فَمر بهم نَبِي يُقَال لَهُ: حزقيل، فَدَعَا الله تَعَالَى فأحياهم. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أماتهم الله تَعَالَى قبل آجالهم؛ عُقُوبَة لَهُم، ثمَّ أحياهم ليستوفوا آجالهم. وَفِي الْقَصَص: أَنه بعد مَا أحياهم كَانَ يُوجد مِنْهُم ريح الْمَوْت، وَكَذَلِكَ من أَوْلَادهم. وَقَوله تَعَالَى: {إِن الله لذُو فضل على النَّاس} قيل: هُوَ على الْعُمُوم فِي حق الكافة فِي الدُّنْيَا، وَقيل: هُوَ على الْخُصُوص فِي حق الْمُؤمنِينَ. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون} أما الْكفَّار فَلَا يشكرون. وَأما [الْمُؤْمِنُونَ] فَلم يبلغُوا غَايَة الشُّكْر.

244

قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوا فِي سَبِيل الله وَاعْلَمُوا أَن الله سميع عليم} قيل الْخطاب مَعَ الصَّحَابَة. وَالْمعْنَى فِيهِ: أَن أُولَئِكَ الْقَوْم لما هربوا من الْمَوْت لم يَنْفَعهُمْ الْهَرَب حَتَّى أدركهم الْمَوْت، فَلَا تقعدوا وَأَنْتُم عَن الْقِتَال خوفًا من الْمَوْت؛ بل جاهدوا وقاتلوا فِي سَبِيل الله. وَقيل: الْخطاب مَعَ أُولَئِكَ الْقَوْم من بني إِسْرَائِيل، فَإِنَّهُم إِنَّمَا قعدوا عَن الْقِتَال؛ فأماتهم الله ثمَّ أحياهم، وَأمرهمْ بِالْقِتَالِ.

{الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة وَالله يقبض ويبصط وَإِلَيْهِ}

245

قَوْله تَعَالَى: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} الْقَرْض: هُوَ الْقطع. وَمِنْه المقراض، وسمى الْقَرْض قرضا؛ لِأَنَّهُ يقطع شَيْئا من مَاله ليكافأ عَلَيْهِ. أَو يرد عَلَيْهِ مثله. قَالَ لبيد: (وَإِذا جوزيت قرضا فأجزه ... إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتى لَيْسَ الْإِبِل) فَإِن قيل: كَيفَ يكون الْإِقْرَاض من الله تَعَالَى؟ قيل مَعْنَاهُ: يقْرض أَنْبيَاء الله. فَقَالَ الضَّحَّاك: مَعْنَاهُ: يتَصَدَّق لله، وَسَماهُ قرضا لِأَن الله تَعَالَى قد وعد الثَّوَاب عَلَيْهِ. وَقَوله تَعَالَى: {قرضا حسنا} يَعْنِي: حَلَالا، وَقيل: حسنا أَي: طيبَة نَفسه بِهِ. وَقَوله: {فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة} يقْرَأ بقراءات: فيضاعفه " بِضَم الْفَاء على إتباع قَوْله: {يقْرض} . وَقُرِئَ: " فيضاعفه ". بِفَتْح الْفَاء نصبا على جَوَاب الِاسْتِفْهَام. وَيقْرَأ: " فيضعفه " بِالْيَاءِ وَيقْرَأ بالنُّون: " فنضعفه ". ولتضعيف والمضاعفة بِمَعْنى وَاحِد. والضعف كل مَا زَاد على الْمثل. وَقَوله: {أضعافا كَثِيرَة} قَالَ السّديّ: كَثِيرَة لَا يعلم عَددهَا إِلَّا الله. وَقَالَ غَيره: سَبْعمِائة ضعف. وَقَوله: {وَالله يقبض ويبسط} فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال:

{ترجعون (245) ألم تَرَ إِلَى الْمَلأ من بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى إِذْ قَالُوا لبني لَهُم} [أَحدهمَا] : قَالَ الْحسن: يقبض بالتقتير، ويبسط بالتوسيع. وَقَالَ الزّجاج: يقبض بِقبُول الصَّدَقَة، ويبسط بِإِعْطَاء الثَّوَاب عَلَيْهِ. وَالْقَوْل الثَّالِث: يقبض بتقليل الْأَعْمَار، ويبسط بتكثير الْأَعْمَار. وَالْقَوْل الرَّابِع: يقبض بِالتَّحْرِيمِ، ويبسط بِالْإِبَاحَةِ. وَقَوله تَعَالَى: {وَإِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى.

246

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الْمَلأ من بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى} الْمَلأ: أَشْرَاف كل قوم. وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما قتل رُءُوس الْمُشْركين مثل أبي جهل، وَعتبَة، وَغَيرهمَا يَوْم بدر قَالَ رجل من الْأَنْصَار: مَا قتلنَا إِلَّا عَجَائِز صلعا أَي: أَوَاخِر الْقَوْم شُيُوخًا فكره ذَلِك رَسُول الله وَقَالَ: أُولَئِكَ الْمَلأ من قُرَيْش؛ لَو رَأَيْتهمْ هبتهم، وَإِن أمروك أطعتهم، واحتقرت فعلك مَعَ فعلهم ". وَقَوله: {إِذْ قَالُوا لنَبِيّ لَهُم ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله} قيل: ذَلِك النَّبِي كَانَ اشمويل، وَقيل: كَانَ يُوشَع بن النُّون، وَقيل: هُوَ شَمْعُون، وسى بذلك؛ لِأَن الله تَعَالَى دَعَاهُ فَسَمعهُ. والقصة فِي ذَلِك: أَن بني إِسْرَائِيل [ظهر] عَلَيْهِم الْعَدو، وَسبوا من أَبنَاء مُلُوكهمْ أَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعين نَفرا وَكَانُوا قد قعدوا عَن الْقِتَال أَربع سِنِين فَجَاءُوا إِلَى نَبِيّهم ذَلِك، وَقَالُوا لَهُ: ابْعَثْ لنا ملكا يجْتَمع أمرنَا عَلَيْهِ

{ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله قَالَ هَل عسيتم إِن كتب عَلَيْكُم الْقِتَال أَلا تقاتلوا قَالُوا وَمَا لنا أَلا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله وَقد أخرجنَا من دِيَارنَا وأبنائنا فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال توَلّوا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَالله عليم بالظالمين (246) وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن الله قد} فنقاتل فِي سَبِيل الله. وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ هَل عسيتم} الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: بِفَتْح السِّين. وقرىء: " هَل عسيتم " بِكَسْر السِّين وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. وبالفتح أصوب. وَقَوله: {إِن كتب عَلَيْكُم الْقِتَال أَلا تقاتلوا} وَمعنى الْآيَة: لَعَلَّكُمْ أَن تجبنوا عَن الْقِتَال فَلَا تقاتلوا. وَقَوله: {قَالُوا ومالنا أَلا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله} أَي: مَا يمنعنا أَن نُقَاتِل فِي سَبِيل الله. {وَقد أخرجنَا من دِيَارنَا} لأَنهم كَانُوا أخرجُوا من بَيت الْمُقَدّس. {وأبنائنا} أَي: أخرجنَا من أَبْنَائِنَا بِالسَّبْيِ، والسبي فِيهِ مُضْمر، وَمثله قَول الشَّاعِر: (وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا) أَي: وحاملا رمحا. وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال توَلّوا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم وَالله عَلَيْهِم بالظالمين} وَأَرَادَ بِالْقَلِيلِ: أُولَئِكَ الَّذين اقتصروا على الغرفة، وجاوزوا مَعَ طالوت وَسَيَأْتِي.

247

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} قيل: إِنَّه كَانَ سقاء يَسْتَسْقِي على الْحمار. وسمى طالوت؛ لطوله لِأَنَّهُ كَانَ أطول من كل أحد بِرَأْسِهِ ومنكبه. وَقيل: كَانَ الرجل مِنْهُم إِذا رفع يَدَيْهِ وصل إِلَى رَأسه، يَعْنِي: رَأس طالوت.

بعث لكم طالوت ملكا قَالُوا أَنى يكون لَهُ الْملك علينا وَنحن أَحَق بِالْملكِ مِنْهُ وَلم يُؤْت سَعَة من المَال قَالَ إِن الله اصطفاه عَلَيْكُم وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم وَالله يُؤْتِي ملكه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم (247) وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن آيَة ملكه أَن) وَقَوله: {قَالُوا أَنِّي يكون لَهُ الْملك علينا وَنحن أَحَق بِالْملكِ مِنْهُ} أَي: كَيفَ يكون لَهُ الْملك علينا، وَلَيْسَ هُوَ من سبط النُّبُوَّة، وَالْملك؟ وَذَلِكَ أَن سبط النُّبُوَّة كَانَ سبط لاوي بن يَعْقُوب، وَهُوَ سبط مُوسَى بن عمرَان، وسبط الْملك كَانَ سبط يهوذا، وَكَانَ طالوت من سبط بنيامين، وَلم يكن سبط ملك وَلَا نبوة؛ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا قد عصوا الله مَعْصِيّة عَظِيمَة؛ فَنزع الله مِنْهُم النُّبُوَّة وَالْملك وَكَانُوا يسمون سبط الْإِثْم. وَقَوله: {وَلم يُؤْت سَعَة من المَال} لِأَنَّهُ كَانَ سقاء كَمَا بَينا. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن الله اصطفاه عَلَيْكُم} أَي: اخْتَارَهُ عَلَيْكُم. وَقَوله: {وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم} أما الزِّيَادَة بالجسم: مَعْلُوم. وَأما الْعلم: قيل أَرَادَ بِهِ علم الْحَرْب وَكَانَ طالوت أعلمهم بِأَمْر الْحَرْب وَقيل: أَرَادَ بِهِ علم الدّين، وَالْأول أصح. وَقَوله: {وَالله يُؤْتى ملكه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم} فالواسع: ذُو السعَة، وَهُوَ الَّذِي يعْطى عَن غَنِي. وَأما الْعَلِيم: فَقيل: الْعَلِيم والعالم بِمَعْنى وَاحِد، وَمِنْهُم من فرق بَين الْعَلِيم والعالم، فَقَالَ: الْعَالم: بِمَا كَانَ، والعليم: بِمَا يكون.

248

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ لَهُم نَبِيّهم إِن آيَة ملكه أَن يأتيكم التابوت} طلبُوا مِنْهُ آيَة على الْملك، فَأخْبرهُم نَبِيّهم بِآيَة ملكه، وَذَلِكَ إتْيَان التابوت. قيل: هُوَ التابوت الَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى وَهَارُون، كَانَت بَنو إِسْرَائِيل يخرجُون بِهِ إِلَى الْغَزَوَات ويستنصرون بِهِ.

{يأتيكم التابوت فِيهِ سكينَة من ربكُم وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون تحمله} وَقيل: كَانَ من شجر الشمشاذ، وَكَانَ ثَلَاثَة أَذْرع فِي ذراعين. وَفِيه قَول آخر: أَنه التابوت الَّذِي أنزلهُ الله تَعَالَى على آدم مَعَ الرُّكْن، وَكَانَ فِيهِ صور الْأَنْبِيَاء. وَقَوله: {فِيهِ سكينَة من ربكُم} قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: السكينَة لَهَا وَجه كوجه الْإِنْسَان، وَهِي بعد ريح هفافة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ طست من ذهب كَانَ يغسل فِيهِ قُلُوب الْأَنْبِيَاء، وَقيل: هِيَ شَيْء يشبه الهر لَهُ عينان لَهما شُعَاع، وَله جَنَاحَانِ من الزمرد والزبرجد، وَكَانُوا إِذا سمعُوا صَوته تيقنوا بالنصر، وَكَانُوا إِذا خَرجُوا بالتابوت إِلَى الْحَرْب يضعونه قدامهم، فَإِن سَار سَارُوا، وَإِن وقف وقفُوا. وَقَالَ مُجَاهِد: السكينَة آيَة كَانُوا يسكنون إِلَيْهَا. وَقَوله تَعَالَى: {وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون} وَذَلِكَ عصى مُوسَى، ونعلاه، وعمامة هَارُون، ورضاض الألواح الَّتِي تَكَسَّرَتْ، وقفيز من الْمَنّ الَّذِي أنزل على بني إِسْرَائِيل. وَقيل: أَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة، كَانَت فِي التابوت. {مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون} يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُون، وَمثله قَول الشَّاعِر: (فَلَا تبك مَيتا بعد ميت أجنه ... عَليّ وعباس وَآل أبي بكر) أَي: دَفنه يَعْنِي: وَأَبُو بكر. وَقَوله تَعَالَى: {تحمله الْمَلَائِكَة} قَالَ الْحسن: كَانَ التابوت مَعَ الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء، فَلَمَّا تولى طالوت الْملك، حملت الْمَلَائِكَة التابوت ووضعوه بَينهم. وَقيل: إِن العمالقة غلبوا على التابوت، ودفنوه، فَأمر الله تَعَالَى الْمَلَائِكَة حَتَّى استخرجوه، وَحَمَلُوهُ إِلَيْهِم.

{الْمَلَائِكَة إِن فِي ذَلِك لآيَة لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين (248) فَلَمَّا فصل طالوت بالجنود قَالَ إِن الله مبتليكم بنهر فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من} قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن العمالقة لما غلبوا على التابوت أَخذهم الْبَاسُور، فعلموه أَن ذَلِك عُقُوبَة عَلَيْهِم من أجل التابوت، فشدوه على عجلة وَحَمَلُوهُ على ثورين، وساقوهما إِلَى الْمَفَازَة وتركوه فَجَاءَت الْمَلَائِكَة وَسَاقُوا ذَلِك إِلَى بني إِسْرَائِيل. وَقَوله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين} ظَاهر الْمَعْنى.

249

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا فصل طالوت بالجنود} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ عدد الْجنُود ثَمَانِينَ ألفا. وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ إِن الله مبتليكم بنهر} وَذَلِكَ نهر كَانَ بَين أردن وفلسطين، وَمَعْنَاهُ: أَن الله ممتحنكم بذلك النَّهر؛ ليظْهر من لَهُ نِيَّة وَقصد فِي الْقِتَال، مِمَّن لَا نِيَّة لَهُ. وَقَوله: {فَمن شرب مِنْهُ فَلَيْسَ منى} قَالَه طالوت، يَعْنِي: لَيْسَ من أهل ولايتي وصحابتي. {وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني} أَي: من لم يذقه، قَالَ الشَّاعِر: (فَإِن شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم ... وَإِن شِئْت لم أطْعم نقاخا وَلَا بردا) أَي: لم أذق مَاء وَلَا نوما. يُقَال: منع الْبرد الْبرد أَي: منع الْبرد النّوم. وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا من اغترف غرفَة بِيَدِهِ} يقْرَأ بقراءتين، بِفَتْح الْغَيْن وَضمّهَا. والغرفة بِفَتْح الْغَيْن: الْمرة. والغرفة بِضَم الْغَيْن: ملْء الْكَفّ. وَقَوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} قَالَ عِكْرِمَة: كَانَ عدد الْقَلِيل الَّذين اقتصروا على الغرفة: أَرْبَعَة آلَاف.

{اغترف غرفَة بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم فَلَمَّا جاوزه هُوَ وَالَّذين آمنُوا مَعَه قَالُوا لَا طَاقَة لنا الْيَوْم بجالوت وَجُنُوده قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين (249) وَلما برزوا لجالوت} وَأكْثر الْمُفَسّرين وَهُوَ الْأَصَح على أَنهم كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا. قَالَ الْبَراء بن عَازِب: كُنَّا نتحدث أَن عدد أَصْحَاب رَسُول الله، ورضى عَنْهُم يَوْم بدر كَانُوا على عدَّة الَّذين جاوزا مَعَ طالوت، وَكَانُوا يَوْم بدر ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا ". قَالَ الْبَراء بن عَازِب: وَلم يُجَاوز إِلَّا مُؤمن. وَفِي الْقَصَص: أَنهم لما وصلوا إِلَى النَّهر، كَانَ قد ألْقى الله عَلَيْهِم الْعَطش، فَشرب الْكل إِلَّا هَذَا الْعدَد الْقَلِيل. وكل من شرب مِنْهُم اسودت شفتاه، وَلم يرو، وَبَقِي على الشط، وكل من اقْتصر على الغرفة روى وَجَاوَزَ. وَقيل: إِن الْكل جاوزا، وَلَكِن حضر بَعضهم الْقِتَال، وَلم يحضر الْبَعْض. وَقَوله: {فَلَمَّا جاوزه هُوَ وَالَّذين آمنُوا مَعَه قَالُوا لَا طَاقَة لنا الْيَوْم بجالوت وَجُنُوده} قَالَ ابْن عَبَّاس والسدى: إِنَّمَا قَالَه الَّذين انخذلوا وَلم يجاوزا، وَقيل: إِنَّمَا قَالَه من الَّذين جاوزوا؛ من قلت بصيرته فِي الدّين دون من قويت بصيرته. وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله} يَعْنِي: الَّذين قويت بصيرتهم. {يظنون} يستيقنون أَنهم ملاقو الله، وَقد ذكرنَا الظَّن بِمَعْنى الْيَقِين وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة الظَّن يَعْنِي: الَّذين يظنون إِصَابَة الشَّهَادَة فِي الْوَقْعَة. وَقَوله: {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله} بِقَضَائِهِ وإدارته. {وَالله مَعَ الصابرين} بالنصر والعونة.

250

وَقَوله: {وَلما برزوا لجالوت وَجُنُوده} كَانَ جالوت رَئِيس تِلْكَ العمالقة.

{وَجُنُوده قَالُوا رَبنَا أفرغ علينا صبرا وَثَبت أقدامنا وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين (250) فهزموهم بِإِذن الله وَقتل دَاوُد جالوت وآتاه الله الْملك وَالْحكمَة وَعلمه مِمَّا يَشَاء وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض وَلَكِن الله ذُو فضل} وَقَوله: {قَالُوا رَبنَا أفرغ علينا صبرا} مَعْنَاهُ: أصبب علينا. وَقَوله: {وَثَبت أقدامنا} أَي: فِي الْقِتَال {وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين} .

251

قَوْله تَعَالَى: {فهزموهم بِإِذن الله} أَي: كسروهم، يُقَال: سقاء مهزم، ومنهزم أَي: متكسر متثن بعضه على بعض. وَقَوله {بِإِذن الله} أَي: بِقَضَائِهِ وإرادته. وَقَوله: {وَقتل دَاوُد جالوت} وَفِي الْقِصَّة: أَن أَبَا دَاوُد حضر الْحَرْب مَعَ ثَلَاثَة عشر نَفرا من أَوْلَاده كَانَ أَصْغَرهم سنا دَاوُد، وَكَانَ [أصَاب] مَعَه مقلاع وقذافة، فبرز جالوت وَطلب البرَاز وَخرج إِلَيْهِ دَاوُد، ورماه بالمقلاع الْحجر بَين عَيْنَيْهِ وَخرج من قَفاهُ، وَأصَاب قوما آخَرين وقتلهم. وَقَوله: {وآتاه الله الْملك وَالْحكمَة} جمع لدواد بَين الْملك وَالْحكمَة، يَعْنِي: النُّبُوَّة. قيل: بعده بِسبع سِنِين، وَلم يكن من قبل مجتمعا، بل كَانَ الْملك فِي سبط والنبوة فِي سبط، وَقيل: الْملك وَالْحكمَة: هُوَ الْعلم مَعَ الْعَمَل. وَقَوله: {وَعلمه مِمَّا يَشَاء} قيل: صَنْعَة الدروع، وأصوات الطُّيُور، وَالزَّبُور. وَقَوله: {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} قَرَأَ نَافِع: " وَلَوْلَا دفاع الله " وَالْمعْنَى وَاحِد. قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: مَعْنَاهُ: لَوْلَا دفع الله الْكفَّار بِالْمُؤْمِنِينَ؛ لكثر الْكفْر، وَنزلت السخطة، واستؤصلت الأَرْض.

{على الْعَالمين (251) تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَإنَّك لمن الْمُرْسلين (252) تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض مِنْهُم من كلم الله وَرفع بَعضهم دَرَجَات} وَقَالَ عَليّ، وَعَامة الْمُفَسّرين: إِن الله يدْفع بالمتقي عَن غير المتقي، وبالصالح عَن الْفَاجِر، وبالمصلح عَن غير المصلح، وبالمؤمن عَن الْكَافِر، وَهُوَ معنى قَول النَّبِي " لَوْلَا مَشَايِخ ركع، وبهائم رتع، وصبيان رضع، لصب عَلَيْكُم الْعَذَاب صبا ". وَقَالَ رَسُول الله " أَن الله يدْفع الْبلَاء بِالرجلِ الصَّالح عَن مائَة بَيت من أَهله وجيرانه ". وَقَوله: {وَلَكِن الله ذُو فضل على الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.

252

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَإنَّك لمن الْمُرْسلين} وَهِي مَا ذكر من الْآيَات.

253

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} هَذِه الْآيَة فِي بَيَان فضل الرُّسُل بَعضهم على بعض مَعَ استوائهم فِي أصل الرسَالَة. وَقَوله: {مِنْهُم من كلم الله} يَعْنِي: مُوسَى وَقَوله: {وَرفع بَعضهم دَرَجَات} يَعْنِي: مُحَمَّدًا قَالَ الزّجاج: مَا أُوتى نَبِي آيَة إِلَّا أُوتى نَبينَا مثل تِلْكَ الْآيَة، وَقد أُوتى انْشِقَاق

{وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد (253) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا مِمَّا رزقناكم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة والكافرون هم} الْقَمَر، وحنين الْجذع، وَكَلَام الشّجر، ونبع المَاء من بَين الْأَصَابِع، وَالْقُرْآن الْعَظِيم، وَبعث إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود، وَغَيره من الْأَنْبِيَاء بعث إِلَى قوم مخصوصين. وَقَوله: {وآتينا عِيسَى ابْن مَرْيَم الْبَينَات وأيدناه بِروح الْقُدس} قد سبق ذكره. وَقَوله: {وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات} هَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة حَيْثُ أحالوا الاقتتال على الْمَشِيئَة. وَقَوله: {وَلَكِن اخْتلفُوا فَمنهمْ من آمن وَمِنْهُم من كفر} مِنْهُم من تفضل عَلَيْهِ الله فَآمن، وَمِنْهُم من خذله الله فَكفر. وَقَوله: {وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا} أَعَادَهُ ثَانِيًا تَأْكِيدًا. وَقَوله: {وَلَكِن الله يفعل مَا يُرِيد} ظَاهر الْمَعْنى.

254

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا مِمَّا رزقناكم} قَالَ السدى: أَرَادَ بِهِ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة. وَقَالَ غَيره: أَرَادَ بِهِ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله وَقَوله: {من قبل أَن يَأْتِي يَوْم} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {لَا بيع فِيهِ} أَي: لَا فديَة فِيهِ، وسماها بيعا، لِأَن فِي الْفِدْيَة شِرَاء نَفسه. وَقَوله: {وَلَا خلة} فَإِن قَالَ قَائِل: قد نفى الْخلَّة هَاهُنَا فِي الْقِيَامَة، وَقد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو} فَأثْبت الْخلَّة. وَقيل: تَقْدِيره: الأخلاء فِي الدُّنْيَا بَعضهم لبَعض عَدو يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا قَالَ {وَلَا خلة وَلَا شَفَاعَة} وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة أخلاؤنا والأصنام

{الظَّالِمُونَ (254) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم لَهُ مَا فِي} شفعاؤنا فَقَالَ: لَا تَنْفَع خلتهم وَلَا شفاعتهم. وَقَوله: {والكافرون هم الظَّالِمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

255

قَوْله تَعَالَى: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} ذكره مُبَالغَة فِي الثَّنَاء، وَهُوَ مثل قَوْلهم: لَا كريم إِلَّا فلَان. أبلغ من قَوْلهم: فلَان كريم. وَقَوله: {الْحَيّ القيوم} قَرَأَ عمر: " الْقيام ". وَقَرَأَ عَلْقَمَة: " الْقيم " وَالْمَعْرُوف: {القيوم} . فالحي هُوَ الْبَاقِي الدَّائِم على الْأَبَد، وَهُوَ من الْحَيَاة. والحياة: صفة الله تَعَالَى وَأما القيوم: قيل: هُوَ الْقَائِم على كل أحد بتدبيره فِي الدُّنْيَا. وَقيل: هُوَ الْقَائِم على كل نفس بِمَا كسبت للمجازاة فِي الْآخِرَة. وَقيل: هُوَ الْقَائِم بالأمور. وَقَوله: {لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم} قَالَ الْمفضل الضَّبِّيّ: السّنة فِي الرَّأْس، وَالنَّوْم فِي الْقلب، فَالسنة أول النّوم، وَهُوَ النعاس. وَمِنْهُم من فرق بَين السّنة وَالنُّعَاس، فَقَالَ: السّنة فِي الرَّأْس وَالنُّعَاس فِي الْعين، وَالنَّوْم فِي الْقلب. وَالنَّوْم: غشية ثَقيلَة تقع على الْقلب تمنع من الْمعرفَة بالأشياء. وَفِي الْأَخْبَار أَن " مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ يَا رب أَلَك نوم؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا مُوسَى انْظُر مَا تَقول، خُذ قَارُورَتَيْنِ فَأَخذهُمَا بيدَيْهِ فَألْقى الله عَلَيْهِ النّوم، فَوَقَعت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى وانكسرتا، قَالَ الله تَعَالَى: لَو كَانَ لي نوم مَا قَامَت سَمَاء وَلَا أَرض ". وَقَوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ}

{السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض من ذَا الَّذِي يشفع عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} لأَنهم زَعَمُوا أَن الْمَلَائِكَة والأصنام يشفعون لَهُم فَقَالَ: {من ذَا الَّذِي} يُمكنهُ الشَّفَاعَة إِلَّا بِرِضَاهُ. وَقَوله: {يعلم مَا بَين أَيْديهم} يَعْنِي: الْآخِرَة {وَمَا خَلفهم} يَعْنِي: الدُّنْيَا، وَقيل: {مَا بَين أَيْديهم} مَا قدمُوا {وَمَا خَلفهم} مَا خلفوا. وَقَوله: {وَلَا يحيطون بِشَيْء من علمه إِلَّا بِمَا شَاءَ} الْإِحَاطَة: الْعلم بالشَّيْء بِجَمِيعِ جهاته وأنواعه، وَمَعْنَاهُ: وَلَا يحيطون بِشَيْء من علم الْغَيْب إِلَّا بِمَا شَاءَ، يَعْنِي: إِلَّا بِمَا أخبر بِهِ الرُّسُل، وَهُوَ مثل قَوْله فِي سُورَة الْجِنّ: {فَلَا يظْهر على غيبه أحدا إِلَّا من ارتضى من رَسُول} . وَقَوله: {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} قَرَأَ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ: " وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض " وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول. وَاخْتلفُوا فِي الْكُرْسِيّ، قَالَ الْحسن: هُوَ الْعَرْش نَفسه. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: الْكُرْسِيّ مَوْضُوع قُدَّام الْعَرْش. وَمعنى قَوْله: {وسع كرسيه السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أَي: سعته مثل سَعَة السَّمَاوَات وَالْأَرْض وأوسع مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهر فِي قِرَاءَة الْحَضْرَمِيّ، وَفِي الْأَخْبَار " أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي جنب الْكُرْسِيّ كحلقة فِي فلاة، والكرسي فِي جنب الْعَرْش كحلقة فِي فلاة ". وَفِي رِوَايَة عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي جنب الْكُرْسِيّ كدراهم سَبْعَة على الترس.

{وَلَا يئوده حفظهما وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم (255) لَا إِكْرَاه فِي الدّين قد تبين الرشد من} وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه أَرَادَ بالكرسي علمه. وَمثله قَول الشَّاعِر: (مَالِي بِأَمْرك كرْسِي أكاتمه ... وَلَا بكرسي علم الله مخلوقه) . وَمَعْنَاهُ: الْعلم. وَقيل: هُوَ ملكه وسلطانه. قَالَ الزّجاج: وَفِي الْجُمْلَة هُوَ أَمر عَظِيم يدل على كَمَال قدرته. وَقَوله: {وَلَا يؤده حفظهما} قيل: هُوَ رَاجع إِلَى الله تَعَالَى. يَعْنِي: وَلَا يثقل عَلَيْهِ حفظ السَّمَاوَات وَالْأَرْض. وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى الْكُرْسِيّ، وَقيل على هَذَا: إِن الْكُرْسِيّ تَحت الأَرْض كالعرش فَوق السَّمَاوَات، وَالسَّمَاوَات وَالْأَرْض على الْكُرْسِيّ. وَقيل: معلقَة بالكرسي. {وَلَا يؤده} أَي: لَا يثقل على الْكُرْسِيّ حفظ السَّمَاوَات وَالْأَرْض. {وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} يَعْنِي بالعلى: المتعالي عَن الْأَشْيَاء والأنداد. وَقيل: العلى بِالْملكِ والسلطنة. والعظيم: الْكَبِير. وَقد ورد فِي فضل آيَة الْكُرْسِيّ أَخْبَار مِنْهَا: مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ لأبي بن كَعْب: " أَي أعظم فِي الْقُرْآن؟ فَقَالَ: آيَة الْكُرْسِيّ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ليهنئك الْعلم أَبَا الْمُنْذر ".

256

قَوْله: {لَا إِكْرَاه فِي الدّين} قيل: سَبَب نزُول الْآيَة أَن الْمَرْأَة من أهل الْمَدِينَة كَانَ لَا يعِيش لَهَا ولدا؛ فَكَانَت تنذر وَتقول: إِن عَاشَ لي ولد لأهودنه، فَإِذا عَاشَ لَهَا ولد جعلته بَين الْيَهُود، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَأجلى رَسُول الله بني النَّضِير إِلَى الشَّام بَقِي بَينهم عدد من أَوْلَاد الْأَنْصَار قد هودوا فَاسْتَأْذنُوا رَسُول الله فِي استردادهم؛

{الغي فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا وَالله سميع عليم (256) الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} فَنزلت الْآيَة ". {لَا إِكْرَاه فِي الدّين} فَمن شَاءَ مِنْهُم أَن يدْخل فِي الْإِسْلَام، فَلْيدْخلْ وَمن لم يَشَأْ فَلَا إِكْرَاه فِي الدّين. وَقَالَ الشّعبِيّ: هَذَا فِي أهل الْكتاب لَا يجبرون على الْإِسْلَام إِذا بذلوا الْجِزْيَة. وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الْقِتَال. وَقَوله: {قد تبين الرشد من الغي} أَي: الْحق من الْبَاطِل، وَالْإِيمَان من الْكفْر. وَقَوله: {فَمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بِاللَّه} الطاغوت: هُوَ الشَّيْطَان، وينطلق على الْوَاحِد وَالْعدَد. وَقيل: كل مَا يعبد من دون الله فَهُوَ طاغوت. وَأما الطاغوت فِي قَوْله: {يُرِيدُونَ أَن يتحكموا إِلَى الطاغوت} هُوَ كَعْب بن الْأَشْرَف خَاصَّة. وَقَوله: {فقد استمسك بالعروة الوثقى لَا انفصام لَهَا} العروة: الْكوز والدلو. وَالْمرَاد هَاهُنَا بالعروة الوثقى: العقد الوثيق الْمُحكم فِي الدّين. قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَام. وَقيل: هُوَ الْقُرْآن وَمَعْنَاهُ: فقد تمسك بتمسك. {لَا انفصام لَهَا} أَي: لَا انْقِطَاع لَهَا {وَالله سميع} بدعائك إيَّاهُم إِلَى الْإِسْلَام {عليم} بحرصك على إسْلَامهمْ.

257

قَوْله تَعَالَى: {الله ولي الَّذين آمنُوا} يَعْنِي: الْقيم عَلَيْهِم بالنصر والمعونة والمثوبة. وَقَوله: {يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} يَعْنِي: من الْكفْر إِلَى الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا سمى الْكفْر ظلمات؛ لِأَن طَرِيق الْكفْر مشتبه ملتبس. وَإِنَّمَا سمى الْإِسْلَام نورا لِأَن طَرِيقه بَين وَاضح.

{وَالَّذين كفرُوا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النُّور إِلَى الظُّلُمَات أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (257) ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه أَن آتَاهُ الله الْملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت قَالَ أَنا أحيي وأميت قَالَ} وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النُّور إِلَى الظُّلُمَات} أَي: من الْإِسْلَام إِلَى الْكفْر. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يخرجونهم من الْإِسْلَام وَلم يدخلُوا فِيهِ؟ قيل: هُوَ فِي قوم من الْمُرْتَدين خَاصَّة. وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم؛ وَذَلِكَ أَنهم لما عدلوا وصرفوا عَن الْإِسْلَام؛ فكأنهم أخرجُوا عَنهُ، يَقُول الرجل لغيره: أخرجتني عَن صلتك، أَي: لم تعطني، وَلم تصلني. وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

258

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه} مَعْنَاهُ: هَل انْتهى إِلَيْك خبر الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم وَهُوَ نمروذ؟ قَالَه قَتَادَة. وَهُوَ أول من تجبر فِي الأَرْض وَادّعى الربوبية. والمحاجة: المجادلة، ثمَّ بَين المحاجة فِي سِيَاق الْآيَة. قَوْله: {أَن آتَاهُ الله الْملك} أَي: كَانَت تِلْكَ المحاجة فِي الربوبية من نظر الْملك وطغيانه. وَقَوله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي يحي وَيُمِيت} وَفِي الْقَصَص: أَن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ، وَكَانُوا يتمارون من عِنْده الطَّعَام، وَكَانَ إِذا أَتَاهُ الرجل فِي طلب الطَّعَام يسْأَله من رَبك؟ فَإِذا قَالَ: أَنْت، بَاعَ مِنْهُ الطَّعَام، فجَاء إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم فِيمَن جَاءَ يمتار الطَّعَام، فَقَالَ لَهُ نمروذ: من رَبك؟ قَالَ: رَبِّي الَّذِي يحيي وَيُمِيت، فأشغل بالمحاجة وَلم يُعْطه شَيْئا، فَانْصَرف عَنهُ إِبْرَاهِيم، وَمر بكثيب من الرمل، فَمَلَأ مِنْهُ الجواليق تطييبا لقلوب أَهله، فَلَمَّا بلغ منزله فَإِذا فِيهِ الدَّقِيق.

{إِبْرَاهِيم فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب فبهت الَّذِي كفر وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (258) أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة وَهِي خاوية على} وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ أَنا أحيي وأميت} هَذَا قَول نمروذ حِين قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: ربى الَّذِي يحيى وَيُمِيت. قَالَ سُفْيَان: إِنَّه دَعَا برجلَيْن وَجب الْقَتْل عَلَيْهِمَا، فَقتل أَحدهمَا وَلم يقتل الآخر، فَهَذَا إحياؤه وإماتته. وَقَوله: {قَالَ إِبْرَاهِيم فَإِن الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب} فَإِن قَالَ قَائِل: لم انْتقل إِبْرَاهِيم من حجَّة إِلَى حجَّة، وَهَذَا يكون عَجزا؟ قيل: كَانَت الْحجَّة الأولى لَازِمَة، ومعارضة نمروذ إِيَّاه كَانَت فَاسِدَة؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَيَاة وَالْمَوْت اختراعا، وَلم يُعَارضهُ بِمثلِهِ لكنه خَافَ أَن يشْتَبه على السامعين، فَأتى بِحجَّة أوضح من الأولى؛ مُبَالغَة فِي الْإِلْزَام، وقطعا لشغب. وَقَوله: {فبهت الَّذِي كفر} أَي: تحير بِغَلَبَة الْحجَّة عَلَيْهِ. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (وَمَا هُوَ إِلَّا أَن أَرَاهَا فَجْأَة ... فأبهت حَتَّى مَا أكاد أُجِيب) فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بهت وَكَانَ يُمكنهُ أَن يُعَارض إِبْرَاهِيم فَيَقُول لَهُ: سل أَنْت رَبك حَتَّى يَأْتِي بهَا من الْمغرب؟ قُلْنَا: إِنَّمَا لم يقلهُ؛ لِأَنَّهُ خَافَ أَن لَو سَأَلَهُ ذَلِك دَعَا، فَأتى بهَا من الْمغرب؛ فَكَانَ زِيَادَة فِي فضيحته وانقطاعه. وَالصَّحِيح أَن الله صرفه عَن تِلْكَ الْمُعَارضَة إِظْهَار للحجة عَلَيْهِ، ولتكون معْجزَة لإِبْرَاهِيم. وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى.

259

قَوْله تَعَالَى: {أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة} تَقْدِيره: ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم، وَإِلَى الَّذِي مر على قَرْيَة؟ وَقيل: تَقْدِيره: هَل رَأَيْت كَالَّذي حَاج إِبْرَاهِيم، وكالذي مر على قَرْيَة؟ .

{عروشها قَالَ أَنى يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه قَالَ كم} وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي مر على قَرْيَة، فَقَالَ قَتَادَة: هُوَ عَزِيز النَّبِي. وَقَالَ وهب: هُوَ إرمياء النَّبِي. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ الْخضر عَلَيْهِم السَّلَام. وَالصَّحِيح: أَنه كَانَ عَزِيز النَّبِي مر على قَرْيَة، يَعْنِي: على بَيت الْمُقَدّس. وَقَوله: {وَهِي خاوية على عروشها} قيل: كَانَت السقوف سَاقِطَة على الأَرْض، وَكَانَت الجدران متساقطة على السقوف، فَهِيَ الخاوية على عروشها. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا كَانَت خَالِيَة، وَكَانَ قد خربها، بخْتنصر الْملك البابلي. وَقَوله: {قَالَ أَنى يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا} وَفِي الْقِصَّة: أَن عَزِيزًا مر [بهَا] وَهُوَ على حمَار وَمَعَهُ التِّين والعصير فَقَالَ: إِنِّي يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا؟ ! فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أَنى يحيى هَذِه الله بعد مَوتهَا، وَهَذَا يكون سَببه الشَّك فِي قدرته؟ قيل: لم يكن شاكا فِيهِ؛ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك استبعادا على مَا يُقَال فِي الْعَادة، أَي: لَا يحي هَذِه الله بعد خرابها. قَالَ عَطاء: دخل فِي قلبه مَا يدْخل فِي قُلُوب النَّاس. وَقَوله: {فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه} أَي: أَحْيَاهُ، وَإِنَّمَا سمى الْإِحْيَاء بعثا؛ لِأَنَّهُ إِذا أحيي يبتعث للأمور. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما قَالَ تِلْكَ الْمقَالة غَلَبَة النّوم، فَقبض الله روحه مئة عَام، وَبعث ملكا عمر بَيت الْمُقَدّس فِي تِلْكَ الأعوام، ثمَّ لما أَحْيَاهُ بعث إِلَيْهِ ملكا فَسَأَلَهُ: كم لَبِثت؟ فَهَذَا معنى قَوْله: {قَالَ كم لَبِثت} وَقَوله: {قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَبُو بعض يَوْم} لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا أَمَاتَهُ فِي أول النَّهَار وَبَعثه فِي آخر النَّهَار وَقبل غرُوب الشَّمْس، فَقَالَ:

{لَبِثت قَالَ لَبِثت يَوْمًا أَو بعض يَوْم قَالَ بل لَبِثت مائَة عَام فَانْظُر إِلَى طَعَامك وشرابك لم يتسنه وَانْظُر إِلَى حِمَارك ولنجعلك آيَة للنَّاس وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ} لَبِثت يَوْمًا، ثمَّ نظر إِلَى الشَّمْس لم تغرب بعد، فَقَالَ: أَو بعض يَوْم {قَالَ} يَعْنِي الْملك: {بل لَبِثت مئة عَام فَانْظُر إِلَى طَعَامك وشرابك لم يتسنه} أَي: لم يتَغَيَّر؛ فَإِن التِّين الَّذِي كَانَ مَعَه لم يتَغَيَّر؛ كَأَنَّهُ قطف من سَاعَته، وَكَذَلِكَ الْعصير كَأَنَّهُ عصر من سَاعَته. قَالَ الْكسَائي: لم يتسنه، مَعْنَاهُ: كَأَنَّهُ لم تأت عَلَيْهِ السنون، وقطف من سَاعَته. وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ لم ينتن، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {من حمأ مسنون} . وَقيل: أَصله لم يتسنن، فقلبت إِحْدَى النونين هَاء وَمثله فِي كَلَام الْعَرَب كثير، مثل: يتمطى كَانَ فِي الأَصْل (يتمطط) ، فقلبت إِحْدَى الطائين يَاء. وَقَالَ الشَّاعِر: (يقْضِي الْبَازِي إِذا الْبَازِي انْكَسَرَ ... ) وَكَانَ فِي الأَصْل: (يقضض الْبَازِي) . وَقَوله: {وَانْظُر إِلَى حِمَارك} قيل: فَنظر إِلَيْهِ، فَإِذا عِظَام بيض تلوح نخرة فَركب الله تَعَالَى الْعِظَام بَعْضهَا على بعض، وَجعله حمارا من عِظَام، ثمَّ أَدخل فِيهِ الدَّم، ثمَّ كَسَاه الْجلد، ثمَّ نفخ فِيهِ الرّوح، فَقَامَ الْحمار ونهق، وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: {ولنجعلك آيَة للنَّاس وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها} يقْرَأ بقرائتين بالراء: نحييها، وبالزاي: يركب بَعْضهَا على بعض، من النشز، وَهُوَ الِارْتفَاع. وَقَوله: {ثمَّ نكسوها لَحْمًا} فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: وَانْظُر إِلَى حِمَارك، وَانْظُر إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشزها، ثمَّ نكسوها لَحْمًا لنحييها.

{ننشزها ثمَّ نكسوها لَحْمًا فَلَمَّا تبين لَهُ قَالَ أعلم أَن الله على كل شَيْء قدير (259) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أولم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن} وَقَوله: {ولنجعلك آيَة للنَّاس} وَبَيَان الْآيَة فِيهِ: أَنه بعث شَابًّا، وَابْنه شيخ. قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: أَمَاتَهُ الله وَهُوَ ابْن خمسين سنة وَامْرَأَته حَامِل، ثمَّ بعث بعد مئة سنة وَهُوَ ابْن خمسين، وَابْنه [ابْن] مئة سنة. وَقَوله: {فَلَمَّا تبين لَهُ قَالَ أعلم} فَلَمَّا ظَهرت لَهُ قدرَة الله تَعَالَى على عمَارَة بَيت الْمُقَدّس، وإحياء الْمَوْتَى {قَالَ أعلم} يقْرَأ بقراءتين: على الْخَبَر، وعَلى الْأَمر، أما على الْخَبَر فَمَعْنَاه: علمت أَن الله على كل شَيْء قدير، وَأما على الْأَمر قَالَ لنَفسِهِ: {أعلم أَن الله على كل شَيْء قدير} .

260

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} قيل: سَبَب سُؤَاله ذَلِك: أَن إِبْرَاهِيم مر على حَيَوَان على شط الْبَحْر مزقته السبَاع والوحش، وَكَانَ يَأْكُل مِنْهُ حيتان الْبَحْر، فَقَالَ: رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى. وَفِيه قَول آخر: أَنه لما حجه نمروذ فِي إحْيَاء الْمَوْتَى؛ أَرَادَ أَن يعرف بالعيان مَا آمن بِهِ بالْخبر وَالِاسْتِدْلَال. وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ أَو لم تؤمن} يَعْنِي: قد آمَنت فَلم تسْأَل؟ وَهَذَا مثل قَول الشَّاعِر: (ألستم خير من ركب المطايا ... ) يَعْنِي: أَنْتُم كَذَلِك. وَقَوله: {قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} فَإِن قَالَ قَائِل: أَكَانَ إِبْرَاهِيم شاكا فِيهِ

{لِيَطمَئِن قلبِي قَالَ فَخذ أَرْبَعَة من الطير فصرهن إِلَيْك ثمَّ اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ} حَتَّى احْتَاجَ إِلَى السُّؤَال، وَمَا معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم "؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم يكن شاكا فِيهِ، وَلكنه إِنَّمَا آمن بالْخبر وَالِاسْتِدْلَال، فَأَرَادَ أَن يعرفهُ عيَانًا. قَالَ عِكْرِمَة: لِيَزْدَادَ يَقِينا على يَقِين؛ لِأَن العيان فَوق الْخَبَر فِي ارْتِفَاع الْعلم. وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة ". وَأما قَوْله: {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} ؛ وَذَلِكَ أَنه لما سَأَلَ ذَلِك تعلق بِهِ قلبه، فَقَالَ: وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي عَن ذَلِك التَّعَلُّق. وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن الله تَعَالَى لما اتَّخذهُ خَلِيلًا، قَالَ ملك الْمَوْت: يَا رب، ائْذَنْ لي حَتَّى أُبَشِّرهُ؛ فبشره بِأَن الله اتخذك خَلِيلًا فَأَرَادَ أَن يرِيه الله إحْيَاء الْمَوْتَى تَخْصِيصًا لَهُ بكرامته؛ لِيَطمَئِن قلبه بالخلة. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي، فأعرف أَنِّي إِذا سَأَلتك أَعْطَيْتنِي، وَإِذا دعوتك أجبتني. وَأما قَوْله: " نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم " إِنَّمَا قَالَه على سَبِيل التَّوَاضُع، يَعْنِي: نَحن دونه، وأحق بِالشَّكِّ مِنْهُ، فَإِذا لمن نشك نَحن فَكيف يشك إِبْرَاهِيم؟ وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ فَخذ أَرْبَعَة من الطير} قيل: هِيَ الطاووس، والديك، والحمامة، والغراب.

{جزاءاً ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم (260) مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل فِي كل سنبلة مائَة حَبَّة وَالله} وَقَوله تَعَالَى: {فصرهن إِلَيْك} أَي: فَضَمَّهُنَّ إِلَيْك. وَقَرَأَ حَمْزَة بِكَسْر الصَّاد. وَفِيه تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: فَخذ أَرْبَعَة من الطير إِلَيْك فصرهن، أَي: فقطعن، وَقَوله: {ثمَّ اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ جُزْءا} قيل: جعلهَا على أَرْبَعَة أجبل. وَقَالَ السدى: على سَبْعَة أجبل، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: على أَرْبَعَة أَربَاع الْعَالم، جُزْءا على جبل بِجَانِب الشرق، وجزءا على جبل جَانب الغرب، وجزءا على الشمَال، وجزءا على الْجنُوب. وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بقوله: {اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ جُزْءا} أَي: عشرا، وَكَانَ على عشرَة أجبل؛ حَتَّى ذهب بعض الْعلمَاء من هَذَا إِلَى أَنه لَو أوصى الْإِنْسَان بِجُزْء من مَاله ينْصَرف إِلَى الْعشْر. وَقَوله: {ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا} وَفِي الْقِصَّة: أَنه جُزْء تِلْكَ الطُّيُور الْأَرْبَعَة، وخلط اللَّحْم بِاللَّحْمِ، والريش بالريش، والعظم بالعظم، وَجعلهَا على الأجبل. وَقيل: دقه بالهاون وَأخذ رءوسهن بَين أَصَابِعه، وَقيل: مناقيرهن، ثمَّ دعاهن؛ فَكَانَ يطير الريش إِلَى الريش، وَاللَّحم إِلَى اللَّحْم، وَالدَّم إِلَى الدَّم، ويركب بَعْضهَا على بعض، وأتين ساعيات إِلَى رءوسهن. وَقَوله تَعَالَى: {وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

261

قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله} قيل: سَبِيل الله: الْجِهَاد.

{يُضَاعف لمن يَشَاء وَالله وَاسع عليم (261) الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله ثمَّ لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا منا وَلَا أَذَى لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم} وَقيل: جَمِيع أَبْوَاب الْخَيْر سَبِيل الله. وَقَوله: {كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل فِي كل سنبلة مئة حَبَّة} ضربه مثلا لِلْمُتقين وَمَا وعد من الثَّوَاب على الْإِنْفَاق. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ضرب الْمثل بِهِ، وَهل يتَصَوَّر فِي كل سنبلة مئة حَبَّة؟ قيل: لما كَانَ ذَلِك متصورا فِي الْجُمْلَة، صَحَّ ضرب الْمثل بِهِ وَإِن لم يعرف، وَمثله مَا قَالَه امْرُؤ الْقَيْس: (ومسنونة زرق كأنياب أغوال ... ) وناب الغول لَا يعرف، وَلَكِن لما تصور وجوده بِالْجُمْلَةِ مثل بِهِ. وَقيل: هُوَ يتَصَوَّر فِي سنبلة الدخن وَنَحْوه. وَقَوله: {وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء} قيل: مَعْنَاهُ: يُضَاعف هَذِه المضاعفة لمن يَشَاء. وَقيل: مَعْنَاهُ يُضَاعف على هَذَا وَيزِيد لمن يَشَاء. وَقَوله: {وَالله وَاسع} أَي: وَاسع الْفضل وَالرَّحْمَة وَالْقُدْرَة، يُعْطي عَن سَعَة. وَقَوله: {عليم} أَي: عليم بنية من يُعْطي.

262

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله ثمَّ لَا يتبعُون مَا أَنْفقُوا منا وَلَا أَذَى} أما الْمَنّ: فَهُوَ أَن يَقُول للْفَقِير: أَعطيتك كَذَا، وصنعت بك كَذَا، فيعدد عَلَيْهِ نعمه، وَأما الْأَذَى: فَهُوَ أَن يعير الْفَقِير، فَيَقُول لَهُ: إِلَى كم تسْأَل، وَكم تؤذيني فَلَا زلت فَقِيرا وَنَحْو ذَلِك. وَقيل: من الْأَذَى: أَن يذكر إِنْفَاقه عَلَيْهِ عِنْد من لَا يُرِيد أَن يعرف. وَقَوله: {لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم} أَي: ثوابهم، وَقَوله: {وَلَا خوف عَلَيْهِم}

{يَحْزَنُونَ (262) قَول مَعْرُوف ومغفرة خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى وَالله غَنِي حَلِيم (263) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى كَالَّذي ينْفق مَاله رئاء النَّاس وَلَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَمثله كَمثل صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وابل} وَلَا يخَافُونَ فَوَات الثَّوَاب، وَقَوله: {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} أَي: على مَا أَنْفقُوا إِذا رَأَوْا الثَّوَاب.

263

قَوْله تَعَالَى: {قَول مَعْرُوف} قَالَ الْحسن: هُوَ القَوْل الْجَمِيل. وَقيل: هُوَ أَن يُعْطِيهِ ويبرك لَهُ، فَيَقُول: بَارك الله لَك فِيهِ، أَو يمنعهُ وَيَدْعُو لَهُ. وَقَوله: {ومغفرة} هُوَ: أَن تستر خلته، وَلَا تهتك ستره. وَقيل: هُوَ أَن تَعْفُو عَن الْفَقِير إِن بدرت مِنْهُ مساءة أَو أَذَى. وَقَوله: {خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى} يَقُول: ذَلِك القَوْل الْمَعْرُوف، وَتلك الْمَغْفِرَة، خير من صَدَقَة يتبعهَا أَذَى. وَقَوله: {وَالله غَنِي} أَي: مستغن عَن صَدقَاتكُمْ. وَقَوله: {حَلِيم} أَي: لَا يعجل بالعقوبة إِذا منعتم الصَّدَقَة.

264

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} قد ذكرنَا مَعْنَاهُمَا. وَقيل: الْمَنّ فِي الصَّدَقَة بِمَنْزِلَة الْحَدث فِي الصَّلَاة، يُبْطِلهَا ويحبطها. وَقَوله: {كَالَّذي ينْفق مَاله رئاء النَّاس} أَي: كإبطال الَّذِي ينْفق مَاله رئاء النَّاس؛ لِأَن الرِّيَاء يبطل الصَّدَقَة ويحبطها. وَقَوله: {وَلَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} يَعْنِي: النَّفَقَة مَعَ الرِّيَاء لَيْسَ من فعل الْمُؤمنِينَ. وَفِي الْجُمْلَة كل من أَتَى بِالصَّدَقَةِ تقربا إِلَى مَخْلُوق فَلَا يكون مُؤمنا.

{فَتَركه صَلدًا لَا يقدرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (264) وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كَمثل جنَّة} وَقَوله: {فَمثله كَمثل صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب} الصفوان: الْحجر الصلد الأملس. وَقَوله: {فَأَصَابَهُ وابل} الوابل: الْمَطَر الشَّديد الْعِظَام الْقطر. وَقَوله: {فَتَركه صَلدًا} أَي: أملس {لَا يقدرُونَ على شَيْء مِمَّا كسبوا} وَمعنى هَذَا الْمثل: أَن الَّذِي يرائي بِالْإِنْفَاقِ يفرق نَفَقَته، وَلَا يفوز بِشَيْء من الثَّوَاب، كالتراب الَّذِي يكون على الْحجر فَيُصِيبهُ الوابل؛ فَيفوت الَّذِي عَلَيْهِ، وَيبقى أملس، بِحَيْثُ لَا يقدر على شَيْء مِنْهُ. وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين} ظَاهر الْمَعْنى.

265

قَوْله تَعَالَى: {وَمثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ابْتِغَاء مرضات الله} أَي: خَالِصا لوجه الله. وَقَوله: {وتثبيتا من أنفسهم} قَالَ قَتَادَة: هُوَ أَن يكون محتسبا بِالْإِنْفَاقِ. وَقَالَ الْحسن: هُوَ أَن يثبت من نَفسه حَتَّى إِن كَانَت نِيَّته أَن يتَصَدَّق لله يفعل، وَإِن كَانَت نِيَّته غَيره يمسك، وَقَالَ الْكَلْبِيّ، وَالشعْبِيّ: هُوَ أَن يتَصَدَّق على يَقِين بالثواب، وتصديق بوعد الله فِيهِ. وَقَوله: {كَمثل جنَّة بِرَبْوَةٍ} الْجنَّة: الْبُسْتَان. والربوة: الْمَكَان الْمُرْتَفع. وَقَوله: {أَصَابَهَا وابل} كَمَا ذكرنَا. وَقَوله: {فآتت أكلهَا ضعفين} أَي: ثَمَرهَا ضعف مَا تُؤْتى غَيرهَا. قَوْله: {فَإِن لم يصبهَا وابل فطل} الطل: الْمَطَر الْخَفِيف الصغار الْقطر، وَيكون دَائِما. وَمعنى هَذَا الْمثل: أَن الَّذِي ينْفق خَالِصا لوجه الله تَعَالَى لَا تخلف نَفَقَته، بل تنمو وتزكو بِكُل حَال: كَمَا أَن الْجنَّة الَّتِي على الربوة لَا تخلف، بل تنمو وتزكوا بِكُل حَال سَوَاء أَصَابَهَا الوابل، أَو أَصَابَهَا الطل؛ وَذَلِكَ أَن الطل إِذا كَانَ يَدُوم يعْمل عمل

{بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وابل فآتت أكلهَا ضعفين فَإِن لم يصبهَا وابل فطل وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (265) أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء فأصابها إعصار فِيهِ نَار فاحترقت كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون (266) يَا أَيهَا الَّذين} الوابل الشَّديد. وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

266

قَوْله تَعَالَى: {أيود أحدكُم أَن تكون لَهُ جنَّة من نخيل وأعناب تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُ فِيهَا من كل الثمرات وأصابه الْكبر وَله ذُرِّيَّة ضعفاء} أَي صغَارًا. {فأصابها إعصارا فِيهِ نَار فاحترقت} الإعصار: ريح ترْتَفع كالعمود نَحْو السَّمَاء، تسميه الْعَرَب، وَسَائِر النَّاس: زَوْبَعَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (إِن كنت ريحًا فقد لاقيت إعصارا ... ) وَأما معنى الْآيَة: روى أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - سَأَلَ الصَّحَابَة عَن معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالُوا: الله أعلم، فَغَضب عمر، وَقَالَ: قُولُوا: نعلم، أَو لَا نعلم، وَنحن نعلم أَن الله يعلم؛ فَسَكَتُوا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس فيهم فَقَالَ: فِي قلبِي شَيْء، فَقَالَ لَهُ عمر: قل، وَلَا تحقر نَفسك، ضرب مثلا لعمل. وروى تَمام الْكَلَام فِيهِ. - ثمَّ اخْتلفُوا، مِنْهُم من قَالَ: تَمام الْكَلَام من عمر، وَمِنْهُم من قَالَ: تَمام الْكَلَام من ابْن عَبَّاس - وَتَمَامه: أَن الله تَعَالَى ضرب هَذَا مثلا للَّذي يعْمل طول عمره عملا، ثمَّ يحبطه برياء أَو بِشَيْء فِي آخر عمره، فيفوته ذَلِك، وَلَا يَنْفَعهُ فِي أحْوج حَال يكون إِلَيْهِ؛ كَالَّذي لَهُ بُسْتَان ذَات أَشجَار، وثمار وأنهار، فيدركه الْكبر، وَله عيلة كَبِيرَة وَأَوْلَاده صغَار، فَلَمَّا قرب إِدْرَاكه وَاحْتَاجَ إِلَيْهِ، أَصَابَته نَار فَأَحْرَقتهُ، فيفوته ذَلِك (وَلَا ينْفق) فِي أحْوج حَال يكون إِلَيْهِ.

{آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون ولستم بآخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَن الله غَنِي حميد (267) } قَوْله: {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تتفكرون} . ظَاهر الْمَعْنى.

267

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} أَي: من حَلَال مَا كسبتم، وَفِي هَذَا دلَالَة على أَن الْكسْب يتنوع إِلَى الطّيب، والخبيث. وَقَوله: {وَمِمَّا أخرجنَا لكم من الأَرْض} قيل: هُوَ الْأَمر بِإِخْرَاج العشور. وَقيل: هُوَ أَمر بِإِخْرَاج الْحُقُوق الَّتِي كَانَت وَاجِبَة فِي نَبَات الأَرْض فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَارَت مَنْسُوخَة بآيَات الزَّكَاة. وَقيل: هُوَ فِي صدقَات التَّطَوُّع. وَقَوله: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} أم، وَتيَمّم: إِذا قصد. وَأَرَادَ بالخبيث: الرَّدِيء هَاهُنَا، أَي: وَلَا تقصدوا الرَّدِيء مِنْهُ تنفقون. وَسبب نزُول الْآيَة: " مَا روى أَن أَصْحَاب النخيل على عهد رَسُول الله كَانُوا يأْتونَ بقنو فيعلقونه فِي الْمَسْجِد؛ ليأكله الْفُقَرَاء، فجَاء رجل بقنو حشف أَرَادَ مَا يكون، وعلقه، فَلم يرضه رَسُول الله وَنزلت الْآيَة: {وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} ". وَقَوله: {ولستم بآخذيه إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ} إِلَّا أَن تسامحوا وتساهلوا فِي أَخذه، وَمَعْنَاهُ: أَن الْحق لَو كَانَ لكم على غَيْركُمْ، فجَاء بِهِ رديئا لَا تأخذونه إِلَّا بإغماض فِيهِ، فتعتقدون أَنكُمْ تركْتُم بعض حقكم وأغمصتم. وَقَوله: {وأعلموا أَن الله غَنِي} يُعْطي عَن غنى (حميد) مَحْمُود الْغنى، وَفِيه دَلِيل على أَن الْغنى لغير الله مَذْمُوم. وَقيل: الحميد: الْمُسْتَحق للحمد.

{الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر ويأمركم بالفحشاء وَالله يَعدكُم مغْفرَة مِنْهُ وفضلا وَالله وَاسع عليم (268) يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا}

268

قَوْله تَعَالَى: {الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر} يخوفكم بالفقر، وَالْبَاء محذوفة. وَقَوله: {ويأمركم بالفحشاء} أَي: بِأَن لَا تتصدقوا وتبخلوا، وَمِنْه قَول طرفَة: (عقيلة مَال الْفَاحِش المتشدد ... ) أَي: الْبَخِيل المتشدد. وَالْبخل دَاء عَظِيم، قَالَ " وَلَا دَاء أدوى من الْبُخْل ". وَقَوله: {وَالله يَعدكُم مغْفرَة مِنْهُ وفضلا} مغْفرَة، أَي: عَفْو الله، وفضلا: بالثواب. وَقَوله: {وَالله وَاسع عليم} وَقد ذكرنَا مَعْنَاهُمَا.

269

وَقَوله تَعَالَى: {يُؤْتِي الْحِكْمَة من يَشَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهُوَ حِكْمَة الْقُرْآن، وَهُوَ أَن يعرف ناسخه ومنسوخه، ومقدمه ومؤخره، ومحكمه ومتشابهه، وَحَرَامه وَحَلَاله، وَأَمْثَاله. وَقيل: هُوَ الْفِقْه فِي الدّين. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هُوَ معرفَة مَعَاني الْأَشْيَاء وفهمها. وَفِيه قَول رَابِع: هُوَ الْإِصَابَة، فعلا وقولا. وَقَوله: {وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب} . قَرَأَ يَعْقُوب: " وَمن يُؤْت " بِكَسْر التَّاء يَعْنِي: وَمن يؤته الله الْحِكْمَة.

{كثيرا وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب (269) وَمَا أنفقتم من نَفَقَة أَو أنذرتم من نذر فَإِن الله يُعلمهُ وَمَا للظالمين من أنصار (270) إِن تبدوا الصَّدقَات فَنعما هِيَ وَإِن تخفوها} قيل: هَذِه الْحِكْمَة: هِيَ الْكِتَابَة، وَمَعْرِفَة الْخط. وَقيل: هِيَ الْعقل. وَقيل الْأَمَانَة. {وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب} أَي: وَمَا يتفكر إِلَّا أولُوا الْعُقُول.

270

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنفقتم من نَفَقَة أَو أنذرتم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِالنَّفَقَةِ: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَأما النّذر: هُوَ أَن يَنْوِي عمل الْخَيْر، وَصدقَة التَّطَوُّع. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن النَّفَقَة هِيَ صَدَقَة التَّطَوُّع، وَأما النّذر هُوَ مَا عرف من نذر اللِّسَان؛ وَهُوَ أَن يُوجب التَّصَدُّق على نَفسه. وَقَوله: {فَإِن الله يُعلمهُ} أَي: يجازي. وَقَالَ مُجَاهِد: يُحْصِيه. وَقَوله: {وَمَا للظالمين} أَي: الَّذين يتصدقون من الْغَصْب والنهب. {من أنصار} جمع النصير، أَي: مَا لَهُم من ينصر وَيمْنَع من الْعَذَاب.

271

قَوْله تَعَالَى: {أَن تبدوا الصَّدقَات} مَعْنَاهُ: إِن تظهروا. {فَنعما هِيَ} يقْرَأ بالقراءات بِفَتْح النُّون، وَكسر الْعين، وَيقْرَأ: بكسرهما، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: بِكَسْر النُّون وَجزم الْعين، وَلم يرض ذَلِك مِنْهُ نحاة الْبَصْرَة، وَقَالُوا فِيهِ التقاء الساكنين، وَاسْتشْهدَ أَبُو عَمْرو بقوله لعَمْرو بن الْعَاصِ: " نعم المَال الصَّالح للرجل الصَّالح " وَالْكل فِي الْمَعْنى سَوَاء، وَمَعْنَاهُ: نعم خلة، هِيَ أَو نعم شَيْء هُوَ. قَوْله: {وَإِن تخفوها وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم} قيل: هَذَا فِي صدقَات

{وتؤتوها الْفُقَرَاء فَهُوَ خير لكم وَيكفر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} التَّطَوُّع، والإخفاء فِيهَا أفضل، وَقد روى عَن النَّبِي " أَنه قَالَ: صَدَقَة السِّرّ تفضل صَدَقَة الْعَلَانِيَة بسبعين ضعفا ". وَإِمَّا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة: فالإظهار فِيهَا أفضل، وَقد قَالَ " صَدَقَة الْعَلَانِيَة تفضل صَدَقَة السِّرّ بِخمْس وَعشْرين "، وَهَذَا فِي الزَّكَاة، وَالْأول فِي التطوعات. وَقيل: الْآيَة فِي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَكَانَ الْإخْفَاء خيرا فِي الْكل على عهد رَسُول الله فَأَما فِي زمننا فالإظهار خير فِي الزَّكَاة لسوء الزَّمَان، كَيْلا يساء الظَّن بِهِ. وَقَوله: {وَيكفر عَنْكُم} يقْرَأ: بالنُّون، وَالْيَاء: وَيقْرَأ: بِالرَّفْع، والجزم {من سَيِّئَاتكُمْ} قيل: من صلَة فِيهِ. وَتَقْدِيره: وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ، فعلى هَذَا يكون شَامِلًا للصغائر، والكبائر. وَفِيه قَول آخر: أَن " من " على التَّحْقِيق، والتفكير بالصدقات يكون من الصَّغَائِر فَأَما الْكَبَائِر فَإِنَّمَا تكفرها التَّوْبَة. وَالْأول أقرب إِلَى أهل السّنة، وَقد قَالَ النَّبِي: " صَدَقَة السِّرّ تُطْفِئ غضب الرب ". وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} هَذَا ظَاهر الْمَعْنى.

( {271) لَيْسَ عَلَيْكُم هدَاهُم وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء وَمَا تنفقوا من خير فلأنفسكم وَمَا تنفقون إِلَّا ابْتِغَاء وَجه الله وَمَا تنفقوا من خير يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ (272) للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي}

272

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم هدَاهُم} لَيْسَ المُرَاد بِهِ: هِدَايَة الدعْوَة، فَإِنَّهَا عَلَيْهِ حتم، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ: هِدَايَة التَّوْفِيق. قَالَ سعيد بن جُبَير: " سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى: أَن النَّبِي نهى عَن التَّصْدِيق على المشتركين، وَإِنَّمَا كَانَ نهى عَنهُ، كي تحملهم الْحَاجة على الدُّخُول فِي الْإِسْلَام فَنزلت الْآيَة فَأمر النَّبِي - بالتصدق على أهل الْأَدْيَان كلهَا ". وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم، بِأَن تلجئهم وتحملهم على الدُّخُول فِي الْإِسْلَام، {وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} أَي يوفق من يَشَاء، ويخذل من يَشَاء. قَوْله: {وَمَا تنفقوا من خير فلأنفسكم} أَي: تعلمونه لأنفسكم. قَوْله: {وَمَا تنفقون إِلَّا ابْتِغَاء وَجه الله} هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، أَي: أَنْفقُوا لوجه الله، وَمَعْنَاهُ: ابْتِغَاء مرضاة الله. وَقيل: هُوَ على الْمُبَالغَة، فَإِن قَول الرجل: عملت لوجه فلَان. أبلغ وأشرف من قَوْله: عملت لفُلَان، فَذَكرنَا شرف اللَّفْظَيْنِ. وَقَوله: {وَمَا تنفقوا من خير يوف إِلَيْكُم} أَي: يوفر عَلَيْكُم ثَوَابه. {وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ} ظَاهر.

273

قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله} يَعْنِي: تِلْكَ الصَّدقَات الَّتِي سبق ذكرهَا للْفُقَرَاء. قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ فُقَرَاء الْمُهَاجِرين من مَكَّة. وَأما قَوْله: {أحْصرُوا فِي سَبِيل الله} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: [أَحدهَا] : قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: حَبسهم الْعَدو والفقر عَن سَبِيل الله وَالْجهَاد، فصاروا مَحْصُورين عَنهُ.

{الأَرْض يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف تعرفهم بِسِيمَاهُمْ لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا} وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: أَرَادَ بِهِ: أَنهم خَرجُوا إِلَى الْحَرْب، فَأَصَابَتْهُمْ جراحات، فصاروا محصرين عَن الْجِهَاد بِسَبَب الْجِرَاحَات. وَقَالَ قَتَادَة - وَهُوَ أحسن الْأَقْوَال -: مَعْنَاهُ: أَنهم حبسوا أنفسهم على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَتركُوا الْخُرُوج للتِّجَارَة والمعاش، ووقفوا أنفسهم على الْحَرْب. وَقد ورد ذَلِك فِي أهل الصّفة، كَانُوا قَرِيبا من أَرْبَعمِائَة نفر، اجْتَمعُوا فِي مَسْجِد رَسُول الله وَكَانُوا لَا يأوون إِلَى أهل وَلَا إِلَى مَال، وَكَانَ يبْعَث النَّاس إِلَيْهِم بِفضل قوتهم، وَكَانُوا وقفُوا أنفسهم على الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَقَالُوا: لَا تخرج سَرِيَّة إِلَّا وَنخرج مَعهَا، فَهَذَا معنى قَوْله: {أحْصرُوا فِي سَبِيل الله} . وَقَوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي الأَرْض} هَذَا على الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين يرجع إِلَى الضَّرْب فِي الأَرْض للْجِهَاد. وعَلى القَوْل الثَّالِث: هُوَ الضَّرْب فِي الأَرْض للمعاش وَالتِّجَارَة. وَقَوله: {يَحْسبهُم الْجَاهِل} قَالَ قَالَ مُجَاهِد: لَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الْجَاهِل خلاف الْعَالم وَإِنَّمَا هُوَ الَّذِي لَا خبْرَة لَهُ وَلَا معرفَة بحالهم. وَقَوله: {أَغْنِيَاء من التعفف} يَعْنِي: من القناعة الَّتِي لَهُم يظنهم من لم يعرفهُمْ أَغْنِيَاء. قَوْله: {تعرفهم بِسِيمَاهُمْ} قيل: بالتخشع الَّذِي كَانَ لَهُم. وَقَالَ الضَّحَّاك: بصفرة الألوان. وَقَالَ ابْن زيد: برثاثة الثِّيَاب. وَقيل: أثر الْجُوع والجهد. وَقَوله: (لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا) أَي: إلحاحا.

{وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم (273) الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سرا} وَقيل: أَصله من إلحاف؛ فالإلحاف: السُّؤَال على الْعُمُوم، كَأَنَّهُ يسْأَل كل من يلقى. وَفِيه قَول آخر: أَنه أَرَادَ بِهِ ترك السُّؤَال أصلا؛ فَإِنَّهُ إِذا سَأَلَ فقد ألحف، يعْنى: لَا يسْأَلُون أصلا. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قَالَ: {أَغْنِيَاء من التعفف} وَإِذا سَأَلَ لَا يكون متعففا، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سَأَلَ وَعِنْده أُوقِيَّة فقد ألحف ". يَعْنِي: عِنْده أَرْبَعُونَ درهما. وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لِأَن يَأْخُذ أحدكُم حبله فيحتطب على ظَهره، خير لَهُ من يسْأَل النَّاس أعْطى أَو منع ". وَقَوله: {وَمَا تنفقوا من خير فَإِن الله بِهِ عليم} ظَاهر الْمَعْنى.

274

وَقَوله تَعَالَى: {الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سرا وَعَلَانِيَة} . قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي عَليّ ابْن أبي طَالب، كَانَت لَهُ أَرْبَعَة دَرَاهِم، فَتصدق بدرهم بِاللَّيْلِ، وَدِرْهَم بِالنَّهَارِ، وَدِرْهَم فِي السِّرّ، وَدِرْهَم فِي (العلن) ؛ فَنزلت الْآيَة رضَا بِفِعْلِهِ، وثناء عَلَيْهِ. وَقيل: أَرَادَ بِالنَّفَقَةِ هَاهُنَا: النَّفَقَة على الْخَيل فِي سَبِيل الله؛ فَإِنَّهَا تعتلف من تِلْكَ النَّفَقَة لَيْلًا وَنَهَارًا، وسرا وَعَلَانِيَة؛ وَالنَّفقَة على الْخَيل فِي سَبِيل الله بَاب عَظِيم فِي

{وَعَلَانِيَة فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (274) الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى فَلهُ مَا سلف} الْخَيْر. وَقد ورد فِي الحَدِيث: " أَنه يُؤجر بأوراثها وَأَبْوَالهَا ". وَقَوله تَعَالَى: {فَلهم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

275

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا} أَي: يَأْخُذُونَ، فَعبر بِالْأَكْلِ عَن الْأَخْذ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذ ليؤكل. وَقَوله: {لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} . الْخبط: ضرب على غير اسْتِوَاء، يُقَال: فلَان يخبط خبط عشواء، إِذا كَانَ يسْلك طَرِيقا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ. وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (رَأَيْت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته وَمن تخطيء يعمر فيهرم) وَمَعْنَاهُ: أَن آكل الرِّبَا يحْشر يَوْم الْقِيَامَة كَمثل السَّكْرَان، يقوم تَارَة، وَيَقَع أُخْرَى. وَقيل: هُوَ من تخبط الشَّيْطَان، وَذَلِكَ [أَن] يدْخل الْإِنْسَان فيصرعه. والمس: الْجُنُون، والخبط: أول الْجُنُون، وَمَعْنَاهُ: أَنه يحْشر يَوْم الْقِيَامَة كَمثل المصروع؛ وَذَلِكَ عَلامَة أَكلَة الرِّبَا يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا} . أَرَادَ بهم ثَقِيف؛ فَإِنَّهُم قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا.

{وَأمره إِلَى الله وَمن عَاد فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (275) يمحق الله الرِّبَا ويربي الصَّدقَات وَالله لَا يحب كل كفار أثيم (276) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين (278) فَإِن} {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} هَذَا جوابهم. وَقَوله: {فَمن جَاءَهُ موعظة من ربه فَانْتهى} يَعْنِي من أكل الرِّبَا. {فَلهُ مَا سلف} أَي: مغفورا لَهُ مَا سلف مِنْهُ {وَأمره إِلَى الله وَمن عَاد} إِلَى أكل الرِّبَا {فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} .

276

قَوْله تَعَالَى: {يمحق الله الرِّبَا} أَي: يذهب بركَة المَال؛ فَإِن للْحَلَال بركَة، وَلَيْسَت لِلْحَرَامِ بركَة. وَقيل: مَعْنَاهُ: يبطل الصَّدَقَة من الرِّبَا {ويربي الصَّدقَات} وَيكثر الصَّدقَات {وَالله لَا يحب كل كفار أثيم} فالكفار: عَظِيم الكفران، والأثيم: كثير الْإِثْم.

277

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} وَقد سبق تَفْسِيره.

278

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} . نزل هَذَا فِي ثَقِيف وَبنى مَخْزُوم تنازعوا إِلَى عتاب بن أسيد قَاضِي مَكَّة فَقَالَت ثَقِيف إِنَّمَا أسلمنَا على أَن مَا علينا من الرِّبَا مَوْضُوع وَمَا لنا بَاقِي فَكتب بذلك عتاب إِلَى رَسُول الله فَنزلت الْآيَة، فَبعث رَسُول الله بِالْآيَةِ إِلَى عتاب ليقْرَأ عَلَيْهِم ". وَقَوله: {إِن كُنْتُم مُؤمنين} يَعْنِي: ترك الرِّبَا من فعل الْمُؤمنِينَ ".

{لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله وَإِن تبتم فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم لَا تظْلمُونَ وَلَا تظْلمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة وَأَن تصدقوا خير لكم إِن كُنْتُم} وَقيل: مَعْنَاهُ: إِذا كُنْتُم مُؤمنين. وَالْآيَة فِي إبِْطَال رَبًّا الْجَاهِلِيَّة؛ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يدينون النَّاس بِشَرْط أَن يزِيدُوا فِي الدّين عِنْد الْأَدَاء، وَكَانَ يقْرض الرجل غَيره، وَيضْرب لَهُ أَََجَلًا، ثمَّ عِنْد حُلُول الْأَجَل يَقُول لَهُ: زِدْنِي فِي الدّين حَتَّى أزيدك فِي الْأَجَل، فَهَذَا كَانَ رَبًّا الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ حرَام.

279

وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن لم تَفعلُوا فأذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله} أَي: فَأَيْقنُوا بِهِ. وَيقْرَأ ممدودا: " فآذنوا بِحَرب من الله " أَي: أعلمُوا غَيْركُمْ أَن يتْركُوا الرِّبَا، إِنَّكُم حَرْب الله وَرَسُوله، فَإِذا علمْتُم فقد علمْتُم. {وَإِن تبتم} أَي: تركْتُم استحلال الرِّبَا، وَرَجَعْتُمْ عَنهُ {فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم} أبطال الزِّيَادَة، وَجعل لَهُم أصل المَال. وَإِنَّمَا قَالَ: {وَإِن تبتم فلكم رُءُوس أَمْوَالكُم} لأَنهم مَا داموا على استحلال الرِّبَا كَانَ مَا لَهُم فَيْئا لَيْسَ لَهُم أَصله وَلَا فَرعه. {لَا تظْلمُونَ وَلَا تظْلمُونَ} أَي: لَا تظْلمُونَ بِطَلَب الزِّيَادَة، وَلَا تظْلمُونَ بِنُقْصَان حقكم فِي أصل المَال.

280

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فَنظر إِلَى ميسرَة} قَرَأَ: أبي بن كَعْب: " وَإِن كَانَ من عَلَيْهِ الدّين ذَا عسرة ". وَقَرَأَ عَطاء: " فناظرة إِلَى ميسرَة ". وَالْمَعْرُوف: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة} أَي: وَإِن وَقع ذُو عسرة، أَو وَإِن كَانَ ذُو عسرة غريما لكم، فَنظر إِلَى ميسرَة، أَي: فأنظروه إِلَى الْيَسَار. وَقَرَأَ نَافِع: " إِلَى ميسرَة " بِضَم السِّين، وَهُوَ مثل الأول فِي الْمَعْنى.

{تعلمُونَ (280) وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ (281) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه وليكتب} وروى أَبُو الْيُسْر عَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - أَنه قَالَ: " من أنظر مُعسرا أظلهُ الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله ". وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَانَ فِيمَن قبلكُمْ رجل يداين النَّاس فَقَالَ لفتاه: إِذا كَانَ مُعسرا فَتَجَاوز عَنهُ؛ لَعَلَّ الله يتَجَاوَز عَنَّا، فلقى الله فَتَجَاوز عَنهُ ". وَالْخَبَر فِي الصِّحَاح. {وَإِن تصدقوا} يَعْنِي بترك أصل المَال الَّذِي أعطيتموه قرضا. {خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} .

281

قَوْله - تَعَالَى: {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} . قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذِه آخر آيَة نزلت على رَسُول الله. قَالَ ابْن جريج: إِنَّمَا عَاشَ بعْدهَا سبع لَيَال، وَفِي رِوَايَة تسع لَيَال. ويروى أَن جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما نزل بِهَذِهِ الْآيَة قَالَ: ضعها على رَأس مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَة من سُورَة الْبَقَرَة، وَهَذِه الْآيَة مسجلة سجلها الله على الْخلق كَافَّة. {ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ} وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى.

282

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين} قَالَ ابْن عَبَّاس: أشهد أَن السّلف الْمَضْمُون الْمُؤَجل فِي كتاب الله، قد أنزل فِيهِ أطول آيَة، وتلا هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {تداينتم بدين} أَي: تعاملتم بِالدّينِ، يُقَال: داينته، إِذا عاملته بِالدّينِ. فَإِن قيل: قَوْله: {تداينتم} يُغني عَن الْمُعَامَلَة بِالدّينِ، فَلم قَالَ: تداينتم بدين؟ قيل: لِأَن الْعَرَب تَقول: تداينا - أَي: تعاطينا وتجازينا، وَإِن لم يكن فِي الدّين؛ فَقَالَ:

( {بَيْنكُم كَاتب بِالْعَدْلِ وَلَا يأب كَاتب أَن يكْتب كَمَا علمه الله فليكتب وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق وليتق الله ربه وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا أَو لَا} تداينتم بدين) ليعرف الْمَعْنى المُرَاد من اللَّفْظ، وَيحْتَمل أَنه قَالَه تَأْكِيدًا. {إِلَى أجل مُسَمّى} الْأَجَل: مُدَّة مَعْلُومَة الأول وَالْآخر، وَهَذَا يشْتَمل على الْأَجَل فِي السّلم، وَالْأَجَل فِي الثّمن، وَالْأَجَل فِي الْقَرْض، وَلم يجوز أَكثر الْعلمَاء الْأَجَل فِي الْقَرْض، وَجوزهُ بَعضهم. {فاكتبوه} قيل: هُوَ على الْوُجُوب، وَهُوَ قَول مُجَاهِد. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِنَّمَا يجب الْكتب إِذا وجد مِمَّن يكْتب، وَالأَصَح أَنه على النّدب. وَقَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: هَذَا الْأَمر مَنْسُوخ بقوله تَعَالَى: {فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا فليؤد الَّذِي أؤتمن أَمَانَته} . وَقَوله: {وليكتب بَيْنكُم كَاتب بِالْعَدْلِ} . الْكِتَابَة بِالْعَدْلِ هُوَ: أَن يكْتب من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان، وَلَا تَقْدِيم فِي الْأَجَل وَلَا تَأْخِير. {وَلَا يأب كَاتب أَن يكْتب} قيل: الْكِتَابَة وَاجِبَة على الكتبة لظَاهِر الْآيَة، وَالأَصَح أَنه على النّدب. {كَمَا علمه الله فليكتب} أَي: كَمَا شَرعه الله، فليكتب. {وليملل الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} الإملال والإملاء بِمَعْنى وَاحِد. والإملال لُغَة قُرَيْش وَبني أَسد، والإملاء: لُغَة قيس وَتَمِيم، وهما مذكوران فِي الْقُرْآن. فالإملال هَا هُنَا والإملاء فِي قَوْله: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بكرَة وَأَصِيلا} . {وليتق الله ربه} يعْنى المملى {وَلَا يبخس مِنْهُ شَيْئا} ، وَلَا ينقص من الْحق شَيْئا. وَقَوله: {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها أَو ضَعِيفا} أما السَّفِيه: قَالَ مُجَاهِد:

{يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ فليملل وليه بِالْعَدْلِ واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء أَن تظل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا} الْجَاهِل. وَقَالَ الزّجاج: هُوَ خَفِيف الْعقل، ويشتمل هَذَا على: الْمَرْأَة، وَالصَّغِير وَنَحْوه، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (مشين كَمَا اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرِّيَاح النواسم) وَقيل: السَّفِيه: الصَّغِير وَمذهب الشَّافِعِي: أَنه المبذر الْمُفْسد لمَاله. وَأما الضَّعِيف: هُوَ ضَعِيف الْعقل من عته، أَو جُنُون. {أَو لَا يَسْتَطِيع أَن يمل هُوَ} أَي: لَا يقدر على الإملال من خرس، أَو عمى. {فليملل وليه بِالْعَدْلِ} يعْنى: ولى هَؤُلَاءِ. أما من لم يجوز الْحجر على السَّفِيه - كالنخعي، وَابْن سِرين، وَغَيرهمَا - قَالُوا: أَرَادَ بالولى: صَاحب الْحق، يَعْنِي: إِن عجز من عَلَيْهِ الْحق من الإملال فليملل الَّذِي لَهُ الْحق. {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} أَي: وَأشْهدُوا. {فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} يَعْنِي: فَإِن لم يكن الشَّاهِدَانِ رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ. {مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} وهم أهل الْفضل وَالدّين، قَالَه ابْن عَبَّاس. {أَن تضل إِحْدَاهمَا} أَن تنسى وتغفل إِحْدَاهمَا، وَذَلِكَ بِأَن يغيب حفظهَا عَن الشَّهَادَة، أَو تغيب الشَّهَادَة عَن الْحِفْظ. {فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى} وَذَلِكَ بِأَن تَقول: أَلسنا حَضَرنَا مجْلِس كَذَا؟ ألم نسْمع كَيْت وَكَيْت؟

{الْأُخْرَى وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا وَلَا تسأموا أَن تكتبوه صَغِيرا أَو كَبِيرا إِلَى أَجله ذَلِكُم أقسط عِنْد الله وأقوم للشَّهَادَة وَأدنى أَلا ترتابوا إِلَّا أَن تكون تِجَارَة حَاضِرَة} وَقَرَأَ حَمْزَة: " إِن تضل فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى " على الشَّرْط. قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، مَعْنَاهُ: تجْعَل إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى ذكرا، أَي: يقومان مقَام الذّكر، وَالْأول أصح. {وَلَا يأب الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا} قيل: أَرَادَ بِهِ: إِذا مَا دعوا للتحمل، وَإِنَّمَا سماهم شُهَدَاء على معنى أَنهم يَكُونُوا شُهَدَاء. وَقيل: هُوَ الدُّعَاء إِلَى الشَّهَادَة. {وَلَا تسأموا} أَي: لَا تملوا {أَن تكتبوه صَغِيرا أَو كَبِيرا إِلَى أَجله} يعْنى: الَّذِي قل أَو كثر. {ذَلِكُم أقسط عِنْد الله} أعدل عِنْد الله {وأقوم للشَّهَادَة} لِأَن الكتبة تذكر الشُّهُود. {وَأدنى أَلا ترتابوا} أَي: أَن لَا تَشكوا {إِلَّا أَن تكون تِجَارَة حَاضِرَة} قَرَأَ: بِضَم التَّاء على اسْم كَانَ، وَقَرَأَ بِفَتْح التَّاء، يَعْنِي: إِلَّا أَن تكون التِّجَارَة تِجَارَة حَاضِرَة، وَمثله قَول الشَّاعِر: (فدى لبني ذهل بن شَيبَان نَاقَتي ... إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشهبا) يَعْنِي: إِذا كَانَ الْيَوْم يَوْمًا. {تديرونها بَيْنكُم} يَعْنِي: إِذا كَانَت التِّجَارَة يدا بيد.

{تديرونها بَيْنكُم فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَلا تكتبوها وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم وَلَا يضار كَاتب وَلَا شَهِيد وَإِن تَفعلُوا فَإِنَّهُ فسوق بكم وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله وَالله بِكُل شَيْء عليم (282) وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا كَاتبا فرهان مَقْبُوضَة فَإِن آمن بَعْضكُم بَعْضًا} {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَلا تكْتبُوا وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم} أَمر بِهِ اسْتِحْبَابا. {وَلَا يضار كَاتب وَلَا شَهِيد} قَرَأَ عمر: " وَلَا يضارر " وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود " وَلَا يضارر " وَالْمَعْرُوف: {وَلَا يضار} ، وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون نهيا لِلْكَاتِبِ وَالشَّاهِد عَن الْإِضْرَار، وَيحْتَمل أَن يكون نهيا للمملى والداعي. فَأَما إِضْرَار الشُّهُود وَالْكَاتِب: أَن يَأْبَى الْكِتَابَة وَالشَّهَادَة إِذا دعِي إِلَيْهَا. وَأما الْإِضْرَار بالكاتب وَالشُّهُود: أَن يَدعُوهُ وَهُوَ مَشْغُول، فيمنعه من شغله. قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تَفعلُوا فَإِنَّهُ فسوق بكم} أَي: مَعْصِيّة مِنْكُم (وَاتَّقوا الله ويعلمكم الله وَالله بِكُل شَيْء عليم) .

283

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا كَاتبا} . قَرَأَ عَطاء: " وَلم تَجدوا كتابا " وَهُوَ جمع الْكَاتِب، كَمَا يُقَال: قَائِم وَقيام، ونائم ونيام. {فرهن مَقْبُوضَة} وَيقْرَأ: " فرهان " مَقْبُوضَة وَالْمعْنَى وَاحِد. وَحكم الرَّهْن مَعْلُوم، وَلَيْسَ ذكر السّفر، وَعدم الْكَاتِب على سَبِيل الشَّرْط فِي جَوَاز الرَّهْن؛ وَإِنَّمَا خرج الْكَلَام على الْأَعَمّ الْأَغْلَب. {فَإِن أَمن بَعْضكُم بَعْضًا فليؤد الَّذِي اؤتمن أَمَانَته} يَعْنِي: إِن ائتمنه فِي الدّين فليقضه على الْأَمَانَة. {وليتق الله ربه وَلَا تكتموا الشَّهَادَة} نهى الشُّهُود عَن كتمان الشَّهَادَة، وَهُوَ

{فليؤد الَّذِي اؤتمن أَمَانَته وليتق الله ربه وَلَا تكتموا الشَّهَادَة وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم (283) لله مَا فِي السَّمَوَات مَا فِي الأَرْض وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله فَيغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَالله على كل} حرَام. {وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه} قيل: مَا أوعد الله تَعَالَى على شَيْء كإيعاده على كتمان الشَّهَادَة، فَإِنَّهُ قَالَ: {فَإِنَّهُ آثم قلبه} وَأَرَادَ بِهِ مسخ الْقلب، ونعوذ بِاللَّه {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم}

284

قَوْله تَعَالَى: {لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} ملكا وملكا. {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} هَذَا مَنْسُوخ؛ فَإِنَّهُ روى: لما نزلت هَذِه الْآيَة شقّ ذَلِك على الْمُسلمين وَقَالُوا: يحاسبنا الله بِمَا نُحدث بِهِ أَنْفُسنَا؟ ! وبقوا فِي ذَلِك حولا كَامِلا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: " لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا) فَصَارَ هَذَا مَنْسُوخا بِهِ. هَذَا قَول أبي هُرَيْرَة، وَابْن مَسْعُود، (وَابْن عمر) ، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبن عَبَّاس. وَقد قَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى عفى عَن أمتِي مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا؛ مَا لم تعْمل أَو تكلم بِهِ " أَي: تَتَكَلَّم بِهِ ". وَقَالَ أهل الْأُصُول: هَذَا لَيْسَ بمنسوخ؛ لِأَن قَوْله: {يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} خبر، والنسخ لَا يرد على الْأَخْبَار، وَإِنَّمَا يرد على الْأَوَامِر والنواهي. وَقد روى الْوَالِبِي، عَن ابْن عَبَّاس - فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة - أَن معنى قَوْله: {يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} أَي: يعلمكم بِهِ، أَي: لَا يخفي عَلَيْهِ شَيْء من ذَلِك.

{شَيْء قدير (284) أَمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله وَقَالُوا سمعنَا وأطعنا غفرانك رَبنَا وَإِلَيْك الْمصير (285) لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} {فَيغْفر لمن يَشَاء} أَي: يغْفر للْمُؤْمِنين {ويعذب من يَشَاء} يَعْنِي: الْكَافرين {وَالله على كل شَيْء قدير} .

285

قَوْله تَعَالَى: {آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه والمؤمنون} لِأَنَّهُ ذكر الْآيَات وَالْأَحْكَام، ثمَّ قَالَ: آمن الرَّسُول بذلك كُله. {والمؤمنون كل آمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله لَا نفرق بَين أحد من رسله} وَقَرَأَ يَعْقُوب: " لَا يفرق " بِالْيَاءِ، أَي لَا يفرق الرَّسُول بَين أحد من رسله. {وَقَالُوا سمعنَا وأطعنا} أَي: قبلنَا {غفرانك رَبنَا} أَي: اغْفِر غفرانك، أَو أعطنا غفرانك رَبنَا {وَإِلَيْك الْمصير} أَي: الْمرجع.

286

قَوْله تَعَالَى: (لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا) أَي: طاقتها. وَقيل: مَا (يشق) عَلَيْهَا. وَهُوَ مثل قَول الرجل: لَا أَسْتَطِيع أَن أنظر إِلَى فلَان، أَي: يشق عَليّ أَن أنظر إِلَيْهِ، فَكَذَلِك ذكر الوسع بِمَعْنى: السهولة، أَي: لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا يسهل عَلَيْهَا. وَهَذِه الْآيَة هِيَ الناسخة لما بَينا. {لَهَا مَا كسبت} أَي: من الْخَيْر {وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} أَي: من الشَّرّ. {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا أَن نَسِينَا} أَي: تركنَا، وَقيل: هِيَ على حَقِيقَة النسْيَان. {أَو أَخْطَأنَا} الْخَطَأ: يكون بِمَعْنى: الْعمد، وَيكون على حَقِيقَة الْخَطَأ، يُقَال: أَخطَأ يخطىء وَخطأ يخطأ [وَالْمرَاد] بقوله هَا هُنَا (أَو أَخْطَأنَا) أَي: تعمدنا.

{رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ واعف عَنَّا وأغفر لنا وارحمنا أَنْت مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين (286) } {رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} قيل: هُوَ الْعَهْد الثقيل الَّذِي حمل من قبلنَا. وَقيل: لَا تحمل علينا مَا يشق علينا. وَقيل: الإصر: هُوَ ذَنْب لَا تَوْبَة لَهُ، أَي: اعصمنا من ذَنْب لَا تقبل لَهُ تَوْبَة. {رَبنَا وَلَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ} فِي هَذَا دَلِيل على أَن الله تَعَالَى يجوز أَن يحمل الْعباد مَالا يطيقُونَهُ؛ لكنه إِنَّمَا حمل الْكفَّار مَا لَا يطيقُونَهُ وَلم يحمل الْمُؤمنِينَ. {واعف عَنَّا} أَي: امح عَنَّا {واغفر لنا} أَي: اسْتُرْ علينا. {وارحمنا} أَي: ارْحَمْ علينا. {أَنْت مَوْلَانَا} أَنْت ناصرنا والقيم بأمورنا. {فَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين} وَقد ورد فِي فضل الْآيَتَيْنِ أَخْبَار، مِنْهَا: مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قَرَأَ فِي لَيْلَة بآيتين من آخر سُورَة الْبَقَرَة كفتاة ". وروى أَنه قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: " هما آيتان أَنْزَلَتَا على من كنز تَحت الْعَرْش ". و [وَآله أَجْمَعِينَ] .

تَفْسِير سُورَة آل عمرَان وَهِي مَدَنِيَّة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل - رَضِي الله عَنهُ - لقد ورد فِي فضل هَذِه السُّورَة وَسورَة الْبَقَرَة أَخْبَار مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله [أَنه] قَالَ: " تعملوا الْبَقَرَة وَآل عمرَان فَإِنَّهُمَا الزهروان تظلان صَاحبهمَا يَوْم الْقِيَامَة ". وروى عَنهُ أَنه قَالَ: " تَجِيء الْبَقَرَة وَآل عمرَان يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غمامتان أَو غيايتان أَو فرقان من طير صواف ".

{الم (1) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم (2) نزل عَلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل (3) من قبل هدى للنَّاس وَأنزل الْفرْقَان إِن}

آل عمران

قَوْله تَعَالَى: {آلم الله} فالألف: هُوَ الله، وَاللَّام: جِبْرِيل، وَالْمِيم: مُحَمَّد، وَفِيه إِشَارَة لما أنزل الله، على لِسَان جِبْرِيل، على مُحَمَّد. وَقد ذكرنَا الْأَقْوَال فِي حُرُوف التهجي. وَإِنَّمَا فتح الْمِيم عِنْد الْوَصْل، وَإِن كَانَ السَّاكِن إِذا حرك حرك إِلَى الْكسر؛ لأَنهم استثقلوا الكسرة بعد [الْجَزْم، وَالْيَاء فِيهِ جزم] . {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} لَا معبود سواهُ. {الْحَيّ القيوم} فالحي: الدَّائِم الَّذِي لَا يزل. . وَأما القيوم فقد سبق تَفْسِيره، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا يَزُول وَلَا يحول. وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد [بن] الزبير: هُوَ دَائِم الْوُجُود. وَقَرَأَ عمر، وَابْن مَسْعُود {الْحَيّ الْقيام} وَهُوَ فِي الشواذ.

3

قَوْله تَعَالَى: {نزل عَلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} الْكتاب: الْقُرْآن، وسمى كتابا؛ لِأَنَّهُ يجمع الْآي والحروف، وَهُوَ من الْكتب وَهُوَ: الْجمع، وَمِنْه: الكتيبة و [هِيَ] السّريَّة لِاجْتِمَاعِهِمْ. وَمِنْه يُقَال: كتبت البغلة، إِذا جمع بَين شفريها بِحَلقَة. وَقَوله: {بِالْحَقِّ} أَي: بِالصّدقِ فِي الدلالات والإخبارات، والوعد والوعيد. وَقَوله: {مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ} يَعْنِي: الْقُرْآن مُصدق لما قبله من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. وَإِنَّمَا قَالَ: {لما بَين يَدَيْهِ} ؛ لِأَنَّهُ فِي تَصْدِيق مَا قبله، وَإِظْهَار صدقه، كالشيء الْحَاضِر بَين يَدَيْهِ. {وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من قبل هدى للنَّاس}

{الَّذين كفرُوا بآيَات الله لَهُم عَذَاب شَدِيد وَالله عَزِيز ذُو انتقام (4) إِن الله لَا} فَذكر هَا هُنَا {أنزل} وَذكر فِي الِابْتِدَاء {نزل الْكتاب} ، لِأَنَّهُ أنزل التَّوْرَاة جملَة وَالْإِنْجِيل جملَة، وَنزل الْقُرْآن مفصلا. وَأما التَّوْرَاة أَصْلهَا وورية من الورى، من قَوْلهم ورى الزند إِذا أَضَاء، وَخرجت ناره، وَيُقَال: ورى زندي عِنْد فلَان؛ إِذا أَضَاء أمره عِنْده. فَسمى وورية؛ لضيائها وَكَونهَا نورا، وقلبت الْوَاو تَاء فَصَارَت تورية. وَأما الْإِنْجِيل من " النجل " وَهُوَ الأَصْل فَسمى بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أصلا من الْأُصُول فِي الْعلم. {وَأنزل الْفرْقَان} قيل: هُوَ الْقُرْآن، وَهُوَ المفرق بَين الْحَلَال وَالْحرَام، وَقيل: كل مَا أنزل الله فَهُوَ فرقان؛ لكَونه مفرقا بَين الْحَلَال وَالْحرَام، وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من قبل، وَأنزل الْفرْقَان هدى للنَّاس. قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا بآيَات الله لَهُم عَذَاب شَدِيد} " نزلت فِي وَفد نَجْرَان من النَّصَارَى، قدمُوا على رَسُول الله، وَفِيهِمْ السَّيِّد وَالْعَاقِب: كَانَا رجلَيْنِ مِنْهُم، وهم سِتُّونَ رَاكِبًا، وَقيل قَرِيبا من عشْرين رَاكِبًا، فَدَخَلُوا الْمَسْجِد، وَالنَّبِيّ قد صلى الْعَصْر، فوقفوا يصلونَ نَحْو الْمشرق صلَاتهم، فَلَمَّا فرغوا سَأَلَهُمْ رَسُول الله عَن عِيسَى، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: الله. وَقَالَ بَعضهم: ابْن الله، وَقَالَ بَعضهم: ثَالِث ثَلَاثَة، فَقَالَ: أَسْلمُوا، فَقَالُوا نَحن مُسلمُونَ، فَقَالَ: كَذبْتُمْ؛ يمنعكم من ذَلِك قَوْلكُم عِيسَى ولد الله. فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم بضع وَثَمَانِينَ آيَة، من أول سُورَة آل عمرَان فِي الْحجَّاج، وَالدّلَالَة عَلَيْهِم، ورد قَوْلهم، وَهَذِه الْآيَة من جملها نزلت فيهم ". {وَالله عَزِيز ذُو انتقام} فالعزيز: المنيع الَّذِي لَا يقدر عَلَيْهِ، وَمِنْه: الأَرْض العزاء،

{يخفى عَلَيْهِ شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء (5) هُوَ الَّذِي يصوركم فِي الْأَرْحَام كَيفَ يَشَاء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (6) هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب مِنْهُ وَهِي الصلبة الشاقة المسلك، وَقيل: الْعَزِيز: الْغَالِب الَّذِي لَا يفوتهُ شَيْء، وَمِنْه: يُقَال: من عز بز أَي من غلب سلب، والمنتقم المعاقب على (الْجِنَايَة} ، والنقمة: الْعقُوبَة.

5

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يخفي عَلَيْهِ شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء} وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ.

6

{هُوَ الَّذِي يصوركم فِي الْأَرْحَام كَيفَ يَشَاء} هَذَا فِي الرَّد على وَفد نَجْرَان؛ حَيْثُ قَالُوا: عِيسَى ولد الله، فَكَأَنَّهُ يَقُول: هُوَ الَّذِي صوره فِي الرَّحِم، (فَكيف يكون ولد لَهُ) ؟ ! وَقد روى عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن النُّطْفَة إِذا وَقعت فِي الرَّحِم تكون أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة، ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا علقَة، ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَة، ثمَّ يبْعَث الله تَعَالَى ملكا يَأْخُذ تُرَابا بَين أصبعيه فيخلطه بالمضغة، ثمَّ يصوره بِإِذن الله كَيفَ (شَاءَ) ، أَحْمَر أَو أسود أَو أَبيض، طَويلا أَو قَصِيرا، حسنا أَو قبيحا، ثمَّ يكْتب رزقه وَعَمله وأثره وأجله وشقى أَو سعيد، ثمَّ إِذا مَاتَ يدْفن فِي التربة الَّتِي أَخذ مِنْهَا التُّرَاب. (6 لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز) فِي أمره {الْحَكِيم} فِي سُلْطَانه.

7

قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْكُم الْكتاب مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات} اخْتلفُوا فِي المحكمات والمتشابهات، قَالَ ابْن عَبَّاس: المحكمات هِيَ الْآيَات الثَّلَاث الَّتِي فِي آخر سُورَة الْأَنْعَام، وَذَلِكَ قَوْله: {قل تَعَالَوْا} إِلَى

{آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون} آخر الْآيَات الثَّلَاث، وَأما المتشابهات: حُرُوف التهجي فِي اوائل السُّور. وَقَالَ عِكْرِمَة وَمُجاهد: المحكمات: الْحَلَال وَالْحرَام، وَمَا سواهُ كُله من المتشابهات؛ لِأَنَّهُ يشبه بَعْضهَا بَعْضًا فِي الْحق، والتصديق، يصدق بعضه بَعْضهَا. وَقَالَ الضَّحَّاك: المحكمات: الناسخات، والمتشابهات: المنسوخات. وَقَالَ جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ: المحكمات مَا أوقف الله تَعَالَى الْخلق على مَعْنَاهَا، والمتشابهات مَا لَا يعقل مَعْنَاهَا، وَلَا يعلمهَا إِلَّا الله. وَفِيه قَولَانِ آخرَانِ: أَحدهمَا: أَن المحكمات مَا لَا يشْتَبه مَعْنَاهَا، والمتشابهات مَا يشْتَبه ويلتبس مَعْنَاهَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المحكمات مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي الْمَعْنى، [والمتشابهات] مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي الْمَعْنى إِلَّا بِنَوْع اسْتِدْلَال، أَو رد إِلَى غَيره؛ وَإِنَّمَا سميت محكمات من الإحكام؛ (كَأَنَّهُ) أحكمها؛ فَمنع الْخلق من التَّصَرُّف فِيهَا؛ لظهورها (ووضوح) مَعْنَاهَا. {هن أم الْكتاب} أَي: أصل الْكتاب، فَإِن قَالَ قَائِل: لم لم يقل: هن أُمَّهَات الْكتاب؟ قيل: قَالَ الْفراء: تَقْدِيره: هن الشَّيْء الَّذِي هُوَ أصل الْكتاب. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ أصل الْكتاب، كَمَا يُقَال: الْقَوْم أَسد على، أَي: كل وَاحِد مِنْهُم أَسد على، وَمَعْنَاهُ: هن أصل الْكتاب؛ لِأَن الْخلق يفزعون إِلَيْهِ، كَمَا تفزع الْفُرُوع إِلَى الْأُصُول، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ فرق هَا هُنَا بَين المحكمات والمتشابهات، وسمى كل الْقُرْآن متشابها فِي قَوْله تَعَالَى {الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها} . وسمى الْكل محكما حَيْثُ قَالَ: {الر. كتاب أحكمت آيَاته} ؟ قُلْنَا: لما ذكر هُنَالك {كتابا متشابه} على معنى: أَنه يشبه بعضه بَعْضًا فِي الْحق والصدق، وَإِنَّمَا ذكر فِي الْموضع الآخر {أحكمت آيَاته} على معنى أَن الْكل حق وجد، لَيْسَ فِيهِ

عَبث وَلَا هزل، ثمَّ ذكر تَفْصِيلًا آخر بعده، فَجعل الْبَعْض محكما وَالْبَعْض متشابها. {فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ} قَالَ مُجَاهِد: الزيغ: اللّبْس. وَقيل: هُوَ الشّرك، وَقيل: هُوَ الشُّبُهَات الَّتِي تتَعَلَّق بِالْقَلْبِ {فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله} يَعْنِي: أَن الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ يغلون فِي طلب التَّأْوِيل للمتشابه؛ فيقعون على التَّأْوِيل المظلم؛ فَذَلِك ابْتِغَاء الْفِتْنَة؛ لِأَن من غلا فِي الدّين، وَطلب تَأْوِيل مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله، يَقع فِي الْفِتْنَة، وَيكون مفتونا، وَخير الدّين: النمط الْأَوْسَط الَّذِي لَيْسَ فِيهِ غلو وَلَا تَقْصِير. ثمَّ اخْتلفُوا فِي الَّذين يتبعُون مَا تشابه من هم؟ قيل: هم الْيَهُود الَّذين قَالُوا: مُدَّة أمة مُحَمَّد على حُرُوف التهجي، وَقيل: هم النَّصَارَى من وَفد نَجْرَان، حَيْثُ قَالُوا لرَسُول الله: مَا تَقول فِي عِيسَى؟ فَقَالَ: عبد الله وَرَسُوله، قَالُوا: فَهَل تَقول: أَنه كلمة الله وروح مِنْهُ؟ فَقَالَ: نعم، قَالُوا: حَسبنَا الله. وَاتبعُوا مَا تشابه من قَوْله: كلمة الله وروح مِنْهُ. وَقيل: هم الغالون فِي طلب التَّأْوِيل وَاتِّبَاع الْمُتَشَابه، وروت عَائِشَة " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة، ثمَّ قَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ الَّذين يجادلون فِي الْآيَات فاحذروهم فهم هم ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} اسْتَأْثر الله تَعَالَى بِعلم التَّأْوِيل، وَقطع أفهام الْعباد عَنهُ، وَالْفرق بَين التَّأْوِيل وَالتَّفْسِير: أَن التَّفْسِير: هُوَ ذكر الْمَعْنى الْوَاضِح، كَمَا تَقول فِي قَوْله: {لَا ريب فِيهِ} أَي: لَا شكّ فِيهِ، وَأما التَّأْوِيل: هُوَ مَا يؤول الْمَعْنى إِلَيْهِ، ويستقر عَلَيْهِ. ثمَّ الْكَلَام فِي الْوَقْف، فَاعْلَم: أَن أبي بن كَعْب وَعَائِشَة

{مَا تشابه مِنْهُ إبتغاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا وَمَا يذكر إِلَّا أولو الْأَلْبَاب (7) رَبنَا لَا تزغ} وَابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة طَاوس عَنهُ - (رأو) الْوَقْف على قَول {إِلَّا الله} ، وَهُوَ قَول الْحسن، وَأكْثر التَّابِعين، وَبِه قَالَ الْكسَائي، وَالْفراء، والأخفش، وَأَبُو عبيد، وَأَبُو حَاتِم، قَالُوا: إِن الْوَاو فِي قَوْله: {والراسخون} وَاو الإبتداء؛ وَالدَّلِيل على صِحَّته قِرَاءَة ابْن عَبَّاس " وَيَقُول الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ " وروى ابْن جريج، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى -: الْوَاو للنسق، وَلَا وقف (على قَوْله) {إِلَّا الله} (وَأَن الراسخون) فِي الْعلم يعلمُونَ التَّأْوِيل، قَالَ ابْن عَبَّاس: وَأَنا مِمَّن يعلم تَأْوِيله، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل "، قَالُوا: وَالصَّحِيح رِوَايَة طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس، كَمَا ذكرنَا، وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْقُرَّاء؛ وَلِأَن على قَضِيَّة قَول مُجَاهِد لَا يَسْتَقِيم. قَوْله: {والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ} قَالَ النُّحَاة: وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم أَن تَقول: وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله والراسخون فِي الْعلم قائلين {أمنا بِهِ} (و) لِأَنَّهُ قَالَ: {والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} ؛ وَلَو علمُوا التَّأْوِيل لم يكن لقَولهم هَذَا معنى، وَقد روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " أنزل الْقُرْآن على أَرْبَعَة أوجه " الْحَلَال وَالْحرَام، وعربية تعرفها الْعَرَب، وَمِمَّا يعلم الْعباد تَأْوِيله، وَمَا لَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله " وَهَذَا يشْهد لما قُلْنَا؛ فَدلَّ أَن الْوَقْف على قَوْله: {إِلَّا الله} . وَالْوَاو: وَاو الِابْتِدَاء فِي قَول {والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} قَالُوا: وَمن رسوخهم فِي الْعلم يَقُولُونَ ذَلِك {وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب} .

8

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا} أَي: لَا تمل قُلُوبنَا {بعد إِذْ هديتنا} وَهَذَا

{قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب (8) رَبنَا إِنَّك جَامع النَّاس ليَوْم لَا ريب فِيهِ إِن الله لَا يخلف الميعاد (9) إِن الَّذين كفرُوا لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا وَأُولَئِكَ هم وقود النَّار (10) كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ وَالله شَدِيد} دُعَاء للتثبيت والإدامة عَلَيْهِ، وَقد رَوَت أم سَلمَة عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول: " يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك " {وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة} نصْرَة ومعونة {إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب} .

9

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا إِنَّك جَامع النَّاس ليَوْم لَا ريب فِيهِ} أَي: لَا شكّ فِيهِ عِنْد أهل الْحق، وَقيل: أَرَادَ لَا ريب فِيهِ: يَوْم الْقِيَامَة إِذا قَامَت وَظَهَرت. {إِن الله لَا يخلف الميعاد} فَلَا تزغ قُلُوبنَا، وارحمنا، وَلكنه أوجزه وَلم يذكر تَمام الدُّعَاء.

10

قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين كفرُوا لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا} هُوَ قَول الْكَافرين يَوْم الْقِيَامَة: شَغَلَتْنَا عَن الْحق أَمْوَالنَا وَأَهْلُونَا، يَقُول لَا عذر لَهُم فِيهِ، وَلَا يغنيهم ذَلِك {وَأُولَئِكَ هم وقود النَّار} .

11

قَوْله تَعَالَى: {كدأب آل فِرْعَوْن} الدأب: الشَّأْن، والدأب: الْعَادة، وَمعنى الْآيَة: أَن هَؤُلَاءِ الْكفَّار فِي تَكْذِيب الرَّسُول، وَجحد الْحق، والتظاهر على الْكفْر؛ كعادة آل فِرْعَوْن، وَآل فِرْعَوْن: فِرْعَوْن وَقَومه. {وَالَّذين من قبلهم} يَعْنِي: عادا وَثَمُود {كذبُوا بآيتنا فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ} ، عاقبهم بجرائمهم، {وَالله شَدِيد الْعقَاب} لِأَنَّهُ دَائِم، عِقَابه لَا يَنْقَطِع؛ وكل دَائِم شَدِيد.

12

قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين كفرُوا} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَنه لما فرغ رَسُول الله من قتال الْمُشْركين يَوْم بدر جمع الْيَهُود بقينقاع، وَقَالَ

{الْعقَاب (11) قل للَّذين كفرُوا ستغلبون وتحشرون إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ المهاد (12) قد كَانَ لكم آيَة فِي فئتين التقيا فِئَة تقَاتل فِي سَبِيل الله وَأُخْرَى كَافِرَة} لَهُم: أَسْلمُوا قبل أَن ينزل بكم مَا نزل بالمشركين من بَأْس الله، فَقَالُوا: إِنَّك لقِيت قوما أَغْمَارًا لَا يعْرفُونَ الْقِتَال، فَلَو قَاتَلْتنَا لَوَلَّيْت " فَنزل قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين كفرُوا ستغلبون وتحشرون إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ المهاد} يَعْنِي: ستغلبون فِي الدُّنْيَا، وتحشرون فِي الْآخِرَة إِلَى جَهَنَّم، {وَبئسَ المهاد} وَقَالَ مقَاتل وَجَمَاعَة: هُوَ خطاب لأولئك الْمُشْركين يَوْم بدر، يَقُول الله: قا للْمُشْرِكين: ستغلبون، وتحشرون إِلَى جَهَنَّم، وَقد غلبوا وحشروا إِلَى جَهَنَّم، وَيقْرَأ: " سيغلبون ويحشرون " بِالْيَاءِ - وَهُوَ بِمَعْنى الأول، قَالَ الْفراء: وَهُوَ مثل قَول الرجل: قل لزيد: إِنَّك قَائِم. هُوَ بِمَعْنى قَوْله: قل لزيد: إِنَّه قَائِم؛ فهما فِي الْمَعْنى سَوَاء، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا خطاب للْيَهُود، يَعْنِي: قل للَّذين كفرُوا من الْيَهُود: سيغلب الْمُشْركُونَ، ويحشرون إِلَى جَهَنَّم، وَبئسَ المهاد، أَي: بئْسَمَا مهدوا لأَنْفُسِهِمْ، أَو بئْسَمَا مهد لَهُم.

13

قَوْله تَعَالَى: {قد كَانَ لكم آيَة} أَي: معْجزَة وعلامة، {فِي فئتين} فِي فرْقَتَيْن {التقتا} أجتمعتا، من الالتقاء: وَهُوَ الإجتماع، وَمِنْه: " يَوْم التلاق "؛ لِأَنَّهُ يجْتَمع فِيهِ أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض {فِئَة تقَاتل فِي سَبِيل الله} يَعْنِي: الْمُسلمين يَوْم بدر {وَأُخْرَى كَافِرَة} يَعْنِي الْمُشْركين {يرونهم مثليهم رأى الْعين} يَعْنِي الْمُسلمين رأو الْمُشْركين مثلى عَددهمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَة أمثالهم؛ لِأَن عدد الْمُسلمين يَوْم بدر كَانَ ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر نَفرا أَو أَرْبَعَة عشر نَفرا، وَكَانَ عدد الْمُشْركين تِسْعمائَة وَخمسين

{يرونهم مثليهم رَأْي الْعين وَالله يُؤَيّد بنصره من يَشَاء إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي نَفرا، وَعَن عَليّ وَابْن مَسْعُود: أَن عدد الْمُشْركين كَانُوا ألفا، فَرَآهُمْ الْمُسلمُونَ نيفا وسِتمِائَة. قَالَ ابْن مَسْعُود: رأيناهم ضعفى عددنا، ثمَّ رأيناهم مثل عددنا؛ رجل [بِرَجُل] وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْفَال {وَإِذا يريكهم إِذْ التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} فَرَآهُمْ الْمُسلمُونَ أقل من عَددهمْ، وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ رَأَوْا الْمُسلمين أقل من عَددهمْ، وَكَانَت الْحِكْمَة فِيهِ إِذا رَأَوْهُمْ أقل مِمَّا كَانُوا لَا يحجمون، وَلَا يفترون عَن الْقِتَال؛ لِأَن الله تَعَالَى قد أخْبرهُم أَن الْوَاحِد مِنْهُم يُقَاوم اثْنَيْنِ من الْمُشْركين، وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ إِذا رَأَوْا الْمُسلمين أقل مِمَّا كَانُوا لَا يمتنعون عَن الْقِتَال؛ {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} ، وَذَلِكَ من قتل رُؤَسَائِهِمْ وَقَادَتهمْ، بِإِذن الله تَعَالَى. قَالَ الْفراء: إِنَّمَا رَأَوْهُمْ على عَددهمْ كَمَا كَانُوا، وَإِنَّمَا قَالَ: {يرونهم مثليهم} يَعْنِي: مثليهم سوى عَددهمْ، وَهَذَا مثل قَول الرجل - وَعِنْده دِرْهَم -: أَنا أحتاج إِلَى مثلى هَذَا الدِّرْهَم، يَعْنِي إِلَى مثلَيْهِ سواهُ. وَالْأول أصح. وقرىء: " ترونهم " بِالتَّاءِ فَيكون خطابا للْيَهُود، وَكَانَ جمَاعَة مِنْهُم حَضَرُوا قتال بدر؛ لينظروا على من الدبرة، فرأو الْمُشْركين مثلى عدد الْمُسلمين، ورأو النُّصْرَة مَعَ ذَلِك للْمُسلمين، وَكَانَ ذَلِك معْجزَة، وَآيَة للرسول فِي أَعينهم. وعَلى الْقِرَاءَة الأولى يكون الْخطاب مَعَ الْمُسلمين فِي قَوْله: ( {قد كَانَ لكم آيَة فِي فئتين} وَالله يُؤَيّد بنصره من يَشَاء) ؛ لِأَنَّهُ نصر الْمُؤمنِينَ يَوْمئِذٍ. {إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولى الْأَبْصَار} أَي: عَلامَة لأولى البصائر فِي الدّين، ولذوي الْعُقُول أَجْمَعِينَ.

{الْأَبْصَار (13) زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالله عِنْده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بِخَير من ذَلِكُم للَّذين اتَّقوا عِنْد رَبهم جنَّات}

14

قَوْله تَعَالَى: {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين} قَالَ الْحسن: المزين: هُوَ الشَّيْطَان؛ لِأَن الله تَعَالَى ذمّ الدُّنْيَا بأبلغ ذمّ، فَلَا يزينه فِي الْأَعْين. وَقَالَ عَامَّة الْمُفَسّرين: المزين: هُوَ الله تَعَالَى، وتزيينه: أَنه حبب فِي قُلُوبهم شَهْوَة النِّسَاء والبنين {والقناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة} ، فالقناطير: جمع القنطار، وَهُوَ مَال كثير، ثمَّ اخْتلفُوا؛ قَالَ معَاذ وَأبي بن كَعْب: القنطار: ألف وَمِائَتَا أُوقِيَّة، وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك: هُوَ ألف دِينَار أَو اثْنَا عشر ألف دِرْهَم. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: هُوَ ثَمَانُون ألف دِرْهَم. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ سَبْعُونَ ألف دِينَار. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ مائَة رَطْل من ذهب أَو فضَّة. وَقَالَ أَبُو نَضرة: هُوَ ملْء مسك ثَوْر من ذهب أَو فضَّة. وسمى قِنْطَارًا؛ من الْأَحْكَام والتوثيق، وَأما المقنطرة: فَهِيَ الْمَجْمُوعَة المملكة. قَالَ الْفراء: القناطير ثَلَاثَة، والمقنطرة تِسْعَة. قَوْله: {وَالْخَيْل المسمومة} قَالَ مُجَاهِد: هِيَ الحسان المطهمة، وَقَالَ سعيد ابْن جُبَير: المسومة: الراعية. يُقَال: أسام الْخَيل من الرعى. وَفِيه قَول ثَالِث، المسومة: المعلمة من السيما، وَهِي الْعَلامَة. مِنْهُم من قَالَ: سيماها: الشّبَه. وَمِنْهُم من قَالَ: سيماها الكي {والأنعام} : هِيَ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم {والحرث} : هِيَ الْأَرَاضِي المهيأة للزِّرَاعَة {ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنه مَتَاع يفنى. {وَالله عِنْده حسن المآب} فِيهِ تزهيد فِي الدُّنْيَا وترغيب فِي الْآخِرَة، ثمَّ أكده

15

بقوله تَعَالَى: {قل أؤنبئكم بِخَير من ذَلِكُم للَّذين اتَّقوا عِنْد رَبهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَأَزْوَاج مطهرة ورضوان من الله} وقرىء " رضوَان " بِضَم الرَّاء، وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء يُقَال: رضى يرضى رِضَاء ورضوانا. ورضوانا،

{تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَأَزْوَاج مطهرة ورضوان من الله وَالله بَصِير بالعباد (15) الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا إننا آمنا فَاغْفِر لنا ذنوبنا وقنا عَذَاب النَّار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17) شهد الله} وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " أَن أهل الْجنَّة؛ إِذا دخلُوا الْجنَّة يَقُول الله تَعَالَى: إِن لكم عِنْدِي موعدا، وَأَنا منجزكموه، فَيَقُولُونَ: قد أَعطيتنَا كل مَا نتمنى، فَمَا هُوَ يارب؟ فَيَقُول: أنزل عَلَيْكُم رِضْوَانِي وَلَا أَسخط عَلَيْكُم أبدا ". قَوْله تَعَالَى: {وَالله بَصِير بالعباد الَّذين يَقُولُونَ}

16

فَقَوله: {الَّذين يَقُولُونَ} يحْتَمل أَن يكون فِي مَوضِع الْخَفْض، وَتَقْدِيره: بالعباد الَّذين يَقُولُونَ، وَيحْتَمل أَن يكون فِي مَوضِع الرّفْع، وَتَقْدِيره: يَقُولُونَ على الِابْتِدَاء، وَيحْتَمل أَن يكون فِي مَوضِع النصب، وَتَقْدِيره: أعنى: الَّذين يَقُولُونَ: {رَبنَا إننا آمنا فَاغْفِر لنا ذنوبنا وقنا عَذَاب النَّار} .

17

{الصابرين} يحْتَمل أَن يكون فِي مَوضِع الْخَفْض، وَيحْتَمل فِي مَوضِع النصب، يَعْنِي: الصابرين على الشدائد والمصائب، وعَلى الطَّاعَات، وَعَن الْمعاصِي {والصادقين} الَّذين استقامت أَحْوَالهم وأفعالهم {والقانتين} : المقيمين على الطَّاعَة، المداومين عَلَيْهَا {والمنفقين} يَعْنِي: المتصدقين، قيل فِي الْجِهَاد، وَقيل: فِي كل أَبْوَاب الْبر {والمستغفرين بالأسحار} قَالَ ابْن عَبَّاس: هم المصلون بِاللَّيْلِ. وَقَالَ أنس: هم السائلون بالمغفرة. وَقَالَ زيد بن أسلم: المصلون صَلَاة الصُّبْح فِي الْجَمَاعَة، وَإِنَّمَا قَيده {بالأسحار} لقرب صَلَاة الصُّبْح من السحر.

18

قَوْله تَعَالَى: {شهد الله} أَي: بَين وَأعلم؛ وكل شَاهد مُبين ومعلم {أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} لنَفسِهِ بالوحدانية؛ وَذَلِكَ أَن وَفد نَجْرَان قد أَنْكَرُوا وحدانيته، وَهَذِه الْآيَة من الْآيَات الَّتِي نزلت فِي شَأْنهمْ، وَالْحجاج عَلَيْهِم {وَالْمَلَائِكَة} أَي: وَشهِدت الْمَلَائِكَة، {وَأولُوا الْعلم} قيل: هم عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل، وَذَلِكَ مثل: عبد الله بن سَلام، وَمن

{أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأولُوا الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم حاجوك فَقل أسلمت وَجْهي لله وَمن اتبعن وَقل للَّذين أُوتُوا الْكتاب والأميين} آمن مَعَه، وَقيل: هم الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار، وَقيل: هم جَمِيع عُلَمَاء الْأمة. {قَائِما} نصب على الْحَال، فَهُوَ الله تَعَالَى قَائِم بتدبير الْخلق {بِالْقِسْطِ} : بِالْعَدْلِ، يُقَال: قسط يقسط إِذا جَار. وأقسط يقسط؛ إِذا عدل، فالقاسط: الجائر، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا} والمقسط: الْعَادِل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ( {إِن الله يحب المقسطين} لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم)

19

{إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} وَيقْرَأ: " أَن الدّين " بِفَتْح الْألف، فَمن قَرَأَ بِكَسْر الْألف؛ فَهُوَ على الِابْتِدَاء وَقَرَأَ الْكسَائي بِالنّصب، وَتَقْدِيره: شهد الله أَن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام؛ فَإِنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْإِسْلَام: هُوَ الأنقياد والإستسلام، وَقد يكون مُجَرّد الاستسلام من غير العقيدة فرقا بَينه وَبَين الْإِيمَان على مَا سَيَأْتِي. وَالْإِسْلَام الْمَعْرُوف فِي الشَّرْع: هُوَ الْإِتْيَان بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ سَائِر الْأَركان الْخمس، وَفِي الْأَخْبَار: " أَنه يُؤْتى بِالْأَعْمَالِ يَوْم الْقِيَامَة، فَيُؤتى بِالصَّلَاةِ على صُورَة، فَتَقول: يَا رب، إِنِّي الصَّلَاة، فَيَقُول الله تَعَالَى: إِنَّك بِخَير، وَيُؤْتى بِالزَّكَاةِ على صُورَة، فَتَقول: يَا رب، إِنِّي الزَّكَاة، فَيَقُول الله: إِنَّك بِخَير، وَهَكَذَا الصَّوْم وَالْحج، ثمَّ يُؤْتى بِالْإِسْلَامِ على أحسن الصُّور، فَيَقُول يَا رب، إِنِّي الْإِسْلَام، فَيَقُول الله تَعَالَى: إِنَّك إِلَى خير، بك أَخذ الْيَوْم وَبِك أعطي ". وَحكي عَن غَالب الْقطَّان أَنه قَالَ: أتيت الْكُوفَة للتِّجَارَة فَنزلت قَرِيبا من الْأَعْمَش، فَكنت أختلف إِلَيْهِ وأسمع مِنْهُ الحَدِيث، فقصدت مِنْهُ لَيْلَة أَن أنحدر مِنْهُ إِلَى الْبَصْرَة، فَوَجَدته يتجهد فِي الْمَسْجِد، فَمر بِهَذِهِ الْآيَة {شهد الله انه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة

{إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام وَمَا أختلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم وَمن يكفر بآيَات الله فَإِن الله سريع الْحساب (19) فَإِن} {وألوا الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} ثمَّ قَالَ: وَأشْهد بِمَا شهد الله بِهِ، وأستودع الله هَذِه الشَّهَادَة؛ لتَكون وَدِيعَة لي عِنْده، ثمَّ قَالَ: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام} كَرَّرَه مرَارًا، فَقلت فِي نَفسِي: لقد سمع فِيهِ شَيْئا، فَمَكثَ، وَصليت مَعَه الصُّبْح، ثمَّ قلت لَهُ: مَرَرْت بِهَذِهِ الْآيَة، وَكنت تكررها {فَقَالَ: أما بلغك مَا ورد فِيهَا؟} قلت: أَنا عنْدك مُنْذُ سنتَيْن وَلم تُحَدِّثنِي، وَقد قصدت الإنحدار إِلَى الْبَصْرَة، فَقَالَ: وَالله لَا أحَدثك سنة، فَمَكثت بِالْكُوفَةِ وكتبت على بَابه ذَلِك الْيَوْم، فَلَمَّا تمت السّنة أَتَيْته، فَقلت: يَا أَبَا مُحَمَّد، قد تمت السّنة. فَقَالَ: حَدثنِي أَبُو وَائِل، عَن عبد الله بن مَسْعُود، عَن النَّبِي - أَنه قَالَ: " يجاء بصاحبها يَوْم الْقِيَامَة، فَيَقُول الله تَعَالَى: إِن لعبدي هَذَا عِنْدِي عهدا (وَأَنا) أَحَق من وفى بالعهد، أدخلُوا عَبدِي الْجنَّة ". قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أختلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى {إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} أَي: حسدا بَينهم. {وَمن يكفر بآيَات الله فَإِن الله سريع الْحساب} ظَاهر الْمَعْنى.

20

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن حاجوك} أَي: فَإِن جادلوك {فَقل أسلمت وَجْهي لله وَمن أتبعن} أَي: قصدت بعبادتي الله تَعَالَى {وَقل للَّذين أُوتُوا الْكتاب} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى {والأميين} يَعْنِي: الْمُشْركين.

{ءأسلمتم فَإِن أَسْلمُوا فقد اهتدوا وَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وَالله بَصِير بالعباد (20) إِن الَّذين يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ النبين بِغَيْر حق وَيقْتلُونَ الَّذين} {أأسلمتم يَعْنِي: أَسْلمُوا، وَقيل: ذكره على التهديد؛ كَمَا يُقَال: أَقبلت هَذَا مني؟ على وَجه التهديد {فَإِن أَسْلمُوا فقد اهتدوا وَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وَالله بَصِير بالعباد} أَي: عَلَيْك تَبْلِيغ الرسَالَة وَلَيْسَ عَلَيْك الْهِدَايَة (وَالله بَصِير بالعباد) بالضال مِنْهُم والمهتدي. وتلخيص معنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى يَقُول: " فَإِن جادلوك بِالْبَاطِلِ، فَقل: أسلمت وَجْهي لله، أَي: أخلصت عَمَلي لله، أَو قصدت بعبادتي إِلَى الله الَّذِي لَا تقرون لَهُ بالخلق والتربية؛ فَإِنَّهُم كَانُوا مقرين بِأَن الله خالقهم ومربيهم، فَأَنا أقصد إِلَيْهِ بعبادي وَلَا أتبع هواى كَمَا تتبعون أهواءكم. ثمَّ قَالَ: {وَقل للَّذين أوتو الْكتاب والأميين أأسلمتم} أَي: أَسْلمُوا. كَمَا قَالَ: {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} أَي: انْتَهوا، وَإِنَّمَا سمى الْمُشْركين أُمِّيين؛ لأَنهم لم يَكُونُوا قراء، وَقيل: نسبهم إِلَى أم الْقرى وَهِي مَكَّة لسكونهم فِيهَا.

21

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكفرون بآيَات الله} أَرَادَ بِهِ الْيَهُود م بني إِسْرَائِيل. {وَيقْتلُونَ النَّبِيين بِغَيْر حق} إِنَّمَا قَالَ: بِغَيْر حق تَأْكِيدًا، لِأَن قتل النَّبِيين لَا يَنْقَسِم إِلَى الْحق وَالْبَاطِل. وروى أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة من قتل نَبيا أَو قَتله نَبِي ". ثمَّ روى فِي هَذَا الْخَبَر أَنه قَالَ: " قتلت بَنو إِسْرَائِيل اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين نَبيا فِي سَاعَة وَاحِدَة، فَقَامَ إِلَيْهِم مائَة وَاثنا عشر رجلا من زهادهم وعبادهم، وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ، فَقَتَلُوهُمْ " فَهَذَا قَوْله تَعَالَى: (وَيقْتلُونَ الَّذين

{يأمرون بِالْقِسْطِ من النَّاس فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم (21) أُولَئِكَ الَّذين حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَا لَهُم من ناصرين (22) ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يدعونَ إِلَى كتاب الله ليحكم بَينهم ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم وهم} يأمرون بِالْقِسْطِ من النَّاس) أَي: بِالْعَدْلِ {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} وَإِنَّمَا خَاطب أَبْنَاءَهُم بِهِ، مَعَ أَن (الْجِنَايَة) وجدت من آبَائِهِم؛ (لأَنهم) رَضوا بفعلهم، ودانوا بدينهم، فاستوجبوا هَذَا (الْعَذَاب) .

22

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين حبطت أَعْمَالهم} أَي: بطلت، والحبوط والبطلان، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَبطلَان الْعَمَل فِي الدُّنْيَا: أَلا يقبل، وَفِي الْآخِرَة: أَنه لَا يجازى عَلَيْهِ بالثواب، {وَمَا لَهُم من ناصرين} من يمْنَع عَنْهُم الْعَذَاب.

23

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب} قيل: ورد هَذَا فِي يهود بني قُرَيْظَة وَالنضير؛ " فَإِن النَّبِي أَتَى بَيت مدارسهم، فَقَالَ لَهُ نعيم بن عَمْرو الْحَارِث بن يزِيد: على أَي مِلَّة أَنْت؟ فَقَالَ: على مِلَّة إِبْرَاهِيم. فَقَالَ نعيم: إِن إِبْرَاهِيم كَانَ يَهُودِيّا. فَقَالَ: بيني وَبَيْنكُم التَّوْرَاة، أخرجُوا التَّوْرَاة. فَأَبَوا أَن يخرجوها "، فَهَذَا هُوَ قَوْله {يدعونَ إِلَى كتاب الله ليحكم بَينهم} يَعْنِي: التَّوْرَاة. وَفِيه قَول آخر: أَن الْآيَة فِي نَصَارَى وَفد نَجْرَان، وَقَوله {يدعونَ إِلَى كتاب الله} يَعْنِي: الْقُرْآن ليحكم بَينهم. {ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم وهم معرضون} وَذَلِكَ أَن بَعضهم قد أَسْلمُوا.

24

قَوْله - تَعَالَى -: {ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا معدودات} يرجع هَذَا

{معرضون (23) ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا معدودات وغرهم فِي دينهم مَا كَانُوا يفترون (24) فَكيف إِذا جمعناهم ليَوْم لَا ريب فِيهِ ووفيت كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ (25) قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وننزع الْملك مِمَّن يَشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء بِيَدِك الْخَيْر إِنَّك على} إِلَى الْيَهُود، وَقد ذَكرْنَاهُ من قبل. {وغرهم فِي دينهم} الْغرُور: هُوَ الإطماع فِيمَا لَا يحصل مِنْهُ شَيْء، والغرور: الشَّيْطَان، وغر الثَّوْب: طيه، فَيُقَال: أعد الثَّوْب إِلَى غره، أَي: إِلَى طيه، والغرور: ركُوب الْخطر. {مَا كَانُوا يفترون} الافتراء: اخْتِلَاق الْكَذِب؛ وَمِنْه الْفِرْيَة: تَسْوِيَة الْكَذِب، قَالَ الشَّاعِر: (وَلَا أَنْت تفري مَا خلقت ... وَبَعض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفرى) أَي: لَا يكذب وَلَا يسوى.

25

قَوْله تَعَالَى: {فَكيف إِذا جمعناهم} أَي: فَكيف حَالهم {إِذا جمعناهم ليَوْم لَا ريب فِيهِ ووفيت كل نفس مَا كسبت} من الْجَزَاء {وهم لَا يظْلمُونَ} .

26

قَوْله تَعَالَى: {قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك} فِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه لما فتح مَكَّة وعد أَصْحَابه ملك الْفرس: فَسَمعهُ الْيَهُود، وَقَالُوا: هَيْهَات الْفرس وَالروم أعز وَأَمْنَع جانبا مِمَّا تظنون؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة. وَقَالَ الْحسن: إِنَّه سَأَلَ ربه لأَصْحَابه ملك فَارس وَالروم. فَأَما قَوْله: {قل اللَّهُمَّ} فأصله: يَا الله؛ فَلَمَّا حذف حرف النداء زيدت الْمِيم فِي آخِره، قَالَ الْفراء: للميم فِيهِ معنى، وَمَعْنَاهُ: يَا الله، أعنا بالمغفرة أَي: اقصدنا. {مَالك الْملك} تَقْدِيره يَا مَالك الْملك، وَمَعْنَاهُ: مَالك الْعباد؛ وَمَا ملكوه، وَقيل: أَرَادَ بِالْملكِ: النُّبُوَّة، وَقيل: ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. {تؤتي الْملك من تشَاء} أَي: من تشَاء أَن تؤتيه من الْمُسلمين. {وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء} أَي: مِمَّن تشَاء أَن تنزعه، وهم فَارس وَالروم. {وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:

{كل شَيْء قدير (26) تولج اللَّيْل فِي النَّهَار وتولج النَّهَار فِي اللَّيْل وَتخرج الْحَيّ من} أَحدهمَا: تعز من تشَاء بالنصر، وتذل من تشَاء بالقهر. وَالثَّانِي: تعز من تشَاء بالغنى، وتذل من تشَاء بالفقر. وَالثَّالِث: تعز من تشَاء بالهداية، وتذل من تشَاء بالضلالة. {بِيَدِك الْخَيْر} أَي بِيَدِك الْخَيْر وَالشَّر، كَمَا قَالَ: {سرابيل تقيكم الْحر} أَي: تقيكم الْحر وَالْبرد، فَاكْتفى بِأحد الْمَذْكُورين عَن الآخر. {إِنَّك على كل شَيْء قدير} ، وَقد ورد فِي فضل هَذِه الْآيَة من الْأَخْبَار: مَا روى عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق، عَن أَبِيه، عَن على، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " فَاتِحَة الْكتاب، وَآيَة الْكُرْسِيّ، وآيتان من آل عمرَان - شهد الله، وَهَذِه الْآيَة - متشفعات لمن قَرَأَهَا يَوْم الْقِيَامَة، لَيْسَ بَينهمَا وَبَين الله حجاب ". وروى فِي هَذَا الْخَبَر: أَنه قَالَ: " لما أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَات تعلقن بالعرش، وقلن: يَا رب، تهبطنا إِلَى أَرْضك وعبادك، فَقَالَ الله تَعَالَى: " وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا قرأكن عبد من عبَادي إِلَّا أسكنته جنتي؛ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، وقضيت لَهُ كل يَوْم سبعين حَاجَة، أدناها الْمَغْفِرَة ".

27

قَوْله تَعَالَى: {تولج اللَّيْل فِي النَّهَار وتولج النَّهَار فِي اللَّيْل} الْإِيلَاج: الإدخال، وَمَعْنَاهُ: تنقص من أَحدهمَا وتزيد فِي الآخر، وَقيل مَعْنَاهُ: تغطي اللَّيْل بِالنَّهَارِ، وَالنَّهَار بِاللَّيْلِ. {وَتخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} قَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ: تخرج

{الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من تشَاء بِغَيْر حِسَاب (27) لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء} الْكَافِر من الْمُؤمن، وَالْمُؤمن من الْكَافِر، وَالْقَوْل الثَّانِي: تخرج النُّطْفَة من الْحَيّ، والحي من النُّطْفَة، وَفِيه قَول غَرِيب: تخرج الفطن الْكيس من البليد الْفَاجِر، والبليد من الفطن؛ لِأَن البليد ميت فهما؛ والفطن حَيّ فهما. وَيقْرَأ {من الْمَيِّت} : مخففا ومشددا، وَفرق نحاة الْكُوفَة بَين الْمَيِّت وَالْمَيِّت، فَقَالُوا: الْمَيِّت - بِالتَّشْدِيدِ -: هُوَ الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت، وَالْمَيِّت مخففا: هُوَ الَّذِي مَاتَ؛ وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى {إِنَّك ميت وَأَنَّهُمْ ميتون} وَأنكر ذَلِك نحاة الْبَصْرَة وَقَالُوا: هما بِمَعْنى وَاحِد. وَأنْشد الْمبرد لبَعض الشُّعَرَاء: (لَيْسَ من مَاتَ فاستراح بميت ... إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء) (إِنَّمَا الْمَيِّت من يعِيش كئيبا ... كاسفا باله قَلِيل الرَّجَاء) فَجمع بَين الْمَيِّت وَالْمَيِّت على معنى وَاحِد. {وترزق من تشَاء بِغَيْر حِسَاب} : من غير تضييق وَلَا تقتير.

28

قَوْله تَعَالَى: {لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ} هَذَا فِي قوم مخصوصين، أَسْلمُوا على مُوالَاة الْيَهُود وَالْمُشْرِكين، فنهاهم الله عَن ذَلِك، وَهُوَ معنى قَوْله: {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله} . {وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء} أَي: لَيْسَ من حزب الله {إِلَّا أَن

{إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم تقاة ويحذركم الله نَفسه وَإِلَى الله الْمصير (28) قل إِن تخفوا} وقرىء: تقية، ومعناهما وَاحِد، يَعْنِي: إِلَّا أَن يَقع فِي أَيْديهم، فيخافهم، فيوافقهم بِاللِّسَانِ وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان، فَلَا بَأْس بِهِ، وَلَكِن لَو صَبر حَتَّى قتل، فَلهُ من الْأجر الْعَظِيم، مَا الله بِهِ عليم. وَقد روى: " أَن مُسَيْلمَة الْكذَّاب - لعنة الله - أَخذ رجلَيْنِ من أَصْحَاب رَسُول الله وَقَالَ لأَحَدهمَا: أَتَشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: أَتَشهد أَنِّي رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، تقية مِنْهُ، فخلى سَبيله. ثمَّ قَالَ للْآخر: أَتَشهد أَن مُحَمَّد رَسُول الله فَقَالَ: نعم نعم نعم، قَالَ أَتَشهد أَنِّي رَسُول الله، فَقَالَ: أَنا أَصمّ، فَقتله؛ فَبلغ ذَلِك رَسُول الله، فَذكر دَرَجَة الَّذِي صَبر على الْقَتْل، وَقَالَ: إِن الأول أَخذ بِرُخْصَة الله ". وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله: أَنه قَالَ: " أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر ". وَقَالَ: " إِن فضل الشُّهَدَاء بعد شُهَدَاء أحد: من قَامَ إِلَى سُلْطَان جَائِر وَأمره بِالْمَعْرُوفِ، فَقتله عَلَيْهِ ". قَوْله - تَعَالَى -: {ويحذركم الله نَفسه} أَي: يخوفكم إِيَّاه {وَإِلَى الله

{أما فِي صدوركم أَو تبدوه يُعلمهُ الله وَيعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَالله على كل شَيْء قدير (29) يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا وَمَا عملت من سوء تود لَو أَن بَينهَا وَبَينه أمدا بَعيدا ويحذركم الله نَفسه وَالله رؤف بالعباد (30) قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم ذنوبكم} لمصير) أَي: الْمرجع.

29

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن تخفوا مَا فِي صدوركم أَو تبدوه يُعلمهُ الله} أَي: يجازى عَلَيْهِ {وَيعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَالله على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.

30

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا} أَي: محْضر لَهَا مَا عملت من الْخَيْر وَالشَّر، فتسر بِمَا عملت من الْخَيْر. {وَمَا عملت من سوء تود لَو أَن بَينهَا وَبَينه أمدا بَعيدا} أَي: غَايَة مديدة، قَالَ السّديّ: مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب. وَفِي الْأَخْبَار: أَن الْأَعْمَال يُؤْتى بهَا يَوْم الْقِيَامَة على صور فَمَا كَانَ مِنْهَا حسنا، فعلى الصُّورَة الْحَسَنَة، وَمَا كَانَ قبيحا، فعلى الصُّورَة القبيحة. {ويحذركم الله نَفسه وَالله رءوف بالعباد} وَمن رأفته أَن حذرهم، ورغبهم ورهبهم، وَوَعدهمْ وأوعدهم.

31

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه خطاب للْيَهُود وَالنَّصَارَى من وَفد نَجْرَان، وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه، فَنزل قَوْله: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحبكم} وَالثَّانِي: أَنه خطاب لمشركي قُرَيْش؛ فَإِنَّهُ رَآهُمْ يعْبدُونَ الْأَصْنَام؛ فَقَالَ لَهُم: " خالفتم مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم، فَقَالُوا: إِنَّمَا نعبدهم تقربا إِلَى الله؛ فَإنَّا نحبه؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم ذنوبكم

{وَالله غَفُور رَحِيم (31) قل أطِيعُوا الله وَالرَّسُول فَإِن توَلّوا فَإِن الله لَا يحب الْكَافرين (32) إِن الله أصطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين (33) } وَالله غَفُور رَحِيم) ". وَاعْلَم أَن محبَّة الله العَبْد، ومحبة العَبْد الله لَا يكون بلذة شَهْوَة، وَلَكِن محبَّة العَبْد فِي حق الله: هُوَ إتْيَان طَاعَته، وابتغاء مرضاته، وَاتِّبَاع أمره، ومحبة الله فِي حق العَبْد: هُوَ الْعَفو عَنهُ، وَالْمَغْفِرَة، وَالثنَاء الْحسن، وأكده

32

قَوْله تَعَالَى: {قل أطِيعُوا الله وَالرَّسُول} ؛ بَين أَن محبته فِي طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله. {فَإِن توَلّوا فَإِن الله لَا يحب الْكَافرين} ، فَإِن قَالَ قَائِل: لم كرر اسْم الله مرَارًا، وَكَانَ يَكْفِيهِ: أَن يَقُول فَإِنَّهُ لَا يحب الْكَافرين؟ قيل: هُوَ على عَادَة الْعَرَب؛ فَإِن من عَادَتهم أَنهم إِذا عظموا شَيْئا كرروا ذكره، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ فِي مثل ذَلِك: (لَا أرى الْمَوْت سبق الْمَوْت شَيْء ... نغص الْمَوْت زلته الْغَنِيّ وَالْفَقِير)

33

وَقَوله تَعَالَى: {إِن الله أصطفى آدم ونوحا} الاصطفاء: الِاخْتِيَار. والصفوة: الْخيرَة: وَلم اخْتَار آدم؟ اخْتلفُوا؛ فَمنهمْ من قَالَ: اخْتَارَهُ للدّين، وَمِنْهُم من قَالَ: اخْتَارَهُ للنبوة. فَإِن قَالَ قَائِل: إِلَى من كَانَ مَبْعُوثًا؟ قيل: الْمَلَائِكَة؛ حَتَّى علمهمْ الْأَسْمَاء، وَإِلَى أَوْلَاده. قَالَ: وَآل إِبْرَاهِيم: هم إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب. وَآل عمرَان: مُوسَى وَهَارُون، وَآل عمرَان من آل إِبْرَاهِيم، وَقيل: أَرَادَ بِهِ عِيسَى؛ لِأَنَّهُ ابْن مَرْيَم بنت عمرَان {على الْعَالمين} على عالمي أهل زمانهم.

34

قَوْله تَعَالَى: {ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض} قيل: هُوَ مُشْتَقّ من ذَرأ بِمَعْنى: خلق، وَقيل: هُوَ من الذَّر، لِأَنَّهُ خلقهمْ؛ واستخرجهم من صلب آدم كالذر، وَالْأَبْنَاء يسمون ذُرِّيَّة، وَكَذَلِكَ الأباء، قَالَ الله تَعَالَى {وَآيَة لَهُم أَنا حملنَا ذُرِّيتهمْ فِي

( {33) ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض وَالله سميع عليم (34) إِذْ قَالَت امرأت عمرَان رب إِنِّي نذرت لَك مَا فِي بَطْني محررا فَتقبل مني إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم (35) فَلَمَّا وَضَعتهَا قَالَت رب إِنِّي وَضَعتهَا أُنْثَى وَالله أعلم بِمَا وضعت وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى وَإِنِّي سميتها مَرْيَم وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم (36) فتقبلها رَبهَا بِقبُول حسن} الْفلك المشحون) يَعْنِي: آبَاءَهُم، وَالْأَبْنَاء: ذُرِّيَّة، لِأَنَّهُ ذرأهم، والآباء ذُرِّيَّة؛ لِأَنَّهُ ذَرأ الْأَبْنَاء مِنْهُم، (بَعْضهَا من بعض) فِي التَّفَاضُل، وَقيل: فِي التناسل. {وَالله سميع} بِمَا قَالُوا {عليم} بِمَا اضمروا.

35

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَت امرأت عمرَان} وَهِي: حنة زَوْجَة عمرَان، وَكَانَت أُخْتهَا تَحت زَكَرِيَّا {رب إِنِّي نذرت لَك مَا فِي بَطْني محررا} قَالَ الشّعبِيّ: مَعْنَاهُ مخلصا لعبادة الله تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِد مَعْنَاهُ: مُسَمّى لخدمة الْبَيْت، مفرغا لَهَا عَن سَائِر الأشغال. {فَتقبل مني إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

36

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا وَضَعتهَا قَالَت رب إِنِّي وَضَعتهَا أُنْثَى} وَذَلِكَ أَن زَوجهَا عمرَان كَانَ قد (عاتبها) . على مَا نذرت، وَقَالَ لَهَا: لَا تدرين أَنه يخلق ولدك ذكرا أَو أُنْثَى، وَقد نذرت مُطلقًا. {وَالله أعلم بِمَا وضعت} هَذَا إِخْبَار من الله تَعَالَى عَن علمه وَيقْرَأ " وَالله أعلم بِمَا وضعت " على الْخَبَر؛ وَذَلِكَ من قَول الْمَرْأَة {وَلَيْسَ الذّكر كالأنثى} فَإِن الذّكر أقوم وَأقوى لخدمة الْبيعَة من الْأُنْثَى، وَقيل: لِأَنَّهُ أبعد عَن الْمَوَانِع من الْعِبَادَة بِخِلَاف الْأُنْثَى، يمْنَعهَا الْحيض وَالنّفاس. {وَإِنِّي سميتها مَرْيَم} ، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْلهَا: وَإِنِّي سميتها مَرْيَم؟ قيل: حَتَّى تعرف هَل وَقع ذَلِك الِاسْم بِرِضا الله تَعَالَى حَتَّى يُغير أَو يُقرر.

{وأنبتها نباتا حسنا وكلفها زَكَرِيَّا كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وجد عِنْدهَا رزقا قَالَ} {وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم} فالشيطان: المطرود، والرجيم: المرجوم بِالشُّهُبِ، وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من ولد يُولد إِلَّا ويطعن الشَّيْطَان فِي خاصرته؛ فَيَسْتَهِل صَارِخًا إِلَّا مَرْيَم وَابْنهَا، فَإِنَّهُ ضربهما فَوَقع الضَّرْب فِي الْحجاب، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم} ".

37

قَوْله تَعَالَى: {فتقبلها رَبهَا بِقبُول حسن} أَي: رضى بهَا وَقبلهَا {وأنبتها نباتا حسنا} ، أَي وأنبتها فَنَبَتَتْ نباتا حسنا. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن عَطاء الصُّوفِي: لما أنبتها الله نباتا حسنا، فانظروا إِلَى ثَمَرَته كَيفَ أثمر النَّبَات؟ يَعْنِي: عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ. {وكفلها} - مشدد - {زَكَرِيَّا} بِنصب الْألف، وتقرأ مخففا " وكفلها زَكَرِيَّا " بِضَم الْألف، وَمعنى الْكفَالَة: الضَّم، يَعْنِي: وَضمّهَا زَكَرِيَّاء إِلَى نَفسه، وَمن قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ، مَعْنَاهُ: ضمهَا الله إِلَى زَكَرِيَّا، وَقَالَ النَّبِي: " أَنا وكافل الْيَتِيم كهاتين ". وَمن الْأَسْبَاب الَّتِي خص بهَا زَكَرِيَّا بكفالة مَرْيَم؛ أَن خَالَتهَا كَانَت تَحْتَهُ، وَهِي أُخْت حنة امْرَأَة عمرَان، ولكفالة زَكَرِيَّا مَرْيَم قصَّة مَعْرُوفَة ستأتي فِي سُورَة مَرْيَم إِن شَاءَ الله تَعَالَى. {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب} يقْرَأ " زَكَرِيَّا " بِالْمدِّ وَالْقصر، والمحراب:

{يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا قَالَت هُوَ من عِنْد الله إِن الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب (37) هُنَالك دَعَا زَكَرِيَّا ربه قَالَ رب هَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة إِنَّك أَنْت سميع الدُّعَاء (38) } غرفَة يرتقي إِلَيْهَا بالسلم، وَكَانَ زَكَرِيَّا قد اتخذ لِمَرْيَم مثل تِلْكَ الغرفة، وَكَانَ يرقى إِلَيْهَا بالسلم، قَالَ الشَّاعِر فِي مَعْنَاهُ: (ربة محراب إِذا جِئْتهَا ... لم ألقها أَو أرتقى سلما) إِي: ربة غرفَة، وَقيل: الْمِحْرَاب: أشرف الْمجَالِس، وَقيل: هُوَ الْمِحْرَاب الْمَعْرُوف. {وجد عِنْدهَا رزقا} والرزق: مَا يُؤْكَل، قَالَ قَتَادَة: فَاكِهَة الشتَاء فِي الصَّيف، وَفَاكِهَة الصَّيف فِي الشتَاء، كَانَ قد رَآهَا عِنْدهَا، قَالَ الْحسن: حِين ولدت مَرْيَم لم تلقم ثديا، وَكَانَ يَأْتِيهَا الله تَعَالَى برزقها. {قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَك هَذَا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: من أَيْن لَك هَذَا؟ {وَأنْكرت النُّحَاة هَذَا، وَقَالُوا: هَذَا تساهل من أبي عُبَيْدَة، وَبَينهمَا فرق، ف " أَنى " للسؤال عَن الْجِهَة، و " أَيْن " للسؤال عَن الْمَكَان، وَأنْشد الْمبرد لبَعْضهِم. (أَنى وَمن أَيْن آنك الطَّرب ... ) فرق بَينهمَا، قَوْله: {أَنِّي لَك هَذَا} أَي: من أَي جِهَة لَك هَذَا؟} {قَالَت هُوَ من عِنْد الله إِن الله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} .

38

قَوْله تَعَالَى: {هُنَالك دَعَا زَكَرِيَّا ربه} وَذَلِكَ أَن زَكَرِيَّا لما رأى مَرْيَم يَأْتِيهَا رزقها فِي غير حِينه نَحْو فَاكِهَة الصَّيف فِي الشتَاء - طمع أَن يرْزق الْوَلَد فِي غير حِينه - على الْكبر - فَدَعَا الله أَن يرزقه ولدا، وَكَانَ قد بلغ مائَة وَعشْرين سنة، وَبَلغت امْرَأَته ثَمَان وَتِسْعين سنة. {قَالَ رب هَب لي من لَدُنْك} من عنْدك {ذُرِّيَّة طيبَة} أَي: ولدا صَالحا تقيا نقيا، والذرية تشْتَمل على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَإِنَّمَا قَالَ: {طيبَة} بنعت الْمُؤَنَّث على لفظ

{فنادته الْمَلَائِكَة وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب أَن الله يبشرك بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من} الذُّرِّيَّة. {إِنَّك سميع الدُّعَاء}

39

{فنادته الْمَلَائِكَة} ، وَيقْرَأ: " فناداه الْمَلَائِكَة " بِالْألف وَاخْتلفُوا فِي المنادى، مِنْهُم من قَالَ: كَانَ جِبْرِيل. وَمِنْهُم من قَالَ: جمع من الْمَلَائِكَة {وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب أَن الله يبشرك} يقْرَأ " أَن " بِكَسْر الْألف وَفتحهَا، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ، فتقديره: فنادته الْمَلَائِكَة وَقَالُوا: إِن الله يبشرك، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح، فَهُوَ على النسق، {يبشرك} يقْرَأ مخففا ومشددا، وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. والبشارة: خبر سَار يظْهر أَثَره على بشرة الْوَجْه، {يبشرك بِيَحْيَى} سَمَّاهُ يحيى قبل أَن يُولد، {مُصدقا بِكَلِمَة من الله} قيل: مُصدقا بِكِتَاب الله وَكَلَامه. وَقيل: مَعْنَاهُ مُصدقا بِعِيسَى، وَهُوَ كلمة الله فَإِن قَالَ قَائِل: " كلمة الله " لَا يكون مخلوقا، وَقد أَنْكَرْنَا على النَّصَارَى قَوْلهم: " الْمَسِيح ابْن الله "، وَقَوْلهمْ: " إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة "، فَكيف نَعْرِف أَن عِيسَى كلمة الله؟ قيل: فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه كلمة الله على معنى: أَنه يكون بِكَلِمَة من الله حَيْثُ قَالَ لَهُ: " كن فَكَانَ "، من غير سَبَب وَلَا عِلّة، وصنع بشر وإلقاء نُطْفَة. الثَّانِي: أَنه كلمة الله على معنى: أَنه يهتدى بِهِ، كَمَا يهتدى بِكَلَام الله. وَالثَّالِث: أَن الله تَعَالَى كَانَ قد أخبر سَائِر الْأَنْبِيَاء، وَوَعدهمْ فِي كتبه أَنه يخلق نَبيا بِلَا أَب، ووعد مَرْيَم أَنه يُولد لَهَا ولد بِلَا أَب، فَلَمَّا تكون عِيسَى سَمَّاهُ كلمة؛ لِأَنَّهُ حصل بِتِلْكَ الْكَلِمَة، وَذَلِكَ الْوَعْد، وَهُوَ كَمَا تَقول الْعَرَب: أَنْشدني كلمتك، أَي: قصيدتك، وَقيل لحسان: إِن الحوديرة أنشأ قصيدة، فَقَالَ: لعن الله كَلمته، أَي:

{الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين (39) قَالَ رب أَنى يكون لي غُلَام وَقد بَلغنِي الْكبر وامرأتي عَاقِر قَالَ كَذَلِك الله يفعل مَا يَشَاء (40) قَالَ رب اجْعَل لي آيَة قَالَ} قصيدته، فَلَمَّا حصلت القصيدة بكلمته سمى ذَلِك كلمة. قَوْله: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} أما السَّيِّد: قَالَ سعيد بن جُبَير: السَّيِّد: التقي، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْكَرِيم، وَقيل: هُوَ الْعَلِيم الَّذِي لَا يغضبه شَيْء، وَقيل: هُوَ الَّذِي يفوق قومه فِي جَمِيع خِصَال الْخَيْر. والحصور: قَالَ سعيد بن جُبَير وَمُجاهد وَالضَّحَّاك وَعَطَاء وَجَمَاعَة: هُوَ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاء، والحصور بِمَعْنى: المحصور، وَكَانَ مَمْنُوعًا من النِّسَاء، وَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر (فِيهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حلوبة ... سُودًا كخافية الْغُرَاب الأسحم) فالحلوبة بِمَعْنى: المحلوب، وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: كَانَ لَهُ مثل هدبة الثَّوْب، وَقد تزوج مَعَ ذَلِك؛ ليَكُون أَغضّ لبصره، وَقَالَ الشّعبِيّ: الحصور الْعنين، وَفِيه قَول آخر: الحصور: هُوَ الْمُمْتَنع من الْوَطْء مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ، وَهَذَا يُوَافق قَول الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة التخلي لعبادة الله. واختاروا هَذَا القَوْل لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه يكون أقرب إِلَى اسْتِحْقَاق الثَّنَاء، لِأَن الْكَلَام خرج مخرج الثَّنَاء. وَالثَّانِي: أَنه يكون أبعد من إِلْحَاق الآفة بالأنبياء؛ لبعدهم عَن الْآفَات.

40

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب أَنى يكون لي غُلَام وَقد بَلغنِي الْكبر وامرأتي عَاقِر} وَإِنَّمَا قَالَ: {بَلغنِي الْكبر} ؛ لِأَن الْكبر فِي طلب الْإِنْسَان، فَإِذا أَصَابَهُ فقد بلغه. وَأما العاقر: فَهِيَ الَّتِي عقم رَحمهَا من الْكبر، فَإِن قيل: كَانَ شاكا فِي وعد الله تَعَالَى حِين قَالَ: {رب أَنى يكون لي غُلَام} قيل: إِنَّمَا قَالَه على سَبِيل التَّوَاضُع، يَعْنِي: مثلي على هَذَا الْكبر من مثل هَذِه الْعَجُوز يكون لَهُ الْوَلَد، وَقيل مَعْنَاهُ: كَيفَ يكون لي هَذَا الْغُلَام؟ أتردني لحالة الشَّبَاب، أم يكون الْغُلَام على حَال الْكبر؟ . {قَالَ كَذَلِك يفعل الله مَا يَشَاء} .

{آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزا وَاذْكُر رَبك كثيرا وَسبح بالعشى وَالْإِبْكَار (41) وَإِذا قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نسَاء}

41

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّي اجْعَل لي آيَة} أَي: عَلامَة. قيل: إِنَّمَا سَأَلَ الْعَلامَة؛ لِأَن إِبْلِيس وسوس إِلَيْهِ أَن الَّذِي ناداك هُوَ الشَّيْطَان، دون الْملك وَكَانَ يديم عَلَيْهِ وسوسته، فَسَأَلَ الْعَلامَة؛ دفعا لتِلْك الوسوسة. وَقيل: إِنَّمَا سَأَلَ الْعَلامَة؛ لمعْرِفَة وَقت الْولادَة حَتَّى يزْدَاد لله شكرا. {قَالَ آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام} وَقيل: [إِن الله أمسك] لِسَانه وَحبس عَنهُ الْكَلَام ثَلَاثَة أَيَّام، وَهُوَ سوى صَحِيح؛ وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة مَرْيَم {ثَلَاث لَيَال سويا} . {إِلَّا رمزا} أَي: إِشَارَة، وَالْإِشَارَة تكون بِاللِّسَانِ، وَتَكون بِالْيَدِ، وَتَكون بِالْعينِ وَالْمرَاد هَا هُنَا: الْإِشَارَة بالإصبع المسبحة، قَالَ قَتَادَة: إِنَّمَا أمسك لِسَانه عَن الْكَلَام عُقُوبَة لَهُ على مَا سَأَلَ من الْآيَة بَعْدَمَا أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ، وشافهته الْمَلَائِكَة بالبشارة. {وَاذْكُر رَبك كثيرا} قيل: إِنَّمَا أمسك لِسَانه عَن الْكَلَام مَعَ النَّاس، وَلم يمسِكهُ عَن ذكر الله تَعَالَى، فَأمره بِالذكر. {وَسبح بالعشى وَالْإِبْكَار} المُرَاد بالتسبيح: الصَّلَاة، وَأما العشى: مَا بَين زَوَال الشَّمْس إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَمِنْه صَلَاة الظّهْر وَالْعصر صَلَاتي العشى، وَأما الإبكار: مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى الضُّحَى الْأَعْلَى.

42

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم} أَي: وَاذْكُر إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة: {يَا مَرْيَم إِن الله اصطفاك} اختارك وطهرك من الْحيض وَالنّفاس، وَقيل: من الذُّنُوب. {وطهرك واصطفاك على نسَاء الْعَالمين} مِنْهُم من قَالَ: على نسَاء عالمي زمانها، وَمِنْهُم من قَالَ:

{الْعَالمين (42) يَا مَرْيَم اقنتي لِرَبِّك واسجدي واركعي مَعَ الراكعين (43) ذَلِك من أنباء الْغَيْب نوحيه إِلَيْك وَمَا كنت لديهم إِذْ يلقون أقلامهم أَيهمْ يكفل مَرْيَم وَمَا كنت} على (جَمِيع نسَاء) الْعَالمين؛ فِي أَنَّهَا ولدت بِلَا أَب، وَلم يكن ذَلِك لأحد من نسَاء الْعَالم.

43

قَوْله تَعَالَى: {يَا مَرْيَم اقتني لِرَبِّك} أَي: أطيعي رَبك، وقومي لطاعته. والقنوت: طول الْقيام، قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ أطيلي الْقيام لِرَبِّك، وَقيل: إِنَّهَا قَامَت حَتَّى انتفخت قدماها وتورمت. وسمى الْقُنُوت فِي الصَّلَاة؛ لِأَنَّهُ فِي حَال الْقيام، وَعَن النَّبِي " أَنه سُئِلَ عَن أفضل الصَّلَاة، فَقَالَ: طول الْقُنُوت " أَي: طول الْقيام. {واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} قيل: إِنَّمَا قدم السُّجُود على الرُّكُوع؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِك فِي شريعتهم، وَقيل لَا، بل الرُّكُوع قبل السُّجُود فِي جَمِيع الشَّرَائِع، وَلَيْسَت الْوَاو للتَّرْتِيب، بل للْجمع، وَيجوز أَن يَقُول الرجل: رَأَيْت زيدا وعمرا، وَإِن كَانَ قد رأى عمرا قبل زيد، وَيجوز أَن نقُول: رَأَيْت عمرا وزيدا أَي زيدا وعمرا، قَالَ الشَّاعِر: (أَلا يَا نَخْلَة من ذَات عرق ... عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَالسَّلَام) أَي: عَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة الله، فَكَذَلِك قَوْله: {واسجدي واركعي} أَي: واركعي واسجدي، وَإِنَّمَا قَالَ: مَعَ الراكعين، وَلم يقل مَعَ الراكعات؛ ليَكُون أَعم وأشمل، وَقيل مَعْنَاهُ: مَعَ الْمُصَلِّين فِي الْجَمَاعَة.

44

قَوْله - تَعَالَى -: {ذَلِك من أنباء الْغَيْب نوحيه إِلَيْك} يَقُول لمُحَمد: ذَلِك من أَخْبَار الْغَيْب نوحيه إِلَيْك {وَمَا كنت لديهم إِذْ يلقون أقلامهم أَيهمْ يكفل مَرْيَم وَمَا كنت لديهم إِذْ يختصمون} فالأقلام: السِّهَام، وَإِنَّمَا سمى قَلما؛ لِأَنَّهُ يقطع ويبرى. وأصل الْقَلَم: الْقطع، وَمِنْه قلم الظفر.

{لديهم إِذْ يختصمون (44) إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِن الله يبشرك بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمه الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم وجيها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن المقربين (45) ويكلم النَّاس} والقصة فِي ذَلِك: أَنهم تشاحنوا واختصموا فِي كَفَالَة مَرْيَم، فَقَالَ زَكَرِيَّا: أَنا أولى بكفالتها مِنْكُم، لِأَن خَالَتهَا عِنْدِي، وَقَالَ أَحْبَارهم - وَقيل أولياؤهم -: نَحن أولى بكفالتها؛ لِأَن أَبَاهَا كَانَ إمامنا وحبرنا، فاقترعوا واستهموا، على أَن من يثبت قلمه فِي المَاء وَصعد، فَهُوَ أولى بكفالتها، فَألْقوا الأقلام على المَاء وعَلى كل قلم اسْم وَاحِد مِنْهُم، فانحدرت أقلامهم تجْرِي فِي المَاء، وَجرى قلم زَكَرِيَّا مصعدا إِلَى أَعلَى المَاء، قيل: غرقت أقلامهم، وارتد قلم زَكَرِيَّا، وَبَقِي فَوق المَاء، وَقيل إِنَّمَا اخْتَصَمُوا فِي كفالتها؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد أَصَابَهُم قحط وأزمة، وَكَانَت تضيق بهم النَّفَقَة؛ فاستهموا على كفالتها تدافعا حَتَّى أَن من خرج سَهْمه هُوَ الَّذِي يعولها، وَينْفق عَلَيْهَا، وَالْأول أصح وَأشهر.

45

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِن الله يبشرك بِكَلِمَة مِنْهُ} قيل: أَن الْمَلَائِكَة قَالُوا لَهَا ذَلِك مشافهة وعيانا. {أُسَمِّهِ الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم} قَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا سمي مسيحا؛ لِأَنَّهُ مَا مسح ذَا عاهة إِلَّا برِئ، وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: سمي مسيحا؛ لِأَنَّهُ مسح بِالْبركَةِ، وَقيل: الْمَسِيح: الصّديق، وَيكون الْمَسِيح بِمَعْنى: الْكذَّاب، وَهُوَ من الأضداد، وَقيل: سمى مسيحا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يمسح وَجه الأَرْض، ويسيح فِيهَا، وَقيل: إِنَّمَا سمى مسيحا؛ لِأَنَّهُ مَمْسُوح الْقدَم لأخمص قَدَمَيْهِ، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (بَات يقاسيها غُلَام كالزلم ... خديج السَّاقَيْن مَمْسُوح الْقدَم) وَمن ذَلِك سمى الدَّجَّال مسيحا؛ لِأَنَّهُ مسح أحد شقى وَجهه، لَا عين لَهُ. {وجيها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} أَي: رفيعا ذَا جاه عِنْد الله ( {وَمن المقربين}

46

ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَمن الصَّالِحين) أما كَلَامه فِي المهد هُوَ قَوْله فِي سُورَة

{فِي المهد وكهلا وَمن الصَّالِحين (46) قَالَت رب أَنى يكون لي ولد وَلم يمسسني بشر قَالَ كَذَلِك الله يخلق مَا يَشَاء إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون (47) ويعلمه الْكتاب وَالْحكمَة والتوارة وَالْإِنْجِيل (48) ورسولا إِلَى بني إِسْرَائِيل أَنِّي قد جِئتُكُمْ بِآيَة} مَرْيَم {إِنِّي عبد الله} وَأنكر النَّصَارَى كَلَامه فِي المهد سَيَأْتِي بَيَانه، وَأما كَلَامه وَهُوَ كهل، قيل: هُوَ إخْبَاره عَن الْأَشْيَاء المعجزة، وَقيل: هُوَ كَلَامه بعد نُزُوله من السَّمَاء. والكهل: قيل: هُوَ مَا فَوق الْغُلَام، وَدون الشَّيْخ، وَهُوَ ابْن أَربع وَثَلَاثِينَ سنة، وَأَصله: الطول، وَمِنْه: اكتهل النَّبَات إِذا طَال.

47

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت رب أَنى يكون لي ولد وَلم يمسسني بشر} قَالَت ذَلِك تَعَجبا؛ إِذْ لم تكن جرت الْعَادة بِأَن يُولد ولد بِلَا أَب {قَالَ كَذَلِك الله يخلق مَا يَشَاء إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ: كن، فَيكون} أَي: لَا يعسر عَلَيْهِ شَيْء، يفعل مَا يَشَاء، وَيحكم مَا يُرِيد.

48

قَوْله تَعَالَى: {ويعلمه الْكتاب} يقْرَأ: بِالْيَاءِ وَالنُّون، وَالْكتاب: الْخط {وَالْحكمَة} : الْعلم وَالْفِقْه، {والتوراة وَالْإِنْجِيل} علمه الله التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل،

49

{ورسولا إِلَى بني إِسْرَائِيل} . مِنْهُم من قَالَ: كَانَ رَسُولا فِي حَالَة الصِّبَا، وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولا بعد الْبلُوغ. {أَنِّي قد جِئتُكُمْ بِآيَة من ربكُم} مَعْنَاهُ: بآيَات من ربكُم، وَإِنَّمَا اكْتفى بِذكر الْآيَة؛ لِأَن الْكل دَال على شَيْء وَاحِد. {أَنِّي أخلق لكم من الطين} أَي: أقدر وأصور {كَهَيئَةِ الطير فأنفخ فِيهِ فَيكون طيرا بِإِذن الله} قيل: إِن عِيسَى قَالَ لَهُم: أَي شَيْء أَشد خلقا؟ قَالُوا: الخفاش، فَقدر من الطين خفاشا وصوره، وَنفخ فِيهِ؛ فَقَامَ يطير بِإِذن الله.

( {من ربكُم أَنِّي أخلق لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير فأنفخ فِيهِ فَيكون طيرا بِإِذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الْمَوْتَى بِإِذن الله وأنبئكم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدخرون فِي بُيُوتكُمْ} وأبرىء الأكمه) قَالَ أَبُو عبيد: الأكمه الَّذِي ولد أعمى، وَقيل: هُوَ الْأَعْمَش الَّذِي يبصر بِالنَّهَارِ وَلَا يبصر بِاللَّيْلِ {والأبرص} : الَّذِي بِهِ وضح {وأحيى الْمَوْتَى بِإِذن الله} قَالَ ابْن عَبَّاس: قد أَحْيَا أَرْبَعَة: عازر وَابْن الْعَجُوز وَبنت الْعَاشِر وسام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام. فَأَما عازر: فَكَانَ صديقا لعيسى، فَأخْبر بِمَوْتِهِ، فَدَعَا الله تَعَالَى فأحياه [الله] ، وَأما ابْن الْعَجُوز: كَانَ على السرير يحمل إِلَى الْمقْبرَة، فَرَآهُ عِيسَى، فَأمر بِوَضْع السرير، ودعا فأحياه، فَأخذ كفانه، ولبسها وَرجع إِلَى الْبَيْت، وَأما بنت الْعَاشِر: فقد كَانَ رجل يَأْخُذ العشور، مَاتَت لَهُ ابْنة فَدَعَا الله فأحياها، وَأما سَام بن نوح فَإِن عِيسَى جَاءَ إِلَى قَبره ودعا (الله فأحياه) ، فَقَامَ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَقَامَت الْقِيَامَة؟ ! وَقد شَاب نصف رَأسه خوفًا من قيام السَّاعَة. فَقَالَ: لَا، أَنا عِيسَى بن مَرْيَم؛ فَكَلمهُ؛ وَمَات من سَاعَته، وَأما الثَّلَاثَة الَّذين أحياهم عاشوا، وَولد لَهُم. {وأنبئكم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدخرون فِي بُيُوتكُمْ} كَانَ عِيسَى يخبر الرجل بِمَا أكل فِي بَيته البارحة، وَمَا يَأْكُل الْيَوْم، وَمَا أدخره للعشاء، وَقيل أَنه كَانَ فِي الْمكتب يخبر الصَّبِي بِمَا أكل، وَمَا خبأت لَهُ أمه من الطَّعَام، حَتَّى كَانَ الصَّبِي يَأْتِي إِلَى أمه، فيبكي حَتَّى تعطيه الطَّعَام، فيحمله إِلَى عِيسَى، فحبسوا الصّبيان عَن الْمكتب، فجَاء عِيسَى فِي طَلَبهمْ، وَكَانُوا فِي دَار، فَقَالَ: من هَؤُلَاءِ الَّذين فِي الدَّار؟ فَقيل: خنازير، فَقَالَ عِيسَى: يكونُونَ كَذَلِك؛ فصاروا خنازير بِأَمْر الله - تَعَالَى - {إِن فِي ذَلِك لآيَة

{إِن فِي ذَلِك لآيَة لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين (499 ومصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة ولأحل لكم بعض الَّذِي حرم عَلَيْكُم وجئتكم بِآيَة من ربكُم فَاتَّقُوا الله وأطيعون (50) إِن الله رَبِّي وربكم فاعبدواه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم (51) فَلَمَّا أحس عِيسَى مِنْهُم الْكفْر قَالَ من} لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين) .

50

قَوْله تَعَالَى: {ومصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة} يَعْنِي: وأكون مُصدقا، {ولأحل لكم بعض الَّذِي حرم عَلَيْكُم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَرَادَ بِالْبَعْضِ: الْكل، يَعْنِي: كل الَّذِي حرم عَلَيْكُم، وَمثله قَول الشَّاعِر: (أَو يرتبط بعض النُّفُوس حمامها ... ) أَي: كل النُّفُوس، وَقيل: هُوَ على حَقِيقَته، وَقد كَانَ أحل لَهُم بعض مَا حرم عَلَيْهِم فِي التَّوْرَاة من لُحُوم الْإِبِل وثروبها. {وجئتكم بِآيَة من ربكُم} يَعْنِي: بآيَات كَمَا بَينا، {فَاتَّقُوا الله وأطيعون

51

إِن الله رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم) أَي: طَرِيق وَاضح.

52

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أحس عِيسَى مِنْهُم الْكفْر} أَي: أبْصر وَوجد مِنْهُم الْكفْر؛ قَالَ: {قَالَ من أنصارى إِلَى الله} قيل مَعْنَاهُ: من أنصارى مَعَ الله، وَقَالَ النحويون: " إِلَى " فِي موضعهَا، وَلَيْسَت بِمَعْنى " مَعَ "، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: من يضم نصرته إِلَى نصْرَة الله لي {قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله} قَالَ ابْن أبي نجيح: الحواريون: كَانُوا قوما قصارين، سموا بذلك لأَنهم كَانُوا يقصرون الثِّيَاب. وَقيل: كَانُوا صيادين يصطادون السّمك. وَالصَّحِيح أَن الحوارى: صفوة كل شَيْء وخالصته وَمِنْه قَوْله فِي الزبير: " هُوَ ابْن عَمَّتي وَحَوَارِيي من أمتِي "، أَي:

{أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله آمنا بِاللَّه واشهد بِأَنا مُسلمُونَ (52) رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين (53) ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين (54) إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ ومطهرك من الَّذين} صفوتي وخالصتي. وأصل الحوارى: النَّقَاء والنظافة؛ فسموا حواريين؛ لنقاء قُلُوبهم، وَمِنْه يُقَال لِنسَاء الْأَمْصَار: حواريات. قَالَ الشَّاعِر: (فَقل للحواريات يبْكين غَيرنَا ... وَلَا تبكينا إِلَّا الْكلاب النوابح) وَمِنْه الْخبز الحوارى؛ لنقاوته وبياضه. وَأما قَوْله: {نَحن أنصار الله} لأَنهم إِذا نصروا عِيسَى، فكأنهم نصروا الله {آمنا بِاللَّه واشهد بِأَنا مُسلمُونَ} .

53

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا آمنا بِمَا أنزلت وَاتَّبَعنَا الرَّسُول فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين} قيل: مَعَ الشَّاهِدين من أمة مُحَمَّد؛ لأَنهم يشْهدُونَ للرسل بالبلاغ، وَقيل: من الشَّاهِدين على نبوة عِيسَى.

54

قَوْله تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله} الْمَكْر من العَبْد: الْخبث وَالْخداع، وَمن الله تَعَالَى: أَن يَأْخُذ العَبْد بَغْتَة من حَيْثُ لَا يعلم، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ مكرا - على الْمُقَابلَة - لِأَنَّهُ جَزَاء مَكْرهمْ: كَمَا قَالَ: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَالْمرَاد بمكرهم هَا هُنَا: أَنهم احْتَالُوا لقتل عِيسَى، فَقَالَ رجل: أَلا أدلكم على الْبَيْت الَّذِي فِيهِ عِيسَى، فَجَاءُوا مَعَه الْبَيْت الَّذِي كَانَ فِيهِ عِيسَى، فرفعه الله إِلَى السَّمَاء، وَألقى شبه عِيسَى على من دلهم عَلَيْهِ، فَأَخَذُوهُ، وَهُوَ يَصِيح: لست بِعِيسَى، فَقَتَلُوهُ، وَقيل: إِن الدَّال كَانَ وَاحِد من الحواريين؛ فَذَلِك مكر الله {وَالله خير الماكرين} .

55

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك} أَي: وَاذْكُر قَول الله لعيسى: إِنِّي متوفيك {ورافعك إِلَيّ} . فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى التوفي، وَعِيسَى فِي الْأَحْيَاء

{كفرُوا وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأحكم} على زعمكم؟ قُلْنَا: فِيهِ أَقْوَال، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَعْنَاهُ: إِنِّي قابضك من الأَرْض، وَهُوَ صَحِيح عِنْد أهل اللُّغَة، فَيُقَال: توفيت حَقي من فلَان. أَي: قبضت. قَالَ الازهري: كَأَنَّهُ يَقُول: إِنِّي متوفى عدد آبَائِك فِي الأَرْض، وكل شَيْء تمّ فَهُوَ متوفى، ومستوفى، وَقَالَ الْفراء: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: إِنِّي رافعك إِلَى ومتوفيك " أَي: بعد النُّزُول من السَّمَاء. وَقد ثَبت عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " ليهبطن عِيسَى بن مَرْيَم حكما مقسطا يكسر الصَّلِيب وَيقتل الْخِنْزِير "، وَفِي رِوَايَة: " أَنه يقتل الدَّجَّال بِبَاب لد " من دمشق، وَفِي الْأَخْبَار: أَنه يعِيش بعد ذَلِك فِي الأَرْض سبع سِنِين، ويتزوج، ويولد لَهُ. ثمَّ يَمُوت، ويصلوا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ من هَذِه الْأمة. وَهَذَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير الَّذِي ذكرنَا فِي الْآيَة محكى عَن ابْن عَبَّاس وَله قَول آخر: أَن الْآيَة على حَقِيقَة الْمَوْت، وَأَن عِيسَى قد مَاتَ، ثمَّ أَحْيَاهُ الله تَعَالَى وَرَفعه إِلَى السَّمَاء. قَالَ وهب بن مُنَبّه: أَمَاتَهُ الله ثَلَاث سَاعَات من النَّهَار، ثمَّ أَحْيَاهُ الله، وَرَفعه إِلَيْهِ، وَقَالَ الرّبيع ابْن أنس: التوفي: هُوَ النّوم، وَكَانَ عِيسَى قد نَام، فرفعه الله نَائِما إِلَى السَّمَاء، وَالْمَعْرُوف: الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. وَقد روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " رَأَيْت ابْني الْخَالَة: عِيسَى، وَيحيى فِي السَّمَاء الثَّانِيَة لَيْلَة الْمِعْرَاج "، وروى أَيْضا: " أَنه رآهما فِي السَّمَاء الدُّنْيَا " وَالْأول

{بَيْنكُم فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (55) فَأَما الَّذين كفرُوا فأعذبهم عذَابا شَدِيدا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَا لَهُم من ناصرين (56) وَأما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم} أصح، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " رَأَيْت الْمَسِيح بن مَرْيَم يطوف بِالْبَيْتِ " فَدلَّ على أَن الصَّحِيح أَنه فِي الْأَحْيَاء، وَفِي أَخْبَار الْمِعْرَاج: " أَن النَّبِي لقى آدم فِي السَّمَاء الأولى وَعِيسَى فِي السَّمَاء الثَّانِيَة ويوسف فِي السَّمَاء الثَّالِثَة، وَإِدْرِيس فِي السَّمَاء الرَّابِعَة وَهَارُون فِي السَّمَاء الْخَامِسَة ومُوسَى فِي السَّمَاء السَّادِسَة، - وَفِي رِوَايَة السَّمَاء السَّابِعَة - وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاء السَّابِعَة ". قَوْله: {ومطهرك من الَّذين كفرُوا} أَي: مخرجك من أرجاسهم وأنجاسهم، {وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} . وَقيل: أَرَادَ بِهِ النَّصَارَى، وهم فَوق الْيَهُود إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَالْيَهُود أذلّ الْفَرِيقَيْنِ؛ قد ذهب ملكهم، فَلَا يعود أبدا، وَملك النَّصَارَى دَائِم إِلَى قريب من قيام السَّاعَة، وَقيل: أَرَادَ بالذين اتَّبعُوهُ: أمة مُحَمَّد؛ حَيْثُ صدقوه ووافقوه على دين التَّوْحِيد، فهم فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم فَوْقهم بِالْحجَّةِ. وَالثَّانِي: بالعز وَالْغَلَبَة، وَقد قَالَ: " أَنا أولى بِعِيسَى بن مَرْيَم، لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي ". {ثمَّ إِلَى مرجعكم فأحكم بَيْنكُم فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون} .

56

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين كفرُوا فأعذبهم عذَابا شَدِيدا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة}

{أُجُورهم وَالله لَا يحب الظَّالِمين (57) ذَلِك نتلوه عَلَيْك من الْآيَات وَالذكر الْحَكِيم (58) إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون (59) } وَالْعَذَاب فِي الدُّنْيَا: الْقَتْل والأسر والجزية، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة: عَذَاب النَّار. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهُم من ناصرين

57

وَأما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم) أَي: جَزَاء أَعْمَالهم {وَالله لَا يحب الظَّالِمين} أَي: لَا يرحم الْكَافرين، وَلَا يثني عَلَيْهِم بالجميل.

58

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك نتلوه عَلَيْك من الْآيَات} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَالذكر الْحَكِيم} أَي: الذّكر ذِي الْحِكْمَة، وَقيل: الذّكر الْمُحكم الَّذِي لَا يتخلله الْفساد.

59

قَوْله تَعَالَى: {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم} ؛ سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى: أَن وَفد نَجْرَان لما قدمُوا على النَّبِي قَالَ لَهُم: " أَسْلمُوا، فَقَالُوا: نَحن مُسلمُونَ، قَالَ: كَذبْتُمْ؛ يمنعكم من ذَلِك ثَلَاث: قَوْلكُم إِن الله اتخذ ولدا، وسجودكم للصليب، وأكلكم الْخِنْزِير، فَقَالُوا: من أَبُو عِيسَى؟ فَنزلت هَذِه الْآيَة "، وَفِي الْآيَة دَلِيل عَلَيْهِم، ورد لقَولهم، فَقَوله: {إِن مثل عِيسَى} أَي: صفة عِيسَى {عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون} ، يَعْنِي: إِن خلق عِيسَى بِلَا أَب مثل خلق آدم بِلَا أَب، وَلَا أم، وَخلق عِيسَى بِلَا أَب لَيْسَ بأبدع من خلق آدم بِلَا أَب وَلَا أم. فَأَما قَوْله: {ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون} رَاجع إِلَى آدم، فَإِن قَالَ قَائِل: لما ذكر أَنه خلقه من تُرَاب، فَمَا معنى قَوْله بعده {ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون} بعد الْخلق؟ قيل: مَعْنَاهُ: خلقه من تُرَاب، ثمَّ أخْبركُم أَنِّي قلت لَهُ: كن، فَكَانَ من غير تَرْتِيب فِي الْخلق: كَمَا يكون فِي أَوْلَاده، وَهُوَ مثل قَول الرجل: أَعطيتك الْيَوْم درهما، ثمَّ أَعطيتك أمس درهما، أَي: ثمَّ أخْبرك أَنِّي أَعطيتك أمس درهما.

60

قَوْله تَعَالَى: {الْحق من رَبك فَلَا تكن من الممترين} ، فَإِن قيل: أَكَانَ شاكا فِي الْحق حَتَّى نَهَاهُ عَن الشَّك؟ قيل: الْخطاب مَعَ النَّبِي، وَالْمرَاد بِهِ: الْأمة، وَقيل مَعْنَاهُ: قل للشاك فِيهِ: الْحق من رَبك فَلَا تكن من الشاكين.

{الْحق من رَبك فَلَا تكن من الممترين (60) (فَمن حاجك فِيهِ من بعد مَا جَاءَك من} وَاعْلَم أَن فِيمَا سبق من التَّمْثِيل على جَوَاز الْقيَاس دَلِيل، على أَن الْقيَاس هُوَ رد فرع إِلَى أصل بِنَوْع شبه، وَقد رد الله تَعَالَى عِيسَى إِلَى آدم بِنَوْع؛ فَدلَّ على جَوَاز الْقيَاس. والمثل: هُوَ ذكر سَائِر يسْتَدلّ بِهِ على غَيره فِي مَعْنَاهُ.

61

قَوْله تَعَالَى: {فَمن حاجك فِيهِ} أَي: جادلك فِي الْحق {من بعد مَا جَاءَك من الْعلم فَقل تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم وَنِسَاءَنَا ونساءكم وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ ثمَّ نبتهل فَنَجْعَل لعنة الله على الْكَافرين} . هَذَا فِي دُعَاء النَّبِي بني نَجْرَان إِلَى المباهلة، روى سعد بن أبي وَقاص: " أَن النَّبِي أَخذ بيد الْحسن وَالْحُسَيْن وَفَاطِمَة وعَلى، ثمَّ دعاهم إِلَى المباهلة ". فَقَوله: {نَدع أبناءنا} أَرَادَ بِهِ: الْحسن وَالْحُسَيْن، وَقَوله: {وَنِسَاءَنَا} يَعْنِي: فَاطِمَة، وأنفسنا يَعْنِي: نَفسه وعَلى، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {وأنفسنا} وَعلي - رَضِي الله عَنهُ - غَيره؟ قيل: الْعَرَب تسمى ابْن عَم الرجل نَفسه، وَعلي كَانَ ابْن عَمه، وَقيل: ذكره على الْعُمُوم لجَماعَة أهل الدّين. والإبتهال: الإلتعان، وَمِنْه البهلة: وَهِي اللَّعْنَة، يُقَال: عَلَيْك بهلة الله، أَي: لعنة الله، والابتهال: الِاجْتِهَاد فِي دُعَاء اللَّعْنَة. واللعنة: الإبعاد والطرد عَن الرَّحْمَة بطرِيق الْعقُوبَة، قَالَ لبيد: (وكهول سادة من عَامر ... نظر الدَّهْر إِلَيْهِم فابتهل) أَي: نظر الدَّهْر إِلَيْهِم بِالْهَلَاكِ فأفناهم بِاجْتِهَاد فِيهِ. وَفِي الْقِصَّة وكهول " أَن النَّبِي لما دعاهم إِلَى الإبتهال، وَجعل اللَّعْنَة على

{الْعلم فَقل تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم وَنِسَاءَنَا نساءكم وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ ثمَّ نبتهل فَنَجْعَل لعنة الله على الْكَاذِبين (61) إِن هَذَا لَهو الْقَصَص الْحق وَمَا من إِلَه إِلَّا الله وَإِن الله لَهو الْعَزِيز الْحَكِيم (62) فَإِن توَلّوا فَإِن الله عليم بالمفسدين (63) قل يَا أهل} الْكَاذِب من الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ الأسقف لَهُم: لَا تباهلوا؛ فَإِنَّكُم لَو ابتهلتهم؛ لاضطرم عَلَيْكُم الْوَادي نَارا، فَقَالُوا للنَّبِي: وَهل غير المباهلة؟ قَالَ الْإِسْلَام أَو الْحَرْب أَو الْجِزْيَة، فقبلوا الْجِزْيَة، وَانْصَرفُوا "، وَقَالَ النَّبِي: " لَو تلاعنوا لصاروا قردة وَخَنَازِير " وَفِي رِوَايَة " لَو تلاعنوا لم يبْق فِي الدُّنْيَا نَصْرَانِيّ وَلَا نَصْرَانِيَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".

62

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا لَهو الْقَصَص الْحق} أَي: النبأ الْحق {وَمَا من إِلَه إِلَّا الله} " من " صلَة، وَتَقْدِيره: وَمَا إِلَه إِلَّا الله {وَإِن الله لَهو الْعَزِيز الْحَكِيم} .

63

{فَإِن توَلّوا} أَي: أَعرضُوا {فَإِن الله عليم بالمفسدين} أَي: بِمن يفْسد مِنْهُم.

64

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أهل الْكتاب} الْخطاب مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى {تَعَالَوْا إِلَى كلمة} الْعَرَب تسمى كل قصَّة لَهَا شرح: كلمة، وَمِنْه سميت القصيد: كلمة. {سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم} أَي: عدل، وَمِنْه قَول زُهَيْر بن أبي سلمى:

{الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَلا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ (64) يَا أهل الْكتاب لم تحاجون فِي إِبْرَاهِيم وَمَا أنزلت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا من بعده أَفلا تعقلون} (أروني خطة لَا ضيم فِيهَا ... يسوى بَيْننَا فِيهَا السوَاء) (فَإِن ترك السوَاء فَلَيْسَ بيني ... وَبَيْنكُم بني عَمْرو لِقَاء) وَأَرَادَ بالسواء: الْعدْل. {أَلا نعْبد إِلَّا الله} سَبَب هَذَا: أَن الْيَهُود قَالُوا: لَا يُرِيد مُحَمَّد منا إِلَّا أَن نعبده، وَكَذَلِكَ قَالَت النَّصَارَى؛ فَنزلت الْآيَة {قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم} ، مَعْنَاهُ: تَعَالَوْا إِلَى أَمر نستوي فِيهِ: وَهُوَ أَن لَا نعْبد إِلَّا الله، ولنتفق جَمِيعًا على عِبَادَته {وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا} . {وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله} قَالَ عِكْرِمَة: أَي: لَا يسْجد بَعْضنَا لبَعض؛ فَإِن من سجد لغيره فقد اتَّخذهُ رَبًّا. وَقيل: هُوَ طَاعَة الْخلق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق {فَإِن توَلّوا} أَي: فَإِن أَعرضُوا {فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ} أَي: بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَهَذَا الْأَمر.

65

قَوْله تَعَالَى: {يَا أهل الْكتاب لم تحاجون فِي إِبْرَاهِيم} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى اخْتَصَمُوا [إِلَى] النَّبِي فِي إِبْرَاهِيم، فَقَالَت الْيَهُود: هُوَ منا، وَقَالَت النَّصَارَى: لَا، بل منا؛ فَنزل قَوْله: {لم تحاجون} لم تجادلون {فِي إِبْرَاهِيم وَمَا أنزلت التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلَّا من بعده أَفلا تعقلون} ، مَعْنَاهُ أَن الْيَهُودِيَّة محرفة من التَّوْرَاة، والنصرانية محرفة من الْإِنْجِيل، والتوراة وَالْإِنْجِيل أَنْزَلَتَا بعد إِبْرَاهِيم. فَكيف تدعون أَنه على الْيَهُودِيَّة أَو على النَّصْرَانِيَّة؟ وَأما التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فقد ذكرنَا

( {65) هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ حاججتم فِيمَا لكم بِهِ علم فَلم تحاجون فِيمَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفا مُسلما وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (67) إِن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ وَهَذَا النَّبِي} اشتقاقها، وَقيل لَيْسَ لَهما اشتقاق، وهما اسمان بالسُّرْيَانيَّة.

66

قَوْله تَعَالَى: {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ} " هَا " للتّنْبِيه، وَمَعْنَاهُ: يَا هَؤُلَاءِ، أَنْتُم {حاججتم} جادلتم {فِيمَا لكم بِهِ علم فَلم تحاجون فِيمَا لَيْسَ لكم بِهِ علم} أَي: جادلتم فِي أَمر مُوسَى وَعِيسَى، وادعيتم أَنا على دين مُوسَى وَعِيسَى، وَقد أنزلت أمره عَلَيْكُم، فَلم تجادلون فِي أَمر إِبْرَاهِيم، وَلم أنزلهُ عَلَيْكُم، وَلَا علم لكم بِهِ؟ ! {وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} .

67

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا} أخبر الله تَعَالَى أَنه لَيْسَ على مَا ادعوا من الْيَهُودِيَّة و [لَا] النَّصْرَانِيَّة، {وَلَكِن كَانَ حَنِيفا مُسلما} . والحنيف: هُوَ المائل إِلَى الدّين، والمستقيم عَلَيْهِ، وَمِنْه: الْأَحْنَف: وَهُوَ المائل الْقدَم، وَقَالَ مُجَاهِد: الحنيف: المتبع، وَقَالَ الضَّحَّاك: الحنيف: الْحَاج. فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ {حَنِيفا مُسلما} وَالْمُسلم: هُوَ الَّذِي يكون على جَمِيع مَا أَتَى بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله، وَإِبْرَاهِيم لم يكن على جملَة شَرِيعَته؟ قيل: قد كَانَ على بعض شَرِيعَته؛ فَيكون بذلك مُسلما؛ كمن مَاتَ من هَذِه الْأمة فِي بَدْء الْأَمر، كَانَ مُسلما بِبَعْض شَرِيعَته؛ فَإِنَّهَا إِنَّمَا تمت، واستقرت فِي آخر الْأَمر، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: {مُسلما} بِمَعْنى: الانقياد من قَوْله: {أسلم قَالَ أسلمت لرب الْعَالمين} ؛ فَلذَلِك قَالَ: {حَنِيفا مُسلما وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} .

68

قَوْله تَعَالَى: {إِن أولى النَّاس بإبراهيم للَّذين اتَّبعُوهُ} : من اتبعهُ فِي زَمَانه. {وَهَذَا النَّبِي} يَعْنِي مُحَمَّدًا (وَالَّذين آمنُوا) يَعْنِي: من هَذِه الْأمة {وَالله ولي الْمُؤمنِينَ} .

69

قَوْله تَعَالَى: {ودت طَائِفَة من أهل الْكتاب} أَي: تمنت طَائِفَة من أهل

{وَالَّذين آمنُوا وَالله ولي الْمُؤمنِينَ (68) ودت طَائِفَة من أهل الْكتاب لَو يضلونكم وَمَا يضلون إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أهل الْكتاب لم تكفرون بآيَات الله وَأَنْتُم تَشْهَدُون (70) يَا أهل الْكتاب لم تلبسُونَ الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتمون الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} الْكتاب. {لَو يضلونكم} لَو يردونكم إِلَى الضَّلَالَة، وَمَا هم عَلَيْهِ من الْيَهُودِيَّة والنصرانية {وَمَا يضلون إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ} .

70

قَوْله تَعَالَى: {يَا أهل الْكتاب لم تكفرون بآيَات الله وَأَنْتُم تَشْهَدُون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ: لم تكفرون بنعت مُحَمَّد وَصفته، وَأَنْتُم تشاهدونه فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل؟ {. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: لم تكفرون بِمَا ياتي [بِهِ] مُحَمَّد من الدلالات والمعجزات، وَأَنْتُم تقرون بِمِثْلِهَا مِمَّا اتى بِهِ مُوسَى وَعِيسَى؟}

71

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أهل الْكتاب لم تلبسُونَ الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتمون الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} مَعْنَاهُ: لم تخلطون الْإِيمَان بِعِيسَى - وَهُوَ الْحق - بالْكفْر بِمُحَمد - وَهُوَ الْبَاطِل -؟ وَقيل مَعْنَاهُ: لم تغطون " الْحق " من نعت مُحَمَّد بالتغيير " الْبَاطِل "؟ ! .

72

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْكتاب آمنُوا بِالَّذِي أنزل على الَّذين آمنُوا وَجه النَّهَار، واكفروا آخِره لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أما وَجه النَّهَار: أَوله، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (من كَانَ مَسْرُورا بمقتل مَالك ... فليأت نسوتنا بِوَجْه نَهَار) أَي: أول النَّهَار، وَهَذَا فِي الْيَهُود، قَالُوا: نؤمن بِمُحَمد فِي أول النَّهَار، ثمَّ نكفر بِهِ آخر النَّهَار؛ حَتَّى (يتهمه) النَّاس (ويقولوا) : قد ظهر مِنْهُ شَيْء؛ حَتَّى كفرُوا بِهِ، وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا: نصدقه فِي الْبَعْض، ونكذبه فِي الْبَعْض؛ حَتَّى يَقُول النَّاس: صدقوه فِيمَا كَانَ صَادِقا، وكذبوه فِيمَا كَانَ كَاذِبًا (فيستريبون) بِحَالهِ.

{وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْكتاب آمنُوا بِالَّذِي أنزل على الَّذين آمنُوا وَجه النَّهَار وأكفروا آخِره لَعَلَّهُم يرجعُونَ (72) وَلَا تؤمنوا إِلَّا لمن تبع دينكُمْ قل إِن الْهدى هدى الله أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ أَو يحاجوكم عِنْد ربكُم قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من} {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: من تبعه فِي دينه، وَيكون وَجه النَّهَار وَآخره بِمَعْنى: الْبَعْض على القَوْل الثَّانِي.

73

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تؤمنوا إِلَّا لمن تبع دينكُمْ} أَي: لَا تصدقوا إِلَّا من تبع دينكُمْ، " وَاللَّام " فِيهِ زَائِدَة كَمَا قَالَ: {قَالَ عَسى أَن يكون ردف لكم} أَي: ردفكم. وَهَذَا فِي الْيَهُود أَيْضا، قَالُوا: لَا تصدقوا إِلَّا من وافقكم فِي ملتكم. ثمَّ ابْتَدَأَ الله تَعَالَى فَقَالَ: {قل إِن الْهدى هدى الله} أَي: إِن الْبَيَان بَيَان الله. {أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ} أَي: وَلَا يحاجونكم عِنْد ربكُم؛ فَإِن الْحجَّة لكم عَلَيْهِم، وَلَيْسَت لَهُم عَلَيْكُم عِنْد الله. وقتا مُحَمَّد بن يزِيد الْمبرد: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير: قَوْله: {وَلَا تؤمنوا} أَي: لَا تصدقوا {أَن يُؤْتى أحد مثل مل أُوتِيتُمْ} من الدلالات والآيات من الْمَنّ والسلوى وَنَحْوه. {إِلَّا لمن تبع دينكُمْ} إِلَّا لمن وافقكم فِي الْيَهُودِيَّة {أَو يحاجوكم عِنْد ربكُم} أَي إِن صدقتموهم، يحاجونكم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم، فَيَقُولُونَ: نَحن مثلكُمْ، أَو خير مِنْكُم، فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ حَتَّى لَا يحاجوكم عِنْد ربكُم. إِلَى هَا هُنَا كَلَام الْيَهُود ثمَّ ابْتَدَأَ الله تَعَالَى فَقَالَ: {قل: أَن الْهدى هدى الله} وَقيل: مَعْنَاهُ {وَلَا تؤمنوا إِلَّا لمن تبع دينكُمْ} أَي: وَلَا تصدقوا أَن النُّبُوَّة فِي غير بني إِسْحَاق، وَأَنَّهَا فِي بني إِسْمَاعِيل. [قَوْله تَعَالَى] {قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم

74

يخْتَص

{يَشَاء وَالله وَاسع عليم (73) يخْتَص برحمته من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (74) وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك إِلَّا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا لَيْسَ علينا فِي الْأُمِّيين سَبِيل وَيَقُولُونَ على الله الْكَذِب وهم يعلمُونَ (75) } برحمته من يَشَاء) قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدّين. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ النُّبُوَّة. وَقَالَ ابْن جريج: هُوَ الْقُرْآن وَالْإِسْلَام (وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم) .

75

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أهل الْكتاب من إِن تأمنه بقنطار يؤده إِلَيْك} قد ذكرنَا الْأَقْوَال فِي القنطار، وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: هُوَ سِتّ آلَاف دِينَار. وَهَذَا فِي عبد الله بن سَلام؛ أودعهُ رجل أَلفَيْنِ ومأتي أُوقِيَّة من الذَّهَب فَأدى الْأَمَانَة فِيهِ. {وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك} هَذَا فِي فنحَاص بن عازوراء الْيَهُودِيّ؛ أودعهُ رجل دِينَارا فخان فِيهِ. {إِلَّا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما} أَي: لَا يؤده إِلَيْك إِلَّا مَا دمت على رَأسه قَائِما تطالبه. وَقيل: أَرَادَ بِالْقيامِ: الإلحاح والمطالبة. {ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا لَيْسَ علينا فِي الْأُمِّيين سَبِيل} قَالَت الْيَهُود: لَيْسَ علينا فِي أَخذ أَمْوَال الْعَرَب حرج، كَأَنَّهُمْ استحلوا أَمْوَال الْأُمِّيين: وهم الْعَرَب، مُحَمَّد وَأَصْحَابه. {وَيَقُولُونَ على الله الْكَذِب وهم يعلمُونَ}

76

{بلَى} عَلَيْهِم سَبِيل؛ ذكره جَوَابا لقَولهم. قَالَت النُّحَاة: وَهُوَ وقف تَامّ، ثمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: {من أوفى بعهده وَاتَّقَى} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَاتَّقَى الشّرك {فَإِن الله يحب الْمُتَّقِينَ} الْمُوَحِّدين.

77

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَإِيمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} روى أَبُو وأئل - وَهُوَ شَقِيق بن سَلمَة - عَن ابْن مَسْعُود، عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " من حلف على يَمِين كَاذِبَة؛ ليقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم، لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان،

{بلَى من أوفى بعهده وَاتَّقَى فَإِن الله يحب الْمُتَّقِينَ (76) إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ لَا خلاق لَهُم فِي الْآخِرَة وَلَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم} وتلا هَذِه الْآيَة قَالَ: وَكَانَ الْأَشْعَث بن قيس حَاضرا، فَقَالَ: فِي نزلت الْآيَة، وَذكر قصَّة " وَهَذَا حَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه بِرِوَايَة أُخْرَى، وَزَاد فِيهِ أَنه: " قيل: يَا رَسُول الله، وَإِن كَانَ فِي شَيْء يسير؟ قَالَ: وَإِن كَانَ فِي قضيب من أَرَاك ". وروى مُسلم أَيْضا فِي كِتَابه بِرِوَايَة ثَالِثَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة، وَلَا يزكيهم [وَلَهُم عَذَاب أَلِيم] : المنان بِمَا أعْطى والمسبل إزَاره، والمنفق سلْعَته بِالْيمن الكاذبة ". فَقَوله: {إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} أَي: شَيْء قَلِيل من حطام الدُّنْيَا {أُولَئِكَ لَا خلاق لَهُم فِي الْآخِرَة} أَي: لَا حَظّ لَهُم فِيهَا. {وَلَا يكلمهم الله} أَي: وَلَا يكلمهم كَمَا يكلم الْمُؤمنِينَ؛ وَقد صَحَّ أَنه جلّ جَلَاله - يكلم الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة من غير ترجمان، وَقيل: هُوَ بِمَعْنى: الْغَضَب، كَمَا يُقَال: أَنا لَا أكلم فلَانا، إِذا كَانَ غضبانا عَلَيْهِ {وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة} يَعْنِي: لَا ينظر إِلَيْهِم بِالرَّحْمَةِ. {وَلَا يزكيهم} لَا يثني عَلَيْهِم بالجميل، وَلَا يطهرهم من الذُّنُوب {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} .

{الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (77) وَإِن مِنْهُم لفريقا يلوون ألسنتهم بِالْكتاب لتحسبوه من الْكتاب وَمَا هُوَ من الْكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله وَيَقُولُونَ على الله الْكَذِب وهم يعلمُونَ (78) مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم}

78

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن مِنْهُم لفريقا يلوون ألسنتهم بِالْكتاب} أَي: يغيرون، ويحرفون الْكتاب بألسنتهم. وَقيل: يعدلُونَ بألسنتهم عَن الْكتاب {لتحسبوه} لتظنوه {من الْكتاب وَمَا هُوَ من الْكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ من عِنْد الله وَمَا هُوَ من عِنْد الله وَيَقُولُونَ على الله الْكَذِب وهم يعلمُونَ} . قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة} سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى اجْتَمعُوا عِنْد النَّبِي واختصموا فِي إِبْرَاهِيم، فَقَالَت كل فرقة: هُوَ منا، فَقَالَ: كَذبْتُمْ؛ فغضبوا، وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، لَا تُرِيدُ منا إِلَّا أَن نتخذك رَبًّا؛ فَنزلت الْآيَة ".

79

{مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب} يَعْنِي: الْقُرْآن، {وَالْحكم} الْأَحْكَام، وَالْحكمَة: السّنة {والنبوة} الْمنزلَة الرفيعة بالأنبياء. {ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله} أَي: عبيدا لي من دون الله وَقيل: أَرَادَ بالبشر: عِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - لأَنهم كَانُوا يدعونَ أَن عِيسَى أَمرهم أَن يعبدوه، ويتخذوه رَبًّا، فَقَالَ: {مَا كَانَ لبشر} يَعْنِي: عِيسَى. {أَن يؤتيه الله الْكتاب} يَعْنِي: الْإِنْجِيل {وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله وَلَكِن كونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ الْكتاب} . قَالَ سعيد بن جُبَير: الرباني: الْفَقِيه الْعَالم الَّذِي يعْمل بِعِلْمِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاك: الرباني: الْعَالم الْحَكِيم. وَفِي الْخَبَر: " كونُوا عُلَمَاء حلماء ". والرباني من طَرِيق المعني: هُوَ أَن يكون على دين الرب وعَلى طَرِيق الرب.

{والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله وَلَكِن كونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ الْكتاب وَبِمَا كُنْتُم تدرسون (79) وَلَا يَأْمُركُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة والنبيين أَرْبَابًا أيأمركم} وَقيل هُوَ من التربية، فالرباني هُوَ الَّذِي رَبِّي بصغار الْعلم حَتَّى بلغ كباره، وروى: أَن ابْن عَبَّاس لما توفّي، قَامَ مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة على قَبره، وَقَالَ: الْيَوْم مَاتَ رباني هَذِه الْأمة. وَقَالَ مُجَاهِد: الربانيون فَوق الْأَحْبَار؛ فالأحبار: الْعلمَاء، والربانيون: الَّذين جمعُوا مَعَ الْعلم البصيرة بسياسة النَّاس. {بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ} - بِالتَّشْدِيدِ - من تَعْلِيم الْقُرْآن، وبالتخفيف من الْعلم. {وَبِمَا كُنْتُم تدرسون} تقرءون.

80

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَأْمُركُمْ} يقْرَأ بِالرَّفْع على الِابْتِدَاء، أَي: وَلَا يَأْمُركُمْ الله، وَيقْرَأ بِنصب الرَّاء على النسق، أَي: وَلَا يَأْمُركُمْ ذَلِك الْبشر {أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة والنبيين أَرْبَابًا} فالنصارى: هم الَّذين اتَّخذُوا النَّبِيين أَرْبَابًا، والصائبون: هم الَّذين اتَّخذُوا الْمَلَائِكَة أَرْبَابًا. {أيامركم بالْكفْر بعد إِذْ أَنْتُم مُسلمُونَ} أَي: لَا يَأْمُركُمْ بالْكفْر بعد الْإِسْلَام.

81

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب " {لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة} : هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ فِي معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: معنى الْآيَة: وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب مَعَ النَّبِيين. قَالَ ابْن عَبَّاس: لما استخرج الله الذُّرِّيَّة من صلب آدم كالذر،

{بالْكفْر بعد إِذْ أَنْتُم مُسلمُونَ (80) وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه قَالَ أأقررتم وأخذتم على ذَلِكُم إصري قَالُوا أقررنا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعكُمْ من الشَّاهِدين (81) فَمن تولى بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ (82) أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} والأنبياء كَانُوا فيهم كالمصابيح والسرج، أَخذ الْمِيثَاق على النَّبِيين أَن يُؤمنُوا بِمُحَمد وَأَن يصدقوه، وينصروه إِن أدركوه. فَهَذَا معنى قَوْله: {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة} ، وَقَرَأَ حَمْزَة " لما آتيتكم " مخففا بِكَسْر اللَّام، وَقَرَأَ غَيره: " لما آتيتكم " بِفَتْح اللَّام مشددا، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: بِفَتْح اللَّام مخففا، وَمَعْنَاهُ: للَّذي آتيتكم بِمَعْنى الْخَبَر. وَقيل: مَعْنَاهُ: لَئِن آتيتكم بِمَعْنى: الشَّرْط، {ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه} يَعْنِي: مُحَمَّدًا. {قَالَ أأقررتم} أَي: أقرُّوا {وأخذتم على ذَلِكُم إصري} أَي: عهدي. والإصر: الْعَهْد الثقيل {قَالُوا أقررنا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعكُمْ من الشَّاهِدين} . وَقَالَ الضَّحَّاك: إِنَّمَا أَخذ الْمِيثَاق على النَّبِيين خَاصَّة كَمَا نطقت بِهِ الْآيَة، فَأخذ الْمِيثَاق على كل نَبِي أَن يُؤمن بِالَّذِي يَأْتِي بعده من الْأَنْبِيَاء وينصره، فَأخذ الْمِيثَاق على مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُؤمن بِعِيسَى، وعَلى عِيسَى أَن يُؤمن بِمُحَمد وَنَحْو ذَلِك.

82

ثمَّ قَالَ: {فَمن تولى بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ أفغير دين الله يَبْغُونَ} يطْلبُونَ، يقْرَأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء. {وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} قَالَ ابْن عَبَّاس: لما خاطبهم بقوله: {أَلَسْت بربكم} أسلم الْكل، وَقَالُوا: بلَى، وَلَكِن بَعضهم قَالُوا: بلَى،

{وَإِلَيْهِ يرجعُونَ (83) قل آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل علينا وَمَا أنزل على إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى والنبيون من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ (84) وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين (85) كَيفَ يهدي الله قوما كفرُوا بعد إِيمَانهم وشهدوا أَن الرَّسُول حق وجاءهم الْبَينَات} طَوْعًا وَبَعْضهمْ كرها. وَقيل: أسلم من فِي السَّمَوَات طَوْعًا، وَأسلم من فِي الأَرْض كرها وطوعا، وَبَعْضهمْ طَوْعًا، وَبَعْضهمْ كرها؛ لخوف السَّيْف {وَإِلَيْهِ ترجعون} .

84

قَوْله تَعَالَى: {قل آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل علينا وَمَا أنزل على إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط} لما ذكر الْملك والأديان، واضطراب النَّاس فِيهَا، أَمر رَسُوله أَن يَقُول: {آمنا بِاللَّه} الْآيَة، وَقد ذكرنَا معنى الأسباط وَمَا قيل فِيهِ {وَمَا أُوتى مُوسَى وَعِيسَى والنبيون من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ} .

85

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} وَحقّ لمن يَبْتَغِي غير دين الْإِسْلَام أَن يصبح غَدا من الخاسرين.

86

قَوْله تَعَالَى: {كَيفَ يهدي الله قوما كفرُوا بعد إِيمَانهم وشهدوا أَن الرَّسُول حق وجاءهم الْبَينَات} يَعْنِي: لَا يهْدِيهم الله، وَهُوَ مثل قَول عبد الله بن قيس الرقيات: (كَيفَ نومي على الْفراش ... وَلما تشْتَمل السآم غَارة شعواء؟) أَي: لَا نوم لي على الْفراش. وَالْآيَة نزلت فِي الْحَارِث بن أَوْس بن الصَّامِت؛ فَإِنَّهُ ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام، وَلحق بِمَكَّة، وَأقَام مُدَّة، ثمَّ أرسل إِلَى الْمُسلمين فِي أَن يرجع إِلَى الْإِسْلَام؛ فَنزلت الْآيَة {كَيفَ يهدي الله قوما كفرُوا بعد إِيمَانهم} . قَالَ الزّجاج: يَعْنِي: أَنهم يسْتَحقُّونَ الضَّلَالَة، وَلَا يسْتَحقُّونَ الْهِدَايَة {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين

87

أُولَئِكَ جزاؤهم أَن عَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) .

{وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (86) أُولَئِكَ جزاؤهم أَن عَلَيْهِم لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ (87) خَالِدين فِيهَا لَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب وَلَا هم ينظرُونَ (88) إِلَّا الَّذين تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (89) إِن الَّذين كفرُوا بعد إِيمَانهم ثمَّ ازدادوا كفرا لن تقبل تَوْبَتهمْ وَأُولَئِكَ هم الضالون (90) إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم كفار فَلَنْ يقبل} فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: {وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} فَكَذَلِك يتَنَاوَل نَفسه أَيْضا، فَكيف يلعن على نَفسه؟ قيل: أَرَادَ فِي الْقِيَامَة يلعن بَعضهم بَعْضًا، ويلعنون أنفسهم. وَقيل: إِنَّهُم يلعنون الظَّالِمين والكافرين؛ فَذَلِك لعنهم على أنفسهم؛ لِأَن من لعن الظَّالِمين والكافرين، وَهُوَ ظَالِم وَكَافِر فقد لعن نَفسه.

88

{خَالِدين فِيهَا لَا يُخَفف عَنْهُم الْعَذَاب وَلَا هم ينظرُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} يَعْنِي بِهَذَا: الْحَارِث بن أَوْس؛ فَإِنَّهُ تَابَ وَأسلم فَقبلت تَوْبَته.

90

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين كفرُوا بعد إِيمَانهم ثمَّ ازدادوا كفرا لن تقبل تَوْبَتهمْ} هَذَا فِي قوم كَانُوا مَعَ الْحَارِث بن أَوْس وَارْتَدوا، فَلَمَّا رَجَعَ هُوَ إِلَى الْإِسْلَام أَمْسكُوا عَن الْإِسْلَام أُولَئِكَ الْقَوْم، وَقَالُوا: نتربص الدَّهْر بِمُحَمد، فَإِن ساعده الزَّمَان، وَنفذ أمره نرْجِع إِلَى دينه؛ فَنزلت الْآيَة. {إِن الَّذين كفرُوا بعد إِيمَانهم} أَي: ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام بعد إِيمَانهم {ثمَّ ازدادوا كفرا} بقَوْلهمْ: إِنَّا نتربص بِمُحَمد ريب الْمنون {لن تقبل تَوْبَتهمْ} قَالَ أبوالعالية: لأَنهم لم يَكُونُوا محققين للتَّوْبَة، بل كَانُوا متربصين {وَأُولَئِكَ هم الظالون} وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الَّذين كفرُوا بعد إِيمَانهم بِعِيسَى؛ ازدادوا كفرا بِمُحَمد {لن تقبل تَوْبَتهمْ} عِنْد النَّاس {وَأُولَئِكَ هم الظالون} .

91

قَوْله تَعَالَى: (إِن الَّذين كفرُوا وماتوا وهم كفار فَلَنْ يقبل من أحدهم ملْء الأَرْض ذَهَبا وَلَو افتدى بِهِ) يَعْنِي: لَو افتدى بِهِ، و " الْوَاو " زَائِدَة مقحمة، وَقيل: تَقْدِير الْآيَة: فَلَنْ يقبل من أحدهم أَن يتَبَرَّع بملء الأَرْض ذَهَبا، وَلَو افتدى بِهِ أَيْضا لَا يقبل {أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم وَمَا لَهُم من ناصرين} .

92

قَوْله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} قَالَ ابْن مَسْعُود وَعَمْرو بن مَيْمُون

{من أحدهم ملْء الأَرْض ذَهَبا وَلَو افتدى بِهِ أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم وَمَا لَهُم من ناصرين (91) لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون وَمَا تنفقوا من شَيْء فَإِن الله بِهِ عليم (92) كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه من قبل أَن تنزل التَّوْرَاة قل فَأتوا} ومسروق بن الأجدع أَبُو عَائِشَة: الْبر: الْجنَّة هَا هُنَا. وَقيل: هُوَ الْعَمَل الصَّالح. وَقيل: هُوَ الثَّوَاب، وَفِي الْخَبَر: " عَلَيْكُم بِالصّدقِ؛ فَأَنَّهُ يهدي إِلَى الْبر، وَالْبر يهدي إِلَى الجنه، وَإِيَّاكُم وَالْكذب؛ فَإِن الْكَذِب يهدي إِلَى الْفُجُور، والفجور يهدي إِلَى النَّار ". {حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} قيل: أَرَادَ بِالْإِنْفَاقِ: أَدَاء الزَّكَاة. وَقيل: أَدَاء جَمِيع الصَّدقَات. وَقيل: كل إِنْفَاق يَبْتَغِي بِهِ مرضات الله تَعَالَى ينَال بِهِ هَذَا الْبر. وروى أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ أَبُو طَلْحَة: " يَا رَسُول الله، إِنِّي أرى الله يسألنا أَمْوَالنَا، فأشهدك أَنِّي جعلت حَائِط كَذَا لله تَعَالَى فَقَالَ: اقسمه بَين الْفُقَرَاء قرابتك، فَقَسمهُ بَين أبي وَحسان ". وروى أَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ - اشْترى جَارِيَة كَانَ قد هويها، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا أعْتقهَا، وَزوجهَا رجلا، وتلا قَوْله تَعَالَى ( {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} وَمَا تنفقوا من شَيْء فَإِن الله بِهِ عليم) أَي: يُعلمهُ، أَي: يجازى عَلَيْهِ.

93

قَوْله تَعَالَى: (كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل) سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الْيَهُود قَالُوا لرَسُول الله: إِنَّك تزْعم أَنَّك على مِلَّة إِبْرَاهِيم، وَكَانَ لَا يَأْكُل لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا وَأَنت تأكلها، فلست على مِلَّة إِبْرَاهِيم؛. فَنزلت الْآيَة {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه من قبل أَن تنزل التَّوْرَاة} يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمر على مَا قَالُوا من حُرْمَة لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا على إِبْرَاهِيم، بل كَانَ (الْكل)

{بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين (93) فَمن افترى على الله الْكَذِب من بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (94) قل صدق الله فاتبعوا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (95) إِن أول بَيت وضع للنَّاس ببكة مُبَارَكًا وَهدى للْعَالمين (96) فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم} حَلَالا لَهُ ولبني إِسْرَائِيل، وَإِنَّمَا حرمهَا يَعْقُوب على نَفسه قبل نزُول التَّوْرَاة، يَعْنِي: أَن حرمتهَا لَيست فِي التَّوْرَاة، وَلَا فِي شرع إِبْرَاهِيم، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء حرمه إِسْرَائِيل على نَفسه، وَسبب تَحْرِيمه ذَلِك على نَفسه: أَنه أشتكى عرق النسا، وَكَانَ لَهُ من ذَلِك زقاء - أَي صياح - فَقَالَ: إِن شفاني الله مِنْهُ لأحرمن أحب الطَّعَام إِلَيّ لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا، فشفاه الله؛ فَحَرمهَا على نَفسه. {قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين} طالبهم بالإتيان بِالتَّوْرَاةِ حجَّة على مَا ادعوا فَلم يَأْتُوا بهَا؛ إِذْ لم يكن تَحْرِيمهَا فِي التَّوْرَاة، فعجزوا عَن الْإِتْيَان بِالتَّوْرَاةِ وَكَانَ ذَلِك كالمعجزة للرسول عَلَيْهِم.

94

قَوْله تَعَالَى: {فَمن افترى على الله الْكَذِب من بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} وَقد ذكرنَا معنى الافتراء وَالظُّلم.

95

قَوْله تَعَالَى: {قل صدق الله} يَعْنِي: فِيمَا أخبر وَأنزل {فاتبعوا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} وَإِنَّمَا دعاهم إِلَى إتباع مِلَّة إِبْرَاهِيم؛ لِأَن فِي اتِّبَاع مِلَّته اتِّبَاعه، وَفِي اتِّبَاعه اتِّبَاع مِلَّته، {وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} .

96

قَوْله تَعَالَى: {إِن أول بَيت وضع للنَّاس ببكة مُبَارَكًا} روى أَبُو ذَر: " أَنه سَأَلَ رَسُول الله أَي الْمَسَاجِد وضع أَولا؟ فَقَالَ: الْمَسْجِد الْحَرَام. (قلت) : ثمَّ أَي؟ قَالَ: الْمَسْجِد الْأَقْصَى، قلت: كم بَينهمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَاما، ثمَّ قَالَ: أَيْنَمَا أَدْرَكتك الصَّلَاة، فصل؛ فَإِنَّهُ لَك مَسْجِد ". وروى خَالِد بن عرْعرة عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أَرَادَ بِهِ: أَن أول بَيت وضع للنَّاس مُبَارَكًا مَعَ الرَّحْمَة وَالْبركَة، والآيات الْبَينَات للَّذي ببكة. وَقيل: أول مَا خلق الله تَعَالَى من الأَرْض مَوضِع الْبَيْت، ثمَّ مِنْهُ خلق جَمِيع الأَرْض،

{وَمن دخله كَانَ آمنا وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمن كفر فَإِن الله غَنِي} وَأول مَا خلق من الْجبَال جبل أبي قبيس. وَفِي الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى أَمر الْمَلَائِكَة بِبِنَاء الْبَيْت قبل خلق آدم بألفي عَام، وَكَانَت الْمَلَائِكَة يحجونه، فَلَمَّا حجه آدم، قَالَت الْمَلَائِكَة: بر حجك، حجَجنَا هَذَا الْبَيْت قبلك بألفي عَام. وَأما بكة فَالصَّحِيح: أَن بكة وَمَكَّة بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَمثله: طين لازب ولازم، وسمل رَأسه وسبل بِمَعْنى وَاحِد. وَقيل: (أَنه) مَوضِع الْبَيْت، وَمَكَّة جَمِيع الْقرْيَة. وَقيل: إِنَّمَا سميت ببكة، لِأَن النَّاس يتباكون فِيهَا، أَي: يزدحمون، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (إِذا الشريب أَخَذته أكه ... فخله حَتَّى يبك بكة) وَقَوله: {مُبَارَكًا وَهدى للْعَالمين} أَي: وضع ذَلِك الْبَيْت ذَا بركَة وَهدى للْعَالمين.

97

{فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم} قرىء: " فِيهِ آيَة بَيِّنَة " على الوحدان، وَهِي مقَام إِبْرَاهِيم، وَالْمَعْرُوف: {فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم} . من تِلْكَ الْآيَات: مقَام إِبْرَاهِيم: وَهُوَ الْحجر الَّذِي فِيهِ أثر أَصَابِع قدم إِبْرَاهِيم، وَكَانَ قد بَقِي أَثَره فِيهِ، فاندرس من كَثْرَة الْمسْح بِالْأَيْدِي، وَقيل مقَام إِبْرَاهِيم: جَمِيع الْحرم. وَمن الْآيَات فِي الْبَيْت أَيْضا: أَن الطير يطير فَلَا يَعْلُو فَوْقه، كَذَا قيل، وَمِنْهَا: أَن الْجَارِحَة إِذا قصدت صيدا، فَإِذا دخل الصَّيْد الْحرم كفت عَنهُ، وَمِنْهَا: أَنه مَا قَصده جَبَّار إِلَّا قصمه الله - تَعَالَى -، وَمِنْهَا: أَن الْمَطَر إِذا أصَاب الرُّكْن الْيَمَانِيّ؛ (كَانَ الخصب بِالْيمن، وَإِن أصَاب جَانب الشَّام) ؛ كَانَ الخصب بِالشَّام، وَإِن أصَاب جَمِيع الجوانب كَانَ الخصب جَمِيع الجوانب. وَسبب هَذَا أَن الْيَهُود قَالُوا: قبلتنا أولى من قبلتكم؛ فَبين الله تَعَالَى للْمُسلمين شرف قبلتهم؛ فَإِنَّهَا خصت بأَشْيَاء لَيست تِلْكَ لقبلتهم، وَأَن بَيت الْمُقَدّس قد حرق وَهدم، وَأما الْكَعْبَة فَمَا قَصدهَا جَبَّار إِلَّا قصمه الله تَعَالَى. {وَمن دخله كَانَ آمنا} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ (الْجَانِي) يدْخلهُ، فَيصير آمنا عَن الْقَتْل فِيهِ، وَلكنه لَا يؤاكل

{عَن الْعَالمين (97) قل يَا أهل الْكتاب لم تكفرون بآيَات الله وَالله شَهِيد على مَا تَعْمَلُونَ} وَلَا يشارب، وَلَا يُبَاع وَلَا يشاري حَتَّى يخرج فَيقْتل. وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَعَامة الْمُفَسّرين - وَهُوَ الْأَصَح -: إِنَّه أَرَادَ الْأَمْن عَن تخطف الْكفَّار بِالْقَتْلِ والغارة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: وَمن دخله كَانَ آمنا فِي الْقِيَامَة من الْعَذَاب. قَوْله - تَعَالَى -: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} قد ذكرنَا معنى الْحَج. {من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} روى الْحسن مُرْسلا عَن النَّبِي " أَنه سُئِلَ عَن الِاسْتِطَاعَة، فَقَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة "، وروى ابْن عمر " أَنه سُئِلَ أَي الْحَاج أفضل؟ فَقَالَ: الشعث، التفل. فَقيل: أَي الْحَج أفضل؟ العج، والثج. قيل: مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة ". وَقَالَ مَالك: الِاسْتِطَاعَة بِقُوَّة الْبدن، فَمَتَى وجد الزَّاد، وقوى على الْمَشْي لزمَه الْحَج، وَالأَصَح أَن الِاسْتِطَاعَة: هِيَ الْقُدْرَة على مَا يوصله إِلَى الْحَج، فَمِنْهَا: الزَّاد، وَالرَّاحِلَة، وَمِنْهَا: أَمن الطَّرِيق، وَنَفَقَة الْأَهْل، وَنَحْو ذَلِك. {وَمن كفر فَإِن الله غَنِي عَن الْعَالمين} الْأَصَح: أَنه أَرَادَ بالْكفْر: إِنْكَار وجوب الْحَج، وَقيل: " إِنَّه لما نزل (قَوْله: {وَللَّه} على النَّاس حج الْبَيْت) جمع رَسُول الله

((98} قل يَا أهل الْكتاب لم تصدُّونَ عَن سَبِيل الله من آمن تَبْغُونَهَا عوجا وَأَنْتُم شُهَدَاء وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تطيعوا فريقا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب) من جمع الْأَدْيَان، وَقَالَ: إِن الله كتب عَلَيْكُم الْحَج أَيهَا النَّاس فحجوا، فَصدقهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَكذبه الْكَافِرُونَ؛ فَنزل قَوْله: {وَمن كفر فَإِن الله غَنِي عَن الْعَالمين} ".

98

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أهل الْكتاب لم تكفرون بآيَات الله وَالله شَهِيد على مَا تَعْمَلُونَ} أَي: لَا يخفي عَلَيْهِ مَا تَعْمَلُونَ، ويجازيكم عَلَيْهِ.

99

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أهل الْكتاب لم تصدُّونَ عَن سَبِيل الله من آمن} أَي: (لم تمْنَعُونَ من آمن عَن سَبِيل الله) بكتمان نعت مُحَمَّد {تَبْغُونَهَا عوجا} أَي: تطلبون الزيغ عَن السَّبِيل، والعدول عَنْهَا بتغيير صفة مُحَمَّد {وَأَنْتُم شُهَدَاء} يَعْنِي: أَنْتُم عالمون أَنه حق؛ على مَا ورد نَعته وَصفته {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} .

100

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تطيعوا فريقا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب يردوكم بعد إيمَانكُمْ كَافِرين} يَعْنِي: يردونكم إِلَى الْيَهُودِيَّة والنصرانية.

101

قَوْله تَعَالَى: {وَكَيف تكفرون} قَالَ الْأَخْفَش سعيد بن مسْعدَة: على أَي حَال تكفرون؟ ! {وَأَنْتُم تتلى عَلَيْكُم آيَات الله وَفِيكُمْ رَسُوله} . فَإِن قَالَ قَائِل: مَنعه إيَّاهُم عَن الْكفْر؛ يكون الرَّسُول فيهم، يُوهم إِبَاحَة الْكفْر فِي حَال لَا يكون الرَّسُول فيهم، قيل: وَلَا يَخْلُو حَال من كَون الرَّسُول فيهم، فَإِنَّهُ الْيَوْم وَإِن كَانَ خَارِجا من بَينهم، فشرعه قَائِم بَينهم، فَيكون كَأَنَّهُ فيهم. {وَمن يعتصم بِاللَّه فقد هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: وَمن يمْتَنع بِاللَّه، قيل: وَمن يَثِق بِاللَّه، فقد أرشد إِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم.

102

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته} قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ أَن

{يردوكم بعد إيمَانكُمْ كَافِرين (100) وَكَيف تكفرون وَأَنْتُم تتلى عَلَيْكُم آيَات الله وَفِيكُمْ رَسُوله وَمن يعتصم بِاللَّه فقد هدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (101) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله} يطاع فَلَا يعْصى، وَيذكر فَلَا ينسى، ويشكر فَلَا يكفر. وَقَالَ قَتَادَة: (الْآيَة) مَنْسُوخَة بقوله: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} قَالَ أهل الْمعَانِي: لَا يَسْتَقِيم النّسخ فِيهِ، وَقَوله {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} تَفْسِير لهَذِهِ الْآيَة؛ لِأَن من أطَاع الله فِي وَقت وجوب الطَّاعَة، وَذكره فِي وَقت وجوب الذّكر، وشكره فِي مَوضِع وجوب الشُّكْر، فقد اتَّقى الله حق تُقَاته. وَهَذَا لم يصر مَنْسُوخا، وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} مُوَافق لَهُ؛ لِأَن التَّقْوَى إِن كَانَ فِي مَوضِع الْأَمر وَالْوُجُوب، والأوامر والواجبات على قدر الِاسْتِطَاعَة، فَتكون إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُوَافقَة لِلْأُخْرَى، فَلَا يَسْتَقِيم فِيهِ النّسخ. {وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} ، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ نَهَاهُم عَن الْمَوْت على الْكفْر، وَالْمَوْت لَا يدْخل تَحت الْأَمر وَالنَّهْي؟ ! قيل: مَعْنَاهُ: دوموا على الْإِسْلَام، حَتَّى إِذا وافاكم الْمَوْت ألفاكم على الْإِسْلَام، هَذَا كَمَا يَقُول الرجل لغيره: لَا أريتك تفعل كَذَا. مَعْنَاهُ: لَا تفعل كَذَا، حَتَّى إِذا رَأَيْتُك (لَا) أَرَاك على فعله.

103

قَوْله تَعَالَى: {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا} قَالَ ابْن عَبَّاس: حَبل الله: هُوَ الْعَهْد. وَقَالَ قَتَادَة (والسدى) : حَبل الله: الْقُرْآن. وَفِي الْخَبَر " الْقُرْآن: حَبل مَمْدُود (طرف) بيد الله وطرف بِأَيْدِيكُمْ " وَقيل: الْحَبل: الطَّرِيق، حَبل الله: طَرِيق الله، وأنشدوا فِي ذكر النَّاقة قَول الشَّاعِر:

{حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ (102) واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعمت الله عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعدَاء فألف بَين قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تهتدون (103) ولتكن} (وَإِذا أجوزها حبال قَبيلَة ... نزلت من الْأُخْرَى إِلَيْك حبالها) أَي: طريقها. وأصل الْحَبل كل مَا يوصلك إِلَى الشَّيْء، فتفوز بِهِ، والعهد: حَبل، وَالْقُرْآن: حَبل، (وَمِنْه) الْحَبل الْمَعْرُوف؛ لِأَنَّهُ يُوصل إِلَى الْمَقْصُود. {وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعمت الله عَلَيْكُم} سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى " أَن رجلَيْنِ: أَحدهمَا من الْأَوْس، وَالْآخر من الْخَزْرَج تسابا، فَدَعَا كل وَاحِد مِنْهُمَا قبيلته؛ فثار الْحَيَّانِ، وضربوا بِأَيْدِيهِم إِلَى السيوف، وَكَاد يكون بَينهم قتال، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فَخرج عَلَيْهِم وَهُوَ على حمَار، وَقَامَ بَينهم؛ فَنزلت الْآيَة، وتلا عَلَيْهِم، فبكوا، وَمَشى كل وَاحِد إِلَى صَاحبه وتعانقوا، واصطلحوا وَكفوا عَن الْقِتَال "، قَالَ جَابر: مَا كَانَ يَوْمًا أقبح أَولا من ذَلِك الْيَوْم، وَلَا أحسن آخر من ذَلِك الْيَوْم. فَقَوله: {وَلَا تفَرقُوا} الْخطاب مَعَهم (واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم) يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ وَبعث الرَّسُول وإنزال الْكتاب. {إِذْ كُنْتُم أَعدَاء} لِأَن الْأَوْس والخزرج كَانَ بَينهم قتال [دَامَ] مائَة وَعشْرين سنة {فألف بَين قُلُوبكُمْ} يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ {فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا} (أَي: فِي الدّين) . {وكنتم على شفا حُفْرَة} أَي: طرف حُفْرَة {من النَّار فأنقذكم مِنْهَا} . وَقيل: نزلت الْآيَة فِي مُشْركي الْعَرَب، وَالْأول [أصح وَهُوَ] قَول عِكْرِمَة. {كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تهتدون} أَي: ترشدون، وتسلكون طَرِيق الْحق.

{مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم (105) يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتم بعد}

104

قَوْله تَعَالَى: {ولتكن مِنْكُم أمة} أَي: كونُوا أمة، وَكلمَة " من " - فِيهِ - للْجِنْس، لَا للتَّبْعِيض، وَهُوَ مثل قَوْله: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} وَالْمرَاد بِهِ الاجتناب من جنس الْأَوْثَان كلهَا لَا من بعض الْأَوْثَان، كَذَلِك قَوْله: {ولتكن مِنْكُم أمة} أَي: كونُوا أمة {يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون} أَي: وَأَنْتُم المفلحون.

105

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى. {من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم يَوْم تبيض وُجُوه} يَعْنِي: وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ وصف ذَلِك الْيَوْم، فَقَالَ: {يَوْم تبيض وُجُوه} يَعْنِي: بِالتَّوْحِيدِ {وَتسود وُجُوه} بالشرك. وَقيل: تبيض وُجُوه بِالسنةِ، وَتسود وُجُوه بالبدعة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: فِي الدُّنْيَا تبيض وُجُوه بالقناعة، وَتسود وُجُوه بالطمع. وَالْأول أصح، وَيشْهد لذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة ضاحكة} الْآيَة. وَفِي رِوَايَة أبي أُمَامَة عَن النَّبِي " تسود وُجُوه الْخَوَارِج ". {فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتم بعد إيمَانكُمْ} أَي: يُقَال لَهُم: أكفرتم بعد إيمَانكُمْ؟ ! فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ كفرُوا بعد الْإِيمَان وَلم يَكُونُوا مُؤمنين قطّ؟ قيل أَرَادَ بِهِ إِيمَان يَوْم الْمِيثَاق، وَكَفرُوا بعده.

{إيمَانكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (106) وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله هم فِيهَا خَالدُونَ (107) تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَمَا الله يُرِيد ظلما للْعَالمين (108) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (109) كُنْتُم خير أمة أخرجت} وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الْيَهُود؛ آمنُوا بِمَا كَانَ فِي التَّوْرَاة من نعت مُحَمَّد، ثمَّ كفرُوا، وغيروا. {فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون} .

107

قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله} أَي: فِي ثَوَاب الله {هم فِيهَا خَالدُونَ} .

108

{تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ وَمَا الله يُرِيد ظلما للْعَالمين} لِأَنَّهُ يُعَاقب من يُعَاقب عَن اسْتِحْقَاق بِالْعَدْلِ {وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} .

110

قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة} فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: {كُنْتُم خير أمة} وَمَتى كَانُوا بِتِلْكَ الصّفة؟ قيل: أَرَادَ بِهِ: كُنْتُم خير أمة فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَقيل: أَرَادَ بِهِ صرتم خير أمة إِذا آمنتم. وَقيل: يُقَال لَهُم يَوْم الْقِيَامَة: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر} فالمعروف: مَا عرفه الشَّرْع، وَالْمُنكر: مَا أنكرهُ الشَّرْع. وَفِي الحَدِيث: " لتأمرون بِالْمَعْرُوفِ، ولتنهون عَن الْمُنكر، أَو يُوشك أَن يعمكم الله بعقابه "، وَقَالَ: " أفضل الشُّهَدَاء بعد شُهَدَاء أحد: رجل قَامَ إِلَى إِمَام جَائِر، فَأمره بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاهُ عَن الْمُنكر فَقتله عَلَيْهِ ". قَوْله: {وتؤمنون بِاللَّه وَلَو آمن أهل الْكتاب لَكَانَ خيرا لَهُم} وَهَذَا لاشك فِيهِ. {مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ} لِأَنَّهُ آمن بَعضهم، وَكفر أَكْثَرهم.

{للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه وَلَو آمن أهل الْكتاب لَكَانَ خيرا لَهُم مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ (110) لن يضرركم إِلَّا أَذَى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يولوكم الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ (111) ضربت عَلَيْهِم الذلة أَيْن مَا ثقفوا إِلَّا بِحَبل من الله وحبل من النَّاس وباءوا بغضب من الله وَضربت عَلَيْهِم المسكنة ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون (112) لَيْسُوا سَوَاء من أهل الْكتاب}

111

{لن يضروكم إِلَّا أَذَى} يَعْنِي: لَا يضرونكم بِأَكْثَرَ من أَذَى وَهُوَ إِضْرَار يسير، وأذى توقيعه بِاللِّسَانِ. {وَإِن يقاتلونكم يولوكم الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ} أَي: يهزمون وَتَكون النُّصْرَة لكم عَلَيْهِم.

112

قَوْله تَعَالَى: {ضربت عَلَيْهِم الذلة} يَعْنِي: ذل الْكفْر: بِالْقَتْلِ، والسبي، والاغتنام {أَيْن مَا ثقفوا} أَي: وجدوا. {إِلَّا بِحَبل من الله} يَعْنِي: عهد الذِّمَّة {وحبل من النَّاس} وَهُوَ عهد الْأمان، يَعْنِي: أَنهم يقتلُون، ويؤسرون، إِلَّا أَن تكون لَهُم ذمَّة أَو أَمَان. {وباءوا بغضب من الله} رجعُوا وَاحْتَملُوا غضب الله، (وَقيل: لَزِمَهُم غضب الله) من قَوْلهم تبوأ مَكَان كَذَا أَي: لزمَه {وَضربت عَلَيْهِم المسكنة} أَي: ذل الْكفْر، بزِي الْفقر، وَذَلِكَ على الْيَهُود، حَتَّى لَا يرى يَهُودِيّ إِلَّا على زِيّ الْفقر، وَإِن كَانَ غَنِيا {ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون} .

113

{لَيْسُوا سَوَاء} يَعْنِي: (الْمُؤمنِينَ والكافرين) لَيْسُوا سَوَاء، وَهَذَا وقف تَامّ، ثمَّ ابْتِدَاء {من أهل الْكتاب أمة قَائِمَة} أَي: عادلة، وَقيل قَائِمَة: مُسْتَقِيمَة على الْحق، وَقيل الْأمة الطَّرِيقَة المستقيمة، وَهِي طَريقَة الْحق، وَتَقْدِيره: من أهل الْكتاب ذُو أمة قَائِمَة، وَمِنْه قَول النَّابِغَة: (أكفلتني ذَنْب امْرِئ وَتركته ... وَهل يأثمن ذُو أمة وَهُوَ طائع)

{أمة قَائِمَة يَتلون آيَات الله آنَاء اللَّيْل وهم يَسْجُدُونَ (113) يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويسارعون فِي الْخيرَات وَأُولَئِكَ من الصَّالِحين (114) وَمَا يَفْعَلُوا من خير فَلَنْ يكفروه وَالله عليم بالمتقين (115) إِن الَّذين كفرُوا لن تغني عَنْهُم} أَي: ذُو دين وَطَرِيقَة. {يَتلون آيَات الله آنَاء اللَّيْل} : سَاعَات اللَّيْل، وأحدها: إِنَّا، وَأَنا {وهم يَسْجُدُونَ} قَالَ ابْن مَسْعُود: يَعْنِي: يصلونَ صَلَاة الْعَتَمَة، وَقيل أَرَادَ بِهِ الصَّلَاة مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء وَهُوَ فِي آنَاء اللَّيْل.

114

{يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويسارعون فِي الْخيرَات وَأُولَئِكَ من الصَّالِحين} وَصفهم الله تَعَالَى وشكرهم

115

{وَمَا يَفْعَلُوا من خير فَلَنْ يكفروه} أَي: يجازون عَلَيْهِ. وَالله تَعَالَى إِذا جازى العَبْد على صَنِيعه، فقد شكره {وَالله عليم بالمتقين} .

116

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا} أَي: لَا تدفع أَمْوَالهم بالفدية، وَلَا أَوْلَادهم بالنصرة من عَذَاب الله؛ وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان يدْفع عَن نَفسه بِفِدَاء المَال، وَتارَة بالاستعانة بالأولاد {وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} .

117

(قَوْله) : {مثل مَا يُنْفقُونَ فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمثل ريح فِيهَا صر} الصر فِي الرّيح: الْبرد، وَقَول الشَّاعِر: (أوقد فَإِن اللَّيْل ليل قر ... وَالرِّيح يَا وَاقد ريح صر) (عَسى [مَا] نرى نَارا لمن يمر ... إِن جلبت ضيفا فَأَنت حر) {أَصَابَت حرث قوم ظلمُوا أنفسهم فأهلكته} شبه إنفاقهم بزرع اجتاحته جَائِحَة أَو أَصَابَته ريح بَارِدَة فأهلكته. وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ النَّفَقَة: قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: إِنْفَاق أبي سُفْيَان يَوْم بدر وَأحد على الْمُشْركين فِي قتال الْمُسلمين، وَقيل أَرَادَ بِهِ: إِنْفَاق الْمَرْء الَّذِي ينْفق مَاله رِيَاء

{أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (116) مثل مَا يُنْفقُونَ فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمثل ريح فِيهَا صر أَصَابَت حرث قوم ظلمُوا أنفسهم فأهلكته وَمَا ظلمهم الله وَلَكِن أنفسهم يظْلمُونَ (117) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يأولونكم خبالا ودوا مَا عنتم قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم وَمَا تخفي صُدُورهمْ أكبر قد بَينا لكم الْآيَات إِن كُنْتُم تعقلون (118) هَا أَنْتُم أولاء تحبونهم وَلَا يحبونكم وتؤمنون بِالْكتاب} وَسُمْعَة، لَا يَبْتَغِي وَجه الله {وَمَا ظلمهم الله وَلَكِن أنفسهم يظْلمُونَ} .

118

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم} أَي: خَواص من غير أهل ملتكم، وبطانة الرجل: خاصته، وَالَّذين يستنبطون أمره، وَمِنْه: البطانة فِي الثَّوْب؛ لِأَنَّهُ يَلِي الْبَطن وَالْبَاطِن، وَهَذَا فِي النَّهْي عَن مُوالَاة الْكفَّار {لَا يأولونكم خبالا} أَي: يقصرون فِي (أَمركُم) ، فيفسدون عَلَيْكُم أَمركُم، والخبال: الْفساد {ودوا مَا عنتم} أَي: يودون مَا يشق عَلَيْكُم، والعنت: الْمَشَقَّة، وَمِنْه الأكمه العنوت وَهِي الشاقة الصعُود، قَالَ السّديّ: أَرَادَ بِهِ: أَنهم يودون ردكم إِلَى الْكفْر والضلالة. {قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم} يَعْنِي: الوقيعة بِاللِّسَانِ، {وَمَا تخفي صُدُورهمْ أكبر} (يَعْنِي: الَّذِي: فِي صُدُورهمْ) من الغيظ أعظم من الوقيعة بِاللِّسَانِ {قد بَينا لكم الْآيَات إِن كُنْتُم تعقلون} .

119

قَوْله تَعَالَى: {هَا أَنْتُم أولاء} يَعْنِي: أَنْتُم يَا هَؤُلَاءِ، {تحبونهم} أَي: تحبون إِيمَانهم، {وَلَا يحبونكم وتؤمنون بِالْكتاب كُله وَإِذا لقوكم قَالُوا آمنا} يَعْنِي: بِاللِّسَانِ. {وَإِذا خلوا عضوا عَلَيْكُم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم} وَهُوَ عبارَة عَن شدَّة الغيظ {إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور} .

120

قَوْله تَعَالَى: {إِن تمسسكم حَسَنَة} أبي: خصب ونصرة (تسؤهم) {وَإِن تصبكم سَيِّئَة} أَي: قحط وبلاء {يفرحوا بهَا وَإِن تصبروا وتتقوا} يَعْنِي: على

{كُله وَإِذا لقوكم قَالُوا آمنا وَإِذا خلوا عضوا عَلَيْكُم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور (119) إِن تمسسكم حَسَنَة تسؤهم وَإِن تصبكم سَيِّئَة يفرحوا بهَا وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا أَن الله بِمَا يعْملُونَ مُحِيط (120) وَإِذ غَدَوْت من أهلك تبوئ الْمُؤمنِينَ مقاعد لِلْقِتَالِ وَالله سميع عليم (121) إِذْ هَمت طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا وَالله وليهما وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَد نصركم الله ببدر وَأَنْتُم أَذِلَّة فَاتَّقُوا الله} الشدَّة وَالْبَلَاء {لَا يضركم كيدهم شَيْئا} وَيقْرَأ " لَا يضركم " بِكَسْر الضَّاد مخففا، وَالْمعْنَى وَاحِد {إِن الله بِمَا يعْملُونَ مُحِيط} .

121

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ غَدَوْت من أهلك} يَعْنِي: وَاذْكُر إِذْ غَدَوْت، وَمَعْنَاهُ: خرجت غدْوَة من اهلك) ، أَي: من بَيت عَائِشَة {تبوئ الْمُؤمنِينَ} أَي: تنزل الْمُؤمنِينَ {مقاعد لِلْقِتَالِ} يَعْنِي: تنزلهم فِي مَوَاضِع الْقِتَال ومراكزه، يُقَال: بوأ فلَانا مَكَان كَذَا، إِذا أنزلهُ فِيهِ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّبِي يُسمى لكل وَاحِد من الْمُسلمين مَكَانا من [الْقِتَال] ، ويقيمه ". وَهَذَا كَانَ فِي حَرْب أحد، وَهَذِه الْآيَة إِلَى قريب من آخر السُّورَة فِي حَرْب أحد {وَالله سميع عليم} أَي: سميع بِمَا قَالَه المُنَافِقُونَ، عليم بِمَا أضمروا؛ فَيكون على وَجه التهديد، وَقيل: مَعْنَاهُ: {وَالله سميع} بِمَا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ، عَلَيْهِم بِمَا أضمروا؛ فَيكون على وَجه الْمَدْح.

122

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ هَمت طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا} يَعْنِي: أَرَادَت، وقصدت، والهم: الْقَصْد، وَأما الطائفتان، فقد صَحَّ عَن جَابر أَنه قَالَ: أَرَادَ بِهِ: بني سَلمَة، وَبني حَارِثَة. والقصة فِي ذَلِك: مَا روى " أَن رَسُول الله شاور أَصْحَابه فِي الْخُرُوج إِلَى حَرْب أحد، فَأَشَارَ بَعضهم بِالْخرُوجِ، وَبَعْضهمْ بالمكث بِالْمَدِينَةِ، فَاخْتَارَ الْخُرُوج، وَكَانَ جَيش الْمُسلمين ألفا، فانخذل عبد الله بن أبي بن سلول بِثلث الْجَيْش فهمت هَاتَانِ

{لَعَلَّكُمْ تشكرون (123) إِذْ تَقول للْمُؤْمِنين ألن يكفيكم أَن يمدكم ربكُم بِثَلَاثَة آلَاف من الْمَلَائِكَة منزلين (124) بلَى إِن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة} الطائفتان بَنو سَلمَة وَبَنُو حَارِثَة أَن يرجِعوا مَعَهم، فثبتهما الله تَعَالَى على الْمُضِيّ مَعَه، فَلم يرجِعوا "، فَهَذَا معنى قَوْله: {إِذْ هَمت طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا} أَي: أَن تضعفا: وتجبنا {وَالله وليهما} أَي: ناصرهما ومثبتهما على الْحَرْب. قَالَ جَابر: مَا وَدِدْنَا أَن تَفْشَلَا، وَقَالَ الله: {وَالله وليهما وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} .

123

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد نصركم الله ببدر} يذكر عَلَيْهِم منته بالنصرة يَوْم بدر، وَهُوَ مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وسمى بَدْرًا باسم الْموضع، وَقيل: سمى بَدْرًا بإسم رجل، وَقيل بإسم بِئْر {وَأَنْتُم ذلة} أَي: قَلِيل الْعدَد؛ لأَنهم كَانُوا يَوْم بدر ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر نَفرا، قَالَ عَليّ: وَلم يكن فِينَا فَارس إِلَى الْمِقْدَاد، وَكَانَ مِنْهُم سَبْعَة وَسَبْعُونَ من الْمُهَاجِرين وَالْبَاقُونَ من الْأَنْصَار، وَكَانَ صَاحب راية الْمُهَاجِرين أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -، وَصَاحب راية الْأَنْصَار قيس بن سعد بن عبَادَة. وَكَانَ لَهُم يَوْمئِذٍ قَلِيل سلَاح، فَمن الله عَلَيْهِم بالنصرة لَهُم؛ مَعَ قلَّة عَددهمْ وعدتهم، {فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تشكرون} .

124

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تَقول للْمُؤْمِنين ألن يكفيكم} قيل: أَرَادَ بِهِ: فِي يَوْم بدر، وَقيل: فِي يَوْم أحد، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا قَاتَلت الْمَلَائِكَة فِي المعركة إِلَّا يَوْم بدر. أَي: يكفيكم {أَن يمدكم ربكُم} الْإِمْدَاد: هُوَ إِعَانَة الْجَيْش بالجيش، وَمِنْه: المدد {بِثَلَاثَة آلَاف من الْمَلَائِكَة منزلين} .

125

قَوْله تَعَالَى: {بلَى إِن تصبروا} يَعْنِي: بلَى وَعدكُم إِن تصبروا على لِقَاء الْعَدو، {وتتقوا} أَي: وتحذروا مُخَالفَة الرَّسُول {ويأتوكم من فورهم هَذَا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَأكْثر الْمُفَسّرين: مَعْنَاهُ: ويأتوكم من وُجُوههم هَذَا، وَقيل مَعْنَاهُ: من غضبهم هَذَا؛ لأَنهم إِنَّمَا رجعُوا للحرب يَوْم أحد من غضبهم ليَوْم بدر.

{آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين (125) وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى لكم ولتطمئن قُلُوبكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله الْعَزِيز الْحَكِيم (126) ليقطع طرفا من الَّذين كفرُوا أَو يكبتهم فينقلبوا} {يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف} لم يرد بِهِ خَمْسَة آلَاف سوى مَا ذكر من ثَلَاثَة آلَاف؛ لأَنهم أَجمعُوا على أَن عدد الْمَلَائِكَة يَوْمئِذٍ خَمْسَة آلَاف، وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى: {بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} ، ثمَّ قَالَ بعده: {وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا وَبَارك فِيهَا وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام} وَلم يرد بِهِ أَرْبَعَة أَيَّام سوى ذَلِك الْيَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بعده: {فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ} وَأَجْمعُوا على أَن خلق الْكل كَانَ فِي سِتَّة أَيَّام لَا فِي ثَمَانِيَة أَيَّام، بل أَرَادَ بِهِ أَرْبَعَة أَيَّام مَعَ ذَلِك الْيَوْمَيْنِ كَذَا هَذَا. {من الْمَلَائِكَة مسومين} يقْرَأ بِفَتْح الْوَاو، وَالْمرَاد بِهِ المعلمين، وَيقْرَأ بِكَسْر الْوَاو فَيكون فعل التسويم: من الْمَلَائِكَة، والتسويم الْإِعْلَام بالعلامة، وَهُوَ من السومة، وَالسَّمَاء: وَهُوَ الْعَلامَة، وَاخْتلفُوا فِي عَلامَة الْمَلَائِكَة يَوْمئِذٍ كَيفَ كَانَت؟ قَالَ عُرْوَة بن الزبير: كَانَت الْمَلَائِكَة على خيل يلق عَلَيْهِم عمائم صفر. وَقَالَ الْحسن: كَانَت عمائم بيض مُرْسلَة خلف الظُّهُور. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانُوا قد أعلمُوا من الصُّوف على أَذْنَاب الْخَيل ونواصيها؛ وَذَلِكَ سنة فِي خلق الشجعان، وَقد قَالَ: " سوموا فَإِن الْمَلَائِكَة قد سومت ".

126

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى لكم} أَي: بِشَارَة لكم {ولتطمئن قُلُوبكُمْ بِهِ " أَي: بوعده النُّصْرَة {وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله الْعَزِيز الْحَكِيم} يَعْنِي: (لَا) تختلوا بالنصرة عَن الْمَلَائِكَة والجند، واعرفوا [أَن] النَّصْر من عِنْد الله.

{خائبين (127) لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ (128) وَللَّه}

127

{ليقطع طرفا من الَّذين كفرُوا} أَي: قِطْعَة مِنْهُم، وَمِنْه أَطْرَاف الْإِنْسَان؛ لِأَنَّهَا قطع النَّفس، ثمَّ من حمل الْآيَة على حَرْب بدر، فقد كَانَ ذَلِك الْقطع مِنْهُم يَوْم بدر؛ فَإِنَّهُ قتل مِنْهُم سَبْعُونَ وَأسر سَبْعُونَ؛ أَكْثَرهم رؤساؤهم، وَمن حمل الْآيَة على حَرْب أحد، فقد قتل مِنْهُم سِتَّة عشر فيهم أَصْحَاب الرَّايَات، فَكَانَت النُّصْرَة للْمُسلمين مالم يخالفوا أَمر رَسُول الله، فَلَمَّا خالفوا أمره ذهبت النُّصْرَة عَنْهُم. قَوْله: {أَو يكبتهم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: يُهْلِكهُمْ، وَقيل مَعْنَاهُ: يخزيهم، وَهُوَ أصح، وَقيل مَعْنَاهُ: أَو يصرعنهم، والكب والكبت: الصرع على الْوَجْه، وَفِيه قَول رَابِع: يكبتهم بِمَعْنى: يكبدهم، وَذَلِكَ أَن يحزنهم حَتَّى وصل الْحزن إِلَى أكبادهم؛ وَالْعرب تسمي الحزين: أسود الكبد من تَأْثِير الْحزن فِيهِ [وَمِنْه] قَول الشَّاعِر: (الْأَعْدَاء والأكباد سود ... ) {فينقلبوا خائبين} أَي: لَا يدركون مَا أملوا، يُقَال: رَجَعَ فلَان من الْغَيْبَة بالخيبة، إِذا لم يدْرك أمله.

128

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} روى الزُّهْرِيّ، عَن سَالم، عَن أَبِيه عبد الله بن عمر: " {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} فَترك اللَّعْن فِي الْقُنُوت "، وروى أنس " أَنه شج رَأسه يَوْم أحد، وَكسرت رباعيته، وأدمي وَجهه، وَكَانَ يَأْخُذ الدَّم بكفه وَيَقُول: كَيفَ يفلح قوم خضبوا وَجه نَبِيّهم؟ ! فَنزل قَوْله: {لَيْسَ لَك من الْأَمر

{مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَالله غَفُور رَحِيم (129) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون (130) وَاتَّقوا النَّار} شَيْء) وَقيل: أَرَادَ رَسُول الله أَن يدعوا عَلَيْهِم بِدُعَاء الاستئصال؛ فَنزل قَوْله: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} وَذَلِكَ أَنه تَعَالَى علم أَن فيهم من يسلم [أَو يَتُوب] {أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم} إِنَّمَا نَصبه على نصب قَوْله: {ليقطع طرفا} وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء؛ فَإِن تبت عَلَيْهِم، أَو عذبتهم، فأمرك متابع لأمري، أَي: إِن تبت عَلَيْهِم، فبرحمتي، وَإِن عذبتهم، فبظلمهم. فَإِن قَالَ قَائِل: أَي اتِّصَال لقَوْله: {أَو يَتُوب عَلَيْهِم} بقوله {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} ؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء، حَتَّى يَتُوب عَلَيْهِم، أَو إِلَى أَن يَتُوب عَلَيْهِم، وَمثله قَول امْرِئ الْقَيْس: (فَقلت لَهَا لَا تبك عَيْنك إِنَّمَا ... نحاول ملكا أَو نموت فنعذرا) أَي: حَتَّى نموت، فنعذرا، وَيحْتَمل أَنه على نسق قَوْله: ليقطع طرفا من الَّذين كفرُوا أَو يكبتهم أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء. وَالْأَمر أَمْرِي فِي ذَلِك كُله.

129

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَالله غَفُور رَحِيم} .

130

يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أضعافا مضاعفة) قد ذكر الرِّبَا فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَأعَاد ذكره هَا هُنَا تَأْكِيدًا، والأضعاف المضاعفة: هُوَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من تبعيد الْأَجَل بِزِيَادَة الدّين. {وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} أَي: كونُوا على رَجَاء الْفَلاح، يَعْنِي: من ترك الرِّبَا

{الَّتِي أعدت للْكَافِرِينَ (131) وَأَطيعُوا الله وَالرَّسُول لَعَلَّكُمْ ترحمون (132) وسارعوا إِلَى} وَفِيه الْفَلاح، وَفِي عَطاء الرِّبَا الْهَلَاك. وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا هلك قوم إِلَّا وَقد فَشَا فيهم الرِّبَا وَالزِّنَا "، [و] عَنهُ أَيْضا: " [كثير] الرِّبَا إِلَى قلَّة ".

131

قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقوا النَّار الَّتِي أعدت للْكَافِرِينَ} وَهِي معدة للْكَافِرِينَ؛ فَإِنَّهَا دَار الخلود لَهُم

132

{وَأَطيعُوا الله وَالرَّسُول لَعَلَّكُمْ ترحمون} أَي: كونُوا على رَجَاء الرَّحْمَة.

133

قَوْله تَعَالَى: {وسارعوا إِلَى الْمَغْفِرَة} أَي: بَادرُوا إِلَى مغْفرَة {من ربكُم} ، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: بَادرُوا إِلَى التَّوْبَة الَّتِي هِيَ سَبَب الْمَغْفِرَة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: سُؤال الْمَغْفِرَة. وَفِيه قَول غَرِيب أَنه التَّكْبِيرَة الأولى. {وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: سعتها كسعة السَّمَوَات وَالْأَرْض. [وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي: سُئِلَ إِذا كَانَت الْجنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض] فَأَيْنَ النَّار؟ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام -: فَإِذا جَاءَ اللَّيْل، فَأَيْنَ يذهب النَّهَار؟ [وَإِذا] جَاءَ النَّهَار فَأَيْنَ يذهب اللَّيْل؟ " وَمَعْنَاهُ - وَالله أعلم - أَنه حَيْثُ يَشَاء الله. فَإِن قيل: قد قَالَ الله تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون} ، وَأَرَادَ بِالَّذِي وعدنا الْجنَّة، فَإِذا كَانَت فِي السَّمَاء، فَكيف يكون عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قيل: إِن بَاب الْجنَّة فِي السَّمَاء وعرضها السَّمَوَات وَالْأَرْض كَمَا أخبر.

{مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض أعدت لِلْمُتقين (133) الَّذين يُنْفقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء والكاظمين الغيظ وَالْعَافِينَ عَن النَّاس وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب إِلَّا الله} وَقيل: أَرَادَ بِهِ فِي الْقِيَامَة، فَإِن الله يزِيد فِيهَا، فَيصير عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض إِذا (وصلت السَّمَوَات وَالْأَرْض) بَعْضهَا بِبَعْض، وَأما طولهَا [فَلَا يُعلمهُ] إِلَّا الله.

134

{أعدت لِلْمُتقين الَّذين يُنْفقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء} أَي: فِي (الْيُسْر والعسر) {والكاظمين الغيظ} كظم الغيظ: هُوَ أَن يمتلئ غيظا؛ فَيمْنَع نُفُوذه، من قَوْلهم: كظم الْبَعِير بجرته إِذا ردهَا إِلَى جَوْفه، وَفِي الْخَبَر: " من امْتَلَأَ غيظا، وكظمه خَيره الله فِي الْحور الْعين ". {وَالْعَافِينَ عَن النَّاس} قيل: عَن المماليك سوء الْأَدَب، وَقيل: على الْعُمُوم عَن كَافَّة النَّاس، {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} .

135

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم} مَا دون الزِّنَا من الْقبْلَة، والمعانقة، واللمس، وَالضَّم، وَنَحْوه {ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم} سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى: أَن رجلا بِالْمَدِينَةِ - يُقَال لَهُ: نَبهَان - كَانَ تمارا فَجَاءَتْهُ امْرَأَة تشتري مِنْهُ التَّمْر، فأعجبه جمَالهَا فقبلها، فَذكر الله، وَنَدم واستغفر؛ فَنزلت الْآيَة. {وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله} أَي: ذكرُوا وَعِيد الله {فاستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب إِلَّا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا} الْإِصْرَار هُوَ الْمقَام على الْمعْصِيَة من غير تَوْبَة، فَقَوله: {وَلم يصروا} أَي: وَلم يقيموا، وَلم يمضوا {على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ} أَن الله لَا يتعاظمه الْعَفو عَن الذَّنب، وَإِن أَكثر

{وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ (135) أُولَئِكَ جزاؤهم مغْفرَة من رَبهم وجنات} الذَّنب، وَقد روى عَن معبد بن صَبِيحَة أَنه قَالَ: صليت خلف عُثْمَان، فَلَمَّا أنصرف من صلَاته قَالَ: إِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَلم يصروا على مَا فعلوا} وَأَنا قد صليت من غير طَهَارَة نَاسِيا، وَهَا أَنا أتوضأ، فَذهب (وَتَوَضَّأ) وَأعَاد الصَّلَاة.

136

{أُولَئِكَ جزاؤهم مغْفرَة من رَبهم وجنات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَنعم أجر الْعَالمين} ذكر فِي هَذِه الْآيَة جَزَاء الذَّاكِرِينَ، والمستغفرين، وَقد ورد فِي الاسْتِغْفَار أَخْبَار: مِنْهَا مَا روى مَرْفُوعا: " مَا أصر من اسْتغْفر، وَإِن عَاد فِي الْيَوْم سبعين مرّة ". وروى أَسمَاء بن الحكم الفزازي عَن عَليّ أَنه قَالَ: إِذا سَمِعت من رَسُول الله حَدِيثا، يَنْفَعنِي الله بِهِ مَا شَاءَ، وَإِذا سَمِعت من غَيره (حلفته) عَلَيْهِ، فَإِذا حلف صدقته وحَدثني أَبُو بكر - وَهُوَ صَادِق -: أَن رَسُول الله قَالَ " مَا من عبد يُذنب ذَنبا، فيتوضأ، وَصلى رَكْعَتَيْنِ واستغفر (الله) إِلَّا غفر الله لَهُ ". وَاعْلَم أَن الاسْتِغْفَار تسهيل لِلْأَمْرِ على هَذِه الْأمة، فَإِن الَّذين قبلنَا كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم إِذا أذْنب ذَنبا يطهر على بَابه (أَن اقْطَعْ) من نَفسك عُضْو كَذَا، وَكَانَ لَا بُد لَهُ مِنْهُ، وَقد أخرج الله - تَعَالَى - هَذِه الْأمة عَن الذُّنُوب بالاستغفار؛ كَرَامَة لَهُم؛ وتيسيرا عَلَيْهِم.

{تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَنعم أجر العاملين (136) قد خلت من قبلكُمْ سنَن فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (137) هَذَا بَيَان للنَّاس وَهدى} وَسُئِلَ ابْن المعتز: إِذا كَانَ الله - تَعَالَى - وَاسع الْمَغْفِرَة، وسعت رَحمته كل شَيْء فَمَا يمنعهُ أَن يرحم الْكَافِر؟ فَقَالَ: إِن رَحمته لَا تغلب حكمته.

137

قَوْله تَعَالَى: {قد خلت من قبلكُمْ سنَن} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " قد مَضَت "، وَهُوَ بِمَعْنى خلت. السّنة: هِيَ الطَّرِيقَة المتبعة فِي الْخَيْر وَالشَّر. وَقد قَالَ فِي الْمَجُوس: " سنوا بهم سنة أهل الْكتاب " وَكَانَت شرا لَهُم. وَقَالَ الشَّاعِر: (وَإِن الآلى بالطف من آل هَاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا) قَالَ ابْن عَبَّاس: سنَن [الَّذين] من قبلكُمْ، وَهِي وقائع الله على الْكفَّار. وَقَالَ غَيره: هِيَ الْأَعْلَام والْآثَار الَّتِي كَانَت. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنَّهَا طرائق الله فِي الْكفَّار، وبقتلهم، وَسَبْيهمْ وتخريب دِيَارهمْ، وَنَحْوه، قَالَ الزّجاج: {قد خلت من قبلكُمْ سنَن} أَي: أهل سنَن. {فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين} .

138

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا بَيَان للنَّاس وَهدى وموعظة لِلْمُتقين} قَالَ الشّعبِيّ: بَيَان من الْعَمى، وَهدى من الضَّلَالَة، وموعظة من الْجَهْل؛ فالبيان: هُوَ إِظْهَار معنى الْكَلَام، وَالْمَوْعِظَة: هِيَ الدُّعَاء إِلَى الْحق بالترغيب والترهيب.

139

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنهوا وَلَا تحزنوا} أَي: وَلَا تضعفوا، وَلَا تجبنوا، وَلَا تحزنوا، {وَأَنْتُم الأعلون} أَي: تكون لكم الْعَاقِبَة والنصرة. وَقيل: إِنَّمَا قَالَ {وَأَنْتُم الأعلون} ؛ لِأَن الْمُسلمين كَانُوا على الْجَبَل، وَالْمُشْرِكين فِي

{وموعظة لِلْمُتقين (138) وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين (139) إِن يمسسكم قرح فقد مس الْقَوْم قرح مثله وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس وليعلم الله} أَسْفَل الْجَبَل، وَقَوله: {إِن كُنْتُم مُؤمنين} أَي: لَا تهنوا إِن كُنْتُم مُؤمنين؛ لِأَن الْإِيمَان يزِيد الْقُوَّة فَلَا يُورث الوهن.

140

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن يمسسكم قرح} تقْرَأ: بِفَتْح الْقَاف، وضمنها، وَقَالَ الْفراء: الْقرح - بِالْفَتْح -: الْجراحَة، والقرح: الْأَلَم، وَقَالَ الْكسَائي: هما عبارتان عَن معنى وَاحِد. وَالْأَكْثَرُونَ على القَوْل الأول، وَقَوله: {إِن يمسسكم قرح} خطاب للْمُسلمين فِيمَا مسهم يَوْم أحد {فقد مس الْقَوْم قرح مثله} أَي: مس الْكفَّار يَوْم بدر (قرح) مثل مَا مسكم يَوْم أحد. {وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس} فَتَارَة تكوم الدولة للْمُسلمين على الْكفَّار، وَتارَة للْكفَّار على الْمُسلمين، قَالَ الزّجاج: الدولة تكون للْمُسلمين على الْكفَّار، وَقد كَانَت الدولة للْكفَّار على الْمُسلمين؛ لما خالفوا أَمر الرَّسُول، فَإِن لم يخالفوا أمره كَانَت الدولة للْمُسلمين أبدا؛ لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} ؛ وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن حزب الله هم الغالبون} . {وليعلم الله الَّذين آمنُوا} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وليبلي الله الَّذين آمنُوا "، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: {وليعلم} ، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: {وليعلم الله الَّذين آمنُوا} ، وَهُوَ عَالم بهم أبدا؟ قيل: مَعْنَاهُ: وليعلم الصابرين على الْجِهَاد فِي مَوَاطِن الْجِهَاد ليعاملهم مُعَاملَة من يبتليهم؛ فيعلمهم، وَالْعلم بِالْجِهَادِ فِي مَوَاطِن الْجِهَاد إِنَّمَا يَقع بعد وُقُوع الْجِهَاد، وَقيل: الْعلم الأول: علم الْغَيْب، وَقَوله: {وليعلم} يَعْنِي: علم الْمُشَاهدَة، والوقوع والمجازة على علم الْوُقُوع لَا على علم الْغَيْب. {ويتخذ مِنْكُم شُهَدَاء وَالله لَا يحب الظَّالِمين} يَعْنِي: أَنه مَا جعل الْيَد للْكفَّار يَوْم أحد لحبه إيَّاهُم؛ وَلَكِن ليبتليكم، ويجعلكم شُهَدَاء.

{الَّذين آمنُوا ويتخذ مِنْكُم شُهَدَاء وَالله لَا يحب الظَّالِمين (140) وليحمص الله الَّذين آمنُوا ويمحق الْكَافرين (141) أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا}

141

قَوْله تَعَالَى: {وليحمص الله الَّذين آمنُوا} وكل هَذَا على نسق قَوْله: {ليقطع طرفا} (وَكَذَلِكَ) قَوْله: {وليعلم الله الَّذين آمنُوا} وَأما التمحيص: قيل: هُوَ [التخليص] وَهُوَ قَول الْحسن، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ بِمَعْنى: الِابْتِلَاء، وَحَقِيقَة معنى التمحيص: التَّطْهِير من الذُّنُوب، تَقول الْعَرَب: محص عَنَّا ذنوبنا أَي: طهرنا من الذُّنُوب. {ويمحق الْكَافرين} [معنى] الْآيَة: أَنهم إِن قتلوكم؛ فَذَلِك تَطْهِير لكم، وَإِن قَتَلْتُمُوهُمْ فَذَلِك محق لَهُم واستئصال.

142

قَوْله تَعَالَى: {أم حسبتم} أَي: [أحسبتم] {أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم} أَي: وَلم يعلم الله الَّذين وَقع مِنْهُم الْجِهَاد، {وَيعلم الصابرين} .

143

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت} سَبَب نزُول الْآيَة أَن الَّذين تخلفوا من حَرْب بدر من الْمُسلمين قَالُوا لما انْقَضتْ حَرْب بدر: لَو كَانَ لنا يَوْم مثله فنقاتل ونقتل ونستشهد، فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد انْهَزمُوا، وهربوا؛ فَنزلت الْآيَة. {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت} أَي: سَبَب الْمَوْت وَهُوَ الْجِهَاد؛ إِذْ لَا يجوز أَن يتَمَنَّى الْمَوْت بقتل الْكَافِر إِيَّاه {من قبل أَن تلقوهُ} أَي: تلقونَ سَببه من الْجِهَاد {فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون} ، فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {وَأَنْتُم تنْظرُون} ، وَقد قَالَ: {فقد رَأَيْتُمُوهُ} ؟ (قيل) : يحْتَمل [أَن تكون] الرُّؤْيَة بِمَعْنى الْعلم؛ فَقَالَ:

{مِنْكُم وَيعلم الصابرين (142) وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت من قبل أَن تلقوهُ فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون (143) وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم وَمن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يضر الله شَيْئا وسيجزي الله الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله كتابا مُؤَجّلا وَمن يرد ثَوَاب الدُّنْيَا نؤته} {وَأَنْتُم تنْظرُون} ليعلم أَن المُرَاد بِالرُّؤْيَةِ هَا هُنَا: التفكر، قَالَه الْأَخْفَش، وَقيل: إِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَأَنْتُم تنْظرُون إِلَى مُحَمَّد.

144

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل} سَبَب نزُول الْآيَة أَن الْمُسلمين يَوْم أحد لما وَقعت الْهَزِيمَة عَلَيْهِم، وَوَقع الْقَتْل فيهم؛ صَاح الشَّيْطَان - عَلَيْهِ مَا يسْتَحق -: أَلا إِن مُحَمَّدًا [قد] قتل، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: خُذُوا لنا الْأمان من أبي سُفْيَان، وَقَالَ من كَانَ فِي قلبه نفاق: ارْجعُوا إِلَى دينكُمْ الأول، فَإِن مُحَمَّدًا قد قتل؛ فَنزل قَوْله: {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم} يَعْنِي: هُوَ على رسَالَته ونبوته مَاتَ أَو قتل، فَلم انقلبتم على أعقابكم؟ ! {وَمن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يضر الله شَيْئا} أَي: إِنَّمَا ضرّ نَفسه، {وسيجري الله الشَّاكِرِينَ} . وروى: أَن [أنس بن النَّضر] " لما سمع قَول الشَّيْطَان: إِن مُحَمَّدًا قتل، اخْتَرَطَ سَيْفه وَتوجه إِلَى الْكفَّار، وَقَالَ: إِن قَاتل مُحَمَّد وَقتل، وَوصل إِلَى مَا وصل، فَأَنا أقَاتل حَتَّى أقتل، وأصل إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ، فقاتل حَتَّى قتل ". وَقَالَ كَعْب بن مَالك: أَنا أول من رأى رَسُول الله يَوْم أحد بعد صياح الشَّيْطَان، عَرفته بِعَيْنيهِ تَحت المغفر، فَقلت: هَذَا رَسُول الله حَيّ، فَأَشَارَ إِلَى أَن اسْكُتْ ". {مِنْهَا وَمن يرد ثَوَاب الْآخِرَة نؤته مِنْهَا وسنجزي الشَّاكِرِينَ (145) وكأين من نَبِي قَاتل مَعَه ربيون كثير فَمَا وهنوا لما أَصَابَهُم فِي سَبِيل الله وَمَا ضعفوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يحب الصابرين (146) وَمَا كَانَ قَوْلهم إِلَّا أَن قَالُوا رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا فِي}

145

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله} تَقْدِيره: وَمَا كَانَت نفس لتَمُوت إِلَّا بِإِذن الله بِقَضَائِهِ وَقدره {كتابا مُؤَجّلا} تَقْدِيره: كتب كتابا مُؤَجّلا. (وَمن يرد ثَوَاب الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا) فَإِن قيل: نَحن نرى من يُرِيد الدُّنْيَا، فَلَا يُؤْتى؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَا يمْنَع عَنهُ مَا قدر لَهُ من ثَوَاب الدُّنْيَا بِسَبَب كفره. {وَمن يرد ثَوَاب الْآخِرَة نؤته مِنْهَا} فَإِن قيل: وَهل يُؤْتى ثَوَاب الْآخِرَة بِمُجَرَّد الْإِرَادَة؟ قيل مَعْنَاهُ: وَمن يرد بِالْعَمَلِ، وَهَذَا كَمَا يُقَال: فلَان يُرِيد الْجنَّة، أَي: يعْمل للجنة {وسنجزي الشَّاكِرِينَ} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، قَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: أَبُو بكر إِمَام الشَّاكِرِينَ. أَي: إِمَام الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله عَنهُ.

146

قَوْله تَعَالَى: {وكأين من نَبِي [قَاتل] مَعَه ربيون كثير} أَي: وَكم من نَبِي قتل قَالَ جرير: (وكأين بالأباطح من صديق ... يراني إِن أصبت هُوَ المصابا) قَالَ عِكْرِمَة: هَذَا وقف تَامّ، وَمَعْنَاهُ: كم نَبِي قتل وَمَعَهُ أَصْحَابه. {فَمَا وهنوا لما أَصَابَهُم فِي سَبِيل الله} أَي: مَا جبنوا {وَمَا ضعفوا وَمَا اسْتَكَانُوا} أَي: مَا ذلوا، وَمَا خضعوا، وَقَالَ الْحسن: مَا قتل نَبِي فِي معركة قطّ، وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: وكأين من نَبِي قتل مَعَه ربيون كثير، وَأما الْقِرَاءَة الْأُخْرَى: " قَاتل مَعَه فَمَعْنَاه ظَاهر، وَأما الربيون قَالَ ابْن مَسْعُود: هم أُلُوف، وَقيل: هم عشرَة آلَاف. قَالَ الْحسن: الربيون من الْعلمَاء مَأْخُوذ من الرب؛ لأَنهم على دين الرب وَطَرِيقه. قَوْله تَعَالَى: {وَالله يحب الصابرين

147

وَمَا كَانَ قَوْلهم إِلَّا أَن قَالُوا رَبنَا أَغفر لنا ذنوبنا) أَي: الصَّغَائِر {وإسرافنا فِي أمرنَا} أَي: الْكَبَائِر، {وَثَبت أقدامنا وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين} .

{أمرنَا وَثَبت أقدامنا وَانْصُرْنَا على الْقَوْم الْكَافرين (147) فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تطيعوا الَّذين كفرُوا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وَهُوَ خير الناصرين (150) سنلقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب بِمَا أشركوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا}

148

قَوْله تَعَالَى: {فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا} يَعْنِي: (النُّصْرَة) وَالْغنيمَة. {وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن الله ينزل النَّبِي وَأَصْحَابه فِي قباب من در وَيَاقُوت حَتَّى يفصل بَين الْخلق، وَقيل، حسن ثَوَاب الْآخِرَة: أَن يجازيهم على عَمَلهم ويزيدهم من فَضله {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} .

149

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تطيعوا الَّذين كفرُوا} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى {يردوكم على أعقابكم} يَعْنِي: إِلَى الْيَهُودِيَّة والنصرانية. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْمُنَافِقين الَّذين قَالُوا يَوْم أحد: ارْجعُوا إِلَى دينكُمْ الأول؛ فَإِن مُحَمَّدًا قد قتل، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين} أَي: مغبونين. {بل الله مولاكم وَهُوَ خير الناصرين} .

151

قَوْله تَعَالَى: (سنلقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب) يَعْنِي: الْخَوْف، قَالَ: " نصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر " {بِمَا أشركوا بِاللَّه} أَي: بشركهم بِاللَّه {مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا} أَي: الَّذِي لم ينزل بِهِ حجَّة، وَالسُّلْطَان: الْحجَّة، قَالَ الله تَعَالَى (هلك عني سلطانيه) أَي: حجتي. {ومأواهم النَّار} مكانهم النَّار {وَبئسَ مثوى الظَّالِمين} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الْهَزِيمَة لما وَقعت على الْمُسلمين يَوْم أحد، وَوَقع الْقَتْل فيهم، تشَاور الْمُشْركُونَ فِيمَا بَينهم، وَأَجْمعُوا على أَن يعودوا لِلْقِتَالِ، فيستأصلوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه فَألْقى الله تَعَالَى الرعب فِي قُلُوبهم، فَمروا على وُجُوههم لَا يلوون على شَيْء حَتَّى بلغُوا مَكَّة، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {سنلقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب} .

{ومأواهم النَّار وَبئسَ مثوى الظَّالِمين (151) وَلَقَد صدقكُم الله وعده إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فشلتم وتنازعتم فِي الْأَمر وعصيتم من بعد مَا أَرَاكُم مَا تحبون مِنْكُم من يُرِيد}

152

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صدقكُم الله وعده} أَي: وعده صدقكُم بالظفر والنصرة؛ وَقد كَانَت النُّصْرَة فِي الِابْتِدَاء للْمُسلمين يَوْم أحد {إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ} أَي: تقتلونهم بِقَضَاء الله وَقدره، وألحس: الْقَتْل، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (تحسهم السيوف كَمَا تسامى ... لهيب النَّار فِي أجم الحصيد) {حَتَّى إِذا فشلتم} أَي: جبنتم، {وتنازعتم فِي الْأَمر} تَقْدِيره: حَتَّى إِذا فشلتم، تنازعتم فِي الْأَمر، و " الْوَاو " زَائِدَة قَالَه الْفراء، وَقيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير وَتَقْدِيره: حَتَّى إِذا تنازعتم فِي الْأَمر، فشلتم {وعصيتم من بعد مَا أَرَاكُم مَا تحبون} يَعْنِي: من الظفر وَالْغنيمَة. {مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة} ؛ لأَنهم اخْتلفُوا على مَا سنذكر {ثمَّ صرفكم عَنْهُم ليبتليكم} أَي: [كف] أَيْدِيكُم عَنْهُم؛ ليمتحنكم، وَقيل: لينزل الْبلَاء عَلَيْكُم، {وَلَقَد عَفا عَنْكُم وَالله ذُو فضل على الْمُؤمنِينَ} ، والقصة فِي ذَلِك: " أَن رَسُول الله رأى فِي مَنَامه: أَنه لبس درعا حَصِينَة حِين نزل الْمُشْركُونَ بِأحد؛ فأولها على الْمَدِينَة، وشاور أَصْحَابه فِي الْخُرُوج إِلَى أحد، فَقَالُوا: إِن هَذِه بَلْدَة مَا دخل علينا فِيهَا أحد، وَلَا تبع حَتَّى قدم وَحَتَّى يخرج إِلَيْهِم، فَلبس رَسُول الله درعين، وَوضع المغفر على رَأسه، وَخرج؛ فَنَدِمُوا وَعَلمُوا أَنه كَانَ مُرَاده أَن يُقيم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، (إِنَّا) تبع لرأيك، وطلبوا مِنْهُ أَن يرجع إِن شَاءَ، فَقَالَ: مَا كَانَ لنَبِيّ إِذا لبس لامته أَن يَنْزِعهَا حَتَّى يُقَاتل، أَو يحكم الله. وَمضى مَعَه ألف نفر، فانخذل عبد الله بن أبي بن سلول [وَأَصْحَابه] بِثلث الْجَيْش ثلثمِائة نفر، وَبَقِي سَبْعمِائة، فَلَمَّا وصل إِلَى أحد بعث قوما من الرُّمَاة، وأجلسهم على مَوضِع من جبل يخَاف مِنْهُ الكمين، وَأمر عَلَيْهِم عبد الله بن جُبَير الْأنْصَارِيّ.

{الدُّنْيَا ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة ثمَّ صرفكم عَنْهُم ليبتليكم وَلَقَد عَفا عَنْكُم وَالله ذُو فضل} ثمَّ ابْتَدَأَ الْقِتَال مَعَ الْمُشْركين، فظفر عَلَيْهِم، وَقتل جمَاعَة من رُؤَسَائِهِمْ، وانهزموا، ولاح الظفر للْمُسلمين، وَسَارُوا فِي أَثَرهم للغنيمة، فَلَمَّا رَآهُ الرُّمَاة، فَقَالُوا: إِن الْمُشْركين قد انْهَزمُوا، ولاح الظفر حَتَّى نسير على أَثَرهم؛ ونغنم، فَقَالَ عبد الله بن جُبَير: لَا تفارقوا هَذَا الْمَكَان؛ فَإِن رَسُول الله أَمركُم أَن تلزموا هَذَا الْمَكَان، فالزموه، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَذهب أَكْثَرهم، وَبَقِي عبد الله بن جُبَير مَعَ نفر قَلِيل من أَصْحَابه. فَلَمَّا عرى مَوضِع الكمين عَن الرُّمَاة، خرج عَلَيْهِم خَالِد بن الْوَلِيد من الكمين، وَحمل عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ، فاستشهد عبد الله بن جُبَير، وَمن بَقِي مَعَه، وَعَاد الْمُشْركُونَ لِلْقِتَالِ، وَوَقع الْقَتْل فِي الْمُسلمين، وَقتل مِنْهُم سَبْعُونَ نَفرا، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَبَقِي مَعَ رَسُول الله نفر قَلِيل، فَذَلِك قَوْله {وَلَقَد صدقكُم الله وعده} أَي: فِي الِابْتِدَاء بالظفر والنصرة {إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فشلتم وتنازعتم فِي الْأَمر} يَعْنِي: أُولَئِكَ الرُّمَاة الَّذين اخْتلفُوا، {وعصيتم} يَعْنِي: عصيتم الرَّسُول، وخالفتم أمره {من بعد مَا أَرَاكُم} يَعْنِي: من بعد أَن أَرَاكُم الله تَعَالَى {مَا تحبون} من الظفر {مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا} هم الَّذين ذَهَبُوا للغنيمة، {ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة} : الَّذين صَبَرُوا مَعَ عبد الله بن جُبَير. قَالَ ابْن مَسْعُود: مَا علمنَا أَن أحدا منا يُرِيد الدُّنْيَا حَتَّى أنزل الله هَذِه الْآيَة. {ثمَّ صرفكم عَنْهُم ليبتليكم} يَعْنِي: فِي الْوَقْعَة الثَّانِيَة حِين عَاد الْمُشْركُونَ، وَهَذَا دَلِيل لأهل السّنة على: أَن أَفعَال الْعباد مخلوقة؛ حَيْثُ نسب الله تَعَالَى هزيمَة الْمُسلمين إِلَى نَفسه مَعَ وُقُوع الْفِعْل مِنْهُم، فَقَالَ: {ثمَّ صرفكم عَنْهُم} . قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تصعدون} وَيقْرَأ: بِفَتْح التَّاء وَالْعين. فالإصعاد: هُوَ الْمَشْي فِي مستو من الأَرْض، والصعود: المشى فِي مُرْتَفع من الأَرْض.

{على الْمُؤمنِينَ (152) إِذْ تصعدون وَلَا تلوون على أحد وَالرَّسُول يدعوكم فِي أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على مَا فاتكم وَلَا مَا أَصَابَكُم وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} وَالْخطاب مَعَ الْمُسلمين الَّذين انْهَزمُوا،

153

بقوله: {إِذْ تصعدون وَلَا تلوون على أحد} أَي: لَا تعرجون، وَلَا تلتفتون إِلَى أحد، ثمَّ مِنْهُم من قَالَ: {أَرَادَ بالأحد} : الرَّسُول، وَمِنْهُم من قَالَ: مَعْنَاهُ: لَا تلوون على أحد من النَّاس. {وَالرَّسُول يدعوكم فِي أخراكم} يَعْنِي: فِي آخر الْجَيْش، وَكَانَ يَدعُوهُم: " عباد الله، إِلَيّ إِلَيّ، أَنا رَسُول الله، فَلم يلتفتوا إِلَيْهِ، ومضوا ". {فأثابكم غما بغم} أَي: جازاكم، ثمَّ اخْتلفُوا، مِنْهُم من قَالَ: الْغم الأول: هُوَ الْقَتْل، والهزيمة الَّتِي وَقعت على الْمُسلمين، وَالْغَم الثَّانِي: هُوَ الإرجاف من قَول الشَّيْطَان: إِن مُحَمَّدًا قد قتل. وَقيل: [إِن] الْغم الأول: هُوَ الْقَتْل والهزيمة، وَالْغَم الثَّانِي: هُوَ فَوَات الظفر على الْعَدو. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: أَنهم غموا الرَّسُول بمخافة أمره؛ فجازاهم الله تَعَالَى بذلك الْغم غم الْقَتْل والهزيمة؛ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ ثَوابًا؛ لِأَنَّهُ وَضعه مَوضِع الثَّوَاب، كَمَا قَالَ: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} سمى الْعَذَاب: بِشَارَة؛ لِأَنَّهُ وَضعه مَوضِع الْبشَارَة {ليكلا تحزنوا على مل فاتكم وَلَا مَا أَصَابَكُم} من الْقَتْل والهزيمة، مَنعهم الله تَعَالَى من الْحزن على شَيْء ابْتَلَاهُم الله بِهِ، ووعد الثَّوَاب عَلَيْهِ {وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} .

154

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أنزل عَلَيْكُم من بعد الْغم أَمَنَة} قيل: الْأَمْن والأمنة بِمَعْنى

( {153) ثمَّ أنزل عَلَيْكُم من بعد الْغم أَمَنَة نعاسا يغشى طَائِفَة مِنْكُم وَطَائِفَة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بِاللَّه غير الْحق ظن الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء قل إِن الْأَمر كُله لله يخفون فِي أنفسهم مَا لَا يبدون لَك يَقُولُونَ لَو كَانَ لنا من الْأَمر شَيْء مَا قتلنَا هَا هُنَا قل لَو كُنْتُم فِي بُيُوتكُمْ لبرز الَّذين كتب عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مضاجعهم وليبتلي} وَاحِد، وَقيل: يكون مَعَ (زَوَال سَبَب الْخَوْف) ، فَأَما هَا هُنَا فَقَالَ: {أَمَنَة نعاسا يغشى طَائِفَة مِنْكُم} قيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: نعاسا أَمَنَة، وَقيل: هُوَ على نظمه مُسْتَقِيم، وَمعنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى أَرَادَ تميز الْمُؤمنِينَ من الْمُنَافِقين، فأوقع النعاس على الْمُؤمنِينَ أَمَنَة لَهُم، حَتَّى أمنُوا، وَلم يُوقع على الْمُنَافِقين فبقوا على الْخَوْف. قَالَ أَبُو طَلْحَة: أوقع الله تَعَالَى علينا النعاس وَنحن تَحت الْحجر. وَقيل: أوقع النعاس عَلَيْهِم حَتَّى كَانَ يسْقط السيوف من أَيْديهم، وَكَذَلِكَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالزُّبَيْر أخبرا عَن ذَلِك النعاس، كَمَا أخبر أَبُو طَلْحَة. وَعَن الزبير أَنه قَالَ: لما أوقع الله النعاس علينا، سمعنَا معتب بن قُشَيْر يَقُول: لَو كَانَ لنا من الْأَمر شَيْء مَا قتلنَا هَا هُنَا، وَكنت كَأَنِّي فِي النّوم أسمع، فَذَلِك قَوْله: {يغشى طَائِفَة مِنْكُم} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ {وَطَائِفَة قد أهمتهم أنفسهم} يَعْنِي: الْمُنَافِقين {يظنون بِاللَّه غير الْحق ظن الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء} قَالَ: {قل إِن الْأَمر كُله لله يخفون فِي أنفسهم مَا لَا يبدون لَك} . ثمَّ فسر ذَلِك فَقَالَ: {يَقُولُونَ لَو كَانَ لنا من الْأَمر شَيْء مَا قتلنَا هَا هُنَا قل لَو كُنْتُم فِي بُيُوتكُمْ لبرز الَّذين كتب عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مضاجعهم} . أَي: خرج الَّذين كتب عَلَيْهِم الْقِتَال إِلَى مصَارِعهمْ للْمَوْت، وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْأَجَل فِي الْقَتْل وَالْمَوْت وَاحِد، كَمَا قَالَ أهل السّنة. قَوْله تَعَالَى: (وليبتلي الله مَا فِي صدوركم وليمحص مَا فِي قُلُوبكُمْ وَالله عليم بِذَات الصُّدُور) .

{الله مَا فِي صدوركم وليمحص مَا فِي قُلُوبكُمْ وَالله عليم بِذَات الصُّدُور (154) إِن الَّذين توَلّوا مِنْكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا لستزلهم الشَّيْطَان بِبَعْض مَا كسبوا وَلَقَد عَفا} .

155

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين توَلّوا مِنْكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ} . يَعْنِي: الَّذين انْهَزمُوا من الْمُسلمين يَوْم أحد؛ فَإِنَّهُ لما وَقعت الْهَزِيمَة على الْمُسلمين انهزم أَكْثَرهم، وَلم يبْقى مَعَ رَسُول الله إِلَّا أَرْبَعَة عشر نَفرا: سَبْعَة من الْمُهَاجِرين وَسَبْعَة من الْأَنْصَار، وَقيل: ثَلَاثَة عشر، سِتَّة من الْمُهَاجِرين وهم أَبُو بكر، وَعمر، وَعلي، وَطَلْحَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد بن أبي وَقاص. وَفِي الرِّوَايَة الأولى: كَانَ السَّابِع الزبير، وَكَانَ طَلْحَة أَشد نكاية فِي الْكفَّار يَوْمئِذٍ. وَقيل: إِن يَوْم أحد لطلْحَة، وَقيل: إِنَّه كَانَ وقاية رَسُول الله وَكَانَ قد ضرب على يَده فشلت وَبقيت كَذَلِك. وَأما سعد وَهُوَ رامية، وَكَانَ يَرْمِي بَين يَدَيْهِ، وَيَقُول لَهُ رَسُول الله: " ارْمِ، فدَاك أبي وَأمي " وَأما الَّذين انْهَزمُوا، فقد لحق بَعضهم بِالْمَدِينَةِ مِنْهُم عُثْمَان، وَرجع بَعضهم على الطَّرِيق مِنْهُم عمر؛ فَذَلِك قَوْله: {إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان} أَي: طلب زلتهم، يُقَال: استعجل فلَانا، أَي: طلب عجلته، وَمَعْنَاهُ: أَن الشَّيْطَان استزلهم حَتَّى انْهَزمُوا. وَقَوله {بِبَعْض مَا كسبوا} يَعْنِي: من مُخَالفَة الرَّسُول {وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم إِن الله غَفُور حَلِيم} قَالَ الزّجاج: كَانَ سَبَب انهزامهم: أَن الشَّيْطَان وسوس إِلَيْهِم: إِن عَلَيْكُم ذنوبا؛ فكرهوا الْقَتْل قبل أَن يتوبوا من الذُّنُوب؛ فَذَلِك قَوْله: {إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان بِبَعْض مَا كسبوا وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم إِن الله غَفُور حَلِيم} .

{الله عَنْهُم إِن الله غَفُور حَلِيم (155) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين كفرُوا وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزى لَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا ليجعل} روى: " أَن رجلا جَاءَ إِلَى ابْن عمر - وَقيل: إِلَى ابْن عَبَّاس، [و] الْأَصَح إِلَى ابْن عَبَّاس، وَقَالَ: أَلَيْسَ عُثْمَان لم يشْهد بَدْرًا؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: أَلَيْسَ لم يشْهد بيعَة الرضْوَان؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أَلَيْسَ انهزم يَوْم أحد؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ الرجل الله أكبر. فَعرف ابْن عَبَّاس أَنه أَرَادَ النَّقْص؛ فَدَعَاهُ، قَالَ: أما يَوْم بدر؛ فَإِن النَّبِي كَانَ قد خَلفه على ابْنَته، وَكَانَت مَرِيضَة وَقَالَ لَهُ: لَك أجر وَاحِد مِمَّن شهد، وَسَهْم وَاحِد مِمَّا شهد، وَهُوَ بَدْرِي بقول الرَّسُول. وَأما بيعَة الرضْوَان، فقد كَانَ الرَّسُول بعث عُثْمَان إِلَى مَكَّة رَسُولا، وَلَو كَانَ بَينهم فِي الْوَادي أعز مِنْهُ لبعثه، وَلما بايعهم ضرب رَسُول الله بِشمَالِهِ على يَمِينه، وَقَالَ: هَذِه يَد عُثْمَان، وَهَذِه يَدي، أما انهزامه يَوْم أحد، فقد عَفا الله عَنهُ، وَلَا عيب فِي شَيْء عَفا الله عَنهُ ". فصل " وَأما مَا أصَاب رَسُول الله يَوْم أحد، فَإِنَّهُ كَانَ قد هشمت الْبَيْضَة الَّتِي كَانَت على رَأسه، وأدمي وَجهه، وَكسر [ثنيته] ؛ فجَاء إِلَى الْمَدِينَة فَكَانَت فَاطِمَة تغسل وَجهه، وَعلي - رَضِي الله عَنهُ - يَأْتِي بِالْمَاءِ فِي الْمِجَن، وَكَانَ يغلب الدَّم، حَتَّى أحرقت حَصِيرا، فَلَمَّا صَار رَمَادا، جَعَلُوهُ فِي الْجراحَة فَاسْتَمْسك الدَّم ".

156

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين كفرُوا} يَعْنِي: الْمُنَافِقين

{الله ذَلِك حسرة فِي قُلُوبهم وَالله يحيي وَيُمِيت وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (156) وَلَئِن قتلتم فِي سَبِيل الله أَو متم لمغفرة من الله وَرَحْمَة خير مِمَّا يجمعُونَ (157) وَلَئِن متم أَو قتلتم لإلى الله تحشرون (158) فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم ولوا كنت فظا غليظ الْقلب لنفضوا من حولك فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم فِي الْأَمر فَإِذا عزمت فتوكل} {وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض} أَرَادَ: إخْوَانهمْ فِي النّسَب، لَا فِي الدّين {ضربوا فِي الأَرْض} أَي: سافروا {أَو كَانُوا غزى} جمع غاز {لَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا} وَهَذَا قَول المعتب بن قُشَيْر، وَعبد الله بن أبي بن سلول، وجد بن قيس؛ {ليجعل الله ذَلِك حسرة فِي قُلُوبهم وَالله يحيي وَيُمِيت وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} .

157

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن قتلتم فِي سَبِيل الله أَو متم} أَي: لَئِن خَرجْتُمْ، فقتلتم، أَو لم تخْرجُوا، فمتم {لمغفرة من الله وَرَحْمَة خير مِمَّا يجمعُونَ} من الدُّنْيَا وَيطْلبُونَ الْحَيَاة لأَجله.

158

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن متم أَو قتلتم لإلى الله تحشرون} يَعْنِي: كَيْفَمَا خَرجْتُمْ من الدُّنْيَا، فحشركم إِلَى الله تَعَالَى.

159

قَوْله تَعَالَى: {فبمَا رَحْمَة من الله} أَي: فبرحمة، و " مَا " للصلة، {لنت لَهُم} وَهَذِه صفة الْمُؤمنِينَ، وَقد قَالَ: " الْمُؤْمِنُونَ هَينُونَ لَينُونَ، كَالْجمَلِ الْأنف، إِن قيد انْقَادَ، وَإِن أنخ على صَخْرَة استناخ ". {وَلَو كنت فظا} وَهُوَ الجافي {غليظ الْقلب} أَي: قاسي الْقلب {لَا نفضوا} لتفرقوا {من حولك} .

{على الله إِن الله يحب المتوكلين (159) إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم وَإِن يخذلكم فَمن ذَا الَّذِي ينصركم من بعده وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل وَمن يغلل يَأْتِ بِمَا غل يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ} {فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم فِي الْأَمر} الْمُشَاورَة هِيَ اسْتِخْرَاج الرَّأْي، وَكَانَت الْمُشَاورَة جَائِزَة للنَّبِي فِي أُمُور الدُّنْيَا، فَأَما فِي أُمُور الدّين فعلى التَّفْصِيل إِن كَانَ فِي شَيْئَيْنِ يجوز كِلَاهُمَا، جَازَت الْمُشَاورَة، كَمَا شاورهم فِي أُسَارَى بدر، حَيْثُ كَانَ يجوز الْقَتْل وَالْفِدَاء. وَالثَّانِي: فِي أُمُور ثبتَتْ نصا، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة، لَا تجوز فِيهَا الْمُشَاورَة. وَالثَّالِث: فِي شَيْء لَا نَص فِيهِ، فَهُوَ بِنَاء على أَن اجْتِهَاده هَل كَانَ سائغا أم لَا؟ فَإِن سَاغَ اجْتِهَاده، جَازَت مشاورته، وَإِلَّا فَلَا. ولأي كَانَ يشاور؟ قَالَ الضَّحَّاك: ليقتدى بِهِ، وليستن بسنته، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقَالَ قَتَادَة: تطييبا لقُلُوبِهِمْ. {فَإِذا عزمت فتوكل على الله} أَي: لَا تتوكل على الْمُشَاورَة، وَإِنَّمَا توكل على الله {إِن الله يحب المتوكلين} .

160

{إِن ينصركم الله فَلَا غَالب لكم وَإِن يخذلكم فَمن ذَا الَّذِي ينصركم من بعده} الخذلان: الِامْتِنَاع عَن النُّصْرَة عِنْد الْحَاجة {وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤمنِينَ} .

161

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل} يقْرَأ بقراءتين، فَمن قَرَأَهُ: بِفَتْح الْيَاء وَضم الْغَيْن، فَمَعْنَاه: أَن يخون. قَالَ ابْن عَبَّاس: سَبَب نزُول الْآيَة: أَنه يَوْم بدر فقدت قطيفة حَمْرَاء، فَقَالَ بعض أَصْحَاب رَسُول الله: الرَّسُول أَخذهَا؛ فَنزل قَوْله: {وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل} . وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكتم شَيْئا من الْوَحْي، ويخون فِيهِ. وَفِيه قَول ثَالِث: " أَن النَّبِي كَانَ قد بعث طلائع، فهم ألايعطيهم من الْغَنَائِم

( {161) أَفَمَن اتبع رضوَان الله كمن بَاء بسخط من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} شَيْئا؛ فَنزل قَوْله: {وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل} " قَالَ قَتَادَة: أَن يخان مِنْهُ، أَي: لَا تخونوه، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن ينْسب إِلَى الْغلُول، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن يلقى غلا، وَهَذَا غَرِيب من معنى الْقِرَاءَة الأولى. والغلول: الْخِيَانَة، والغل: الحقد، والغلل: المَاء الَّذِي يجْرِي بَين الشّجر، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (لعب [السُّيُول] بِهِ فَأصْبح مَاؤُهُ ... غللا [يخلل] فِي أصُول الخروع) وَفِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب امْرِئ مُسلم: إخلاص الْعَمَل لله، ونصيحة وُلَاة الْأَمر، وَلُزُوم جمَاعَة الْمُسلمين؛ فَإِن دعوتهم تحيط من ورائهم ". {وَمن يغلل} أَي: وَمن يخن {يَأْتِ بِمَا غل يَوْم الْقِيَامَة} قيل: يَأْتِي مَا غل بِعَيْنِه يَوْم الْقِيَامَة، وَذَلِكَ معنى قَوْله فِيمَا روى عَنهُ: " لألقين أحدكُم يَوْم الْقِيَامَة، وعَلى رقبته فرس لَهُ حَمْحَمَة قد غله، فَيَقُول: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَأَقُول: لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، أَلا قد بلغت، ولألقين أحدكُم يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة، وعَلى رقبته شَاة لَهَا ثُغَاء، قد غلها، فَيَقُول يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَأَقُول: لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، أَلا قد بلغت، ولألقين أحدكُم يَوْم الْقِيَامَة وعَلى رقبته بعير لَهُ رُغَاء، قد غله، فَيَقُول: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَأَقُول: لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا أَلا قد بلغت ".

((162} هم دَرَجَات عِنْد الله وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ (163) لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ) وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أَرَادَ بِهِ: يَأْتِي بإثم مَا غل يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي الْخَبَر: " أَن رجلا كَانَ على ثقل رَسُول الله، فاستشهد فَقَالَ النَّاس هُوَ فِي الْجنَّة، فَقَالَ النَّبِي هُوَ فِي النَّار؛ فَطلب، فَإِذا هُوَ قد غل عباءة عَن الْمغنم ". {ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت} أَي: جَزَاء مَا كسبت، فالجزاء مُضْمر فِيهِ {وهم لَا يظْلمُونَ} .

162

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن اتبع رضوَان الله} يَعْنِي: ترك الْغلُول {كمن بَاء بسخط من الله} يَعْنِي: بالغلول، وَقيل مَعْنَاهُ: أَفَمَن اتبع رضوَان الله بموافقة الرَّسُول، كمن بَاء بسخط من الله بمخالفة الرَّسُول {ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} .

163

قَوْله تَعَالَى: {هم دَرَجَات عِنْد الله} قَالَ مُجَاهِد: لَهُم دَرَجَات عِنْد الله، يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ غَيره: تَقْدِيره: هم ذووا دَرَجَات عِنْد الله، يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، فالمؤمنون ذووا الدَّرَجَات الرفيعة، والمنافقون ذووا الدَّرَجَات الخسيسة، وَمثله قَول الشَّاعِر: (أنصب للمنية تعتريهم ... رجالي، أم همو درج السُّيُول) أَي: ذووا درج السُّيُول. {وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ}

164

قَوْله - تَعَالَى -: {لقد من الله على الْمُؤمنِينَ} أَي: أنعم، والمنه: النِّعْمَة، والمن: الْقطع؛ وَمِنْه قَوْله - تَعَالَى -: {لَهُم أجر غير ممنون} أَي: غير مَقْطُوع، وَسميت النِّعْمَة منَّة، لِأَنَّهَا مَقْطُوعَة عَن المحن والشدائد. وَقَوله تَعَالَى: {إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم} قيل: هَذَا فِي الْعَرَب خَاصَّة؛

{بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين (164) أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قد أصبْتُم مثليها قُلْتُمْ أَنى هَذَا قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم إِن الله على كل شَيْء قدير (165) وَمَا أَصَابَكُم يَوْم التقى} لِأَن الرَّسُول بعث من بني إِسْمَاعِيل إِلَى الْعَرَب، وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم فِي حق الكافة؛ فَإِنَّهُ بعث بشر مثلهم. وَمَوْضِع الْمِنَّة فِي بَعثه من أنفسهم للْعَرَب: أَنه كَانَ شرفا لَهُم، حَيْثُ بعث الرَّسُول مِنْهُم، وَأَيْضًا فَإِن الْقُرْآن نزل بِلِسَان الْعَرَب؛ إِذْ كَانَ الرَّسُول عَرَبيا، وَكَانَ التَّعَلُّم أسهل عَلَيْهِم؛ لكَونه أقرب إِلَى أفهامهم، فالمنة فِي السهولة عَلَيْهِم، وَلِأَنَّهُ لما نَشأ فيهم، وَعرفُوا صَدَقَة وأمانته، وَكَانَ أُمِّيا مثلهم مَا كَانَ يحسن الْخط، وَلَا يعلم شَيْئا، وَلَا سَافر، ثمَّ أَتَى بِكِتَاب يخبر عَن الْقُرُون الْمَاضِيَة وقصص الْأَوَّلين، وَوَافَقَ الْكتب الْمنزلَة قبله، كَانَ أقرب إِلَى قُلُوبهم، فَكَانَ يسهل طَرِيق الْإِيمَان عَلَيْهِم. وَقَوله: {يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم} أَي: يشْهد بتزكية سَائِر الْأُمَم، ويجعلهم أزكياء، وَقيل: يطهرهم من الذُّنُوب {وَيُعلمهُم الْكتاب} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَالْحكمَة} ، قَالَ ابْن عَبَّاس: الْفِقْه والشرائع، وَقَالَ غَيره: الْحِكْمَة: السّنة. {وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين} أَي: مَا كَانُوا من قبل إِلَّا فِي ضلال مُبين.

165

قَوْله تَعَالَى: {أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة} يَعْنِي: يَوْم أحد {قد أصبْتُم مثليها} يَعْنِي: يَوْم بدر: نزلت الْآيَة فِي تَسْلِيَة الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ: أَن يَوْم أحد قتل من الْمُسلمُونَ سَبْعُونَ، وَقد أصَاب الْمُسلمُونَ مِنْهُم يَوْم بدر سبعين بِالْقَتْلِ، وَسبعين بالأسر، فَذَلِك مثليهم، فَجعل الْأسر مثل الْقَتْل؛ حَيْثُ جعل الْقَتْلَى والأسرى يَوْم بدر مثلي قَتْلَى أحد. {قُلْتُمْ أَنى هَذَا} من أَيْن هَذَا؟ {قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم} أَي: بمخالفة الرَّسُول مِنْكُم ". وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم} أَي: باختياركم الْفِدَاء؛ وَذَلِكَ أَن النَّبِي خير الْمُسلمين يَوْم بدر فِي الْأُسَارَى بَين الْقَتْل وَالْفِدَاء، وَقَالَ لَهُم: " إِن اخترتم الْفِدَاء أُصِيب

{الْجَمْعَانِ فبإذن الله وليعلم الْمُؤمنِينَ (166) وليعلم الَّذين نافقوا وَقيل لَهُم تَعَالَوْا قَاتلُوا فِي سَبِيل الله أَو ادفعوا قَالُوا لَو نعلم قتالا لأتبعناكم هم للكفر يَوْمئِذٍ أقرب مِنْهُم للْإيمَان} مِنْكُم بِعدَّتِهِمْ فِي الْعَام الْقَابِل، فَاخْتَارُوا الْفِدَاء، وَقَالُوا: نتقوى بِهِ على الْعَدو، وَيسْتَشْهد منا " فَذَلِك قَوْله: {قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم} أَي: باختياركم، وَهُوَ قَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - {إِن الله على كل شَيْء قدير} .

166

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ} يَعْنِي: يَوْم أحد {فبإذن الله} أَي: بِعلم الله، وروى " أَنه - لما نزل الْمُشْركُونَ بِأحد رأى فِي مَنَامه أَن بقرًا ينْحَر، فأوله على أَن يستشهد بعض أَصْحَابه. وَرَأى أَن سَيْفه ذَا الفقار انقصم فأوله على قتل حَمْزَة، وَرَأى كَأَن كَبْشًا أغبر قتل فأوله على قتل مبارز الْكفَّار، فَقتل يَوْم أحد مبارزهم عُثْمَان بن طَلْحَة الْعَبدَرِي من بني عبد الدَّار ".

167

{وليعلم الْمُؤمنِينَ وليعلم الَّذين نافقوا} يَعْنِي: علم الْمُشَاهدَة، وَإِن كَانَ علمهمْ علم الْغَيْب. {وَقيل لَهُم تَعَالَوْا قَاتلُوا فِي سَبِيل الله أَو ادفعوا} قَائِل ذَلِك القَوْل: عبد الله بن حرَام أَبُو جَابر، قَالَ لِلْمُنَافِقين: قَاتلُوا فِي سَبِيل الله، وَإِن لم تقاتلوا لأجل الدّين، فادفعوا عَن الْأَهْل والحريم. {قَالُوا لَو نعلم قتالا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} فَرَجَعُوا وهم يَقُولُونَ: لَا قتال، لَا قتال، حَتَّى يفشل الْمُسلمُونَ {هم للكفر يَوْمئِذٍ أقرب مِنْهُم للْإيمَان} يَعْنِي: بعد رجوعهم ومقالتهم تِلْكَ؛ لأَنهم كَانُوا من قبل من الْمُؤمنِينَ فِي الظَّاهِر؛ وَإِن كَانُوا منافقين فِي الْبَاطِن، فَلَمَّا فارقوا الْمُؤمنِينَ صَارُوا أقرب إِلَى الْكفْر مِنْهُم للْإيمَان.

{يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم وَالله أعلم بِمَا يكتمون (167) الَّذين قَالُوا لإخوانهم وقعدوا لَو أطاعونا مَا قتلوا قل فادرءوا عَن أَنفسكُم الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين (168) وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ (169) } {يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم وَالله أعلم بِمَا يكتمون} .

168

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين قَالُوا لإخوانهم} يَعْنِي: فِي النّسَب لَا فِي الدّين، وهم المُنَافِقُونَ، قَالُوا للْمُسلمين: لَو قعدوا قتلوا) ، كَمَا لم نقْتل، فَذَلِك قَوْله: {الَّذين قَالُوا لإخوانهم وقعدوا لَو أطاعونا مَا قتلوا قل فادرءوا عَن أَنفسكُم الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} يَعْنِي: إِن قدرتم على دفع الْقَتْل، وتقدرون على دفع الْمَوْت، فادفعوا الْمَوْت عَن أَنفسكُم. والدرء: الدّفع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (أَقُول وَقد درأت لَهَا وضيني ... أَهَذا دينكُمْ أبدا وديني؟)

169

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما اسْتشْهدُوا يَوْم أحد، كَانَ النَّاس يَقُولُونَ: مَاتَ فلَان؛ وَمَات فلَان، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم} قيل مَعْنَاهُ: يؤولون أَحيَاء يَوْم الْقِيَامَة. إِلَّا أَن هَذَا ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لَا يبْقى لَهُم فِيهِ تَخْصِيص، وَالأَصَح: أَنه على معنى مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تعلف من ثمار الْجنَّة - وَفِي رِوَايَة: تَأْكُل، وَفِي رِوَايَة: تسرح فِي الْجنَّة فَترد مياهها - ثمَّ تأوى إِلَى قناديل من ذهب معلقَة من الْعَرْش " وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه، وَزَاد " إِن الله تَعَالَى اطلع عَلَيْهِم اطلاعة، فَيَقُول: تمنوا عَليّ، فَيَقُولُونَ: مَاذَا نتمنى وَقد أَعطيتنَا هَذَا؟ {فَيَقُول: تمنوا على، فَيَقُولُونَ: وماذا نتمنى وَقد أَعطيتنَا هَذَا؟} فَيَقُول: تمنوا على، فَيَقُولُونَ: نتمنى أَن نرد إِلَى الدُّنْيَا ونقتل فِي سَبِيلك ثَانِيًا " الحَدِيث.

{فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم أَلا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (170) يستبشرون بِنِعْمَة من الله وَفضل وَأَن الله لَا يضيع أجر} وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: " أَن النَّبِي رأى جَابِرا حَزينًا، وَقتل أَبوهُ عبد الله بن حرَام يَوْم أحد، فَقَالَ: مَا لي أَرَاك حَزينًا، إِن الله تَعَالَى لم يكلم أحدا، إِلَّا من وَرَاء حجاب، وَقد كلم أَبَاك كفاحا، فَقَالَ: تمن عَليّ " الحَدِيث. وروى: " أَن شُهَدَاء أحد قَالُوا: من يبلغ نَبينَا وإخواننا مَا وصلنا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ الله تَعَالَى: أَنا أبلغهم - وَفِي رِوَايَة: أَنا رَسُولكُم - وَأنزل هَذِه الْآيَة ". {بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ

170

فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم) قيل مَعْنَاهُ: أَنه يدْفع إِلَيْهِم كتاب فِيهِ أَسمَاء إخْوَانهمْ الَّذين يستشهدون من بعدهمْ، فيستبشرون بهم. وَقَوله: {ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم} وَقدر عَلَيْهِم أَن يلْحقُوا بهم. فِيهِ قَول آخر، أَن الشُّهَدَاء يَقُولُونَ: ياليت إِخْوَاننَا أصيبوا مثل مَا أَصَابَنَا؛ فيصلون إِلَى مَا وصلنا؛ فَذَلِك قَوْله: {ويستبشرون بالذين لم يلْحقُوا بهم من خَلفهم أَي: بِأَن لَا خوف عَلَيْهِم {ولاهم يَحْزَنُونَ} .

171

{يستبشرون بِنِعْمَة من الله وَفضل} وَقيل: أَرَادَ بِالنعْمَةِ: قدر الْكِفَايَة، وبالفضل: مَا زَاد على الْكِفَايَة، وَمَعْنَاهُ: لَا يضيق عَلَيْهِم، بل يُوسع فِي الْعَطاء، وَقيل: ذكر الْفضل تَأْكِيدًا للنعمة، {وَأَن الله لَا يضيع أجر الْمُؤمنِينَ} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَالله لَا يضيع أجر الْمُؤمنِينَ ".

172

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُول} قيل: سَبَب نزُول الْآيَة: أَن أَبَا سُفْيَان

{الْمُؤمنِينَ (171) الَّذين اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُول من بعد مَا أَصَابَهُم الْقرح للَّذين أَحْسنُوا مِنْهُم وَاتَّقوا أجر عَظِيم (172) الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ} لما رَجَعَ إِلَى مَكَّة يَوْم أحد، قَالَ الْكفَّار بَعضهم لبَعض فِي الطَّرِيق: نرْجِع؛ فنستأصل مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله، فَقَالَ: من ينتدب إِلَى الْخُرُوج، فَانْتدبَ سَبْعُونَ نَفرا فيهم أَبُو بكر وَالزُّبَيْر. وَقد قَالَت عَائِشَة لعروة: إِن أَبَوَيْك من الَّذين اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُول، وأرادت أَن أَبَا بكر وَالزُّبَيْر كَانَا فِي السّبْعين، فَخَرجُوا إِلَى حَمْرَاء الْأسد [وهم] على ثَمَانِيَة أَمْيَال من الْمَدِينَة، فَلَمَّا وصلوا (فَإِذا الله كَانَ قد ألْقى) الرعب فِي قُلُوب الْمُشْركين، وَكَانُوا مضوا إِلَى مَكَّة ". وَقَالَ ابْن عَبَّاس (قولا آخر) : أَن أَبَا سُفْيَان لما أَرَادَ أَن يرجع يَوْم أحد، قَالَ: موعدنا وموعدكم الْعَام الْقَابِل ببدر، ثمَّ لم يتَّفق لَهُ الْخُرُوج فِي الْعَام الْقَابِل، وَخرج رَسُول الله لموعده إِلَى بدر مَعَ أَصْحَابه، فَأُولَئِك الَّذين اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُول ". {من بعد مَا أَصَابَهُم الْقرح} يَعْنِي: الْأَلَم يَوْم أحد، {للَّذين أَحْسنُوا مِنْهُم} باستجابة الرَّسُول، {وَاتَّقوا} يَعْنِي مُخَالفَة الرَّسُول {أجر عَظِيم} .

173

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ} هَذَا قَول نعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ، والقصة فِي ذَلِك: " أَن أَبَا سُفْيَان لما لم يتَّفق لَهُ الْخُرُوج لموعده ببدر بعث بنعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ إِلَى الْمَدِينَة، وَقَالَ لَهُ: ثبط

{فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل (173) فانقلبوا بِنِعْمَة من الله وَفضل لم يمسسهم سوء وَاتبعُوا رضوَان الله وَالله ذُو فضل عَظِيم (174) إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَان} أَصْحَاب مُحَمَّد عَن الْخُرُوج؛ كَيْلا يَظُنُّوا أَن بِنَا فشلا وَلَك عشر من الْإِبِل، فجَاء إِلَيْهِم، وَكَانَ النَّبِي وصاحبته يتهيئون لِلْخُرُوجِ، فَقَالَ لَهُم: تخرجُونَ إِلَيْهِم! قد خَرجُوا إِلَيْكُم فِي الْعَام الْمَاضِي، وفعلوا بكم مَا فعلوا فِي بُيُوتكُمْ، وَالله لَو خَرجْتُمْ إِلَيْهِم لَا يعود أحد مِنْكُم، فَقَالَ وَأَصْحَابه: حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل، وَلم يمتنعوا من الْخُرُوج ". فَقَوله: {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس} هُوَ نعيم بن مَسْعُود وَحده، هَذَا قَول عِكْرِمَة وَمُجاهد وَمُقَاتِل والكلبي، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ قَول نفر قَلِيل من عبد الْقَيْس، وَقَوله: {فَزَادَهُم إِيمَانًا} مِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: زادهم إِيمَانًا بتفويضهم، وَقَوْلهمْ: حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل، وَقيل مَعْنَاهُ: زادهم يَقِينا بِمَا وعدهم الله من النَّصْر، {وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل} ، قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهَذَا قَول إِبْرَاهِيم حِين ألْقى فِي النَّار، فَإِنَّهُ قَالَ: حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل.

174

قَوْله تَعَالَى: {فانقلبوا بِنِعْمَة من الله وَفضل} معنى الْآيَة: " أَن النَّبِي وَأَصْحَابه خَرجُوا لموعد أبي سُفْيَان إِلَى بدر، وَهُوَ مجمع سوق الْعَرَب، فَلم يلْقوا هُنَالك (أحدا) إِذْ لم يتَّفق (خُرُوجهمْ) ، فاتجروا هُنَالك، وربحوا، وَانْصَرفُوا " فَذَلِك قَوْله: {فانقلبوا بِنِعْمَة من الله وَفضل} فالنعمة: الْعَافِيَة، وَالْفضل: ربح التِّجَارَة {لم يمسسهم سوء وَاتبعُوا رضوَان الله وَالله ذُو فضل عَظِيم} .

175

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَان يخوف أولياءه} فالشيطان: كل عَاتٍ متمرد من الْجِنّ وَالْإِنْس، وَالْمرَاد بالشيطان هَا هُنَا: نعيم بن مَسْعُود، وَقيل: هُوَ الشَّيْطَان

{يخوف أولياءه فَلَا تخافوهم وخافون إِن كُنْتُم مُؤمنين (175) وَلَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر إِنَّهُم لن يضروا الله شَيْئا يُرِيد الله أَلا يَجْعَل لَهُم حظا فِي الْآخِرَة وَلَهُم عَذَاب عَظِيم (176) إِن الَّذين اشْتَروا الْكفْر بِالْإِيمَان لن يضروا الله شَيْئا وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (177) وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا أَنما نملي لَهُم خير لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نملي لَهُم} الْمَعْرُوف؛ فَإِنَّهُ وسوس إِلَيْهِم: أَن لَا تخْرجُوا لذَلِك الْوَعْد. وَقَوله: {يخوف أولياءه} قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: تَقْدِيره: يخوفكم أولياءه أَي: من أولياءه، وهم الْكفَّار، وَقَالَ أهل الْمعَانِي: هُوَ قَول حسن. وَقَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: يخوفكم بأوليائه، وَكَذَا قَرَأَ أبي بن كَعْب. (وَمثله) قَوْله تَعَالَى: {لينذر بَأْسا شَدِيدا} أَي: ببأس شَدِيد، وَقَالَ الشَّاعِر: (أَمرتك الْخَيْر فافعل مَا أمرت بِهِ ... فقد تركتك ذَا مَال وَذَا نسب) أَي: أَمرتك بِالْخَيرِ، فَنزع الْبَاء {فَلَا تخافوهم وخافون إِن كُنْتُم مُؤمنين}

176

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يحزنك} وَيقْرَأ: " وَلَا يحزنك) بِضَم الْيَاء، ومعناهما وَاحِد. {الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} يَعْنِي: قَول الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر. {إِنَّهُم لن يضروا الله شَيْئا} أَي: لن ينقصوا الله شَيْئا {يُرِيد الله أَلا يَجْعَل لَهُم حظا فِي الْآخِرَة} أَي: نَصِيبا فِي الْآخِرَة {وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} .

177

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اشْتَروا الْكفْر بِالْإِيمَان} أَي: استبدلوا وكل شِرَاء استبدال، وَلَيْسَ كل استبدال شِرَاء {لن يضروا الله شَيْئا} أَي: لن ينقصوا الله شَيْئا {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} .

178

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا} أَي: لَا يظنن، من الحسبان: الظَّن {أَنما نملي لَهُم خير لأَنْفُسِهِمْ} الْإِمْلَاء: إطالة الْعُمر، والإمهال: التَّأْخِير، وَيُقَال لِليْل وَالنَّهَار: ملوان.

{ليزدادوا إِثْمًا وَلَهُم عَذَاب مهين (178) مَا كَانَ الله ليذر الْمُؤمنِينَ على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ حَتَّى يُمَيّز الْخَبيث من الطّيب وَمَا كَانَ الله ليطلعكم على الْغَيْب وَلَكِن الله يجتبي من رسله من يَشَاء فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَإِن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عَظِيم (197) وَلَا يَحسبن الَّذين يَبْخلُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فَضله هُوَ خيرا لَهُم بل هُوَ شَرّ لَهُم سيطوقون مَا بخلوا} {إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا} أَي: إِنَّمَا نطيل عمرهم ليزدادوا إِثْمًا. روى الْأسود عَن أبن مَسْعُود: " مَا من أحد إِلَّا وَالْمَوْت خير لَهُ؛ برا كَانَ أَو فَاجِرًا: أما الْبر، لقَوْله تَعَالَى -: {وَمَا عِنْد الله خير للأبرار} وَأما الْفَاجِر؛ لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا} ؛ وَذَلِكَ أَنه إِذا ازْدَادَ إِثْمًا اشتدت عُقُوبَته " {وَلَهُم عَذَاب مهين} .

179

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ الله ليذر الْمُؤمنِينَ على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ} يَعْنِي: على اخْتِلَاط الْمُنَافِقين بكم؛ فَإِنَّهُم كَانُوا مختلطين بِالْمُؤْمِنِينَ {حَتَّى يُمَيّز الْخَبيث من الطّيب} قَالَ مُجَاهِد: حَتَّى يُمَيّز الْكَافِر من الْمُؤمن، وَقَالَ قَتَادَة: حَتَّى يُمَيّز، الْمُنَافِق من الْمُؤمن، وَيقْرَأ: حَتَّى " يُمَيّز " مشددا يُقَال: ماز يُمَيّز، وميز يُمَيّز، بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي الحَدِيث: " من ماز أَذَى من الطَّرِيق، فَهُوَ لَهُ صَدَقَة " {وَمَا كَانَ الله ليطلعكم على الْغَيْب} سَبَب نُزُوله: أَن أَصْحَاب رَسُول الله قَالُوا: يَا رَسُول الله، أخبرنَا بِمن يَمُوت على الْإِيمَان، وَمن يَمُوت على الْكفْر؛ فَنزل قَوْله: {وَمَا كَانَ الله ليطلعكم على الْغَيْب وَلَكِن الله يجتبي من رسله من يَشَاء} يَعْنِي: فيطلعه على الْغَيْب بِمَا شَاءَ، وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي آخر سُورَة الْجِنّ: {فَلَا يظْهر على غيبه أحدا إِلَّا من ارتضى من رَسُول} {فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وَإِن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عَظِيم} .

180

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين يَبْخلُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فَضله هُوَ خيرا لَهُم} يَعْنِي: هُوَ يكون خيرا لَهُم {بل هُوَ شرا لَهُم} فِي معنى الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه فِي الْيَهُود، حَيْثُ كتموا نعت مُحَمَّد، وبخلوا بِهِ؛ فعلى هَذَا معنى قَوْله: {سيطوقون مَا بخلوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة} أَي: إِثْم مَا بخلوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة فِي

{بِهِ يَوْم الْقِيَامَة وَللَّه مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (180) لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء سنكتب مَا قَالُوا وقتلهم الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق} مَا نعى الزَّكَاة، وَقَوله: {سيطوقون مَا بخلوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة} على حَقِيقَته، وَهُوَ معنى مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " من منع الزَّكَاة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة، فيمثل لَهُ مَاله شجاعا أَقرع فيطوق فِي رقبته، [فينهسه] من قرنه إِلَى قَدَمَيْهِ ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة ". {وَللَّه مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يكون لَهُ مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قيل: الْعَرَب تسمى كل مَا انْتقل من أحد إِلَى غَيره مِيرَاثا بِأَيّ سَبَب كَانَ، فَلَمَّا خلصت السَّمَوَات وَالْأَرْض لله تَعَالَى بعد هَلَاك الْعباد، سَمَّاهُ مِيرَاثا، كَأَنَّهُ انْتقل مِنْهُم إِلَيْهِ {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} .

181

قَوْله تَعَالَى: {لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} قيل: سَبَب نزُول الْآيَة: أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} قَالَت الْيَهُود: إِن الله يستقرض منا أَمْوَالنَا؛ فَإِذن هُوَ فَقير وَنحن أَغْنِيَاء وَمَا قَالُوا ذَلِك عَن اعْتِقَاد، وَلَكِن تمويها على الْمُسلمين، وتشكيكا لَهُم فِيمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله، فَنزل قَوْله: {لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} وَفِيه قَول آخر: أَنه عَلَيْهِ [الصَّلَاة و] السَّلَام لما اسْتَعَانَ بيهود بني قينقاع فِي الْحَرْب، قَالُوا: إِن الله فَقير إِذن؛ حَيْثُ يَسْتَعِين بِنَا فِي نصْرَة دينه، وَنحن أَغْنِيَاء؛ فَنزلت الْآيَة. {سنكتب مَا قَالُوا} : هُوَ الْكِتَابَة فِي صَحَائِف الْأَعْمَال، وَقيل: مَعْنَاهُ: نحصي مَا قَالُوا نجازى عَلَيْهِ، وَيقْرَأ: " سيكتب مَا قَالُوا " بِضَم الْيَاء. {وقتلهم الْأَنْبِيَاء} بِالرَّفْع أَي: وَيكْتب قَتلهمْ الْأَنْبِيَاء {بِغَيْر حق ونقول ذوقوا عَذَاب الْحَرِيق} أَي:

{ونقول ذوقوا عَذَاب الْحَرِيق (181) ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد (182) الَّذين قَالُوا إِن الله عهد إِلَيْنَا أَلا نؤمن لرَسُول حَتَّى يأتينا بقربان تَأْكُله النَّار قل قد جَاءَكُم رسل من قبلي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلم قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنْتُم صَادِقين (183) فَإِن كَذبُوك فقد كذب رسل من قبلك جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ والزبر وَالْكتاب الْمُنِير (184) كل} بِعَذَاب النَّار؛ لِأَن عَذَاب النَّار محرق.

182

{ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم} يَعْنِي: بِمَا قدمتم، وَذكر أَيْدِيكُم تَأْكِيدًا. {وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد} يَعْنِي: أَنه يفعل مَا يفعل بهم؛ مجازاة لَهُم على أَعْمَالهم.

183

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين قَالُوا إِن الله عهد إِلَيْنَا أَلا نؤمن لرَسُول حَتَّى يأتينا بقربان تَأْكُله النَّار} الْآيَة فِي الْيَهُود، قَالَ السّديّ: كَانَ الله تَعَالَى عهد إِلَى الْيَهُود: أَن لَا يُؤمنُوا لرَسُول حَتَّى يَأْتِيهم بقربان تَأْكُله النَّار سوى عِيسَى وَمُحَمّد، فَأَنَّهُ أَمرهم أَن يُؤمنُوا بهما من غير هَذِه الشريطة. وَقَالَ غَيره: كَانُوا يَتَقَرَّبُون بالقربان، ثمَّ يَأْخُذُونَ أطايب لَحْمه، فيضعونها فِي بَيت، ثمَّ يقوم نَبِيّهم فِي ذَلِك الْبَيْت يُنَاجِي ربه، فتأتي نَار بَيْضَاء لَهَا حفيف من السَّمَاء، فتأكله، وَيكون ذَلِك عَلامَة قبُول القربان. {قل قد جَاءَكُم رسل من قبلي بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات والمعجزات {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} يَعْنِي: من الْإِتْيَان بقربان تَأْكُله النَّار. {فَلم قَتَلْتُمُوهُمْ} أَي: فَلم كذبتموهم، وَقَتَلْتُمُوهُمْ {إِن كُنْتُم صَادِقين} فِي دعوتكم ذَلِك الْعَهْد.

184

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن كَذبُوك فقد كذب رسل من قبلك جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات والمعجزات {والزبر} : جمع الزبُور وَهُوَ كتاب فِيهِ الْحِكْمَة، وَبِه سمى كتاب دَاوُد: زبورا، وَفِي مصحف أهل الشَّام " وبالزبر ". فَإِن قَالَ قَائِل: أَي فرق بَين الزبر وَالْكتاب؟ وَقد قَالَ: {والزبر وَالْكتاب الْمُنِير}

{نفس ذائقة الْمَوْت وَإِنَّمَا توفون أجوركم يَوْم الْقِيَامَة فَمن زحزح عَن النَّار وادخل الْجنَّة فقد فَازَ وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور (185) لتبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِن تصبروا وتتقوا} قيل: الْكتاب اسْم لما كتب، وَضم بعض الْكَلِمَات فِيهِ إِلَى بعض من الْكتب (وَهُوَ) الضَّم، وَأما الزبر: مَأْخُوذ من الزبر وَهُوَ الزّجر، فالزبور: كتاب فِيهِ مزاجر.

185

قَوْله تَعَالَى: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} والذوق فِي الْمَوْت مجَاز، وَحَقِيقَة الذَّوْق: هُوَ الإحساس بالشَّيْء؛ فَلَمَّا كَانَ يحس بِالْمَوْتِ، سَمَّاهُ ذوقا مجَازًا، قَالَ الشَّاعِر: (من لم يمت عبطة يمت هرما ... الْمَوْت كأس وكل النَّاس ذائقها) فَإِن قَالَ قَائِل: لَا يخفي أَن كل نفس تَمُوت، فأيش الْفَائِدَة فِي قَوْله: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} ؟ قيل: أَرَادَ بِهِ: التزهيد بالدنيا، يَعْنِي: أَن النُّفُوس إِلَى الفناء؛ فتزهدوا بالدنيا، {وَإِنَّمَا توفون أجوركم يَوْم الْقِيَامَة} . {فَمن زحزح عَن النَّار} أَي: نجى، وَبعد عَن النَّار {وَأدْخل الْجنَّة فقد فَازَ} أَي: نجا {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور} لِأَنَّهَا تغر الْإِنْسَان، وَهِي الإنقطاع.

186

قَوْله تَعَالَى: {لتبلون} أَي: لتختبرن، وَقيل: لتصابن {فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ} فِي أَمْوَالكُم بِالْإِنْفَاقِ، وَأَنْفُسكُمْ بِالْجِهَادِ، وَقيل: فِي أَمْوَالكُم (وَأَنْفُسكُمْ بالمصائب والأمراض، وَقَالَ بعض أَصْحَاب الخواطر: فِي أَمْوَالكُم) بِالْمَنْعِ عَن الْحق، وَأَنْفُسكُمْ بِاتِّبَاع الْهوى. {ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا} قَالَ الزُّهْرِيّ: هَذَا فِي كَعْب بن الْأَشْرَف، كَانَ يهجو النَّبِي وَيسمع الْمُسلمين هجاه "، وَقيل: هُوَ قَول الْيَهُود: عَزِيز ابْن الله، وَقَول النَّصَارَى: الْمَسِيح ابْن الله، وَقيل: هُوَ قَول أُولَئِكَ الَّذين قَالُوا: إِن الله فَقير.

{فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور (186) وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبينه للنَّاس وَلَا تكتمونه فنبذوه وَرَاء ظُهُورهمْ واشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا فبئس مَا يشْتَرونَ (187) لَا تحسبن الَّذين يفرحون بِمَا أُوتُوا وَيُحِبُّونَ أَن يحْمَدُوا بِمَا لم يَفْعَلُوا فَلَا تحسبنهم بمفازة من الْعَذَاب وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (188) وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله على كل شَيْء} {وَإِن تصبروا} يَعْنِي: على الْأَذَى {وتتقوا} يَعْنِي: من مُخَالفَة الرَّسُول {فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} أَي: من حقائق الْأُمُور، وشدائدها.

187

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس وَلَا يكتمونه. وَقيل: هُوَ فِي جَمِيع الْعلمَاء، أَخذ الله مِيثَاق الْعلمَاء: أَن يبينوا الْعلم للنَّاس وَلَا يكتمونه، وَفِي الحَدِيث: " من سُئِلَ عَن علم، فكتمه، ألْجم بلجام من نَار ". {فنبذوه وَرَاء ظُهُورهمْ} أَي: تَرَكُوهُ وَرَاء ظُهُورهمْ (واشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا) يَعْنِي: الرشاء {فبئس مَا يشْتَرونَ} .

188

قَوْله تَعَالَى: {لَا تحسبن الَّذين يفرحون بِمَا أُوتُوا} يَعْنِي: الْيَهُود، بِمَا أُوتُوا أَي: الْعلم وَالْكتاب، وَلم يقومُوا بِمُوجبِه وَمَا يَقْتَضِيهِ، وَقيل: هُوَ فِي الْمُنَافِقين يفرحون بِمَا أَتَوا من التَّخَلُّف عَن رَسُول الله. {وَيُحِبُّونَ أَن يحْمَدُوا بِمَا لم يَفْعَلُوا} (يَعْنِي) : بالأعذار الكاذبة، {فَلَا تحسبنهم بمفازة من الْعَذَاب} أَي: بمنجاة من الْعَذَاب {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} . وروى أَن مَرْوَان بعث إِلَى عَائِشَة: هلكنا إِذن؛ فَإنَّا نفرح بِمَا نأتي، ونحب أَن نحمد بِمَا لم نَفْعل؛ وَالله تَعَالَى يَقُول: {فَلَا تحسبنهم بمفازة من الْعَذَاب} فَذكرت عَائِشَة أَن الْآيَة فِي الْيَهُود

{قدير (189) إِن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لآيَات لأولي الْأَلْبَاب (190) الَّذين يذكرُونَ الله قيَاما وقعودا وعَلى جنُوبهم ويتفكرون فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض رَبنَا مَا خلقت هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فقنا عَذَاب النَّار (191) رَبنَا إِنَّك}

189

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله على كل شَيْء قدير} ذكر هَذَا رد لقَولهم: إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء.

190

قَوْله تَعَالَى: (إِن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لآيَات لأولي الْأَلْبَاب) يَعْنِي: أَن فِيهَا دلالات على وحدانيته لِذَوي الْعُقُول.

191

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يذكرُونَ الله قيَاما وقعودا وعَلى جنُوبهم} روى ابْن مَسْعُود وَعمْرَان بن الْحصين أَن النَّبِي قَالَ: " صل قَائِما، فَإِن لم تستطع فقاعدا، فَإِن لم تستطع فعلى جَنْبك تومىء إِيمَاء " فَهَذَا معنى الْآيَة. وَقيل: مَعْنَاهُ: الَّذين يوحدون الله على كل حَال. {ويتفكرون فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} فيستدلون بِهِ على وحدانيته، وَفِي الحَدِيث: " تَفَكَّرُوا فِي الْخلق، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِق ". {رَبنَا مَا خلقت هَذَا بَاطِلا} أَي: عَبَثا، وَقيل: (بَاطِلا) أَي: بباطل. {سُبْحَانَكَ} : هُوَ للتنزيه عَن كل سوء {فقنا عَذَاب النَّار} روى عَن ابْن عَبَّاس: أَنه قَالَ: " بَيت عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة، فَنَامَ رَسُول الله وَأَهله على عرض الوسادة، وَأَنا

{من تدخل النَّار فقد أخزيته وَمَا للظالمين من أنصار (192) رَبنَا إننا سمعنَا مناديا يُنَادي للْإيمَان أَن آمنُوا بربكم فَآمَنا رَبنَا فَاغْفِر لنا ذنوبنا وَكفر عَنَّا سيئاتنا وتوفنا مَعَ الْأَبْرَار (193) رَبنَا وآتنا مَا وعدتنا على رسلك وَلَا تخزنا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّك لَا تخلف الميعاد} على طولهَا، ثمَّ قَامَ من اللَّيْل، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَات الْعشْر " وَفِي رِوَايَة قَالَ: " سُبْحَانَ الْملك القدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَات الْعشْر إِلَى آخر السُّورَة ".

192

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا إِنَّك من تدخل النَّار فقد أخزيته} أَي: أهلكته. فَإِن قَالَ قَائِل: ألستم تَقولُونَ: إِن الْمُؤمنِينَ يخلدُونَ النَّار، وَلَا يدْخلُونَ فِيهَا، فَكيف يكون ذَلِك إهلاكا؟ قيل: قَالَ قَتَادَة: معنى الْآيَة: إِنَّك من تدخل النَّار للخلود فقد أخزيته أَي: أهلكته، وَقَالَ الضَّحَّاك: معنى الْآيَة {إِنَّك من تدخل النَّار فقد أخزيته} أَي: فضحته، وهتكت ستره؛ فعلى هَذَا يَسْتَوِي فِيهِ كل من دخل النَّار وَإِن لم يخلد فِيهَا {وَمَا للظالمين من أنصار} .

193

{رَبنَا إننا سمعنَا مناديا يُنَادى للْإيمَان أَن آمنُوا بربكم فَآمَنا} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن الْمُنَادِي: هُوَ الرَّسُول، وَقيل: هُوَ الْقُرْآن قَالَه مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ. لِأَن كثيرا من النَّاس لم ير الرَّسُول وَلم يسمعهُ. {رَبنَا فَاغْفِر لنا ذنوبنا} أَي: كبائرنا {وَكفر عَنَّا سيئاتنا} أَي: صغائرنا، وَقيل: الذُّنُوب: الْمعاصِي، والسيئات: التَّقْصِير فِي الطَّاعَات. {وتوفنا مَعَ الْأَبْرَار} الْبر الْمُطِيع، وَفِي الْآثَار: إِن الْبر لَا يُؤْذِي الذَّر. يَعْنِي: النَّمْل الصغار الْحمر.

194

{رَبنَا وآتنا مَا وعدتنا على رسلك} أَي: على أَلْسِنَة رسلك {وَلَا تخزنا يَوْم الْقِيَامَة} أَي: لَا تفضحنا، وَلَا تُهْلِكنَا. {إِنَّك لَا تخلف الميعاد} وَهُوَ على سَبِيل الْمَدْح لَهُ؛ لأَنا على الْقطع نعلم أَنَّك لَا تخلف الميعاد.

( {194) فَاسْتَجَاب لَهُم رَبهم أَنِّي لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى بَعْضكُم من بعض فَالَّذِينَ هَاجرُوا وأخرجوا من دِيَارهمْ وأوذوا فِي سبيلي وقاتلوا وَقتلُوا لأكفرن عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلنهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ثَوابًا من عِنْد الله وَالله عِنْده حسن الثَّوَاب (195) لَا يغرنك تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد (196) مَتَاع قَلِيل ثمَّ مأواهم جَهَنَّم وَبئسَ المهاد (197) لَكِن الَّذين اتَّقوا رَبهم لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نزلا من عِنْد الله وَمَا عِنْد الله خير للأبرار (198) وَإِن من أهل}

195

قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَجَاب لَهُم رَبهم أَنِّي لَا أضيع عمل عَامل مِنْكُم من ذكر أَو أُنْثَى} روى أَن أم سَلمَة قَالَت لرَسُول الله: إِنِّي أرى الله لَا يذكر النِّسَاء فِي الْقُرْآن، فَنزل قَوْله: ( {من ذكر أَو أُنْثَى} بَعْضكُم من بعض) أَي: كلكُمْ كَنَفس وَاحِدَة، فَلَا أضيع عمل وَاحِد مِنْكُم. {فَالَّذِينَ هَاجرُوا وأخرجوا من دِيَارهمْ وأوذوا فِي سبيلي وقاتلوا وَقتلُوا} وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " وَقتلُوا وقاتلوا " {لأكفرن عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلنهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ثَوابًا من عِنْد الله} أَي: جَزَاء من عِنْد الله، {وَالله عِنْده حسن الثَّوَاب} .

196

قَوْله تَعَالَى: {لَا يغرنك تقلب الَّذين كفرُوا فِي الْبِلَاد} يَعْنِي: على مُرَادهم، فَإِن مصيرهم إِلَى النَّار

197

{مَتَاع قَلِيل ثمَّ مأواهم جَهَنَّم وَبئسَ المهاد} وَفِيه دَلِيل على أَن أقل الْقَلِيل من الْجنَّة خير من الدُّنْيَا، وَفِي الحَدِيث: " لموْضِع سَوط من الْجنَّة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ".

198

قَوْله تَعَالَى: {لَكِن الَّذين اتَّقوا رَبهم لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نزلا من عِنْد الله} النزل هُوَ مَا يعد للضيف من النِّعْمَة؛ فَسمى الله تَعَالَى مَا

{الْكتاب لمن يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم وَمَا أنزل إِلَيْهِم خاشعين لله لَا يشْتَرونَ بآيَات الله ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم إِن الله سريع الْحساب (199) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابطُوا وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون (200) } أعده للْمُؤْمِنين من نعيم الْجنَّة: نزلا من عِنْد الله {وَمَا عِنْد الله خير للأبرار}

199

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من أهل الْكتاب لمن يُؤمن بِاللَّه} قيل: أَرَادَ النَّجَاشِيّ، وروى أَنه لما مَاتَ قَالَ النَّبِي لأَصْحَابه: " صلوا على أَخ لكم مَاتَ، وَهُوَ أَصْحَمَة النَّجَاشِيّ " فَقَالَ المُنَافِقُونَ: انْظُرُوا يُصَلِّي على علج من النَّصَارَى ويدعوا لَهُ؛ فَنزلت الْآيَة. وَقيل: هُوَ فِي عبد الله بن سَلام، وَمن أسلم مَعَه؛ فَذَلِك قَوْله: {لمن يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم وَمَا أنزل إِلَيْهِم خاشعين لله} أَي: متواضعين لله {لَا يشْتَرونَ بآيَات الله ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم إِن الله سريع الْحساب} .

200

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اصْبِرُوا} يَعْنِي: على الْجِهَاد، {وَصَابِرُوا} أَي: مَعَ الْأَعْدَاء {وَرَابطُوا} أَي: فِي الثغور بالملازمة، وَقيل: اصْبِرُوا على دينكُمْ، وَصَابِرُوا مَعَ الْأَعْدَاء، وَرَابطُوا بالمحافظة على الصَّلَوَات، وَفِي الحَدِيث: قَالَ رَسُول الله: " أَلا أدلكم على مَا يمحو الله بِهِ السَّيِّئَات، وَيرْفَع الله بِهِ الدَّرَجَات، قيل: بلَى يَا رَسُول الله، قَالَ: إسباغ الْوضُوء فِي السبرات، وَنقل الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات، وانتظار الصَّلَاة بعد الصَّلَاة فذلكم، الرِّبَاط، فذلكم الرِّبَاط، فذلكم الرِّبَاط ". {وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} أَي: كونُوا على رَجَاء الْفَلاح.

تَفْسِير سوره النِّسَاء بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ: اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة تسمى: سُورَة النِّسَاء، وَتسَمى سُورَة الْأَحْكَام، وَهِي مَدَنِيَّة على قَول أَكثر الْمُفَسّرين، إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} ؛ فَإِن هَذِه الْآيَة نزلت بِمَكَّة فِي مَفَاتِيح الْكَعْبَة، وَأورد النّحاس أَن السُّورَة مَكِّيَّة. وَفِي الحَدِيث: " من قَرَأَ سُورَة الْبَقَرَة، وَآل عمرَان، وَالنِّسَاء فِي لَيْلَة؛ كتب من القانتين "، وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: تعلمُوا سُورَة الْبَقَرَة، وَالنِّسَاء، والمائدة، وَسورَة النُّور، والأحزاب؛ فَإِن فِيهِنَّ الْفَرَائِض.

{يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نفس واحده وَخلق مِنْهَا زَوجهَا وَبث مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا}

النساء

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا النَّاس} قَالَ عَلْقَمَة: كل مَا نزل فِي الْقُرْآن: {يَا أَيهَا النَّاس} فَإِنَّمَا نزل بِمَكَّة، وكل مَا ورد فِي الْقُرْآن: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فَإِنَّمَا نزل بِالْمَدِينَةِ. وَقَوله: {يَا أَيهَا} " يَا " للنداء، و " أَي " للْإِشَارَة، و " هَا " للتّنْبِيه {اتَّقوا ربكُم} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " اتَّقوا (الله) ربكُم ". بَدَأَ من السُّورَة بالوعظ والتحذير، فَقَالَ: {اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} ، وَأَرَادَ بِالنَّفسِ الْوَاحِدَة آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَإِنَّمَا قَالَ: {وَاحِدَة} على التَّأْنِيث؛ لأجل اللَّفْظ؛ لِأَن النَّفس مُؤَنّثَة، وَهَذَا مثل قَول الشَّاعِر: (أَبوك خَليفَة وَلدته أُخْرَى ... وَأَنت خَليفَة ذَاك الْكَمَال) وَإِنَّمَا قَالَ: وَلدته للفظ الْخَلِيفَة، وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ الذّكر {وَخلق مِنْهَا زَوجهَا} يَعْنِي: حَوَّاء، وَسميت حَوَّاء؛ لِأَنَّهَا خلقت من حَيّ، وَفِي الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى خلق حَوَّاء من ضلع لآدَم فِي جنبه الْأَيْسَر يُسمى: " القصيراء " وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف " أَن الْمَرْأَة خلقت من ضلع أَعْوَج، فَإِن أردْت أَن تقيمها كسرتها، وَإِن تركتهَا استمتعت بهَا على اعوجاج " وَقيل: إِن حَوَّاء خلقت من التُّرَاب. وَقَوله: {وَخلق مِنْهَا زَوجهَا} مَعْنَاهُ: وَخلق من جِنْسهَا زَوجهَا، يَعْنِي: التُّرَاب، وَالأَصَح الأول. وَفِي الْخَبَر: أَن الله تَعَالَى لما خلق آدم ألْقى عَلَيْهِ النّوم، ثمَّ أَخذ ضلعا من أضلاعه، وَخلق مِنْهُ حَوَّاء، فَجَلَست بجنبه، فَلَمَّا انتبه رَآهَا جالسه بجنبه، وَقيل: إِنَّه لم يؤذه أَخذ الضلع شَيْئا، وَلَو آذاه لما عطف رجل على امْرَأَة أبدا. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى خلق الرجل من التُّرَاب؛ فهمه فِي التُّرَاب، وَخلق

{وَنسَاء وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيبا (1) وَآتوا الْيَتَامَى أَمْوَالهم} الْمَرْأَة من الرجل، فهمها فِي الرجل؛ فاحبسوا نساءكم. {وَبث مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا وَنسَاء} ذكر هَذَا كُله لبَيَان الْقُدْرَة؛ وَإِظْهَار الْمِنَّة {وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ} أَي: تسْأَلُون بِهِ، وَذَلِكَ مثل قَول الرجل: أَسأَلك بِاللَّه، ونشدتك بِاللَّه، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَاتَّقوا الله الَّذِي تعاهدون بِهِ، وَذَلِكَ أَن تَقول: عَلَيْك عهد الله، وَعلي عهد الله، وَنَحْو ذَلِك. وَأما قَوْله: {والأرحام} قَرَأَ حَمْزَة: " الْأَرْحَام " بِكَسْر الْمِيم وَتَقْدِيره: تساءلون بِهِ وبالأرحام، قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: تَقول الْعَرَب: نشدتك بِاللَّه وبالرحم. وضعفوا هَذِه الْقِرَاءَة، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: بِنصب الْمِيم، وَتَقْدِيره: وَاتَّقوا الْأَرْحَام أَن تقطعوها. وَفِي الْخَبَر: يَقُول الله تَعَالَى: " أَنا الرَّحْمَن، وخلقت الرَّحِم، واشتققت لَهَا اسْما من اسْمِي، فَمن وَصلهَا وصلته، وَمن قطعهَا قطعته ". وروى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى يعمر الْكفَّار، وَيكثر أَمْوَالهم، وَلم ينظر إِلَيْهِم مُنْذُ خلقهمْ؛ بغضا لَهُم، فَقيل: مِم ذَاك يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بصلَة الْأَرْحَام ". {إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيبا} أَي: حفيظا.

2

قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا الْيَتَامَى أَمْوَالهم} أَرَادَ بِهِ: دفع المَال إِلَيْهِم بعد الْبلُوغ،

{وَلَا تتبدلوا الْخَبيث بالطيب وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم إِنَّه كَانَ حوبا كَبِيرا (2) وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا} وَسَمَّاهُمْ بعد الْبلُوغ يتامى؛ لقرب عَهدهم باليتيم، وَكَانَت قُرَيْش تسمي رَسُول الله يَتِيم أبي طَالب لذَلِك. {وَلَا تتبدلوا الْخَبيث بالطيب} وَفِي قِرَاءَة شَاذَّة: " وَلَا تشتروا الْخَبيث بالطيب " فالخبيث: الْحَرَام، وَالطّيب الْحَلَال، وَمعنى الْكَلَام: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَال الْيَتَامَى حَرَامًا، وَتَدعُوا أَمْوَالكُم الْحَلَال، وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لَا تستعجلوا أكل الْحَرَام؛ فَإِن الْحَلَال يأتيكم. {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم} قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: مَعَ أَمْوَالكُم، وَقَالَ غَيره: " إِلَى " لَا تكون بِمَعْنى " مَعَ "، وَهِي على حَقِيقَتهَا، وَمَعْنَاهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم مُضَافَة إِلَى أَمْوَالكُم. {إِنَّه كَانَ حوبا كَبِيرا} فالحوب: الْإِثْم، وَفِي الْخَبَر: " أَن أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَرَادَ أَن يُطلق امْرَأَته أم أَيُّوب، فَقَالَ النَّبِي: إِن طَلَاق أم أَيُّوب لَحوب "

3

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} أَي: أَلا تعدلوا، يُقَال: أقسط، إِذا عدل، وقسط، إِذا جَار، وَفِي معنى الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا أوردهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، وَهُوَ مَا روى الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة أَنه سَأَلَ عَائِشَة عَن شَأْن هَذِه الْآيَة، فَقَالَت: يَا ابْن أُخْتِي، نزلت الْآيَة فِي يتيمة تكون فِي حجر وَليهَا، ويرغب فِي مَالهَا وجمالها، وَلَا يقسط فِي صَدَاقهَا؛ فنهوا عَن نِكَاحهنَّ، وَأمرُوا أَن ينكحوا غَيْرهنَّ " فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة: وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي نِكَاح الْيَتَامَى؛ {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} . وَقَالَ ابْن عَبَّاس: قصر نِكَاح النِّسَاء على الْأَرْبَع من أجل أَمْوَال الْيَتَامَى، فَإِن قيل:

{فواحده أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم ذَلِك أدنى أَلا تعولُوا (3) وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه هَنِيئًا مريئا (4) وَلَا تُؤْتوا} كَيفَ يعرف هَذَا، وَكَيف يلتئم بِذَاكَ هَذَا؟ قيل: مَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى لما شدد فِي أَمْوَال الْيَتَامَى، تحرج الْمُسلمُونَ عَنْهَا غَايَة التحرج، وشرعوا فِي نِكَاح النِّسَاء، واستهانوا بِهِ؛ فَنزلت الْآيَة، وَأَرَادَ: إِنَّكُم كَمَا تحرجتم عَن أَمْوَال الْيَتَامَى؛ خوفًا من الْجور، فتحرجوا عَن الزِّيَادَة على الْأَرْبَع أَيْضا؛ خوفًا من الْجور والميل، فَهَذَا معنى قَوْله: {فانكحوا مَا طَابَ لكم} أَي: مَا حل لكم {من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} أَي: لَا تجاوزوا الْأَرْبَع. وَذهب بعض النَّاس إِلَى أَن نِكَاح التسع جَائِز بِظَاهِر هَذِه الْآيَة؛ لِأَن الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاث والأربع يكون تسعا لَيْسَ بِصَحِيح، بل فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قَالَ الزّجاج: مثنى مثنى، ثَلَاث ثَلَاث، رباع رباع، يَعْنِي: لكل النَّاس، وَقيل: " الْوَاو " بِمَعْنى: " أَو " يَعْنِي: مثنى، أَو ثَلَاث، أَو رباع؛ وَلِأَن على التَّقْدِير الَّذِي ذكرُوا [عي] فِي الْكَلَام؛ لِأَن من أَرَادَ أَن يذكر التسع فَيَقُول: مثنى وَثَلَاث وَربَاع، عد ذَلِك عَيْبا فِي الْكَلَام وَقد قَالَ: {فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة} ؛ لِأَنَّهُ أخف مؤنه {أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} لِأَن حُقُوق ملك الْيَمين أدنى من حُقُوق ملك النِّكَاح، وَهُوَ معنى قَوْله: {ذَلِك أدنى أَلا تعولُوا} أَي: ذَلِك أقرب أَن لَا تَجُورُوا، يُقَال: عَال، يعول إِذا جَار، وأعال يعيل إِذا كثر عِيَاله، قَالَ الشَّاعِر: (إِنَّا اتَّبعنَا الرَّسُول واطرحوا ... أَمر الرَّسُول وعالوا فِي الموازين) أَي جاروا، وروى: أَن أهل الْكُوفَة عتبوا على عُثْمَان فِي شَيْء، فَقَالَ: لست بقسطاء، فَلَا أعول، أَي لست بقسطاس؛ فَلَا أجور. وَقَالَ الشَّافِعِي: مَعْنَاهُ: ذَلِك أدنى أَلا تكْثر عيالكم. وَحكى الْأَزْهَرِي عَن الْكسَائي

{السُّفَهَاء أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما وارزقوهم فِيهَا وأكسوهم وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا (5) وابتلوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح فَإِن آنستم مِنْهُم رشدا فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم وَلَا تَأْكُلُوهَا} إِنَّه حكى عَن الْعَرَب: عَال يعول: إِذا كثر عِيَاله، وَهَذَا يُؤَيّد قَول الشَّافِعِي.

4

{وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة} الصَّدَقَة وَالصَّدَاق وَاحِد {نحلة} أَي: تدينا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: فَرِيضَة، وَالْخطاب مَعَ الْأزْوَاج على الْأَصَح وَقيل: هُوَ خطاب مَعَ الْأَوْلِيَاء، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يُعْطون الْمَرْأَة صَدَاقهَا، وَإِنَّمَا يَأْخُذ الْأَوْلِيَاء؛ فخطاب الْأَوْلِيَاء بِإِعْطَاء الْمَرْأَة صَدَاقهَا نحلة، أَي: هُوَ عَطِيَّة لَهَا من الله. {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا} أَي: فَإِن أعطين عَن طيب نفس من الصَدَاق شَيْئا. و " من " للتَّخْيِير هَاهُنَا، لَا للتَّبْعِيض؛ حَتَّى يجوز للْمَرْأَة هبة كل الصَدَاق، {فكلوه هَنِيئًا مريئا} الهنيء: مَا أكلت من غير تنغيص، والمريء: هُوَ الْمَحْمُود الْعَاقِبَة؛ وَذَلِكَ أَلا يُورث تخمة. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا مرض أحدكُم، فليستقرض من امْرَأَته ثَلَاثَة دَرَاهِم من صَدَاقهَا، وليشتري بهَا عسلا، وليخلطه بِمَاء السَّمَاء، ثمَّ ليَأْكُل؛ فَإِنَّهُ الشِّفَاء الْمُبَارك والهنيء المريء.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد بالسفهاء: الصّبيان وَالنِّسَاء هَاهُنَا، وَقَالَ الشّعبِيّ: الْمَرْأَة أسفه من كل سَفِيه. قَالَ سعيد بن جُبَير: معنى الْآيَة: أَن لَا تجْعَلُوا الْمَرْأَة قيمَة الْبَيْت فِي المعاش، بل كونُوا أَنْتُم قوامين على النِّسَاء فِي المعاش، وَقَوله: {الَّتِي جعل الله لكم قيَاما} فالقيام والقوام وَاحِد، يَعْنِي: أَمْوَالكُم الَّتِي جعلهَا الله قواما لمعاشكم، وَقَالَ الزّجاج: تَقْدِيره: الْأَمْوَال الَّتِي تقيمكم فتقومون بِهِ قيَاما {وارزقوهم فِيهَا وأكسوهم} قيل: مَعْنَاهُ: وارزقوهم مِنْهَا، وَقيل كلمة فِي حقيقتهما، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا وظائفهم من الرزق وَالْكِسْوَة فِيهَا. {وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} قيل: مَعْنَاهُ: تَعْلِيم الدّين والشرائع، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: وعد الْجَمِيل؛ وَذَلِكَ أَن تَقول لَهُم: إِن سَافَرت وربحت، أُعْطِيكُم كَذَا، وَإِن غزوت

{إسرافا وبدارا أَن يكبروا وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فأشهدوا عَلَيْهِم وَكفى بِاللَّه حسيب (6) للرِّجَال نصيب مِمَّا ترك الْوَالِدَان} فَغنِمت، أُعْطِيكُم كَذَا، فَهَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف.

6

قَوْله تَعَالَى: {وابتلوا الْيَتَامَى} يَعْنِي: واختبروا الْيَتَامَى، ثمَّ مِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا نختبرهم بعد الْبلُوغ، وَسَمَّاهُمْ يتامى؛ لقرب عَهدهم باليتيم، وَالصَّحِيح أَنه أَرَادَ بِهِ: الاختبار قبل الْبلُوغ، ثمَّ اخْتلفُوا، فَأَما الْفُقَهَاء قَالُوا: يدْفع إِلَيْهِ شَيْئا يَسِيرا، ويبعثه إِلَى السُّوق، حَتَّى يستام السّلْعَة، ثمَّ إِذا آل الْأَمر إِلَى العقد يعْقد الْوَلِيّ، وَمِنْهُم من قَالَ: يعْقد الصَّبِي، وَيجوز ذَلِك فِي الشَّيْء الْيَسِير؛ لأجل الاختبار. وَأما الَّذِي قَالَه الْمُفَسِّرُونَ: أَنه يدْفع إِلَيْهِ مَالا، وَيجْعَل إِلَيْهِ نَفَقَة الْبَيْت، ويختبره فِيهَا، {حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح} أَي: أَوَان الْحلم {فَإِن آنستم} أَي: أحسستم، ووجدتم {مِنْهُم رشدا} قَالَ مُجَاهِد: عقلا، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: عقلا وإصلاحا فِي المَال. وَمذهب الشَّافِعِي: أَن الرشد: هُوَ الصّلاح فِي الدّين، والإصلاح فِي المَال. {فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم} أَمر الْأَوْلِيَاء بِدفع المَال إِلَيْهِم عِنْد الْبلُوغ والرشد. {وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا} أَي: لَا تَأْكُلُوهَا مسرفين {وبدارا أَن يكبروا} أَي: لَا تبَادرُوا إِلَى أكل أَمْوَال الْيَتَامَى، خوفًا من أَن يكبروا؛ فيأخذوا أَمْوَالهم. {وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف} أَي: فليستعفف بِمَالِه عَن مَال الْيَتِيم {وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا كَانَ الْوَلِيّ فَقِيرا، يَأْكُل من مَال الْيَتِيم بِقدر الْحَاجة، وَقَالَ أَيْضا: أَنا فِي هَذَا المَال: كولي الْيَتِيم، إِن اسْتَغْنَيْت اسْتَعْفَفْت، وَإِن احتجت أكلت. وَإِلَى هَذَا ذهب قوم من الْعلمَاء، أَن لَهُ أَن يَأْكُل بِقدر مَا يسد بِهِ الْخلَّة، وَقَالَ بَعضهم: عباءا غليظا، وخبز الشّعير، وَقَالَ الشّعبِيّ وَجَمَاعَة: يَأْكُل من مَال الْيَتِيم على سَبِيل الْقَرْض، وَقَالَ مُجَاهِد: لَا يَأْكُل أصلا، لَا قرضا، وَلَا غير قرض، قَالَ: وَالْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ}

{وَالْأَقْرَبُونَ وللنساء نصيب مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قل مِنْهُ أَو كثر نَصِيبا مَفْرُوضًا (7) وَإِذا حضر الْقِسْمَة أولُوا الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين فارزقوهم مِنْهُ وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا (8) } {إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن تراضي} وَإِلَى هَذَا ذهب أَكثر الْعلمَاء، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى، أَنه لَا يَأْكُل أصلا، وَمن قَالَ: إِنَّه يَأْكُل، يَقُول: يَأْخُذ بِقدر أجرته على الْقيام، وَقد روى أَن رجلا (جَاءَ) إِلَى ابْن عَبَّاس، وَقَالَ: (إِن) لي يَتِيما وَله إبل، فَمَاذَا أُصِيب مِنْهَا؟ فَقَالَ: أتلوط حَوْضهَا وَتَهْنَأ جَرْبَاهَا؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: أصب من رسلها غير مُضر بِنَسْل، وَلَا نَاهِك فِي حلب. وَفِيه قَول رَابِع: أَن معنى قَوْله: {فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي: يَأْكُل الْفَقِير من قوت نَفسه بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يستكثر مِنْهُ حَتَّى ينفذ مَاله؛ فَيحْتَاج إِلَى مَال الْيَتِيم. {فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فأشهدوا عَلَيْهِم} ندب إِلَى الْإِشْهَاد؛ كَيْلا يجحدوا. {وَكفى بِاللَّه حسيبا} أَي: شَهِيدا.

7

قَوْله - تَعَالَى -: {للرِّجَال نصيب مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ وللنساء نصيب مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ} سَبَب نزُول الْآيَة أَن أَوْس بن ثَابت الْأنْصَارِيّ مَاتَ وَخلف ثَلَاث بَنَات وَامْرَأَة يُقَال لَهَا: أم كجة وَابْني عَم: عرْفجَة، وسُويد، فجَاء ابْنا عَمه وأخذا جَمِيع المَال، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يورثون النِّسَاء من الْمَيِّت، وَيَقُولُونَ: لَا يَرث أَمْوَالنَا إِلَّا من طَاعن بِالرِّمَاحِ، وضارب بِالسُّيُوفِ؛ فَنزلت الْآيَة، وَهَذِه أول آيَة نزلت فِي تَوْرِيث النِّسَاء المَال. {مِمَّا قل مِنْهُ أَو كثر نصيب مَفْرُوضًا} وَقد بَين الأنصبة الْمَفْرُوضَة فِي آيَات الْمَوَارِيث.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حضر الْقِسْمَة أولُوا الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين فارزقوهم مِنْهُ} يَعْنِي: قسْمَة التَّرِكَة فِي مَوَارِيث إِذا حضرها من لَا يَرث الْمَيِّت من أَقَاربه، أَو الْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِين {فارزقوهم مِنْهُ} فأعطوهم شَيْئا {وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} أَي: قُولُوا لَهُم: بورك فِيكُم.

{وليخش الَّذين لَو تركُوا من خَلفهم ذُرِّيَّة ضعافا خَافُوا عَلَيْهِم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9) إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا وسيصلون سعيرا (10) يُوصِيكُم} ثمَّ اخْتلفُوا، فَقَالَ بَعضهم: الْآيَة مَنْسُوخَة، فَيجوز أَن يُعْطوا، وَيجوز أَن لَا يُعْطوا، وَقيل: هُوَ على النّدب، وَيسْتَحب أَن يعطيهم شَيْئا، وَمِنْهُم من قَالَ: إِن قسموا الْعين وَالْوَرق وَنَحْوه يُوضح لَهُم، وَإِن قسموا الدّور وَالْعَقار، وَالْعَبِيد، وَالثيَاب، وَنَحْوهَا، يَقُول لَهُم: بورك فِيكُم.

9

قَوْله تَعَالَى: {وليخش الَّذين لَو تركُوا من خَلفهم ذُرِّيَّة ضعافا خَافُوا عَلَيْهِم فليتقوا الله} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله كَانَ الرجل مِنْهُم إِذا حَضَره الْمَوْت، يأْتونَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ لَهُ: انْظُر لنَفسك أَيهَا الرجل، وأوصي بِمَالك، وَإِن وَرثتك لَا يغنون عَنْك من الله شَيْئا، وَرُبمَا يحملونه على أَن يُوصي بِجَمِيعِ المَال فَنزلت الْآيَة {وليخش الَّذين لَو تركُوا من خَلفهم} أَي: إِن تركُوا من خَلفهم {ذُرِّيَّة ضعافا} أَي: أَوْلَاد صغَارًا {خَافُوا عَلَيْهِم} أَو على أَوْلَادهم؛ فليخافوا على أَوْلَاد النَّاس كَمَا يخَافُونَ على أَوْلَادهم؛ فَإِن أَوْلَاد الْمَيِّت أَحَق بِمَالِه من الْأَجَانِب، فَهَذَا معنى قَوْله: {فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا} أَي: عدلا.

10

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما} نزلت الْآيَة فِي حَنْظَلَة ابْن الشمردل، كَانَ قد ولى يَتِيما، فَأكل جَمِيع مَاله، وَقيل: الْآيَة نزلت ابْتِدَاء فِي حق الْكَافِر {إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا} لِأَنَّهُ لما كَانَ أكلهم ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى النَّار، سماهم آكلين للنار، وَهَذَا كَقَوْل النَّبِي ": الَّذِي يشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم ". وفى الحَدِيث: " يخرج لهيب النَّار من جوفهم يَوْم الْقِيَامَة ". وفى رِوَايَة: " أَن الْملك يَأْتِيهم، فَيفتح أَفْوَاههم، ويلقمهم الْجَمْر،

{الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك وَإِن كَانَت وَاحِدَة فلهَا النّصْف ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد فَإِن لم يكن لَهُ ولد} وَيَقُول: هَذَا بأكلكم مَال الْيَتِيم " وَقَالَ: " من أبكى يَتِيما، فَحق على الله أَن يبكى عَيْنَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة ". {وسيصلون سعيرا} أَي: سيدخلون جَهَنَّم، وَقيل: يعاينون سعيرا، والسعير: النَّار المستعرة، وَهُوَ اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم.

11

قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} مَعْنَاهُ: يفْرض الله عَلَيْكُم فِي أَوْلَادكُم، وَذَلِكَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ} أَي: فرض عَلَيْكُم {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} . سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن سعد بن الرّبيع لما اسْتشْهد يَوْم أحد خلف ابْنَتَيْن وَامْرَأَة وأخا، فجَاء الْأَخ وَأخذ جَمِيع المَال، فَجَاءَت الْمَرْأَة تَشكوا إِلَى رَسُول الله؛ فَنزلت الْآيَة ". فَدَعَا رَسُول الله الْأَخ، وَقَالَ: اعط الابنتين الثُّلثَيْنِ وَالْمَرْأَة الثّمن، وَخذ الْبَاقِي ". وَقَوله: {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} يَعْنِي: إِذا خلف ابْنا وَابْنه، فَالْمَال من ثَلَاثَة أسْهم: سَهْمَان للإبن، وَسَهْم للْبِنْت {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك} أَكثر الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء على أَن للابنتين، وَالثَّلَاث: الثُّلثَيْنِ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: للابنتين النّصْف، وَإِنَّمَا الثُّلُثَانِ للثلاث وَمَا زَاد؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة. وَالْأول أصح.

{وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس من بعد وَصِيَّة يُوصي بهَا أَو دين آباؤكم وأبناؤكم لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا فَرِيضَة من الله إِن الله كَانَ عليما حكيما (11) وَلكم} وَمعنى قَوْله: {فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ} يَعْنِي: كن نسَاء اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقهمَا، وَهَذَا كَقَوْلِه: {فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق} أَي: فاضربوا الْأَعْنَاق فَمَا فَوْقهَا، وَقيل: " فَوق " فِيهِ صلَة، وَتَقْدِيره: فَإِن كن نسَاء اثْنَتَيْنِ، وَاسم الْجمع ينْطَلق على الِاثْنَيْنِ؛ لِأَن الْجمع عبارَة عَن جمع الشَّيْء، وَيَسْتَوِي فِيهِ الِاثْنَان وَالثَّلَاث، ولأنا أجمعنا على أَن الْأُخْتَيْنِ ترثان الثُّلثَيْنِ، وهما ابنتا أَب الْمَيِّت، فالابنتان لِأَن يرثا الثُّلثَيْنِ أولى، وهما ابنتاه للصلب. {وَإِن كَانَت وَاحِدَة فلهَا النّصْف} وَفِيه إِجْمَاع {ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك وَإِن كَانَ لَهُ ولد} يَعْنِي: للْمَيت، {فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ. {فَإِن كَانَ لَهُ إخوه فلأمه السُّدس} أَكثر الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء على أَن الْأَخَوَيْنِ وَالثَّلَاثَة يردون الْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الثَّلَاثَة يردون، فَأَما الأخوان فَلَا يردان، لِأَنَّهُ ذكر بِلَفْظ الْجمع وَأقله ثَلَاثَة. وَقد بَينا أَن اسْم الْجمع ينْطَلق على اثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة. وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " فلأمه السُّدس " بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ لُغَة فِي الْأُم، وَالْمَعْرُوف بِالضَّمِّ {من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دين} يقْرَأ بقرآتين " يوصى " بِكَسْر الصَّاد على معنى: يوصيها الْمُوصى، وَيقْرَأ: " يوصى " بِفَتْح الصَّاد، على مَا لم يسم فَاعله.

{نصف مَا ترك أزواجكم إِن لم يكن لَهُنَّ ولد فَإِن كَانَ لَهَا ولد فلكم الرّبع مِمَّا تركن من بعد وَصِيَّة يوصين بهَا أَو دين ولهن الرّبع مِمَّا تركْتُم إِن لم يكن لكم ولد فَإِن كَانَ لكم ولد فَلَهُنَّ الثّمن مِمَّا} وَعَن عَليّ رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِنَّكُم تقرءون الْوَصِيَّة قبل الدّين، وَالدّين قبل الْوَصِيَّة، يَعْنِي: فِي الْقَضَاء، ثمَّ اخْتلفُوا، مِنْهُم من قَالَ: " أَو " بِمَعْنى " الْوَاو " وَالْمرَاد الْجمع بَينهمَا، وَبَيَان أَن الْإِرْث مُؤَخرا عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَمِنْهُم من قَالَ " أَو " على حَقِيقَته، وَمَعْنَاهُ: من بعد وَصِيَّة، إِن كَانَت وَصِيَّة، أَو دين إِن كَانَ دين، فالإرث مُؤخر عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا؛ من ذَلِك عرف تَأْخِيره عَنْهُمَا إِذا اجْتَمَعنَا بطرِيق الأولى. وَقَوله: {آباؤكم وأبناؤكم} يَعْنِي: الَّذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم {لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا} أَي: لَا تعلمُونَ أَيهمْ أَنْفَع لكم فِي الدّين وَالدُّنْيَا. فَمنهمْ من يظنّ أَن الْآبَاء تَنْفَع فَتكون الْأَبْنَاء أَنْفَع، وَمِنْهُم من يظنّ أَن الْأَبْنَاء أَنْفَع، فَتكون الأباء أَنْفَع، وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ، وَأَنا أعلم بِمن هُوَ أَنْفَع لكم؛ وَقد دبرت أَمركُم على مَا فِيهِ الْحِكْمَة والمصلحة، فَخُذُوهُ، واتبعوه. وَفِي الْأَخْبَار " أَن فِي الْجنَّة يكون الْأَب على الدرجَة الْعَالِيَة، وَالِابْن فِي الدرجَة السافلة، فَيسْأَل الابْن الله تَعَالَى فيرفعه إِلَى دَرَجَة أَبِيه. وَيكون الابْن على الدرجَة الْعَالِيَة، وَالْأَب فِي الدرجَة السافلة، فَيسْأَل الْأَب الله تَعَالَى فيرفعه إِلَى دَرَجَة الابْن " فَهَذَا معنى الْآيَة لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أَنْفَع لكم فِي الْآخِرَة، وَأَرْفَع دَرَجَة، فتصلون إِلَى دَرَجَته. {فَرِيضَة من الله} يَعْنِي: مَا قدر من الْمَوَارِيث {إِن الله كَانَ عليما} بِأَمْر الْعباد {حكيما} بِنصب الْأَحْكَام.

{تركْتُم من بعد وَصِيَّة توصون بهَا أَو دين وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة وَله أَخ أَو أُخْت فَلِكُل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دين}

12

قَوْله تَعَالَى: {وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم إِن لم يكن لَهُنَّ ولد فَإِن كَانَ لَهُنَّ ولد فلكم الرّبع مِمَّا تركن من بعد وَصِيَّة يوصين بهَا أَو دين} هَذَا فِي مِيرَاث الْأزْوَاج، وَفِيه إِجْمَاع {ولهن الرّبع مِمَّا تركْتُم إِن لم يكن لكم ولد فَإِن كَانَ لكم ولد فَلَهُنَّ الثّمن مِمَّا تركْتُم من بعد وَصِيَّة توصون بهَا أَو دين} وَهَذَا فِي مِيرَاث الزَّوْجَات، وَلَا خلاف فِيهِ. قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة} يعْنى: أَو امْرَأَة تورث كَلَالَة، قَالَ بعض الْعلمَاء: الْكَلَالَة لَا يعلم مَعْنَاهَا، وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: خرج رَسُول الله من الدُّنْيَا وَلم يبين لنا ثَلَاثَة: الْكَلَالَة، والخلافة، والربا. وَالصَّحِيح أَنَّهَا مَعْلُومَة الْمَعْنى، ثمَّ اخْتلفُوا، قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن عمر: إِن الْكَلَالَة اسْم لمَيت لَا ولد لَهُ، وَورث الاخوة مَعَ الْأَب. وَقَالَ الحكم بن عتيبة: والكلالة: اسْم لمَيت لَا ولد لَهُ، وَورث الاخوة مَعَ الْوَالِد، وهما قَولَانِ فِي شواذ الْخلاف، وَالصَّحِيح فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا قَول لأهل الْمَدِينَة والكوفة أَن الْكَلَالَة اسْم لوَرَثَة لَيْسَ فيهم ولد وَلَا وَالِد؛ مَأْخُوذ من الإكليل، وَهُوَ الَّذِي على جَانِبي الْوَجْه، فالكلالة اسْم لمن يُحِيط بجانبي الْمَيِّت من الاخوة وَالْأَخَوَات، والأعمام، وَنَحْوهم، وَلم يكن أَعلَى وَلَا أَسْفَل. وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِحَدِيث جَابر " كَانَ مَرِيضا؛ فَدخل عَلَيْهِ رَسُول الله يعودهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَرِثنِي كَلَالَة ". وَلم يكن فِي ورثته ولد وَلَا وَالِد، وَجعل الْكَلَالَة اسْما للْوَارِث، وَيشْهد لهَذَا مَا قرئَ فِي الشواذ: " وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة " مشددا بِكَسْر الرَّاء.

{غير مضار وَصِيَّة من الله وَالله عليم حَلِيم (12) تِلْكَ حُدُود الله وَمن يطع الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم (13) وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد} وَقَالَ البصريون: وَهُوَ قَول أَبى بكر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَزيد، وفى أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْكَلَالَة: اسْم للْمَيت الَّذِي لَيْسَ لَهُ ولد وَلَا وَالِد، وَهُوَ ظَاهر الْآيَة، وَتشهد لَهُ الْقِرَاءَة الْأُخْرَى فِي الشواذ: " وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة " مشددا بِفَتْح الرَّاء. قَالَ الشَّاعِر: (وَإِن أَبَا الْمَرْء أحمى لَهُ ... وَمولى الْكَلَالَة لَا يغْضب) فَيجْعَل الْكَلَالَة اسْما للْمَيت. وَفِيه قَول آخر: أَن الْكَلَالَة اسْم للتركة، قَالَه عَطاء. وَقَوله: {وَله أَخ أَو أُخْت فَلِكُل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس} أَجمعُوا على أَن المُرَاد بالأخ وَالْأُخْت هَاهُنَا أَوْلَاد الْأُم، وَفرض لكل وَاحِد مِنْهُم السُّدس ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى. {فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} وَفِيه إِجْمَاع، أَن فرضهم الثُّلُث إِذا تعددوا، وَإِن كَثُرُوا {من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دين غير مضار} يَعْنِي: الْمُوصي لَا يضر بالورثة بمجاوزة الثُّلُث، وَنَحْوه {وَصِيَّة من الله} أَي: فَرِيضَة من الله {وَالله عليم حَلِيم}

13

{تِلْكَ حُدُود الله} يَعْنِي: مَا ذكر من الْفُرُوض المحدودة، (وَمن يطع الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجرى من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم) ذكر ثَوَاب من أطاعه، وَلم يُجَاوز حُدُوده

14

{وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وَله عَذَاب مهين} ذكر عِقَاب من عَصَاهُ، وَجَاوَزَ حُدُوده.

15

قَوْله - تَعَالَى -: {واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة من نِسَائِكُم} اللَّاتِي، وَالَّتِي،

{حُدُوده يدْخلهُ نَارا خَالِدا فِيهَا وَله عَذَاب مهين (14) واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة من نِسَائِكُم فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة مِنْكُم فَإِن شهدُوا فأمسكوهن فِي الْبيُوت حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله} واللواتي: اسْم لجَماعَة النِّسَاء، قَالَ الشَّاعِر: (هن اللواتي وَالَّتِي واللاتي ... زعمن أَنى قد كَبرت لداتي) وَمثله: اللائي أَيْضا، قَالَ الشَّاعِر: (من اللائي لم يحججن تبغين حسبَة ... وَلَكِن ليقْتلن البريء المغفلا) وَقَوله: {يَأْتِين الْفَاحِشَة} أَرَادَ بالفاحشة هَاهُنَا الزِّنَا: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة مِنْكُم} هُوَ خطاب للحكام، يَعْنِي: فَاطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَة من الشُّهُود، وَهَذِه الْآيَة هِيَ الْحجَّة على أَن شُهُود الزِّنَا أَرْبَعَة {فَإِن شهدُوا فأمسكوهن فِي الْبيُوت حَتَّى يتوفاهن الْمَوْت أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} وَكَانَ هَذَا هُوَ الحكم فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، وَأَن الْمَرْأَة إِذا زنت حبست فِي الْبَيْت إِلَى أَن تَمُوت. ثمَّ نسخ ذَلِك فِي حق الْبكر بِالْجلدِ والتغريب، وَفِي حق الثّيّب بِالْجلدِ وَالرَّجم، وَهُوَ بَيَان السَّبِيل الْمَذْكُور فِي الْآيَة، وَالْحجّة عَلَيْهِ: حَدِيث عبَادَة: " خُذُوا عني خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا: الْبكر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام؛ وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة ورجم بِالْحِجَارَةِ ". ثمَّ نسخ الْجلد فِي حق الثّيّب، وَاسْتقر أمرهَا على الرَّجْم. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: الْجلد مَعَ الرَّجْم بَاقٍ على الحكم، وَالْأول أصح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: التَّغْرِيب أَيْضا مَنْسُوخ فِي حق الْبكر، والخلوف مَذْكُور فِي الْفِقْه. وَاخْتلفُوا فِي أَن ذَلِك الْإِمْسَاك فِي الْبَيْت كَانَ على سَبِيل الْحَد أم كَانَ حبسا؛ ليظْهر الْحَد؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه كَانَ حدا، وَالثَّانِي: أَنه كَانَ حبسا ليظْهر الْحَد.

{لَهُنَّ سَبِيلا (15) واللذان يأتيانها مِنْكُم فأذوهما فَإِن تابا وأصلحا فأعرضوا عَنْهُمَا إِن الله كَانَ تَوَّابًا رحِيما (16) إِنَّمَا التَّوْبَة على الله للَّذين يعْملُونَ السوء بِجَهَالَة ثمَّ يتوبون من قريب فَأُولَئِك يَتُوب}

16

قَوْله تَعَالَى: {واللذان يأتيانها مِنْكُم فآذوهما} اخْتلفُوا فِي المُرَاد من الْآيَتَيْنِ، قَالَ مُجَاهِد: الْآيَة الأولى فِي النِّسَاء، وَهَذِه الْآيَة فِي الرِّجَال إِذا زنوا. وَقَالَ غَيره: الأولى فِي الثّيّب، وَهَذِه الْآيَة فِي الْأَبْكَار. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْآيَة الأولى فِي الْمَرْأَة إِذا أَتَت الْمَرْأَة سحقا، وَالْآيَة الثَّانِيَة فِي الرجل إِذا أَتَى الرجل. وَقد قَالَ: " إِذا أَتَى الرجل الرجل فهما زانيان؛ وَإِذا أَتَت الْمَرْأَة الْمَرْأَة فهما زانيتان ". وَالْمرَاد بالإيذاء فِي هَذِه الْآيَة: هُوَ السب بِاللِّسَانِ، وإسماع الْمَكْرُوه، وَالتَّعْبِير، وَالضَّرْب بالنعال. فَإِن قيل: ذكر الْحَبْس فِي الْآيَة الأولى، والإيذاء فِي الْآيَة الثَّانِيَة، فَكيف وَجه الْجمع؟ قيل: أما على قَول من قَالَ: إِن الْآيَة الأولى فِي صنف، وَالْآيَة الثَّانِيَة فِي صنف آخر، يَسْتَقِيم الْكَلَام. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: الْجمع بَين الْإِيذَاء وَالْحَبْس فِي حق الزَّانِي فيؤذى أَولا، ثمَّ

يحبس، وَالْآيَة الثَّانِيَة وَإِن كَانَت فِي التِّلَاوَة مُتَأَخِّرَة، فَهِيَ فِي الْمَعْنى مُتَقَدّمَة، كَأَنَّهُ قَالَ: واللذان يأتيان الْفَاحِشَة مِنْكُم فآذوهما وأمسكوهما فِي الْبَيْت {فَإِن تابا وأصلحا فأعرضوا عَنْهُمَا} أَي: أَعرضُوا عَن الْإِيذَاء {إِن الله كَانَ تَوَّابًا رحِيما} .

17

قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا التَّوْبَة على الله للَّذين يعْملُونَ السوء بِجَهَالَة} قَالَ قَتَادَة: أجمع أَصْحَاب رَسُول الله على أَن من عصى الله فَهُوَ جَاهِل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الْجُهَّال بكنه عُقُوبَة الله، وَقيل: الْجَهَالَة فِي الْمعْصِيَة: أَنه اخْتَار اللَّذَّة الفانية على اللَّذَّة الْبَاقِيَة. {ثمَّ يتوبون من قريب} يَعْنِي: قبل الْمَوْت، قَالَ الضَّحَّاك: كل مَا بَيْنك وَبَين الْمَوْت فَهُوَ قريب، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: التَّوْبَة قبل أَن يعاين ملك الْمَوْت، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: ثمَّ يتوبون قبل أَن يغرغروا. وَفِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " من تَابَ قبل مَوته بِسنة تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن السّنة (لكثيرة) ، ثمَّ قَالَ: من تَابَ قبل مَوته بِشَهْر تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن الشَّهْر لكثير، ثمَّ قَالَ: من تَابَ قبل مَوته بجمعة، تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن الْجُمُعَة (لكثيرة) ، ثمَّ قَالَ: من تَابَ قبل مَوته بِيَوْم، تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن الْيَوْم لكثير، (من تَابَ قبل مَوته بِنصْف يَوْم تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن نصف الْيَوْم لكثير) من تَابَ قبل مَوته بساعة تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن السَّاعَة لكثيرة، من تَابَ قبل أَن يُغَرْغر تَابَ الله عَلَيْهِ ". رَوَاهُ عبَادَة بن الصَّامِت، فَهَذَا معنى قَوْله: {ثمَّ يتوبون من قريب فَأُولَئِك يَتُوب الله عَلَيْهِم وَكَانَ الله عليما حكيما} .

18

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَيْسَت التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات} قيل: أَرَادَ

{الله عَلَيْهِم وَكَانَ الله عليما حكيما (17) وَلَيْسَت التَّوْبَة للَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذا حضر} بالسيئات: الشّرك، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ النِّفَاق، وَقيل: كل الْمعاصِي. {حَتَّى إِذا حضر أحدهم الْمَوْت قَالَ إِنِّي تبت الْآن} يَعْنِي: حَالَة الْمَوْت، يَتُوب حِين يساق، وَوجه ذَلِك: مثل تَوْبَة فِرْعَوْن حِين أدْركهُ الْغَرق، قَالَ: آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل، يَقُول الله تَعَالَى لَيْسَ لهَؤُلَاء تَوْبَة. {وَلَا الَّذين يموتون وهم كفار} يَعْنِي: وَلَا الَّذين يموتون كفَّارًا لَهُم تَوْبَة {أُولَئِكَ اعتدنا لَهُم} أَي: أعددنا لَهُم ( {عذَابا أَلِيمًا}

19

يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يحل لكم أَن ترثوا النِّسَاء كرها) نزلت الْآيَة فِي الْأَنْصَار، كَانَ الرجل مِنْهُم إِذا مَاتَ أَبوهُ؛ ورث امْرَأَة أَبِيه، ثمَّ إِن شَاءَ أمْسكهَا لنَفسِهِ زَوْجَة، وَإِن شَاءَ زَوجهَا من غَيره، وَأخذ صَدَاقهَا، وَإِن شَاءَ عضلها عَن الْأزْوَاج، حَتَّى تضجر [فتفدي] نَفسهَا بِمَال، حَتَّى مَاتَ أَبُو قيس بن الأسلت الْأنْصَارِيّ عَن امْرَأَته كبيشة بنت معن الْأنْصَارِيّ، فجَاء [ابْنه] حصن وَورث الْمَرْأَة؛ فَجَاءَت الْمَرْأَة تَشْكُو إِلَى النَّبِي فَنزل قَوْله - تَعَالَى -: {لَا يحل لكم أَن ترثوا النِّسَاء كرها} وَيقْرَأ: " كرها " بِضَم الْكَاف، فالكره بِالْفَتْح: الْإِكْرَاه، والكره بِالضَّمِّ الْمَشَقَّة. {وَلَا تعضلوهن لتذهبوا بِبَعْض مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أَي: تمنعوهن من الْأزْوَاج حَتَّى يضجرن؛ فيفتدين بِبَعْض مالهن، فَيكون خطابا لأولياء الْمَيِّت. وَالصَّحِيح أَنه خطاب للأزواج، يَعْنِي: إِذا لم تكن الزَّوْجَة بموافقة، فَلَا تمسكها

{أحدهم الْمَوْت قَالَ إِنِّي تبت الْآن وَلَا الَّذين يموتون وهم كفار أُولَئِكَ اعتدنا لَهُم عذَابا أَلِيمًا (18) } ضِرَارًا؛ لتفتدى بِبَعْض مَالهَا {إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ النُّشُوز، وَقيل: هُوَ الزِّنَا، يَعْنِي: إِذا نشزت أَو زنت، فَحِينَئِذٍ يحل أَن يفاديها، وَيَأْخُذ مَالهَا، وَكَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام إِذا زنت الْمَرْأَة أَخذ الزَّوْج جَمِيع صَدَاقهَا مِنْهَا ثمَّ نسخ {وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ} أَي: الْإِجْمَال فِي الْمبيت، وَالْقَوْل، وَالنَّفقَة {فَإِن كرهتموهن فَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَيجْعَل الله فِيهِ خيرا كثيرا} .

20

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أردتم استبدال زوج مَكَان زوج} أَرَادَ بِالزَّوْجِ هَاهُنَا: الزَّوْجَة، وَهُوَ اسْم للرجل وَالْمَرْأَة {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} يَعْنِي: من الصَدَاق، {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا أتأخذونه بهتانا} أَي: ظلما {وإثما مُبينًا} .

21

{وَكَيف تأخذونه وَقد أفْضى بَعْضكُم إِلَى بعض} أَي: وصل بَعْضكُم إِلَى بعض بِالدُّخُولِ، وَحكى عَن الزّجاج: أَنه الْخلْوَة، وَالْأول أصح. {وأخذن مِنْكُم ميثاقا غليظا} هُوَ قَول الْوَلِيّ: زوجتكها على أَن تمسكها بِمَعْرُوف، أَو تسرحها بِإِحْسَان، وَقيل: هُوَ معنى مَا روى: " اتَّقوا الله فِي النِّسَاء؛ فَإِنَّهُنَّ عنْدكُمْ عوان، أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله " فَهَذَا هُوَ الْمِيثَاق الغليظ.

22

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة ينْكحُونَ أَزوَاج آبَائِهِم؛ فورد الشَّرْع بالنهى عَنهُ {إِلَّا مَا قد سلف} يعْنى: بَعْدَمَا سلف، وَقَالَ الْمبرد: وَمَعْنَاهُ: لَكِن مَا سلف فِي الْجَاهِلِيَّة؛ فَهُوَ مغْفُور. {إِنَّه كَانَ فَاحِشَة ومقتا} قيل " كَانَ ": فِيهِ صلَة، وَتَقْدِيره: إِنَّه فَاحِشَة، وَهَذَا كَمَا

{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يحل لكم أَن ترثوا النِّسَاء كرها وَلَا تعضلوهن لتذهبوا بِبَعْض مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا} يَقُول الشَّاعِر: (فَكيف إِذا رَأَيْت ديار قومِي ... وجيران لنا كَانُوا كرام) وَقيل: " كَانَ " فِي مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: أَنه كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يعدونه فَاحِشَة ومقتا، وَكَانُوا يسمون ولد امْرَأَة الْأَب: مقيتا، والفاحشة: أقبح مَعْصِيّة، وَأما المقت: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة هُوَ المبغضة من الله، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ المقت من الْمَلَائِكَة {وساء سَبِيلا} أَي: بئس المسلك.

23

قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} قَالَ ابْن عَبَّاس: حرم الله تَعَالَى سبعا بِالنّسَبِ، وَسبعا بِالْمهْرِ، وَقَالَ الْفُقَهَاء: سبعا بِالنّسَبِ، وَسبعا بِالسَّبَبِ. أما السَّبع بِالنّسَبِ: مِنْهُنَّ الْأُمَّهَات: وَهِي كل امْرَأَة تنْسب إِلَيْهَا بِالْولادَةِ، سَوَاء قربت أَو بَعدت، سَوَاء كَانَ بَيْنك وَبَينهَا ذكر أَو أُنْثَى، أَو لم يكن أحد، فَالْكل حرَام. قَالَ: {وبناتكم} وَمِنْهَا الْبَنَات: وهى كل امْرَأَة تنْسب إِلَيْكُم بِالْولادَةِ، سَوَاء قربت أَو سلفت، سَوَاء كَانَ بَيْنك وَبَينهَا ذكر أَو أُنْثَى، أَو لم يكن أحد، فَالْكل حرَام. قَالَ {وأخواتكم} وَمِنْهَا الْأَخَوَات: وَهِي كل امْرَأَة تنْسب إِلَى من تنْسب إِلَيْهِ بِالْولادَةِ، فَالْكل حرَام. قَالَ: {وعماتكم} وَمِنْهَا العمات، والعمة: أُخْت كل ذكر تنْسب إِلَيْهِ بِالْولادَةِ، فَالْكل حرَام، قرب أم بعد، قَالَ: {وخالاتكم} وَمِنْهَا الخالات، وَالْخَالَة: أُخْت كل امْرَأَة تنْسب إِلَيْهَا بِالْولادَةِ، قربت أم بَعدت.

{أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كرهتموهن فَعَسَى أَن تكْرهُوا شَيْئا وَيجْعَل الله فِيهِ خيرا كثيرا (19) وَإِن أردتم استبدال زوج مَكَان زوج وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} قَالَ: {وَبَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت} وَمِنْهَا بَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت: وَهِي بنت كل من تنْسب إِلَى من تنْسب إِلَيْهِ، فَهَذِهِ السَّبْعَة بِالنّسَبِ. وَأما السَّبع بِالسَّبَبِ: فإحداهن مَذْكُورَة قبل هَذِه الْآيَة فِي قَوْله: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} ، وَالثَّانيَِة فِي قَوْله: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم} ، وَالثَّالِثَة: {وأخواتكم من الرضَاعَة} ، وَلَا خلاف أَن الْأُم وَالْأُخْت من الرضَاعَة حرَام على الرجل نِكَاحهَا، فَأَما مَا عدا الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات من الرضَاعَة حرَام أَيْضا عِنْد أَكثر الْعلمَاء؛ لقَوْله " يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب ". قَالَ دَاوُد، وَأهل الظَّاهِر: لَا يحرم مَا عدا الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات بِالرّضَاعِ؛ تمسكا بِظَاهِر الْقُرْآن. قَالَ {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} الرَّابِعَة: أم الزَّوْجَة، تحرم على الْإِطْلَاق بِنَفس العقد على قَول الْأَكْثَرين، وَحكى خلاس عَن عَليّ رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا تحرم أم الزَّوْجَة إِلَّا بعد الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ لقَوْله تَعَالَى: {وربائبكم اللاتى فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} قَالَ: فَقَوله: {من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} ينْصَرف إِلَيْهِمَا جَمِيعًا. وَالْأول أصح. قَالَ ابْن عَبَّاس: أبهموا مَا أبهمه الله، أَي: أطْلقُوا مَا أطلقهُ الله، وَلِأَن قَوْله: {وَأُمَّهَات نِسَائِكُم} مُسْتَقل بِنَفسِهِ، مُعْتَد بِحكمِهِ، فيستغني عَن الْإِظْهَار؛ وَلِأَن قَوْله: وَأُمَّهَات نِسَائِكُم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن على هَذَا التَّقْدِير يكون عيا فِي الْكَلَام، فَلَا يَلِيق بِكَلَام الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ أفْصح أَنْوَاع الْكَلَام. قَالَ: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} .

{أتأخذونه بهتانا وأثما مُبينًا (20) وَكَيف تأخذونه وَقد أفْضى بَعْضكُم إِلَى بعض وأخذن مِنْكُم ميثاقا غليظا (21) وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء إِلَّا مَا قد سلف إِنَّه كَانَ فَاحِشَة ومقتا} الْخَامِسَة: الربيبة؛ وَهِي ابْنة الزَّوْجَة، وَسميت ربيبة؛ لِأَن الزَّوْج يربها فِي حجره على الْأَغْلَب، فَهِيَ حرَام بعد الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ، وَسَوَاء كَانَت فِي حجره، أَو فِي حجر غَيره. وَقَالَ دَاوُد: يخْتَص التَّحْرِيم بِالَّتِي فِي حجره؛ لقَوْله: {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} ، وَهَذَا لَا يَصح؛ لِأَن الْكَلَام خرج على لأغلب. {فَإِن لم تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم} يَعْنِي: فِي نِكَاحهنَّ. وَقَالَ: {وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم} السَّادِسَة: حَلِيلَة الابْن، وَهِي حرَام، وَسميت حَلِيلَة؛ لِأَنَّهَا مَعَ الابْن يحلان فراشا وَاحِدًا، وَقيل: لِأَنَّهَا تحل إِزَار الابْن، وَالِابْن يحل إزَارهَا، وَقيل: سميت حَلِيلَة؛ لِأَنَّهَا تحل لَهُ. وَقَوله {الَّذين من أصلابكم} إِنَّمَا قيد بالصلب، وَإِن كَانَ حَلِيلَة ولد الْوَلَد حَرَامًا، ليبين أَن حَلِيلَة ولد التبني حَلَال. وَقد تزوج رَسُول الله زَيْنَب بنت جحش امْرَأَة زيد بن حَارِثَة، وَكَانَ قد تبنى زيدا، حَتَّى قَالَ عبد الله بن أَبى بن سلول: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرجل، كَيفَ وثب على امْرَأَة ابْنه وَتَزَوجهَا: فَقَالَ الله تَعَالَى: {وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم} بذلك السَّبَب. {وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف} السَّابِعَة: الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ حرَام بِالنِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ بِالْوَطْءِ فِي ملك الْيَمين؛ وَقَالَ أهل الظَّاهِر: لَا يحرم الْجمع بَينهمَا إِلَّا فِي النِّكَاح؛ لِأَن الْآيَة فِي التَّحْرِيم بِالنِّكَاحِ، قَالَ عُثْمَان: حرمتهَا آيَة وأحلتها آيَة، فآية التَّحْرِيم هَذِه؛ وَآيَة التَّحْلِيل قَوْله: {إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم} {إِلَّا مَا قد سلف} أَي: بَعْدَمَا سلف وَقد [بَينا لَك] {إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} . قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} أَرَادَ بِهِ: ذَوَات الْأزْوَاج {إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم} اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ عَليّ، وَابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم من

{وساء سَبِيلا (22) حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم وأخواتكم من الرضَاعَة وَأُمَّهَات نِسَائِكُم وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن فَإِن لم تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم وحلائل} سَبَايَا أَو طاس، وَفِيه نزلت الْآيَة، قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " لما سبا رَسُول الله سَبَايَا أَو طاس، هرب الرِّجَال؛ فتحرج الْمُسلمُونَ من وَطْء النِّسَاء بمَكَان الْأزْوَاج؛ فَنزلت الْآيَة، وَأذن رَسُول الله فِي وطئهن ". وَقَالَ ابْن مَسْعُود، وأبى بن كَعْب: إِن قَوْله: {إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم} هُوَ أَن يَبِيع الْجَارِيَة الْمُزَوجَة، فَتَقَع الْفرْقَة بَينهَا وَبَين زَوجهَا، وَيحل للمشترى وَطأهَا، وَيكون بيعهَا طَلَاقا لَهَا.

24

وَقيل: معنى الْآيَة {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} يَعْنِي: ذَوَات الْأزْوَاج يحرم الِاسْتِمْتَاع بِهن، {إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم} من مهرهن، فَيحل الِاسْتِمْتَاع بِهِ، فَكَأَنَّهُ حرم الِاسْتِمْتَاع ببعضهن وأباح الِاسْتِمْتَاع بمهرهن. {كتاب الله عَلَيْكُم} أَي: فرض الله عَلَيْكُم، وَيقْرَأ: " كتب الله عَلَيْكُم " أَي: فرض الله عَلَيْكُم {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم} يَعْنِي: أحل لله لكم، وَيقْرَأ: " أحل لكم " - بِضَم الْألف - على نظم قَوْله: ( {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} أَن تَبْتَغُوا بأموالكم) قيل: الْإِحْلَال: بالابتغاء بالأموال، وَفِيه دَلِيل على أَن استحلال الْبضْع لَا يَخْلُو عَن عوض {محصنين} أَي: متزوجين متعففين {غير مسافحين} غير زانين، مَأْخُوذ من سفح المَاء، وَهُوَ الصب، وَمِنْه قَول امْرِئ الْقَيْس: (وَإِن شفائي عِبْرَة إِن سفحتها ... فَهَل عِنْد رسم دارس من معول)

{أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما (23) وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم كتاب الله عَلَيْكُم وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم أَن تَبْتَغُوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} أَي: صببتها {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} قيل: أَرَادَ بِهِ: فَمَا استمتعتم بِهِ بِالنِّكَاحِ مِنْهُنَّ، {فأتوهن أُجُورهنَّ فَرِيضَة} أَي: مهورهن، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْمُتْعَة الْمَعْرُوفَة. وَكَانَت الْمُتْعَة حَلَالا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، وَصورتهَا: أَن يَقُول الرجل للْمَرْأَة: أجرتك أَو عقدت عَلَيْك لأستمتع بك عشرَة أَيَّام بِكَذَا، وَكَانَ هَذَا حَلَالا، ثمَّ نسخ، وَكَانَ ابْن عَبَّاس يُفْتى بإباحتها، وَالصَّحِيح أَنه مَنْسُوخ. وروى عَليّ، وَالربيع عَن سُبْرَة، عَن النَّبِي ": أَنه نهى عَن نِكَاح الْمُتْعَة " وَقَالَ عَليّ لِابْنِ عَبَّاس: إِنَّك رجل تائه نهى رَسُول الله عَن نِكَاح الْمُتْعَة. وَقيل: إِن ابْن عَبَّاس رَجَعَ عَن إِبَاحَة الْمُتْعَة، وَتَابَ. وَقَالَ بعض السّلف: لَوْلَا أَن عمر نهى عَن الْمُتْعَة؛ مازنى أحد فِي الْعَالم. {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا تراضيتم بِهِ من بعد الْفَرِيضَة} فَمن حمل مَا قبله على الْمُتْعَة، قَالَ: المُرَاد بِهَذَا: أَن يزِيد الرجل فِي الْمهْر، وتزيد الْمَرْأَة فِي الْأَجَل، وَمن حمل ذَلِك على الِاسْتِمْتَاع بِالنِّكَاحِ؛ فَالْمُرَاد بقوله: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا تراضيتم بِهِ} يعْنى: من الْإِبْرَاء، والاعتياض عَن الْمهْر {إِن الله كَانَ عليما حكيما} .

25

قَوْله تَعَالَى: {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} قَالَ مُجَاهِد: الطول: السعَة، والغنى. وأصل الطول الْفضل، وَمِنْه الطول؛ لفضل الْقَامَة، وَيُقَال: لَا طائل تَحْتَهُ أَي، لَا معنى تَحْتَهُ.

{فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ فَرِيضَة وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيمَا تراضيتم بِهِ من بعد الْفَرِيضَة إِن الله كَانَ عليما حكيما (24) وَمن لم يَسْتَطِيع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات} وَمعنى الْآيَة: وَمن لم يقدر على مهر الْحرَّة المؤمنة؛ فليتزوج بالأمة المؤمنة، وَفِيه دَلِيل على أَن نِكَاح الْأمة الْكِتَابِيَّة بَاطِل. قَالَ الشّعبِيّ: نِكَاح الْأمة مَعَ الْقُدْرَة على مهر الْحرَّة حرَام، كالميتة وَالدَّم، وَقَالَ عَطاء: الطول الْهوى، وَمعنى الْآيَة: وَمن لم يَسْتَطِيع من هَوَاهُ أَن ينْكح الْحرَّة؛ بِأَن كَانَ يهوى الْأمة دون الْحرَّة، فليتزوج بالأمة؛ فعلى هَذَا يجوز نِكَاح الْأمة، وَإِن كَانَ قَادِرًا على مهر الْحرَّة، والفتى: العَبْد، والفتاة الْجَارِيَة، فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات} أَي: من جواريكم. {وَالله أعلم بإيمانكم} أَي: لَا تتعرضوا للباطن فِي الْإِيمَان، وخذوا بِالْإِيمَان الظَّاهِر؛ فَإِن الله أعلم بإيمانكم {بَعْضكُم من بعض} أَي: كلكُمْ من نفس وَاحِدَة؛ فَلَا تستنكفوا من نِكَاح الْإِمَاء، وَقيل: مَعْنَاهُ بَعْضكُم أخوة لبَعض. {فانكحوهن} أَي: الْإِمَاء {بِإِذن أهلهن} أَي: إِذن مواليهن {وآتوهن أُجُورهنَّ} أَي: مهورهن {بِالْمَعْرُوفِ محصنات} يَعْنِي: عفائف بِالتَّزْوِيجِ {غير مسافحات} أَي: غير زانيات {وَلَا متخذات أخدان} فالمسافحة: هِيَ أَن تمكن مِنْهَا كل أحد، قَالَ الْحسن: المسافحة: هِيَ امْرَأَة كل من أَوَى إِلَيْهَا تَبعته، وَذَات الخدن: هِيَ أَن تخْتَص بصديق، وَالْعرب كَانَت تحرم الأولى وتستبيح الثَّانِيَة. قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أحصن} قَالَ ابْن مَسْعُود: فَإِذا أسلمن. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَإِذا تَزَوَّجن، وَيقْرَأ فَإِذا " أحصن " بِضَم الآلف، وَمَعْنَاهُ: زوجن. {فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} وَمعنى الْآيَة على قَول ابْن عَبَّاس، وَهُوَ الْأَصَح: أَن الْإِمَاء إِذا تَزَوَّجن وصرن ثَيِّبًا {فعليهن نصف}

( {الْمُؤْمِنَات فَمن مَا ملكت أَيْمَانكُم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات وَالله أعلم بإيمانكم بَعْضكُم من بعض فانكحوهن بِإِذن أهلهن وآتوهن أُجُورهنَّ بِالْمَعْرُوفِ محصنات غير مسافحات وَلَا متخذات} مَا على الْمُحْصنَات) يَعْنِي: الْحَرَائِر {من الْعَذَاب} أَي: من عَذَاب الْحَد، وحد الْحَرَائِر: يكون بِالْجلدِ؛ وَيكون بِالرَّجمِ، وَالرَّجم لَا ينتصف؛ فَكَانَ المُرَاد تنصيف الْجلد. وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْأمة الْبكر إِذا زنت، لَا حد عَلَيْهَا؛ لظَاهِر هَذِه الْآيَة، وَهَذَا لَا يَصح. قَالَ الزُّهْرِيّ: حد الْأمة الثّيّب ثَابت بِهَذِهِ الْآيَة، وحد الْأمة الْبكر ثَابت بِالسنةِ، وَالسّنة الْمَعْرُوفَة فِيهِ: قَوْله: " إِذا زنت أمة أحدكُم فليجلدها " {ذَلِك لمن خشِي الْعَنَت مِنْكُم} الْعَنَت: الزِّنَا، وَقد يكون بِمَعْنى الْمَشَقَّة، كَمَا بَينا {وَأَن تصبروا} يَعْنِي: عَن نِكَاح الْإِمَاء {خير لكم} كَيْلا يخلق الْوَلَد رَقِيقا {وَالله غَفُور رَحِيم} .

26

قَوْله تَعَالَى: {يُرِيد الله ليبين لكم} يَعْنِي: أَن يبين لكم، وَمثله قَول الشَّاعِر: (أُرِيد لأنسى ذكرهَا فَكَأَنَّمَا ... تمثل لي ليلى بِكُل سَبِيل) يَعْنِي: أُرِيد أَن أنسى ذكرهَا. قَوْله: {ليبين لكم} أَي: يُوضح لكم الْأَحْكَام {وَيهْدِيكُمْ} أَي: يرشدكم {سنَن الَّذين من قبلكُمْ} أَي: طرائق الَّذين من قبلكُمْ من النبين، وَالصَّالِحِينَ، وَقيل: من قوم مُوسَى، وَعِيسَى، الَّذين هُدُوا بِالْحَقِّ؛ وَذَلِكَ أَنه حرم عَلَيْهِم مَا حرم على الْمُسلمين من الْمَحَارِم الْمَذْكُورَات، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَيهْدِيكُمْ إِلَى الْملَّة الحنيفية، مِلَّة إِبْرَاهِيم، {وَيَتُوب عَلَيْكُم} قَالَ ابْن عَبَّاس: بداء من الله، وَمَعْنَاهُ: يوفقكم للتَّوْبَة، وَقيل: يرشدكم إِلَى السَّبِيل الَّذِي يدعوكم إِلَى التَّوْبَة {وَالله عليم} بمصالح أَمركُم

{أخدان فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب ذَلِك لمن خشِي الْعَنَت مِنْكُم وَأَن تصبروا خير لكم وَالله غَفُور رَحِيم (25) يُرِيد الله ليبين لكم} {حَكِيم} فِيمَا دبر.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَالله يُرِيد أَن يَتُوب عَلَيْكُم} هُوَ مَا ذكرنَا. {وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات} قَالَ مُجَاهِد: هم الزناة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الْيَهُود، وَالنَّصَارَى، قَالَ مقَاتل بن حَيَّان: الْيَهُود خَاصَّة؛ لأَنهم استحلوا نِكَاح الْأُخْت من الْأَب {أَن تميلوا ميلًا عَظِيما} الْميل الْعَظِيم: هُوَ أَن يفعل فعلا لَا يخَاف الله فِيهِ، وَلَا يرقب النَّاس، وَقيل: الْميل الْعَظِيم بِاتِّبَاع الشَّهَوَات.

28

قَوْله تَعَالَى: {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} أَي: يسهل عَلَيْكُم، وَقد سهل هَذَا الدّين؛ قَالَ: " بعثت بالسمحة السهلة الحنيفية "، وروى: " بالحنيفية السمحة السهلة " وَقَالَ الله تَعَالَى: ( {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا) قَالَ طَاوس، وَمُجاهد: وَخلق ضَعِيفا فِي أَمر النِّسَاء؛ لَا يصبر عَنْهُن، وَقَالَ وَكِيع: يذهب عقله عِنْدهن؛ فَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ الزّجاج: يستميله هَوَاهُ وشهوته.

29

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} قَالَ السدى: هُوَ الْقمَار، والربا، وَنَحْوه، وَقَالَ غَيره: كل الْعُقُود الْبَاطِلَة {إِلَّا أَن تكون تِجَارَة} يقْرَأ: بِالضَّمِّ وَالْفَتْح، قد ذكرنَا وَجه القرائتين فِي سُورَة الْبَقَرَة. {عَن ترَاض مِنْكُم} أَي: بِطيبَة نفس مِنْكُم {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} أَي: لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا، وَقَرَأَ الْحسن: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} مشددا على التكثير.

{وَيهْدِيكُمْ سنَن الَّذين من قبلكُمْ وَيَتُوب عَلَيْكُم وَالله عليم حَكِيم (26) وَالله يُرِيد أَن يَتُوب عَلَيْكُم وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات أَن تميلوا ميلًا عَظِيما (27) يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم بِأَكْل المَال الْبَاطِل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: قتل الرجل نَفسه على الْحَقِيقَة {إِن الله كَانَ بكم رحِيما} .

30

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يفعل ذَلِك} يَعْنِي: مَا سبق من الْحَرَام {عُدْوانًا وظلما} فالعدوان: مُجَاوزَة الْحَد، وَالظُّلم: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه. {فَسَوف نصليه نَارا} : ندخله نَارا، يصلى بهَا {وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا} أَي هينا، وروى عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: كُنَّا نشْهد لمن ارْتكب الْكَبَائِر بالنَّار بِهَذِهِ الْآيَات؛ حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فتوقفنا.

31

قَوْله تَعَالَى {إِن تجتنبوا كَبَائِر ماتنهون عَنهُ} سُئِلَ رَسُول الله فَقيل لَهُ: " أَي الْكَبَائِر أكبر؟ فَقَالَ: أَن تَدْعُو لله ندا وَهُوَ خلقك، قيل: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تقتل ولدك مَخَافَة أَن يَأْكُل مَعَك، قيل: ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تَزني بحليلة جَارك، ثمَّ قَرَأَ {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون} " وروى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " أكبر الْكَبَائِر: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين، والفرار من الزَّحْف، وَكَانَ مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا، وَقَالَ: وَشَهَادَة الزُّور، وَشَهَادَة الزُّور، فَمَا زَالَ يردده حَتَّى قُلْنَا: ليته سكت ". وَقَالَ ابْن مَسْعُود: الْكَبَائِر: مَا ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة إِلَى هَذِه الْآيَة: {إِن تجتنبوا كَبَائِر} .

{وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا (28) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما (29) وَمن يفعل ذَلِك} وَعَن ابْن مَسْعُود أَيْضا أَنه قَالَ: الْكَبَائِر أَرْبَعَة: الْإِشْرَاك بِاللَّه، والقنوط من رَحْمَة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْكَبَائِر سبع: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَقتل النَّفس بِغَيْر نفس، وَقذف المحصنة، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، والفرار من الزَّحْف، وَالتَّعَرُّب بعد الْهِجْرَة، يَعْنِي: إِلَى دَار الْحَرْب. وَقَالَ ابْن عمر: الْكَبَائِر تسع فَذكر هَذِه السَّبع وَزَاد شَيْئَيْنِ أَحدهمَا: السحر، وَالثَّانِي: الْإِلْحَاد فِي الْحرم بالميل وَالظُّلم. وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس، فَقيل لَهُ: الْكَبَائِر سبع؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى السّبْعين أقرب مِنْهَا إِلَى السَّبع، وَقَالَ الْمُغيرَة بن مقسم الضَّبِّيّ: شتم أبي بكر، وَعمر من الْكَبَائِر. وَالْجُمْلَة أَن الْكَبَائِر: كل جريمة أوعد الله تَعَالَى عَلَيْهَا النَّار، وَقَالَ أَبُو صَالح: الْكَبِيرَة كل مَا أوجب الْحَد؛ غير أَنه لَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار، وَلَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار. وَقَوله: {نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} قَالَ السدى: أَرَادَ بالسيئات: الصَّغَائِر {نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} إِن شِئْت؛ فالمشيئة مضمرة فِيهِ، وروى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة، والصلوات الْخمس، كَفَّارَة لما بَينهُنَّ مَا اجْتنبت الْكَبَائِر ". وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله قَالَ: " مَا من مُسلم يُصِيبهُ وصب، أَو نصب، إِلَّا كفر عَنهُ خطاياه حَتَّى الشَّوْكَة يشاكها "

{عُدْوانًا وظلما فَسَوف نصليه نَارا وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا (30) إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فضل الله بِهِ بَعْضكُم} وَقيل: باجتناب الْكَبَائِر، تقع الصَّغَائِر مكفرة، وَمذهب أهل السّنة: أَن تَكْفِير الصَّغَائِر معلقَة بِالْمَشِيئَةِ؛ فَيجوز أَن يعْفُو الله عَن الْكَبَائِر، وَيَأْخُذ بالصغائر، وَيجوز أَن يجْتَنب الرجل الْكَبَائِر، فَيُؤْخَذ بالصغائر. {وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا} وتقرأ: " مدخلًا " - بِفَتْح الْمِيم فالمدخل: الْجنَّة والمدخل بِضَم الْمِيم: الإدخال، يَعْنِي: إدخالا كَرِيمًا.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فضل الله بِهِ بَعْضكُم على بعض} سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى عَن أم سَلمَة، قَالَت: يَا رَسُول الله: إِن الرِّجَال يغزون وَلَا نغزوا، وَلَهُم ضعف مالنا من الْمِيرَاث، فَلَو كُنَّا رجَالًا غزونا كَمَا غزوا، وأخذنا من الْمِيرَاث مثل مَا أخذُوا؛ فَنزل قَوْله: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فضل الله بِهِ بَعْضكُم على بعض} وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا لَا يورثون النِّسَاء؛ فَلَمَّا نزلت الْآيَة بتوريث النِّسَاء، وَجعل للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ، قَالَت النِّسَاء: لَو كُنَّا رجَالًا لأخذنا من الْمِيرَاث مثل مَا أخذُوا، وَقَالَ الرِّجَال: كَمَا فضلنَا عليكن فِي الدُّنْيَا، نفضل عليكن فِي الْآخِرَة؛ فَنزلت الْآيَة. قَالَ الْفراء: هَذَا نهي تَأْدِيب وتهذيب، وَقَالَ غَيره: إِنَّه نهي تَحْرِيم {للرِّجَال نصيب مِمَّا اكتسبوا} يَعْنِي: من الْأجر {وللنساء نصيب مِمَّا اكتسبن} يَعْنِي: من الْأجر، وَمعنى الْآيَة: أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الْأجر فِي الْآخِرَة سَوَاء، وَإِن فضل الرِّجَال على النِّسَاء فِي الدُّنْيَا، فالحسنة بِعشر أَمْثَالهَا يَسْتَوِي فِيهَا الرجل وَالْمَرْأَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: للرِّجَال نصيب مِمَّا اكتسبوا من أَمر الْجِهَاد، وللنساء نصيب مِمَّا اكتسبن من طَاعَة الْأزْوَاج، وَحفظ الْفروج، يَعْنِي: إِن كَانَ للرجل فضل الْجِهَاد، فللنساء فضل طَاعَة الْأزْوَاج، وَحفظ الْفروج.

{على بعض للرِّجَال نصيب مِمَّا اكتسبوا وللنساء نصيب مِمَّا اكتسبن واسألوا الله من فَضله إِن الله كَانَ بِكُل شئ عليما (32) وَلكُل جعلنَا موَالِي مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذين} {واسألوا الله من فَضله} وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْحَسَد حرَام؛ والحسد: هُوَ أَن يتَمَنَّى زَوَال النِّعْمَة عَن صَاحبه، ويتمناها لنَفسِهِ، وَالْغِبْطَة: هُوَ أَن يتَمَنَّى لنَفسِهِ مثل مَا لصَاحبه، فالحسد حرَام، وَالْغِبْطَة لَا بَأْس بهَا، ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى الْفضل هَاهُنَا، قَالَ ابْن عَبَّاس: واسألوا الله من فَضله، أَي: من رزقه. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: مَعْنَاهُ: {واسألوا الله من فَضله} أَي: من عِبَادَته، وَقيل: هُوَ سُؤال التَّوْفِيق على الطَّاعَة {إِن الله كَانَ بِكُل شئ عليما} .

33

قَوْله تَعَالَى: {وَلكُل جعلنَا موالى} وَلكُل من الرِّجَال وَالنِّسَاء جعلنَا وَرَثَة، قَالَ مُجَاهِد: الموالى هَاهُنَا: بَنو الْأَعْمَام، وَقَالَ الشَّاعِر: (مهلا بني عمنَا مهلا موالينا ... لَا تنشبوا بَيْننَا مَا كَانَ مَدْفُونا) وَقيل: هم جَمِيع الْأَقَارِب، وَمعنى الْآيَة: وَلكُل جعلنَا موَالِي يُعْطون {مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ} {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم} عاقدت، وعقدت، وحالفت بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ من الْحلف والعهد: وَهُوَ أَن يَقُول الرجل لصَاحبه: دمي دمك، وَمَالِي مَالك، وترثني وأرثك، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة يُورث بِالْحلف، وَأقر عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَام، وَكَانَ للحليف السُّدس، ثمَّ نسخ ذَلِك بقوله تعالي: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} وَقيل: هَذَا فِي التوريث بالتبني، وَكَانَ ثَابتا، ثمَّ نسخ {إِن الله كَانَ على كل شئ شَهِيدا} .

34

قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله بَعضهم على بعض} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن امْرَأَة سعد بن الرّبيع جَاءَت إِلَى النَّبِي وَقَالَت: " إِن زَوجي

{عقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم إِن الله كَانَ على كل شئ شَهِيدا (33) الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله بَعضهم على بعض وَبِمَا أَنْفقُوا من أَمْوَالهم فالصالحات قانتات حافظات} لطمني على وَجْهي، وَهَذَا أَثَره، فَقَالَ: اذهبي فاقتصي مِنْهُ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله} يَعْنِي: بالتأديب. قَالَ الْحسن: لما قَالَ لَهَا: اذهبي فاقتصي مِنْهُ؛ نزل قَوْله: {وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه} أَي: لَا تحكم قبل أَن ينزل حكم الله. والقوام والقيم بِمَعْنى وَاحِد، والقوام أبلغ: وَهُوَ الْقَائِم بالمصالح وَالتَّدْبِير، قَالَ الشَّاعِر: (الله بيني وَبَين قيمها ... يفر مني وأتبع) {بِمَا فضل الله بَعضهم على بعض} يَعْنِي: الرِّجَال على النِّسَاء بِالْعقلِ، وَالْعلم، والحلم. {وَبِمَا أَنْفقُوا من أَمْوَالهم} يَعْنِي: بِإِعْطَاء الْمهْر، وَالنَّفقَة. {فالصالحات قانتات} يَعْنِي: مطيعات، وَقيل: مصليات {حافظات للغيب} أَي: حافظات للفروج فِي غيبَة الْأزْوَاج {بِمَا حفظ الله} يَعْنِي: بِمَا حفظهن الله من إيصاء الْأزْوَاج بأَدَاء حقهن من الْمهْر وَالنَّفقَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: حافظات للغيب بِحِفْظ الله، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي " بِمَا حفظ الله " بِفَتْح الْهَاء يَعْنِي: بِمَا حفظ الله من طاعتهن وعبادتهن. {واللاتي تخافون نشوزهن} النُّشُوز: هُوَ الشقاق (فعظوهن) أَي: بالتخويف من الله، والوعظ بالْقَوْل، {واهجروهن فِي الْمضَاجِع} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَمَعْنَاهُ: ولوهن ظهوركم فِي الْمضَاجِع؛ وَذَلِكَ بِأَن يوليها ظَهره فِي الْفراش، وَلَا يكلمها، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن يعتزل عَنْهَا فِي فرَاش آخر.

{للغيب بِمَا حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فِي الْمضَاجِع واضربوهن فَإِن أطعنكم فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِن الله كَانَ عليا كَبِيرا (34) وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا} {واضربوهن} يعْنى: ضربا غير مبرح، وَذَلِكَ ضرب، لَيْسَ فِيهِ جرح وَلَا كسر، قَالَ عَطاء: ضرب بِالسِّوَاكِ وَنَحْوه. {فَإِن أطعنكم فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} يَعْنِي: بالتعلل، والتجني، وَقيل: فَلَا تكلفوهن محبتكم؛ فَإِن الْقلب لَيْسَ بأيديهن {إِن الله كَانَ عليا كَبِيرا} أَي: متعاليا عَن أَن يُكَلف الْعباد مَا لَا يطيقُونَهُ، وَفِي الْخَبَر: " لَو جَازَ أَن يسْجد أحد لأحد لأمرت الزَّوْجَة أَن تسْجد لزَوجهَا؛ لما لَهُ عَلَيْهَا من الْحُقُوق ". وروى مَرْفُوعا: " خير النِّسَاء من إِذا دخلت عَلَيْهَا سرتك، وَإِن أَمَرتهَا أَطَاعَتك وَإِن غبت عَنْهَا حفظتك ".

35

{وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا} : هُوَ النُّشُوز، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَرَادَ بِهِ: إِن تيقنتم شقَاق بَينهمَا، فالخوف بِمَعْنى: الْيَقِين، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (إِذا مت فارميني إِلَى جنب كرمة ... أَخَاف إِذا مَا مت أَن لَا أذوقها) أَي: أتيقن.

{فَابْعَثُوا حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا إِن يريدا إصلاحا يوفق الله بَينهمَا إِن الله كَانَ عليما خَبِيرا (35) واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحسانا وبذي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى وَالْجَار الْجنب والصاحب بالجنب وَابْن السَّبِيل وَمَا ملكت} وَأنكر الزّجاج ذَلِك عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِذا تَيَقّن الشقاق، فَلَا معنى لبعث الْحكمَيْنِ، بل الْخَوْف بِمَعْنى الظَّن، يَعْنِي: إِن ظننتم شقَاق بَينهمَا {فَابْعَثُوا حكما من أَهله} يَعْنِي من أهل الزَّوْج، {وَحكما من أَهلهَا} يَعْنِي: من أهل الزَّوْجَة. {إِن يريدا إصلاحا يوفق الله بَينهمَا إِن الله كَانَ عليما خَبِيرا} وَهل يجوز لِلْحكمَيْنِ التَّفْرِيق؟ فللسلف فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يجوز التَّفْرِيق، كَمَا يجوز الْجمع من غير رضَا الزَّوْج، وروى عَن عَليّ: أَنه بعث الْحكمَيْنِ، فَقَالَ الزَّوْج: أما الْفرْقَة فَلَا، فَقَالَ عَليّ: لَا حَتَّى ترْضى بِكِتَاب الله تَعَالَى؛ فعلى هَذَا معنى قَوْله: {يوفق الله بَينهمَا} يَعْنِي: يوفق الله بَين الْحكمَيْنِ بِمَا فِيهِ الصّلاح من الْفرْقَة أَو الْجمع، وَالصَّحِيح وَعَلِيهِ الْفَتْوَى: أَنه لَا يجوز التَّفْرِيق، وَهُوَ ظَاهر الْآيَة.

36

قَوْله - تَعَالَى -: {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} روى عَن معَاذ أَنه قَالَ: " كنت رَدِيف رَسُول الله، فَقَالَ لي: يَا معَاذ. فَقلت: لبيْك وَسَعْديك. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا حق الله على الْعباد؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم. فَقَالَ: حق الله على الْعباد: أَن يعبدوه، وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا، ثمَّ قَالَ: يَا معَاذ، قلت: لبيْك وَسَعْديك، قَالَ: أَتَدْرِي مَا حق الْعباد على الله؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم. فَقَالَ: حق الْعباد على الله إِذا فعلوا ذَلِك أَن يدخلهم الْجنَّة، وَلَا يعذبهم ". {وبالوالدين إحسانا} أَي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وَمن الْإِحْسَان بالوالدين: لين الْجَانِب، وَألا يرفع صَوته فَوق صوتهما، وَلَا يجبهُ بِالرَّدِّ، وَيكون لَهما كَالْعَبْدِ الذَّلِيل لسَيِّده {وبذي الْقُرْبَى} أَي: أَحْسنُوا بِذِي الْقُرْبَى {واليتامى وَالْمَسَاكِين

{أَيْمَانكُم إِن الله لَا يحب من كَانَ مختالا فخورا (36) الَّذين يَبْخلُونَ ويأمرون النَّاس بالبخل ويكتمون مَا آتَاهُم الله من فَضله واعتدنا للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا (37) وَالَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم} {وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: انه الْجَار الَّذِي لَهُ قرَابَة. وَالثَّانِي: أَنه الْجَار الَّذِي بِقرب دَاره، وَهُوَ الملاصق، {وَالْجَار الْجنب} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْجَار الْغَرِيب الْأَجْنَبِيّ، وَالثَّانِي: أَنه الْجَار الَّذِي يبعد دَاره. وَقد ورد فِي حق الْجَار أَخْبَار، مِنْهَا: مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيل يوصيني بالجار، حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيورثه " وَقَالَ: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يؤذ جَاره "، وَقَالَ لمناديه حَتَّى نَادَى: " أَلا إِن الْجِيرَان أَرْبَعُونَ دَارا، وَلم يُؤمن بِاللَّه من آذَى جَاره ". وَقَالَت عَائِشَة لرَسُول الله: " إِن لي جارين، فَإلَى أَيهمَا أهدي؟ فَقَالَ: إِلَى أقربهما بَابا " فَحق الْجَار الْقَرِيب الْمُسلم ثَلَاثَة حُقُوق: حق الْقَرَابَة، وَحقّ الْإِسْلَام، وَحقّ الْجوَار، وللجار الْغَرِيب الْمُسلم حقان: حق الْإِسْلَام، وَحقّ الْجوَار، وللجار الذِّمِّيّ حق وَاحِد، وَهُوَ حق الْجوَار. قَوْله تَعَالَى: {والصاحب بالجنب} قَالَ عَليّ، وَابْن مَسْعُود: هِيَ الْمَرْأَة، وَقَالَ الْحسن، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة: هُوَ الرفيق فِي السّفر، {وَابْن السَّبِيل} فِيهِ

{رئاء النَّاس وَلَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَمن يكن الشَّيْطَان لَهُ قرينا فسَاء قرينا (38) } قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الملازم للطريق، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقَالَ غَيره: هُوَ الضَّيْف، وَقَالَ " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه " وَقَالَ " الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام، فَمَا زَاد فَهُوَ صَدَقَة ". {وَمَا ملكت أَيْمَانكُم} يَعْنِي: أَحْسنُوا إِلَى المماليك، وَآخر مَا حفظ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " الصَّلَاة، وَمَا ملكت أَيْمَانكُم " أَي: الزموا الصَّلَاة، وَحقّ مَا ملكت أَيْمَانكُم. {إِن الله لَا يحب من كَانَ مختالا فخورا} المختال: المتكبر، والفخور: الَّذِي يفخر بِنَفسِهِ تكبرا، قَالَ الشَّاعِر: (وَإِن كنت سيدنَا سدتنا ... وَإِن كنت للخال فَاذْهَبْ فَخَل) يعْنى: إِن كنت للخيلاء فَاذْهَبْ فَخَل، فَإِن قيل: أَي معنى لهَذَا بعد هَذِه الْأَحْكَام؟ قيل: لِأَن الْآدَمِيّ قد يقصر فِي أَدَاء الْحُقُوق تكبرا؛ فَنهى عَنهُ، وَفِي الْخَبَر: " أَن رجلا كَانَ يتبختر فِي حلَّة لَهُ، فَخسفَ الله بِهِ الأَرْض، فَهُوَ يتجلجل فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".

37

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَبْخلُونَ ويأمرون النَّاس بالبخل} قيل: هُوَ عَام فِي كل

{وماذا عَلَيْهِم لَو آمنُوا بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وأنفقوا مِمَّا رزقهم الله وَكَانَ الله بهم عليما (39) إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة وَإِن تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْت من لَدنه أجرا عَظِيما (40) فَكيف} بخيل فِي الْعَالم، وَقيل أَرَادَ بِهِ: الْيَهُود وَالنَّصَارَى بخلوا بنعت مُحَمَّد، وَأمرُوا سفلتهم بذلك، {ويكتمون مَا آتَاهُم الله من فَضله اعتدنا} أَي: أعددنا {للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا} .

38

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم رئاء النَّاس وَلَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر} قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقَالَ غَيره: هم المُنَافِقُونَ. {وَمن يكن الشَّيْطَان لَهُ قرينا فسَاء قرينا} أَي: فبئس القرين، قَالَ الشَّاعِر: (عَن الْمَرْء لَا تسْأَل وبصر قرينه ... فَكل قرين بالمقارن يَقْتَدِي)

39

قَوْله تَعَالَى: {وماذا عَلَيْهِم} أَي: وَأي شئ عَلَيْهِم {لَو آمنُوا بِاللَّه} وَهُوَ مثل مَا يُحَاسب الرجل نَفسه، فَينْظر فِيمَا لَهُ، وَفِيمَا عَلَيْهِ؛ يَقُول الله تَعَالَى أَي: شئ عَلَيْهِم لَو آمنُوا بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر {وأنفقوا مِمَّا رزقهم الله وَكَانَ الله بهم عليما} .

40

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الله لَا يظلم مِثْقَال ذرة} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " مِثْقَال نملة " والذرة: هِيَ النملة الْحَمْرَاء، {وَإِن تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا} وَقُرِئَ: " يضعفها " وهما فِي الْمَعْنى سَوَاء. {وَيُؤْت من لَدنه أجرا عَظِيما} .

41

قَوْله تَعَالَى: {فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا} مَعْنَاهُ: فَكيف الْحَال إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد؟ وَأَرَادَ بالشهيد من كل أمة نبيها، وشهيد هَذِه الْأمة: نَبينَا. وأختلفوا على أَن شَهَادَتهم على مَاذَا؟ مِنْهُم من قَالَ: يشْهدُونَ على تَبْلِيغ الرسَالَة، وَمِنْهُم من قَالَ: يشْهدُونَ على الْأمة بِالْأَعْمَالِ.

{إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا (41) يَوْمئِذٍ يود الَّذين كفرُوا وعصوا الرَّسُول لَو تسوى بهم الأَرْض وَلَا يكتمون الله حَدِيثا (42) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا} وَاخْتلفُوا فِي أَن النَّبِي هَل يشْهد على من لم يره؟ مِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا يشْهد على من رَآهُ، وَالصَّحِيح: أَنه يشْهد على الْكل، على من رأى، وعَلى من لم ير. وروى عَن ابْن مَسْعُود: " أَن النَّبِي قَالَ لي: اقْرَأ عَليّ الْقُرْآن " فَقلت: كَيفَ أَقرَأ عَلَيْك الْقُرْآن، وَعَلَيْك أنزل؟ ! فَقَالَ: أُرِيد أَن أسمعهُ من غَيْرِي. قَالَ ابْن مَسْعُود: فافتتحت سُورَة النِّسَاء، فَلَمَّا بلغت قَوْله: {فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا} غمزني رَسُول الله بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَسبك، فَنَظَرت إِلَيْهِ، فَإِذا عَيناهُ تَذْرِفَانِ "، وَفِي رِوَايَة: " لما قَرَأت هَذِه الْآيَة، قَرَأَ رَسُول الله: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم} " وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: " هَذَا يَا رب فِيمَن رَأَيْته، فَكيف بِمن لم أره؟ " وأصل الحَدِيث صَحِيح.

42

قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة {يود الَّذين كفرُوا وعصوا الرَّسُول لَو تسوى بهم الأَرْض} وَيقْرَأ: " لَو تسوى بهم الأَرْض " أَي: تستوي، يَعْنِي: يودون أَن يصيروا تُرَابا، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} ، وَذَلِكَ حِين تحْشر الْبَهَائِم ثمَّ يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: كونُوا تُرَابا، فيكونون تُرَابا؛ فيود الْكفَّار هُنَالك أَن يصيروا مثل الْبَهَائِم تُرَابا، وَقيل: يودون أَن

{تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء} تنخرق الأَرْض؛ فساخوا فِيهَا وهلكوا، وتسوى بهم الأَرْض، أَي: عَلَيْهِم الأَرْض. {وَلَا يكتمون الله حَدِيثا} فَإِن قيل: قد أخبر هَاهُنَا أَنهم لَا يكتمون الله حَدِيثا، وَذكر فِي مَوضِع آخر قَوْلهم: {وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين} فقد كتموا، فَكيف وَجه الْجمع؟ قيل: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَهَذَا فِي موطن وَذَاكَ فِي موطن، آخر، وَفِي الْقِيَامَة مَوَاطِن، وَهَذَا جَوَاب مَعْرُوف أوردهُ القتيبي فِي مُشكل الْقُرْآن. وَقيل: مَعْنَاهُ: يودون أَن لَا يكتمون الله حَدِيثا، وَذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ: {وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين} وَنَحْو ذَلِك، فيختم الله على أَفْوَاههم، وينطق جوارحهم؛ فيودون أَنهم لم يكتموا الله حَدِيثا فَهُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {يود الَّذين كفرُوا} وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا يقدرُونَ أَن يكتموا الله حَدِيثا.

43

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} يَعْنِي: لَا تقربُوا مَوضِع الصَّلَاة، {وَأَنْتُم سكارى} فَالْأَصَحّ وَعَلِيهِ أَكثر الْمُفَسّرين أَنه أَرَادَ بِهِ: السكر من الشَّرَاب، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس. وَقَالَ الضَّحَّاك: أَرَادَ بِهِ: السكر من النّوم. وَالسكر من السكر فَهُوَ أَشد، فالسكر يسد الْعقل والمعرفة، وَالصَّحِيح أَنه فِي السكر من الشَّرَاب. وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف صنع طَعَاما، وَاتخذ شرابًا، ودعا رهطا من أَصْحَاب رَسُول الله، فَأَكَلُوا، وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا، فَدخل وَقت الْمغرب، فَقَامُوا إِلَى الصَّلَاة، وَقدمُوا وَاحِدًا مِنْهُم، فَقَرَأَ سُورَة {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} وَقَرَأَ: أعبد مَا تَعْبدُونَ، وَأَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد، قَرَأَ هَكَذَا إِلَى آخر السُّورَة بطرح " لَا "؛

{فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ إِن الله كَانَ عفوا غَفُورًا (43) ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يشْتَرونَ الضَّلَالَة ويريدون أَن تضلوا السَّبِيل (44) وَالله أعلم} فَنزل قَوْله: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} " أَي: حَتَّى تميزوا، وتعرفوا مَا تَقولُونَ. فَإِن قيل: كَيفَ خَاطب السكارى، والسكران لَا يُخَاطب؟ قيل أَرَادَ بِهِ لَا تتعرضوا للسكر فِي أَوْقَات الصَّلَاة، فَكَانُوا يشربون بعد ذَلِك بعد صَلَاة الصُّبْح، ويصحون عِنْد الظّهْر، وَيَشْرَبُونَ بعد الْعشَاء الْآخِرَة، ويصحون عِنْد الصُّبْح. {وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل} يَعْنِي: وَلَا تقربُوا الْمَسْجِد مَوضِع الصَّلَاة جنبا، إِلَّا عابري سَبِيل، اخْتلفُوا فِيهِ: قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين وَهُوَ قَول الشَّافِعِي: إِنَّه أَرَادَ بِهِ عبور: الْجنب فِي الْمَسْجِد من غير أَن يجلس؛ فَرخص فِيهِ، وَقَالَ بَعضهم إِنَّه يتَيَمَّم للعبور، ثمَّ يعبر إِذا لم يكن لَهُ بُد من العبور، وَالْآيَة فِي قوم من الْأَنْصَار كَانَت أَبْوَاب بُيُوتهم فِي الْمَسْجِد: فَرخص لَهُم فِي العبور بِالتَّيَمُّمِ، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} . {وَإِن كُنْتُم مرضى} أَرَادَ بِهِ: المرضى من القروح والجروح، وَفِيه تفاصيل تذكر فِي الْفِقْه، {أَو على سفر} وحد السّفر: مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة، وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: وَجَاء أحد مِنْكُم من الْغَائِط؛ حَتَّى يَسْتَقِيم الْكَلَام، وَالْغَائِط: اسْم للمطمئن من الأَرْض؛ فَلَمَّا جرت عَادَة الْعَرَب بإتيان الْغَائِط للْحَدَث؛ سمى الْحَدث غائطا باسم الْمَكَان. {أَو لمستم النِّسَاء} وَيقْرَأ: " أَو لامستم النِّسَاء " قَالَ عَليّ، وَابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْجِمَاع، قَالَ ابْن عَبَّاس: إِن الله حيى كريم، يكنى بالْحسنِ عَن الْقَبِيح؛ فكنى باللمس عَن الْجِمَاع، وَقَالَ ابْن مَسْعُود، وَابْن عمر: هُوَ اللَّمْس بِالْيَدِ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، فَمن قَالَ بِالْأولِ قَالَ: إِن التَّيَمُّم للْجنب ثَابت بِنَصّ الْكتاب، وَمن قَالَ

{بأعدائكم وَكفى بِاللَّه وليا وَكفى بِاللَّه نَصِيرًا (45) من الَّذين هادوا يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه وَيَقُولُونَ سمعنَا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا فِي الدّين وَلَو} بِالثَّانِي قَالَ: إِن التَّيَمُّم للمحدث ثَابت بِالْكتاب، وللجنب ثَابت بِالسنةِ. وَقَالَ عمر، وَابْن مَسْعُود: لَيْسَ للْجنب أَن يتَيَمَّم أصلا، وحملوا الْآيَة على اللَّمْس بِالْيَدِ، وتمسكوا بِظَاهِر الْآيَة. وَالأَصَح أَن اللَّمْس وَالْمُلَامَسَة وَاحِد، وَقَالَ بَعضهم: وَمن قَرَأَ: {أَو لامستم} فَفِيهِ دَلِيل على انْتِقَاض طَهَارَة اللامس والملموس جَمِيعًا. وَمن قَرَأَ (أَو لمستم) فَفِيهِ دلَالَة على انْتِقَاض طَهَارَة اللامس فَحسب. {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} أَي: اقصدوا، وتعمدوا، وَالتَّيَمُّم: الْقَصْد، قَالَ الشَّاعِر: (تيممت قيسا وَكم دونه ... من الأَرْض من مهمة ذِي شزن) {صَعِيدا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الصَّعِيد: التُّرَاب، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الصَّعِيد: مَا يصعد من وَجه الأَرْض، وَهُوَ اخْتِيَار الزّجاج، وَقَالَ الزّجاج: لَو ضرب يَده على صَخْرَة صماء حصل التَّيَمُّم، وَإِن لم يعلق بِهِ شئ، وَاسْتَدَلُّوا بقوله: {صَعِيدا زلقا} وَأَرَادَ بِهِ: وَجه الأَرْض، وَالْأول أصح؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يَعْنِي: من الصَّعِيد؛ فَدلَّ أَنه التُّرَاب حَتَّى يكون التَّيَمُّم مِنْهُ وَقَوله: {طيبا} أَي: طَاهِرا، وَقَالَ بَعضهم: حَلَالا (فامسحوا بوجهكم وَأَيْدِيكُمْ إِن الله كَانَ عفوا غَفُورًا) فالعفو المسهل والغفور: السَّاتِر.

44

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يُسَمِّي الْيَهُود وَالنَّصَارَى: " أهل الْكتاب "، وَهُوَ اسْم مدح، وهم يسْتَحقُّونَ الذَّم؟ قيل: قَالَ ذَلِك لإلزام الْحجَّة، وَقيل: سماهم بذلك على زعمهم أَنهم أهل الْكتاب.

{أَنهم قَالُوا سمعنَا وأطعنا واسمع وانظرنا لَكَانَ خيرا لَهُم وأقوم وَلَكِن لعنهم الله بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا (46) يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا مُصدقا لما مَعكُمْ من قبل أَن} {يشْتَرونَ الضَّلَالَة} لأَنهم لما استبدلوا الضَّلَالَة بِالْهدى، فكأنهم اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى، وكل مُشْتَر مستبدل. {ويريدون أَن تضلوا السَّبِيل

45

وَالله أعلم بأعدائكم وَكفى بِاللَّه وليا وَكفى بِاللَّه نَصِيرًا) قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: اكتفوا بِاللَّه وليا واكتفوا بِهِ نَصِيرًا؛ لتَكون " الْبَاء " فِي موضعهَا، وَقَالَ غَيره: الْبَاء صلَة، وَتَقْدِيره: وَكفى الله وليا وَكفى الله نَصِيرًا.

46

قَوْله تَعَالَى: {من الَّذين هادوا يحرفُونَ} قيل تَقْدِيره: ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب من الَّذين هادوا يحرفُونَ، وَقيل مَعْنَاهُ: من الَّذين هادوا فريق يحرفُونَ {الْكَلم عَن موَاضعه وَيَقُولُونَ سمعنَا وعصينا} لأَنهم لما سمعُوا وَلم يطيعوا، فكأنهم قَالُوا: سمعنَا وعصينا. {واسمع غير مسمع} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول الله: اسْمَع، ثمَّ يَقُولُونَ فِي أنفسهم: لَا سَمِعت، فَهَذَا مَعْنَاهُ، وَقَالَ الْحسن: اسْمَع غير مسمع مِنْك، يَعْنِي: اسْمَع منا، وَلَا نسْمع مِنْك {وراعنا} كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك، ويريدون بِهِ: النِّسْبَة إِلَى الرعونة، فَذَلِك معنى قَوْله: {ليا بألسنتهم وطعنا فِي الدّين} ؛ لِأَن قَوْلهم: رَاعنا من المراعاة، فَلَمَّا حرفوه إِلَى الرعونة، فَذَلِك معنى قَوْله: ( {ليا بألسنتهم} وَلَو أَنهم قَالُوا سمعنَا وأطعنا واسمع وانظرنا) أَي: انْظُر إِلَيْنَا {لَكَانَ خيرا لَهُم وأقوم} أَي: أعدل (وَلَكِن لعنهم الله بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا) فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلا، لَا يسْتَحقُّونَ بِهِ اسْم الْإِيمَان؛ وَذَلِكَ أَنهم يُؤمنُونَ بِاللَّه، وَالْآخِرَة، ومُوسَى، وَقيل: مَعْنَاهُ: فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا نفر قَلِيل مِنْهُم، وَأَرَادَ بِهِ: عبد الله بن سَلام، وقوما مِنْهُم أَسْلمُوا.

47

{يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا} يَعْنِي: من الْقُرْآن (مُصدقا لما

{نطمس وُجُوهًا فنردها على أدبارها أَو نلعنهم كَمَا لعنا أَصْحَاب السبت وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا (47) إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد افترى} {مَعكُمْ} من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {من قبل أَن نطمس وُجُوهًا فنردها على أدبارها} الطمس: المحو، وَمَعْنَاهُ: من قبل أَن نطمس الْوَجْه، ونرده إِلَى الْقَفَا، وَقيل: مَعْنَاهُ: نَبَات الشّعْر عَلَيْهِ، حَتَّى يصير كالقردة، وَقيل: يَجْعَل عَيْنَيْهِ على الْقَفَا ليمشي بقهقرى، وروى: أَن عبد الله بن سَلام لما سمع هَذِه الْآيَة، جَاءَ إِلَى النَّبِي وَيَده على وَجهه، فَأسلم، وَقَالَ: خفت أَن يطمس وَجْهي قبل أَن أصل إِلَيْك، وَكَذَلِكَ كَعْب الْأَحْبَار لما سمع هَذِه الْآيَة أسلم فِي زمن عمر رَضِي الله عَنهُ. فَإِن قَالَ قَائِل: قد أوعد الْيَهُود بالطمس إِن لم يسلمُوا، وَلم يطمس وُجُوههم، فَكيف ذَلِك؟ قيل: هَذَا كَانَ فِي قوم معدودين أَسْلمُوا، وَذَلِكَ: عبد الله بن سَلام، وثعلبة بن سعيد، وَأَوْس بن سعيد، والمحيريق، وَجَمَاعَة، وَلَو لم يسلمُوا لطمسوا. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الطمس فِي الْقِيَامَة، قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بقوله {نطمس وُجُوهًا} أَي: نتركهم فِي الضَّلَالَة؛ فَيكون المُرَاد طمس الْقلب {أَو نلعنهم كَمَا لعنا أَصْحَاب السبت} أَي: نجعلهم قردة كَمَا جعلنَا أَصْحَاب السبت قردة {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا} .

48

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} قيل: هَذِه أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن، قَالَ ابْن عمر: كُنَّا نطلق القَوْل فِيمَن ارْتكب الْكَبَائِر بالخلود فِي النَّار، حَتَّى نزلت هَذِه الْآيَة، فتوقفنا {وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد افترى إِثْمًا عَظِيما} أَي: اختلق إِثْمًا عَظِيما، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} فَكيف وَجه الْجمع؟ قيل أَرَادَ بِهِ: يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا سوى الشّرك.

{إِثْمًا عَظِيما (48) ألم تَرَ إِلَى الَّذين يزكون أنفسهم بل الله يُزكي من يَشَاء وَلَا يظْلمُونَ فتيلا (49) انْظُر كَيفَ يفترون على الله الْكَذِب وَكفى بِهِ إِثْمًا مُبينًا (50) ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا} وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا} فَقَالَ رجل: والشرك يَا رَسُول الله؟ فَنزل قَوْله تَعَالَى {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} .

49

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يزكون أنفسهم} نزلت الْآيَة فِي رحبي بن عَمْرو، ومرحب بن زيد، جَاءَا إِلَى النَّبِي بأطفالهما، وَقَالا: هَل على هَؤُلَاءِ ذَنْب؟ ، فَقَالَ: لَا. فَقَالَا: نَحن مثلهم؛ مَا فعلنَا بِاللَّيْلِ يكفر عَنَّا بِالنَّهَارِ، وَمَا فعلنَا بِالنَّهَارِ يكفر عَنَّا بِاللَّيْلِ، فَنزل قَوْله: ( {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يزكون أنفسهم} بل الله يُزكي من يَشَاء) " يطهر من يَشَاء. {وَلَا يظْلمُونَ فتيلا} أَي: لَا ينقص من أُجُورهم شئ إِن أَسْلمُوا، وَلَا من أوزارهم إِن لم يسلمُوا. والفتيل والقطمير والنقير: ثَلَاثَة أسامي مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فالفتيل: اسْم لما يكون فِي شقّ النواة، والقطمير: اسْم للقشرة الَّتِي تكون على النواة، والنقير: اسْم للنقطة الَّتِي تكون على ظهر النواة، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس، وَقَالَ غَيره: الفتيل من الفتل، وَهُوَ اسْم لما يحصل من الْوَسخ بَين الإصبعين عِنْد الفتل، قَالَ الشَّاعِر: (تجمع الْجَيْش ذَا الألوف وتغزو ... ثمَّ لَا ترزأ الْعَدو فتيلا) قَالَه النَّابِغَة، وأنشده الْأَزْهَرِي.

50

قَوْله تَعَالَى: {أنظر كَيفَ يفترون على الله الْكَذِب وَكفى بِهِ} أَي: بِالْكَذِبِ ( {إِثْمًا مُبينًا}

51

ألم تَرَ إِلَيّ الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يُؤمنُونَ بالجبت والطاغوت) قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: الجبت: السحر والطاغوت: الشَّيْطَان، وَبِه قَالَ الشّعبِيّ، وَقَالَ

{نَصِيبا من الْكتاب يُؤمنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ للَّذين كفرُوا هَؤُلَاءِ أهْدى من الَّذين آمنُوا سَبِيلا (51) أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله وَمن يلعن الله فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا (52) أم لَهُم} قَتَادَة: الجبت: الشَّيْطَان والطاغوت: الكاهن، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: هما اسْما رجلَيْنِ من الْيَهُود، فالجبت: حيى بن أَخطب والطاغوت: كَعْب بن الْأَشْرَف، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس: أَن الجبت: السَّاحر بلغَة الْحَبَشَة فعرب، وَذكر عبد الله بن وهب، عَن مَالك بن أنس رَحْمَة الله أَنه قَالَ: الطاغوت: كل مَا يعبد من دون الله، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَاجْتَنبُوا الطاغوت أَن يعبدوها} فَقيل لَهُ: مَا " الجبت "؟ ، فَقَالَ سَمِعت أَنه الكاهن. {وَيَقُولُونَ للَّذين كفرُوا هَؤُلَاءِ أهْدى من الَّذين آمنُوا سَبِيلا} هَذَا قَول جمَاعَة من الْيَهُود وحضروا موسم الْحَج، فَقَالَ لَهُم الْمُشْركُونَ: نَحن أحسن طَريقَة أم مُحَمَّد وَأَصْحَابه؟ فَقَالُوا: أَنْتُم. وَهَذَا دَلِيل على شدَّة معاندة الْيَهُود؛ حَيْثُ فضلوا الْمُشْركين على الْمُسلمين، مَعَ علمهمْ أَنهم لم يُؤمنُوا بِشَيْء من الْكتب، وَأَن الْمُسلمين آمنُوا بالكتب الْمُتَقَدّمَة.

52

{أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله} هم الْيَهُود {وَمن يلعن الله فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا} .

53

قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم نصيب من الْملك فَإِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا} فالنقير: اسْم تِلْكَ النقطة على ظهر النواة، وَمِنْهَا تنْبت النَّخْلَة، وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه: اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار وَالنَّفْي، يعْنى: لَيْسَ لَهُم نصيب من الْملك؛ إِذْ لَو كَانَ الْملك لَهُم، فَإِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا، وَقد ذكرنَا نزع الْملك من الْيَهُود، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه بِمَعْنى الْإِثْبَات، يَعْنِي: لَهُم نصيب من الْملك: وَأَرَادَ بِالْملكِ المَال، ثمَّ هم إِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا، وَصفهم بِشدَّة الْبُخْل، وَهَذَا على طَرِيق ضرب الْمثل؛ إِذْ من الْيَهُود من يُؤْتِي المَال.

54

قَوْله تَعَالَى: {أم يحسدون النَّاس على مَا آتَاهُم الله من فَضله} أَي: بل يحسدون، وَاخْتلفُوا فِي النَّاس هَاهُنَا، من المُرَاد بِهِ؟ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْحسن،

{نصيب من الْملك فَإِذا لَا يُؤْتونَ النَّاس نقيرا (53) أم يحسدون النَّاس على مَا آتَاهُم الله من فَضله فقد آتَيْنَا آل إِبْرَاهِيم الْكتاب وَالْحكمَة وآتيناهم ملكا عَظِيما (54) فَمنهمْ من آمن بِهِ} وَمُجاهد، وَجَمَاعَة: أَرَادَ بِهِ: مُحَمَّدًا وَحده، وَقَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ الْعَرَب؛ حسدهم الْيَهُود ببعث النَّبِي مِنْهُم، وَفِيه قَول ثَالِث: أَرَادَ بِهِ: مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: نَحن النَّاس؛ وَذَلِكَ أَنهم حسدوا، فَإِذا قُلْنَا بالْقَوْل الأول: أَنه مُحَمَّد وَحده؛ فَاخْتَلَفُوا فِي الْفضل الْمَذْكُور فِي الْآيَة مَا هُوَ؟ قَالَ بَعضهم: هُوَ النُّبُوَّة حسد الرَّسُول بهَا، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ تَحْلِيل الزَّوْجَات فِيمَا زَاد على الْأَرْبَع، حسده الْيَهُود عَلَيْهِ؛ فَقَالُوا: مَا بَال هَذَا الرجل همه فِي النِّكَاح، ينْكح، وينكح. {فقد آتَيْنَا آل إِبْرَاهِيم الْكتاب وَالْحكمَة} أَرَادَ بآل إِبْرَاهِيم: دَاوُد، وَسليمَان، وَالْكتاب: هُوَ الْكتاب الَّذِي أنزل عَلَيْهِم، وَأما الْحِكْمَة: قيل: هِيَ النُّبُوَّة، وَقيل هِيَ السّنة. وَمعنى الْآيَة: أَنهم إِن حسدوا الرَّسُول بِمَا أُوتى من الْفضل، فليحسدوا آل إِبْرَاهِيم؛ فَإِنَّهُم قد أُوتُوا الْكتاب وَالْحكمَة {وآتيناهم ملكا عَظِيما} اخْتلفُوا فِي الْملك الْعَظِيم: فَمن فسر الْفضل بتحليل الزَّوْجَات، فسر الْملك الْعَظِيم بِهِ أَيْضا، وَقد كَانَ لداود تسع وَتسْعُونَ امْرَأَة، ولسليمان مائَة امْرَأَة، وَقيل: كَانَ لِسُلَيْمَان سَبْعمِائة امْرَأَة، وثلثمائة سَرِيَّة، وَقيل: أعْطى نَبينَا صلوَات الله عَلَيْهِ قُوَّة سبعين شَابًّا فِي المباضعة. وَقيل: الْملك الْعَظِيم: ملك سُلَيْمَان، وَقيل: المُرَاد بِهِ تأييدهم بالجنود من الْمَلَائِكَة.

55

قَوْله تَعَالَى: {فَمنهمْ من آمن بِهِ} يعْنى: بِالْكتاب {وَمِنْهُم من صد عَنهُ} أَي: أعرض عَنهُ، وَقيل: مَعْنَاهُ: فَمنهمْ من آمن بِمُحَمد، وَمِنْهُم من صد عَنهُ {وَكفى بجهنم سعيرا} والسعير: هِيَ النَّار المسعرة.

{وَمِنْهُم من صد عَنهُ وَكفى بجهنم سعيرا (55) إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا سَوف نصليهم نَارا كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما}

56

قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا سَوف نصليهم نَارا} أَي نلقيهم فِي النَّار، وَيُقَال: صلى النَّار، إِذا قرب مِنْهَا، قَالَ الشَّاعِر يصف امْرَأَة: (تجْعَل الْمسك واليلنجوج والند ... صلاء لَهَا على الكانون) {كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب} قيل: قُرِئت هَذِه الْآيَة عِنْد عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ عِنْده معَاذ بن جبل، فَقَالَ: تبدل جُلُودهمْ فِي كل سَاعَة سبعين مرّة، قَالَ عمر: كَذَا سَمِعت رَسُول الله ". وَقَالَ الْحسن: فِي كل يَوْم سبعين ألف مرّة. فَإِن قيل: إِذا بدلت جُلُودهمْ، فَكيف يعذب غير الْجلد الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا؟ قيل: إِنَّمَا يعذب الشَّخْص فِي الْجلد دون الْجلد، وَقيل: يُعَاد الْجلد الأول فِي كل مرّة، إِلَّا أَنه سَمَّاهُ جلدا غَيره، وَمثله جَائِز، تَقول الْعَرَب: صغت من خَاتمِي خَاتمًا غَيره، وَإِن كَانَ الثَّانِي إِعَادَة للْأولِ، وَفِي الْخَبَر: " أَن بصر جلد الْكَافِر فِي النَّار أَرْبَعُونَ ذِرَاعا يَعْنِي: غلظه وضرسه مثل جبل أحد، وَمَا بَين مَنْكِبَيْه مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ".

{وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سندخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا لَهُم فِيهَا أَزوَاج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57) إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى} وَفِي الْأَخْبَار: " يكون عَلَيْهِ مائَة جلد، بَين كل جلدين لون من الْعَذَاب " {إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما} عَزِيزًا: غَالِبا. حكيما: فِيمَا دبر،

57

قَوْله: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سندخلهم جنَّات تجرى من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا لَهُم فِيهَا أَزوَاج مطهرة} وَقد ذكرنَا معنى الْجَمِيع، {وندخلهم ظلا ظليلا} وَهُوَ الْكن الَّذِي يقي من الْحر وَالْبرد.

58

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} فِيهِ ثَلَاثَة أقاويل: أَحدهَا: أَن المُرَاد مِنْهُ: جَمِيع الْأَمَانَات، وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: يجاء بِالَّذِي خَان فِي الْأَمَانَة يَوْم الْقِيَامَة، فَيُقَال لَهُ: رد الْأَمَانَة. فَيَقُول: ذهبت الدُّنْيَا أَنى لي الْأَمَانَة، فتمثل لَهُ الْأَمَانَة فِي النَّار، وَيُقَال لَهُ: خُذ الْأَمَانَة وردهَا، فَيَأْتِي ليَأْخُذ الْأَمَانَة؛ فَيهْوِي فِي النَّار، ثمَّ يعود ليَأْخُذ فَيهْوِي فِيهَا أبدا. وَفِي الْخَبَر أَنه قَالَ: " أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك، وَلَا تخن من خانك ". وروى عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي أَن قَالَ: " لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ، وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ

{أَهلهَا وَإِذا حكمتم بَين النَّاس أَن تحكموا بِالْعَدْلِ إِن الله نعما يعظكم بِهِ إِن الله كَانَ سميعا بَصيرًا (58) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أَرَادَ بِهِ: تَفْوِيض الْأَمر إِلَى الْوُلَاة بِالطَّاعَةِ لَهُم، وَالْقَوْل الثَّالِث - وَهُوَ قَول عَامَّة الْمُفَسّرين -: أَن المُرَاد مِنْهُ رد مَفَاتِيح الْكَعْبَة. وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَن رَسُول الله لما فتح مَكَّة، أَخذ مِفْتَاح الْكَعْبَة من عُثْمَان بن طَلْحَة، وَفتح الْبَاب، وَدخل الْكَعْبَة، فَلَمَّا خرج، قَالَ الْعَبَّاس: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله، اجْمَعْ لي بَين السدَانَة والسقاية فهم رَسُول الله أَن يدْفع الْمِفْتَاح إِلَيْهِ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} ، فَدَعَا رَسُول الله عُثْمَان بن طَلْحَة، وَدفع إِلَيْهِ الْمِفْتَاح، وَقَالَ: خذوها يَا بني طَلْحَة، خالدة تالدة، لَا يَنْزِعهَا عَنْكُم إِلَّا ظَالِم " وَكَانَ مَعَ عُثْمَان حَيَاته، فَلَمَّا توفّي دَفعه إِلَى أَخِيه شيبَة، فَهُوَ فِي بني شيبَة إِلَى قيام السَّاعَة. {وَإِذا حكمتم بَين النَّاس أَن تحكموا بِالْعَدْلِ} أَي: بِالْقِسْطِ {إِن الله نعما يعظكم بِهِ إِن الله كَانَ سميعا بَصيرًا} .

59

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَأولى الْأَمر مِنْكُم} اخْتلفُوا فِي أولى الْأَمر، قَالَ ابْن عَبَّاس، وَجَابِر - وَهُوَ قَول جمَاعَة -: هم الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: هم الْوُلَاة والسلاطين، وَقيل: هم أُمَرَاء السَّرَايَا الَّذين بَعثهمْ رَسُول الله فِي الحروب، وَقد صَحَّ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " من عصى أَمِيري فقد عَصَانِي، وَمن عَصَانِي فقد عصى الله، وَمن أطَاع أَمِيري فقد أَطَاعَنِي، وَمن أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله ".

{فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا (59) ألم تَرَ إِلَى الَّذين يَزْعمُونَ أَنهم آمنُوا بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك يُرِيدُونَ} وَقَالَ عِكْرِمَة: أَرَادَ بِهِ: أَبَا بكر وَعمر. {فَإِن تنازعتم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} التَّنَازُع: هُوَ التشاجر، سمى تنَازعا؛ لِأَن كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ ينْزع بِحجَّة وَآيَة. وَقَوله: {فَردُّوهُ إِلَى الله} يعْنى: إِلَى الْكتاب، وَإِلَى الرَّسُول إِن كَانَ حَيا، وَإِلَى سنته إِن كَانَ مَيتا. وَالرَّدّ إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَاجِب، مَا دَامَ فِي الْحَادِثَة شئ من الْكتاب وَالسّنة، فَإِن لم يكن فالسبيل فِيهِ الِاجْتِهَاد، وروى أَن مسلمة بن عبد الْملك قَالَ لرجل: إِنَّكُم أمرْتُم أَن تطيعونا، فَقَالَ الرجل: قد نَزعهَا الله مِنْكُم؛ حَيْثُ قَالَ: {فَإِن تنازعتم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَقد تنازعتم، فَقَالَ مسلمة: أَيْن الله؟ فَقَالَ: الْكتاب، وَقَالَ: أَيْن الرَّسُول؟ فَقَالَ: السّنة. وَقيل: الرَّد إِلَى الله وَالرَّسُول: أَن يَقُول الرجل فِيمَا لَا يدرى: الله وَرَسُوله أعلم، وَهَذَا قَول حسن {إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} أَي: أحسن مآل وعاقبة.

60

قَوْله - تَعَالَى -: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يَزْعمُونَ أَنهم آمنُوا بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقد أمروا أَن يكفروا بِهِ وَيُرِيد الشَّيْطَان أَن يضلهم ضلالا بَعيدا} . فِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه فِي جمَاعَة من الْمُنَافِقين مِنْهُم خلاس بن الصَّامِت، كَانَت لَهُم خُصُومَة مَعَ جمَاعَة من الْمُسلمين، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَتَحَاكَم إِلَى الرَّسُول، وَقَالَ المُنَافِقُونَ: نَتَحَاكَم إِلَى الكهنة. وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح: " أَن رجلا من الْيَهُود خَاصم رجلا من الْمُنَافِقين،

{أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقد أمروا أَن يكفروا بِهِ وَيُرِيد الشَّيْطَان أَن يضلهم ضلالا بَعيدا (60) وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا (61) فَكيف إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن} فَقَالَ الْيَهُودِيّ: نَتَحَاكَم إِلَى أبي الْقَاسِم إِذْ عرف أَنه لَا يَأْخُذ الرِّشْوَة على الحكم فَيحكم بِالْحَقِّ، وَقَالَ الْمُنَافِق: نَتَحَاكَم إِلَى كَعْب بن الْأَشْرَف، فتحاكما إِلَى النَّبِي فَحكم لِلْيَهُودِيِّ، وَكَانَ الحكم لَهُ، فَقَالَ الْمُنَافِق: لَا أرْضى بِحكمِهِ، نَتَحَاكَم إِلَى أبي بكر، فتحاكما إِلَى أبي بكر، فَحكم لِلْيَهُودِيِّ بِمثل مَا حكم رَسُول الله فَقَالَ الْمُنَافِق: لَا أرْضى بِحكمِهِ، نَتَحَاكَم إِلَى عمر، فتحاكما إِلَى عمر، فَقَالَ عمر: هَل تحاكمتما إِلَى أحد؟ فَقَالَ الْيَهُودِيّ: نعم إِلَى أبي الْقَاسِم، وَإِلَى أبي بكر، وَقد حكما لي، وَهُوَ لَا يرضى، فَقَالَ عمر: مَكَانكُمَا حَتَّى أخرج إلَيْكُمَا، فَدخل الْبَيْت، واشتمل على السَّيْف، ثمَّ خرج، وَضرب عنق الْمُنَافِق، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله، فَقَالَ: أَنْت الْفَارُوق ".

61

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا} هُوَ مَا ذكرنَا، أَن الْمُنَافِقين دعوا إِلَى التحاكم إِلَى الرَّسُول، فأعرضوا عَنهُ، وتحاكموا إِلَى الطاغوت.

62

قَوْله تَعَالَى {فَكيف إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم} قيل: هَذَا فِي الْمُنَافِقين الَّذين تحاكموا إِلَى الطاغوت، وَقَوله: {أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم} قيل: هُوَ قتل عمر رَضِي الله عَنهُ ذَلِك الْمُنَافِق؛ فَإِنَّهُم جَاءُوا يطْلبُونَ دَمه، وَقيل: هُوَ فِي جَمِيع الْمُنَافِقين، والمصيبة: كل مُصِيبَة تصيبهم فِي الدُّنْيَا والعقبى. يَقُول الله تَعَالَى: فَكيف الْحَال إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم {ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا} قيل: هُوَ إِحْسَان بَعضهم إِلَى بعض، وَقيل أَرَادوا بِالْإِحْسَانِ: تقريب الْأَمر من الْحق، لَا الْقَضَاء على مر الحكم.

{أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا (62) أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم فَأَعْرض عَنْهُم وعظهم وَقل لَهُم فِي أنفسهم قولا بليغا (63) وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا ليطاع بِإِذن الله وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لَهُم الرَّسُول لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما} وَأما التَّوْفِيق: مُوَافقَة الْحق، وَقيل: هُوَ التَّأْلِيف وَالْجمع بَين الْخَصْمَيْنِ. وَمعنى الْآيَة: أَن الْمُنَافِقين يحلفُونَ مَا أردنَا بالتحاكم إِلَى غَيْرك إِلَّا إحسانا وتوفيقا. وقِي الْآيَة قَول آخر: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقين، حلفوا فِي الْمَسْجِد الَّذِي بنوا ضِرَارًا على مَا هُوَ مَذْكُور قي سُورَة التَّوْبَة {وَلَيَحْلِفُنَّ إِن أردنَا إِلَّا الْحسنى} .

63

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم} خلاف مَا على ألسنتهم {فَأَعْرض عَنْهُم وعظهم} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يتَصَوَّر الْجمع بَين الْإِعْرَاض والوعظ وَقد أَمر الله تَعَالَى بهما؟ قيل مَعْنَاهُ: فَأَعْرض عَن عقوبتهم، وعظهم. وَقيل: مَعْنَاهُ: فَأَعْرض عَن قبُول عذرهمْ، وعظهم {وَقل لَهُم فِي أنفسهم قولا بليغا} القَوْل البليغ: هُوَ مَا يبلغ الْإِنْسَان بِلِسَانِهِ كنه مَا فِي قلبه، وَقيل: هُوَ التخويف بِاللَّه تَعَالَى وَقيل: هُوَ أَن يَقُول: إِن رجعتم إِلَى هَذَا، فأمركم الْقَتْل.

64

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا ليطاع بِإِذن الله} قَالَ أهل الْمعَانِي: قَوْله {إِلَّا ليطاع} كَلَام كَاف مُفِيد بِنَفسِهِ، وَقَوله: {بِإِذن الله} كَلَام آخر وَمَعْنَاهُ بِعلم الله وَقَضَاء الله يعْنى: أَن طَاعَته تقع بِإِذن الله. {وَلَو أَنهم} يَعْنِي: الْمُنَافِقين {إِذا ظلمُوا أنفسهم} يعْنى: بالتحاكم إِلَى الطاغوت {جاءوك فاستغفروا الله} لأَنهم مَا جَاءُوا مستغفرين، وَإِنَّمَا جَاءُوا معتذرين بالأعذار الكاذبة. قَوْله: {فاستغفروا الله} أَي: سَأَلُوا مغْفرَة الله، {واستغفر لَهُم الرَّسُول} أَي: دَعَا لَهُم الرَّسُول بالاستغفار {لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما} .

{فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا قي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا (65) وَلَو أَنا كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ}

65

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رَبك لَا يُؤمنُونَ} قَوْله: {فَلَا} : رد لقَوْل الْمُنَافِقين وَعذرهمْ، ثمَّ ابْتِدَاء بقوله: {وَرَبك لَا يُؤمنُونَ} وَالْمرَاد بِهِ: الْإِيمَان الْكَامِل، أَي: لَا يكمل إِيمَانهم، {حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم} أَي: اخْتلف، والاشتجار: الِاخْتِلَاف، وَمِنْه الشّجر لالتفاف أغصانه بَعْضهَا على بعض، قَالَ الشَّاعِر: (هم الْحُكَّام أَرْبَاب الندي ... وسراة النَّاس إِذْ الْأَمر شجر) أَي: اخْتلف، (ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت) أَي: ضيقا، وَمِنْه الحرجة، روى أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ لبَعض الْعَرَب: مَا الحرجة عنْدكُمْ؟ قَالَ: هِيَ شَجَرَة ملتفة، لَا يصل المَاء إِلَيْهَا. وَمن ذَلِك قَوْله - تَعَالَى -: {يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} أَي: يضيق مسلكه بِحَيْثُ لَا تصل إِلَيْهِ الْهِدَايَة {ويسلموا تَسْلِيمًا} وَمعنى الْآيَة: لَا يكمل إِيمَانهم حَتَّى يرْضوا بحكمك، وينقادوا لَك، قيل: هَذِه أبلغ آيَة فِي كتاب الله - تَعَالَى - فِي الْوَعيد. وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول الْآيَة، قَالَ عَطاء، وَمُجاهد: الْآيَة فِي الْمُنَافِقين الَّذين تحاكموا إِلَى الطاغوت، وَقَالَ عبد الله بن الزبير، وَعُرْوَة بن الزبير، وَجَمَاعَة: " الْآيَة نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: حَاطِب بن أبي بلتعة - وَكَانَ من أهل بدر - خَاصم الزبير بن الْعَوام فِي مَاء أَرض عِنْد النَّبِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - للزبير: اسْقِ أَرْضك المَاء ثمَّ أرْسلهُ إِلَى جَارك، وَكَانَت أَرض الْأنْصَارِيّ دون أرضه؛ فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: أَن كَانَ ابْن عَمَّتك، فَتَلَوَّنَ وَجه النَّبِي، وَقَالَ للزبير: اسْقِ أَرْضك، واحبس المَاء حَتَّى يبلغ الْجدر " - وَفِي رِوَايَة - حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ ثمَّ سرحه يمر "

{مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا (66) وَإِذا لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما (67) ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا (68) وَمن يطع الله} كَانَ النَّبِي ساهل فِي حق الزبير فِي ابْتِدَاء الْأَمر، فَلَمَّا أغضبهُ الْأنْصَارِيّ استوعب جَمِيع حَقه، وكلا الْحكمَيْنِ كَانَ حَقًا، وَفِي الْخَبَر: قَالَ الزبير: " احسب أَن قَوْله: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ} نزل فِي هَذَا. وروى أَن الْيَهُود لما بَلغهُمْ ذَلِك، قَالُوا: انْظُرُوا إِلَى أَصْحَاب مُحَمَّد كَيفَ يخالفونه، وَإِن مُوسَى عتب علينا، فَأمرنَا بقتل أَنْفُسنَا، فَقَتَلْنَا أَنْفُسنَا حَتَّى بلغ الْقَتْلَى سبعين ألفا.

66

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَنا كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم} مَعْنَاهُ: لَو كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم، أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ، بدل مَا أمرناهم بِهِ من طَاعَة الرَّسُول، والانقياد لحكمه {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُم} قَالَ ثَابت بن قيس بن شماس: لَو أَمرنِي رَسُول الله بقتل نَفسِي لقتلت، وَفِي الْخَبَر: أَن ابْن مَسْعُود وعمار بن يَاسر، وثابت بن قيس بن شماس، من ذَلِك الْقَلِيل، وروى أَن النَّبِي أَشَارَ إِلَى عبد الله بن رَوَاحه، فَقَالَ لَهُ: " أَنْت من ذَلِك الْقَلِيل ". وَيقْرَأ " إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم " فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع؛ فَلِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: {مَا فَعَلُوهُ} وَذَلِكَ فِي مَحل الرّفْع، وَتَقْدِيره: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا نفر قَلِيل مِنْهُم فَعَلُوهُ. وَمن قَرَأَ بِالنّصب، فعلى الِاسْتِثْنَاء. {وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ} يعْنى: من طَاعَة الرَّسُول، وَالرِّضَا لحكمه (لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا) أَي: تَصْدِيقًا

67

(وَإِذ لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما) هُوَ الْجنَّة

68

{ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا} قيل: هُوَ الْقُرْآن، وَقيل: الْإِسْلَام.

{وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما (70) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا}

69

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم} سَبَب نزُول الْآيَة، مَا روى: أَن بعض أَصْحَاب رَسُول الله قَالُوا: يَا رَسُول الله، كَيفَ يكون الْحَال فِي الْجنَّة، وَأَنت فِي الدَّرَجَات الْعلي، وَنحن أَسْفَل مِنْك، وَكَيف نرَاك؟ فَنزلت الْآيَة. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن ذَلِك الْقَائِل كَانَ عبد الله بن زيد بن عبد ربه الْأنْصَارِيّ. وروى: أَن رجلا قَالَ: لرَسُول الله أَنْت أحب إِلَى من أَهلِي وَمَالِي وَوَلَدي، وَإِذا غبت عَنى يُصِيبنِي شبه الْجُنُون، حبا لَك، فَكيف حَالي مَعَك فِي الْجنَّة؟ فَنزلت الْآيَة " {فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين} قيل: ذَلِك بِأَن ينزل إِلَيْهِم النَّبِيُّونَ؛ حَتَّى يروهم، لَا أَن يرفعوا إِلَى درجاتهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يفوتهُمْ رُؤْيَة النَّبِيين ومجالستهم، وَقَوله: {وَالصديقين} يعْنى: أَصْحَاب رَسُول الله، وَالصديق المبالغ فِي الصدْق، {وَالشُّهَدَاء} الَّذين اسْتشْهدُوا يَوْم أحد. وَاخْتلفُوا فِي أَنهم لم سموا شُهَدَاء؟ قَالَ بَعضهم: لأَنهم قَامُوا بِشَهَادَة الْحق حَتَّى قتلوا، وَقيل: لِأَن أَرْوَاحهم تشهد الْجنَّة عقيب الْقَتْل، {وَالصَّالِحِينَ} الصَّالح: من اسْتَوَت سريرتيه عَلَانِيَته {وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا} الرفيق: الْوَاحِد، وَهُوَ بِمَعْنى الْجمع هَاهُنَا {ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما} .

71

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا خُذُوا حذركُمْ} أَي: عدتكم، والحذر: مَا يتقى بِهِ من الْعَدو، نَحْو الْعدة وَالسِّلَاح، (فانفروا ثبات) جمع " ثبة " قَالَ ابْن عَبَّاس: " الثبة ": مَا فَوق الْعشْرَة، وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: " الثبة " النَّفر، وَمَعْنَاهُ: انفروا جماعات، نَفرا نَفرا (أَو انفروا جَمِيعًا) . وَهَذَا دَلِيل على أَن الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة، وَقيل إِن الْآيَة صَارَت مَنْسُوخَة؛

{خُذُوا حذركُمْ فانفروا ثبات أَو انفروا جَمِيعًا (71) وَإِن مِنْكُم لمن ليبطئن فَإِن أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قَالَ قد أنعم الله عَليّ إِذْ لم أكن مَعَهم شَهِيدا (72) وَلَئِن أَصَابَكُم فضل من الله} لقَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا كَانَ الْمُؤمنِينَ لينفروا كَافَّة} .

72

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن مِنْكُم لمن ليبطئن} أَي: ليتأخرن، والبطء: التَّأْخِير. وَقيل: هَذَا فِي عبد الله بن أبي بن سلول {فَإِن أَصَابَتْكُم مُصِيبَة} يعْنى: بِالْقَتْلِ وَالْجرْح فِي الْجِهَاد {قَالَ قد أنعم الله على إِذْ لم أكن مَعَهم شَهِيدا} أَي: حَاضرا

73

{وَلَئِن أَصَابَكُم فضل من الله} أَي: الْغَنِيمَة (ليَقُولن) - بِنصب اللَّام - وَيقْرَأ فِي الشواذ: بِرَفْع اللَّام وَالْمعْنَى وَاحِد {كَأَن لم تكن بَيْنكُم وَبَينه مَوَدَّة} قيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: فَإِن أَصَابَتْكُم مُصِيبَة، قَالَ: قد أنعم الله على؛ إِذْ لم أكن مَعَهم شَهِيدا، كَأَن لم تكن بَيْنكُم وَبَينه مَوَدَّة، أَي: معاقدة ومعاهدة على الْجِهَاد، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: مَوَدَّة الصُّحْبَة. ثمَّ ابْتَدَأَ {وَلَئِن أَصَابَكُم فضل من الله ليَقُولن يَا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزا عَظِيما} .

74

قَوْله - تَعَالَى -: {فليقاتل فِي سَبِيل الله الَّذين يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: يبيعون {بِالآخِرَة وَمن يُقَاتل فِي سَبِيل الله فَيقْتل أَو يغلب فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما} وَهُوَ معنى قَوْله فِي سُورَة التَّوْبَة: {فيقتلون وَيقْتلُونَ} .

75

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا لكم لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله} عتب على أَصْحَاب رَسُول الله بترك الْقِتَال {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} وهم الَّذين أَسْلمُوا بِمَكَّة وَسَكنُوا بأعذار، وَبَعْضهمْ منعُوا من الْهِجْرَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: كنت أَنا وَأمي من الْمُسْتَضْعَفِينَ. قَالَ الْأَزْهَرِي: معنى الْآيَة: لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله، وَفِي سَبِيل الْمُسْتَضْعَفِينَ؛ بتخليصهم من أَيدي الْمُشْركين {من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا أخرجنَا من هَذِه الْقرْيَة} وَهِي مَكَّة بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين {الظَّالِم أَهلهَا} أَي: الْمُشرك أَهلهَا {وَاجعَل لنا من لَدُنْك وليا} أَي: من يَلِي أمرنَا {وَاجعَل لنا من لَدُنْك

{ليَقُولن كَأَن لم تكن بَيْنكُم وَبَينه مَوَدَّة يَا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزا عَظِيما (73) فليقاتل فِي سَبِيل الله الَّذين يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة وَمن يُقَاتل فِي سَبِيل الله فَيقْتل أَو يغلب} {نَصِيرًا} أَي: من يمْنَع الْعَدو عَنَّا؛ فَاسْتَجَاب الله دعوتهم، حَتَّى فتح رَسُول الله مَكَّة، وَولى عَلَيْهَا عتاب بن أسيد، فَكَانَ ينصف الْمَظْلُوم، وينتصف من الظَّالِم.

76

قَوْله - تَعَالَى -: {الَّذين آمنُوا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله وَالَّذين كفرُوا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الطاغوت} قد بَينا معنى الطاغوت {فَقَاتلُوا أَوْلِيَاء الشَّيْطَان} أَي: الْكفَّار {إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا} قيل كَانَ ضَعِيفا بِمَعْنى: أَنه لَا يرد أحدا عَن الْإِسْلَام وَالْهِدَايَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ أَن كَيده كَانَ ضَعِيفا يَوْم بدر، حِين رأى الْمَلَائِكَة، وَخَافَ أَن يأخذوه، فهرب، فكيده ضَعِيف بِأحد هذَيْن الْمَعْنيين.

77

قَوْله - تَعَالَى -: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين قيل لَهُم كفوا أَيْدِيكُم} قيل: هَذَا فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة فآذاهم الْمُشْركُونَ؛ " فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لنا نقاتلهم، فَقَالَ لَهُم: {كفوا أَيْدِيكُم وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} ؛ فَإِنِّي لم أُؤمر بِالْقِتَالِ، ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، فَأمر بِالْقِتَالِ، فكرهوا الْقِتَال " قيل: أُولَئِكَ الَّذين أَسْلمُوا وَقَالُوا ذَلِك، مِنْهُم: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد بن أبي وَقاص، وَقُدَامَة بن مَظْعُون، والمقداد بن الْأسود الْكِنْدِيّ، وَجَمَاعَة. {فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال} يعْنى: بعد الْهِجْرَة {إِذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أَو أَشد خشيَة} أَي: يَخْشونَ النَّاس كخشيتهم من الله، أَو أَشد خشيَة، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَا كَانُوا يَخْشونَ أَمر الله بِالْقِتَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِك: خشيَة طبع البشرية. {وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت علينا الْقِتَال لَوْلَا أخرتنا إِلَى أجل قريب} أَي: هلا أخرتنا إِلَى أجل قريب؛ فنموت بآجالنا، قيل: هَذَا قَول الْمُنَافِقين، وَقيل: كَانَ ذَلِك قَول بعض

{فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما (74) وَمَا لكم لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا أخرجنَا من هَذِه الْقرْيَة الظَّالِم أَهلهَا وَاجعَل لنا من لَدُنْك} أَصْحَاب رَسُول الله: قَالُوا ذَلِك خوفًا و (جبنا) لَا اعتقادا. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ قَول طَلْحَة بن عبيد الله؛ قَالَ ذَلِك خوفًا ثمَّ تَابَ عَنهُ. {قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل} يعْنى: أَن مَا تستمتعون بِهِ من الدُّنْيَا فَهُوَ قَلِيل، وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يغمس أحدكُم الْمخيط فِي الْبَحْر، فَلْينْظر بِمَ يرجع؟ ! " {وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلا} أَي: لَا ينقص من أجرهم شئ، وَلَا مِقْدَار الفتيل.

78

قَوْله - تَعَالَى -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة} مَعْنَاهُ: أَيْنَمَا كُنْتُم يأتيكم الْمَوْت، وَإِن كُنْتُم فِي بروج مشيدة، والبروج: الْحُصُون، قَالَ السّديّ: وَهِي قُصُور بيض فِي السَّمَاء، قَوْله: {مشيدة} قَالَ ابْن عَبَّاس - فِي القَوْل الْمَعْرُوف -: هِيَ الْمَعْرُوفَة المطولة، وَقَالَ عِكْرِمَة: المشيدة: المجصصة، والشيد: الجص. وَقَالَ بَعضهم: المشيد: المجصص، والمشيدة: المرفوعة، وَفِيه قَول آخر عَن ابْن عَبَّاس: أَنه أَرَادَ: فِي بروج من حَدِيد. {وَإِن تصبهم حَسَنَة يَقُولُوا هَذِه من عِنْد الله وَإِن تصبهم سَيِّئَة يَقُولُوا هَذِه من عنْدك} فالحسنة: الخصب، والسيئة: الجدب، وَقيل الْحَسَنَة: النَّصْر، وَالظفر يَوْم بدر، والسيئة: الْهَزِيمَة وَالْقَتْل يَوْم أحد، وَمعنى الْآيَة: أَن الْمُسلمين إِذا أَصَابَتْهُم حَسَنَة، فَقَالَ الْكفَّار: هَذَا من عِنْد الله وَإِن تصبهم سَيِّئَة قَالُوا هَذَا من عنْدك أَي: بشؤمك؛ وَذَلِكَ أَن النَّبِي لما قدم الْمَدِينَة أصَاب أَهلهَا نوع سوء؛ فَقَالَت الْيَهُود: مَا رَأينَا أشأم

{وليا وَاجعَل لنا من لَدُنْك نَصِيرًا (75) الَّذين آمنُوا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله وَالَّذين كفرُوا يُقَاتلُون فِي سَبِيل الطاغوت فَقَاتلُوا أَوْلِيَاء الشَّيْطَان إِن كيد الشَّيْطَان كَانَ ضَعِيفا (76) ألم تَرَ} من هَذَا الرجل؛ مُنْذُ دخل دِيَارنَا، قد غلت أسعارنا، ونقصت ثمارنا؛ وَذَلِكَ بلية للْمُسلمين، وَهَذَا نَحْو مَا قَالُوا لصالح عَلَيْهِ السَّلَام {اطيرنا بك وبمن مَعَك} وَفِي قصَّة مُوسَى: {يطيروا بمُوسَى وَمن مَعَه} وَفِي سُورَة " يس ": {إِنَّا تطيرنا بكم} . {قل كل من عِنْد الله} أَي: الخصب، والجدب، والنصر، والهزيمة، كل من عِنْد الله، {فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا} أَي: مَا لَهُم لَا يعلمُونَ حَدِيثا. والْحَدِيث: الْقُرْآن هَاهُنَا، أَي: لَا يعلمُونَ مَعَاني الْقُرْآن.

79

قَوْله - تَعَالَى -: {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله} يَعْنِي: مَا أَصَابَك من خصب، فَمن فضل الله، {وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة} أَي: من جَدب {فَمن نَفسك} أَي: بذنبك. وَالْخطاب وَإِن كَانَ مَعَ الرَّسُول، فَالْمُرَاد بِهِ: الْأمة؛ وَذَلِكَ معنى قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم} قيل مَعْنَاهُ: وَمَا أَصَابَك من حَسَنَة أَيهَا الْإِنْسَان فَمن الله، وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة، فَمن نَفسك؛ فَيكون الْخطاب مَعَ كل أحد من النَّاس، وَقيل: مَعْنَاهُ {مَا أَصَابَك من حَسَنَة} أَي: من النَّصْر، وَالظفر فَمن فضل الله {وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة} أَي: من هزيمَة، وَقتل يَوْم أحد {فَمن نَفسك} أَي: بذنب نَفسك من مُخَالفَة النَّبِي كَمَا سبق. فَإِن قيل: كَيفَ وَجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ قد قَالَ - فِي الْآيَة الأولى -: {قل كل من عِنْد الله} قيل: معنى الْآيَة الأولى: أَن الخصب والجدب والنصر والهزيمة

{إِلَى الَّذين قيل لَهُم كفوا أَيْدِيكُم وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال إِذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أَو أَشد خشيَة وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت علينا الْقِتَال لَوْلَا} كلهَا تقع من عِنْد الله، وَمعنى الْآيَة الثَّانِيَة {وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} أَي: مَا أَصَابَك من سَيِّئَة من الله، فبذنب نَفسك؛ عُقُوبَة لَك. وَاعْلَم أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة مُتَعَلق لأهل الْقدر أصلا؛ فَإِن الْآيَة فِيمَا يُصِيب النَّاس من النعم والمحن، لَا فِي الطَّاعَات والمعاصي؛ إِذْ لَو كَانَ المُرَاد مَا توهموا، لقَالَ: مَا أصبت من حَسَنَة، فَمن الله وَمَا أصبت من سَيِّئَة؛ فَلَمَّا قَالَ: مَا أَصَابَك من حَسَنَة وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة؛ دلّ أَنه أَرَادَ: مَا يُصِيب الْعباد من النعم والمحن، لَا فِي الطَّاعَات والمعاصي، وَحكى عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد، عَن مُجَاهِد، أَن ابْن عَبَّاس قَرَأَ: " وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك وَأَنا كتبتها عَلَيْك " وَكَذَا حكى عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ كَذَلِك، وَهُوَ مَعْرُوف عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ يُؤَيّد قَوْلنَا: إِن المُرَاد: بذنب نَفسك. وَفِي الْآيَة قَول آخر: مُضْمر فِيهِ، وَتَقْدِيره: فَمَال هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا؛ يَقُولُونَ: مَا أَصَابَك من حَسَنَة، فَمن الله، وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة، فَمن نَفسك فَيكون حِكَايَة لقَوْل الْكفَّار {وأرسلناك للنَّاس رَسُولا وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} .

80

قَوْله تَعَالَى: {من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله} روى: " أَن النَّبِي قَالَ: " من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله تَعَالَى وَمن أَحبَّنِي فقد أحب الله، فَقَالَت الْيَهُود: إِن هَذَا الرجل يُرِيد أَن نتخذه رَبًّا وَحَنَانًا، كَمَا اتَّخذت النَّصَارَى عِيسَى بن مَرْيَم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة على وفَاق قَول الرَّسُول " {وَمن تولى فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا} أَي: كل أمره إِلَى.

81

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ طَاعَة} يَعْنِي: الْمُنَافِقين يَقُولُونَ بِاللِّسَانِ: مرنا، فَإِن أَمرك طَاعَة {فَإِذا برزوا} أَي: خَرجُوا {من عنْدك بَيت طَائِفَة مِنْهُم غير الَّذِي

{أخرتنا إِلَى أجل قريب قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة وَإِن تصبهم حَسَنَة يَقُولُوا هَذِه من} {تَقول} قَالَ أَبُو رزين: بَيت أَي: ألف. وَقَالَ غَيره: بَيت، أَي: بدل؛ وَالأَصَح أَنه من التبييت، وَهُوَ فعل الشَّيْء لَيْلًا، يُقَال: هَذَا أَمر بَيت لَيْلًا، قيل: أَي: فعل بِاللَّيْلِ، وَيجوز أَن يُقَال لما فعل بِالنَّهَارِ: تبييتا؛ لِأَن الْفِعْل بِاللَّيْلِ إِنَّمَا سمى تبييتا؛ لِأَن الْإِنْسَان بِاللَّيْلِ يكون أفرغ لتدبير أمره، فعلى هَذَا الْمَعْنى يجوز أَن يُقَال لما فعل بِالنَّهَارِ: تبييتا، قَالَ الشَّاعِر: (بيتوا أَمرهم بلَيْل فَلَمَّا ... أَصْبحُوا أَصْبحُوا على ضوضاء) وَمعنى {بَيت طَائِفَة مِنْهُم غير الَّذِي تَقول} أَي: خالفوا بِاللَّيْلِ مَا قَالُوا بِالنَّهَارِ {وَالله يكْتب مَا يبيتُونَ} أَي: يُحْصى ويحفظ؛ ليجازى عَلَيْهِ، وَقيل: يَأْمر الكتبة حَتَّى يكتبوا (فَأَعْرض عَنْهُم) قَالَ الضَّحَّاك: مَعْنَاهُ: لَا تخبر بِأَسْمَائِهِمْ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - يعرف الْمُنَافِقين، وَمَا كَانَ يخبر بِأَسْمَائِهِمْ {وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا} أَي: اتَّخذهُ وَكيلا.

82

قَوْله - تَعَالَى -: {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} التدبر: النّظر فِي الْأَمر إِلَى آخِره، وَهُوَ من دبر الشَّيْء: آخِره، وَفِي الْخَبَر: " من أَشْرَاط السَّاعَة: وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا دبرا " أَي: آخرا وَمِنْه قَوْله: " لَا تدابروا " أَي: لَا يول بَعْضكُم ظَهره إِلَى بعض عَدَاوَة.

{عِنْد الله وَإِن تصبهم سَيِّئَة يَقُولُوا هَذِه من عنْدك قل كل من عِنْد الله فَمَال هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا (78) مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} فَقَوله {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} أَي: أَفلا يتفكرون فِي الْقُرْآن {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ فِي الْقُرْآن تنَاقض وَلَا تفَاوت؛ فَهَذَا معنى الْآيَة. وَقَالَ الزّجاج: مَا أخبر عَن الْغَيْب فكله صدق، لَيْسَ بعضه صدقا، وَبَعضه كذبا، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن كُله بليغ صَحِيح، لَيْسَ فِيهِ مرذول وَلَا فَاسد.

83

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ} يَعْنِي: الْمُنَافِقين إِذا جَاءَهُم أَمر وَخبر من أَمر السَّرَايَا الَّذين بَعثهمْ رَسُول الله، فَإِن كَانَ بالأمن والنصر، كتموا، وَقصرُوا فِي الْأَخْبَار، وَإِن كَانَ بالخوف والهزيمة أذاعوا بِهِ، وَزَادُوا. وَفِي الْآيَة إِضْمَار، وتقديرها: وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن قصروا فِي الْإِخْبَار بِهِ، وكتموا، [وَإِذا] جَاءَهُم أَمر من الْخَوْف أذاعوا بِهِ {وَلَو روده إِلَى الرَّسُول} قيل أَرَادَ بقوله: {وَلَو ردُّوهُ} يَعْنِي: ضعفة الْمُسلمين الَّذين سمعُوا تِلْكَ الْأَخْبَار من الْمُنَافِقين قَالُوا مثل قَوْلهم؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول} وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ فِي الْكَلَام الْمُؤمنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، لَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول. {وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم} يَعْنِي: إِلَى أُمَرَاء السَّرَايَا {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} يَعْنِي: لَو طلبُوا تِلْكَ الْأَخْبَار من عِنْد أُمَرَاء السَّرَايَا، ووكلوا الْإِخْبَار بهَا إِلَيْهِم؛ لعلمه الَّذين يحبونَ أَن يعلموه على حَقِيقَته كَمَا هُوَ، والاستنباط: هُوَ اسْتِخْرَاج الْعلم وَمِنْه النبط، وهم قوم يستخرجون المَاء، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْعلمَاء يَعْنِي: وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول، وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلم الَّذين يستنبطونه مِنْهُم مَا يَنْبَغِي أَن

{وأرسلناك للنَّاس رَسُولا وَكفى بِاللَّه شَهِيدا (79) من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله وَمن تولى فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَة فَإِذا برزوا من عنْدك بَيت طَائِفَة مِنْهُم غير} يكتم، ويعلمون مَا يَنْبَغِي أَن يفشي، يَعْنِي: الْعلمَاء. {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ اسْتثْنى الْقَلِيل، وَلَوْلَا فَضله لاتبع الْكل الشَّيْطَان؟ قيل: اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ الْفراء: هَذَا الِاسْتِثْنَاء رَاجع إِلَى قَوْله: {أذاعوا بِهِ} إِلَّا قَلِيلا، وَقَوله: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لَا تبعتم الشَّيْطَان} ، كَلَام تَامّ، وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} ثمَّ قَالَ: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لَا تبعتم الشَّيْطَان} وَقيل: هُوَ على نظمه، وَمَعْنَاهُ: وَلَوْلَا مَا تفضل الله عَلَيْكُم بِهِ من الْبَيَان لما يَنْبَغِي أَن يفعل وَمَا يَنْبَغِي أَن يجْتَنب {لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا} . وَفِيه قَول رَابِع: أَنه أَرَادَ بِالْقَلِيلِ: قوما اهتدوا بِالْحَقِّ قبل بعث الرَّسُول، وإنزال الْقُرْآن، وأقروا بِالتَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ مثل: زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، وورقة بن نَوْفَل، وَجَمَاعَة، وَقد قَالَ فِي زيد بن عَمْرو بن نفَيْل: " إِنَّه يبْعَث أمة على حِدة ".

84

قَوْله تَعَالَى {فقاتل فِي سَبِيل الله} كَذَا يتَّصل بِمَا سبق من قَوْله: {وَمَا لكم لَا تقاتلون} لما عَاتَبَهُمْ على ترك الْقِتَال، قَالَ للرسول: إِن لم يُقَاتل هَؤُلَاءِ، فقاتل أَنْت وَحدك {لَا تكلّف إِلَّا نَفسك وحرض الْمُؤمنِينَ عَسى الله أَن يكف بَأْس الَّذين كفرُوا} يَعْنِي: عَذَاب الَّذين كفرُوا، وَعَسَى من الله وَاجِب، وَالْمرَاد بِهِ: تطميع الْمُؤمنِينَ، {وَالله أَشد بَأْسا} أَي: أَشد عذَابا {وَأَشد تنكيلا} التنكيل من النكل، وَهُوَ الْمَنْع، وَمِنْه النكال: وَهُوَ مَا يفعل بالإنسان، فَيمْنَع غَيره عَن فعله.

85

قَوْله تَعَالَى: {من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا وَمن يشفع}

{الَّذِي تَقول وَالله يكْتب مَا يبيتُونَ فَأَعْرض عَنْهُم وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا (81) أَفلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا (82) وَإِذا جَاءَهُم} {شَفَاعَة سَيِّئَة يكن لَهُ كفل مِنْهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: الشَّفَاعَة الْحَسَنَة: هِيَ الْإِصْلَاح بَين النَّاس، والشفاعة السَّيئَة: هِيَ الْمَشْي بالنميمة بَين النَّاس، وَقيل: هُوَ فِي كل الشفاعات، فالشفاعة الْحَسَنَة: هِيَ أَن يَقُول قولا حسنا؛ ينَال بِهِ الْخَيْر، والشفاعة السَّيئَة: هِيَ أَن يَقُول قولا قبيحا؛ يلْحق بِهِ سوء. قَوْله: {يكن لَهُ نصيب مِنْهَا} أَي: من أجرهَا، وَقَوله: {يكن لَهُ كفل مِنْهَا} أَي: من وزرها، والكفل: النَّصِيب، قَالَ الله تَعَالَى: {يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته} أَي نَصِيبين. وَاعْلَم أَن الْإِنْسَان يُؤجر على الشَّفَاعَة، وَإِن لم يشفع؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {من يشفع} ، وَلم يقل: من يشفع، وَقد روى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " اشفعوا تؤجروا، وَيَقْضِي الله على لِسَان نبيه مَا شَاءَ ". وَاعْلَم أَن الشَّفَاعَة مُسْتَحبَّة فِي كل الْحُقُوق إِلَّا فِي حُدُود الله تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز فِيهَا الشَّفَاعَة ليترك الْحَد، وَقد قَالَ: " من شفع فِي حد من حُدُود من الله تَعَالَى فقد ضاد الله فِي ملكه " أَي: نازعه فِي ملكه. {وَكَانَ الله على كل شَيْء مقيتا} قَالَ ابْن عَبَّاس: المقيت: المقتدر، قَالَ الشَّاعِر: (وَذي ضغن كَفَفْت النَّفس عَنهُ ... وَكنت على مساءته مقيتا) وَالْقَوْل الثَّانِي عَن ابْن عَبَّاس: المقيت: الْحَافِظ، وَفِي الْخَبَر: " كفى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن

{أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا (83) فقاتل فِي سَبِيل الله لَا تكلّف إِلَّا نَفسك وحرض الْمُؤمنِينَ عَسى الله أَن يكف بَأْس الَّذين كفرا وَالله} يضيع من يقوته " أَي: من قوته، وَفِي رِوَايَة: " من يقيت " أَي: من فِي حفظه، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الله تَعَالَى على كل حَيَوَان مقيت، أَي: يُوصل الْقُوت إِلَيْهِ؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {وَكَانَ الله على كل شَيْء} أَي: حَيَوَان {مقيتا} .

86

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا حييتُمْ بِتَحِيَّة} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد بالتحية هَاهُنَا: السَّلَام، وأصل التَّحِيَّة: هُوَ دُعَاء بِالْحَيَاةِ، وَهُوَ فِي الشَّرِيعَة عبارَة عَن السَّلَام، وَالسَّلَام: دُعَاء السَّلامَة، وَقد تكون التَّحِيَّة بِمَعْنى: الْملك والبقاء، وَمِنْه: التَّحِيَّات لله، وَقَالَ الشَّاعِر: (وَلكُل مَا نَالَ الْفَتى ... قد نلته إِلَّا التَّحِيَّة) يَعْنِي: إِلَّا الْملك، وعَلى معنى السَّلَام أنشدوا قَول الشَّاعِر: (إِنَّا محيوك يَا سلمى فحيينا ... وَإِن سقيت كرام النَّاس فاسقينا) {فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَو ردوهَا} أَرَادَ بِهِ: رد السَّلَام بِأَحْسَن مِمَّا سلم، أَو ترد كَمَا سلم، فَإِذا قَالَ: السَّلَام عَلَيْك، فالمستحب أَن تَقول: وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة الله، وَإِذا قَالَ: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، تَقول: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، وَهُوَ الْأَحْسَن. وَفِي الْخَبَر: " أَن رجلا جَاءَ، فَسلم على النَّبِي، فَقَالَ: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله، فَدخل آخر وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، فَقَالَ: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله

{أَشد بَأْسا وَأَشد تنكيلا (84) من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا وَمن يشفع شَفَاعَة} وَبَرَكَاته، فَدخل ثَالِث، وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، فَقَالَ: وَعَلَيْكُم؛ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام - إِن الأول وَالثَّانِي تركا من التَّحِيَّة شَيْئا؛ فأجبت بِأَحْسَن، وَإِن الثَّالِث لم يتْرك من التَّحِيَّة شَيْئا فَرددت عَلَيْهِ ". وَاعْلَم أَن السَّلَام، سنة ورد السَّلَام فَرِيضَة، لكنه فرض على الْكِفَايَة، حَتَّى إِذا سلم على جمَاعَة فَرد أحدهم؛ سقط الْفَرْض عَن البَاقِينَ، وَكَذَلِكَ السَّلَام سنة على الْكِفَايَة، حَتَّى إِذا كَانَت جمَاعَة، فَسلم أحدهم كفى فِي السّنة. وروى الْحسن مُرْسلا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " السَّلَام سنة ورده فَرِيضَة ". وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: أَرَادَ بالتحية: الهبات والهدايا، وَقَوله: {فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا} أَرَادَ بِهِ: الثَّوَاب على الْهَدِيَّة، وَهُوَ سنة، " وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يقبل الْهَدِيَّة، ويثيب عَلَيْهَا "، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول. {إِن الله كَانَ على شئ حسيبا} أَي: محاسبا، وَقيل كَافِيا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} أَي: كَافِيا.

{سَيِّئَة يكن لَهُ كفل مِنْهَا وَكَانَ الله على كل شئ مقيتا (85) وَإِذا حييتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَو ردوهَا إِن الله كَانَ على كل شئ حسيبا (86) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ليجمعنكم إِلَى يَوْم}

87

قَوْله تَعَالَى: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ} " اللَّام " لَام الْقسم، وَتَقْدِيره: وَالله ليجمعنكم الله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَاخْتلفُوا: أَنه فيمَ يجمعهُمْ؟ قَالَ بَعضهم: يجمعهُمْ فِي الإهلاك وَالْمَوْت إِلَى الْقِيَامَة، وَقَالَ بَعضهم: يجمعهُمْ فِي الْقُبُور إِلَى الْقِيَامَة. وَاخْتلفُوا: لم سميت الْقِيَامَة قِيَامَة؟ قَالَ بَعضهم: لِأَن النَّاس يقومُونَ فِيهَا إِلَى رب الْعَالمين، كَمَا قَالَ الله تعالي: {يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين} وَقيل: إِن النَّاس يقومُونَ فِيهَا إِلَى الْحساب. {وَمن أصدق من الله حَدِيثا} أَي: قولا وخبرا.

88

قَوْله - تَعَالَى -: {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين} اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول الْآيَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: قَالَ زيد بن ثَابت: هَذَا فِي الَّذين تخلفوا عَن رَسُول الله يَوْم أحد، فَقَالَ بعض الصَّحَابَة لرَسُول الله: اعْفُ عَنْهُم؛ فَإِنَّهُم تكلمُوا بِالْإِسْلَامِ. وَقَالَ بَعضهم: اقتلهم؛ فَإِنَّهُم مُنَافِقُونَ؛ فَنزلت الْآيَة {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين} " أَي: مَا لكم افترقتم فيهم فرْقَتَيْن؟ عتب عَلَيْهِم بالاختلاف بَينهم، وَحكم بنفاقهم. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي جمَاعَة من أهل مَكَّة هَاجرُوا إِلَى الْمَدِينَة، وَأَسْلمُوا، ثمَّ اسْتَأْذنُوا رَسُول الله فِي الرُّجُوع إِلَى مَكَّة، بعلة أَن لَهُم بهَا بضائع؛ فَرَجَعُوا، وَارْتَدوا فَقَالَ بعض أَصْحَابه: هم مُسلمُونَ؛ لأَنهم تكلمُوا بِالْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعضهم: هم قد نافقوا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين} وَحكى مُجَاهِد هَذَا عَن ابْن عَبَّاس. وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين أَسْلمُوا بِمَكَّة، وَكَانُوا يعاونون الْمُشْركين، ويظاهرونهم؛ فَاخْتلف الصَّحَابَة فيهم

{الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ وَمن أصدق من الله حَدِيثا (87) فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا (88) } فرْقَتَيْن؛ فَنزل قَوْله - تَعَالَى -: {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا} أركسهم وركسهم بِمَعْنى وَاحِد. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود {وَالله ركسهم} قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: نكسهم، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: مَعْنَاهُ: أعادهم، يعْنى: إِلَى الْكفْر بِمَا كسبوا، وَمِنْه: الركس؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَعَاما فَصَارَ رجيعا. {أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله} يعْنى: أتريدون أَن ترشدوا من أضلّهُ الله {وَمن يضلل الله} يعْنى: وَمن يضلله {فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا} أَي: طَرِيقا إِلَى الْحق.

89

قَوْله - تَعَالَى -: {ودوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا} يعْنى: الَّذين عَادوا إِلَى الْكفْر ودوا أَن تعودوا إِلَى الْكفْر {فتكونون سَوَاء} يعْنى: فِي الْكفْر. {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أَوْلِيَاء} مَنعهم من الْمُوَالَاة مَعَهم {حَتَّى يهاجروا فِي سَبِيل الله} أَي: حَتَّى يسلمُوا {فَإِن توَلّوا} يعْنى: فِي الْكفْر {فخذوهم} أَي: فأسروهم، وَالْأَخْذ هَاهُنَا: الْأسر، وَيُقَال للأسير: أخيذ {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم وليا وَلَا نَصِيرًا} .

90

قَوْله - تَعَالَى -: {إِلَّا الَّذين يصلونَ إِلَى قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق} قَالَ أَبُو عبيده: مَعْنَاهُ إِلَّا الَّذين ينتسبون إِلَى قوم، وَأنْشد فِيهِ قَول الشَّاعِر: (إِذا اتَّصَلت قَالَت لبكر بن وَائِل ... وَبكر سباها والأنوف رواغم) يعْنى: إِذا انتسبت تِلْكَ الْقَبِيلَة. وَأنكر أهل الْمعَانِي هَذَا على أَبى عبيده، وَقَالُوا: هَذَا لَا يَسْتَقِيم فِي معنى هَذَا الِاسْتِثْنَاء الْمَنْع من الْقَتْل، وَمَا كَانَ الْمَنْع لأجل النِّسْبَة، فَإِن النَّبِي كَانَ يُقَاتل الْمُشْركين من قُرَيْش، وَإِن كَانُوا من نسبه، بل معنى قَوْله: {إِلَّا الَّذين يصلونَ} أَي:

{ودوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا فتكونون سَوَاء فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أَوْلِيَاء حَتَّى يهاجروا فِي سَبِيل الله فَإِن توَلّوا فخذوهم واقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم وليا وَلَا نَصِيرًا (89) } يخالطون، ويتصلون بِقوم كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي موادعة وعهد. وَذَلِكَ هِلَال بن عُوَيْمِر الْأَسْلَمِيّ، وَقَومه، وَكَانَ الله - تَعَالَى - منع من قتل أُولَئِكَ مِمَّن اتَّصل بهم، وَفِي ذمامهم {أَو جاءوكم} أَو يصلونَ بِقوم جاءوكم للمعاهدة وَالْمُوَادَعَة، {حصرت صُدُورهمْ} ضَاقَتْ، فضاقت صُدُورهمْ من الْقِتَال مَعكُمْ، وَمن معاونتكم على الْقِتَال مَعَ قَومهمْ؛ لأجل الرعب الَّذِي ألْقى الله - تَعَالَى - فِي قُلُوبهم، وَقَرَأَ الْحسن - وَهُوَ قِرَاءَة يَعْقُوب وَسَهل - " حصرة صُدُورهمْ " على الْحَال، أَي: ضيقَة صُدُورهمْ، قَالَ الْمبرد: حصرت صُدُورهمْ على سَبِيل الدُّعَاء، كَقَوْلِه: {قَاتلهم الله} كَأَن الله - تَعَالَى - يَقُول: {حصرت صُدُورهمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَو يقاتلوا قَومهمْ} على سَبِيل الدُّعَاء. {وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم} معنى هَذَا: أَن الله - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي ألْقى الرعب فِي قُلُوبهم، وكفهم عَن قتالكم، حَتَّى جَاءُوا معاهدين، وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم {فلقاتلوكم} ؛ فَإِذا لَا تقاتلوهم وَمن اتَّصل بهم {فَإِن اعتزلوكم فَلم يُقَاتِلُوكُمْ وألقوا إِلَيْكُم السّلم} يعْنى: الصُّلْح فانقادوا، واستسلموا {فَمَا جعل الله لكم عَلَيْهِم سَبِيلا} أَي: طَرِيقا عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ والقتال.

91

قَوْله - تَعَالَى -: {سَتَجِدُونَ آخَرين يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: أَسد وغَطَفَان، جَاءُوا إِلَى النَّبِي وَأَسْلمُوا؛ فَلَمَّا رجعُوا إِلَى قَومهمْ قَالُوا: إِنَّا آمنا بالعقرب والخنفساء وَرَجَعُوا إِلَى الْكفْر. وَقَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ: سراقَة بن مَالك بن جعْشم، لما جَاءَ إِلَى النَّبِي، وَقَالَ: أَنا مِنْكُم، ثمَّ رَجَعَ إِلَى قومه، فَقَالَ أَنا مِنْكُم.

{إِلَّا الَّذين يصلونَ إِلَى قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق أَو جاءوكم حصرت صُدُورهمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَو يقاتلوا قَومهمْ وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم فلقاتلوكم فَإِن اعتزلوكم فَلم يُقَاتِلُوكُمْ وألقوا} {يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ} أَي: يُرِيدُونَ أَن يأمنوا مِنْكُم، وَمن قَومهمْ. {كلما ردوا إِلَى الْفِتْنَة أركسوا فِيهَا} أَي كلما دعوا إِلَى الشّرك دخلُوا فِيهِ. {فَإِن لم يعتزلوكم ويلقوا إِلَيْكُم السّلم} يَعْنِي: القيادة والاستسلام {ويكفوا أَيْديهم فخذوهم} أَي: فأسروهم {واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم} وَجَدْتُمُوهُمْ، {وأولئكم جعلنَا لكم عَلَيْهِم سُلْطَانا مُبينًا} حجَّة بَيِّنَة بِالْقَتْلِ والقتال.

92

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ} سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى أَن عَيَّاش بن أبي ربيعَة قتل الْحَارِث بن يزِيد، وَكَانَ الْحَارِث يُؤْذِي عياشا فِي الْجَاهِلِيَّة، حَتَّى أسلم عَيَّاش؛ فَنَذر أَن يقْتله مَتى ظفر بِهِ، فظفر بِالْحَارِثِ وَقد أسلم الْحَارِث، وَلم يعلم هُوَ بِإِسْلَامِهِ، فَنزلت الْآيَة: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا} وَهَذَا نهى عَن قتل الْمُؤمن على الْإِطْلَاق، وَقَوله: {إِلَّا خطأ} اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن إِن وَقع خطأ. وَقَالَ بَعضهم: " إِلَّا " بِمَعْنى " وَلَا " يعْنى: وَلَا خطأ، وَلَا يعرف فِي كَلَام الْعَرَب " إِلَّا " بِمَعْنى " وَلَا "؛ وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّهْي عَن قتل الْخَطَأ، وَالْخَطَأ لَا يدْخل تَحت النَّهْي وَالْأَمر، وَالْأول أصح، ثمَّ ذكر حكم الْقَتْل الْخَطَأ، فَقَالَ: {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} أَي: فاعتقوا رَقَبَة مُؤمنَة، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء، فَقَالَ الْحسن، وَالشعْبِيّ، وَالنَّخَعِيّ: أَرَادَ بِهِ: رَقَبَة بَالِغَة وَلَا تُجزئ الرَّقَبَة الصَّغِيرَة، وَإِن كَانَت مُؤمنَة، وَقَالَ عَطاء وَهُوَ الَّذِي أَخذ بِهِ الْفُقَهَاء: إِنَّه تُجزئ الصَّغِيرَة. {ودية مسلمة إِلَى أَهله} يَعْنِي: سلمُوا الدِّيَة إِلَى أَهله، وَظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَن تكون الدِّيَة قي قتل الْخَطَأ فِي مَال الْقَاتِل، كالكفارة، لَكِن عرفنَا بِالسنةِ أَن الْكَفَّارَة فِي مَال الْقَاتِل وَالدية على الْعَاقِلَة. وَقَوله: {إِلَّا أَن يصدقُوا} يَعْنِي: أَن يتصدقوا، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب كَذَلِك، وَمعنى التَّصَدُّق: الْعَفو عَن الدِّيَة {فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة}

{إِلَيْكُم السّلم فَمَا جعل الله لكم عَلَيْهِم سَبِيلا (90) سَتَجِدُونَ آخَرين يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ كل مَا ردوا إِلَى الْفِتْنَة أركسوا فِيهَا فَإِن لم يعتزلوكم ويلقوا إِلَيْكُم السّلم} {مُؤمنَة} أَكثر الْمُفَسّرين وَهُوَ قَول الْحسن، وَقَتَادَة، وَمُجاهد وَجَمَاعَة: أَن المُرَاد بِهِ: وَإِن كَانَ من [نسب] قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن، وَمَعْنَاهُ الْمُؤمن يكون فِي دَار الْإِسْلَام، وقرابته فِي دَار الْحَرْب، فَيقْتل خطأ، قالواجب بقتْله الْكَفَّارَة، وَلَا دِيَة؛ لِأَنَّهَا إِذا سلمت إِلَى قرَابَته يقووا بهَا على الْمُسلمين، وَالأَصَح وَالَّذِي عرفه الْفُقَهَاء أَن المُرَاد بِهِ: الْمُؤمن الَّذِي أسلم فِي دَار الْحَرْب، فيقتله من لم يعلم إِسْلَامه، فَالْوَاجِب فِيهِ الْكَفَّارَة، دون الدِّيَة. {وَإِن كَانَ من قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق} هَذَا فِي أهل الذِّمَّة والمعاهدين {فديَة مسلمة إِلَى أَهله} يَعْنِي: على الْقدر الَّذِي اخْتلف فِيهِ {وتحرير رَقَبَة مُؤمنَة فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين تَوْبَة من الله} يَعْنِي: ليتوبوا إِلَى الله {وَكَانَ الله عليما حكيما} .

93

قَوْله تَعَالَى {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} نزلت الْآيَة فِي مقيس بن ضَبَابَة اللَّيْثِيّ، أسلم وَأَخُوهُ هِشَام، ثمَّ وجد أَخَاهُ مقتولا فِي بني النجار؛ فجَاء إِلَى النَّبِي فِي ذَلِك، فَبعث مَعَه رجلا فهربا إِلَى بني النجار، وَأمرهمْ أَن يدفعوا إِلَيْهِ قَاتل أَخِيه، أَو يسلمُوا الدِّيَة، فجاءا إِلَيْهِم، وبلغا الرسَالَة فَقَالُوا: سمعا وَطَاعَة لرَسُول الله، وَالله مَا نَعْرِف الْقَاتِل، وَسَاقُوا الدِّيَة إِلَيْهِ مائَة من الْإِبِل؛ فَلَمَّا رجعا أقبل مقيس وَقتل الفِهري، وَاسْتَاقَ الْإِبِل، وَلحق بِمَكَّة وارتد، وَقَالَ الشّعْر: (قتلت بِهِ فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار أَرْبَاب فارع) (فأدركت ثَأْرِي واضطجعت مُوسِرًا ... وَكنت إِلَى الْأَوْثَان أول رَاجع) فَنزلت الْآيَة فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي أَمر النَّبِي بقتْله؛ فجَاء الْجَمَاعَة الَّذين عينهم

{ويكفوا أَيْديهم فخذوهم واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم وأولائكم جعلنَا لكم عَلَيْهِم سُلْطَانا مُبينًا (91) وَمَا كَانَ لمُؤْمِن أَن يقتل مُؤمنا إِلَّا خطأ وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية} للْقَتْل يَوْم فتح مَكَّة؛ فَقتل وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة فَقَوله: {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا} فالقتل الْمُتَعَمد عِنْد أَكثر الْعلمَاء: هُوَ الَّذِي يحصل بِكُل مَا يقْصد بِهِ الْقَتْل، وَقَالَ سعيد بن الْمسيب، وَطَاوُس: الْقَتْل الْعمد لَا يكون إِلَّا بالحديد {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه} أَي: طرده عَن الرَّحْمَة {وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما} وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة مَدَنِيَّة لم ينسخها شئ؛ فَكَانَ يَقُول: لَيْسَ لقَاتل الْمُؤمن تَوْبَة، وَسُئِلَ عَن تَوْبَته؛ فَقَالَ: أَنى تكون لَهُ التَّوْبَة، فَقيل لَهُ: أَلَيْسَ قد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة ويخلد فِيهِ مهانا إِلَّا من تَابَ} فَقَالَ ابْن عَبَّاس: تِلْكَ آيَة مَكِّيَّة، وَهَذِه آيَة مَدَنِيَّة لم تنسخ بِشَيْء حَتَّى قبض رَسُول الله. وَقَالَ زيد بن ثَابت: الشَّدِيدَة بعد الهينة بِسِتَّة أشهر، يَعْنِي بالهينة آيَة الْفرْقَان، وبالشديدة هَذِه الْآيَة. وروى حميد، عَن أنس، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَبى الله تَعَالَى أَن يكون لقَاتل الْمُؤمن تَوْبَة " وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " لقتل الْمُؤمن أعظم عِنْد الله من زَوَال الدُّنْيَا ". وَالأَصَح، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة: أَن لقَاتل الْمُؤمن عمدا تَوْبَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ وآمن} وَقَوله: {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَلِأَن الْقَتْل الْعمد لَيْسَ بأشد من الْكفْر، وَمن

{مسلمة إِلَى أَهله إِلَّا أَن يصدقُوا فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة وَإِن كَانَ من قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق فديَة مسلمة إِلَى أَهله وتحرير رَقَبَة مُؤمنَة فَمن لم يجد} الْكفْر تَوْبَة؛ فَمن الْقَتْل أولى، وَأما الَّذِي روى عَن ابْن عَبَّاس، فعلى سَبِيل التَّشْدِيد وَالْمُبَالغَة فِي الزّجر عَن الْقَتْل، وَهُوَ مثل مَا روى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه قَالَ: إِن لم يقتل يُقَال لَهُ: لَا تَوْبَة لَك، منعا لَهُ عَن الْقَتْل، وَإِن قتل يُقَال لَهُ: لَك تَوْبَة، حَتَّى يَتُوب. وروى أَن رجلا جَاءَ إِلَى ابْن عَبَّاس وَسَأَلَهُ: هَل لقَاتل الْمُؤمن تَوْبَة، قَالَ: لَا، فَجَاءَهُ آخر، وَسَأَلَهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: نعم، لَهُ تَوْبَة، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِن الأول لم يكن قتل؛ فمنعته عَن الْقَتْل، وَإِن الثَّانِي؛ قتل؛ فأرشدته إِلَى التَّوْبَة. وَاعْلَم أَن لَا مُتَعَلق فِي هَذِه الْآيَة لمن يَقُول بالتخليد فِي النَّار لأهل الْكَبَائِر من الْمُسلمين؛ لأَنا إِن نَظرنَا إِلَى سَبَب نزُول الْآيَة، فالآية نزلت فِي قَاتل كَافِر كَمَا بَينا، وَقيل: إِنَّه فِيمَن يقتل مستحلا، وَالْأولَى أَن تَقول فِيهِ مَا قَالَه أَبُو صَالح: إِن معنى قَوْله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا} إِن جازى، وَبِه نقُول: إِن الله تَعَالَى إِن جازاه ذَلِك خَالِدا، فَهُوَ جَزَاؤُهُ، وَلكنه رُبمَا لَا يجازي، وَقد وعد أَن لَا يجازى وَيغْفر لمن يَشَاء، وَهُوَ لَا يخلف الميعاد، وَحكى عَن قُرَيْش بن أنس رَحمَه الله أَنه قَالَ: كنت فِي مجْلِس فِيهِ عَمْرو بن عبيد، فَقَالَ: لَو قَالَ الله لي يَوْم الْقِيَامَة: لم قلت بتخليد الْقَاتِل الْمُتَعَمد فِي النَّار؟ فَأَقُول لَهُ: أَنْت الَّذِي قلت: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا} قَالَ قُرَيْش: وَكنت أَصْغَر الْقَوْم، فَقلت لَهُ: أَرَأَيْت لَو قَالَ الله تَعَالَى لَك: أَلَسْت قلت {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فَمن أَيْن علمت أَنى لم أشأ مغْفرَة الْقَاتِل؟ فَسكت وَلم يسْتَطع الْجَواب. وَحكى أَن عَمْرو بن عبيد جَاءَ إِلَى أبي عَمْرو بن الْعَلَاء رَحمَه الله وَقَالَ لَهُ: هَل يخلف الله وعده؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: أَلَيْسَ قد قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا} فَأَنا على هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يخلف وعده، فَقَالَ أَبُو عَمْرو: وَمن العجمة أتيت يَا أَبَا عُثْمَان؛ إِن الْعَرَب لَا تعد الإخلاف فِي الْوَعيد خلفا

{فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين تَوْبَة من الله وَكَانَ الله عليما حكيما (92) وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما (93) يَا أَيهَا الَّذين} وذما، وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْخلف فِي الْوَعْد، وَأنْشد لَهُ قَول الْقَائِل فِيهِ: (إِنِّي إِذا أوعدته وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي) فقد تمدح بالخلف فِي الْوَعيد، وَقَالَ آخر: (وَإِذا وعد السَّرَّاء أنْجز وعده ... وَإِن وعد الضراء فالعفو مانعه) فَالله تَعَالَى يجوز أَن يخلف فِي الْوَعيد، وَإِنَّمَا لَا يخلف الميعاد.

94

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله} أَي: سافرتم فِي سَبِيل الله، يَعْنِي: الْغَزْو {فَتَبَيَّنُوا} وَيقْرَأ: " فتثبتوا " ومعناهما: ترك العجلة. وَفِي الْخَبَر: " التأني من الله، والعجلة من الشَّيْطَان " {فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا} يقْرَأ " إِلَيْكُم السَّلَام " وَيقْرَأ " إِلَيْكُم السّلم "، فالسلام: هُوَ التَّسْلِيم الْمَعْهُود، وَالسّلم: المقادة والاستسلام، وَالسّلم: الصُّلْح، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي يزِيد بن الْقَعْقَاع: " لست مُؤمنا " من الْأمان {تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا} يَعْنِي: تَبْتَغُونَ الدُّنْيَا، وَفِي الْآثَار: " الدُّنْيَا عرض حَاضر، يَأْكُل مِنْهَا الْبر والفاجر، وَالْآخِرَة وعد صَادِق، يقْضِي فِيهَا ملك قَادر ".

( {آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِم كَثِيرَة كَذَلِك كُنْتُم من قبل فَمن الله عَلَيْكُم فَتَبَيَّنُوا إِن الله} فَعِنْدَ الله مَغَانِم كَثِيرَة) أَي: غَنَائِم كَثِيرَة. {كَذَلِك كُنْتُم من قبل فَمن الله عَلَيْكُم} أَي: تفضل الله عَلَيْكُم، وَفِيه قَولَانِ: قَالَ سعيد بن جُبَير: مَعْنَاهُ كَذَلِك كُنْتُم من قبل تكتمون الْإِيمَان، فَمن الله عَلَيْكُم، وَفِيه قَولَانِ بالإظهار، وَقَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: كَذَلِك كُنْتُم من قبل ضلالا، فَمن الله عَلَيْكُم بالهداية {فَتَبَيَّنُوا} إِعَادَة تَأْكِيد {إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَن النَّبِي بعث سَرِيَّة، فَلَقوا رجلا يُقَال لَهُ: مرداس بن عَمْرو من فدك، لَهُ غنيمات، فانحاز بهَا إِلَى الْجَبَل لما أحس بالسرية، ثمَّ تقدم إِلَيْهِم، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم أَنا مُؤمن، فبادر إِلَيْهِ أُسَامَة بن زيد وَهُوَ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَتله، وَأخذ سلبه، والغنيمات الَّتِي لَهُ، فَلَمَّا رجعُوا إِلَى النَّبِي قَالَ لأسامة: أقتلت رجلا يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، فَقَالَ: إِنَّه إِنَّمَا أسلم مُتَعَوِّذًا، وَقَالَ: إِنَّمَا أسلم، ليحرز نَفسه وَمَاله، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: هلا شققت عَن قلبه؟ فَقَالَ أُسَامَة: اسْتغْفر لي يَا رَسُول الله، فَقَالَ كَيفَ لَك بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ: اسْتغْفر لي يَا رَسُول الله، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: كَيفَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة؟ هَكَذَا حَتَّى أَعَادَهُ ثَلَاثًا - فَنزلت الْآيَة فِيهِ. {وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام} " وَلِأَن ذَلِك الرجل كَانَ قد سلم عَلَيْهِم، وَأسلم لَهُم {لست مُؤمنا تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا} يعْنى: تَبْتَغُونَ بقتْله غنيمات كَانَت لَهُ. وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي اسْتغْفر لأسامة، وَأمره بِإِعْتَاق رَقَبَة وَكَانَ أُسَامَة من علية الصَّحَابَة، وعاش إِلَى زمَان على - رضى الله عَنهُ - فَدَعَاهُ على إِلَى الْمُقَاتلَة مَعَه فِي الحروب، فَقَالَ لعلى: أَنْت أعز على من كل أحد، وَلَو قَاتَلت الْمُسلمين مَعَ أحد لقاتلت مَعَك، وَلَكِنِّي مُنْذُ سَمِعت رَسُول الله قَالَ لي: كَيفَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة، امْتنعت من الْقِتَال، فَإِن أَعْطَيْتنِي سَيْفا يُمَيّز الْمُسلم من الْكَافِر حَتَّى أقَاتل فَتَركه على.

{كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولى الضَّرَر والمجاهدين فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فضل الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم على} وَكَانَ مِمَّن اعتزل الْفَرِيقَيْنِ هُوَ وَسعد بن أبي وَقاص، وَزيد بن ثَابت، وَعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ. وَقيل: إِن قَاتل صَاحب الغنيمات، كَانَ الْمِقْدَاد بن عَمْرو الْكِنْدِيّ - هُوَ ابْن الْأسود - هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف فِي سَبَب نزُول الْآيَة، وَفِي الْآيَة قَول آخر: " أَنَّهَا نزلت فِي محلم بن جثامة اللَّيْثِيّ، قتل رجلا وَهُوَ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، ثمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِي، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، اسْتغْفر لي، فَقَالَ: لَا غفر الله لَك، فَقَامَ يبكي، وَانْصَرف، فَلَمَّا مَاتَ دفن فِي الأَرْض، فلفظته الأَرْض، ثمَّ دفن فلفظته الأَرْض، ثمَّ دفن فلفظته الأَرْض - هَكَذَا ثَلَاثًا - فَأمر النَّبِي حَتَّى ألقِي عَلَيْهِ الْحِجَارَة، قَالَ: إِن الأَرْض لتنطبق على من هُوَ شَرّ مِنْهُ - يعْنى من محلم -، وَلَكِن الله - تَعَالَى - أَرَادَ أَن يريكم الْآيَة ".

95

قَوْله - تَعَالَى -: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولى الضَّرَر} اعْلَم أَن الَّذِي نزل فِي الِابْتِدَاء من هَذِه الْآيَة قَوْله: " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ والمجاهدين فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم " قَالَ زيد بن ثَابت: " كَانَ النَّبِي يملى على هَذِه الْآيَة، وَفَخذه على فَخذي، فَدخل عبد الله بن أم مَكْتُوم، وَقَالَ يَا رَسُول الله، أَنا رجل ضَرِير، وَلَو اسْتَطَعْت أَن أقَاتل لقاتلت مَعَك؛ فتغشى رَسُول الله الْوَحْي؛ فثقل فَخذه على فَخذي حَتَّى كَاد يرضه؛ فَلَمَّا سرى عَنهُ، قَالَ لي: اكْتُبْ {غير أولى الضَّرَر} فَنزل هَذَا الْقدر فِي ابْن أم مَكْتُوم، وَكَانَ ضريرا من أولى الضَّرَر، وَقَوله:

{القاعدين دَرَجَة وكلا وعد الله الْحسنى وَفضل الله الْمُجَاهدين على القاعدين أجرا عَظِيما (95) دَرَجَات مِنْهُ ومغفرة وَرَحْمَة وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (96) إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة} {غير أولي الضَّرَر} يقْرَأ على وُجُوه: " غير " - بِرَفْع الرَّاء - وَتَقْدِيره: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الَّذين هم غير أولي الضَّرَر، وَيقْرَأ: بِفَتْح الرَّاء، على الِاسْتِثْنَاء، يعْنى: إِلَّا أولي الضَّرَر، وَقيل: هُوَ نصب على الْحَال، يعْنى: فِي حَال الصِّحَّة، وَانْتِفَاء الضَّرَر، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ أصحاء، وَهَذَا أشهر الْقِرَاءَتَيْن، وَكَذَلِكَ قَرَأَ النَّبِي " غير أولي الضَّرَر " - بِكَسْر الرَّاء يعْنى -، من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر، {فضل الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم على القاعدين دَرَجَة} أَرَادَ بالقاعدين هَاهُنَا: أولى الضَّرَر، فضل الْمُجَاهدين عَلَيْهِم بِدَرَجَة؛ لِأَن الْمُجَاهدين باشروا الْجِهَاد مَعَ النِّيَّة، وَأولُوا الضَّرَر كَانَت لَهُم نِيَّة الْجِهَاد، وَلَكِن لم يباشروا؛ فنزلوا عَنْهُم بِدَرَجَة {وكلا وعد الله الْحسنى} يعْنى: الْجنَّة {وَفضل الله الْمُجَاهدين على القاعدين أجرا عَظِيما} وَأَرَادَ بالقاعدين هُنَا: غير أولي الضَّرَر، فضل الله الْمُجَاهدين عَلَيْهِم أجرا عَظِيما

96

{دَرَجَات مِنْهُ ومغفرة وَرَحْمَة} قَالَ ابْن محيريز: هِيَ سَبْعُونَ دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس الْمُضمر سبعين سنة، وَفِي الْخَبَر " فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، أعدهَا الله للمجاهدين فِي سَبيله "، وَقيل: أَرَادَ بالدرجات: الْإِسْلَام، وَالْهجْرَة، وَالْجهَاد، وَالشَّهَادَة فِي الْجِهَاد، وفاز بِتِلْكَ الدَّرَجَات المجاهدون {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} .

97

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة} قَرَأَ عِيسَى بن عمر النَّحْوِيّ: " تتوفاهم " - بالتائين - وَالْمَعْرُوف " تَوَفَّاهُم " وَأَصله: تتوفاهم، فأدغمت إِحْدَى التائين تَخْفِيفًا، على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة، فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: تتوفاهم الْمَلَائِكَة والمتوفى ملك وَاحِد، كَمَا قَالَ: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت} ؟ قيل: ذكره بِلَفْظ

{ظالمي أنفسهم قَالُوا فيمَ كُنْتُم قَالُوا كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض قَالُوا ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال} الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ الْوَاحِد، وَمثله شَائِع فِي كَلَام الْعَرَب، وَقيل: إِن لملك الْمَوْت أعوانا، فَلَعَلَّهُ أَرَادَهُ مَعَ أعوانه؛ فَلذَلِك ذكر بِلَفْظ الْجمع. قَالَ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك: الْآيَة فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة، فَلَمَّا هَاجر النَّبِي إِلَى الْمَدِينَة، تخلفوا عَن الْهِجْرَة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر حملهمْ الْكفَّار مَعَ أنفسهم إِلَى بدر كرها، فَقتلُوا بَين الْكفَّار. وَقَوله {ظالمي أنفسهم} يعْنى: بالشرك؛ فَإِنَّهُم قتلوا مُشْرِكين؛ إِذْ مَا كَانَ يقبل الْإِسْلَام بعد هِجْرَة النَّبِي إِلَّا بِالْهِجْرَةِ، ثمَّ أُبِيح ذَلِك بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح ". {قَالُوا فيمَ كُنْتُم} يعْنى: الْمَلَائِكَة قَالُوا لأولئك الَّذين أَسْلمُوا وَلم يهاجروا: {فيمَ كُنْتُم} يعْنى: فِي أَي الْفَرِيقَيْنِ كُنْتُم، فِي الْمُسلمين أم الْمُشْركين؟ وَهَذَا سُؤال توبيخ، لَا سُؤال استعلام {قَالُوا كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض} يعْنى: كُنَّا بِمَكَّة مستضعفين بَين الْمُشْركين {قَالُوا} يعْنى: الْمَلَائِكَة {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا} يعْنى: إِلَى الْمَدِينَة {فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} حكم لَهُم بالنَّار؛ لأَنهم مَاتُوا مُشْرِكين

98

{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} وهم أَصْحَاب الْأَعْذَار {من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان} مِنْهُم الْوَلِيد بن الْوَلِيد، وَسَلَمَة بن هِشَام، وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: كنت أَنا وَأمي من الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وهم الَّذين دَعَا لَهُم النَّبِي فِي الْقُنُوت، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ انج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة بن هِشَام، وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وأشدد وطأتك على مُضر، هَكَذَا كَانَ يدعوا لَهُم

{وَالنِّسَاء والولدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98) فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا (99) وَمن يُهَاجر فِي سَبِيل الله يجد فِي الأَرْض مراغما كثيرا} شهرا، حَتَّى نَجوا، وَقدمُوا؛ فَترك ذَلِك الدُّعَاء، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: أَلا ترونهم قد قدمُوا ". {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة} يعْنى: لِلْخُرُوجِ {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} أَي: طَرِيقا إِلَى الْمَدِينَة

99

{فَأُولَئِك عَسى الله أَن يعْفُو عَنْهُم} " وَعَسَى " من الله وَاجِب؛ لِأَنَّهُ للإطماع، وَالله - تَعَالَى - إِذا أطمع عبدا أوجب لَهُ وأوصله إِلَيْهِ. {وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا} روى: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، كتب بهَا أَصْحَاب رَسُول الله إِلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وَكَانَ فيهم شيخ كَبِير يُقَال لَهُ: جندع بن ضَمرَة وَيُقَال لَهُ حبيب بن ضَمرَة فَقَالَ: لست من الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنا أعرف طَرِيق الْمَدِينَة، وَقَالَ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي إِلَى الْمَدِينَة، فَحَمَلُوهُ يأْتونَ بِهِ، فَلَمَّا بلغ التَّنْعِيم؛ أدْركهُ الْمَوْت، فَبلغ ذَلِك أَصْحَاب رَسُول الله فَقَالُوا: لَو وصل إِلَى الْمَدِينَة لأتمم الله أجره؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله} يعْنى: تمّ أجره.

100

وَقَوله: {وَمن يُهَاجر فِي سَبِيل الله يجد فِي الأَرْض مراغما كثيرا وَسعه} المراغم: المُهَاجر، والمراغمة: المهاجرة، المُهَاجر، قَالَ أَبُو عمر بن الْعَلَاء: وَإِنَّمَا سميت المهاجرة مراغمة؛ لِأَنَّهُ من هَاجر مراغم قومه وقرابته، وَقَالَ الشَّاعِر: (كطود يلوذ بأركانه ... عَزِيز المراغم والمهرب) وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مراغما، أَي: متحولا يتَحَوَّل إِلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِد: مراغما، أَي: متزحزحا، وَقَوله: {وسعة} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: وسعة فِي الرزق، قَالَ قَتَادَة:

{وسعة وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من} وَمَعْنَاهُ: وسعة من الضَّلَالَة إِلَى الْهَدْي. {وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله} قد ذكرنَا أَنه فيمَ نزل {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} .

101

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} أَي: سافرتم {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} . قصر الصَّلَاة فِي السّفر لَا خلاف فِي جَوَازه فِي حَال الْخَوْف، وَأما فِي حَال الْأَمْن: قَالَ سعد بن أبي وَقاص: إِنَّه لَا يجوز، وَبِه قَالَ دَاوُد، وَأهل الظَّاهِر؛ تمسكا بِظَاهِر الْقُرْآن، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء وَهُوَ قَول أَكثر الْأمة -: إِنَّه يجوز الْقصر فِي حَال الْأَمْن؛ لما روى عَن يعلي بن أُميَّة أَنه قَالَ لعمر - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا بالنا نقصر، وَقد أمنا، وَالله - تَعَالَى - يَقُول فِي كِتَابه: {أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ} قَالَ عمر: عجبت مِمَّا تعجبت أَنْت، فَسَأَلت النَّبِي، فَقَالَ: صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم، فاقبلوا صدقته " وروى " أَن رَسُول الله سَافر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة - لَا يخَاف إِلَّا الله - وَقصر الصَّلَاة " وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَام - يقصر الصَّلَاة فِي جَمِيع أَسْفَاره، وَلم ينْقل أَنه أتم فِي سفر مَا؛ وَلذَلِك قَالَ الشَّافِعِي: الْقصر أولى؛ وَإِن جَازَ الْإِتْمَام. وروى عَن جَابر، وَالْحسن - وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس -: أَن صَلَاة الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَصَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْخَوْف رَكْعَة، وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " فرض الله - تَعَالَى - الصَّلَاة على لِسَان نبيه فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي

{الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا إِن الْكَافرين كَانُوا لكم عدوا مَبْنِيا (101) وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك وليأخذوا أسلحتهم فَإِذا سجدوا فليكونوا} الْخَوْف رَكْعَة " وَأكْثر الْأمة على أَن الْقصر فِي الْخَوْف رَكْعَتَانِ، مثل قصر السّفر، ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْقصر على قَوْلَيْنِ: أَنه إِبَاحَة، أم وَاجِب، قَالَ بَعضهم: هُوَ إِبَاحَة، وَهُوَ اخْتِيَار الشَّافِعِي، وَهُوَ أصح؛ لقَوْله عز ذكره: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح} وَهُوَ مثل قَوْله: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يتراجعا} . وَقَالَ بَعضهم: هُوَ وَاجِب. وَالْخلاف بَين السّلف مَشْهُور فِيهِ. وَقَوله: {إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} أَي: يقتلكم، والفتنة بِمَعْنى: الْقَتْل هَاهُنَا، وَقَرَأَ أَبى بن كَعْب: " أَن تقصرُوا من الصَّلَاة أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا " - من غير قَوْله: {إِن خِفْتُمْ} - ويروى عَن أَبى أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَنه قَالَ: نزل قَوْله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة} هَذَا الْقدر فَحسب، ثمَّ مضى حول، وَلم ينزل شئ؛ فَسئلَ رَسُول الله عَن صَلَاة الْخَوْف، ثمَّ نزل قَوْله: ( {إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا إِن الْكَافرين كَانُوا لكم عدوا مُبينًا} وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة) فَأَشَارَ إِلَى أَنه رَاجع إِلَى صَلَاة الْخَوْف، لَا إِلَى صَلَاة السّفر.

102

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة} بَين فِي هَذِه الْآيَة كَيْفيَّة صَلَاة الْخَوْف، وَأعلم أَن صَلَاة الْخَوْف جَائِزَة بعد رَسُول الله على قَول أَكثر الْعلمَاء، وَقَالَ بَعضهم: صَلَاة الْخَوْف لَا تجوز لأحد بعده، وَهُوَ قَول أَبى يُوسُف؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة، قَوْله: {وَإِذا كنت فيهم} فَشرط كَونه فيهم، وَالأَصَح هُوَ الأول. وَقَوله: {وَإِذا كُنْتُم فيهم} لَيْسَ على سَبِيل الشَّرْط، وَإِنَّمَا خرج الْكَلَام على وفْق الْحَال، وَقد ورد أَن أَصْحَاب رَسُول الله صلوا بعده صَلَاة الْخَوْف.

( {من وَرَائِكُمْ ولتأت طَائِفَة أُخْرَى لم يصلوا فليصلوا مَعَك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الَّذين كفرُوا لَو تغفلون عَن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عَلَيْكُم مَيْلَة وَاحِدَة وَلَا جنَاح عَلَيْكُم} فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك وليأخذوا أسلحتهم) وَسبب نزُول الْآيَة: مَا روى أَبُو عَيَّاش الزرقي: " أَن رَسُول الله نزل بعسفان، وَكَانَ على خيل الْمُشْركين خَالِد بن الْوَلِيد، فصلى النَّبِي مَعَ أَصْحَابه صَلَاة الظّهْر، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: قد وجدنَا مِنْهُم غرَّة إِن قصدناهم، وحملنا عَلَيْهِم، فَقَالَ بَعضهم: سَتَأْتِيهِمْ صَلَاة هِيَ أحب إِلَيْهِم من أَوْلَادهم، وأهاليهم - يعنون صَلَاة الْعَصْر - فَنزل جِبْرِيل، وَأخْبرهُ بمقالتهم، وَأمر بِصَلَاة الْخَوْف ". وَقد روى عَن رَسُول الله صَلَاة الْخَوْف بروايات شَتَّى، وَأخذ الشَّافِعِي بِرِوَايَة صَالح بن خَوات بن جُبَير عَن أَبِيه عَن النَّبِي: " أَنه صلى صَلَاة الْخَوْف، فَجعل أَصْحَابه فرْقَتَيْن، وَصلى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة، فَقَامُوا، وَأَتمُّوا رَكْعَتَيْنِ، وذهبوا إِلَى وَجه الْعَدو؛ وَجَاءَت الطَّائِفَة الثَّانِيَة وَالنَّبِيّ ينتظرهم، فصلى بهم الرَّكْعَة الثَّانِيَة وانتظرهم جَالِسا حَتَّى قَامُوا وَأَتمُّوا رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ سلم بهم " فَهَذَا معنى قَوْله: {فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك وليأخذوا أسلحتهم} . وَاخْتلفُوا فِي أَنهم مَتى يَأْخُذُونَ أسلحتهم؟ قَالَ بَعضهم: يأخذونه فِي الصَّلَاة؛ ليكونوا أهيب فِي عين الْعَدو؛ فعلى هَذَا يَأْخُذُونَ من السِّلَاح مَا لَا يمنعهُم من الْإِتْيَان بأركان الصَّلَاة، وَقَالَ آخَرُونَ: يَأْخُذُونَ السِّلَاح إِذا ذَهَبُوا إِلَى وَجه الْعَدو. {فَإِذا سجدوا} يعْنى: فَإِذا صلوا {فليكونوا من وَرَائِكُمْ ولتأت طَائِفَة أُخْرَى لم

{إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر أَو كُنْتُم مرضى أَن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركُمْ إِن الله أعد للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا (102) فَإِذا قضيتم الصَّلَاة فاذكروا الله قيَاما وقعودا وعَلى جنوبكم فَإِذا} يصلوا فليصلوا مَعَك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) والحذر: مَا يتقى بِهِ للحذر من الْعَدو {ود الَّذين كفرُوا لَو تغفلون} لَو وجدوكم غافلين {عَن أسلحتكم وأمتعتكم} يَعْنِي: بِالصَّلَاةِ {فيميلون عَلَيْكُم مَيْلَة وَاحِدَة} أَي: فيحملون عَلَيْكُم حَملَة وَاحِدَة. {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر أَو كُنْتُم مرضى أَن تضعوا أسلحتكم} رخص لَهُم فِي وضع السِّلَاح فِي حَال الْمَطَر، وَالْمَرَض؛ لِأَن السِّلَاح يثقل حمله فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ. {وخذوا حذركُمْ إِن الله أعد للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا} .

103

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيتم الصَّلَاة} يَعْنِي: صَلَاة الْخَوْف، {فاذكروا الله قيَاما وقعودا وعَلى جنوبكم} يَعْنِي: الذّكر بالتسبيح والتهليل، والتحميد، والتمجيد. {فَإِذا إطمأننتم} يَعْنِي: فَإِذا سكنتم وأقمتم وأمنتم {فأقيموا الصَّلَاة} يَعْنِي على أَرْكَانهَا وهيئتها كَمَا عَرَفْتُمْ {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا} قَالَ مُجَاهِد: أَي: فرضا مؤقتا يُؤدى (فِي) أوقاته، وَقَالَ زيد بن أسلم: أَرَادَ بِهِ: فرضا منجما يَأْتِي نجم بعد نجم.

104

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تهنوا فِي ابْتِغَاء الْقَوْم إِن تَكُونُوا تألمون فَإِنَّهُم يألمون كَمَا تألمون} سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن الْكفَّار يَوْم أحد لما انْهَزمُوا، بعث النَّبِي طَائِفَة من أَصْحَابه على إثرهم، فشكوا ألم الْجِرَاحَات؛ فَنزلت الْآيَة " {وَلَا تهنوا فِي ابْتِغَاء الْقَوْم} أَي: لَا تضعفوا فِي طلب الْقَوْم. {إِن تَكُونُوا تألمون} أَي: توجعون وتشكون الْأَلَم، فَإِنَّهُم يألمون، أَي: يوجعون ويشكون الْأَلَم كَمَا تألمون، قَالَ الشَّاعِر فِي مَعْنَاهُ: (قَاتل الْقَوْم يَا خزاع وَلَا يدخلنكم ... )

{اطمأننتم فأقيموا الصَّلَاة إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا (103) وَلَا تهنوا فِي ابْتِغَاء الْقَوْم إِن تَكُونُوا تألمون فَإِنَّهُم يألمون كَمَا تألمون وترجون من الله مَا لَا يرجون وَكَانَ} (من قِتَالهمْ، فَشد الْقَوْم أمثالكم لَهُم ... شعر فِي الرَّأْس لَا ينشرون إِن قتلوا) {وترجون من الله مَا لَا يبرجون} أَي: وتأملون من الله مَالا يأملون، من الظفر فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَاب فِي الْآخِرَة، وَقَالَ الْفراء وَالْكسَائِيّ: الرَّجَاء بِمَعْنى الْخَوْف، وكل راج خَائِف؛ لِأَنَّهُ يخَاف أَلا يدْرك المأمول، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} وَأَجْمعُوا على أَن مَعْنَاهُ: لَا تخافون لله عَظمَة، قَالَ الشَّاعِر: (لَا ترتجي إِذا تلاقى الزائدا ... أسبعة تلقى مَعًا أم وَاحِدًا) {وَكَانَ الله عليما حكيما}

105

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى " أَن طعمة بن أُبَيْرِق من بني ظفر بن الْحَارِث سرق درعا، فَلَمَّا أَتَاهُم بِهِ أَلْقَاهُ فِي دَار يَهُودِيّ، وَقَالَ: إِنَّه سرق وَفِي رِوَايَة: أودعهُ عِنْد يَهُودِيّ فَلَمَّا ظهر، قَالَ: إِن الْيَهُودِيّ سَرقه؛ فجَاء قومه إِلَى النَّبِي وهم بَنو ظفر بن الْحَارِث؛ ليدافعوا عَنهُ، وهم النَّبِي بِدفع السّرقَة عَنهُ، وَقطع يَد الْيَهُودِيّ، وَكَانَ عِنْد قومه أَنه السَّارِق؛ فَنزل قَوْله: {إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} أَي: لتَحكم بِالْحَقِّ. {لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله} أَي: بِمَا علمك، وَحكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إياك والرأي فَإِن

{الله عليما حكيما (104) إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله وَلَا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما (106) وَلَا تجَادل عَن الَّذين يَخْتَانُونَ أنفسهم إِن الله لَا يحب من كَانَ خوانًا أَثِيمًا (107) يستخفون من النَّاس وَلَا يستخفون من الله وَهُوَ مَعَهم إِذْ يبيتُونَ مَا لَا يرضى من القَوْل وَكَانَ الله بِمَا يعْملُونَ محيطا} الله تَعَالَى يَقُول: {بِمَا أَرَاك الله} وَلم يقل: بِمَا رَأَيْت، {وَلَا تكن للخائنين خصيما} يَعْنِي: طعمة من الخائنين، فَلَا تكن مدافعا عَنهُ

106

{واستغفر الله} أمره بالاستغفار؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد هم أَن يدافع عَنهُ {إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} .

107

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تجَادل عَن الَّذين يَخْتَانُونَ أنفسهم} أَي: يخونون أنفسهم والاختيان: افتعال من الْخِيَانَة {إِن الله لَا يحب} قَالَ أهل التَّفْسِير: مَعْنَاهُ: إِن الله لَا يقرب {من كَانَ خوانًا أَثِيمًا} الخوان: الخائن والأثيم: ذُو الْإِثْم.

108

قَوْله تَعَالَى: {يستخفون من النَّاس وَلَا يستخفون من الله وَهُوَ مَعَهم} بشكوى بني ظفر بن الْحَارِث، مَعْنَاهُ: يستترون من النَّاس، وَلَا يستترون من الله، وَهُوَ مَعَهم {إِذْ يبيتُونَ مَالا يرضى من القَوْل} قد بَينا أَن التبييت: تَدْبِير الْفِعْل لَيْلًا؛ وَذَلِكَ التبييت مِنْهُم أَن قوم طعمة قَالُوا: ندفع أمره إِلَى النَّبِي؛ فَإِنَّهُ يسمع يَمِينه، وَقَوله؛ لِأَنَّهُ مُسلم، وَلَا يسمع من الْيَهُودِيّ؛ لِأَنَّهُ كَافِر، فَلم يرض الله تَعَالَى قَوْلهم {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ محيطا} .

109

قَوْله تَعَالَى: {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: أَنْتُم يَا هَؤُلَاءِ، قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: هَا أَنْتُم الَّذين {جادلتهم عَنْهُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: خاصمتم، وأصل الْجِدَال: الجدل، وَهُوَ الفتل، وَيُقَال: شخص أجدل، إِذا كَانَ وثيق الْخلق، وَيُقَال للصقر: أجدل؛ لِأَنَّهُ أقوى الطُّيُور على الصَّيْد. {فَمن يُجَادِل الله عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة أم من يكون عَلَيْهِم وَكيلا} يَعْنِي: من الَّذِي يتَوَلَّى أَمرهم، ويذب عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة؟

110

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْمل سوءا أَو يظلم نَفسه ثمَّ يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما} عرض التَّوْبَة على طعمة وَقَومه فِي هَذِه الْآيَة، وَأمرهمْ بالاستغفار.

( {108) هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ جادلتم عَنْهُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا فَمن يُجَادِل الله عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة أم من يكون عَلَيْهِم وَكيلا (109) وَمن يعْمل سوءا أَو يظلم نَفسه ثمَّ يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما (110) وَمن يكْسب إِثْمًا فَإِنَّمَا يكسبه على نَفسه وَكَانَ الله عليما حكيما (111) وَمن يكْسب خَطِيئَة أَو إِثْمًا ثمَّ يرم بِهِ بَرِيئًا فقد احْتمل بهتانا وإثما مُبينًا (112) وَلَوْلَا فضل الله}

111

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يكْسب إِثْمًا فَإِنَّمَا يكسبه على نَفسه} سَبَب هَذَا أَن قومه قَالُوا لَهُ: تب إِلَى الله، فَحلف أَنى مَا سَرقته، وَإِنَّمَا سَرقه الْيَهُودِيّ؛ فَذَلِك الَّذِي يَقُول الله - تَعَالَى - وَمن كَسبه الْإِثْم {وَكَانَ الله عليما حكيما} .

112

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن يكْسب خَطِيئَة أَو إِثْمًا} هُوَ سَرقته الَّتِي ذكرنَا، {ثمَّ يرم بِهِ بَرِيئًا} هُوَ نسبته السّرقَة إِلَى الْيَهُودِيّ الَّذِي كَانَ بَرِيئًا عَنْهَا {فقد احْتمل بهتانا وإثما مُبينًا} فالبهتان: الْكَذِب الَّذِي يتحير مِنْهُ الْإِنْسَان، وَهُوَ البهت، وَأَرَادَ بالإثم الْمُبين: الْيَمين الْفَاجِرَة.

113

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْك وَرَحمته} هَذَا خطاب للرسول {لهمت طَائِفَة مِنْهُم أَن يضلوك} يعْنى: قوم طعمه، هموا أَن يلبسوا عَلَيْك؛ لتدافع عَنهُ {وَمَا يضلون إِلَّا أنفسهم} أَي: يرجع وباله عَلَيْهِم {وَمَا يضرونك من شئ} يعْنى: ضَرَره عَائِد عَلَيْهِم، وَلَا يَضرك؛ لِأَنَّك مَعْصُوم {وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة} قيل: أَرَادَ بِهِ: وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب بالحكمة، وَقيل: أَرَادَ بِالْكتاب: الْقُرْآن، وبالحكمة: السّنة {وعلمك مَا لم تكن تعلم} يعْنى: من أَحْكَام الْقُرْآن، وَقيل: من علم الْغَيْب، وَقيل: علمك قدرك، وَلم تكن تعلمه {وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما} .

114

قَوْله - تَعَالَى -: {لَا خير فِي كثير من نَجوَاهُمْ إِلَّا من أَمر بِصَدقَة} . النَّجْوَى: السرائر فِي التَّدْبِير، قَالَ الزّجاج: كل مَا انْفَرد بتدبيره قوم يَخُوضُونَ فِيهِ؛ فَهُوَ نجوى: سرا كَانَ أَو عَلَانيَة، وَأَرَادَ هَاهُنَا: نجوى قوم طعمه وتدبيرهم، وَقيل: هُوَ فِي جَمِيع الْحَوَادِث. {إِلَّا من أَمر بِصَدقَة} قيل: أَرَادَ بِهِ إِلَّا نجوى من أَمر بِصَدقَة، وَقيل: هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، يعْنى: لَكِن من أَمر بِصَدقَة {أَو مَعْرُوف} وَهُوَ كل مَا عرفه الشَّرْع {أَو

{عَلَيْك وَرَحمته لهمت طَائِفَة مِنْهُم أَن يضلوك وَمَا يضلون إِلَّا أنفسهم وَمَا يضرونك من شئ وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما (113) لَا خير فِي كثير من نَجوَاهُمْ إِلَّا من أَمر بِصَدقَة أَو مَعْرُوف أَو إصْلَاح بَين النَّاس وَمن يفعل ذَلِك ابْتِغَاء مرضات الله فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما (114) وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد} إصْلَاح بَين النَّاس) وَفِي الْخَبَر: " كل كَلَام ابْن آدم عَلَيْهِ إِلَّا ثَلَاثَة: أَمر بِمَعْرُوف، أَو نهى عَن مُنكر، أَو ذكر الله " وَقيل لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة - حِين روى هَذَا الحَدِيث؛ فَقَالُوا -: مَا أَشد هَذَا الحَدِيث؟ ! فَقَالَ: اقْرَءُوا قَوْله - تَعَالَى -: {لَا خير فِي كثير من نَجوَاهُمْ إِلَّا من أَمر بصدقه} الْآيَة. وروى: أَن رَسُول الله قَالَ لأبى أَيُّوب الْأنْصَارِيّ: " أَلا أدلك على صَدَقَة هِيَ خير لَك من حمر النعم - أَي: من الصَّدَقَة بحمر النعم؟ - قَالَ: بلَى يَا رَسُول الله، فَقَالَ: أَن تصلح بَين النَّاس إِذا تفاسدوا، وَأَن تقرب بَينهم إِذا تباعدوا ". {وَمن يفعل ذَلِك ابْتِغَاء مرضات الله فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما} .

115

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} أَرَادَ بِهِ: طعمه، جادل النَّبِي، ثمَّ لحق بِمَكَّة، وارتد حِين ظهر عَلَيْهِ الحكم بِالْقطعِ. قَالَ سعيد بن جُبَير: إِنَّه لما لحق بِمَكَّة سرق هُنَالك، فَوجدَ فِي نقب يسرق، فَقتل.

{مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا (115) إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد ضل ضلالا بَعيدا (116) إِن يدعونَ من دونه إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يدعونَ إِلَّا شَيْطَانا مرِيدا (117) لَعنه الله وَقَالَ} وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه حِين لحق بِمَكَّة نزل على الْحجَّاج بن غلاط الْأَسْلَمِيّ، فَقَامَ فِي بعض اللَّيْل يسرق، فأحسوا بِهِ، فَأَخَذُوهُ واجتمعوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: إِنَّه ضيف، وتركوه؛ فلحق بحرة بني سليم، وَكَانَ يعبد الْأَصْنَام، وَمَات عَلَيْهِ؛ فَفِيهِ نزلت الْآيَة {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} لِأَنَّهُ لما ارْتَدَّ، فقد اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ. وَاسْتدلَّ أهل الْعلم بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الْإِجْمَاع حجَّة. قَوْله: {نوله مَا تولى} أَي: نوله مَا اخْتَارَهُ، وَقيل: نكله إِلَى (من) تولاه {ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} .

116

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَقد ذكرنَا معنى الْآيَة فِيمَا سبق {وَمن يُشْرك بِاللَّه فقد ضل ضلالا بَعيدا} روى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ انه قَالَ: هَذِه أحب آيَة إِلَيّ فِي الْقُرْآن.

117

قَوْله تَعَالَى: {إِن يدعونَ من دونه} أَي: مَا يدعونَ من دونه {إِلَّا إِنَاثًا} قيل: مَعْنَاهُ الْأَوْثَان، وَإِنَّمَا سميت الْأَوْثَان إِنَاثًا؛ لأَنهم كَانُوا يسمونها باسم الْإِنَاث، فَيَقُولُونَ: اللات، والعزى، وَمَنَاة، وَكَانُوا يَقُولُونَ لصنم كل قَبيلَة: أُنْثَى بني فلَان، قَالَ أبي بن كَعْب: كَانَ مَعَ كل صنم جنية من الشَّيَاطِين، وَقيل: مَعْنَاهُ: الْموَات وَإِنَّمَا سمي الْموَات إِنَاثًا؛ لِأَن الْإِنَاث أرذل الجنسين، وأدونهما، فَكَذَلِك الْموَات أرذل من الْحَيَوَان، وَكَانَت أصنامهم من الْموَات والجماد. قَالَ الضَّحَّاك: أَرَادَ بِهِ: الْمَلَائِكَة، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَة إناث، وَكَانَ بَعضهم

{لأتخذن من عِبَادك نَصِيبا مَفْرُوضًا (118) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الْأَنْعَام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وَمن يتَّخذ الشَّيْطَان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا} يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة، ويصورون الْأَصْنَام على صور الْمَلَائِكَة، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " إِلَّا أنثا " جمع الْأَوْثَان، وَقَرَأَ فِي الشواذ أَيْضا " إِلَّا أنثا " جمع الْإِنَاث؛ فَيكون على جمع الْجمع كالمثل. {وَإِن يدعونَ إِلَّا شَيْطَانا مرِيدا} ؛ لأَنهم إِذا عبدُوا الْأَصْنَام، فقد أطاعوا الشَّيْطَان، وَأَرَادَ بِهِ: إِبْلِيس، والمريد العاتي المتمرد، وَحَقِيقَته: العاري من كل خير، وَمِنْه الْأَمْرَد، وَيُقَال: شَجَرَة مرداء، إِذا تساقطت أَغْصَانهَا.

118

{لَعنه الله} أَي: أبعده الله من الرَّحْمَة؛ معاقبة، وَلذَلِك لَا يجوز لعن الْبَهَائِم؛ لِأَنَّهَا لَا تستوجب الْعقُوبَة، والطرد عَن الرَّحْمَة. {وَقَالَ لأتخذن من عِبَادك نَصِيبا مَفْرُوضًا} أَي: مِقْدَارًا مَعْلُوما، قيل فِي التَّفْسِير: من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتسْعُونَ للشَّيْطَان وَوَاحِد لله. وأصل الْفَرْض: الحز وَالْقطع، وَمِنْه فرض الْقوس: وَهُوَ الشق الَّذِي يَجْعَل فِيهِ الْوتر. وَمِنْه فرض السِّوَاك: وَهُوَ الْموضع الَّذِي يَجْعَل فِيهِ الْخَيط، وَمِنْه فرضة الْبَحْر: وَهُوَ المشرع الَّذِي توقف إِلَيْهِ السَّفِينَة، وَالْفَرْض: نوع من التَّمْر يكون بعمان، قَالَ الشَّاعِر: (إِذا أكلت سمكًا وفرضا ... ذهبت طولا وَذَهَبت عرضا)

119

قَوْله تَعَالَى: {ولأضلنهم} أَي: لأغوينهم، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ نسب إِلَيْهِ الإضلال، وَلَيْسَ إِلَيْهِ الضَّلَالَة؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ: التزيين والدعوة إِلَى الضَّلَالَة، وَقد قَالَ: " بعثت دَاعيا، وَلَيْسَ إِلَى من الْهِدَايَة شئ، وَبعث الشَّيْطَان مزينا، وَلَيْسَ إِلَيْهِ من الضَّلَالَة شئ ". {ولأمنينهم} قيل: مَعْنَاهُ: أمنينهم ركُوب الْأَهْوَاء، وَقيل

{مُبينًا (119) يعدهم ويمنيهم وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا (120) أُولَئِكَ مأواهم جَهَنَّم وَلَا يَجدونَ عَنْهَا محيصا (121) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سندخلهم جنَّات تجْرِي من} مَعْنَاهُ: أمنينهم طول الْعُمر فِي النَّعيم؛ ليؤثروا الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: أمنيهم إِدْرَاك الْآخِرَة مَعَ ركُوب الْمعاصِي. {ولآمرنهم فليبتكن آذان الْأَنْعَام} أَرَادَ بِهِ: الْبحيرَة الَّتِي تَأتي فِي سُورَة الْمَائِدَة، والبتك: الْقطع، وَالْمرَاد بِهِ: شقّ الآذان، {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} قَالَ ابْن عَبَّاس فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَول مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: فليغيرن دين الله، أَي: وضع الله فِي الدّين: بتحليل الْحَرَام، وَتَحْرِيم الْحَلَال، وَنَحْو ذَلِك، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ قَول أنس، وَعِكْرِمَة: أَرَادَ بِهِ: إخصاء الْأَنْعَام، وَكَانَ أنس يكره إخصاء الْبَهَائِم من أجل هَذَا، وَكَانَ يُجِيزهُ الْحسن، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: أَرَادَ بِهِ الوشم، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ تغير الْأَنْسَاب؛ وَذَلِكَ أَن ينْتَقل من نسب إِلَى نسب، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ: الخضاب بِالسَّوَادِ، وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ، وَإِنَّمَا الخضاب الْمُبَاح بالحمرة، والصفرة {وَمن يتَّخذ الشَّيْطَان وليا من دون الله} أَي: يواليه باتباعه {فقد خسر خسرانا مُبينًا} .

120

قَوْله تَعَالَى: {يعدهم} وعده قد يكون بالتخويف كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر} وَقيل: أَنه يتَمَثَّل فِي صُورَة الْآدَمِيّ، فيعد، ويمنى، وَكَانَ قد ظهر يَوْم بدر فِي صُورَة سراقَة بن مَالك بن جعْشم وَظهر فِي الْيَوْم الَّذِي اجْتمعت فِيهِ قُرَيْش، وَتَشَاوَرُوا فِي إِخْرَاج النَّبِي، فِي صُورَة شيخ من نجد. وَقَوله {ويمنيهم} قد ذكرنَا، وَمن ذَلِك تمنى الْإِنْسَان قَضَاء الشَّهَوَات. وَاعْلَم أَن الْإِنْسَان لَا يُؤَاخذ بِغَلَبَة الشَّهْوَة، واشتهاء الشَّهَوَات؛ لِأَن ذَلِك شئ جبل عَلَيْهِ، ويؤاخذ بالتمني، وَذَلِكَ أَن يتَمَنَّى خمرًا ليشربه، أَو امْرَأَة؛ ليزني بهَا، فَذَلِك من الْمعْصِيَة، ويؤاخذ بِهِ {وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا} الْغرُور: إِيهَام الْوُصُول إِلَى النَّفْع من مَوضِع الضّر

121

{أُولَئِكَ مأواهم جَهَنَّم وَلَا يَجدونَ عَنْهَا محيصا} أَي: معدلا.

{تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا وعد الله حَقًا وَمن أصدق من الله قيلا (122) لَيْسَ بأمانيكم}

122

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سندخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا وعد الله حَقًا} فَإِن قيل: مَا الْفَائِدَة فِي تكْرَار الْوَعْد والوعيد فِي الْقُرْآن؟ قيل: فَائِدَته: التوكيد، قطعا من سَوَاء التَّأْوِيل، وَقيل إِنَّمَا كرر الْوَعْد على تفاصيل الْإِيمَان، وَكرر الْوَعيد على تفاصيل الْكفْر، {وَمن أصدق من الله قيلا} أَي: قولا.

123

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب} قَالَ مَسْرُوق هُوَ أَبُو عَائِشَة مَسْرُوق بن الأجدع الْهَمدَانِي: أَرَادَ بِهِ: لَيْسَ بأمانيكم أَيهَا الْمُسلمُونَ، وَلَا أماني أهل الْكتاب، وهم الْيَهُود، وَالنَّصَارَى. وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بقوله: {لَيْسَ بأمانيكم} مُشْركي الْعَرَب، {وَلَا أماني أهل الْكتاب} يَعْنِي: الْيَهُود، وَالنَّصَارَى، فعلى القَوْل الأول معنى الْآيَة: أَن الْيَهُود قَالُوا: نَحن أولى؛ لِأَن ديننَا أقدم وَكِتَابنَا أقدم. وَقَالَت النَّصَارَى: نَحن أولى؛ لأَنا على دين عِيسَى، وَهُوَ روح الله، وكلمته، وَكَانَ يحيي الْمَوْتَى. وَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَحن أولى؛ لِأَن نَبينَا خَاتم النَّبِيين، وَكِتَابنَا نَاسخ للكتب، وَقد آمنا بِكِتَابِكُمْ، وَلم تؤمنوا بكتابنا؛ قَالَ الله تَعَالَى: {لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب} يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمر بالأماني، وَإِنَّمَا الْأَمر بِالْعَمَلِ الصَّالح، وَقد قَالَ: " لَيْسَ الدّين بالتمني، وَلَا بالتحلي. . " الْخَبَر. وَأما على القَوْل الثَّانِي: معنى الْآيَة: أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَالُوا: نَحن أهل الْجنَّة،

{وَلَا أماني أهل الْكتاب من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ} وَذَلِكَ قَول الله تَعَالَى: {وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى} وَقَالَ الْمُشْركُونَ: لَا جنَّة، وَلَا نَار، وَلَا بعث؛ قَالَ الله تَعَالَى: {لَيْسَ بأمانيكم وَلَا أماني أهل الْكتاب} أَي: لَيْسَ كَمَا قَالَ الْمُشْركُونَ، وَلَا كَمَا قَالَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى. {من يعْمل سوءا يجز بِهِ} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَسَعِيد بن جُبَير، وقتاده، وَجَمَاعَة الْمُفَسّرين: إِن الْآيَة على الْعُمُوم فِي حق كل عَامل. وَقَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ: أهل الشّرك. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت، قَالَت الصَّحَابَة: أَيّنَا لم يعْمل سوءا؟ وَشقت عَلَيْهِم الْآيَة، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُول الله فِي ذَلِك، فَقَالَ: مَا مِنْكُم من أحد تصيبه مُصِيبَة، إِلَّا كفر عَنهُ، حَتَّى الشَّوْكَة يشاكها، والنكبة ينكبها ". وروى: " أَن أَبَا بكر دخل على رَسُول الله، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: " أَلا أقرئك آيَة أنزلت عَليّ؟ قَالَ: بلَى فَقَرَأَ: {من يعْمل سوءا يحز بِهِ} قَالَ أَبُو بكر: فَوجدت انقصاما فِي ظَهْري، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: مَالك يَا أَبَا بكر؟ فَقلت: كَيفَ النجَاة بعد هَذِه الْآيَة، هلكنا، وأينا لم يعْمل سوءا؟ فَقَالَ: أما أَنْت يَا أَبَا بكر، والمؤمنون تُجْزونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فتلقون الله تَعَالَى وَمَا عَلَيْكُم ذَنْب، وَأما الْكَافِرُونَ يجمع عَلَيْهِم، ثمَّ يجزون بِهِ فِي الْآخِرَة " وَفِي رِوَايَة قَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام:

{نقيرا (124) وَمن أحسن دينا مِمَّن أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا (125) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكَانَ الله بِكُل شَيْء} " أَلَسْت تنصب؟ أَلَسْت تحزن؟ أَلَسْت تمرض؟ أَلَيْسَ تصيبك اللأواء؟ فَذَلِك الَّذِي تُجْزونَ بِهِ " فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {من يعْمل سوءا يجز بِهِ وَلَا يجد لَهُ من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا} .

124

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ نقيرا} أَي: مِقْدَار النقير، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى لما أحَال الْخلق على الْعَمَل بَين الْعَمَل فِي هَذِه الْآيَات، وَجَزَاء الْعَمَل.

125

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أحسن دينا مِمَّن أسلم وَجهه لله} أَي: أخْلص عِبَادَته لله، وَقيل: توجه عِبَادَته إِلَى الله، وَالْوَجْه يذكر بِمَعْنى: الدّين وَالْعِبَادَة، وَمِنْه قَول الْمصلى: وجهت وَجْهي، أَي: ديني وَهُوَ الصَّلَاة. {وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} وَإِنَّمَا خص إِبْرَاهِيم؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْبُول الْأُمَم أجمع، وَقيل: لِأَنَّهُ بعث على مِلَّة إِبْرَاهِيم؛ وَزيد لَهُ أَشْيَاء. {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} يَعْنِي: حبيبا، لَا خلل فِي حبه، والخلة: صفاوة الْمَوَدَّة، فَمَعْنَاه: أَنه اتَّخذهُ حبيبا، وَجعله صَفيه، وخاص نَفسه، كَمَا يكون الحبيب مَعَ الحبيب، قَالَ الشَّاعِر: (قد تخللت مَسْلَك الرّوح منى ... وبذا سمى الْخَلِيل خَلِيلًا) وَقيل: الْمُحْتَاج من الْخلَّة، وَهِي الْحَاجة، يَعْنِي: جعل حَاجته إِلَى نَفسه، دون غَيره، وَقَالَ الشَّاعِر: (وَإِن أَتَاهُ خَلِيل يَوْم مَسْأَلَة ... فَقَالَ لَا غَائِب مَالِي وَلَا حرم)

{محيطا (126) ويستفتونك فِي النِّسَاء قل الله يفتيكم فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب فِي يتامى النِّسَاء اللَّاتِي لَا تؤتونهن مَا كتب لَهُنَّ وترغبون أَن تنكحوهن وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْولدَان وَأَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله كَانَ بِهِ عليما (127) وَإِن} يَعْنِي: وَإِن أَتَاهُ مُحْتَاج، وَالْأول أصح؛ لِأَن قَوْله {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} يَقْتَضِي الْخلَّة من الْجَانِبَيْنِ. وَلَا يتَصَوَّر الْحَاجة من الْجَانِبَيْنِ. وَفِي الْخَبَر قَالَ: " إِن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا، وَلَو كنت متخذا خَلِيلًا، لاتخذت أَبَا بكر؛ وَلَكِن ود وإخاء إِيمَان، وَإِن صَاحبكُم خَلِيل الله ".

126

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكَانَ الله بِكُل شئ محيطا} الْمُحِيط: هُوَ الْعَالم بالشَّيْء بِجَمِيعِ مَا يتَصَوَّر الْعلم بِهِ.

127

قَوْله تَعَالَى: {ويستفتونك فِي النِّسَاء} أَي: يطْلبُونَ فتواك فِي النِّسَاء، قيل: هَذَا فِي أم كجة وَقد بَينا قصَّتهَا، وَأَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا لَا يورثون النِّسَاء وَالصبيان. {قل الله يفتيكم فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب} قَالَ الزّجاج: يعْنى: ويفتيكم كَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب {فِي يتامى النِّسَاء} هَذَا إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ باليتامى: النِّسَاء {اللَّاتِي لَا تؤتونهن مَا كتب لَهُنَّ} قَالَ الْحسن، وَجَمَاعَة: أَرَادَ بِهِ: لَا تؤتونهن حقهن من الْمِيرَاث {وترغبون أَن تنكحوهن} بِهِ، بِمَعْنى: عَن أَن تنكحوهن لدمامتهن، وحملوا الْآيَة على الْمِيرَاث. وَقَالَت عَائِشَة: أَرَادَ بِهِ: لَا تؤتونهن مَا كتب لَهُنَّ من الصَدَاق. وَقَوله: {وترغبون أَن تنكحوهن} يَعْنِي: فِي أَن تنكحوهن، {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْولدَان} يَعْنِي:

{امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصلحا بَينهمَا صلحا وَالصُّلْح خير وأحضرت الْأَنْفس الشُّح وَإِن تحسنوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا (128) وَلنْ} ويفتيكم فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْوَالِدَان، وهم الصغار {وَأَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ {وَمَا تَفعلُوا من خير فَإِن الله كَانَ بِهِ عليما} .

128

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا} النُّشُوز: هُوَ الِارْتفَاع، وَالْمرَاد بِهِ، ارْتِفَاع الزَّوْج، والتكبر بِنَفسِهِ على الزَّوْجَة، وَمِنْه النشز. {أَو إعْرَاضًا} يعْنى: أَو خَافت إعْرَاضًا من الزَّوْج {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصلحا} وَقُرِئَ: " أَن يصالحا بَينهمَا صلحا " يَعْنِي: بَين الزَّوْجَيْنِ، وَاخْتلفُوا فِيمَن نزلت الْآيَة، قَالَ بَعضهم: نزلت فِي امْرَأَة رَافع بن خديج، فَإِنَّهَا كَبرت، وَتزَوج رَافع عَلَيْهَا شَابة وخافت أَن يعرض عَنْهَا؛ فَنزلت الْآيَة. وَقَوله: {أَن يصلحا بَينهمَا صلحا} يَعْنِي: أَن يتْرك شَيْئا من الْقسم، وترضى بِأَن يكون الْقسم للشابة أَكثر، وَقيل: هُوَ الصُّلْح عَن الْمهْر بِالْإِبْرَاءِ، وَنَحْوه، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي سَوْدَة بنت زَمعَة؛ أَرَادَ النَّبِي أَن يطلقهَا؛ فَقَالَت: لَا تُطَلِّقنِي، قد وهبت لَيْلَتي لعَائِشَة، فَلَا تُطَلِّقنِي حَتَّى أحْشر يَوْم الْقِيَامَة فِي زمرة نِسَائِك. {وَالصُّلْح خير} قيل: أَرَادَ بِهِ: الصُّلْح خير من الْفرْقَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الصُّلْح خير من النُّشُوز، والإعراض {وأحضرت الْأَنْفس الشُّح} وَالشح: الْبُخْل، وَقيل: هُوَ أقبح الْبُخْل، وَحَقِيقَته: الْحِرْص على منع الْخَيْر، وَأَرَادَ بِهِ: شح الزَّوْجَيْنِ على حقيهما {وَإِن تحسنوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} .

{تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل فتذروها كالمعلقة وَإِن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما (129) وَإِن يَتَفَرَّقَا يغن الله كلا من سعته وَكَانَ الله وَاسِعًا حكيما (130) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب}

129

قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم} قَالَ عمر، وَعلي، وَابْن عَبَّاس، أَرَادَ بِالْعَدْلِ: الْمحبَّة فِي الْقلب {فَلَا تميلوا كل الْميل} يعْنى: إِن ملتم فِي الْمحبَّة، فَلَا تميلوا فِي الْقسم، وَقد قَالَ: " اللَّهُمَّ هَذَا قسمي فِيمَا أملك، فَلَا تؤاخذاني فِيمَا لَا أملك " {فتذروها كالمعلقة} يَعْنِي لَا أَيّمَا وَلَا ذَات بعل، وَقيل: كالمحبوسة {وَإِن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} .

130

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يغن الله كلا من سعته} يَعْنِي: الزَّوْجَيْنِ إِذا تفَرقا، فالزوج يجد الزَّوْجَة، وَالزَّوْجَة تَجِد الزَّوْج {وَكَانَ الله وَاسِعًا حكيما} أَي: وَاسع الْفضل وَالرَّحْمَة وَالْقُدْرَة.

131

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا الله} هَذِه وَصِيَّة الله الْعباد بالتقوى، ( {وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكَانَ الله غَنِيا حميدا}

132

وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا) فَإِن قيل: أَي فَائِدَة فِي تكْرَار قَوْله: {وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} قيل: لكل وَاحِد مِنْهَا وَجه: أما الأول: فَمَعْنَاه: وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض، وَهُوَ يُوصِيكُم بالتقوى، فاتقوه، واقبلوا وَصيته.

{من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا الله وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكَانَ الله غَنِيا حميدا (131) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا (132) إِن يَشَأْ يذهبكم أَيهَا النَّاس وَيَأْتِ بِآخَرين وَكَانَ الله على ذَلِك قَدِيرًا (133) من كَانَ يُرِيد ثَوَاب} وَأما الثَّانِي: يَقُول: فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض، وَكَانَ الله غَنِيا حميدا؛ فَاطْلُبُوا مِنْهُ مَا تطلبون. وَأما الثَّالِث يَقُول: وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا، أَي: اتخذوه وَكيلا وَلَا تتكلوا على غَيره.

133

قَوْله تَعَالَى: {إِن يَشَاء يذهبكم أَيهَا النَّاس وَيَأْتِ بِآخَرين} روى: " أَن النَّبِي كَانَ يضْرب بِيَدِهِ كتف سلمَان، وَيقْرَأ: {وَيَأْتِ بِآخَرين} وَيَقُول: سلمَان وَأَصْحَابه " {وَكَانَ الله على ذَلِك قَدِيرًا} .

134

قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد ثَوَاب الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} أَرَادَ بِهِ: الْكفَّار؛ فَإِنَّهُم يعْملُونَ ابْتِغَاء ثَوَاب الدُّنْيَا، وطلبا لنعيمها، وَلَا يطْلبُونَ ثَوَاب الْآخِرَة، وَلَا يُؤمنُونَ بهَا؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد ثَوَاب الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَانَ الله سميعا بَصيرًا} .

135

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ} القوام: مُبَالغَة من الْقَائِم، والقسط: الْعدْل، وَمَعْنَاهُ: كونُوا قائلين بِالْعَدْلِ {شُهَدَاء لله} لأَنهم إِذا شهدُوا بِالْحَقِّ وَقَامُوا بِالْعَدْلِ، كَانُوا شُهَدَاء لله {وَلَو على أَنفسكُم} فَإِن قيل: كَيفَ يشْهد على نَفسه؟ قيل: شَهَادَته على نَفسه: هُوَ الْإِقْرَار، وَهُوَ معنى مَا روى عَن ابْن عَبَّاس: " قُولُوا الْحق وَلَو على أَنفسكُم ". {أَو الْوَالِدين والأقربين} أَي: قُولُوا الْحق، وَلَو على الْوَالِدين والأقربين، قيل: نزلت الْآيَة فِي رجل كَانَت عِنْده شَهَادَة على أَبِيه، فهم أَن يمْتَنع عَنْهَا؛ فَنزل قَوْله:

{الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَانَ الله سميعا بَصيرًا (134) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله وَلَو على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا فَالله أولى بهما فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} {أَو الْوَالِدين والأقربين} ، {إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا} قَالَ السّديّ: نزل ذَلِك فِي رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي، أَحدهمَا غَنِي، وَالْآخر فَقير، وَكَانَ ضلع النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْفَقِير، وَكَانَ عِنْده أَن الْفَقِير لَا يُخَاصم بِالْبَاطِلِ، وَكَانَ الْحق للغني فِي الْبَاطِن؛ فَنزلت الْآيَة {إِن يكن غَنِيا أَو فَقير} . قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: لَا تجادلوا الْغَنِيّ لغناه، وَلَا ترحموا الْفَقِير لفقره، وَقَالَ عَطاء: لَا تحيفوا على الْفَقِير، وَلَا تعظموا الْغَنِيّ؛ فَهَذَا معنى الْآيَة، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: قومُوا بِالشَّهَادَةِ، سَوَاء كَانَ الْمَشْهُود عَلَيْهِ غَنِيا أَو فَقِيرا، وَسَوَاء كَانَ الْمَشْهُود لَهُ غَنِيا أَو فَقِيرا، وَلَا تمتنعوا عَن الشَّهَادَة للغني لغناه، وَلَا عَن الشَّهَادَة على الْفَقِير لفقره. وَقَوله: {إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا} : يَعْنِي: إِن يكن الْمَشْهُود عَلَيْهِ غَنِيا، أَو فَقِيرا {فَالله أولى بهما} أَي: كلوا أَمرهمَا إِلَى الله، قَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ: فَالله أعلم بهما. {فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا} قيل: مَعْنَاهُ: فَلَا تتبعوا الْهوى بِأَن تعدلوا، أَي: لِتَكُونُوا عادلين، كَمَا يُقَال: لَا تعص فترضى رَبك، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تتبعوا الْهوى لتميلوا من الْحق إِلَى الْبَاطِل {وَإِن تلووا} وَهِي من اللي قَالَ الشَّاعِر: (وَكنت داينت بِهِ حسانا ... مَخَافَة الإفلاس والليانا) وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه خطاب للحكام، وَمعنى {وَإِن تلووا} أَي: تميلوا إِلَى أحد الْخَصْمَيْنِ، أَو تعرضوا عَنهُ. وَالثَّانِي وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين أَنه خطاب للشُّهُود، واللي مِنْهُم: تَحْرِيف الشَّهَادَة " والإعراض: كتمان الشَّهَادَة وَالْأول: قَول ابْن عَبَّاس، وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة: " وَإِن تلوا " فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن أَصله: " وَإِن تلووا " فإدخلت إِحْدَى الواوين

( {135) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَالْكتاب الَّذِي نزل على رَسُوله وَالْكتاب الَّذِي أنزل من قبل وَمن يكفر بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فقد ضل ضلالا بَعيدا (136) إِن الَّذين آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لَهُم} فِي الْأُخْرَى تَخْفِيفًا، وَالْمعْنَى مَا بَينا، وَالثَّانِي: أَنه من الْولَايَة، يَعْنِي: وَإِن تلوا الْقيام بأَدَاء الشَّهَادَة {أَو تعرضوا} فتتركوا أَدَاء الشَّهَادَة {فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} .

136

قَول تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله} أَكثر الْمُفَسّرين عَليّ أَنه فِي الْمُؤمنِينَ، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا آمنُوا، أَي اثبتوا على الْإِيمَان، كَمَا يُقَال: قف حَتَّى أرجع إِلَيْك للرجل الْوَاقِف أَي: أثبت وَاقِفًا. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ خطاب لِلْمُنَافِقين، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ آمنُوا بِالْقَلْبِ، وَقَالَ الضَّحَّاك وَهُوَ رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَن ابْن عَبَّاس: هُوَ خطاب لأهل الْكتاب، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا بمُوسَى وَعِيسَى آمنُوا بِمُحَمد {وَالْكتاب الَّذِي نزل على رَسُوله} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَالْكتاب الَّذِي أنزل من قبل} يَعْنِي: الْكتب الْمنزلَة من قبل الْقُرْآن. {وَمن يكفر بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فقد ضل ضلالا بَعيدا} أَي: بَعيدا عَن الْحق.

137

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ آمنُوا ثمَّ كفرُوا ثمَّ ازدادوا كفرا} قَالَ قَتَادَة: هَذَا فِي الْيَهُود، آمنُوا بمُوسَى، ثمَّ كفرُوا بِهِ بِعبَادة الْعجل، ثمَّ آمنُوا بمُوسَى بِالتَّوْبَةِ، ثمَّ كفرُوا بِعِيسَى، ثمَّ ازدادوا كفرُوا بِمُحَمد، وَقيل: هُوَ فِي جَمِيع أهل الْكتاب من الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ آمنُوا بِنَبِيِّهِمْ، ثمَّ كفرُوا بِهِ، وآمنوا بِكِتَابِهِمْ، ثمَّ كفرُوا بِهِ ثمَّ ازدادوا كفرا بِمُحَمد. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ فِي قوم مرتدين آمنُوا، ثمَّ ارْتَدُّوا، ثمَّ آمنُوا ثمَّ ارْتَدُّوا. وَمثل هَذَا هَل تقبل تَوْبَته؟ قَالَ عَليّ: لَا تقبل تَوْبَته؛ فَإِنَّهُ إِذا آمن، ثمَّ كفر، ثمَّ آمن، ثمَّ كفر، فَلَو أَرَادَ أَن يُؤمن

{وَلَا ليهديهم سَبِيلا (137) بشر الْمُنَافِقين بِأَن لَهُم عذَابا أَلِيمًا (138) الَّذين يتخذون الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أيبتغون عِنْدهم الْعِزَّة فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا (139) وَقد نزل عَلَيْكُم فِي} لَا يقبل مِنْهُ، وَيقتل؛ لقَوْله - تَعَالَى -: {لم يكن الله ليغفر لَهُم} . وَأكْثر أهل الْعلم على أَنه: تقبل تَوْبَته، وَيحْتَمل أَن تكون الْآيَة فِي الْمُنَافِقين، وَقوم من أهل الْكتاب، كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللِّسَانِ، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى الْكفْر، ثمَّ يأْتونَ، فيؤمنون، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى الْكفْر. {لم يكن الله ليغفر لَهُم} فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله - تَعَالَى -: {لم يكن الله ليغفر لَهُم} ، وَمَعْلُوم أَن الله لَا يغْفر الْكفْر؟ قيل: أجَاب النقاش فِي تَفْسِيره أَن مَعْنَاهُ: أَن الْكَافِر إِذا أسلم، يغْفر لَهُ كفره السَّابِق، فَهَذَا الَّذِي أسلم، ثمَّ كفر ثمَّ أسلم، ثمَّ كفر، لَا يغْفر كفره السَّابِق الَّذِي كَانَ يغْفر لَو ثَبت على الْإِسْلَام {وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا} أَي: طَرِيقا إِلَى الْحق.

138

قَوْله - تَعَالَى -: {بشر الْمُنَافِقين بِأَن لَهُم عذَابا أَلِيمًا} فَإِن قيل: مَا معنى الْبشَارَة بِالْعَذَابِ الْأَلِيم؟ قيل: أصل الْبشَارَة: كل خبر تَتَغَيَّر بِهِ بشرة الْوَجْه، سارا كَانَ أم مَكْرُوها، لكنه فِي الْغَالِب إِنَّمَا يسْتَعْمل فِي الْخَبَر السار، فَإِذا اسْتعْمل فِي الْخَبَر السيء كَانَ على الأَصْل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: ضع هَذَا مَوضِع الْبشَارَة، كَمَا تَقول الْعَرَب: تحيتك السَّوْط، وعقابك السَّيْف. يعْنى: وضعت السَّوْط مَعَ التَّحِيَّة، قَالَ الشَّاعِر: (وخيل قد دلفت بهَا لخيل ... تَحِيَّة بَينهم ضرب وجيع)

139

قَوْله - تَعَالَى -: {الَّذين يتخذون الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ} هَذَا فِي الْمُنَافِقين، كَانُوا يوالون الْكفَّار، ويظنون أَن النُّصْرَة وَالْغَلَبَة لَهُم {أيبتغون عِنْدهم الْعِزَّة} يعْنى: أيطلبون عِنْدهم الْقُوَّة وَالْغَلَبَة {فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا} أَي: الْقُوَّة وَالْغَلَبَة كلهَا لله - تَعَالَى -.

{الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم إِن الله جَامع الْمُنَافِقين والكافرين فِي جَهَنَّم جَمِيعًا (140) الَّذين يتربصون بكم فَإِن كَانَ لكم فتح من الله قَالُوا ألم نَكُنْ مَعكُمْ وَإِن كَانَ للْكَافِرِينَ نصيب قَالُوا} فَإِن قَالَ قَائِل: قد نرى فِي بعض الْأَحْوَال الْغَلَبَة للْكفَّار؛ فَمَا معنى قَوْله: {فَإِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا} ؟ قيل: مَعْنَاهُ: أَن المقوى هُوَ الله - تَعَالَى - فِي الْأَحْوَال كلهَا. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْغَلَبَة بِالْحجَّةِ لله جَمِيعًا.

140

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقد نزل عَلَيْكُم فِي الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم} . هَذَا إِشَارَة إِلَى مَا أنزل فِي سُورَة الْأَنْعَام {وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم ... .} الْآيَة. نهى عَن الْقعُود مَعَهم، وَمَا حكم الْقعُود مَعَهم؟ أما إِذا قعد مَعَهم ... ورضى بِمَا يَخُوضُونَ فِيهِ، فَهُوَ كَافِر مثلهم، وَهُوَ معنى قَوْله: {إِنَّكُم إِذا مثلهم} . وَإِن قعد، وَلم يرض بِمَا يَخُوضُونَ فِيهِ، فَالْأولى أَن لَا يقْعد، وَلَكِن لَو قعد كَارِهًا، فَلَا يكفر، وَهَذَا هُوَ الحكم فِي كل بِدعَة يخاض فِيهَا، فَلَو تركُوا الْخَوْض فِيهِ وخاضوا فِي حَدِيث غَيره، فَلَا بَأْس بالقعود مَعَهم وَإِن كره؛ لقَوْله {حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره} قَالَ الْحسن: وَإِن خَاضُوا فِي حَدِيث غَيره لَا يجوز الْقعُود مَعَهم؛ لقَوْله فِي سُورَة الْأَنْعَام: {وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه يجوز، وَآيَة الْأَنْعَام مَكِّيَّة وَهَذِه الْآيَة مَدَنِيَّة، والمتأخر أولى. {إِن الله جَامع الْمُنَافِقين والكافرين فِي جَهَنَّم جَمِيعًا

141

الَّذين يتربصون بكم) يعْنى: الْمُنَافِقين ينتظرون أَمركُم (فَإِن كَانَ لكم فتح من الله) يعْنى: ظفر {قَالُوا ألم نَكُنْ مَعكُمْ} يعْنى: كُنَّا مَعكُمْ، فاجعلوا لنا نَصِيبا من الْغَنِيمَة {وَإِن كَانَ للْكَافِرِينَ نصيب} يعْنى: وَإِن كَانَت الْقُوَّة للْكَافِرِينَ {قَالُوا ألم نستحوذ عَلَيْكُم

{ألم نستحوذ عَلَيْكُم ونمنعكم من الْمُؤمنِينَ فَالله يحكم بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا (141) إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله وَهُوَ خادعهم وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى يراءون النَّاس وَلَا يذكرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا (142) مذبذبين بَين ذَلِك لَا إِلَى} ونمنعكم من الْمُؤمنِينَ) الاستحواذ: الِاسْتِيلَاء وَالْغَلَبَة وَمِنْه قَوْله - تَعَالَى -: {استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان} قَالَ الْمبرد: معنى هَذَا: قَالُوا: ألم نغلبكم على رَأْيكُمْ، ونمنعكم من الْمُؤمنِينَ، وَالدُّخُول فِي جُمْلَتهمْ، وتخذيل الْمُؤمنِينَ عَنْكُم. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: ألم نستول عَلَيْكُم بالنصرة لكم من جِهَة مراسلتنا إيَّاكُمْ بأخبار الْمُؤمنِينَ، وأمورهم، وتخذيلنا إيَّاهُم عَنْكُم. ( {فَالله يحكم بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة} وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا) قَالَ على، وَابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: فِي الْقِيَامَة، وَقيل: هُوَ سَبِيل الْحجَّة، أَي: لَا تكون الْحجَّة للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ أبدا.

142

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله وَهُوَ خادعهم} يخادعون الله، أَي: يعاملون الله مُعَاملَة المخادعين حَيْثُ أظهرُوا الْإِيمَان، وأبطنوا الْكفْر، وَهُوَ خادعهم، أَي: يعاملهم مُعَاملَة المخادعين، وَذَلِكَ على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه حكم بإيمَانهمْ فِي الظَّاهِر، وكفرهم فِي الْبَاطِن، كَمَا فعلوا هم وَالثَّانِي: أَنه فِي الْقِيَامَة يعطيهم نورا، كَمَا يعْطى الْمُؤمنِينَ، ثمَّ إِذا كَانُوا على الصِّرَاط طفئ نورهم، وَذهب الْمُؤْمِنُونَ بنورهم، وَهَذَا معنى قَوْله: {وَهُوَ خادعهم} وَقيل: مَعْنَاهُ: يخادعون رَسُول الله، وَهُوَ خادعهم، أَي: يجازيهم على مخادعتهم الرَّسُول، وسمى الثَّانِي خداعا على الازدواج، كَمَا قَالَ: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَفِي حَدِيث عدى بن حَاتِم أَن النَّبِي قَالَ: " يُؤْتى بناس من النَّاس يَوْم الْقِيَامَة إِلَى الْجنَّة، حَتَّى إِذا دنوا مِنْهَا، واستنشقوا رائحتها، وَرَأَوا فِيهَا من النَّعيم، يَأْمر الله - تَعَالَى - بصرفهم عَنْهَا، فيرجعون بحسرة مَا رَجَعَ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ بِمِثْلِهَا، فَيَقُولُونَ: يَا رب، لَو أدخلتنا النَّار قبل أَن ترينا مَا أريتنا كَانَ أَهْون علينا، فَيَقُول الله - تَعَالَى -: ذَاك أردْت لكم،

{هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا (143) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ أتريدون أَن تجْعَلُوا لله عَلَيْكُم سُلْطَانا مُبينًا (144) إِن} وكنتم إِذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وَإِذا لَقِيتُم النَّاس، لقيتموهم مخبتين، هبتم النَّاس وَلم تهابوني، أجللتم النَّاس، وَلم تجلوني، تركْتُم للنَّاس، وَلم تتركوا لي؛ فاليوم أذيقكم الْعَذَاب، مَعَ مَا حرمتم من الثَّوَاب ". وَقَوله: {وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى} يعْنى: متثاقلين، وَهَذَا دأب الْمُنَافِقين؛ لقلَّة الدَّوَاعِي لَهُم، وَأما الْمُؤمنِينَ ينشطون إِلَى الْقيام إِلَى الصَّلَاة؛ لِكَثْرَة الدَّوَاعِي لَهُم، {يراءون النَّاس} أَي: يعْملُونَ مَا يعْملُونَ، مراءه للنَّاس، لَا اتبَاعا لأمر الله. وَاعْلَم أَن الرِّيَاء لَا يُوجب الْكفْر، وَهُوَ عيب عَظِيم، وَأما النِّفَاق كفر مَحْض. {وَلَا يذكرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا} قَالَ الْحسن: لِأَنَّهُ لما لم يتَقَبَّل عَمَلهم، كَانَ قَلِيلا

143

{مذبذبين بَين ذَلِك} أَي: متذبذبين وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبى بن كَعْب، وَمَعْنَاهُ: مضطربين متحيرين {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} ، يعْنى: لَا إِلَى الْكفَّار بالتصريح بالشرك، وَلَا إِلَى الْمُؤمنِينَ باعتقاد الْإِيمَان. وروى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مثل الْمُنَافِق كَمثل الشَّاة العائرة بَين ربيضين، إِن جَاءَت إِلَى هَذِه، نطحتها، وَإِن جَاءَت إِلَى هَذِه نطحتها " {وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا} أَي: وَمن يضلله الله، فَلَنْ تَجِد لَهُ طَرِيقا إِلَى الْحق.

144

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون

{الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَلنْ تَجِد لَهُم نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا واعتصموا بِاللَّه وَأَخْلصُوا دينهم لله فَأُولَئِك مَعَ الْمُؤمنِينَ وسوف يُؤْت الله الْمُؤمنِينَ أجرا} الْمُؤمنِينَ) فِي الْآيَة نهى عَن مُوالَاة الْمُؤمنِينَ مَعَ الْكفَّار {أتريدون أَن تجْعَلُوا لله عَلَيْكُم سُلْطَانا مُبينًا} السُّلْطَان: الْحجَّة، وَمِنْه يُقَال: للأمير سُلْطَان؛ لِأَنَّهُ ذُو الْحجَّة، وَمَعْنَاهُ: أتريدون أَن تجْعَلُوا لله عَلَيْكُم حجَّة بَيِّنَة فِي عذابكم، بِحَيْثُ لَا يبْقى لكم عذر عِنْده؟ ! .

145

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} وَيقْرَأ: " فِي الدَّرك " بجزم الرَّاء - قَالَ أَبُو عبيده، والأخفش: النَّار دركات، وَالْجنَّة دَرَجَات، قَالَ أهل الْعلم: يجوز أَن يكون فِرْعَوْن وهامان أَشد عذَابا من الْمُنَافِقين، وَإِن كَانَ المُنَافِقُونَ فِي الدَّرك الْأَسْفَل. قَالَ ابْن مَسْعُود: الدَّرك الْأَسْفَل: تَابُوت من حَدِيد مقفل عَلَيْهِم، وَقيل: تَابُوت من النَّار. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: والدرك الْأَسْفَل: بَيت مطبق عَلَيْهِم، تتوقد النَّار فِيهِ من فَوْقهم، وَمن تَحْتهم {وَلنْ تَجِد لَهُم نَصِيرًا} مَانِعا من الْعَذَاب.

146

قَوْله - تَعَالَى -: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} أَي: أَسْلمُوا {وَأَصْلحُوا} أَي: داموا على التَّوْبَة {واعتصموا بِاللَّه} الِاعْتِصَام: هُوَ الِامْتِنَاع بالشَّيْء مِمَّا يخَاف، فالاعتصام بِاللَّه: هُوَ الِامْتِنَاع بِطَاعَتِهِ من كل مَا يخَاف عَاجلا، وآجلا {وَأَخْلصُوا دينهم لله} شَرط الْإِخْلَاص بِالْقَلْبِ؛ لِأَن الْآيَة فِي الْمُنَافِقين، والنفاق: كفر الْقلب، فزواله بالإخلاص {فَأُولَئِك مَعَ الْمُؤمنِينَ وسوف يُؤْت الله الْمُؤمنِينَ أجرا عَظِيما} ، وَإِنَّمَا لم يقل: فَأُولَئِك هم الْمُؤْمِنُونَ، وسوف يُؤْتِيهم الله أجرا عَظِيما؛ غيظا على الْمُنَافِقين.

147

قَوْله - تَعَالَى -: {مَا يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم} هَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير، وَمَعْنَاهُ: لَا يعذب الله الْمُؤمن الشاكر، وَتَقْدِير قَوْله: {إِن شكرتم وآمنتم} أَي: إِن آمنتم وشكرتم، وَالشُّكْر ضد الْكفْر، وَالْكفْر: ستر النِّعْمَة وَالشُّكْر: إِظْهَار النِّعْمَة {وَكَانَ الله شاكرا عليما} الشُّكْر من الله قبُول الْعَمَل، وَمَعْنَاهُ: وَكَانَ

{عَظِيما (146) مَا يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم وَكَانَ الله شاكرا عليما (147) لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم وَكَانَ الله سميعا عليما (148) إِن تبدوا خيرا أَو} الله قَابلا للطاعات، عليما بِالنِّيَّاتِ.

148

قَوْله - تَعَالَى -: {لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: إِلَّا من ظلم، فَيجوز لَهُ أَن يجْهر بالسوء بالإخبار عَن ظلم الظَّالِم، وَالدُّعَاء عَلَيْهِ، قَالَ الْحسن: دعاؤه عَلَيْهِ: أَن يَقُول: اللَّهُمَّ اعني عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ استخرج حَقي مِنْهُ. وَقيل: يجوز لَهُ أَن يشْتم، وَلَكِن بِمثل مَا شتم، لَا يزِيد عَلَيْهِ، بِمَا لم يكن قذفا، وَقد ورد فِي الحَدِيث: " السبتان بالسبة رَبًّا " قَالَ مُجَاهِد: هُوَ فِي الضَّيْف يَأْتِي قوما، فَلم يقروه، وَلم يحسنوا ضيافته، يجوز لَهُ أَن يجْهر بالسوء لَهُم. وَيقْرَأ: " إِلَّا من ظلم " بِفَتْح الظَّاء وَاللَّام. قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: إِلَّا من ظلم، فأجهر قَوْله بالسوء، وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى الْآيَة الْمُتَقَدّمَة، وَتَقْدِيره: مَا يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم إِلَّا من ظلم وَقيل: هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، يعْنى: لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل، لَكِن يجْهر بالسوء من ظلم {وَكَانَ الله سميعا عليما} سميعا لأقوالكم: عليما بنياتكم.

149

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن تبدوا خيرا أَو تُخْفُوهُ} مَعْنَاهُ: إِن تبدوا شَيْئا من الصَّدقَات؛ ليقتدي بكم، أَو تُخْفُوهُ؛ مَخَافَة الرِّيَاء {أَو تعفوا عَن سوء} تصابون بِهِ {فَإِن الله كَانَ عفوا قَدِيرًا} .

150

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين يكفرون بِاللَّه وَرُسُله} أَرَادَ بِهِ الْيَهُود لما كفرُوا بِمُحَمد فكأنهم كفرُوا بِاللَّه {ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله} يُرِيدُونَ أَن يُؤمنُوا بِاللَّه، ويكفروا بالرسول {وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض} يُؤمنُونَ بمُوسَى، ويكفرون بِعِيسَى، وَمُحَمّد {ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا} أَي: مذهبا يذهبون إِلَيْهِ.

{تُخْفُوهُ أَو تعفوا عَن سوء فَإِن الله كَانَ عفوا قَدِيرًا (149) إِن الَّذين يكفرون بِاللَّه وَرُسُله ويريدون أَن يفرقُوا بَين الله وَرُسُله وَيَقُولُونَ نؤمن بِبَعْض ونكفر بِبَعْض ويريدون أَن يتخذوا بَين ذَلِك سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا واعتدنا للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا (151) وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله وَلم يفرقُوا بَين أحد مِنْهُم أُولَئِكَ سَوف يُؤْتِيهم أُجُورهم وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (153) يسئلك عَن أهل الْكتاب أَن تنزل عَلَيْهِم كتابا من}

151

{أُولَئِكَ هم الْكَافِرُونَ حَقًا} إِنَّمَا حقق كفرهم، ليعلم أَنهم كفار مُطلقًا لِئَلَّا يظنّ ظان أَنهم لما آمنُوا بِاللَّه وَبَعض الرُّسُل لَا يكون كفرهم مُطلقًا {اعتدنا للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا} .

152

قَوْله - تَعَالَى -: {وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله وَلم يفرقُوا بَين أحد مِنْهُم أُولَئِكَ سَوف يُؤْتِيهم أُجُورهم} إِنَّمَا سَمَّاهُ أجرا مجَازًا؛ لِأَنَّهُ ذكره بِإِزَاءِ الْعَمَل، لِأَن الْعَمَل يُوجِبهُ، وَهَذَا نَحْو قَوْله - تَعَالَى - فِي قصَّة مُوسَى: {إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك أجر مَا سقيت لنا} سَمَّاهُ أجرا على مُقَابلَة الْعَمَل؛ لِأَن مُوسَى عمل؛ ليؤجر عَلَيْهِ {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} .

153

قَوْله - تَعَالَى -: {يَسْأَلك أهل الْكتاب أَن تنزل عَلَيْهِم كتابا من السَّمَاء} هم الْيَهُود، قَالُوا للنَّبِي لن نؤمن لَك حَتَّى تنزل علينا كتابا من السَّمَاء جملَة، كَمَا أنزلت التَّوْرَاة على مُوسَى جملَة. قَالَ الْحسن: وَلم يكن ذَلِك سُؤال انقياد، وَإِنَّمَا ذَلِك سُؤال تحكم، واقتراح؛ فَإِنَّهُم لَو أنزل عَلَيْهِم الْكتاب جملَة، كَمَا سَأَلُوا؛ لم يُؤمنُوا، وَالله - تَعَالَى - لَا ينزل الْآيَات على اقتراح الْعباد، وَإِنَّمَا ينزلها على مَشِيئَته {فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك} أَي: أعظم من ذَلِك {فَقَالُوا أرنا الله جهرة} أَي: عيَانًا، وَذَلِكَ أَن الْعَرَب كَانَت تعد الْعلم بِالْقَلْبِ رُؤْيَة؛ فَقَالَ: {جهرة} ليعلم أَنه أَرَادَ العيان، وَقَالَ أَبُو عبيده: مَعْنَاهُ:

{السَّمَاء فقد سَأَلُوا مُوسَى أكبر من ذَلِك فَقَالُوا أرنا الله جهرة فَأَخَذتهم الصاعقة بظلمهم ثمَّ اتَّخذُوا الْعجل من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات فعفونا عَن ذَلِك وآتينا مُوسَى سُلْطَانا مُبينًا (153) ورفعنا فَوْقهم الطّور بميثاقهم وَقُلْنَا لَهُم ادخُلُوا الْبَاب سجدا وَقُلْنَا لَهُم لَا تعدوا فِي السبت وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا (154) فبمَا نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيَات الله وقتلهم الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا} فَقَالُوا جهرة: أرنا الله {فَأَخَذتهم الصاعقة بظلمهم} ، {ثمَّ اتَّخذُوا الْعجل} يعْنى: إِلَهًا {من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات فعفونا عَن ذَلِك} فِيهِ استدعاء للتَّوْبَة، وَمَعْنَاهُ: أَن أُولَئِكَ الَّذين اجترموا ذَلِك الإجرام، عَفَوْنَا عَنْهُم؛ فتوبوا أَنْتُم، حَتَّى نعفو عَنْكُم {وآتينا مُوسَى سُلْطَانا مُبينًا} حجَّة بَيِّنَة من المعجزات.

154

قَوْله - تَعَالَى -: {ورفعنا فَوْقهم الطّور بميثاقهم} الطّور: جبل الطّور، وَقيل: كل جبل ينْبت شَيْئا، فَهُوَ طور، فَإِن لم ينْبت، لَا يُسمى طورا، والميثاق: الْعَهْد الْمُؤَكّد بِالْيَمِينِ. {وَقُلْنَا لَهُم ادخُلُوا الْبَاب سجدا} قيل: إِنَّهُم سجدوا على أَنْصَاف وُجُوههم، حَتَّى دخلُوا الْبَاب، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم قَالُوا: بِهَذَا السُّجُود رفع الْعَذَاب عَنَّا، فَلَا نَتْرُك هَذَا السُّجُود، وَكَانُوا يَسْجُدُونَ بعد ذَلِك على أَنْصَاف وُجُوههم. {وَقُلْنَا لَهُم لَا تعدوا فِي السبت} وَقَرَأَ نَافِع - بِرِوَايَة قَالُوا -: {لَا تعدوا} - بجزم الْعين، مُشَدّدَة الدَّال وَفِي رِوَايَة ورش عَنهُ {لَا تعدوا} - بِفَتْح الْعين مُشَدّدَة الدَّال وَمعنى الْكل: لَا يتعدوا فِي السبت {وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا} .

155

قَوْله - تَعَالَى -: {فبمَا نقضهم ميثاقهم} وَمَا للصلة، وَإِنَّمَا تدخل فِي الْكَلَام؛ لتفخيمه، وتجزيله {وكفرهم بآيَات الله وقتلهم الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف} قد ذكرنَا كل هَذَا {بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم} الطَّبْع: الْخَتْم، وَقَالَ

{اقليلا (155) وبكفرهم وَقَوْلهمْ على مَرْيَم بهتانا عَظِيما (156) وَقَوْلهمْ إِنَّا قتلنَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ لفي شكّ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ من علم إِلَّا اتِّبَاع الظَّن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا (157) بل رَفعه الله إِلَيْهِ} لزجاج: جعل قُلُوبهم، كالمطبوع لَا يفلح، وَلَا يصلح أبدا، وَلَا يدخلهَا خير؛ فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا

156

{وبكفرهم وَقَوْلهمْ على مَرْيَم بهتانا عَظِيما} أَرَادَ بِهِ: نسبتهم مَرْيَم إِلَى الزِّنَا.

157

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَوْلهمْ إِنَّا قتلنَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه وَلَكِن شبه لَهُم} . قيل: إِن الله - تَعَالَى - ألْقى شبه عِيسَى على الَّذِي دلهم عَلَيْهِ؛ فَقَتَلُوهُ وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا حبسوا عِيسَى فِي بَيت، وَجعلُوا عَلَيْهِ رقيبا، فَألْقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى على الرَّقِيب؛ فَقَتَلُوهُ، وَقيل: إِنَّهُم مَا كَانُوا يعْرفُونَ عِيسَى بِعَيْنِه، وَكَانُوا يعرفونه باسمه، وَكَانُوا يطلبونه؛ فَقَالَ لَهُم يهوذا - وَهُوَ وَاحِد من أَصْحَاب عِيسَى -: أعطوني شَيْئا، أدلكم على عِيسَى؛ فَأَعْطوهُ ثَلَاثِينَ درهما؛ فدلهم على غَيره، فَقتلُوا ذَلِك الْغَيْر؛ فَهَذَا قَوْله: {وَلَكِن شبه لَهُم} ، {وَإِن الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ لفي شكّ مِنْهُ} وَذَلِكَ أَن الرجل الَّذِي قَتَلُوهُ على ظن أَنه عِيسَى، كَانَ يُشبههُ بِوَجْهِهِ، وَلَا يُشبههُ بجسده، فَوَقع فيهم الِاخْتِلَاف، فَقَالَ بَعضهم: الَّذِي قَتَلْنَاهُ كَانَ عِيسَى، وَقَالَ بَعضهم: لم يكن عِيسَى. وَقيل: هُوَ الِاخْتِلَاف بَين عُلَمَائهمْ، وأغتامهم؛ فَإِن علماءهم كَانُوا يعلمُونَ أَنهم لم يصلبوا عِيسَى وَكَانَ عِنْد جهالهم وأغتامهم أَنهم قتلوا عِيسَى، {وَمَا لَهُم بِهِ من علم} يعْنى: من حَقِيقَة علم {إِلَّا اتِّبَاع الظَّن وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا} قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَوْله: {وَمَا قَتَلُوهُ} كَلَام تَامّ، وَقَوله: {يَقِينا} رَاجع إِلَى مَا بعد، وَتَقْدِيره: " بل رَفعه الله إِلَيْهِ يَقِينا، قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: وَمَا قتلوا

{وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما (158) وَإِن من أهل الْكتاب إِلَّا ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوته وَيَوْم الْقِيَامَة يكون عَلَيْهِم شَهِيدا (159) فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم وبصدهم عَن سَبِيل الله كثيرا (160) وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ وأكلهم أَمْوَال النَّاس} الَّذِي ظنُّوا أَنه عِيسَى يَقِينا أَنه عِيسَى، وَقيل: الْهَاء كِنَايَة عَن عِيسَى، أَي: وَمَا قتلوا عِيسَى يَقِينا {بل رَفعه الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما} .

159

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن من أهل الْكتاب إِلَّا ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوته} مَعْنَاهُ: وَأَن من أهل الْكتاب أحدا إِلَّا ليؤمن بِهِ، وَهُوَ مثل قَوْله: {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها} أَي: وَأَن مِنْكُم أحد. وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: {قبل مَوته} قَالَ الْحسن - وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس -: إِنَّه كِنَايَة عَن الْكِتَابِيّ، وَقَالَ: مَا من كتابي من الْيَهُود، إِلَّا وَهُوَ يُؤمن بِعِيسَى قبل مَوته فِي وَقت الْيَأْس، حِين لَا يَنْفَعهُ، حَتَّى قيل لِابْنِ عَبَّاس: وَإِن مَاتَ حرقا أَو غرقا أَو هدما؟ قَالَ: نعم. وَقَالَ قَتَادَة - وَهُوَ رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس -: إِن " الْهَاء " كِنَايَة عَن عِيسَى، يعْنى: مَا من كتابي إِلَّا يُؤمن بِعِيسَى قبل موت عِيسَى، وَذَلِكَ حِين ينزل من السَّمَاء، وَقَالَ عِكْرِمَة: هَذَا فِي مُحَمَّد مَا من كتابي إِلَّا ويؤمن بِهِ قبل الْمَوْت، وَهَذَا قَول ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لم يجر ذكر مُحَمَّد فِي الْآيَة {وَيَوْم الْقِيَامَة يكون عَلَيْهِم شَهِيدا} يعْنى: عِيسَى.

160

قَوْله - تَعَالَى -: {فبظلم من الَّذين هادوا} يعْنى: مَا ذكر من إجرامهم {حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم} هُوَ مَا ذكرنَا فِي سُورَة الْأَنْعَام {وعَلى الَّذين هادوا حرمنا

{بِالْبَاطِلِ وأعتدنا للْكَافِرِينَ مِنْهُم عذَابا أَلِيمًا (161) لَكِن الراسخون فِي الْعلم مِنْهُم والمؤمنون يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك والمقيمين الصَّلَاة والمؤتون الزَّكَاة والمؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أُولَئِكَ سنؤتيهم أجرا عَظِيما (163) إِنَّا أَوْحَينَا} كل ذِي ظفر) الْآيَة على مَا سَيَأْتِي {وبصدهم عَن سَبِيل الله كثيرا

161

وَأَخذهم الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ وأكلهم أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ) يعْنى: الرشا {اعتدنا للْكَافِرِينَ مِنْهُم عذَابا أَلِيمًا} .

162

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَكِن الراسخون فِي الْعلم مِنْهُم} لَكِن للإضراب عَن كَلَام، وَالدُّخُول فِي كَلَام آخر، {والراسخون} : المبالغون فِي الْعلم أولُوا البصائر فِيهِ، وَأَرَادَ بِهِ: الَّذين أَسْلمُوا من عُلَمَاء الْيَهُود: مثل عبد الله بن سَلام، وَيَمِين بن يَمِين، وَأسد وَأسيد ابْني كَعْب، وَجَمَاعَة {والمؤمنون} أَرَادَ بِهِ: الْمُهَاجِرين، وَالْأَنْصَار {يُؤمنُونَ بِمَا أنزل إِلَيْك} يعْنى: الْقُرْآن {وَمَا أنزل من قبلك} يعْنى: سَائِر الْكتب الْمنزلَة {والمقيمين الصَّلَاة} فِي هَذَا إِشْكَال من حَيْثُ النَّحْو، قيل: إِن هَذَا ذكر لعَائِشَة، وَأَبَان بن عُثْمَان، فادعيا الْغَلَط على الْكَاتِب، وَقَالا: يَنْبَغِي أَن يكْتب: " والمقيمون الصَّلَاة " وَلَيْسَ هَكَذَا؛ بل هُوَ صَحِيح فِي النَّحْو، وَهُوَ نصب على الْمَدْح، وَتَقْدِيره: واذْكُرُوا المقيمين الصَّلَاة، أَو أعنى: المقيمين الصَّلَاة، وهم المؤتون الزَّكَاة، وَمثله قَول الشَّاعِر: (النازلين بِكُل معترك ... والطيبون [معاقد] الأزر) أَي: أعنى النازلين بِكُل معترك، وهم الطيبون معاقد الأزر؛ فَيكون نصبا على الْمَدْح، وَقيل تَقْدِيره: وَمَا أنزل على المقيمين الصَّلَاة، قَوْله: {والمؤتون الزَّكَاة} رُجُوع إِلَى نسق الأول {والمؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أُولَئِكَ سنؤتيهم أجرا عَظِيما} .

{إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان وآتينا دَاوُود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك وكلم الله مُوسَى}

163

قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّا أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين من بعده} هَذَا بِنَاء على مَا [سبق] من قَوْله {يَسْأَلك أهل الْكتاب أَن تنزل عَلَيْهِم كتابا من السَّمَاء} يَقُول الله - تَعَالَى -: قد جعلناك رَسُولا بِالطَّرِيقِ الَّذِي [قد] جعلنَا سَائِر الْأَنْبِيَاء رسلًا، وَهُوَ الْوَحْي، {وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان} ذكر عدَّة من الرُّسُل الَّذين أوحى إِلَيْهِم. فَإِن قَالَ قَائِل: لم قدم ذكر عِيسَى، وَهُوَ مُتَأَخّر؟ قيل: " الْوَاو " لَا توجب التَّرْتِيب، وَإِنَّمَا هِيَ للْجمع، وَقيل: ذكره اهتماما بأَمْره، وَكَانَ أَمر عِيسَى أهم {وآتينا دَاوُد زبورا} قَرَأَ حَمْزَة: " زبورا " - بِضَم الزَّاي - فالزبور: فعول بِمَعْنى الْمَفْعُول، وَهُوَ الْكتاب الَّذِي أنزل الله - تَعَالَى - على دَاوُد، فِيهِ التَّحْمِيد، والتمجيد، وثناء الله - تَعَالَى -، وَالزَّبُور: الْكِتَابَة، والزبرة قِطْعَة الْحَدِيد، وَيُقَال: مَا لَهُ زبر أَي: مَا لَهُ عقل، وَأما الزبُور: جمع الزبر.

164

قَوْله - تَعَالَى -: {ورسلا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل} وَأَرْسَلْنَا رسلًا قد قصصناهم عَلَيْك من قبل {ورسلا لم نقصصهم عَلَيْك وكلم الله مُوسَى تكليما} إِنَّمَا كَلمه بِنَفسِهِ من غير وَاسِطَة، وَلَا وَحي، وَفِيه دَلِيل على من قَالَ: إِن الله خلق كلَاما فِي الشَّجَرَة؛ فَسَمعهُ مُوسَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ: {وكلم الله مُوسَى تكليما}

{تكليما (164) رسلًا مبشرين ومنذرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما (165) لَكِن الله يشْهد بِمَا أنزل إِلَيْك أنزلهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة يشْهدُونَ} قَالَ الْفراء، وثعلب: إِن الْعَرَب تسمى مَا توصل إِلَى الْإِنْسَان: كلَاما، بِأَيّ طَرِيق وصل إِلَيْهِ، وَلَكِن لَا تحَققه بِالْمَصْدَرِ، فَإِذا حقق الْكَلَام بِالْمَصْدَرِ، لم تكن إِلَّا حَقِيقَة الْكَلَام، وَهَذَا كالإرادة، يُقَال: أَرَادَ فلَان إِرَادَة، فَيكون حَقِيقَة الْإِرَادَة، وَلَا يُقَال: أَرَادَ الْجِدَار أَن يسْقط إِرَادَة، وَإِنَّمَا يُقَال: أَرَادَ الْجِدَار، من غير ذكر الْمصدر؛ لِأَنَّهُ مجَاز، فَلَمَّا حقق الله كَلَامه مُوسَى بالتكليم، عرف أَنه حَقِيقَة الْكَلَام من غير وَاسِطَة، قَالَ ثَعْلَب: وَهَذَا دَلِيل من قَول الْفراء أَنه مَا كَانَ يَقُول بِخلق الْقُرْآن. فَإِن قَالَ قَائِل: بِأَيّ شئ عرف مُوسَى أَنه كَلَام الله؟ قيل: بتعريف الله - تَعَالَى - إِيَّاه، وإنزال آيَة عرف مُوسَى بِتِلْكَ الْآيَة أَنه كَلَام الله - تَعَالَى -، وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة أَنه سمع كَلَام الله حَقِيقَة، بِلَا كَيفَ، وَقَالَ وَائِل بن دَاوُد: معنى قَوْله: {وكلم الله مُوسَى تكليما} أَي: مرَارًا، كلَاما بعد كَلَام.

165

قَوْله - تَعَالَى -: {رسلًا مبشرين ومنذرين} أَي: أرسلنَا رسلًا {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} وَهَذَا دَلِيل على أَن الله - تَعَالَى - لَا يعذب الْخلق قبل بَعثه الرُّسُل، وَهَذَا معنى قَوْله: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} وَقَالَ - تَعَالَى - {وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى} . {وَكَانَ الله عَزِيزًا} أَي: مقتدرا على معاونة الْخلق (حكيما) ببعث الرُّسُل. وَفِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء أَنه قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله عَن عدد الْأَنْبِيَاء فَقَالَ: مائَة وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا، فَقلت: كم الرُّسُل مِنْهُم؟ قَالَ: ثلثمِائة وَخَمْسَة عشر [جما غفيرا] ".

{وَكفى بِاللَّه شَهِيدا (166) إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله قد ضلوا ضلالا بَعيدا (167) إِن الَّذين كفرُوا وظلموا لم يكن الله ليغفر لَهُم وَلَا ليهديهم طَرِيقا (168) إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا (169) يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم}

166

قَوْله - تَعَالَى - {لَكِن الله يشْهد بِمَا أنزل إِلَيْك} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن قوما من عُلَمَاء الْيَهُود حَضَرُوا عِنْد النَّبِي، فَقَالَ لَهُم: " أَنْتُم تعلمُونَ أَنى رَسُول الله؟ فَقَالُوا: لَا نعلم ذَلِك؛ فَنزل قَوْله: {لَكِن الله يشْهد بِمَا أنزل إِلَيْك أنزلهُ بِعِلْمِهِ} " أَي: مَعَ علمه، كَمَا يُقَال: جَاءَنِي فلَان بِسَيْفِهِ، أَي: مَعَ سَيْفه، وَفِيه دَلِيل على أَن لله علما، هُوَ صفته، خلاف قَول الْمُعْتَزلَة خذلهم الله. {وَالْمَلَائِكَة يشْهدُونَ وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} فَإِن قيل: إِذا شهد الله لَهُ بالرسالة، فَأَي حَاجَة إِلَى شَهَادَة الْمَلَائِكَة؟ قيل: لِأَن الَّذين حَضَرُوا عِنْد النَّبِي، كَانَ عِنْدهم أَنهم عُلَمَاء الأَرْض؛ فَقَالُوا: نَحن عُلَمَاء الأَرْض، وَنحن ننكر رِسَالَتك، فَقَالَ الله تَعَالَى: إِن أنكرهُ عُلَمَاء الأَرْض، يشْهد بِهِ عُلَمَاء السَّمَاء، وهم الْمَلَائِكَة، على مُقَابلَة زعمهم وظنهم؛ لَا للْحَاجة إِلَى شَهَادَتهم؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} .

167

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله} صدهم عَن سَبِيل الله كَانَ بكتمان نعت مُحَمَّد {قد ضلوا ضلالا بَعيدا} أَي: هَلَكُوا، والضلال: الْهَلَاك.

168

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين كفرُوا وظلموا} فَإِن قَالَ قَائِل: أَي معنى لقَوْله: {وظلموا} وَقد قَالَ: {كفرُوا} وظلمهم كفرهم؟ قيل: مَعْنَاهُ: كفرُوا بِاللَّه، وظلموا مُحَمَّدًا بكتمان نَعته. وَقيل: ذكره تَأْكِيدًا {لم يكن الله ليغفر لَهُم} فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن الله - تَعَالَى - لَو غفر للْكَافِرِينَ أجمع، كَانَ يسع ذَلِك رَحمته، لكنه قطع القَوْل بِأَن لَا يغْفر لَهُم،

{الرَّسُول بِالْحَقِّ من ربكُم فآمنوا خيرا لكم وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكَانَ الله عليما حكيما (170) يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ فآمنوا} {وَلَا ليهديهم طَرِيقا} يعْنى: الْإِسْلَام

169

{إِلَّا طَرِيق جَهَنَّم} يعْنى: الْيَهُودِيَّة {خَالِدين فِيهَا أبدا وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا} .

170

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الرَّسُول بِالْحَقِّ من ربكُم فآمنوا خيرا لكم} تَقْدِيره: يكن الْإِيمَان خيرا لكم {وَإِن تكفرُوا فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكَانَ الله عليما حكيما} .

171

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ} الغلو: مُجَاوزَة الْحَد، وَالْآيَة فِي النَّصَارَى، قَالَ الْحسن: يجوز أَن تكون فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّهُم غلوا فِي أَمر عِيسَى، أما الْيَهُود بالتقصير فِي حَقه، وَأما النَّصَارَى بمجاوزة الْحَد فِيهِ. الغلو غير مَحْمُود فِي الدّين، روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إيَّاكُمْ والغلو فِي الدّين؛ فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بالغلو ". {وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته} وَقد بَينا أَقْوَال الْعلمَاء فِي كَونه " كلمة " وَجُمْلَته ثَلَاثَة أقاويل: أَحدهَا: أَنه بكلمته، وَهِي قَوْله: كن، فَكَانَ، وَالثَّانِي: أَنه يَهْتَدِي بِهِ، كَمَا يَهْتَدِي بِكَلِمَة الله، الثَّالِث: كَلمته: بشارته الَّتِي بشر بهَا فِي الْكتب " يكون عِيسَى " فَهَذَا معنى قَوْله: ( {وكلمته} أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ) وَفِي تَسْمِيَته " روحا " ثَلَاثَة أقاويل:

{بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة انْتَهوا خيرا لكم إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا (171) لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر} أَحدهَا: أَنه كَانَ لَهُ روح كَسَائِر الْأَرْوَاح، إِلَّا أَن الله - تَعَالَى - أَضَافَهُ إِلَى نَفسه تَشْرِيفًا. وَالثَّانِي: أَنه تحيا بِهِ الْقُلُوب، كَمَا تحيا الْأَبدَان بِالروحِ. الثَّالِث: أَن الرّوح: هُوَ النفخ الَّذِي نفخ فِي مَرْيَم جِبْرِيل بِإِذن الله؛ فَسمى ذَلِك النفخ روحا. (فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة) وَكَانَت النَّصَارَى يَقُولُونَ بِالثَّلَاثَةِ، كَانُوا يَقُولُونَ: ابْن، وآب، وروح الْقُدس، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} وَقَوله: {انْتَهوا خيرا لكم} تَقْدِيره: يكن الِانْتِهَاء خيرا لكم. {إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد} وَاعْلَم أَن الله - تَعَالَى - كَمَا لَا يجوز لَهُ أَن يتَّخذ ولدا، لَا يجوز عَلَيْهِ التبني؛ فَإِن التبني إِنَّمَا يكون حَيْثُ يكون بِهِ الْوَلَد، فَإِذا لم يتَصَوَّر لله ولد وَلم يجز عَلَيْهِ التبني {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا} .

172

قَوْله - تَعَالَى -: {لن يستنكف الْمَسِيح أَن يكون عبدا لله} الاستنكاف: التكبر مَعَ الأنفة، وَمَعْنَاهُ: لن يأنف الْمَسِيح أَن يكون عبدا {وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون} وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة من ذهب إِلَى تَفْضِيل الْمَلَائِكَة على الْبشر؛ لِأَن الله تَعَالَى ارْتقى من عِيسَى إِلَى الْمَلَائِكَة، وَلَيْسَ فِي الْآيَة مستدل، وَإِنَّمَا قَالَ: (وَلَا الْمَلَائِكَة المقربون) [لَا] لِامْتِنَاع مكانهم ومقامهم على مقَام الْبشر، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك على مَا عِنْد النَّصَارَى،

{فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله وَأما الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذَابا أَلِيمًا وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم برهَان من ربكُم وأنزلنا إِلَيْكُم نورا مُبينًا (174) فَأَما الَّذين آمنُوا بِاللَّه واعتصموا بِهِ فسيدخلهم فِي رَحْمَة مِنْهُ وَفضل ويهديهم إِلَيْهِ صراطا مُسْتَقِيمًا (175) يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد} وَلَعَلَّه كَانَ عِنْدهم أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْبشر، فَقَالَ ذَلِك على مَا فِي زعمهم. وَقَوله: {وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا} الْفرق بَين الاستنكاف والاستكبار: أَن الاستنكاف هُوَ التكبر مَعَ الأنفة، والاستكبار: هُوَ الغلو، والتكبر من غير أَنَفَة.

173

{فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله} قيل: زِيَادَة فَضله: مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت، وَلَا خطر على قلب بشر. وَقيل: هُوَ الشَّفَاعَة، وَفِي الحَدِيث: " يشفع الصالحون يَوْم الْقِيَامَة لمن يعْرفُونَ ". {وَأما الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذَابا أَلِيمًا وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا} .

174

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم برهَان من ربكُم} قيل: هُوَ مُحَمَّد، على هَذَا أَكثر الْمُفَسّرين. وَقيل: هُوَ الْقُرْآن. والبرهان فِي اللُّغَة: هُوَ الْحجَّة {وأنزلنا إِلَيْكُم نورا مُبينًا} هُوَ الْقُرْآن.

175

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا بِاللَّه واعتصموا بِهِ فسيدخلهم فِي رَحْمَة مِنْهُ وَفضل} يعْنى الْجنَّة {ويهديهم إِلَيْهِ صراطا مُسْتَقِيمًا} .

176

قَوْله - تَعَالَى -: {يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} روى عَن الْبَراء بن عَازِب أَنه قَالَ: آخر سُورَة أنزلت كَامِلَة: سُورَة بَرَاءَة، وَآخر آيَة أنزلت هَذِه الْآيَة.

{فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك وَأَن كَانُوا اخوة رجَالًا وَنسَاء فللذكر مثل حَظّ} وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَن النَّبِي دخل على جَابر وَهُوَ مَرِيض، وَكَانَ قد أغمى عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاء وَتَوَضَّأ، ثمَّ رشه عَلَيْهِ، فأفاق، فَقَالَ جَابر: يَا رَسُول الله، مَاذَا أصنع فِي مَالِي، وَإِنَّمَا ترثني كَلَالَة؟ فَنزلت الْآيَة "، وَقد سبق الْكَلَام فِي الْكَلَالَة. وَتلك الْآيَة فِي تَوْرِيث الاخوة وَالْأَخَوَات من الْأُم، وَهَذِه الْآيَة فِي تَوْرِيث الاخوة وَالْأَخَوَات من الْأَب وَالأُم، وَمن الْأَب {إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد} تَقْدِيره: لَيْسَ لَهُ ولد، وَلَا وَالِد، وعَلى هَذَا أَكثر الْعلمَاء، أَن الْكَلَالَة: هَذَا، وَأَن الْأُخوة وَالْأَخَوَات لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَب، إِلَّا مَا يحْكى عَن عمر - رضى الله عَنهُ -: أَنه ورثهم مَعَ الْأَب، وَقد سبق. قَوْله - تَعَالَى -: {لَيْسَ لَهُ ولد} أَرَادَ بِهِ: الذّكر، وعَلى هَذَا أَكثر الْعلمَاء: أَن الاخوة وَالْأَخَوَات إِنَّمَا لَا يَرِثُونَ مَعَ الابْن، ويرثون مَعَ الْبِنْت، وَحكى عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر -: أَن الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات لَا يَرِثُونَ مَعَ الْبِنْت، تمسكا بِظَاهِر الْآيَة، وَقد بَينا أَن المُرَاد بِهِ: الابْن، وَالْآيَة فِي نفي الْفَرْض مَعَ الْوَلَد وَعِنْدنَا: إِنَّمَا يَرِثُونَ بِالتَّعْصِيبِ، فَإِن الْأَخَوَات مَعَ الْبَنَات عصبَة. قَوْله - تَعَالَى -: {وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك وَإِن كَانُوا اخوة رجَالًا وَنسَاء فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ يبين الله لكم أَن تضلوا} . قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: يبين الله لكم أَن لَا تضلوا، وَهُوَ قَول أبي عبيده، قَالَ أَبُو عبيده: وَذكر الْكسَائي حَدِيثا فِي مَعْنَاهُ؛ فأعجبه ذَلِك، وَذَلِكَ مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يدعونَ أحدكُم على ابْنه أَن يُوَافق قدرا " أَي: أَن لَا يُوَافق قدرا.

{الْأُنْثَيَيْنِ يبين الله لكم أَن تضلوا وَالله بِكُل شَيْئا عليم (176) } وَقَالَ البصريون: مَعْنَاهُ: يبين الله لكم كَرَاهِيَة أَن تضلوا {وَالله بِكُل شئ عليم} . وَالله أعلم، صدق الله وَصدق رَسُول الله وعَلى آله أَجْمَعِينَ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم غير} تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة القَوْل فِي تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة قَالَ الشَّيْخ الإِمَام - رَضِي الله عَنهُ - سُورَة الْمَائِدَة مَدَنِيَّة كلهَا إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} فَإِنَّهُ نزل بِعَرَفَات على مَا سنبين، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كلهَا محكمَة لم ينْسَخ مِنْهَا شَيْء. وَقَالَ الشّعبِيّ: لم ننسخ مِنْهَا شَيْء. إِلَّا قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا شَعَائِر الله} على مَا سنبين. وروى عَن أبي ميسرَة أَنه قَالَ: أنزل الله - تَعَالَى - فِي هَذِه السُّورَة ثَمَانِيَة عشر حكما لم ينزلها فِي سَائِر الْقُرْآن.

المائدة

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} قد ذكرنَا أَن كل مَا فِي الْقُرْآن من قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فَإِنَّمَا نزل بِالْمَدِينَةِ، وكل مَا نزل من قَوْله: {يَا أَيهَا النَّاس} فَإِنَّمَا أنزل بِمَكَّة، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِذا سَمِعت الله - تَعَالَى - يَقُول: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فارعه سَمعك، فَإِنَّهُ خير تُؤمر بِهِ أَو سوء تنْهى عَنهُ. وَقَوله: {أَوْفوا بِالْعُقُودِ} يُقَال: " أوفى " و " وفى " بِمَعْنى وَاحِد، وَأما الْعُقُود: قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: أَرَادَ بِالْعُقُودِ: مَا أحل الله وَحرم، وَفرض وحد. وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِالْعُقُودِ: العهود، وَقيل الْفرق بَين العقد والعهد: أَن الْعَهْد: هُوَ الْأَمر بالشَّيْء، وَيُقَال: عهِدت إِلَى فلَان كَذَا، أَي: أَمرته بِهِ، وَالْعقد: هُوَ الْأَمر مَعَ الإستيثاق، وَيدخل فِي الْعُقُود النذور، وَسَائِر الْعُقُود اللَّازِمَة يجب الْوَفَاء بِكُل إِلَّا

{محلي الصَّيْد وَأَنْتُم حرم إِن الله يحكم مَا يُرِيد (1) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا} الْيَمين على شَيْء مُبَاح، لَا يجب الْوَفَاء بِهِ؛ للسّنة، وَهِي مَا روى عَن رَسُوله الله أَنه قَالَ: " من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا؛ فليكفر عَن يَمِينه، وليأت الَّذِي هُوَ خير ". قَوْله - تَعَالَى -: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} قَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ الْإِبِل، وَالْبَقر وَالْغنم، وَحكى قطرب عَن يُونُس: هِيَ الْإِبِل، وَالْبَقر، وَالْغنم، وَالْخَيْل والبراذين، وروى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: بَهِيمَة الْأَنْعَام وَهِي: بقر الْوَحْش، وحمر الْوَحْش، وظباء الْوَحْش، - وَسميت الْبَهِيمَة بَهِيمَة لاستبهام فِيهَا، حَيْثُ لَا نطق لَهَا يفهم، وَبِذَلِك سميت عجماء أَيْضا. وَالْمرَاد: ببهيمة الْأَنْعَام: هِيَ الْأَنْعَام، لَكِن أَضَافَهُ إِلَى نَفسه، كَمَا يُقَال: نفس الْإِنْسَان، وَحقّ الْيَقِين، وَنَحْو ذَلِك، وروى قَابُوس بن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: بَهِيمَة الْأَنْعَام: هِيَ الأجنة: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} يَعْنِي مَا ذكر فِي قَوْله: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} {غير محلى الصَّيْد} قيل هُوَ نصب على الِاسْتِثْنَاء، وَقيل على الْحَال ويعنى " لَا محلي الصَّيْد " كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {غير ناظرين إناه} أَي: لَا ناظرين إناه، {وَأَنْتُم حرم} فِيهِ تَحْرِيم الصَّيْد فِي حَال الْإِحْرَام {إِن الله يحكم مَا يُرِيد} .

2

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا شَعَائِر الله} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الشعائر الْهَدَايَا المشعرة، وَهِي المعلمة بالإشعار، وَكَانُوا (ينخسون) شَيْئا فِي سَنَام الْبَعِير حَتَّى يتطلخ بِالدَّمِ، فَذَلِك إِشْعَار الْهدى، وَهُوَ سنة، وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بالشعائر

{شَعَائِر الله وَلَا الشَّهْر الْحَرَام وَلَا الْهَدْي وَلَا القلائد وَلَا آمين الْبَيْت الْحَرَام يَبْتَغُونَ} مشاعر الْحرم من الصَّفَا والمروة وَغَيرهمَا، وَالْمرَاد بِهِ النَّهْي عَن الْقَتْل فِي الْحرم. {وَلَا الشَّهْر الْحَرَام} قَالَ عِكْرِمَة: أَرَادَ بِهِ: ذَا الْقعدَة، وَقَالَ غَيره: رَجَب، وَقيل: هُوَ عبارَة عَن جَمِيع الْأَشْهر الْحرم، وَقَوله: {وَلَا الْهَدْي وَلَا القلائد} فالهدي: جمع الْهَدِيَّة، وَالْمرَاد بِهِ: إبل الْهَدْي، وَأما القلائد: هِيَ الْإِبِل المقلدة، وَكَانُوا يقلدون إبل الْهَدْي، وَقَالَ عَطاء: أَرَادَ بِهِ: أَصْحَاب القلائد، وَكَانَت عَادَة أهل الْحرم أَن يقلدوا أنفسهم، وإبلهم بِشَيْء من لحاء شجر الْحرم إِذا أَرَادوا الْخُرُوج؛ لكيلا يتَعَرَّض لَهُم؛ فَنهى الشَّرْع عَن التَّعَرُّض لهَذِهِ الْأَشْيَاء. {وَلَا آمين الْبَيْت الْحَرَام} أَي: وَلَا تتعرضوا للقاصدين إِلَى الْبَيْت الْحَرَام، وَسبب نزُول هَذَا: مَا رُوِيَ: " أَن الحطم بن ضبيعة جَاءَ فِي نفر إِلَى رَسُول الله بِالْمَدِينَةِ، فَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام، فَلم يقبلُوا وتعللوا وَانْصَرفُوا؛ حَتَّى قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام - فِيهِ: لقد أقبل بِوَجْه كَافِر وَأدبر بقفا غادر. فَذهب وَاسْتَاقَ سرح الْمَدِينَة؛ فتبعوه فَلم يدركوه وَهُوَ يستاق الْإِبِل، ويرتجز وَيَقُول: (قد لفها اللَّيْل بسواق حطم ... لَيْسَ براعي إبل وَلَا غنم) (وَلَا بجزار على ظهر وَضم ... ) فَلَمَّا كَانَ بعد فتح مَكَّة، لقِيه الْمُسلمُونَ فِي الْمَوْسِم حَاجا، وَمَعَهُ إبل معشره وقلائد؛ فقصدوه، ولقيه النَّبِي فَأَشَارَ إِلَى أَصْحَابه، وَقَالَ: دونكم الرجل؛ ليأخذوه؛ فَنزلت الْآيَة " منعا للتعرض لَهُ ولشعائره وقلائده، قَالَ الشّعبِيّ: كَانَ هَذَا

{فضلا من رَبهم ورضوانا وَإِذا حللتم فاصطادوا وَلَا يجرمنكم شنآن قوم أَن صدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام أَن تَعْتَدوا وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا} كَذَلِك، ثمَّ نسخ بقوله: (اقْتُلُوا الْمُشْركين) . وَقَوله: {يَبْتَغُونَ فضلا من رَبهم ورضوانا} قَالَ ابْن عمر: أَرَادَ بِهِ فضل التِّجَارَة، وَقيل: هُوَ الْأجر {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَهَذَا أَمر إِبَاحَة؛ أَبَاحَ للْحَال الِاصْطِيَاد. {وَلَا يجرمنكم شنآن قوم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جرم أَي: كسب وَيُقَال: فلَان جارم أَهله، أَي: كاسب أَهله، و (أنْشد) (وَلَقَد طعنت أَبَا عُيَيْنَة طعنة ... جرمت فَزَارَة بعْدهَا أَن يغضبوا) أَي: كسبت، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: {وَلَا يجرمنكم} بِضَم الْيَاء، وَهُوَ صَحِيح فِي الْعَرَبيَّة، يُقَال: جرم وأجرم، بِمَعْنى وَاحِد، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا يحملنكم شنآن قوم، أَي: عَدَاوَة قوم. {أَن صدوكم} أَي: لِأَن صدوكم، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: " إِن صدوكم " على الشَّرْط وَمعنى الْآيَة: لَا يحملنكم عَدَاوَة قوم صدوكم {عَن الْمَسْجِد الْحَرَام أَن تَعْتَدوا} عَلَيْهِم. (وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى) الْبر: الصدْق، وَقيل الْبر: الاجتناب عَن كل مَنْهِيّ. وَفِيه قَول آخر: أَن الْبر الْإِسْلَام، وَالتَّقوى: السّنة. {وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} الْإِثْم: الْكفْر، والعدوان: الْبِدْعَة، وَقيل: الْإِثْم الْكفْر، والعدوان: الظُّلم {وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب} .

3

قَوْله - تَعَالَى -: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم} فالميتة: هِيَ الْحَيَوَان الْمَيِّت، وَالدَّم: دم الْحَيَوَان يراق ويسفح فَهُوَ حرَام، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يجْعَلُونَ الدَّم فِي

{على الْإِثْم والعدوان وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب (2) حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع إِلَّا مَا ذكيتم وَمَا ذبح على النصب وَأَن تستقسموا} المباعر، ويسوونها ثمَّ يَأْكُلُون؛ فجَاء الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ، وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن الطحال، فَقَالَ: كلوه، فَقيل: أَلَيْسَ بِدَم؟ قَالَ: إِن الله - تَعَالَى - إِنَّمَا حرم الدَّم المسفوح. {وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ} يَعْنِي: سمى على ذبحه غير الله، وَقيل: هُوَ مَا يذبح على الْأَصْنَام؛ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَة حرَام، وَقيل: إِنَّهَا مَا أبيحت فِي شرع مَا، حَتَّى قيل: إِن آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - نزل إِلَى الأَرْض وَمَعَهُ تَحْرِيم هَذِه الْأَرْبَعَة. {والمنخنقة} هِيَ الشَّاة الَّتِي تخنق بِحَبل فتموت {والموقوذة} هِيَ الَّتِي كَانَت يضربونها عِنْد الصَّنَم، حَتَّى إِذا مَاتَت أكلوها (والمتردية) الَّتِي تتردى من مَوضِع عَال فتموت. {والنطيحة} هِيَ الَّتِي تنطحها أُخْرَى فتموت {وَمَا أكل السَّبع} وَيقْرَأ بجزم الْبَاء على التَّخْفِيف، وَمَعْنَاهُ وَمَا بقى مِمَّا أكل السَّبع {إِلَّا مَا ذكيتم} حرم هَذِه الْأَنْوَاع، وَاسْتثنى المذكاة، وأصل التذكية: الْإِتْمَام، يُقَال: ذكيت النَّار، إِذا أتممت إيقادها، وَيُقَال: فلَان ذكى، إِذا كَانَ تَامّ الْفَهم، وَالزَّكَاة فِي الشَّرْع مَعْرُوفَة. {وَمَا ذبح على النصب} يَعْنِي: على الْأَصْنَام، وَالنّصب: نوع من الْأَصْنَام، وَالْفرق بَينهَا وَبَين الْأَصْنَام: أَن الْأَصْنَام: هِيَ المصورة المنقوشة، وَالنّصب: لَا تكون منقوشة، وَلَا مصورة، وَقيل: كَانَت لَهُم أَحْجَار مَنْصُوبَة حول الْكَعْبَة، كَانُوا يعبدونها، ويتقربون إِلَيْهَا بالذبائح، ويلطخونها بالدماء؛ فحرمه الشَّرْع. {وَأَن تستقسموا بالأزلام ذَلِكُم فسق} الاستقسام: طلب النَّصِيب والأزلام: الأقداح وَاحِدهَا: " زلم " وَقيل: " زلم " أَيْضا وَهِي سِهَام كَانَت عِنْد سدنة الْكَعْبَة، وَكَانَ مَكْتُوبًا على وَاحِد اخْرُج، وعَلى آخر: لَا تخرج، وعَلى وَاحِد: أَمرنِي رَبِّي وعَلى آخر: نهاني رَبِّي، وَكَانَ فِيهَا وَاحِد غفل، وَيُسمى منتحا، لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء مَكْتُوب،

{بالأزلام ذَلِكُم فسق الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ فَلَا تخشوهم واخشون الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا فَمن} وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا أَرَادَ سفرا يَأْتِي سَادِن الْبَيْت حَتَّى يجيل الأقداح؛ فَإِن خرج الغفل يجيله ثَانِيًا، حَتَّى يخرج آخر، فَإِن خرج الَّذِي عَلَيْهِ: " اخْرُج " خرج إِلَى السّفر، وَإِن خرج: " لَا تخرج " لم يخرج؛ فَنهى الشَّرْع عَنهُ، وَمن ذَلِك الحكم بالنجوم وَضرب الْحَصَا والطيرة وَالْكهَانَة، وكل ذَلِك مَنْهِيّ عَنهُ، قَالَ: " من تطير أَو تكهن أَو تعرف؛ لم ينظر إِلَى الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة " وَقَالَ الشّعبِيّ، وَغَيره: الأزلام للْعَرَب، والكعاب للعجم. وَقَوله: {الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ فَلَا تخشوهم واخشون} وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا يطمعون فِي عود الْمُسلمين إِلَى دينهم، حَتَّى فتحت مَكَّة، وَأظْهر الله الْإِسْلَام؛ أيسوا من ذَلِك؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ} أَن يذهب، وتراجعوا إِلَى دينهم. قَوْله - تَعَالَى -: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} نزل هَذَا بِعَرَفَات، وَرَسُول الله على نَاقَته العضباء؛ فبركت من ثقل الْوَحْي، وروى " أَن رجلا من الْيَهُود قَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ: إِنَّكُم تقرءون آيَة لَو علينا أنزلت، لاتخذنا ذَلِك الْيَوْم عيدا، يَعْنِي الْيَوْم الَّذِي أنزلت فِيهِ، فَقَالَ عمر: أَنا أعلم أَنَّهَا أَي يَوْم أنزلت، أنزلت يَوْم الْجُمُعَة عَشِيَّة عَرَفَة، وَأَشَارَ إِلَى أَن ذَلِك الْيَوْم لنا عيد ".

وَمعنى قَوْله: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} أَي: فِي الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام؛ لِأَنَّهَا نزلت بعد اسْتِقْرَار الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام، وَقيل: لم ينزل بعد هَذِه الْآيَة شَيْء من الْأَحْكَام حَتَّى قيل: إِن قَوْله: {يستفتونك} فِي آيَة الْكَلَالَة، إِنَّمَا نزل قبل هَذِه الْآيَة، وَقيل: بعْدهَا. وَاعْلَم أَن الشَّرَائِع لم تنزل جملَة، وَإِنَّمَا نزلت شَيْئا فَشَيْئًا، فَإِن فِي الِابْتِدَاء حِين كَانَ بِمَكَّة كَانَ الْوَاجِب الْإِتْيَان بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالْإِيمَان بِالْبَعْثِ، وَالْجنَّة وَالنَّار، وَرَكْعَتَيْنِ غدْوَة، وَرَكْعَتَيْنِ عَشِيَّة، وَأَن يكفوا أَيْديهم عَن الْقِتَال، ويصبروا على أَذَى الْمُشْركين، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة الْمِعْرَاج - وَهِي قبل الْهِجْرَة بِثمَانِيَة عشر شهرا - فرض الله عَلَيْهِ وعَلى أمته خمسين صَلَاة، ثمَّ ردَّتْ إِلَى خمس صلوَات، كَمَا عرف فِي الْقِصَّة، ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، فرض الله عَلَيْهِ الْجِهَاد، وَالزَّكَاة، ثمَّ الصَّوْم سنة الثَّالِث من الْهِجْرَة، وَفرض الْحَج سنة السَّابِع من الْهِجْرَة، ثمَّ فتح مَكَّة، فَلَمَّا حجَّة الْوَدَاع؛ أنزلت هَذِه الْآيَة سنة عشر من الْهِجْرَة، وَلم ينزل بعْدهَا شَيْء من الْأَحْكَام كَمَا بَينا، وعاش بعد ذَلِك رَسُول الله إِحْدَى وَثَمَانِينَ لَيْلَة، وَتُوفِّي فِي الْيَوْم الثَّانِي من ربيع الأول، وَقيل: توفّي فِي الثَّانِي عشر من ربيع الأول، وَهَذَا أصح. وَكَانَت هجرته فِي الثَّانِي عشر من ربيع الأول أَيْضا، واستكمل عشر سِنِين، وَخرج من الدُّنْيَا. وَفِيه قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} أَي: أمنتكم من الْعَدو، وأظهرت دينكُمْ، وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي، ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا، رَوَت عَائِشَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله - تَعَالَى -: إِنِّي نظرت فِي الْأَدْيَان فارتضيت لكم الْإِسْلَام دينا؛ فأكرموه بالسخاء، وَحسن الْخلق مَا صحبتموه، فَإِن

{اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم فَإِن الله غَفُور رَحِيم (3) يَسْأَلُونَك مَاذَا أحل لَهُم قل أحل لكم الطَّيِّبَات وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح مكلبين تعلمونهن مِمَّا} الْبَخِيل بعيد من الله، بعيد من النَّاس، بعيد من الْجنَّة، قريب من النَّار ". {فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة} : المخمصة: خلاء الْجوف عَن الْغذَاء، وَفِي الْمثل: " البطنة بعْدهَا الخمصة " {غير متجانف لإثم} أَي: غير مائل إِلَى إِثْم، وَهُوَ مُجَاوزَة الشِّبَع فِي أكل الْميتَة، أَو يأكلها تلذذا {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} .

4

قَوْله - تَعَالَى -: {يَسْأَلُونَك مَاذَا أحل لَهُم} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن زيد بن الْخَيل الطَّائِي، وعدي بن حَاتِم الطَّائِي سَأَلَا رَسُول الله وَقَالا: إِنَّا نصطاد بالكلاب، فَمَاذَا يحل (مِنْهُ) وَمَا يحرم مِنْهُ؟ فَنزلت الْآيَة، وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: أَن النَّبِي

{علمكُم الله فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهِ وَاتَّقوا الله إِن الله} لما أَمر بقتل الْكلاب، وَقَالُوا يَا رَسُول الله: مَاذَا يحل لنا من هَذِه الْأمة الَّتِي أمرت بقتلها؟ فَنزلت الْآيَة، وَالْأول أصح. {قل أحل لكم الطَّيِّبَات} فالطيبات: كل مَا تستطيبه الْعَرَب، وتستلذه من غير أَن يرد بِتَحْرِيمِهِ كتاب أَو سنة {وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح} أَي: الكواسب، يُقَال: جرح، واجترح، إِذا كسب، وَمِنْه سميت الْيَد جارحة؛ لِأَنَّهَا كاسبة، قَالَ الشَّاعِر: (ذَات حل حسن ميسمها ... يذكر الْجَارِح وَمَا كَانَ جرح) أَي: مَا كَانَ كسب {مكلبين} وَقُرِئَ فِي الشواذ " مكلبين " يُقَال: كَلْبه فَهُوَ مكلب، وأكلب فَهُوَ مكلب: إِذا كثر كلابه، وَهُوَ مثل قَوْلهم: أمشى إِذا كثرت مَاشِيَته، قَالَ الشَّاعِر: (وكل فَتى وَإِن أمشى وأثرى ... [سيخلجه] عَن الدُّنْيَا الْمنون) قَالَ الْأَزْهَرِي: وَمعنى الْكَلَام: وَأحل لكم مَا علتم من الْجَوَارِح فِي حَال تكليبكم وتضريتكم إِيَّاهَا على الصَّيْد، وَاعْلَم أَن حل الصَّيْد لَا يخْتَص بصيد الْكَلْب على قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَقَالَ طَاوُوس: يخْتَص بِهِ؛ تمسكا بقوله: {مكلبين} وَهَذَا خلاف شَاذ، وَمعنى قَوْله: {مكلبين} أَي: محرشين، ومغرين على الصَّيْد، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِك كل الْجَوَارِح {تعلمونهن مِمَّا علمكُم الله} تؤدبونهن مِمَّا أدبكم الله.

{سريع الْحساب (4) الْيَوْم أحل لكم الطَّيِّبَات وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم وطعامكم حل لَهُم وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا} {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهِ} أَبَاحَ صيد الْجَوَارِح إِذا أمسكن على الْمَالِك، وَلَا خلاف فِيهِ، فَأَما إِذا أكل من الصَّيْد، هَل يكون ممسكا على الْمَالِك، وَهُوَ يحل؟ فِيهِ اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة، قَالَ سعد بن أبي وَقاص، وسلمان الْفَارِسِي: إِنَّه يحل، حَتَّى قَالَ سعد: كل مَا أَخذ كلبك، وَإِن بقيت مِنْهُ جدية أَي: قِطْعَة، وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وعدي بن حَاتِم: إِنَّه لَا يحل، وَهُوَ القَوْل الثَّانِي للشَّافِعِيّ، وَبِه قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين، وَأما الْكَلَام فِي التَّسْمِيَة سَيَأْتِي فِي الْأَنْعَام {وَاتَّقوا الله إِن الله سريع الْحساب} .

5

قَوْله - تَعَالَى -: {الْيَوْم أحل لكم الطَّيِّبَات} ذكر الْيَوْم هَاهُنَا صلَة، وَقد بَينا معنى الطَّيِّبَات، وَفِيه قَول آخر: أَن الطَّيِّبَات عَن طاهرات، وكل طَاهِر حَلَال. {وَطَعَام الَّذين أُوتُوا الْكتاب حل لكم} قَالَ مُجَاهِد، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَرَادَ بِهِ: ذَبَائِح أهل الْكتاب {وطعامكم حل لَهُم} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ أحل لَهُم طعامنا وَشرع لَهُم ذَلِك وهم كفار، وَلَيْسوا من أهل الشَّرْع؟ أجَاب الزّجاج فَقَالَ: مَعْنَاهُ: حَلَال لكم أَن تطعموهم؛ فَيكون خطاب الْحل مَعَ الْمُسلمين، قَالَ غَيره: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ ذكر عَقِيبه (حكم) النِّسَاء، وَلم يذكر حل المسلمات لَهُم فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَلَال لكم أَن تطعموهم، حرَام لكم أَن تزوجوهم. {وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات} هَذَا رَاجع إِلَى النسق الأول، ومنقطع عَن قَوْله: {وطعامكم حل لَهُم} {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} قَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ: العفائف، وَقَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ: الْحَرَائِر، وَمِنْه إِبَاحَة الْحرَّة الْكِتَابِيَّة للْمُسلمِ وَقَضِيَّة تَحْرِيم الْأمة الْكِتَابِيَّة، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء، وَهُوَ قَول عُلَمَاء الْكُوفَة مثل الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَجَمَاعَة. وَهَذَا فِي الْكِتَابِيَّة الذِّمِّيَّة؛ فَأَما الْحرَّة الْكِتَابِيَّة

{الْكتاب من قبلكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ محصنين غير مسافحين وَلَا متخذي أخذان وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين (5) يَا} الحربية، فعلى قَول أَكثر الْعلمَاء تحل للْمُسلمِ، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تحل، وَقُرِئَ {الْمُحْصنَات} بِكَسْر الصَّاد، وإحصان الْكِتَابِيَّة أَن تستعفف عَن الزِّنَا، وتغتسل [من] الْجَنَابَة {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} أَي: مهورهن: {محصنين غير مسافحين وَلَا متخذي أخذان} . {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله} قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ: من يكفر بِاللَّه الَّذِي يُؤمن بِهِ، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: أَرَادَ بِهِ: وَمن يكفر بِكَلِمَة الشَّهَادَة، وَقَالَ الرّبيع بن أنس: أَرَادَ بِهِ: وَمن يكفر بِالْقُرْآنِ، قَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: {وَمن يكفر بِالْإِيمَان} يَعْنِي: بتحليل الْحَرَام، وَتَحْرِيم الْحَلَال، أَي: وَمن يسْتَحل الْحَرَام، أَو يحرم الْحَلَال {فقد حَبط عمله} وَهَذَا أقرب إِلَى نظم الْآيَة فِي الإباحات، وَتَحْلِيل الْمُحرمَات، وَقَوله {فقد حَبط عمله} أَي: بَطل عمله {وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} .

6

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} يَعْنِي: إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَذَلِكَ مثل قَوْله: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} أَي: فَإِذا أردْت الْقِرَاءَة. تَقول: إِذا اتجرت فاتجر إِلَى الْبر، وَإِذا جالست، فجالس فلَانا، أَي: إِذا أردْت المجالسة. وَظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَنه يجب الْوضُوء عِنْد كل قيام إِلَى الصَّلَاة، وَلَكِن بِالسنةِ عرفنَا جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَوَات بِوضُوء وَاحِد، فَإِن رَسُول الله جمع بَين أَربع صلوَات يَوْم الخَنْدَق بِوضُوء وَاحِد وَجمع بَين خمس صلوَات يَوْم فتح مَكَّة

{أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} بِوضُوء وَاحِد، وَحكى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الْوضُوء لكل صَلَاة مَكْتُوبَة. وَقيل: هُوَ على الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ زيد بن أسلم: تَقْدِير الْآيَة: إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة من الْمضَاجِع - يَعْنِي: من النّوم - فَيكون إِيجَاب الْوضُوء بِالْحَدَثِ؛ لِأَن النّوم حدث. {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} يَعْنِي: مَعَ الْمرَافِق، قَالَ الْمبرد: إِذا مد الشَّيْء إِلَى جنسه تدخل فِيهِ الْغَايَة، وَإِذا مد إِلَى خلاف جنسه، لَا تدخل فِيهِ الْغَايَة، فَقَوله: {إِلَى الْمرَافِق} مد إِلَى جنسه، فَتدخل فِيهِ الْغَايَة. وَأما قَوْله: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} مد إِلَى خلاف جنسه، فَلَا تدخل فِيهِ الْغَايَة. والمرفق سمى بذلك؛ لارتفاق الْإِنْسَان بِهِ بالاتكاء عَلَيْهِ. {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَرَأَ نَافِع، وَابْن عَامر، وَالْكسَائِيّ، وَحَفْص: بِالنّصب؛ فَيكون تَقْدِيره: فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ وأرجلكم، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {وأرجلكم} بِالْكَسْرِ. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب غسل الرجل، فَأكْثر الْعلمَاء - وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع الْيَوْم - أَن غسل الرجل وَاجِب، ويحكى عَن عَليّ أَنه قَالَ: يجوز الْمسْح على الرجل، وَهُوَ الْوَاجِب، وَحكى خلاف عَنهُ، قَالَ الشّعبِيّ: نزل الْقُرْآن بغسلين ومسحين، وَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: يتَخَيَّر بَين الْمسْح وَالْغسْل؛ لاخْتِلَاف الْقِرَاءَة. وَالأَصَح أَنه يجب الْغسْل، وَقد دلّت السّنة عَلَيْهِ، فروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ:

{وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا وَإِن كُنْتُم} " ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار " وَرُوِيَ مَرْفُوعا: " لَا يقبل الله - تَعَالَى - صَلَاة أحدكُم حَتَّى يضع الطّهُور موَاضعه؛ فَيغسل وَجهه، ثمَّ يَدَيْهِ، ثمَّ يمسح بِرَأْسِهِ، ثمَّ يغسل رجلَيْهِ ". وَقَالَ: " مَا من رجل يتَوَضَّأ فَيغسل وَجهه إِلَّا (خرجت) خطاياه الَّتِي نظر إِلَيْهَا بِعَيْنيهِ مَعَ المَاء أَو مَعَ آخر قطر من المَاء - إِلَى أَن قَالَ -: وَإِذا غسل رجلَيْهِ، خرجت خطاياه الَّتِي مشت بهَا قدمه مَعَ المَاء، أَو مَعَ آخر قَطْرَة من المَاء "، وروى: " أَنه رأى رجلا تَوَضَّأ، وَبَقِي من رجله قدر ظفره لم يصبهُ المَاء؛ فَقَالَ: ارْجع فَأحْسن الْوضُوء " وَأمره بِالرُّجُوعِ دَلِيل وجوب. فَأَما قَوْله: {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} من قَرَأَ بِالنّصب فَهُوَ ظَاهر فِي وجوب الْغسْل، وَأما من قَرَأَ بالخفض فتقديره: فامسحوا برءوسكم، واغسلوا أَرْجُلكُم. وَيجوز أَن يعْطف الشَّيْء على الشَّيْء وَإِن كَانَ يُخَالِفهُ فِي الْفِعْل، قَالَ الشَّاعِر: (وَرَأَيْت زَوجك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا) أَي: مُتَقَلِّدًا سَيْفا، ومتنكبا رمحا، وَقَالَ آخر: (علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا ... )

{مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون (6) } أَي: وسقيتها ماءا بَارِدًا؛ فَكَذَلِك قَوْله - تَعَالَى -: {وامسحوا برءوسكم وأرجلكم} أَي: واغسلوا أَرْجُلكُم؛ إِلَّا أَنه خفض على الِاتِّبَاع والمجاورة كَمَا قَالَت الْعَرَب: " جُحر ضَب خرب "، وَنَحْو ذَلِك. وَقَالَ أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ - وَهُوَ إِمَام اللُّغَة - الْعَرَب قد تسمي الْغسْل الْخَفِيف: مسحا، تَقول الْعَرَب: تمسح يَا هَذَا، يُرِيدُونَ بِهِ: اغْتسل، فعطفه على الْمسْح لَا يَنْفِي الْغسْل؛ فَيجوز أَن يكون المُرَاد بِهَذَا الْمسْح فِي الرَّأْس حَقِيقَة الْمسْح، وَفِي الرجل الْغسْل؛ وَلِأَن غسل الرجل على الْأَغْلَب لَا يَخْلُو عَن مسح؛ [وَلذَلِك] فساغ أَن يُسمى غسلهَا: مسحا، وَقَوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} يَعْنِي: مَعَ الْكَعْبَيْنِ، كَمَا بَينا فِي الْمرَافِق، والكعبان: هما العظمان الناتئان على جَانِبي الْقدَم. {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} أَي: فاغتسلوا {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} وَقد بَينا الْكَلَام فِيهِ. {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَقَوله: مِنْهُ. دَلِيل على أَن الصَّعِيد هُوَ التُّرَاب؛ لتحَقّق الْمسْح مِنْهُ {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج} أَي: ضيق {وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون} قَالَ مُحَمَّد ابْن كَعْب الْقرظِيّ: أَرَادَ بإتمام النِّعْمَة: تَكْفِير الْخَطَايَا بِالْوضُوءِ على مَا روينَا، وَهَذَا مثل قَوْله: {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته عَلَيْك} يَعْنِي: بغفران الذَّنب، وَفِي الْوضُوء تَكْفِير الْخَطَايَا الَّتِي ارتكبها فِي الدُّنْيَا، وَنور يَوْم الْقِيَامَة قَالَ: " أمتِي غر محجلون من آثَار الْوضُوء يَوْم الْقِيَامَة؛ فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يُطِيل غرته فَلْيفْعَل ".

{واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وميثاقه الَّذِي واثقكم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سمعنَا وأطعنا وَاتَّقوا الله إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور (7) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلَا يجرمنكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى وَاتَّقوا}

7

قَوْله - تَعَالَى -: {واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وميثاقه الَّذِي واثقكم بِهِ} قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ: الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه الله - تَعَالَى على ذُرِّيَّة آدم قبل كَون الْخلق. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ الْمِيثَاق الَّذِي أَخذه رَسُول الله على كل من أسلم بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فِي الْيُسْر والعسر، والمنشط وَالْمكْره {إِذْ قُلْتُمْ سمعنَا وأطعنا وَاتَّقوا الله إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: [بِمَا] فِي الصُّدُور.

8

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا قوامين لله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} أَي: كونُوا قوامين بِالْعَدْلِ، قوالين، للصدق {وَلَا يجرمنكم} أَي: وَلَا يحملنكم {شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} .

9

قَوْله - تَعَالَى -: {وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة} قيل هَذَا فِي مَوضِع النصب، وَفعل الْوَعْد وَاقع عَلَيْهِ، وَمثله قَول الشَّاعِر: (رَأَيْت الصَّالِحين لَهُم جَزَاء ... وجنات وعينا سلسبيلا) وَمِنْهُم من قَالَ: {لَهُم مغْفرَة} : ابْتِدَاء كَلَام، أَي: لَهُم مغْفرَة موعودة، وَمَوْضِع الرّفْع ( {لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم} وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم) .

11

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم} الْهم: حَدِيث النَّفس بِالْفِعْلِ، وَيُقَال: أهم بالشَّيْء واهتم بِهِ، إِذا عَنى بِهِ. وَفِي سَبَب نزُول الْآيَة قَولَانِ: قَالَ جَابر: سَببه " أَن رَسُول الله كَانَ فِي بعض الْأَسْفَار، فَتفرق أَصْحَابه فِي الْعضَاة فِي منزل؛ فَنزل رَسُول الله تَحت شَجَرَة

{الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم (9) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (10) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعمت الله عَلَيْكُم إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم وَاتَّقوا الله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَد} مِنْهَا، وعلق سَيْفه بهَا، فجَاء أَعْرَابِي، وسل سَيْفه، وَقَامَ على رَأسه، وَقَالَ: من يمنعك مني؟ فَقَالَ: الله تَعَالَى؛ فَسقط سَيْفه وَذهب، فَنزلت الْآيَة ". وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة: نزلت الْآيَة على سَبَب آخر، وَذَلِكَ: " أَن النَّبِي كَانَ بَينه وَبَين بني قُرَيْظَة عهد على أَن يستعينوا بِهِ، وَهُوَ يَسْتَعِين بهم على الْمُشْركين؛ فجَاء يَوْمًا إِلَيْهِم ليستعين بهم فِي دِيَة الْعَامِرِيين (وَنزل) تَحت حَائِط؛ فَهموا أَن يفتكوا بِهِ، فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم - يُقَال لَهُ عَمْرو بن حجاش -: أَنا ألقِي عَلَيْهِ حجرا؛ لتستريحوا مِنْهُ؛ فَنزل جِبْرِيل وَأخْبرهُ بذلك " فَهَذَا معنى قَوْله: {إِذْ هم قوم أَن يبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم فَكف أَيْديهم عَنْكُم وَاتَّقوا الله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} .

12

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثنى عشر نَقِيبًا} النَّقِيب للْقَوْم مثل الرئيس، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: النَّقِيب: الْكَفِيل، وَقَالَ غَيره: هُوَ الْأمين، والنقيب فَوق العريف، والمنكب عون العريف، وسمى نَقِيبًا؛ للبحث والاستخراج الَّذِي يكون مِنْهُ.

{أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وبعثنا مِنْهُم اثْنَي عشر نَقِيبًا وَقَالَ الله إِنِّي مَعكُمْ لَئِن أقمتم الصَّلَاة وَآتَيْتُم الزَّكَاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ولأدخلنكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار فَمن كفر بعد} والقصة فِي ذَلِك: أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - جعل على قومه اثنى عشر نَقِيبًا على كل سبط نَقِيبًا، فروى أَنه بَعثهمْ إِلَى مَدِينَة الجبارين ليتعرفوا ويستخبروا عَن حَالهم، فَلَمَّا رجعُوا، خوفوا بني إِسْرَائِيل من قِتَالهمْ، وَقَالُوا: أَنْتُم لَا تقاومونهم، وخالفوا أَمر مُوسَى إِلَّا (رجلَانِ) مِنْهُم، أَحدهمَا: يُوشَع بن نون، وَالْآخر: كالب بن يوقنا، وَسَتَأْتِي قصتهم مشروحة. {وَقَالَ الله} تَعَالَى {إِنِّي مَعكُمْ} يَعْنِي: بالنصر {لَئِن أقمتم الصَّلَاة وَآتَيْتُم الزَّكَاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: عظمتموهم، وَقَالَ غَيره: نصرتموهم، وَالتَّعْزِير: التَّأْدِيب فِي اللُّغَة، وأصل التَّعْزِير: الْمَنْع؛ وَلذَلِك سمى التَّأْدِيب. تعزيرا؛ لِأَنَّهُ يمْنَع الْمُؤَدب عَن فعل مَا أدب عَلَيْهِ وَعَن سعد بن أبي وَقاص: أَصبَحت بَنو أَسد تعزرني على الْإِسْلَام. أَي: تؤدبني. {وأقرضتم الله قرضا حسنا} وَهُوَ إِخْرَاج الزَّكَاة، وَقَالَ زيد بن أسلم: مَعْنَاهُ النَّفَقَة على الْأَهْل، وَعَن بعض السّلف أَنه سمع رجلا يَقُول: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. {لأكفرن عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ولأدخلنكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار فَمن كفر بعد ذَلِك [مِنْكُم] فقد ضل سَوَاء السَّبِيل} أَي: أَخطَأ طَرِيق الْحق.

13

قَوْله - تَعَالَى -: {فبمَا نقضهم} " مَا " صلَة، أَي: فبنقضهم {ميثاقهم لعناهم} أبعدناهم عَن الرَّحْمَة {وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} أَي: جافة غير لينَة لَا تدْخلهَا الرَّحْمَة، وتقرأ: " قسية " قيل: مَعْنَاهُ: قاسية، فعيل بِمَعْنى فَاعل، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن قُلُوبهم لَيست بخالصة الْإِيمَان؛ عاشوا بهَا بَين الْكفْر والنفاق، وَمِنْه " الدَّرَاهِم القسية " وَهِي المغشوشة، قَالَ الشَّاعِر:

{ذَلِك مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل (12) فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه ونسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ وَلَا تزَال تطلع على خَائِنَة مِنْهُم إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم فَاعْفُ عَنْهُم وَاصْفَحْ إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ} (لَهَا صواهل فِي صم الْخَيل ... كَمَا صَاح القسية فِي كف الصَّارِف) شبه صواهل الْخَيل فِي صم الْحِجَارَة بِصَوْت الدَّرَاهِم فِي كف الصَّيْرَفِي {يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} تحريفهم الْكَلم: هُوَ تبديلهم نعت الرَّسُول، وَقيل المُرَاد بِهِ: تحريفهم بِسوء التَّأْوِيل {ونسوا حظا مَا ذكرُوا بِهِ} أَي: ونسوا نَصِيبا مِمَّا ذكرُوا بِهِ، والحظ: النَّصِيب. {وَلَا تزَال تطلع على خَائِنَة مِنْهُم} قيل الخائنة: الْخِيَانَة، فَاعل بِمَعْنى الْمصدر، مثل القائلة بِمَعْنى القيلولة، هَذَا قَول قَتَادَة، وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: فرقة خَائِنَة؛ لِأَن الْآيَة فِي الْيَهُود؛ فيستقيم هَذَا التَّقْدِير {وَلَا تزَال تطلع} على قَوْله: {خَائِنَة مِنْهُم} {إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} يَعْنِي: الَّذين أَسْلمُوا مثل: عبد الله بن سَلام، وَجَمَاعَة. {فَاعْفُ عَنْهُم وَاصْفَحْ} أَي: أعرض عَنْهُم، وَلَا تتعرض لَهُم، وَقيل: صَار هَذَا مَنْسُوخا أَيْضا بقوله: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه} فِي سُورَة التَّوْبَة {إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ} .

14

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وَمن الْيَهُود، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي النَّصَارَى خَاصَّة؛ لِأَنَّهُ قد تقدم ذكر الْيَهُود، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ - رَحمَه الله -: فِي هَذَا دَلِيل على أَنهم نَصَارَى بتسميتهم؛ لَا بِتَسْمِيَة الله - تَعَالَى - {أَخذنَا ميثاقهم فنسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ} هُوَ كَمَا بَينا فِي الْيَهُود {فأغرينا} أَي: أوقعنا {بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} والإغراء: أَصله الإلصاق، وَمِنْه الغراء،

( {13) وَمن الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخذنَا ميثاقهم فنسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ فأغيرنا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وسوف ينبئهم الله بِمَا كَانُوا يصنعون (14) يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم كثيرا مِمَّا كُنْتُم تخفون من الْكتاب وَيَعْفُو عَن كثير قد جَاءَكُم من الله نور وَكتاب مُبين (15) يهدي بِهِ} وَمَعْنَاهُ: ألصقنا بهم الْعَدَاوَة حَتَّى صَارُوا فرقا، وأحزابا، مِنْهُم اليعقوبية والملكائية، والنسطورية. {وسوف ينبئهم الله بِمَا كَانُوا يصنعون} .

15

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أهل الْكتاب} وَالْمرَاد بِهِ: أهل الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاة، وَالْإِنْجِيل، لَكِن ذكر الْكتاب، وَهُوَ اسْم الْجِنْس، فَيَنْصَرِف إِلَى الْفَرِيقَيْنِ {قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم كثيرا مِمَّا (كُنْتُم} تخفون من الْكتاب) يَعْنِي: اللَّذين أخفوا من نعت مُحَمَّد وَآيَة الرَّجْم، وَنَحْو ذَلِك {وَيَعْفُو عَن كثير} يَعْنِي: يعرض عَن كثير مِمَّا أخفوا، فَلَا يتَعَرَّض لَهُ. {قد جَاءَكُم من الله نور} قيل: هُوَ الْإِسْلَام، (وَسمي نور لِأَنَّهُ يهتدى بِهِ كَمَا يَهْتَدِي بِالنورِ، وَقيل مُحَمَّد) وَسمي نورا لِأَنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ الْأَشْيَاء، كَمَا يتَبَيَّن بِالنورِ. {وَكتاب مُبين} هُوَ الْقُرْآن.

16

قَوْله - تَعَالَى -: {يهدي بِهِ الله من اتبع رضوانه سبل السَّلَام} أَي: يهدي بِهِ الله سبل السَّلَام من اتبع رضوانه، قَالَ السّديّ: السَّلَام هُوَ الله - تَعَالَى - وسبل السَّلَام: طَرِيق الله - تَعَالَى - وَقَالَ: السَّلَام: هُوَ السَّلامَة، كاللذاذ واللذاذة بِمَعْنى وَاحِد، وَالْمرَاد بِهِ: طرق السَّلامَة. {ويخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} يَعْنِي: من الْكفْر إِلَى (الْإِسْلَام) ، وَسمي الْكفْر ظلمَة؛ لِأَنَّهُ يتحير فِي الظلمَة، [وَسمي] الْإِسْلَام نورا لما بَينا {ويهديهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} قيل: هُوَ الْإِسْلَام، وَقيل: [هُوَ] الْقُرْآن.

17

وَقَوله - تَعَالَى -: {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} قيل: هَذَا قَول اليعقوبية من النَّصَارَى، قَالُوا: إِن الْمَسِيح إِلَه، وَقيل: إِنَّهُم لما قَالُوا: الْمَسِيح ابْن

{الله من اتبع رضوانه سبل السَّلَام ويخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذْنِهِ ويهديهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (16) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم قل فَمن يملك من الله شَيْئا إِن أَرَادَ أَن يهْلك الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَأمه وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا يخلق مَا يَشَاء وَالله على كل شَيْء} الله، ابْن كل أحد يكون من جنسه، فكأنهم قَالُوا: الْمَسِيح هُوَ الله. {قل فَمن يملك من الله شَيْئا} أَي: فَمن يقدر أَن يدْفع أَمر الله ( {إِن أَرَادَ أَن يهْلك الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَأمه وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا} وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا يخلق مَا يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْمُسْتَحق للألوهية من لَهُ ملك السَّمَوَات، وَمن لَهُ هَذِه الْقُدْرَة فإياه فاعبدوا.

18

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه} يَعْنِي: أَن الله كَالْأَبِ لنا فِي الحنو، والعطف، وَنحن كالأبناء فِي الْقرب، والمنزلة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ - فِي الْيَهُود -: إِنَّهُم وجدوا فِي التَّوْرَاة: " يَا أَبنَاء أحبارى " فبدلوا، وقرءوا: " يَا أَبنَاء أبكارى "؛ فَمن ذَلِك قَالُوا: نَحن أَبنَاء الله. وأحباؤه، وَأما فِي النَّصَارَى فَإِنَّهُم حكوا عَن عِيسَى انه قَالَ: " أذهب إِلَى أبي وأبيكم "؛ فَمن ذَلِك قَالُوا: نَحن أَبنَاء الله. {قل فَلم يعذبكم بذنوبكم} يَعْنِي: أَن الْأَب لَا يعذب ابْنه، والحبيب لَا يعذب حَبِيبه، أَي: فَلم يعذبكم الله بذنوبكم، وَهُوَ على زعمكم أبوكم وحبيبكم، ثمَّ قَالَ: {بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق} أَي: آدميون من جملَة الْخلق {يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَإِلَيْهِ الْمصير} .

19

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم على فَتْرَة من الرُّسُل} أَي: على انْقِطَاع من الرُّسُل، وَاخْتلفُوا فِي زمَان الفترة، قَالَ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ: زمَان الفترة: بَين عِيسَى وَمُحَمّد، وَكَانَ سِتّمائَة سنة، وَقيل خَمْسمِائَة سنة، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ زمَان الفترة، لِأَن الرُّسُل كَانُوا بعد مُوسَى تترى من غير انْقِطَاع، وَلم يكن بعد عِيسَى رَسُول سوى مُحَمَّد {أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير} قَالَ الْكُوفِيُّونَ: مَعْنَاهُ: أَن لَا تَقولُوا: وَقَالَ البصريون مَعْنَاهُ: كَرَاهَة أَن تَقولُوا، وَهُوَ

{قدير (17) وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه قل فَلم يعذبكم بذنوبكم بل أَنْتُم بشر مِمَّن خلق يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَإِلَيْهِ الْمصير (18) يَا أهل الْكتاب قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم على فَتْرَة من الرُّسُل أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير فقد جَاءَكُم بشير ونذير وَالله على كل شَيْء قدير (19) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم} كالقولين فِي قَوْله: {يبين الله لكم أَن تضلوا} ، {فقد جَاءَكُم بشير ونذير وَالله على كل شَيْء قدير} .

20

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جعل فِيكُم أَنْبيَاء} أَي: مِنْكُم أَنْبيَاء {وجعلكم ملوكا} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي أَصْحَاب خدم وحشم، قَالَ قَتَادَة: لم يكن لمن قبلهم خدم وحشم، فَلَمَّا كَانَ لَهُم خدم كَانُوا ملوكا، قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لَا يدْخل عَلَيْكُم إِلَّا بإذنكم، وَمن لَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ ملك، وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من كَانَ لَهُ فِي بني إِسْرَائِيل خَادِم، وَامْرَأَة، ودابة، كَانَ ملكا " وروى أَن رجلا جَاءَ إِلَى عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، قَالَ: أَنا من فُقَرَاء الْمُهَاجِرين، فَقَالَ: أَلَك مسكن تأوي إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: أَلَك امْرَأَة تسكن إِلَيْهَا؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: أَنْت من الْأَغْنِيَاء. قَالَ الرجل: ولي خَادِم يخدمني، فَقَالَ: أَنْت من الْمُلُوك. وَقَالَ السّديّ - فِي الْمُتَقَدِّمين - مَعْنَاهُ: وجعلكم ملوكا تَمْلِكُونَ أَمر أَنفسكُم، وخلصكم من استعباد فِرْعَوْن. وَقَالَ المؤرج: أَرَادَ بِهِ: وجعلكم أخيارا، والملوك: الأخيار بلغَة هُذَيْل وكنانة. {وآتاكم مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين} يَعْنِي: من الْمَنّ والسلوى، وانفجار الْحجر وتظليل الْغَمَام، وَنَحْو ذَلِك.

{اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جعل فِيكُم أَنْبيَاء وجعلكم ملوكا وآتاكم مَا لم يُؤْت أحدا من الْعَالمين (20) يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم وَلَا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين}

21

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم} قيل: هِيَ دمشق، وفلسطين وَبَعض الْأُرْدُن، وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ جَمِيع الشَّام، وَقيل: هِيَ بَيت الْمُقَدّس، وَأَرْض الطّور. وَقَوله {كتب الله لكم} أَي: وهب الله لكم، وَقيل: فرض الله لكم أَن تدخلوها {وَلَا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين}

22

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين} الْجَبَّار: هُوَ كل عَاتٍ يجْبر النَّاس على مُرَاده، وَالله - تَعَالَى - جَبَّار، يجْبر الْخلق على مُرَاده، وَذَلِكَ مِنْهُ حق وَله مدح، وَأما الجبروت لِلْخلقِ ذمّ، وأصل الْجَبَّار: المتعظم الْمُمْتَنع عَن الذل والقهر، وَمِنْه يُقَال: نَخْلَة جبارَة إِذا كَانَت طَوِيلَة ممتنعة على وُصُول الْأَيْدِي إِلَيْهَا، وسمى أُولَئِكَ الْقَوْم جبارين؛ لطولهم، وامتناعهم بِقُوَّة أَجْسَادهم، والقصة فِي ذَلِك: أَن هَؤُلَاءِ كَانُوا فِي مَدِينَة " أرِيحَا " بِالشَّام، وَكَانَ فِيهَا ألف قَرْيَة فِي كل قَرْيَة، ألف بُسْتَان، وَكَانَ فِيهَا العمالقة، وَبَقِيَّة من قوم عَاد وَهِي مَدِينَة الجبارين. روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ قد بعث أُولَئِكَ النُّقَبَاء، وهم اثْنَا عشر نَقِيبًا إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَة؛ ليتعرفوا أَحْوَالهم، فَلَمَّا وصلوا إِلَيْهَا لَقِيَهُمْ رجل مِنْهُم، فَأَخذهُم جملَة فِي كمه وأتى بهم إِلَى الْملك، ونثرهم بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذين جَاءُوا ليقاتلونا؛ فَقَالَ الْملك: ارْجعُوا وأخبروهم بِمَا لَقِيتُم، فَرَجَعُوا. وَفِي بعض التفاسير: أَنهم أخذُوا عنقودا من الْعِنَب، وجعلوه على عَمُود بَين رجلَيْنِ حَتَّى قدرُوا على حمله، وَأخذُوا رمانتين، وحملوهما على دَابَّة كَادَت تعجز عَن حملهما فَلَمَّا رجعُوا إِلَى بني إِسْرَائِيل خوفوهم، وَقَالُوا: إِنَّكُم لَا تقاومونهم إِلَّا رجلَيْنِ مِنْهُم: يُوشَع بن نون وكالب بن يوقنا، وذكرهما فِي الْآيَة الْأُخْرَى، وَأما الْبَاقُونَ من بني إِسْرَائِيل خالفوا وامتنعوا من قِتَالهمْ، وَقَالُوا: يَا مُوسَى إِن فِيهَا قوما جبارين {وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَإِن يخرجُوا مِنْهَا فَإنَّا داخلون} .

{وَإِنَّا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَإِن يخرجُوا مِنْهَا فَإنَّا داخلون (22) قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ أنعم الله عَلَيْهِمَا ادخُلُوا عَلَيْهِم الْبَاب فَإِذا دخلتموه فَإِنَّكُم غالبون}

23

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ أنعم الله عَلَيْهِمَا} هما يُوشَع وكالب (قَالَا) : {ادخُلُوا عَلَيْهِم الْبَاب فَإِذا دخلتموه فَإِنَّكُم غالبون} وَذَلِكَ بَاب كَانُوا عرفُوا أَنهم إِذا دخلُوا من ذَلِك الْبَاب غلبوا، (وَيقْرَأ) فِي الشواذ: " قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ " - ضم الْيَاء - فَيكون مَعْنَاهُ: رجلَانِ من أُولَئِكَ العمالقة، قيل: أسلم رجلَانِ مِنْهُم، وَقَالا هَذِه الْمقَالة {وعَلى الله فتوكلوا إِن كُنْتُم مُؤمنين} .

24

قَوْله - تَعَالَى - {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا فِيهَا} وَهَذَا مَعْلُوم {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} قَالَ الْحسن: كفرُوا بِهَذِهِ الْمقَالة، وَقَالَ غَيره: بل فسقوا بمخالفة أمره، وَتَقْدِير قَوْله: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} أَي: فَاذْهَبْ أَنْت، وليعنك رَبك على الْقِتَال، وَفِيه قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك} أَي: وكبيرك، وَأَرَادُوا أَخَاهُ الْأَكْبَر هَارُون، وَالْعرب تسمي الْكَبِير رَبًّا، قَالَ الله - تَعَالَى - فِي قصَّة يُوسُف: {إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي} أَي: كبيري وَأَرَادَ بِهِ " عَزِيز مصر " وَيحْتَمل أَنهم قَالُوا ذَلِك لمُوسَى؛ جهلا وغباوة، ففسقوا بِهِ، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي " أَنه لما خرج يَوْم بدر، قَالَ لَهُ الْمِقْدَاد بن عَمْرو: لَا نقُول لَك مَا قَالَت بَنو إِسْرَائِيل لمُوسَى: اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِن نقُول: سر أَنْت حَيْثُ شِئْت [فَإنَّا] مَعَك سائرون " وروى: " أَن الْأَنْصَار قَالُوا يَا رَسُول الله: لَو ضربت بأكبادها إِلَى برك الغماد سرنا مَعَك " يَعْنِي: بأكباد الْإِبِل إِلَى برك الغماد، وَهُوَ مَوضِع.

25

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي} مَعْنَاهُ: لَا أملك إِلَّا

{وعَلى الله فتوكلوا إِن كُنْتُم مُؤمنين (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رب إِنِّي لَا أملك إِلَّا نَفسِي وَأخي فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين (25) } نَفسِي، وَأخي لَا يملك إِلَّا نَفسه، وَقيل مَعْنَاهُ: لَا تطيعني إِلَّا نَفسِي، وَلَا يطيعني إِلَّا أخي {فافرق بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين} أَي: فافصل بَيْننَا، و (قيل) مَعْنَاهُ: فَاقْض بَيْننَا وَبَين الْقَوْم الْفَاسِقين.

26

قَوْله - تَعَالَى - {قَالَ فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم} قيل هَا هُنَا تمّ الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: أَن الأَرْض المقدسة مُحرمَة عَلَيْهِم أبدا، وَلم يرد بِهِ: تَحْرِيم تعبد، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: تَحْرِيم منع، فَإِنَّهُم منعُوا عَنْهَا، فَلم يدخلوها أبدا، وَإِنَّمَا دَخلهَا أَوْلَادهم، وَقيل الْآيَة مُتَّصِلَة بَعْضهَا بِالْبَعْضِ. وَإِنَّمَا حرمت عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة كَمَا قَالَ: {فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة} (يتيهون فِي الأَرْض) وَقد أوقفهم الله - تَعَالَى - فِي التيه؛ عُقُوبَة لَهُم على مَا خالفوا، وَقيل: إِن أَرض التيه الَّتِي تاه فِيهَا بَنو إِسْرَائِيل كَانَت: سِتَّة فراسخ فِي طول اثنى عشر فرسخا، وَكَانَ عدد التائهين فِيهَا: سِتّمائَة ألف، قَامُوا فِيهَا، وَكَانُوا كلما أَمْسوا من مَوضِع للمسير، فَإِذا أَصْبحُوا (أَصْبحُوا) على ذَلِك الْموضع، وَكلما أَصْبحُوا من مَوضِع للمسير، فَإِذا أَمْسوا أَمْسوا على ذَلِك الْموضع، وَهَكَذَا كل يَوْم إِلَى أَن مَاتُوا فِيهَا، وَقيل: كَانَ مُوسَى وَهَارُون فيهم، وَإِنَّمَا توفيا فِي التيه، وَقيل: لم يَكُونَا فيهم، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك عُقُوبَة عَلَيْهِم، فَلَمَّا مَاتُوا فِي التيه وَنَشَأ أَوْلَادهم، أقبل يُوشَع بن نون بأولادهم إِلَى الأَرْض المقدسة، وَحَارب العمالقة وَنَصره الله تَعَالَى عَلَيْهِم حَتَّى فتح تِلْكَ الْمَدِينَة، وَكَانَ يَوْم الْجُمُعَة وضاق النَّهَار بهم فحبس الله - تَعَالَى - الشَّمْس سَاعَة حَتَّى فتح الْمَدِينَة ثمَّ غربت الشَّمْس من لَيْلَة السبت، إِذْ مَا كَانَ يجوز لَهُم عمل فِي السبت؛ فَفَزعَ الله قُلُوبهم يَوْم الْجُمُعَة؛ فَهَذَا جملَة الْكَلَام فِي قَوْله: ( {أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض} فَلَا تأس) أَي فَلَا تحزن {على الْقَوْم الْفَاسِقين} .

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحرمَة عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سنة يتيهون فِي الأَرْض فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين (26) واتل عَلَيْهِم نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قربانا فَتقبل من أَحدهمَا وَلم يتَقَبَّل من}

27

قَوْله - تَعَالَى -: {واتل عَلَيْهِم نبأ ابْني آدم بِالْحَقِّ إِذْ قربا قربانا} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَمُجاهد: أَرَادَ بِهِ ابنى آدم من صلبه هابيل، وقابيل، وَقَالَ الْحسن: أَرَادَ بِهِ رجلَيْنِ من بني إِسْرَائِيل، وَالأَصَح هُوَ الأول. والقصة فِي ذَلِك: قيل: إِن حَوَّاء كَانَت تَلد كل بطن غُلَاما وَجَارِيَة، فَولدت بَطنا هابيل وَأُخْته، وَولدت بَطنا قابيل وَأُخْته، فَأمر الله - تَعَالَى - آدم أَن يُزَوّج أُخْت هابيل من قابيل، وَأُخْت قابيل من هابيل، وَلم يرض قابيل، (وَقَالَ) : أَنا أَحَق بأختي، وَكَانَت أحسن من أُخْت هابيل، وَفِي بعض التفاسير: أَن قابيل قَالَ: أَنا أَحَق بأختي؛ لِأَنِّي من نسل الْجنَّة، وهابيل من نسل الأَرْض، وَقيل: إِن حَوَّاء علقت بِهِ فِي الْجنَّة؛ فَمن ذَلِك قَالَ: إِنِّي من نسل الْجنَّة، فَأَمرهمَا آدم أَن يقربا قربانا، فَكل من يقبل قربانه فَهُوَ أولى بِتِلْكَ الْأُخْت. وَكَانَ هابيل صَاحب غنم، وقابيل صَاحب زرع، فَعمد هابيل إِلَى كَبْش من أحسن غنمه، وَعمد قابيل إِلَى أَخبث زرعه، ووضعاه موضعا، فَجَاءَت النَّار، وأكلت قرْبَان هابيل، وَكَانَ ذَلِك عَلامَة الْقبُول يَوْمئِذٍ، وَلم تَأْكُل قرْبَان قابيل؛ (فَهَذَا) معنى قَوْله: {إِذْ قربا قربانا فَتقبل من أَحدهمَا} يَعْنِي هابيل {وَلم يتَقَبَّل من الآخر} يَعْنِي: قابيل {قَالَ لأَقْتُلَنك} حسده قابيل، وقصده ليَقْتُلهُ؛ فَأجَاب هابيل، وَقَالَ: {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} عَن الْمعاصِي، وَعَن أبي الدَّرْدَاء أَنه [قَالَ] : " لِأَن أعلم [أَن] الله - تَعَالَى - قبل صَلَاة من صَلَاتي أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؛ لِأَن الله - تَعَالَى - يَقُول: {إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ} قَالَ قَتَادَة: المتقون: أهل لَا إِلَه إِلَّا الله.

{الآخر قَالَ لأَقْتُلَنك قَالَ إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين (28) إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي}

28

قَوْله - تَعَالَى -: {لَئِن بسطت إِلَيّ يدك لتقتلني مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك لأقتلك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين} قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: كَانَ [من شرع آدم أَن] : من قصد بِالْقَتْلِ؛ فَوَاجِب عَلَيْهِ الْكَفّ عَن الدّفع، وَالصَّبْر على الْأَذَى، وَكَذَا كَانَ فِي شرع نَبينَا فِي الِابْتِدَاء، فَأَما قَوْله: {مَا أَنا بباسط يَدي إِلَيْك} يَعْنِي: بِالدفع. وَقيل: لم يكن ذَلِك شرعا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ استسلاما للْقَتْل؛ وطلبا لِلْأجرِ، وَهَذَا جَائِز لكل من يقْصد قَتله، أَن يستسلم وينقاد، وَكَذَا فعل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بِهِ: لَئِن ابتدأت بقتلي مَا أَنا بمبتدئ بقتلك، وَالصَّحِيح [آخر] الْقَوْلَيْنِ.

29

قَوْله - تَعَالَى -: {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن مَسْعُود: مَعْنَاهُ: أَن ترجع بإثم قَتْلِي وإثم مَعَاصِيك الَّتِي سبقت، فَإِن قابيل كَانَ رجل سوء، وَقيل: كَانَ كَافِرًا، وَقيل: هُوَ أحد اللَّذين ذكرهمَا الله - تَعَالَى - فِي " حم السَّجْدَة ": {وَقَالَ الَّذين كفرُوا رَبنَا أرنا اللَّذين أضلانا من الْجِنّ وَالْإِنْس} فَالَّذِي من الْجِنّ إِبْلِيس، وَالَّذِي من الْإِنْس قابيل، وَقَالَ مُجَاهِد: معنى قَوْله: {أَن تبوء بإثمي وإثمك} : أَن ترجع بإثم قَتْلِي، وإثم معصيتك الَّتِي لم يتَقَبَّل لأَجلهَا قربانك، أَو إِثْم حسدك إيَّايَ، وَهَذَا اخْتِيَار الزّجاج، وَقَالَ ابْن كيسَان: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ على طَرِيق التَّمْثِيل، يَعْنِي: لَو قتلت أَنا كَانَ عليّ الْإِثْم، وَلَو قتلت أَنْت كَانَ عَلَيْك الْإِثْم، فَأَنا لَا أقتل حَتَّى تقتل أَنْت؛ فتبوء بالإثمين، فَيكون كلا الإثمين عَلَيْك، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك، وَإِرَادَة الْقَتْل وَالْمَعْصِيَة لَا تجوز؟ أجابوا عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: قَالُوا: لَيْسَ ذَلِك بِحَقِيقَة إِرَادَة، وَلكنه لما علم أَنه يقْتله لَا محَالة، ووطن نَفسه على الاستسلام؛ طلبا للثَّواب،

{وإثمك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين (29) فطوعت لَهُ نَفسه قتل أَخِيه فَقتله فَأصْبح من الخاسرين (30) فَبعث الله غرابا يبْحَث فِي الأَرْض ليريه كَيفَ} فَكَأَنَّهُ مُرِيد لقَتله مجَازًا وَإِن لم يكن مرِيدا حَقِيقَة، وَقيل مَعْنَاهُ: إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بعقاب قَتْلِي، وعقاب قَتلك؛ فَتكون إِرَادَة على مُوَافقَة حكم الله - تَعَالَى - فِيهِ، وَلَا تكون إِرَادَة للْقَتْل بل لموجب الْقَتْل من الْإِثْم وَالْعِقَاب، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وإثمك؛ فَكَأَنَّهُ كَانَ يمنعهُ عَن الْقَتْل، وَأَرَادَ ترك الْقَتْل؛ كَيْلا يبوء بالإثم.

30

قَوْله - تَعَالَى -: {فطوعت لَهُ نَفسه قتل أَخِيه} قَالَ مُجَاهِد: فشجعت لَهُ نَفسه، وَقَالَ قَتَادَة: زينت لَهُ نَفسه، وَقيل: سهلت، وانقادت لَهُ نَفسه، وَمِنْه يُقَال: ظَبْيَة أطاعت لَهَا أصُول الشَّجَرَة، أَي: انقادت لأكلها. (فَقتله فَأصْبح من الخاسرين) أَي: خسر بقتْله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، أما الدُّنْيَا: لِأَنَّهُ أَسخط وَالِديهِ، وَبَقِي بِلَا أَخ، وَأما الْآخِرَة: لِأَنَّهُ أَسخط ربه، واستوجب النَّار. والقصة فِي قَتله إِيَّاه: أَنه لما أَرَادَ قَتله لم يعرف كَيفَ يقْتله، فجَاء إِبْلِيس بِحجر، وَقَالَ: اشدخ بِهِ رَأسه، فَفِي رِوَايَة أَنه رَمَاه بذلك الْحجر، وَهُوَ مستسلم لَهُ؛ فشدخ رَأسه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: اغتاله فِي النّوم، وشدخ رَأسه؛ فَقتله، وشربت الأَرْض دَمه فَلَمَّا جَاءَ إِلَى آدم، قَالَ لَهُ: أَيْن هابيل؟ فَقَالَ: أجعلتني رقيبا عَلَيْهِ، مَا أَدْرِي! قَالَ لَهُ آدم: إِن الأَرْض تصرخ بدمه إِلَيّ، ثمَّ لعن الأَرْض الَّتِي شربت دَمه، فَلَا تشرب الأَرْض بعد ذَلِك دَمًا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَبكى آدم عَلَيْهِ كثيرا، وَأَنْشَأَ يَقُول: (تَغَيَّرت الْبِلَاد وَمن عَلَيْهَا ... وَوجه الأَرْض مغبر قَبِيح) (تغير كل ذِي لون وَطعم ... وَقل بشاشة الْوَجْه الْمليح) وَهَذَا أول قتل جرى فِي بني آدم، وَفِي الْخَبَر " مَا من رجل يقتل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؛ إِلَّا وعَلى ابْن آدم كفل مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ أول من سنّ الْقَتْل ".

{يواري سوءة أَخِيه قَالَ يَا ويلتي أعجزت أَن أكون مثل هَذَا الْغُرَاب فأواري سوءة أخي فَأصْبح من النادمين (31) من أجل ذَلِك كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر}

31

قَوْله - تَعَالَى -: {فَبعث الله غرابا يبْحَث فِي الأَرْض} فِي الْقَصَص: أَن قابيل لما (قَتله رَجَعَ إِلَيْهِ) ، وَأَخذه، وَجعله فِي جراب وَحمله على عَاتِقه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس، سنة كَامِلَة، قَالَ مُجَاهِد: مائَة سنة حَتَّى أنتن على عَاتِقه، وَمَا كَانَ يعرف مواراته: فَبعث الله غرابين فاقتتلا، [فَقتل] أَحدهمَا الآخر، ثمَّ إِن الْقَاتِل مِنْهُمَا بحث فِي الأَرْض ليواري الثَّانِي، وَقيل: كَانَ ملكا على صُورَة غراب {يبْحَث فِي الأَرْض ليريه كَيفَ يواري سوأة أَخِيه} أَي: جيفة أَخِيه، وَقيل: عَورَة أَخِيه؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد سلبه ثِيَابه. {قَالَ يَا ويلتي} وَهَذِه كلمة دُعَاء الْهَلَاك {أعجزت أَن أكون} أضعفت أَن أكون {مثل هَذَا الْغُرَاب فأواري سوأة أخي فَأصْبح من النادمين} فَإِن قَالَ قَائِل: هَل كَانَ ندمه على الْقَتْل تَوْبَة مِنْهُ؟ قيل: لم يكن نَدم على الْقَتْل، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنه أصبح من النادمين على حمله على عَاتِقه، (والتطواف) بِهِ؛ لما (لحقه) من التَّعَب فِيهِ، وَقيل: إِنَّمَا نَدم لقلَّة النَّفْع بقتْله؛ فَإِنَّهُ أَسخط وَالِديهِ، وَمَا نفع بقتْله شَيْئا؛ فندم على ذَلِك، لَا أَنه نَدم على الْقَتْل، وَفِي الْقِصَّة أَنه لما قَتله استوحش من النَّاس، وَكَانَ كلما لَقِي إنْسَانا ظن أَنه يَأْتِي ليَقْتُلهُ فهرب مِنْهُ، وَكَانَ هَكَذَا أبدا حَتَّى قَتله بعض أَوْلَاده.

32

قَوْله - تَعَالَى -: {من أجل ذَلِك} أَي: من خِيَانَة ذَلِك {كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض} قَرَأَ الْحسن: " أَو فَسَاد فِي الأَرْض " تَقْدِيره بِغَيْر نفس، وَبِغير أَن عمل فَسَادًا فِي الأَرْض، وَالْمَعْرُوف: أَو فَسَاد فِي الأَرْض، وَتَقْدِيره: بِغَيْر نفس، وَبِغير فَسَاد فِي الأَرْض: من كفر، أَو زنا، وَنَحْوه،

{نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثمَّ إِن كثيرا مِنْهُم بعد ذَلِك فِي الأَرْض لمسرفون (32) إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو} يُوجب إِبَاحَة قَتله على مَا قَالَه: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث كفر بعد إِيمَان أَو زنا بعد إِحْصَان أَو قتل نفس بِغَيْر نفس ". {فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: من قتل نفسا بِغَيْر نفس فقد أوبق نَفسه كَمَا إِذا قتل النَّاس جَمِيعًا؛ (فقد أوبق نَفسه) {وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا} أَي: وَمن امْتنع عَن قتل وَاحِد من النَّاس؛ فَيكون كَأَنَّهُ أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا، وَقَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ من قتل نفسا فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا من الْإِثْم، وَمن أَحْيَاهَا، أَي: تعفف وَامْتنع عَن قَتلهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا فِي الثَّوَاب، وَقيل: مَعْنَاهُ: من قتل نفسا، فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا على معنى أَن جَمِيع النَّاس خصماؤه فِيهِ، وَمن أَحْيَاهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاس جَمِيعًا، على معنى أَنهم يشكرونه، ويحمدونه على الْعَفو، أَو ترك الْقَتْل. {وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ ثمَّ إِن كثيرا مِنْهُم بعد ذَلِك فِي الأَرْض لمسرفون} .

33

قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض} . قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين، كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي عهد، فنقضوا الْعَهْد، وَسعوا فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ، وَقَالَ أنس: " الْآيَة فِي رَهْط من عرينة، أَتَوا النَّبِي ووجوههم مصفرة، وبطونهم منتفخة؛ فبعثهم رَسُول الله إِلَى إبل الصَّدَقَة؛ ليشربوا من أبوالها، وَأَلْبَانهَا، فَفَعَلُوا فَلَمَّا صحوا، قتلوا الرَّاعِي، وَاسْتَاقُوا الذود؛ فَبعث سَوَّلَ الله فِي طَلَبهمْ، فأدركوهم، فَأتي بهم إِلَى النَّبِي، فَقتل بَعضهم (وَقطع) بَعضهم من خلاف وسمل أعين بَعضهم، وتركهم فِي الْحرَّة حَتَّى

{تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم (33) إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم فاعلموا أَن الله} مَاتُوا " وَفِيهِمْ نزلت الْآيَة {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} . قيل: مَعْنَاهُ يُحَاربُونَ أَوْلِيَاء الله، وَقيل: هُوَ صَحِيح فِي الْعَرَبيَّة، فَإِن من عصى غَيره فقد حاربه، فَهَؤُلَاءِ إِذا عصوا الله وَرَسُوله، فكأنهم حَاربُوا الله وَرَسُوله، وَيدخل فِي جُمْلَتهمْ كل العاصين، وقطاع الطَّرِيق، وَغَيرهم. وَقَوله: {أَن يقتلُوا أَو يصلبوا أَو تقطع أَيْديهم} اخْتلفُوا فِيهِ، أَنه على التَّرْتِيب، أم على التَّخْيِير؟ قَالَ ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول الْحسن، وَقَتَادَة، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَمُجاهد -: إِنَّهَا على التَّخْيِير، فَيُخَير الإِمَام فِي فعل هَذِه الْأَشْيَاء. القَوْل الثَّانِي: - وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد -: إِنَّه على التَّرْتِيب، فَإِن قتلوا: قتلوا وصلبوا، وَإِن أخذُوا المَال: قطعُوا من خلاف، وَإِن جمعُوا بَين الْأَخْذ وَالْقَتْل: قطعُوا، وَقتلُوا، إِن أخافوا السَّبِيل وَلم يَأْخُذُوا المَال وَلم يقتلُوا: ينفوا من الأَرْض. ثمَّ اخْتلفُوا فِي النَّفْي، قَالَ الزُّهْرِيّ: إِن الإِمَام يَطْلُبهُ فِي كل بلد يُؤْخَذ، وينفى عَنهُ، وَهَكَذَا فِي كل بلد يذكر بِهِ، يطْلب؛ فينفى عَنهُ، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: إِنَّه ينفى من جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام، وَقَالَ أهل الْكُوفَة: النَّفْي من الأَرْض هُوَ الْحَبْس، وَالْحَبْس نفي من الأَرْض، قَالَ الشَّاعِر يصف قوما محبوسين: (خرجنَا من الدُّنْيَا وَنحن من أَهلهَا ... فلسنا من الْأَحْيَاء فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى) (إِذا جَاءَنَا السجان يَوْمًا لحَاجَة ... عجبنا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا من الدُّنْيَا) {ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا} أَي: فضيحة: ونكال ( {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم}

34

إِلَّا الَّذين تَابُوا من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم) قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: إِلَّا

{غَفُور رَحِيم (34) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وابتغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة وَجَاهدُوا فِي سَبيله لَعَلَّكُمْ تفلحون (35) إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه ليفتدوا} الَّذين أَسْلمُوا؛ لِأَنَّهُ حمل الْآيَة الأولى على الْمُشْركين، وَقيل: هُوَ على حَقِيقَة التَّوْبَة، فَإِذا تَابَ قطاع الطَّرِيق قبل الظفر بهم؛ أَمنهم الإِمَام، وَهَذَا محكي عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ أَمن [حَارِثَة] بن بدر لما قطع الطَّرِيق، ثمَّ تَابَ قبل قدرته عَلَيْهِ، وَقيل: إِنَّمَا تَنْفَعهُ التَّوْبَة من حُقُوق الله - تَعَالَى - فَأَما حق الْآدَمِيّ: من الْقود، وَالْمَال فَلَا يسْقط بِالتَّوْبَةِ، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي. وَقَوله {من قبل أَن تقدروا عَلَيْهِم} خطاب للأئمة، أَي: من قبل الظفر بهم {فاعلموا أَن الله غَفُور رَحِيم} .

35

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وابتغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة} الْوَسِيلَة: الْقرْبَة، وَقيل: هُوَ معنى مَا ورد فِي الْخَبَر " الْوَسِيلَة: دَرَجَة فِي الْجنَّة لَيْسَ فَوْقهَا دَرَجَة " وَقَالَ زيد بن أسلم: أَرَادَ بِهِ تحببوا إِلَى الله - تَعَالَى - فالوسيلة بِمَعْنى الْمحبَّة. {وَجَاهدُوا فِي سَبيله لَعَلَّكُمْ تفلحون} .

36

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين كفرُوا لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه ليفتدوا بِهِ} أَي: لَو كَانُوا مفتدين بِهِ من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة {مَا تقبل مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} وَفِي الْخَبَر: " يَقُول الله - تَعَالَى - للْكَافِرِ يَوْم الْقِيَامَة: لَو كَانَ لَك ملْء الأَرْض ذَهَبا أَكنت مفتديا بِهِ الْيَوْم؟ فَيَقُول بلَى يَا رب، فَيَقُول الله - تَعَالَى - سُئِلت أَهْون من هَذَا ".

{بِهِ من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة مَا تقبل مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (36) يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم (37) وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم (38) فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح}

37

قَوْله - تَعَالَى -: {يُرِيدُونَ أَن يخرجُوا من النَّار وَمَا هم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُم عَذَاب مُقيم} فَإِن قيل: إِذا لم يَكُونُوا خَارِجين مِنْهَا، كَيفَ يُرِيدُونَ الْخُرُوج؟ قيل: يُرِيدُونَ ذَلِك جهلا؛ ظنا أَنهم يخرجُون. وَقيل: يتمنون ذَلِك، فَهِيَ إِرَادَة بِمَعْنى التَّمَنِّي، وَلَيْسَ بِحَقِيقَة الْإِرَادَة.

38

قَوْله - تَعَالَى -: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود: فَاقْطَعُوا أيمانهما، وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ {أَيْدِيهِمَا} وَالْمَذْكُور اثْنَان، وَلم يقل: يديهما؟ قيل: لم يرد بِهِ سَارِقا وَاحِدًا، أَو سارقة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا ذكر الْجِنْس؛ فَلذَلِك ذكر الْأَيْدِي. قَالَ الْفراء، والزجاج: كل مَا يوحد فِي الْإِنْسَان، فَإِذا ذكر مِنْهُ اثْنَان يجمع؛ يَقُول الله - تَعَالَى - {فقد صغت قُلُوبكُمَا} وَتقول الْعَرَب: مَلَأت ظهورهما وبطونهما ضربا، وَلكُل وَاحِد ظهر وبطن وَاحِد، فَكَذَلِك الْيَمين للْإنْسَان وَاحِدَة؛ فَيجمع عِنْد التَّثْنِيَة، فَإِن قيل: قد أَمر هُنَا بِقطع آلَة السّرقَة، وَلم يَأْمر فِي الزِّنَا بِقطع آلَة الزِّنَا، فَمَا الْحِكْمَة فِيهِ؟ قيل: كِلَاهُمَا ثَبت شرعا، غير مَعْقُول الْمَعْنى. وَقيل: الْحِكْمَة فِيهِ: أَن من قطع الذّكر قطع النَّسْل، وَلَيْسَ ذَلِك فِي قطع الْيَد؛ أَو لِأَن الْيَد إِذا قطعت، وانزجر عَن السّرقَة، تبقى لَهُ الْيَسَار؛ عوضا عَن الْيَمين، وَأما الذّكر إِذا قطع، وَحصل الانزجار، لَا يبْقى لَهُ عوض عَن الذّكر [فَلذَلِك] افْتَرقَا {جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله} النكال: كل عُقُوبَة تمنع الْإِنْسَان عَن فعل مَا عُوقِبَ عَلَيْهِ {وَالله عَزِيز حَكِيم} وَمَعْنَاهُ: مقتدر على معاقبة الْخلق، {حَكِيم} فِيمَا أوجب من الْعقُوبَة، وَحكى عَن الْأَصْمَعِي أَنه [قَالَ] : قد كنت أَقرَأ هَذِه الْآيَة وبجنبي أَعْرَابِي، فَقَرَأت: نكالا من الله وَالله غَفُور رَحِيم؛ فَقَالَ الْأَعرَابِي: هَذَا كَلَام من؟ فَقلت: كَلَام الله، فَقَالَ الْأَعرَابِي: لَيْسَ هَذَا من كَلَام الله.

{فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم (39) ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير (40) يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن} فتنبهت وقرأت {نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} فَقَالَ الْأَعرَابِي: هَذَا كَلَام الله، ثمَّ سَأَلته عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِن الله لَا يذكر الْعقُوبَة على العَبْد ثمَّ يَقُول: " وَالله غَفُور رَحِيم "، وَإِنَّمَا يَلِيق بِذكر الْعقُوبَة: الْعَزِيز الْحَكِيم.

39

قَوْله - تَعَالَى -: (فَمن تَابَ من بعد ظلمه وَأصْلح فَإِن الله يَتُوب عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم) قَالَ مُجَاهِد: قطع السَّارِق تَوْبَته، فَإِذا قطع، فقد حصلت التَّوْبَة، وَالصَّحِيح: أَن الْقطع للجزاء على الْجِنَايَة، كَمَا قَالَ: {جَزَاء بِمَا كسبا} فَلَا بُد من التَّوْبَة بعده، وتوبته: النَّدَم على مَا مضى، والعزم على تَركه فِي الْمُسْتَقْبل.

40

قَوْله - تَعَالَى -: {ألم تعلم أَن الله لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض} الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد بِهِ الْجَمِيع، وَقيل (مَعْنَاهُ) : ألم تعلم أَيهَا الْإِنْسَان؛ فَيكون خطابا لكل وَاحِد من النَّاس. {يعذب من يَشَاء وَيغْفر لمن يَشَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: يعذب من يَشَاء على الصَّغِيرَة، وَيغْفر لمن يَشَاء الْكَبِيرَة، وَقَالَ غَيره: يعذب من يَشَاء: من مَاتَ مصرا، وَيغْفر لمن يَشَاء: من مَاتَ تَائِبًا {وَالله على كل شَيْء قدير} .

41

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الرَّسُول لَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} أَي: لَا يحزنك مسارعتهم فِي الْكفْر؛ فَإِن قيل: كَيفَ لَا يحزنهُ كفرهم، وَالْإِنْسَان يحزن على كفر الْغَيْر ومعصيته؛ شَفَقَة على الدّين؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَا يحزنك فعل الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر، على (معنى: أَن) فعلهم لَا يَضرك. {من الَّذين قَالُوا آمنا بأفواههم وَلم تؤمن قُلُوبهم} يَعْنِي: الْمُنَافِقين. {وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب} يَعْنِي: الْيَهُود {سماعون للكذب} أَي: وهم سماعون للكذب، أَي: قَائِلُونَ للكذب، كَقَوْل الْمُصَلِّي: سمع الله لمن حَمده. أَي: قبل الله لمن حَمده. وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: سماعون لأجل الْكَذِب؛ فَإِنَّهُم كَانُوا

{قُلُوبهم وَمن الَّذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه يَقُولُونَ إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا وَمن يرد} يسمعُونَ من الرَّسُول، وَيخرجُونَ، ويكذبون {سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك} أَي: جواسيس لقوم آخَرين لم يأتوك، وهم أهل خَيْبَر، يصف الْمُنَافِقين وَالْيَهُود، وَأما المُنَافِقُونَ: كَانُوا جواسيس الْيَهُود، وَأما الْيَهُود كَانُوا جواسيس لأهل خَيْبَر، وَسُئِلَ سُفْيَان: هَل فِي الْقُرْآن للجاسوس ذكر؟ فَقَالَ: (بلَى) وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة. {يحرفُونَ الْكَلم من بعد موَاضعه} أَي: من بعد مَا وَضعه الله موَاضعه، وتحريفهم الْكَلم: هُوَ كتمان آيَة الرَّجْم. {وَيَقُولُونَ إِن أويتم هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا} . سَبَب نزُول الْآيَة [هَذِه] : أَن يهوديين زَنَيَا من أَشْرَاف الْيَهُود، فكرهوا رجمهما؛ فَقَالُوا: نبعث إِلَى مُحَمَّد نَسْأَلهُ، فَإِن أفتى بِالْجلدِ وتحميم الْوَجْه، نَأْخُذ بِهِ، وَإِن أفتى بِغَيْرِهِ، لَا نَأْخُذ بِهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: {إِن أُوتِيتُمْ هَذَا} يَعْنِي: مَا توافقوا عَلَيْهِ من الْجلد وَالتَّحْمِيم {فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا} أَي: إِن أفتى بِالرَّجمِ فَلَا تَأْخُذُوا بِهِ، وَقيل: " إِن هَذَا كَانَ فِي يهود خَيْبَر، فبعثوا إِلَى يهود الْمَدِينَة حَتَّى يسألوه، فسألوا رَسُول الله، فَأفْتى بِالرَّجمِ " وَتَمام الْقِصَّة: " أَنه - عَلَيْهِ السَّلَام - دَعَا ابْن صوريا الْأَعْوَر، وَقَالَ: أنْشدك بِاللَّه الَّذِي أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى، مَا حد الزِّنَا فِي كتابكُمْ؟ فَقَالَ: أما إِنَّك إِذا أنشدتني بِاللَّه، فحد الزِّنَا فِي كتَابنَا: الرَّجْم، لَكِن كثر الزِّنَا فِي أشرافنا؛ فَكُنَّا إِذا زنى الشريف منا تَرَكْنَاهُ، وَإِذا زنا الوضيع رجمناه، ثمَّ اتفقنا على أَمر يَسْتَوِي فِيهِ الشريف والوضيع، وَهُوَ الْجلد وَالتَّحْمِيم، فَقَالَ: أَنا أَحَق بإحياء سنة أماتوها، ودعا باليهوديين اللَّذين زَنَيَا وَأمر برجمهما " والْحَدِيث فِي

{الله فتنته فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم (41) سماعون للكذب أكالون للسحت} صَحِيح مُسلم. وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَنَّهَا فِي الْقَتْل، والقصة فِي ذَلِك: أَن بني النَّضِير كَانَ لَهُم قتل على بني قُرَيْظَة، وَكَانَ الْقرظِيّ إِذا قتل يسْأَل مُحَمَّدًا؛ فَإِن أفتى بِالدِّيَةِ يَأْخُذ بِهِ، وَإِن أفتى بغَيْرهَا يحذرهُ، فَسَأَلُوهُ. فَأفْتى بالقود. فَهَذَا معنى قَوْله: {إِن أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لم تؤتوه فاحذروا} وَالْأول أصح {وَمن يرد الله فتنته} قَالَ السّديّ: ضلالته، وَقَالَ الْحسن: عَذَابه، وَقَالَ الزّجاج: فضيحته {فَلَنْ تملك لَهُ من الله شَيْئا} أَي: فَلَنْ تقدر على دفع أَمر الله فِيهِ. {أُولَئِكَ الَّذين لم يرد الله أَن يطهر قُلُوبهم} وَفِيه دَلِيل على من يُنكر الْقدر {لَهُم فِي الدُّنْيَا خزي} وَيرجع هَذَا إِلَى الْمُنَافِقين، وَالْيَهُود، أما خزي الْمُنَافِقين: أَنه أظهر نفاقهم فِي الدُّنْيَا، وَأما خزي الْيَهُود: أَنه بَين تحريفهم {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} .

42

قَوْله - تَعَالَى -: {سماعون للكذب} (ذكره) ثَانِيًا مُبَالغَة وتأكيدا {أكالون للسحت} قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ الرِّشْوَة، والسحت: الْحَرَام، قَالَ: (كل لحم نبت من سحت فَالنَّار أولى بِهِ " وأصل السُّحت: الاستئصال؛ فالحرام سحت؛ لِأَنَّهُ يستأصل الْبركَة، قَالَ الشَّاعِر:

{فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم وَإِن تعرض عَنْهُم فَلَنْ يضروك شَيْئا وَإِن حكمت فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ إِن الله يحب المقسطين (42) وَكَيف يحكّمونك وَعِنْدهم التوارة فِيهَا حكم الله ثمَّ يتولون من بعد ذَلِك وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إنّا} (وعضّ زمَان يَا بن مَرْوَان لم يدع ... من المَال إِلَّا مسحت أَو مجلف) يَعْنِي: إِلَّا مَال لَا بركَة فِيهِ، وَأَشْيَاء قَلَائِل {فَإِن جاءوك فاحكم بَينهم أَو أعرض عَنْهُم} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ مَنْسُوخ بقوله: {وان احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} وَبِه قَالَ مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة. وَقَالَ الشّعبِيّ: وَالنَّخَعِيّ - وَهُوَ قَول الْحسن - إِنَّهَا لَيست بمنسوخة. قَالَ الْحسن: لَيْسَ فِي الْمَائِدَة آيَة مَنْسُوخَة، وَقَالُوا: معنى قَوْله: {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} يَعْنِي إِن حكمت واخترت الحكم، وَلَيْسَ بِأَمْر حتم هَذَا التَّخْيِير بَين الحكم والإعراض فِيمَا إِذا تحاكم ذميان، فَأَما إِذا تحاكم مُسلم وذمي يجب الحكم. وَقيل: هَذَا التَّخْيِير فِي الحكم بِحُقُوق الله - تَعَالَى - وَأما فِي حُقُوق الْآدَمِيّين فَلَا بُد من الحكم. {وَإِن تعرض عَنْهُم فَلَنْ يضروك شَيْئا وَإِن حكمت فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ {إِن الله يحب المقسطين} .

43

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَيف يحكمونك وَعِنْدهم التَّوْرَاة فِيهَا حكم الله} هَذَا تعجيب للرسول، يَعْنِي: كَيفَ يتحاكمون إِلَيْك، وَفِي زعمهم أَن عِنْدهم التَّوْرَاة وَهِي الْحق، وَأَنَّك كَاذِب؟ {ثمَّ يتولون من بعد ذَلِك} أَي: لَا يرضون بحكمك {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أَي: بمصدقين لَك.

44

قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّا أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا} أَي: أَسْلمُوا لأمر الله، كَمَا قَالَ لإِبْرَاهِيم: {أسلم قَالَ أسلمت لرب

{أنزلنَا التَّوْرَاة فِيهَا هدى وَنور يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا للَّذين هادوا والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تخشوا النَّاس واخشون} الْعَالمين) أَي: سلمت لأمر رب الْعَالمين، وَأَرَادَ بِهِ: النَّبِيين الَّذين بعثوا بعد مُوسَى؛ ليحكموا على حكم التَّوْرَاة، وَقَوله: {للَّذين هادوا} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: فِيهَا هدى، وَنور للَّذين هادوا، ثمَّ قَالَ: {يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا والربانيون} وَقيل: هُوَ على مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: يحكم بهَا النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلمُوا على الَّذين هادوا، وَهُوَ مثل قَوْله: {أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة} أَي: عَلَيْهِم اللَّعْنَة، وَقَالَ لعَائِشَة: " اشترطي لَهُم الْوَلَاء " أَي: عَلَيْهِم الْوَلَاء كَذَا قَالَ النّحاس، وَقيل: فِيهِ حذف، كَأَنَّهُ قَالَ: للَّذين هادوا على الَّذين هادوا؛ فَحذف أَحدهمَا؛ اختصارا {والربانيون} قَالَ أَبُو رزين: هم الْعلمَاء الْحُكَمَاء، وأصل الرباني: رب الْعلم، فزيد فِيهِ الْألف وَالنُّون؛ للْمُبَالَغَة، وَقيل: الربانيون من النَّصَارَى، والأحبار من الْيَهُود، وَقيل: كِلَاهُمَا من الْيَهُود، والربانيون فَوق الْأَبَّار. قَالَ الْمبرد: والأحبار: مَأْخُوذ من التحبير، وَهُوَ التحسين، وَمِنْه الحَدِيث: " يخرج من النَّار رجل قد ذهب حبره وسبره " أَي حسنه وجماله، وَقيل: هُوَ من التحبير بِمَعْنى التَّأْثِير، وَمِنْه الحبر، فَسمى الْعَالم: حبرًا؛ لتأثير علمه فِيهِ وَفِي غَيره، كَأَنَّهُ الْعَالم الْعَامِل، والحبر والحبر وَاحِد، وَجمعه الْأَحْبَار، قَالَ الْفراء: وَأكْثر مَا سَمِعت: الحبر - بِكَسْر الْحَاء - وَجمعه أَحْبَار. {مَا استحفظوا} أَي: بِمَا استودعوا {من كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تخشوا النَّاس واخشون وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا} .

{وَلَا تشتروا بآياتي ثمنا قَلِيلا وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ (44) وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص فَمن تصدق بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (45) } {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ} قَالَ الْبَراء بن عَازِب - وَهُوَ قَول الْحسن -: الْآيَة فِي الْمُشْركين. قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي الْمُسلمين، وَأَرَادَ بِهِ كفر دون كفر، وَاعْلَم أَن الْخَوَارِج يستدلون بِهَذِهِ الْآيَة، وَيَقُولُونَ: من لم يحكم بِمَا أنزل الله فَهُوَ كَافِر، وَأهل السّنة قَالُوا: لَا يكفر بترك الحكم، وللآية تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله ردا وجحدا فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: وَمن لم يحكم بِكُل مَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ، وَالْكَافِر هُوَ الَّذِي يتْرك الحكم بِكُل مَا أنزل الله دون الْمُسلم.

45

قَوْله تَعَالَى: {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص} وَيقْرَأ بقراءتين من قَوْله: {وَالْعين بِالْعينِ} فَيقْرَأ بِالنّصب إِلَى آخِره، وَيقْرَأ بِالرَّفْع. شرع الْقصاص فِي النَّفس والأطراف فِي هَذِه الْآيَة، وَأَشَارَ إِلَى أَنه كَانَ حكم التَّوْرَاة {فَمن تصدق بِهِ} يَعْنِي: بِالْعَفو عَن الْقصاص {فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ} اخْتلفُوا فِي أَن كِنَايَة الْهَاء رَاجِعَة إِلَى من؟ قَالَ ابْن مَسْعُود، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: هُوَ رَاجع إِلَى الْمَجْرُوح، يَعْنِي: الْعَفو، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ رَاجع إِلَى الْجَارِح، كَأَنَّهُ جعل الْعَفو كالاستيفاء مِنْهُ؛ فَيكون كَفَّارَة لَهُ كَمَا لَو اقْتصّ مِنْهُ {وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} .

46

قَوْله - تَعَالَى -: {وقفينا على آثَارهم} يَعْنِي: أتبعنا على آثَارهم، وَأَرَادَ بِهِ: النَّبِيين الَّذين أَسْلمُوا {بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التوارة} يَعْنِي: عِيسَى مُصدقا بِالتَّوْرَاةِ.

{وقفينا على آثَارهم بِعِيسَى ابْن مَرْيَم مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور ومصدقا لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَهدى وموعظة لِلْمُتقين (46) وليحكم أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ (47) وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ فاحكم بَينهم} {وآتينا الْإِنْجِيل فِيهِ هدى وَنور ومصدقا} يَعْنِي: الْإِنْجِيل {لما بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَهدى وموعظة لِلْمُتقين} .

47

قَوْله - تَعَالَى -: {وليحكم أهل الْإِنْجِيل} يَعْنِي: وَقُلْنَا: وليحكم أهل الْإِنْجِيل {مَا أنزل الله فِيهِ وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} .

48

قَوْله - تَعَالَى -: {وأنزلنا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} يَعْنِي: الْقُرْآن {مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب} يَعْنِي: سَائِر الْكتب الْمنزلَة قبله {ومهيمنا عَلَيْهِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: أَمينا عَلَيْهِ. قَالَ (الْمبرد) : أَصله: مؤيمنا، فقلبت الْهمزَة هَاء، كَمَا يُقَال: أرقت المَاء وهرقته. وَمَعْنَاهُ: الْأمين، وَقيل: مَعْنَاهُ: شَاهدا عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: رقيبا حَافِظًا، والمعاني مُتَقَارِبَة، وَمعنى الْكل أَن كل [كتاب] يصدقهُ الْقُرْآن، وَيشْهد بصدقه، فَهُوَ كتاب الله، وَمَا لَا فَلَا. وَقَرَأَ مُجَاهِد " ومهيمنا " بِفَتْح الْمِيم، يَعْنِي: مُحَمَّد مؤيمنا عَلَيْهِ، وَفِي الْأَثر أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِذا دَعَوْت الله فهيمنوا أَي أمنُوا " قَالَ الشَّاعِر: (أَلا إِن خير النَّاس بعد مُحَمَّد ... مهيمنه تاليه فِي الْعرف والنكر) أَرَادَ أَبَا بكر أمينة وحافظه، يتلوه فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر {فاحكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق} أَي: لَا تعرض عَمَّا جَاءَك وتتبع أهواءهم. {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} فالشرعة: الطَّرِيق الْوَاضِح، وَكَذَلِكَ الْمِنْهَاج. قَالَ الْمبرد: الشرعة: ابْتِدَاء الطَّرِيق، والمنهاج: الطَّرِيق المستمر. وَاعْلَم أَن الشَّرَائِع مُخْتَلفَة، وَلكُل قوم شَرِيعَة، فلأهل التَّوْرَاة شَرِيعَة، وَلأَهل الْإِنْجِيل شَرِيعَة، وَلأَهل الْإِسْلَام شَرِيعَة، وَأما الدّين فِي الْكل وَاحِد، وَهُوَ التَّوْحِيد.

{بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم عَمَّا جَاءَك من الْحق لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن ليَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُم فاستبقوا الْخيرَات إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (48) وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك فَإِن توَلّوا فَاعْلَم أَنما} {وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن ليَبْلُوكُمْ} أَي: ليختبركم. {فِيمَا آتَاكُم فاستبقوا الْخيرَات} فبادروا إِلَى الْخيرَات {إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِي تختلفون} .

49

قَوْله - تَعَالَى -: {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك} قيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن قوما من رُؤَسَاء الْيَهُود جَاءُوا إِلَى النَّبِي وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، لَو آمنا بك آمن بك غَيرنَا، وَلنَا خصومات بَين النَّاس؛ فَاقْض لنا عَلَيْهِم؛ نؤمن بك، ويتبعنا غَيرنَا "، وَلم يكن قصدهم الْإِيمَان بِهِ، وَإِنَّمَا قصدُوا التلبيس، ودعوته إِلَى الحكم بالميل؛ فَنزلت الْآيَة. {واحذرهم أَن يفتنوك عَن بعض مَا أنزل الله إِلَيْك فَإِن توَلّوا} فَإِن أَعرضُوا {فَاعْلَم أَنما يُرِيد الله أَن يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم} وَقيل: مَعْنَاهُ: بِكُل ذنوبهم، فَعبر بِالْبَعْضِ عَن الْكل، وَقيل: مَعْنَاهُ: يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم فِي الدُّنْيَا {وَإِن كثيرا من النَّاس لفاسقون} .

50

وَقَوله: {أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ} يقْرَأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ومعناهما وَاحِد يَعْنِي أَنهم إِذا لم يرْضوا بِحكم الله، وَأَرَادُوا خلاف حكم الله، فقد طلبُوا حكم الْجَاهِلِيَّة، وَقَرَأَ الْحسن، وَقَتَادَة وَالْأَعْمَش، والأعرج: أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة بِمَعْنى: الْحَاكِم. يَبْغُونَ: يطْلبُونَ {وَمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}

51

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} قيل: نزلت فِي عبَادَة بن الصَّامِت، وَعبد الله بن أبي سلول

{يُرِيد الله أَن يصيبهم بِبَعْض ذنوبهم وَإِن كثيرا من النَّاس لفاسقون (49) أَفَحكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ وَمن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن} اخْتَصمَا فَقَالَ عبَادَة: أَنا أَتَبرأ من الْيَهُود وَلَا أتولاهم، وَقَالَ عبد الله بن أبي: أَنا أتولاهم وَلَا أَتَبرأ مِنْهُم؛ فَإِنِّي أخْشَى الدَّوَائِر، فَنزلت الْآيَة وَقيل: نزلت فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر بَعثه النَّبِي إِلَى بني قُرَيْظَة حِين حَاصَرَهُمْ، فاستشاروا فِي النُّزُول، وَقَالُوا: مَاذَا يصنع بِنَا إِذا نزلنَا؟ فَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالْقَتْلِ، وَجعل أُصْبُعه على حلقه يَعْنِي: يقتلكم؛ متنصحا لَهُم، وَقيل: نزلت فِي يَوْم أحد، فَإِنَّهُ لما انْقَضى حَرْب أحد، وَأصَاب الْمُسلمين مَا أَصَابَهُم، قَالَ بعض أهل الْمَدِينَة: نَحن نتولى الْيَهُود، وَقَالَ بَعضهم: نتولى النَّصَارَى؛ فَإنَّا نخشى أَن لَا يتم أَمر مُحَمَّد، وَأَن يَدُور الْأَمر علينا؛ فَنزلت الْآيَة: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} .

52

قَوْله - تَعَالَى -: {فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض} أَي: نفاق {يُسَارِعُونَ فيهم} يَعْنِي: فِي معونتهم وموالاتهم، وَفِيه حذف، كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة {يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: نخشى أَن لَا يتم أَمر مُحَمَّد؛ فيدور الْأَمر علينا، وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: نخشى أَن يكون قحط؛ فَلَا يتفضلوا علينا بالثمار؛ [إِذْ] كَانَت الْيَهُود أَصْحَاب النخيل وَالثِّمَار، وَالْأول أصح. {فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أَمر من عِنْده} قيل: أَرَادَ بِهِ فتح مَكَّة. وَقيل (هُوَ فتح) قرى الْيَهُود مثل خَيْبَر، وفدك، وتيما ووادي الْقرى. {أَو أَمر من عِنْده} قيل: هُوَ إتْمَام أَمر مُحَمَّد، وَقيل: هُوَ إجلاء بني النَّضِير، وَقيل: قتل بني قُرَيْظَة، وَقيل:

{الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (51) فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يُسَارِعُونَ فيهم يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة فعس الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح أَو أَمر من عِنْده فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين (52) وَيَقُول الَّذين آمنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد} هُوَ الْإِخْبَار بأسماء الْمُنَافِقين؛ ليفتضحوا. {فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين

53

وَيَقُول الَّذين آمنُوا) يَعْنِي: [للْيَهُود] حِين انْكَشَفَ حَال الْمُنَافِقين: {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أَقْسمُوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم إِنَّهُم لمعكم حبطت أَعْمَالهم فَأَصْبحُوا خاسرين} .

54

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه} وَقَرَأَ أهل الْمَدِينَة وَالشَّام: " من يرتدد " وَالْمعْنَى وَاحِد {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ عَليّ، وَالْحسن: نزل هَذَا فِي أبي بكر وَأَصْحَابه. وَكَانَ الْحسن يحلف على هَذَا، أَنه نزل فِي أبي بكر وَأَصْحَابه، وَذَلِكَ أَن النَّبِي لما خرج إِلَى رَحْمَة الله ارْتَدَّت الْعَرَب، وَلم يبْق الْإِسْلَام إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَسَاجِد: مَسْجِد مَكَّة، وَمَسْجِد الْمَدِينَة، وَمَسْجِد الْبَحْرين؛ فهم أَبُو بكر بِالْقِتَالِ، وَكره الصَّحَابَة ذَلِك، وَقَالُوا: إِن بَعضهم منع الزَّكَاة، وَلم يتْركُوا الصَّلَاة، وَقَالَ أَبُو بكر: وَالله (لأقاتلن من) فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَقيل: إِنَّه سل سَيْفه، وَخرج وَحده، وَقَالَ: أقَاتل وحدي، ثمَّ وَافقه الصَّحَابَة، قَالَ ابْن مَسْعُود: كرهنا ذَلِك لَك فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ حمدناه عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاء، قَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش: سَمِعت أَبَا حُصَيْن يَقُول: مَا ولد مَوْلُود بعد النَّبِيين أفضل من أبي بكر، لقد قَامَ مقَام نَبِي من الْأَنْبِيَاء، يَعْنِي: فِي قتال أهل الرِّدَّة، وردهم إِلَى الْإِسْلَام. وروى عِيَاض الْأَشْعَرِيّ: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم} وَأَشَارَ إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقَالَ: هَذَا وَأَصْحَابه " وَكَانُوا من أهل الْيمن،

{أَيْمَانهم إِنَّهُم لمعكم حبطت أَعْمَالهم فَأَصْبحُوا خاسرين (53) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا من يرْتَد مِنْكُم عَن دينه فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على} وَلأَهل الْيمن أَمر عَظِيم فِي الْفتُوح الَّتِي وَقعت فِي الْإِسْلَام، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْإِيمَان يمَان، وَالْحكمَة يَمَانِية " وَقيل: أَرَادَ بِالْآيَةِ: قوما كَانَ أَكْثَرهم من أهل الْيمن؛ فتحُوا الْقَادِسِيَّة فِي زمَان عمر. وَالْأول أصح {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ} لَيْسَ من الذل، وَإِنَّمَا هُوَ من الذلة، وَهِي اللين. وَقَوله: {أعزة على الْكَافرين} لَيْسَ من الْعِزّ وَإِنَّمَا هُوَ من الْعِزَّة؛ وَهِي: الشدَّة، يَعْنِي: أَن جانبهم لين على الْمُؤمنِينَ، شَدِيد على الْكَافرين، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ غلظاء على الْكَافرين " وَهِي معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة. {يجاهدون فِي سَبِيل الله لَا يخَافُونَ لومة لائم} يَعْنِي: لَا يخَافُونَ فِي الله لوم النَّاس، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أَرَادَ الْجنَّة لَا شكّ، فَلَا يخَاف فِي الله لومة لائم " {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم} . قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله} هَذَا رَاجع إِلَى قَوْله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} لما مَنعهم من مُوالَاة الْيَهُود وَالنَّصَارَى، دعاهم إِلَى مُوالَاة الله وَرَسُوله. {وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ} يَعْنِي: مصلون؛ إِلَّا أَنه خص الرُّكُوع تَشْرِيفًا، وَقيل: مَعْنَاهُ: خاضعون، وَقَالَ السّديّ: - وَهُوَ رِوَايَة عَن مُجَاهِد - إِن هَذَا أنزل فِي عَليّ بن أبي طَالب، كَانَ فِي الرُّكُوع، ومسكين

{الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم (54) إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ (55) وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله} يطوف فِي الْمَسْجِد فَنزع خَاتمه، وَدفع إِلَيْهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ} وَعَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ، فَقيل لَهُ: إِن قوما يَقُولُونَ: إِن الْآيَة نزلت فِي عَليّ بن أبي طَالب، فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: عَليّ من الْمُؤمنِينَ.

55

وَقَوله: {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله} أَرَادَ بِهِ: الْولَايَة فِي الدّين، لَا ولَايَة الْإِمَارَة والسلطنة، وهم فَوق كل ولَايَة، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَكَذَلِكَ معنى قَوْله: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ " يَعْنِي: من كنت وليا لَهُ، أعينه وأنصره، فعلي يُعينهُ وينصره فِي الدّين.

56

قَوْله: {وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون} أَي: جند الله هم الغالبون،

57

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هذوا وَلَعِبًا} هَذَا فِي الْيَهُود، كَانُوا إِذا سمعُوا الْمُؤَذّن ضحكوا، وتغامزوا بَينهم {من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} يَعْنِي: الْيَهُود {وَالْكفَّار} : سَائِر الْكَفَرَة {أَوْلِيَاء} أَي: لَا تَتَّخِذُوا هَؤُلَاءِ أَوْلِيَاء. وَقَرَأَ الْكسَائي، وَأَبُو عَمْرو: " وَالْكفَّار " بِكَسْر الرَّاء، يَعْنِي: وَمن الْكفَّار، وَكَذَا فِي حرف أبي بن كَعْب " وَمن الْكفَّار أَوْلِيَاء " ( {وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين}

58

وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا) هَذَا بَيَان لاتخاذهم الدّين هزوا فِي الْآيَة الأولى {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} .

{هم الغالبون (56) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء وَاتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين (57) وَإِذا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة اتَّخَذُوهَا هزوا وَلَعِبًا ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ (85) قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا إِلَّا أَن آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل من قبل وَأَن أَكْثَرَكُم} و (فِي) الحكايات: أَن وَاحِدًا من الْمُنَافِقين يُقَال لَهُ: ضَمرَة، سمع الْمُؤَذّن يُؤذن، فَقَالَ: حرق الله الْكَاذِب؛ فَجَاءَهُ خادمه بسراج فِي بعض تِلْكَ اللَّيَالِي، فَوَقَعت شرارة من السراج، وَلم (يشْعر) بِهِ، فَاحْتَرَقَ هُوَ وَمَا فِي الْبَيْت.

59

قَوْله - تَعَالَى -: {قل يَا أهل الْكتاب هَل تَنْقِمُونَ منا} أَي: هَل تَكْرَهُونَ منا {إِلَّا أَن آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل من قبل وَأَن أَكْثَرَكُم فَاسِقُونَ} أَي: هَل تَنْقِمُونَ منا إِلَّا بإيماننا وفسقكم، قَالَ الشَّاعِر: (مَا نقموا من بني أُميَّة إِلَّا ... أَنهم (يحملون) إِن غضبوا) (وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك ... وَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب) أَي: كَرهُوا من بني أُميَّة.

60

قَوْله - تَعَالَى -: {قل هَل أنبئكم بشر من ذَلِك مثوبة عِنْد الله} أَي: قل: [هَل] أخْبركُم بشر من ذَلِك ثَوابًا وعاقبة عِنْد الله؟ {من لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ} يَعْنِي: الْيَهُود {وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير} قيل: جعل القردة القردة من الْيَهُود، والخنازير من النَّصَارَى، فَالَّذِينَ جعلهم قردة من الْيَهُود: أَصْحَاب السبت، وَالَّذين جعلهم خنازير من النَّصَارَى: أَصْحَاب الْمَائِدَة، وَقيل: كِلَاهُمَا من الْيَهُود، فَجعل شُبَّانهمْ قردة وشيوخهم خنازير {وَعبد الطاغوت} أَي: وَمن عبد الطاغوت، يَعْنِي من لَعنه الله وَمن عبد الطاغوت وَقَرَأَ حَمْزَة: " وَعبد الطاغوت " بِضَم الْبَاء فِي عبد، وَكسر التَّاء فِي الطاغوت، وَالْمعْنَى وَاحِد، قل الشَّاعِر: (أبني لبينى إِن أمكُم ... أمة وَإِن وَإِنِّي أَبَاكُم عبد)

فَاسِقُونَ (59) قل هَل أنبئكم بشر من ذَلِك مثوبة عِنْد الله من لَعنه الله وَغَضب عَلَيْهِ وَجعل مِنْهُم القردة والخنازير وَعبد الطاغوت أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا وأضل عَن سَوَاء السَّبِيل (60) وَإِذا جاءوكم قَالُوا آمنا وَقد دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا بِهِ وَالله أعلم بِمَا كَانُوا يكتمون (61) وَترى كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم والعدوان وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا يعْملُونَ (62) لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت لبئس مَا كَانُوا يصنعون (63) وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة غلت أَيْديهم) أَي: كأعبد، وَقيل: هَذَا خطأ من حَمْزَة، وَالْأول أصح، وَيقْرَأ فِي الشواذ: " وَعباد الطاغوت " وَيقْرَأ: " وَعَبدَة الطاغوت " وَتَقْدِيره: وَجعل مِنْهُم عباد الطاغوت، وَالْكل فِي الْمَعْنى سَوَاء. {أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا وأضل عَن سَوَاء السَّبِيل} أَي: عَن طَرِيق الْحق.

61

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا جاءوكم قَالُوا آمنا} قيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْيَهُود، دخلُوا على النَّبِي، وَقَالُوا: إِنَّا آمنا بك، وَصَدَّقنَاك فِيمَا قلت، وهم يسرون الْكفْر؛ فَنزلت الْآيَة {وَإِذا جاؤكم} يَعْنِي: أُولَئِكَ قَالُوا: آمنا {وَقد دخلُوا بالْكفْر وهم قد خَرجُوا بِهِ} يَعْنِي: دخلُوا كَافِرين، وَخَرجُوا كَافِرين {وَالله أعلم بِمَا كَانُوا يكتمون} .

62

قَوْله - تَعَالَى -: {وَترى كثيرا مِنْهُم يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم والعدوان} قيل: الْإِثْم: الْمعاصِي، والعدوان: الظُّلم، وَقيل: الْإِثْم: كتمان أَمر مُحَمَّد وَمَا كتموا من التَّوْرَاة، والعدوان مَا زادوا فِي التوارة. {وأكلهم السُّحت} قد بَينا معنى السُّحت، والسحت لُغَتَانِ، وَقيل: أَرَادَ بِهِ أكلهم الرِّبَا {لبئس مَا كَانُوا يعْملُونَ} .

63

قَوْله: {لَوْلَا ينهاهم الربانيون والأحبار عَن قَوْلهم الْإِثْم وأكلهم السُّحت} يَعْنِي: هلا ينهاهم الربانيون، وَقد ذكرنَا معنى الربانيين، وَقيل: هُوَ مَنْسُوب إِلَى الرب، كالبحراني مَنْسُوب إِلَى الْبَحْرين، والنجراني مَنْسُوب إِلَى نَجْرَان {لبئس مَا كَانُوا يصنعون} وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " يعْملُونَ " وَكِلَاهُمَا وَاحِد.

64

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة} سَبَب هَذَا: أَن الْيَهُود كَانُوا فِي خصب وسعة رزق قبل هِجْرَة النَّبِي، فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، ضيق الله الرزق عَلَيْهِم فَقَالَت الْيَهُود: يَد الله مغلولة: أَي ممسكة لَا ينْفق، كَأَنَّهُمْ نسبوه إِلَى الْبُخْل،

{ولعنوا بِمَا قَالُوا بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا وألقينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين (64) وَلَو أَن} وَقَالَ الْحسن: أَرَادوا بِهِ: يَد الله مغلولة لَا يعذبنا [بهَا] {غلت أَيْديهم} يُجِيبهُمْ الله تَعَالَى؛ فَيَقُول: أَنا الْجواد، وهم البخلاء، وأيديهم هِيَ المغلولة الممسكة، قَالَه الزّجاج، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم يُعَذبُونَ يَوْم الْقِيَامَة. {ولعنوا بِمَا قَالُوا} فَمن عَنْهُم أَنهم: مسخوا قردة وَخَنَازِير، وَمن لعنهم: أَنهم ضربت عَلَيْهِم الذلة والجزية. {بل يَدَاهُ مبسوطتان ينْفق كَيفَ يَشَاء} يَعْنِي: [يدا] الله مبسوطتان، يرْزق وَينْفق على مَشِيئَته كَيفَ يَشَاء، قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ فِي هَذَا رد على الْيَهُود فِي إثباتهم الْيَد لله - تَعَالَى - وَإِنَّمَا الرَّد عَلَيْهِم فِي نسبته إِلَى الْبُخْل، وَأما الْيَد: صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ، وَله يدان، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كلتا يَدَيْهِ يَمِين ". وَالله أعلم بكيفية المُرَاد. {وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا} على معنى أَنه كلما نزلت آيَة كفرُوا بهَا، وازدادوا طغيانا وَكفرا {وألقينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء} قيل: بَين فرق الْيَهُود، وَقيل (بَين) الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقَوله: {إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} دَلِيل على أَن الْيَهُودِيَّة والنصرانية تبقى إِلَى قريب من قيام السَّاعَة {كلما أوقدوا نَارا للحرب أطفأها الله} معنى هَذَا: كلما اجْتَمعُوا ليفسدوا أَمر مُحَمَّد، شتت الله

{أهل الْكتاب آمنُوا وَاتَّقوا لكفرنا عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلناهم جنَّات النَّعيم (65) وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم مِنْهُم أمة مقتصدة وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ (66) يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا} جمعهم، وبدد شملهم. {ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا وَالله لَا يحب المفسدين} .

65

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَن أهل الْكتاب آمنُوا} بِمُحَمد {وَاتَّقوا} يَعْنِي: عَن الْمعاصِي {لكفرنا عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلناهم جنَّات النَّعيم} .

66

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم} يَعْنِي: وَلَو أَنهم قَامُوا وَعمِلُوا مَا فِي التَّوْرَاة، وَمَا فِي الْإِنْجِيل وَمَا فِي الْقُرْآن {لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم} قيل: من فَوْقهم من مطر السَّمَاء، وَمن تَحت أَرجُلهم من نَبَات الأَرْض. وَقيل: من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم مَعْنَاهُ: أَنه يُوسع عَلَيْهِم الرزق، قَالَ الزّجاج، وَهُوَ نَظِير قَول الْقَائِل: فلَان فِي الْخَيْر من الْفرق إِلَى الْقدَم، أَي: وسع عَلَيْهِ الْخَيْر، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله {من فَوْقهم} من الْأَشْجَار {وَمن تَحت أَرجُلهم} من النَّبَات، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ {من فَوْقهم} من كسب آبَائِهِم {وَمن تَحت أَرجُلهم} من كسب أبنائهم، وَهَذَا نَظِير قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض} وَنَظِير قَوْله تَعَالَى: {وَلَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقا} {مِنْهُم أمة مقتصدة} أَي: عادلة {وَكثير مِنْهُم سَاءَ مَا يعْملُونَ} .

67

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} قَالَت عَائِشَة: " من قَالَ: إِن مُحَمَّدًا كتم شَيْئا من الْوَحْي؛ فقد أعظم الْفِرْيَة، وَمن قَالَ: إِن مُحَمَّدًا رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج؛ فقد أعظم الْفِرْيَة؛ فَإِن الله - تَعَالَى - يَقُول: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} " وَالْخَبَر فِي الصَّحِيح.

{أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (67) قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا فَلَا تأس على الْقَوْم الْكَافرين (68) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا والصابئون} {وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ: إِن لم تبلغ الْجَمِيع، وَتركت وَاحِدًا، فَمَا بلغت شَيْئا، يَعْنِي: جرمك فِي ترك التَّبْلِيغ فِي وَاحِد كجرمك فِي ترك الْكل، وَقيل: مَعْنَاهُ: بلغ مَا أنزل إِلَيْك أَي: أظهر تبليغه، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: ( {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} وَإِن لم تفعل) يَعْنِي: وَإِن لم تظهر تبليغه ( {فَمَا بلغت رسَالَته} وَالله يَعْصِمك من النَّاس) . قَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " كَانَ النَّبِي قبل نزُول هَذِه الْآيَة يَأْتِيهِ قوم فيحرسونه؛ فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة؛ أخرج رَأسه، وَقَالَ: انصرفوا، فَإِن الله يعصمني ". قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: نزلت الْآيَة فِي كَافِر سل سَيْفه، وهم (بقتل النَّبِي) ، فَسقط السَّيْف من يَده، وَجعل يضْرب رَأسه على شَجَرَة حَتَّى [انتثر] دماغه {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين} .

68

قَوْله - تَعَالَى -: {قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} أَي: تعملوا بِالْكُلِّ {وليزيدن كثيرا مِنْهُم مَا أنزل إِلَيْك من رَبك طغيانا وَكفرا} هُوَ مَا ذكرنَا {فَلَا تأس} أَي فَلَا تحزن {على الْقَوْم الْكَافرين} .

69

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا والصابئون وَالنَّصَارَى} قَالَ

{وَالنَّصَارَى من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (69) لقد أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِم رسلًا كلما جَاءَهُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أنفسهم فريقا كذبُوا وفريقا يقتلُون (70) وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة فعموا وصموا ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم ثمَّ عموا وصموا كثير مِنْهُم وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ (71) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم وَقَالَ الْمَسِيح يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي} الْكسَائي، ونحاة الْكُوفَة: تَقْدِيره: هم والصابئون. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَتَقْدِيره: إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالنَّصَارَى من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعمل صَالحا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ، والصابئون كَذَلِك. وَقَوله: {من آمن بِاللَّه} يَعْنِي: الَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ، من آمن مِنْهُم بِالْقَلْبِ، وَقيل: إِن الَّذين آمنُوا على حَقِيقَة الْإِيمَان. وَقَوله: {من آمن بِاللَّه} أَي: من ثَبت على الْإِيمَان بِاللَّه، وَأما فِي حق الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ، فَهُوَ مَحْمُول على حَقِيقَة الْإِيمَان.

70

قَوْله - تَعَالَى -: (لقد أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل) قد ذكرنَا الْمِيثَاق {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِم رسلًا كلما جَاءَهُم رَسُول بِمَا لَا تهوى أنفسهم فريقا كذبُوا} يَعْنِي: عِيسَى وَمُحَمّد {وفريقا يقتلُون} يَعْنِي: زَكَرِيَّا وَيحيى،

71

وَقَوله: {وَحَسبُوا أَلا تكون فتْنَة} أَي: عَذَاب {فعموا وصموا ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم} يَعْنِي: عموا وصموا بعد مُوسَى، ثمَّ تَابَ الله عَلَيْهِم؛ ببعث عِيسَى، {ثمَّ عموا وصموا كثيرا مِنْهُم} بالْكفْر بِمُحَمد {وَالله بَصِير بِمَا يعْملُونَ} .

72

قَوْله - تَعَالَى -: {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} قد ذكرنَا معنى الْمَسِيح، قَالَ النَّخعِيّ: سمي مسيحا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يمسح الأَرْض، (وَأما) الدَّجَّال: يُسمى مسيحا، وَقد ورد الْخَبَر بِكَوْنِهِ مسيحا مُطلقًا؛ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام - قَالَ: " [يقبل] الْمَسِيح من قبل الْمشرق وهمه الْمَدِينَة ". وَورد فِي الْخَبَر: الْمَسِيح الدَّجَّال. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " لَا يدْخل رعب الْمَسِيح الدَّجَّال الْمَدِينَة أبدا ".

{وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار وَمَا للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا من إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد وَإِن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم (73) أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه وَالله غَفُور رَحِيم (74) مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله} {وَقَالَ الْمَسِيح يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار} روى أَبُو سُفْيَان طَلْحَة بن نَافِع عَن جَابر: " أَن النَّبِي سُئِلَ مَا الموجبتان؟ فَقَالَ: من وحد الله؛ لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا؛ وَجَبت لَهُ الْجنَّة، وَمن أشرك بِاللَّه؛ وَجَبت لَهُ النَّار " {وَمَا للظاليمن من أنصار} .

73

قَوْله - تَعَالَى -: {لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة} فِيهِ حذف، أَي: ثَالِث ثَلَاثَة آلِهَة، وَلَا بُد من هَذَا التَّقْدِير؛ لِأَنَّهُ يجوز أَن يُقَال: هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة، كَمَا قَالَ: {مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم} ، وَقَوله: {ثَالِث ثَلَاثَة} هُوَ قَوْلهم: أَب، وَابْن وروح الْقُدس، وَهَذَا قَول اليعقوبية مِنْهُم، وَقَالُوا: روح الْقُدس لَا هُوَ وَلَا غَيره، وَكَذَلِكَ الابْن، وَالله مَجْمُوع الْكل {وَمَا من إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد وَإِن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا} أَي: ليصيبن الَّذين {كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم} .

74

قَوْله تَعَالَى: {أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه} أرشدهم إِلَى التَّوْبَة وَالْإِسْلَام {وَالله غَفُور رَحِيم} .

75

قَوْله تَعَالَى: {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله} أَي: مَضَت، وَسميت الْأَيَّام الْمَاضِيَة خَالِيَة؛ لخلوها، وَمعنى هَذَا: أَنا أرسلنَا عِيسَى كَمَا أرسلنَا غَيره [وأعطيناه] من المعجزات مَا أعطينا غَيره من الرُّسُل {وَأمه صديقَة} وَالصديق: كثير الصدْق، وَهُوَ للْمُبَالَغَة، وَمِنْه سمى أَبُو بكر [الصّديق]- رَضِي الله عَنهُ -: صديقا، وَقيل: سمي صديقا؛ لِأَنَّهُ قيل لَهُ: إِن صَاحبك يَقُول: أسرى بِي إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: إِن (هُوَ قَالَ) ذَلِك فقد صدق.

{الرُّسُل وَأمه صديقَة كَانَا يأكلان الطَّعَام انْظُر كَيفَ نبين لَهُم الْآيَات ثمَّ انْظُر أَنى يؤفكون (75) قل أتعبدون من دون الله مَا لَا يملك لكم ضرا وَلَا نفعا وَالله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (76) قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل (77) لعن الَّذين كفرُوا} {كَانَا يأكلان الطَّعَام} أَي: يتغذيان بِالطَّعَامِ، وَمَعْنَاهُ: أَن من يتغذى بِالطَّعَامِ لَا يكون إِلَهًا يعبد، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ كِنَايَة عَن الْحَدث، يَعْنِي: أَنَّهُمَا يأكلان، ويشربان، ويبولان، ويتغوطان، وَمثل هَذَا لَا يكون إِلَهًا يعبد {انْظُر كَيفَ نبين لَهُم الْآيَات ثمَّ انْظُر أَنى يؤفكون} قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَهَذَا من ألطف الْبَيَان، وَقَوله: {يؤفكون} أَي: يصرفون، وَمِنْه سمي الْكَذِب: إفكا؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوف عَن الْحق.

76

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أتعبدون من دون الله مَا لَا يملك لكم ضرا وَلَا نفعا} يَعْنِي: عِيسَى وَمثله. {وَالله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} .

77

قَوْله - تَعَالَى -: {قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق} الغلو: مُجَاوزَة الْحَد، وَهُوَ مَذْمُوم، وَكَذَلِكَ التَّقْصِير، وَدين الله بَين الغلو، وَالتَّقْصِير {وَلَا تتبعوا أهواء قوم} الْأَهْوَاء: جمع الْهوى، وَهُوَ مَقْصُور، وَأما الْهَوَاء الْمَمْدُود: فَهُوَ الجو، والهوى: كل مَا تَدْعُو إِلَيْهِ شَهْوَة النَّفس، لَا الْحجَّة {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل} . فَإِن قيل: مَا معنى هَذَا التكرير، قَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: {ضلوا عَن سَوَاء السَّبِيل} يَعْنِي: بالإضلال، وَالْأول من الضَّلَالَة، وَقيل: ضلوا من قبل الإضلال، وَضَلُّوا بعد الإضلال؛ فكأنهم ضلوا مرَّتَيْنِ.

78

قَوْله - تَعَالَى -: {لعن الَّذين كفرُوا من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَم} فَالَّذِينَ لعنُوا على لِسَان دَاوُد: هم أَصْحَاب السبت، وَالَّذين لعنُوا على لِسَان عِيسَى: أَصْحَاب الْمَائِدَة، وَأُولَئِكَ الَّذين جعلهم الله قردة، وَهَؤُلَاء الَّذين جعلهم الله خنازير {ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون} .

79

قَوْله - تَعَالَى -: {كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} التناهي: تفَاعل من النَّهْي، وَالْمُنكر: كل مَا أنكرهُ الشَّرْع، وَفِي الْخَبَر قَالَ: أول مَا

{من بني إِسْرَائِيل على لِسَان دَاوُود وَعِيسَى ابْن مَرْيَم ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون (78) كَانُوا لَا يتناهون عَن مُنكر فَعَلُوهُ لبئس مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ (80) وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ (81) لتجدن أَشد النَّاس عَدَاوَة للَّذين آمنُوا الْيَهُود وَالَّذين} دخل النَّقْص فِي بني إِسْرَائِيل: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ إِذا نهى صَاحبه عَن مُنكر، كَانَ لَا يمنعهُ بعد ذَلِك أَن يكون جليسه، وأكيله، وشريبه، فَضرب الله - تَعَالَى - قلب بَعضهم بِالْبَعْضِ، وعمهم بالعقاب، ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، حَتَّى تَأْخُذُوا على يَد الظَّالِم فتأطروه على الْحق أطرا " أَي: تعطفوه.

80

قَوْله: (ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا) أَي: يوالونهم {لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ

81

وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا أنزل إِلَيْهِ مَا اتخذوهم أَوْلِيَاء) يَعْنِي: الْكفَّار {وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ} فَإِن قيل: لم سماهم فاسقين وهم كافرون؟ قيل: مَعْنَاهُ: (خارجون) عَن أَمر الرب، وَالْكفَّار خارجون عَن كل أمره، وَقيل: مَعْنَاهُ: متمردون، أَي: هم مَعَ كفرهم متمردون.

82

قَوْله - تَعَالَى -: {لتجدن أَشد النَّاس عَدَاوَة للَّذين آمنُوا الْيَهُود وَالَّذين أشركوا} يَعْنِي: مُشْركي مَكَّة، {ولتجدن أقربهم مَوَدَّة للَّذين آمنُوا الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} قيل: إِن الْآيَة فِي قوم من النَّصَارَى، (أَرْبَعِينَ) نَفرا: اثْنَان وَثَلَاثُونَ من الْحَبَشَة، وَثَمَانِية من رُهْبَان الشَّام، جَاءُوا إِلَى النَّبِي، وَأَسْلمُوا، وَفِيهِمْ نزلت الْآيَة لَا فِي النَّصَارَى الْكَفَرَة؛ لأَنهم فِي عَدَاوَة الْمُسلمين مثل الْيَهُود، وَقيل: إِن الَّذين أَسْلمُوا من الْحَبَشَة كَانَ فيهم النَّجَاشِيّ؛ فَقدم جَعْفَر الطيار الْحَبَشَة، فَدَعَاهُ النَّجَاشِيّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ

أشركوا ولتجدن أقربهم مَوَدَّة للَّذين آمنُوا الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى) سُورَة مَرْيَم، وَعِنْده الأساقفة والرهبان؛ فبكوا حَتَّى أخضلوا لحاهم، وَأخذ النَّجَاشِيّ قذاة بِيَدِهِ، وَقَالَ: لم يعد عِيسَى مَا قلت، وَلَا قدر هَذَا، وَأَسْلمُوا. وَقيل: نزلت الْآيَة فِي قوم من النَّصَارَى كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بدين عِيسَى، لم يحرفوا، فآمنوا بِمُحَمد. وَقيل: هُوَ فِي كل النَّصَارَى، وَمَعْنَاهُ: أَنهم أَلين عَدَاوَة من الْيَهُود. {ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} قَالَ قطرب: القسيس العابد بلغَة الرّوم، وَهُوَ التَّمام فِي اللُّغَة، قَالَ الشَّاعِر: (يمسين من قس (الحَدِيث) غوافلا ... إِلَّا جعبر يات وَلَا [طهاملا] ) والرهبان جمع الراهب، وروى سلمَان: " أَن النَّبِي قَرَأَ: " ذَلِك بِأَن مِنْهُم صديقين وَرُهْبَانًا " وَهَذَا فِي الغرائب.

83

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول} يَعْنِي: الْقُرْآن، فَإِن النَّبِي كَانَ قد قَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآن؛ فبكوا وَأَسْلمُوا، فَذَلِك معنى قَوْله: {ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين} يَعْنِي: من أمة مُحَمَّد؛ فَإِنَّهُم الشاهدون على سَائِر الْأُمَم.

84

قَوْله - تَعَالَى - {وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق} وَذَلِكَ أَن الْيَهُود قَالُوا: لَو لم آمنتم؟ فَأَجَابُوا: وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق {ونطمع أَن يدخلنا

{أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين (83) وَمَا لنا لَا نؤمن بِاللَّه وَمَا جَاءَنَا من الْحق ونطمع أَن يدخلنا رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين (84) فأثابهم الله بِمَا قَالُوا جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (86) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب} رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين) الطمع: هُوَ تعلق النَّفس بالشَّيْء مَعَ قُوَّة.

85

قَوْله - تَعَالَى -: {فأثابهم الله بِمَا قَالُوا جنَّات} أَي: أَعْطَاهُم الله بِمَا قَالُوا جنَّات {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ} . فَإِن قيل: هَذَا أول قَوْله - تَعَالَى -: {فأثابهم الله بِمَا قَالُوا} على أَن الْإِيمَان قَول فَرد. قيل: قد ذكر فِي الْآيَة الأولى {مِمَّا عرفُوا من الْحق} فَذكر الْمعرفَة فِي تِلْكَ الْآيَة، وَالْقَوْل فِي هَذِه الْآيَة، ومجموعهما إِيمَان {وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم} .

87

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} قَالَ (ابْن عَبَّاس) ، وَعَطَاء [وَسعد] ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالسُّديّ: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن عليا، وَابْن مَسْعُود، وَعُثْمَان بن مَظْعُون، تشاوروا فِي أَن يترهبوا، ويلبسوا المسوح، ويقطعوا المذاكير، ويصوموا الدَّهْر؛ فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فَقَالَ: أما إِنِّي أَنَام وأقوم، وَأفْطر وَأَصُوم، وآكل وأشرب، وأنكح، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني وَنزلت الْآيَة {لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} وَرُوِيَ: أَن عُثْمَان بن مَظْعُون قَالَ: " يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لي فِي الرهبانية. فَقَالَ: رَهْبَانِيَّة أمتِي الْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد. فَقَالَ: ائْذَنْ لي فِي السياحة فِي الأَرْض. فَقَالَ سياحة أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله. فَقَالَ: ائْذَنْ لي فِي الإخصاء. فَقَالَ: إخصاء أمتِي الصَّوْم ". وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُصِيب اللَّحْم؛ فأنتشر واشتهي النِّسَاء فَحرمت اللَّحْم على نَفسِي " فَنزل قَوْله [تَعَالَى] : {لَا تحرموا طبيات مَا أحل الله

{الْمُعْتَدِينَ (87) وكلوا مِمَّا رزقكم الله حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان فكفارته} لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ) رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، والاعتداء: هُوَ مُجَاوزَة مَاله إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ

88

{وكلوا مِمَّا رزقكم الله حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ} أكد ذَلِك النَّهْي بِهَذَا الْأَمر.

89

قَوْله - تَعَالَى -: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} إِنَّمَا عقب تِلْكَ الْآيَة بِهَذِهِ؛ لِأَن الْقَوْم الَّذين تشاوروا أَن يترهبوا كَانُوا قد حلفوا؛ فَبين حكم الْإِيمَان، واللغو: هُوَ المطرح الَّذِي لَا يعبأ بِهِ، وَعَن عَائِشَة: أَن لَغْو الْيَمين: قَول الْإِنْسَان: لَا وَالله، وبلى وَالله، وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة: لَغْو الْيَمين: هُوَ أَن يحلف على شَيْء على ظن أَنه كَذَلِك فَإِذا هُوَ على خِلَافه، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْكَفَّارَة فِي يَمِين اللَّغْو، قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: تجب فِيهَا الْكَفَّارَة، وَقَوله: {لَا يُؤَاخِذكُم} يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة. وَسَائِر الْعلمَاء على أَن لَا كَفَّارَة فِي يَمِين اللَّغْو؛ لظَاهِر الْقُرْآن {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} فِيهِ ثَلَاث قراءات: {عقدتم} بِالتَّخْفِيفِ قِرَاءَة الْكسَائي وَحَمْزَة وَأَبُو بكر. و {عقدتم} بِالتَّشْدِيدِ قَرَأَهُ أَبُو عَمْرو وَمن بَقِي، غير ابْن ذكْوَان، و {عاقدتم} قِرَاءَة ابْن عَامر بِرِوَايَة ابْن ذكْوَان. قَالَ الْكسَائي: عقدتم، أَي: أوجبتم، وَقَالَ أَبُو عَمْرو: عقدتم، أَي: وكدتم، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا التوكيد، قَالَ ابْن جريج: سَأَلت عَطاء عَن قَوْله: {عقدتم} أَنه مَاذَا؟ فَقَالَ: هُوَ قَول الْقَائِل: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ؛ كَأَنَّهُ فسر التوكيد بِهِ، وروى نَافِع عَن ابْن عمر: أَن توكيد الْيَمين بالتكرار، قَالَ نَافِع: وَكَانَ ابْن عمر إِذا وكد الْيَمين أعتق رَقَبَة، وَإِذا لم يوكد: أطْعم الْمَسَاكِين فِي كَفَّارَته. {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} على قَول النَّخعِيّ يرجع هَذَا إِلَى يَمِين اللَّغْو، وعَلى قَول البَاقِينَ يرجع إِلَى الْيَمين المعقودة، وَهِي الْمَقْصُودَة، وَعقد الْيَمين: هُوَ الْقَصْد بِالْقَلْبِ، وَالذكر بِاللِّسَانِ. {من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم} قَالَ ابْن عمر: الْأَوْسَط هُوَ الْخبز وَالزَّيْت، أَو الْخبز

{إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة فَمن لم} وَالتَّمْر، وَقَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: هُوَ الْخبز وَالسمن، وَقَالَ أَبُو رزين: (هُوَ الْخبز والخل وَأما الْأَعْلَى) : هُوَ الْخبز وَاللَّحم، والأدنى: هُوَ الْخبز البحت، وَالْكل مجزئ، والأوسط فِي الْقدر، قَالَ زيد بن ثَابت، وَعَائِشَة، وَابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُم - هُوَ الْمَدّ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - وَذَلِكَ رَطْل وَثلث، وَقَالَ عمر، وَعلي - وَهُوَ رِوَايَة ابْن عَبَّاس - أَنه مدان، نصف صَاع، وَبِه قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ. {أَو كسوتهم} قَالَ عَطاء، وطاووس: لكل مِسْكين ثوب، وَقَالَ مُجَاهِد: مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْكسْوَة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: لكل مِسْكين ثوب جَامع يصلح [لِليْل] وَالنَّهَار مثل الكساء، الملحفة وَنَحْوهمَا. وَقَالَ ابْن عمر: ثَلَاثَة أَثوَاب. وَقيل: ثَوْبَان، وَهُوَ قَول الْحسن، وَابْن سِيرِين، مثل إِزَار ورداء، أَو إِزَار وعمامة. وَقيل: مَا يستر الْعَوْرَة، وتجزئ بِهِ الصَّلَاة. وَالصَّحِيح: أَن الْوَاجِب لكل مِسْكين مَا يصلح بِهِ الْكسْوَة فِي الْعرف {أَو تَحْرِير رَقَبَة} هُوَ عتق الرَّقَبَة، وَفِيه كَلَام فِي الْفِقْه. {فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام} ظَاهِرَة: أَنه يجوز مُتَفَرقًا، وَهُوَ الْأَصَح، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَأبي بن كَعْب: " ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات " فعلى هَذَا يجب التَّتَابُع فِيهِ، وَبِه قَالَ مَالك، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي {ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم} قيل: الْحِنْث مُضْمر فِيهِ، يَعْنِي: إِذا حلفتم وحنثتم، وَلَا تجب الْكَفَّارَة إِلَّا بعد الْحِنْث، وَأما جَوَاز التَّكْفِير قبل الْحِنْث عرفنَا بِالسنةِ {واحفظوا أَيْمَانكُم} ظَاهره للنَّهْي عَن الْحِنْث، وَقيل: أَرَادَ بِهِ حفظ الْيَمين لَا أَن يحلف، وَالْأول أصح {كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تشكرون} .

90

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر} أما الْخمر فقد سبق الْكَلَام فِيهِ، وَكَذَلِكَ الميسر، قَالَ الْأَصْمَعِي: كَانَ ميسرهم على الْجَزُور، فَكَانُوا يشْتَرونَ جزورا وينحرونه، ويجعلونه على ثَمَانِيَة وَعشْرين سَهْما، وَقيل: على عشرَة

{يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم واحفظوا أَيْمَانكُم كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تشكرون (89) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب} أسْهم، ثمَّ يقامرون عَلَيْهِ، فَكل من خرج عَلَيْهِ قدر نصِيبه مجَّانا، وَيكون الثّمن على البَاقِينَ، وَهَكَذَا يقامرون على كل سهم مِنْهُ، إِلَى أَن يبْقى وَاحِد، فَيكون كل الثّمن عَلَيْهِ، ويفوز الْآخرُونَ بسهامهم مجَّانا. وَسُئِلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن النَّرْد وَالشطْرَنْج: أهوَ من الميسر؟ قَالَ: كل مَا صد عَن ذكر الله، وَعَن الصَّلَاة، فَهُوَ من الميسر، وَقَوله: {والأنصاب والأزلام رِجْس} أما الأنصاب والأزلام فقد بَينا، وَقَوله: {رِجْس} أَي: خَبِيث مستقذر، وَفِي الْخَبَر: " أعوذ بِاللَّه من الرجس النَّجس " {من عمل الشَّيْطَان} أَي: من تَزْيِين الشَّيْطَان {فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون} .

91

قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر} أما وُقُوع الْعَدَاوَة فِي الْخمر: أَن [شاربيه] إِذا سَكِرُوا عربدوا، وتشاجروا، (وتشاحجوا) . وَأما الْعَدَاوَة فِي الميسر: قَالَ قَتَادَة: هُوَ أَنهم كَانُوا يقامرون على الْأَهْل وَالْمَال، ثمَّ إِذا لم يبْق لَهُ شَيْء، يجلس زينا، مسلوبا، مغتاظا على قرنائه {ويصدكم عَن ذكر الله

{والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون (90) إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله عَن الصَّلَاة} وَعَن الصَّلَاة) يَعْنِي: الشَّيْطَان يمنعكم بهما عَن ذكر الله (وَعَن الصَّلَاة) {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} مَعْنَاهُ: انْتَهوا، قَالَ الْفراء: سَمِعت بعض الْأَعْرَاب يَقُول لغيره: هَل أَنْت سَاكِت؟ (هَل أَنْت سَاكِت) ؟ يُرِيد بِهِ: اسْكُتْ، وَهَذَا كَلَام الْعَرَب العاربة. وَسبب نزُول الْآيَة: " أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزل (قَوْله) فِي سُورَة الْبَقَرَة: {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر} فَدَعَا عمر، وَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ ثَانِيًا: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزل قَوْله فِي سُورَة النِّسَاء: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} فَقَرَأَ عَلَيْهِ؛ فَدَعَا ثَالِثا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَين لنا فِي الْخمر بَيَانا شافيا؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَدَعَا وَقَرَأَ عَلَيْهِ؛ فَلَمَّا بلغ قَوْله: {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} قَالَ: انتهينا يَا رب "، وَقيل: سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن قدامَة بن مَظْعُون اتخذ دَعْوَة، وشوى رَأس بعير، ودعا سعد بن أبي وَقاص، وَجَمَاعَة، فَأَكَلُوا، وَشَرِبُوا، فَلَمَّا سَكِرُوا تفاخروا، فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار إِلَى لحى الْبَعِير، وَضرب بِهِ وَجه سعد،

{فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ (91) وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول واحذروا فَإِن توليتم فاعلموا أَنما} فَضرب أَنفه، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة " [وَقيل: نزلت] فِي قبيلتين من الْأَنْصَار تخاصمتا فِي حَال السكر، وَقد ورد فِي الْخمر أَخْبَار مِنْهَا: قَوْله: " مدمن الْخمر كعابد الوثن " وَقَالَ: " الْخمر أم الْخَبَائِث، من شربهَا لم يقبل الله لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا، من مَاتَ وَفِي بَطْنه شَيْء من الْخمر؛ حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ".

92

قَوْله تَعَالَى: {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول واحذروا} لما حرم الْخمر، وَأمر بالاجتناب عَنْهَا؛ ندبهم إِلَى طَاعَة الله وَالرَّسُول، والتوقي {فَإِن توليتم فاعلموا أَنما على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين} .

93

قَوْله - تَعَالَى -: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} سَبَب نزُول الْآيَة هَذِه أَن الصَّحَابَة قَالُوا لما ورد تَحْرِيم الْخمر: يَا رَسُول الله كَيفَ حَال من مَاتَ منا وَهُوَ يشرب الْخمر؟ فَنزلت الْآيَة: وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا: إِن حَمْزَة بن عبد الْمطلب،

{على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين (92) لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا وَالله} وَمصْعَب بن عُمَيْر اسْتشْهدُوا يَوْم أحد، وَكَانَا يشربان الْخمر، فَكيف حَالهمَا؟ فَنزلت الْآيَة وَبَين الله تَعَالَى أَنه لَا جنَاح عَلَيْهِم فِيمَا طعموا فِي حَال الْإِبَاحَة {إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ثمَّ اتَّقوا وآمنوا ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا} (فِي هَذَا مقدم معنى مُؤخر أَقْوَال) : أَحدهَا: أَن معنى الأول: إِذا مَا اتَّقوا الشّرك وآمنوا، أَي: صدقُوا، وَعمِلُوا الصَّالِحَات {ثمَّ اتَّقوا} أَي: داموا على ذَلِك التَّقْوَى {وآمنوا} أَي ازدادوا إِيمَانًا {ثمَّ اتَّقوا وأحسنوا} أَي: اتَّقوا بِالْإِحْسَانِ فِي كل محسن، وكل مُطِيع متق. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التَّقْوَى الأول: اجْتِنَاب الشّرك، وَالتَّقوى الثَّانِي: اجْتِنَاب الْكَبَائِر وَالتَّقوى الثَّالِث: اجْتِنَاب الصَّغَائِر، وَهَذَانِ قَولَانِ معروفان فِي الْآيَة، وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَنه أَرَادَ بِهِ: إِذا مَا اتَّقوا قبل تَحْرِيم الْخمر، ثمَّ اتَّقوا بعد تَحْرِيم الْخمر، وَقيل هَذَا لَا يَصح؛ لِأَن قَوْله: {إِذا مَا اتَّقوا} إِنَّمَا يصلح للمستقبل لَا للماضي؛ فَإِن حرف " إِذا " للمستقبل. {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} ، روى أَن قدامَة بن مَظْعُون شرب الْخمر؛ فَدَعَاهُ عمر ليحده، فَقَالَ: أَلَيْسَ يَقُول الله - تَعَالَى -: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} فَقَالَ: أَخْطَأت التَّأْوِيل، لقد قَالَ: {إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا} وَأَنت لم تتق النَّهْي. وروى: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة، ثمَّ قَالَ ابْن مَسْعُود: وأينا من هَؤُلَاءِ؟ ! "

94

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد} أَي: ليختبرنكم الله بِشَيْء من الصَّيْد، وَفَائِدَة الْبلوى والاختبار: إِظْهَار الْمُطِيع من العَاصِي، وَإِلَّا فَلَا حَاجَة لَهُ إِلَى الْبلوى، وَسبب هَذَا: أَن رَسُول الله لما نزل بِالْحُدَيْبِية مَعَ

{يحب الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ليبلونكم الله بِشَيْء من الصَّيْد تناله أَيْدِيكُم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم (94) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا فجزاء مثل مَا قتل من} أَصْحَابه، وَكَانُوا محرمين، كَانَ يدنوا مِنْهُم الصيود والوحوش؛ فَهموا بِالْأَخْذِ؛ فَنزلت الْآيَة. {تناله أَيْدِيكُم} يَعْنِي: فِي صغَار الصيود {ورماحكم} يَعْنِي: من كبار الوحوش، قَالَ مُجَاهِد {تناله أَيْدِيكُم} يَعْنِي: الفرخ وَالْبيض {ورماحكم} يَعْنِي: الصيود الْكِبَار. {ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ} قيل: مَعْنَاهُ: ليعلم الله من يخافه بِالْغَيْبِ، فيعامله مُعَاملَة من يطْلب الْعلم للْعَمَل؛ إِظْهَار للعدل، وَقيل: مَعْنَاهُ: ليرى من يخافه بِالْغَيْبِ، وَقَوله: {من يخافه بِالْغَيْبِ} هُوَ أَن يخَاف الله وَهُوَ لَا يرَاهُ {فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} .

95

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} سَبَب هَذَا أَن رجلا يُقَال لَهُ: أَبُو الْيُسْر، شدّ على حمَار وَحش؛ فَقتله وَهُوَ محرم؛ فَنزلت الْآيَة {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} ، وَالْحرم: يكون من الْإِحْرَام، وَيكون من دُخُول الْحرم، يُقَال: أحرم، إِذا عقد الْإِحْرَام، وَأحرم إِذا دخل الْحرم، وَيُقَال أَيْضا لمن أدْرك الشَّهْر الْحَرَام: محرم. {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا} ذكر حَالَة الْعمد لبَيَان الْكَفَّارَة، فَاخْتلف الْعلمَاء، قَالَ سعيد بن جُبَير: لَا تجب كَفَّارَة الصَّيْد فِي قتل الْخَطَأ، بل تخْتَص بالعمد، وَبِه قَالَ دَاوُد. وَسَائِر الْعلمَاء على أَنَّهَا تجب فِي الْحَالين، قَالَ الزُّهْرِيّ: على الْمُتَعَمد بِالْكتاب، وعَلى الْمُخطئ بِالسنةِ. {فجزاء مثل مَا قتل من النعم} قَرَأَ الْأَعْمَش " فَجَزَاؤُهُ مثل مَا قتل من النعم "، وَالْمَعْرُوف فِيهِ قراءتان " فجزاء مثل " على الْإِضَافَة، وَقَرَأَ بَعضهم " فجزاء مثل " بتنوين

{النعم يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم هَديا بَالغ الْكَعْبَة أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك} الْجَزَاء، وَرفع اللَّام من الْمثل، وَمعنى الْكل وَاحِد، والمثلية مُعْتَبرَة فِي الْجَزَاء؛ فَيجب فِيمَا قتل مثله من النعم شبها؛ فَيجب فِي النعامة: بَدَنَة، وَفِي الأروى: بقرة، وَفِي الطير والضبع والحمامة: شَاة، وَفِي الأرنب: عنَاق، وَفِي اليربوع: جفرة، وكل هَذَا مَرْوِيّ عَن الصَّحَابَة. {يحكم بِهِ ذَوا عدل مِنْكُم} وَفِيه دَلِيل على جَوَاز الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام {هَديا بَالغ الْكَعْبَة} نصب على التَّمْيِيز، قَوْله: {بَالغ الْكَعْبَة} يَقْتَضِي أَن يكون إِعْطَاء الْهَدْي فِي الْحرم، يفرق على مَسَاكِين الْحرم، وَهُوَ الْوَاجِب {أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين} وَذَلِكَ أَن يقوم (الْمثل) من النعم بِالدَّرَاهِمِ، وَيَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ طَعَام مَسَاكِين، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة يقوم بالصيد الْمَقْتُول أبدا {أَو عدل ذَلِك صياما} قَرَأَ عَاصِم الجحدري، وَطَلْحَة بن، مصرف: {أَو عدل ذَلِك} بِكَسْر الْعين، ثمَّ قَالَ بَعضهم: لَا فرق بَينهمَا، وَمَعْنَاهُ: الْمثل، وَفرق الْفراء بَينهمَا، فَقَالَ: الْعدْل - بِالْكَسْرِ -: الْمثل من جنسه، وَالْعدْل: الْمثل من غير جنسه، وَقد قيل: الْعدْل - بِالْفَتْح -: هُوَ الْمثل، وَالْعدْل بِالْكَسْرِ -: الْحمل، وَالْأول أصح، وَصَوْم الْعدْل: أَن يَصُوم بدل كل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مد يَوْمًا، وَقيل: يَوْمَانِ، ثمَّ هَذَا على التَّخْيِير أم على التَّرْتِيب؟ قَالَ الشّعبِيّ، وَالنَّخَعِيّ - وَهُوَ رِوَايَة عَن مُجَاهِد -: إِنَّه على التَّرْتِيب، وَقَالَ غَيرهم - وَبِه قَالَ ابْن عَبَّاس -: إِنَّه على التَّخْيِير؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {أَو كَفَّارَة طَعَام مَسَاكِين أَو عدل ذَلِك صياما} وَكلمَة " أَو " للتَّخْيِير {ليذوق وبال أمره} أَي: شدَّة أمره {عَفا الله عَمَّا سلف} يَعْنِي: فِي الْجَاهِلِيَّة {وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ وَالله عَزِيز ذُو انتقام} . وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْعَامِد إِلَى قتل الصَّيْد ثَانِيًا، هَل تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة ثَانِيًا، أم

{صياما ليذوق وبال أمره عَفا الله عَمَّا سلف وَمن عَاد فينتقم الله مِنْهُ وَالله عَزِيز ذُو انتقام (95) أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعا لكم وللسيارة وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر مَا دمتم حرما وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون (96) جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قيَاما} لَا؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تجب، وَيُقَال لَهُ. أَسَأْت، وينتقم الله مِنْك. وَعَامة الْعلمَاء على أَنه تجب الْكَفَّارَة ثَانِيًا، وَقَوله: {فينتقم الله مِنْهُ} يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.

96

قَوْله - تَعَالَى -: {أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه} قَالَ عمر، وعَلى: صيد الْبَحْر مَا صيد مِنْهُ، وَطَعَامه مَا قذف، وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس. وَعنهُ رِوَايَة أُخْرَى: أَن طَعَامه مَا نضب عَنهُ المَاء. وَقَالَ مُجَاهِد: صَيْده: الطري وَطَعَامه: المالح، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. {مَتَاعا لكم} أَي: مَنْفَعَة لكم {وللسيارة} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَتَاعا لكم: خطاب مَعَ أهل الْقرى، والسيارة أهل الْأَمْصَار، وَقَالَ مُجَاهِد: السيارة: المسافرون. {وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر مَا دمتم حرما} حرم الِاصْطِيَاد على الْمحرم، وَقد ذكرنَا {وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون} وَاخْتلف الْعلمَاء فِي صيد الْحَلَال: هَل يحل للْمحرمِ، وَأَن يَأْكُل مِنْهُ؟ قَالَ عمر، وَعُثْمَان: يحل. وَبِه أَخذ اكثر الْفُقَهَاء، وَقَالَ عَليّ، وَابْن عَبَّاس: إِنَّه لَا يحل، وَبِه قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين.

97

قَوْله - تَعَالَى -: {جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام} قَالَ ثَعْلَب أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن يحيى: إِنَّمَا سميت كعبة؛ لتربيعها {الْبَيْت الْحَرَام} وَهُوَ الْكَعْبَة، وَفِي الْخَبَر: " إِن الله - تَعَالَى - حرم مَكَّة مُنْذُ خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض " {قيَاما للنَّاس} الْقيام والقوام وَاحِد، قَالَ الله - تَعَالَى -: {أَمْوَالكُم الَّتِي جعل الله لكم قيَاما} أَي: قواما لمعايشكم، وَقَالَ الشَّاعِر: يمدح النَّبِي. (ونشهد أَنَّك عبد المليك ... أتيت بشرع وَدين قيم)

{للنَّاس والشهر الْحَرَام وَالْهَدْي والقلائد ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا} وَأَرَادَ بِهِ: أَن الْبَيْت الْحَرَام قوام للنَّاس لدينهم ومعايشهم، أما فِي الدّين؛ لِأَن بِهِ تقوم الْمَنَاسِك وَالْحج، وَأما فِي المعايش؛ فَلِأَن (أهل الْحرم) كَانُوا يأمنون أهل (الْغَارة) ، حَتَّى كَانَ يُغير بَعضهم على بعض، ثمَّ لَا يتعرضون لأهل الْحرم، وَيَقُولُونَ: هم أهل الله. {والشهر الْحَرَام} أَرَادَ بِهِ: جنس الْأَشْهر الْحرم، وَهِي أَرْبَعَة أشهر: ثَلَاثَة سرد، وَوَاحِد فَرد كَمَا سبق، وَالْمرَاد بِهِ: أَنه جعل الشَّهْر الْحَرَام قواما للنَّاس؛ يأمنون فِيهِ الْقِتَال؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يكفون عَن الْقَتْل والقتال فِي الْأَشْهر الْحرم. {وَالْهَدْي والقلائد} وَقد بَينا كَيفَ يكون الْهَدْي والقلائد، وَكَونه قواما للنَّاس: أَنهم كَانُوا يأمنون بتقليد الْهَدْي، وَكَانَ أهل الْحرم يتعيشون بِالْهَدْي والقلائد. {ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأَن الله بِكُل شَيْء عليم} فَإِن قَالَ قَائِل: أَي اتِّصَال لهَذَا بِمَا سبق من الْكَلَام فِي الْآيَة؟ قَالَ الْمبرد أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد: مَعْنَاهُ: أَن ألهمتهم ذَلِك الاحترام، وَأَن لَا يتَعَرَّضُوا لأهل الْحرم؛ فَكَأَنَّهُ بَين فِي الْآيَة صَنْعَة مَعَ أهل الْحرم، قَالَ: ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن كل ذَلِك بعلمي، وإلهامي إيَّاهُم. وَقَالَ الزّجاج: [قد سبق] فِي هَذِه السُّورَة من الله - تَعَالَى - الْإِخْبَار عَن الغيوب، والكشف عَن الْأَسْرَار، مثل قَوْله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخَرين لم يأتوك} وَمثل إخْبَاره بتحريفهم الْكتب، وَنَحْو ذَلِك؛ فَقَوله: {ذَلِك لِتَعْلَمُوا أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} رَاجع إِلَيْهِ.

{فِي الأَرْض وَأَن الله بِكُل شَيْء عليم (97) اعلموا أَن الله شَدِيد الْعقَاب وَأَن الله غَفُور رَحِيم (98) مَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون (99) قل لَا}

98

قَوْله - تَعَالَى -: {اعلموا أَن الله شَدِيد الْعقَاب وَأَن الله غَفُور رَحِيم} وَفِي الْخَبَر: " لَو يعلم الْمُؤمن مَا عِنْد الله من الْعَذَاب لم يطْمع فِي جنته أحد، وَلَو يعلم الْكَافِر مَا عِنْد الله من الرَّحْمَة لم يقنط من جنته أحد ".

99

وَقَوله: {مَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون} مَعْلُوم الْمَعْنى.

100

قَوْله - تَعَالَى -: {قل لَا يَسْتَوِي الْخَبيث وَالطّيب} قَالَ السّديّ: يَعْنِي الْكَافِر وَالْمُؤمن. وَقَالَ غَيره: الْخَبيث: الْحَرَام، وَالطّيب: الْحَلَال، وَفِي الْخَبَر: " حلوان الكاهن خَبِيث وَمهر الْبَغي خَبِيث " أَي: حرَام {وَلَو أعْجبك} مَعْنَاهُ: وَلَو سرك {كَثْرَة الْخَبيث} . {فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تفلحون} وَفِي الْمثل: حرَام يَأْتِي جزفا (والحلال) يَأْتِي قوتا. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " دِرْهَم من الْحَلَال خير من مائَة ألف [دِرْهَم] وقر من الْحَرَام ".

101

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الصَّحَابَة أَكْثرُوا السُّؤَال على النَّبِي حَتَّى غضب، وَقَامَ

{يَسْتَوِي الْخَبيث وَالطّيب وَلَو أعْجبك كَثْرَة الْخَبيث فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب لَعَلَّكُمْ تفلحون (100) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ وَإِن تسألوا} خَطِيبًا، وَقَالَ: " إِنَّكُم لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء فِي مقَامي هَذَا إِلَّا أنبأتكم بِهِ، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، من أَبى؟ - وَكَانَ السَّائِل عبد الله بن حذافة السَّهْمِي، وَكَانَ يُقَال فِي نسبه شَيْء، فَلَمَّا قَالَ: من أَبى؟ - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: أَبوك حذافة، فَقَامَ آخر، وَقَالَ: من أَبى؟ فنسبه إِلَى غير أَبِيه - كَأَنَّهُ كَانَ من حرَام - وَسَأَلَهُ رجل، فَقَالَ: أَيْن أكون غَدا؟ فَقَالَ: فِي النَّار، فَقَامَ آخر، وَقَالَ أَيْن أكون غَدا؟ فَقَالَ: فِي الْجنَّة؛ فبكوا، وَقَالَ عمر: اسْتُرْ علينا يَا رَسُول الله؛ فَإنَّا حَدِيث عهد بالجاهلية، وَجَثَا على رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّه رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دينا؛ وَنزلت الْآيَة ". وروى أَبُو البخْترِي عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " (لما) نزل قَوْله: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} قَامَ رجل، وَقَالَ: أَفِي كل عَام يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: لَا، وَلَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ، وَلم تطيقوه، ثمَّ قَالَ: ذروني مَا تركْتُم، فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ، وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ، فَمَا أَمرتكُم بِهِ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنهُ، فَانْتَهوا، وَنزلت الْآيَة ". {وَإِن تسألوا عَنْهَا حِين ينزل الْقُرْآن تبد لكم} مَعْنَاهُ: وَإِن صَبَرْتُمْ حَتَّى ينزل الْقُرْآن؛ وجدْتُم فِيهِ بَيَان مَا تحتاجون إِلَيْهِ {عَفا الله عَنْهَا وَالله غَفُور حَلِيم} .

102

{قد سَأَلَهَا قوم من قبلكُمْ ثمَّ أَصْبحُوا بهَا كَافِرين} قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ أَصْحَاب

{عَنْهَا حِين ينزل الْقُرْآن تبد لكم عَفا الله عَنْهَا وَالله غَفُور حَلِيم (101) قد سَأَلَهَا قوم من قبلكُمْ ثمَّ أَصْبحُوا بهَا كَافِرين (102) مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا} الْمَائِدَة، وسألوا الْمَائِدَة ثمَّ كفرُوا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: قوم صَالح، سَأَلُوا النَّاقة، ثمَّ كفرُوا بهَا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الْكفَّار فِي الْجَاهِلِيَّة، سَأَلُوا رَسُول الله أَن يَجْعَل الصَّفَا ذَهَبا.

103

قَوْله - تَعَالَى -: {مَا جعل الله من بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا حام} قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ سُؤَالهمْ الَّذِي تقدم عَن هَذِه الأوضاع، وَهَذِه الْآيَة لبَيَان مَا سَأَلُوا ردا عَلَيْهِم، وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي بَيَان هَذِه الأوضاع الْأَرْبَعَة، قَالَ: أما الْبحيرَة: هِيَ النَّاقة كَانَت إِذا ولدت خَمْسَة أبطن شَقوا أَنَّهَا، وتركوها وَلم يحملوا عَلَيْهَا، وَلم يمنعوها الْكلأ؛ وَبِذَلِك سميت بحيرة من الْبَحْر، وَهُوَ الشق، ثمَّ نظرُوا إِلَى خَامِس وَلَدهَا، فَإِن كَانَ ذكرا نحروه، وَأكله الرِّجَال دون النِّسَاء، وَإِن كَانَت أثنى تركوها كالأم، وَإِن كَانَ مَيتا، أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء؛ فَهَذَا معنى الْبحيرَة. وَأما السائبة: كَانَ الرجل من أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا مرض لَهُ مَرِيض، أَو غَابَ لَهُ قريب، يَقُول: إِن رد الله غائبي، أَو إِن شفى الله مريضي؛ فناقتي هَذِه سائبة، ثمَّ يسيبها، تذْهب حَيْثُ تشَاء، (أَو) يَقُول: إِن كَانَ كَذَا؛ فَعَبْدي عَتيق سائبة. يَعْنِي: من غير وَلَاء، وَلَا مِيرَاث؛ فَهَذَا معنى السائبة. وَأما الوصيلة: فَكَانَت فِي الْغنم، كَانَت الشَّاة إِذا ولدت سَبْعَة أبطن، نظرُوا إِلَى الْبَطن السَّابِع، فَإِن كَانَ ذكرا ذبحوه وَأكله الرِّجَال دون النِّسَاء، وَإِن كَانَت أُنْثَى تركوها، وَإِن كَانَ مَيتا أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَإِن كَانَ ذكرا وَأُنْثَى فِي بطن وَاحِد تركوهما، وَقَالُوا: وصلت أخاها، فَهَذِهِ هِيَ الوصيلة. وَأما الحام: كَانَ بَعضهم إِذا ولدت نَاقَته عشرَة أبطن؛ تركوها وَلم يركبوها، وَقَالُوا: حمى ظهرهَا، وَكَذَلِكَ إِذا ركب ولد وَلَدهَا؛ يَقُولُونَ: حمى ظهرهَا وتركوها، وَرُبمَا تركوها لآلهتهم على مَا سَيَأْتِي فِي سُورَة الْأَنْعَام؛ فَهَذَا هُوَ الحام، وَهَذِه أوضاع وَضعهَا أهل الْجَاهِلِيَّة على آرائهم، فجَاء الشَّرْع برفعها، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ:

{حام وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ (103) وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول قَالُوا حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا} " رَأَيْت النَّار؛ فَرَأَيْت فِيهَا عَمْرو بن لحي يجر قَصَبَة فِي النَّار " أَي: أمعاءه، وَكَانَ أول من سيب السوائب {وَلَكِن الَّذين كفرُوا يفترون على الله الْكَذِب وَأَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ}

104

{وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول} يَعْنِي: إِذا دعوا إِلَى الْكتاب وَالسّنة {قَالُوا حَسبنَا مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} يَعْنِي: كفانا دين آبَائِنَا {أَو لَو كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ} .

105

قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا عَلَيْكُم أَنفسكُم} يَعْنِي: تَخْلِيصهَا من النَّار {لَا يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول: " عَلَيْكُم أَنفسكُم " وَقد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر؟ قيل: قَالَ مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير: الْآيَة فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى، يَعْنِي: عَلَيْكُم أَنفسكُم، لَا يضركم من ضل من الْيَهُود وَالنَّصَارَى إِذا اهتديم؛ فَخُذُوا مِنْهُم الْجِزْيَة، وَلَا تتعرضوا لَهُم، واتركوهم وَمَا يَزْعمُونَ؛ فَإِنَّهُ لَا يضركم. (وَعَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنه خطب وَقَالَ: إِنَّكُم تقرءون هَذِه الْآيَة {عَلَيْكُم أَنفسكُم لَا يضركم} من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ) ، وَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: إِذا رَأَيْتُمْ الظَّالِم فَخُذُوا على يَدَيْهِ، أَو يُوشك أَن [يعمكم] الله (بعقاب) " وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " مروا بِالْمَعْرُوفِ، وانهوا عَن

{يضركم من ضل إِذا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى الله مرجعكم جَمِيعًا فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم} الْمُنكر؛ فَإِن قيل مِنْكُم؛ فَذَاك وَإِن رد عَلَيْكُم أَنفسكُم "، [وَيرد] هَذَا مَا روى عَن أبي أُميَّة الشَّيْبَانِيّ أَنه قَالَ: " سَأَلت أَبَا ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، فَقلت: إِن الله - تَعَالَى - يَقُول: {عَلَيْكُم أَنفسكُم} وَقد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، فَقَالَ: لقد سَأَلت عَنْهَا خَبِيرا، سَمِعت رَسُول الله - وَقد سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة - يَقُول: مروا بِالْمَعْرُوفِ وانهو عَن الْمُنكر؛ فَإِذا رَأَيْت شحا مُطَاعًا، وَهوى مُتبعا، وَدُنْيا مُؤثرَة، وَإِعْجَاب كل ي رَأْي بِرَأْيهِ، فَعَلَيْك بخويصة نَفسك، ودع أَمر الْعَامَّة " {إِلَى الله مرجعكم ميعا فينبئكم بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ} .

106

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم} سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن تَمِيم الدَّارِيّ وعدي (بن بداء) ؟ خرجا إِلَى التِّجَارَة، وَكَانَا نَصْرَانِيين، ومعهما بديل مولى عَمْرو بن الْعَاصِ، وَكَانَ مُسلما؛ فَمَرض، وَكتب مَا مَعَه من الْمَتَاع فِي صحيفَة، وألقها بَين الْمَتَاع، ثمَّ أوصى إِلَى هذَيْن النصرانيين أَن يردا مَتَاعه إِلَى مَوْلَاهُ إِن مَاتَ هُوَ، وَكَانَ بَين الْمَتَاع جَام [مخوص] بِالذَّهَب منقوش بِهِ؛ فخانا فِي ذَلِك الْجَام، وأديا سَائِر الْمَتَاع إِلَى أَهله، فوجدوا تِلْكَ الصَّحِيفَة بَين الْمَتَاع؛ فطلبوا الْجَام، فافتقدوه؛ فسألوا عديا، وتميما عَن ذَلِك فأنكرا، وَقَالا: لَا نَدْرِي، وحلفا عَلَيْهِ، ثمَّ إِن ذَلِك الْجَام وجد عِنْد رجل بِالْمَدِينَةِ، فَسئلَ الرجل عَنهُ؛ فَقَالَ: إِنَّمَا أعطانيه عدي وَتَمِيم؛ فاختصموا إِلَى النَّبِي؛ فأصر على الْإِنْكَار، وحلفا عَلَيْهِ؛ فَحلف عَمْرو بن الْعَاصِ وَالْمطلب بن أبي

{إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت تحبسونهما من بعد الصَّلَاة فيقسمان} ودَاعَة على أَنَّهُمَا قد خَانا فِي الْجَام، فَأخذ الْجَام ثمَّ إِن تميما أسلم بعد ذَلِك؛ وَأقر بِتِلْكَ الْخِيَانَة " فَهَذِهِ قصَّة الْآيَة وَعَلَيْهَا نزلت الْآيَة. فَقَوله: {شَهَادَة بَيْنكُم} يقْرَأ فِي الشواذ " شَهَادَة بَيْنكُم " وَقَرَأَ الْأَعْرَج " شَهَادَة بَيْنكُم " بِالرَّفْع والتنوين، وَالْمَعْرُوف " شَهَادَة بَيْنكُم " {إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} أَي: أَسبَاب الْمَوْت {حِين الْوَصِيَّة اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم} ذكر اثْنَان على الرّفْع؛ لِأَنَّهُ خبر الِابْتِدَاء، وَمعنى هَذَا الْكَلَام: أَن الشَّهَادَة فِيمَا بَيْنكُم على الْوَصِيَّة عِنْد الْمَوْت: اثْنَان ذَوا عدل مِنْكُم. {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول شُرَيْح، وَالنَّخَعِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَجَمَاعَة -: أَن مَعْنَاهُ من غير أهل ملتكم، يَعْنِي: من أهل الذِّمَّة، وَقَالَ الْحسن، وَالزهْرِيّ: مَعْنَاهُ: من غير قبيلتكم. {إِن أَنْتُم ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} أَي: سافرتم {فأصابتكم مُصِيبَة الْمَوْت تحبسونهما من بعد الصَّلَاة} أَكثر الْعلمَاء على أَنه أَرَادَ بِهِ: صَلَاة الْعَصْر، (وَقَالَ الْحسن: بعد صَلَاة الظّهْر، وَالْأول أصح؛ وَإِنَّمَا خص بِهِ صَلَاة الْعَصْر؛ لِأَن وَقت الْعَصْر) مُعظم مُحْتَرم عِنْد (جَمِيع) أهل الْأَدْيَان، وَكَأن النَّاس بعد الْعَصْر يكون أجمع فِي الْأَسْوَاق والمساجد. وَالْمرَاد بِهِ: حبس الحالفين بعد الْعَصْر.

{بِاللَّه إِن ارتبتم لَا نشتري بِهِ ثمنا وَلَو كَانَ ذَا قربى وَلَا نكتم شَهَادَة الله إِنَّا إِذا لمن الآثمين (106) فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا فآخران يقومان مقامهما من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَمَا اعتدينا إِنَّا إِذا} {فيقسمان بِاللَّه إِن ارتبتم} يَعْنِي: إِن وَقعت لكم رِيبَة فِي قَول الحالفين أَو الشَّاهِدين يحلفان أَنا {لَا نشتري بِهِ ثمنا وَلَو كَانَ ذَا قربى} أَي: لَا نقُول إِلَّا الصدْق وَلَو كَانَ على الْقَرِيب {وَلَا نكتم شَهَادَة الله إِنَّا إِذا لمن الآثمين} وَإِنَّمَا قَالَ: شَهَادَة الله؛ لِأَن الشَّهَادَة تكون بِأَمْر الله

107

{فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} يَعْنِي: فَإِن اطلع، وَأظْهر خيانتهما {فآخران يقومان مقامهما من الَّذين لستحق عَلَيْهِم الأوليان} يقْرَأ هَذَا على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: " من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان ". وَقَرَأَ (حَفْص عَن عَاصِم) " من الَّذين اسْتحق " بِنصب التَّاء والحاء {عَلَيْهِم الأوليان} وَقَرَأَ أَبُو بكر عَن عَاصِم، وَحَمْزَة: " من الَّذين اسْتحق " - بِضَم التَّاء وَكسر الْحَاء - عَلَيْهِم الْأَوَّلين. فَأَما معنى الْقِرَاءَة الأولى فَقَوله: {اسْتحق عَلَيْهِم} يَعْنِي: اسْتحق فيهم، أَو اسْتحق مِنْهُم كَقَوْلِه: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي: على جُذُوع النّخل، يَعْنِي: الَّذين وَقعت الْخِيَانَة فِي حَقهم، وهم أَوْلِيَاء الْمَيِّت، و {الأوليان} تَثْنِيَة: الأولى، وَالْأولَى: هُوَ الْأَقْرَب، وَمَعْنَاهُ: إِن عثر على خِيَانَة الحالفين؛ يقوم الأوليان من أَوْلِيَاء الْمَيِّت؛ فيحلفان، وَأما قَوْله: {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم} أَي حق وَوَجَب فيهم، وَمَعْنَاهُ وَمعنى الْقِرَاءَة الأولى سَوَاء. وَأما الْقِرَاءَة الثَّالِثَة: {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الْأَوَّلين} فَهُوَ بدل عَن قَوْله: {من الَّذين} أَو عَن الِاسْم الْمُضمر تَحت قَوْله: {عَلَيْهِم} ؛ فَيكون المُرَاد بِهِ أَيْضا أَوْلِيَاء الْمَيِّت وَيكون الْمَعْنى مَا بَينا.

{لمن الظَّالِمين (107) ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم وَاتَّقوا الله واسمعوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (108) يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم قَالُوا لَا علم لنا إِنَّك أَنْت علام الغيوب (109) إِذْ قَالَ الله يَا} ثمَّ بَين كَيْفيَّة قسهما؛ فَقَالَ: {فيقسمان بِاللَّه لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَمَا اعتدينا إِنَّا إِذا لمن الظَّالِمين}

108

{ذَلِك أدنى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ على وَجههَا} يَعْنِي: ذَلِك أقرب وَأَحْرَى أَن تُؤَدُّوا الشَّهَادَة على وَجههَا {أَو يخَافُوا أَن ترد أَيْمَان بعد أَيْمَانهم} يَعْنِي: وَإِن يخَافُوا رد الْيَمين بعد يمينهم على المدعين؛ فَلَا يحلفوا على الْكَذِب؛ خوفًا من أَن يرد الْيَمين عَلَيْهِم، وَيكون يمينهم أولى. {وَاتَّقوا الله واسمعوا وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} قَالَ النَّخعِيّ، وَشُرَيْح: الْآيَة مَنْسُوخَة، وَقَوله: {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} لقد كَانَت شَهَادَة أهل الذِّمَّة مَقْبُولَة على الْوَصِيَّة ثمَّ نسخ، وَقد جوز بَعضهم شَهَادَة أهل الذِّمَّة فِي الْوَصِيَّة؛ خَاصَّة من لَا يرى نسخ الْآيَة مِنْهُم، وَقَالَ الْحسن: الْآيَة محكمَة، وَقد حمل قَوْله: " أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ " على غير قبيلتكم كَمَا بَينا.

109

قَوْله: {يَوْم يجمع الله الرُّسُل فَيَقُول مَاذَا أجبتم قَالُوا لَا علم لنا} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُولُونَ: لَا علم لنا، وَقد علمُوا مَا أجابوا؟ قيل: إِن جَهَنَّم تزفر زفرَة تذهل (بهَا) عُقُولهمْ؛ فَيَقُولُونَ من شدَّة الْفَزع: لَا علم لنا؛ ثمَّ يرد الله - تَعَالَى - عَلَيْهِم عُقُولهمْ، فيخبرون بِالْجَوَابِ، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم لنا إِلَّا الْعلم الَّذِي أَنْت أعلم بِهِ منا، أَو إِلَّا مَا علمتنا، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم لنا بِوَجْه الْحِكْمَة فِي سؤالك إيانا عَن أَمر أَنْت أعلم بِهِ منا، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا علم بعاقبة أَمرهم، وَبِمَا أَحْدَثُوا من بعد، وَأَن أَمرهم على مَاذَا ختم، وعَلى هَذَا دلّ شَيْئَانِ: أَحدهمَا: من الْآيَة قَوْله {إِنَّك أَنْت علام الغيوب} ، وَالثَّانِي: مَا روى صَحِيحا عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " يسْلك بطَائفَة من أَصْحَابِي ذَات الشمَال - يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة - فَأَقُول: يَا رب، أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيَقُول الله - تبَارك وَتَعَالَى -: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك، إِنَّهُم لم يزَالُوا مرتدين على أَعْقَابهم مُنْذُ فَارَقْتهمْ. فَأَقُول مَا قَالَ العَبْد الصَّالح: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت

{عِيسَى ابْن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك إِذْ أيدتك بِروح الْقُدس تكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَإِذ علمتك الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل وَإِذ تخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير بإذني فتنفخ فِيهَا فَتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وَإِذ تخرج الْمَوْتَى بإذني وَإِذ كَفَفْت بني إِسْرَائِيل عَنْك إِذْ جئتهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذين كفرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (110) وَإِذ أوحيت إِلَى الحواريين أَن آمنُوا بِي} فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد) ".

110

قَوْله - تَعَالَى -: {إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك} أمره بشكر النِّعْمَة، ثمَّ عد عَلَيْهِ نعْمَة؛ فَقَالَ: {إِذْ أيدتك بِروح الْقُدس تكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَإِذ علمتك الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة وَالْإِنْجِيل} وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ. {وَإِذ تخلق من الطين كَهَيئَةِ الطير بإذني فتنفخ فِيهَا فَتكون طيرا بإذني} وَقد بَينا فِيمَا سبق كيفيته. {وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وَإِذ تخرج الْمَوْتَى بإذني وَإِذ كَفَفْت بني إِسْرَائِيل عَنْك إِذْ جئتهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذين كفرُوا مِنْهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} .

111

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ أوحيت إِلَى الحواريين أَن آمنُوا بِي وبرسولي} هَذَا الْوَحْي بِمَعْنى الإلهام، أَو بِمَعْنى الْأَمر، أَي: ألهمتهم وأمرتهم، قَالَ العجاج: (الْحَمد لله الَّذِي اسْتَقَلت بِهِ السَّمَاء فاطمأنت (أوحى) لَهَا الْقَرار فاستقرت) أَي: أمرهَا بالقرار. {قَالُوا آمنا واشهد بأننا مُسلمُونَ} وَقد ذكرنَا معنى الحواريين.

{وبرسولي قَالُوا آمنا واشهد بأننا مُسلمُونَ (111) إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء قَالَ اتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين (112) }

112

قَوْله - تَعَالَى -: {إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل تَسْتَطِيع رَبك} وَقَرَأَ الْكسَائي: " هَل يَسْتَطِيع " - بِالتَّاءِ - " رَبك " بِفَتْح الْبَاء، وَهَذِه قِرَاءَة عَليّ، ومعاذ وَعَائِشَة، وَكَانَت عَائِشَة تحلف أَن الحواريين أعرف بِاللَّه من أَن يَقُولُوا: هَل يَسْتَطِيع رَبك. ولقراءتهم مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ هَل تسْأَل رَبك، وَالثَّانِي: هَل تستدعي طَاعَة رَبك بإجابته سؤالك إِيَّاه؟ وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فَفِي مَعْنَاهَا أَقْوَال: أَحدهَا مَعْنَاهُ: هَل يفعل رَبك. وَقَالَ الْفراء: يَقُول الرجل لغيره: هَل تَسْتَطِيع أَن تفعل كَذَا، يُرِيد بِهِ: هَل تفعل كَذَا؟ . وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: هَل يُطِيع رَبك اسْتَطَاعَ بِمَعْنى أطَاع، كَقَوْلِهِم: اسْتَجَابَ، يَعْنِي: أجَاب، فَيكون مَعْنَاهُ: هَل يطيعك رَبك؛ بإجابة سؤالك، وَفِي الْآثَار: " من أطَاع الله أطاعه الله " أَي: يُجيب دعاءه. وَقيل: إِن الحواريين قَالُوا ذَلِك قبل استحكام الْمعرفَة، وَأَرَادَ بِهِ: الْقُدْرَة، وَلَو استحكمت معرفتهم لم يَقُولُوا ذَلِك، وَالصَّحِيح أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين، وَهَذَا لِأَن الِاسْتِطَاعَة لَا تنْسب إِلَى الله غَالِبا؛ وَإِنَّمَا يُوصف بِالْقُدْرَةِ، وَأما الِاسْتِطَاعَة تكون للْعَبد. وَقَوله: {أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء} اعْلَم أَن الْمَائِدَة: اسْم لما يكون عَلَيْهِ طَعَام؛ فَإِذا لم يكن عَلَيْهِ طَعَام لَا يُسمى مائدة، وَاخْتلفُوا فِي اشتقاق الْمَائِدَة: مِنْهُم من قَالَ: هِيَ من الميد، بِمَعْنى الْإِعْطَاء، وَمِنْه: قَالُوا لأمير الْمُؤمنِينَ: الممتاد، يَعْنِي: الَّذِي يطْلب عطاؤه؛ فعلى هَذَا سميت مائدة؛ لِأَنَّهَا تُعْطِي من عَلَيْهَا الطَّعَام. وَقيل: هُوَ من [الميد] بِمَعْنى الْحَرَكَة؛ فعلى هَذَا سميت مائدة؛ لِأَنَّهَا تتحرك بِمَا

{قَالُوا نُرِيد أَن نَأْكُل مِنْهَا وتطمئن قُلُوبنَا ونعلم أَن قد صدقتنا ونكون عَلَيْهَا من الشَّاهِدين (113) قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وَآيَة مِنْك وارزقنا وَأَنت خير الرازقين (114) قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم فَمن يكفر بعد مِنْكُم فَإِنِّي أعذبه عذَابا لَا أعذبه أحدا من الْعَالمين (115) وَإِذ قَالَ الله يَا} عَلَيْهَا من الطَّعَام. {قَالَ اتَّقوا الله إِن كُنْتُم مُؤمنين} نَهَاهُم عَن اقتراح الْآيَات بعد الْإِيمَان، وَقيل: أَرَادَ بِهِ أَي: اكتفوا بِطَعَام الأَرْض عَن طَعَام السَّمَاء.

113

قَوْله - تَعَالَى: {قَالُوا نُرِيد أَن نَأْكُل مِنْهَا} يَعْنِي: أكل تبرك لَا أكل حَاجَة {وتطمئن قُلُوبنَا} أَي: يزْدَاد إيمَانهَا، وَهُوَ مثل قَوْله: ( {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} ونعلم أَن قد صدقتنا) أَي: نزداد إِيمَانًا بصدقك، وَفِي بعض التفاسير: أَن عِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - كَانَ قد أَمرهم أَن يَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لما سَأَلُوهُ أَن يسْأَل الْمَائِدَة، قَالَ لَهُم: صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا؛ فَإِذا أفطرتم لَا تسْأَلُون الله شَيْئا إِلَّا أَعْطَاكُم، فَفَعَلُوا ذَلِك، فَلَمَّا أعْطوا الْمَائِدَة، عرفُوا صدقه؛ فَذَلِك معنى قَوْله: {ونعلم أَن قد صدقتنا ونكون عَلَيْهَا من الشَّاهِدين} .

114

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا} قيل: إِنَّه لما أَرَادَ سُؤال الْمَائِدَة اغْتسل، وَصلى رَكْعَتَيْنِ، فطأطأ رَأسه، وغض بَصَره، وَبكى، ثمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ رَبنَا أنزل علينا مائدة من السَّمَاء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا " والعيد: المُرَاد بِهِ: يَوْم السرُور لَهُم {وَآيَة مِنْك وارزقنا وَأَنت خير الرازقين} .

115

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الله إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم فَمن يكفر بعد مِنْكُم فَإِنِّي أعذبه عذَابا لَا أعذبه أحدا من الْعَالمين} أَي: جنس عَذَاب لم أعذب بِهِ أحدا، وَقيل: إِن ذَلِك الْعَذَاب (أَنه) مسخهم خنازير على مَا سنبين فِي الْقِصَّة. ثمَّ اخْتلفُوا، قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: إِن الْمَائِدَة لم تنزل أصلا، فَإِن الله - تَعَالَى -

لما أوعد على كفرهم بعد نزُول الْمَائِدَة؛ خَافُوا أَن يكفر بَعضهم؛ فاستعفوا عَن إِنْزَال الْمَائِدَة؛ فعلى هَذَا تَقْدِير قَوْله: {إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم} يَعْنِي: إِن سَأَلْتُم، إِلَّا أَنهم استعفوا فَلم ينزل، وَالصَّحِيح - وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ - أَنَّهَا منزلَة؛ لِأَن الله تَعَالَى لَا يعد شَيْئا ثمَّ يخلف، وَقد قَالَ: {إِنِّي منزلهَا عَلَيْكُم} . والقصة فِي ذَلِك: أَن عِيسَى لما سَأَلَ الْمَائِدَة؛ نزلت من السَّمَاء سفرة حَمْرَاء بَين غمامتين كَانُوا يرونها، بسطت بَين أَيْديهم، وَكَانَت مغطاة، فَقَامَ عِيسَى إِلَيْهَا، وَرفع عَنْهَا الغطاء، فَإِذا عَلَيْهَا سَبْعَة أرغفة، وَسَبْعَة أحوات، وَفِي رِوَايَة: كَانَ عَلَيْهَا خَمْسَة أرغفة، وسمكة مشوية لَيْسَ فِيهَا فلوس وَلَا شوك كَمَا يكون فِي سمك الأَرْض، وَكَانَ حولهَا من كل بقل إِلَّا الكرات، وَكَانَ عِنْد رَأسهَا الْملح وَعند ذنبها الْخلّ، وَكَانَ عَلَيْهَا خمس رمانات وتميرات، وَقيل: كَانَت الأرغفة من خبز الْأرز، وَقَالَ عَطِيَّة: كَانَت عَلَيْهَا سَمَكَة لَهَا طعم جَمِيع الأَرْض، وَقيل: كَانَ عَلَيْهَا ثَمَر من ثمار الْجنَّة. وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن عِيسَى سُئِلَ: أَهَذا من طَعَام الْجنَّة؟ فَقَالَ: لَا من طَعَام الْجنَّة، وَلَا من طَعَام الأَرْض، إِنَّمَا هُوَ طَعَام خلقه الله - تَعَالَى - لكم. وَفِي الْقِصَّة: أَن هَذَا الْمَائِدَة لما نزلت؛ دَعَا عِيسَى لَهَا الْفُقَرَاء، والزمني، وَالْمَسَاكِين، حَتَّى يَأْكُلُوا، وَكَانَت تنزل عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ يَوْمًا، يَأْكُل مِنْهَا كل يَوْم أَرْبَعَة آلَاف، أَو خَمْسَة آلَاف نفر، فَكَانُوا يَأْكُلُون، وَلَا ينقص مِنْهَا شَيْء، ثمَّ تصعد، ثمَّ تنزل، هَكَذَا كل يَوْم حَتَّى خانوا فِيهَا، فمسخوا قردة وَخَنَازِير، وَرفعت الْمَائِدَة. ثمَّ اخْتلفُوا فِي تِلْكَ الْخِيَانَة، فروى عمار بن يَاسر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أنزلت عَلَيْهِم الْمَائِدَة، وَعَلَيْهَا الْخبز وَاللَّحم، وَأمرُوا أَن لَا يدخروا مِنْهَا للغد، فادخروا وخانوا؛ فَأَصْبحُوا قردة وَخَنَازِير " وَفِي رِوَايَة: " أَصْبحُوا خنازير ". وَقيل: كَانَت خيانتهم أَن الْيَهُود قَالُوا لَهُم: إِن عِيسَى سحركم بالمائدة، وَلم يكن ثمَّ مائدة؛ فشكوا فِيهِ؛ فمسخوا خنازير، وَقيل: كَانَت خيانتهم أَن فِي الِابْتِدَاء كَانَ يَأْكُل مِنْهَا الْأَغْنِيَاء والفقراء؛ فَأَمرهمْ الله - تَعَالَى - أَن يَدْعُو لَهَا الْفُقَرَاء دون

{عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم} الْأَغْنِيَاء؛ ابْتَلَاهُم؛ فَأكل الْأَغْنِيَاء وخالفوا، فَأَصْبحُوا خنازير.

116

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم} اخْتلفُوا فِي أَن هَذَا القَوْل مَتى يكون؟ قَالَ السّديّ: إِنَّمَا قَالَ الله - تَعَالَى - ذَلِك حِين رَفعه إِلَى السَّمَاء؛ لِأَن قَوْله: " إِذْ للماضي، وَالصَّحِيح أَنه يكون فِي الْقِيَامَة، وَالْقِيَامَة وَإِن لم تكن بعد، وَلكنهَا فِي علم الله، فَلَمَّا كَانَت كائنة لَا محَالة فَهِيَ كالكائنة؛ فصح قَوْله: {وَإِذ قَالَ الله} وَقيل: إِذا بِمَعْنى إِذْ وَيجوز مثل ذَلِك قَالَ الشَّاعِر: (لم يجزه بِهِ الْإِلَه إِذْ جزا ... جنَّات عدن فِي السَّمَوَات الْعلَا) يَعْنِي: إِذا جزى {أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} قيل: هَذَا سُؤال توبيخ وَالْمرَاد بِهِ: قومه، وَكَانَت الْحِكْمَة فِي سُؤَاله عَنهُ؛ حَتَّى يسمع قومه إِنْكَاره؛ لأَنهم كَانُوا يدعونَ أَن عِيسَى أَمرهم (باتخاذه إِلَهًا) ؛ فَإِن قَالَ قَائِل: هم لم يتخذوا أمه إِلَيْهَا؛ فَمَا معنى قَوْله: {اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} ؟ قيل: إِنَّه - جلّ وَعز - لما أَرَادَ ذكر عِيسَى مَعَ أمه، قَالَ: إِلَهَيْنِ، وَهَذَا كَمَا يُقَال عِنْد ذكر أبي بكر وَعمر مَعًا: عمرَان، وَقَالُوا: هَذَا سنة عمرين، وَيُقَال للشمس وَالْقَمَر: قمران، قَالَ الفرزدق: (لنا قمراها والنجوم طوالع ... ) يَعْنِي: الشَّمْس وَالْقَمَر، وَقيل: إِن عِيسَى كَانَ بَعْضًا لِمَرْيَم، فَلَمَّا اتخذوه إِلَهًا؛ فكأنهم اتَّخذُوا أمه إِلَهًا؛ فَقَالَ: {إِلَهَيْنِ من دون الله} {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يكون لي أَن أَقُول مَا لَيْسَ لي بِحَق إِن كنت قلته فقد عَلمته} اشْتغل أَولا بالثناء عَلَيْهِ والتنزيه، وَنسبه إِلَى الْقُدس وَالطَّهَارَة {تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} قَالَ

{مَا فِي نَفسك إِنَّك أَنْت علام الغيوب (116) مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله رَبِّي وربكم وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد (117) إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت} الزّجاج: نفس النَّبِي: جملَته وَحَقِيقَته، فَمَعْنَاه: تعلم حَقِيقَة أَمْرِي، وَلَا أعلم حَقِيقَة أَمرك، وَقيل: مَعْنَاهُ: تعلم مَا فِي غيبي وَلَا أعلم مَا فِي غيبك، وَعَلِيهِ دلّ قَوْله: {إِنَّك أَنْت علام الغيوب} وَهُوَ معنى الأول،

117

{مَا قلت لَهُم إِلَّا مَا أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله بِي وربكم وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني} أَي: رفعتني {كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم} وَقد بَينا معنى التوفي فِيمَا سبق {وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد} .

118

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ طلب الْمَغْفِرَة لَهُم، وهم كفار؟ {وَكَيف قَالَ: وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم، وَهَذَا لَا يَلِيق بسؤال الْمَغْفِرَة؟} قيل: أما الأول فَمَعْنَى قَوْله: وَإِن تغْفر لَهُم، يَعْنِي: بعد الْإِيمَان، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على قَول السّديّ؛ لِأَن الْإِيمَان لَا ينفع فِي الْقِيَامَة، وَالصَّحِيح آخر الْقَوْلَيْنِ، قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي فريقين مِنْهُم فَقَوله: {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك} يَعْنِي: من كفر مِنْهُم {وَإِن تغْفر لَهُم} يَعْنِي: من آمن مِنْهُم. وَقَالَ أهل الْمعَانِي من أَرْبَاب النَّحْو: لَيْسَ هَذَا على وَجه طلب الْمَغْفِرَة، وَإِنَّمَا هَذَا على تَسْلِيم الْأَمر إِلَيْهِ، وتفويضه إِلَى مُرَاده؛ أَلا ترَاهُ يَقُول: " فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم " وَلَو كَانَ على وَجه طلب الْمَغْفِرَة لقَالَ: " فَإنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم ". وَأما السُّؤَال الثَّانِي: اعْلَم أَن فِي مصحف ابْن مَسْعُود: " وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم " وَكَانَ ابْن شنبوذ يقْرَأ كَذَلِك زَمَانا بِبَغْدَاد؛ فَمنع عَنهُ، وَفِيه قصَّة، (وَقيل) : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: إِن تغْفر لَهُم فَإِنَّهُم عِبَادك، وَإِن تُعَذبهُمْ فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم. وَقيل: مَعْنَاهُ: إِن تغْفر لَهُم لَا ينقص من (عزك)

{الْعَزِيز الْحَكِيم (118) قَالَ الله هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (119) لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كل شَيْء قدير (120) } شَيْء وَلَا يخرج من حكمتك. وَيدخل فِي حِكْمَة الله - تَعَالَى - وسعة رَحمته أَن يغْفر للْكفَّار، وَلكنه أخبر أَن لَا يغْفر، وَهُوَ لَا يخلف خَبره وَمن قَالَ: إِنَّه على تَسْلِيم الْأَمر لَا على وَجه طلب الْمَغْفِرَة، استقام النّظم على قَوْله، كَمَا بَينا.

119

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الله هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم} يقْرَأ: " يَوْم " بِالرَّفْع على الإبتداء، وَيقْرَأ: " يَوْم " على بِالنّصب، كَأَنَّهُ أَرَادَ فِي يَوْم؛ فَحذف فِي وَنصب يَوْم. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ينفع الصَّادِقين صدقهم بالقيامة، وَلَيْسَت بدار النَّفْع؟ قيل: مَعْنَاهُ: ينفع الصَّادِقين صدقهم فِي الدُّنْيَا لَا صدقهم فِي الْقِيَامَة، وَقيل: نفعهم بِالصّدقِ فِي الْقِيَامَة: أَنهم لَو كذبُوا؛ نطقت جوارحهم فافتضحوا، فَإِذا صدقُوا لم يفتضحوا ( {لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم} لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كل شَيْء قدير) وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام قَالَ - رَضِي الله عَنهُ -: اعْلَم أَن سُورَة الْأَنْعَام مَكِّيَّة، روى يُوسُف بن مهْرَان عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: سُورَة الْأَنْعَام نزلت جملَة بِمَكَّة لَيْلًا، مَعهَا سَبْعُونَ ألف ملك يحدونها بالتسبيح. وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي، وَفِي تَمام الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قَرَأَهَا فِي لَيْلَة اسْتغْفر لَهُ السبعون ألف ملك أُولَئِكَ ليله ونهاره إِلَى أَن يصبح "، وَفِي بعض الرِّوَايَات: " أَن تِلْكَ الْمَلَائِكَة كَانَ لَهُم زجل بالتسبيح، وَكَانَت الأَرْض ترتج، وَالنَّبِيّ يَقُول: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم حَتَّى نزلت " وَفِي رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَن [أبي] صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: نزلت سُورَة الْأَنْعَام جملَة بِمَكَّة إِلَّا آيَتَيْنِ: قَوْله - تَعَالَى -: {قل تَعَالَوْا} الْآيَة. وَقَوله: {مَا قدرُوا الله حق قدره} الْآيَة وَفِي بعض الرِّوَايَات: " إِلَّا ثَلَاث آيَات: من قَوْله: {قل تَعَالَوْا} إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث، وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: سُورَة الْأَنْعَام من نَجَائِب الْقُرْآن، وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من قَرَأَ سُورَة الْأَنْعَام فقد انْتهى فِي رضَا ربه.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَجعل الظُّلُمَات والنور ثمَّ الَّذين كفرُوا} قَوْله - تَعَالَى -: {الْحَمد لله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} حُكيَ عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة أول آيَة فِي التَّوْرَاة، وَآخر آيَة فِي التَّوْرَاة:

الأنعام

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا} الْآيَة. فَقَوله: {الْحَمد لله} مَعْنَاهُ: احمدوا الله، ذكر الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر، وَفَائِدَته: الْأَمر بِالْحَمْد وَتَعْلِيم الْحَمد؛ فَإِنَّهُ لَو قَالَ: احمدوا الله؛ دعت الْحَاجة إِلَى بَيَان كَيْفيَّة الْحَمد، وَقَوله: {الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} إِنَّمَا خصهما بِالذكر؛ لِأَنَّهُمَا أعظم الْمَخْلُوقَات فِيمَا يرى الْعباد؛ وَلِأَن فيهمَا العبر وَالْمَنَافِع للعباد. {وَجعل الظُّلُمَات والنور} والجعل: بِمَعْنى الْخلق، ثمَّ اخْتلفُوا، قَالَ بَعضهم: الظُّلُمَات: اللَّيْل، والنور: النَّهَار، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بالظلمات: الْكفْر، وبالنور: الْإِيمَان، وَيدخل فِي الظُّلُمَات جَمِيع الظُّلُمَات، حَتَّى ظلمَة الْقلب، وظلمة الشَّك، وَنَحْو ذَلِك. وَيدخل فِي النُّور جَمِيع الْأَنْوَار، حَتَّى نور الْقلب، وَنور الْيَقِين، وَنَحْو ذَلِك، وَقيل: أَرَادَ بالظلمات: الْجَهْل، وبالنور: الْعلم، وَقيل: أَرَادَ بالظلمات: الْمعْصِيَة، وبالنور: الطَّاعَة. وروى عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: إِن الله - تَعَالَى - خلق السَّمَاء قبل الأَرْض، وَاللَّيْل قبل النَّهَار، وَالْجنَّة قبل النَّار، وَقد قَالَ غَيره: خلق الأَرْض قبل السَّمَاء، وَسَيَأْتِي. {ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يعدلُونَ} قَالَ الْكسَائي: عدل الشَّيْء بالشَّيْء: إِذا ساواه بِهِ، وَمِنْه الْعدْل. وَمَعْنَاهُ: يعدلُونَ بِاللَّه غير الله، وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يشركُونَ، والمعنيان متقاربان؛ لِأَن من سَاوَى غير الله بِاللَّه؛ فقد أشرك. وَقيل: قَوْله: {ثمَّ الَّذين كفرُوا} معنى لطيف، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل: أَنْعَمت عَلَيْك كَذَا، وتفضلت عَلَيْك بِكَذَا ثمَّ لَا تشكرني، ثمَّ تكفر بنعمتي.

{برَبهمْ يعدلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده ثمَّ أَنْتُم تمترون (2) وَهُوَ الله فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض يعلم سركم وجهركم وَيعلم مَا تكسبون (3) وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين (4) فقد}

2

قَوْله - تَعَالَى -: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين} هُوَ مَا بَينا أَن الله - تَعَالَى - أَمر ملك الْمَوْت حَتَّى قبض قَبْضَة من تُرَاب؛ فخلق مِنْهَا آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - فَهَذَا معنى قَوْله: ( {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين} ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده) قَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَجَل الأول: من الْولادَة إِلَى الْمَوْت، وَالْأَجَل الثَّانِي: من الْمَوْت إِلَى الْبَعْث وَقَالَ أَيْضا: لكل أحد أجلان: أجل إِلَى الْمَوْت، وَأجل من الْمَوْت إِلَى الْبَعْث، فَإِن كَانَ برا وصُولا للرحم؛ زيد لَهُ من أجل الْبَعْث فِي أجل الْعُمر، وَإِن كَانَ غير ذَلِك، نقص من أجل الْعُمر، وَزيد ذَلِك فِي أجل الْبَعْث. وَقيل: الْأَجَل الأول: أجل الدُّنْيَا كَمَا بَينا، وَالْأَجَل الثَّانِي من ابْتِدَاء الْآخِرَة، وَذَلِكَ مُسَمّى عِنْد الله لَا يُعلمهُ غَيره {ثمَّ أَنْتُم تمترون} تشكون.

3

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الله فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يعلم سركم وجهركم} قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: وَهُوَ الله المعبود فِي السَّمَوَات وَفِي الأض، وَقَالَ غَيره: تَقْدِيره: وَهُوَ الله يعلم سركم وجهركم فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ قَول الزّجاج {وَيعلم مَا تكسبون} الْكسْب: كل عمل يعمله الْإِنْسَان بكده؛ لجلب نفع، أَو دفع ضرّ، وَلذَلِك لَا يُوصف فعل الله بِالْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ فعله برِئ عَن جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار.

4

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين} أَرَادَ بِهَذِهِ الْآيَة: انْشِقَاق الْقَمَر؛ فَإِن الْكفَّار سَأَلُوا رَسُول الله أَن يَأْتِيهم بِآيَة؛ فَقَالَ عَلَيْهِ [الصَّلَاة و] السَّلَام - مَاذَا تُرِيدُونَ؟ فاقترحوا انْشِقَاق الْقَمَر، فَأَتَاهُم بِهِ، فَكَفرُوا وأعرضوا.

5

قَوْله - تَعَالَى -: {فقد كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم} يَعْنِي: مَا ذكرنَا {فَسَوف

{كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فَسَوف يَأْتِيهم أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (5) ألم يرَوا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فِي الأَرْض، مَا لم نمكن لكم وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم} يَأْتِيهم أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون) مَعْنَاهُ: فَسَوف يؤول إِلَيْهِ وبال مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون.

6

قَوْله - تَعَالَى -: {ألم يرَوا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} قيل: ثَمَانُون سنة، وَقيل: سِتُّونَ سنة، وَقيل: أَرْبَعُونَ سنة، وَقيل: ثَلَاثُونَ سنة، والقرن عِنْد حفاظ الحَدِيث: مائَة سنة؛ فَإِنَّهُ روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعبد [الله] بن (بسر) الْمَازِني: " إِنَّك تعيش قرنا "، فَعَاشَ مائَة سنة، فاستدلوا بِهِ على أَن الْقرن مائَة سنة، وَفِي الْأَخْبَار: كَانَ بَين آدم ونوح: عشرَة قُرُون، وَبَين نوح وَإِبْرَاهِيم: عشرَة قُرُون، والقرن فِي الْحَقِيقَة: هُوَ أهل كل زمَان، سَوَاء بعث فيهم نَبِي أَو لم يبْعَث؛ وَعَلِيهِ دلّ قَوْله: " خير النَّاس قَرْني، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين بلونهم " يَعْنِي: ثمَّ الْقرن الَّذين يَلُونَهُمْ.

{مدرارا وَجَعَلنَا الْأَنْهَار تجْرِي من تَحْتهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين (6) وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس فلمسوه بِأَيْدِيهِم لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (7) وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ ملك وَلَو أنزلنَا ملكا لقضي الْأَمر ثمَّ لَا} وَقَوله: {مكناهم فِي الأَرْض مَا لم نمكن لكم} أَي: أعطيناهم مَا لم نعطكم. {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مدرارا} أَي: مُتَتَابِعًا، قَالَ الشَّاعِر: (وسقاك من نوء الثريا ... مزقة عَن الْحَلب وابلا مدرارا) أَي: مُتَتَابِعًا، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مدرارا: أَي: مُتَتَابِعًا فِي أَوْقَات الْحَاجَات، وَلم يرد بِهِ: التوالي على الدوم {وَجَعَلنَا الْأَنْهَار تجْرِي من تَحْتهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين} .

7

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس} سَبَب هَذَا: أَن عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي أَخا أم سَلمَة، قَالَ لرَسُول الله: لن نؤمن بك حَتَّى تنزل علينا صحيفَة من السَّمَاء جملَة فَنزل قَوْله: {وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس} . والقرطاس: مَا يكون مَكْتُوبًا، فَإِذا لم يكن مَكْتُوبًا سمي: طرسا {فلمسوه بِأَيْدِيهِم} فَإِن قَالَ قَائِل: لم لم يقل: فرأوه بأعينهم؟ قيل: لِأَن اللَّمْس أبلغ فِي إِيقَاع الْعلم من الرُّؤْيَة؛ لِأَن السحر يجْرِي على المرئي، وَلَا يجْرِي على الملموس؛ لِأَن الملموس يصير مرئيا، والمرئي لَا يصير ملموسا؛ فَذكر اللَّمْس ليَكُون أبلغ. {لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا ينفع مَعَهم شَيْء فَإنَّا وَإِن أنزلنَا عَلَيْهِم مَا اقترحوا قَالُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين.

8

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ ملك} وَهَذَا قَول عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي (اقترح) إِنْزَال ملك {وَلَو أنزلنَا ملكا لقضي الْأَمر} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لقامت الْقِيَامَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: لاستؤصلوا بِالْعَذَابِ، وَهَذِه سنة الله فِي الْكفَّار؛ أَنهم

{ينظرُونَ (8) وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ (9) وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (10) قل سِيرُوا فِي الأَرْض ثمَّ انْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (11) قل لمن مَا فِي السَّمَوَات} مَتى اقترحوا آيَة، فَإِذا أَعْطَاهُم الله لَك؛ فَكَفرُوا بهَا، استأصلهم بِالْعَذَابِ، كدأب قوم نوح، وَعَاد وَثَمُود، وَقوم لوط، وأمثالهم { [ثمَّ] لَا ينظرُونَ} أَي: ثمَّ لَا يمهلون.

9

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا} أَي: فِي صُورَة رجل؛ لِأَن الرجل أأنس بِالرجلِ، وَأفهم مِنْهُ، وَقد جَاءَ جِبْرِيل إِلَى النَّبِي فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ وَجَاء الْملكَانِ إِلَى دَاوُد فِي صُورَة رجلَيْنِ {وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالضَّحَّاك، وَجَمَاعَة: مَعْنَاهُ: خلطنا عَلَيْهِم مَا يخلطون، وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم شبهوا على ضعفائهم فتشبه عَلَيْهِم كَمَا شبهوا، وَينزل الْملك فِي صُورَة رجل (حَيّ) يشْتَبه عَلَيْهِم؛ فَيَقُول بَعضهم: هُوَ ملك، وَيَقُول بَعضهم: لَيْسَ بِملك، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: أضللناهم بإنزال الْملك فِي صُورَة رجل، كَمَا ضلوا من قبل، أَي: لَو حسبوا أَن يهتدوا بإنزال الْملك، فإنزال الْملك لَا يعجزنا من إضلالهم بِهِ.

10

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك} سَبَب هَذَا: " أَن رَسُول الله مر على الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَأُميَّة بن خلف، وَأبي جهل، فضحكوا هزوا بِهِ؛ فَنزلت الْآيَة تَسْلِيَة لَهُ " {فحاق بالذين} أَي: فَنزل بالذين {سخروا مِنْهُم مَا كَانُوا} أَي: وبال مَا كَانُوا {بِهِ يستهزءون} .

11

قَوْله - تَعَالَى -: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض} يحْتَمل هَذَا السّير بالفكرة والعقول، وَيحْتَمل السّير بالأقدام {ثمَّ انْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين} يَعْنِي: مِمَّن سبق من الْأُمَم.

{وَالْأَرْض قل لله كتب على نَفسه الرَّحْمَة ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ الَّذين خسروا أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ (12) وَله مَا سكن فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (13) قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم قل إِنِّي}

12

قَوْله - تَعَالَى -: {قل لمن مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قل لله} أَمر بِالْجَوَابِ عقيب السُّؤَال؛ ليَكُون أبلغ فِي التَّأْثِير، وآكد فِي الْحجَّة؛ لِأَن من سَأَلَ غَيره عَن شَيْء ثمَّ عقبه بِالْجَوَابِ كَانَ ذَلِك أبلغ تَأْثِيرا {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} أَي: (قضى) ، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله قَالَ: " إِن الله كتب كتابا قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَهُوَ عِنْده فَوق عَرْشه: سبقت رَحْمَتي غَضَبي ". {ليجمعنكم} اللَّام لَام الْقسم أَي: وَالله ليجمعنكم. {إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ} أَي: لَا شكّ فِيهِ {الَّذين خسروا أنفسهم} غبنوا أنفسهم {فهم لَا يُؤمنُونَ} .

13

قَوْله - تَعَالَى -: {وَله مَا سكن فِي اللَّيْل وَالنَّهَار} وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وَله مَا سكن وَمَا تحرّك، وَقيل: هُوَ السّكُون خَاصَّة، وَإِنَّمَا خص السّكُون؛ لِأَن النِّعْمَة فِي السّكُون أَكثر مِنْهَا فِي الْحَرَكَة {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} .

14

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} الفاطر: الْخَالِق، المنشئ لِلْخلقِ، قَالَ الْأَصْمَعِي: مَا كنت أعرف معنى الفاطر، حَتَّى أختصم إِلَى أعربيان فِي بِئْر؛ فَقَالَ أَحدهمَا: أَنا فطرته، وَقَالَ الآخر: أَنا فطرته؛ فَعرفت أَنه [إنْشَاء] الْخلق {وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم} قَرَأَ الْأَعْمَش: " وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم " بِفَتْح الْيَاء، أَي: يُؤْكَل وَلَا يَأْكُل، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، فَمَعْنَاه: وَهُوَ يرْزق وَلَا يرْزق. {قل إِنِّي أمرت أَن أكون أول من أسلم} يَعْنِي: من هَذِه الْأمة، وَالْإِسْلَام يَعْنِي الاستسلام لأمر الله - تَعَالَى - {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} وَهُوَ وَإِن كَانَ مَعْصُوما

{أمرت أَن أكون أول من أسلم وَلَا تكونن من الْمُشْركين (14) قل إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم (15) من يصرف عَنهُ يَوْمئِذٍ فقد رَحمَه وَذَلِكَ الْفَوْز الْمُبين (16) وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على} عَن الشّرك، لَكِن الْأَمر (بالثبات) على الْإِيمَان، وَترك الْإِشْرَاك يجوز أَن يكون مُتَوَجها عَلَيْهِ، وَقيل: الْخطاب مَعَه، وَالْمرَاد بِهِ: الْأمة.

15

{قَالَ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم} أَي: عَذَاب الْقِيَامَة

16

{من يصرف عَنهُ} يَعْنِي: الْعَذَاب، وَقَرَأَ حَمْزَة، وَالْكسَائِيّ، وَأَبُو بكر عَن عَاصِم: بِفَتْح الْيَاء، يَعْنِي: من يصرف الله عَنهُ الْعَذَاب {يَوْمئِذٍ فقد رَحمَه وَذَلِكَ الْفَوْز الْمُبين} .

17

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ} الضّر: خلاف النَّفْع وَمَعْنَاهُ: إِن يصبك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ {وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على كل شَيْء قدير} وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " كنت رَدِيف النَّبِي، فَقَالَ: أَلا أعلمك كَلِمَات تنْتَفع بِهن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ قلت: (نعم) ؛ (فَقَالَ) : احفظ الله يحفظك ... " الْخَبَر إِلَى أَن قَالَ: " فَلَو اجْتمع الْخلق على أَن ينفعوك بِشَيْء لم يَكْتُبهُ الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ، وَلَو اجْتَمعُوا على أَن يمنعوك شَيْئا كتبه الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ ... " - الْخَبَر.

{كل شَيْء قدير (17) وَهُوَ القاهر فَوق عباده وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (18) قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة قل الله شَهِيد بيني وَبَيْنكُم وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ أئنكم لتشهدون أَن مَعَ الله آلِهَة أُخْرَى قل لَا أشهد قل إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد وإنني بَرِيء مِمَّا تشركون (19) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم الَّذين خسروا}

18

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ القاهر فَوق عباده} القاهر: الْغَالِب الَّذِي لَا يغلب، وَقيل: هُوَ الْمُنْفَرد بِالتَّدْبِيرِ، يجْبر الْخلق على مُرَاده، وَقَوله: {فَوق عباده} هُوَ صفة الاستعلاء الَّذِي لله - تَعَالَى - الَّذِي يعرفهُ أهل السّنة {وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير} .

19

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة} سَبَب هَذَا: أَن الْكفَّار قَالُوا: يَا مُحَمَّد، من يشْهد لَك بِالصّدقِ؟ فَنزلت الْآيَة: {قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة} يَعْنِي: من الله، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا على أَن الله شَيْء. {قل الله شَهِيد بيني وَبَيْنكُم} أَي: يشْهد لي بِالْحَقِّ، وَعَلَيْكُم بِالْبَاطِلِ. {وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} أَي: وَمن بلغه الْقُرْآن إِلَى قيام السَّاعَة، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " نضر الله وَجه امْرِئ سمع مني مقَالَة، فوعاها، ثمَّ بلغَهَا؛ فَرب مبلغ أوعى من سامع " وَقيل: مَعْنَاهُ: لأنذركم بِهِ، يَعْنِي: الْعَرَب، وَمن بلغ، يَعْنِي: الْعَجم. {أئنكم لتشهدون أَن مَعَ الله آلِهَة أُخْرَى قل لَا أشهد قل إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد وإنني بَرِيء مِمَّا تشركون} أمره بِالْجَوَابِ عقيب السُّؤَال لما بَينا.

20

{الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه} قيل: أَرَادَ بِهِ: مُحَمَّدًا، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الْقُرْآن يعرفونه {كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} .

{أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ (20) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا أَيْن شركاؤكم الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (22) ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين} {الَّذين خسروا أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ} أَي: غبنوا أنفسهم، وغبنهم: أَنهم خسروا رَأس المَال، وَفِي الْخَبَر: أَن الله - تَعَالَى - خلق لكل آدَمِيّ منَازِل فِي الْجنَّة، فَإِن كفر خسر تِلْكَ الْمنَازل، وَجعلهَا الله - تَعَالَى - لمُؤْمِن.

21

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا} أَي: قَالَ عَلَيْهِ مَا لم يقلهُ {أَو كذب بآياته} يَعْنِي: آيَات الْقُرْآن {إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} .

22

قَوْله - تَعَالَى -: {وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا} أَرَادَ بِهِ: حشر الْقِيَامَة {ثمَّ [نقُول] للَّذين أشركوا أَيْن شركاءكم الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ} يَعْنِي أَيْن الشُّرَكَاء الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ أَنهم شُرَكَاء الله، والزعم قَول الْكَذِب، قَالَ ابْن عَبَّاس: الزَّعْم الْكَذِب فِي كل مَوضِع، وَفِي الْآثَار: " زَعَمُوا مَطِيَّة الْكَذِب ".

23

قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين} قَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: ثمَّ لم تكن معذرتهم - وَقَالَ غَيره: ثمَّ لم يكن كَلَامهم - إِلَّا أَن قَالُوا. قَالَ الزّجاج: فِي قَوْله: {ثمَّ لم تكن فتنتهم} معنى لطيف، وَذَلِكَ مثل الرجل يفتن (بمحبوب) ثمَّ تصيبه فِي ذَلِك محنة؛ فيتبرأ من محبوبه؛ فَيُقَال: لم تكن فتنته إِلَّا هَذَا، كَذَلِك الْكفَّار لما فتنُوا بمحبة الْأَصْنَام، ثمَّ إِذا رَأَوْا الْعَذَاب يتبرءون مِنْهَا. يَقُول الله - تَعَالَى -: {ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين

( {23) انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (24) وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا حَتَّى إِذا جاءوك يجادلونك يَقُول الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين}

24

انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم) كذبهمْ عل أنفسهم: تبرئهم من الشّرك {وضل} أَي: ذهب {عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} .

25

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة} هَذَا فِي رُؤَسَاء الْمُشْركين، مثل: أبي سُفْيَان بن حَرْب - حِين كَانَ مُشْركًا - وَأبي جهل بن هِشَام، وَعتبَة، وَشَيْبَة ابْني ربيعَة، والوليد بن الْمُغيرَة، وَغَيرهم، كَانُوا يَسْتَمِعُون الْقُرْآن؛ فَقَالُوا: لأبي سُفْيَان: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أرى فِيهِ حَقًا وباطلا. فَقَالَ أَبُو جهل: حَتَّى تفاخرنا واستوينا فِي الْمجد، واستوت بِنَا الركب، تَزْعُمُونَ أَن مِنْكُم نَبيا يَا بني عبد منَاف، وَالله لَا نقر بِهَذَا، وَفِي رِوَايَة: [للْمَوْت] أَهْون علينا من هَذَا. {وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة} هِيَ جمع " الكنان " كالأعنة جمع الْعَنَان وَهِي الأغطية {أَن يفقهوه} قَالَ بَعضهم: كَرَاهَة أَن يفقهوه، وَقَالَ آخَرُونَ: أَن لَا يفقهوه {وَفِي آذانهم وقرا} أَي: وَجَعَلنَا فِي آذانهم صمما، قَالَ ابْن عَبَّاس: والوقر: أَصله الثّقل؛ وَمن ثقل الْأذن جَاءَ الصمم. {وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا} هَذَا فِي معجزات النَّبِي، وَمَا أَرَاهُم من الْآيَات. يَقُول الله - تَعَالَى -: وَإِن يرَوا جَمِيع تِلْكَ الْآيَات لَا يُؤمنُوا بهَا، وَقيل: إِنَّهُم اقترحوا آيَة؛ فَنزل قَوْله: {وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا} وَهَذَا فِي قوم مخصوصين، علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ. {حَتَّى إِذا جاءوك يجادلونك يَقُول الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين} مجادلتهم: أَنهم قَالُوا للنضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ قد نظر فِي الْكتب الْمنزلَة،

( {25) وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ وَإِن يهْلكُونَ إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَو} وَكَانَ مِمَّن يستمع الْقُرْآن؛ فَقَالُوا لَهُ: مَا تَقول فِي هَذَا؟ قَالَ: إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين، مثل أقاصيص رستم واسفنديار، وصحف الْأَوَّلين، قَالَ ثَعْلَب: الأساطير: جمع الأسطورة، وَهِي الْمَكْتُوبَة.

26

قَوْله - تَعَالَى -: {وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ} أَي: ينهون النَّاس عَن اتِّبَاع مُحَمَّد، وتباعدون عَنهُ بِأَنْفسِهِم، وَقيل: معنى قَوْله {ينهون عَنهُ} أَي: يَذبُّونَ عَنهُ، وَيمْنَعُونَ النَّاس عَن أَذَاهُ {وينئون عَنهُ} أَي: يتباعدون عَن الْإِيمَان بِهِ، وَذَلِكَ مثل أبي طَالب، كَانَ يذب عَنهُ حَال حَيَاته، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ فِي أبي طَالب. حَتَّى روى أَنه اجْتمع عَلَيْهِ رُؤَسَاء قُرَيْش، وَقَالُوا لَهُ: اختر شَابًّا من أَصْحَابنَا وجيها، واتخذه ابْنا لَك، وادفع إِلَيْنَا مُحَمَّدًا؛ فَقَالَ أَبُو طَالب: مَا أنصفتموني، أدفَع إِلَيْكُم وَلَدي ليقْتل، وأربي ولدكم؟ ! وروى أَنه قَالَ لرَسُول الله: " لَوْلَا أَن قُريْشًا تعيرني لأقررت عَيْنك بِالْإِيمَان "، وَكَانَ يذب عَنهُ إِلَى أَن توفّي، وروى: " أَنه قَرَأَ عَلَيْهِ قَوْله - تَعَالَى -: {وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ} فَقَالَ أَبُو طَالب: أما أَن أَدخل فِي دينك فَلَا أَدخل أبدا، وَلَكِنِّي أذب عَنْك مَا حييت "، وَله فِيهِ أَبْيَات: (وَالله لن يصلوا إِلَيْك بِجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّد فِي التُّرَاب دَفِينا) (فَاصْدَعْ بِأَمْرك مَا عَلَيْك غَضَاضَة ... وأبشر بِذَاكَ وقر مِنْك عيُونا) (وَدَعَوْتنِي وَعلمت أَنَّك ناصحي ... وصدقتني ولكنت ثمَّ أَمينا)

{ترى إِذْ وقفُوا على النَّار فَقَالُوا يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا ونكون من الْمُؤمنِينَ (27) بل بدا لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ وَإِنَّهُم} (وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد ... من خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا) (لَوْلَا الْمَلَامَة أَو حذار مسَبَّة ... لَوَجَدْتنِي سَمحا بِذَاكَ مُبينًا) {وَإِن يهْلكُونَ إِلَّا أنفسهم} أَي: لَا يرجع وبال فعلهم إِلَّا إِلَيْهِم {وَمَا يَشْعُرُونَ} .

27

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على النَّار} أَي: دخلُوا النَّار، (وَقيل: عرضوا على النَّار) ، وَالْوُقُوف: الِاطِّلَاع على حَقِيقَة الشَّيْء {فَقَالُوا يَا ليتنا نرد} إِلَى الدُّنْيَا {وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا} قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هُوَ ابْتِدَاء كَلَام، يَعْنِي: لَا نكذب أبدا، رددنا أَو لم نرد، وَقَالَ غَيره: هُوَ على نسقه، أَي: يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا، أَي: لَا نكفر بعد الرَّد إِلَى الدُّنْيَا {ونكون من الْمُؤمنِينَ} وَيقْرَأ " ونكون " بِنصب النُّون، وَتَقْدِيره: ولنكون من الْمُؤمنِينَ.

28

قَوْله - تَعَالَى -: {بل بدا لَهُم} قَوْله: " بل " بحتة، رد لما قَالُوا، وَقَوله: {بدا لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل} أَي: ظهر لَهُم مَا أخفوا من قبل من تبرئهم عَن الشّرك بقَوْلهمْ: وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين؛ وَذَلِكَ أَنهم إِذا قَالُوا ذَلِك؛ يخْتم الله على أَفْوَاههم، وتنطق جوارحهم بشركهم؛ فيبدو لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل. {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ} أَي: وَلَو ردوا إِلَى الدُّنْيَا لعادوا إِلَى الْكفْر، والشرك بِاللَّه {وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} يَعْنِي: فِي قَوْلهم {يَا ليتنا نرد لَا نكذب بآيَات رَبنَا} وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يعْتَذر إِلَى آدم يَوْم الْقِيَامَة بِثَلَاث معاذير، أَحدهَا هَذَا بقوله: إِنِّي لَا أَدخل من ذريتك النَّار إِلَّا من أعلم أَنِّي لَو رَددته إِلَى الدُّنْيَا سبعين

{لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين (29) وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (30) قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة بَغْتَة قَالُوا يَا} مرّة لكفر (بِي) ".

29

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين} هَذَا فِي إنكارهم الْبَعْث وَالْقِيَامَة،

30

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم} أَي: عرضوا على رَبهم، {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} وَذَلِكَ حِين تكشف [لَهُم] الغيوب والسرائر. {قَالُوا بلَى وربنا} فيقرون بهَا، قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي موقف، وَقَوله: {وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين} فِي موقف آخر، وَفِي الْقِيَامَة مَوَاقِف، فَفِي موقف يُنكرُونَ، وَفِي موقف يقرونَ، {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون} .

31

قَوْله - تَعَالَى -: {قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله} أَي: خسروا أنفسهم بتكذيبهم بالمصير إِلَى الله؛ فاللقاء هَا هُنَا بِمَعْنى الْمصير إِلَيْهِ {حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {قَالُوا يَا حسرتنا} هَذَا على الْمُبَالغَة، كَقَوْلِهِم: يَا عجبا، وَقَول الْقَائِل: يَا عجبا، أبلغ من قَوْله: أَنا متعجب؛ فَكَذَلِك قَوْله: {يَا حسرتنا} أبلغ من قَوْله: أَنا متحسر، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا على وَجه النداء، كَأَنَّهُ يَقُول: أيتها الْحَسْرَة هَذَا أوانك وأيها الْعجب جَاءَ أوانك. {على مَا فرطنا فِيهَا} أَي: قَصرنَا فِيهَا، أَي: فِي أَمر الْقِيَامَة {وهم يحملون

{حسرتنا على مَا فرطنا فِيهَا وهم يحملون أوزارهم على ظُهُورهمْ أَلا سَاءَ مَا يزرون (31) وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لعب وَلَهو وللدار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون (32) قد} أوزارهم على ظُهُورهمْ) الأوزار: الأثقال، وَاحِدهَا: وزر، وَمِنْه الْوزر، وَهُوَ الْحَبل فِي قَوْله - تَعَالَى -: {كلا لَا وزر} أَي: لَا حَبل وَلَا ملاذ، وَحَملهمْ الأوزار بَيَانه فِي الْخَبَر، وَهُوَ مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يحْشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة، فَمن كَانَ مِنْهُم برا تَلقاهُ صُورَة حَسَنَة طيبَة الرّيح، فَتَقول: أما تعرفنِي؟ أَنا عَمَلك الصَّالح، فاركبني فقد طَال مَا ركبتك، وَمن كَانَ فَاجِرًا تَلقاهُ صُورَة قبيحة مُنْتِنَة الرّيح، فَتَقول: أما تعرفنِي؟ أَنا عَمَلك الْخَبيث، وَقد طَال مَا ركبتني فَأَنا الْيَوْم أركبك ". فَهَذَا معنى قَوْله: ( {وهم يحملون أوزارهم على ظُهُورهمْ أَلا سَاءَ مَا يزرون}

32

وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لعب وَلَهو وللدار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون) وصف كلا الدَّاريْنِ فِي هَذِه الْآيَة.

33

قَوْله - تَعَالَى -: {قد نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} سَبَب هَذَا: " أَن رَسُول الله مر على أبي جهل، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَنْت صَادِق عندنَا، وَإِنَّمَا نكذب بِمَا جِئْت بِهِ " فَهَذَا معنى الْآيَة. وَقيل: إِنَّمَا نزل هَذَا تَسْلِيَة للرسول، يَقُول الله - تَعَالَى -: لَا تحزن؛ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك، وَيقْرَأ: " فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك " مخففا، وَالْفرق بَين التَّكْذِيب والإكذاب: أَن التَّكْذِيب: هُوَ أَن يَقُول لَهُ: كذبت، والإكذاب: هُوَ أَن يجده كَاذِبًا.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كذبت رسل من قبلك فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا} فِيهِ

{نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون (33) وَلَقَد كذبت رسل من قبلك فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا حَتَّى أَتَاهُم نصرنَا وَلَا مبدل لكلمات الله وَلَقَد جَاءَك من نبأ الْمُرْسلين (34) وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض أَو سلما فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة وَلَو شَاءَ الله} حذف، وَتَقْدِيره: وَلَقَد كذبت رسل من قبلك وأوذيت، فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا {حَتَّى أَتَاهُم نصرنَا وَلَا مبدل لكلمات الله} أَي: لعلم الله وَأَحْكَامه {وَلَقَد جَاءَك من نبأ الْمُرْسلين} أَي: أَخْبَار الْمُرْسلين.

35

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض} النفق: السرب فِي الأَرْض، وَمِنْه: " النافقاء " وَهُوَ جُحر اليربوع؛ وَمِنْه: النِّفَاق، لِأَن الْمُنَافِق يدْخل نفقين {أَو سلما فِي السَّمَاء [فتأتيهم بِآيَة] } أَي: درجا فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة، سَبَب هَذَا: أَن الْكفَّار كَانُوا يقترحون الْآيَات؛ وود النَّبِي أَن (يعطيهم) الله مَا اقترحوا من الْآيَات (طَمَعا) فِي أَن يرَوا الْآيَات؛ فيسلموا فَنزل قَوْله: {فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض أَو سلما فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة} وَتَقْدِيره: إِن اسْتَطَعْت ذَلِك فافعل، وَفِيه حذف. {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} أَي: بِأَن يُرِيهم آيَة؛ يضطرون إِلَى الْإِيمَان بهَا، وَالصَّحِيح: أَن المُرَاد بِهِ: وَلَو شَاءَ الله لطبعهم وخلقهم على الْإِيمَان؛ فَهَذَا أقرب إِلَى قَول أهل السّنة؛ لِأَن إِيمَان الضَّرُورَة لَا ينفع، وَإِنَّمَا ينفع الْإِيمَان بِالْغَيْبِ اخْتِيَارا {فَلَا تكونن من الْجَاهِلين} أَي: بِهَذَا الْحَرْف، وَذَلِكَ قَوْله: {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} .

36

قَوْله - تَعَالَى -: {إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ} هَاهُنَا الْوَقْف، وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ سَماع الْقبُول {والموتى يَبْعَثهُم الله} يَعْنِي: الْكفَّار {ثمَّ

{لجمعهم على الْهدى فَلَا تكونن من الْجَاهِلين (35) إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ والموتى يَبْعَثهُم الله ثمَّ إِلَيْهِ يرجعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ آيَة من ربه قل إِن الله قَادر على أَن ينزل آيَة وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (37) وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر إِلَيْهِ يرجعُونَ} .

37

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ آيَة من ربه قل إِن الله قَادر على أَن ينزل آيَة} يَعْنِي: أَنه قَادر على إِنْزَال الْآيَات، وَقد أنزل كثيرا من الْآيَات والمعجزات، وَلَكِن لَا ينزل الْآيَات على اقتراح الْكفَّار {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} .

38

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه} إِنَّمَا قيد الطيران بالجناح تَأْكِيدًا {إِلَّا أُمَم أمثالكم} أَي: أَصْنَاف أمثالكم، وَفِي الْخَبَر: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة؛ لأمرتكم بقتلها؛ فَاقْتُلُوا مِنْهَا كل أسود بهيم، فَإِنَّهُ شَيْطَان "، وَمعنى الْآيَة: أَنَّهَا أمثالكم فِي الْخلق، وَالْمَوْت، والبعث، يَعْنِي: يخلقها كَمَا يخلقكم، ويميتها كَمَا يميتكم ويبعثها كَمَا يبعثكم، وَقيل: معنى قَوْله: {أُمَم أمثالكم} يَعْنِي: فِي الْعلم بالضار والنافع، والتوقي عَن الْهَلَاك، وَمَعْرِفَة الْعَدو. {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} فَإِن قَالَ قَائِل: نرى كثيرا من الْأَحْكَام لَيست فِي الْكتاب، فَمَا معنى قَوْله: {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء} ؟ قيل: مَا من شَيْء إِلَّا وَأَصله فِي الْكتاب، وَقيل: مَا قَالَه الرَّسُول، فَإِنَّمَا قَالَه من الْكتاب؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ فِي خبر مَعْرُوف: " أُوتيت الْقُرْآن وَمثله " وَقد قَالَ الله - تَعَالَى - {وَمَا ينْطق عَن

{يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون (38) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا صم وبكم فِي الظُّلُمَات من يَشَأْ الله يضلله وَمن يَشَأْ يَجعله على صِرَاط مُسْتَقِيم (39) قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله أَو أتتكم السَّاعَة أغير الله} لهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى) فَكل مَا ثَبت بِالسنةِ؛ فَكَأَنَّهُ ثَابت فِي الْكتاب، وَقيل: [مَعْنَاهُ] : مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء تقع الْحَاجة إِلَيْهِ. {ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون} وَلَا شكّ فِي حشر الْبَهَائِم والحيوانات يَوْم الْقِيَامَة، حَتَّى روى: أَن الله - تَعَالَى - يحشرها ويقتص للجماء من القرناء، وروى أَبُو ذَر: " أَن النَّبِي رأى شَاتين تنتطحان؛ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَر، أَتَدْرِي فِيمَا نتطحان؟ فَقلت: لَا. فَقَالَ لَكِن الله يدْرِي، وسيقضي بَينهمَا وأمثال هَذَا كثير "، وسبيل النَّاس أَن يُؤمنُوا بِهِ، ويكلوا علمه إِلَى الله - تَعَالَى - فَإِنَّهُ شَيْء لَا تهتدي إِلَيْهِ الْعُقُول، وعَلى هَذِه الْآيَة حِكَايَة: حُكيَ أَن بهْلُول الْمَجْنُون رأى أَبَا يُوسُف القَاضِي فِي الطَّرِيق؛ فَسَأَلَهُ وَقَالَ: إِن الله - تَعَالَى - يَقُول: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} ثمَّ يَقُول: {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} فَمَا نَذِير الْكلاب؟ فتحير أَبُو يُوسُف عَن الْجَواب، فَأخذ بهْلُول حجرا من الأَرْض، وَقَالَ: هَذَا نَذِير الْكلاب.

39

قَوْله - تَعَالَى -: {وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا صم وبكم فِي الظُّلُمَات} أَي: صم عَن سَماع الْحق، وبكم عَن قَول الْحق {من يَشَأْ الله يضلله وَمن يَشَأْ يَجعله على صِرَاط مُسْتَقِيم} .

40

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله} قيل: عَذَاب الله: هُوَ

{تدعون إِن كُنْتُم صَادِقين (40) بل إِيَّاه تدعون فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ وتنسون مَا تشركون (41) وَلَقَد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ (42) فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا وَلَكِن قست قُلُوبهم وزين لَهُم} الْمَوْت {أَو أتتكم السَّاعَة} يَعْنِي: الْقِيَامَة {أغير الله تدعون إِن كُنْتُم صَادِقين} هَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير، يَعْنِي: لَا تدعون إِلَّا الله، وَأَرَادَ بِهِ فِي أَحْوَال الضرورات؛ فَإِن الْكفَّار فِي حَال الضرورات يدعونَ الله - تَعَالَى - كَمَا قَالَ: {وَإِذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} .

41

قَوْله - تَعَالَى -: {بل إِيَّاه تدعون} هَذَا تَقْرِير لما استفهم مِنْهُ فِي الْآيَة الأولى، يَعْنِي: بل تدعون الله، وَلَا تدعون غَيره {فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ} قيد إِجَابَة الدعْوَة بِالْمَشِيئَةِ هَا هُنَا، وأطلقها فِي قَوْله: {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} . قَالَ أهل الْعلم: وَذَلِكَ مُقَيّد بِالْمَشِيئَةِ أَيْضا، بِدَلِيل هَذِه الْآيَة. {وتنسون مَا تشركون} وَذَلِكَ أَنهم لما تركُوا الْأَصْنَام فِي حَال الضرورات إِلَى دُعَاء الله؛ فكأنهم نسوا مَا يشركُونَ، وَفِي الْآيَة مجَاز، وَتَقْدِير قَوْله: {فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ} أَي: فَيكْشف ضرّ مَا تدعون إِلَيْهِ.

42

وَقَوله - تَعَالَى -: {وَلَقَد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء} البأساء: الْجُوع، والفقر، وَالضَّرَّاء: الْمَرَض، والبلوى فِي النَّفس وَالْمَال. {لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ} التضرع: السُّؤَال بالتذلل، وَحكى أَبُو عبيد عَن الْفراء: فلَان يتَضَرَّع، ويتصدى [أَي] أَنه سَأَلَ متذللا وبتضرع.

43

قَوْله - تَعَالَى -: {فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا} أَي: فَهَلا تضرعوا ( {إِذْ جَاءَهُم بأسنا} وَلَكِن قست قُلُوبهم) قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: بلغت قُلُوبهم فِي

{الشَّيْطَان مَا كَانُوا يعْملُونَ (43) فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَة فَإِذا هم مبلسون (44) فَقطع دابر الْقَوْم الَّذين} القساوة أَنا أرسلنَا إِلَيْهِم الرُّسُل، وأريناهم الْآيَات، وأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء، فَلم يتضرعوا، وَلم يعودوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ {وزين لَهُم الشَّيْطَان مَا كَانُوا يعْملُونَ} يَعْنِي: حَتَّى مضوا على عَمَلهم وكفرهم.

44

قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء} هَذَا فتح اسْتِدْرَاج ومكر، وَفِي الْآثَار: " من فتح عَلَيْهِ بَاب نعْمَة، فَلم ير أَنه مكر بِهِ فَلَا رَأْي لَهُ، وَمن أَصَابَته شدَّة فَلم ير أَنه نظر لَهُ، فَلَا رَأْي لَهُ " يَعْنِي: فِي الدّين. {حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا} هَذَا فَرح بطر، وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ، وَذَلِكَ مثل فَرح قَارون بِمَا أصَاب من الدُّنْيَا حَتَّى قَالَ لَهُ قومه: " لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين ". {أَخَذْنَاهُم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {فَإِذا هم مبلسون} قَالَ ابْن عَبَّاس: آيسون من حمل خير، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المبلس: النادم الحزين، وَقَالَ الْفراء: هُوَ السَّاكِت الْمُنْقَطع عَن الْحجَّة، وأنشدوا: (يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا ... قَالَ نعم أعرفهُ وأبلسا) وَقَالَ آخر: (ملك إِذا طَاف الغفاة بِبَابِهِ ... غبطوا وأنجي مِنْهُم المتبلس)

45

قَوْله - تَعَالَى -: {فَقطع دابر الْقَوْم الَّذين ظلمُوا} الدابر: الأَصْل هَا هُنَا؛ فَيكون الدابر بِمَعْنى: الآخر؛ وَمِنْه قَوْله: " من أَشْرَاط السَّاعَة كَذَا وَكَذَا، وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا دبرا "، أَي: آخرا {وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين} حمد الله نَفسه على إهلاكهم واستئصالهم، وَفِيه تعليمنا الْحَمد لله على هَلَاك الْكفَّار.

46

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَرَأَيْتُم إِن أَخذ الله سمعكم وأبصاركم وَختم على قُلُوبكُمْ

{ظلمُوا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (45) قل أَرَأَيْتُم إِن أَخذ الله سمعكم وأبصاركم وَختم على قُلُوبكُمْ من إِلَه غير الله يأتيكم بِهِ انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات ثمَّ هم يصدفون (46) قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله بَغْتَة أَو جهرة هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نرسل الْمُرْسلين إِلَّا مبشرين ومنذرين فَمن آمن وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا} من إِلَه غير الله يأتيكم بِهِ) ذكر أَشْيَاء، ثمَّ قَالَ: {يأتيكم بِهِ} فَاخْتَلَفُوا؛ فَقَالَ (بَعضهم) مَعْنَاهُ: يأتيكم بِمَا (أَخذ. و) قَالَ آخَرُونَ: قَوْله: {يأتيكم بِهِ} يرجع إِلَى السّمع خَاصَّة، واندرج فِيهِ الْأَبْصَار والقلوب. وَمن هَذَا ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن السّمع أفضل من سَائِر الْحَواس؛ حَيْثُ خصّه بِالْكِنَايَةِ، وَقَالُوا: هُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه} و " الْهَاء " رَاجِعَة إِلَى الله - تَعَالَى - واندرج فِيهِ الرَّسُول {انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات ثمَّ هم يصدفون} أَي: يعرضون.

47

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله} حكى الْفراء عَن الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ: أرأيتك بِمَعْنى أَخْبرنِي، [وأرأيتكما] بِمَعْنى أخبراني، وأرأيتكم يَعْنِي: أخبروني وأرأيتك بِمَعْنى: للْمَرْأَة بِمَعْنى: أَخْبِرِينِي، هَكَذَا {بَغْتَة أَو جهرة} مَعْنَاهُ: لَيْلًا أَو نَهَارا وَقيل: مَعْنَاهُ: فَجْأَة أَو عيَانًا {هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ} .

48

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا نرسل الْمُرْسلين إِلَّا مبشرين ومنذرين} وَقد بَينا هَذَا {فَمن آمن وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.

49

{وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا يمسهم الْعَذَاب} أَي: يصيبهم عَذَاب النَّار {بِمَا كَانُوا يفسقون} .

50

قَوْله - تَعَالَى -: {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله} أنزل هَذَا حِين اقترحوا الْآيَات، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لن نؤمن لَك حَتَّى تنزل علينا كتابا من السَّمَاء، وَسَائِر مَا

{هم يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا مسهم الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يفسقون (49) قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير أَفلا تتفكرون (50) وأنذر بِهِ الَّذين يخَافُونَ} اقترحوا من الْآيَات؛ فَنزل قَوْله: {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله} فأعطيكم مَا تُرِيدُونَ (وَلَا أعلم الْغَيْب) . والغيب. كل مَا غَابَ عَنْك وَيكون مَاضِيا، وَيكون فِي الْمُسْتَقْبل، والماضي مِنْهُ يجوز أَن يُعلمهُ الْإِنْسَان بِخَبَر مخبر وَنَحْوه. فَأَما الْمُسْتَقْبل فَلَا يُعلمهُ إِلَّا الله، وَرَسُول ارْتَضَاهُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَة الْجِنّ، وَقَوله: {وَلَا أعلم الْغَيْب} فِيهِ إِضْمَار، أَي: وَلَا أعلم الْغَيْب إِلَّا مَا أعلمنيه الله {وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك} إِنَّمَا أمره بذلك؛ لِأَن الْملك يقدر على مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْآدَمِيّ، وَقيل: لِأَن الْملك يُشَاهد مَا لَا يُشَاهد الْآدَمِيّ، وَاسْتدلَّ بِهَذَا من فضل الْمَلَائِكَة على الْآدَمِيّين، وَلَيْسَ فِيهِ مستدل، وَمَعْنَاهُ: مَا بَينا. {إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} قَالَ قَتَادَة: الْكَافِر وَالْمُؤمن، وَقَالَ مُجَاهِد: الضال والمهتدي، وَقيل: الْجَاهِل والعالم {أَفلا تتفكرون} .

51

قَوْله - تَعَالَى -: {وانذر بِهِ} أَي: خوف بِهِ {الَّذين يخَافُونَ أَن يحْشرُوا إِلَى رَبهم} قيل: هم الْمُسلمُونَ، وَقيل: كل من يُؤمن بِالْبَعْثِ من الْمُسلمين وَأهل الْكتاب. {لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} فَإِن قيل: أَلَيْسَ يشفع الْأَنْبِيَاء والأولياء يَوْم الْقِيَامَة، فَمَا معنى قَوْله: {لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع} ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ: لَا شَفَاعَة إِلَّا بِإِذْنِهِ، وهم إِنَّمَا يشفعون [بِإِذْنِهِ، أَو هَذَا رد لما زَعَمُوا أَن الْمَلَائِكَة والأصنام يشفعون] لنا.

52

قَوْله: {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي} سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن الْمُشْركين بِمَكَّة أَتَوا رَسُول الله، وَقَالُوا: إِنَّك تجَالس الْفُقَرَاء، وَأَرَادُوا بِهِ: بِلَالًا،

{أَن يحْشرُوا إِلَى رَبهم لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (51) وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه مَا عَلَيْك من حسابهم من شَيْء وَمَا} وصهيبا، وَابْن مَسْعُود، وعمار بن يَاسر، وخباب بن الْأَرَت، وَمهجع، وَنَحْوهم من فُقَرَاء أهل الصّفة، وَقَالُوا: لَو طردتهم آمنا بك؛ كَأَنَّهُمْ استنكفوا الْجُلُوس مَعَهم فهم النَّبِي بذلك طَمَعا فِي إِيمَانهم؛ فَنزلت الْآيَة ". قَالَ سعد بن أبي وَقاص: " فِي نزلت الْآيَة وَابْن مَسْعُود ... " وعد جمَاعَة، وَقَالَ مُجَاهِد: نزلت الْآيَة فِي بِلَال وَجَمَاعَة، وَفِيه قَول آخر: أَن الْآيَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وروى: " أَن الْأَقْرَع بن حَابِس التَّمِيمِي، وعيينة بن حصن الْفَزارِيّ أَتَيَا رَسُول الله، كَانَا من أكَابِر الْكفَّار؛ فَقَالَا: إِنَّا نستنكف من الْجُلُوس مَعَ هَؤُلَاءِ، فَلَو اتَّخذت لنا مَجْلِسنَا مِنْك؛ آمنا بك؛ فهم بذلك، طَمَعا فِي إِيمَانهم؛ فَنزلت الْآيَة " فعلى هَذَا تكون الْآيَة من الْآيَات المبينة الَّتِي نزلت بِالْمَدِينَةِ. قَوْله: {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم} اخْتلفُوا فِي هَذِه الدعْوَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: يصلونَ الصَّلَوَات الْخمس، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هُوَ ذك الله، وَقَالَ الضَّحَّاك: كل الطَّاعَات.

{من حِسَابك عَلَيْهِم من شَيْء فَتَطْرُدهُمْ فَتكون من الظَّالِمين (52) وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بِبَعْض لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا فَقل سَلام عَلَيْكُم كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة أَنه من عمل} وَقَوله: {يُرِيدُونَ وَجهه} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: يُرِيدُونَ إِيَّاه بِالطَّاعَةِ، ويريدون خَالص وَجهه، وَالْوَجْه صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ؛ وَجه لَا كالوجوه. {فَتَطْرُدهُمْ فَتكون من الظَّالِمين} يَعْنِي: إِن طردتهم، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه فَتكون من الظَّالِمين، (ثمَّ قَالَ) : {مَا عَلَيْك من حسابهم من شَيْء وَمَا من حِسَابك عَلَيْهِم من شَيْء}

53

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بعض} هُوَ فتْنَة الْأَغْنِيَاء بالفقراء، [وَالله - تَعَالَى - يفتن الْأَغْنِيَاء بالفقراء] ، ويفتن الْفُقَرَاء بالأغنياء، وَالْمرَاد هَاهُنَا: فتْنَة أكابرهم بفقرائهم؛ حَيْثُ امْتَنعُوا عَن الْإِيمَان بسببهم؛ وَذَلِكَ كَانَ فتْنَة لَهُم. {وليقولوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا} يَقُول الْأَغْنِيَاء: أَهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء سبقُونَا بِالْإِيمَان، ثمَّ يَقُول الله - تَعَالَى -: {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ} يَعْنِي: أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم من هُوَ أهل لِلْإِسْلَامِ؛ فَيدْخل فِي الْإِسْلَام؟ ! .

54

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا} هم الْفُقَرَاء الَّذين ذكرنَا {فَقل سَلام عَلَيْكُم} أَمر رَسُوله ببدائتهم بِالسَّلَامِ، وَقد ذكرنَا معنى السَّلَام فِيمَا سبق، وَقيل: مَعْنَاهُ: [سلمكم] الله فِي دينكُمْ، وَقيل: مَعْنَاهُ السَّلامَة لكم. {كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة} أَي قضى بِالرَّحْمَةِ لكم {أَنه من عمل مِنْكُم سَوَاء بِجَهَالَة} أَي خطيئه، وَقد بَينا أَن كل عَاص جَاهِل {ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم} يقْرَأ: أَنه، وفأنه، كِلَاهُمَا بِنصب الْألف؛ فَيكون بَدَلا عَن قَوْله:

{مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم (54) وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين (55) قل إِنِّي نهيت أَن اعبد الَّذين تدعون من دون الله قل لَا أتبع أهواءكم قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين (56) قل إِنِّي على بَيِّنَة من} {كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة} وَيقْرَأ: كِلَاهُمَا بِكَسْر الْألف على الِابْتِدَاء، وَيقْرَأ: الأول بِالْفَتْح وَالثَّانِي بِالْكَسْرِ.

55

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين} يقْرَأ بِثَلَاثَة أوجه ولتستبين - بِالتَّاءِ، سَبِيل: بِنصب اللَّام. وَمَعْنَاهُ: ولتستبين يَا مُحَمَّد سَبِيل الْمُجْرمين؛ فَإِن قيل: ألم يكن مستبينا لَهُ؟ قيل: مَعْنَاهُ: لتزداد بَيَانا، وَقَالَ الزّجاج: الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد بِالْآيَةِ: الْأمة. وَيقْرَأ وليستبين: بِالْيَاءِ وَالتَّاء سَبِيل: بِرَفْع اللَّام، وَقَالُوا: لِأَن السَّبِيل يذكر وَيُؤَنث؛ قَالَ الله - تَعَالَى -: {قل هَذِه سبيلي} وَمَعْنَاهُ: وليظهر سَبِيل الْمُجْرمين؛ (فَإِن قيل: لم خص سَبِيل الْمُجْرمين؟) قيل: تَقْدِيره: ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين وسبيل الْمُؤمنِينَ؛ فَحذف أَحدهمَا اختصارا، وَالأَصَح أَن تَقْدِيره: ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين عَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ.

56

قَوْله - تَعَالَى -: {قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله} هُوَ النَّهْي عَن الشّرك {قل لَا أتبع أهواءكم قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين} يَعْنِي: إِن اتبعت أهواءكم،

57

قَوْله - تَعَالَى -: {قل إِنِّي على بَيِّنَة من رَبِّي} على بَيَان من رَبِّي {وكذبتم بِهِ} أَي: بِمَا [جِئْت] بِهِ {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ} قيل: أَرَادَ بِهِ استعجالهم الْآيَات والمعجزات، وَقيل: أَرَادَ بِهِ استعجالهم الْقِيَامَة، قَالَ الله - تَعَالَى - {يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا} وَقيل: أَرَادَ بِهِ استعجال الْعَذَاب، قَالَ الله -

{رَبِّي وكذبتم بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ إِن الحكم إِلَّا لله يقص الْحق وَهُوَ خير الفاصلين (57) قل لَو أَن عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ لقضي الْأَمر بيني وَبَيْنكُم وَالله أعلم بالظالمين (58) وَعِنْده مفاتح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر وَمَا} تَعَالَى -: " ويستعجلونك بِالْعَذَابِ " وَكَانُوا يَقُولُونَ: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم} . {إِن الحكم إِلَّا لله يقْضِي الْحق وَهُوَ خير الفاصلين} وَيقْرَأ: يقص بالصَّاد، وَاسْتدلَّ بِالْكِتَابَةِ فِي الْمَصَاحِف؛ فَإِن هَذِه الْكَلِمَة تكْتب بِغَيْر الْيَاء.

58

قَوْله تَعَالَى: {قل لَو أَن عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ لقضي الْأَمر بيني وَبَيْنكُم} مَعْنَاهُ: لقامت الْقِيَامَة، وَقيل: هُوَ فِي الْعَذَاب، وَمَعْنَاهُ: لَو كَانَ الْعَذَاب بيَدي لعجلته؛ حَتَّى أتخلص مِنْكُم {وَالله أعلم بالظالمين} .

59

قَوْله - تَعَالَى -: {وَعِنْده مَفَاتِيح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ} روى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مفاتح الْغَيْب خَمْسَة " وَذكر (الْخمس) الْمَذْكُورَة فِي قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} ثمَّ قَرَأَ الْآيَة. {وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر} قَالَ مُجَاهِد: الْبَحْر: الْقرى والأمصار هَاهُنَا، (وَالْبر: المفاوز) ، يُقَال: هَذَا الْمصر بَحر، وَهَذِه الْقرْيَة بَحر؛ لاجتماعها وَكَثْرَة أَهلهَا، وَقيل: هُوَ الْبر وَالْبَحْر الْمَعْرُوف. {وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا} فَإِن قَالَ قَائِل: لم خص [الْوَرق] السَّاقِط

{تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين (59) وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ وَيعلم مَا جرحتم بِالنَّهَارِ ثمَّ يبعثكم فِيهِ ليقضى أجل مُسَمّى ثمَّ عَلَيْهِ مرجعكم ثمَّ ينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ القاهر فَوق عباده} وَهُوَ يعلم السَّاقِط وَالثَّابِت؟ قيل: هَذَا مَعْنَاهُ: أَي: وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا سَاقِطَة وثابتة، قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق: أَرَادَ بِالْوَرَقَةِ الساقطة: السقط. {وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض} هُوَ الْحبّ الْمَعْرُوف، وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق: هُوَ الْوَلَد {وَلَا رطب وَلَا يَابِس} قيل: مَعْنَاهُ: وَلَا حَيّ وَلَا موَات، وَقيل: هُوَ عبارَة عَن كل شَيْء {إِلَّا فِي كتاب مُبين} يَعْنِي: أَن الْكل مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {وكل صَغِير وكبير مستطر} .

60

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ} أَي: يقبض أرواحكم بِاللَّيْلِ إِذا نمتم، وَهَذَا نَظِير قَوْله: {الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها} . فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ من نَام فروحه مَعَه؛ فَمَا معنى هَذَا الْقَبْض؟ قيل: هُوَ قبض النَّفس المميزة المتصرفة {وَيعلم مَا جرحتم بِالنَّهَارِ} أَي: كسبتم بِالنَّهَارِ {ثمَّ يبعثكم فِيهِ} قَالَ قَتَادَة: الْبَعْث الْيَقَظَة هَاهُنَا، أَي: ثمَّ يوقظكم فِي النَّهَار {ليقضي أجل مُسَمّى} الْقَضَاء: هُوَ فصل الحكم على التَّمام، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: اسْتِيفَاء أجل الْعُمر على التَّمام. (ثمَّ إِلَيْهِ مرجعكم ثمَّ ينئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ) .

61

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ القاهر فَوق عباده وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة} أما معنى القاهر، وَصفَة الفوق، فقد ذكرنَا؛ وَأما إرْسَال الْحفظَة: هُوَ إرْسَال الْمَلَائِكَة الْحفاظ، وَهُوَ مَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} وَقَالَ: {لَهُ مُعَقِّبَات

{وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة حَتَّى إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَوْت توفته رسلنَا وهم لَا يفرطون (61) ثمَّ ردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق أَلا لَهُ الحكم وَهُوَ أسْرع الحاسبين (62) قل من ينجيكم} من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله) وحفظهم: أَن [يحفظوا] على الْعباد الْعَمَل وَالْأَجَل والرزق {حَتَّى إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَوْت توفته رسلنَا} وَيقْرَأ: " توفيه " بِالْيَاءِ {وهم لَا يفرطون} أَي: لَا يؤخرون. فَإِن قيل: قد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت} وَقَالَ هَاهُنَا: {توفته رسلنَا} فَكيف وَجه الْجمع؟ قيل: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: لملك الْمَوْت أعوان من الْمَلَائِكَة، يتوفون عَن أمره؛ فَهُوَ معنى قَوْله: {توفته رسلنَا} وَيكون ملك الْمَوْت هُوَ الْمُتَوفَّى فِي الْحَقِيقَة؛ لأَنهم يصدرون عَن أمره، وَلذَلِك نسب الْفِعْل إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْآيَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: ذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ: ملك الْمَوْت، وَفِي الْقَصَص أَن الله - تَعَالَى - جعل الدُّنْيَا بَين يَدَيْهِ كالمائدة الصَّغِيرَة؛ فَيقبض من هَاهُنَا وَمن هَاهُنَا؛ فَإِذا كثرت الْأَرْوَاح يَدْعُو الْأَرْوَاح فتجيب لَهُ.

62

قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ ردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق} فَإِن قَالَ قَائِل: الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار، فَكيف قَالَ: {مَوْلَاهُم الْحق} وَقد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} ؟ قيل: الْمولى فِي تِلْكَ الْآيَة بِمَعْنى: النَّاصِر، وَلَا نَاصِر للْكفَّار، وَالْمولى هَاهُنَا بِمَعْنى: الْمَالِك، وَالله مَالك الْكل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ رد الْمُؤمنِينَ إِلَيْهِ، وَيدخل الْكفَّار فِيهِ تبعا. {أَلا لَهُ الحكم وَهُوَ أسْرع الحاسبين} أَي: يُحَاسب الْكل فِي لَحْظَة.

63

قَوْله تَعَالَى: {قل من ينجيكم من ظلمات الْبر وَالْبَحْر} يَعْنِي: من شَدَائِد الْبَحْر وَالْبر، تَقول الْعَرَب: يَوْم مظلم. إِذا كَانَ يَوْم شدَّة، ويسمونه أَيْضا: يَوْمًا ذَا كَوْكَب. كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كالليل لِشِدَّتِهِ، قَالَ الشَّاعِر:

{من ظلمات الْبر وَالْبَحْر تَدعُونَهُ تضرعا وخفية لَئِن أنجانا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ (63) قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب ثمَّ أَنْتُم تشركون (64) قل هُوَ الْقَادِر على} (بني أَسد هَل تعلمُونَ (بلاءنا) إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشهبا) وَقَالَ آخر: (فدا لبني ذهل بن شَيبَان نَاقَتي ... إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشنعا) {تَدعُونَهُ تضرعا وخفية} أَي: عَلَانيَة وسرا، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن يكون السِّرّ مَعَ الْجَهْر فِي الدُّعَاء بِحَيْثُ يَدْعُو بِاللِّسَانِ وسره مَعَه، وَيقْرَأ " وخفية " بِكَسْر الْخَاء ومعناهما وَاحِد {لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ} وَالشُّكْر: [هُوَ] معرفَة النِّعْمَة مَعَ الْقيام [بِحَقِّهَا] ، وَلَا بُد من هذَيْن حَتَّى يتَحَقَّق الشُّكْر.

64

قَوْله - تَعَالَى -: {قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب ثمَّ أَنْتُم تشركون} الكرب: غَايَة الْهم.

65

قَوْله - تَعَالَى -: {قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْحسن، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة: نزلت الْآيَة فِي أهل الْإِيمَان وَأهل الصَّلَاة. وَقَالَ غَيرهم: نزلت فِي الْمُشْركين، وَقَوله: {عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم} قَالَ مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير: عذَابا من فَوْقكُم: هُوَ الرَّمْي بِالْحِجَارَةِ، كَمَا كَانَ فِي قوم لوط. أَو من تَحت أَرْجُلكُم هُوَ الْخَسْف والرجفة. وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: عذَابا من فَوْقكُم: تسليط أَئِمَّة السوء، وَمن تَحت أَرْجُلكُم: تسليط الخدم السوء، وَقيل: عذَابا من فَوْقكُم: الطوفان وَالْغَرق، وَمن تَحت

{أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم أَو يلْبِسكُمْ شيعًا وَيُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات لَعَلَّهُم يفقهُونَ (65) وَكذب بِهِ قَوْمك وَهُوَ} أَرْجُلكُم: الرّيح، كَمَا كَانَ فِي قوم عَاد {أَو يلْبِسكُمْ شيعًا} قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: يخلطكم خلط اضْطِرَاب لَا خلط اتِّفَاق، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن يبث فِيكُم الْأَهْوَاء المتفرقة؛ فتصيرون فرقا وأحزابا. (وَيُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض) هُوَ وُقُوع الْقَتْل بَينهم؛ وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، وَسمع الْأَوَّلين؛ قَالَ: " أعوذ بِوَجْهِك؛ فَلَمَّا سمع الآخرين؛ قَالَ: هَاتَانِ أيسر " وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة؛ دَعَا لأمته وناجى طَويلا؛ حَتَّى نزل جِبْرِيل أَن الله رفع الْأَوَّلين، وَأجَاب دعوتك فيهمَا، وَلم يجب فِي الآخرين ". فبثت الْأَهْوَاء والقتال فِي هَذِه الْأمة، وَقد سل السَّيْف من زمَان عُثْمَان، فَلَا يغمد إِلَى قيام السَّاعَة، وَقد روى أَن الدُّعَاء الْمَعْرُوف الَّذِي كَانَ يَدْعُو بِهِ رَسُول الله، دَعَا بِهِ حَيْثُ نزلت هَذِه الْآيَة، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بعفوك من عقابك، وَأَعُوذ برضاك من سخطك وَأَعُوذ بك مِنْك " أَي: بقضاءك من قضاءك {انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات} يَعْنِي: مرّة هَكَذَا، وَمرَّة هَكَذَا {لَعَلَّهُم يفقهُونَ} .

{الْحق قل لست عَلَيْكُم بوكيل (66) لكل نبأ مُسْتَقر وسوف تعلمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين (68) وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شَيْء وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (69) وذر الَّذين اتَّخذُوا دينهم لعبا}

66

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكذب بِهِ قَوْمك وَهُوَ الْحق} يَعْنِي: الْقُرْآن {قل لست عَلَيْكُم بوكيل} أَي: بمسلط؛ فألزمكم الْإِسْلَام شِئْتُم أَو أَبَيْتُم، قَالَ ابْن جريج: كَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاء ثمَّ نسخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} .

67

{لكل نبأ مُسْتَقر} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لكل خبر من أَخْبَار الْقُرْآن حَقِيقَة إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَة {وسوف تعلمُونَ} .

68

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم} أَرَادَ بِهِ: يَخُوضُونَ فِيهَا بِالرَّدِّ والاستهزاء، قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: وَيدخل فِي هَذَا: الْخَوْض فِي كل الْآيَات لَا على وفْق الْكتاب وَالسّنة. {فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} يَعْنِي: قَوْله: {وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم} قَالَت الصَّحَابَة: إِذا كَيفَ تقعد فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَيف نطوف بِالْبَيْتِ، وهم يَخُوضُونَ أبدا؟ فَنزلت هَذِه الْآيَة:

69

{وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شَيْء} يَعْنِي: إِذا لقوهم، وَلم يخوضوا فِيمَا يَخُوضُونَ {وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} أَمر [بتذكيرهم] ومنعهم عَن ذَلِك، وَقيل: مَعْنَاهُ: فِي حَال الذّكر، وَلَيْسَ عَلَيْهِم شَيْء فِي حَال مَا يذكرونهم إِذا لم يرْضوا بِمَا خَاضُوا فِيهِ.

70

قَوْله - تَعَالَى -: {وذر الَّذين اتَّخذُوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا} . قَالَ الْفراء فِي كِتَابه: عيد [أهل كل مِلَّة] يَوْم لَهو وَلعب إِلَّا عيد الْمُسلمين؛

{ولهوا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَذكر بِهِ أَن تبسل نفس بِمَا كسبت لَيْسَ لَهَا من دون الله ولي وَلَا شَفِيع وَإِن تعدل كل عدل لَا يُؤْخَذ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذين أبسلوا بِمَا كسبوا لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون (70) قل أندعوا من دون الله مَا لَا ينفعنا وَلَا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إِذْ هدَانَا الله كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين فِي} فَإِنَّهُ (يَوْم) الصَّلَاة وَفعل الْخَيْر وَالتَّكْبِير. {وَذكر بِهِ أَن تبسل نفس بِمَا كسبت} قَالَ مُجَاهِد: أَن تسلم للهلاك، وَقَالَ قَتَادَة: أَن تحبس، وَقَالَ الْفراء: أَن ترتهن، وَقَالَ الْكسَائي، والأخفش: أَن تجزي. وَالصَّحِيح هُوَ الأول، يُقَال: فلَان مستبسل إِذا استسلم للهلاك، قَالَ الشَّاعِر: (وإبسالي بني بِغَيْر جرم ... [بعوه وَلَا بِغَيْر دم مراق] ) وَحَقِيقَة الْمَعْنى: وَذكر بِهِ، لِأَن لَا تسلم نفس للهلاك بعملها {لَيْسَ لَهَا من دون الله ولي وَلَا شَفِيع} وَقد ذكرنَا {وَإِن تعدل كل عدل} هُوَ الْفِدْيَة {لَا يُؤْخَذ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذين أبسلوا بِمَا كسبوا} هُوَ مَا ذكرنَا {لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون} .

71

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أندعوا من دون الله مَا لَا ينفعنا وَلَا يضرنا} فَإِن قيل: كَيفَ لَا يضرهم وَفِي الْأَصْنَام ضرهم؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَا يجلب نفعا، وَلَا يدْفع ضرا، قيل: مَعْنَاهُ: لَيْسَ بيدهم شَيْء. {ونرد على أعقابنا بعد إِذْ هدَانَا الله} أَي: مرتدين على أعقابنا بعد الْهِدَايَة بِهِ وَالْإِسْلَام {كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين فِي الأَرْض حيران} أضلته الشَّيَاطِين وغلبته حَتَّى هوى، والحيران: المتردد بَين شَيْئَيْنِ لَا يدْرِي كَيفَ يفعل.

{الأَرْض حيران لَهُ أَصْحَاب يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى ائتنا قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وأمرنا لنسلم لرب الْعَالمين (71) وَأَن أقِيمُوا الصَّلَاة واتقوه وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون (72) وَهُوَ الَّذِي حلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ وَيَوْم يَقُول كن فَيكون قَوْله الْحق وَله الْملك يَوْم ينْفخ فِي الصُّور عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (73) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} {لَهُ أَصْحَاب يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى ائتنا} ضرب مثلا للَّذي يرْتَد عَن الْإِسْلَام بِرَجُل يكون فِي الطَّرِيق مَعَ رفْقَة؛ فيضل بِهِ الغول، ويدعوه أَصْحَابه من أهل الرّفْقَة إِلَى الطَّرِيق، فَيبقى حيران، لَا يدْرِي أَيْن يذهب. ( {قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وأمرنا لنسلم لرب الْعَالمين}

72

وَأَن أقِيمُوا الصَّلَاة واتقوه) أَي: وأمرنا بِإِقَامَة الصَّلَاة وَالتَّقوى ( {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون}

73

وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ) أَي: لإِظْهَار الْحق؛ لِأَنَّهُ جعل صنعه دَلِيلا على وحدانيته {وَيَوْم يَقُول كن فَيكون} قيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {خلق السَّمَوَات} يَعْنِي: وَخلق يَوْم يَقُول، فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا التَّقْدِير، وَالْقِيَامَة غير مخلوقة بعد؟ قيل: هِيَ كائنة فِي علم الله - تَعَالَى -[فَتكون] كالمخلوقة؛ إِذْ الْحلق بِمَعْنى: الْقَضَاء وَالتَّقْدِير، وَهِي مقضية مقدرَة، وَقيل: تَقْدِيره: وَاذْكُر يَوْم يَقُول: كن فَيكون ( {قَوْله الْحق} وَله الْملك يَوْم ينْفخ فِي الصُّور) قرئَ فِي الشواذ: " يَوْم ينْفخ فِي الصُّور " وَهِي جمع الصُّورَة، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الصُّور: هُوَ الصُّور فِي كل مَوضِع، وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي تَفْسِير الْآيَة: الصُّور: قرن ينْفخ فِيهِ، وَهُوَ مَعْرُوف فِي الْأَخْبَار. {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير} .

74

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ آزر} يقْرَأ " آزر " بِرَفْع الرَّاء، وَهُوَ فِي الشواذ، وَمَعْنَاهُ: يَا آزر، وَكَذَلِكَ فِي حرف أبي بن كَعْب: يَا آزر، وَالْمَعْرُوف " آزر " بِنصب

{لِأَبِيهِ آزر أتتخذ أصناما آلِهَة إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين (74) وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض وليكون من الموقنين (75) فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل} الرَّاء، وَهُوَ اسْم أعجمي غير منصرف؛ فينصب فِي مَوضِع الْخَفْض. قَالَ الْفراء، والزجاج: اسْم أَبِيه: تارخ، أجمع عَلَيْهِ النسابون، وآزر لقب لَهُ، قَالَ الْفراء: واللقب قد غلب على الِاسْم، وَقيل: كَانَ لَهُ اسمان: آزر، وتارخ، قَالَ الْحسن: اسْمه: آزر لَا غير، كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْكتاب، وَقَالَ مُجَاهِد: آزر: اسْم صنم، وَتَقْدِير الْآيَة: وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ: {أتتخذ} آزر إِلَهًا {أصناما آلِهَة إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين} .

75

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض} الملكوت وَالْملك وَاحِد، وَإِنَّمَا أَدخل التَّاء فِيهِ للْمُبَالَغَة، مثل: رهبوت ورحموت، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ، مِنْهُم من قَالَ: أرَاهُ أَبْوَاب السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَمِنْهُم من قَالَ: فرج لَهُ السَّمَوَات حَتَّى رَآهَا كلهَا وَمَا فِيهَا، وخرق لَهُ الْأَرْضين حَتَّى رَآهَا كلهَا، وَقيل: رَفعه إِلَى السَّمَاء حَتَّى رأى السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما رَفعه إِلَى السَّمَاء رأى فِي الأَرْض رجلا على الْمعْصِيَة، فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه، ثمَّ رأى آخر، فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه، ثمَّ رأى ثَالِثا كَذَلِك؛ فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه فَقَالَ الله - تَعَالَى -: أهبطوه، ثمَّ أوحى الله - تَعَالَى -: إِلَيْهِ: مهلا يَا إِبْرَاهِيم؛ فَإِن عبَادي مني على ثَلَاث خِصَال: إِمَّا أَن يتوبوا فَأغْفِر لَهُم، وَإِمَّا أَن يتْركُوا ولدا يَدْعُو لَهُم فَأغْفِر لَهُم، وَإِن لم يكن [لَهُم] فجهنم من ورائهم " {وليكون من الموقنين} .

76

قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل رأى كوكبا} .

{رأى كوكبا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين (76) فَلَمَّا رأى الْقَمَر بازغا قَالَ} وَفِي الْقِصَّة: أَن وَاحِدًا من الكهنة، قَالَ لنمروذ: إِن ملكك يهْلك على (يَدي) ولد فِي زَمَانك، فَكَانَ يقتل الْبَنِينَ مِمَّن يُولد فِي زَمَانه؛ فَلَمَّا أَتَت أم إِبْرَاهِيم بإبراهيم، جَاءَ بِهِ أَبوهُ إِلَى سرب الأَرْض شبه مغار، وَوَضعه فِي مَوضِع يُقَال لَهُ: كوثاء؛ فَقيل: إِنَّه كَانَ فِيهِ سبع سِنِين، وَقيل: ثَلَاث عشرَة سنة، وَقيل سبع عشرَة سنة، ثمَّ إِنَّه لما شب، قَالَ لأمه: من رَبِّي؟ فَقَالَت لَهُ: اسْكُتْ، ثمَّ جَاءَت وأخبرت أَبَاهُ مَا قَالَ؛ فجَاء أَبوهُ؛ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: من رَبِّي؟ فَقَالَ: أمك، قَالَ: وَمن رب أُمِّي،؟ قَالَ: أَنا، قَالَ: وَمن رَبك؟ قَالَ: اسْكُتْ، وتركوه، ثمَّ لما جن عَلَيْهِ اللَّيْل خرج من السرب، وَلم يكن رأى شَيْئا قطّ، فَرَأى كوكبا، قيل: هُوَ المُشْتَرِي. قَالَ السّديّ: كَانَ الْكَوْكَب: زهرَة، وَهِي أَضْوَأ كَوْكَب فِي السَّمَاء. {قَالَ هَذَا رَبِّي} قيل: إِنَّه قَالَ ذَلِك فِي صغره حِين لَا يعبأ بقوله، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ مستدلا بِهِ؛ فَقَالَ ذَلِك فِي حَال الِاسْتِدْلَال؛ فَلم يضرّهُ هَذَا القَوْل، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضعيفان، وَفِيه ثَلَاثَة أَقْوَال مَعْرُوفَة: أَحدهَا: قَالَ قطرب: قَوْله: هَذَا رَبِّي. على وَجه الِاسْتِفْهَام، وَتَقْدِيره أَهَذا رَبِّي؟ وَمثله قَول الشَّاعِر: (رفوني وَقَالُوا يَا خويلد (لم ترع) فَقلت وَأنْكرت الْوُجُوه هم هم) وَإِنَّمَا قَالَ: هم على طَرِيق الِاسْتِفْهَام، وَتَقْدِيره: أهم هم؟ وَأما الزّجاج وَغَيره لم يرْضوا مِنْهُ هَذَا، وَقَالُوا: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب " هَذَا " بِمَعْنى الِاسْتِفْهَام. وَذكر الزّجاج قَوْلَيْنِ آخَرين فِيهِ: أَحدهمَا: قَالَ: " هَذَا رَبِّي " على زعم قومه، فَإِن قيل: هم كَانُوا يعْبدُونَ الْكَوَاكِب، فَكيف قَالَه على زعمهم؟ قيل: كَانَ مِنْهُم أهل نُجُوم، وَكَانُوا يرَوْنَ أَنه إِلَى الْكَوَاكِب الْأُمُور؛ وَكَأَنَّهُم يعْبدُونَ الْكَوَاكِب. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن القَوْل مُضْمر فِيهِ، وَتَقْدِيره: يَقُولُونَ: هَذَا رَبِّي.

{هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين (77) فَلَمَّا رأى الشَّمْس بازغة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قوم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون (78) إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين (79) وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني فِي الله وَقد هدان وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَن}

77

{فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين} . قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا رأى الْقَمَر بازغا} أَي: طالعا: {قَالَ هَذَا رَبِّي} وَكَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة قد تَأَخّر طُلُوع الْقَمَر فِيهَا قَلِيلا {فَلَمَّا أفل قَالَ لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين} والأفول: الْغُرُوب.

78

قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا رأى الشَّمْس بازغة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر} أَي: أَضْوَأ وأنور فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: هَذَا رَبِّي، وَالشَّمْس مُؤَنّثَة، وَلم يقل هَذِه؟ قيل: لِأَن مَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَلامَة التَّأْنِيث يجوز أَن يذكر، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (فَلَا مزنة وَقد دقَّتْ ... ودقها وَلَا أَرض ذَا بقل أبقالها) وَلم يقل [أبقلت] ، وَإِن كَانَت الأَرْض مُؤَنّثَة؛ إِذْ لم يكن عَلَيْهَا عَلامَة التَّأْنِيث، وَقيل: إِن قَوْله: هَذَا رَبِّي، يرجع إِلَى الْمَعْنى، وَهُوَ الضياء والنور {فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قومِي إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون} .

79

قَوْله - تَعَالَى -: {إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين} الحنيف: الثَّابِت على الدّين، المائل إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ.

80

قَوْله - تَعَالَى -: {وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني} (أَي) : جادله قومه؛ قَالَ: أتجادلوني {فِي الله وَقد هدان} .

{يَشَاء رَبِّي شَيْئا وسع رَبِّي كل شَيْء علما أَفلا تذكرُونَ (80) وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ (81) الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم} {وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ} لأَنهم كَانُوا يخوفونه بالأصنام، وَكَانُوا يَقُولُونَ: احذر الْأَصْنَام؛ فَإنَّا نَخَاف عَلَيْك الخبل وَالْجُنُون؛ فَقَالَ: {وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئا} قَوْله: إِلَّا أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئا. لَيْسَ باستثناء عَن الأول؛ إِذْ لَا يجوز أَن يَشَأْ الله أَن يُصِيبهُ شَيْء من الْأَصْنَام، وَمَا يشركُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن إِن شَاءَ رَبِّي أَن يأخذني بِشَيْء، أَو يُعَذِّبنِي بجرمي؛ فَلهُ ذَلِك. {وسع رَبِّي كل شَيْء علما أَفلا تتذكرون} .

81

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا} الْإِشْرَاك: هُوَ الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي معنى؛ فالإشراك بِاللَّه: هُوَ أَن يجمع مَعَ الله غير الله فِيمَا لَا يجوز إِلَّا لله، وَمعنى الْآيَة: وَكَيف أَخَاف الْأَصْنَام وَمَا أشركتم، وَأَنْتُم أَحَق بالخوف مني حَيْثُ أشركتم بِاللَّه، وَلَا تخافون الله بشرككم أَو فعلكم الَّذِي لم ينزل بِهِ الله حجَّة وسلطانا؟ {فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن} يَعْنِي الموحد أَو الْمُشرك {إِن كُنْتُم تعلمُونَ} .

82

قَوْله - تَعَالَى -: {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: هَذَا من قَول الله - تَعَالَى -، وَقيل: هُوَ من قَول إِبْرَاهِيم، وَمَعْنَاهُ: الَّذين آمنُوا، وَلم يخلطوا إِيمَانهم بشرك، هَذَا هُوَ قَول أبي بكر، وَعلي، وَحُذَيْفَة، وسلمان أَن المُرَاد بالظلم الشّرك، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود: " أَنه لي نزلت هَذِه الْآيَة؛ شقّ ذَلِك على الصَّحَابَة، وَقَالُوا: أَيّنَا لم يظلم نَفسه؟ ! فَقَالَ: لَيْسَ الْأَمر كَمَا تظنون، إِنَّمَا الظُّلم هَاهُنَا بِمَعْنى الشّرك، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} ". وَمعنى الْآيَة: الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَلم يشركوا بِهِ {أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن

{مهتدون (82) وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب كلا هدينَا ونوحا هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته دَاوُود وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ (84) وزَكَرِيا وَيحيى وَعِيسَى وإلياس كل من الصَّالِحين (85) وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسع} هم مهتدون) .

83

قَوْله - تَعَالَى: {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه} اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: هِيَ احتجاجه عَلَيْهِم بقوله: {فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن} ، وحجته فِي ذَلِك أَن الَّذِي يعبد الله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا أَحَق بالأمن من الَّذِي يعبد الله ويشرك بِهِ. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْحجَّاج الَّذِي حَاج بِهِ نمروذ، على مَا سبق فِي سُورَة الْبَقَرَة. {نرفع دَرَجَات من نشَاء} يَعْنِي: (بالحجاج) ، وَالِاسْتِدْلَال، وَيقْرَأ: " نرفع دَرَجَات " منونا، وَتَقْدِيره: نرفع من نشَاء دَرَجَات {إِن رَبك حَكِيم عليم} .

84

قَوْله - تَعَالَى -: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب كلا هدينَا ونوحا هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته} اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم، وَالصَّحِيح أَنه أَرَادَ بِهِ: وَمن ذُرِّيَّة نوح؛ لِأَنَّهُ عد فِي الْجُمْلَة يُونُس ولوطا، وهما من ذُرِّيَّة نوح لَا من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم {وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} وَلَيْسَ هَذَا على تَرْتِيب الْأَزْمَان؛ إِذْ كَانَ هَؤُلَاءِ على أزمان مُخْتَلفَة، بَعضهم سَابق على الْبَعْض، (فالواو لَا) تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَإِنَّمَا هِيَ للْجمع.

85

قَوْله - تَعَالَى -: {وزَكَرِيا وَيحيى وعيس} هَذَا دَلِيل على أَن عِيسَى من ذُرِّيَّة آدم، وَإِن كَانَ انتماؤه إِلَى الْأُم؛ لِأَنَّهُ عده من ذُرِّيَّة نوح؛ فَيكون آدم أَبَاهُ من قبل الْأُم {وإلياس كل من الصَّالِحين} قَالَ ابْن مَسْعُود: إلْيَاس هُوَ إِدْرِيس، وَالصَّحِيح أَنه رجل آخر.

{وَيُونُس ولوطا وكلا فضلنَا على الْعَالمين (86) وَمن آبَائِهِم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (87) ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء من عباده وَلَو أشركوا لحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب}

86

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسع} وَيقْرَأ: " والليسع " وَهُوَ اسْم أعجمي مثل: زيد، وَيزِيد، وَنَحْوه، وَإِنَّمَا وصل فِيهِ الْألف وَاللَّام نَادرا، وَمثله قَول الشَّاعِر: (وجدنَا (الْوَلِيد بن اليزيد) مُبَارَكًا ... شَدِيدا (بأعباء) الْخلَافَة كَاهِله) {وَيُونُس ولوطا وكلا فضلنَا على الْعَالمين} .

87

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن آبَائِهِم} " من " فِيهِ للتَّبْعِيض؛ لِأَن آبَاء بَعضهم كَانُوا مُسلمين ومهتدين {وذرياتهم} أَي: وَمن ذرياتهم، وَأَرَادَ بِهِ: ذُرِّيَّة بَعضهم أَيْضا؛ لِأَن عِيسَى وَيحيى لم يكن لَهما ذُرِّيَّة، وَكَانَ فِي ذُرِّيَّة بَعضهم من كَانَ كَافِرًا {وإخوانهم واجتبيناهم} أَي: اصطفيناهم {وهديناهم} أرشدناهم {إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} .

88

قَوْله - تَعَالَى -: {ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء} أَي: يرشد بِهِ من يَشَاء من عباده {وَلَو أشركوا لحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: لبطل عَنْهُم، والحبوط: البطول وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: ( {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك}

89

أُولَئِكَ الَّذين أتيناهم الْكتاب) الْكتاب: اسْم الْجِنْس، وَأَرَادَ بِهِ: الْكتب الْمنزلَة عَلَيْهِم {وَالْحكم} يَعْنِي: الْعلم وَالْفِقْه {والنبوة فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين} يَعْنِي: أهل الْمَدِينَة، وَمن كَانَ بهَا من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَقَالَ قَتَادَة: فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ يَعْنِي: الْكفَّار، فقد وكلنَا بهَا قوما [يَعْنِي]

{وَالْحكم والنبوة فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين (89) أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إِلَّا ذكرى للْعَالمين (90) وَمَا قدرُوا الله حق قدره إِذْ قَالُوا مَا أنزل الله على بشر من شَيْء قل من} الْأَنْبِيَاء الَّذين سبق ذكرهم، وَقَالَ أَبُو رَجَاء العطاردي: مَعْنَاهُ: فَإِن يكفر بهَا أهل الأَرْض، فقد وكلنَا بهَا أهل السَّمَاء، وهم الْمَلَائِكَة {لَيْسُوا بهَا بكافرين} .

90

قَوْله - تَعَالَى -: {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله} أَي: هدَاهُم الله {فبهداهم اقتده} وَهَذِه هَاء الْوَقْف، كَمَا فِي قَوْله: {ماليه} و {سلطانيه} ، وَنَحْو ذَلِك، وَيقْرَأ: " فبهديهم اقتده " بِكَسْر الْهَاء، وَتَقْدِيره: فبهديهم اقتد اقْتِدَاء، هَكَذَا قيل: إِن الْمصدر مقدس فِيهِ {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: تذكره.

91

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا عظموا الله حق عَظمته، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَا عرفُوا الله حق مَعْرفَته، وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد: مَا وصفوا الله حق وَصفته، يُقَال: قدرت الشَّيْء، وَقدرته؛ إِذا عرفت حَقِيقَته. {إِذْ قَالُوا مَا أنزل الله على بشر من شَيْء} قيل: هَذَا قَول مَالك بن الصَّيف، كَانَ حبر الْيَهُود، فحاج النَّبِي، فَجرى على لِسَانه فِي المحاجة: مَا أنزل الله على بشر من شَيْء، وَكَانَ ذَلِك بِمَكَّة؛ فَنزلت الْآيَة. {قل من أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس} أَي: أجبه يَا مُحَمَّد، وَقل: من أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى وَأَنْتُم تؤمنون بِهِ؟ . وَفِي الْقِصَّة: أَن الْيَهُود سمعُوا مِنْهُ تِلْكَ الْمقَالة؛ فعتبوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: أَلَيْسَ أَن الله قد أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى؟ فَلم قلت مَا أنزل الله على بشر من شَيْء؟ ! فَقَالَ مَالك بن الصَّيف: أَغْضَبَنِي مُحَمَّد؛ فَقلت مَا قلت؛ فَقَالُوا: وَأَنت إِذا غضِبت تَقول على الله

{أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم مَا لم تعلمُوا أَنْتُم وَلَا آباؤكم قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك مُصدق الَّذِي بَين يَدَيْهِ ولتنذر أم الْقرى وَمن حولهَا وَالَّذين} غير الْحق؛ فَنَزَعُوهُ عَن الحبرية، وأجلسوا مَكَانَهُ كَعْب بن الْأَشْرَف. {تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها} أَي: تكبون مِنْهَا كتبا تبدونها {وتخفون كثيرا} أَي: تخفون مَا فِيهِ نعت مُحَمَّد، وتبدون مِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ نعت مُحَمَّد {وعلمتم مَا لم تعلمُوا أَنْتُم وَلَا (آباؤكم} ) قيل: هُوَ رَاجع إِلَى الْيَهُود، وَقيل: هُوَ خطاب للصحابة. قَالَ الله - تَعَالَى -: (يَعْنِي: قل من أنزلهُ) وَهُوَ رَاجع إِلَى مَا تقدم {قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ} وكل من خَاضَ فِيمَا لَا ينفح بِهِ فَهُوَ لاعب.

92

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك} يصف الْقُرْآن بِالْبركَةِ: وأصل الْبركَة الثُّبُوت، وَمِنْه بروك الْبَعِير إِذا ثَبت وَاسْتقر، وَمِنْه قَوْله: {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} أَي: ثَبت لَهُ مَا يسْتَحقّهُ من التَّعْظِيم والجلال فِيمَا لم يزل وَلَا يزَال. {مُصدق الَّذِي بَين يَدَيْهِ} يَعْنِي: من الْكتب الْمنزلَة قبله {ولتنذر أم الْقرى} يَعْنِي: أهل أم الْقرى {وَمن حولهَا} وَأم الْقرى مَكَّة: وَسميت أم الْقرى؛ لِأَن سَائِر الْقرى [يقصدونها ويأتونها] ، وَقيل: لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا، (وَقيل: لِأَنَّهَا) معظمة تقصد بالتعظيم، وَمِنْه سميت الْأُم أما؛ لِأَنَّهَا تعظم، وَقد قَالَ: " إِن الْمَدِينَة قَرْيَة تَأْكُل سَائِر الْقرى " يَعْنِي: أَن أهل الْمَدِينَة يقتحمون سَائِر الْقرى

{يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ وهم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ (92) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ وَلم يُوح إِلَيْهِ شَيْء وَمن قَالَ سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله} بِالسَّيْفِ. {وَالَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ وهم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ} . فَإِن قيل: الْيَهُود وَالنَّصَارَى يُؤمنُونَ بِالآخِرَة، وَلَا يُؤمنُونَ بِهِ، فَمَا معنى قَوْله " وَالَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ "؟ قيل: أَرَادَ بِهِ الْمُؤمنِينَ؛ لأَنهم الَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حَقِيقَة، فَأَما الَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة، وَلَا يصدقون مُحَمَّدًا، وَمَا جَاءَ بِهِ؛ فكأنهم لم يُؤمنُوا بِالآخِرَة على الْحَقِيقَة.

93

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ وَلم يُوح إِلَيْهِ شَيْء} قَالَ ابْن عَبَّاس: " [نزل] هَذَا فِي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وَكَانَ قد أسلم؛ فَجعله النَّبِي كتابا للوحي، وَكَانَ يملي عَلَيْهِ الْوَحْي؛ فَيكْتب، فَقيل: إِنَّه كَانَ يملي عَلَيْهِ: " إِن الله سميع عليم "، فَيكْتب: " إِن الله غَفُور رَحِيم " ويملي عَلَيْهِ: إِن الله غَفُور رَحِيم " فَيكْتب: " إِن الله عليم حَكِيم " هَكَذَا كَانَ يُبدل؛ فروى أَنه لما نزل قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين} الْآيَة فأملى النَّبِي ذَلِك؛ فَلَمَّا رأى تَفْضِيل خلق الله تعجب، وَقَالَ: تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: هَكَذَا أنزل {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} فَشك الرجل فِي الْوَحْي، وَقَالَ: أُوحِي إِلَيّ كَمَا يُوحى إِلَيْهِ، وارتد عَن الْإِسْلَام " فَقَوله: {أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ} هُوَ هَذَا. وَقيل: نزلت الْآيَة فِي مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَالْأسود الْعَنسِي، خرجا بِالْيمن، وادعيا

{وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تَقولُونَ على الله غير الْحق وكنتم عَن آيَاته تستكبرون (93) وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة وتركتم مَا خولناكم وَرَاء} النُّبُوَّة وَالْوَحي إِلَيْهِمَا، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَأَيْت فِي الْمَنَام سِوَارَيْنِ من ذهب فِي يَدي، فنفخت فيهمَا، فطَارَا، فَأَوَّلْتهمَا عل كَذَّابين يخرجَانِ بعدِي " مُسَيْلمَة الْكذَّاب كَانَ بِالْيَمَامَةِ، وَالْأسود الْعَنسِي كَانَ بِصَنْعَاء الْيمن. {وَمن قَالَ سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله} هَذَا فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، ادّعى مُعَارضَة الْقُرْآن، فروى أَنه قَالَ فِي مُعَارضَة الْقُرْآن: والطاحنات طحنا، فالعاجنات عَجنا، والخابزات خبْزًا فاللاقمات لقما. {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت} يَعْنِي: فِي شَدَائِد الْمَوْت، قَالَ الشَّاعِر: (الغمرات ثمَّ تنجلينا ... ثمَّة تذهبن فَلَا تجينا) {وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم} قيل: للعذاب، وَقيل: لقبض الْأَرْوَاح {أخرجُوا أَنفسكُم} أَي: أرواحكم، فَإِن قَالَ قَائِل: الرّوح إِنَّمَا تخرج كرها؛ فَمَا معنى قَوْله: أخرجُوا أَنفسكُم؟ قيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تَغْلِيظًا عَلَيْهِم، كمن يخرج من الدَّار كرها، وَيُقَال لَهُ: اخْرُج. {الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تَقولُونَ على الله غير الْحق وكنتم عَن آيَاته تستكبرون} الْهون: من الهوان، والهون: من اللين والرفق، كَمَا فِي قَوْله: {يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} .

94

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى} أَي وحدانا فَردا فَردا {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} بِلَا أهل وَلَا مَال {وتركتم مَا خولناكم وَرَاء ظهوركم} أَي: ملكناكم، والخول: المماليك. {وَمَا نرى مَعكُمْ شفعاءكم الَّذين زعمتم انهم فِيكُم شُرَكَاء}

{ظهوركم وَمَا نرى مَعكُمْ شفعاءكم الَّذين زعمتم أَنهم فِيكُم شُرَكَاء لقد تقطع بَيْنكُم وضل عَنْكُم مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ (94) إِن الله فالق الْحبّ والنوى يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ ذَلِكُم الله فَأنى تؤفكون (95) فالق الإصباح وَجعل اللَّيْل} أَرَادَ بِهِ: مَا زَعَمُوا من أَن الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة شفعاؤنا عِنْد الله {لقد تقطع بَيْنكُم} أَي: وصلكم، وَهُوَ مثل قَوْله: {وتقطعت بهم الْأَسْبَاب} أَي: الموصلات، وَيقْرَأ: " لقد تقطع بَيْنكُم " - بِفَتْح النُّون - وَمَعْنَاهُ: تقطع الْأَمر بَيْنكُم {وضل عَنْكُم مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ} .

95

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الله فالق الْحبّ والنوى} الفلق: الشق، وَمَعْنَاهُ: أَنه يشق الْحبَّة؛ فيستخرج السنبلة من الْحبَّة، ويشق النواة؛ فيستخرج النَّخْلَة من النواة، [وَيدخل] فِي قَوْله: {فالق الْحبّ} جَمِيع البذور والحبوب، وَيدخل فِي قَوْله: {والنوى} نواة جَمِيع الْأَشْجَار؛ مثل نواة المشمش، ونواة الخوخ، ونواة الغبيراء، وَنَحْو ذَلِك، وَقيل: فالق الْحبّ والنوى بِمَعْنى: خَالق الْحبّ والنوى. {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} وَقد ذكرنَا هَذَا وَاخْتِلَاف الْقِرَاءَة فِيهِ، وَالْفرق بَين الْمَيِّت وَالْمَيِّت {ذَلِكُم الله فَأنى تؤفكون} أَي تصرفون.

96

قَوْله - تَعَالَى -: {فالق الإصباح} مَعْنَاهُ: أَنه يسْتَخْرج الصُّبْح من اللَّيْل، والإصباح: مصدر، وَهُوَ بِمَعْنى: الصُّبْح هَاهُنَا، أَي: فالق الصُّبْح، وَقَرَأَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: " فلق الإصباح " وَقَرَأَ الْحسن: " فالق الإصباح " - بِنصب الْقَاف - وهما فِي الشواذ. {وَجعل اللَّيْل سكنا} أَي: يسكن فِيهِ، وَيقْرَأ: " وَجعل اللَّيْل سكنا "، أَي: جعل الله اللَّيْل سكنا {وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسبانا} أَي: بِحِسَاب عُلُوم، والحسبان: هُوَ الْحساب هَاهُنَا بِمَعْنى أَنَّهُمَا يدوران بِحِسَاب مَعْلُوم مُقَدّر. وَحكى مَنْصُور بن

{سكنا وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسبانا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم (96) وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر قد فصلنا الْآيَات لقوم يعلمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أنشأكم من نفس وَاحِدَة فمستقر ومستودع قد فصلنا الْآيَات لقوم يفقهُونَ (98) الْمُعْتَمِر - وَهُوَ الثِّقَة من رُوَاة النَّخعِيّ - عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: يجوز أَن يتَعَلَّم الْإِنْسَان من النُّجُوم بِقدر مَا يعرف منَازِل الْقَمَر، وسير الْكَوَاكِب لمعرف الْقبْلَة وأوقات الصَّلَاة {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} .

97

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر} هَذِه إِحْدَى فَوَائِد النُّجُوم، وَالله - تَعَالَى - خلق النُّجُوم لفوائد: مِنْهَا تَزْيِين السَّمَاء، كَمَا قَالَ - عز وَعلا -: {وزينا السَّمَاء دينا بمصابيح} وَمِنْهَا رمى الشَّيَاطِين بهَا كَمَا قَالَ: {وجعلناهم رجوما للشياطين} وَمِنْهَا الاهتداء فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر كَمَا قَالَ هَاهُنَا. وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس عَن بعض التَّابِعين أَنه أَرَادَ بالنجوم هَاهُنَا: الصَّحَابَة، يَهْتَدِي بهم فِي ظلمات الشّرك، وَهَذَا مثل قَوْله: " أَصْحَابِي [كَالنُّجُومِ] بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، {قد فصلنا الْآيَات لقوم يعلمُونَ} .

98

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي أنشأكم من نفس وَاحِدَة} يَعْنِي: آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - {فمستقر ومستودع} قَالَ عَطاء، وَمُجاهد: أَرَادَ بالمستقر: أَرْحَام الْأُمَّهَات، وبالمستودع: أصلاب الْآبَاء، وَحكى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، ويروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ - على عَكسه -: المستقر: أصلاب الْآبَاء، والمستودع: أَرْحَام

{وَهُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ نَبَات كل شَيْء فأخرجنا مِنْهُ خضرًا نخرج مِنْهُ حبا متراكبا وَمن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان} الْأُمَّهَات، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: المستقر: أَرْحَام الْأُمَّهَات، والمستودع: الْقُبُور، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بالمستقر الدُّنْيَا والمستودع: الْآخِرَة، وَيقْرَأ: " فمستقر " بِكَسْر الْقَاف، وَتَقْدِيره: فمنكم مُسْتَقر، وَمِنْه مستودع {قد فصلنا الْآيَات لقوم يفقهُونَ} .

99

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ نَبَات كل شَيْء، فأخرجنا مِنْهُ خضرًا} هُوَ الْغُصْن الطري {نخرج مِنْهُ حبا متراكبا} أَي: متراكما بعضه على بعض {وَمن النّخل من طلعها قنوان دانية} الطّلع: مَا يخرج من شجر النّخل، والقنوان: العذوق، وَاحِدهَا: قنو، والعذق: أصل الشَّجَرَة، والعذق: الكباسة، والعذق والقنو وَاحِد، وَقَالَ الشَّاعِر: (أثيث كقنو النَّخْلَة المتعثكل ... ) وَقَالَ أَيْضا: (فأثت أعاليه (ودقت) أُصُوله (يمِيل بِهِ قنو) من الْبُسْر أحمرا) وَأما " الدانية " قَالَ الْبَراء بن عَازِب: {قنوان دانية} أَي: قريبَة المتناول، وَفِيه حذف وَتَقْدِيره: قنوان دانية وَغير دانية أَي: قريبَة، المتناول وبعيدة المتناول، فَحذف أَحدهمَا اختصارا؛ لسبقه إِلَى الأفهام، وَمثله قَوْله: {سرابيل تقيكم الْحر} وَتَقْدِيره: تقيكم الْحر وَالْبرد، قَوْله: {وجنات من أعناب} يقْرَأ بِكَسْر التَّاء، ورفعها {وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان مشتبها وَغير متشابه} أَي: مشتبها يشبه بعضه بَعْضًا فِي الْوَرق، وَغير متشابه فِي الثَّمر والطعم، وَهَكَذَا يكون الزَّيْتُون مَعَ الرُّمَّان، فَإِن ورق الزَّيْتُون يشبه ورق الرُّمَّان، وَقيل: تكون أوراقه إِلَى أصل الشَّجَرَة كأوراق الرُّمَّان، ثمَّ يُخَالف

{مشتبها وَغير تشابه انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه إِن فِي ذَلِكُم لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (99) وَجعلُوا لله شُرَكَاء الْجِنّ وخلقهم وخرقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْر علم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ (100) بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنى يكون لَهُ ولد وَلم تكن لَهُ صَاحِبَة وَخلق كل شَيْء وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم (101) ذَلِكُم الله ربكُم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ خَالق} الرُّمَّان فِي الطّعْم، فَهَذَا معنى قَوْله: {مشتبها وَغير متشابه} ، {انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه} أَي: فِي نضجه، وَمِنْه قَول الْحجَّاج حَيْثُ خطب، وَقَالَ: إِنِّي أرى رُءُوسًا قد أينعت، وآن قطافها، وَأَنا وَالله صَاحبهَا، وَرَأى دِمَاء ترقرق بَين اللحى والعمائم {إِن فِي ذَلِكُم لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} .

100

قَوْله - تَعَالَى -: {وَجعلُوا لله شُرَكَاء الْجِنّ} وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله من سروات الْجِنّ {وخلقهم} قيل: إِن الْآيَة رَاجِعَة إِلَى الْجِنّ، وَقيل: رَاجِعَة إِلَى الْكفَّار يَعْنِي: أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك {وخلقهم} وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " وخلقهم " بجزم اللَّام، وَهُوَ فِي الشواذ. {وخرقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْر علم} يقْرَأ مخففا ومشددا والخرق: الاختلاق، والتخريق: التكثير مِنْهُ، يَعْنِي: واختلقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات، وَذَلِكَ مثل قَول الْيَهُود: عُزَيْر ابْن الله، وَمثل قَول النَّصَارَى: الْمَسِيح ابْن الله، وَمثل قَول بَعضهم: الْمَلَائِكَة بَنَات الله {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ} .

101

قَوْله - تَعَالَى -: {بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مبدع السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْخَالِق لَا على مِثَال سبق، وَمِنْه المبتدعة، وَلَا يكون الْوَلَد إِلَّا من الصاحبة؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {أَنى يكون لَهُ ولد وَلم يكن لَهُ صَاحِبَة وَخلق كل شَيْء} وَفِيه أَيْضا دَلِيل على أَن لَا ولد لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ خلق كل شَيْء؛ لم يصلح شَيْء أَن يكون ولد لَهُ؛ إِذْ الْمَخْلُوق لَا يصلح ولدا للخالق؛ فَإِن ولد كل أحد يكون من جنسه {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} .

102

قَوْله - تَعَالَى -: {ذَلِكُم الله ربكُم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ خَالق كل شَيْء} أكد مَا سبق

{كل شَيْء فاعبدوه وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل (102) لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك} ذكره من نعت الوحدانية {فاعبدوه} أَي: فأطيعوه {وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل} قيل: هُوَ الْكَفِيل بالأرزاق، وَقيل: الْوَكِيل هَاهُنَا بِمَعْنى: الْقَائِم بِخلق كل شَيْء وتدبيره.

103

قَوْله - تَعَالَى 0: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة من يعْتَقد نفي الرُّؤْيَة، قَالُوا: لما (تمدح) بِأَنَّهُ لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار؛ فمدحه يكون على الْأَبَد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَاعْلَم أَن الرُّؤْيَة حق على مَذْهَب أهل السّنة، وَقد ورد بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة. قَالَ الله - تَعَالَى -: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} وَقَالَ: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون} . وَقَالَ: {فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه} وَنَحْو هَذَا، وروى جرير بن عبد الله البَجلِيّ، وَغَيره بروايات صَحِيحَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَيْسَ دونه سَحَاب، لَا تضَامون فِي رُؤْيَته " ويروون: " لَا تضَارونَ فِي رُؤْيَته ". فَأَما قَوْله - تَعَالَى -: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} فالإدراك غير الرُّؤْيَة؛ لِأَن الْإِدْرَاك: هُوَ الْوُقُوف على كنه الشَّيْء وَحَقِيقَته، والرؤية: هِيَ المعاينة، وَقد تكون الرُّؤْيَة بِلَا إِدْرَاك، قَالَ الله - تَعَالَى - فِي قصَّة مُوسَى: {فَلَمَّا ترآء الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون قَالَ كلا} فنفى الْإِدْرَاك مَعَ إِثْبَات الرُّؤْيَة، وَإِذا كَانَ الْإِدْرَاك غير الرُّؤْيَة، فَالله - تَعَالَى - يجوز أَن يرى، وَلَكِن لَا يدْرك كنهه؛ إِذْ لَا كنه لَهُ حَتَّى يدْرك؛ وَهَذَا

{الْأَبْصَار وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير (103) قد جَاءَكُم بصائر من ربكُم فَمن أبْصر فلنفسه وَمن عمي فعلَيْهَا وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ (104) وَكَذَلِكَ نصرف الْآيَات وليقولوا درست} كَمَا انه يعلم وَيعرف وَلَا يحاط بِهِ، كَمَا قَالَ: {وَلَا يحيطون بِهِ علما} فنفى الْإِحَاطَة مَعَ ثُبُوت الْعلم، وَقَالَ ابْن عَبَّاس - حَكَاهُ مقَاتل عَنهُ، وَالْأول قَول الزّجاج -: معنى قَوْله: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا، هُوَ يرى الْخلق، وَلَا يرَاهُ الْخلق فِي الدُّنْيَا بِدَلِيل قَوْله - تَعَالَى -: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} فَكَمَا أَثْبَتَت الرُّؤْيَة بِتِلْكَ الْآيَة فِي الْآخِرَة؛ دلّ أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة الْإِدْرَاك فِي الدُّنْيَا؛ ليَكُون جمعا بَين الْآيَتَيْنِ {وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير} اللَّطِيف: موصل الشَّيْء باللين والرفق، وَيُقَال فِي الدُّعَاء: " رب الطف بِي " أَي: أوصل إِلَيّ الرِّفْق، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَهُوَ اللَّطِيف بأوليائه وعباده الْخَبِير بهم.

104

قَوْله - تَعَالَى -: {قد جَاءَكُم بصائر من ربكُم} البصائر: الْبَينَات {فَمن أبْصر فلنفسه} يَعْنِي: نفع بَصَره لَهُ {وَمن عمي فعلَيْهَا} أَي: وبال الْعَمى عَلَيْهَا {وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ} أَي: مَا أمرت أَن ألازمكم حَتَّى تسلموا لَا محَالة، قيل: هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة السَّيْف.

105

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نصرف الْآيَات} أَي: نفصل الْآيَات، مرّة هَكَذَا، وَمرَّة هَكَذَا {وليقولوا درست} قيل: هَذِه " لَام الْعَاقِبَة " أَي: عَاقِبَة أَمرهم أَن يَقُولُوا: درست، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: {فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا} وَمَعْلُوم أَنهم لم يلتقطوه لهَذَا، وَلَكِن أَرَادَ أَن عَاقِبَة أمره مَعَهم أَن كَانَ عدوا لَهُم؛ فيسمون ذَلِك لَام الْعَاقِبَة، كَذَلِك هَا هُنَا، وَقَوله: {درست} يقْرَأ على وُجُوه: " درست " أَي: تعلمت من غَيْرك، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه تعلم أَخْبَار الْقُرُون الْمَاضِيَة من جبر، ويسار، وَكَانَ عَبْدَيْنِ سبيا من الرّوم، وَيقْرَأ " دارست " أَي تاليت وقاربت، وَهُوَ

{ولنبينه لقوم يعلمُونَ (105) اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأعْرض عَن الْمُشْركين (106) وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا وَمَا جعلناك عَلَيْهِم حفيظا وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل (107) وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله فيسبوا الله عدوا بِغَيْر علم كَذَلِك} من المدارسة بَين اثْنَيْنِ يدرس أَحدهمَا على الآخر، وَقَرَأَ ابْن عَامر " درست " أَي: تِلْكَ أَخْبَار قد درست ومحيت، وَيقْرَأ فِي الشواذ " وليقولوا درست " بِمَعْنى: محيت، قَرَأَهُ قَتَادَة، وَفِي حرف أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود " وليقولوا درس " يَعْنِي: درس مُحَمَّد، وَهُوَ بِمَعْنى: تعلم، كَمَا بَينا {ولنبينه لقوم يعلمُونَ} .

106

قَوْله - تَعَالَى -: {اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك} يَعْنِي: الْقُرْآن {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأعْرض عَن الْمُشْركين} .

107

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا} وَهَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة {وَمَا جعلناك عَلَيْهِم حفيظا} قد بَينا مَعْنَاهُ {وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل} .

108

قَوْله: {وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله فيسبوا الله عدوا بِغَيْر علم} وَيقْرَأ: " عدوا بِغَيْر علم " ومعناهما وَاحِد أَي: اعتداء بِغَيْر علم، وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الْكفَّار كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول الله: ذرنا وَآلِهَتنَا؛ حَتَّى نذرك وَإِلَهك - وَكَانَ يذكر آلِهَتهم بالسوء - فَنزلت الْآيَة وروى: " أَن قوما من كفار قُرَيْش من رُؤَسَائِهِمْ جَاءُوا إِلَى أبي طَالب، وَقَالُوا: مر ابْن أَخِيك يذرنا وَآلِهَتنَا حَتَّى نَذره وإلهه، فَدَعَا رَسُول الله، وَقَالَ: إِن قَوْمك جَاءُوا يطْلبُونَ مِنْك النصفة، فَقَالَ: وماذا يُرِيدُونَ؟ فَقَالَ أَبُو طَالب: يَقُولُونَ: ذرنا وَآلِهَتنَا، ونذرك وآلهك؛ فَقَالَ رَسُول الله: هَل أَنْتُم معطي كلمة إِن أَنْتُم قُلْتُمُوهَا دَانَتْ لكم الْعَرَب، وَأَدت إِلَيْكُم الْعَجم الْجِزْيَة؟ فَقَالُوا: وَمَا [هِيَ] ؟ قَالَ: كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. فنفروا، وَقَالُوا: {أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء

{زينا لكل أمة عَمَلهم ثمَّ إِلَى رَبهم مرجعهم فينبئهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (108) وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله وَمَا يشعركم أَنَّهَا} عُجاب) " فَقَوله: {وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله} وَإِن كَانَ ظَاهره للنَّهْي عَن سبّ الْأَصْنَام، وَلَكِن مَعْنَاهُ: النَّهْي عَن سبّ الله - تَعَالَى - حَتَّى لَا تسب اللهتهم، فيسبوا الله. وَهَذَا مثل قَوْله: " لَا يسب أحدكُم وَالِديهِ؟ قيل: يَا رَسُول الله، وَمن يسب وَالِديهِ؛ قَالَ: يسب وَالِدي غَيره؛ فيسب والداه " {كَذَلِك زينا لكل أمة عَمَلهم} للْمُؤْمِنين إِيمَانهم وللكافرين كفرهم {ثمَّ إِلَى رَبهم مرجعهم فينبئهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} .

109

قَوْله - تَعَالَى -: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا} كَانُوا يطْلبُونَ الْآيَات، ويحلفون أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا. {قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله} أَي: الْآيَات (بيَدي) الله، وَالله قَادر على إنزالها. {وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ} فَقَوله: " أَنَّهَا " يقْرَأ على وَجْهَيْن: بِكَسْر الْهمزَة، وَفتحهَا؛ فَمن قَرَأَ: " إِنَّهَا " فعلى الإبتداء، وَاخْتلفُوا فِي معنى قَوْله: {وَمَا يشعركم} أَنه خطاب لمن؟ قَالَ بَعضهم: هُوَ خطاب للْكفَّار، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يشعركم أَيهَا الْكفَّار أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنتم؟ ثمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: إِنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ. وَقيل: إِنَّه خطاب للْمُؤْمِنين، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يدريكم أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا، إِذْ كَانَ

{إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ (109) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونزرهم فِي طغيانهم يعمهون (110) وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى} الْمُؤْمِنُونَ يسْأَلُون رَسُول الله أَن يَدْعُو الله - تَعَالَى - حَتَّى يُرِيهم آيَة؛ كي يُؤمنُوا، فَقَالَ: وَمَا يشعركم أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا؟ ثمَّ ابْتَدَأَ، وَقَالَ: إِنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ، وَهَذَا فِي قوم مخصوصون علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ. وَأما من قَرَأَ " أَنَّهَا " بِفَتْح الْهمزَة؛ فَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، قَالَ الكسئي: لَا صلَة هَاهُنَا وَتَقْدِيره: وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت يُؤمنُونَ، وَقيل: " أَنَّهَا " بِمَعْنى: " لَعَلَّهَا " كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (أريني جوادا مَاتَ هزلا (فإنني) أرى مَا [تَرين] أَو بَخِيلًا مخلدا) وَمَعْنَاهُ: لعَلي أرى مَا تريني، كَذَلِك هَذَا، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يشعركم لَعَلَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ، وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت يُؤمنُونَ أَو لَا يُؤمنُونَ.

110

قَوْله - تَعَالَى -: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} أَي: تقلب أفئدتهم كَيْلا يدركوا، وأبصارهم؛ كَيْلا يبصوا؛ فَلَا يُؤمنُونَ {كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون} .

111

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى} نزلت الْآيَة على مَا اقترحوا من الْآيَات، فَكَانُوا قد اقترحوا هَذَا كُله، قَالُوا لن نؤمن بك حَتَّى تنزل علينا كتابا من السَّمَاء يحملهُ أَرْبَعُونَ من الْمَلَائِكَة، وسألوا إحْيَاء الْمَوْتَى، وَقَالُوا: ادْع الله حَتَّى يحْشر قصيا - يعنون قصي بن كلاب - فَإِنَّهُ شيخ مبارك؛ حَتَّى نشْهد لَك بِالنُّبُوَّةِ، فَنزلت الْآيَة {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا} قَالَ مُجَاهِد: الْقبل. جمع الْقَبِيل، وَمَعْنَاهُ: فوجا فوجا، وَقَالَ غَيره: قبلا

{وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَلَكِن أَكْثَرهم يجهلون (111) وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون (112) ولتصغى إِلَيْهِ} أَي: مُقَابلَة، وَيقْرَأ: " قبلا " بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء أَي: عيَانًا {مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَلَكِن أَكْثَرهم يجهلون} وَفِي الْآيَة دَلِيل وَاضح على أهل الْقدر.

112

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا} أَي: أَعدَاء، والعدو: اسْم للْوَاحِد وَالْجمع {شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ} وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " شياطين الْجِنّ وَالْإِنْس " والشيطان كل عَاتٍ متمرد، سَوَاء كَانَ من الْإِنْس أَو من الْجِنّ، وروى أَن النَّبِي قَالَ لأبي ذَر: " تعوذ بِاللَّه من شياطين الْإِنْس. قَالَ أَبُو ذَر: قلت: وَمن الْإِنْس شياطين؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام - نعم، وتلا هَذِه الْآيَة ". وَحكى عَن مَالك بن دِينَار أَنه قَالَ: خوفي من شَيْطَان الْإِنْس أكبر من خوفي من شَيْطَان الْجِنّ؛ لِأَن الجني يذهب إِذا ذكرت الله، (والإنسي) يجرني إِلَى الْمعاصِي. {يوحي بَعضهم إِلَى بعض} أَي: يلقِي بَعضهم إِلَى بعض. {زخرف القَوْل غرُورًا} زخرف القَوْل: هُوَ قَول مزين لَا معنى تَحْتَهُ، والغرور: القَوْل الْبَاطِل {وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ} أَي: مَا أَلْقَت الشَّيَاطِين الوسوسة فِي الْقُلُوب. {فذرهم وَمَا يفترون} .

113

قَوْله - تَعَالَى -: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} وَهَذَا يرجع إِلَى مَا سبق من قَوْله: {زينا لكل أمة عَمَلهم} {لتصغى إِلَيْهِ} وَالْهَاء كِنَايَة عَن زخرف القَوْل؛ يَعْنِي: لتميل إِلَيْهِ قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ الْآخِرَة، وَقيل: اللَّام فِيهِ لَام الْعَاقِبَة، كَمَا بَينا.

{أَفْئِدَة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وليرضوه وليقترفوا مَا هم مقترفون (113) أفغير الله أَبْتَغِي حكما وَهُوَ الَّذِي أنزل إِلَيْكُم الْكتاب مفصلا وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ فَلَا تكونن من الممترين (114) وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلا لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (115) وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن} {وليرضوه وليقترفوا مَا هم مقترفون} قَالَ الزّجاج: أَي: ليعلموا من الذُّنُوب مَا كَانُوا عاملين.

114

قَوْله - تَعَالَى -: {أفغير الله أَبْتَغِي حكما} لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي أجل بَيْننَا وَبَيْنك حكما؛ وأجابهم بقوله: أفغير الله ابْتغِي حكما؟ ! . {وَهُوَ الَّذِي أنزل إِلَيْكُم الْكتاب مفصلا} يَعْنِي: خمْسا خمْسا، وَعشرا عشرا، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة كَذَلِك لنثبت بِهِ فُؤَادك ورتلناه ترتيلا} أَي: فصلناه؛ لنثبت بِهِ فُؤَادك. {وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى {يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ} يَعْنِي: الْقُرْآن {فَلَا تكونن من الممترين}

115

{وتمت كلمة رَبك} يَعْنِي بِالْكَلِمَةِ: أمره وَنَهْيه، ووعده ووعيده، وَالْأَحْكَام والآيات. {صدقا وعدلا} صدقا فِي الْوَعْد والوعيد، وعدلا فِي الْأَمر وَالنَّهْي. قَالَ قَتَادَة: صدقا فِيمَا وعد، وعدلا فِيمَا حكم {لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} .

116

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن سَبِيل الله} وَذَلِكَ أَن أَكثر أهل الأَرْض كَانُوا فِي الضَّلَالَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: إِن تطعهم فِيمَا يجادلون من تَحْلِيل الْميتَة وأكلها {يضلوك عَن سَبِيل الله} على مَا سَيَأْتِي. {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يرخصون} أَي: يكذبُون.

117

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن رَبك هُوَ أعلم من يضل عَن سَبيله} قيل: هَذَا فِي عَمْرو

{سَبِيل الله إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون (116) إِن رَبك هُوَ أعلم من يضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين (117) فَكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ إِن كُنْتُم بآياته مُؤمنين (118) وَمَا لكم أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين} ابْن لحي، وَهُوَ أول من غير دين إِبْرَاهِيم {وَهُوَ أعلم بالمهتدين} .

118

قَوْله - تَعَالَى -: {فَكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ إِن كُنْتُم بآياته مُؤمنين} أَي: كلوا مَا ذبح على اسْم الله

119

{وَمَا لكم أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ} وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين كَانُوا يجادلون الْمُسلمين، وَيَقُولُونَ: إِنَّكُم تَأْكُلُونَ مِمَّا تقتلون، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله، وَكَانُوا يَدعُونَهُمْ إِلَى أكل الْميتَة واستحلالها؛ فَنزلت هَذِه الْآيَات ". {وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم} هُوَ تَفْصِيل مَا عد من الْمُحرمَات: من الْميتَة، وَالدَّم، وَلحم الْخِنْزِير، وَنَحْوه فِي الْقُرْآن، وَقَرَأَ عَطِيَّة: " وَقد فصل لكم " مخففا؛ أَي: ظهر لكم، وَهُوَ مثل مَا يقْرَأ فِي قَوْله: {أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت} مخففا {وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين} .

120

قَوْله - تَعَالَى -: {وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه} قيل: ظَاهر الْإِثْم: هُوَ الزِّنَا علنا، وباطنه هُوَ الزِّنَا سرا، وَكَانَ أَشْرَاف الْعَرَب يتكرمون من الزِّنَا عَلَانيَة ويزنون سرا، (فالآية) فِي النَّهْي عَنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ: النَّهْي عَن كل الْمعاصِي سرا وجهرا، وَفِي الْآيَة سوى هَذَا أَقْوَال ثَلَاثَة: أَحدهَا: أَن ظَاهر الْإِثْم هُوَ: نِكَاح الْمَحَارِم، وباطنه: الزِّنَا. وَالثَّانِي: أَن ظَاهر الْإِثْم: كشف الْعَوْرَة، وباطنه: الزِّنَا. وَالثَّالِث: أَن ظَاهر الْإِثْم: هُوَ الَّذِي تقترفه الْجَوَارِح، وباطنه الَّذِي يعْقد الْقلب

( {119) وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه إِن الَّذين يَكْسِبُونَ الْإِثْم سيجزون بِمَا كَانُوا يقترفون (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون (121) أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه} عَلَيْهِ، كالمصر على الذَّنب القاصد لَهُ. {إِن الَّذين يَكْسِبُونَ الْإِثْم سيجزون بِمَا كَانُوا يقترفون} أَي: جَزَاء مَا كَانُوا يقترفون، والإقتراف: اكْتِسَاب الذَّنب.

121

قَوْله {وَلَا تَأْكُلُوا مَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي الميتات، وَمَا فِي مَعْنَاهَا من المنخنقة وَغَيرهَا، وَقَالَ عَطاء: الْآيَة فِي الذَّبَائِح الَّتِي كَانُوا يذبحونها على اسْم الْأَصْنَام لَا على اسْم الله - تَعَالَى -. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْآيَة: فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة، قَالَ الشّعبِيّ، وَابْن سِيرِين: لَا تحل، سَوَاء ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا أَو نَاسِيا، وَقَالَ عَطاء، وَسَعِيد بن جُبَير: إِن ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا لَا تحل، وَإِن تَركهَا نَاسِيا تحل، وَالْأول قَول مَالك، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي الميتات؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَإنَّهُ لفسق} وَإِنَّمَا يفسق أكل الْميتَة. وَقَالَ: {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم} ومجادلتهم كَانَت فِي أكل الْميتَة؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّكُم تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله - تَعَالَى فَنزلت الْآيَة. {وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون} يَعْنِي: باستحلال الْميتَة، قَالَ الزّجاج: فِي هَذَا دَلِيل على أَن استحلال الْحَرَام، وَتَحْرِيم الْحَلَال يُوجب الْكفْر، وَفِي الْآثَار: " أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ، فَقيل لَهُ: إِن الْمُخْتَار بن أبي عبيد يزْعم أَنه يُوحى إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: صدق؛ فَإِن الله - تَعَالَى - يَقُول: {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} . وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " يخرج من ثَقِيف رجلَانِ: كَذَّاب، ومبير مهلك "

{وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا كَذَلِك زين للْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يعْملُونَ (122) كَذَلِك جعلنَا فِي كل قَرْيَة أكَابِر مجرميها ليمكروا} فالكذاب: هُوَ الْمُخْتَار، والمبير: هُوَ الْحجَّاج.

122

قَوْله - تَعَالَى -: {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: من كَانَ ضَالًّا فهديناه {وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس} أَي: نور الْإِسْلَام، يعِيش بِهِ بَين الْمُسلمين {كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا} الْمثل صلَة هَاهُنَا، وَتَقْدِيره: كمن هُوَ فِي الظُّلُمَات، أَي: فِي ظلمات الشّرك لَا يخرج مِنْهَا أبدا، قَالَ الضَّحَّاك: هَذَا فِي عمر وَأبي جهل، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فِي عمار بن يَاسر وَأبي جهل، وَقيل: هُوَ فِي حَمْزَة وَأبي جهل. وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن مَعْنَاهُ: أَو من كَانَ مَيتا بِالْجَهْلِ؛ فأحييناه بِالْعلمِ، وكل جَاهِل ميت، وكل عَالم حَيّ، قَالَ الشَّاعِر: (وَفِي الْجَهْل قبل الْمَوْت موت لأَهله ... وأجسامهم قبل الْقُبُور قُبُور) (وَإِن امْرأ لم يحي بِالْعلمِ ميت ... وَلَيْسَ لَهُ قبل النشور نشور) {كَذَلِك زين للْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} .

123

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ جعلنَا فِي كل قَرْيَة أكَابِر مجرميها} تَقْدِيره: جعلنَا فِي كل قَرْيَة مجرميها أكَابِر، وَمَعْنَاهُ: إِنَّا كَمَا جعلنَا مجرمي مَكَّة أكَابِر، فَكَذَلِك جعلنَا فِي كل قَرْيَة مجرميها أكَابِر، وَهَذِه سنة الله فِي كل قَرْيَة، وَمن سنَنه: أَنه جعل ضعفاءهم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء، كَمَا قَالَ فِي قصَّة نوح: {واتبعك الأرذلون} وروى: " أَن هِرقل سَأَلَ أَبَا سُفْيَان بن حَرْب - حِين قدم عَلَيْهِ - عَن حَال النَّبِي، فَكَانَ فِيمَا سَأَلَهُ عَنهُ أَنه قَالَ: من أَتْبَاعه ضُعَفَاؤُهُمْ أم الْعلية؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: بل ضُعَفَاؤُهُمْ؛ فَقَالَ هِرقل: هم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء " وَفِي الْخَبَر قصَّة، وَهُوَ فِي الصَّحِيح.

{فِيهَا وَمَا يمكرون إِلَّا بِأَنْفسِهِم وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذ جَاءَتْهُم آيَة قَالُوا لن نؤمن حَتَّى نؤتى مثل مَا أُوتِيَ رسل الله الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته سيصيب الَّذين أجرموا صغَار عِنْد الله وَعَذَاب شَدِيد بِمَا كَانُوا يمكرون (124) فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره} {ليمكروا فِيهَا} وَكَانَ من مكر أهل مَكَّة أَنهم جعلُوا على كل طَرِيق من طرق مَكَّة أَرْبَعَة نفر؛ حَتَّى يَقُولُوا لكل من يقدم: [إياك] وَهَذَا الرجل فَإِنَّهُ كَاهِن سَاحر كَذَّاب {وَمَا يمكرون إِلَّا بِأَنْفسِهِم} أَي: وباله يرجع إِلَيْهِم {وَمَا يَشْعُرُونَ} .

124

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا جَاءَتْهُم آيَة قَالُوا لن نؤمن حَتَّى نؤتى مثل مَا أُوتِيَ رسل الله} أَي: لَا نؤمن حَتَّى يُوحى إِلَيْنَا كَمَا يُوحى إِلَيْهِ، وَينزل علينا جِبْرِيل كَمَا ينزل عَلَيْهِ، حَتَّى روى أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ: إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يبْعَث نَبيا فَأَنا أولى بِالنُّبُوَّةِ؛ لِأَنِّي أَكثر مَالا، وأقدم سنا، وَكَذَا كَانَ يَقُول أكابرهم ورؤساؤهم؛ فَنزلت الْآيَة. قَوْله - تَعَالَى -: {الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} يَعْنِي: الله أعلم من أهل النُّبُوَّة، وَأَن مُحَمَّدًا أهل الرسَالَة، ولستم بِأَهْل الرسَالَة. {سيصيب الَّذين أجرموا صغَار عِنْد الله} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: صغَار من عِنْد الله، و " من " مَحْذُوف. قَالَ البصريون: " من " لَا تحذف وَمَعْنَاهُ: صغَار ثَابت دَائِم عِنْد الله {وَعَذَاب شَدِيد بِمَا كَانُوا يمكرون} .

125

قَوْله - تَعَالَى -: {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ} . أَي: يفتح قلبه حَتَّى يدْخل الْإِسْلَام {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} . وَيقْرَأ: حرجا - بِفَتْح الرَّاء - يَعْنِي: ذَا حرج، وَأما بِالْكَسْرِ فللمبالغة فِي الضّيق، وَعَن عمر أَنه قَالَ: سَأَلت أَعْرَابِيًا: مَا الحرجة عنْدكُمْ؟ فَقَالَ: شَجَرَة ملتفة لَا تصل إِلَيْهَا راعية وَلَا سَائِمَة، فعلى هَذَا معنى الْآيَة.

{لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا قد فصلنا} {يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} بِحَيْثُ لَا يصل إِلَيْهِ الْإِيمَان، وَلَا يدْخلهُ الْإِسْلَام {كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} يقْرَأ على وُجُوه: " يصعد " بتشديدين، وَمَعْنَاهُ يتَصَعَّد، وَكَذَا يقْرَأ فِي الشواذ، وَقُرِئَ: " يصاعد " بتَشْديد الصَّاد بِمَعْنى يتصاعد، وَقُرِئَ: " يصعد مخففا من الصعُود، وَمعنى الْكل وَاحِد. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: كَأَنَّمَا يُكَلف الصعُود فَلَا يستطيعه، وأصل الصعُود: الْمَشَقَّة، وَهُوَ قَوْله - تَعَالَى - {سَأُرْهِقُهُ صعُودًا} أَي: عقبَة شاقة، وَمِنْه قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: مَا تَصعَّدَنِي شَيْء كَمَا تَصَعَّدَتْنِي خطْبَة النِّكَاح، أَي: مَا شقّ عَليّ شَيْء كَمَا (شقَّتْ) عَليّ خطْبَة النِّكَاح. وَالْقَوْل الثَّانِي: معنى قَوْله: {كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء} نبوة من الْحِكْمَة، وفرارا من الْقُرْآن. (كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ) الرجس: هُوَ النتن، وَالرجز: الْعَذَاب، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الرجس النَّجس الْخَبيث المخبث من الشَّيْطَان الرَّجِيم " وَقيل: اللَّعْنَة فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة.

126

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا} يَعْنِي: الْإِسْلَام {قد فصلنا الْآيَات

{الْآيَات لقوم يذكرُونَ (126) لَهُم دَار السَّلَام عِنْد رَبهم وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (127) وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا مَا معشر الْجِنّ قد استكثرتم من الْإِنْس وَقَالَ أولياؤهم من الْإِنْس رَبنَا استمتع بَعْضنَا بِبَعْض وبلغنا أجلنا الَّذِي أجلت لنا قَالَ النَّار مثواكم خَالِدين} لقوم يذكرُونَ) .

127

{لَهُم دَار السَّلَام عِنْد رَبهم} السَّلَام: هُوَ الله - تَعَالَى - وَدَار السَّلَام الْجنَّة، قَالَ الزّجاج: أَرَادَ بِالسَّلَامِ: السَّلامَة، أَي: لَهُم دَار السَّلامَة من الْآفَات. {وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} .

128

قَوْله - تَعَالَى -: (وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا) أما حشر الْجِنّ وَالْإِنْس: حق يجب الْإِيمَان بِهِ {يَا معشر الْجِنّ قد استكثرتم من الْإِنْس} يَعْنِي: استكثرتم من الْإِنْس بالإغواء والإضلال {وَقَالَ أولياؤهم من الْإِنْس} يَعْنِي: الْكفَّار وأولياء الشَّيَاطِين يَقُولُونَ يَوْم الْقِيَامَة: {رَبنَا استمتع بَعْضنَا بِبَعْض} يَعْنِي: استمتع الْجِنّ بالإنس، وَالْإِنْس بالجن، قيل: استمتاع الْجِنّ بالإنس: تزيينهم لَهُم، وتسهيلهم طَرِيق الغواية عَلَيْهِم. وَأما [استمتاع] الْإِنْس بالجن: طاعتهم، وَالْجُمْلَة أَن استمتاع الْجِنّ: بِالْأَمر واستمتاع الْإِنْس: بِالْقبُولِ، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن الرجل من الْعَرَب كَانَ إِذا نزل بواد يَقُول: أعوذ بِسَيِّد هَذَا الْوَادي من سُفَهَاء قومه، ثمَّ يبيت آمنا من تخبيل الْجِنّ، وَهَذَا استمتاع الْإِنْس بالجن، وَأما استمتاع الْجِنّ بالإنس: أَن ذَلِك الجني الَّذِي تعوذ بِهِ الْإِنْسِي يَقُول لِقَوْمِهِ: إِن الْإِنْس يتعوذون بِنَا؛ (فَنحْن سَادَات الْجِنّ وَالْإِنْس) ، وَهَذَا مُبين فِي قَوْله - تَعَالَى - فِي سُورَة الْجِنّ {وَأَنه كَانَ رجال من الْإِنْس يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ فزادوهم رهقا} أَي: نخوة وتكبرا. {وبلغنا أجلنا الَّذِي أجلت لنا} يَعْنِي: أجل الْقِيَامَة. {قَالَ النَّار مثواكم} يَعْنِي: يَقُول الله: النَّار مثواكم {خَالِدين فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ

{فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ الله إِن رَبك حَكِيم عليم (128) وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم} الله) فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن الْكَافرين خَالدُونَ فِي النَّار بأجمعهم، فَمَا هَذَا الِاسْتِثْنَاء؟ الْجَواب: قَالَ الْفراء: هُوَ مثل قَوْله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} يَعْنِي: من الزِّيَادَة على مُدَّة دوَام السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ فَهَذَا هُوَ المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة أَيْضا، وَقيل: الِاسْتِثْنَاء فِي الْعَذَاب يَعْنِي: خَالِدين فِي نوع من الْعَذَاب إِلَّا مَا شَاءَ الله من سَائِر الْعَذَاب. وَقيل: هُوَ اسْتثِْنَاء مُدَّة الْبَعْث والحساب، لَا يُعَذبُونَ فِي وَقت الْبَعْث والحساب {إِن رَبك حَكِيم عليم} .

129

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا} يَعْنِي: يَجْعَل بَعضهم على إِثْر بعض فِي الْقِيَامَة إِلَى النَّار. وَقيل: هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: نَأْخُذ من الظَّالِم بالظالم، وَذَلِكَ بتسليط بَعضهم على الْبَعْض {بِمَا كَانُوا [يَكْسِبُونَ] } أَي: جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ.

130

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم} فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن الْجِنّ رسل، كَمَا يكون من الْإِنْس؟ الْجَواب: قَالَ الضَّحَّاك: بلَى من الثقلَيْن رسل، كَمَا نطق بِهِ الْكتاب. وَقَالَ مُجَاهِد: الرُّسُل من الْإِنْس، وَأما الْجِنّ فَمنهمْ النّذر، كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: {ولوا إِلَى قَومهمْ منذرين} فعلى هَذَا لِلْآيَةِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا أَن قَوْله: {رسل مِنْكُم} ينْصَرف إِلَى أحد الصِّنْفَيْنِ، وَهُوَ الْإِنْس، وَمثله قَوْله - تَعَالَى -: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} وَالْمرَاد: أحد الْبَحْرين، المالح دون العذب.

{آياتي وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا شَهِدنَا على أَنْفُسنَا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين (130) ذَلِك أَن لم يكن رَبك مهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا غافلون (131) وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا وَمَا رَبك بغافل عَمَّا يعْملُونَ (132) وَرَبك الْغَنِيّ ذُو الرَّحْمَة إِن يَشَأْ يذهبكم ويستخلف من بعدكم مَا يَشَاء كَمَا أنشأكم من ذُرِّيَّة قوم آخَرين (133) إِن مَا توعدون لآت وَمَا أَنْتُم بمعجزين (134) قل يَا} وَالثَّانِي: أَن الرُّسُل من الصِّنْفَيْنِ، إِلَّا أَنه عبر بالرسل عَن النّذر من الْجِنّ بطرِيق الْمَعْنى؛ لِأَن النذير فِي معنى الرَّسُول. {يقصون عَلَيْكُم آياتي وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا شَهِدنَا على أَنْفُسنَا} وَذَلِكَ حِين تنطق جوارحهم {وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا} هَذَا من قَول الله - تَعَالَى - اعْترض فِي - الْبَين - {وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين} .

131

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك أَن لم يكن رَبك مهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا غافلون} يَعْنِي: ذَلِك من إرْسَال الرُّسُل وإنزال الْكتب؛ إِنَّمَا كَانَ لِأَن الله - تَعَالَى - لَا يهْلك قَرْيَة قبل بعث الرَّسُول إِلَيْهَا، وإنذارها بِالْوَحْي؛ وَذَلِكَ لِأَن الله - تَعَالَى - أجْرى سنته: أَن لَا يَأْخُذ أحدا الذَّنب إِلَّا بعد وجود الذَّنب، وَإِنَّمَا يكون مذنبا إِذا أَمر فَلم يأتمر، وَنهى فَلم ينْتَه، ودعي فَلم يجب.

132

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا} أَي: دَرَجَات فِي الْجَزَاء مِمَّا عمِلُوا {وَمَا رَبك بغافل} - أَي: بساه - {عَمَّا يعْملُونَ} .

133

قَوْله - تَعَالَى -: {وَرَبك الْغَنِيّ ذُو الرَّحْمَة إِن يَشَأْ يذهبكم ويستخلف من بعدكم مَا يَشَاء} يَعْنِي: إِن يَشَأْ يهلككم، ويستخلف [من] بعدكم من يَشَاء {كَمَا أنشأكم من ذُرِّيَّة قوم آخَرين} بِأَن (أهلكهم) وأنشأكم من بعدهمْ

134

{إِن مَا توعدون لآت} أَي: كل مَوْعُود كَائِن {وَمَا أَنْتُم بمعجزين} أَي: فائتين عَنهُ.

135

(قَوْله تَعَالَى) : {قل يَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم} يَعْنِي: على تمكنكم،

{قوم اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل فَسَوف تعلمُونَ من تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (135) وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ من الْحَرْث والأنعام نَصِيبا فَقَالُوا هَذَا لله بزعمهم وَهَذَا لشركائنا فَمَا كَانَ لشركائهم فَلَا يصل إِلَى الله وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يصل إِلَى شركائهم سَاءَ مَا يحكمون (136) وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم} وَقيل: على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمر تهديد، كَقَوْلِه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} فَكَذَلِك قَوْله ( {اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل} فَسَوف تعلمُونَ من تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار) أَي: من يكون لَهُ الْأَمر فِي الْعَاقِبَة {إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} .

136

قَوْله - تَعَالَى -: {وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ من الْحَرْث والأنعام نَصِيبا} وَكَانُوا يقسمون الْحَرْث، فيجعلون لله نَصِيبا، وللأصنام نَصِيبا، ويقسمون الْأَنْعَام، فيجعلون لله نَصِيبا، وللأصنام نَصِيبا، ثمَّ مَا جعلُوا لله، صرفوه للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، وَمَا جعلُوا للأصنام أنفقوه على الْأَصْنَام، وعَلى خدم الْأَصْنَام؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {فَقَالُوا هَذَا لله بزعمهم وَهَذَا لشركائنا} فَأَما قَوْله: {فَمَا كَانَ لشركائهم فَلَا يصل إِلَى الله وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يصل إِلَى شركائهم} معنى هَذَا: أَنهم كَانُوا إِذا قسموا الْحَرْث والأنعام كَمَا وَصفنَا، فَإِذا سقط مِمَّا جعلُوا لله من الْحَرْث شَيْء فِيمَا جَعَلُوهُ للأصنام تَرَكُوهُ، وَإِذا سقط شَيْء من نصيب الْأَصْنَام، فِيمَا جَعَلُوهُ لله ردُّوهُ إِلَى نصيب الْأَصْنَام، وَكَانَ إِذا هلك أَو انْتقصَ مِمَّا جعلُوا لله من الْأَنْعَام شَيْء؛ لم يبالوا بِهِ، وَكَانَ إِذا هلك أَو انْتقصَ من نصيب الْأَصْنَام، جبروه مِمَّا جَعَلُوهُ لله، وَقَالُوا: الله غَنِي، والصنم مُحْتَاج، وَكَانُوا إِذا أجدبوا وقحطوا؛ أكلُوا مِمَّا جَعَلُوهُ لله، وَلم يَأْكُلُوا من نصيب الْأَصْنَام. وَقَوله: {سَاءَ مَا يحكمون} أَي: لم يَأْتهمْ فِيهِ وَحي، وَلَا يَقْتَضِيهِ عقل؛ فَإِن الْقيَاس يَقْتَضِي التَّسْوِيَة - على زعمهم - بَين الشَّرِيكَيْنِ، لَا مَا حكمُوا بِهِ.

137

قَوْله - تَعَالَى -: {وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم شركاؤهم} يَعْنِي: كَمَا زين هَذَا لأولئك الْقَوْم، فقد زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم

{شركاؤكم ليردوهم وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون (137) وَقَالُوا هَذِه أنعام وحرث حجر لَا يطْعمهَا إِلَّا من نشَاء بزعمهم وأنعام حرمت ظُهُورهَا وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا افتراء عَلَيْهِ سيجزيهم بِمَا كَانُوا يفترون (138) وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا ومحرم على أَزوَاجنَا وَإِن يكن} شركاؤهم من وأد الْبَنَات على مَا سنبين {ليردوهم} ليهلكوهم. {وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم} أَي: ليخلطوا عَلَيْهِم دينهم؛ إِذْ كَانُوا على بَقِيَّة من مِلَّة إِبْرَاهِيم فلبسوا عَلَيْهِم دينهم بِمَا لَيْسَ مِنْهُ {وَلَو شَاءَ (الله} مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون) .

138

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا هَذِه أنعام وحرث حجر} أَي: حرَام {لَا (يطْعمهَا} إِلَّا من نشَاء بزعمهم) ثمَّ بَين (تحريمهم) ؛ فَقَالَ {لَا يطْعمهَا إِلَّا من نشَاء} يَعْنِي: من خدم الْأَصْنَام، وَقيل: هُوَ تَحْرِيم الْبحيرَة والسائبة على الْإِنَاث، وَلَا يطْعمهَا إِلَّا الذُّكُور. {وأنعام حرمت ظُهُورهَا} هِيَ الحوامي الَّتِي ذكرنَا فِي الْمَائِدَة، كَانُوا يَقُولُونَ: حمت ظُهُورهَا {وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا} قيل: ذَبَائِح كَانُوا يذبحونها باسم الْأَصْنَام لَا باسم الله - تَعَالَى - وَقيل مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يركبون عَلَيْهَا لفعل الْخَيْر. قَالَ أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة: مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يحجون عَلَيْهَا وَلَا يركبونها لفعل الْحَج، إِلَّا أَنه جرت الْعَادة بِذكر اسْم الله على فعل الْخَيْر، فَعبر بِذكر اسْم الله عَن فعل الْخَيْر؛ فَقَالَ: {وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا افتراء عَلَيْهِ} يَعْنِي: افتراء على الله {سيجزيهم بِمَا كَانُوا يفترون} أَي: جَزَاء مَا كَانُوا (يكذبُون) .

139

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا} يَعْنِي: الأجنة حَلَال لذكورنا، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " خَالص لذكورنا " قَالَ الْكسَائي: خَالص وخالصة وَاحِد، كَمَا يُقَال: وعظ موعظة، وَله نَظَائِر {ومحرم على أَزوَاجنَا} أَي: على نسائنا أَرَادوا بِهِ مَا سبق ذكره من أَوْلَاد الْبحيرَة والوصيلة. {وَإِن يكن ميتَة} يَعْنِي: وَإِن يكن مَا فِي الْبَطن ميتَة {فهم فِيهِ شُرَكَاء} يَعْنِي:

{ميتَة فهم فِيهِ شُرَكَاء سيجزيهم وَصفهم إِنَّه حَكِيم عليم (139) قد خسر الَّذين قتلوا أَوْلَادهم سفها بِغَيْر علم وحرموا مَا رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين (140) وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات معروشات وَغير معروشات وَالنَّخْل وَالزَّرْع مُخْتَلفا أكله وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان متشابها وَغير متشابه كلوا من ثمره إِذا أثمر وَآتوا حَقه} الذُّكُور وَالْإِنَاث، وَيقْرَأ " وَإِن تكن ميتَة " {فهم فِيهِ شُرَكَاء} {سيجزيهم وَصفهم} . أَي: جَزَاء كذبهمْ {إِنَّه حَكِيم عليم} .

140

{قد خسر الَّذين قتلوا أَولا دهم} أَي: هلك وغبن الَّذين قتلوا أَوْلَادهم وَذَلِكَ من وأد الْبَنَات، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يدفنون الْبَنَات حَيَّة، حَتَّى كَانَ الرجل مِنْهُم يقتل وَلَده، ويربي كَلْبه. وَكَانَ الْبَعْض يفعل ذَلِك دون الْبَعْض، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي قبيلتين: ربيعَة، وَمُضر، كَانَا يدفنان الْبَنَات وَهن حيات، فَأَما بَنو كنَانَة وسائرهم مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك. {سفها بِغَيْر علم} أَي: جهلا لَا عَن بَصِيرَة {وحرموا مَا رزقهم الله} (وَهُوَ) مَا ذكرنَا من تَحْرِيم أَوْلَاد الْبحيرَة، والوصيلة وَنَحْو ذَلِك (من) الحوامى، حرموها تدينا {افتراء على الله} لأَنهم كَانُوا يَدعُونَهُ دينا من الله - تَعَالَى - وَقد كذبُوا فِي ذَلِك عَلَيْهِ {قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين} .

141

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات} الجنات: الْبَسَاتِين {معروشات} أَي: ذَات عروش، وَالْعرش: السّقف، والكروم ذَات سقوف {وَغير معروشات} وَمِنْهَا مَا لَا سقف لَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَشْجَار {وَالنَّخْل وَالزَّرْع مُخْتَلفا أكله} أَي: ثمره. {وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان متشابها وَغير متشابه} أَي: متشابها فِي [المنظر] ، يشبه أَحدهمَا الآخر فِي الْوَرق، وَغير متشابه فِي الثَّمر والطعم، وَقد بَينا هَذَا، وَقيل: هُوَ

{يَوْم حَصَاده وَلَا تسرفوا إِنَّه لَا يحب المسرفين (141) وَمن الْأَنْعَام حمولة وفرشا كلوا} رَاجع إِلَى مَا سبق ذكره من الْكَرم، وَالنَّخْل، وَالْأَشْجَار، فَإِن بَعْضهَا يشبه بَعْضًا فِي الْوَرق وَالثَّمَر والطعم، وَمِنْهَا مَا يُخَالف بعضه بَعْضًا. {كلوا من ثمره إِذا أثمر} هَذَا أَمر إِبَاحَة {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} والقطاف، وَيقْرَأ: " حَصَاده " بِكَسْر الْحَاء، قيل: الْحَصاد والحصاد وَاحِد، كالجزاء وَالْجَزَاء، والقطاف والقطاف، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْحق مَا هُوَ؟ قَالَ ابْن عمر، وَأَبُو الدَّرْدَاء - وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد -: إِن هَذَا الْحق كَانَ حَقًا فِي المَال سوى الْعشْر الْمَفْرُوض، وَأمر بإتيانه. قَالَ ابْن عَبَّاس، وَأنس - وَهُوَ قَول الْحسن فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ -: إِنَّه أَرَادَ بِهِ إيتَاء الْعشْر الْمَفْرُوض، وَعَن الْحسن - فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهُوَ قَول النَّخعِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير -: أَن هَذَا حق كَانَ يُؤمر بإتيانه فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِإِيجَاب الْعشْر، وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَالزَّكَاة فرضت من بعد بِالْمَدِينَةِ، فَحَمله على حق سوى الزَّكَاة أولى. {وَلَا تسرفوا} أَي: لَا تنفقوا الْأَمْوَال فِي مَعْصِيّة الله، وكل من أنْفق فِي مَعْصِيّة فَهُوَ مُسْرِف، وَقيل: هُوَ إِعْطَاء الْكل، وَذَلِكَ أَن يعمد الرجل إِلَى جَمِيع زرعه ونخله فيعطي الْكل، وَيتْرك عِيَاله عَالَة. وروى: " أَن ثَابت بن قيس بن شماس صرم خَمْسمِائَة نَخْلَة كَانَت لَهُ، فَأعْطى الْكل؛ فَنزلت الْآيَة {وَلَا تسرفوا إِنَّه لَا يحب المسرفين} .

142

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمن الْأَنْعَام حمولة وفرشا} أَي: وَأَنْشَأَ من الْأَنْعَام حمولة وفرشا، قَالَ مُجَاهِد: الحمولة: الْإِبِل الْكِبَار الَّتِي يحمل عَلَيْهَا، والفرش: الصغار، وَقَالَ الضَّحَّاك: الحمولة: الْإِبِل وَالْبَقر، والفرش: [الْغنم] ، قَالَ الشَّاعِر:

{مِمَّا رزقكم الله وَلَا تبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (142) ثَمَانِيَة أَزوَاج من الضَّأْن اثْنَيْنِ وَمن الْمعز اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ نبئوني بِعلم إِن كُنْتُم صَادِقين (143) وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُم الله} (أورثني حمولة وفرشا ... أَمسهَا فِي كل يَوْم مسا) أَي: أمسحها فِي كل يَوْم {كلوا مِمَّا رزقكم الله وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} أَي: آثَار الشَّيْطَان، وخطاياه، وَهُوَ تخطية من الْحَلَال إِلَى الْحَرَام ( {إِنَّه لكم عَدو مُبين}

143

ثَمَانِيَة أَزوَاج) إِنَّمَا نصب ثَمَانِيَة؛ لِأَن قَوْله {ثَمَانِيَة} بدل عَن قَوْله: {حمولة وفرشا} ، وَقَوله: ( {ثَمَانِيَة أَزوَاج من الضَّأْن اثْنَيْنِ وَمن الْمعز اثْنَيْنِ} وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ) . هَذَا فِي الْحَقِيقَة أَرْبَعَة أَزوَاج، كل زوج اثْنَان، لِأَن الْعَرَب تسمي الْوَاحِد زوجا إِذا كَانَ لَا يَنْفَكّ عَن غَيره، قَالَ الله - تَعَالَى -: {وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ} . {قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ} هَذَا فِي تحريمهم الوصيلة والبحيرة وَنَحْوهَا، وَالْآيَة فِي الِاحْتِجَاج عَلَيْهِم، وَمعنى هَذَا: أَن الَّذِي تدعون على الله من تَحْرِيمهَا إِن كَانَ بِسَبَب الذُّكُورَة، فَيَنْبَغِي أَن تحرم كل الذُّكُور، وَإِن كَانَ التَّحْرِيم بِسَبَب الْأُنُوثَة؛ فَيَنْبَغِي أَن تحرم كل الْإِنَاث، وَإِن كَانَ باشتمال الرَّحِم عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يحرم كل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ الرَّحِم، فَأَما تَخْصِيص التَّحْرِيم بِالْوَلَدِ السَّابِع وَالْخَامِس فَمن أَيْن؟ ! {نبؤني بِعلم} أخبروني بِعلم (إِن كَانَ لكم بِهِ علم) {إِن كُنْتُم صَادِقين} .

144

{وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ} هَذَا فِي تحريمهم أَوْلَاد الْبحيرَة من الْبَطن الْخَامِس، كَمَا سبق، وَوجه الِاحْتِجَاج عَلَيْهِم مَا بَينا.

{بِهَذَا فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (144) قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ} {أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُم الله بِهَذَا} فَمَعْنَاه: أَنكُمْ قُلْتُمْ ذَلِك عَن علم لكم؟ فَأَخْبرُونِي بِهِ {أم نزل [عَلَيْكُم] بِهِ وَحي؟ أم أَمركُم الله بِهِ عيَانًا؟ {فَمن اظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم} فَبين الله يَعْنِي: أَنهم كاذبون بِهِ {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} . وَفِي الْخَبَر: " أَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ جَاءَ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أبحت مَا حرمنا} وَحرمت مَا أبحنا - يَعْنِي: الْميتَة - فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِه الْآيَات؛ فَعرف الْحجَّة، وَسكت عَنهُ ".

145

قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} سَبَب هَذَا أَنهم قَالُوا: فَمَا الْمحرم إِذا؟ فَنزل قَوْله: قل يَا مُحَمَّد: لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما {على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير} . وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا؛ فَذَهَبت عَائِشَة، وَابْن عَبَّاس إِلَى أَن التَّحْرِيم مَقْصُور على هَذِه الْأَشْيَاء، وَبِه قَالَ مَالك، وَقَالُوا: قَوْله: {إِلَّا ان يكون ميتَة} دخل فِيهِ المنخنقة والموقوذة، وَمَا عد فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَمَالك يعد مَا سواهَا مَكْرُوها وَلَا يعده حَرَامًا، وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَن التَّحْرِيم [يعدو] هَذِه الْأَشْيَاء؛ إِلَّا أَن الْبَعْض ثَبت بِالْكتاب، وَالْبَعْض بِالسنةِ، وَالْكل حرَام. وَقد ثَبت: " أَنه نهى عَن كل ذِي نَاب من السبَاع و [عَن] كل ذِي مخلب من الطير " {فَإِنَّهُ رِجْس} أَي: نَتن {أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ} وَهُوَ الْمَذْبُوح على اسْم الصَّنَم، سمى ذَلِك فسقا؛

{وَلَا عَاد فَإِن رَبك غَفُور رَحِيم (145) وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر وَمن الْبَقر وَالْغنم حرمنا عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا حملت ظهورهما أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم ذَلِك جزيناهم ببغيهم وَإِنَّا لصادقون (146) فَإِن كَذبُوك فَقل ربكُم ذُو رَحْمَة وَاسِعَة وَلَا} لِلْخُرُوجِ عَن أَمر الله - تَعَالَى -. {فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَإِن رَبك غَفُور رَحِيم} وَقد ذكرنَا هَذَا.

146

قَوْله - تَعَالَى -: {وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر} يَعْنِي: حرمنا على الْيَهُود كل ذِي ظفر، قيل: هُوَ الْبَعِير والنعامة، وَيدخل فِيهِ الأوز والبط. {وَمن الْبَقر وَالْغنم حرمنا عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا حملت ظهورهما} أما تَحْرِيم الشحوم عَلَيْهِم: كَانَ ذَلِك عَن الثروب وشحم الكليتين، وَقد قَالَ " لعن الله الْيَهُود حرم عَلَيْهِم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنهَا ". وَقَوله: {إِلَّا مَا حملت ظهورهما} أَي: شَحم مَا حملت ظهورهما لم يحرم عَلَيْهِم {أَو الحوايا} تَقْدِيره: والحوايا، أَي: شَحم المباعر {أَو مَا اخْتَلَط بِعظم} أَي: وشحم مَا اخْتَلَط بِعظم، قيل: هُوَ الإلية، وَقيل: هُوَ شَحم الْجنب، ثمَّ اخْتلفُوا، أَن الْكل هَل يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء؟ قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء شَحم الظُّهُور فَحسب، فَأَما قَوْله: {أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم} رَاجع إِلَى التَّحْرِيم، وَالصَّحِيح: أَن الْكل يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ ظَاهر الْآيَة. {ذَلِك جزيناهم ببغيهم} أَي: [بظلمهم] {وَإِنَّا لصادقون} .

147

قَوْله - تَعَالَى -: {فَإِن كَذبُوك فَقل ربكُم ذُو رَحْمَة وَاسِعَة} فَإِن قيل: مَا معنى هَذَا، وَإِنَّمَا يَلِيق بتكذيبهم وَعِيد الْعَذَاب لَا وعد الرَّحْمَة؟ قَالَ ثَعْلَب: هُوَ الرَّحْمَة

{يرد بأسه عَن الْقَوْم الْمُجْرمين (147) سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون (148) قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ (149) قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ} بِتَأْخِير الْعَذَاب عَنْهُم، لَا بترك أصل الْعَذَاب، وَهَذَا حسن، بِدَلِيل قَوْله: {وَلَا يرد بأسه عَن الْقَوْم الْمُجْرمين} يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، إِذا [جَاءَ] وقته؛ فَسئلَ ثَعْلَب: أَلَيْسَ أَن الله - تَعَالَى - قد عذب الْكفَّار فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: هَذَا فِي الْكفَّار من قوم نَبينَا مُحَمَّد لم يعذبهم الله؛ ببركته فيهم، كَمَا قَالَ: ( {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للعاملين) .

148

قَوْله - تَعَالَى -: {سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا} اسْتدلَّ أهل الْقدر بِهَذِهِ الْآيَة؛ فَإِنَّهُم لما قَالُوا: لَو شَاءَ الله مَا أشركنا؛ كذبهمْ الله - تَعَالَى - ورد قَوْلهم فَقَالَ: {كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم} قيل: معنى الْآيَة: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ الْحق إِلَّا أَنهم كَانُوا (يعدون) ذَلِك عذر لَهُم، ويجعلونه حجَّة لأَنْفُسِهِمْ فِي ترك الْإِيمَان، فالرد عَلَيْهِم كَانَ فِي هَذَا بِدَلِيل

149

قَوْله - تَعَالَى - بعده: {قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة} أَي: الْحجَّة بِالْأَمر وَالنَّهْي بَاقِيَة لَهُ عَلَيْهِم، وَإِن شَاءَ أَن يشركوا. {فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} وَلَو لم يحمل على هَذَا؛ لَكَانَ هَذَا مناقضة للْأولِ، وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الله أمرنَا بالشرك، كَمَا قَالَ فِي الْأَعْرَاف: {وَإِذا فعلوا

{بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ (150) قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ} فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا) وَكَأن قَوْله: {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا} أَي: هُوَ الَّذِي أمرنَا بالشرك؛ فالرد فِي هَذَا لَا فِي حُصُول الشّرك بمشيئته، فَإِنَّهُ حق وَصدق، وَبِه يَقُول أهل السّنة. {قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا} أَي: من كتاب، فتخرجوه لنا حَتَّى يظْهر مَا تدعون على الله (من أمره بالشرك) {إِن تتبعون إِلَّا الظَّن} يَعْنِي: أَنكُمْ تَقولُونَ مَا تَقولُونَ ظنا لَا عَن بَصِيرَة {وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون} أَي: تكذبون {قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} .

150

قَوْله - تَعَالَى -: {قل هَلُمَّ شهداءكم} أَي: ائْتُوا بشهدائكم {الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا} هَذَا رَاجع إِلَى مَا تقدم من تحريمهم الْأَشْيَاء على أنفسهم بِغَيْر أَمر الله، وَادعوا أَنه من أَمر الله. {فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم} يَعْنِي: فَإِن شهدُوا كاذبين، فَلَا تشهد مَعَهم {وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ} أَي: يشركُونَ.

151

قَوْله - تَعَالَى -: {قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} لأَنهم سَأَلُوهُ أيش الَّذِي حرم الله - تَعَالَى -؟ فَنزل قَوْله - تَعَالَى -: {قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم} فَإِن قَالَ قَائِل: الله - تَعَالَى - مَا حرم ترك الشّرك بل أَمر ربه، فَمَا معنى قَوْله: {أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} ؟ . فِيهِ جوابان: أَحدهمَا: أَن قَوْله " لَا " صلَة، وَتَقْدِيره ": أَن تُشْرِكُوا؛ فعلى هَذَا استقام الْكَلَام. وَالثَّانِي: أَن قَوْله: { [تَعَالَوْا] أتل مَا حرم ربكُم} كَلَام تَامّ. (ثمَّ) قَوْله:

{شَيْئا وبالوالدين إحسانا وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم من إملاق نَحن نرزقكم وإياهم وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقلون (151) وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن حَتَّى يبلغ أشده} {عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا} ابْتِدَاء كَلَام. وَإِذا قدر هَكَذَا استقام الْكَلَام أَيْضا، ثمَّ قَوْله {وبالوالدين إحسانا} أَي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم من إملاق} قَالَ المؤرج: الإملاق: الْجُوع بلغَة حمير، وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الإملاق: الْفقر {نَحن نرزقكم وإياهم} أَي: رزق الْكل علينا؛ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ خوف الْجُوع والفقر. {وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن} هَذَا نهي عَن أَنْوَاع الزِّنَا سرا وعلنا، وَكَانَت الزواني فِي الْجَاهِلِيَّة على نحوين: كَانَت لبَعْضهِم رايات على الْأَبْوَاب، علما لمن أَرَادَ الزِّنَا؛ كن يَزْنِين علنا، وأخريات كن يَزْنِين سرا. فَهَذَا المُرَاد بالفواحش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن. {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} نهى عَن الْقَتْل بالظلم، وأباح الْقَتْل بِالْحَقِّ، وَهُوَ مُفَسّر فِي قَول النَّبِي: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: كفر بعد إِيمَان، أَو زنا بعد إِحْصَان، أَو قتل نفس بِغَيْر نفس " {ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقلون} .

152

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} قد سبق الْكَلَام على قرْبَان مَال الْيَتِيم فِي سُورَة النِّسَاء. {حَتَّى يبلغ أشده} قَالَ السّديّ: أشده ثَلَاثُونَ سنة. وَقَالَ غَيره: أَوَان الْحلم. وَقيل: هُوَ استكمال الْقُوَّة، وَسَيَأْتِي شَرحه فِي مَوضِع بعده. {وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ {لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} أَي:

{وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا وَإِذا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَو كَانَ ذَا قربى وبعهد الله أَوْفوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (152) وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (153) ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب تَمامًا على الَّذِي أحسن وتفصيلا لكل شَيْء وَهدى} طاقتها {وَإِذا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَو كَانَ ذَا قربى} أَي: فاصدقوا، وَلَو كَانَ على الْقَرِيب {وبعهد الله أَوْفوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} .

153

قَوْله - تَعَالَى -: {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ} يقْرَأ: وَأَن - بِالتَّشْدِيدِ - فَيكون رَاجعا إِلَى قَوْله: {أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم} يَعْنِي: وأتل عَلَيْكُم: أَن هَذَا صِرَاطِي، وَيقْرَأ: وَأَن - بالتخفبف - فَيكون صلَة، وَتَقْدِيره هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا. {فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل} بِمَعْنى: سَائِر الْملَل سوى مِلَّة الْإِسْلَام وَقيل: هُوَ الْأَهْوَاء والبدع {فَتفرق بكم عَن سَبيله} أَي: فَتفرق بكم عَن سَبيله. {ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} وَقد صَحَّ بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي: " انه خطّ خطا، وَخط حواليه خُطُوطًا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْخط الْأَوْسَط؛ فَقَالَ: وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الخطوط حوله؛ فَقَالَ: لَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله ".

154

قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} بعد ذكر مُحَمَّد، ومُوسَى أُوتِيَ الْكتاب قبله، وَكَلمه " ثمَّ "

{وَرَحْمَة لَعَلَّهُم بلقاء رَبهم يُؤمنُونَ (154) وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك فَاتَّبعُوهُ وَاتَّقوا لَعَلَّكُمْ ترحمون (155) أَن تَقولُوا إِنَّمَا أنزل الْكتاب على طائفتين من قبلنَا وَإِن كُنَّا عَن دراستهم لغافلين (156) أَو تَقولُوا لَو أَنا أنزل علينا الْكتاب لَكنا أهْدى مِنْهُم فقد جَاءَكُم بَينه من} للتعقيب؟ قيل: مَعْنَاهُ: ثمَّ أخْبركُم أَنا آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب. {تَمامًا على الَّذِي أحسن} قيل: أَرَادَ بِالَّذِي أحسن: مُوسَى، وَمَعْنَاهُ: انه كَمَا أحسن بِطَاعَة ربه وَاتِّبَاع أمره؛ أتممنا عَلَيْهِ النِّعْمَة وَالْإِحْسَان بإعطائه التَّوْرَاة. وَقَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ تَمامًا على الْمُحْسِنِينَ من قومه، وَكَانَ مِنْهُم محسن ومسيء، وَهَذَا معنى قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: تَمامًا على الَّذين أَحْسنُوا، وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " على الَّذِي أحسن " أحسن، بِرَفْع النُّون، أَي: على الَّذِي هُوَ أحسن. {وتفصيلا لكل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة} هَذَا فِي وصف التَّوْرَاة {لَعَلَّهُم بلقاء رَبهم يُؤمنُونَ} .

155

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهَذَا كتاب} ثمَّ وصف الْقُرْآن {أَنزَلْنَاهُ مبارك فَاتَّبعُوهُ} وَقد بَينا معنى الْمُبَارك ( {وَاتَّقوا لَعَلَّكُمْ ترحمون}

156

أَن تَقولُوا) أَي: كَرَاهَة أَن تَقولُوا، على قَول الْكُوفِيّين، وَأما على قَول الْبَصرِيين: تَقْدِيره: أَن لَا تَقولُوا: {إِنَّمَا أنزل الْكتاب على طائفتين من قبلنَا} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى {وَإِن كُنَّا} أَي: وَقد كُنَّا {عَن دراستهم لغافلين} وَمعنى الْآيَة: أَنا إِنَّمَا أنزلنَا عَلَيْكُم الْقُرْآن؛ لِئَلَّا تَقولُوا: إِن الْكتاب أنزل على من قبلنَا بلغتهم ولسانهم فَلم نَعْرِف مَا فِيهِ، وغفلنا عَن دراسته؛ فتمهدون بذلك عذرا لأنفسكم، وَحجَّة على الله

157

{أَو تَقولُوا لَو أَنا أنزل علينا الْكتاب لَكنا أهْدى مِنْهُم} . وَقد كَانَ جمَاعَة من الْكفَّار، قَالُوا ذَلِك: لَو أنزل علينا مَا أنزل على الْيَهُود وَالنَّصَارَى كُنَّا خيرا مِنْهُم وَأهْدى، يَقُول الله - تَعَالَى -: {فقد جَاءَكُم بَيِّنَة من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة} يَعْنِي: قد جَاءَكُم الْقُرْآن؛ فَكَذَّبْتُمْ بِهِ، ثمَّ قَالَ: {فَمن أظلم مِمَّن كذب بآيَات الله وصدف عَنْهَا} أَي: أعرض عَنْهَا {سنجزي الَّذين يصدفون}

{ربكُم وَهدى وَرَحْمَة فَمن أظلم مِمَّن كذب بآيَات الله وصدف عَنْهَا سنجزي الَّذين يصدفون عَن آيَاتنَا سوء الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يصدفون (157) هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة أَو يَأْتِي رَبك أَو يَأْتِي بعض آيَات رَبك يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا} أَي: يعرضون {عَن آيَاتنَا سوء الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يصدفون} قَوْله - تَعَالَى -: { [هَل ينظرُونَ] } أَي: بعد تكذيبهم الرُّسُل وإنكارهم الْقُرْآن.

158

{هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة} قيل: بِالْعَذَابِ، وَقيل: بِقَبض الْأَرْوَاح (أَو يَأْتِي رَبك) يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، كَمَا قَالَ فِي سُورَة الْبَقَرَة: {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} وَقد بَينا هُنَالك {أَو يَأْتِي بعض آيَات رَبك} أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَنه أَرَادَ بِهِ طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، إِلَّا فِي رِوَايَة: شَاذَّة عَن معَاذ بن جبل أَنه: خُرُوج الدَّجَّال، وَخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج. وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِيهِ: " هِيَ طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا " وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا بِلَفْظِهِ. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر يطلعان يَوْمئِذٍ أسودين، وروى صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن للتَّوْبَة بَابا قبل الْمغرب، عرضه سَبْعُونَ ذِرَاعا؛ فَهُوَ مَفْتُوح إِلَى أَن تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا، ثمَّ يغلق فَلَا تقبل التَّوْبَة بعده " فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ( {يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك} لَا ينفع نفسا

{إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا قل انتظروا إِنَّا منتظرون (158) إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء إِنَّمَا أَمرهم إِلَى الله ثمَّ ينبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) (من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا} أَي: لَا يقبل تَوْبَة كَافِر بِالْإِيمَان، وَلَا تَوْبَة فَاسق بِالرُّجُوعِ عَن الْفسق {قل انتظروا إِنَّا منتظرون} .

159

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء} . وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ صدى بن عجلَان، عَن النَّبِي قَالَ: " هم الْخَوَارِج " قَالَ مُجَاهِد: هم أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَقيل: هم أهل سَائِر الْملَل من الْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس، وَنَحْوهم، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: " أصدق الحَدِيث كتاب الله، وَأحسن الْهدى هدى مُحَمَّد، وَشر الْأُمُور محدثاتها، وكل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وكل ضَلَالَة فِي النَّار " ويروى هَذَا مَرْفُوعا، وَقَوله: {لست مِنْهُم فِي شَيْء} أَي: لَيْسُوا مِنْك، وَلست مِنْهُم {إِنَّمَا أَمرهم إِلَى الله ثمَّ ينبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .

160

قَوْله - تَعَالَى -: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وهم لَا يظْلمُونَ} وَهَذَا فضل من الله - تَعَالَى - حَيْثُ يجازي الْحَسَنَة بِعشر

{إِلَّا مثلهَا وهم لَا يظْلمُونَ (160) قل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دينا قيمًا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (161) قل إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين (162) لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين (163) قل أغير الله أبغي رَبًّا وَهُوَ رب كل شَيْء وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (164) وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف} أَمْثَالهَا، والسيئة بِمِثْلِهَا، قَالَ ابْن عمر: هَذَا فِي غير الصَّدقَات من الْحَسَنَات، فَأَما الصَّدقَات: تضَاعف بسبعمائة ضعف، وَقَالَ أَبُو صَالح: الْحَسَنَة: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، " وَسُئِلَ رَسُول الله عَن كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله أَهِي من الْحَسَنَات؟ فَقَالَ: هِيَ أحسن الْحَسَنَات ".

161

قَوْله - تَعَالَى -: {قل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دينا قيمًا} هُوَ دين الْإِسْلَام أَي: دينا مُسْتَقِيمًا {مِلَّة إِبْرَاهِيم} نصب على الإغراء، أَي: اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم {حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين}

162

{قيل إِن صَلَاتي ونسكي} أما الصَّلَاة: مَعْلُومَة، وَأما النّسك: الْعِبَادَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الذَّبِيحَة، وَقَوله: {ومحياي ومماتي لله} أَي: طَاعَتي فِي حَياتِي لله، وجزائي بعد مماتي من الله {رب الْعَالمين

163

لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين) يَعْنِي: من هَذِه الْأمة.

164

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أغير الله أبغي رَبًّا} لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: ارْجع إِلَى ديننَا فَإِن خفت الله فَنحْن نكفل لَك الْعَذَاب؛ قَالَه كفار قُرَيْش؛ فَنزل: {قل أغير الله أبغي رَبًّا وَهُوَ رب كل شَيْء} {وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} أَي: لَيْسَ هَذَا بِأَمْر تَنْفَع فِيهِ الْكفَالَة، (وَيقوم) أحد مقَام أحد فِيهِ. {ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون} .

165

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف الأَرْض} أَي: يخلف بَعْضكُم

{الأَرْض وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات ليَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُم إِن رَبك سريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم (165) } بَعْضًا {وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا بالفقر والغنى، وَالْمَرَض وَالصِّحَّة، وَنَحْو هَذَا {ليَبْلُوكُمْ فِيمَا آتَاكُم} أَي: ليختبروكم فِيمَا أَعْطَاكُم. {إِن رَبك سريع الْعقَاب} وكل مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ سريع {وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم} .

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {المص (1) كتاب أنزل إِلَيْك فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ لتنذر بِهِ وذكرى} سُورَة الْأَعْرَاف قَالَ الشَّيْخ الإِمَام - رَضِي الله عَنهُ -: اعْلَم أَن سُورَة الْأَعْرَاف مكيه إِلَّا قَوْله - تَعَالَى -: {واسألهم عَن الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر} إِلَى قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} فَإِن هَذَا الْقدر نزل بِالْمَدِينَةِ، و (قد) روى " أَن النَّبِي قَرَأَ فِي الْمغرب بطول الطولين " يَعْنِي: سُورَة الْأَعْرَاف، وَإِنَّمَا سميت طول الطولين؛ لِأَن أطول السُّور الَّتِي نزلت بِمَكَّة سُورَة الْأَنْعَام، وَسورَة الْأَعْرَاف، والأعراف أطولهما.

الأعراف

قَوْله تَعَالَى {المص} مَعْنَاهُ: أَن الله أعلم وأفصل، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنا الله الْملك الصَّادِق، وَقَالَ الشّعبِيّ: لكل كتاب سر، وسر الْقُرْآن: حُرُوف التهجي فِي فواتح السُّور.

2

{كتاب أنزل إِلَيْك} قَالَ الْفراء: تَقْدِيره: هَذَا كتاب أنزل إِلَيْك {فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ} أَي: شكّ، وَالْخطاب للرسول، وَالْأمة هم المُرَاد. والحرج بمَكَان الشَّك، قَالَه الْفراء، وأنشدوا: (لَوْلَا حرج يعزوني ... جئْتُك أغزوك وَلَا تغزوني) وَقيل الْحَرج: هُوَ الضّيق، وَمَعْنَاهُ: لَا يضيقن صدرك بالإبلاغ، وَذَلِكَ أَن النَّبِي

{للْمُؤْمِنين (2) اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء قَلِيلا مَا} لما بعث إِلَى الْكفَّار، قَالَ: " يَا رب إِنِّي أَخَاف أَن يثلغوا رَأْسِي، ويجعلوه كالخبزة؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: لَا يكن فِي صدرك ضيق من الإبلاغ؛ فَإِنِّي حافظك وناصرك ". قَوْله: {لتنذر بِهِ وذكرى للْمُؤْمِنين} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: كتاب أنزل إِلَيْك؛ لتنذر بِهِ، وذكرى للْمُؤْمِنين فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ.

3

قَوْله تَعَالَى: {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: الْقُرْآن وَالسّنة لأمر الله تَعَالَى لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} فَالسنة وَإِن لم تكن (منزلَة) ، فَهِيَ كالمنزلة بِحكم تِلْكَ الْآيَة، قَالَ الْحسن فِي هَذِه الْآيَة: يَا ابْن آدم، أمرت بِاتِّبَاع الْقُرْآن، فَمَا من آيَة إِلَّا وَعَلَيْك أَن تعلم فِيمَا نزلت، وماذا أُرِيد بهَا، حَتَّى تتبعه، وتعمل بِهِ. {وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} يَعْنِي: من عاند الْحق، وَخَالفهُ، فَلَا تَتبعُوهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: {من دونه أَوْلِيَاء} لِأَن من اتخذ مذهبا، فَكل من سلك طَرِيقه وَاتبعهُ كَانَ من أوليائه، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} وَقَالَ مَالك بن دِينَار: وَلَا تَبْتَغُوا، يَعْنِي: الطّلب، وَالْمعْنَى: وَلَا تَبْتَغُوا من دونه أَوْلِيَاء. {قَلِيلا مَا تذكرُونَ} ، وَقَرَأَ ابْن عَامر: " يتذكرون " وَالْمرَاد بهما وَاحِد، أَي: قَلِيلا مَا تتعظون.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَكم من قَرْيَة أهلكناها} " كم " للتكثير، و " رب " للتقليل. قَالَ الشَّاعِر: (كم عمَّة لَك يَا جرير وَخَالَة ... فدعاء قد حلبت على عشارى)

{تذكرُونَ (3) وَكم من قَرْيَة أهلكناها فَجَاءَهَا بأسنا بياتاً أَو هم قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بأسنا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين (5) فلنسئلن الَّذين أرسل إِلَيْهِم ولنسئلن الْمُرْسلين (6) فلنقصن عَلَيْهِم بِعلم وَمَا كُنَّا غائبين (7) وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ} قَالَه الفرزدق. {فَجَاءَهَا بأسنا بياتا} أَي: عذابنا بياتا {أَو هم قَائِلُونَ} وَتَقْدِيره: لَيْلًا وهم نائمون، أَو نَهَارا وهم قَائِلُونَ، من القيلولة. قَالَ الزّجاج: " أَو هم قَائِلُونَ " أَو لتصريف الْعَذَاب، يَعْنِي: مرّة بِاللَّيْلِ، وَمرَّة بِالنَّهَارِ كَمَا بَينا، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: {وَكم من قَرْيَة أهلكناها} فَمَا معنى قَوْله: {فَجَاءَهَا بأسنا} وَكَيف يكون مَجِيء الْبَأْس بعد الإهلاك؟ قيل: معنى قَوْله: {أهلكناها} أَي: حكمنَا بإهلاكها؛ فَجَاءَهَا بأسنا، وَقيل: قَوْله: {فَجَاءَهَا بأسنا} هُوَ بَيَان قَوْله: {أهلكناها} ، وَقَوله: {أهلكناها} هُوَ قَوْله: {فَجَاءَهَا بأسنا} وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل: أَعْطَيْتنِي فأحسنت إِلَيّ، لَا فرق بَينه وَبَين قَوْله: أَحْسَنت إِلَى مَا أَعْطَيْتنِي، وَأَحَدهمَا بَيَان للْآخر، كَذَلِك هَذَا.

5

قَوْله - تَعَالَى -: {فَمَا كَانَ دَعوَاهُم} أَي: دعاؤهم، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: تَقول اللَّهُمَّ اجْعَلنِي فِي دَعْوَى الْمُسلمين، أَي: فِي دُعَاء الْمُسلمين فَقَوله: {فَمَا كَانَ دَعوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بأسنا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين} مَعْنَاهُ: لم يقدروا على رد الْعَذَاب حِين جَاءَهُم الْعَذَاب، وَكَانَ حَاصِل أَمرهم أَن اعْتَرَفُوا بالخيانة حِين لَا ينفع الِاعْتِرَاف.

6

قَوْله - تَعَالَى -: {فلنسألن الَّذين أرسل إِلَيْهِم} هَذَا سُؤال توبيخ، لَا سُؤال استعلام، يَعْنِي: نسألهم عَمَّا عمِلُوا فِيمَا بَلغهُمْ {ولنسألن الْمُرْسلين} عَن الإبلاغ

7

{فلنقصن عَلَيْهِم بِعلم} أَي: نخبرهم بِمَا عمِلُوا عَن بَصِيرَة وَعلم. {وَمَا كُنَّا غائبين} فَإِنَّهُ - جلّ وَعلا - مَعَ كل أحد بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة.

8

قَوْله - تَعَالَى -: {وَالْوَزْن يَوْمئِذٍ الْحق} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: الْقَضَاء يَوْمئِذٍ بِالْحَقِّ وَالْعدْل، وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنه أَرَادَ بِهِ: الْوَزْن بالميزان الْمَعْرُوف، وَهُوَ حق، وَكَيف

{الْحق فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون (8) وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يظْلمُونَ (9) وَلَقَد مكناكم فِي الأَرْض وَجَعَلنَا لكم} يُوزن؟ اخْتلفُوا، قَالَ بَعضهم: توزن صَحَائِف الْأَعْمَال، وَقيل: يُوزن الْأَشْخَاص؛ وَعَلِيهِ دلّ قَول عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: " يُؤْتى بِالرجلِ الْعَظِيم الطَّوِيل، الأكول والشروب، يَوْم الْقِيَامَة، فيوزن فَلَا يزن عِنْد الله جنَاح بعوضة " وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا. وَقيل: توزن الْأَعْمَال، فَإِن الْأَعْمَال الْحَسَنَة تَأتي على صُورَة حَسَنَة، والأعمال السَّيئَة تَأتي على صُورَة قبيحة؛ فَذَلِك الَّذِي يُوزن، وَفِي الْخَبَر " أَن ذَلِك الْمِيزَان لَهُ كفتان، كل كفة بِقدر مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب "، وَالْمِيزَان للْكُلّ وَاحِد، وَقيل لكل وَاحِد ميزَان. {فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} .

9

{وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم} أَي: غبنوا أنفسهم {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يظْلمُونَ} قَالَ الْحسن: إِنَّمَا ثقل ميزَان من ثقل مِيزَانه بِاتِّبَاع الْحق، وَحقّ لِمِيزَانٍ وضع فِيهِ الْحق أَن يثقل، وَإِنَّمَا خف ميزَان من خف مِيزَانه بِاتِّبَاع الْبَاطِل، وَحقّ الْمِيزَان لم يوضع فِيهِ إِلَّا الْبَاطِل أَن يخف. ويروى عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله نَائِما ذَات يَوْم، وَرَأسه فِي حجري، فَبَكَيْت، فقطرت دموعي على خَدّه؛ فانتبه رَسُول الله فَقَالَ: مَالك؟ قلت: ذكرت الْقِيَامَة وأهوالها، فَهَل يذكر أحد أحدا يَوْمئِذٍ؟ فَقَالَ: أما فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن فَلَا: عِنْد الْمِيزَان حَتَّى يعلم أيثقل مِيزَانه أم يخف، وَعند تطاير الصُّحُف حَتَّى يعلم أَن صَحِيفَته تُوضَع فِي يَمِينه أَو [فِي] شِمَاله، وعَلى

{فِيهَا معايش قَلِيلا مَا تشكرون (10) وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة} الصِّرَاط ".

10

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد مكناكم فِي الأَرْض} التَّمْكِين هَاهُنَا بِمَعْنى: التَّمْلِيك {وَجَعَلنَا لكم فِيهَا معايش} أَي: أَسبَاب تعيشون بهَا، وَقيل: جعلنَا لكم مَا تصلونَ بِهِ إِلَى المعاش {قَلِيلا مَا تشكرون} .

11

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ ثمَّ صورناكم} قَالَ ابْن عَبَّاس: خَلَقْنَاكُمْ فِي صلب آدم، ثمَّ صورناكم فِي أَرْحَام الْأُمَّهَات، وَقَالَ مُجَاهِد: خَلَقْنَاكُمْ فِي ظهر آدم، ثمَّ صورناكم يَوْم الْمِيثَاق، حِين أخرجهم كالذر، وَقيل: هَذَا فِي حق آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - يَعْنِي: خلقنَا أصلكم آدم، ثمَّ صورناه؛ فَذكر بِلَفْظ الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ الْوَاحِد، وَقَالَ الْأَخْفَش - وَهُوَ أحد قولي قطرب -: إِن ثمَّ بِمَعْنى الْوَاو، أَي: وصورناكم. {ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} فَإِن قَالَ قَائِل: الْأَمر بسجود الْمَلَائِكَة كَانَ قبل خلق بني آدم، فَمَا معنى قَوْله: {ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة} عقيب ذكر الْخلق والتصوير؟ وَالْجَوَاب: أما على قَول مُجَاهِد، وَقَول من صرفه إِلَى آدم، يَسْتَقِيم الْكَلَام. وَأما على قَول ابْن عَبَّاس، يرد هَذَا الْإِشْكَال، وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: أَن المُرَاد بِهِ: ثمَّ أخْبركُم أَنا قُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا [لآدَم] ، وَقيل فِيهِ: تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَلَقَد خَلَقْنَاكُمْ، ثمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا، ثمَّ صورناكم،

{اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين (11) قَالَ مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين (12) قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يكون لَك أَن تتكبر فِيهَا فَاخْرُج إِنَّك من الصاغرين (13) قَالَ أَنْظرنِي إِلَى يَوْم يبعثون} وَقيل " ثمَّ " بِمَعْنى " الْوَاو " أَي: وَقُلْنَا للْمَلَائكَة: اسجدوا، وَالْوَاو لَا توجب التَّرْتِيب، وَهُوَ قَول الْأَخْفَش، وَأحد قولي قطرب، وَلم يرْضوا مِنْهُم ذَلِك، فَإِن كلمة " ثمَّ " لَا ترد بِمَعْنى الْوَاو، وَهِي للتعقيب. {فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس لم يكن من الساجدين} وَقد ذكرنَا سُجُود الْمَلَائِكَة فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَأَن سجودهم كَانَ لآدَم.

12

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} " لَا " زَائِدَة، وَالْمرَاد: مَا مَنعك أَن تسْجد؟ وَقد سبق نَظَائِره. {قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين} فَإِن قيل: لم يكن هَذَا مِنْهُ جَوَابا عَمَّا سُئِلَ عَنهُ؟ قيل: تَقْدِيره قَالَ: لم أَسجد لِأَنِّي خير مِنْهُ، وَقيل: السُّؤَال مُقَدّر فِيهِ، كَأَنَّهُ قيل لَهُ: أَنْت خير أم هُوَ؟ فَقَالَ: أَنا خير مِنْهُ. قَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: ظن الْخَبيث، وَرَأى أَن النَّار خير من الطين، وَلم يعلم أَن الْفضل لما جعل الله لَهُ الْفضل، وَقد فضل الله الطين على النَّار، وَلِأَن فِي طبع النَّار طيشا، وخفة، وإحراقا، وَفِي الطين رزانة، وحلم، وتواضع، وَأَمَانَة، فَيجوز أَن يكون خيرا من النَّار، وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس: أول من قَاس: إِبْلِيس، كَمَا بَينا.

13

وَقَوله - تَعَالَى -: {قَالَ فاهبط مِنْهَا} أَي: فَاخْرُج مِنْهَا، وَاخْتلفُوا فِي هَذِه الْكِنَايَة، قيل: أَرَادَ بِهِ: فاهبط من الْجنَّة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من الدرجَة الَّتِي جعله الله عَلَيْهَا من قبل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: من الأَرْض؛ فَإِن الله - تَعَالَى - لما طرده؛ أخرجه من الأَرْض إِلَى جزائر الْبَحْر، وَكَانَ من قبل لَهُ ملك الأَرْض، حَتَّى قيل: إِنَّه لَا يدْخل الأَرْض إِلَّا خَائفًا، سَارِقا، على هَيْئَة شيخ عَلَيْهِ أطمار {فَمَا يكون لَك أَن تتكبر فِيهَا} يَعْنِي: بترك السُّجُود {فَاخْرُج إِنَّك من الصاغرين} أَي: الأذلة.

( {14) قَالَ إِنَّك من المنظرين (15) قَالَ فبمَا أغويتني لأقعدن لَهُم صراطك الْمُسْتَقيم (16) ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم وَعَن أَيْمَانهم وَعَن شمائلهم وَلَا تَجِد}

14

{قَالَ أَنْظرنِي} أَي: أمهلني {إِلَى يَوْم يبعثون} سَأَلَ المهلة إِلَى الْقِيَامَة،

15

{قَالَ إِنَّك من المنظرين} فأنظره الله - تَعَالَى - وَهَذَا الإنظار إِلَى النفخة الأولى، كَمَا قَالَ فِي مَوضِع آخر مُقَيّدا: {إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم} وَأَرَادَ بِهِ: النفخة الأولى، فَإِن قيل: وَهل يجوز أَن يُجيب الله دَعْوَة الْكَافِر؛ حَيْثُ أجَاب دَعْوَة اللعين؟ قيل: يجوز على طَرِيق الاستدراج وَالْمَكْر والإملاء لَا على سَبِيل الْكَرَامَة.

16

{قَالَ فبمَا أغويتني} قَالَ ابْن عَبَّاس: بِمَا أضللتني، وَقيل: بِمَا خيبتني، فالإغواء بِمَعْنى: الخيبة، قَالَ الشَّاعِر: (فَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمره ... وَمن يغو لَا يعْدم على الغي لائما) أَي: وَمن يخب لَا يعْدم على الخيبة لائما، وَقيل: مَعْنَاهُ: بِمَا دعوتني إِلَى مَا ضللت بِهِ {لأقعدن لَهُم صراطك الْمُسْتَقيم} أَي: على صراطك الْمُسْتَقيم، وَهُوَ صِرَاط الدّين.

17

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم} روى سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن الحكم بن عتيبة أَنه قَالَ: {لآتينهم من بَين أَيْديهم} يَعْنِي: من قبل الدُّنْيَا بِأَن أزينها فِي قُلُوبهم، فيغتروا بهَا {وَمن خَلفهم} أَي: من قبل الْآخِرَة، بِأَن أَقُول: لَا بعث، وَلَا جنَّة، وَلَا نَار {وَعَن أَيْمَانهم} من قبل الْحَسَنَات {وَعَن شمائلهم} من قبل السَّيِّئَات، وَقَالَ ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة الْوَالِبِي عَنهُ -: لآتينهم من بَين أَيْديهم يَعْنِي: من قبل الْآخِرَة، وَمن خَلفهم (أَي) من قبل الدُّنْيَا، وَعَن أَيْمَانهم: أشبه عَلَيْهِم أَمر الدُّنْيَا، وَعَن شمائلهم: أشهى لَهُم ارْتِكَاب الْمعاصِي، قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بِهِ لآتينهم من كل الجوانب، قَالَ قَتَادَة: لم يقل الْخَبيث: من فَوْقهم؛ لِأَن الرَّحْمَة تنزل عَلَيْهِم من فَوْقهم.

{أَكْثَرهم شاكرين (17) قَالَ اخْرُج مِنْهَا مذءوما مَدْحُورًا لمن تبعك مِنْهُم لأملأن جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة فكلا من حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين (19) فوسوس لَهما الشَّيْطَان ليبدي لَهما مَا} {وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين} أَي: مُؤمنين فَإِن قيل: بأيش علم الْخَبيث أَنه لَا يجد أَكْثَرهم شاكرين؟ قيل: قَرَأَ من اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: قَالَ ذَلِك ظنا؛ فَأجَاب كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: {وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه} .

18

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ اخْرُج مِنْهَا مذءوما} وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " مذموما "، وَالْمَعْرُوف. مذءوما من الذأم: وَهُوَ الْعَيْب، وَقيل: مَعْنَاهُ مقيتا من المقت. {مَدْحُورًا} أَي: مطرودا {لمن تبعك مِنْهُم لأملان جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ} اللَّام فِيهِ للقسم، يَعْنِي: أقسم لمن تبعك مِنْهُم لأملأن جَهَنَّم مِنْكُم أَجْمَعِينَ.

19

قَوْله - تَعَالَى -: {وَيَا آدم اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} وَقد بَينا هَذَا {فكلا من حَيْثُ شئتما وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين} وَقد بَينا على قَول ابْن عَبَّاس: أَنَّهَا كَانَت شَجَرَة السنبلة، وَقيل: شَجَرَة التِّين، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب: كَانَت شَجَرَة الكافور، وَقيل: كَانَت شَجَرَة تَأْكُل مِنْهَا الْمَلَائِكَة تسمى: شَجَرَة الْخلد.

20

قَوْله - تَعَالَى -: {فوسوس لَهما الشَّيْطَان} الوسوسة: حَدِيث يلقيه الشَّيْطَان فِي قلب الْإِنْسَان، وَاخْتلفُوا كَيفَ وسوس لَهما وهما فِي الْجنَّة، وَهُوَ فِي الأَرْض؟ فَقيل: وسوس لَهما من الأَرْض؛ لِأَن الله - تَعَالَى - أعطَاهُ قُوَّة بذلك حَتَّى وسوس لَهما بِتِلْكَ الْقُوَّة من الأَرْض إِلَى الْجنَّة، وَقيل: حِين وسوس لَهما كَانَ فِي السَّمَاء؛ فَالْتَقَيَا على بَاب الْجنَّة هُوَ وآدَم، فوسوس، وَقيل: إِن الْحَيَّة خبأته فِي [أنيابها] وأدخلته الْجنَّة، فوسوس من بَين [أنيابها] ؛ فمسحت الْحَيَّة، وأخرجت من الْجنَّة. {ليبدي لَهما مَا ووري عَنْهُمَا من سوءاتهما} اللَّام فِيهِ لَام الْعَاقِبَة؛ فَإِنَّهُ لم

{ووري عَنْهُمَا من سوءاتهما وَقَالَ مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين (20) وقاسمهما إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين (21) فدلاهما بغرور} يوسوس لهَذَا، لَكِن عَاقِبَة أَمرهم فِي وسوسته أَنه أبدى لَهما مَا ستر من عورتيهما. {وَقَالَ مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين} وَهَذِه كَانَت وسوسته؛ وَقَرَأَ يحيى بن أبي كثير وَالضَّحَّاك: " إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ " بِكَسْر اللَّام، وَالْمَعْرُوف: " ملكَيْنِ " بِفَتْح اللَّام، قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: لم يكن فِي الْجنَّة ملك لغير الله حَتَّى يَقُول: ملكَيْنِ من الْملك، وَكَانَ فِيهَا الْمَلَائِكَة، وَمَعْنَاهُ: مَا نهاكما الله عَن أكل هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أنكما إِذا اكلتما صرتما ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين.

21

{وقاسمهما إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين} وسوس لَهما، وَحلف عَلَيْهِ، وَهُوَ أول من حلف بِاللَّه كَاذِبًا، فَكل من حلف بِاللَّه كَاذِبًا؛ فَهُوَ من أَتبَاع إِبْلِيس، وَفِي الحَدِيث: " إِن الْمُؤمن يخدع بِاللَّه " فَلَمَّا حلف إِبْلِيس على مَا وسوسه بِهِ؛ ظن آدم أَنه لَا يحلف أحد بِاللَّه إِلَّا صَادِقا؛ من سَلامَة قلبه، فاغتر بِهِ. وَفِيه قَول آخر: أَن قَوْله: {وقاسمهما} من الْقِسْمَة، كَأَن إِبْلِيس قَالَ لَهما: كلا من هَذِه الشَّجَرَة، فَمَا كَانَ من خير فلكما، وَمَا كَانَ من شَرّ وَسُوء فعلي. وَقَوله: {إِنِّي لَكمَا لمن الناصحين} يَعْنِي: المرشدين، المريدين للخير. فَإِن قَالَ قَائِل: قَوْله: {مَا نهاكما رَبكُمَا عَن هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ} دَلِيل على أَن الْمَلَائِكَة أفضل من الْآدَمِيّين، قيل: مَعْنَاهُ - وَالله أعلم -: أَنَّهُمَا رَأيا الْمَلَائِكَة فِي أحسن صُورَة، وَأَرْفَع منزلَة، وَفِي تَسْبِيح دَائِم من غير تَعب وَلَا شَهْوَة؛ فتمنيا أَن يصلا إِلَى تِلْكَ الْمنزلَة لَو أكلا من تِلْكَ الشَّجَرَة، ويتخلصا من التَّعَب، وَمن شَهْوَة البشرية، وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيل على أَن الْملك أفضل من الْآدَمِيّ.

22

وَقَوله: {فدلاهما بغرور} أَي: حطهما من منزلَة الطَّاعَة إِلَى حَالَة الْمعْصِيَة، قَالَ

{فَلَمَّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة وناداهما ربهما ألم أنهكما عَن تلكما الشَّجَرَة وَأَقل لَكمَا إِن الشَّيْطَان لَكمَا عَدو مُبين (22) قَالَا} الشَّاعِر: (ويوسف إِذْ دلاه أَوْلَاد عِلّة ... فَأصْبح فِي قَعْر البريكة ثاويا) وَأما الْغرُور: فَهُوَ إِظْهَار النصح مَعَ إبطان الْغِشّ. قَوْله - تَعَالَى -: {فَلَمَّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهما سوءاتهما} فِي هَذَا دَلِيل على أَنَّهُمَا لم يمتعا فِي الْأكل، قَالَ ابْن عَبَّاس: قيل: إِن إزدادا؛ أخذتهما الْعقُوبَة، وَكَانَت عقوبتهما أَن تهافت عَنْهُمَا لباسهما، وبدت عورتهما. {وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة} قَالَ ثَعْلَب: جعلا يلصقان بعض الْوَرق بِالْبَعْضِ، ويستران الْعَوْرَة بِهِ، وَيُقَال: خصف النَّعْل؛ إِذا جعل طبقًا على طبق، وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك الْوَرق، قَالَ ابْن عَبَّاس - وَبِه قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين -: إِنَّه ورق التِّين وَالزَّيْتُون، وَقيل: كَانَ ورق الموز. {وناداهما ربهما ألم أنهكما عَن تلكما الشَّجَرَة} يَعْنِي: عَن الْأكل مِنْهَا {وَأَقل لَكمَا إِن الشَّيْطَان لَكمَا عَدو مُبين} أَي: بَين الْعَدَاوَة، ويحكى عَن أبي بن كَعْب، وَيذكر عَن عَطاء أَيْضا، أَنَّهُمَا قَالَا: لما بَدَت سوتهما فِي الْجنَّة، هرب آدم فِي الْجنَّة؛ فتعلقت شَجَرَة بِشعرِهِ، وناداه الرب: أفرارا مني يَا آدم؟ فَقَالَ: لَا بل حَيَاء مِنْك يَا رب.

23

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَا رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} اعْترف آدم بالذنب، وَسَأَلَ الْمَغْفِرَة، وَهَذَا هُوَ الْفرق بَين معصيتة ومعصية إِبْلِيس، أَن إِبْلِيس عصى وأصر على الْمعْصِيَة، وآدَم عصى وَتَابَ عَن الْمعْصِيَة، وَأَن إِبْلِيس كَانَ مُتَعَمدا، وآدَم كَانَ سَاهِيا، وَاخْتلفُوا فِي أَن آدم هَل عرف عِنْد الْأكل أَنه مَعْصِيّة؟ قَالَ بَعضهم: عرف ذَلِك، لَكِن الله غفر لَهُ، وَتَابَ عَلَيْهِ، وَقيل: دخل عَلَيْهِ شُبْهَة من وَسْوَسَة إِبْلِيس، وَلم يكن مُتَعَمدا؛ إِذْ كَانَ مَعْصُوما نَبيا.

24

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو} فَإِن قَالَ قَائِل: ألم يكن

{رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23) قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين (24) قَالَ فِيهَا تحيون وفيهَا تموتون وَمِنْهَا تخرجُونَ (25) يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم} خَاطب إِبْلِيس بالهبوط من قبل، فَمَا معنى هَذِه الْإِعَادَة؟ قيل: إِن هَذَا الثَّانِي خطاب لآدَم وحواء والحية، قَالَه أَبُو صَالح، وإبليس خَارج من الْخطاب، وَقيل: الْخطاب للْكُلّ؛ لأَنهم وَإِن اقترفوا فِي وَقت الْإِخْرَاج والإنزال، (لَكِن) لما اجْتَمعُوا فِي الْإِنْزَال جمع بَينهم فِي الْخطاب، وَالْأول خَاص لإبليس، وَالْخطاب الثَّانِي عَام للْكُلّ. {وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين} وَفِي الْقَصَص: أَن آدم وَقع بِأَرْض الْهِنْد، وحواء بجدة، والحية بِمَيْسَان، وإبليس بأيلة، وَقيل: بمداد، وَقيل: وَقع إِبْلِيس بِأَرْض الْبَصْرَة، ثمَّ خرج إِلَى أَرض مصر وباض وفرخ فِيهِ. وَعَن ابْن عمر أَنه قَالَ: لما أخرج الله - تَعَالَى - إِبْلِيس إِلَى الأَرْض، قَالَ: يَا رب، أَيْن مسكني؟ قَالَ: الحمامات؛ فَقَالَ: أَيْن مجلسي؟ قَالَ: الْأَسْوَاق، فَقَالَ: وأيش مطعمي؟ قَالَ: كل طَعَام لم يذكر عَلَيْهِ اسْمِي، فَقَالَ: وماذا شرابي؟ فَقَالَ: كل مُسكر. قَالَ: وَمَا حبالتي؟ فَقَالَ: النِّسَاء، فَقَالَ: وَمَا كتابتي؟ قَالَ: الوشم، فَقَالَ: وَمن رُسُلِي؟ قَالَ: الكهنة.

25

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ فِيهَا تحيون وفيهَا تموتون وَمِنْهَا تخرجُونَ} يَعْنِي: الأَرْض فِيهَا حَيَاتكُم وموتكم، وَمِنْهَا بعثكم.

26

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: أنزلنَا. وَلم ينزل اللبَاس من السَّمَاء؟ قيل: قد أنزل الْمَطَر، وكل نَبَات من الْمَطَر؛ فَكَأَنَّهُ أنزلهُ، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن كل مَا فِي الأَرْض فَهُوَ من بَرَكَات السَّمَاء؛ فَيكون كالمنزل من السَّمَاء، وعَلى هَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} وَإِنَّمَا يسْتَخْرج من الأَرْض، لَكِن نسبه إِلَى السَّمَاء، كَذَا هَذَا.

{وريشا ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير ذَلِك من آيَات الله لَعَلَّهُم يذكرُونَ (26) يَا بني آدم لَا} وَسبب نزُول الْآيَة: أَنهم فِي الْجَاهِلِيَّة، كَانُوا يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَيَقُولُونَ لَا نطوف فِي (أَثوَاب) عصينا الله - تَعَالَى - فِيهَا، وَكَانَ الرِّجَال يطوفون عُرَاة بِالنَّهَارِ، وَالنِّسَاء بِاللَّيْلِ؛ فَنزلت الْآيَة فِي الْمَنْع عَن ذَلِك. قَالَ الزُّهْرِيّ: كَانَت الْعَرَب يطوفون كَذَلِك عُرَاة إِلَّا الحمس، وهم قُرَيْش وأحلاف قُرَيْش، كَانُوا يطوفون فِي ثِيَابهمْ، وَسموا حمسا؛ بشدتهم فِي دينهم، وَمِنْه الحماسة لشدتها، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت النِّسَاء يطفن وعليهن رهاط، والرهط: قِطْعَة من صوف لَا تستتر تَمام الْعَوْرَة، وَرُبمَا كَانَت من سيورة، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَت الْمَرْأَة مِنْهُم تَطوف تضع يَدهَا على فرجهَا تستر بهَا عورتها، وَتقول: (الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله ... وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أحله) فَقَوله: {قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم} مَعْنَاهُ: قد أنزلنَا عَلَيْكُم مَا تسترون بِهِ عورتكم؛ فَلَا تطوفوا بِالْبَيْتِ عُرَاة، وَقَوله: {وريشا} وَقُرِئَ: " ورياشا " مِنْهُم من فرق بَينهمَا. قَالَ مُجَاهِد: الريش: المَال، وَقَالَ الْكسَائي: الريش: اللبَاس. وَأما الرياش: قيل: هُوَ المعاش، يُقَال: تريش فلَان إِذا وجد مَا يعِيش بِهِ، وَقيل: الرياش: أثاث الْبَيْت، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الريش والرياش وَاحِد، وَهُوَ مَا يَبْدُو من اللبَاس، والشعرة وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ: (وريشي مِنْكُم وهواي فِيكُم ... وَإِن كَانَت زيارتكم لماما) أَي: قَلِيلا، وَقَوله: {ولباس التَّقْوَى} يقْرَأ بِالنّصب، (يَعْنِي) : وأنزلنا عَلَيْكُم لِبَاس التَّقْوَى، وَيقْرَأ: " ولباس التَّقْوَى " بِالرَّفْع، يَعْنِي: هُوَ لِبَاس التَّقْوَى.

{يفتننكم الشَّيْطَان كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوءاتهما} قَالَ القتيبي: يَعْنِي: الثِّيَاب لِبَاس التَّقْوَى؛ فَإِن من اتَّقى الله يطوف لابسا لَا عَارِيا، وَفِي الحَدِيث: " إِن لِبَاس التَّقْوَى هُوَ الْحيَاء " لِأَنَّهُ يبْعَث على التَّقْوَى، وَهُوَ قَول الْحسن، قَالَ الشَّاعِر: (إِنِّي كَأَنِّي أرى من لَا حَيَاء لَهُ ... وَلَا أَمَانَة وسط النَّاس عُريَانا) قَالَ عِكْرِمَة: الْحيَاء وَالْإِيمَان فِي قرن وَاحِد، فَإِذا ذهب أَحدهمَا؛ تبعه الآخر، وَقَالَ قَتَادَة: لِبَاس التَّقْوَى: هوالإيمان، وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان: لِبَاس التَّقْوَى: هُوَ السمت الْحسن، وَقَالَ عُرْوَة: هُوَ خشيَة الله، وَقيل: لِبَاس التَّقْوَى هَا هُنَا: لِبَاس الصُّوف، وَالثَّوْب (الخشن) الَّذِي يلْبسهُ أهل الْوَرع، وَقيل: هُوَ الْعَمَل الصَّالح. {ذَلِك خير} قيل: " ذَلِك " حِيلَة وَتَقْدِيره: ولباس التَّقْوَى خير، وَهَكَذَا قَرَأَهُ الْأَعْمَش، وَقيل: " ذَلِك " فِي مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: ذَلِك الَّذِي ذكر من اللبَاس والريش، وكل مَا ذكر خير {ذَلِك من آيَات الله لَعَلَّهُم يذكرُونَ} .

27

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا بني آدم لَا يفتنتكم الشَّيْطَان كَمَا أخرج أبويكم من الْجنَّة} أَي: لَا يضلنكم الشَّيْطَان، كَمَا فتن أبويكم فأخرجهما من الْجنَّة. {ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوءاتهما} هُوَ مَا ذكرنَا من تهافت اللبَاس عِنْد أكلهَا من الشَّجَرَة، وَفِيه دَلِيل على أَنَّهُمَا مَا كَانَا يريان عورتهما من قبل؛ حَيْثُ قَالَ: ليريهما سوءاتهما وَاخْتلفُوا فِي ذَلِك اللبَاس الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمَا مَا هُوَ؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: لباسهما كَانَ من الظفر؛ كَأَن الله - تَعَالَى - ألبسهما من جنس ظفرهما، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: كَانَ لباسا من النُّور.

{إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم إِنَّا جعلنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ (27) وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ (28) قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد وادعوه مُخلصين لَهُ الدّين كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ (29) فريقا هدى} {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله} أَي: وَجُنُوده {من حَيْثُ لَا ترونهم} يَعْنِي: أَن الشَّيْطَان وَجُنُوده يرونكم، وَأَنْتُم لَا ترونهم {إِنَّا جعلنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ} يَعْنِي: أَن الشَّيَاطِين يوالون الْكفَّار، وَهَذَا قَوْله: {أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين تؤزهم أزا} .

28

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا فعلوا فَاحِشَة} قيل: الْفَاحِشَة هَا هُنَا هِيَ طوافهم عُرَاة، وَقيل: هِيَ الشّرك ( {قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا} قل) يَا مُحَمَّد: {إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} وَهِي كل فعل قَبِيح بلغ النِّهَايَة فِي الْقبْح {أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} .

29

قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ والصدق {وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا أَن مَعْنَاهُ: أقِيمُوا الصَّلَاة فِي كل مَسْجِد تدرككم فِيهِ الصَّلَاة، وَلَا تَقولُوا نؤخرها إِلَى مَسْجِدنَا، وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: استقبلوا الْقبْلَة بوجوهكم فِي كل صَلَاة، وَالثَّالِث مَعْنَاهُ: أَخْلصُوا صَلَاتكُمْ وعبادتكم لله - تَعَالَى -. {وادعوه مُخلصين لَهُ الدّين كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ} يَعْنِي: تعودُونَ فُرَادَى بِلَا أهل وَلَا مَال، كَمَا خَلقكُم فُرَادَى بِلَا أهل وَلَا مَال، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: إِن إعادتكم أَحيَاء كخلقكم ابْتِدَاء، كِلَاهُمَا عَليّ هَين، وَالصَّحِيح أَن المُرَاد بِهِ: انه كَمَا خَلقكُم أشقياء وسعداء، ومؤمنين وكافرين، تعودُونَ كَذَلِك؛ وَعَلِيهِ دلّ

30

قَوْله - تَعَالَى -: {فريقا

{وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة إِنَّهُم اتَّخذُوا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء من دون الله وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون (30) يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا إِنَّه} هدى وفريقا حق عَلَيْهِم الضَّلَالَة) أَي: فريقا هدَاهُم الله، وفريقا أضلهم الله [تَعَالَى] ؛ فَوَجَبت عَلَيْهِم الضَّلَالَة، وَقد صَحَّ الحَدِيث عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " حَدثنِي الصَّادِق المصدوق - يَعْنِي رَسُول الله -: أَن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى لَا يكون بَينه وَبَين الْجنَّة إِلَّا ذِرَاعا؛ فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فَيعْمل بِعَمَل أهل النَّار؛ فَيدْخل النَّار، وَإِن الرجل ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار، حَتَّى لَا يبْقى بَينه وَبَين النَّار إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب، فَيعْمل بِعَمَل أهل الْجنَّة؛ فَيدْخل الْجنَّة ". {إِنَّهُم اتَّخذُوا الشَّيَاطِين أَوْلِيَاء من دون الله وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن المستبصر بالْكفْر الَّذِي يحْسب أَنه على الْحق مثل المعاند سَوَاء.

31

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد} هُوَ فِي الْأَمر بِالطّوافِ وَالصَّلَاة لابسا، وَفِي شواذ التفاسير: أَنه الْمشْط، وَلبس النَّعْل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: السكينَة، وَالْوَقار، وَذَلِكَ معنى مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِذا أتيتم الصَّلَاة فَلَا تأتوها وَأَنْتُم تسعون وَلَكِن ائتوها وَأَنْتُم تمشون، وَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار ". {وكلوا وَاشْرَبُوا} قَالَ الْفراء: إِنَّمَا أَمرهم بِالْأَكْلِ وَالشرب؛ لأَنهم كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يتركون أكل اللَّحْم وَالدَّسم فِي وَقت الْمَوْسِم، كَمَا يتركون اللبَاس عِنْد الطّواف وَيَقُولُونَ: نَتْرُك اللَّحْم وَالدَّسم لله - تَعَالَى -. {وَلَا تسرفوا} أَي: بتحليل مَا حرم الله، وبتحريم مَا أحل الله، وكل مَال أنْفق

{لَا يحب المسرفين (31) قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ (32) قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ (33) } فِي مَعْصِيّة الله؛ فَهُوَ سرف، وأصل الْإِسْرَاف: هُوَ مُجَاوزَة الْحَد بغلو أَو تَقْصِير {إِنَّه لَا يحب المسرفين} .

32

قَوْله - تَعَالَى -: {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ} يَعْنِي: اللبَاس عِنْد الطّواف {والطيبات من الرزق} يَعْنِي: مَا حرمُوا على أنفسهم من أكل اللَّحْم فِي أَيَّام الْمَوْسِم، مَعَ سَائِر مَا حرمُوا من الْبحيرَة، والسائبة وَنَحْوهَا. {قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين - وَهُوَ قَول الضَّحَّاك -: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: هِيَ للَّذين آمنُوا وللمشركين فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، خَالِصَة للْمُؤْمِنين يَوْم الْقِيَامَة: وَقيل: مَعْنَاهُ: خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة من التنغيص وَالْغَم، فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا مَعَ التنغيص وَالْغَم. {كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} .

33

قَوْله - تَعَالَى -: {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن} قَالَ قَتَادَة: هِيَ الزِّنَا سرا وعلنا، وَقَالَ غَيره: مَا ظهر مِنْهَا: نِكَاح الْمَحَارِم، وَمَا بطن: الزِّنَا {وَالْإِثْم وَالْبَغي يُغير الْحق} أما الْإِثْم فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ الْفراء: كل مَا دون الْحَد، وَقيل: هُوَ كل الْمعاصِي، وَقيل: الْإِثْم الْخمر، وَقد ورد ذَلِك فِي الشّعْر: (شربت (الْإِثْم) حَتَّى ضل عَقْلِي ... كَذَاك الْإِثْم يذهب بالعقول) وَأما الْبَغي، قيل: هُوَ الاستطالة على النَّاس، وَقيل هُوَ الْفساد، وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ أَن يَقع فِي النَّاس بِغَيْر الْحق {وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه} وَتَقْدِيره: وَحرم أَن تُشْرِكُوا بِاللَّه {مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا} أَي: حجَّة {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} لأَنهم كَانُوا

{وَلكُل أمة اجل فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بني آدم إِمَّا يَأْتينكُمْ رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم آياتي فَمن اتَّقى وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم} ينسبون كل مَا ارتكبوا من الْفَوَاحِش والإشراك إِلَى الله - تَعَالَى - وَيَقُولُونَ: نفعله بِأَمْر الله؛ فَهَذَا قَوْلهم على الله مَا لَا يعلمُونَ.

34

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلكُل أمة أجل} يَعْنِي: مُدَّة الْعُمر {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فَإِن قيل: لم خص السَّاعَة، وهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ دون السَّاعَة، وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ؟ قيل: إِنَّمَا خصها لِأَنَّهَا أقل الْأَوْقَات الْمَعْلُومَة.

35

قَوْله - تَعَالَى -: {يَا بني آدم إِمَّا يَأْتينكُمْ} فَقَوله: " إِمَّا " كلمتان: " إِن " و " مَا " فأدغمت إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى، وَمَعْنَاهُ: مَتى يأتكم، وَإِن يأتكم {رسل مِنْكُم} قيل: أَرَادَ بِهِ رَسُولنَا خَاصَّة، وَقيل: كل الرُّسُل {يقصون عَلَيْكُم آياتي فَمن اتَّقى وَأصْلح} أَي: اتَّقى الشّرك، وَأصْلح مَا بَينه وَبَين ربه {فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} .

36

قَوْله - تَعَالَى -: {وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا} وَإِنَّمَا ذكر الاستكبار؛ لِأَن كل مكذب وكل كَافِر مستكبر، وَإِنَّمَا كذب وَكفر تكبرا، قَالَ الله - تَعَالَى - {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} أَي: استكبروا عَن الْإِقْرَار بالوحدانية {أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} .

37

قَوْله - تَعَالَى -: {فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته} وَقد بَينا هَذَا الافتراء {أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب} فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا - وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس: ينالهم مَا قدر لَهُم من خير وَشر. وَالثَّانِي: قَول مُجَاهِد: ينالهم مَا وعدوا من خير وَشر. وَالثَّالِث: قَول سعيد بن جُبَير: ينالهم مَا قضى لَهُم من الشقاوة والسعادة. وَالرَّابِع: قَول مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَرَادَ بِهِ: الْأَجَل وَالْعَمَل والرزق.

{يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (36) فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته أُولَئِكَ ينالهم نصِيبهم من الْكتاب حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم رسلنَا يتوفونهم قَالُوا أَيْن مَا كُنْتُم تدعون من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين (37) قَالَ ادخُلُوا فِي أُمَم قد خلت من قبلكُمْ من الْجِنّ وَالْإِنْس فِي النَّار كلما دخلت أمة لعنت أُخْتهَا حَتَّى إِذا} وَفِيه قَول خَامِس مَعْرُوف: ينالهم نصِيبهم من الْعَذَاب الْمَذْكُور فِي الْكتاب؛ فَإِنَّهُ ذكر فِي الْكتاب عَذَاب الْفرق من الْكفَّار مثل: الْمُنَافِقين وَالْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكين. {حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم رسلنَا يتوفونهم} يَعْنِي: ملك الْمَوْت وأعوانه {يتوفونهم} أَي: يتوفون عدد آجالهم {قَالُوا أَيْن مَا كُنْتُم تدعون من دون الله} يَعْنِي: الرُّسُل يَقُولُونَ للْكفَّار: أَيْن الَّذين كُنْتُم تدعون من دون الله من الْأَصْنَام؟ {قَالُوا ضلوا عَنَّا} أَي: ذَهَبُوا وفاتوا عَنَّا {وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين} .

38

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ ادخُلُوا فِي أُمَم} يَعْنِي: مَعَ أُمَم، وَهُوَ مثل قَول امْرِئ الْقَيْس: (وَهل ينعمن من كَانَ أقرب عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال) أَي: مَعَ ثَلَاثَة أَحْوَال: وَقيل: مَعْنَاهُ: ادخُلُوا بَين أُمَم (قد خلت) أَي: مَضَت {من قبلكُمْ من الْجِنّ وَالْإِنْس فِي النَّار} وَفِيه دَلِيل على أَن الْجِنّ يموتون كالإنس؛ خلافًا لقَوْل الْحسن، حَيْثُ قَالَ: لَا يموتون. {كلما دخلت أمة لعنت أُخْتهَا} قَالَ الْفراء: يَعْنِي: أُخْتهَا فِي الدّين لَا فِي النّسَب، يَعْنِي: يلعن الْيَهُود الْيَهُود، وَالنَّصَارَى النَّصَارَى. {حَتَّى إِذا اداركوا} أَي: تداركوا وتتابعوا واجتمعوا {فِيهَا جَمِيعًا قَالَت أخراهم لأولاهم} أَرَادَ بِهِ: أُخْرَى كل أمة، وَأولى كل أمة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: آخِرهم دُخُولا، وأولهم دُخُولا، وهم القادة مَعَ الأتباع؛ فَإِن القادة يدْخلُونَ أَولا.

{فضل فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكسبون (39) إِن الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط وَكَذَلِكَ نجزي الْمُجْرمين (40) لَهُم من جَهَنَّم مهاد وَمن فَوْقهم غواش وَكَذَلِكَ نجزي الظَّالِمين} {رَبنَا هَؤُلَاءِ أضلونا} يَعْنِي: القادة أضلونا {فآتهم عذَابا ضعفا من النَّار} أَي: ضاعف لَهُم الْعَذَاب {قَالَ لكل ضعف وَلَكِن لَا تعلمُونَ} بِالتَّاءِ فَقَوله {وَلَكِن لَا تعلمُونَ} يَعْنِي: أَيهَا النَّاس لَا تعلمُونَ، أما من قَرَأَ بِالْيَاءِ فَمَعْنَاه: لَا يعلم القادة مَا للأتباع وَلَا الأتباع الأتباع مَا للقادة.

39

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَت أولاهم} يَعْنِي: القادة {لأخراهم} يَعْنِي: الأتباع {فَمَا كَانَ لكم علينا من فضل} قَالَ السّديّ: مَعْنَاهُ: أَنكُمْ كَفرْتُمْ، كَمَا كفرنا، وجحدتم كَمَا جحدنا، فَلَيْسَ لكم علينا من فضل، وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا كَانَ لكم علينا من فضل فِي تَخْفيف الْعَذَاب {فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكسبون} .

40

قَوْله - تَعَالَى -: {إِن الَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب السَّمَاء} اعْلَم أَن أَبْوَاب السَّمَاء تفتح لثَلَاثَة: للأعمال، والأدعية، والأرواح، وَفِي الْخَبَر. " أَن الْملك يصعد بِروح الْمُؤمن، وَلها ريح طيبَة؛ فتفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، ويصعد بِروح الْكَافِر، وَلها ريح مُنْتِنَة؛ فتغلق لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، وَيُؤمر بطرحها فِي السجين فَذَلِك قَوْله - تَعَالَى -: ( {كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين} كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين) " وَمعنى الْآيَة: أَنه لَا تفتح أَبْوَاب السَّمَاء لأعمال الْكفَّار وأدعيتهم وأرواحهم.

( {41) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة} وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا تفتح لَهُم أَبْوَاب الْجنَّة، لَكِن عبر عَنْهَا بِأَبْوَاب السَّمَاء؛ لِأَن أَبْوَاب الْجنَّة فِي السَّمَاء. {وَلَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " يلج الْجمل " بِرَفْع الْجِيم وَتَشْديد الْمِيم، وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير: " حَتَّى يلج الْجمل " بِرَفْع الْجِيم مُخَفّفَة الْمِيم، وَقَرَأَ ابْن سِيرِين: " فِي سم الْخياط " بِرَفْع السِّين، وَالْمَعْرُوف {حَتَّى يلج الْجمل فِي سم الْخياط} وَهُوَ الْجمل الْمَعْرُوف، وَسُئِلَ ابْن مَسْعُود عَن هَذَا الْجمل فَقَالَ: هُوَ زوج النَّاقة، كَأَنَّهُ استحمق السَّائِل حِين سَأَلَهُ عَمَّا لَا يخفى، ويحكى عَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ الأشطر الَّذِي عَلَيْهِ جولقان أسودان، وَأما الْجمل الَّذِي قَرَأَهُ ابْن مَسْعُود: فَهُوَ قلس السَّفِينَة، وَأما الْجمل بِالتَّخْفِيفِ، قيل: هُوَ أَيْضا قلس السَّفِينَة، وَقيل: هُوَ حَبل السَّفِينَة، وَأما السم والسم وَاحِد، وَهُوَ ثقبة الْمخيط، وَالْمرَاد بِالْآيَةِ: تَأْكِيد منع دُخُولهمْ الْجنَّة، وَذَلِكَ سَائِر فِي كَلَام الْعَرَب، وَهُوَ مثل قَوْلهم: لَا أفعل كَذَا حَتَّى يشيب الْغُرَاب، وَحَتَّى يبيض القار، وَقَالَ الشَّاعِر: (إِذا شَاب الْغُرَاب أتيت أَهلِي ... وَصَارَ القار كاللبن الحليب) والقار والقير: شَيْء أسود، يضْرب بِهِ الْمثل، يُقَال: شَيْء كالقير والقار فِي السوَاد {وَكَذَلِكَ نجزي الْمُجْرمين} .

41

قَوْله - تَعَالَى -: {لَهُم من جَهَنَّم مهاد} أَي: فرش {وَمن فَوْقهم غواش} أَي: لحف وَهَذَا مثل قَوْله: {لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار وَمن تَحْتهم ظلل} . قَالَ سِيبَوَيْهٍ - رَحمَه الله -: التَّنْوِين فِي قَوْله {غواش} غير أُصَلِّي، وَإِنَّمَا هُوَ بدل عَن الْيَاء وَأَصله: " غواشي " وَمثله كثير ( {وَكَذَلِكَ نجزي الظَّالِمين}

42

وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا) أَي: طاقتها {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ} .

{هم فِيهَا خَالدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله لقد جَاءَت رسل رَبنَا}

43

قَوْله - تَعَالَى -: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صدروهم من غل تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار} . الغل الْغِشّ والحقد، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أَرْجُو أَن أكون أَنا وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر من الَّذين قَالَ الله - تَعَالَى -: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صدروهم من غل} . وروى مُسلم فِي الصَّحِيح بِإِسْنَادِهِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ عَن الصِّرَاط حبسوا على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، فيقتص بَعضهم من بعض، حَتَّى إِذا نقوا وهذبوا، أذن لَهُم فِي دُخُول الْجنَّة؛ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ، لأَحَدهم أهْدى إِلَى منزله فِي الْجنَّة مِنْهُ إِلَى منزله فِي الدُّنْيَا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن على بَاب الْجنَّة عينا يشرب مِنْهَا أهل الْجنَّة ويغتسلون؛ فَيذْهب الغل والحقد من قُلُوبهم، ثمَّ يدْخلُونَ الْجنَّة ". {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} ، وَفِي هَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة {لقد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ ونودوا أَن تلكم الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} تِلْكَ تَأْنِيث ذَلِك، وَمعنى الْآيَة: كَأَنَّهُمْ إِذا رَأَوْا الْجنَّة من بعيد نُودُوا: أَن تلكم الْجنَّة، وَقيل: هَذَا النداء يكون فِي الْجنَّة، فينادون: هَذِه الْجنَّة الَّتِي أورثتموها، وَفِي الْخَبَر: " أَن لكل وَاحِد منزلا فِي الْجنَّة ومنزلا فِي النَّار، ثمَّ يَرث الْمُؤمن من الْكَافِر منزله فِي الْجنَّة، وَيَرِث الْكَافِر من الْمُؤمن منزله فِي النَّار ".

{بِالْحَقِّ ونودوا أَن تلكم الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ (43) ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا فَهَل جدتم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم فَأذن مُؤذن بَينهم أَن لعنة الله على الظَّالِمين (44) الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله}

44

قَوْله - تَعَالَى -: {ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا} وَهَذَا قبل التطبيق على جَهَنَّم {قَالُوا نعم} وَقد بَينا أَن جَوَاب الِاسْتِفْهَام الَّذِي فِيهِ جحد: " بلَى "، وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تجحد: " نعم " {فَأذن مُؤذن بَينهم أَن لعنة الله على الظَّالِمين} .

45

{الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله} أَي: يعرضون عَن الدّين {ويبغونها عوجا} أَي: يطْلبُونَ الدّين بالزيغ، والعوج بِمَعْنى الزيغ هَا هُنَا ( {وهم بِالآخِرَة كافرون}

46

وَبَينهمَا حجاب) وَهُوَ حجاب بَين الْجنَّة وَالنَّار. {وعَلى الْأَعْرَاف رجال} قيل: الْأَعْرَاف: سور بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَذَلِكَ قَوْله: {فَضرب بَينهم بسور} وَقيل: هُوَ مَكَان مُرْتَفع، وَالْأول أصح، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ. وَأما الرِّجَال الَّذين على الْأَعْرَاف، اخْتلفُوا فيهم، قَالَ ابْن مَسْعُود، وَحُذَيْفَة، وَعَطَاء: هم قوم اسْتَوَت حسناتهم وسيئاتهم، وَقَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد، هم قوم من الْمَلَائِكَة فِي صُورَة رجال من الْإِنْس، وَحكى مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هم قوم غزوا بِغَيْر إِذن آبَائِهِم، فاستشهدوا، فبقوا على الْأَعْرَاف تمنع شَهَادَتهم دُخُولهمْ النَّار، وَيمْنَع عصيانهم الْآبَاء دُخُولهمْ الْجنَّة ".

{ويبغونها عوجا وهم بِالآخِرَة كافرون (45) وَبَينهمَا حجاب وعَلى الْأَعْرَاف رجال يعْرفُونَ كلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَاب الْجنَّة أَن سَلام عَلَيْكُم لم يدخلوها وهم يطمعون (46) وَإِذا صرفت أَبْصَارهم تِلْقَاء أَصْحَاب النَّار قَالُوا رَبنَا لَا تجعلنا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين (47) ونادى أَصْحَاب الْأَعْرَاف رجَالًا يعرفونهم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أغْنى عَنْكُم جمعكم} وَقَالَ الْحسن: هم أهل الْفضل من الْمُؤمنِينَ، جعلُوا على الْأَعْرَاف؛ فيطلعون على أهل الْجنَّة وَالنَّار، يطالعون أَحْوَال الْفَرِيقَيْنِ {يعْرفُونَ كلا بِسِيمَاهُمْ} أَي: يعْرفُونَ أهل الْجنَّة ببياض وُجُوههم، وَأهل النَّار بسواد وُجُوههم. {وَنَادَوْا أَصْحَاب الْجنَّة أَن سَلام عَلَيْكُم} فَإِذا رَأَوْا أهل الْجنَّة قَالُوا: سَلام عَلَيْكُم {لم يدخلوها} يَعْنِي: أَصْحَاب الْأَعْرَاف لم يدخلُوا الْجنَّة {وهم يطمعون} يَعْنِي: فِي دُخُول الْجنَّة، قَالَ الْحسن: الَّذِي جعل الطمع فِي قُلُوبهم يوصلهم إِلَى مَا يطمعون. وَقَالَ حُذَيْفَة - رَضِي الله عَنهُ: لَا يخيب الله أطماعهم.

47

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذا صرفت أَبْصَارهم تِلْقَاء أَصْحَاب النَّار قَالُوا رَبنَا لَا تجعلنا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} يَعْنِي: إِذا اطلعوا على أهل النَّار، وَمَا هم فِيهِ؛ استعاذوا بِاللَّه من النَّار.

48

قَوْله - تَعَالَى -: {ونادى أَصْحَاب الْأَعْرَاف رجَالًا يعرفونهم بِسِيمَاهُمْ} قيل: إِنَّهُم يرَوْنَ الْكفَّار؛ فيعرفونهم، مثل: الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَأبي جهل، وَأبي لَهب، وَنَحْوهم فينادونهم {قَالُوا مَا أغْنى عَنْكُم جمعكم} يَعْنِي: مَا نفعكم اجتماعكم وتظاهركم فِي الدُّنْيَا {وَمَا كُنْتُم تستكبرون} .

49

قَوْله - تَعَالَى -: {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة} وَذَلِكَ حِين قَالُوا

{وَمَا كُنْتُم تستكبرون (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ (49) ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة أَن أفيضوا علينا من المَاء أَو مِمَّا رزقكم الله قَالُوا إِن الله حرمهما على الْكَافرين (50) الَّذين} للْكفَّار مَا قَالُوا، ثمَّ ينظرُونَ إِلَى أهل الْجنَّة؛ فيرون خبابا، وَعمَّارًا، وبلالا، وصهيبا وَنَحْوهم، فَيَقُول أَصْحَاب الْأَعْرَاف لأولئك الْكفَّار: {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة} يَعْنِي: أَهَؤُلَاءِ الَّذين حلفتم أَنهم لَا يدْخلُونَ الْجنَّة، وَقد دخلُوا، يَعْنِي: خبابا، وَعمَّارًا، وَنَحْوهمَا. ثمَّ يَقُول الله - تَعَالَى -: {ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ} وَفِيه قَول آخر: أَن أَصْحَاب الْأَعْرَاف إِذا قَالُوا لأولئك الْكفَّار مَا قَالُوا؛ يَقُول الْكفَّار لَهُم: إِن دخلُوا أُولَئِكَ الْجنَّة وَنحن فِي النَّار فَأنْتم لم تدْخلُوا الْجنَّة بعد، فيعيرونهم على ذَلِك، ويحلفون أَنهم (لَا يدْخلُونَ) الْجنَّة؛ فَيَقُول الله - تَعَالَى - لأولئك الْكفَّار: {أَهَؤُلَاءِ الَّذين أقسمتم لَا ينالهم الله برحمة ادخُلُوا الْجنَّة لَا خوف عَلَيْكُم} يَقُوله لأَصْحَاب الْأَعْرَاف؛ فيدخلهم الْجنَّة {وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ} .

50

قَوْله - تَعَالَى -: {ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة أَن أفيضوا علينا من المَاء أَو مِمَّا رزقكم الله} فِي هَذَا دَلِيل على أَنهم كَمَا يُعَذبُونَ بالنَّار؛ فَيكون عَلَيْهِم عَذَاب الْجُوع والعطش مَعَ عَذَاب النَّار؛ حَتَّى يسْأَلُوا الطَّعَام وَالشرَاب. وَفِي الْخَبَر " أَن الرجل من أهل النَّار يرى أَخَاهُ أَو قرينه فِي الْجنَّة؛ فَيَقُول لَهُ من النَّار: يَا أخي أَغِثْنِي بِشَربَة مَاء فقد احترقت. فَيَقُول: إِن الله حرمه على الْكَافرين؛ فَذَلِك قَول الله - تَعَالَى -: {قَالُوا إِن الله حرمهما على الْكَافرين} يَعْنِي: الطَّعَام وَالشرَاب، وَهَذَا تَحْرِيم منع لَا تَحْرِيم تعبد، وَاعْلَم أَن لسقي المَاء أجر عَظِيم، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سقى مُؤمنا شربة مَاء؛ بعده الله من جَهَنَّم شوط فرس ".

{اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم ننساهم كَمَا نسوا لِقَاء يومهم هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون (51) وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب فصلناه على علم هدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (52) هَل ينظرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله يَقُول الَّذين نسوه من قبل قد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ فَهَل لنا من شُفَعَاء فيشفعوا لنا أَو نرد فنعمل غير الَّذِي كُنَّا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (53) إِن ربكُم الله الَّذِي خلق}

51

قَوْله - تَعَالَى -: {الَّذين اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَعْنَاهُ: أكلا وشربا، قَالَه عبد الله بن الْحَارِث، وَقيل: مَعْنَاهُ: الَّذين كَانَت همتهم الدُّنْيَا، واشتغالهم بهَا؛ فهم الَّذين اتَّخذُوا دينهم لهوا وَلَعِبًا، وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا. {فاليوم ننساهم} أَي: نتركهم {كَمَا نسوا لِقَاء يومهم هَذَا} أَي: كَمَا تركُوا الْعَمَل للقاء يومهم هَذَا {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون} .

52

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب} أَي: أتيناهم بِالْقُرْآنِ {فصلناه} أَي: بَينا مَا فِيهِ من الْحَلَال وَالْحرَام {على علم} أَي: على علم بِمَا يصلحهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: على علم بالثواب وَالْعِقَاب {هدى} أَي: هاديا {وَرَحْمَة} أَي: ذُو رَحْمَة {لقوم يُؤمنُونَ} .

53

قَوْله - تَعَالَى -: {هَل ينظرُونَ} أَي: هَل ينتظرون {إِلَّا تَأْوِيله} قَالَ مُجَاهِد: (مَعْنَاهُ) إِلَّا جزاءه، وَقَالَ قَتَادَة: إِلَّا عاقبته، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنهم هَل ينتظرون إِلَّا مَا يؤول إِلَيْهِ أَمرهم من مصير أهل الْجنَّة إِلَى الْجنَّة، وَأهل النَّار إِلَى النَّار {يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله} أَي: جَزَاؤُهُ، وَمَا يؤول إِلَيْهِ أَمرهم. {يَقُول الَّذين نسوه} أَي: تَرَكُوهُ من قبل {قد جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ} اعْتَرَفُوا بِهِ حِين لَا يَنْفَعهُمْ الِاعْتِرَاف {فَهَل لنا من شُفَعَاء فيشفعوا لنا أَو نرد} يَعْنِي: إِلَى الدُّنْيَا {فنعمل غير الَّذِي كُنَّا نعمل} {قد خسروا أنفسهم} أَي: نَقَصُوا حق أنفسهم {وضل عَنْهُم} أَي: ذهب وَفَاتَ عَنْهُم {مَا كَانُوا يفترون} .

{السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يغشي اللَّيْل النَّهَار يَطْلُبهُ حثيثا}

54

قَوْله تَعَالَى: {إِن ربكُم الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} . قَالَ مُجَاهِد: هِيَ من يَوْم الْأَحَد إِلَى الْجُمُعَة، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: فِي سِتَّة أَيَّام، وَلم تكن أَيَّام حِين خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قيل: وَمَا يُدْرِينَا أَنَّهَا لم تكن، بل كَانَت؛ فَإِن الله - تَعَالَى - أخبر، وَقَوله وَخَبره صدق، وَقيل: يجوز أَن يكون المُرَاد بِهِ على تَقْدِير سِتَّة أَيَّام، فَإِن قيل: وَمَا الْحِكْمَة فِي خلقهَا فِي سِتَّة أَيَّام، وَكَانَ قَادِرًا على خلقهَا فِي طرفَة عين؟ قيل: لِأَن خلقهَا على التأني أدل على الْحِكْمَة، فخلقها على التأني ليَكُون أدل على حكمته، ولطف تَدْبيره، وَفِيه أَيْضا تَعْلِيم النَّاس، وتنبيه الْعباد على التأني فِي الْأُمُور، وَفِي الْخَبَر " التأني من الله، والعجلة من الشَّيْطَان ". {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} أول الْمُعْتَزلَة الاسْتوَاء بِالِاسْتِيلَاءِ، وأنشدوا فِيهِ: (قد اسْتَوَى بشر على الْعرَاق ... من غير سيف وَدم مهراق) (وَأما أهل السّنة فيتبرءون من هَذَا التَّأْوِيل، وَيَقُولُونَ: إِن الاسْتوَاء على الْعَرْش صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، كَذَلِك يحْكى عَن مَالك بن أنس، وَغَيره من السّلف، أَنهم قَالُوا فِي هَذِه الْآيَة: الْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة. {يغشى اللَّيْل النَّهَار} أَي: يُغطي اللَّيْل على النَّهَار، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: يغشي اللَّيْل النَّهَار، ويغشي النَّهَار اللَّيْل؛ كَمَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ( {يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل} يَطْلُبهُ حثيثا) أَي: سَرِيعا، وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ

{وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين (54) ادعوا ربكُم تضرعا وخفية إِنَّه لَا يحب الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وَطَمَعًا إِن رحمت الله قريب من الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ} يعقب أَحدهمَا الآخر، ويخلفه على أَثَره فَكَأَنَّهُ فِي طلبه. {وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره} أَي: مذللات بِمَا أُرِيد مِنْهَا {أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر تبَارك الله رب الْعَالمين} أَي: تَعَالَى بالوحدانية.

55

قَوْله - تَعَالَى -: {ادعوا ربكُم تضرعا وخفية} أَي: ضارعين متذللين خاشعين، وخفية أَي: سرا {إِنَّه لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} قَالَ ابْن جريج: الْجَهْر بِالدُّعَاءِ عدوان، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " سَيكون أَقوام يعتدون فِي الطّهُور وَالدُّعَاء " وروى: " أَنه رأى أَقْوَامًا يصيحون بِالدُّعَاءِ، فَقَالَ لَهُم: أربعوا على أَنفسكُم، فَإِنَّكُم لَا تدعون [أصما] وَلَا غَائِبا، وَإِنَّمَا تدعون سميعا قَرِيبا، وَهُوَ مَعكُمْ " بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَقيل: من الاعتداء فِي الدُّعَاء: أَن يسْأَل لنَفسِهِ دَرَجَة لَيْسَ من أَهلهَا؛ بِأَن يسْأَل دَرَجَة الْأَنْبِيَاء، وَلَيْسَ بِنَبِي، ودرجة الشُّهَدَاء، وَلَيْسَ بِشَهِيد.

56

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها} أَي: بعد إصْلَاح الأَرْض بِالدّينِ والشريعة، وَقَالَ الضَّحَّاك: من الْفساد فِي الأَرْض تغوير الْمِيَاه، وَقطع الْأَشْجَار المثمرة، وَكسر الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير. {وادعوه خوفًا وَطَمَعًا} أَي: خوفًا من الله وَطَمَعًا لثوابه {إِن رَحْمَة الله قريب

{الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح بشرا بَين يَدي رَحمته حَتَّى إِذا أقلت سَحَاب اثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات كَذَلِك نخرج الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} من الْمُحْسِنِينَ) فَإِن قيل: الْقَرِيب نعت الْمُذكر، وَالرَّحْمَة مُؤَنّثَة، وَالله - تَعَالَى - قَالَ: قريب، وَلم يقل: قريبَة؛ قيل: قَالَ الزّجاج: الرَّحْمَة هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَفو والغفران، وَقَالَ الْأَخْفَش: هِيَ بِمَعْنى الإنعام؛ فَيكون النَّعْت رَاجعا إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، قَالَ الْفراء: إِذا كَانَ الْقرب فِي النّسَب؛ فنعت الْمُؤَنَّث مِنْهُ يكون على التَّأْنِيث، وَأما الْقرب فِي غير النّسَب؛ فالنعت مِنْهُ يذكر وَيُؤَنث، وانشدوا فِيهِ: (عَشِيَّة لَا عفراء مِنْك قريبَة ... فتدنو وَلَا عفراء مِنْك بعيد) فَذكر النَّعْت مرّة على التَّأْنِيث، وَمرَّة على التَّذْكِير.

57

قَوْله - تَعَالَى -: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح بشرا} يقْرَأ: " بشرا " من الْبشَارَة، وَيقْرَأ: " نشرا " وَهُوَ جمع النشور، كالرسول وَالرسل، وَذَلِكَ ريح طيبَة، وَيقْرَأ: " نشرا " بجزم الشين، وَهُوَ جمع النشور أَيْضا كالرسول وَالرسل وَالْكتاب والكتب. {بَين يَدي رَحمته} يَعْنِي: الْمَطَر {حَتَّى إِذا أقلت} أَي: حملت: {سحابا ثقالا} يَعْنِي: بِالْمَاءِ {سقناه لبلد ميت فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات كَذَلِك نخرج الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} اسْتدلَّ بإحياء الأَرْض بعد مَوتهَا على إحْيَاء الْمَوْتَى، وَفِي ذَلِك دَلِيل بَين، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن بَين النفختين أَرْبَعِينَ عَاما فَيُرْسل الله - تَعَالَى - مَطَرا من السَّمَاء كَمثل منى الرِّجَال، فَيدْخل الأَرْض؛ فينبت مِنْهُ النَّاس، ثمَّ يحشرون بالنفخة الثَّانِيَة ".

( {57) والبلد الطّيب يخرج نَبَاته بِإِذن ربه وَالَّذِي خبث لَا يخرج إِلَّا نكدا كَذَلِك نصرف الْآيَات لقوم يشكرون (58) لقد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم (59) قَالَ الْمَلأ من قومه إِنَّا لنراك فِي ضلال مُبين (60) قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي ضَلَالَة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (61) أبلغكم رسالات رَبِّي وأنصح لكم وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ (62) أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63) }

58

قَوْله - تَعَالَى -: {والبلد الطّيب يخرج نَبَاته بِإِذن ربه} {وَالَّذِي خبث} يَعْنِي: الأَرْض السبخة {لَا يخرج إِلَّا نكدا} أَي: نزرا قَلِيلا، قَالَ الشَّاعِر: (فأعط مَا أَعْطيته طيبا ... لَا خير فِي المنكود والناكد) وَهَذَا مثل ضربه الله - تَعَالَى - للْمُؤْمِنين وللكافرين؛ فَإِن الْمُؤمن يخرج مَا يخرج من نَفسه من الْإِيمَان والخيرات سهلا سَمحا، وَالْكَافِر يخرج مَا يخرج من الْخيرَات نزرا قَلِيلا {كَذَلِك نصرف الْآيَات لقوم يشكرون} .

59

قَوْله - تَعَالَى -: {لقد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم} ذكر فِي هَذِه الْآيَة قصَّة نوح وَقَومه، وَسَيَأْتِي.

60

{قَالَ الْمَلأ من قومه إِنَّا لنراك فِي ضلال مُبين، قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي ضَلَالَة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين} علم الله - تَعَالَى - النَّاس بِذكر قَوْله حسن الْجَواب، حَيْثُ قَالَ: " لَيْسَ بِي ضَلَالَة " وَلم يقل: أَنْتُم الضلال، كَمَا جرت عادتنا.

62

قَوْله - تَعَالَى -: {أبلغكم رسالات رَبِّي وأنصح لكم} النصح: هُوَ أَن يُرِيد لغيره من الْخَيْر مثل مَا يُرِيد لنَفسِهِ، وَمَعْنَاهُ: أرشدكم أَنِّي أُرِيد لنَفْسي مَا أُرِيد لكم {وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ} .

63

قَوْله - تَعَالَى -: {أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم} الْعجب: هُوَ تَغْيِير النَّفس عِنْد رُؤْيَة أَمر خَفِي عَلَيْهِ بَاطِنه {ولتتقوا ولعلكم ترحمون

64

فَكَذبُوهُ فأنجيناه وَالَّذين مَعَه فِي الْفلك) أَي: فِي السَّفِينَة.

{فَكَذبُوهُ فأنجيناه وَالَّذين مَعَه فِي الْفلك وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين (64) وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هودا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون (65) قَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه إِنَّا لنراك فِي سفاهة وَإِنَّا لنظنك من الْكَاذِبين (66) قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي سفاهة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (67) أبلغكم رسالات رَبِّي وَأَنا لكم نَاصح أَمِين (68) أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم فِي الْخلق بصطة فاذكروا} {وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} وَسَتَأْتِي الْقِصَّة {إِنَّهُم كَانُوا قوما عمين} أَي: عَن الْحق.

65

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِلَى عَاد} أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد {أَخَاهُم هودا} قَالَ الْفراء: كَانَ أَخَاهُم فِي النّسَب لَا فِي الدّين، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: كَانَ آدَمِيًّا مثلهم {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون} .

66

{قَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه إِنَّا لنراك فِي سفاهة} أَي: فِي حمق وجهالة {وَإِنَّا لنظنك من الْكَاذِبين

67

قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي سفاهة وَلَكِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين) وَهُوَ أَيْضا من حسن الْجَواب

68

{أبلغكم رسالات رَبِّي وَأَنا لكم نَاصح أَمِين} وَقد بَينا معنى النصح.

69

قَوْله - تَعَالَى -: {أَو عجبتم أَن جَاءَكُم ذكر من ربكُم على رجل مِنْكُم لينذركم واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء} يَعْنِي: فِي الأَرْض {من بعد قوم نوح} أَي: من بعد إهلاكهم. (وزادكم فِي الْخلق بسطة) وَأَرَادَ بِهِ: البسطة فِي الطول، قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق ابْن يسَار وَالسُّديّ: كَانَت قامة الطَّوِيل من قوم عَاد مائَة ذِرَاع، وقامة الْقصير مِنْهُم سِتِّينَ ذِرَاعا {فاذكروا آلَاء الله لَعَلَّكُمْ تفلحون} .

{آلَاء الله لَعَلَّكُمْ تفلحون (69) قَالُوا أجئتنا لنعبد الله وَحده وَنذر مَا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين (70) قَالَ قد وَقع عَلَيْكُم من ربكُم رِجْس وَغَضب أتجادلونني فِي أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا نزل الله بهَا من سُلْطَان فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (71) فأنجيناه وَالَّذين مَعَه برحمة منا وقطعنا دابر الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين (72) وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب أَلِيم (73) واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء

70

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا أجئتنا لنعبد الله وَحده وَنذر مَا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا} يَعْنِي: من الْأَصْنَام {فأتنا بِمَا تعدنا} أَي: من الْعَذَاب {إِن كنت من الصَّادِقين} .

71

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ قد وَقع عَلَيْكُم من ربكُم رِجْس وَغَضب} الرجس وَالرجز: هُوَ الْعَذَاب، وَالْغَضَب: السخط {آأتجادلونني فِي أَسمَاء} أَي: لأجل أَسمَاء {سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} أَي الْأَصْنَام نحتموها وسميتموها أَنْتُم وآباؤكم {مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان} أَي: برهَان ( {فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين}

72

فأنجيناه وَالَّذين مَعَه) هودا وَقَومه {برحمة منا وقطعنا دابر الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمنين} أَي: قَطعنَا أصلهم، واستأصلناهم بِالْعَذَابِ.

73

قَوْله - تَعَالَى - {وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم} أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم {صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} سَأَلُوهُ أَن يخرج من الصَّخْرَة نَاقَة، وأشاروا إِلَى صَخْرَة صماء ملساء؛ فَدَعَا صَالح - عَلَيْهِ السَّلَام - فتمخضت الصَّخْرَة كَمَا تتمخض الحبلى، وأخرجت النَّاقة؛ فَخرجت ألفت " سقبا " من ساعتها {فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله} قيل: كَانَ لَهُم وَاد يشربون مِنْهُ فَجعلُوا يَوْمًا للناقة، وَيَوْما لَهُم؛ فَتَشرب النَّاقة يَوْمهَا جَمِيع مَاء الْوَادي، وتبدلهم بذلك لَبَنًا {وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب أَلِيم} .

(من بعد عَاد وبوأكم فِي الأَرْض تَتَّخِذُونَ من سهولها قصورا وتنحتون الْجبَال بُيُوتًا فاذكروا آلَاء الله وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (74) قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه للَّذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُم أتعلمون أَن صَالحا مُرْسل من ربه قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسل بِهِ مُؤمنُونَ (75) قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آمنتم بِهِ كافرون (76) فعقروا النَّاقة وعتوا عَن أَمر رَبهم وَقَالُوا يَا صَالح ائتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الْمُرْسلين (77))

74

قَوْله - تَعَالَى -: {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد عَاد وبوأكم فِي الأَرْض} أَي: أنزلكم، قَالَ الشَّاعِر: (فبوئت فِي صميم معشرها ... فتم فِي قَومهَا مبوؤها) {تَتَّخِذُونَ من سهولها قصورا وتنحتون الْجبَال بُيُوتًا} كَانُوا فِي الصَّيف يسكنون فِي بيُوت من الطين، وَفِي الشتَاء يسكنون فِي بيُوت نحتوها فِي الْجَبَل، وَقيل: إِنَّمَا كَانُوا ينحتون الْبيُوت فِي الْجَبَل؛ لِأَن بيُوت الطين مَا كَانَت تبقى مُدَّة أعمارهم؛ لطول أعمارهم. {فاذكروا آلَاء الله} أَي نعم الله {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} العيث: أَشد الْفساد.

75

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه للَّذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُم} يَعْنِي: قَالَ الْكفَّار مِنْهُم للْمُؤْمِنين {أتعلمون أَن صَالحا مُرْسل من ربه} وَهَذَا اسْتِفْهَام أُرِيد بِهِ الْجحْد؛ لأَنهم كَانُوا يجحدون إرْسَاله {قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسل بِهِ مُؤمنُونَ

76

قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آمنتم بِهِ كافرون فعقروا النَّاقة وعتوا عَن أَمر رَبهم) العتو الغلو فِي الْبَاطِل {وَقَالُوا يَا صَالح ائتنا بِمَا تعدنا} أَي: من الْعَذَاب {إِن كنت من الْمُرْسلين فَأَخَذتهم الرجفة} الرجفة: زَلْزَلَة الأَرْض وحركتها، وَكَانُوا قد أهلكوا بالصيحة والرجفة {فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين} أَي: خامدين ميتين، وَمِنْه الرماد الجاثم، وَقيل: جاثمين أَي: خارين على ركبهمْ ووجوههم، وَقيل: إِنَّهُم احترقوا بالصاعقة حَتَّى صَارُوا كالرماد الجاثم.

{فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (78) فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رِسَالَة رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين (79) ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}

79

قَوْله - تَعَالَى -: {فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رِسَالَة رَبِّي وَنَصَحْت لكم وَلَكِن لَا تحبون الناصحين} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ خاطبهم وَقد هَلَكُوا؟ قيل: هُوَ كَمَا خَاطب الرَّسُول الْكفَّار الْقَتْلَى يَوْم بدر حِين ألقاهم فِي القليب؛ جَاءَ إِلَى رَأس الْبِئْر، وَقَالَ: " يَا عتبَة، يَا شيبَة، وَيَا أَبَا جهل، قد وجدت مَا وَعَدَني رَبِّي حَقًا؛ فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا؟ فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، كَيفَ تخاطب قوما قد جيفوا؟ فَقَالَ: مَا أَنْتُم بأسمع مِنْهُم؛ وَلَكنهُمْ لَا يقدرُونَ على الْإِجَابَة " وَقيل: إِنَّمَا خاطبهم بِهِ؛ ليَكُون عِبْرَة لمن خَلفهم، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: فَتَوَلّى عَنْهُم، فَأَخَذتهم الرجفة، فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين، وَذَلِكَ أَن الله - تَعَالَى - مَا كَانَ ليعذب قوما ونبيهم بَينهم. وروى أَبُو الزبير عَن جَابر: " أَن النَّبِي مر بمنازل ثَمُود فِي أَرَاضِي تَبُوك، فَقَالَ لأَصْحَابه: يَا أَيهَا النَّاس، لَا تسألوا الله الْآيَات؛ فَإِن هَؤُلَاءِ سَأَلُوا النَّاقة؛ فأخرجها الله لَهُم؛ فَكَانَت ترد من هَذَا الْفَج، وتصدر من هَذَا الْفَج، فَعَقَرُوهَا؛ فَأنْزل الله عَلَيْهِم الْعَذَاب فَلم ينج مِنْهُم أحد إِلَّا رجل كَانَ فِي الْحرم؛ فَلَمَّا خرج أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُم من الْعَذَاب وَكَانَ ذَلِك الرجل يكنى أَبَا رِغَال ".

80

قَوْله - تَعَالَى -: {ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أَي: وَأَرْسَلْنَا لوطا، وَاذْكُر لوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ {أتأتون الْفَاحِشَة} الْفَاحِشَة: الفعلة القبيحة الَّتِي هِيَ فِي غَايَة الْقبْح {مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين} قَالَ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: إِن تِلْكَ الفعلة لم

{أتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين (80) إِنَّكُم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من دون النِّسَاء بل أَنْتُم قوم مسرفون (81) وَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أخرجوهم من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون (82) فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين (83) وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين (84) وَإِلَى} يَفْعَلهَا أحد قبلهم

81

{إِنَّكُم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من دون النِّسَاء} فسر تِلْكَ الْفَاحِشَة {بل أَنْتُم قوم مسرفون} أَي: مجاوزون حد الْأَمر.

82

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أخرجوهم من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون} مَعْنَاهُ: يتنزهون عَن أدبار الرِّجَال، قَالَ قَتَادَة: ذموهم من غير ذمّ، وعابوهم من غير عيب.

83

قَوْله - تَعَالَى -: {فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين} أَي: من البَاقِينَ فِي الْعَذَاب؛ يُقَال: غبر إِذا بقى. وأنشدوا: (وَلست يَا معد فِي الرِّجَال ... أسائل هَذَا وَذَا مَا الْخَبَر) (وَلَكِنِّي مدده الْأَصْفَر بن قيس ... بِمَا قد مضى وَمَا غبر) وَقيل مَعْنَاهُ: من الغابرين عَن النجَاة.

84

قَوْله - تَعَالَى -: {وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا} فِي الْقِصَّة: أَن الله - تَعَالَى - أرسل جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - حَتَّى قلع مدينتهم، وَقيل: كَانَت مَدَائِن قلعهَا ورفعها إِلَى السَّمَاء ثمَّ قَلبهَا؛ وَبِذَلِك سموا مؤتفكة؛ لأَنهم قلبوا وأفكوا، وَأما الإمطار بِالْحِجَارَةِ، كَانَ على من شَذَّ مِنْهُم فِي الطّرق، وَقيل: بَعْدَمَا قلبهم أمط عَلَيْهِم بِالْحِجَارَةِ {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين} .

85

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِلَى مَدين} أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين، قيل: هُوَ مَدين بن إِبْرَاهِيم الْخَلِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَكَانَ أُولَئِكَ من نَسْله، وَقيل: لَيْسَ بِذَاكَ، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم قَبيلَة.

{مَدين أَخَاهُم شعيبا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله من لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين (85) وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون وتصدون عَن سَبِيل الله من آمن بِهِ وتبغونها عوجا واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَلِيلا فكثركم} وَقَوله: {أَخَاهُم شعيبا} أَي: فِي النّسَب لَا فِي الدّين {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم} فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله {قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم} وَلم تكن لَهُم آيَة؟ قيل: بل كَانَت لَهُم آيَة، إِلَّا أَنَّهَا لم تذكر فِي الْقُرْآن، وَلَيْسَت كل الْآيَات مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن {فأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان} وَكَانُوا يعْبدُونَ الْأَصْنَام، ويبخسون فِي الموازين {وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم} أَي: لَا تنقصوهم من حُقُوقهم. {وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض بعد إصلاحها} يَعْنِي: إصلاحها ببعث الرَّسُول وَالْأَمر بِالْعَدْلِ {ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين} يَعْنِي: إِن آمنتم فَذَلِك خير لكم، وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا كُنْتُم مُؤمنين.

86

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَا تقعدوا بِكُل صِرَاط توعدون} أَي: طَرِيق، قَالَ الشَّاعِر: (حشونا قَومهمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... جعلناهم أذلّ من الصِّرَاط) يَعْنِي: من الطَّرِيق. {توعدون وتصدون عَن سَبِيل الله} قيل: إِنَّهُم كَانُوا يبعثون إِلَى الطّرق من يهدد النَّاس، فَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ الْإِيمَان بشعيب وقصده يهددونه وَيَقُولُونَ: إِن آمَنت بشعيب نقتلك؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {توعدون} أَي: تهددون. والإيعاد: التهديد، وَأما الْوَعْد فيذكر فِي الْخَيْر وَالشَّر؛ إِذا ذكر الْخَيْر وَالشَّر مَقْرُونا بِهِ، فَأَما إِذا أطلق فَلَا يذكر إِلَّا فِي الْخَيْر، أما فِي الشَّرّ عِنْد الْإِطْلَاق، يُقَال: أوعد. {وتصدون عَن سَبِيل الله من آمن} أَي: تمْنَعُونَ عَن الدّين من قصد الْإِيمَان {وتبغونها عوجا} أَي: تطلبون الاعوجاج فِي الدّين، والعدول عَن الْقَصْد؛ قَالَه الزّجاج؛ وَذكر الْأَزْهَرِي فِي التَّقْرِيب: أَنه يُقَال: فِي الدّين عوج، وَفِي الْعود عوج.

{وانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين (86) وَإِن كَانَ طَائِفَة مِنْكُم آمنُوا بِالَّذِي أرْسلت بِهِ وَطَائِفَة لم يُؤمنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين (87) قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمنُوا مَعَك من قريتنا أَو لتعودن فِي ملتنا قَالَ أَو لَو كُنَّا كارهين (88) قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا وسع رَبنَا كل شَيْء علما} {واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَلِيلا فكثركم} أَي: فِي الْعدَد، وَقيل مَعْنَاهُ: إِذْ كُنْتُم قَلِيلا أَي: بِالْمَالِ؛ فكثركم بالغنى {وانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} أَي: مِمَّن كَانَ قبلكُمْ.

87

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِن كَانَ طَائِفَة مِنْكُم آمنُوا بِالَّذِي أرْسلت بِهِ وَطَائِفَة لم يُؤمنُوا} وَذَلِكَ أَن بَعضهم آمن، وَبَعْضهمْ كفر {فَاصْبِرُوا حَتَّى يحكم الله بَيْننَا وَهُوَ خير الْحَاكِمين} .

88

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمنُوا مَعَك من قريتنا أَو لتعودن فِي ملتنا} قَالَه كفار قومه {قَالَ أَو لَو كُنَّا كارهين} يَعْنِي: تَفْعَلُونَ هَذَا، وَإِن كُنَّا كارهين

89

{قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا} فَإِن قيل: كَيفَ يَصح لفظ الْعود من شُعَيْب، وَلم يكن على ملتهم قطّ؟ قيل مَعْنَاهُ: إِن صرنا فِي ملتكم، وَعَاد بِمَعْنى صَار وَكَانَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (لَئِن كَانَت الْأَيَّام أحسن مرّة ... [إِلَيّ] فقد عَادَتْ لَهُنَّ ذنُوب) أَي: كَانَت لَهُنَّ ذنُوب. وَقَوله: {بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا} يَعْنِي: من الدُّخُول فِي ملتهم ابْتِدَاء، وَقيل المُرَاد بِهِ: قوم شُعَيْب {وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا} فَإِن قيل: وَهل يَشَاء الله عودهم إِلَى الْكفْر؟ قيل: وَمَا الْمَانِع مِنْهُ؟ وَإِنَّمَا الْآيَة على وفْق قَول أهل السّنة، وكل ذَلِك جَائِز فِي الْمَشِيئَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: {وسع رَبنَا كل شَيْء علما على الله توكلنا رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ} أَي: اقْضِ بِالْحَقِّ، فَإِن قيل: كَيفَ طلب

{على الله توكلنا رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وَأَنت خير الفاتحين (89) وَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه لَئِن اتبعتم شعيبا إِنَّكُم إِذا لخاسرون (90) فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (91) الَّذين كذبُوا شعيبا كَأَن لم يغنوا فِيهَا الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين (92) فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رسالات رَبِّي وَنَصَحْت لكم فَكيف آسى على قوم كَافِرين (93) وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا} الْقَضَاء من الله بِالْحَقِّ، وَهُوَ لَا يقْضِي إِلَّا بِالْحَقِّ، وَقيل: لَيْسَ ذَلِك على طَرِيق طلب الْقَضَاء الْحق، وَإِنَّمَا هُوَ على نعت قَضَائِهِ بِالْحَقِّ؛ فَإِن صفة قَضَائِهِ الْحق، وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ} فِي سُورَة الْأَنْبِيَاء {وَأَنت خير الفاتحين} .

90

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه لَئِن اتبعتم شعيبا} يَعْنِي: فِي دينهم {إِنَّكُم إِذا لخاسرون

91

فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين) وَقد بَينا هَذَا فِي قصَّة ثَمُود.

92

قَوْله - تَعَالَى -: {الَّذين كذبُوا شعيبا كَأَن لم يغنوا فِيهَا} أَي: كَأَن لم يقيموا فِيهَا، يُقَال: غنيت بِموضع كَذَا، أَي أَقمت، والمغاني: الْمنَازل؛ قَالَه ثَعْلَب، وَقَالَ الشَّاعِر، وَهُوَ حَاتِم الطَّائِي: (عنينا زَمَانا بالتصعلك والغنى ... وكلا سقاناه بكأسيهما الدَّهْر) (فَمَا زادنا بأوا على ذِي قرَابَة ... غنانا وَلَا أزرى بأحسابنا الْفقر) وَقَالَ الْأَخْفَش: معنى قَوْله: {كَأَن لم يغنوا فِيهَا} أَي: كَأَن لم يتنعموا فِيهَا {الَّذين كذبُوا شعيبا كَانُوا هم الخاسرين

93

فَتَوَلّى عَنْهُم وَقَالَ يَا قوم لقد أبلغتكم رسالات رَبِّي وَنَصَحْت لكم فَكيف آسى) أَي: أَحْزَن {على قوم كَافِرين} .

94

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء} . قَالَ ابْن مَسْعُود: البأساء: الْفقر، وَالضَّرَّاء: الْمَرَض، وَهَذَا معنى قَول من قَالَ:

{أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يضرعون (94) ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة حَتَّى عفوا وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء فأخذناهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَكِن كذبُوا فأخذناهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أفأمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا بياتا وهم نائمون} البأساء فِي المَال، وَالضَّرَّاء فِي النَّفس، وَقيل: البأساء: الْجُوع، وَالضَّرَّاء: الْفقر، وَقيل: أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء يَعْنِي: بالحروب {لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ} أَي: لكَي (يتضرعوا) .

95

قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة} قَالَ مُجَاهِد: السَّيئَة: الشدَّة، والحسنة: الخصب {حَتَّى عفوا} أَي: حَتَّى كَثُرُوا، وَمِنْه قَول النَّبِي: " قصوا الشَّوَارِب وَاعْفُوا اللحى " أَي: كَثُرُوا اللحى، وَقيل: حَتَّى عفوا: حَتَّى سمنوا. {وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء} أَي: هَذَا كَانَ عَادَة الدَّهْر قَدِيما لنا ولآبائنا؛ فَلم ينتبهوا لما أَصَابَهُم من الشدَّة {فأخذناهم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {وهم لَا يَشْعُرُونَ} .

96

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض} يَعْنِي: من السَّمَاء بالمطر، وَمن الأَرْض بالنبات، وَقيل: بَرَكَات السَّمَاء: إِجَابَة الدَّعْوَات، وبركات الأَرْض: تسهيل الْحَاجَات {وَلَكِن كذبُوا فأخذناهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

97

قَوْله - تَعَالَى -: {أفأمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أَو أَمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا ضحى وهم يَلْعَبُونَ} يَعْنِي: أَن يَأْتِيهم عذابنا لَيْلًا وَنَهَارًا

( {97) أَو أَمن أهل الْقرى أَن يَأْتِيهم بأسنا ضحى وهم يَلْعَبُونَ (98) أفأمنوا مكر الله فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم لخاسرون (99) أَو لم يهد للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض من بعد أَهلهَا أَن لَو نشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ ونطبع على قُلُوبهم فهم لَا يسمعُونَ (100) تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين (101) وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين (102) ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى بآيتنا إِلَى فِرْعَوْن وملئه} {وهم يَلْعَبُونَ} وكل من اشْتغل بِمَا لَا يجزى عَلَيْهِ؛ فَهُوَ لاعب.

99

قَوْله - تَعَالَى -: {أفأمنوا مكر الله} أَي: عَذَاب الله، ومكر الله أَخذه فَجْأَة {فَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون} .

100

قَوْله - تَعَالَى -: {أَو لم يهد للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض} يَعْنِي: أَو لم يتَبَيَّن للَّذين يَرِثُونَ الأَرْض من بعد هَلَاك قَومهَا {أَن لَو نشَاء أصبناهم} يَعْنِي: أَنا لَو نشَاء أَخَذْنَاهُم ( {بِذُنُوبِهِمْ} ونطبع على قُلُوبهم فهم لَا يسمعُونَ) أَي: نختم على قُلُوبهم حَتَّى لَا يفقهوا وَلَا يسمعوا.

101

قَوْله - تَعَالَى -: {تِلْكَ الْقرى نقص عَلَيْك من أنبائها وَلَقَد جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا من قبل} هَذَا فِي قوم مخصوصين، علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْكَافرين} .

102

قَوْله - تَعَالَى -: {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد} أَي: من وَفَاء بالعهد، قل السّديّ: هُوَ الْعَهْد يَوْم الْمِيثَاق، لم يوفوا بِهِ {وَإِن وجدنَا أَكْثَرهم لفاسقين} أَي: مَا وجدنَا أَكْثَرهم إِلَّا فاسقين، قيل: أَرَادَ بِالْفِسْقِ هَا هُنَا الْخُرُوج عَمَّا يَقْتَضِيهِ دينهم من الْوَفَاء بالعهد، وَكَانَ هَذَا من بَعضهم دون بعض.

103

قَوْله - تَعَالَى -: {ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فظلموا بهَا} وَقد بَينا أَن الظُّلم: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وظلمهم: وضع الْكفْر مَوضِع

{فظلموا بهَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين (104) حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل (105) قَالَ إِن كنت جِئْت بِآيَة فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين (106) فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين (107) وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين (108) قَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن إِن هَذَا لساحر عليم (109) يُرِيد أَن} الْإِيمَان {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} .

104

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين حقيق على أَن لَا أَقُول} أَي: حقيق بِأَن لَا أَقُول، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَمَعْنَاهُ: حَرِيص بِأَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق، وَقُرِئَ: " حقيق عَليّ " أَي: وَاجِب على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق. {قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل} وَذَلِكَ أَنه أَرَادَ مُوسَى أَن يخرج بهم إِلَى الشَّام {قَالَ} ي - يَعْنِي: فِرْعَوْن - {إِن كنت جِئْت بِآيَة فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين} .

107

قَوْله - تَعَالَى -: {فَألْقى عَصَاهُ} قيل: إِن ملكا أعطَاهُ تِلْكَ الْعَصَا، وللعصا قصَّة، ستأتي فِي قصَّة شُعَيْب فِي سُورَة الْقَصَص إِن شَاءَ الله. {فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} الثعبان: الْحَيَّة الذّكر، وَفِي الْقَصَص: أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما ألْقى الْعَصَا، صَارَت ثعبانا عَظِيما، مَلأ قصر فِرْعَوْن، وَقيل: كَانَ بَين شدقيه ثَمَانُون ذِرَاعا، وَقيل: إِنَّه أَخذ قصر فِرْعَوْن بَين نابيه؛ فهرب مِنْهُ فِرْعَوْن وَأَخذه الْبَطن فِي ذَلِك الْيَوْم أَرْبَعمِائَة مرّة.

108

قَوْله - تَعَالَى -: {وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين} قيل: إِنَّه نزع يَده من جيبه، وَقيل: من تَحت إبطه {فَإِذا هِيَ بَيْضَاء} لَهَا شُعَاع كَالشَّمْسِ يتلألأ، وَكَانَ مُوسَى آدم اللَّوْن.

109

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن إِن هَذَا لساحر عليم} يَعْنِي: مُوسَى

{يخرجكم من أَرْضكُم فَمَاذَا تأمرون (110) قَالُوا أرجه وأخاه وَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين (111) يأتوك بِكُل سَاحر عليم (112) وَجَاء السَّحَرَة فِرْعَوْن قَالُوا إِن لنا لأجرا إِن كُنَّا نَحن الغالبين (113) قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ لمن المقربين (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن}

110

{يُرِيد أَن يخرجكم من أَرْضكُم فَمَاذَا تأمرون} أَي: بِمَاذَا تشيرون؟ قَالَه فِرْعَوْن لِقَوْمِهِ، وَقيل: إِن هَذَا من قَول الْمَلأ، قَالُوا لفرعون وخاصته: مَاذَا تأمرون وَقيل: إِنَّهُم قَالُوا ذَلِك لفرعون خَاصَّة؛ لَكِن ذكرُوا بِلَفْظ الْجمع تفخيما وتعظيما.

111

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا أرجه وأخاه} أَي: أرجئه، والإرجاء: التَّأْخِير، يُقَال: أرجأت أَمر كَذَا، أَي أخرت، وَمِنْه المرجئة، سموا بذلك؛ لتأخيرهم الْعَمَل فِي الْإِيمَان، فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَن الْعَمَل لَيْسَ من الْإِيمَان، وَيقْرَأ: " أرجه " من غير همز، قيل مَعْنَاهُ: التَّأْخِير أَيْضا، قَالَ الْمبرد: مَعْنَاهُ: اتركه يَرْجُو، وَمعنى الْكل وَاحِد؛ فَإِنَّهُم أشاروا عَلَيْهِ بِتَأْخِير أمره، وَترك التَّعَرُّض لَهُ، وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَنهم أشاروا بِتَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ لم يكن فيهم ولد عاهر، إِذْ لَو كَانَ فيهم ولد عاهر لأشاروا بِالْقَتْلِ. {وَأرْسل فِي الْمَدَائِن حاشرين} هِيَ مَدَائِن الصَّعِيد، وَهُوَ فَوق مصر

112

{يأتوك بِكُل سَاحر عليم} وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن أرسل أَصْحَاب الشَّرْط إِلَى تِلْكَ الْمَدَائِن ليجمعوا السَّحَرَة ويأتوا بهم.

113

قَوْله - تَعَالَى -: {وَجَاء السَّحَرَة فِرْعَوْن} وَفِيه حذف، يَعْنِي: فَأرْسل؛ فجَاء السَّحَرَة، وَاخْتلفُوا فِي عَددهمْ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا اثْنَي وَسبعين رجلا، وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار: كَانُوا (اثْنَي) عشر ألفا، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: كَانُوا ثَمَانِينَ ألفا. وَالْمَعْرُوف أَنهم كَانُوا سبعين ألفا. {قَالُوا إِن لنا لأجرا إِن كُنَّا نَحن الغالبين قَالَ نعم} لكم الْأجر {وَإِنَّكُمْ لمن المقربين} أَي: لكم الْمنزلَة الرفيعة مَعَ الْأجر.

{تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون نَحن الملقين (115) قَالَ ألقوا فَلَمَّا ألقوا سحروا أعين النَّاس واسترهبوهم وَجَاءُوا بِسحر عَظِيم (116) وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألق عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون (117) فَوَقع الْحق وَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (118) فغلبوا هُنَالك}

115

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقى} يَعْنِي: الْعَصَا {وَإِمَّا أَن نَكُون نَحن الملقين} يَعْنِي: عصينا

116

{قَالَ ألقوا فَلَمَّا ألقوا سحروا أعين النَّاس} أَي: صرفُوا أعين النَّاس عَن إِدْرَاك حَقِيقَتهَا؛ فعلوا من التمويه والتخييل، وَهَذَا هُوَ السحر. {واسترهبوهم} أَي: السَّحَرَة طلبُوا رهبة النَّاس؛ فرهبوهم، وَقَالَ الْمبرد: السِّين فِيهِ زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: أرهبوهم {وَجَاءُوا بِسحر عَظِيم} .

117

قَوْله - تَعَالَى -: {وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن ألق عصاك فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون} وَيقْرَأ: " تلقف مَا يأفكون " مخففا، وَيقْرَأ فِي الشواذ " تلقم " وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير: " تلقم " مخففا، وَمعنى الْكل وَاحِد. والتلقف: الْأَخْذ بِسُرْعَة، وَمَعْنَاهُ: تتلقم مَا يأفكون أَي: مَا يكذبُون من التخاييل الكاذبة، وَفِي الْقَصَص: أَن السَّحَرَة كَانُوا سبعين ألف، مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم عَصا، فَألْقوا عصيهم؛ فَإِذا هِيَ تتحرك كالحيات، ثمَّ ألْقى مُوسَى عَصَاهُ؛ فَصَارَت ثعبانا، وتلقف كل ذَلِك، وَقصد النَّاس الَّذين حَضَرُوا؛ فَوَقع الزحام عَلَيْهِم؛ فَهَلَك خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألفا فِي الزحام، ثمَّ أَخذه مُوسَى؛ فَصَارَت عَصا كَمَا كَانَت؛ فَذَلِك قَوْله {فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون} قَالَ الشَّاعِر: (أَنْت عَصا مُوسَى الَّتِي لم تزل ... تلقف مَا يأفكه السَّاحر) وَقَالَ آخر: (إِذا جَاءَ مُوسَى وَألقى الْعَصَا ... فقد بَطل السحر والساحر)

118

قَوْله - تَعَالَى -: {فَوَقع الْحق وَبَطل مَا كَانُوا يعْملُونَ} قَالَ الْحسن، وَمُجاهد: مَعْنَاهُ: ظهر الْحق أَي: ظهر عَصا مُوسَى على عصيهم، وَقيل مَعْنَاهُ: ظَهرت نبوة مُوسَى على دَعْوَى فِرْعَوْن الربوبية

119

{فغلبوا هُنَالك وانقلبوا صاغرين} أَي: ذليلين.

{وانقلبوا صاغرين (119) وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين (120) {قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين (121) رب مُوسَى وَهَارُون (122) قَالَ فِرْعَوْن آمنتم بِهِ قبل أَن آذن لكم إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا فَسَوف تعلمُونَ (123) لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ثمَّ لأصلبنكم أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون (125) وَمَا تنقم منا إِلَّا أَن آمنا بآيَات رَبنَا لما جاءتنا رَبنَا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مُسلمين (126) وَقَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن أتذر مُوسَى وَقَومه ليفسدوا فِي الأَرْض ويذرك وآلهتك قَالَ}

120

قَوْله - تَعَالَى -: {وَأُلْقِي السَّحَرَة ساجدين} وَاخْتلفُوا فِي سجودهم، قَالَ بَعضهم: ألهمهم الله - تَعَالَى - أَن يسجدوا فسجدوا، وَقيل: إِن مُوسَى وَهَارُون سجدا شكرا لله - تَعَالَى - فوافقهم السَّحَرَة

121

{قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين} قيل: إِن فِرْعَوْن لما سمع ذَلِك مِنْهُم قَالَ: آمنتم بِي؟ فَقَالُوا:

122

{رب مُوسَى وَهَارُون} وَقَالَ فِرْعَوْن: {آمنتم بِهِ قبل أَن آذن لكم إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة} قَالَ السّديّ: كَانَ مُوسَى قد قَالَ لرئيس السَّحَرَة: إِن غلبتك غَدا لتؤمنن بِي؟ فَقَالَ: لآتينك بِسحر أغلبك، وَإِن غلبتني آمَنت بك فَهَذَا معنى قَول فِرْعَوْن: {إِن هَذَا لمكر مكرتموه فِي الْمَدِينَة} أَي: تَدْبِير دبرتموه فِي الْمَدِينَة {لتخرجوا مِنْهَا أَهلهَا} أَي: لتغلبوا أَهلهَا ( {فَسَوف تعلمُونَ}

124

لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ثمَّ لأصلبنكم أَجْمَعِينَ) هددهم بِهَذِهِ الْعُقُوبَات، وَهِي مَعْلُومَة

125

{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون} فَهَذَا قَالُوهُ تَسْلِيَة لقُلُوبِهِمْ.

126

{وَمَا تنقم منا} أَي: وَمَا تكره منا، وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا تعيب علينا ( {إِلَّا أَن آمنا بآيَات رَبنَا لما جاءتنا} رَبنَا أفرغ) أَي: أنزل {علينا صبرا وتوفنا مُسلمين} .

127

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالَ الْمَلأ من قوم فِرْعَوْن} وَإِنَّمَا سموا مَلأ لمعنيين: أَحدهمَا: أَنهم كَانُوا يملئون صُدُور النَّاس هَيْبَة، وَقيل: لأَنهم كَانُوا مليئين بِمَا فوض إِلَيْهِم. {أتذر مُوسَى وَقَومه ليفسدوا فِي الأَرْض} أَرَادوا بِهَذَا الْفساد: مُخَالفَة أَمر فِرْعَوْن {ويذرك وآلهتك} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وإلاهتك " أَي: عبادتك، وَقيل: الإلاهة:

{سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين (128) قَالُوا أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا وَمن بعد مَا جئتنا قَالَ عَسى ربكُم أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم} الشَّمْس، وَكَانَ فِرْعَوْن يعبد الشَّمْس، قَالَ الشَّاعِر: (تروحنا من اللعباء عصرا ... فأعجلنا الإلاهة أَن تؤوبا) أَي: أعجلنا الشَّمْس أَن ترجع، وَالْمَعْرُوف {ويذرك وآلهتك} . قَالَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: وَكَانَ فِرْعَوْن يعبد الْبَقر، وَقَالَ السّديّ: كَانَ قد اتخذ أصناما، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: هَذِه آلِهَتكُم، وَأَنا إِلَه الْآلهَة، وَقَالَ الْحسن: كَانَ قد علق على عُنُقه صليبا - وَكَانَ يعبده - فَلذَلِك قَالُوا: " ويذرك وآلهتك " وَهَذَا كَانَ إغراء مِنْهُم لفرعون على مُوسَى {قَالَ سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ} وَكَانَ من قبل يفعل ذَلِك ثمَّ تَركه، ثمَّ عَاد إِلَيْهِ ثَانِيًا فَقَالَ: {سنقتل أَبْنَاءَهُم ونستحيي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقهم قاهرون} .

128

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا إِن الأَرْض لله يُورثهَا} وَفِي الشواذ: " يُورثهَا " {من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} أَي: فِي النَّصْر وَالظفر.

129

قَوْله - تَعَالَى -: {قَالُوا أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا وَمن بعد مَا جئتنا} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ الْحسن: كَانَ الْإِيذَاء بِأخذ الْجِزْيَة؛ كَانَ فِرْعَوْن يَأْخُذ الْجِزْيَة مِنْهُم قبل مَجِيء مُوسَى وَبعده، وَقيل: هُوَ من قتل الْأَبْنَاء؛ كَانَ يقتل أَبْنَاءَهُم، ويستحيي نِسَاءَهُمْ قبل مَجِيء مُوسَى؛ ثمَّ عَاد إِلَيْهِ، وَذكر جُوَيْبِر فِي تَفْسِيره: أَن المُرَاد بِهِ أَن فِرْعَوْن كَانَ يسخرهم ويستعملهم إِلَى نصف النَّهَار، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى استسخرهم كل النَّهَار بِلَا أجر وَلَا شَيْء، وَذكر الْكَلْبِيّ: أَنهم كَانُوا يضْربُونَ لَهُ اللَّبن بتبن فِرْعَوْن قبل مَجِيء

{فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ وَنقص من الثمرات لَعَلَّهُم يذكرُونَ (130) فَإِذا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة قَالُوا لنا هَذِه وَإِن تصبهم سَيِّئَة يطيروا بمُوسَى وَمن مَعَه أَلا إِنَّمَا طائرهم عِنْد الله وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (131) وَقَالُوا مهما تأتنا بِهِ من آيَة لتسحرنا بهَا فَمَا نَحن لَك بمؤمنين (132) فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم} مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى أجبرهم على أَن يضربوه بتبن من عِنْدهم. {قَالَ عَسى ربكُم} وَهِي كلمة التطميع {أَن يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم فِي الأَرْض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: حَتَّى يجازيكم على مَا يرى وَاقعا مِنْكُم لَا على مَا علم فِي الْغَيْب مِنْكُم.

130

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلَقَد أَخذنَا آل فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ} أَي: بِالْقَحْطِ والجدب. تَقول الْعَرَب جاءتنا سنة أَي: سنة جَدب، فَأَخذهُم الله - تَعَالَى - بِالسِّنِينَ {وَنقص من الثمرات لَعَلَّهُم يذكرُونَ} أَي: يتعظون، وَذَلِكَ: أَن الشدَّة ترقق الْقُلُوب وترغبها إِلَى الله - تَعَالَى -.

131

قَوْله - تَعَالَى -: {فَإِذا جَاءَتْهُم الْحَسَنَة} أَي: الخصب {قَالُوا لنا هَذِه} أَي: هَذَا كَانَ عَادَة الدَّهْر بِنَا {وَإِن تصبهم سَيِّئَة} أَي: جَدب {يطيروا بمُوسَى وَمن مَعَه} أَي: يَقُولُونَ: هَذَا من شُؤْم مُوسَى وَمن مَعَه {أَلا إِنَّمَا طائرهم عِنْد الله} أَي: الشؤم وَالْبركَة وَالْخَيْر وَالشَّر كُله من الله - تَعَالَى - وَقيل مَعْنَاهُ: الشؤم الْعَظِيم هُوَ الَّذِي لَهُم عِنْد الله - تَعَالَى - فِي الْآخِرَة، تَقول الْعَرَب: طَار لفُلَان سعد، وطار لفُلَان شُؤْم {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} .

132

قَوْله - تَعَالَى -: {وَقَالُوا مهما} أَي: مَتى مَا {تأتنا بِهِ من آيَة لتسحرنا بهَا فَمَا نَحن لَك بمؤمنين

133

فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان) قَالَ عَطاء: أَرَادَ بالطوفان: الْمَوْت الذريع، وَقيل: السَّيْل الْعَظِيم، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم مُطِرُوا من السبت إِلَى السبت، حَتَّى بلغ المَاء تراقيهم، فَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ أَن يجلس غرق فِي المَاء؛ فاستغاثوا بمُوسَى وَقَالُوا: ادْع الله حَتَّى يمسك ونؤمن لَك؛ فَدَعَا الله - تَعَالَى - فَأمْسك عَنْهُم الْمَطَر، فأخرجت

الأَرْض تِلْكَ السّنة نباتا كثيرا وأخصبت، فَقَالُوا: هَذَا كَانَ خيرا لنا، فَلم يُؤمنُوا وَكَفرُوا بِهِ؛ فَأرْسل الله عَلَيْهِم الْجَرَاد؛ فَأكل زرعهم ونباتهم إِلَّا قَلِيلا؛ فاستغاثوا بمُوسَى حَتَّى يَدْعُو الله - تَعَالَى - فَيدْفَع عَنْهُم ذَلِك. وَفِي أَخْبَار عمر - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه قل الْجَرَاد فِي زَمَانه سنة، فَبعث رَاكِبًا قبل الْيمن وراكبا قبل الشَّام وراكبا قبل الْعرَاق؛ ليطلبوا الْجَرَاد؛ فجَاء رَاكب الْيمن بكف من جَراد، فَقَالَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - الله أكبر، إِن لله - تَعَالَى - ألف أمة: سِتّمائَة فِي الْبر، وَأَرْبَعمِائَة فِي الْبَحْر، وَأول أمة تهْلك الْجَرَاد، ثمَّ تتبعهم سَائِر الْأُمَم الباقيين ". وَفِي الْأَخْبَار: أَن مَرْيَم سَأَلت [رَبهَا] ، وَقَالَت: يَا رب أَطْعمنِي لَحْمًا بِلَا دم؛ فأطعمها الْجَرَاد. وَفِي الْخَبَر " مَكْتُوب على صدر كل جَرَادَة جند الله الْأَعْظَم ". رَجعْنَا إِلَى الْقِصَّة، فَلَمَّا رفع عَنْهُم الْجَرَاد لم يُؤمنُوا أَيْضا؛ فَأرْسل الله عَلَيْهِم الْقمل، قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة: الْقمل صغَار الْجَرَاد، وَهِي: الدبي الَّتِي لَيست لَهَا أَجْنِحَة، وَعَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى - أَن الْقمل: سوس الْحِنْطَة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ كبار القراد، وسمى القراد الْكَبِير: حمنان أَيْضا، وَقيل: الْقمل هُوَ الْقمل، وَقيل: هُوَ الرعاف. فاستغاثوا بمُوسَى، فَدَعَا الله فَرفع عَنْهُم فَلم يُؤمنُوا؛ فَسلط عَلَيْهِم الضفادع. وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى جَاءَ إِلَى شط الْبَحْر وَأَشَارَ بعصاه إِلَى أدنى الْبَحْر وأقصاه، فَخرجت الضفادع حَتَّى امْتَلَأت بُيُوتهم - وَكَانَت قوافز - وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا فتح فَاه ليَتَكَلَّم تثب فِي فِيهِ، وكل من نَام مِنْهُم فَإِذا انتبه من النّوم يرى على بدنه مِنْهَا قدر ذِرَاع، وَكَانَ إِذا تكلم الرجل تقفز فِي فَمه، ثمَّ رفع عَنْهُم فَلم يُؤمنُوا؛ فَجعل الله نيل مصر عَلَيْهِم دَمًا - وَكَانَ كل ذَلِك للقبط خَاصَّة - وَكَانَ القبطي يَأْخُذ من النّيل الدَّم، وَبَنُو إِسْرَائِيل يَأْخُذُونَ المَاء، حَتَّى كَانَ الْكوز الْوَاحِد يشرب القبطي مِنْهُ دَمًا عبيطا،

{الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم آيَات مفصلات فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين (133) وَلما وَقع عَلَيْهِم الرجز قَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك لَئِن كشفت عَنَّا الرجز لنؤمنن لَك ولنرسلن مَعَك بني إِسْرَائِيل (134) فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الرجز إِلَى أجل هم بالغوه إِذا هم ينكثون (135) فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين (136) وأورثنا الْقَوْم الَّذين كَانُوا يستضعفون مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا الَّتِي باركنا فِيهَا وتمت كلمت رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا} والإسرائيلي مَاء؛ فَذَلِك معنى قَوْله: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم، آيَات مفصلات} وتفصيلها أَن كل عَذَاب مِنْهَا يَمْتَد أسبوعا، وَكَانَ بَين كل عذابين شهر {فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين} .

134

قَوْله تَعَالَى: {وَلما وَقع عَلَيْهِم الرجز} قيل: أَرَادَ بِهِ مَا سبق من الْعَذَاب، وَقيل: هُوَ عَذَاب الطَّاعُون، قَالَ سعيد بن جُبَير: مَاتَ مِنْهُم بالطاعون سَبْعُونَ ألفا فِي يَوْم وَاحِد، وَالرجز الرجس: الْعَذَاب. {قَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك} يَعْنِي: من إِجَابَة دعوتك {لَئِن كشفت عَنَّا الرجز لنؤمنن لَك ولنرسلن مَعَك بني إِسْرَائِيل} فَإِنَّهُ أَرَادَ أَن يخرج بهم إِلَى الشَّام

135

{فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الرجز إِلَى أجل هم بالغوه} وَذَلِكَ الْغَرق فِي اليم {إِذا هم ينكثون} أَي: ينقضون الْعَهْد

136

{فانتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين} وللغرق قصَّة ستأتي فِي موضعهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

137

{وأورثنا الْقَوْم الَّذين كَانُوا يستضعفون مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا الَّتِي باركنا فِيهَا} قيل أَرَادَ بهَا أَرض مصر وَالشَّام، وَقيل: أَرَادَ بهَا الشَّام وَحده، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْأُرْدُن وفلسطين، وَقَوله {باركنا فِيهَا} أَي: بِالْخصْبِ وَالسعَة. {وتمت كلمة رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل بِمَا صَبَرُوا} وَتلك الْكَلِمَة: وعده الَّذِي وعدهم، وَذَلِكَ فِي قَوْله: {ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين} فَلَمَّا أورثهم تِلْكَ الْأَرَاضِي وانجزهم ذَلِك

{صَبَرُوا ودمرنا مَا كَانَ يصنع فِرْعَوْن وَقَومه وَمَا كَانُوا يعرشون (137) وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فَأتوا على قوم يعكفون على أصنام لَهُم قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة قَالَ إِنَّكُم قوم تجهلون (138) إِن هَؤُلَاءِ متبر مَا هم فِيهِ وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (139) قَالَ أغير الله أبغيكم إِلَهًا وَهُوَ فَضلكُمْ على الْعَالمين (140) وَإِذ أنجيناكم من آل} الْوَعْد؛ قَالَ: تمت كلمة رَبك، أَي: تمّ وعده لَهُم، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا: حسنى لِأَنَّهَا كَانَت على وفْق مَا يحبونَ {ودمرنا مَا كَانَ يصنع فِرْعَوْن وَقَومه} أَي: أهلكنا ذَلِك عَلَيْهِم {وَمَا كَانُوا يعرشون} (أَي يبنون ويسقفون تجبرا وتكبرا.

138

قَوْله - تَعَالَى -: {وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فَأتوا على قوم يعكفون على أصنام لَهُم} أَي: يلازمون عبَادَة تِلْكَ الْأَصْنَام، وهم قوم من العمالقة رَآهُمْ بَنو إِسْرَائِيل عاكفين على أصنام لَهُم {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} وَلم يكن ذَلِك من بني إِسْرَائِيل شكا فِي وحدانية الله - تَعَالَى - وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: اجْعَل لنا شَيْئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إِلَى الله - تَعَالَى - وظنوا أَن ذَلِك لَا يضر الدّيانَة، وَكَانَ ذَلِك من شدَّة جهلهم. {قَالَ إِنَّكُم قوم تجهلون

139

إِن هَؤُلَاءِ متبر مَا هم فِيهِ) أَي: مدمر مَا هم فِيهِ ( {وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ}

140

قَالَ) يَعْنِي: مُوسَى {أغير الله أبغيكم إِلَهًا} أَي: أطلب لكم إِلَهًا تعظمونه غير الله {وَهُوَ فَضلكُمْ على الْعَالمين} وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " أَن رَسُول الله لما رَجَعَ من حنين مر على شَجَرَة يُقَال لَهَا: ذَات أنواط، وَقد عكف حولهَا قوم من الْأَعْرَاب يعظمونها، وَقد عَلقُوا عَلَيْهَا أسلحتهم، فَقَالَ أَصْحَابه: يَا رَسُول الله، لَو جعلت لنا ذَات أنواط كَمَا لَهُم ذَات أنواط فَقَالَ: عَلَيْهِ - الصَّلَاة وَالسَّلَام - الله أكبر، هَذَا مثل مَا قَالَ قوم مُوسَى لمُوسَى: {اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} .

{فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب يقتلُون أبناءكم ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم (141) وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة وأتممناها بِعشر فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون اخلفني فِي قومِي وَأصْلح وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين}

141

قَوْله - تَعَالَى -: {وَإِذ أنجيناكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب} أَي: يذيقونكم شَرّ الْعَذَاب، وَقد ذكرنَا معنى هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة. {يقتلُون أبناءكم} يَعْنِي: صغَار أبناءكم {ويستحيون نساءكم وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم} قيل مَعْنَاهُ: فِي تعذيبهم إيَّاكُمْ بلَاء من ربكُم عَظِيم، وَقيل: فِي إنجائنا إيَّاكُمْ {بلَاء من ربكُم عَظِيم} أَي: نعْمَة.

142

قَوْله - تَعَالَى -: {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة وأتتمناها بِعشر} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ أَيَّام ذِي الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة {فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة} فَإِن قيل: ذكر الثَّلَاثِينَ وَالْعشر يُغني عَن ذكر الْأَرْبَعين، فَمَا معنى هَذَا التّكْرَار؟ قيل: كَرَّرَه تَأْكِيدًا، وَقيل: فَائِدَة قَوْله: {فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة} قطع الأوهام عَن الزِّيَادَة؛ لِأَنَّهُ لما وَقت الثَّلَاثِينَ أَولا، ثمَّ زَاد عَلَيْهِ عشرا، رُبمَا يَقع فِي الأوهام زِيَادَة أُخْرَى، فَذكره لقطع الأوهام عَن الزِّيَادَة، وَذكر الثَّلَاثِينَ فِي الِابْتِدَاء وَالْعشر مفصلا: ليعلم أَن الْمِيقَات كَانَ كَذَلِك مفصلا ثَلَاثِينَ ذِي الْقعدَة وَعشرا من ذِي الْحجَّة. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى أَمر مُوسَى أَن يَصُوم ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ يَأْتِي الطّور يكلمهُ؛ فصَام ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَيْلًا وَنَهَارًا. وَفِي بعض التفاسير: صَامَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فتغيرت رَائِحَة فَمه، فَأخذ ورق الخرنوب وتناوله؛ لتزول رَائِحَة فَمه، فَأمره الله تَعَالَى أَن يَصُوم عشرا أخر؛ لتعود الرَّائِحَة، وَتَمام الْقِصَّة فِي الْآيَة الثَّانِيَة. {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون اخلفني فِي قومِي} اسْتَخْلَفَهُ على قومه {وَأصْلح} أَي: ارْفُقْ {وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين} أَي: لَا تتبع آراءهم وأهواءهم.

( {142) وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمه ربه قَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك قَالَ لن تراني وَلَكِن انْظُر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر}

143

قَوْله - تَعَالَى -: {وَلما جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} يَعْنِي الْوَقْت الَّذِي وَقت لَهُ على مَا بَينا {كَلمه ربه} وَفِي الْقِصَّة: أَن الله - تَعَالَى - لما استحضره بِجَانِب الطّور [و] أنزل ظلمَة على سَبْعَة فراسخ، وطرد عَنهُ الشَّيْطَان، ونحى عَنهُ الْملكَيْنِ، وَكَلمه حَتَّى أسمعهُ وأفهمه. وَفِي الْقِصَّة: كَانَ جِبْرِيل مَعَه فَلم يسمع مَا كَلمه ربه. {قَالَ رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} قَالَ الزّجاج: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره أَرِنِي نَفسك أنظر إِلَيْك. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ سَأَلَ الرُّؤْيَة وَقد علم أَن الله عز وَجل لَا يرى فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ الْحسن: هاج بِهِ الشوق؛ فَسَأَلَ الرُّؤْيَة. وَقيل: سَأَلَ الرُّؤْيَة ظنا مِنْهُ أَنه يجوز أَن يرى فِي الدُّنْيَا. {قَالَ لن تراني} يسْتَدلّ من يَنْفِي الرُّؤْيَة بِهَذِهِ الْكَلِمَة، وَلَيْسَ لَهُم فِيهَا مستدل؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يقل: إِنِّي لَا أرى؛ مَتى يكون حجَّة لَهُم؛ وَلِأَنَّهُ لم ينْسبهُ إِلَى الْجَهْل فِي سُؤال الرُّؤْيَة، كَمَا نسب إِلَيْهِ قومه بقَوْلهمْ: " اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة " لما لم يجز ذَلِك، وَأما معنى قَوْله {لن تراني} يَعْنِي: فِي الْحَال أَو فِي الدُّنْيَا. {وَلَكِن انْظُر إِلَى الْجَبَل فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني} مَعْنَاهُ: اجْعَل الْجَبَل بيني وَبَيْنك؛ فَإِنَّهُ أقوى مِنْك، فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ فَسَوف تراني؛ وَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه يجوز أَن يرى؛ لِأَنَّهُ لم يعلق الرُّؤْيَة بِمَا يَسْتَحِيل وجوده؛ لِأَن اسْتِقْرَار الْجَبَل مَعَ تجليه لَهُ غير مُسْتَحِيل، بِأَن يَجْعَل لَهُ قُوَّة الِاسْتِقْرَار مَعَ التجلي. {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل} أَن ظهر للجبل: قيل: إِنَّه جعل للجبل بصرا وَخلق فِيهِ حَيَاة، ثمَّ تجلى لَهُ فتذكرك على نَفسه. وروى حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله - تَعَالَى - تجلى للجبل بِقدر أُنْمُلَة الْخِنْصر، ثمَّ وضع ثَابت إبهامه على أُنْمُلَة خِنْصره، فَقيل لَهُ: أَتَقول بِهَذَا؟ فَقَالَ: يَقُول بِهِ أنس وَرَسُول الله، وَلَا

{مُوسَى صعقا فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى} أَقُول بِهِ أَنا! : وَضرب فِي صدر الْقَائِل " وَفِي بعض الرِّوَايَات " أَنه تجلى للجبل بِقدر جنَاح بعوضة أَو أقل ". {جعله دكا} قَالَ ابْن عَبَّاس: صَار تُرَابا. وَقَالَ الْحسن وسُفْيَان: ساخ فِي الأَرْض، وَفِي بعض التفاسير: أَنه صَار سِتَّة أجبل: ثَلَاثَة بِمَكَّة: وَذَلِكَ ثَوْر وثبير وحراء، وَثَلَاثَة بِالْمَدِينَةِ: رضوى وَأحد وورقان، وَقيل: انقلع الْجَبَل من أَصله، وَوَقع فِي الْبَحْر، فَهُوَ يذهب فِيهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَأما من حَيْثُ اللُّغَة: قَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: {جعله دكا} أَي: مدكوكا مدقوقا، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " جعله دكاء " ممدودا، يُقَال: أَرض دكاء إِذا كَانَ فِيهَا ناتئ ومواضع مُرْتَفعَة كالقلال، والدكاوات: الرواسِي من الأَرْض، وَمَعْنَاهُ: أَنه جعله كالأرض المرتفعة، وَخرج من كَونه جبلا. وَقَوله: {وخر مُوسَى صعقا} قَالَ قَتَادَة: أَي مَيتا، وَكَانَ قد مَاتَ تِلْكَ السَّاعَة. وَقَالَ الْحسن وَابْن عَبَّاس: خر مغشيا عَلَيْهِ. وَهَذَا أليق بالنظم؛ لِأَنَّهُ قَالَ {فَلَمَّا أَفَاق قَالَ سُبْحَانَكَ} وَهَذَا التَّنْزِيه. {تبت إِلَيْك} يَعْنِي: من سُؤال الرُّؤْيَة قبل الْإِذْن {وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ} يَعْنِي أَنا أول الْمُؤمنِينَ بِأَن من يراك متجليا فِي الدُّنْيَا لَا يسْتَقرّ مَكَانَهُ، وَقيل مَعْنَاهُ: أَنا أول الْمُؤمنِينَ بأنك لَا ترى فِي الدُّنْيَا.

{إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ (144) وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شَيْء موعظة وتصفيلا لكل شَيْء فَخذهَا بِقُوَّة وَأمر قَوْمك}

144

قَوْله تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك على النَّاس برسالاتي وبكلامي} فَإِن قَالَ قَائِل: قد أعْطى غَيره الرسالات، فَمَا معنى قَوْله: {اصفيتك على النَّاس برسالاتي} ؟ قيل: لما لم يكن إِعْطَاء الرسَالَة على الْعُمُوم فِي حق النَّاس، استقام قَوْله: {اصطفيتك على النَّاس برسالاتي} وَإِن شَاركهُ فِيهَا غَيره، وَهَذَا مثل قَول الرجل: خصصتك بمشورتي، وَإِن شاور غَيره، لَكِن لما تكن الْمُشَاورَة على الْعُمُوم؛ استقام الْكَلَام. {فَخذ مَا آتيتك وَكن من الشَّاكِرِينَ} لما أَنْعَمت عَلَيْك من إِعْطَاء الرسَالَة وَالْكَلَام، وَهَذِه الْآيَة فِي تَسْلِيَة مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - حَيْثُ سَأَلَ الرُّؤْيَة فَلم يحظ بهَا.

145

قَوْله تَعَالَى: {وكتبنا لَهُ فِي الألواح} وَأَرَادَ بِهِ التَّوْرَاة، وَفِي الْخَبَر: " أَن الله - تَعَالَى - خلق آدم بِيَدِهِ، وَكتب التَّوْرَاة بِيَدِهِ، وغرس شَجَرَة طُوبَى بِيَدِهِ ". وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ الألواح، قَالَ الْحسن: كَانَت الألواح من خشب، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت من زبرجد أَخْضَر، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَت من ياقوتة حَمْرَاء، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: كَانَت من برد. وَقيل: نزلت الألواح والتوراة مَكْتُوبَة عَلَيْهَا كنقش الْخَاتم. {من كل شي موعظة} أَي: تذكرة، وَحَقِيقَة الموعظة: هِيَ التَّذْكِير والتحذير مِمَّا يخَاف عاقبته. {وتفصيلا لكل شَيْء} أَي: بَيَانا للْحَلَال وَالْحرَام وَمَا أمروا بِهِ، وَمَا نهو عَنهُ {فَخذهَا بِقُوَّة} أَي: بجد واجتهاد، وَقيل مَعْنَاهُ: بِقُوَّة الْقلب. {وَأمر قَوْمك يَأْخُذُوا بأحسنها} قَالَ قطرب: أَي: بحسنها. وَاعْلَم أَن الْأَحْسَن مَا

{يَأْخُذُوا بأحسنها سأريكم دَار الْفَاسِقين (145) سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا ذَلِك بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين (146) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا ولقاء الْآخِرَة حبطت أَعْمَالهم هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا} كَانَ فِيهِ من الْفَرَائِض الْمَكْتُوبَة والنوافل الْمَنْدُوب إِلَيْهَا فَإِنَّهَا الْأَحْسَن، وَأما الْحسن: مَا كَانَ مُبَاحا، وَقيل: معنى قَوْله: {يَأْخُذُوا بأحسنها} أَي: بِأَحْسَن الْأَمريْنِ فِي كل شَيْء، كالعفو أحسن من الاقتصاص، وَالصَّبْر أحسن من الِانْتِصَار {سأريكم دَار الْفَاسِقين} وَقَرَأَ قسَامَة بن زُهَيْر: " سأورثكم " من التوريث، فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: سأورثكم أَرض مصر، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة " سأريكم " قَالَ مُجَاهِد وَجَمَاعَة: سأريكم جَهَنَّم، وَقيل: أَرَادَ بِهِ مصَارِع الْكفَّار. قَالَ قَتَادَة: دَار الْفَاسِقين أَرَادَ بهَا الشَّام؛ على معنى: أريكم فِيهَا مَا أهلكت من قرى الْكفَّار قبلكُمْ؛ لِأَن مُوسَى خرج بهم إِلَى الشَّام.

146

قَوْله - تَعَالَى -: {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة مَعْنَاهُ: سأمنعهم فهم الْقُرْآن، قَالَ الزّجاج تَقْدِيره: سأصرفهم عَن قبُول آياتي، وَأما التكبر: هُوَ طلب الْفضل من غير اسْتِحْقَاق. {وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا} وَقَرَأَ أَبُو عبد الرَّحْمَن عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ: " سَبِيل الرشاد " المعدوف: " سَبِيل الرشد " وَيقْرَأ أَيْضا: " سَبِيل الرشد " والرشد والرشد وَاحِد، وَهُوَ الصّلاح. {وَإِن يرَوا سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا} يَعْنِي: سَبِيل الضَّلَالَة {ذَلِك بِأَنَّهُم كذبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غافلين} لأَنهم لما لم يتدبروا الْقُرْآن فكأنهم عَنهُ غافلين

147

{وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا ولقاء الْآخِرَة حبطت أَعْمَالهم} أَي: بطلت أَعْمَالهم {هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ} .

148

قَوْله تَعَالَى: {وَاتخذ قوم مُوسَى من بعده من حليهم} وَيقْرَأ: " من حليهم "

{يعْملُونَ (147) } وَاتخذ قوم مُوسَى من بعده من حليهم عجلا جسدا لَهُ خوار ألم يرَوا أَنه لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا اتخذوه وَكَانُوا ظالمين (148) وَلما سقط فِي يديهم) {عجلا جسدا لَهُ خوار} أَي: جَسَد لَهُ خوار، وَيقْرَأ فِي الشواذ: " لَهُ جؤار " وَهُوَ بِمَعْنى الخوار، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى الطّور قَالَ لِقَوْمِهِ: أرجع إِلَيْكُم بعد ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا لم يرجع إِلَيْهِم بعد الثَّلَاثِينَ ظنُّوا أَنه مَاتَ، كَانَ السامري فِي بني إِسْرَائِيل مُطَاعًا بَينهم، وَكَانَ صائغا، فَقَالَ لَهُم: اجْمَعُوا لي مَا أَخَذْتُم من الْحلِيّ من آل فِرْعَوْن أصنع لكم شَيْئا، فدفعوا إِلَيْهِ مَا أخذُوا من الْحلِيّ فصاغ مِنْهُ الْعجل، قَالَ الْحسن: كَانَ السامري قد رأى جِبْرِيل يَوْم غرق فِرْعَوْن على فرس، فَأخذ قَبْضَة من أثر قدم فرسه. قَالَ عِكْرِمَة: ألقِي فِي روعه أَنه فِي أَي شَيْء ألْقى تِلْكَ القبضة من التُّرَاب يحيا بهَا ذَلِك الشَّيْء، وَذَلِكَ أَنه رأى مَوَاضِع قدم الْفرس تحضر فِي الْحَال وتنبت، فَلَمَّا صاغ الْعجل ألقِي فِي روعه أَن يلقِي تِلْكَ القبضة فِي فَمه فألقاها فِي فَم الْعجل فحيي، فَصَارَ لَحْمًا ودما من ذهب، وَله خوار فَإِنَّهُ خار، ثمَّ قَالَ السامري: {هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي} على مَا سَيَأْتِي فِي قصَّته فِي سُورَة طه، وَقيل: إِنَّه مَا خار إِلَّا مرّة، وَقيل كَانَ يخور كثيرا، كَمَا تخور الْبَقَرَة، وَكَانَ كلما خار سجدوا لَهُ، وَكلما سكت رفعوا رُءُوسهم. وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: لم تنْبت فِيهِ حَيَاة أصلا، وَلم يكن لَهُ خوار حَقِيقَة، وَإِنَّمَا الَّذِي سمعُوا من الخوار كَانَ بحيلة، وَالصَّحِيح هُوَ الأول. ثمَّ اخْتلفُوا فِي عدد الَّذين عبدُوا الْعجل، قَالَ الْحسن: كلهم عبدوه إِلَّا هَارُون وَحده، وَقيل: - وَهُوَ الْأَصَح -: عَبده كلهم إِلَّا هَارُون وَاثنا عشر ألف رجل مِنْهُم. {ألم يرَوا أَنه لَا يكلمهم وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا} وَهَذَا دَلِيل على أَن الله مُتَكَلم لم يزل وَلَا يزَال؛ لِأَنَّهُ اسْتدلَّ بِعَدَمِ الْكَلَام من الْعجل على نفي الإلهية.

{وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا قَالُوا لَئِن لم يَرْحَمنَا رَبنَا وَيغْفر لنا لنكونن من الخاسرين (149) وَلما رَجَعَ مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا قَالَ بئْسَمَا خلفتموني من بعدِي أعجلتم أَمر ربكُم وَألقى الألواح وَأخذ بِرَأْس أَخِيه يجره إِلَيْهِ قَالَ ابْن أم إِن الْقَوْم استضعفوني} {وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا} أَي: طَرِيقا {اتخذوه وَكَانُوا ظالمين} بِوَضْع الإلهية فِي غير موضعهَا.

149

قَوْله تَعَالَى: {وَلما سقط فِي أَيْديهم وَرَأَوا أَنهم قد ضلوا} قَالَ الْفراء: تَقول الْعَرَب: سقط فلَان فِي يَده إِذا بَقِي نَادِما متحيرا على مَا فَاتَهُ، كَأَنَّهُ حصل النَّدَم فِي يَده {قَالُوا لَئِن لم يَرْحَمنَا رَبنَا وَيغْفر لنا لنكونن من الخاسرين} .

150

قَوْله تَعَالَى: {وَلما رَجَعَ مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا} قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: الأسف: شَدِيد الْغَضَب، وَقيل: الأسف: أَشد الْحزن، وَكَأن مُوسَى رَجَعَ نَادِما حَزينًا يَقُول: لَيْتَني كنت فيهم فَلم يَقع لَهُم مَا وَقع. {قَالَ بئْسَمَا خلفتموني من بعدِي} أَي: (بئْسَمَا فَعلْتُمْ خَلْفي) {أعجلتم أَمر ربكُم} مَعْنَاهُ: أسبقتم أمرربكم، يَعْنِي: بفعلكم الَّذِي فَعلْتُمْ من غير أَمر ربكُم، وَقيل مَعْنَاهُ: استعجلتم وعد ربكُم. {وَألقى الألواح} وَكَانَ حَامِلا لَهَا، فألقاها على الأَرْض من شدَّة الْغَضَب، وَفِي التَّفْسِير: أَنه لما أَلْقَاهَا رَجَعَ بَعْضهَا إِلَى السَّمَاء وَبَقِي مِنْهَا لوحان، فَرجع مَا كَانَ فِيهِ أَخْبَار الْغَيْب، وَبَقِي مَا كَانَ فِيهِ الموعظة وَالْأَحْكَام من الْحَلَال وَالْحرَام، وَقيل: لما ألْقى الألواح انْكَسَرَ بَعْضهَا، فشدها مُوسَى بِالذَّهَب {وَأخذ بِرَأْس أَخِيه} يَعْنِي: هَارُون، وَفِيه حذف، وَتَقْدِيره: وَأخذ بِشعر رَأس أَخِيه {يجره إِلَيْهِ قَالَ ابْن أم} يَعْنِي هَارُون قَالَ لمُوسَى: ابْن ام، وَيقْرَأ بِكَسْر الْمِيم ونصبها، فَأَما بِكَسْر الْمِيم مَعْنَاهُ يَا ابْن أُمِّي، قَالَ الشَّاعِر:

{وكادوا يقتلونني فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء وَلَا تجعلني مَعَ الْقَوْم لظالمين (150) قَالَ رب اغْفِر لي ولأخي وأدخلنا فِي رحمتك وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ (151) إِن الَّذين اتَّخذُوا الْعجل سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نجزي المفترين (152) } (يَا ابْن امي وَيَا شَقِيق نَفسِي ... أَنْت خلفتني لأمر كؤود) واما بِنصب الْمِيم، فَوجه النصب فِيهِ أَن قَوْله: " ابْن ام " كلمتان، لكنهما ككلمة وَاحِدَة، مثل قَوْلهم: " حَضرمَوْت " و " بعلبك " ركب أحد الاسمين فِي الآخر، فَبَقيَ على النصب تبيينا. {إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني} وَفِي الْقِصَّة: أَن هَارُون كَانَ لما مضى مِيقَات الثَّلَاثِينَ يقوم بَينهم خَطِيبًا، فيخطب كل يَوْم ويبكي، وَيَقُول: أنْشدكُمْ بِاللَّه لَا تعبدوا الْعجل، فَإِن مُوسَى رَاجع غَدا - إِن شَاءَ الله - فَهَكَذَا كَانَ يفعل ثَلَاثَة أَيَّام، فَلَمَّا لم يرجع بعد الثَّلَاث قَالُوا: إِنَّه قد مَاتَ، فخلوه، وَأَقْبلُوا على عبَادَة الْعجل، فَهَذَا معنى قَوْله: {إِن الْقَوْم استضعفوني وكادوا يقتلونني فَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء} والشماتة فعل مَا يسر بِهِ الْعَدو {وَلَا تجعلني مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: لَا تجعلني مَعَ الْكَافرين وَمن جُمْلَتهمْ.

151

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب اغْفِر لي ولأخي} يَعْنِي مَا فعلت بأخي من أَخذ شعره، وجره، وَكَانَ بَرِيئًا، قَوْله: {ولأخي} يعين: مَا وَقع لَهُ من تَقْصِيره إِن قصر {وأدخلنا فِي رحمتك وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ} .

152

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اتَّخذُوا الْعجل} فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: اتَّخذُوا الْعجل إِلَهًا {سينالهم غضب من رَبهم وذلة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} قيل: أَرَادَ بالذلة الْجِزْيَة، وَقيل: أَرَادَ قيل بَعضهم بَعْضًا مَعَ علمهمْ أَنهم قد ضلوا {وَكَذَلِكَ نجزي المفترين} أَي: كل مفتر على الله، وَمن القَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه قَالَ: هَذَا فِي كل مُبْتَدع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.

{وَالَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات ثمَّ تَابُوا من بعْدهَا وآمنوا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم (153) وَلما سكت عَن مُوسَى الْغَضَب أَخذ الألواح وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة للَّذين هم لرَبهم يرهبون (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أخذتهم الرجفة قَالَ}

153

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات ثمَّ تَابُوا من بعْدهَا وآمنوا إِن رَبك من بعْدهَا} أَي: من بعد التَّوْبَة {لغَفُور رَحِيم} .

154

قَوْله تَعَالَى: {وَلما سكت عَن مُوسَى الْغَضَب} وَقَرَأَ مُعَاوِيَة بن قُرَّة: " وَلما سكن عَن مُوسَى الْغَضَب " وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب: " وَلما سير عَن مُوسَى الْغَضَب " وَفِي مصحف حَفْصَة: " وَإِنَّمَا أسكت عَن مُوسَى الْغَضَب " وَمعنى الْكل وَاحِد أَي: سكن عَن مُوسَى الْغَضَب. وَالسُّكُوت والإسكات مَعْرُوف، وَيُقَال: رجل سكيت إِذا كَانَ كثير السُّكُوت. {أَخذ الألواح} وَذَلِكَ أَنه كَانَ أَلْقَاهَا فَأَخذهَا {وَفِي نسختها} اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بهَا الألواح؛ وَذَلِكَ أَن لَهَا أصل نسخت مِنْهُ، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: إِن مُوسَى لما ألْقى الألواح انْكَسَرت، فنسخ مِنْهَا نُسْخَة أُخْرَى، فَذَلِك المُرَاد بِهِ من قَوْله: {وَفِي نسختها هدى وَرَحْمَة} أَي: هدى من الضَّلَالَة، وَرَحْمَة من الْعَذَاب {للَّذين هم لرَبهم يرهبون} .

155

قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه} فِيهِ حذف، أَي: من قومه {سبعين رجلا لِمِيقَاتِنَا} وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن كلهم لم يعبدوا الْعجل - وَهُوَ الْأَصَح - وَاخْتلفُوا أَنه لأي شَيْء اخْتَارَهُمْ؟ قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا اخْتَارَهُمْ ليعتذروا إِلَى الله من عبَادَة أُولَئِكَ الَّذين عبدُوا الْعجل، وَقيل: إِنَّمَا اخْتَارَهُمْ ليسمعوا كَلَام الله؛ فَإِنَّهُم سَأَلُوا ذَلِك مُوسَى {فَلَمَّا أخذتهم الرجفة} قَالَ مُجَاهِد: رجفت بهم الأَرْض؛ فماتوا، وَقيل: وَقعت رعدة وزلزلة فِي أعضائهم، حَتَّى كَاد ينْفَصل بَعْضهَا من بعض، وَقيل: إِنَّمَا أهلكهم عُقُوبَة على مَا سَأَلُوا من رُؤْيَة الله جهرة.

{رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا إِن هِيَ إِلَّا فتنتك تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين (155) واكتب لنا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة إِنَّا هدنا إِلَيْك قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من} (قَالَ رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل وإياي) وَذَلِكَ أَن مُوسَى ظن أَن الله - تَعَالَى - إِنَّمَا أهلكهم بِعبَادة أُولَئِكَ الْقَوْم الْعجل، وَخَافَ أَن بني إِسْرَائِيل يَتَّهِمُونَهُ، وَيَقُولُونَ: إِن مُوسَى قَتلهمْ؛ قَالَ: {رب لَو شِئْت أهلكتهم من قبل} يَعْنِي: عندعبادة الْعجل قبل أَن آتِي بهم {وإياي} بقتل القبطي الَّذِي كَانَ مُوسَى قَتله، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْمَشِيئَة الأزلية، كَأَنَّهُ فوض إهلاكهم إِلَى مَشِيئَته، أَي: لَو شِئْت فِي الْأَزَل أهلكتهم وإياي وَمن فِي الْعَالم، فَلَا اعْتِرَاض لأحد عَلَيْك. {أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا} اخْتلفُوا فِيهِ أَنه كَيفَ قَالَ: أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا، وَكَانَ يعلم أَن الله - تَعَالَى - لَا يهْلك أحدا بذنب غَيره؟ فَقَالَ بَعضهم: هَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْجحْد، وَهُوَ قَول ابْن الْأَنْبَارِي أَي: لَا تُهْلِكنَا بِفعل السُّفَهَاء، وَهَذَا مثل قَول الرجل لصَاحبه: أتجهل عَليّ وَأَنا أحلم؟ ! أَي: لَا أحلم، وَيُقَال فِي الْمثل: أغدة كَغُدَّة الْبَعِير؟ وَمَوْت فِي بَيت السلولية؟ أَي: لَا يكون هَذَا قطّ، وَقَالَ الشَّاعِر: (أتنسى حِين تصقل عارضيها ... بِعُود بشامة سقِِي البشام) أَي: لَا تنسى، وَقيل: هُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِثْبَات، وَالْمرَاد مِنْهُ السُّؤَال، كَأَنَّهُ يسْأَله أتهلكنا بِمَا فعل السُّفَهَاء منا؟ . {إِن هِيَ إِلَّا فتنتك} أَي: بليتك {تضل بهَا من تشَاء وتهدي من تشَاء أَنْت ولينا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الغافرين} .

156

قَوْله تَعَالَى: {واكتب لنا} أَي: أوجب لنا {فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة} وَهِي

{أَشَاء ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ (156) الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي} النِّعْمَة والعافية {وَفِي الْآخِرَة} أَي: وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة، فَحذف. {إِنَّا هدنا إِلَيْك} أَي: تبنا إِلَيْك، وَقَرَأَ أَبُو وجزة السَّعْدِيّ: " هدنا إِلَيْك " بِكَسْر الْهَاء، أَي: ملنا إِلَيْك {قَالَ عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَشَاء} وَهَذَا على وفْق قَول أهل السّنة؛ فَإِن لله - تَعَالَى - أَن يُصِيب بعذابه من يَشَاء من عباده أذْنب أَو لم يُذنب، وصحف بعض الْقَدَرِيَّة، فَقَرَأَ: " عَذَابي أُصِيب بِهِ من أَسَاءَ " من الْإِسَاءَة، وَلَيْسَ بِشَيْء. {ورحمتي وسعت كل شَيْء} قَالَ الْحسن وَقَتَادَة: وسعت رَحمته الْبر والفاجر فِي الدُّنْيَا، وَهِي لِلْمُتقين يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي الْآثَار: الرَّحْمَة مسجلة للبر والفاجر فِي الدُّنْيَا. {فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ

157

الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي) وَهَذِه فَضِيلَة عَظِيمَة لهَذِهِ الْأمة، وَذَلِكَ أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - سَأَلَ أَن يكْتب الرَّحْمَة لَهُ ولأمته، فكتبها لأمة مُحَمَّد وَفِي الْأَخْبَار: " أَن مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - قَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة يأمرون بِالْمَعْرُوفِ، وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر، ويؤمنون بِاللَّه، فاجعلهم من أمتِي، قَالَ الله - تَعَالَى -: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة صَدَقَاتهمْ فِي بطونهم - يَعْنِي: يأكلها فقراؤهم، وَكَانَت صدقَات قومه وَمن قبلهم تأكلها النَّار - فاجعلهم من أمتِي، فَقَالَ - تَعَالَى -: تِلْكَ أمة احْمَد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة هم آخر النَّاس خُرُوجًا، وَأول النَّاس فِي الْجنَّة دُخُولا، فاجعلهم من أمتِي. فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد فِي التَّوْرَاة أمة أَنَاجِيلهمْ فِي صُدُورهمْ، يراعون الشَّمْس والأوقات لذكرك، فاجعلهم من أمتِي. فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَقَالَ: يَا رب، إِنِّي أجد

{التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ وعزروه ونصروه وَاتبعُوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون (157) قل يَا أَيهَا} فِي التَّوْرَاة أمة إِذا هم أحدهم بحسنة كتبتها لَهُ حَسَنَة، وَإِن عمل بهَا كتبتها لَهُ عشرا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، وَإِذا هم بسيئة لم تَكْتُبهَا (عَلَيْهِ) ، فَإِن عمل بهَا كتبتها عَلَيْهِ وَاحِدَة، اجعلهم من أمتِي، فَقَالَ: تِلْكَ أمة أَحْمد. فَألْقى الألواح، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من أمة مُحَمَّد ". وَهَذَا قَول آخر، ذكر فِي سَبَب إلقائه الألواح، وَالْأول أظهر. قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي} هُوَ مُحَمَّد وَقد بَينا معنى الْأُمِّي فِيمَا سبق. {الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا} أَي: مَوْصُوفا {عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات} يَعْنِي: مَا حرمه الْكفَّار من السوائب والوصائل والبحائر والحوامي، وَنَحْو ذَلِك {وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} وَذَلِكَ مثل: الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَنَحْوه {وَيَضَع عَنْهُم إصرهم} الإصر: كل مَا يثقل على الْإِنْسَان من قَول أَو فعل، والإصر: الْعَهْد الثقيل: وإصرهم: أَن الله - تَعَالَى - جعل تَوْبَتهمْ بِقَتْلِهِم أنفسهم {والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} وَذَلِكَ مثل مَا كَانَ عَلَيْهِم من قرض مَوضِع النَّجَاسَة عَن الثَّوْب بالمقراض، وَلَا يجزئهم غسلهَا، وَأَنه كَانَ لَا تجوز صلَاتهم إِلَّا فِي الْكَنَائِس، وَأَنه لَا يجوز لَهُم أَخذ الدِّيَة عَن الْقَتِيل بل كَانَ يتَعَيَّن الْقصاص، وَكَانَ يجب عَلَيْهِم قطع الْجَوَارِح الْخَاطِئَة لَا يسعهم غير ذَلِك، فسماها أغلالا؛ لِأَنَّهَا كَانَت كالطوق فِي عنقهم. {فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ} أَي: بِمُحَمد {وعزروه} أَي: عظموه {ونصروه وَاتبعُوا

{النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا إِلَه إِلَّا هُوَ يحيي وَيُمِيت فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يُؤمن بِاللَّه وكلماته واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون (158) وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ (159) وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة أسباطا أمما وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه أَن اضْرِب بعصاك الْحجر} النُّور الَّذِي أنزل مَعَه) وَهُوَ الْقُرْآن {أُولَئِكَ هم المفلحون} .

158

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا إِلَه لَا هُوَ يحيي وَيُمِيت فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يُؤمن بِاللَّه وكلماته} يَعْنِي: مُحَمَّدًا يُؤمن بِاللَّه وَبِالْقُرْآنِ وَيقْرَأ: " وكلمته " قيل: هِيَ الْقُرْآن أَيْضا، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِالْكَلِمَةِ: عِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تهتدون} .

159

قَوْله تَعَالَى: {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} روى الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هَؤُلَاءِ قوم بأقصى الشرق وَرَاء الصين عِنْد مطلع الشَّمْس، كَانُوا على شَرِيعَة مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - إِلَى أَن بعث مُحَمَّد فَلَمَّا بعث مُحَمَّد آمنُوا بِهِ، وَكَانُوا على الْحق من لدن مُوسَى إِلَى زمَان مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام - وَقيل: هم الَّذين أَسْلمُوا فِي زمن النَّبِي من الْيَهُود مثل (ابْن) صوريا، وَابْن سَلام، وَنَحْوهمَا، وَالْأول أظهر. وَقَوله: {وَبِه يعدلُونَ} أَي: يقومُونَ بِالْحَقِّ وَالْعدْل.

160

قَوْله تَعَالَى: {وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة أسباطا أمما} أَي: فرقناهم فرقا، وَقَوله: {اثْنَتَيْ عشرَة} يُقَال فِي اللُّغَة: اثْنَتَيْ عشرَة بِكَسْر الشين وبجزم الشين، والجائز فِي الْقُرْآن بجزم الشين، فَإِن قيل: لم لم يقل: اثْنَي عشر أسباطا على التَّذْكِير؟ قيل: إِنَّمَا ذكره على التَّأْنِيث لِأَنَّهُ يرجع إِلَى الْأُمَم.

{فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا قد علم كل أنَاس مشربهم وظللنا عَلَيْهِم الْغَمَام وأنزلنا عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (160) وَإِذ قيل لَهُم اسكنوا هَذِه الْقرْيَة وكلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد الْمُحْسِنِينَ (161) فبدل الَّذين ظلمُوا مِنْهُم قولا غير الَّذِي قيل لَهُم فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يظْلمُونَ (162) } قَالُوا: وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها. وقطعناهم أسباطا أمما اثْنَتَيْ عشرَة، وَقيل فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة فرقة أسباطا أمما، فَيكون بَدَلا عَن الْفرْقَة، وَقد بَينا أَن الأسباط فِي بني إِسْحَاق كالقبائل فِي بني إِسْمَاعِيل، وأنشدوا فِي السبط: (عَليّ وَالثَّلَاثَة من بنيه ... هم الأسباط لَيْسَ بهم خَفَاء) (فسبط سبط إِيمَان وبر ... وسبط غيبته كربلاء) أَي: كرب وبلاء. {وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه أَن اضْرِب بعصاك الْحجر} وَقد بَينا هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة. {فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} أَي: انفجرت {قد علم كل أنَاس مشربهم وظللنا عَلَيْهِم الْغَمَام وأنزلنا عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم وَمَا ظلمونا وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} وَقد سبق تَفْسِيره فِي سُورَة الْبَقَرَة.

161

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ قيل لَهُم اسكنوا هَذِه الْقرْيَة وكلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُم وَقُولُوا حطة وادخلوا الْبَاب سجدا نغفر لكم خطاياكم} وَيقْرَأ: " خطيئاتكم " وَكِلَاهُمَا وَاحِد {سنزيد الْمُحْسِنِينَ} وَقد بَينا هَذَا أَيْضا فِي سُورَة الْبَقَرَة.

162

{فبدل الَّذين ظلمُوا} قد بَينا معنى هَذَا التبديل {مِنْهُم قولا غير الَّذِي قيل

{واسئلهم عَن الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر إِذْ يعدون فِي السبت إِذْ تأتيهم حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا يفسقون (163) وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم لم تعظون قوما الله مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى} لَهُم فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم رجزا من السَّمَاء) أَي عذَابا من السَّمَاء {بِمَا كَانُوا يظْلمُونَ} .

163

قَوْله تَعَالَى {واسألهم عَن الْقرْيَة} هَذَا سُؤال توبيخ وتقريع لَا سُؤال استعلام، وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ الْقرْيَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الأيلة. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هِيَ طبرية الشَّام. وَقيل: إِنَّهَا مَدين {الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر} أَي: مجاورة الْبَحْر {إِذْ يعدون فِي السبت} أَي: يجاوزون أَمر الله فِي السبت، وَكَانَ الله - تَعَالَى - حرم عَلَيْهِم أَن يعملوا فِي السبت عملا سوى الْعِبَادَة. {إِذْ تأتيهم حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا} أَي: ظَاهِرَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَمِنْه الشوارع لظهورها، وَقيل: هُوَ من الشُّرُوع، وَهُوَ الدُّخُول، فَيكون مَعْنَاهُ أَن تِلْكَ الْقرْيَة كَانَ بجنبها خليج الْبَحْر، فتدخله الْحيتَان يَوْم السبت وَلَا تدخله فِي سَائِر الْأَيَّام. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت تأتيهم مثل الكباش السمان الْبيض يَوْم السبت تشرع إِلَى أَبْوَابهم، ثمَّ لَا يرى شَيْء مِنْهَا فِي غير يَوْم السبت فَذَلِك قَوْله: {وَيَوْم لَا يسبتون لَا تأتيهم} وَقَرَأَ الْحسن: " لَا يسبتون " بِضَم الْيَاء، أَي: لَا يدْخلُونَ فِي السبت، وَالْمَعْرُوف: " لَا يسبتون " وَمَعْنَاهُ: لَا يعظمون السبت، يُقَال: (أسبت) إِذا دخل السبت، وسبت إِذا عظم السبت، يَعْنِي: وَيَوْم لَا يعظمون السبت {لَا تأتيهم} وعَلى قِرَاءَة الْحسن: وَيَوْم لَا يدْخلُونَ السبت لَا تأتيهم، وَكَانَ ذَلِك ابتلاء من الله - تَعَالَى - لَهُم كَمَا قَالَ: {كَذَلِك نبلوهم} أَي: نختبرهم {بِمَا كَانُوا يفسقون} .

164

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم لم تعظون قوما} وَفِي الْقِصَّة: أَنهم احْتَالُوا بحيلة الِاصْطِيَاد؛ فَكَانُوا يضعون الحبال يَوْم الْجُمُعَة حَتَّى تقع فِيهَا الْحيتَان يَوْم السبت، ثمَّ يأخذونها يَوْم الْأَحَد، وَقيل: إِن الشَّيْطَان وسوس إِلَيْهِم أَن الله - تَعَالَى -

{ربكُم ولعلهم يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء وأخذنا الَّذين ظلمُوا بِعَذَاب بئيس بِمَا كَانُوا يفسقون (165) فَلَمَّا عتوا عَن مَا نهوا عَنهُ قُلْنَا لَهُم} لم يَنْهَاكُم عَن الِاصْطِيَاد فِي هَذَا الْيَوْم وَإِنَّمَا نهاكم عَن الْأكل، فاصطادوا يَوْم السبت، ثمَّ افْتَرَقُوا على ثَلَاث فرق: فرقة اصطادت، وَفرْقَة نهت وَأمرت بِالْمَعْرُوفِ، وَفرْقَة سكتت؛ فَقَالَت الفرقتان للفرقة العاصية: لَا نساكنكم قَرْيَة عصيتم الله فِيهَا؛ فاعتزلنا الْقرْيَة وَخَرجُوا، فَلَمَّا أَصْبحُوا جَاءُوا إِلَى بَاب الْقرْيَة، فَلم يفتحوا لَهُم الْبَاب؛ فَجَاءُوا بسلم، فَلَمَّا صعدوا بالسلم، رَأَوْهُمْ قد مسخوا قردة، قَالَ قَتَادَة: كَانَت لَهُم أَذْنَاب يتعادون. فَقَوله: {وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم} هِيَ الْفرْقَة الساكتة، قَالَت للفرقة الناهية: {لم تعظون قوما} يَعْنِي: الْفرْقَة العاصية {الله مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى ربكُم} أَي: موعظتنا معذرة، وَذَلِكَ أَنا قد أمرنَا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، فنأتهم هَذَا الْأَمر وَإِن لم يقبلُوا؛ حَتَّى يكون ذَلِك لنا عذرا عِنْد الله - تَعَالَى - وَيقْرَأ " معذرة " بِالنّصب، أَي: نعتذر معذرة إِلَى ربكُم {ولعلهم يَتَّقُونَ} .

165

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ} أَي: تركُوا مَا ذكرُوا بِهِ، قيل: كَانُوا يصطادون سَبْعَة أَيَّام، وَقيل: كَانُوا قد اصطادوا يَوْمًا وَاحِدًا. {أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء} يَعْنِي: الْفرْقَة الناهية {وأخذنا الَّذين ظلمُوا بِعَذَاب بئيس} يَعْنِي: الْفرْقَة العاصية، فأخذناهم بِعَذَاب بئيس على وزن فعيل. وَبئسَ على وزن فعل، وَبئسَ على وزن فعلل، وَالْكل وَاحِد، وَمَعْنَاهُ: بِعَذَاب شَدِيد، قَالَ ابْن عَبَّاس: بِعَذَاب لَا رَحْمَة فِيهِ. {بِمَا كَانُوا يفسقون} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَدْرِي أَن الْفرْقَة العاصية قد هَلَكت، وَأَن الْفرْقَة الناهية قد نجت، وَلَا أَدْرِي مَا حَال الْفرْقَة الساكتة. قَالَ عِكْرِمَة: مَا زلت أنزلهُ - يَعْنِي: من الْآيَات دَرَجَة دَرَجَة - وأبصره - يَعْنِي: ابْن عَبَّاس - حَتَّى قَالَ: نجت الْفرْقَة الساكتة، وكساني بذلك حلَّة. فَإِن عِكْرِمَة كَانَ

{كونُوا قردة خَاسِئِينَ (166) وَإِذ تَأذن رَبك ليبْعَثن عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من يسومهم سوء الْعَذَاب إِن رَبك لسريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم (167) وقطعناهم فِي الأَرْض أمما مِنْهُم الصالحون وَمِنْهُم دون ذَلِك وبلوناهم بِالْحَسَنَاتِ والسيئات لَعَلَّهُم يرجعُونَ} يكلمهُ فِي الْآيَة، ويستدل بظاهرها؛ حَتَّى ظهر الدَّلِيل لِابْنِ عَبَّاس على نجاة الْفرْقَة الساكتة، وَمن الدَّلِيل عَلَيْهِ فِي ظَاهر الْآيَة أَنه قَالَ: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ} وَتلك الْفرْقَة لم ينسوا ذَلِك، وَالثَّانِي أَنه قَالَ: {أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء} والفرقة الساكتة قد نهوا نهي تحذير بقَوْلهمْ: لم تعظون قوما الله مهلكهم. وَالثَّالِث أَنه قَالَ: {وأخذنا الَّذين ظلمُوا} يَعْنِي: بالاصطياد يَوْم السبت؛ وهم مَا ظلمُوا بالاصطياد، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: نجت الفرقتان، وَهَلَكت وَاحِدَة.

166

وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا عتوا عَمَّا نهوا عَنهُ قُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ} وَهَذَا أَمر تكوين، وَقَوله: {خَاسِئِينَ} أَي: مبعدين.

167

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ تَأذن رَبك} أَي: أعلم رَبك، قَالَ الشَّاعِر: (تَأذن إِن شَرّ النَّاس حَيّ ... يُنَادي من شعارهم يسَار) وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: تألى رَبك وَحلف {ليبْعَثن عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من يسومهم سوء الْعَذَاب} أَي: يذيقهم سوء الْعَذَاب، وَهُوَ الْجِزْيَة، وَقيل: هُوَ قتل بخْتنصر إيَّاهُم فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يبْعَث عَلَيْهِم الْعَذَاب، وَقد أهلكهم؟ وَقيل: أَرَادَ بِهِ على أبنائهم، وَمن يَأْتِي بعدهمْ {إِن رَبك لسريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم} .

168

قَوْله تَعَالَى: {وقطعناهم فِي الأَرْض أمما} أَي: فرقناهم فرقا، وَمَعْنَاهُ: شتتنا أَمر الْيَهُود فَلَا يَجْتَمعُونَ على كلمة وَاحِدَة {مِنْهُم الصالحون} يَعْنِي: الَّذين أَسْلمُوا مِنْهُم {وَمِنْهُم دون ذَلِك} يَعْنِي الَّذين بقوا على الْكفْر. {وبلوناهم} أَي: اختبرناهم {بِالْحَسَنَاتِ والسيئات} أَي: بِالْخصْبِ والجدب وَالْخَيْر وَالشَّر {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} .

( {168) فخلف من بعدهمْ خلف ورثوا لكتاب يَأْخُذُونَ عرض هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سيغفر لنا وَإِن يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه ألم يُؤْخَذ عَلَيْهِم مِيثَاق الْكتاب أَن لَا يَقُولُوا على الله إِلَّا الْحق ودرسوا مَا فِيهِ وَالدَّار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون (169) }

169

قَوْله تَعَالَى: {فخلف من بعدهمْ خلف} اعْلَم أَن الْخلف يُقَال فِي الذَّم والمدح جَمِيعًا، لَكِن عِنْد الْإِطْلَاق الْخلف للمدح، وَالْخلف للذم، قَالَ الشَّاعِر: (لنا لقدم الأولى إِلَيْك وخلفنا ... لأولنا فِي طَاعَة لله تَابع) وَهَاهُنَا للذم، وَأَرَادَ بِهِ أَبنَاء الَّذين سبق ذكرهم من أَصْحَاب السبت {ورثوا الْكتاب} يَعْنِي: انْتقل إِلَيْهِم الْكتاب {يَأْخُذُونَ عرض هَذَا الْأَدْنَى} أَي: حطام الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا سميت الدُّنْيَا دنيا؛ لِأَنَّهَا أدنى إِلَى الْخلق من الْآخِرَة؛ وَلذَلِك قَالَ: ( {عرض هَذَا الْأَدْنَى} وَيَقُولُونَ سيغفر لنا) وَهَذَا اغترار مِنْهُم بِاللَّه - تَعَالَى - وَفِي الحَدِيث: " الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت، والفاجر من أتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله الْمَغْفِرَة " {وَإِن يَأْتهمْ عرض مثله يأخذوه} قَالَ مُجَاهِد: وَصفهم بالإصرار على الذَّنب، وَقيل مَعْنَاهُ: إِنَّهُم يَأْخُذُونَ أخذا بعد أَخذ لَا يبالون من حَلَال كَانَ أَو من حرَام، بل يَأْخُذُونَ من غير تفتيش. {ألم يُؤْخَذ عَلَيْهِم مِيثَاق الْكتاب أَلا يَقُولُوا على الله إِلَّا الْحق} أَي: أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد أَلا يَقُولُوا على الله الْبَاطِل فِي التوارة {ودسوا مَا فِيهِ} أَي: علمُوا ذَلِك فِيهِ بالدرس، قَالَه الضَّحَّاك، ودرس الْكتاب: قِرَاءَته مرّة بعد أُخْرَى {وَالدَّار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون} .

{وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب وَأَقَامُوا الصَّلَاة إِنَّا لَا نضيع أجر المصلحين (170) وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة وظنوا أَنه وَاقع بهم خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (171) وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم}

170

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يمسكون بِالْكتاب وَأَقَامُوا الصَّلَاة} قيل: هَذَا فِي أمة مُحَمَّد وَقيل: هُوَ فِيمَن أسلم من الْيَهُود، يمسكون بِالْقُرْآنِ، وَأَقَامُوا الصَّلَاة {إِنَّا لَا نضيع أجر المصلحين} .

171

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظلة} نتقنا أَي: رفعنَا الْجَبَل فَوْقهم، وَقد ذكر هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة {وظنوا أَنه وَاقع بهم} يَعْنِي: وأيقنوا، وَالظَّن: الْيَقِين: وَقيل: غلب على ظنهم أَنه وَاقع بهم {خُذُوا مَا آتيناكم بِقُوَّة واذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} وَقد ذكرنَا الْقِصَّة فِي سُورَة الْبَقَرَة.

172

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} فِي الْآيَة نوع إِشْكَال، وَشَرحهَا وتفسيرها فِي الْأَخْبَار، روى مَالك فِي الْمُوَطَّأ بِإِسْنَادِهِ عَن مُسلم بن يسَار الْجُهَنِيّ عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِن الله - تَعَالَى - مسح ظهر آدم، فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ، ثمَّ مسح ظهر آدم فاستخرج ذُرِّيَّة، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أهل النَّار، وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ، فَقيل: يَا رَسُول الله، فَفِيمَ الْعَمَل إِذا؟ فَقَالَ: إِن الله - تَعَالَى - إِذا خلق للجنة أَهلا استعملهم بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يدخلهم الْجنَّة، وَإِذا خلق للنار خلقا استعملهم بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يدخلهم النَّار " وَالْمَعْرُوف وَالَّذِي عَلَيْهِ جمَاعَة الْمُفَسّرين فِي معنى الْآيَة أَن الله - تَعَالَى -

{أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين (172) أَو} مسح صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة بَيْضَاء كَهَيئَةِ الذَّر يتحركون، ثمَّ مسح صفحة ظهر آدم الْيُسْرَى فَأخْرج مِنْهُ ذُرِّيَّة سَوْدَاء كَهَيئَةِ الذَّر، فَقَالَ: يَا آدم، هَؤُلَاءِ ذريتك، ثمَّ قَالَ لَهُم: {أَلَسْت بربكم} ؟ قَالُوا: بلَى، فَقَالَ للبيض: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة برحمتي وَلَا أُبَالِي، وهم أَصْحَاب الْيَمين، وَقَالَ للسود: هَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي، وهم أَصْحَاب الشمَال، ثمَّ أعادهم جَمِيعًا فِي صلبه، فَأهل الْقُبُور محبوسون حَتَّى يخرج أهل الْمِيثَاق كلهم من أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء. قَالَ الله تَعَالَى فِيمَن نقض الْعَهْد: {وَمَا وجدنَا لأكثرهم من عهد} وروى أَبُو الْعَالِيَة عَن أبي بن كَعْب فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ: جمعهم الله جَمِيعًا، فجعلهم أرواحا ثمَّ صورهم، ثمَّ استنطقهم، فَقَالَ: {أَلَسْت بربكم} ؟ قَالُوا: بلَى، شَهِدنَا أَنَّك رَبنَا وإلهنا، لَا رب لنا غَيْرك، قَالَ الله - تَعَالَى -: فَأرْسل إِلَيْكُم رُسُلِي، وَأنزل عَلَيْكُم كتبي، فَلَا تكذبوا رُسُلِي، وَصَدقُوا كَلَامي، فَإِنِّي سأنتقم مِمَّن أشرك وَلم يُؤمن بِي، فَأخذ عَهدهم وميثاقهم. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله استخرج ذُرِّيَّة آدم، فنثرهم بَين يَدي آدم، ثمَّ كَلمهمْ قبلا - أَي: عيَانًا - فَقَالَ: {أَلَسْت بربكم} ؟ قَالُوا: بلَى. وَقيل: جعل لَهُم عقولا يفهمون بهَا، وألسنة ينطقون بهَا، ثمَّ خاطبهم وألهمهم الْجَواب. وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين عَن عُلَمَاء السّلف: إِن الْكل قَالُوا: بلَى، لَكِن الْمُؤمنِينَ قَالُوا: بلَى طَوْعًا، وَقَالَ الْكَافِرُونَ كرها، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: {وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} . رَجعْنَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} فَإِن قَالَ قَائِل: لما كَانَ الاستخراج من ظهر آدم، فَكيف قَالَ: {أَخذ رَبك من بني آدم من

{تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون (173) } ظُهُورهمْ) ؟ قَالَ بعض الْعلمَاء فِي جَوَابه: إِن الله - تَعَالَى - استخرجهم من صلب آدم على التَّرْتِيب الَّذِي يُخرجهُ من بني آدم من ظُهُورهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَلذَلِك قَالَ: {أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ} . وَاعْلَم أَن الْمُعْتَزلَة تأولوا هَذِه الْآيَة، فَقَالُوا: أَرَادَ بِهِ الْأَخْذ من ظُهُور بني آدم على التَّرْتِيب الَّذِي مَضَت بِهِ السّنة من لدن آدم إِلَى فنَاء الْعَالم. وَقَوله: {وأشهدهم على أنفسهم} يَعْنِي كَمَا نصب من دَلَائِل الْعُقُول الَّتِي تدل على كَونه رَبًّا، ويلجئهم إِلَى الْجَواب بقَوْلهمْ: بلَى، وأنكروا الْمِيثَاق. وَهَذَا تَأْوِيل بَاطِل، وَأما أهل السّنة مقرون بِيَوْم الْمِيثَاق، وَالْآيَة على مَا سبق ذكره. {وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى شَهِدنَا أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين} وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: {شَهِدنَا} قل بَعضهم: هَذَا من قَول الله وَالْمَلَائِكَة قَالُوا: شَهِدنَا، وَقيل: هُوَ قَول المخاطبين، قَالُوا: بلَى شَهِدنَا، وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: أَن الله تَعَالَى قَالَ للْمَلَائكَة: اشْهَدُوا، فَقَالُوا: شَهِدنَا. وَأما قَوْله تَعَالَى: {أَن تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة} يقْرَأ بِالْيَاءِ وَالتَّاء، فَمن قَرَأَ بِالْيَاءِ فتقدير الْكَلَام: وأشهدهم على أنفسهم لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة: إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين، وَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ فتقدير الْكَلَام: أخاطبكم أَلَسْت بربكم؟ لِئَلَّا تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة: إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين. فَإِن قَالَ قَائِل: الْحجَّة إِنَّمَا تلْزم فِي الدُّنْيَا إِذا رجعُوا عَن ذَلِك الْعَهْد الَّذِي كَانَ يَوْم الْمِيثَاق وَاحِد لَا يذكر ذَلِك الْمِيثَاق حَتَّى يكون بِالرُّجُوعِ معاندا، فَتلْزمهُ الْحجَّة، وَقيل: إِن الله - تَعَالَى - قد أوضح الدَّلَائِل ونصبها على وحدانيته، وَصدق قَوْله، وَقد أخبر عَن يَوْم الْمِيثَاق، وَهُوَ صَادِق فِي الْأَخْبَار، فَكل من نقض ذَلِك الْعَهْد كَانَ معاندا ولزقته الْحجَّة.

173

قَوْله تَعَالَى: {أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل} يَعْنِي: إِنَّمَا أخذت مَا أخذت

{وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولعلهم يرجعُونَ (174) واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ} من الْعَهْد والميثاق عَلَيْكُم جَمِيعًا؛ لِئَلَّا تَقولُوا: {إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ} يَعْنِي: أَن الْجِنَايَة من الْآبَاء، وَكُنَّا أتباعا لَهُم؛ فيجعلوا لأَنْفُسِهِمْ حجَّة وعذرا عِنْد الله، وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن أَوْلَاد الْكفَّار يكونُونَ مَعَ الْكفَّار. {أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون} أَي: تأخذنا بِجِنَايَة آبَائِنَا المبطلين؟ .

174

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولعلهم يرجعُونَ} .

175

قَوْله تَعَالَى: {واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود: فِي بلعم بن باعور، وَيُقَال: بلعام بن باعر، كَانَ فِي مَدِينَة الجبارين، وَكَانَ مَعَه الِاسْم الْأَعْظَم، فَلَمَّا قصدهم مُوسَى بجنده، قَالُوا لبلعم: إِن مُوسَى رجل فِيهِ حِدة، فَادع الله حَتَّى يرد عَنَّا مُوسَى، وَقيل: إِن ملكهم دَعَاهُ إِلَى نَفسه وَقَالَ لَهُ ذَلِك، فَقَالَ بلعم: لَو فعلت ذَلِك ذهب ديني ودنياي، فألحوا عَلَيْهِ حَتَّى دَعَا الله - تَعَالَى - فاستجيبت دَعوته، ورد عَنْهُم مُوسَى، وأوقعهم فِي التيه، فَلَمَّا وَقَعُوا فِي التيه، قَالَ مُوسَى: يَا رب بِمَ حبستنا فِي التيه؟ قَالَ: بِدُعَاء بلعم. قَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ فَكَمَا استجبت دَعوته فِينَا فاستجب دَعْوَتِي فِيهِ، ثمَّ دَعَا الله - تَعَالَى - حَتَّى ينْزع عَنهُ اسْمه الْأَعْظَم وَالْإِيمَان، فَفعل، وَقيل: نزع الله عَنهُ الِاسْم الْأَعْظَم وَالْإِيمَان، معاقبة لَهُ على مَا دَعَا، وَلم يكن ذَلِك بدعوة مُوسَى؛ فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فانسلخ مِنْهَا} . وَقَالَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: الْآيَة فِي أُميَّة بن أبي الصَّلْت الثَّقَفِيّ كَانَ يطْلب الدّين قبل مبعث النَّبِي، وَكَانَ يطْمع أَن يكون نَبيا، فَلَمَّا بعث النَّبِي حسده وَكفر بِهِ، وَكَانَ أُميَّة صَاحب حِكْمَة وموعظة حَسَنَة. وَقَالَ الْحسن: الْآيَة فِي منافقي الْيَهُود. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي نَبِي من الْأَنْبِيَاء بَعثه الله - تَعَالَى - إِلَى قومه، فرشاه قومه. وَهَذَا أَضْعَف الْأَقْوَال؛ لِأَن الله تَعَالَى يعْصم أنبياءه عَن مثل ذَلِك، وَعَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى - أَن الْآيَة فِي رجل من بني إِسْرَائِيل كَانَت لَهُ ثَلَاث دعوات مستجابة أعطَاهُ الله تَعَالَى ذَلِك، وَكَانَت لَهُ امْرَأَة

{مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين (175) وَلَو شِئْنَا لرفعناه وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث ذَلِك مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فاقصص الْقَصَص لَعَلَّهُم يتفكرون (176) سَاءَ مثلا الْقَوْم الَّذين} دَمِيمَة؛ فَقَالَت لَهُ: ادْع الله أَن يَجْعَلنِي من أجمل نسَاء الْعَالم، فَدَعَا الله تَعَالَى فَاسْتَجَاب دَعوته؛ فتمردت واستعصت عَلَيْهِ؛ فَدَعَا الله تَعَالَى أَن يَجْعَلهَا كلبة؛ فَجعلت، فَقَالَ لَهُ بنوها: ادْع الله أَن يردهَا، فَدَعَا الله تَعَالَى فَعَادَت كَمَا كَانَت، فَذَهَبت فِيهَا دعواته الثَّلَاثَة، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ أظهر. وَقَوله: {فَأتبعهُ الشَّيْطَان} أَي: أدْركهُ الشَّيْطَان، يُقَال: تبعه إِذا سَار فِي أَثَره، وَاتبعهُ إِذا أدْركهُ {فَكَانَ من الغاوين} أَي: من الضَّالّين.

176

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا} أَي لرفعنا دَرَجَته ومنزلته بِتِلْكَ الْآيَات وأمتناه قبل أَن يكفر، وَقيل مَعْنَاهُ: لَو شِئْنَا [لحلنا] بَينه وَبَين الْكفْر {وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض} أَي: مَال إِلَى الدُّنْيَا، {وَاتبع هَوَاهُ} وَهَذِه أَشد آيَة فِي حق الْعلمَاء، وقلما يخلوا عَن أحد هذَيْن عَالم من الركون إِلَى الدُّنْيَا، ومتابعة الْهوى. {فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث} ضرب لَهُ مثلا بأخس حَيَوَان فِي أخس الْحَال؛ فَإِنَّهُ ضرب لَهُ الْمثل بالكلب لاهثا، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنَّك إِن حملت على الْكَلْب وطردته يَلْهَث، وَإِن تتركه يَلْهَث، فَكَذَلِك الْكَافِر، إِن وعظته وزجرته فَهُوَ ضال، وَإِن تركته فَهُوَ ضال، واللهث: إدلاع اللِّسَان. {ذَلِك مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} ضرب الْمثل ثمَّ بَين أَنه مثل ذَلِك (الَّذِي) سبق ذكره، وَقيل: هَذَا كُله ضرب مثل للْكفَّار مَكَّة؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يتمنون أَن يكون مِنْهُم بني، فَلَمَّا بعث النَّبِي حسدوه وَكَفرُوا؛ فَكَانُوا كفَّارًا قبل بعثته وكفارا (بعد بعثته) {فاقصص الْقَصَص لَعَلَّهُم يتفكرون} .

{كذبُوا بِآيَاتِنَا وأنفسهم كَانُوا يظْلمُونَ (177) من يهد الله فَهُوَ الْمُهْتَدي وَمن يضلل فَأُولَئِك هم الخاسرون (178) وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا}

177

قَوْله تَعَالَى {سَاءَ مثلا الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} أَي: بئس الْمثل مثلا الْقَوْم ( {وأنفسهم كَانُوا يظْلمُونَ}

178

من يهد الله) أَي: من يهده الله {فَهُوَ المهتد وَمن يضلل} أَي: وَمن يضلله الله {فَأُولَئِك هم الخاسرون} وَهَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة؛ حَيْثُ نسب الْهِدَايَة والضلالة إِلَى فعله من غير سَبَب.

179

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس} أَي: خلقنَا لِجَهَنَّم كثيرا، وَهَذَا على وفْق قَول أهل السّنة، وروت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة، وَخلق لَهَا أَهلا؛ خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب بائهم، وَخلق النَّار، وَخلق لَهَا أَهلهَا، خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم " وَهَذَا فِي الصَّحِيح، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم وَأَسْمَاء قبائلهم، وَخلق النَّار، وَخلق لَهَا أَهلا بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم وَأَسْمَاء قبائلهم - وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي الصَّحِيح - لَا يُزَاد فيهم وَلَا ينقص " وَقيل معنى قَوْله: {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم} أَي: ذرأناهم، وعاقبة أَمرهم إِلَى جَهَنَّم، وَاللَّام لَام الْعَاقِبَة، وَهَذَا مثل قَول الْقَائِل: (يَا أم سليم فَلَا تجزء عَن ... فللموت مَا تَلد الوالدة) وَقَالَ آخر: (وللموت تغذوا الوالدات سخالها ... كَمَا لخراب الدَّهْر تبنى المساكن)

{يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون (179) وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ (180) وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ} وَالْأول أصح، وَأقرب إِلَى مَذْهَب أهل السّنة، وَقَوله: {لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا} وَمَعْنَاهُ: أَنهم لما لم يفقهوا بقلوبهم مَا انتفعوا بِهِ، وَلم يبصروا بأعينهم، وَلم يسمعوا بآذانهم؛ مَا انتفعوا بِهِ؛ فكأنهم لَا يفقهُونَ وَلَا يبصرون وَلَا يسمعُونَ شَيْئا، وَهَذَا كَمَا قَالَ مِسْكين الدَّارِيّ: (أعمى إِذا مَا جارتي برزت ... حَتَّى توارى جارتي الخدر) (أَصمّ عَمَّا كَانَ بَينهمَا سَمْعِي ... وَمَا بِالسَّمْعِ من وقر) {أُولَئِكَ كالأنعام} يَعْنِي: فِي أَن همتهم من الدُّنْيَا الْأكل والتمتع بالشهوات {بل هم أضلّ} وَذَلِكَ أَن الْأَنْعَام تميز بَين المضار وَالْمَنَافِع، وَأُولَئِكَ لَا يميزون مَا يضرهم عَمَّا يَنْفَعهُمْ {أُولَئِكَ هم الغافلون} .

180

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا} الْأَسْمَاء الْحسنى هِيَ مَا وَردت فِي الْخَبَر، روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما - مائَة غير وَاحِد - من أحصاها دخل الْجنَّة "، وَقَوله: {الْحسنى} يرجع إِلَى التسميات، وَقَوله {فَادعوهُ بهَا} وَذَلِكَ بِأَن يَقُول: يَا عَزِيز، يَا رَحْمَن، وَنَحْو هَذَا، وَاعْلَم أَن أَسمَاء الله تَعَالَى على التَّوْقِيف؛ فَإِنَّهُ يُسمى جوادا وَلَا يُسمى سخيا، وَإِن كَانَ فِي معنى الْجواد، وَيُسمى رحِيما وَلَا يُسمى رَقِيقا، وَيُسمى عَالما وَلَا يُسمى عَاقِلا، وعَلى هَذَا لَا يُقَال: يَا خَادع، يَا مكار، وَإِن ورد فِي الْقُرْآن ( {يخادعون الله وَهُوَ خادعهم} ويمكرون ويمكر الله) لَكِن لما لم يرد الشَّرْع بتسميته بِهِ لم يجز ذَلِك لَهُ. {وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} قَالَ يَعْقُوب بن السّكيت صَاحب الْإِصْلَاح:

{وَبِه يعدلُونَ (181) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ (182) وأملي لَهُم إِن كيدي متين (183) أَو لم يتفكروا مَا بِصَاحِبِهِمْ من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير} الْإِلْحَاد: هُوَ الْميل عَن الْحق، وَإِدْخَال مَا لَيْسَ فِي الدّين، قيل: والإلحاد فِي الْأَسْمَاء هَاهُنَا: كَانُوا يَقُولُونَ فِي مُقَابلَة اسْم الله: اللآت، وَفِي مُقَابلَة الْعَزِيز: الْعُزَّى، وَمَنَاة فِي مُقَابلَة المنان، وَقيل: هُوَ تسميتهم الْأَصْنَام آلِهَة، وَهَذَا أعظم الْإِلْحَاد فِي الْأَسْمَاء، فَهَذَا معنى قَوْله: {وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ سيجزون مَا كَانُوا يعْملُونَ} .

181

قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} روى قَتَادَة مُرْسلا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هَؤُلَاءِ من هَذِه الْأمة، وَقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ " وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قوم مُوسَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمن قوم مُوسَى أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ} .

182

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ} قَالَ الْأَزْهَرِي: الاستدراج: هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَمِنْه درج الْكتاب، وَقيل: الاستدراج من الله هُوَ أَن العَبْد كلما ازْدَادَ مَعْصِيّة زَاده الله - تَعَالَى - نعْمَة، وَقيل: هُوَ أَن يكثر عَلَيْهِ النعم وينسيه الشُّكْر، ثمَّ يَأْخُذهُ بَغْتَة؛ فَهَذَا هُوَ الاستدراج من حَيْثُ لَا يعلمُونَ.

183

قَوْله تَعَالَى: {وأملي لَهُم} أَي: أمْهل لَهُم وأؤخر لَهُم {إِن كيدي متين} أَي: شَدِيد.

184

قَوْله تَعَالَى {أَو لم يتفكروا مَا بِصَاحِبِهِمْ من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير مُبين} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا رُوِيَ: " أَن النَّبِي ذَات لَيْلَة صعد الصَّفَا، وَهُوَ يُنَادي طول اللَّيْل: يَا بني فلَان، يَا بني فلَان، إِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد، فَلَمَّا أَصْبحُوا قَالُوا: إِن مُحَمَّدًا قد جن، يَصِيح طول اللَّيْل؛ فَنزلت هَذِه الْآيَة " {أَو لم يتفكروا} " يَعْنِي: فِي حَال مُحَمَّد أَنه لَا يَلِيق بِحَالهِ الْجُنُون.

{مُبين (184) أَو لم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا خلق الله من شَيْء وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ (185) من يضلل الله فَلَا هادي لَهُ ويذرهم فِي طغيانهم يعمهون (186) يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد رَبِّي لَا يجليها لوَقْتهَا إِلَّا هُوَ ثقلت فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (187)

185

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: استدلوا بهَا على وحدانية الله تَعَالَى {وَمَا خلق الله من شَيْء} أَي: أَو لم ينْظرُوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء {وَأَن عَسى أَن يكون قد اقْترب أَجلهم} يَعْنِي: لَعَلَّ قد اقْترب أَجلهم فيموتوا قبل أَن يُؤمنُوا {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} أَي: بِأَيّ نَبِي بعد مُحَمَّد، وَبِأَيِّ كتاب بعد كتاب مُحَمَّد يُؤمنُونَ.

186

قَوْله تَعَالَى: {من يضلل الله} أَي: من يضلله الله {فَلَا هادي لَهُ ويذرهم فِي طغيانهم يعمهون} أَي: فِي غلوهم فِي الْبَاطِل {يعمهون} يتحيرون ويترددون.

187

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها} أَي: مثبتها، يُقَال: أرسى، أَي: أثبت، وَمَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة مَتى قِيَامهَا {قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد رَبِّي لَا يجليها لوَقْتهَا} لَا يظهرها لوَقْتهَا ( {إِلَّا هُوَ} ثقلت فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض) أَي: خَفِي علمهَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَكَأَنَّمَا ثقلت، وكل خَفِي ثقيل، وَمَعْنَاهُ: ثقيل وصفهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ بِمَا يكون فِيهَا من تكوير الشَّمْس وَالْقَمَر، وتكوير النُّجُوم، وتسيير الْجبَال، وطي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَقيل مَعْنَاهُ: عظم وُقُوعهَا على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض. {لَا تَأْتيكُمْ إِلَّا بَغْتَة} أَي: فَجْأَة. {يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا} أَي كَأَنَّك مسرور بسؤالهم عَنْهَا، يُقَال: تحفيت فلَانا فِي الْمَسْأَلَة إِذا سَأَلته وأظهرت السرُور فِي سؤالك، فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة:

{قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر وَمَا مسني السوء إِن أَنا إِلَّا نَذِير وَبشير لقوم يُؤمنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة وَجعل مِنْهَا زَوجهَا ليسكن إِلَيْهَا فَلَمَّا تغشاها حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ} يَسْأَلُونَك عَنْهَا كَأَنَّك حفي بسؤالهم، وَقيل مَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَك كَأَنَّك حفي عَنْهَا أَي: عَالم بهَا، يُقَال: أحفيت فلَانا، إِذا مَا بالغت فِي الْمَسْأَلَة عَنهُ حَتَّى علمت، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: كَأَنَّك حفي عَنْهَا، أَي: كَأَنَّك بالغت فِي السُّؤَال عَنْهَا، حَتَّى علمت {قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} .

188

قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أملك لنَفْسي نفعا وَلَا ضرا إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَو كنت أعلم الْغَيْب لاستكثرت من الْخَيْر وَمَا مسني السوء} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَعْنَاهُ: وَلَو كنت أعلم الخصب من الجدب لأعددت من الخصب للجدب وَمَا مسني الْجُوع، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن جريج: مَعْنَاهُ: لَو كنت أعلم مَتى أَمُوت لاستكثرت من الْخيرَات والطاعات، وَمَا مسني السوء أَي: مَا بِي جُنُون؛ لأَنهم كَانُوا نسبوه إِلَى الْجُنُون. القَوْل الثَّالِث: مَعْنَاهُ: وَلَو كنت أعلم مَتى السَّاعَة لأخبرتكم بقيامها حَتَّى تؤمنوا، وَمَا مسني السوء يَعْنِي: بتكذيبكم {إِن أَنا إِلَّا نَذِير وَبشير لقوم يُؤمنُونَ} .

189

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} يَعْنِي: آدم {وَجعل مِنْهَا زَوجهَا} يَعْنِي: حَوَّاء ( {ليسكن إِلَيْهَا} فَلَمَّا تغشاها) أَي: وَطئهَا، والغشيان أحسن كِنَايَة عَن الْوَطْء، يُقَال: تغشاها وتخللها، إِذا وَطئهَا. {حملت حملا خَفِيفا} هُوَ أول مَا تحمل الْمَرْأَة من النُّطْفَة {فمرت بِهِ} وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " فمرت بِهِ " خَفِيفا من المرية أَي: شكت، وَقُرِئَ فِي الشواذ: " فمارت بِهِ: " أَي: تحركت بِهِ من المور، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فاستمرت بِهِ " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَمَعْنَاهُ: فمرت بِالْحملِ حَتَّى قَامَت وَقَعَدت وَدخلت وَخرجت، وَقيل: هُوَ مقلوب، وَتَقْدِيره فَمر الْحمل بهَا حَتَّى قَامَت وَقَعَدت {فَلَمَّا أثقلت} أَي: حَان

{فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما لَئِن آتيتنا صَالحا لنكونن من الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهما} وَقت الْولادَة {دعوا الله ربهما} . وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْلِيس جَاءَ إِلَى حَوَّاء حِين حبلت، وَقَالَ لَهَا: أَتَدْرِينَ مَا فِي بَطْنك؟ قَالَت: لَا. فَقَالَ: لَعَلَّه بَهِيمَة، وَإِنِّي أخْشَى أَن تكون لَهَا قرنان تشق بهما بَطْنك؛ فخافت حَوَّاء، وَجَلَست حزينة، ثمَّ عَاد إِلَيْهَا اللعين، وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَن أَدْعُو الله تَعَالَى حَتَّى يَجعله إنْسَانا متكلما؟ قَالَت: نعم. إِنِّي قد وسوست إلَيْكُمَا مرّة فأطيعاني حَتَّى أَدْعُو، فَقَالَت: مَاذَا نصْنَع؟ قَالَ اللعين: إِذا ولدت تسميه عبد الْحَارِث - وَكَانَ اسْم إِبْلِيس من قبل الْحَارِث - فَذكرت ذَلِك لآدَم، فتوافقا على ذَلِك، فَلَمَّا ولدت سمياه عبد الْحَارِث، وَقيل: إِنَّهَا ولدت مرّة فسمياه عبد الله فَمَاتَ، ثمَّ ولدت ولد آخر فسمياه عبد الله فَمَاتَ، فجَاء اللعين، وَقَالَ: أما علمتما أَن الله تَعَالَى لَا يدع عَبده عندكما، فَإِذا ولدت ولدا فَسَمِّيهِ عبد الْحَارِث، حَتَّى يحيا، فَلَمَّا ولدت الثَّالِث سمياه عبد الْحَارِث فَعَاشَ وَحيا. وَفِي الْخَبَر: قَالَ النَّبِي: " خدعهما إِبْلِيس مرَّتَيْنِ: مرّة فِي الْجنَّة، وَمرَّة فِي الأَرْض " وَأَرَادَ بِهِ هَذَا ". قَوْله {فَلَمَّا أثقلت دعوا الله ربهما} يَعْنِي: آدم وحواء {لَئِن آتيتنا صَالحا} أَي: ولدا سوى الْخلق، إِذْ كَانَا [يدعوان] أَن يَجعله الله إنْسَانا مثلهمَا خوفًا من وَسْوَسَة إِبْلِيس ( {لنكونن من الشَّاكِرِينَ}

190

فَلَمَّا آتاهما صَالحا) أَي: سوى الْخلق {جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما} يَعْنِي سمياه عبد الْحَارِث، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول: {جعلا لَهُ شُرَكَاء} وآدَم كَانَ نَبيا مَعْصُوما عَن الْإِشْرَاك بِاللَّه؟ قيل: لم يكن هَذَا إشراكا فِي التَّوْحِيد، وَإِنَّمَا ذَلِك إشراك فِي الِاسْم، وَذَلِكَ لَا يقْدَح فِي التَّوْحِيد، وَهُوَ مثل تَسْمِيَة الرجل وَلَده عبد يَغُوث وَعبد زيد وَعبد عَمْرو، وَقَول الرجل لصَاحبه: أَنا عَبدك، وعَلى ذَلِك قَول يُوسُف - صلوَات الله عَلَيْهِ -: {إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي} وَمثل هَذَا لَا يقْدَح، وَأما قَوْله: {فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ}

{صَالحا جعلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتاهما فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ (190) أيشركون مَا لَا يخلق شَيْئا وهم يخلقون (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ (192) وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يتبعوكم سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون (193) إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين} ابْتِدَاء كَلَام بعد الأول، وَأَرَادَ بِهِ: إشراك أهل مَكَّة، وَلَئِن أَرَادَ بِهِ الْإِشْرَاك الَّذِي سبق استقام الْكَلَام؛ لِأَنَّهُ كَانَ الأولى أَلا يفعل مَا أَتَى بِهِ من الْإِشْرَاك فِي الِاسْم، وَكَانَ ذَلِك زلَّة مِنْهُ، فَلذَلِك قَالَ: {فتعالى الله عَمَّا يشركُونَ} وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن هَذَا فِي جَمِيع بني آدم. قَالَ عِكْرِمَة: وَكَأن الله يُخَاطب بِهِ كل وَاحِد من الْخلق بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} يَعْنِي: خلق كل وَاحِد من أَبِيه {وَجعل مِنْهَا زَوجهَا} أَي: جعل من جِنْسهَا زَوجهَا {ليسكن إِلَيْهَا} يَعْنِي: كل زوج إِلَى زَوجته {فَلَمَّا تغشاها} أَي: وَطئهَا {حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ} وَهَذَا قَول حسن فِي الْآيَة. وَقيل: إِنَّمَا عبر بِآدَم وحواء عَن جَمِيع أولادهما؛ لِأَنَّهُمَا أصل الْكل، وَالْأول أشهر وَأظْهر، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَسَعِيد بن جُبَير. وَجَمَاعَة الْمُفَسّرين كلهم قَالُوا: إِن الْآيَة فِي آدم وحواء كَمَا بَينا.

191

قَوْله تَعَالَى: {أيشركون مَا لَا يخلق شَيْئا وهم يخلقون} يَعْنِي: الْأَصْنَام لَا يخلقون شَيْئا بل هم مخلوقون

192

{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُم نصرا} أَي: منعا {وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ} .

193

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يتبعوكم} هَذَا فِي قوم مخصوصين علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ {سَوَاء عَلَيْكُم أدعوتموهم أم أَنْتُم صامتون} أَي: سَوَاء دعوتموهم أَو لم تدعوهم لَا يُؤمنُونَ)

194

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ تكون الْأَصْنَام عبادا أمثالنا؟ قيل: قَالَ مقَاتل: أَرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَة. وَالْخطاب مَعَ قوم كَانُوا

( {194) ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا أم لَهُم أعين يبصرون بهَا أم لَهُم آذان يسمعُونَ بهَا قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون (195) إِن وليي الله الَّذِي نزل الْكتاب وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين (196) وَالَّذين تدعون من دونه لَا يَسْتَطِيعُونَ} يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الشَّيَاطِين. وَالْخطاب مَعَ قوم كَانُوا يعْبدُونَ الكهنة وَالشَّيَاطِين، وَالصَّحِيح أَنه فِي الْأَصْنَام، وهم عباد أَمْثَال النَّاس فِي الْعِبَادَة، وعبادتهم التَّسْبِيح، وللجمادات تَسْبِيح كَمَا نطق بِهِ الْكتاب. {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} وَقَوله {أمثالكم} يَعْنِي: أَن الْأَصْنَام مذللون مسخرون لما أُرِيد مِنْهُم مثلكُمْ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم} وَمَعْنَاهُ: أمثالكم فِي شَيْء دون شَيْء كَذَلِك هَاهُنَا وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: {أمثالكم} لأَنهم صوروها على صُورَة الْأَحْيَاء، وطلبوا مِنْهَا مَا يطْلب من الْأَحْيَاء. {فادعوهم فليستجيبوا لكم إِن كُنْتُم صَادِقين} وَهَذَا لبَيَان عجزهم، ثمَّ أكده فَقَالَ:

195

{ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا أم لَهُم أعين يبصرون بهَا أم لَهُم آذان يسمعُونَ بهَا} وَذَلِكَ أَن قدرَة المخلوقين إِنَّمَا تكون بِهَذِهِ الْآلَات والجوارح، وَلَيْسَت لَهُم تِلْكَ الْآلَات، بل أَنْتُم أكبر قدرَة مِنْهُم لوُجُود هَذِه الْأَشْيَاء فِيكُم. {قل ادعوا شركاءكم ثمَّ كيدون فَلَا تنْظرُون} أَي: فَلَا تمهلون.

196

قَوْله تَعَالَى: (إِن وليي الله الَّذِي نزل الْكتاب) يَعْنِي: ناصري ومعيني الله الَّذِي نزل الْكتاب، وَقُرِئَ فِي الشواذ: " إِن ولي الله " بِكَسْر الْهَاء، وَمَعْنَاهُ: جِبْرِيل ولي الله الَّذِي نزل الْكتاب أَي: نزل بِالْكتاب {وَهُوَ يتَوَلَّى الصَّالِحين} يَعْنِي: جِبْرِيل ولي الصَّالِحين، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل} .

197

قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين تدعون من دونه لَا يَسْتَطِيعُونَ نصركم وَلَا أنفسهم

{نصركم وَلَا أنفسهم ينْصرُونَ (197) وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يسمعوا وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون (198) خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ واعرض عَن الْجَاهِلين} ينْصرُونَ) وَهَذَا لبَيَان عجزهم أَيْضا

198

{وَإِن تدعوهم إِلَى الْهدى لَا يسمعوا} يَعْنِي: الْأَصْنَام {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك وهم لَا يبصرون} فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر النّظر من الْأَصْنَام؟ قَالَ الْكسَائي: تَقول الْعَرَب: دَاري تنظر إِلَى دَار فلَان، إِذا كَانَت مُقَابلَة لما، فَكَذَلِك قَوْله: {وتراهم ينظرُونَ إِلَيْك} يَعْنِي: نظر الْمُقَابلَة.

199

قَوْله تَعَالَى: {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} روى: " أَن جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما نزل بِهَذِهِ الْآيَة، قَالَ: يَا رَسُول الله، أَتَيْتُك بمكارم الْأَخْلَاق، فروى أَن النَّبِي سَأَلَ جِبْرِيل عَن معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أسأَل رَبِّي، ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ: صل من قَطعك، وَأعْطِ من حَرمك واعف عَن من ظلمك ". ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا الْعَفو، فَقَالَ عَطاء: هُوَ الْفضل من أَمْوَال النَّاس. وَكَانَ فِي الِابْتِدَاء يجب التَّصَدُّق بِمَا فضل من الْحَاجَات، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة الزَّكَاة، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} وَقَالَ ابْن الزبير: الْعَفو: مَا تيَسّر من أَخْلَاق النَّاس، أَي: خُذ الميسور من أَخْلَاق النَّاس مثل: قبُول الِاعْتِذَار، وَالْعَفو والمساهلة فِي الْأُمُور، وَترك الْبَحْث عَن الْأَشْيَاء وَنَحْو ذَلِك. وَقَوله: {وَأمر بِالْعرْفِ} هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مَا يعرفهُ الشَّرْع. وَقَوله: {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} يَعْنِي: إِذا سفه عَلَيْك الْجَاهِل فَلَا تكافئه وَلَا تقابله بالسفه، وَذَلِكَ مثل قَوْله: {وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما} وَذَلِكَ

( {199) وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه سميع عليم (200) إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون (202) وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبيتها قل إِنَّمَا} سَلام الْمُنَازعَة، قَالَ: {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} يَعْنِي: أكْرمُوا أنفسهم عَن الْخَوْض فِيهِ. وروى أَن عُيَيْنَة بن حصن - وَكَانَ سيد غطفان - لما قدم الْمَدِينَة قَالَ للْحرّ بن قيس: لَك وَجه عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ فَاسْتَأْذن لي عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذن لَهُ فَدخل على عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ لَهُ: إِنَّك لَا تقضي فِينَا بِالْحَقِّ، وَلَا تقسم فِينَا بِالْعَدْلِ، فَغَضب عمر وهم أَن يُؤَدِّيه، فَقَالَ الْحر بن قيس: إِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} وَهَذَا من الْجَاهِلين، فَسكت عمر - رَضِي الله عَنهُ -.

200

قَوْله تَعَالَى {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} النزغ من الشَّيْطَان: الوسوسة {فاستعذ بِاللَّه} أَي: استجر بِاللَّه {إِنَّه سميع عليم} .

201

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم طيف من الشَّيْطَان} وتقرأ: " طائف " ومعناهما وَاحِد. قَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْغَضَب. وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: هُوَ الوسوسة. وأصل الطيف: الْجُنُون. {تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون} وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم إِذا وسوسهم الشَّيْطَان بالمعصية ذكرُوا عِقَاب الله؛ فَإِذا هم كافون عَن الْمعْصِيَة. وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: ذكرُوا الله؛ فَإِذا هم يبصرون الْحق عَن الْبَاطِل.

202

قَوْله تَعَالَى: {وإخوانهم} أَي: أشباههم من الشَّيَاطِين {يمدونهم} أَي: يردونهم {فِي الغي} فِي الضَّلَالَة {ثمَّ لَا يقصرون} أَي: لَا يكفون.

{أتبع مَا يُوحى إِلَيّ من رَبِّي هَذَا بصائر من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (203) وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون (204) وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا}

203

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا لم تأتهم بِآيَة قَالُوا لَوْلَا اجتبتها} كَانُوا يسْأَلُون النَّبِي الْآيَات (تعنتا) ويستكثرون مِنْهَا، فَإِذا لم يقْرَأ عَلَيْهِم آيَة قَالُوا: لَوْلَا اجتبيتها، أَي: هلا اختلقتها وقلتها من تِلْقَاء نَفسك. قَالَ: {قل إِنَّمَا أتبع مَا يُوحى إِلَيّ من رَبِّي هَذَا بصائر من ربكُم} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} .

204

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} قَالَ الْحسن، وَالزهْرِيّ، وَالنَّخَعِيّ: هَذَا فِي الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة. وَقَالَ عَطاء وَمُجاهد: هُوَ فِي الْخطْبَة. وَلم يرْضوا من مُجَاهِد هَذَا القَوْل؛ لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَالْجُمُعَة إِنَّمَا وَجَبت بِالْمَدِينَةِ، وَلِأَن الِاسْتِمَاع فِي جَمِيع الْخطْبَة وَاجِب، وَلَا يخْتَص بِالْقِرَاءَةِ فِي الْخطْبَة. فَالْأول أصح. وَلَيْسَ لمن يرى ترك الْقِرَاءَة خلف الإِمَام مستدل (فِي الْآيَة) ؛ لِأَن الْقِرَاءَة خلف الإِمَام لَا تنَافِي الِاسْتِمَاع؛ لِأَنَّهُ يتبع سكتات الإِمَام، وَلِأَن الْآيَة فِيمَا وَرَاء الْفَاتِحَة؛ بِدَلِيل حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كُنْتُم خَلْفي فَلَا تقرءوا إِلَّا بِأم الْقُرْآن ". وَفِي الْآيَة: قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بِهِ النَّهْي عَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة. قَالَه أَبُو هُرَيْرَة. وَهَذَا قَول حسن.

205

قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا وخيفه} قيل: هَذَا فِي الدُّعَاء أَي: ادْع الله بالتضرع والخيفه. وَقيل: هُوَ فِي صَلَاة السِّرّ.

{وخيفة وَدون الْجَهْر من القَوْل بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال وَلَا تكن من الغافلين (205) إِن الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ (206) . {وَدون الْجَهْر من القَوْل} أَرَادَ بِهِ: فِي صَلَاة الْجَهْر لَا تجْهر جَهرا شَدِيدا {بِالْغُدُوِّ والأصال} فالغدو: أَوَائِل النَّهَار، وَالْآصَال: أَوَاخِر النَّهَار {وَلَا تكن من الغافلين} عَن ذكر الله.

206

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين عِنْد رَبك} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة؛ ذكرهم بالتقريب والكرامة {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ} يَعْنِي: إِن كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبَادَة الله تَعَالَى؛ فَالَّذِينَ عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْهَا. وَقد ورد فِي السُّجُود أَخْبَار مِنْهَا: مَا روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا سجد ابْن آدم؛ اعتزل الشَّيْطَان يبكي، وَيَقُول: يَا ويلاه، أَمر ابْن آدم بِالسُّجُود فَسجدَ؛ فَلهُ الْجنَّة، وَأمرت بِالسُّجُود فأبيت؛ فلي النَّار ". وَفِي حَدِيث ربيعَة بن كَعْب الْأَسْلَمِيّ: " أَنه أَتَى النَّبِي بوضوئه لِحَاجَتِهِ فَقَالَ: سلني. فَقلت: أُرِيد مرافقتك فِي الْجنَّة، فَقَالَ: أَو غير ذَلِك؟ فَقلت: هُوَ ذَاك، فَقَالَ: أَعنِي على نَفسك بِكَثْرَة السُّجُود " أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وروى أَبُو فَاطِمَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من عبد يسْجد لله سَجْدَة؛ إِلَّا رَفعه الله بهَا دَرَجَة ". وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم وَأَطيعُوا} تَفْسِير سُورَة الْأَنْفَال قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: سُورَة الْأَنْفَال مَدَنِيَّة إِلَّا سبع آيَات؛ وَذَلِكَ من قَوْله: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} إِلَى آخر الْآيَات السَّبع؛ فَإِنَّهَا نزلت بِمَكَّة، وَأكْثر السُّورَة فِي غَزْوَة بدر.

الأنفال

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} وَالسُّؤَال سؤالان: سُؤال استخبار، وسؤال طلب؛ فَقَوله: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} سُؤال استخبار؛ فَإِنَّهُم سَأَلُوهُ عَن حكم الْأَنْفَال. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَسعد بن أبي وَقاص: " يَسْأَلُونَك الْأَنْفَال " وَهَذَا سُؤال طلب. روى مُصعب بن سعد، عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله سَيْفا يَوْم بدر فَقلت: نفلنيه يَا رَسُول الله، فَنزل قَوْله: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} ". والأنفال: الْغَنَائِم. وَالنَّفْل فِي اللُّغَة: الزِّيَادَة، قَالَ لبيد بن ربيعَة العامري شعرًا: (إِن تقوى رَبنَا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل) وَمِنْه صَلَاة النَّافِلَة؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة على الْفَرِيضَة. فسميت الْغَنَائِم أنفالا؛ لِأَنَّهَا زِيَادَة كَرَامَة من الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة على الْخُصُوص. وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى " أَن أَصْحَاب النَّبِي افْتَرَقُوا يَوْم بدر فرْقَتَيْن: فرقة كَانَت تقَاتل وتأسر، وَفرْقَة تحرس رَسُول الله، ثمَّ تنازعوا، فَقَالَت الْفرْقَة الْمُقَاتلَة:

{الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} الْغَنَائِم لنا؛ قاتلنا وأسرنا، وَقَالَ الْآخرُونَ: كُنَّا ردْءًا لكم، ونحرس رَسُول الله، فالغنيمة بَيْننَا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} . وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي قَالَ يَوْمئِذٍ: من قتل قَتِيلا فَلهُ كَذَا، وَمن أسر أَسِيرًا فَلهُ كَذَا، فَتسَارع الشبَّان وقاتلوا وأسروا، وَبَقِي الشُّيُوخ مَعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَام - يحرسونه ثمَّ تنازعوا فِي الْغَنِيمَة، فَقَالَ الشبَّان: الْغَنِيمَة لنا؛ لأَنا قاتلنا. وَقَالَ الشُّيُوخ: كُنَّا نحرس رَسُول الله، وَكُنَّا ردْءًا لكم. وَكَانَ الَّذِي تكلم من الشبَّان أَبُو الْيُسْر وَالَّذِي تكلم من الشُّيُوخ سعد بن معَاذ، فَنزلت الْآيَة، فقسم النَّبِي الْأَنْفَال بَين الْكل. وَقَوله: {قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} وَاخْتلفُوا فِيهِ قَالَ مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة: الْآيَة مَنْسُوخَة بقول تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ} فَهَذِهِ الْآيَة ردَّتْ من الْكل إِلَى الْخمس، فَكَانَت ناسخة للأولى. وَقيل: الْآيَة غير مَنْسُوخَة، وَمعنى قَوْله: {قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} أَي: حكمهَا لله وَالرَّسُول؛ فَتكون مُوَافقَة لتِلْك الْآيَة. {فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم} قَالَ: ثَعْلَب: يَعْنِي: أصلحوا الْحَالة الَّتِي بَيْنكُم، وَمَعْنَاهُ: الْإِصْلَاح بترك الْمُنَازعَة وَتَسْلِيم أَمر الْغَنِيمَة إِلَى الله وَالرَّسُول {وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين} .

2

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} قَالَ ابْن أبي نجيح:

{وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (3) أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم ومغفرة ورزق كريم (4) كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون} أَي: خَافت وَفرقت، قَالَ الشَّاعِر: (لعمرك مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل ... على أَيّنَا تَغْدُو الْمنية أول) {وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} أَي: يَقِينا وَتَصْدِيقًا؛ وَذَلِكَ أَنه كلما نزلت آيَة فآمنوا بِهِ ازدادوا إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا، وَهَذَا دَلِيل لأهل السّنة على أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص {وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} التَّوَكُّل هُوَ الِاعْتِمَاد على الله والثقة بِهِ.

3

(الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ) إِقَامَة الصَّلَاة هِيَ أَدَاؤُهَا فِي أَوْقَاتهَا بشرائطها وأركانها.

4

{أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} قَالَ مقَاتل: يَعْنِي: إِيمَانًا لَا شكّ فِيهِ. وَقيل: برأهم من الْكفْر والنفاق. وَفِيه دَلِيل لأهل السّنة على انه لَا يجوز لكل أحد أَن يصف نَفسه بِكَوْنِهِ مُؤمنا حَقًا؛ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا وصف بذلك قوما مخصوصين على أَوْصَاف مَخْصُوصَة، وكل أحد لَا يتَحَقَّق فِي نَفسه وجود تِلْكَ الْأَوْصَاف. {لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم} قَالَ الرّبيع بن أنس: الدَّرَجَات سَبْعُونَ دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس الْمُضمر سبعين سنة {ومغفرة ورزق كريم} أَي: كَامِل لَا نقص فِيهِ.

5

قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ} الْأَكْثَرُونَ على أَنه فِي إِخْرَاجه من الْمَدِينَة إِلَى بدر لِلْقِتَالِ مَعَ الْمُشْركين. وَقيل: هُوَ فِي إِخْرَاجه من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.

( {5) يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ (6) وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم} وَاخْتلفُوا فِي أَن قَوْله: {كَمَا أخرجك} إِلَى مَاذَا ترجع كَاف التَّشْبِيه؟ قَالَ الْمبرد: تَقْدِيره: الْأَنْفَال لله وَلِلرَّسُولِ وَإِن كَرهُوا، كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا. وَقَول الْفراء قريب من هَذَا، وَهَكَذَا قَول الزّجاج؛ فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَقْدِيره: امْضِ لأمر الله فِي الْأَنْفَال وَإِن كَرهُوا كَمَا مضيت لأمر الله عِنْد إخراجك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا. وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله} وَتَقْدِيره: كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ فاتبعت أمره فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم. وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم} وَتَقْدِيره: وعد الدَّرَجَات حق كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ؛ فأنجز والوعد بالنصر وَالظفر. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " مَا " هَاهُنَا بِمَعْنى: " الَّذِي " أَي: كَالَّذي أخرجك رَبك. {وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين} وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله كَرهُوا خُرُوجه إِلَى بدر، وجادلوا فِيهِ، فَقَالُوا: لَا نخرج؛ فَإنَّا لم نستعد لِلْقِتَالِ، وَلَيْسَ مَعنا أهبة الْحَرْب. وَقَوله: {بعد مَا تبين} مَعْنَاهُ: مَا تبين لَهُم صدقه فِي الْوَعْد بِمَا وعدهم مرّة بعد أُخْرَى فَصَدَّقَهُمْ فِي وعده. {كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهونه كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ، يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يَعدكُم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لكم} سَبَب هَذَا: مَا رُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان قدم على عير من قبل الشَّام فِيهَا أَمْوَال قُرَيْش، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ، فَخَرجُوا فِي طلب العير، فَبعث أَبُو سُفْيَان رجلا إِلَى مَكَّة يستنفرهم ويستغيث بهم، فَخرج أَبُو جهل ورءوس الْمُشْركين فِي سَبْعمِائة وَخمسين

{وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته وَيقطع دابر الْكَافرين (7) ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل وَلَو كره المجرمون (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف} رجلا، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يَوْمئِذٍ ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر نَفرا، وَلم يكن لَهُم كثير سلَاح، وَكَانَ مَعَهم فرسَان فَحسب، أَحدهمَا لِلْمِقْدَادِ بن عَمْرو، وَالْآخر لأبي مرْثَد الغنوي، وَكَانَ مَعَهم سِتَّة أدرع، وَكَانَ أَكْثَرهم رِجَاله، وَبَعْضهمْ على الأبعرة، فَوَعَدَهُمْ الله - تَعَالَى - إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا العير (أَو) النفير، وَكَانَ أَبُو سُفْيَان صَاحب العير، وَأَبُو جهل صَاحب النفير، فَالتقى الْجَمْعَانِ، ووقعوا فِي الْقِتَال، وَأخذ العير طَرِيق السَّاحِل وذهبوا، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يودون أَن يظفروا بالعير ويفوزوا بِالْمَالِ من غير الْقِتَال " فَهَذَا معنى قَوْله: {وتودون أَن غير ذَات الشَّوْكَة تكون لكم} والشوكة: السِّلَاح. {وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته} أَي: يظْهر الْحق ويعلى كَلمته {وَيقطع دابر الْكَافرين} أَي: أصل الْكَافرين.

8

{ليحق الْحق وَيبْطل الْبَاطِل} أَي: يثبت الْحق وينفي الْبَاطِل {وَلَو كره المجرمون} .

9

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تسغيثون ربكُم} الاستغاثة: طلب الْغَوْث {فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ} سَبَب هَذَا مَا روى: " أَنه لما التقى الْجَمْعَانِ ببدر اسْتقْبل النَّبِي الْقبْلَة وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أنجزني مَا وَعَدتنِي، اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة فَلَنْ تعبد فِي الأَرْض، وَعلا بِهِ صَوته فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: خفض من صَوْتك يَا رَسُول الله؛ فَإِن الله منجزك مَا وَعدك " فَنزلت الْآيَة واستجاب دعاءه، وأمدهم الله تَعَالَى بِالْمَلَائِكَةِ؛ فروى: " أَنه نزل جِبْرِيل فِي خَمْسمِائَة، وَمِيكَائِيل فِي خَمْسمِائَة، وَكَانَ على رُءُوسهم عمائم بيض قد أَرخُوا أطرافها بَين أكتافهم، وهم على صور الْبشر

{من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ (9) وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم (10) إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ وَينزل عَلَيْكُم من} على خيل بلق " فَهَذَا معنى قَوْله: {فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ} يُقَال: ردفه وأردفه إِذا (أتبعه) ، قَالَ الشَّاعِر: (إِذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظَنَنْت بآل فَاطِمَة الظنونا) فَمَعْنَى قَوْله {مُردفِينَ} أَي: مُتَتَابعين بَعضهم فِي إِثْر بعض. وَهَذَا معنى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة بِفَتْح الدَّال. وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا وَقَالَ: مُردفِينَ أَي: ممدين بَعضهم لبَعض. وَمن قَرَأَ بِفَتْح الدَّال فَمَعْنَاه: ممدين من قبل الله.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعله الله إِلَّا بشرى} أَي: بِشَارَة {ولتطمئن بِهِ قُلُوبكُمْ} أَي: تسكن بِهِ قُلُوبكُمْ {وَمَا النَّصْر إِلَّا من عِنْد الله إِن الله عَزِيز حَكِيم}

11

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ} وَيقْرَأ: " إِذْ يغشاكم النعاس " وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " أَمَنَة " سَاكِنة الْمِيم فِي الشواذ. والقصة فِي ذَلِك: أَن الْكفَّار يَوْم بدر نزلُوا على المَاء، وَنزل الْمُسلمُونَ على غير مَاء، فأجنب بَعضهم وأحدثوا، فَلم يَجدوا مَاء يتطهرون بِهِ، وَكَانُوا فِي رمل تَسُوخ فِيهِ أَرجُلهم، فوسوس إِلَيْهِم الشَّيْطَان: إِنَّكُم تزعمذسون أَنكُمْ على الْحق وَأُولَئِكَ على الْبَاطِل وَإِذا هم على المَاء، فَلَو كُنْتُم على الْحق لكنتم أَنْتُم على المَاء، وَمَا بَقِيتُمْ مجنبين محدثين، فَوَقع فيهم خوف شَدِيد، فَألْقى الله تَعَالَى عَلَيْهِم النعاس حَتَّى أمنُوا، وَأَنْشَأَ سَحَابَة فتمطرت عَلَيْهِم حَتَّى سَالَ الْوَادي وَتطَهرُوا وَاغْتَسلُوا، وتلبدت الرمال حَتَّى ثبتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَام. فَهَذَا معنى قَوْله: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة} .

{السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان وليربط على قُلُوبكُمْ وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام (11) إِذْ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ فثبتوا الَّذين آمنُوا سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق واضربوا مِنْهُم كل بنان (12) ذَلِك} قَالَ ابْن مَسْعُود: النعاس فِي الْقِتَال من الله، وَفِي الصَّلَاة من الشَّيْطَان. {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} وَهُوَ مَا ذكرنَا {وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان} أَي: وَسْوَسَة الشَّيْطَان {وليربط على قُلُوبكُمْ} أَي: يشدد قُلُوبكُمْ وَتثبت بِإِزَالَة الْخَوْف {وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام} يَعْنِي: على الرمل حِين تلبد بالمطر.

12

{إِذْ يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعكُمْ} أَي: بالنصر وَالظفر {فثبتوا الَّذين آمنُوا} وروى " أَن الْملك كَانَ يمشي بَين أَيْديهم وينادي: أَيهَا الْمُسلمُونَ، أَبْشِرُوا بالظفر والنصر ". وَقيل: كَانَ يلهمهم الْملك ذَلِك؛ وللملك إلهام. {سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق} أَي: على الْأَعْنَاق، وَقيل: " فَوق " فِيهِ صلَة، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا الْأَعْنَاق، وَقيل: هُوَ على مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا على اليافوخ. {واضربوا مِنْهُم كل بنان} قيل: البنان: مفاصل الْأَطْرَاف، وَقيل: الْأَصَابِع، كَأَنَّهُ عبر بِهِ عَن الْأَيْدِي والأرجل. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَا كَانَت الْمَلَائِكَة تعلم كَيفَ يقتل الآدميون، فعلمهم الله. وَقيل: إِن الْمَلَائِكَة لم يقاتلوا إِلَّا فِي غَزْوَة بدر. وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه لما أَرَادَ أَن يحز رَأس أبي جهل - وَكَانَ قد علاهُ ليَقْتُلهُ - فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل: كُنَّا نسْمع الصَّوْت وَلَا نرى شخصا، ونرى الضَّرْب وَلَا نرى الضَّارِب، فَمن هم؟ قَالَ: هم الْمَلَائِكَة: فَقَالَ أَبُو جهل: أُولَئِكَ غلبونا لَا انتم.

13

{ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله} أَي: نازعوا الله وَرَسُوله.

{بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب (13) ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَذَاب النَّار (14) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا زحفا فَلَا تولوهم الأدبار (15) وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى} {وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَابَ النَّار} إِنَّمَا قَالَ ذَلِك مُبَالغَة فِي التعذيب والانتقام، وَالْعرب تَقول لِلْعَدو إِذا أَصَابَهُ الْمَكْرُوه: ذُقْ. قَالَ الله تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} . وَرُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب لما مر بِحَمْزَة بن عبد الْمطلب وَهُوَ مطروح مقتول يَوْم أحد فَقَالَ لَهُ: ذُقْ يَا عُقُق، يَعْنِي: ذُقْ أَيهَا الْعَاق. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُسلمين لما فرغوا من قتال بدر وَانْهَزَمَ الْكفَّار قصدُوا طلب العير وَأَن يتبعوهم - وَكَانَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فِي وثاق الْمُسلمين وأسرهم - فَقَالَ لَهُم: لَيْسَ لكم إِلَى ذَلِك سَبِيل؛ فَإِن الله - تَعَالَى - وَعدكُم إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقد ظفرتم بالجيش؛ فَلَيْسَ لكم العير، فَسَكَتُوا.

15

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا زحفا} أَي: متزاحفين والتزاحف: التداني من الْقِتَال، وَمَعْنَاهُ: إِذا تزاحفتم وتوافقتم {فَلَا تولوهم الأدبار} أَي: لَا تنهزموا؛ فَإِن المنهزم يولي دبره إِذا انهزم

16

{وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال} التحرف لِلْقِتَالِ هُوَ أَن يرى الانهزام ويقصد بِهِ طلب الْغرَّة والغيلة، وانتهاز الفرصة {أَو متحيزا إِلَى فِئَة} أَي: مائلا إِلَى فِئَة {فقد بَاء بغضب من الله} أَي: رَجَعَ بغضب من الله {ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} واستدلت الْمُعْتَزلَة بِإِطْلَاق قَوْله: {ومأواه جَهَنَّم} فِي وَعِيد الْأَبَد، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ؛ لِأَن معنى الْآيَة: ومأواه جَهَنَّم إِلَّا أَن تُدْرِكهُ الرَّحْمَة؛ بِدَلِيل سَائِر الْآي الْمقيدَة. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْآيَة فِي أهل بدر خَاصَّة، مَا كَانَ يجوز لَهُم الانهزام بِحَال؛ لِأَن النَّبِي كَانَ مَعَهم وَلم يكن لَهُم فِئَة يتحيزون إِلَيْهَا، فَأَما فِي حق غَيرهم فالفرار من الزَّحْف لَا يكون كَبِيرَة؛ لِأَن الْمُسلمين بَعضهم فِئَة لبَعض، فَيكون الفار متحيزا إِلَى فِئَة.

{فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (16) فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله} وَهَذَا مَرْوِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - من الصَّحَابَة - وَيشْهد لذَلِك: قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لما أصَاب الْمُسلمين يَوْم الجسر مَا أَصَابَهُم وصبروا حَتَّى قتلوا، قَالَ عمر: هلا رجعُوا إليّ وَكَانَ إِذا بعث جَيْشًا بعد ذَلِك يَقُول: أَنا فِئَة لكل مُسلم. وَيدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " غزونا غَزْو فحصنا حَيْصَة، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، نَحن الْفَرَّارُونَ؟ فَقَالَ لَا؛ بل أَنْتُم الْعَكَّارُونَ، وَأَنا فِئَتكُمْ ". وَفِي الْآيَة قَول آخر - وَهُوَ الْمَذْهَب الْيَوْم وَعَلِيهِ عَامَّة الْفُقَهَاء - أَنه إِن كَانَ الْكفَّار أَكثر من مثليهم جَازَ الْفِرَار من الزَّحْف؛ لقَوْله: {الْآن خفف الله عَنْكُم} وَلقَوْله: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} وَلَو صَبَرُوا جَازَ، اللَّهُمَّ أَن يعلمُوا قطعا أَنه لَا يُمكنهُم مقاومتهم، فَحِينَئِذٍ لَا يجوز الصَّبْر؛ لِأَنَّهُ يكون إِلْقَاء لنَفسِهِ فِي التَّهْلُكَة، وَإِن كَانَ الْكفَّار مثلي الْمُسلمين أَو دون المثلين لَا يجوز الْفِرَار من الزَّحْف إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة - يَعْنِي: إِلَى فِئَة قريبَة من الْجَيْش مثل السَّرَايَا - والفرار من الزَّحْف إِنَّمَا يكون كَثِيره من هَذِه الصُّورَة.

17

قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} سَبَب هَذَا: أَن الْمُسلمين لما انصرفوا من قتال بدر، كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول: أَنا قتلت فلَانا، وَيَقُول الآخر: أَنا قتلت فلَانا؛ فَلم يرض الله تَعَالَى مِنْهُم ذَلِك، وَنزلت الْآيَة: {فَلم تَقْتُلُوهُمْ} يَعْنِي: بقوتكم وعدتكم {وَلَكِن الله قَتلهمْ} (بنصره) إيَّاكُمْ ومعونته لكم. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ بسوقهم إِلَيْكُم حَتَّى ظفرتم بهم.

{قَتلهمْ وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا إِن الله سميع عليم (17) ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين (18) إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح} وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ ببعث الْمَلَائِكَة لكم مدَدا، فَقَتلهُمْ الله بِالْمَلَائِكَةِ. {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} روى: " أَن النَّبِي أَخذ كفا من الْحَصْبَاء يَوْم بدر وَرمى بِهِ إِلَى وُجُوه الْمُشْركين وَقَالَ: شَاهَت الْوُجُوه. فَلم يبْق مِنْهُم أحد إِلَّا وَأصَاب عَيْنَيْهِ من ذَلِك، وشغل بِعَيْنيهِ ". {وَمَا رميت إِذْ رميت} يُرِيد بِهِ ذَلِك الرَّمْي بالحصباء الَّتِي أَصَابَت عيونهم؛ إِذْ لَيْسَ هَذَا فِي قدرَة الْبشر أَن ترمي الْحَصْبَاء إِلَى وُجُوه جَيش بِحَيْثُ لَا تبقى عين إِلَّا ويصيبها مِنْهَا؛ {وَلَكِن الله رمى} بقوته وَقدرته. وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا بلغت إِذْ رميت؛ وَلَكِن الله بلغ، وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا رميت بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبهم. {وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا} أَي: نعْمَة حَسَنَة ينعم بهَا على الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ نعْمَة النَّصْر وَالظفر، والشدة بلَاء، وَالنعْمَة بلَاء، وَالله تَعَالَى يَبْتَلِي عَبده تَارَة بِالنعْمَةِ وَتارَة بالشدة {إِن الله سميع عليم} .

18

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم وَأَن الله موهن كيد الْكَافرين} يقْرَأ مخففا ومشددا وَمَعْنَاهُ: مضعف كيد الْكَافرين.

19

قَوْله: {إِن تستفتحوا فقد جَاءَكُم الْفَتْح} قَالَ الضَّحَّاك: سَبَب هَذَا أَن أَبَا جهل

{وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ (19) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَرَسُوله وَلَا توَلّوا عَنهُ وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ (21) إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ (22) وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا} قَالَ يَوْم بدر: اللَّهُمَّ انصر أحب الفئتين إِلَيْك وَأكْرمهمْ عَلَيْك. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: اللَّهُمَّ أقطعنا للرحم، وأفسدنا للْجَمَاعَة، وأتانا بِمَا لَا نَعْرِف؛ فاخزه الْيَوْم، فَأَجَابَهُ الله تَعَالَى يَقُوله: {إِن تستفتحوا} أَي: إِن تستنصروا فقد جَاءَكُم النَّصْر. {وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد} أَي: إِن تعودوا إِلَى الدُّعَاء نعد إِلَى الْإِجَابَة، وَإِن تعودوا إِلَى الْقِتَال نعد إِلَى النَّصْر {وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ} .

20

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَرَسُوله} أَمر الصَّحَابَة بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله {وَلَا توَلّوا عَنهُ} أَي: لَا تعرضوا عَنهُ {وَأَنْتُم تَسْمَعُونَ

21

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ) يَعْنِي: أَنهم لما لم ينتفعوا بِمَا سمعُوا فكأنهم لم يسمعوا، فَلَا تَكُونُوا مثلهم.

22

قَوْله تَعَالَى: {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ} سمى الْكفَّار صمًّا بكما؛ لأَنهم لما لم يسمعوا الْحق، وَلم ينطقوا بِالْحَقِّ، وَلم يعقلوا الْحق سماهم بذلك، وعدهم من جملَة الْأَنْعَام.

23

{وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} أَي: لأسمعهم سَماع التفهم وَالْقَبُول لَو علم أَنهم يصلحون لذَلِك. {وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا} ؟ قيل مَعْنَاهُ: لَو علم فيهم خيرا لأسمعهم سَماع التفهم، وَلَو

{دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون (24) } أسمعهم سَماع الآذان لتولوا. وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَو أسمعهم سَماع التفهم لتولوا؛ لما سبق لَهُم من الشقاوة، وَأَنَّهُمْ لَا يصلحون لذَلِك وَلَا خير فيهم. وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي: أحيي لنا قصيا؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا مُبَارَكًا حَتَّى نشْهد لَك بِالنُّبُوَّةِ فنؤمن بك، فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَو أسمعهم} كَلَام قصي {لتولوا وهم معرضون} .

24

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} قَالَ السّديّ فِي قَوْله: {لما يُحْيِيكُمْ} : أَرَادَ بِهِ الْإِيمَان. وسمى السّديّ بذلك؛ لِأَنَّهُ كَانَ يجلس فِي سدة مَسْجِد الْكُوفَة. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الْقُرْآن. وَقَالَ الْفراء: هُوَ الْجِهَاد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ الشَّهَادَة. وروى أَبُو هُرَيْرَة " أَن النَّبِي دَعَا أبي بن كَعْب وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فأسرع الْقِرَاءَة وَأتم الصَّلَاة وأجابه، فَقَالَ النَّبِي: مَا مَنعك أَن تُجِيبنِي؟ فَقَالَ: كنت فِي الصَّلَاة، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: أما سَمِعت قَوْله الله تَعَالَى: {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} ؟ فَقَالَ: علمت، لَا أَعُود ". {وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} قَالَ سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة: يحول بَين الْمُؤمن وَالْكفْر وَبَين الْكَافِر، وَالْإِيمَان. قَالَ الضَّحَّاك: يحول بَين الْمُؤمن وَالْمَعْصِيَة، وَبَين الْكَافِر وَالطَّاعَة. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: يحول بَين الْمُؤمن وَالْخَوْف، وَبَين الْكَافِر والأمن؛ وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا آمِنين، وَالْمُسْلِمين كَانُوا خَائِفين؛ فأبدل الله تَعَالَى خوف هَؤُلَاءِ بالأمن، وَأمن هَؤُلَاءِ بالخوف، وَعبر بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحل الْخَوْف والأمن {وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون} .

{وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب (25) واذْكُرُوا إِذْ انتم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطَّيِّبَات لَعَلَّكُمْ تشكرون (26) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم وَأَنْتُم تعلمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم}

25

قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن الْآيَة فِي أَصْحَاب النَّبِي وَمَعْنَاهَا: اتَّقوا عذَابا يُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم. قَالَ الزبير حِين رأى مَا رأى يَوْم الْجمل: مَا علمت أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِينَا أَصْحَاب رَسُول الله حَتَّى كَانَ هَذَا الْيَوْم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي معنى الْآيَة: لَا تقروا الْمُنكر بَيْنكُم، ومروا بِالْمَعْرُوفِ؛ كي لَا يعمكم الله بعقاب، فَيُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم. وَقيل: أَرَادَ بالفتنة: تَفْرِيق الْكَلِمَة وَاخْتِلَاف الآراء، وَاتَّقوا فتْنَة تَفْرِيق الْكَلِمَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة، فَيكون الْعَذَاب مضمرا فِيهِ {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} .

26

قَوْله تَعَالَى: {واذْكُرُوا إِذْ أَنْتُم قَلِيل مستضعفون فِي الأَرْض تخافون أَن يتخطفكم النَّاس} قَالَ وهب بن مُنَبّه: يَعْنِي: تتخطفكم فَارس. وَقَالَ عِكْرِمَة: يتخطفكم كفار الْعَرَب {فآواكم} يَعْنِي: إِلَى الْمَدِينَة {وأيدكم بنصره} أَي: قواكم بنصره {ورزقكم من الطَّيِّبَات} يَعْنِي: الْغَنَائِم {لَعَلَّكُمْ تشكرون} .

27

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم} وَلَا تخونوا أماناتكم {وَأَنْتُم تعلمُونَ} قَالَ الْكَلْبِيّ: نزلت الْآيَة فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر؛ فَإِن النَّبِي لما حاصر بني قُرَيْظَة بَعثه إِلَيْهِم - وَكَانَ مِنْهُم - فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا يفعل بِنَا لَو نزلنَا على حكيه؟ فَوضع أُصْبُعه على حلقه وَأَشَارَ إِلَيْهِم بِالذبْحِ - يَعْنِي: يقتلكم - قَالَ أَبُو لبَابَة: فَمَا بَرحت قَدَمَايَ حَتَّى عرفت أَنِّي خُنْت الله وَرَسُوله، وَنزلت الْآيَة ".

{وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وان الله عِنْده أجر عَظِيم (28) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (29) وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله وَالله خير} وَقيل: الْآيَة فِي جَمِيع الْأَمَانَات، نهي الْعباد عَن الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَتدْخل فِي الْأَمَانَات الطَّاعَات؛ فَإِن الطَّاعَات أمانات عِنْد الْعباد على معنى أَنَّهَا بَينهم وَبَين رَبهم أدوها أَو لم يؤدوها.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة وَأَن الله عِنْده أجر عَظِيم} قيل: هَذَا أَيْضا فِي أبي لبَابَة، وَكَانَ فيهم أَهله وَأَوْلَاده وأمواله، فَقَالَ مَا قَالَ خوفًا عَلَيْهِم. وَقيل: هُوَ فِي سَائِر الْخلق. وَفِي الحَدِيث: " الْوَلَد مَجْبَنَة مَبْخَلَة ومجهلة ". وَرُوِيَ أَن النَّبِي رأى الْحسن وَالْحُسَيْن فَقَالَ: " إِنَّكُم لتجبنوني وتبخلوني وتجهلوني، وَإِنَّكُمْ لمن ريحَان الله " وَأَشَارَ إِلَى الْحسن وَالْحُسَيْن يَعْنِي: توقعون الأباء فِي الْجُبْن وَالْبخل وَالْجهل. وَقَوله: " لمن ريحَان الله " أَي: من رزق الله.

29

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تتقوا الله يَجْعَل لكم فرقانا} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: مخرجا. وَقَالَ جَاهد: منجاة {وَيكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ وَيغْفر لكم وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} .

30

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك} سَبَب نزُول الْآيَة أَن الْمُشْركين اجْتَمعُوا فِي دَار الندوة ليدبروا أَمر رَسُول الله، فَدخل

{الماكرين (30) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا إِن هَذَا إِلَّا} عَلَيْهِم إِبْلِيس فِي صُورَة شيخ، فَقَالُوا لَهُ: مَا الَّذِي أدْخلك علينا؟ قَالَ: أَنا شيخ من نجد، وَلست من تهَامَة، وَقد بَلغنِي اجتماعكم فِي أَمر هَذَا الرجل، وَأَنه لَا يعدمكم مني رَأْي، فَقَالُوا: اتركوه، ثمَّ تشاوروا، فَقَالَ عتبَة: اربطوه على جمل وأخرجوه من بلدكم تكفكموه الْعَرَب، فَقَالَ إِبْلِيس: لَيْسَ هَذَا بِرَأْي، أما ترَوْنَ حلاوة مَنْطِقه وَأَخذه الْقُلُوب، فَلَو فَعلْتُمْ بِهِ ذَلِك يذهب فيستميل قُلُوب قوم ثمَّ يغزوكم وَيفرق جمعكم، فتركوا ذَلِك، فَقَالَ أَبُو البخْترِي بن هِشَام: نحبسه فِي بَيت ونتربص بِهِ ريب الْمنون، فَقَالَ إِبْلِيس: لَيْسَ هَذَا بِرَأْي، فَإِن لَهُ عشيرة وقوما لَا يرضون بِهِ ويخرجونه، فتركوا ذَلِك، فَقَالَ أَبُو جهل: عِنْدِي رَأْي، هَذِه خَمْسَة أَحيَاء من قُرَيْش، نَخْتَار من كل حَيّ شَابًّا قَوِيا وَنَضَع فِي يَده سَيْفا حادا، ونأمرهم أَن يضربوه دفْعَة وَاحِدَة حَتَّى يتفرق دَمه فِي الْقَبَائِل، ويعجز قومه عَن الْقِتَال فيرضون بِالدِّيَةِ، فَقَالَ إِبْلِيس: هَذَا هُوَ الرَّأْي، وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ، فَأخْبرهُ الله تَعَالَى يمكرهم، وَنزلت الْآيَة، فروى أَن النَّبِي بعث أَبَا بكر ليتفحص عَن حَالهم، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِم فَإِذا إِبْلِيس قد خرج من بَينهم، فماشاه سَاعَة ثمَّ لما أَرَادَ أَن يُفَارِقهُ قَالَ لَهُ أَبُو بكر: أَيْن تُرِيدُ؟ فَقَالَ [لَهُ] اللعين: لي قوم بِهَذَا الْوَادي، فَعلم أَبُو بكر أَنه إِبْلِيس، فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أخزاك واظهر دينه، فاختفى مِنْهُ؛ فَقَوله {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} هُوَ مَكْرهمْ ذَلِك، وَالْمَكْر: التَّدْبِير {ليثبتوك} أَي: ليحبسوك كَمَا قَالَ أَبُو البخْترِي {أَو يَقْتُلُوك} كَمَا قَالَ أَبُو جهل {أَو يخرجوك} كَمَا قَالَ عتبَة. {ويمكرون ويمكر الله} وَالْمَكْر من الله: التَّدْبِير بِالْحَقِّ، وَقيل: هُوَ الْأَخْذ بَغْتَة. قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: يجازيهم جَزَاء الْمَكْر. {وَالله خير الماكرين} أَي: خير المدبرين.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا قَالُوا قد سمعنَا لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} هَذَا قَول النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ قد خرج إِلَى الْحيرَة من أَرض الْعرَاق

{أساطير الْأَوَّلين (31) وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم (32) وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ} وَاشْترى أَخْبَار رستم، واسفنديار، وَأَحَادِيث الْعَجم، وَجَاء بهَا إِلَى مَكَّة، وَقَالَ: لَو شِئْت لَقلت مثل الْقُرْآن؛ فَذَلِك قَوْله: {لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} . {إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين} أَي: أكاذيب الْأَوَّلين؛ والأساطير: جمع الأسطورة، وَهِي الْمَكْتُوبَة. فَإِن قيل: إِذا كَانَ الْقُرْآن معجزا كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا} وَهل يَقُول أحد: لَو شِئْت قلبت الْحجر ذَهَبا والعصا حَيَّة وَهُوَ عَاجز عَنهُ؟ قيل: إِن الْقُرْآن مطمع مُمْتَنع، فقد يتَوَهَّم صفوهم أَنه يَقُول مثله، وَيمْتَنع عَلَيْهِ ذَلِك فيخطئ ظَنّه. وَقيل: إِنَّه توهم بجهله أَنه يُمكنهُ الْإِتْيَان بِمثلِهِ وَكَانَ عَاجِزا.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذَا قَول النَّضر بن الْحَارِث، وَفِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أنس أَن هَذَا قَول أبي جهل عَلَيْهِ اللَّعْنَة. وَهَذَا يدل على شدَّة بصيرتهم فِي الْكفْر، وَأَنه لم تكن لَهُم شُبْهَة وريبة فِي كذب الرَّسُول؛ لِأَن الْعَاقِل لَا يسْأَل الْعَذَاب بِمثل هَذَا مُتَرَدّد فِي أمره؛ وَهَذَا دَلِيل على أَن الْعَارِف لَيست بضرورته. وَحكى عَن مُعَاوِيَة أَنه قَالَ لرجل من أهل الْيمن: مَا أَجْهَل قَوْمك حَيْثُ قَالُوا: رَبنَا باعد بَين أسفارنا، فَقَالَ الرجل وأجهل من قومِي قَوْمك؛ حَيْثُ قَالُوا: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} يَعْنِي: أهل مَكَّة {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن هَذَا فِي قوم من الْمُسلمين بقوا بِمَكَّة بعد هِجْرَة الرَّسُول، وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَفِيهِمْ من يسْتَغْفر.

{الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله وهم يصدون عَن الْمَسْجِد} وَقيل: فِي قوم علم الله تَعَالَى أَنهم يُؤمنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ من أهل مَكَّة، وَذَلِكَ مثل: أبي سُفْيَان، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَنَحْوهم، فَلَمَّا كَانَ فِي علم الله تَعَالَى أَنهم لأَصْحَابه يسلمُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ؛ عدهم مستغفرين فِي الْحَال. وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ الله معذبهم وَفِي أصلابهم من يسْتَغْفر؛ إِذْ كَانَ لبَعْضهِم أَوْلَاد قد أَسْلمُوا. وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} دَعْوَة لَهُم إِلَى الْإِسْلَام وَالِاسْتِغْفَار، كَالرّجلِ يَقُول: لَا أعاقبك وَأَنت تطيعني، أَي: أطعني حَتَّى لَا أعاقبك. وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ: أنزل الله على أمانين لأمتي: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} فَإِذا مضيت تركت لَهُم الاسْتِغْفَار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَهُوَ فِي جَامع أبي عِيسَى بطرِيق أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: من قَالَ فِي كل يَوْم: أسْتَغْفر الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وَأَتُوب إِلَيْهِ، ثَلَاث مَرَّات، غفر لَهُ ذنُوبه وَإِن كَانَ فَارًّا من الزَّحْف. وَاسْتدلَّ بِهَذَا الْأَثر من عد الْفِرَار من الزَّحْف من جملَة الْكَبَائِر.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ التلفيق بَين هَذَا وَبَين قَوْله: {وَمَا كَانَ الله [ليعذبهم] } ؟ قيل: أَرَادَ بِالْأولِ: عَذَاب الاستئصال، وَبِهَذَا: عَذَاب السَّيْف. وَقيل: أَرَادَ بِالْأولِ: عَذَاب الدُّنْيَا، وَبِالثَّانِي: عَذَاب الْآخِرَة.

{الْحَرَام وَمَا كَانُوا أولياءه إِن أولياءه إِلَّا المتقون وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (34) وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (35) إِن} وَقيل: المُرَاد بِهِ أُولَئِكَ الَّذين ترك تعذيبهم؛ لكَون النَّبِي بَينهم، وَمَعْنَاهُ: وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله بعد خُرُوجك من بَينهم. {وهم يصدون عَن الْمَسْجِد الْحَرَام} أَي: يمْنَعُونَ عَنهُ {وَمَا كَانُوا أولياءه} وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يدعونَ: إِنَّا أَوْلِيَاء الْبَيْت {إِن أولياؤه إِلَّا المتقون} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} .

35

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} قَالَ ابْن عمر، وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْحسن المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق. والمكاء فِي اللُّغَة: اسْم طَائِر لَهُ صفير فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا صَوت مكاء، وَقَالَ مُجَاهِد: والمكاء أَن يَجْعَل أَصَابِعه فِي شدقيه، والتصدية: الصفير؛ فجعلهما شَيْئا وَاحِدًا. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: التصدية: هِيَ صدهم الْمُؤمنِينَ عَن الْمَسْجِد الْحَرَام. وَالْأول أصح، قَالَ الشَّاعِر: (وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم) أَي: تصفر فريصته كشدق الأعلم. والقصة فِي ذَلِك: أَن أَرْبَعَة من بني عبد الدَّار كَانُوا إِذا صلى النَّبِي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وقف اثْنَان عَن يَمِينه، وَاثْنَانِ عَن يسَاره، فيصفر اللَّذَان عَن يَمِينه ويصفق اللَّذَان عَن يسَاره حَتَّى يخلطوا عَلَيْهِ الْقِرَاءَة. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: إِنَّمَا سَمَّاهُ صَلَاة؛ لأَنهم أمروا بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِد، فَلَمَّا وضعُوا ذَلِك مَوضِع الصَّلَاة سَمَّاهُ صَلَاة {فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون} .

36

قَوْله تَعَالَى: {إِن الذيك كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله فيسنفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ} فِيهِ قَولَانِ:

{الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله فسينفقونها ثمَّ تكون عَلَيْهِم حسرة ثمَّ يغلبُونَ وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون (36) ليميز الله الْخَبيث من الطّيب وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون (37) قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنت} أَحدهمَا: أَن الْآيَة فِي المطمعين يَوْم بدر، وهم اثْنَا عشر نَفرا من رُؤْس الْمُشْركين: أَبُو جهل بن هِشَام، والْحَارث بن هِشَام، وَأبي بن خلف، وَعتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة، ومنبه وَنبيه ابْنا الْحجَّاج، وَأَبُو البخْترِي بن هِشَام، وَحَكِيم بن حزَام، وَالنضْر بن الْحَارِث، وَزَمعَة بن الْأسود، وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم كَانَ كل يَوْم ينْحَر عشرَة أَبْعِرَة وَيطْعم الْجَيْش. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب اسْتَأْجر ثَلَاثَة آلَاف رجل من الْأَحَابِيش يَوْم أحد لقِتَال النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - فَنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ تكون حسرة عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يغلبُونَ} . قَالَ الْحسن: أَشد النَّاس حسرة يَوْم القيامه من يرى مَاله فِي ميزَان غَيره {وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون} .

37

قَوْله تَعَالَى: {ليميز الله الْخَبيث من الطّيب} أَي: ليفرق الله الْخَبيث من الطّيب؛ الْخَبيث: مَا أنْفق من الْحَرَام، وَالطّيب: مَا أنْفق من الْحَلَال. وَقيل: الْخَبيث مَا أنْفق فِي الْمعْصِيَة، وَالطّيب مَا أنْفق فِي الطَّاعَة. {وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا} أَي: يجمعه جَمِيعًا؛ يُقَال: سَحَاب مركوم إِذا كَانَ بعضه على بعض {فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون} . وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن الله تَعَالَى يجمع الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة، فَيَأْخُذ مَاله ويطرح الْبَاقِي فِي النَّار. ولأي معنى يطرحه فِي النَّار؟ قيل: ليضيق الْمَكَان على الْكفَّار، وَقيل: لتَكون الْحَسْرَة أَشد عَلَيْهِم إِذا نظرُوا إِلَيْهَا.

38

قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} قَالَ يحيى بن

{الْأَوَّلين (38) وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا يعْملُونَ بَصِير (39) وَإِن توَلّوا فاعلموا أَن الله مولاكم نعم الْمولى وَنعم النصير (40) وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى} معَاذ الرَّازِيّ - رَحمَه الله - إِيمَان لم يعجز عَن هدم كفر قبله فَمَتَى يعجز عَن هدم ذَنْب بعده! {وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنة الْأَوَّلين} قيل: سنة الْأَوَّلين: أَن يصل عَذَاب الدُّنْيَا بعقوبة الْآخِرَة.

39

قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} أَي: لَا يكون شرك {وَيكون الدّين كُله لله فَإِن انْتَهوا فَإِن الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير وَإِن توَلّوا فاعلموا أَن الله مولاكم نعم الْمولى وَنعم النصير} فالمولى: الْقيم بالأمور، والنصير: النَّاصِر.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة. اخْتلف الْعلمَاء فِي الْغَنِيمَة والفيء؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه الْقَهْر. وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْغَنِيمَة: هِيَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه العنوة بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والفيء: هُوَ المَال الْمَأْخُوذ من غير إيجَاف خيل وَلَا ركاب. وَهَذَا القَوْل مَنْقُول عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالشَّافِعِيّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيرهمَا. {فَأن الله} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن قَوْله: {لله} افْتِتَاح كَلَام، وَلَيْسَ لله سهم مُنْفَرد؛ بل سهم الله وَسَهْم الرَّسُول وَاحِد. وَفِيه قَول آخر: أَن لله سَهْما يصرف إِلَى الْكَعْبَة. وَقد رُوِيَ أَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: قَوْله {فَأن لله خَمْسَة} افْتِتَاح كَلَام، لله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: " كَانَ رَسُول الله يقسم الْغَنِيمَة على

خَمْسَة أسْهم، فيفرز الْخمس مِنْهُ، ثمَّ يَأْخُذ مِنْهُ قَبْضَة فَيَجْعَلهُ للكعبة، ثمَّ يقسم الْبَاقِي على مَا ذكر الله ". وَأما قَوْله: {وَلِلرَّسُولِ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن للرسول سَهْما مُفردا. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ للرسول سهم أصلا؛ وَإِنَّمَا هُوَ افْتِتَاح كَلَام، وَمعنى ذكر الرَّسُول أَن التَّدْبِير إِلَيْهِ. ثمَّ اخْتلفُوا على القَوْل الأول أَن ذَلِك السهْم بعد مَوته لمن يكون؟ قَالَ قَتَادَة: هُوَ للخليفة بعده. وَقَالَ بَعضهم: يرد إِلَى الأسهم الْأَرْبَعَة. وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي: أَن ذَلِك السهْم يصرف إِلَى الْمصَالح. وَفِيه قَول رَابِع: أَنه يصرف إِلَى الكراع وَالسِّلَاح فِي سَبِيل الله. وَهَذَا مَرْوِيّ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَغَيره. وَأما قَوْله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} اخْتلفُوا فِي هَذَا على ثَلَاثَة أقاويل: فمذهب الشَّافِعِي: أَن لَهُم سَهْما مُفردا بعد رَسُول الله إِلَى قيام السَّاعَة، يشْتَرك فِيهِ أغنياؤهم وفقراؤهم على مَا هُوَ الْمَعْرُوف. وَهَذَا قَول أَحْمد وَغَيره. وَقَالَ مَالك: الْأَمر فِيهِ إِلَى الإِمَام إِن شَاءَ أَعْطَاهُم، وَإِن شَاءَ لم يعطهم، وَكَذَلِكَ فِي الْبَاقِي، وَإِنَّمَا ذكرُوا لجَوَاز الصّرْف إِلَيْهِم لَا للاستحقاق. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ -: أَن سهم ذَوي الْقُرْبَى يرد إِلَى البَاقِينَ، وَلَيْسَ لَهُم سهم مُفْرد، فَيقسم على ثَلَاثَة أسْهم لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل. ويروون هَذَا عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أَنهم قسموا على هَذَا الْوَجْه، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ. ثمَّ اخْتلفُوا فِي ذَوي الْقُرْبَى من هم؟ قَالَ مُجَاهِد. هم بَنو هَاشم خَاصَّة؛ وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: جَمِيع قُرَيْش. وَحكى عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن سهم ذَوي الْقُرْبَى فَقَالَ: نزعم أَنه لنا، ويأبى قَومنَا ذَلِك علينا.

{وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَمَا أنزلنَا على عَبدنَا يَوْم الْفرْقَان يَوْم التقى} وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن ذَوي الْقُرْبَى هم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَقد دلّ عَلَيْهِ الْخَبَر الْمَرْوِيّ بطرِيق جُبَير بن مطعم - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " قسم سهم ذَوي الْقُرْبَى بَين بني هَاشم وَبني الْمطلب، فمشيت أَنا وَعُثْمَان إِلَى رَسُول الله وَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِنَّا لَا ننكر فَضِيلَة بني هَاشم لِمَكَانِك الَّذِي وضعك الله فيهم؛ ولكننا وإخواننا بني الْمطلب فِي الْقَرَابَة مِنْك سَوَاء، وَقد أَعطيتهم وَحَرَمْتنَا، فَقَالَ: أَنا وَبني الْمطلب شَيْء وَاحِد - وَشَبك بَين أَصَابِعه - وَإِنَّهُم لم يفارقونا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام ". ٍ وَأما قَوْله تَعَالَى: {واليتامى} فاليتامى لَهُم سهم مُفْرد بِالْإِنْفَاقِ، واليتيم الَّذِي يسْتَحق السهْم هُوَ الَّذِي لَا أَب لَهُ فَيكون صَغِيرا فَقِيرا. وَقَوله: {وَالْمَسَاكِين} فالمساكين هم أهل الْحَاجة، وَسَيَرِدُ الْفرق بَين الْمِسْكِين وَالْفَقِير فِي سُورَة بَرَاءَة. وَأما قَوْله: {وَابْن السَّبِيل} فَهُوَ الْمُنْقَطع الَّذِي بعد عَن مَاله. وَقَوله: {إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه} مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ، على مَا ذكر، إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه. وَقيل مَعْنَاهُ: يأمران فِيهِ بِمَا يُريدَان فاقبلوا إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنزلنَا} يَعْنِي: إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا {على عَبدنَا} . وَفِيه قَول آخر: أَن هَذَا رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا على عَبدنَا {يَوْم الْفرْقَان} يَوْم بدر، فرق الله تَعَالَى فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل {يَوْم التقى الْجَمْعَانِ} مَعْنَاهُ: التقى حزب الله وحزب الشَّيْطَان

{الْجَمْعَانِ وَالله على كل شَيْء قدير (41) إِذْ إنتم بالعدوة الدُّنْيَا وهم بالعدوة القصوى والركب أَسْفَل مِنْكُم وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد وَلَكِن ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة وَإِن الله لسميع عليم (42) إِذْ} {وَالله على كل شَيْء قدير} . وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: يَوْم الْفرْقَان يَوْم السَّابِع عشر من رَمَضَان أخبر الله تَعَالَى بِتمَام قدرته.

42

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أَنْتُم بالعدوة الدُّنْيَا} الْآيَة، العدوة: شَفير الْوَادي؛ والغدوة والعدوة وَاحِد، وَقَوله {الدُّنْيَا} يَعْنِي: الْأَدْنَى من الْمَدِينَة؛ فَهِيَ تَأْنِيث الْأَدْنَى {وهم بالعدوة القصوى} يَعْنِي: الْأَقْصَى من مَكَّة؛ وَهِي تَأْنِيث الْأَقْصَى {والركب أَسْفَل مِنْكُم} قَالُوا مَعْنَاهُ: والركب بمنزل أَسْفَل مِنْكُم. والركب: هُوَ العير الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَان، وَكَانُوا بساحل الْبَحْر على ثَلَاثَة أَمْيَال من بدر {وَلَو تواعدتم لاختلفتم فِي الميعاد} مَعْنَاهُ: وَلَو تواعدتم الِاتِّفَاق والاجتماع لِلْقِتَالِ لاختلفتم لقلتكم وكثرتهم {فِي الميعاد وَلَكِن} الله جمع من غير ميعاد {ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا} . قَوْله تَعَالَى: {ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة} الْآيَة فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا - وَهُوَ الْأَظْهر -: أَن الْهَلَاك هُوَ الْكفْر، والحياة هِيَ الْإِيمَان، وَمَعْنَاهُ: ليكفر من كفر عَن حجَّة بَيِّنَة فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ {ويحيا من حَيّ} يَعْنِي: ويؤمن من آمن على مثل ذَلِك. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْهَلَاك هُوَ الْمَوْت، والحياة هِيَ الْعَيْش، وَمَعْنَاهُ: ليَمُوت من يَمُوت عَن حجَّة بَيِّنَة، ويعيش من يعِيش على مثل ذَلِك. {وَإِن الله لسميع عليم} سميع لأقوالكم، عليم بأموركم.

43

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يريكهم الله فِي مَنَامك قَلِيلا} الْآيَة فِيهَا قَولَانِ: أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَن الْمَنَام حَقِيقَة النّوم؛ فَرَآهُمْ رَسُول الله فِي نَومه أقل مِمَّا كَانُوا

{يريكهم الله فِي مَنَامك قَلِيلا وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فِي الْأَمر وَلَكِن الله سلم إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (43) وَإِذ يريكموهم إِذا التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (44) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فِي الْعدَد. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه قَوْله تَعَالَى: {فِي مَنَامك} أَي: فِي عَيْنك قَلِيلا؛ وسمى الْعين مناما؛ لِأَنَّهَا مَوضِع النّوم. {وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم} لجبنتم {ولتنازعتم فِي الْأَمر} يَعْنِي: فِي الإحجام والإقدام {وَلَكِن الله سلم} أَي: سلمكم من الفشل والجبن {إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} . وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه كَانَ يستعيذ بِاللَّه من الْجُبْن.

44

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يريكموهم إِذْ التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} معنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى قلل الْمُشْركين فِي أعين الْمُؤمنِينَ؛ ليقدموا وَلَا يجبنوا، وقلل الْمُؤمنِينَ فِي أعين الْكفَّار؛ لِئَلَّا يهربوا. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: قلت يَوْم بدر لبَعض من كَانَ بجنبي: تراهم سبعين رجلا، فَقَالَ: أَرَاهُم مائَة، ثمَّ إِنَّا أسرنا مِنْهُم فَقُلْنَا لَهُم: كم كُنْتُم؟ فَقَالُوا: كُنَّا ألفا {ليقضي الله} يَعْنِي: ليقضي الله من إعلاء الْإِسْلَام وإذلال الشّرك ونصرة الْمُؤمنِينَ وَقتل الْمُشْركين.

45

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم فِئَة} الْآيَة، الفئة: الْجَمَاعَة.

{إِذا لَقِيتُم فِئَة فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون (45) وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس ويصدون عَن سَبِيل الله وَالله بِمَا يعلمُونَ} قَوْله: {فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا} وَمعنى ذكر الله: هُوَ الدُّعَاء بالنصرة وَالظفر {لَعَلَّكُمْ تفلحون} وَكُونُوا على رَجَاء الْفَلاح.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله} الْآيَة، وَقَوله: {وَلَا تنازعوا فتفشلوا} مَعْنَاهُ: وَلَا تختلفوا فتضعفوا {وَتذهب ريحكم} مَعْنَاهُ: جدكم وجهدكم. وَقَالَ قَتَادَة: الرّيح هَاهُنَا: ريح النُّصْرَة. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد بالدبور ". وَالْقَوْل الثَّالِث، قَول الْأَخْفَش وَغَيره: وَتذهب ريحكم أَي: دولتكم {واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين} مَعْلُوم التَّفْسِير. وَفِي الْآيَة فَضِيلَة عَظِيمَة لأهل الصَّبْر؛ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {إِن الله مَعَ الصابرين} قَالَ الشَّاعِر: (إِنِّي رَأَيْت فِي الْأَيَّام تجربة ... للصير عَاقِبَة محمودة الْأَثر) قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس} الْآيَة، البطر: الطغيان فِي النِّعْمَة وَترك الشُّكْر، والرياء: إِظْهَار الْجَمِيل وإبطان الْقَبِيح. وَالْآيَة نزلت فِي الْمُشْركين حِين أَقبلُوا إِلَى بدر،

47

فَقَالَ تَعَالَى للْمُؤْمِنين: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين خَرجُوا من دِيَارهمْ بطرا ورئاء النَّاس} . {ويصدون عَن سَبِيل الله} مَعْنَاهُ: يمْنَعُونَ عَن سَبِيل الْحق {وَالله بِمَا يعلمُونَ مُحِيط} رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ حِين أقبل الْمُشْركُونَ: " اللَّهُمَّ هَذِه قُرَيْش أَقبلت

{مُحِيط (47) وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَإِنِّي جَار لكم فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم وَإِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب (48) إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض} بفخرها وخيلائها تُحَادك وتحاد رَسُولك " الْخَبَر إِلَى آخِره.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس} الْآيَة. رُوِيَ أَن إِبْلِيس - عَلَيْهِ مَا يسْتَحق - تمثل فِي صُورَة سراقَة بن مَالك وَقَالَ للْمُشْرِكين: {وَإِنِّي جَار لكم} مَعْنَاهُ: مجير لكم من بني كنَانَة، فَلَا يُصِيبكُم مِنْهُم سوء، ثمَّ جعل يحرضهم على الْقِتَال {فَلَمَّا تراءت الفئتان} أَي: تلاقت الفئتان، الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ {نكص على عَقِبَيْهِ} رَجَعَ الْقَهْقَرِي على عَقِبَيْهِ {وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم} فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ آخِذا بيد الْحَارِث بن هِشَام أخي أبي جهل، فَلَمَّا رأى الْمَلَائِكَة ينزلون من السَّمَاء يقدمهم جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - نزع يَده من يَد الْحَارِث وهرب، فَقَالَ لَهُ الْحَارِث: أفرارا من غير قتال؟ وَجعل يمسِكهُ، فَدفع فِي صَدره وَقَالَ: {إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ} وهرب {إِنِّي أَخَاف الله} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ إِنِّي أَخَاف الله وَقد ترك السُّجُود لآدَم وَهُوَ لم يخف الله؟ الْجَواب فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه قَالَ هَذَا كذبا، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه خَافَ أَن يُؤْخَذ فيفتضح بَين الْإِنْس. وَمِنْهُم من قَالَ: خَافَ أَنه قد حضر أَجله {وَالله شَدِيد الْعقَاب} .

49

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض غر هَؤُلَاءِ دينهم} هَؤُلَاءِ قوم كَانُوا أَسْلمُوا بِمَكَّة وَلم يهاجروا، فَكَانَ فِي قُلُوبهم بعض الريب، فَخَرجُوا مَعَ الْمُشْركين وَقَالُوا: إِن نرى مَعَ مُحَمَّد قُوَّة انتقلنا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَوْا قلَّة الْمُؤمنِينَ وَضعف شوكتهم قَالُوا هَذَا القَوْل، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ} الْآيَة. قَوْله تَعَالَى: {وَمن يتوكل على الله} وَمن يَثِق بِاللَّه {فَإِن الله عَزِيز حَكِيم} قد

{غر هَؤُلَاءِ دينهم وَمن يتوكل على الله فَإِن الله عَزِيز حَكِيم (49) وَلَو ترى إِذْ يتوفى الَّذين كفرُوا الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق (50) ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد (51) كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كفرُوا بآيَات الله فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ إِن الله قوي شَدِيد الْعقَاب (52) ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَأَن الله سميع عليم} بَينا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم من قبل.

50

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ يتوفى الَّذين كفرُوا الْمَلَائِكَة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا عِنْد الْمَوْت، وَقَوله: {يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم} يضْربُونَ وُجُوههم بأسواط النَّار، وأدبارهم سوقا إِلَى الْعَذَاب. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التوفي هَاهُنَا هُوَ الْقَتْل، وَمَعْنَاهُ: قتل الْمَلَائِكَة الْمُشْركين ببدر، وَقَوله {يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم} مَعْنَاهُ: يضربونهم بِالسَّيْفِ إِذا أَقبلُوا. وَقَوله {وأدبارهم} ويضربونهم بِالسَّيْفِ إِذا أدبروا، وَيَقُولُونَ: {وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق} . رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: مَعَ الْمَلَائِكَة مَقَامِع من حَدِيد يضْربُونَ بهَا الْكفَّار، فتلتهب النَّار فِي جراحاتهم؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق} .

51

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِمَا قدمت أَيْدِيكُم وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد} وَمَعْنَاهُ ظَاهر.

52

قَوْله تَعَالَى: {كدأب آل فِرْعَوْن} الْآيَة، الدأب هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَادة، وَمَعْنَاهُ: عَادَتهم فِي الْكفْر كعادة آل فِرْعَوْن {وَالَّذين من قبلهم كفرُوا بآيَات الله} الْآيَة، وَمعنى الْآيَة ظَاهر.

53

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَن الله لم يَك مغيرا نعْمَة أنعمها على قوم} الْآيَة، فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ: {لم يكن مغيرا نعْمَة} يَعْنِي: لم يكن مبدلا النِّعْمَة بالبلية

( {53) كدأب آل فِرْعَوْن وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بآيَات رَبهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأغرقنا آل فِرْعَوْن وكل كَانُوا ظالمين (54) إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الَّذين كفرُوا فهم لَا يُؤمنُونَ (55) الَّذين عَاهَدت مِنْهُم ثمَّ ينقضون عَهدهم فِي كل مرّة وهم لَا يَتَّقُونَ} {حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} يَعْنِي: حَتَّى يتْركُوا الشُّكْر، ويؤتوا الكفران. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أهل مَكَّة؛ فَإِن الرَّسُول كَانَ نعْمَة أنعمها الله تَعَالَى عَلَيْهِم، فَكَفرُوا بِهَذِهِ النِّعْمَة، فغيرها الله تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: أَنه نقلهَا إِلَى أهل الْمَدِينَة {وَأَن الله سميع عليم} معلومان.

54

قَوْله تَعَالَى: {كدأب آل فِرْعَوْن} وَمَعْنَاهُ: مَا بَينا، وإعادة الذّكر للتَّأْكِيد، وَيجوز أَن هَذَا كَانَ فِي قوم آخَرين سوى الْأَوَّلين. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بآيَات رَبهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} يَعْنِي: نهلك هَؤُلَاءِ كَمَا أهلكنا أُولَئِكَ. قَوْله تَعَالَى: {وأغرقنا آل فِرْعَوْن وكل كَانُوا ظالمين} يَعْنِي: الْأَوَّلين والآخرين.

55

قَوْله تَعَالَى: {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الَّذين كفرُوا} الْآيَة. هَذِه الْآيَة مثل قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ} سماهم الله تَعَالَى دَوَاب وأنعاماً؛ لقلَّة انتفاعهم بعقولهم وألبابهم وأسماعهم وأبصارهم {فهم لَا يُؤمنُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر.

56

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين عَاهَدت مِنْهُم} هَذِه الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُشْركين عَاهَدُوا مَعَ رَسُول الله ثمَّ نقضوا الْعَهْد، فَقَالَ الله تَعَالَى: {الَّذين عَاهَدت مِنْهُم ثمَّ ينقضون عَهدهم فِي كل مرّة} يَعْنِي: كلما عَاهَدُوا نقضوا {وهم لَا يَتَّقُونَ} مَعْنَاهُ: لَا يَتَّقُونَ نقض الْعَهْد.

57

قَوْله تَعَالَى: {فإمَّا تثقفنهم فِي الْحَرْب} مَعْنَاهُ: فإمَّا تصادفنهم فِي الْحَرْب {فشرد بهم من خَلفهم} قَالَ سعيد بن جُبَير: أنذر بهم من خَلفهم، قَالَ الشَّاعِر: (أَطُوف فِي الأباطح كل يَوْم ... مَخَافَة أَن يشرد بِي حَكِيم)

( {56) فإمَّا تثقفهم فِي الْحَرْب فشرد بهم من خَلفهم لَعَلَّهُم يذكرُونَ (57) وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة فانبذ إِلَيْهِم على سَوَاء إِن الله لَا يحب الخائنين (58) وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا إِنَّهُم لَا يعجزون (59) وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّهُم يذكرُونَ} يَعْنِي: يتذكرون. وَمعنى الْآيَة: أَي نكل بهؤلاء الَّذين جَاءُوا لحربك أَو نقضوا عَهْدك تنكيلا يفرق بَينهم من خَلفهم من جماعاتهم.

58

فَقَوله تَعَالَى: {وَإِمَّا تخافن من قوم خِيَانَة} الْآيَة، معنى المخافة هَاهُنَا: هُوَ الإحساس بالخيانة {فانبذ إِلَيْهِم على سَوَاء} يَعْنِي: فانبذ الْعَهْد إِلَيْهِم {على سَوَاء} يَعْنِي: على حَالَة تستوي أَنْت وهم فِي الْعلم بِهِ. وَالْمرَاد من الْآيَة: أَلا تقَاتلهمْ قبل نبذ الْعَهْد، وَقبل علمهمْ بالنبذ حَتَّى لَا تنْسب إِلَى نقض الْعَهْد، وَهَذِه الْآيَة تعد من فصيح الْقُرْآن. قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يحب الخائنين} وَالْمعْنَى مَعْلُوم.

59

قَوْله تَعَالَى (وَلَا يَحسبن الَّذين كفرُوا سبقوا) الْآيَة فِي الْقَوْم الَّذين انْهَزمُوا يَوْم بدر من الْمُشْركين، قَوْله: {سبقوا} يَعْنِي: فاتوا. قَوْله {إِنَّهُم لَا يعجزون} يَعْنِي: لَا يفوتوني. وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " لايعجزون " وَالصَّحِيح الْقِرَاءَة الأولى. وَقد قُرِئت الْآيَة بقراءتين: " أَنهم " و " إِنَّهُم " فَقَوله: " إِنَّهُم " على طَرِيق الِابْتِدَاء، وَقَوله: " أَنهم " يَعْنِي: لأَنهم لَا يفوتون. وَمعنى الْفَوات مَنْقُول عَن أبي عُبَيْدَة، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: {لَا يعجزون} مَعْنَاهُ: إِن فاتهم عَذَاب الدُّنْيَا لَا يفوتهُمْ من عَذَاب الْآخِرَة.

60

وَقَوله تَعَالَى: {وَأَعدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم من قُوَّة وَمن رِبَاط الْخَيل} الْآيَة، الإعداد: اتِّخَاذ الشَّيْء لوقت الْحَاجة، وَقَوله: {من قُوَّة} فِيهِ أَقْوَال:

{ترهبون بِهِ عَدو الله وَعَدُوكُمْ وَآخَرين من دونهم لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ وَمَا تنفقوا} أَحدهَا: مَا روى عقبَة بن عَامر: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة على الْمِنْبَر ثمَّ قَالَ: أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي، أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي ". أوردهُ مُسلم فِي " الصَّحِيح ". وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْقُوَّة: ذُكُور الْخَيل، والرباط: إناثها. هَذَا قَول عِكْرِمَة. وَرُوِيَ عَن خَالِد بن الْوَلِيد أَنه كَانَ لَا يركب فِي الْقِتَال إِلَّا الْإِنَاث؛ لقلَّة صهيلها. وَعَن أبي محيريز قَالَ: كَانُوا يستحبون ركُوب ذُكُور الْخَيل عِنْد الصُّفُوف، وركوب إناث الْخَيل عِنْد الثَّبَات والغارات. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْقُوَّة: هِيَ جَمِيع الأسلحة. وَقد قيل: إِن الْقُوَّة: الْحُصُون؛ والحصون: الْخُيُول، قَالَ الشَّاعِر: (وَلَقَد علمت على تجنبي الردى ... أَن الْحُصُون الْخَيل لَا مدر الْقرى) وَقَوله: {ترهبون بِهِ} مَعْنَاهُ: تخيفون بِهِ {عَدو الله وَعَدُوكُمْ} أَي: أَعدَاء الله وأعداءكم وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: {وَآخَرين من دونهم} أَي: ترهبون بِهِ آخَرين من دونهم، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ: رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هم بَنو قُرَيْظَة. وَفِيه قَول آخر: أَنهم المُنَافِقُونَ. وَفِيه قَول ثَالِث: أَنهم الْجِنّ. وَعَن السدى أَنه قَالَ: أهل فَارس. وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لن يخبل الْجِنّ آدَمِيًّا فِي دَاره فرس عَتيق ". أوردهُ النقاش فِي تَفْسِيره.

{من شَيْء فِي سَبِيل الله يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ (60) وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا وتوكل على الله إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (61) وَإِن يُرِيدُوا أَن يخدعوك فَإِن حَسبك الله هُوَ الَّذِي أيدك بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَألف بَين قُلُوبهم لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض} وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: رُوِيَ عَن معَاذ بن جبل أَنه قَالَ: {وَآخَرين من دونهم} يَعْنِي: الشَّيَاطِين. وَقَوله: {لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ} ظَاهر. قَوْله: {وَمَا تنفقوا من شَيْء فِي سَبِيل الله يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ} أَي: لَا ينقص أجوركم.

61

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا} السّلم وَالسّلم وَالسّلم: الصُّلْح، وَمَعْنَاهُ: وَإِن مالوا إِلَى الصُّلْح فمل إِلَيْهِ. وَرُوِيَ عَن الْحسن وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف. قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الله} مَعْنَاهُ: ثق بِاللَّه {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} .

62

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُرِيدُوا أَن يخدعوك} الخداع: أَن يظْهر خلاف مَا يبطن. قَوْله: {فَإِن حَسبك الله} يَعْنِي: فَإِن كافيك هُوَ {هُوَ الَّذِي أيدك بنصره} هُوَ الَّذِي قواك بنصره {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أَي: قواك بِالْمُؤْمِنِينَ

63

{وَألف بَين قُلُوبهم} أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذَا فِي الْأَوْس والخزرج؛ وَقد كَانَت بَينهم إحن وتراث فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ الْقِتَال بَينهم قَائِما مائَة سنة، فألف الله بَين قُلُوبهم بِالنَّبِيِّ قَالَ الزّجاج: كَانَ الرجل مِنْهُم يلطم اللَّطْمَة فَكَانَ يُقَاتل بقوته إِلَى أَن يَسْتَفِيد مِنْهَا، فألف الله بَين قُلُوبهم بِالْإِسْلَامِ، حَتَّى صَار الرجل يُقَاتل أَخَاهُ وقريبه على الْإِسْلَام. وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي المتحابين فِي الله. وَفِي الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْمُؤمن مألفة، وَلَا خير فِيمَن لَا يؤلف وَلَا

{جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم إِنَّه عَزِيز حَكِيم (63) يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ (64) يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال إِن} يألف. وَعَن خَالِد بن معدان أَنه قَالَ: إِنَّه لله ملكا فِي السَّمَاء؛ نصفه من ثلج وَنصفه من نَار، وتسبيحه: اللَّهُمَّ كَمَا ألفت بَين الثَّلج وَالنَّار فألف بَين قُلُوب عِبَادك الصَّالِحين. قَوْله {لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم إِنَّه عَزِيز حَكِيم} أَي منيع فِي ملكه، حَكِيم فِي خلقه.

64

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة الْوَالِبِي أَنه قَالَ: أسلم تِسْعَة وَثَلَاثُونَ رجلا وَثَلَاث وَعِشْرُونَ امْرَأَة، ثمَّ أسلم عمر رَضِي الله عَنهُ تَمام الْأَرْبَعين، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك} أَي: يَكْفِيك الله وَيَكْفِي من اتبعك من الْمُؤمنِينَ، فَتكون " من " فِي مَوضِع النصب. وَالْقَوْل الثَّانِي: {حَسبك الله} وحسبك تباعك من الْمُؤمنِينَ؛ فَتكون " من " فِي مَوضِع الرّفْع، قَالَ الشَّاعِر: (إِذا كَانَت الهيجاء وانشقت الْعَصَا ... فحسبك وَالضَّحَّاك سيف مهند) وَهَذَا استشهاد لِلْقَوْلِ الأول. وَقَرَأَ الشّعبِيّ: " حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ " وَمَعْنَاهُ قريب من الأول.

65

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال} قرئَ فِي الشاذ: " حرص

{يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا من الَّذين كفرُوا بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ (65) الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله وَالله مَعَ} الْمُؤمنِينَ " بالصَّاد غير مُعْجمَة، وَالْمَعْرُوف بالضاد مُعْجمَة؛ والتحريض: هُوَ الْحَث على الْمُبَادرَة إِلَى الشَّيْء. قَوْله تَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا من الَّذين كفرُوا} هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، وَكَانَ الله تَعَالَى أَمر الْمُؤمنِينَ أَلا يفر الْوَاحِد مِنْهُم عَن عشرَة، وَلَا تَفِر الْمِائَة مِنْهُم عَن ألف. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى {بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} وَأي اتِّصَال لهَذَا بِمَعْنى الْآيَة؟ جَوَابه: مَعْنَاهُ: أَنهم يُقَاتلُون على جَهَالَة لَا على حسبَة وبصيرة، وَأَنْتُم تقاتلون على بَصِيرَة وحسبة، فَلَا يثبتون إِذا ثبتمْ، ثمَّ إِن الْمُسلمين سَأَلُوا الله التَّخْفِيف، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة الْأُخْرَى، وَأمر أَلا يفر الْوَاحِد من أثنين، وَالْمِائَة من الْمِائَتَيْنِ. فَإِن قَالَ قَائِل: الله تَعَالَى قَالَ: {يغلبوا مِائَتَيْنِ} وَنحن رَأينَا الْقِتَال على هَذَا الْعدَد بِلَا غَلَبَة، فَكيف يَسْتَقِيم معنى الْآيَة، وَالْخلف فِي خبر الله لَا يجوز؟ قُلْنَا: إِن معنى قَوْله: {يغلبوا} أَي: يقاتلوا؛ كَأَنَّهُ أَمرهم بِالْقِتَالِ على رَجَاء الظفر والنصرة من الله تَعَالَى.

66

وَأما قَوْله: {الْآن خفف الله عَنْكُم} هَذِه الْآيَة ناسخة لِلْآيَةِ الأولى، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر يزِيد بن الْقَعْقَاع: " وَعلم أَن فِيكُم ضعفاء " وَالْمَعْرُوف: " ضعفا " و " ضعفا " ومعناهما وَاحِد. {فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين} وَبَاقِي الْآيَة مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

{الصابرين (66) مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة وَالله عَزِيز حَكِيم (67) لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا}

67

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} قرئَ: " أسرى، وأسارى ". قَالَ أهل اللُّغَة: أسرى جمع أَسِير، وأسارى جمع الْجمع. وَحكى الْأَصْمَعِي عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَنه قَالَ: الأسرى هم المأخوذون من غير شدّ، وَالْأسَارَى هم الَّذين أخذُوا وشدوا. وَالأَصَح عِنْد أهل اللُّغَة أَنه لَا فرق بَينهمَا، قَالَه الْأَزْهَرِي. وَقَوله تَعَالَى: {حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} الْإِثْخَان: الْقَتْل، وَقيل: الْمُبَالغَة فِي التنكيل. {تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا} بالإفداء. قَوْله تَعَالَى: {وَالله يُرِيد الْآخِرَة} مَعْنَاهُ: يرغبكم فِي الْآخِرَة، وَقَوله: {وَالله عَزِيز حَكِيم} قد ذكرنَا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم. وَاعْلَم أَن الْآيَة نزلت فِي أُسَارَى بدر؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ: " أَن النَّبِي قتل سبعين يَوْم بدر، وَأسر سبعين من الْمُشْركين، ثمَّ إِنَّه اسْتَشَارَ أَصْحَابه فِي الْأُسَارَى، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: هَؤُلَاءِ قَوْمك وأسرتك وَأهْلك، اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ الله أَن يهْدِيهم بك، وَخذ مِنْهُم الْفِدَاء؛ فَيكون مَعُونَة للْمُسلمين. وَقَالَ عمر: هَؤُلَاءِ آذوك وَأَخْرَجُوك وَكَفرُوا بِمَا جِئْت بِهِ فَاضْرب أَعْنَاقهم. فَمَال الرَّسُول إِلَى قَول أبي بكر وَأحب مَا ذكره ". وَرُوِيَ " أَنه قَالَ لأبي بكر: مثلك مثل إِبْرَاهِيم حِين قَالَ: {فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} وَقَالَ لعمر: مثلك مثل نوح حِين قَالَ: {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} " ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: لَا يخلين أحد مِنْكُم

{أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا وَاتَّقوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم} عَن أَسِير إِلَّا بِفِدَاء أَو بِضَرْب عُنُقه ففادوا وَكَانَ الْفِدَاء لكل أَسِير أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة، الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ درهما، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.

68

قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم} رُوِيَ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " لم تحل الْغَنَائِم لأحد سود الرُّءُوس قبلكُمْ؛ كَانَت نَار تنزل من السَّمَاء فتأكلها. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر ووقعوا فِيمَا وَقَعُوا من الْغَنَائِم فادوا الْأُسَارَى قبل أَن ينزل الْوَحْي بِالْجَوَازِ، أنزل الله تَعَالَى: {لَوْلَا كتاب من الله سبق لمسكم} الْآيَة ". وَفِي معنى الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: لَوْلَا كتاب من الله سبق فِي تَحْلِيل الْغَنَائِم لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم. هَذَا قَول سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة. وَالثَّانِي: لَوْلَا كتاب من الله سبق من مغفرته لأهل بدر مَا صَنَعُوا؛ لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم، هَذَا قَول الْحسن الْبَصْرِيّ. وَالثَّالِث: لَوْلَا كتاب من الله سبق أَنهم لم يقدم إِلَيْكُم أَلا تَأْخُذُوا؛ لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم؛ فَإِنَّهُ لَا يعذب من غير تقدمة. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أريت عذابكم دون هَذِه الشَّجَرَة، وَأَشَارَ إِلَى شَجَرَة قريبَة مِنْهُ ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ لعمر: " لَو نزل الْعَذَاب مَا نجا أحد سواك ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُ: " كَاد يصيبنا ".

( {69) يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الأسرى إِن يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ خيرا يُؤْتكُم خيرا مِمَّا أَخذ مِنْكُم وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم (70) وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتك فقد خانوا الله من قبل فَأمكن مِنْهُم وَالله عليم حَكِيم (71) إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا} وَرُوِيَ أَنه لما نزلت الْآيَة الأولى كف أَصْحَاب رَسُول الله أَيْديهم عَمَّا أخذُوا من الْفِدَاء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.

70

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الأسرى} نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فَإِنَّهُ أسر يَوْم بدر، وَكَانَت مَعَه عشرُون أُوقِيَّة من الذَّهَب فَأخذت مِنْهُ، ثمَّ قَالَ لَهُ النَّبِي: " افْدِ نَفسك وَابْني أَخِيك - يَعْنِي عقيلا ونوفلا - فَقَالَ: مَالِي شَيْء، وَقد أَخَذْتُم مَا كَانَ معي، قَالَ: أَيْن المَال الَّذِي دَفعته إِلَى أم الْفضل وَقلت: إِن أصبت فِي هَذَا الْوَجْه فلعبد الله كَذَا، وللفضل كَذَا، ولقثم كَذَا؟ فَقَالَ: وَالله مَا كَانَ مَعنا أحد، فَأَنا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله؛ ثمَّ إِنَّه فَادى نَفسه وَابْني أَخِيه، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا ". قَوْله تَعَالَى: {إِن يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ خيرا} مَعْنَاهُ: إِن يعلم فِي قُلُوبكُمْ إِيمَانًا. قَوْله تَعَالَى: {يُؤْتكُم خير مِمَّا أَخذ مِنْكُم} قَالَ الْعَبَّاس: فقد آتَانِي الله خيرا مِمَّا أَخذ مني، وَكَانَ لَهُ عشرُون عبدا يتجر كل عبد فِي عشْرين ألف دِرْهَم. وَقَوله: {وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم} قَالَ الْعَبَّاس: وَأَنا أَرْجُو من الله الْمَغْفِرَة.

71

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتك} الْخِيَانَة: ضد الْأَمَانَة؛ وَمَعْنَاهُ: إِن أَرَادوا أَن يكفروا بك {فقد خانوا الله من قبل} أَي: قد كفرُوا بِاللَّه من قبل. قَوْله: {فَأمكن مِنْهُم} يَعْنِي: مكن مِنْهُم {وَالله عليم حَكِيم} .

72

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} الْآيَة، الْهِجْرَة: هِيَ الْخُرُوج من الوطن إِلَى غَيره، وَقد كَانَت فرضا فِي ابْتِدَاء

{بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مَا لكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا وَإِن استنصروكم فِي الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (72) وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض إِلَّا تفعلوه تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير (73) } الْإِسْلَام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم فتح مَكَّة قَالَ النَّبِي: " لَا هِجْرَة بعد الْيَوْم ". وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْهِجْرَة قَائِمَة إِلَى قيام السَّاعَة، فعلى أهل الْبَوَادِي إِذا أَسْلمُوا أَن يهاجروا إِلَى الْأَمْصَار. قَوْله: {وَالَّذين آووا ونصروا} هَؤُلَاءِ أهل الْمَدِينَة؛ وَمعنى الإيواء: ضمهم الْمُهَاجِرين إِلَى أنفسهم فِي الْأَمْوَال والمساكن. قَوْله: {أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أُولَئِكَ أعوان بعض. وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: يَرث بَعضهم من بعض. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا} قطع الْمُوَالَاة بَين الْمُسلمين وَبينهمْ حَتَّى يهاجروا، وَكَانَ المُهَاجر لَا يَرث من الْأَعرَابِي، وَلَا الْأَعرَابِي من المُهَاجر، ثمَّ قَالَ: {وَإِن استنصروكم فِي الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر} يَعْنِي: وَإِن استنصروكم الَّذين لم يهاجروا فَعَلَيْكُم النَّصْر، ثمَّ اسْتثْنى وَقَالَ: {إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق} أَي: موادعة، فَلَا تنصروهم عَلَيْهِم. قَوْله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} مَعْنَاهُ ظَاهر.

73

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} يَعْنِي: أَن بَعضهم أعوان بعض. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن بَعضهم يَرث من الْبَعْض. وَقَوله {إِلَّا تفعلوه} يَعْنِي: إِن لم تقبلُوا هَذَا الحكم {تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير} الْفِتْنَة فِي الأَرْض: قُوَّة الْكفْر، وَالْفساد الْكَبِير: ضعف الْإِيمَان.

{وَالَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (74) وَالَّذين آمنُوا من بعد وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا مَعكُمْ فَأُولَئِك مِنْكُم وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله إِن الله بِكُل شَيْء عليم (75) }

74

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله وَالَّذين آووا ونصروا} (الْآيَة) ، فَإِن قيل: أَي معنى فِي هَذَا التّكْرَار؟ قُلْنَا: الْمُهَاجِرُونَ كَانُوا على طَبَقَات، وَكَانَ بَعضهم أهل الْهِجْرَة الأولى، وهم الَّذين هَاجرُوا قبل الْحُدَيْبِيَة، وَبَعْضهمْ أهل الْهِجْرَة الثَّانِيَة، وهم الَّذين هَاجرُوا بعد الْحُدَيْبِيَة قبل فتح مَكَّة، وَكَانَ بَعضهم ذَا هجرتين، وهما الْهِجْرَة إِلَى الْحَبَشَة وَالْهجْرَة إِلَى الْمَدِينَة؛ فَالْمُرَاد من الْآيَة الأولى الْهِجْرَة الأولى، وَالْمرَاد من الثَّانِيَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة. قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} يَعْنِي: لَا مرية وَلَا ريب فِي إِيمَانهم. قَوْله: {لَهُم مغْفرَة ورزق كريم} روى فِي الرزق الْكَرِيم أَن المُرَاد مِنْهُ: رزق الْجنَّة لَا يصير بخوى؛ بل يصير رشحا لَهُ ريح الْمسك.

75

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا من بعد وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا مَعكُمْ فَأُولَئِك مِنْكُم} الْآيَة، أَرَادَ بِهِ: فَأُولَئِك مَعكُمْ، فَأنْتم مِنْهُم وهم مِنْكُم. قَوْله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة ناسخة لما سبق من إِثْبَات الْمِيرَاث بِالْهِجْرَةِ، فَنقل الْمِيرَاث من الْهِجْرَة إِلَى الْمِيرَاث بِالْقَرَابَةِ. قَوْله تَعَالَى: {فِي كتاب الله} أَي: فِي حكم الله. قَوْله: {إِن الله بِكُل شَيْء عليم} قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ المُرَاد من أولي الْأَرْحَام الأقرباء الَّذين لَيْسَ لَهُم عصوبة وَلَا فرض؛ وَإِنَّمَا المُرَاد من أولي الْأَرْحَام [أهل العصابات] ثمَّ مِيرَاث الأقرباء مَذْكُور فِي مَوضِع آخر، وَهُوَ آيَة الْمِيرَاث، وَالله أعلم.

تَفْسِير سُورَة التَّوْبَة اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة مَدَنِيَّة، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب: " أَنَّهَا آخر سُورَة أنزلت كَامِلَة " وَلها أَسمَاء كَثِيرَة. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن هَذِه السُّورَة، فَقَالَ: هِيَ الفاضحة؛ مازال ينزل قَوْله [تَعَالَى] : وَمِنْهُم، وَمِنْهُم، حَتَّى طننا أَنه لَا يتْرك منا أحدا. وَقَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان: هِيَ سُورَة الْعَذَاب. وَمن الْمَعْرُوف أَنَّهَا تسمى سُورَة البحوث، وَمن أسمائها: المبعثرة، وَمن أسمائها: المنيرة، وَمن أسمائها: الحافرة، لِأَنَّهَا حفرت عَن قُلُوب الْمُنَافِقين. وروى النقاش عَن ابْن عمر أَنَّهَا تسمى المقشقشة. وَعَن عمرَان بن حدير أَنه قَالَ: قَرَأت هَذِه السُّورَة على أَعْرَابِي، فَقَالَ: هَذِه السُّورَة أظنها آخر مَا أنزلت، فَقلت لَهُ: وَلم؟ فَقَالَ: أرى عهودا تنبذ، وعقودا تنقض. وَعَن سعيد بن جُبَير: أَن هَذِه السُّورَة كَانَت تعدل سُورَة الْبَقَرَة فِي الطول. وَأما الْكَلَام فِي حذف التَّسْمِيَة: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " قلت لعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -: مَا بالكم عمدتم إِلَى سُورَة التَّوْبَة وَهِي من المئين، وَإِلَى سُورَة الْأَنْفَال وَهِي من المثاني، فقرنتم بَينهمَا وَلم تكْتبُوا سطر {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} ؟ فَقَالَ: " كَانَ إِذا أنزل على رَسُول الله الشَّيْء من الْقُرْآن دَعَا بعض من يكْتب، فَيَقُول لَهُ: ضَعْهُ فِي سُورَة كَذَا، ضَعْهُ فِي سُورَة كَذَا، وَكَانَت الْأَنْفَال من أول مَا أنزلت بِالْمَدِينَةِ، وَالتَّوْبَة من آخر مَا أنزلت، وَكَانَ قصتيهما شَبيهَة بَعْضهَا بِبَعْض، وَخرج رَسُول الله من الدُّنْيَا وَلم يبين لنا شَيْئا فظننا أَنَّهُمَا سُورَة وَاحِدَة؛ فَلذَلِك قرنا بَينهمَا وَلم نكتب {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} .

{بَرَاءَة من الله وَرَسُوله إِلَى الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين (1) فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر وَاعْلَمُوا أَنكُمْ غير معجزي الله وَأَن الله مخزي الْكَافرين (2) وأذان} وَهَذَا خبر فِي " الصَّحِيح " أوردهُ مُسلم، وروى أَن الصَّحَابَة اخْتلفُوا، فَقَالَ بَعضهم: هما سورتان، وَقَالَ بَعضهم: هما سُورَة وَاحِدَة؛ فاتفقوا أَن يفصلوا ببياض بَين السورتين، وَلَا يكتبوا: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ". وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا حكى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة من الْمُتَقَدِّمين، والمبرد من الْمُتَأَخِّرين: أَن السُّورَة سُورَة نقض الْعَهْد والبراءة من الْمُشْركين؛ وَالتَّسْمِيَة أَمَان وافتتاح خير؛ فَلهَذَا لم يكتبوا " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".

التوبة

قَوْله تَعَالَى: {برآءة من الله وَرَسُوله} قَوْله: {بَرَاءَة} هَذِه بَرَاءَة، والبراءة: نقض الْعِصْمَة، وَمعنى الْآيَة: تبرؤ من الله وَرَسُوله. {إِلَى الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين} وَقَالَ بَعضهم: برىء الله وَرَسُوله من الْمُشْركين.

2

قَوْله تَعَالَى: {فسيحوا فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: أَقبلُوا وأدبروا واذهبوا وجيئوا {أَرْبَعَة أشهر} اخْتلفُوا فِي الْأَشْهر الْأَرْبَعَة: قَالَ ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَقَتَادَة: ابتداؤه من يَوْم النَّحْر، وَآخره الْعَاشِر من شهر ربيع الآخر. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ شَوَّال، وَذُو الْقعدَة، وَذُو الْحجَّة، وَالْمحرم. وَالْقَوْل الأول هُوَ الصَّوَاب. قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنكُمْ غير معجزي الله} أَي: غير فائتي الله، وَمَعْنَاهُ: أَنه

وَإِن أجلكم هَذِه الْمدَّة فَلَا يعجز عَن عذابكم، كَمَا يعجز من يفوتهُ الشَّيْء {وَأَن الله مخزي الْكَافرين} أَي: مذل الْكَافرين. وَسبب نزُول الْآيَة: " أَنه كَانَ بَين رَسُول الله وَبَين الْمُشْركين عهود ومدد، فَلَمَّا غزا غَزْوَة تَبُوك أرجف المُنَافِقُونَ بِالنَّبِيِّ، فَجعل الْمُشْركُونَ ينقضون العهود - وَقيل: إِن هَذَا كَانَ قبل غَزْوَة تَبُوك - فَلَمَّا كَانَت سنة تسع من الْهِجْرَة بعث أَبَا بكر - رَضِي الله عَنهُ - لِلْحَجِّ بِالنَّاسِ، وَبعث عليا - رَضِي الله عَنهُ - ليقرا على النَّاس هَذِه الْآيَات من أول هَذِه السُّورَة. ويروى أَنه بعث أَبَا بكر أَولا، ثمَّ إِنَّه بعث عليا فِي إثره، وَقَالَ: " لَا يبلغ هَذِه الْآيَات إِلَّا رجل منى " يَعْنِي: من رهطي فَكَانَ أَبُو بكر أَمِيرا على الْمَوْسِم، وَكَانَ عَليّ يُنَادي فِي النَّاس بِهَذِهِ الْآيَات. وروى أَن عليا سُئِلَ: بِمَ بَعثك رَسُول الله؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي بأَرْبعَة أَشْيَاء: أَولهَا: من كَانَ بَينه وَبَين رَسُول الله عهد فمدته إِلَى أَرْبَعَة أشهر، وَالثَّانِي: لَا يَحُجن بعد هَذَا الْعَام مُشْرك، وَالثَّالِث: لَا يَطُوفَن بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَالرَّابِع: لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا نفس مسلمة ". فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بعث أَبَا بكر بِهَذِهِ الْآيَات ثمَّ عَزله وَبعث عليا، وَقَالَ: " لَا يبلغ عني إِلَّا رجل مني "، فَإِن كَانَ لَا يبلغ هَذَا إِلَّا رجل من رهطه، فَكَذَلِك سَائِر الْأَشْيَاء؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر الْعلمَاء أَن رَسُول الله لم يعْزل أَبَا بكر عَن الْمَوْسِم، وَكَانَ هُوَ الْأَمِير، وَإِنَّمَا بعث عليا لينادى بِهَذِهِ الْآيَات؛ لِأَن الْعَرَب كَانُوا تعارفوا أَنه لَا يعْقد على الْقَوْم إِلَّا سيدهم، وَلَا ينْقض إِلَّا سيدهم أَو رجل من أَهله، فَبعث عليا على مَا تعارفوا؛ ليزيح الْعِلَل بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا تبقى لَهُم عِلّة، فَكَانَ الْمَعْنى هَذَا، وَالله أعلم.

{من الله وَرَسُوله إِلَى النَّاس يَوْم الْحَج الْأَكْبَر أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين وَرَسُوله فَإِن تبتم فَهُوَ خير لكم وَإِن توليتم فاعلموا أَنكُمْ غير معجزي الله وَبشر الَّذين}

3

قَوْله تَعَالَى: {وأذان من الله وَرَسُوله} مَعْنَاهُ: إِعْلَام من الله وَرَسُوله، قَالَ الْحَارِث بن حلزة: (آذنتنا بينهماأسماء ... رب ثاو يمل مِنْهُ الثواء) مَعْنَاهُ: أعلمتنا. قَوْله تَعَالَى: {إِلَى النَّاس يَوْم الْحَج الْأَكْبَر} اخْتلفُوا فِي يَوْم الْحَج الْأَكْبَر على أَقْوَال: روى يحيى بن (الجزار) أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - خرج يَوْم الْعِيد على دَابَّة، فَأخذ رجل بلجام دَابَّته، وَقَالَ: مَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر؟ فَقَالَ: هُوَ الْيَوْم الَّذِي أَنْت فِيهِ، خل عَنْهَا. وروى مثل هَذَا عَن ابْن عمر، والمغيرة بن شُعْبَة، وَعبد الله بن أبي أوفى. وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: هُوَ يَوْم عَرَفَة. وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَجَمَاعَة. وَقَالَ ابْن سِيرِين - وَهُوَ القَوْل الثَّالِث -: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر هُوَ الْيَوْم الَّذِي حج فِيهِ رَسُول الله، اتّفق فِيهِ حج أهل المل كلهَا. وَالصَّحِيح هُوَ أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين. وَاخْتلفُوا فِي الْحَج الْأَكْبَر: فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن الْحَج الْأَكْبَر هُوَ الْقُرْآن، وَالْحج الْأَصْغَر هُوَ الْإِفْرَاد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْحَج الْأَكْبَر: هُوَ الْحَج، والأصغر هُوَ الْعمرَة. قَوْله: {أَن الله بَرِيء من الْمُشْركين وَرَسُوله فَإِن تبتم فَهُوَ خير لكم وَإِن توليتم فاعلموا أَنكُمْ غير معجزي الله وَبشر الَّذين كفرُوا بِعَذَاب أَلِيم} مَعْنَاهُ: وَرَسُوله بَرِيء

{كفرُوا بِعَذَاب أَلِيم (3) إِلَّا الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين ثمَّ لم ينقصوكم شَيْئا وَلم يظاهروا عَلَيْكُم أحدا فَأتمُّوا إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخذوهم} أَيْضا.

4

{إِلَّا الَّذين عاهدتم من الْمُشْركين} وَقع الِاسْتِثْنَاء على قوم من بني ضَمرَة أَمر الله رَسُوله أَن يتم إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم، وَكَانَ قد بَقِي من مدتهم تِسْعَة أشهر؛ وَالسَّبَب فِي الْإِتْمَام: أَنهم لم ينقضوا الْعَهْد، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لم ينقصوكم شَيْئا} ، وَقَرَأَ عَطاء بن يسَار: " ثمَّ لم ينقضوكم شَيْئا " بالضاد الْمُعْجَمَة. قَوْله تَعَالَى: {وَلم يظاهروا عَلَيْكُم أحدا} وَمَعْنَاهُ: وَلم يعاونوا عَلَيْكُم أحدا {فَأتمُّوا إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ} يَعْنِي: الْمُتَّقِينَ عَن نقض الْعَهْد. وروى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ - رَحمَه الله - أَنه قَالَ: المتقي: من يدع مَالا بَأْس بِهِ حذرا مِمَّا بِهِ بَأْس.

5

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} رُوِيَ فِي التفاسير " أَن النَّبِي أجل الْمُشْركين الَّذين كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي عهد أَرْبَعَة أشهر، وَأجل الَّذين لم يكن بَين رَسُول الله وَبينهمْ عهد بَاقِي ذِي الْحجَّة وَالْمحرم وَهُوَ خَمْسُونَ لَيْلَة " فَهَذَا معنى الْآيَة. فَإِن قيل: قَالَ تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم} وَمَا ذكرْتُمْ بعض الْأَشْهر الْحرم. قُلْنَا: هَذَا الْقدر كَانَ مُتَّصِلا بِمَا مضى؛ فَأطلق عَلَيْهِ اسْم الْجَمِيع، وَمَعْنَاهُ: هُوَ مضى الْمدَّة الْمَعْرُوفَة الَّتِي تقع بعد انسلاخ الْأَشْهر الْحرم. قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. قَوْله {وخذوهم} ظَاهر. أَي: خذوهم أسرا؛ وَالْعرب تسمي الْأَسير أخيذا، وَفِي الْمثل: أكذب من أخيذ. قَوْله تَعَالَى: {واحصروهم} يَعْنِي: واحبسوهم، يَعْنِي: حولوا بَينهم وَبَين

{واحصروهم واقعدوا لَهُم كل مرصد فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم إِن الله غَفُور رَحِيم (5) وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله ثمَّ أبلغه مأمنه ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعلمُونَ (6) كَيفَ يكون للْمُشْرِكين عهد عِنْد الله وَعند رَسُوله إِلَّا الَّذين عاهدتم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام فَمَا} الْمَسْجِد الْحَرَام، هَذَا هُوَ معنى الْحَبْس هَاهُنَا. وَقَوله: {واقعدوا لَهُم كل مرصد} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المرصد: الطّرق. يَعْنِي اقعدوا لَهُم بطرق مَكَّة حَتَّى لَا يصلوا إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام قَالَ الشَّاعِر: (وَلَقَد علمت [وَلَا أخالك نَاسِيا] ... أَن الْمنية للفتى بالمرصد) قَوْله: {فَإِن تَابُوا} يَعْنِي: آمنُوا {وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم} يَعْنِي: خلوا سبيلهم ليصلوا إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام {إِن الله غَفُور رَحِيم} مَعْلُوم.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره} الإستجارة: طلب الْأمان. وَمعنى الْآيَة: وَإِن أحد من الْمُشْركين طلب مِنْك الْأمان فَأَجره، أَي: أَمنه {حَتَّى يسمع كَلَام الله} يَعْنِي: فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ من الْعقَاب وَالثَّوَاب والوعد والوعيد {ثمَّ أبلغه مأمنه} يَعْنِي: الْموضع الَّذِي يَأْمَن فِيهِ {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعلمُونَ} وَمَعْنَاهُ: أَنهم يَحْتَاجُونَ إِلَى أَن يسمعوا كَلَام الله تَعَالَى لجهلهم.

7

قَوْله تَعَالَى: {كَيفَ يكون للْمُشْرِكين عهد عِنْد الله وَعند رَسُوله} قَالَ الْفراء: كلمة " كَيفَ " هَاهُنَا كلمة اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْجحْد، وَمَعْنَاهُ: لَا يكون للْمُشْرِكين عهد عِنْد الله وَعند رَسُوله، يَعْنِي: وَلَا عِنْد رَسُوله. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذين عاهدتم عِنْد الْمَسْجِد الْحَرَام} هَؤُلَاءِ قوم من بني ضَمرَة على مَا ذكرنَا. قَوْله تَعَالَى: {فَمَا استقاموا لكم فاستقيموا لَهُم} يَعْنِي: إِذا وفوا بعهدكم وفوا

{استقاموا لكم فاستقيموا لَهُم إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ (7) كَيفَ وَإِن يظهروا عَلَيْكُم لَا يرقبوا فِيكُم إِلَّا وَلَا ذمَّة يرضونكم بأفواههم وتأبى قُلُوبهم وَأَكْثَرهم فَاسِقُونَ (8) اشْتَروا بآيَات الله ثمنا قَلِيلا فصدوا عَن سَبيله إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا} بعهدهم {إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ} قيل مَعْنَاهُ: إِن الله يحب الْمُؤمنِينَ، وَقيل: يحب الْمُتَّقِينَ نقض الْعَهْد.

8

قَوْله تَعَالَى: {كَيفَ وَإِن يظهروا عَلَيْكُم لَا يرقبوا فِيكُم إِلَّا وَلَا ذمَّة} يَعْنِي: كَيفَ يكون لَهُم عهد وَإِن يظهروا عَلَيْكُم لَا يرقبوا فِيكُم إِلَّا وَلَا ذمَّة؟ اخْتلفت الْأَقْوَال فِي " إِلَّا ": رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَن " إِلَّا " هُوَ الله تَعَالَى. وَفِي الشاذ قرئَ: " لَا يرقبوا فِيكُم إيلا وَلَا ذمَّة "، وإيل: هُوَ الله. وَرُوِيَ عَن أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ فِي كَلِمَات مُسَيْلمَة الْكذَّاب - لَعنه الله - حِين سمع أَنه يَقُول: يَا ضفدع نقي نقي، كم تنقين، لَا المَاء تكدرين وَلَا الشَّرَاب تمنعين. فَقَالَ أَبُو بكر: إِن هَذَا كَلَام لم يخرج من إل يَعْنِي: من الله. وَالْقَوْل الثَّانِي قَول أبي عُبَيْدَة: الإل هُوَ الْعَهْد، والذمة: التذمم. وَالثَّالِث: قَول الضَّحَّاك - وَهُوَ أولى الْأَقَاوِيل وأحسنها - قَالَ: إِن الإل هُوَ الْقَرَابَة، والذمة: الْعَهْد، قَالَ حسان بن ثَابت: (لعمرك إِن إلك من قُرَيْش ... كإل السقب من رأل النعام) قَوْله تَعَالَى: {يرضونكم بأفواههم وتأبى قُلُوبهم} يَعْنِي: يعدون الْوَفَاء بالْقَوْل، وتأبى قُلُوبهم إِلَّا الْغدر {وَأَكْثَرهم فَاسِقُونَ} فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا فِي الْمُشْركين وهم كلهم فَاسِقُونَ، فَكيف قَالَ: {وَأَكْثَرهم} ؟ قُلْنَا: الْفسق هَاهُنَا: نقض الْعَهْد، وَكَانَ فِي الْمُشْركين من وفى بعهده؛ فَلهَذَا قَالَ {وَأَكْثَرهم فَاسِقُونَ} .

9

قَوْله تَعَالَى: {اشْتَروا بآيَات الله ثمنا قَلِيلا} الْآيَة. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الدُّنْيَا

{يعْملُونَ (9) لَا يرقبون فِي مُؤمن إِلَّا وَلَا ذمَّة وَأُولَئِكَ هم المعتدون (10) فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فإخوانكم فِي الدّين ونفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ (11) وَإِن نكثوا أَيْمَانهم من بعد عَهدهم وطعنوا فِي دينكُمْ فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر} بحذافيرها ثمن قَلِيل. وَمعنى الْآيَة: أَنهم اخْتَارُوا الدُّنْيَا على رضَا الله وعَلى الْإِيمَان بآيَات الله {فصدوا عَن سَبيله} يَعْنِي: منعُوا النَّاس عَن سَبيله {إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

10

قَوْله تَعَالَى: {لَا يرقبون فِي مُؤمن إِلَّا وَلَا ذمَّة} المراقبة: الْحِفْظ، والإل والذمة قد ذكرنَا مَعْنَاهُمَا {وَأُولَئِكَ هم المعتدون} المجاوزون للحدود.

11

وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فإخوانكم فِي الدّين ونفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن نكثوا أَيْمَانهم من بعد عَهدهم} هَذَا فِي الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَين رَسُول الله وَبَين قُرَيْش، فنقضوا الْعَهْد، وَكَانَ نقضهم: أَنهم عاونوا بني بكر على خُزَاعَة، وَكَانَت بَنو بكر حلفاء قُرَيْش، وخزاعة حلفاء النَّبِي، فجَاء رجل من خُزَاعَة إِلَى النَّبِي بِالْمَدِينَةِ، وأنشده: (لاهم إِنِّي نَاشد مُحَمَّدًا ... حلف أَبينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا) (وَإِن قُريْشًا نقضوك الْمَوْعِدَا ... وبيتونا بالوثير هُجَّدا) (وَقَتَلُونَا ركعا وَسجدا ... ) فِي أَبْيَات كَثِيرَة، فَقَالَ رَسُول الله: " لانصرت إِن لم أَنْصُركُمْ ".

{إِنَّهُم لَا أَيْمَان لَهُم لَعَلَّهُم ينتهون (12) أَلا تقاتلون قوما نكثوا أَيْمَانهم وهموا بِإِخْرَاج الرَّسُول وهم بدءوكم أول مرّة أتخشونهم فَالله أَحَق أَن تخشوه إِن كُنْتُم مُؤمنين (13) قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ ويخزهم وينصركم عَلَيْهِم ويشف} وروى أَنه رأى سَحَابَة تبرق، فَقَالَ رَسُول الله: " إِن هَذِه السحابة لتستهل بنصر خُزَاعَة "، وَكَانَ هَذَا ابْتِدَاء الْقَصْد لفتح مَكَّة. قَوْله تَعَالَى: {وطعنوا فِي دينكُمْ} هَذَا دَلِيل على أَن الذِّمِّيّ إِذا طعن فِي دين الْإِسْلَام ظَاهرا لَا يبْقى لَهُ عهد، وَيجوز قَتله. قَوْله: {فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر} يَعْنِي: رُءُوس الْكفْر، ورءوس الْكفْر هم: أَبُو سُفْيَان، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَأُميَّة بن صَفْوَان، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل {إِنَّهُم لَا أَيْمَان لَهُم} يَعْنِي: لَا عهود لَهُم. وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ: " إِنَّهُم لَا إِيمَان لَهُم " وَهُوَ اخْتِيَار ابْن عَامر، وَيجوز أَن تكون الْأَيْمَان هَاهُنَا بِمَعْنى الْإِيمَان، تَقول الْعَرَب: أمنته إِيمَانًا، فَذكر الْمصدر وَأَرَادَ بِهِ الِاسْم {لَعَلَّهُم ينتهون} .

13

قَوْله تَعَالَى: {أَلا تقاتلون قوما نكثوا أَيْمَانهم} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. قَوْله {وهموا بِإِخْرَاج الرَّسُول} مَعْلُوم {وهم بدءوكم أول مرّة} أَرَادَ بِهِ أَنهم بدءوا بِالْقِتَالِ فِي حَرْب بدر. قَالَ أَبُو جهل - لَعنه الله -: لَا نرْجِع حَتَّى نستأصل مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {أتخشونهم فَالله أَحَق أَن تخشوه إِن كُنْتُم مُؤمنين} مَعْنَاهُ: ظَاهر.

14

قَوْله تَعَالَى: {قاتلوهم يعذبهم الله بِأَيْدِيكُمْ ويخزهم وينصركم عَلَيْهِم} معنى الْآيَة ظَاهر. وَقَوله: {ويشف صُدُور قوم مُؤمنين} يَعْنِي: خُزَاعَة.

15

{وَيذْهب غيظ قُلُوبهم} أَي: خُزَاعَة {وَيَتُوب الله على من يَشَاء وَالله عليم

{صُدُور قوم مُؤمنين (14) وَيذْهب غيظ قُلُوبهم وَيَتُوب الله على من يَشَاء وَالله عليم حَكِيم (15) أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد الله شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر أُولَئِكَ} حَكِيم) رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ يَوْم فتح مَكَّة: " ارْفَعُوا السَّيْف إِلَّا خُزَاعَة عَن بني بكر إِلَى الْعَصْر ".

16

قَوْله تَعَالَى: {أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم} الْآيَة، قَالَ أهل التَّفْسِير: لما أَمر الله تَعَالَى نبيه بِالْقِتَالِ ظهر المُنَافِقُونَ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم} وَالْمرَاد من الْعلم هَاهُنَا: الْعلم الَّذِي يَقع الْجَزَاء عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعلم بعد الْوُجُود لاعلم الْغَيْب الَّذِي لَا يَقع الْجَزَاء عَلَيْهِ {وَلما يعلم الله} يَعْنِي: وَلم يعلم الله {وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة} قَالَ الْفراء: الوليجة: البطانة، وَهُوَ خَاصَّة الْإِنْسَان الَّذِي يفشي سره إِلَيْهِ، فَصَارَ معنى الْآيَة {وَلما يعلم الله} وَلم يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم، وَلم يعلم الَّذين امْتَنعُوا أَن يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة {وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} ظَاهر.

17

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد الله} معنى الْآيَة: نفي أَهْلِيَّة عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام عَن الْمُشْركين. قَوْله {شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر} و " شَاهِدين " نصب على الْحَال، وَأما شَهَادَتهم على أنفسهم بالْكفْر: هِيَ سجودهم للأصنام، وَقَوْلهمْ فِي التَّلْبِيَة: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لَا شريك لَك، إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك تملكه وَمَا ملكك.

{حبطت أَعْمَالهم وَفِي النَّار هم خَالدُونَ (17) إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا من المهتدين (18) أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه} وَفِيه قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {شَاهِدين على أنفسهم بالْكفْر} هُوَ أَنَّك تَقول لِلْيَهُودِيِّ: مَا أَنْت؟ فَيَقُول: يَهُودِيّ، وَتقول لِلنَّصْرَانِيِّ: مَا أَنْت؟ فَيَقُول: نَصْرَانِيّ، وَكَذَلِكَ الْمَجُوسِيّ والمشرك. قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم وَفِي النَّار هم خَالدُونَ} الحبوط: هُوَ الْبطلَان، وخالدون: دائمون.

18

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله} سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - لما أسر يَوْم بدر عيره أَصْحَاب رَسُول الله بترك الْإِسْلَام وَالْهجْرَة، فَقَالَ: نَحن عمار الْمَسْجِد الْحَرَام وسقاة الحجيج. وَفِي رِوَايَة: أَنه لما أسلم قَالَ للْمُسلمين: لَئِن سبقتمونا بِالْإِسْلَامِ فقد كُنَّا نعمر الْمَسْجِد الْحَرَام، ونسقي الحجيج، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله} مَعْنَاهُ: لم يتْرك الْإِيمَان بِاللَّه من خشيَة أحد {فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا من المهتدين} وَعَسَى من الله وَاجِب. فَإِن قَالَ قَائِل: أتقولون: إِن كل من عمر مَسْجِدا بِكَوْن هَكَذَا على مَا قَالَ الله تَعَالَى؟ قُلْنَا: معنى الْآيَة - وَالله أعلم - أَن من كَانَ بِهَذِهِ الْأَوْصَاف كَانَ أهل عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام، وَلَا يعمر الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَّا من استجمع هَذِه الْأَوْصَاف، وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام بِذكر الله، وَالرَّغْبَة إِلَيْهِ، وَالدُّعَاء، وَالصَّلَاة وَغَيره.

19

قَوْله تَعَالَى: {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي عَليّ وَالْعَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَكَانَ الَّذِي عير الْعَبَّاس بترك الْإِسْلَام

وَالْهجْرَة هُوَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ الْعَبَّاس: نَحن عمار الْمَسْجِد الْحَرَام، وسقاة الحجيج، فَقَالَ الله تَعَالَى {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج} وَمَعْنَاهُ: أجعلتم أهل سقاة الْحَاج وَأهل عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه. وقرىء: " أجعلتم سقاة الْحَاج وَعمرَة الْمَسْجِد الْحَرَام " وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير الْأَهْل {لَا يستوون عِنْد الله} مَعْنَاهُ: لَا يَسْتَوِي من عبد الله وَهُوَ مُؤمن، وَمن عمر الْمَسْجِد وَهُوَ مُشْرك {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} وَقد وَردت أَخْبَار فِي التَّرْغِيب فِي عمَارَة الْمَسَاجِد: روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " من رَأَيْتُمُوهُ يعْتَاد الْمَسَاجِد؛ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه} . وروى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " من غَدا أَو رَاح إِلَى الْمَسْجِد أعد الله لَهُ نزلا كلما غَدا أَو رَاح ". وروى جَابر - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " الْمَسْجِد سوق من أسواق الْجنَّة، من دخله كَانَ ضيف الله، قراه: الْمَغْفِرَة، وتحيته: الْكَرَامَة؛ فَإِذا دَخَلْتُم فارتعوا. قيل: يَا رَسُول الله، وَمَا الرتاع؟ قَالَ: الابتهال إِلَى الله وَالرَّغْبَة ". وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة ".

{وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله لَا يستوون عِنْد الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (19) الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله وَأُولَئِكَ هم الفائزون (20) يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ} وَفِي رِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ " من بنى مَسْجِدا وَلَو كمفحص قطاة؛ بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة ".

20

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {أعظم دَرَجَة عِنْد الله} وَلَيْسَ للْمُشْرِكين دَرَجَة أصلا؟ الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أعظم دَرَجَة من درجتهم على تقديرهم فِي أنفسهم؛ وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {أَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا وَأحسن مقيلا} وَمَعْنَاهُ: على تقديرهم فِي أنفسهم. وَالثَّانِي: أَن هَؤُلَاءِ الصِّنْف من الْمُؤمنِينَ أعظم دَرَجَة عِنْد الله من غَيرهم. ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هم الفائزون} الفائز: الَّذِي ظفر بأمنيته.

21

ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {يبشرهم رَبهم برحمة} الْآيَة. والبشارة: خبر سَار صدق؛ يُسمى بِشَارَة لِأَنَّهُ تَتَغَيَّر بِهِ بشرة الْوَجْه.

{ورضوان وجنات لَهُم فِيهَا نعيم مُقيم (21) خَالِدين فِيهَا أبدا إِن الله عِنْده أجر عَظِيم (22) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخْوَانكُمْ أَوْلِيَاء إِن استحبوا الْكفْر على الْإِيمَان وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (23) قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة} قَوْله {برحمة مِنْهُ ورضوان وجنات لَهُم فِيهَا نعيم مُقيم} النَّعيم هُوَ الْعَيْش اللذيذ، والمقيم: الدَّائِم، وَهُوَ من لَا يظعن أبدا

22

{خَالِدين فِيهَا أبدا إِن الله عِنْده أجر عَظِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر.

23

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخْوَانكُمْ أَوْلِيَاء} الْآيَة: نزلت الْآيَة فِي قو م أَسْلمُوا بِمَكَّة، فَلَمَّا هَاجر الْمُسلمُونَ لم يهاجروا. قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الرجل إِذا أَرَادَ أَن يُهَاجر تعلق بِهِ أَهله وَولده، وَقَالُوا: أتضيعنا وتتركنا، فيقيم شَفَقَة عَلَيْهِم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَوْله تَعَالَى: {إِن استحبوا الْكفْر على الْإِيمَان} مَعْنَاهُ: أَي: اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَان. قَوْله: {وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت لَا يقبل الْإِيمَان إِلَّا من مهَاجر؛ فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} .

24

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم} رُوِيَ أَن الْآيَة الأولى لما نزلت قَالَ أُولَئِكَ الَّذين أَسْلمُوا وَلم يهاجروا: إِن نَحن هاجرنا ضَاعَت أَمْوَالنَا وَخَربَتْ دُورنَا، وقطعنا أرحامنا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَوْله تَعَالَى: {وعشيرتكم} قُرِئت بقراءتين: " عشيرتكم " و " عشيراتكم " وَالأَصَح: " عشيرتكم " فَإِن جمع الْعَشِيرَة هُوَ عشائر، والعشيرات قَالُوا: ضَعِيف فِي اللُّغَة. قَوْله تَعَالَى: {وأموال اقترفتموها} أَي: اكتسيتموها، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَمن

{تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (24) لقد نصركم الله} يقترف حَسَنَة) يَعْنِي: يكْتَسب. قَوْله: {وتجارة تخشون كسادها} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه قَالَ فِي قَوْله: {وتجارة تخشون كسادها} قَالَ: هِيَ الْأَخَوَات وَالْبَنَات إِذا لم يُوجد لَهُنَّ خَاطب. حَكَاهُ النقاش فِي تَفْسِيره. قَوْله: {ومساكن ترضونها} يَعْنِي: تستطيبونها. قَوْله: {أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا} مَعْنَاهُ: فانتظروا. قَوْله {حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد مِنْهُ: فتح مَكَّة، وَهَذَا أَمر تهديد وَلَيْسَ بِأَمْر حتم وَلَا ندب وَلَا إِبَاحَة. قَوْله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} مَعْنَاهُ ظَاهر.

25

قَوْله تَعَالَى: {لقد نصركم الله فِي مَوَاطِن كَثِيرَة وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم} الْآيَة. حنين وَاد بَين مَكَّة والطائف {إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم} رُوِيَ أَن النَّبِي كَانَ فِي اثْنَي عشر ألفا، وَالْمُشْرِكُونَ أَرْبَعَة آلَاف، عَلَيْهِم مَالك بن عَوْف النصري، فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: سَلمَة بن سَلامَة وقش: لن نغلب الْيَوْم عَن قلَّة، فَلم يرض الله تَعَالَى قَوْله، ووكلهم إِلَى أنفسهم، فَحمل الْمُشْركُونَ حَملَة انهزم الْمُسلمُونَ كلهم سوى نفر يسير بقوا مَعَ رَسُول الله فيهم الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب ". وَذكر البُخَارِيّ فِي " الصَّحِيح " بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب: " أَن أَبَا سُفْيَان بن الْحَارِث

{فِي مَوَاطِن كَثِيرَة وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ وليتم مُدبرين (25) ثمَّ أنزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ وَأنزل جُنُودا لم تَرَوْهَا وَعَذَاب الَّذين كفرُوا وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافرين} كَانَ آخِذا بِرَأْس بغلة النَّبِي يَوْم حنين، وَالنَّبِيّ يَقُول: أَنا النَّبِي لَا كذب، أَنا ابْن عبد الله بن عبد الْمطلب "، ثمَّ إِن الْعَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - نَادَى الْمُسلمين بِأَمْر رَسُول الله - وَكَانَ رجلا صيتًا - فَجعل يُنَادي يَا أَصْحَاب سُورَة الْبَقَرَة، يَا أنصار الله وأنصار رَسُول الله، يَا أَصْحَاب الشَّجَرَة، هَذَا رَسُول الله، فَرَجَعُوا وقاتلوا وَوَقعت الْهَزِيمَة على الْكفَّار ... الْقِصَّة إِلَى آخرهَا " فَهَذَا معنى قَوْله: {وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا} يَعْنِي: أَن الظفر لَيْسَ بِالْكَثْرَةِ، بل بنصرة الله تَعَالَى. قَوْله تَعَالَى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ} قَالَ الْفراء: الْبَاء هَاهُنَا بِمَعْنى " فِي " مَعْنَاهُ: فِي رحبها وسعتها. وَقيل الْمَعْنى: برحبها وسعتها. قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ وليتم مُدبرين} أَي: مُتَفَرّقين، أَي: منهزمين.

26

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أنزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ} الْآيَة. السكينَة: الرَّحْمَة. وَقيل: السكينَة: الآمنة، وَهِي فعيلة من السّكُون، وَهَاهُنَا هِيَ بِمَعْنى النَّصْر، قَالَ الشَّاعِر: (لله قبر بالبسيطة غالها ... مَاذَا أجن سكينَة ووقارا) قَوْله تَعَالَى: {وَأنزل جُنُودا لم تَرَوْهَا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَة، وَنزلت لَا لِلْقِتَالِ، وَلَكِن لتجبين الْكفَّار وتشجيع الْمُسلمين، فَإِن الْمَرْوِيّ أَن الْمَلَائِكَة لم تقَاتل إِلَّا فِي يَوْم بدر.

{ثمَّ يَتُوب الله من بعد ذَلِك على من يَشَاء وَالله غَفُور رَحِيم (27) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا وَإِن} قَوْله تَعَالَى: {وعذب الَّذين كفرُوا} يَعْنِي: بِالْقَتْلِ والأسر، {وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافرين} مَعْنَاهُ ظَاهر.

27

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ يَتُوب الله من بعد ذَلِك على من يَشَاء وَالله غَفُور رَحِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر وَهَذَا فِي الَّذين كفوا عَن الْقَتْل.

28

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} معنى قَوْله {نجس} قذر، فَإِذا ضم إِلَى غَيره قيل: رِجْس نجس، وَإِذا أفرد قيل: نجس. رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: نجاستهم كنجاسة الْكَلْب وَالْخِنْزِير. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: إِذا صَافح مُسلم كَافِرًا يجب عَلَيْهِ غسل يَده. وَالصَّحِيح أَن المُرَاد من الْآيَة: أَنه يجب الاجتناب مِنْهُم كَمَا يجب الاجتناب من النَّجَاسَات. وَقيل إِن معنى قَوْله {نجس} : أَنهم يجنبون فَلَا يغتسلون، ويحدثون فَلَا يَتَوَضَّئُونَ. قَوْله تَعَالَى: {فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا} هَذَا خبر بِمَعْنى أَمر، وَمَعْنَاهُ: لَا تخلوهم أَن يدخلُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا. وَمذهب الْمَدَنِيين: أَن الْمَسْجِد الْحَرَام هُوَ جَمِيع الْحرم، وَلَا يتْرك كَافِر يدْخلهُ، وَإِن كَانَ معاهدا أَو عبدا، وَهَذَا قَول عمر بن عبد الْعَزِيز وَجَمَاعَة. وَمذهب الْكُوفِيّين: أَنه يجوز أَن يدْخلهُ الْمعَاهد وَالْعَبْد، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن جَابر. وَقَوله: {وَإِن خِفْتُمْ عيلة} يَعْنِي: فقرا. وَفِي مصحف عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " وَإِن خِفْتُمْ عائلة " يَعْنِي: أمرا شاقا، يُقَال: عالني الْأَمر، أَي: شقّ عَليّ. وَسبب نزُول الْآيَة: أَن أهل مَكَّة إِنَّمَا كَانَت مَعَايشهمْ من التِّجَارَات والأرباح، فَلَمَّا أَمر الله تَعَالَى الْمُسلمين أَن لَا يخلوا الْكفَّار أَن يدخلُوا الْمَسْجِد الْحَرَام، قَالُوا: فَكيف

{خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ إِن الله عليم حَكِيم (28) قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم} أَمر مَعَايِشنَا؟ وخافوا الْفقر وضيق الْعَيْش، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: {وَإِن خِفْتُمْ عيلة فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ} فَروِيَ أَنه أسلم أهل جرش - بِالْجِيم مُعْجمَة - وَصَنْعَاء، وَسَائِر نواحي الْيمن، وجلبوا الْميرَة الْكَثِيرَة إِلَى أهل مَكَّة، ووسع الله عَلَيْهِم {إِن الله عليم حَكِيم} وَمَعْنَاهُ ظَاهر.

29

قَوْله تَعَالَى: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله} فَإِن قَالَ قَائِل: إِن أهل الْكِتَابَيْنِ يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر، فَكيف معنى الْآيَة؟ الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنهم لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر كَإِيمَانِ الْمُؤمنِينَ؛ فَإِنَّهُم قَالُوا: عُزَيْر ابْن الله، وَقَالُوا: الْمَسِيح ابْن الله، وَقَالَت الْيَهُود: لَا أكل وَلَا شرب فِي الْجنَّة. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن كفرهم ككفر من لَا يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فِي عظم الجرم. قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يدينون دين الْحق} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَلَا يطيعون الله كطاعة أهل الْحق. قَوْله: {من الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يطعوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} قَالَ قَتَادَة: " عَن يَد ": عَن قهر وذل. وَقَالَ غَيره: " عي يَد " أَي يُعْطي بِيَدِهِ. وَفِيه قَول ثَالِث: " عَن يَد " أَي: عَن إِقْرَار بإنعام أهل الْإِسْلَام عَلَيْهِم {وهم صاغرون} رُوِيَ عَن سلمَان الْفَارِسِي - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: مَعْنَاهُ: وهم مذمومون. وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: يُؤْخَذ ويوجأ فِي عُنُقه، فَهَذَا معنى الصغار. وَقَالَ غَيره: يُؤْخَذ مِنْهُ وَهُوَ قَائِم، والآخذ جَالس. وَقيل: إِنَّه يلبب ويجر إِلَى مَوضِع الْإِعْطَاء بعنف. وَعند الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - معنى الصغار: هُوَ جَرَيَان أَحْكَام الْإِسْلَام

{صاغرون (29) وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} عَلَيْهِم. وَهَذَا معنى حسن.

30

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت الْيَهُود عُزَيْر ابْن الله} هَذَا فِي قوم بأعيانهم كَانُوا بِالْمَدِينَةِ أفناهم السَّيْف، مِنْهُم: سَلام بن مشْكم، وَمَالك بن " الضَّيْف "، وفنحاص الْيَهُودِيّ، وَأما الْآن فَلَا يَقُول مِنْهُم أحد هَذَا. وَيُقَال: إِن الْقَائِلين لهَذِهِ الْمقَالة قوم من سلفهم ومتقدميهم. وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْيَهُود لما بدلُوا وخالفوا شَرِيعَة التَّوْرَاة نسخ الله تَعَالَى التَّوْرَاة من صُدُورهمْ، فَخرج عُزَيْر يسيح فِي الأَرْض يطْلب الْعلم، فَلَقِيَهُ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَعلمه التَّوْرَاة. وَرُوِيَ أَنه نزل نور فَدخل جَوْفه فَقَرَأَ التَّوْرَاة عَن ظهر قلبه، فَرجع وأملى التَّوْرَاة على الْيَهُود، فَقَالَ جمَاعَة مِنْهُم هَذِه الْمقَالة يَعْنِي: عُزَيْر ابْن الله. {وَقَالَت النَّصَارَى الْمَسِيح ابْن الله} هم على ذَلِك الْآن. قَوْله: {ذَلِك قَوْلهم بأفواههم} فَإِن قَالَ قَائِل: الْإِنْسَان لَا يَقُول قولا إِلَّا بفمه، فَكيف يكون معنى هَذَا الْكَلَام؟ الْجَواب: أَن مَعْنَاهُ: أَنهم قَالُوا هَذَا القَوْل بِلَا حجَّة وَلَا بَيَان وَلَا برهَان، وَإِنَّمَا كَانَ مُجَرّد قَول بِلَا أصل. قَوْله تَعَالَى: {يضاهئون} قرئَ بقراءتين، و {يضاهئون} يَعْنِي: يشابهون، والمضاهاة: المشابهة والمماثلة، تَقول الْعَرَب: امْرَأَة ضهياء إِذا كَانَت لَا تحيض، فَهِيَ تشبه الرِّجَال. قَوْله تَعَالَى: {قَول الَّذين كفرُوا من قبل} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: قَول الَّذين أشركوا من قبل؛ فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يَقُولُونَ: مَنَاة وَاللات والعزى بَنَات الله.

{ذَلِك قَوْلهم بأفواههم يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل قَاتلهم الله أَنى يؤفكون (30) اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن النَّصَارَى قَالُوا فِي الْمَسِيح مَا قَالَت الْيَهُود فِي عُزَيْر، فَهَذَا معنى قَوْله: {يضاهئون قَول الَّذين كفرُوا من قبل} . {قَاتلهم الله} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لعنهم الله، وَقيل: قَتلهمْ الله، كَمَا تَقول الْعَرَب: عافاه الله، أَي: أَعْفَاهُ الله. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن هَذِه كلمة تعجب، قَالَ الشَّاعِر: (فيا قَاتل الله ليلى كَيفَ تعجبنى ... وَأخْبر النَّاس أَنى لَا أباليها) وَلَيْسَ الْمَعْنى تَحْقِيق الْمُقَاتلَة؛ وَلكنه كلمة تعجب. قَوْله تَعَالَى: {أَنى يؤفكون} مَعْنَاهُ: أَنى يصرفون، يُقَال: أَرض مأفوكة إِذا صرف عَنْهَا الْمَطَر، وَقَول مأفوك إِذا كَانَ مصروفا عَن الْحق.

31

قَوْله تَعَالَى {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} يُقَال: الْأَحْبَار من الْيَهُود، والرهبان من النَّصَارَى، وَقد بَينا فِيهَا أقوالا من قبل. فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّهُم لم يعبدوا الْأَحْبَار والرهبان، فأيش معنى قَوْله {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ: أَنهم استحلوا مَا أحلُّوا، وحرموا مَا حرمُوا؛ فَهَذَا معنى عباداتهم لَهُم. وَقد صَحَّ هَذَا الْمَعْنى بِرِوَايَة عدي بن حَاتِم، عَن النَّبِي.

{إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ (33) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن كثيرا من الْأَحْبَار والرهبان ليأكلون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ويصدون عَن سَبِيل الله وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي} قَوْله: {والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر.

32

قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الله بأفواههم} مَعْنَاهُ: يُرِيدُونَ أَن يخمدوا نور الله، وَالْمرَاد من النُّور: الْقُرْآن، وَقيل: هُوَ مُحَمَّد. وَقَوله: {بأفواههم} مَعْنَاهُ: بتكذيبهم. قَوْله: {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

33

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا عِنْد نزُول عِيسَى ابْن مَرْيَم - عَلَيْهِ السَّلَام لَا يبْقى فِي الأَرْض أحد إِلَّا أسلم. وَفِي قَوْله: {لِيظْهرهُ على الدّين كُله} قَول آخر: وَهُوَ أَنه الْإِظْهَار بِالْحجَّةِ؛ فدين الْإِسْلَام ظَاهر على كل الْأَدْيَان بِالدَّلِيلِ وَالْحجّة.

34

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن كثيرا من الْأَحْبَار والرهبان ليأكلون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ويصدون عَن سَبِيل الله} الْآيَة، وَقد بَينا معنى الْأَحْبَار والرهبان من قبل وَقَوله: {ليأكلون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِن المُرَاد مِنْهُ أَخذ الرشاء فِي الْأَحْكَام والمآكل الَّتِي كَانَت لعلمائهم على سفلتهم {ويصدون عَن سَبِيل الله} مَعْنَاهُ: أَنهم يمْنَعُونَ النَّاس عَن الْإِسْلَام، وَقَوله: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} الْكَنْز هُوَ المَال الْمَجْمُوع، قَالَ الشَّاعِر:

{سَبِيل الله فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم (34) (لَا در درى إِن أطعمت نازلهم ... قرف الحتى وَعِنْدِي الْبر مكنوز} والحتى قَالُوا: هُوَ الْمقل. وَاخْتلف أهل الْعلم فِي من نزلت هَذِه الْآيَة، قَالَ بَعضهم: نزلت فِي أهل الْكتاب، وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا نزلت فِي الْكل. وَاخْتلفُوا فِي الْكَنْز، رُوِيَ عَن ابْن عمر، وَجَمَاعَة: أَن الْكَنْز كل مَال لم تُؤَد زَكَاته، وَأما الَّذِي أدّيت زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، وَإِن كَانَ مَدْفُونا. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم نَفَقَة وَمَا فَوْقهَا كنز. وَقَالَ بَعضهم: مَا فضل عَن الْحَاجة فَهُوَ كنز. وَقَوله: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} فَإِن سَأَلَ سَائل وَقَالَ: إِنَّه تقدم ذكر الذَّهَب وَالْفِضَّة جَمِيعًا، فَكيف قَالَ: وَلَا يُنْفِقُونَهَا، وَلم يقل: وَلَا ينفقونهما؟ الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى: وَلَا يُنْفقُونَ الْكُنُوز فِي سَبِيل الله. وَالثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: يكنزون الذَّهَب وَلَا ينفقونه، ويكنزون الْفضة وَلَا يُنْفِقُونَهَا، فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر، قَالَ الشَّاعِر: (نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك رَاض والرأي مُخْتَلف) مَعْنَاهُ: نَحن بِمَا عندنَا راضون، وَأَنت بِمَا عنْدك رَاض. وَفِي مثل هَذَا قَول الشَّاعِر: (إِن شرخ الشَّبَاب وَالشعر الْأسود ... مَا لم يعاض كَانَ جنونا) يَعْنِي: مَا لم يعاضيا. قَوْله: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} مَعْنَاهُ: ضع هَذَا الْوَعيد مَوضِع الْبشَارَة، وَإِلَّا فالوعيد لَا يكون بِشَارَة حَقِيقَة.

{يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهورهم هَذَا مَا كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا مَا كُنْتُم تكنزون (35)

35

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم} أَي: يُوقد عَلَيْهَا حَتَّى تصير نَارا. قَوْله تَعَالَى: {فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهورهم} قَالَ أهل التَّفْسِير: لَا يوضع دِرْهَم مَكَان دِرْهَم، وَلَا دِينَار مَكَان دِينَار؛ وَلَكِن يُوسع جلده حَتَّى يوضع كل دِينَار وَدِرْهَم فِي مَوْضِعه. وَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ (رَضِي عَنهُ) : " أَن رجلا من أهل الصّفة مَاتَ وَترك دِينَارا، فَقَالَ النَّبِي: كيه. وَمَات آخر وَترك دينارين فَقَالَ: كَيَّتَانِ ". وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَجْعَل الذَّهَب وَالْفِضَّة صَفَائِح، فيكوى بهَا فِي كل يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة، ثمَّ يرى سَبيله إِمَّا إِلَى الْجنَّة وَإِمَّا إِلَى النَّار ". وروى ثَوْبَان: " أَن الله تَعَالَى لما أنزل هَذِه الْآيَة شقّ على الْمُسلمين مشقة شَدِيدَة فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، أَي المَال نتَّخذ، وَقد أنزل فِي المَال مَا أنزل؟ فَقَالَ: ليتَّخذ أحدكُم قلبا شاكرا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَة تعينه على دينه ".

{إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا فِي كتاب الله يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ذَلِك الدّين الْقيم فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة} وَفِي الْأَخْبَار - أَيْضا - عَن النَّبِي: " أَن الْكَنْز يتبعهُ حَتَّى يلقمه يَده فيقضمها، ثمَّ يتبع سَائِر جسده ". وَقد رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز - رَحمَه الله - أَنه قَالَ: الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة الزَّكَاة. وَقَالَ سَائِر الْعلمَاء: لَيست بمنسوخة. وَعَن أبي بكر الْوراق - رَحمَه الله - أَنه قَالَ: إِنَّمَا ذكر الْجَبْهَة وَالْجنب وَالظّهْر؛ لِأَن الْغَنِيّ إِذا رأى الْفَقِير قبض جَبهته، وزوى مَا بَين عَيْنَيْهِ، وولاه ظَهره، وَأعْرض عَنهُ كشحه. قَوْله تَعَالَى: {هَذَا مَا كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا مَا كُنْتُم تكنزون} وَعِيد وتهديد.

36

قَوْله تَعَالَى: {إِن عدَّة الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا فِي كتاب الله} قَالَ أهل التَّفْسِير: معنى الْآيَة: هُوَ أَن الشُّهُور الَّتِي تعبد بهَا الْمُسلمُونَ فِي صِيَامهمْ وحجهم وأعيادهم وَسَائِر أُمُورهم، هِيَ الشُّهُور بِالْأَهِلَّةِ، وَقد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يحسبون السّنة بالشهور الشمسية، ويجعلون السّنة ثلثمِائة وَخَمْسَة وَسِتِّينَ يَوْمًا وَربع يَوْم. وَأما فِي الشَّرِيعَة فَالسنة مَا بَينا، وَلِهَذَا يكون الصَّوْم تَارَة فِي الشتَاء وَتارَة فِي الصَّيف. قَوْله: {فِي كتاب الله} أَي: فِي حكم الله، وَقيل: فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. {يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} ظَاهر الْمَعْنى. قَوْله: {مِنْهَا أَرْبَعَة حرم} هِيَ: ذُو الْقعدَة، وَذُو الْحجَّة، وَالْمحرم، وَرَجَب. وَاحِد فَرد وَثَلَاثَة سرد.

{كَمَا يقاتلونكم كَافَّة وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي بكرَة أَنه قَالَ: " أَلا إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، السّنة اثْنَا عشر شهرا مِنْهَا أَرْبَعَة حرم 000 " الْخَبَر. قَوْله: {ذَلِك الدّين الْقيم} أَي: ذَلِك الْحساب الصَّحِيح. قَوْله: {فَلَا تظلموا فِيهِنَّ أَنفسكُم} اخْتلفُوا فِي هَذَا على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن قَوْله: {فَلَا تظلموا فِيهِنَّ} ينْصَرف إِلَى الْأَشْهر الْأَرْبَعَة. وَالثَّانِي أَنه منصرف إِلَى جَمِيع أشهر السّنة، وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس. وَأما الظُّلم فِي هَذَا الْموضع: فَهُوَ ترك الطَّاعَة وَفعل الْمعْصِيَة. وَقَوله: {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة كَمَا يُقَاتِلُوكُمْ كَافَّة} أَي: قَاتلُوا جَمِيع الْمُشْركين كَافَّة كَمَا قَاتلُوا جميعكم. قَوْله: {وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} من الظُّلم بالنصرة وَالظفر.

37

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر} قرىء بِغَيْر الْهَمْز، وَالْمَشْهُور بِالْهَمْزَةِ. قَالَ أهل الْعَرَبيَّة: وَهُوَ الْأَصَح، والنسيء: هُوَ التَّأْخِير، يُقَال نسأ الله فِي أَجلك أَي: أخر. وَسبب نزُول الْآيَة: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يجْعَلُونَ الْمحرم مرّة حَلَالا وَمرَّة حَرَامًا، فَإِذا أحلُّوا الْمحرم أبدلوا الصفر بِالتَّحْرِيمِ، وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن عَامَّة مَعَايشهمْ كَانَت بالغارات والقتال وَالسُّيُوف، فَكَانَ يشق عَلَيْهِم أَن يكفوا عَن الْقِتَال ثَلَاثَة أشهر مُتَوَالِيَة، وَكَانَ الَّذِي يتَوَلَّى التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم رجل من بني كنَانَة يُقَال لَهُ: أَبُو ثُمَامَة، وَرثهُ عَن آبَائِهِ، وَكَانَ يقوم على نَاقَة وَيَقُول: أَيهَا النَّاس، أَنا لَا أعاب وَلَا أحاب وَلَا يرد قَضَاء قَضيته، أما إِنِّي قد أحللت الْمحرم وَحرمت الصفر الْعَام، قَالَ رجل مِنْهُم: أَلسنا الناسئين على معد شهور الْحل يَجْعَلهَا حَرَامًا. فَهَذَا هُوَ معنى النسىء الْمَذْكُور فِي الْآيَة.

{يضل بِهِ الَّذين كفرُوا يحلونه عَاما ويحرمونه عَاما ليواطئوا عدَّة مَا حرم الله فيحلوا مَا حرم الله زين لَهُم سوء أَعْمَالهم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (37) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا مَا لكم إِذا قيل لكم انفروا فِي سَبِيل الله اثاقلتم إِلَى الأَرْض أرضيتم} وَقَوله تَعَالَى: {زِيَادَة فِي الْكفْر} مَعْنَاهُ: زِيَادَة كفر على كفرهم. قَوْله تَعَالَى: {يضل بِهِ الَّذين كفرُوا} أَي: يضل الله بِهِ الَّذين كفرُوا، وقرىء " يضل بِهِ الَّذين كفرُوا " على مَا لم يسم فَاعله، وقرىء " يضل بِهِ الَّذين كفرُوا " وَهُوَ الْأَشْهر، وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى. قَوْله تَعَالَى: {يحلونه عَاما ويحرمونه عَاما} قد ذكرنَا الْمَعْنى. قَوْله: {ليواطئوا} ليوافقوا، والمواطأة: الْمُوَافقَة، وَمَعْنَاهُ: ليوافقوا {عدَّة مَا حرم الله} يَعْنِي: عدد مَا حرم الله {فيحلوا مَا حرم الله} فيقولوا: أَرْبَعَة وَأَرْبَعَة. قَوْله: {زين لَهُم سوء أَعْمَالهم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين} ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن النسىء: تَأْخِير الْحَج كل عَام شهرا. قَالُوا: وَحج أَبُو بكر سنة تسع فِي ذِي الْقعدَة، وَحج رَسُول الله سنة عشر فِي ذِي الْحجَّة، وَهُوَ معنى قَوْله: " أَلا إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته " الْخَبَر الَّذِي ذكرنَا.

38

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا مالكم إِذا قيل لكم انفروا فِي سَبِيل الله اثاقلتم إِلَى الأَرْض} نزلت الْآيَة فِي غَزْوَة تَبُوك، وَكَانَت الْغَزْوَة فِي حارة القيظ حِين أينعت الثِّمَار وَطَابَتْ الظلال فشق على الْمُسلمين مشقة شَدِيدَة وتخلف بَعضهم بالعذر، وتخلف بَعضهم بِلَا عذر، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {اثاقلتم إِلَى الأَرْض} أَي: تثاقلتم؛ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: قعدتم عَن الْغَزْو وكرهتم الْخُرُوج.

{بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا قَلِيل (38) إِلَّا تنفرُوا يعذبكم عذَابا أَلِيمًا ويستبدل قوما غَيْركُمْ وَلَا تضروه شَيْئا وَالله على كل شَيْء قدير (39) إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ} وَقَوله: {إِلَى الأَرْض} أَي: إِلَى الدُّنْيَا، وسمى الدُّنْيَا أَرضًا، لِأَنَّهَا فِي الأَرْض. قَوْله: {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} أَي: بنعيم الدُّنْيَا من نعيم الْآخِرَة. قَوْله {فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا قَلِيل} . روى عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: جَمِيع الدُّنْيَا جُمُعَة من جمع الْآخِرَة. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مثل مَا يَجْعَل أحدكُم إصبعه فِي اليم فَلْينْظر بِمَا يرجع ".

39

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا تنفرُوا يعذبكم عذَابا أَلِيمًا} هَذَا تهديد ووعيد لمن ترك النَّفر فِي سَبِيل الله، والنفر ضد الهدوء والسكون. قَوْله: {ويستبدل قوما غَيْركُمْ وَلَا تضروه شَيْئا} مَعْنَاهُ: إِن ضره رَاجع إِلَيْكُم لَا إِلَيْهِ {وَالله على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.

40

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله} مَعْنَاهُ: إِن لم تنصروه فقد نَصره الله {إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا} قد بَينا قصَّة إخراجهم فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا} الْآيَة. قَوْله: {ثَانِي اثْنَيْنِ} مَعْنَاهُ: أحد اثْنَيْنِ، تَقول الْعَرَب: خَامِس خَمْسَة أَي: أحد الْخَمْسَة، ورابع أَرْبَعَة أَي: أحد الْأَرْبَعَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: عَاتب الله جَمِيع النَّاس بترك نصْرَة الرَّسُول سوى أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَقيل: نصرته عَن خلقي إِلَّا عَن أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - فَإِنَّهُ قد نَصره. قَوْله تَعَالَى: {إِذْ هما فِي الْغَار} الْغَار: ثقب فِي الْجَبَل، وَهَذَا الْجَبَل هُوَ جبل ثَوْر، جبل قريب من مَكَّة.

{هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِ وأيده} قَوْله: {إِذْ يَقُول لصَاحبه} أَي: لأبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - بِاتِّفَاق أهل الْعلم. وَرُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ: " أَبُو بكر صَاحِبي فِي الْغَار، وصاحبي على الْحَوْض ". وَعَن الْحُسَيْن بن الْفضل البَجلِيّ أَنه قَالَ: من قَالَ: إِن أَبَا بكر لَيْسَ بِصَاحِب رَسُول الله فَهُوَ كَافِر، لإنكاره نَص الْقُرْآن، وَفِي سَائِر الصَّحَابَة إِذا أنكر يكون مبتدعا وَلَا يكون كَافِرًا. قَوْله: {لَا تحزن إِن الله مَعنا} رُوِيَ " أَن النَّبِي لما خرج مَعَ أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَمر عليا حَتَّى اضْطجع على فرَاشه، وَذكر لَهُ أَنه لَا يُصِيبهُ سوء، وَخرج مَعَ أبي بكر قبل الْغَار، وَجَاء الْمُشْركُونَ يقصدون النَّبِي فَقَامَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - من مضجعه فَقَالُوا لَهُ: أَيْن صَاحبك؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَخَرجُوا فِي طلبه يقتفون أَثَره حَتَّى وصلوا إِلَى الْغَار، فَلَمَّا أحس أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - بهم خَافَ خوفًا شَدِيدا، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أقتل يهْلك وَاحِد، وَإِن تقتل تهْلك هَذِه الْأمة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: لَا تحزن إِن الله مَعنا ". وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ لَهُ: " يَا أَبَا بكر! مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما ". وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى أنبت ثُمَامَة على فَم الْغَار، وَهِي شَجَرَة صَغِيرَة، وألهم حمامة حَتَّى فرخت، وألهم عنكبوتا حَتَّى نسجت. قَوْله تَعَالَى: {فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: على النَّبِي. وَهُوَ اخْتِيَار الزّجاج. وَالْآخر: أَنه على أبي بكر، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين؛ لِأَن السكينَة هَاهُنَا مَا يسكن بِهِ

{بِجُنُود لم تَرَوْهَا وَجعل كلمة الَّذين كفرُوا السُّفْلى وَكلمَة الله هِيَ الْعليا وَالله عَزِيز حَكِيم (40) انفروا خفافا وثقالا وَجَاهدُوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ فِي سَبِيل الله ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (41) لَو كَانَ عرضا قَرِيبا وسفرا قَاصِدا لاتبعوك} الْقلب؛ وَأَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ هُوَ الْخَائِف والحزين دون رَسُول الله. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن السكينَة نزلت عَلَيْهِمَا؛ وَنقل فِي مصحف حَفْصَة - رَضِي الله عَنْهَا - " فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِمَا وأيدهما بِجُنُود لم تَرَوْهَا " قَوْله: {وأيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا} الْجنُود هَاهُنَا: الْمَلَائِكَة، نزلُوا فَألْقوا الرعب فِي قُلُوب الْكفَّار حَتَّى رجعُوا. قَوْله: {وَجعل كلمة الَّذين كفرُوا السُّفْلى} كلمتهم: الشّرك؛ وَهِي السُّفْلى إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {وَكلمَة الله هِيَ الْعليا} يَعْنِي: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَهِي الْعليا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: {وَالله عَزِيز حَكِيم} قد بَينا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم.

41

قَوْله تَعَالَى: {انفروا خفافا وثقالا} يُقَال: إِن هَذِه الْآيَة أول آيَة أنزلت من سُورَة التَّوْبَة. قَوْله: {خفافا وثقالا} فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: نشاطا وَغير نشاط. قَالَ الْأَزْهَرِي: النشاط جمع النشيط. وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول الْحسن الْبَصْرِيّ: انفروا فِي الْيُسْر والعسر. وَهَذَا قَول حسن. وَعَن الحكم بن عتيبة: مشاغيل وَغير مشاغيل. وَعَن أبي طَلْحَة صَاحب النَّبِي: شُيُوخًا وشبابا. وَفِيه قَول خَامِس: رجالة وركبانا. {وَجَاهدُوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ فِي سَبِيل الله 000} إِلَى آخر الْآيَة، مَعْنَاهُ ظَاهر، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة} الْآيَة، وَالله أعلم.

42

قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ عرضا قَرِيبا وسفرا قَاصِدا لاتبعوك} أَي: لَو كَانَت غنيمَة قريبَة المتناول {وسفرا قَاصِدا} أَي: سفرا قَصِيرا سهلا [قَرِيبا] {لاتبعوك} أَي:

{وَلَكِن بَعدت عَلَيْهِم الشقة وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (42) عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم حَتَّى يتَبَيَّن لَك الَّذين صدقُوا وَتعلم الْكَاذِبين (43) لَا يستئذنك الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم وَالله عليم بالمتقين (44) إِنَّمَا يستئذنك الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وارتابت فهم فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل} لخرجوا مَعَك {وَلَكِن بَعدت عَلَيْهِم الشقة} أَي: بعد عَلَيْهِم السّفر، والشقة فِي اللُّغَة: هِيَ الْغَايَة الَّتِي يقْصد إِلَيْهَا. قَوْله {وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ} هَذَا فِي الْمُنَافِقين. قَوْله تَعَالَى: {يهْلكُونَ أنفسهم} يَعْنِي: بِالْيَمِينِ الكاذبة. قَوْله: {وَالله يعلم إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

43

قَوْله تَعَالَى: {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} رُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون الأودي أَنه قَالَ: فعل رَسُول الله شَيْئَيْنِ بِغَيْر إِذن من الله: فدَاء أُسَارَى بدر، وَأذن للمتخلفين فِي غَزْوَة تَبُوك، فَعَاتَبَهُ الله تَعَالَى فيهمَا جَمِيعًا. وَفِي تَقْدِيم قَوْله تَعَالَى: {عَفا الله عَنْك} معنى لطيف فِي حفظ قلب النَّبِي. قَوْله: {حَتَّى يتَبَيَّن لَك الَّذين صدقُوا وَتعلم الْكَاذِبين} ظَاهر الْمَعْنى.

44

قَوْله تَعَالَى: {لَا يستأذنك الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} مَعْنَاهُ: لَا يستأذنك فِي التَّخَلُّف. قَوْله {أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} الْآيَة، مَعْلُوم، ثمَّ قَالَ

45

: {إِنَّمَا يستأذنك الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وارتابت قُلُوبهم} أَي: شكت قُلُوبهم {فهم فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون. ثمَّ قَالَ:

46

{وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة} يَعْنِي: لَو قصدُوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ

{اقعدوا مَعَ القاعدين (46) لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الْفِتْنَة وَفِيكُمْ سماعون لَهُم وَالله عليم بالظالمين (47) لقد} عدَّة أَي: أهبة السّفر من الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَغَيرهمَا {وَلَكِن كره الله انبعاثهم} مَعْنَاهُ: خُرُوجهمْ {فَثَبَّطَهُمْ} مَعْنَاهُ: فكسلهم وكفهم عَن الْخُرُوج {وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين} قَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان: وَحيا إِلَى قُلُوبهم. وَقَالَ غَيره: قَالَ بَعضهم لبَعض: اقعدوا مَعَ القاعدين.

47

قَوْله تَعَالَى: {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا} هَذِه الْآيَة نزلت فِي شَأْن الْمُنَافِقين الَّذين تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك، وَمعنى قَوْله: {خبالا} أَي: فَسَادًا وشرا، وَمعنى الْفساد: هُوَ إِيقَاع الْجُبْن والفشل بَين الْمُؤمنِينَ. وَقَوله {ولأوضعوا خلالكم} الإيضاع: هُوَ سرعَة السّير. قَالَ الراجز شعر: (يَا لَيْتَني فِيهَا جذع ... أخب فِيهَا وأضع) قَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: أَسْرعُوا فِيمَا يخل بكم. وَقَالَ غَيره: أَسْرعُوا بَيْنكُم بايقاع الْبغضَاء والعداوة بالنميمة، وَنقل الحَدِيث من بعض إِلَى بعض، وعَلى هَذَا قَوْله: {خلالكم} : وسطكم {يبغونكم الْفِتْنَة} يطْلبُونَ لكم الْفِتْنَة، وَفِي الْفِتْنَة مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الشّرك، وَالْآخر: أَنَّهَا تَفْرِيق الْكَلِمَة. {وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن فِيكُم جواسيس لَهُم ينقلون الحَدِيث إِلَيْهِم، وَسُئِلَ ابْن عُيَيْنَة: هَل فِي الْقُرْآن ذكر للجواسيس؟ قَالَ: نعم. وَذكر هَذِه الْآيَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: {وَفِيكُمْ سماعون لَهُم} قَائِلُونَ لَهُم أَي: يقبل مَا يَقُولُونَ، وَمِنْه مَا ورد فِي الصَّلَاة: " سمع الله لمن حَمده " قبل الله لمن حَمده. وَعَن أبي عُبَيْدَة: وَفِيكُمْ سماعون لَهُم: مطيعون لَهُم. وَالْمعْنَى قريب من القَوْل الثَّانِي.

{ابْتَغوا الْفِتْنَة من قبل وقلبوا لَك الْأُمُور حَتَّى جَاءَ الْحق وَظهر أَمر الله وهم كَارِهُون (48) وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين (49) إِن تصبك حَسَنَة تسؤهم وَإِن تصبك مُصِيبَة يَقُولُوا قد أَخذنَا} {وَالله عليم بالظالمين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ فِي أول الْآيَة: {مازادوكم إِلَّا خبالا} وَكَانَ النَّبِي وَأَصْحَابه فِي خبال حَتَّى يزِيدُوا؟ الْجَواب: إِن معنى الْآيَة: مازادوكم قُوَّة؛ بل طلبُوا لكم الخبال.

48

قَوْله تَعَالَى: {لقد ابْتَغوا الْفِتْنَة من قبل} الْآيَة، الابتغاء: الطّلب، والفتنة: إِيقَاع الِاخْتِلَاف الْمُؤَدِّي إِلَى تَفْرِيق الْكَلِمَة. وَقَوله {وقلبوا لَك الْأُمُور} وَمَعْنَاهُ: صرفُوا لَك الْأُمُور وأرادوها ظهرا لبطن وبطنا لظهر، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنهم طلبُوا بِكُل حِيلَة إِفْسَاد أَمرك {حَتَّى جَاءَ الْحق وَظهر أَمر الله وهم كَارِهُون} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني} أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي رجل من الْمُنَافِقين يُقَال لَهُ: الْجد بن قيس قَالَ لَهُ رَسُول الله: " هَل لَك فِي جلاد بني الْأَصْفَر - يَعْنِي الرّوم - لَعَلَّك تصيب مِنْهُم سرارى. قَالَ رَسُول الله حثا لَهُ على الْخُرُوج، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، ائْذَنْ لي - يَعْنِي: فِي التَّخَلُّف - وَلَا تفتني - يَعْنِي: بنساء الرّوم - قَالَ: قومِي علمُوا أَنِّي بِالنسَاء مغرم، يَعْنِي: معجب ". وَهَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْله: {وَلَا تفتني} . وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن مَعْنَاهُ: لَا تؤثمني، قَالَ قَتَادَة، وَمَعْنَاهُ: لَا تسمنى لِلْخُرُوجِ، وَالْخُرُوج عسير عَليّ فأتخلف فأقع فِي الْإِثْم.

{أمرنَا من قبل ويتولوا وهم فَرِحُونَ (50) قل لن يصيبنا إِلَّا مَا كتب الله لنا هُوَ مَوْلَانَا وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (51) قل هَل تربصون بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحسنيين} قَوْله: {أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَلا فِي جَهَنَّم سقطوا، وَالْآخر: أَلا فِي الشّرك سقطوا. {وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين} محدقة بالكافرين.

50

قَوْله تَعَالَى: {إِن تصبك حَسَنَة تسؤهم} الْحَسَنَة هَاهُنَا هِيَ النِّعْمَة الَّتِي تطيب بهَا نفس الْإِنْسَان، وتلذ عيشه. وَفِي غير هَذَا الْموضع الْحَسَنَة بِمَعْنى الطَّاعَة. . {وَإِن تصبك مُصِيبَة} الْمُصِيبَة هَاهُنَا هِيَ البلية فِي الْقِتَال بِإِصَابَة الْكَافرين من الْمُسلمين، يُقَال: إِن الْحَسَنَة الْمَذْكُورَة كَانَت يَوْم بدر، والمصيبة الْمَذْكُورَة كَانَت يَوْم أحد. وَقَوله: {يَقُولُوا قد أَخذنَا أمرنَا من قبل} يَعْنِي: حذرنا من قبل، وَمَعْنَاهُ: احترزنا من الْوُقُوع فِي الْمُصِيبَة {ويتولوا وهم فَرِحُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

51

قَوْله تَعَالَى: {قل لن يصيبنا إِلَّا ماكتب الله لنا} أَمر الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ بِأَن يجيبوهم بِهَذَا. وَقَوله: {إِلَّا مَا كتب الله لنا} أَي: علينا، وَقيل: مَعْنَاهُ: مَا أخبر الله لنا {هُوَ مَوْلَانَا وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} وَهُوَ حافظنا وناصرنا وَعَلِيهِ يعْتَمد الْمُؤْمِنُونَ، وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي الدَّرْدَاء أَن النَّبِي قَالَ: " لَا يبلغ العَبْد حَقِيقَة الْإِيمَان حَتَّى يعلم أَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه، وَأَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه ".

52

قَوْله تَعَالَى: {قل هَل تربصون بِنَا} هَل تنتظرون بِنَا {إِلَّا إِحْدَى الحسنيين}

{وَنحن نتربص بكم أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا فتربصوا إِنَّا مَعكُمْ متربصون (52) قل أَنْفقُوا طَوْعًا أَو كرها لن يتَقَبَّل مِنْكُم إِنَّكُم كُنْتُم قوما فاسقين (53) وَمَا مَنعهم أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم إِلَّا أَنهم كفرُوا بِاللَّه وبرسوله وَلَا يأْتونَ} تثنيه الْحسنى: الحسنيان، أَحدهمَا: الظفر، وَالْأُخْرَى: الشَّهَادَة. وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " ضمن الله لمن خرج فِي سَبيله إِيمَانًا واحتسابا أَن يدْخلهُ الْجنَّة، أَو يرجعه إِلَى منزله الَّذِي خرج مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ من أجر أَو غنيمَة ". وَقَوله: {وَنحن نتربص بكم} أَي: نَنْتَظِر بكم {أَن يُصِيبكُم الله بِعَذَاب من عِنْده أَو بِأَيْدِينَا} الْعَذَاب من عِنْده هُوَ القارعة تنزل من السَّمَاء، وَالْعَذَاب بأيدي الْمُؤمنِينَ هُوَ الْعَذَاب بِالسَّيْفِ {فتربصوا إِنَّا مَعكُمْ متربصون} فانتظروا إِنَّا مَعكُمْ منتظرون.

53

قَوْله تَعَالَى: {قل أَنْفقُوا طَوْعًا أَو كرها} هَذَا أَمر بِمَعْنى الشَّرْط، وَمَعْنَاهُ: إِن أنفقتم طَوْعًا أَو كرها {لن يتَقَبَّل مِنْكُم إِنَّكُم كُنْتُم قوما فاسقين} لأنكم كُنْتُم قوما فاسقين، وَالْفِسْق هَاهُنَا هُوَ الْكفْر.

54

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مَنعهم أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم إِلَّا أَنهم كفرُوا بِاللَّه وبرسوله} مَعْنَاهُ: أَن الْمَانِع من قبُول نفقاتهم كفرهم بِاللَّه وبرسوله. وَقَوله: {وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا وهم كسَالَى} أَي: متثاقلين. فَإِن قيل: كَيفَ ذكر الكسل فِي الصَّلَاة وَلَا صَلَاة أصلا؟ قُلْنَا: الذَّم وَاقع على الْكفْر الَّذِي يبْعَث على الكسل؛ فَإِن الْكفْر مكسل وَالْإِيمَان منشط، وَيُقَال: أصل كل كفر الكسل، وَفِي الْمثل: الكسل أحلى من الْعَسَل {وَلَا يُنْفقُونَ إِلَّا وهم كَارِهُون} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الْكل: أَنهم لَا يصلونَ وَلَا يُنْفقُونَ إِلَّا خوفًا، فَأَما تقربا إِلَى الله فَلَا.

{الصَّلَاة إِلَّا وهم كسَالَى وَلَا يُنْفقُونَ إِلَّا وهم كَارِهُون (54) فَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم إِنَّمَا يُرِيد الله ليعذبهم بهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55) ويحلفون بِاللَّه إِنَّهُم لمنكم وَمَا هم مِنْكُم وَلَكنهُمْ قوم يفرقون}

55

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم} الْإِعْجَاب بالشَّيْء هُوَ السرُور بِهِ. وَقَوله: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليعذبهم بهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} فِيهِ سُؤال، وَهُوَ أَنه يُقَال: كَيفَ يكون التعذيب بِالْمَالِ وَالْولد وهم يتنعمون بالأموال وَالْأَوْلَاد؟ الْجَواب من وُجُوه: أَحدهمَا: أَن فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، إِنَّمَا يُرِيد الله ليعذبهم بهَا فِي الْآخِرَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التعذيب بالمصائب الْوَاقِعَة فِي المَال وَالْولد. الثَّالِث: أَن معنى التعذيب هُوَ التَّعَب فِي الْجمع، وشغل الْقلب بِالْحِفْظِ، وَكَرَاهَة الْإِنْفَاق مَعَ الْإِنْفَاق، وتحليفه عِنْد من لَا يحمده، وقدومه على من لَا يعدله. وَقَوله {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} تخرج أنفسهم وهم كافرون. وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة، وَهُوَ ظَاهر.

56

قَوْله تَعَالَى: {ويحلفون بِاللَّه إِنَّهُم لمنكم} يَعْنِي: من جملتكم {وَمَا هم مِنْكُم} يَعْنِي: لَيْسُوا من جملتكم {وَلَكنهُمْ قوم يفرقون} أَي: يخَافُونَ. وَفِي الحكايات: أَن بعض الْمُلْحِدِينَ رئي يُصَلِّي صَلَاة حَسَنَة، فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: عَادَة أهل الْبَلَد، وصيانة المَال وَالْولد.

57

قَوْله تَعَالَى: {لَو يَجدونَ ملْجأ أَو مغارات أَو مدخلًا} قَالَ قَتَادَة: والملجأ: الْحُصُون، والمغارات: الغيران، والمدخل: الأسراب. وَهَذَا قَول حسن. فَمَعْنَى الْآيَة: لَو يَجدونَ مخلصا مِنْكُم ومهربا لفارقوكم، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {لولوا إِلَيْهِ وهم يجمحون} يَعْنِي: يسرعون، يُقَال: فرس جموح إِذا لم يكن رده عَن وَجهه بِشَيْء.

( {56) لَو يَجدونَ ملجئا أَو مغارات أَو مدخلًا لولوا إِلَيْهِ وهم يجمحون (57) وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون (58) وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون (59) } قَالَ الشَّاعِر: (لقد جمحت جماحا فِي دِمَائِهِمْ ... حَتَّى رَأَيْت ذَوي الْأَشْرَاف قد خمدوا) وَرُوِيَ عَن أنس أَنه قَرَأَ: " وهم يجمرون " وَالْمعْنَى قريب فِي الأول.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات} يَعْنِي: يعيبك فِي إِعْطَاء الصَّدقَات، وَيُقَال: الْهمزَة واللمزة بِمَعْنى وَاحِد، وَيُقَال: اللمزة الَّذِي يعيب النَّاس بقوله، والهمزة: الَّذِي يُشِير بطرفه [هزاء] . سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن ذَا الْخوَيْصِرَة التَّمِيمِي - واسْمه: حرقوش بن زُهَيْر - أَتَى رَسُول الله وَهُوَ يقسم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، اعْدِلْ، فَقَالَ: فَمن يعدل إِن لم أعدل. ثمَّ قَالَ: يخرج من ضئضىء هَذَا أَقوام تحقرون صَلَاتكُمْ عِنْد صلَاتهم، وَصِيَامكُمْ عِنْد صِيَامهمْ، يَمْرُقُونَ من الدّين كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية " الْخَبَر فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون} هَذَا فِي ثَعْلَبَة بن حَاطِب وَأَصْحَابه، كَانُوا يرضون إِن أعْطوا كثيرا، وَإِن أعْطوا الْقَلِيل سخطوا وعابوا.

59

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله} كافينا الله {سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون} يَعْنِي: لَو رَضوا بِمَا فعلت

{إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والعاملين عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبهم وَفِي الرّقاب} وَرَغبُوا فِي الزِّيَادَة كَانَ خيرا لَهُم من سخطهم وعيبهم.

60

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين} الْآيَة، الْفَقِير فِي اللُّغَة: هُوَ الْمُحْتَاج الَّذِي كسرت الْحَاجة فقار ظَهره، والمسكين: الَّذِي ضعفت نَفسه عَن الْحَرَكَة فِي طلب الْقُوَّة فسكنت، وَأما الْكَلَام فَفِي الْفَقِير والمسكين نفى الْآيَة أَقْوَال كَثِيرَة. أَحدهَا: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُجاهد وَالزهْرِيّ أَنهم قَالُوا: الْفَقِير: الَّذِي لَا يسْأَل، وَقَالَ بَعضهم على خلاف ذَلِك. وَالثَّانِي: قَول قَتَادَة، وَهُوَ أَن الْفَقِير الَّذِي بِهِ زمانة وَلَا شَيْء لَهُ، والمسكين: الَّذِي لَا شَيْء لَهُ وَلَيْسَ بِهِ زمانة، وَقَالَ بَعضهم على مَا قَالَه قَتَادَة. وَالثَّالِث: أَن الْفُقَرَاء هم الْمُهَاجِرُونَ، وَالْمَسَاكِين هم الْأَعْرَاب، وَهَذَا قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. وَالرَّابِع: أَن الْفُقَرَاء هم الْمُسلمُونَ المحتاجون، وَالْمَسَاكِين هم أهل الْحَاجة من أهل الذِّمَّة. وَفِيه قَول خَامِس: أَن الْفَقِير والمسكين وَاحِد. وَاخْتلفُوا أَيهمَا أحْوج، فمذهب الشَّافِعِي - رَحمَه الله - أَن الْفَقِير أحْوج من الْمِسْكِين، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {أما السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين} فسماهم مَسَاكِين مَعَ أَن لَهُم سفينة. وَزعم الْأَصْمَعِي وَجَمَاعَة من أهل اللُّغَة أَن الْمِسْكِين أحْوج من الْفَقِير، وأنشدوا: (أما الْفَقِير الَّذِي كَانَت حلوبته ... وفْق الْعِيَال فَلم تتْرك لَهُ [سبد] ) قَالَ يُونُس النَّحْوِيّ: قلت لأعرابي: أفقير أَنْت؟ قَالَ: بل مِسْكين - يَعْنِي: أدون من الْفَقِير.

{والغارمين وَفِي سَبِيل الله وَابْن السَّبِيل فَرِيضَة من الله وَالله عليم حَكِيم (60) } قَوْله تَعَالَى: {والعاملين عَلَيْهَا} يَعْنِي: السَّعَادَة، وَلَهُم سهم من الصَّدقَات مَعْلُوم. وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن لَهُم بِقدر أجر الْمثل. وَقَوله: {والمؤلفة قُلُوبهم} قَالَ أهل الْعلم: الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم صنفان: مُسلمُونَ، ومشركون، وكل صنف على صنفين: أما الْمُسلمُونَ قوم كَانَ إِيمَانهم ضَعِيفا مثل: أبي سُفْيَان بن حَرْب، وعيينة بن حصن الفزارى، والأقرع بن حَابِس، وعباس بن مرداس وأمثالهم، كَانَ رَسُول الله يعطيهم ليتألفوا على الْإِيمَان فيقوي إِيمَانهم، وصنف كَانَ إِيمَانهم قَوِيا مثل: عدي بن حَاتِم، والزبرقان بن بدر وَغَيرهمَا، كَانَ يعطيهم ليتألف عشيرتهم. وَأما الْمُشْركُونَ فصنفان: صنف كَانَ يدفعهم ليدفع أذاهم عَن الْمُسلمين، مثل عَامر ابْن الطُّفَيْل وَغَيره، وصنف كَانَ يعطيهم ليؤمنوا ويميلوا إِلَيْهِ مثل صَفْوَان بن أُميَّة بن خلف، وَمَالك بن عَوْف النصري وَغَيرهمَا. وَاخْتلفُوا أَن سهم الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم هَل بَقِي بعد النَّبِي؟ قَالَ الشّعبِيّ وَجَمَاعَة: قد سقط. وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ بَاقٍ. وَقد حكى عَن الشَّافِعِي كلا الْقَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيح هُوَ الأول. وَقَوله: {وَفِي الرّقاب} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم المكاتبون. وَهَذَا قَول الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة وَغَيرهمَا. وَقَالَ مَالك: يشترى بذلك السهْم رِقَاب فيعتقون. الصَّحِيح هُوَ الأول. قَوْله: {والغارمين} قَالَ مُجَاهِد: هَؤُلَاءِ قوم أحرقت النَّار دُورهمْ، وأذهب السَّيْل أَمْوَالهم فادانوا لنفقاتهم. وَقَالَ غَيره: هُوَ كل من لحقه غرم بِسَبَب لَا مَعْصِيّة فِيهِ.

{وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي وَيَقُولُونَ هُوَ أذن قل أذن خير لكم يُؤمن بِاللَّه ويؤمن للْمُؤْمِنين وَرَحْمَة للَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين يُؤْذونَ رَسُول الله لَهُم عَذَاب أَلِيم (61) يحلفُونَ بِاللَّه لكم ليرضوكم وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه إِن كَانُوا مُؤمنين} وَقَوله: {وَفِي سَبِيل الله} هَؤُلَاءِ الْغُزَاة وَالْحجاج، وَقَوله: {فِي سَبِيل الله} : فِي طَاعَة الله {وَابْن السَّبِيل} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الَّذِي قطع عَلَيْهِ الطَّرِيق فَبَقيَ فَقِيرا لَا مَال لَهُ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاء أَنه الَّذِي بعد عَن مَاله؛ فَيصْرف إِلَيْهِ سهم من الصَّدقَات وَإِن صَار غَنِيا فِي بَلَده. وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي قولا ثَالِثا: أَن ابْن السَّبِيل هُوَ الضَّيْف. قَوْله تَعَالَى: {فَرِيضَة من الله} أَي: افْترض الله ذَلِك فَرِيضَة {وَالله عليم حَكِيم} عليم بِمَا يصلح خلقه، حَكِيم فِيمَا دبره.

61

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي وَيَقُولُونَ هُوَ أذن} الْأذن هَاهُنَا: هُوَ من يسمع كل مَا قيل لَهُ. قَالَ الشَّاعِر: (أَيهَا الْقلب تعلل بددن ... إِن همي فِي سَماع وَأذن) وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الْمُنَافِقين قَالُوا: قُولُوا مَا تُرِيدُونَ ثمَّ أَنْكَرُوا واحلفوا؛ فَإِن مُحَمَّدًا أذن يسمع كل مَا قيل لَهُ ويقبله. {قل أذن خير لكم} يَعْنِي: هَذِه الْخلَّة خير لكم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مستمع خير خير لكم، ومستمع شَرّ شَرّ لكم {يُؤمن بِاللَّه} يصدق بِاللَّه {ويؤمن للْمُؤْمِنين} وَيصدق الْمُؤمنِينَ {وَرَحْمَة للَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين يُؤْذونَ رَسُول الله لَهُم عَذَاب أَلِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَقُرِئَ: " أذن خير لكم " أَي: أصلح لكم.

62

قَوْله تَعَالَى: {يحلفُونَ بِاللَّه لكم ليرضوكم وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه إِن كَانُوا مُؤمنين} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَقَوله: {إِن كَانُوا مُؤمنين} قيل: يَعْنِي: مَا كَانُوا مُؤمنين.

( {62) ألم يعلمُوا أَنه من يحادد الله وَرَسُوله فَأن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا ذَلِك الخزي الْعَظِيم (63) يحذر المُنَافِقُونَ أَن تنزل عَلَيْهِم سُورَة تنبئهم بِمَا فِي قُلُوبهم قل استهزءوا إِن الله مخرج مَا تحذرون (64) وَلَئِن سَأَلتهمْ ليَقُولن إِنَّمَا كُنَّا}

63

قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلمُوا أَنه من يحادد الله وَرَسُوله} يحادد الله: يَعْنِي: من يكون فِي حد وجانب من الله وَرَسُوله {فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا ذَلِك الخزي الْعَظِيم} الفضيحة الْعَظِيمَة والنكال الْعَظِيم.

64

قَوْله تَعَالَى: {يحذر المُنَافِقُونَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه خبر بِمَعْنى الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: ليحذر المُنَافِقُونَ. وَالْآخر: أَنه بِمَعْنى الْإِخْبَار عَنْهُم؛ إِذْ كَانُوا يستهزئون وَيَخَافُونَ الفضيحة بنزول الْقُرْآن فِي شَأْنهمْ. قَوْله تَعَالَى: {أَن تنزل عَلَيْهِم سُورَة تنبئهم بِمَا فِي قُلُوبهم} وَقد بَينا أَن هَذِه السُّورَة تسمى المبعثرة والفاضحة؛ فَهَذِهِ الْآيَة تُشِير إِلَى مَا قدمنَا. وَقد رُوِيَ عَن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: أنزل الله تَعَالَى ذكر سبعين رجلا من الْمُنَافِقين بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاء آبَائِهِم وعشائرهم، ثمَّ نسخ ذكر الْأَسْمَاء رَحْمَة ورأفة على الْمُؤمنِينَ؛ لِأَن أَوْلَادهم كَانُوا مُؤمنين، فنسخ ذَلِك لِئَلَّا يعير بَعضهم بَعْضًا. قَوْله تَعَالَى: {قل استهزئوا إِن الله مخرج مَا تحذرون} مَعْنَاهُ ظَاهر.

65

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ ليَقُولن إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب} . سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن النَّبِي كَانَ يسير فِي غَزْوَة تَبُوك وقدامه ثَلَاثَة من الْمُنَافِقين، اثْنَان يستهزئان، وَالثَّالِث يضْحك " وَقيل: إِن استهزاءهم: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا يزْعم أَنه يغلب الرّوم وَيفتح مدائنهم، مَا أبعده عَن ذَلِك. وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا يزْعم أَنه نزل الْقُرْآن فِي شَأْن أَصْحَابنَا المقيمين

{نَخُوض وَنَلْعَب قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزءون (65) لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم نعذب طَائِفَة بِأَنَّهُم كَانُوا مجرمين (66) المُنَافِقُونَ والمنافقات بَعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وَينْهَوْنَ عَن} بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْله وَكَلَامه. فَهَذَا معنى الْآيَة؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَن النَّبِي أرسل إِلَيْهِم: مَاذَا كُنْتُم تَقولُونَ؟ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا نَخُوض فِيمَا يَخُوض فِيهِ الركب، فَقَالَ الله تَعَالَى: {قل أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزئون} . وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " رَأَيْت عبد الله بن أبي ابْن سلول يشْتَد قُدَّام النَّبِي وَالْحِجَارَة تنكبه وَهُوَ يَقُول: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض وَنَلْعَب؛ وَرَسُول الله يَقُول: {أبالله وآياته وَرَسُوله كُنْتُم تستهزئون} ".

66

قَوْله تَعَالَى: {لَا تعتذروا قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} فَإِن قَالَ قَائِل: قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ وهم لم يَكُونُوا مُؤمنين. الْجَواب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ: أظهرتم الْكفْر بعد إظهاركم الْإِيمَان. وَقَوله تَعَالَى: {إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم} قرئَ: " نعف " ومعناهما وَاحِد، والطائفة هَاهُنَا رجل وَاحِد كَانَ يُسمى مخشى بن حمير، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يضْحك وَلَا يَخُوض مَعَهم، وروى أَنه جانبهم فَقَالَ: {إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْكُم} يَعْنِي: هَذَا الْوَاحِد {نعذب طَائِفَة بِأَنَّهُم كَانُوا مجرمين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

67

قَوْله تَعَالَى: {المُنَافِقُونَ والمنافقات بَعضهم من بعض} الْآيَة، قَوْله: {بَعضهم من بعض} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن بَعضهم على دين الْبَعْض.

{الْمَعْرُوف ويقبضون أَيْديهم نسوا الله فنسيهم إِن الْمُنَافِقين هم الْفَاسِقُونَ (67) } وَالْآخر: أَن أَمرهم وَاحِد، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول لغيره: أَنا مِنْك، يَعْنِي: أَمْرِي وأمرك وَاحِد. {يأمرون بالمنكر} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْمُنكر: هُوَ الشّرك، وَالْمَعْرُوف: هُوَ الْإِيمَان بِاللَّه. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي أَنه قَالَ: كل مَا ذكر من الْمُنكر فِي الْقُرْآن فَهُوَ عبَادَة الْأَوْثَان والشرك بِاللَّه. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمُنكر: هُوَ مَعْصِيّة الله تَعَالَى، وَالْمَعْرُوف: هُوَ طَاعَة الله. وَقَوله تَعَالَى: {وَينْهَوْنَ عَن الْمَعْرُوف} القَوْل الْمَعْرُوف أَن معنى قَوْله: {ويقبضون أَيْديهم} يمسكون عَن الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله. وَالْقَوْل الثَّانِي: يقبضون أَيْديهم أَي: عَن الْجِهَاد فِي سَبِيل الله. وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين: يَعْنِي: لَا يبسطونها للدُّعَاء وَالرَّغْبَة إِلَى الله. قَوْله تَعَالَى: {نسوا الله فنسيهم} أَي: تركُوا أَمر الله فتركهم من رَحمته. وَرُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: نسوا من الْخَيْر وَلم ينسوا من الشَّرّ. قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُنَافِقين هم الْفَاسِقُونَ} يَعْنِي: هم الخارجون عَن طَاعَة الله. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عَلامَة الْمُنَافِق ثَلَاثَة: إِذا قَالَ كذب، وَإِذا ائْتمن خَان، وَإِذا وعد (خلف) ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: " إِذا عَاهَدَ غدر ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " لايأتون الصَّلَاة إِلَّا دبرا وَلَا يقرءُون الْقُرْآن إِلَّا هجرا ". وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس: أَن عدد الْمُنَافِقين من الرِّجَال فِي زمَان رَسُول الله كَانَ ثلثمِائة، وَعدد النِّسَاء مائَة وَسَبْعُونَ.

{وعد الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْكفَّار نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا هِيَ حسبهم ولعنهم الله وَلَهُم عَذَاب مُقيم (68) كَالَّذِين من قبلكُمْ كَانُوا أَشد مُنكر قُوَّة وَأكْثر أَمْوَالًا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كَمَا استمتع الَّذين من قبلكُمْ بخلاقهم وخضتم كَالَّذي خَاضُوا أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ هم الخاسرون (69) ألم يَأْتهمْ نبأ الَّذين من قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود}

68

قَوْله تَعَالَى: {وعد الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْكفَّار نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا} مَعْلُوم. وَقَوله: {هِيَ حسبهم} أَي: كافيتهم {ولعنهم الله} أَي: أبعدهم الله من رَحمته {وَلَهُم عَذَاب مُقيم} أَي: دَائِم.

69

قَوْله تَعَالَى: {كَالَّذِين من قبلكُمْ} مَعْنَاهُ: أَنْتُم يَا معشر الْمُنَافِقين كَالَّذِين من قبلكُمْ. قَوْله: {كَانُوا أَشد مِنْكُم قُوَّة وَأكْثر أَمْوَالًا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم} الخلاق: النَّصِيب، وَقيل: الْحَظ الوافر. وَمعنى الْآيَة: اسْتَمْتعُوا باتبَاعهمْ الشَّهَوَات {كَمَا استمتعتم بخلاقكم} باتباعكم الشَّهَوَات، وَقيل: معنى الْآيَة: رَضوا بنصيبهم من الدُّنْيَا عَن نصِيبهم من الْآخِرَة. وَقَوله تَعَالَى: {وخضتم كَالَّذي خَاضُوا} يَعْنِي: لعبوا واستهزءوا كَمَا فَعلْتُمْ. قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ حبطت أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ هم الخاسرون} مَعْنَاهُ: كَمَا حبطت أَعْمَالهم وخسروا كَذَلِك حبطت أَعمالكُم وخسرتم. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لتتبعن سنَن من قبلكُمْ حَتَّى لَو دخل أحدهم فِي جُحر ضَب ليدخلنه أحدكُم ". وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: مَا أشبه اللَّيْلَة بالبارحة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

70

قَوْله تَعَالَى: {ألم يَأْتهمْ نبأ الَّذين من قبلهم} أَي: خبر الَّذين من قبلهم {قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم إِبْرَاهِيم وَأَصْحَاب مَدين} ومدين اسْم قَرْيَة شُعَيْب. قَوْله: {والمؤتفكات} هِيَ: قريات لوط؛ سميت مؤتفكة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَلبهَا بهم. قَوْله:

{وَقوم إِبْرَاهِيم وَأَصْحَاب مَدين والمؤتفكات أَتَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (70) والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويقيمون الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة ويطيعون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ سيرحمهم الله إِن الله عَزِيز حَكِيم (71) وعد الله الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا ومساكن طيبَة فِي} {أَتَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج {فَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} مَعْنَاهُ: مَا نقص الله حظهم؛ وَلَكِن نَقَصُوا هم حظهم، وضروا بِأَنْفسِهِم.

71

قَوْله تَعَالَى: {والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} هَذِه الْولَايَة هِيَ ولَايَة الدّين واتفاق الْكَلِمَة. وَيُقَال فِي تَفْسِير الْآيَة: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار بَعضهم أَوْلِيَاء بعض، والطلقاء من قُرَيْش والعتقاء من ثَقِيف بَعضهم أَوْلِيَاء بعض. قَوْله تَعَالَى: {يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويقيمون الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} إِلَى آخر الْآيَة مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {ويطيعون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ سيرحمهم الله} قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: هُوَ اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة. وَقَوله: {إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما} أَي: عَزِيز فِي نَصره، حَكِيم فِي تَدْبيره.

72

قَوْله تَعَالَى: {وعد الله الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا} الجنات: الْبَسَاتِين {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} هَذِه الْأَنْهَار هِيَ الْأَنْهَار الَّتِي ذكر الله تَعَالَى فِي سُورَة مُحَمَّد. قَوْله: {ومساكن طيبَة} رُوِيَ عَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه قَالَ: {ومساكن طيبَة} هِيَ قصر من لُؤْلُؤ فِيهَا سَبْعُونَ دَارا من الزبرجد، فِي كل دَار سَبْعُونَ بَيْتا من الْيَاقُوت، فِي كل بَيت سَبْعُونَ سريرا، على كل سَرِير سَبْعُونَ فراشا من كل لون، على كل فرَاش زَوْجَة من الْحور الْعين. وَفِي الْآثَار - أَيْضا - أَن قَوْله: {فِي جنَّات عدن} قَالَ: إِن جنَّة عدن هِيَ مأوى الْأَنْبِيَاء وَالصديقين وَالشُّهَدَاء، وَسَائِر الْجنان حواليها. وَقيل: إِن جنَّة عدن فِي السَّمَاء السَّابِعَة لَا يدخلهَا إِلَّا نَبِي أَو صديق أَو إِمَام عدل أَو رجل مُحكم فِي نَفسه. وَمعنى قَوْله " مُحكم فِي نَفسه " يَعْنِي: خير بَين الْكفْر وَالْقَتْل فَاخْتَارَ

{جنَّات عدن ورضوان من الله أكبر ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (72) يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَأَغْلظ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (73) يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كلمة الْكفْر} الْقَتْل. وَأما جنَّة المأوى فَهِيَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا. وَقَوله: {عدن} أَي: مَوضِع الْإِقَامَة، يُقَال: عدن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ، قَالَ الشَّاعِر: (فَإِن تستضيفوا إِلَى حلمه ... تضيفوا إِلَى رَاجِح قد عدن) وَقَوله تَعَالَى: {ورضوان من الله أكبر} مَعْنَاهُ: رضَا الله أكبر من هَذِه التحف. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله تَعَالَى يَقُول: يَا أهل الْجنَّة. فَيَقُولُونَ: لبيْك رَبنَا وَسَعْديك، وَالْخَيْر فِي يَديك، فَيَقُول: هَل رَضِيتُمْ عني؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لنا لَا نرضى وَقد أَعطيتنَا أفضل مَا تُعْطِي أحدا من خلقك؟ ! فَيَقُول: وَأَنا أُعْطِيكُم أفضل من ذَلِك، فَيَقُولُونَ: وَمَا أفضل من ذَلِك؟ فَيَقُول: أحل - أَي: أنزل - عَلَيْكُم رِضْوَانِي فَلَا أَسخط عَلَيْكُم أبدا ". خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم فِي كِتَابَيْهِمَا. قَوْله {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر.

73

{يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} قَالَ أهل التَّفْسِير: مَعْنَاهُ: جَاهد الْكفَّار بِالسَّيْفِ، وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا تلق الْمُنَافِق إِلَّا بِوَجْه مكفهر. وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: يُجَاهد بِيَدِهِ، فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه، فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه. وَقَوله تَعَالَى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} الغلظة هَا هُنَا: هُوَ الِانْتِهَار الشَّديد. قَوْله: {ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} مَعْنَاهُ ظَاهر.

74

قَوْله تَعَالَى: {يحلفُونَ بِاللَّه مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كلمة الْكفْر} الْآيَة نزلت فِي الْمُنَافِقين أَيْضا. وَاخْتلف القَوْل فِي كلمة الْكفْر. قَالَ بَعضهم: كلمة الْكفْر: هِيَ سبّ مُحَمَّد. وَقَالَ بَعضهم: كلمة الْكفْر: هِيَ قَول الْجلاس بن سُوَيْد؛ فَإِنَّهُ قَالَ: لَئِن كَانَ مَا يَقُول مُحَمَّد حق فَنحْن شَرّ من الْحمير.

{وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ وهموا بِمَا لم ينالوا وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله فَإِن يتوبوا يَك خيرا لَهُم وَإِن يتولوا يعذبهم الله عذَابا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} وَفِيه قَول ثَالِث: أَن كلمة الْكفْر هِيَ قَوْلهم: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل، وعنوا بالأعز: عبد الله بن أبي بن سلول، وَقَالُوا: نتوجه بالتاج خلافًا على مُحَمَّد. وَقَوله تَعَالَى: {وَكَفرُوا بعد إسْلَامهمْ} مَعْنَاهُ: وأظهروا الْكفْر بعد إظهارهم الْإِسْلَام. وَقَوله تَعَالَى: {وهموا بِمَا لم ينالوا} يَعْنِي: قصدُوا مَا لم يدركوه؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَن اثْنَي عشر نَفرا من الْمُنَافِقين اجْتَمعُوا فِي غَزْوَة تَبُوك ليغتالوا النَّبِي. وَرُوِيَ أَنهم قصدُوا أَن يوقعوه من الْعقبَة فِي الْوَادي، فَدفع الله شرهم عَن النَّبِي؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {وهموا بِمَا لم ينالوا} . وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله} نقموا أَي: كَرهُوا، قَالَ الشَّاعِر فِي مدح بني أُميَّة شعرًا: (مَا نقموا من بني أُميَّة ... إِلَّا أَنهم (يحلمون) إِن غضبوا) (وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك ... وَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب) وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله} يَعْنِي: بالغنائم. وَرُوِيَ: " أَن الْجلاس بن سُوَيْد كَانَ تحمل بحمالة فأداها عَنهُ رَسُول الله ". وَرُوِيَ أَن عبد الله بن أبي بن سلول كَانَت لَهُ دِيَة على قوم فَأمر النَّبِي أَن يوفر عَلَيْهِ. فَهَذَا كُله معنى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا أَن أغناهم الله وَرَسُوله من فَضله} . قَوْله تَعَالَى: {فَإِن يتوبوا يَك خيرا لَهُم} رُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ الْجلاس بن سُوَيْد: إِنِّي أرى الله يعرض عَليّ التَّوْبَة، وَإِنِّي قد تبت إِلَى الله مِمَّا كنت فِيهِ؛ فَروِيَ

{وَالْآخِرَة وَمَا لَهُم فِي الأَرْض من ولي وَلَا نصير (74) وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن ولنكونن من الصَّالِحين (75) فَلَمَّا آتَاهُم من فَضله بخلوا} أَنه صَحَّ إيمَانه وَاسْتشْهدَ يَوْم الْيَمَامَة. قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يتولوا يعذبهم الله عذَابا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَا لَهُم فِي الأَرْض من ولي وَلَا نصير} إِلَى آخر الْآيَة، مَعْنَاهُ ظَاهر. وَيُقَال فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نقموا إِلَّا أَن أغناهم الله} يَعْنِي: لَيست لَهُم كَرَاهَة وَلَا نقمة، وَهَذَا مثل قَول الشَّاعِر: (وَلَا عيب فِينَا غير أَن سُيُوفنَا ... بِهن فلول من قراع الْكَتَائِب) يَعْنِي: لَا عيب فِينَا أصلا.

75

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن ولنكونن من الصَّالِحين} أَي: لنتصدقن، وأدغمت التَّاء فِي الصَّاد وشددت، أَي: لنصدقن فِي وُجُوه الْخَيْر من الْجِهَاد وَغَيره، ولنكونن من الصَّالِحين. قيل: مثل عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَغَيرهمَا فِي الْبَذْل وَالعطَاء. فِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار كَانَ لَهُ مَال غَائِب، فَقَالَ: إِن رد الله على مَالِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، فَرد الله عَلَيْهِ مَاله فَلم يفعل شَيْئا، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْآيَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا نزلت فِي ثَعْلَبَة بن حَاطِب. روى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ: " أَن ثَعْلَبَة ابْن حَاطِب جَاءَ إِلَى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، ادْع الله أَن يَرْزُقنِي مَالا، فَقَالَ: قَلِيل يَكْفِيك خير من كثير لَا تقوم بِحقِّهِ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، ادْع الله أَن يَرْزُقنِي مَالا، فَقَالَ: أما ترْضى أَن تكون مثل رَسُول الله، فوَاللَّه لَو أردْت أَن تسير معي الْجبَال ذَهَبا وَفِضة لَسَارَتْ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، ادْع الله أَن يَرْزُقنِي مَالا، فوَاللَّه لاؤدين إِلَى كل ذِي حق حَقه، فَدَعَا رَسُول الله وَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَة مَالا، قَالَ: فَاتخذ غنما فَنمت كَمَا يَنْمُو الدُّود حَتَّى ضَاقَتْ بهَا أَزِقَّة الْمَدِينَة، فَخرج بهَا إِلَى الصَّحرَاء

{بِهِ وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم إِلَى يَوْم يلقونه بِمَا أخْلفُوا الله مَا وعدوه وَبِمَا كَانُوا يكذبُون (77) ألم يعلمُوا أَن الله يعلم سرهم} وَجعل يحضر الصَّلَوَات الْخمس، ثمَّ نمت حَتَّى ضَاقَتْ بهَا مرَاعِي الْمَدِينَة، فَقَالَ فَبعد بهَا وَجعل لَا يحضر إِلَّا الْجُمُعَة، ثمَّ ترك حُضُور الصَّلَوَات وَالْجُمُعَة جَمِيعًا. قَالَ: فَبعث رَسُول الله مصدقه ليَأْخُذ الزَّكَاة، فَمر عَلَيْهِ وطالبه بِالزَّكَاةِ، فَقَالَ: مَا أرى هَذَا إِلَّا أُخْت الْجِزْيَة، اذْهَبْ حَتَّى تعود إِلَيّ، فَلَمَّا عَاد إِلَيْهِ لم يُعْط شَيْئا، وَقَالَ: حَتَّى ألْقى رَسُول الله، فَرجع الْمُصدق وَأخْبر النَّبِي بأَمْره، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فَروِيَ أَنه ذكر لَهُ أَنه نزلت فِيهِ هَذِه الْآيَة فَحَضَرَ الْمَدِينَة وَقَالَ: يَا رَسُول الله، خُذ مني الزَّكَاة، فَأبى أَن يَأْخُذ، فَلَمَّا توفّي رَسُول الله جَاءَ إِلَى أبي بكر وَطلب أَن يَأْخُذ مِنْهُ الزَّكَاة، فَقَالَ: مَا أَخذ رَسُول الله؛ فَلَا آخذ أَنا، وَهَكَذَا فِي زمَان عمر وزمان عُثْمَان، وَتُوفِّي فِي زمَان عُثْمَان ".

77

وَقَوله تَعَالَى: {فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: فعاقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم، يُقَال: أعقبه وعاقبه بِمَعْنى وَاحِد. وَالْمعْنَى الثَّانِي: أخلفهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم. {إِلَى يَوْم يلقونه} يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله تَعَالَى: {بِمَا أخْلفُوا الله مَا وعدوه وَبِمَا كَانُوا يكذبُون} .

78

ثمَّ قَالَ: {ألم يعلمُوا أَن الله يعلم سرهم ونجواهم} يَعْنِي: مَا أضمروا فِي قُلُوبهم

{ونجواهم وَأَن الله علام الغيوب (78) الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين من الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدقَات وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ فيسخرون مِنْهُم سخر الله مِنْهُم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (79) اسْتغْفر لَهُم أَولا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ} وَمَا تناجوا بِهِ بَينهم {وَأَن الله علام الغيوب} مَعْنَاهُ ظَاهر.

79

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين من الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدقَات} يَلْمِزُونَ: يعيبون. وَسبب نزُول الْآيَة: " أَن النَّبِي حث النَّاس على الصَّدَقَة، فجَاء عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بأَرْبعَة آلَاف دِينَار - وَكَانَ ذَلِك نصف مَاله - وَجَاء عَاصِم بن عدي بثلثمائة وسق من تمر - والوسق حمل بعير - وَجَاء أَبُو عقيل - رجل من الْأَنْصَار - بِصَاع من تمر، وَقَالَ: كَانَ لي صَاعَانِ من تمر فَجئْت بِأَحَدِهِمَا، فَقَالَ المُنَافِقُونَ: أما عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف وَعَاصِم بن عدي: فأعطيا مَا أعطيا رِيَاء، وَأما أَبُو عقيل: فَمَا كَانَ أغْنى الله من صَاع أبي عقيل، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة ". {والمطوعين} المتطوعين من الْمُؤمنِينَ، هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَعَاصِم بن عدي {وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} هُوَ أَبُو عقيل. والجهد: الطَّاقَة {فيسخرون مِنْهُم} يستهزئون مِنْهُم {سخر الله مِنْهُم} جازاهم جَزَاء السخرية {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} .

80

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} الْآيَة. أَرَادَ بِهِ إِثْبَات الْيَأْس عَن طمع الْمَغْفِرَة لَهُم. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه روى عَن النَّبِي مُرْسلا أَنه قَالَ: " وَالله لأزيدن على السّبْعين " فَأنْزل الله عز وَجل: {سَوَاء عَلَيْهِم استغفرت لَهُم أم لم تستغفر لَهُم لن يغْفر الله لَهُم} وَذكر عدد السّبْعين للْمُبَالَغَة فِي إِثْبَات الْيَأْس {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

{يغْفر الله لَهُم ذَلِك بِأَنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (80) فَرح الْمُخَلفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُول الله وكرهوا أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله وَقَالُوا لَا تنفرُوا فِي الْحر قل نَار جَهَنَّم أَشد حرا لَو كَانُوا يفقهُونَ (81) فليضحكوا قَلِيلا وليبكوا كثيرا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِن}

81

قَوْله تَعَالَى: {فَرح الْمُخَلفُونَ} الْفَرح: لَذَّة فِي الْقلب بنيل المشتهى، وَالْغَم: ضيق فِي الْقلب بِفَوَات المشتهى. وَأما الْمُخَلفُونَ فهم الَّذين قعدوا عَن الْغَزْو، وَتركُوا الْخُرُوج مَعَ رَسُول الله. والمخلف: الْمَتْرُوك. وَقَوله: {بِمَقْعَدِهِمْ} يَعْنِي: بقعودهم. وَقَوله: {خلاف رَسُول الله} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: مُخَالفَة لرَسُول الله. وَالثَّانِي: بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُول الله أَي: بعد رَسُول الله، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة {وكرهوا أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} المجاهدة بِالْمَالِ: هِيَ الْإِنْفَاق، والمجاهدة بِالنَّفسِ: هِيَ مُبَاشرَة الْقِتَال، وَقَوله: {وكرهوا} يَعْنِي: لم يُحِبُّوا {وَقَالُوا لَا تنفرُوا فِي الْحر} الْحر: هُوَ وهج الشَّمْس، وَالْبرد ضِدّه. {قل نَار جَهَنَّم أَشد حرا} يَعْنِي: أَشد وهجا {لَو كَانُوا يفقهُونَ} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " لَو كَانُوا يعلمُونَ ". وَالْمعْنَى وَاحِد.

82

قَوْله تَعَالَى: {فليضحكوا قَلِيلا وليبكوا كثيرا} الضحك: حَالَة تكون فِي الْإِنْسَان من التَّعَجُّب والفرح، والبكاء حَالَة تعتري الْإِنْسَان من الْهم وضيق الْقلب مَعَ جَرَيَان الدمع على الخد، وَيُقَال: إِن الضحك فِي بني آدم كالصهيل فِي الْخَيل. وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {فليضحكوا قَلِيلا} أَي: فِي الدُّنْيَا {وليبكوا كثيرا} فِي الْآخِرَة {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} قَالَه أَبُو رزين، وَالْحسن وَجَمَاعَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَضْحَكُونَ قَلِيلا، ويبكون كثيرا، يَعْنِي: فِي الْآخِرَة. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: يَضْحَكُونَ قَلِيلا وهم لَا يَضْحَكُونَ أصلا فِي الْآخِرَة؟ الْجَواب: قُلْنَا: معنى قَوْله: يَضْحَكُونَ قَلِيلا يَعْنِي: لَا يَضْحَكُونَ أصلا، وَهَذَا مثل

{رجعك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم فاستئذنوك لِلْخُرُوجِ فَقل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا إِنَّكُم رَضِيتُمْ بالقعود أول مرّة فاقعدوا مَعَ الخالفين (83) وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا وَلَا تقم على قَبره إِنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وماتوا} قَوْله تَعَالَى: {فقليلا مَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يُؤمنُونَ شَيْئا. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: إِن أهل النَّار ليبكون لَا يرقأ لَهُم دمع حَتَّى إِن السفن لَو أجريت فِي دموعهم جرت.

83

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن رجعك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم} يَعْنِي: لَو ردك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم {فاستئذنوك لِلْخُرُوجِ} لِيخْرجُوا مَعَك فِي الْقِتَال {فَقل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا} قَالَ أهل التَّفْسِير: الْعَدو هَا هُنَا: أهل الْكتاب؛ فَإِنَّهُ لم يكن بَقِي بِجَزِيرَة الْعَرَب مُشْرك فِي ذَلِك الْوَقْت. قَوْله: {إِنَّكُم رَضِيتُمْ بالقعود أول مرّة فاقعدوا مَعَ الخالفين} والخالفون هَاهُنَا هم النِّسَاء وَالصبيان، وَقيل: هم أهل الزمانة والضعف.

84

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} الْآيَة. نزلت الْآيَة فِي شَأْن عبد الله بن أبي بن سلول؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ: " أَنه لما حَضَره الْمَوْت جَاءَ ابْنه إِلَى رَسُول الله برسالته يطْلب مِنْهُ قَمِيصه ليكفنه فِيهِ، فَأعْطَاهُ رَسُول الله قَمِيصه. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه أعطَاهُ قَمِيصه الَّذِي فَوق قَمِيصه وَهُوَ الْأَعْلَى، فَرد وَطلب قَمِيصه الَّذِي يَلِي جلده، فَلَمَّا توفّي قدم ليُصَلِّي عَلَيْهِ رَسُول الله بِطَلَب ابْنه ذَلِك ووصيته، فَلَمَّا تقدم رَسُول الله ليُصَلِّي عَلَيْهِ أَخذ عمر بِثَوْبِهِ وَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَتُصَلِّي على هَذَا الْمُنَافِق؟ فَقَالَ رَسُول الله: إِن رَبِّي خيرني. وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم} وَقد اخْتَرْت أَن أُصَلِّي عَلَيْهِ قَالَ: فَصلي عَلَيْهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله {وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} . وَفِي رِوَايَة أنس: " أَن النَّبِي لما وقف ليُصَلِّي عَلَيْهِ أَخذ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام

{وهم فَاسِقُونَ (84) وَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِنَّمَا يُرِيد الله أَن يعذبهم بهَا فِي الدُّنْيَا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85) وَإِذا أنزلت سُورَة أَن آمنُوا بِاللَّه} بِطرف ثَوْبه وَمنعه من الصَّلَاة، فَترك الصَّلَاة ". وَالرِّوَايَة الأولى هِيَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَقَوله: {وَلَا تقم على قَبره} وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي كَانَ إِذا صلى على ميت وقف على قَبره ودعا " فَمَنعه الله تَعَالَى عَن ذَلِك فِي حق الْمُنَافِقين. فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يُصَلِّي النَّبِي على الْمُنَافِق وَهُوَ يعلم أَنه كَافِر بِاللَّه؟ الْجَواب عَنهُ: أَنه رأى ذَلِك مصلحَة؛ وَقد قيل حِين صلى عَلَيْهِ: " إِن صَلَاتي عَلَيْهِ لَا تغني عَنهُ من عَذَاب الله شَيْئا ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: " أَن عبد الله بن أبيّ بن سلول لما طلب مِنْهُ قَمِيصه ليتبرك بِهِ ويكفن فِيهِ، أسلم ألف رجل من قومه لم يَكُونُوا أَسْلمُوا من قبل لما رَأَوْا من تبركه بِالنَّبِيِّ. [ {إِنَّهُم كفرُوا بِاللَّه وَرَسُوله وماتوا وهم فَاسِقُونَ} ] وَبَاقِي الْآيَة مَعْلُوم.

85

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تعجبك أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم} قد بَينا مَعْنَاهَا فِيمَا سبق؛ فَإِن قيل: أيش معنى التّكْرَار؟ وَفِي هَذِه الْآيَة الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه للتَّأْكِيد. وَالثَّانِي: أَن الْآيَتَيْنِ نزلتا فِي طائفتين من الْمُنَافِقين دون طَائِفَة وَاحِدَة.

{وَجَاهدُوا مَعَ رَسُوله استئذنك أولُوا الطول مِنْهُم وَقَالُوا ذرنا نَكُنْ مَعَ القاعدين (86) رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف وطبع على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ (87) لَكِن الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه جاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم وَأُولَئِكَ لَهُم الْخيرَات وَأُولَئِكَ هم المفلحون (88) أعد الله لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين}

86

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أنزلت سُورَة أَن آمنُوا بِاللَّه وَجَاهدُوا مَعَ رَسُوله} معنى الْآيَة ظَاهر. وَقَوله: {استأذنك أولُوا الطول مِنْهُم} الطول: هُوَ السعَة والغنا بِإِجْمَاع الْمُفَسّرين، وَقيل: إِنَّه إِنَّمَا سميت السعَة طولا؛ لِأَن الْإِنْسَان يَتَطَاوَل بهَا النَّاس. وَقَوله: {وَقَالُوا ذرنا نَكُنْ مَعَ القاعدين} يَعْنِي: مَعَ القاعدين عَن الْجِهَاد.

87

ثمَّ قَالَ: {رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف} قَالَ قَتَادَة: الْخَوَالِف: هم النِّسَاء. وَقَالَ غَيره: هم أدنياء النَّاس وسفلتهم، يُقَال: فلَان خَالفه قومه إِذا كَانَ دونهم. قَوْله: {وطبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ} طبع: ختم، وَيُقَال: الطبائع نكت سَوْدَاء تقع على الْقلب، يعرف بهَا الْملك الْمُنَافِق من الْمُؤمن.

88

قَوْله تَعَالَى: {لَكِن الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه جاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ لَهُم الْخيرَات} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْخيرَات: هِيَ الْغَنَائِم، وَالْآخر: أَن الْخيرَات: هِيَ الْحور فِي الْجنَّة، وواحدتها: خيرة؛ قَالَ الله تَعَالَى: {فِيهِنَّ خيرات حسان} يَعْنِي: الْحور. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْخيرَات لَا يعلم مَعْنَاهَا إِلَّا الله. حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَمثل هَذَا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أخْفى لَهُم من قُرَّة أعين} . {وَأُولَئِكَ هم المفلحون} قد بَينا الْمَعْنى.

{فِيهَا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (89) وَجَاء المعذرون من الْأَعْرَاب ليؤذن لَهُم وَقعد الَّذين كذبُوا الله وَرَسُوله سيصيب الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم (90) لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى وَلَا على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج إِذا نصحوا}

89

ثمَّ قَالَ: {أعد الله لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم} وَمَعْنَاهُ ظَاهر.

90

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء المعذرون من الْأَعْرَاب ليؤذن لَهُم} قرىء بقراءتين " المعذرون " و " المعذرون "؛ وَفِي المعذرين قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المعذرين هم المعتذرون، أدغمت التَّاء فِي الذَّال. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المعذرين: هم المقصرون، والتعذير فِي اللُّغَة: هُوَ التَّقْصِير. وَأما المعذرون: فهم الَّذين بالغوا فِي الْعذر، يُقَال فِي الْمثل: لقد أعذر من أنذر. يَعْنِي: بَالغ فِي إِظْهَار الْعذر من قدّم فِي النذارة، قَالَ لبيد شعرًا: (إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر) يَعْنِي: بَالغ فِي الْعذر. وَاعْلَم أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْمُنَافِقين، وَقد اعتذروا وَلم يكن لَهُم عذر. وَأما الْأَعْرَاب: هم الَّذين يسكنون الْبَادِيَة، والعربي: اسْم لمن لَهُ نسب من الْعَرَب. وَقَوله: {وَقعد الَّذين كذبُوا الله وَرَسُوله} هَذَا فِي الْمُنَافِقين؛ وَمعنى {كذبُوا الله وَرَسُوله} يَعْنِي: لم يَأْتُوا بِعُذْر صَادِق، ثمَّ قَالَ: {سيصيب الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم} وَمَعْنَاهُ مَعْلُوم.

91

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى} اخْتلفُوا فِي الضُّعَفَاء، قَالَ بَعضهم: هم المجانين، والضعف: نُقْصَان عُقُولهمْ. وَقَالَ بَعضهم: هم الصّبيان. وَقَالَ بَعضهم: هم النسوان. وَأما المرضى: فمعلوم. وَقَوله: {وَلَا على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج} الَّذين لَا يَجدونَ: هم الْفُقَرَاء، والحرج: الضّيق. وَقَوله: {إِذا نصحوا

{لله وَرَسُوله مَا على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيل وَالله غَفُور رَحِيم (91) وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم قلت لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ توَلّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أَلا يَجدوا مَا يُنْفقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يَسْتَأْذِنُونَك وهم أَغْنِيَاء رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف وطبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يعلمُونَ (93) } لله وَرَسُوله) يَعْنِي: أَخْلصُوا الْعَمَل لله وَلِرَسُولِهِ، وإخلاص الْعَمَل لله بِالْعبَادَة، وَلِلرَّسُولِ بالمتابعة. قَوْله تَعَالَى: {مَا على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيل} مَعْنَاهُ: لَيْسَ على من أحسن بالإخلاص سَبِيل، والسبيل: هُوَ الْعقُوبَة {وَالله غَفُور رَحِيم} . وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " وَالله لأهل الْإِسَاءَة غَفُور رَحِيم ".

92

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا على الَّذين إِذا مَا أتوك لتحملهم} مَعْنَاهُ: لَا سَبِيل على الْأَوَّلين وَلَا على هَؤُلَاءِ، قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: نزلت الْآيَة فِي سَبْعَة نفر، مِنْهُم عبد الله بن الْمُغَفَّل الْمُزنِيّ، والعرباض بن سَارِيَة، وَأَبُو (ليلى) عبد الرَّحْمَن بن كَعْب، سموا البكائين. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ هَذَا فِي أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأَصْحَابه. وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله: {لتحملهم} أحد الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ الْمَعْرُوف -: أَنهم طلبُوا الْإِبِل ليركبوها. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم طلبُوا النِّعَال. هَذَا قَول الْحسن بن صَالح. وَقَوله: {قلت لَا أجد مَا أحملكم عَلَيْهِ توَلّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أَلا يَجدوا مَا يُنْفقُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لَا يزَال أحدكُم رَاكِبًا مادام متنعلا ".

93

ثمَّ قَالَ {إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يَسْتَأْذِنُونَك وهم أَغْنِيَاء رَضوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِف} الْخَوَالِف: النِّسَاء وَالصبيان؛ يُقَال: خَالف وخوالف، كَمَا يُقَال: فَارس وفوارس، وهالك وهوالك. {طبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُم إِذا رجعتم إِلَيْهِم قل لَا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (94) سيحلفون بِاللَّه لكم إِذا انقلبتم إِلَيْهِم لتعرضوا عَنْهُم فأعرضوا عَنْهُم إِنَّهُم رِجْس ومأواهم جَهَنَّم جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يحلفُونَ لكم لترضوا عَنْهُم فَإِن ترضوا عَنْهُم فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين}

94

قَوْله تَعَالَى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُم إِذا رجعتم إِلَيْهِم} رُوِيَ أَن الْمُنَافِقين الَّذين تخلفوا كَانُوا بضعَة وَثَمَانِينَ نَفرا، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله من غَزْوَة تَبُوك جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة {قل لاتعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم} يَعْنِي: فِيمَا سلف {وسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله} يَعْنِي: فِي المستأنف {ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} .

95

ثمَّ قَالَ فِي شَأْنهمْ: {سيحلفون بِاللَّه لكم إِذا انقلبتم إِلَيْهِم لتعرضوا عَنْهُم} الانقلاب: هُوَ الرُّجُوع إِلَى الْمَكَان الَّذِي خَرجُوا مِنْهُ {فأعرضوا عَنْهُم إِنَّهُم رِجْس} الرجس: هُوَ النتن والقذر {ومأواهم جَهَنَّم جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ فِي الْآيَة: {سيحلفون بِاللَّه لكم إِذا انقلبتم إِلَيْهِم لتعرضوا عَنْهُم} إِذا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مُقْبِلين عَلَيْهِم حَتَّى يَقُول: {لتعرضوا عَنْهُم} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر الْأَزْهَرِي فِي كِتَابه " التَّقْرِيب " معنى الْآيَة: سيحلفون بِاللَّه لكم لإعراضكم عَنْهُم لتقبلوا عَلَيْهِم؛ فأعرضوا عَنْهُم.

96

ثمَّ قَالَ: {يحلفُونَ لكم لترضوا عَنْهُم} الرِّضَا ضد الْكَرَاهَة {فَإِن ترضوا عَنْهُم فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين} . وَفِي الْقِصَّة: " أَن أَبَا خَيْثَمَة رجل من أَصْحَاب رَسُول الله كَانَ قد تخلف، وَكَانَت لَهُ امْرَأَتَانِ، فَذهب إِلَيْهِمَا وَقد هيأت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا طَعَاما، وَبَردت شرابًا وَبسطت لَهُ فِي الظل، فَنظر إِلَى ذَلِك وَقَالَ: رَسُول الله فِي الضح وَالذّبْح، وَأَبُو خَيْثَمَة فِي الظل! مَا هَذَا بِنصْف، ثمَّ ركب نَاقَته وَاتبع رَسُول الله، فَأدْرك النَّبِي وَقد نزل

( {96) الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله وَالله عليم حَكِيم (97) وَمن الْأَعْرَاب من يتَّخذ مَا ينْفق مغرما ويتربص بكم} بتبوك، فَقَالَ النَّاس: يَا رَسُول الله، هَذَا رَاكب قد أقبل، فَقَالَ رَسُول الله: كن أَبَا خَيْثَمَة فَقَالَ النَّاس: هُوَ أَبُو خَيْثَمَة ".

97

قَوْله تَعَالَى: {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله} معنى أَجْدَر: أخلق وَأَحْرَى أَن لَا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله {على رَسُوله} وَهَذَا لبعدهم من سَماع الْقُرْآن وَمَعْرِفَة السّنَن. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أهل الكفور هم أهل الْقُبُور ". وَفِي آثَار التَّابِعين عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَن أَعْرَابِيًا جلس عِنْد زيد بن صوحان - وَكَانَت شِمَاله أُصِيبَت يَوْم نهاوند فِي حَرْب الْعَجم - فَجعل يكلمهُ وَيذكر لَهُ الْعلم، فَقَالَ لَهُ الْأَعرَابِي: إِنَّه ليؤنسني علمك وتريبني يدك، فَقَالَ لَهُ زيد: وَمَا يريبك مني وَإِنَّهَا الشمَال؟ فَقَالَ الْأَعرَابِي: إِنِّي مَا أَدْرِي الشمَال تقطع أم الْيَمين؟ فَقَالَ زيد بن صوحان: صدق الله تَعَالَى: {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا} . وَزيد بن صوحان من كبار التَّابِعين، وَهُوَ الَّذِي ذكر رَسُول الله فِي شَأْنه أَن يَده تسبقه إِلَى الْجنَّة. {وَالله سميع عليم} .

98

قَوْله تَعَالَى: {وَمن الْأَعْرَاب من يتَّخذ مَا ينْفق مغرما} المغرم: الْتِزَام مَا لَا يلْزم، قَالَ الشَّاعِر: (فمالك مسلوب العدا كَأَنَّمَا ترى ... هجر ليلى مغرما أَنْت غارمه) قَوْله: {ويتربص بكم الدَّوَائِر} أَي: ينْتَظر بكم الدَّوَائِر، والدوائر: جمع الدائرة،

{الدَّوَائِر عَلَيْهِم دَائِرَة السوء وَالله سميع عليم (98) وَمن الْأَعْرَاب من يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ويتخذ مَا ينْفق قربات عِنْد الله وصلوات الرَّسُول أَلا إِنَّهَا قربَة لَهُم سيدخلهم الله فِي رَحمته إِن الله غَفُور رَحِيم (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من} والدائرة: انْتِقَال المحبوب إِلَى الْمَكْرُوه، وَقيل: الدَّوَائِر: صروف الدَّهْر. ثمَّ قَالَ: {عَلَيْهِم دَائِرَة السوء} وقرىء: " دَائِرَة السوء " وَمَعْنَاهُ: أَن الْمَكْرُوه الْعَظِيم مَا يلحقهم. وَقَوله: {وَالله سميع عليم} .

99

قَوْله تَعَالَى: {وَمن الْأَعْرَاب من يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} مَعْنَاهُ مَعْلُوم {ويتخذ مَا ينْفق قربات عِنْد الله وصلوات الرَّسُول} القربات جمع الْقرْبَة، والصلوات جمع الصَّلَاة؛ وَمعنى القربات: أَنه يطْلب الْقرْبَة إِلَى الله تَعَالَى، وَمعنى الصَّلَوَات: أَنه يطْلب الدُّعَاء من رَسُول الله. وَاعْلَم أَن الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمُؤمنِينَ الدُّعَاء، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار، قَالَ الْأَعْشَى: (تَقول بِنْتي وَقد قربت مرتحلا ... يَا رب جنب أَبى الأوصاب والوجعا) (عَلَيْك مثل الَّذِي صليت فاغتمضي ... عينا فَإِن لجنب الْمَرْء مُضْطَجعا) ثمَّ قَالَ: {أَلا إِنَّهَا قربَة لَهُم سيدخلهم الله فِي رَحمته} أَي: فِي جنته {إِن الله غَفُور رَحِيم} مَعْلُوم.

100

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار} هَذِه الْآيَة فِي السَّابِقين الْأَوَّلين، وَفِيهِمْ أَقْوَال: أَحدهَا: قَول سعيد بن الْمسيب وَابْن سِيرِين وَجَمَاعَة، أَنهم قَالُوا: هم الَّذين صلوا إِلَى الْقبْلَتَيْنِ.

{الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ وَأعد} وَقَالَ عَطاء: هم أهل بدر. وَقَالَ الشّعبِيّ: هم أهل بيعَة الرضْوَان، وبيعة الرضْوَان كَانَت بِالْحُدَيْبِية. وَالْقَوْل الرَّابِع: السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين: هم الَّذين أَسْلمُوا قبل الْهِجْرَة، وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْأَنْصَار: هم الَّذين بَايعُوا مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْعقبَة. وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَرَأَ: " وَالْأَنْصَار " بِالرَّفْع. وَفِي هَذِه الْقِرَاءَة السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين خَاصَّة. وَالْمَعْرُوف " وَالْأَنْصَار " وَمَعْنَاهُ: وَمن الْأَنْصَار: والمهاجرين هم الَّذين هَاجرُوا من أوطانهم وَقدمُوا الْمَدِينَة مَعَ رَسُول الله، وَالْأَنْصَار هم أهل الْمَدِينَة الَّذين أنزلوا رَسُول الله والمهاجرين فِي دُورهمْ. وَأما قَوْله: {وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم بَقِيَّة الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار سوى السَّابِقين الْأَوَّلين مِنْهُم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم الْمُؤْمِنُونَ إِلَى قيام السَّاعَة. وَعَن أبي صَخْر حميد بن زِيَاد قَالَ: أتيت مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ فَقلت لَهُ: مَا قَوْلك فِي أَصْحَاب رَسُول الله؟ فَقَالَ: جَمِيع أَصْحَاب رَسُول الله فِي الْجنَّة، مسيئهم ومحسنهم، فَقلت لَهُ: من أَيْن تَقول هَذَا؟ فَقَالَ: اقْرَأ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار} إِلَى أَن قَالَ: {رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ وَأعد لَهُم جنَّات} ثمَّ قَالَ: شَرط للتابعين شريطة، وَهُوَ قَوْله: {اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان} وَمَعْنَاهُ: أَنهم اتَّبَعُوهُمْ فِي أفعالهم الْحَسَنَة دون السَّيئَة. قَالَ أَبُو صَخْر: وَكَأَنِّي لم أَقرَأ هَذِه الْآيَة قطّ. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تسبوا أَصْحَابِي؛ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم ملْء الأَرْض ذَهَبا لم يدْرك مد أحدهم

{لَهُم جنَّات تجْرِي تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (100) وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا} وَلَا نصيفه " قَوْله: {رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} أَي: رَضِي الله عَنْهُم بطاعتهم {وَرَضوا عَنهُ} بثوابه، وَبَاقِي الْآيَة مَعْلُوم {وَأعد لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} .

101

قَوْله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: هم مزينة وجهينة وَأَشْجَع وغفار وَأسلم {وَمن أهل الْمَدِينَة} قوم من الْأَوْس والخزرج {مَرَدُوا على النِّفَاق} قَالَ الْفراء: مرنوا على النِّفَاق. وَقَالَ ثَعْلَب: استنمروا على النِّفَاق. وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ مَرَدُوا على النِّفَاق وَمن أهل الْمَدِينَة، هَكَذَا قَالَه أهل الْمعَانِي {لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} هَذَا دَلِيل على أَن الرَّسُول لم يعلم جَمِيع الْمُنَافِقين. وَقَوله تَعَالَى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الفضيحة فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة. وَفِي الْخَبَر " أَن النَّبِي قَامَ خَطِيبًا على الْمِنْبَر، وَقَالَ: اخْرُج يَا فلَان، فَإنَّك مُنَافِق، اخْرُج يَا فلَان، فَإنَّك مُنَافِق " هَكَذَا حَتَّى أخرجهم جَمِيعًا من الْمَسْجِد.

{بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله غَفُور} وَالْقَوْل الثَّانِي: قو مُجَاهِد، وَهُوَ الْخَوْف فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْعَذَاب الأول: هُوَ الْقَتْل، وَالْعَذَاب الثَّانِي: هُوَ عَذَاب الْقَبْر. وَالرَّابِع: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْعَذَاب الأول: هُوَ السَّبي، وَالْعَذَاب الثَّانِي: هُوَ الْقَتْل. {ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم} يَعْنِي: إِلَى جَهَنَّم.

102

قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُؤمنِينَ تخلفوا عَن رَسُول الله بِغَيْر عذر، فيهم أَو لبَابَة بن عبد الْمُنْذر وَغَيره، فَلَمَّا قفل رَسُول الله من الْغَزْو، وَقرب من الْمَدِينَة جَاءُوا فربطوا أنفسهم بسوارى الْمَسْجِد وَقَالُوا: لَا نحل أَنْفُسنَا حَتَّى يَتُوب الله علينا، فَدخل رَسُول الله الْمَسْجِد، وَكَانَ من عَادَته أَنه كَانَ إِذا خرج إِلَى سفر صلى رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِد، ثمَّ يخرج، وَإِذا رَجَعَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فصلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ يدْخل منزله، فَلَمَّا دخل الْمَسْجِد وَرَأى هَؤُلَاءِ النَّفر قد ربطوا أنفسهم بالسوارى سَأَلَ وَقَالَ: " مَا شَأْنهمْ؟ فَقيل: إِنَّهُم حلفوا أَلا يحلوا أنفسهم حَتَّى يَتُوب الله عَلَيْهِم، فَقَالَ رَسُول الله: وَإِنِّي أَحْلف أَن لَا أحلّهُم حَتَّى يقْضِي الله فيهم بأَمْره، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". وَقَوله تَعَالَى: {خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا} الْعَمَل السيء هُوَ التَّخَلُّف عَن الْغَزْو بِلَا إِشْكَال، وَأما الْعَمَل الصَّالح فَفِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسوارى. وَالثَّانِي: الْعَمَل الصَّالح: هُوَ غزواتهم مَعَ رَسُول الله من قبل. وَفِي الْأَخْبَار، عَن سَمُرَة بن جُنْدُب أَن النَّبِي قَالَ: " أَتَانِي اللَّيْلَة آتيان فَانْطَلقَا بِي إِلَى مَدِينَة مَبْنِيَّة لبنة من الذَّهَب ولبنة من الْفضة، فتلقاني رجال شطر خلقهمْ كأحسن مَا أَنْت رَاء، وَشطر خلقهمْ كأقبح مَا أَنْت رَاء، فَقيل لَهُم: قعوا فِي ذَلِك

{رَحِيم (102) خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك سكن لَهُم وَالله سميع عليم (103) } النَّهر، فوقعوا فِي النَّهر، فَخَرجُوا وَقد ذهب عَنْهُم السوء، فَسَأَلت عَن أُولَئِكَ الْقَوْم، فَقيل لي: أما الْمَدِينَة فَهِيَ الْجنَّة، [وهذاك] مَنْزِلك، وَهَؤُلَاء الْقَوْم خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا؛ فَتَجَاوز الله عَنْهُم ". وَأما قَوْله تَعَالَى: {عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره: عَسى من الله وَاجِب. فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة أَمر رَسُول الله أَن يحل أُولَئِكَ الْقَوْم من السوارى. وَرُوِيَ عَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ أَنه قَالَ: أرجي آيَة فِي الْقُرْآن هَذِه الْآيَة. {إِن الله غَفُور رَحِيم} .

103

قَوْله تَعَالَى: {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا} قَالَ أهل التَّفْسِير: لما تَابَ الله على أُولَئِكَ الْقَوْم جَاءُوا بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى النَّبِي وَقَالُوا: خُذْهَا صَدَقَة لله، فَأبى أَن يَأْخُذهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {خُذ من أَمْوَالهم} . وَقَوله: {تطهرهُمْ} أَي: من الذُّنُوب. وَقَوله: {وتزكيهم بهَا} أَي: وترفعهم بهَا من منَازِل الْمُنَافِقين إِلَى منَازِل المخلصين {وصل عَلَيْهِم} وادع لَهُم {إِن صَلَاتك سكن لَهُم} أَي: دعاؤك سكن لَهُم، أَي: سُكُون لَهُم، أَي: دعاؤك سكن لَهُم وطمأنينة وتثبيت. وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: إِنَّه يجب على الإِمَام أَن يَدْعُو للَّذي جَاءَ بِالصَّدَقَةِ. وَقَالَ بَعضهم: يسْتَحبّ، وَلَا يجب. وَقَالَ بَعضهم: يجب فِي الْفَرْض وَيسْتَحب فِي النَّفْل. وَقَالَ بَعضهم: يجب على الإِمَام أَن يَدْعُو للمعطي، وَيسْتَحب للْفَقِير أَن يَدْعُو. وَمِنْهُم من قَالَ: إِن التمس الْمُعْطِي أَن يَدْعُو لَهُ يجب؛ وَإِلَّا فَلَا يجب.

{ألم يعلمُوا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات وَأَن الله هُوَ التواب الرَّحِيم (104) } وَقد ثَبت الْخَبَر بِرِوَايَة عبد الله بن أبي أوفى قَالَ: " كَانَ الرجل إِذا جَاءَ بِصَدَقَتِهِ إِلَى النَّبِي دَعَا لَهُ؛ فجَاء أبي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ النَّبِي: أللهم صل على آل أبي أوفى. {وَالله سميع عليم} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

104

قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلمُوا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده} هَذَا ظَاهر. وَقَوله: {وَيَأْخُذ الصَّدقَات} مَعْنَاهُ: يقبل الصَّدقَات. وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي قَوْله: {ألم يعلمُوا} هُوَ بِمَعْنى الْأَمر؛ كَأَنَّهُ قَالَ: اعلموا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده. وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور الْمَعْرُوف عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي قَالَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، مَا من عبد يتَصَدَّق بِصَدقَة من كسب طيب - وَلَا يقبل الله إِلَّا طيبا - إِلَّا أَخذهَا الله بِيَمِينِهِ فيربيها كَمَا يربى أحدكُم فلوه، حَتَّى إِن اللُّقْمَة تَجِيء يَوْم الْقِيَامَة مثل أحد، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلمُوا أَن الله هُوَ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَأْخُذ الصَّدقَات} ". وَالْخَبَر صَحِيح. وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِن الصَّدَقَة تقع فِي يَد الله قبل أَن تقع فِي يَد الْفَقِير. وَرُوِيَ فِي بعض الرِّوَايَات مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. قَوْله: {وَأَن الله هُوَ التواب الرَّحِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى.

105

قَوْله تَعَالَى: {وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون} فِي الْآيَة

{وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون وستردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله إِمَّا يعذبهم} معنى التهديد. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى رُؤْيَة الرَّسُول وَالْمُؤمنِينَ؟ قُلْنَا: رُؤْيَة الرَّسُول: هِيَ بإعلام الله إِيَّاه عَمَلهم، ورؤية الْمُؤمنِينَ: بإيقاع الْمحبَّة فِي قُلُوبهم لأهل الصّلاح، وإيقاع البغضة فِي قُلُوبهم لأهل الْفساد. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " لَو عمل الْمُؤمن فِي صَخْرَة لَيْسَ لَهَا بَاب [لأظهره] الله إِذا عمله ". قَوْله تَعَالَى: {وستردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة ... .} الْآيَة، مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

106

قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله} الإرجاء: التَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: مؤخرون لأمر الله، وَأمر الله تَعَالَى هُنَا: حكم الله. وَالْآيَة نزلت فِي كَعْب بن مَالك، وهلال بن أُميَّة، ومرارة بن الرّبيع؛ وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة الَّذين تَأتي قصتهم من بعد. وَقَوله {إِمَّا يعذبهم وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِم وَالله عليم حَكِيم} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

107

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اتَّخذُوا مَسْجِدا ضِرَارًا وَكفرا} نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُنَافِقين مِنْهُم: وَدِيعَة بن ثَابت، وثعلبة بن حَاطِب، (وَجَارِيَة بن يزِيد) ، وَابْنه

{وَإِمَّا يَتُوب عَلَيْهِم وَالله عليم حَكِيم (106) وَالَّذين اتَّخذُوا مَسْجِدا ضِرَارًا وَكفرا وَتَفْرِيقًا بَين الْمُؤمنِينَ وَإِرْصَادًا لمن حَارب الله وَرَسُوله من قبل وَلَيَحْلِفُنَّ إِن أردنَا إِلَّا الْحسنى وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (107) لَا تقم فِيهِ أبدا لمَسْجِد أسس على} مجمع بن جَارِيَة، وحزام بن مَالك، وَأَبُو حَبِيبَة بن الأزعر، وَعباد بن حنيث، وَرجل يُقَال لَهُ: يخرج إِلَى تَمام اثنى عشر نَفرا، بنوا هَذَا الْمَسْجِد بِقصد مَا ذكره الله فِي كِتَابه، وَهُوَ قَوْله: {ضِرَارًا} يَعْنِي: مضارة بالرسول {وَكفرا} بِاللَّه {وَتَفْرِيقًا بَين الْمُؤمنِينَ وَإِرْصَادًا لمن حَارب الله وَرَسُوله} والإرصاد: الإعداد، وَالَّذِي حَارب الله وَرَسُوله هَاهُنَا هُوَ أَبُو عَامر الراهب، وَكَانَ مِمَّن يطْلب الدّين فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ تنصر وتحزب الْأَحْزَاب على رَسُول الله، ثمَّ لحق بقيصر يستنجده على رَسُول الله وَأَصْحَابه، فَهَؤُلَاءِ بنوا هَذَا الْمَسْجِد وَقَالُوا: نَبْنِي هَذَا الْمَسْجِد فنخلوا بأمرنا، ونتحدث بِمَا نُرِيد، وننتظر رُجُوع أبي عَامر الراهب. وَكَانَ هَذَا الْمَسْجِد بني قَرِيبا من مَسْجِد قبَاء. وَقَوله: {من قبل} رَاجع إِلَى أبي عَامر {وَلَيَحْلِفُنَّ إِن أردنَا إِلَّا الْحسنى} مَعْنَاهُ: إِلَّا الرِّفْق بِالْمُسْلِمين {وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

108

ثمَّ قَالَ: {لَا تقم فِيهِ ابدا} رُوِيَ أَنهم طلبُوا من النَّبِي أَن يَأْتِي فَيصَلي فِيهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {لَا تقم فِيهِ أبدا} مَعْنَاهُ: لَا تصل فِيهِ أبدا {لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى} اخْتلفُوا فِي هَذَا الْمَسْجِد؛ قَالَ ابْن عمر، وَزيد بن ثَابت، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: هُوَ مَسْجِد النَّبِي بِالْمَدِينَةِ. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن رجلَيْنِ تماريا فِي الْمَسْجِد الَّذِي أسس على التَّقْوَى، فسألا رَسُول الله فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: هُوَ مَسْجِدي هَذَا ". وَأوردهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي " جَامعه ".

{التَّقْوَى من أول يَوْم أَحَق أَن تقوم فِيهِ فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين (108) أَفَمَن أسس بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه مَسْجِد قبَاء. هَذَا قَول سعيد بن جُبَير، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة من التَّابِعين. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه جَمِيع مَسَاجِد الْمَدِينَة وَالْأولَى هُوَ القَوْل الأول. وَقَوله: {أسس على التَّقْوَى} أَي: ليتقى فِيهِ من الشّرك. وَقَوله: {من أول يَوْم} مَعْنَاهُ: من ابْتِدَاء أَيَّام الْإِسْلَام {أَحَق أَن تقوم فِيهِ} أَي: أولى أَن تقوم فِيهِ، أَي: تصلي فِيهِ، قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقد رُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ لأهل قبَاء: " إِن الله تَعَالَى قد أحسن الثَّنَاء عَلَيْكُم، فَمَاذَا تَعْمَلُونَ؟ فَقَالُوا: نَتَوَضَّأ من الْحَدث ونغتسل من الْجَنَابَة. فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: فَهَل شَيْء غير هَذَا؟ فَقَالُوا: إِن أَحَدنَا إِذا استنجى أحب أَن يتبع أثر الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: هُوَ ذَاك، فَعَلَيْكُم بِهِ ".

109

ثمَّ قَالَ: {أَفَمَن أسس} وقرىء: " أَفَمَن أسس " {بُنْيَانه على تقوى من الله ورضوان خير} أَي: على طلب التَّقْوَى وَطلب الرِّضَا من الله خير {أم من أسس بُنْيَانه على

{بُنْيَانه على شفا جرف هار فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (109) لَا يزَال بنيانهم الَّذِي بنوا رِيبَة فِي قُلُوبهم إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم وَالله عليم} شفا جرف) الشفا: هُوَ الْحَرْف وَالْحَد، والجرف: هُوَ مَا تجرف من السَّيْل، أَي: تقطع من السَّيْل، فَصَارَ لرخاوته لَا يثبت عَلَيْهِ بِنَاء. قَوْله: {هار} مَعْنَاهُ: هائر، والهائر: السَّاقِط {فانهار بِهِ فِي نَار جَهَنَّم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَاعْلَم أَن المُرَاد من الْآيَة: هُوَ التَّمْثِيل والتشبيه فِي قلَّة الثَّبَات والقرار وَسُوء الْعَاقِبَة. وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي كَانَت عَاقِبَة مَسْجِد الضرار؛ فالأكثرون على أَن النَّبِي دَعَا مَالك بن الدخشم، وَعَاصِم بن عدي، وَأَمرهمَا أَن يهدما ذَلِك الْمَسْجِد ويحرقاه ففعلا ذَلِك. وَالْقَوْل الآخر: أَن ذَلِك الْمَسْجِد انهار بِنَفسِهِ من غير أَن يمسهُ أحد. وَفِي بعض التفاسير أَنه خسف بِهِ. وَرُوِيَ أَنه لما خسف بِهِ سَطَعَ مِنْهُ دُخان فِي السَّمَاء، وَالله أعلم.

110

قَوْله تَعَالَى: {لَا يزَال بنيانهم الَّذِي بنوا رِيبَة فِي قُلُوبهم} يَعْنِي: شكا واضطرابا فِي قُلُوبهم. وَقَالَ السدى: حرازة فِي قُلُوبهم. وَقَوله: {إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: حَتَّى يموتوا. وقرىء فِي الشاذ: " إِلَى أَن تقطع قُلُوبهم ". وَالْقَوْل الثَّانِي: حَتَّى يتوبوا، فَجعل الندامة فِي الْقلب بِمَنْزِلَة تقطع فِي الْقلب. {وَالله عليم حَكِيم} عليم بخلقه، حَكِيم فِي تَدْبيره.

111

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} معنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى أَمر (الْمُسلمين) بِأَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله، وَجعل لَهُم الْجنَّة ثَوابًا عَلَيْهِ، فَجعل هَذَا بِمَنْزِلَة الشِّرَاء وَالْبيع. قَوْله: {يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا} مَعْنَاهُ: أَن ثَوَاب الْجنَّة وعد حق. ثمَّ قَالَ: {فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن} وَهَذَا دَلِيل على أَن أهل

{حَكِيم (110) إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ وَعدا عَلَيْهِ حَقًا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَمن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الَّذِي بايعتم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} الْملَل كلهم أمروا بِالْجِهَادِ وَجعل ثوابهم الْجنَّة، وَقد بَينا معنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن. وَقَوله: {وَمن أوفى بعهده من الله} مَعْنَاهُ مَعْلُوم {فاستبشروا ببيعكم الَّذِي بايعتم بِهِ} مَعْنَاهُ: فافرحوا ببيعكم الَّذِي بايعتم بِهِ {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} . رُوِيَ فِي الْأَخْبَار أَن هَذِه الْآيَة: لما نزلت قَالَ أَصْحَاب رَسُول الله: ربح البيع، لَا نقِيل وَلَا نَسْتَقِيل. وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن الله بَايَعَك وَجعل الصفقتين لَك. وَعَن بعض التَّابِعين أَنه قَالَ: ثامن فأغلى فِي الثّمن، وَبَايع فأغلى فِي الْعِوَض. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى أَعْطَاك الدُّنْيَا فاشتر الْجنَّة بِبَعْضِهَا من الله.

112

قَوْله تَعَالَى: {التائبون العابدون} الْآيَة التائبون: هم الَّذين تَابُوا من الشّرك. وَقيل: هم الَّذين تَابُوا من جَمِيع الْمعاصِي. والعابدون: هم الَّذين عبدُوا الله بِالتَّوْحِيدِ، وَقيل: بِسَائِر الطَّاعَات. و {الحامدون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم [هم] الَّذين يحْمَدُونَ الله على كل حَال فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم الَّذين يحْمَدُونَ الله على الْإِسْلَام. وَقَوله: {السائحون} فِيهِ أَقْوَال: (أَحدهمَا) : أَنهم الصائمون. هَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " سياحة أمتِي: الصّيام ". (وَقَالَ) سُفْيَان بن عُيَيْنَة: سمى الصَّائِم سائحا؛ لِأَنَّهُ ترك الْمطعم وَالْمشْرَب والمنكح. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن السائحين: هم المجاهدون فِي سَبِيل الله. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن

( {111) التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر والحافظون لحدود الله وَبشر الْمُؤمنِينَ (112) مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين وَلَو كانون أولي قربى من بعد مَا} النَّبِي قَالَ: " سياحة أمتِي: الْجِهَاد ". وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن السائحين: هم طلبة الْعلم، رُوِيَ عَن بعض التَّابِعين. وَقَوله {الراكعون الساجدون} يَعْنِي: الْمُصَلِّين. وَقَوله: {الآمرون بِالْمَعْرُوفِ} أَي: الآمرون بِالْإِيمَان {والناهون عَن الْمُنكر} يَعْنِي: عَن الشّرك. وَقَوله: {والحافظون لحدود الله} مَعْنَاهُ: القائمون بأوامر الله {وَبشر الْمُؤمنِينَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

113

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين وَلَو كَانُوا أولي قربى من بعد مَا تبين لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم} اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: مَا رَوَاهُ سعيد بن الْمسيب، عَن أَبِيه: " أَن أَبَا طَالب لما حَضرته الْوَفَاة دخل عَلَيْهِ النَّبِي وَعِنْده أَبُو جهل وَعبد الله بن أبي أُميَّة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: أَي عَم {قل: لَا إِلَه إِلَّا الله، كلمة أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله. فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل وَعبد الله بن [أبي] أُميَّة: أترغب عَن مِلَّة عبد الْمطلب؟} فَمَا زَالا يكلمانه حَتَّى كَانَ آخر كلمة قَالَهَا: على مِلَّة عبد الْمطلب، فَقَالَ النَّبِي: لأَسْتَغْفِرَن لَك مَا لم أَنه عَنهُ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {مَا كَانَ للنَّبِي ... .} إِلَى آخر الْآيَة ". وَالثَّانِي: روى مَسْرُوق، عَن عبد الله بن مَسْعُود: " أَن النَّبِي خرج إِلَى الْمَقَابِر فاتبعناه، فَأتى قبرا وَقعد عِنْده، وناجاه طَويلا، ثمَّ بَكَى وبكينا لبكائه، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُول الله من صَاحب هَذَا الْقَبْر؟ فَقَالَ: هَذِه أُمِّي آمِنَة بنت وهب، اسْتَأْذَنت رَبِّي

{تبين لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه} فِي زيارتها فَأذن لي، ثمَّ استأذنته فِي أَن أسْتَغْفر لَهَا فَلم يَأْذَن لي، قَالَ: فأخذني عَلَيْهَا الشَّفَقَة مَا يَأْخُذ الْوَلَد للوالدة فَبَكَيْت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {مَا كَانَ للنَّبِي} إِلَى آخر الْآيَة ". وَالْقَوْل الثَّالِث: رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " أَنه سمع رجلا يسْتَغْفر لِأَبَوَيْهِ وهما مُشْرِكَانِ، فَقَالَ لَهُ عَليّ: أَتَسْتَغْفِرُ للْمُشْرِكين؟ فَقَالَ ذَلِك الرجل: قد اسْتغْفر إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرك، فَأتى النَّبِي وَأخْبرهُ بذلك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا ".

114

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه} وَفِي هَذِه الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ لِأَبِيهِ: لأَسْتَغْفِرَن لَك، قَالَ هَذَا رَجَاء أَن يَنْقُلهُ الله تَعَالَى من الْكفْر إِلَى الْإِسْلَام ببركة دُعَائِهِ واستغفاره. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن أَبَا إِبْرَاهِيم وعد إِبْرَاهِيم وَقَالَ: لأسلمن، فَاسْتَغْفر لي، فَاسْتَغْفر لَهُ إِبْرَاهِيم لهَذَا الْمَعْنى. {فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله} بِمَوْتِهِ على الْكفْر {تَبرأ مِنْهُ} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز أَن يسْتَغْفر إِبْرَاهِيم للمشرك؟

{فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم (114) } الْجَواب عَنهُ: قَالَ بعض أهل الْمعَانِي: يحْتَمل أَن أَبَا إِبْرَاهِيم كَانَ أظهر الْإِسْلَام وَهُوَ يبطن الْكفْر، فَاسْتَغْفر لَهُ إِبْرَاهِيم لإظهاره الْإِسْلَام {فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله} مصر على الْكفْر فِي الْبَاطِن {تَبرأ مِنْهُ} هَكَذَا قَالَه بعض أهل الْمعَانِي. وَالَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة الْمُفَسّرين مَا بَينا من قبل. وَقد قَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ: " إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه " وَهَذَا صَرِيح فِي أَن الْوَعْد كَانَ من إِبْرَاهِيم، وَالدَّلِيل على أَن إِبْرَاهِيم اسْتغْفر لَهُ وَهُوَ مُشْرك: أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي سُورَة الممتحنة: {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه. .} إِلَى أَن قَالَ: {إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك} فقد صرح أَن إِبْرَاهِيم لَيْسَ بقدوة فِي هَذَا الاسْتِغْفَار؛ وَإِنَّمَا اسْتغْفر لَهُ وَهُوَ مُشْرك لمَكَان الْوَعْد؛ رَجَاء أَن يسلم. وَقَوله: {إِن إِبْرَاهِيم لأواه حَلِيم} اخْتلفُوا فِي " الأواه " على أقاويل. رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود. وَعبد الله بن عَبَّاس: أَن الأواه: هُوَ الدُّعَاء. وَعَن ابْن مَسْعُود فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَنه الرَّحِيم، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَنه الْمُؤمن التواب، وَعَن مُجَاهِد أَنه الْفَقِيه، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار: أَنه الَّذِي يتأوه من الذُّنُوب، فَيَقُول: أوه أوه. وروى أَبُو ذَر " أَن رجلا كَانَ يطوف وَيَقُول: أوه أوه، فَقلت للنَّبِي: إِن هَذَا الرجل ليؤذينا، فَقَالَ: لَا تقل هَذَا؛ فَإِنَّهُ أَواه ". قَالَ الشَّاعِر: (إِذا مَا قُمْت أرحلها بلَيْل ... تأوه آهة الرجل الحزين) وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ الأواه: المسبح. وَقيل: إِنَّه الْموقف. وَقيل: إِنَّه الموقن. وَأما الْحَلِيم: فَهُوَ: الصفوح عَن الذُّنُوب.

115

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم} مَعْنَاهُ: مَا كَانَ الله ليحكم بالضلالة بترك الْأَوَامِر {حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} فَيتْركُوا.

{وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ إِن الله بِكُل شَيْء عليم (115) إِن الله لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يحيي وَيُمِيت وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير (116) لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار الَّذين} وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ: مَعْنَاهُ: حَتَّى يحْتَج عَلَيْهِم بِالْأَمر. سَبَب نزُول الْآيَة: أَن قوما كَانُوا أَتَوا النَّبِي فأسلموا، وَلم تكن الْخمر حرمت وَلَا الْقبْلَة صرفت، فَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ وهم على ذَلِك، ثمَّ حرمت الْخمر (و) صرفت الْقبْلَة وَلم يكن لَهُم علم بذلك، فَلَمَّا قدمُوا بعد ذَلِك للمدينة وجدوا الْخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت، فَقَالُوا للنَّبِي: قد كنت على دين وَنحن على (غَيره) فَنحْن ضلال؟ فَأنْزل الله {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} . وَفِي الْآيَة قَول آخر؛ وَهُوَ: أَن الْآيَة فِي الاسْتِغْفَار للْمُشْرِكين؛ فَإِن جمَاعَة من الصَّحَابَة كَانُوا اسْتَغْفرُوا لِآبَائِهِمْ وَلم يعلمُوا أَن ذَلِك لَا يجوز، فَلَمَّا أنزل النَّهْي عَنهُ خَافُوا على أنفسهم خوفًا شَدِيدا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَوْله تَعَالَى: {إِن الله بِكُل شَيْء عليم} ، وَكَذَا الْآيَة الَّتِي تَلِيهَا مَعْلُوم الْمَعْنى إِلَى آخرهَا.

117

قَوْله تَعَالَى: {لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار} معنى قَوْله: {لقد تَابَ الله} لقد تجَاوز الله. وَقيل: لقد صفح الله. وَقَوله {الَّذين اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة} مَعْنَاهُ: فِي وَقت الْعسرَة، وَكَانَت غَزْوَة تَبُوك تسمى غَزْوَة الْعسرَة، وَكَذَلِكَ ذَلِك الْجَيْش يُسمى جَيش الْعسرَة؛ والعسرة: الشدَّة، وَكَانَت عَلَيْهِم عسرة فِي الظّهْر والزاد وَالْمَاء، فَروِيَ أَن الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَمَا زَاد كَانُوا يعتقبون الْبَعِير الْوَاحِد. وَرُوِيَ أَنهم كَانُوا فني زادهم حَتَّى كَانَ الرّجلَانِ يقتسمان التمرة بَينهمَا. هَكَذَا حُكيَ عَن

{اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة من بعد مَا كَاد يزِيغ قُلُوب فريق مِنْهُم ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّه بهم رءوف رَحِيم (117) وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض} ابْن عَبَّاس. وَرُوِيَ: " أَنهم عطشوا عطشا شَدِيدا حَتَّى نحرُوا الْإِبِل وعصروا كرشها وَشَرِبُوا مَا فِيهَا، ثمَّ إِن النَّبِي استسقى الله تَعَالَى فسقوا. هَكَذَا رَوَاهُ عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَهَذَا هُوَ معنى الْعسرَة. وَقَوله: {من بعد مَا كَاد يزِيغ} قرئَ: " تزِيغ ويزيغ " فَقَوله: " تزِيغ " منصرف إِلَى الْقُلُوب، وَقَوله: يزِيغ منصرف إِلَى الْفِعْل؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يزِيغ الْفِعْل {قُلُوب فريق مِنْهُم} . وَأما الزيغ فِي اللُّغَة: هُوَ الْميل، وَلَيْسَ المُرَاد من الْميل هُنَا هُوَ الْميل عَن الدّين، إِنَّمَا المُرَاد من الْميل هُوَ الْميل عَن مُتَابعَة رَسُول الله ونصرته فِي الْغَزْو، وَاخْتِيَار التَّخَلُّف من شدَّة الْعسرَة. {ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم} فَإِن قَالَ قَائِل: مَا هَذَا التّكْرَار، فقد قَالَ فِي أول الْآيَة: {لقد تَابَ الله على النَّبِي} ؟ . الْجَواب عَنهُ: أَنه ذكر التَّوْبَة فِي أول الْآيَة قبل ذكر الذَّنب - وَهُوَ مَحْض [تفضل] من الله، فَلَمَّا ذكر الذَّنب أعَاد ذكر التَّوْبَة، وَالْمرَاد مِنْهُ: الْقبُول. {إِنَّه بهم رءوف رَحِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى.

118

قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا} قَرَأَ عِكْرِمَة بن عمار: " وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا " مخفف، وَفِي بعض الْقرَاءَات: " وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خالفوا ". وَاعْلَم أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة هم الَّذين أنزل الله فِي شَأْنهمْ قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ مرجون لأمر الله} وَأما أَسمَاؤُهُم: كَعْب بن مَالك، وهلال بن أُميَّة، ومرارة بن

{بِمَا رَحبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم} الرّبيع، وَكَانُوا مُؤمنين مُخلصين تخلفوا بِغَيْر عذر، فَلَمَّا قدم النَّبِي الْمَدِينَة قَافِلًا من غَزْوَة تَبُوك، حَضَرُوا وأقروا عِنْده بالذنب، وَأَنه لم يكن لَهُم عذر، فَأخر أَمرهم وَلم يسْتَغْفر لَهُم، وَنهى الْمُسلمين عَن مخالطتهم ومكالمتهم. وَفِي الْآيَة قصَّة طَوِيلَة مَذْكُورَة فِي " الصَّحِيحَيْنِ "؛ فَروِيَ أَنهم مَكَثُوا على ذَلِك أَرْبَعِينَ لَيْلَة، ثمَّ إِن رَسُول الله أَمرهم أَن يعتزلوا نِسَاءَهُمْ إِلَى تَتِمَّة خمسين لَيْلَة، وَكَانُوا يسلمُونَ على أَصْحَاب رَسُول الله فَلَا يردون عَلَيْهِم السَّلَام. قَالَ كَعْب بن مَالك: فَكنت أَدخل الْمَسْجِد وأصلي وَأنْظر هَل ينظر إِلَيّ رَسُول الله فَكنت إِذا نظرت إِلَيْهِ صرف عني بَصَره، قَالَ: فَاقْتَحَمت يَوْمًا على أبي قَتَادَة حَائِطه - وَكَانَ ابْن عمي - فَسلمت عَلَيْهِ فَلم يرد عَليّ الْجَواب، فَقلت لَهُ: يَا ابْن عمي، أتعلم أَنِّي أحب الله وَرَسُوله؟ فَسكت عني، فَرددت الْكَلَام ثَلَاثًا، فَقَالَ فِي الثَّالِثَة: الله وَرَسُوله أعلم، قَالَ: فَبَكَيْت بكاء شَدِيدا وَخرجت، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ تَتِمَّة خمسين لَيْلَة من يَوْم نهى رَسُول الله عَن كلامنا، كنت على ظهر بَيْتِي وَقد صليت الصُّبْح، وَأَنا كَمَا ذكر الله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ} أَي: برحبها وسعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم} أَي: من جفوة الْقَوْم وغلظة رَسُول الله عَلَيْهِم، إِذْ سَمِعت مناديا يُنَادي على ذرْوَة سلع - والسلع: الْجَبَل -: أبشر يَا كَعْب بن مَالك، قَالَ: فَخَرَرْت لله سَاجِدا، وَجَاء البشير فأعطيته ثوبي ولبست ثَوْبَيْنِ غَيرهمَا، وأتيت رَسُول الله وَجَلَست بَين يَدَيْهِ وَوَجهه يَسْتَنِير كاستنارة الْقَمَر، فَقَالَ: أبشر يَا كَعْب بن مَالك بِخَير يَوْم مر عَلَيْك مُنْذُ أسلمت فَقلت: يَا رَسُول الله، أَمن عنْدك أم من عِنْد الله؟ فَقَالَ: لَا، بل من عِنْد الله وَقَرَأَ على الْآيَة، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِن من تَوْبَتِي أَن أَخْلَع من (جَمِيع) مَالِي صَدَقَة لله وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ: أمسك عَلَيْك بعض مَالك؛ فَهُوَ خير لَك " الْقِصَّة إِلَى آخرهَا.

{وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا إِن الله هُوَ التواب الرَّحِيم (118) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين (119) مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم} وَقَوله تَعَالَى: {وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله إِلَّا إِلَيْهِ} مَعْنَاهُ: وظنوا: تيقنوا أَن لَا مفزع وَلَا منجا من الله إِلَّا إِلَيْهِ. وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم ليتوبوا} يَعْنِي: ليستقيموا على التَّوْبَة ويثبتوا عَلَيْهَا، فَإِن تَوْبَتهمْ قد سبقت {إِن الله هُوَ التواب الرَّحِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى.

119

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين} قَالَ الضَّحَّاك: مَعَ مُحَمَّد وَأَصْحَابه. وَرُوِيَ عَن بَعضهم أَنه قَالَ: مَعَ الصَّادِقين أَي: مَعَ أبي بكر وَعمر. وَعَن بَعضهم: مَعَ الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة. وَقَالَ بَعضهم: إِن الصَّادِقين هَاهُنَا الثَّلَاثَة الَّذين سبق ذكرهم؛ فَإِنَّهُم صدقُوا النَّبِي بالاعتراف بالذنب، وَلم يعتذروا بالأعذار الكاذبة مثل الْمُنَافِقين. فَروِيَ عَن كَعْب بن مَالك قَالَ: مَا أبلاني الله ببلاء أعظم عِنْدِي من صدقي رَسُول الله فَإِنَّهُ من شكري عَلَيْهَا أَن لَا أكذب أبدا. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا يصلح الْكَذِب فِي جد وَلَا هزل، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة. وَيُقَال: إِن فِي قِرَاءَته: " وَكُونُوا من الصَّادِقين ".

120

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لأهل الْمَدِينَة وَمن حَولهمْ من الْأَعْرَاب أَن يتخلفوا عَن رَسُول الله} الْآيَة، مَعْنَاهَا: هُوَ النَّهْي عَن التَّخَلُّف. وَقَوله: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم عَن نَفسه} مَعْنَاهُ: مَا كَانَ لَهُم أَن يختاروا الْخَفْض والدعة، ويتركوا رَسُول الله فِي شدَّة السّفر ومقساة التَّعَب. ثمَّ قَالَ: {ذَلِك بِأَنَّهُم لَا يصيبهم ظمأ} الظمأ: الْعَطش {وَلَا نصب} النصب: التَّعَب {وَلَا مَخْمَصَة} وَهِي المجاعة {فِي سَبِيل الله} فِي الْجِهَاد. وَقَوله: {وَلَا يطئون موطئا} يَعْنِي: لَا يَضعن قدما {يغِيظ الْكفَّار} أَي: يغضبهم {وَلَا ينالون من عَدو نيلا} يَعْنِي: لَا يصيبون مِنْهُم شَيْئا فِي نفس أَو مَال {إِلَّا كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.

{عَن نَفسه ذَلِك بِأَنَّهُم لَا يصيبهم ظمأ وَلَا نصب وَلَا مَخْمَصَة فِي سَبِيل الله وَلَا يطئون موطئا يغِيظ الْكفَّار وَلَا ينالون من عَدو نيلا إِلَّا كتب لَهُم بِهِ عمل صَالح إِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفقُونَ نَفَقَة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة وَلَا يقطعون وَاديا إِلَّا كتب لَهُم لِيَجْزِيَهُم الله أحسن مَا كَانُوا يعْملُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ}

121

ثمَّ قَالَ: {وَلَا يُنْفقُونَ نَفَقَة صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة} يَعْنِي: قَلِيلا وَلَا كثيرا، قيل فِي التَّفْسِير: حَتَّى التمرة {وَلَا يقطعون وَاديا} أَي: لَا يعبرون وَاديا مُقْبِلين ومدبرين {إِلَّا كتب لَهُم} أَي: أثيبوا على ذَلِك {لِيَجْزِيَهُم الله أحسن مَا كَانُوا يعْملُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

122

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة} الْآيَة، وفيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: " أَن النَّبِي كَانَ يبْعَث بالسرايا بعد غَزْوَة تَبُوك، فَكَانَ النَّاس يخرجُون جَمِيعهم لعظم مَا أَصَابَهُم من التعيير والملامة فِي التَّخَلُّف، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". قَالَ قَتَادَة: هَذَا فِي السَّرَايَا، فَأَما إِذا خرج الرَّسُول بِنَفسِهِ فَعَلَيْهِم أَن يخرجُوا جَمِيعًا مَعَه. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن النَّبِي كَمَا دَعَا على مُضر، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَل سنيهم كَسِنِي يُوسُف، قَالَ: فَأَصَابَهُمْ قحط شَدِيد وجدب، فَجعلت الْقَبِيلَة تقبل إِلَى الْمَدِينَة بأجمعهم وَيَقُولُونَ: أسلمنَا، فَكَانُوا يضيقون على أهل الْمَدِينَة مَنَازِلهمْ ويلوثون الطرقات، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فردهم رَسُول الله إِلَى قبائلهم ". وَقَوله: {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة} مَعْنَاهُ: هلا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة، فعلى الأول معنى الْآيَة: هُوَ النَّهْي عَن ترك رَسُول الله وَحده. وَقَوله: {ليتفقهوا فِي الدّين} يَعْنِي: ليحضروا نزُول الْقُرْآن وَبَيَان السّنَن {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} مَعْنَاهُ: ليعلموا السّريَّة إِذا رجعُوا إِلَيْهِم مَا نزل من الْقُرْآن وَالسّنَن. وعَلى القَوْل الثَّانِي معنى الْآيَة: مَا كَانَ لأهل الْقَبَائِل أَن ينفروا جَمِيعًا إِلَى الْمَدِينَة

{لينفروا كَافَّة فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون (122) } ويتركوا مواضعهم؛ وَلَكِن لينفر من كل فرقة طَائِفَة أَي: من كل قَبيلَة طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ وليعلموا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم {لَعَلَّهُم يحذرون} . وَأما الطَّائِفَة: فَهُوَ اسْم لثَلَاثَة فَمَا زَاد، وَقد ورد فِي الْقُرْآن ذكر الطَّائِفَة، وَالْمرَاد مِنْهُ: الْوَاحِد، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن نعف عَن طَائِفَة مِنْهُم} من قبل. وَاسْتدلَّ أهل الْأُصُول بِهَذِهِ على وجوب قبُول خبر الْوَاحِد، وَالْمَسْأَلَة فِي الْأُصُول (كَبِيرَة) . وَأما الْفِقْه فَهُوَ فِي اللُّغَة: عبارَة عَن الْفَهم، وَفِي الشَّرْع: عبارَة عَن علم مَخْصُوص وَهُوَ علم الْأَحْكَام. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين ". وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " النَّاس معادن، فخيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام إِذا فقهوا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أفضل الْعِبَادَة: الْفِقْه، ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد ". وَعَن الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: طلب

{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قَاتلُوا الَّذين يلونكم من الْكفَّار وليجدوا فِيكُم غلظة وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون (124) وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125) أَولا يرَوْنَ أَنهم يفتنون فِي} الْعلم أفضل من صَلَاة النَّافِلَة.

123

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قَاتلُوا الَّذين يلونكم من الْكفَّار} يَعْنِي: يقربون مِنْكُم. وَعَن عمر: هم الديلم، وَعَن غَيره: هم الرّوم {وليجدوا فِيكُم غلظة} قَالَ ابْن عَبَّاس: شجاعة. وَقَالَ الْحسن: صبرا على الْحَرْب {وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} ظَاهر.

124

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا} هَذَا فِي الْمُنَافِقين الَّذين كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا القَوْل استهزاء، فَقَالَ الله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون} وهم يفرحون.

125

ثمَّ قَالَ: {وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض} أَي: شكّ ونفاق {فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون} أَي: كفر إِلَى كفرهم. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يزِيد إِنْزَال السُّورَة لَهُم كفرا؟ الْجَواب: أَنهم كَانُوا يكفرون بِكُل سُورَة أنزلهَا الله تَعَالَى، فَلَمَّا كفرُوا عِنْد إِنْزَال السُّورَة نسب كفرهم إِلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا تَقول الْعَرَب: كفى بالسلامة دَاء؛ لِأَن الدَّاء يكون عِنْد طول السَّلامَة، قَالَ الشَّاعِر: (أرى بَصرِي قد رَابَنِي بعد صِحَة ... وحسبك دَاء أَن تصح وتسلما)

126

وَقَوله تَعَالَى: {أَو لَا يرَوْنَ أَنهم يفتنون فِي كل عَام مرّة أَو مرَّتَيْنِ} مَعْنَاهُ: يبتلون فِي كل عَام بالأمراض والشدائد، وَقيل: بِالْجِهَادِ مَعَ الْأَعْدَاء {ثمَّ لَا يتوبون} لَا يرجعُونَ إِلَى الله {وَلَا هم يذكرُونَ} وَلَا هم يتعظون.

127

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة نظر بَعضهم إِلَى بعض} الْآيَة، كَانَ المُنَافِقُونَ إِذا نزلت السُّورَة أَو شَيْء من الْقُرْآن يُومِئ بَعضهم إِلَى بعض، وَيَخَافُونَ مَعَ ذَلِك أَن

{كل عَام مرّة أَو مرَّتَيْنِ ثمَّ لَا يتوبون وَلَا هم يذكرُونَ (126) وَإِذا مَا أنزلت سُورَة نظر بَعضهم إِلَى بعض هَل يراكم من أحد ثمَّ انصرفوا صرف الله قُلُوبهم بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ (127) لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص} يراهم الْمُؤْمِنُونَ، فَهَذَا معنى قَوْله: {هَل يراكم من أحد} ثمَّ قَالَ: {ثمَّ انصرفوا} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: انصرفوا عَن مواضعهم، وَالْآخر: انصرفوا عَن الْإِيمَان، أَي: لم يُؤمنُوا وَلم يقبلُوا. وَقَوله: {صرف الله قُلُوبهم} قَالَ أَبُو إِسْحَاق الزّجاج: أضلهم الله مجازاة على كفرهم {بِأَنَّهُم قوم يفقهُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.

128

قَوْله تَعَالَى: {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} قرىء فِي الشاذ: من أَنفسكُم، وَيُقَال: إِن هَذِه الْقِرَاءَة قِرَاءَة فاطمه - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ: طلبت هَذَا الْحَرْف خمسين سنة فَلم أجد لَهُ رَاوِيا. وَمعنى هَذَا: أشرفكم وأفضلكم. وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: {من أَنفسكُم} قَالَ قتاده: وَمَعْنَاهُ: إِن نسبه مَعْرُوف بَيْنكُم وَالْقَوْل الثَّانِي: حكى عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: {من أَنفسكُم} مَعْنَاهُ: أَنه لم يُولد إِلَّا من نِكَاح صَحِيح إِلَى زمَان آدم. وَالْقَوْل الثَّالِث: حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ بطن من بطُون الْعَرَب إِلَّا وَقد ولدت النَّبِي. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن معنى هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ} وَإِذا كَانَ الرَّسُول بشرا مثل الْقَوْم؛ فَيكون أقرب للألفة وَأدنى لفهم الحجه. وَقَوله: {عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم} أَي: شَدِيد عَلَيْهِ عنتكم، والعنت: هُوَ الْمَكْرُوه ولقاء الشده، كانه قَالَ: شَدِيد عَلَيْهِ مَا يضركم ويهلككم، وَهُوَ الْكفْر الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ. وَقَوله تَعَالَى: {حَرِيص عَلَيْكُم} الْحِرْص: شدَّة طلب الشىء، وَمَعْنَاهُ: حَرِيص

{عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم (128) فَإِن توَلّوا فَقل حسبي الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم (129) } على إيمَانكُمْ {بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم} عطوف رَفِيق. وَقد أعطَاهُ الله تَعَالَى فِي هَذِه الآيه اسْمَيْنِ من أَسْمَائِهِ، وَهُوَ فِي نِهَايَة الكرامه.

129

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توَلّوا} مَعْنَاهُ: فَإِن أَعرضُوا عَن الْإِيمَان أَو عَنْك {فَقل حسبي الله} كَافِي الله أَي: يَكْفِينِي الله {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت} عَلَيْهِ اعتمدت وَبِه وثقت {وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم} قَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " رب الْعَرْش الْعَظِيم " بِالرَّفْع، فَرجع إِلَى الله تَعَالَى، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة بِالْكَسْرِ، وَهُوَ يرجع إِلَى الْعَرْش. وَعَن بعض التَّابِعين: لَا يعرف أحد قدر الْعَرْش سوى الله تَعَالَى. وفى بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْعَرْش من ياقوتة حَمْرَاء ". وَعَن وهب بن مُنَبّه: أَن الله تَعَالَى خلق الْعَرْش من نوره. وَعَن كَعْب الْأَخْبَار: أَن السَّمَوَات فِي الْعَرْش كقنديل مُعَلّق من السَّمَاء. وَعَن مُجَاهِد: أَن السَّمَوَات فِي الْعَرْش كحلقة. وَحكى عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ: هما أحدث الْآيَات بِاللَّه عهدا. فعلى قَوْله: هَاتَانِ الْآيَتَانِ آخر مَا أنزل من الْقُرْآن. وَهُوَ رِوَايَة أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس وَقد ذكرنَا غير هَذَا بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {آلر تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم (1) أَكَانَ للنَّاس عجبا} تَفْسِير سُورَة يُونُس وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك} إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث. وَحكى عَن مُحَمَّد بن سِيرِين أَنه قَالَ: هَذِه السُّورَة كَانَت بعد السُّورَة السَّابِقَة.

يونس

قَوْله تَعَالَى {آلر} روى أَبُو الضُّحَى عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: {آلر} أَنا الله أرى. وروى عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الر، وحم، وَنون هُوَ تَمام اسْم الرَّحْمَن. وَفِي الْحُرُوف المهجيات أَقْوَال ذَكرنَاهَا فِي أول سُورَة الْبَقَرَة. وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْكتاب} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ: هَذِه آيَات الْكتاب. قَالَ الشَّاعِر: (تِلْكَ خيلي مِنْهُ وَتلك ركابي ... هن صفر أَوْلَادهَا كالزبيب) وَقَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: وَهُوَ أَن الْآيَات الَّتِي أنزلتها عَلَيْك من قبل {تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم} وَالْكتاب: هُوَ الْقُرْآن، والحكيم: هُوَ الْمُحكم، على قَول أَكثر الْمُفَسّرين، فعيل بِمَعْنى مفعل، مثل قَوْله: {هَذَا مَا لَدَى عتيد} أَي: مُعْتَد. وَقَالَ بَعضهم: الْحَكِيم على وَضعه، وسمى الْقُرْآن حكيما؛ لِأَنَّهُ كالناطق بالحكمة.

2

قَوْله تَعَالَى: {أَكَانَ للنَّاس عجبا} الْعجب: حَالَة تعتري الْإِنْسَان من رُؤْيَة شَيْء على خلاف الْعَادة. وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة: أَن الله تَعَالَى لما بعث مُحَمَّدًا قَالَ الْمُشْركُونَ: أما وجد

{أَن أَوْحَينَا إِلَى رجل مِنْهُم أَن أنذر النَّاس وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لساحر مُبين (2) } الله نَبيا سوى يَتِيم أَبى طَالب، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وهى قَوْله: {أَكَانَ للنَّاس عجبا} وَمَعْنَاهُ: أعجب النَّاس، يعْنى: الْمُشْركين {أَن أَوْحَينَا إِلَى رجل مِنْهُم} وَالرجل هَا هُنَا: النَّبِي، وَقَوله: {مِنْهُم} قَالُوا: مَعْنَاهُ: إِنَّه رجل يعرفونه باسمه وَنسبه، لَا يكْتب، وَلَا يشْعر، وَلَا يتكهن، ولايكذب. وَقَوله: {أَن أنذر النَّاس} الْإِنْذَار: هُوَ الْإِعْلَام مَعَ التخويف. وَقَوله: {وَبشر الَّذين آمنُوا} قد بَينا معنى الْبشَارَة. وَقَوله: {أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: القَوْل الأول - وَهَذَا قَول الْأَكْثَرين - أَن الْقدَم الصدْق: هُوَ الْأَعْمَال الصَّالِحَة، يُقَال: لفُلَان قدم فِي الشجَاعَة، وَقدم فى الْعلم، وَيُقَال: فلَان وضع قدمه فى كَذَا، إِذا شرع فِيهِ بِعَمَلِهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْقدَم الصدْق: هُوَ الثَّوَاب. وَالْقَوْل الثَّالِث: حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْقدَم الصدْق: هُوَ السَّعَادَة فِي الذّكر الأول. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن المُرَاد مِنْهُ: هُوَ الرَّسُول، وَقدم صدق: شَفِيع صدق، قَالَه مقَاتل بن حَيَّان. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِن هَذَا لساحر مُبين} وقرىء بقراءتين: " لساحر مُبين "، و " إِن هَذَا لسحر مُبين "؛ فالساحر ينْصَرف إِلَى الرَّسُول، وَالسحر ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن.

{إِن ربكُم الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يدبر الْأَمر مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه ذَلِكُم الله ربكُم فاعبدوه أَفلا تذكرُونَ (3) إِلَيْهِ مرجعكم جَمِيعًا وعد الله حَقًا إِنَّه يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا}

3

قَوْله تَعَالَى: {إِن ربكُم الله الذى خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} فِي الْأَيَّام قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا كأيام الْآخِرَة، كل يَوْم ألف سنة. وَالْآخر أَنَّهَا كأيام الدُّنْيَا. قَوْله {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} قد بيينا مَذْهَب أهل السّنة فِي الاسْتوَاء؛ وَهُوَ أَنه نؤمن بِهِ وَنكل علمه إِلَى الله تَعَالَى من غير تَأْوِيل وَلَا تَفْسِير. وَأما الْمُعْتَزلَة: فَإِنَّهُم أولُوا الاسْتوَاء بِالِاسْتِيلَاءِ، وَهُوَ بَاطِل عِنْد أهل الْعَرَبيَّة. حكى عَن أَحْمد بن أبي دَاوُد - وَكَانَ من رُؤَسَاء الْمُعْتَزلَة - أَنه قَالَ لِابْنِ الْأَعرَابِي: أتعرف الْعَرَب الاسْتوَاء؟ بِمَعْنى الإستيلاء فَقَالَ. لَا. ويحكى أَن هَذِه الْمَسْأَلَة جرت فِي مجْلِس الْمَأْمُون، فَقَالَ بشر المريسي: الاسْتوَاء بِمَعْنى الِاسْتِيلَاء، فَقَالَ لَهُ أَبُو السمراء - وَهُوَ رجل من أهل اللُّغَة - اخطأت يَا شيخ؛ فَإِن الْعَرَب لَا تعرف الِاسْتِيلَاء إِلَّا بعد عجز سَابق. قَوْله تَعَالَى {يدبر الْأَمر} قَالَ مُجَاهِد: يقْضِي الْأَمر {مَا من شَفِيع إِلَّا من بعد إِذْنه} مَعْنَاهُ: أَن الشفعاء لَا يشفعون إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهَذَا رد على النَّضر بن الْحَارِث، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يشفعني اللات والعزى. قَوْله تَعَالَى {ذَلِكُم الله ربكُم} يعْنى: ذَلِك الَّذِي فعله هَذَا ربكُم {فاعبدوه أَفلا تذكرُونَ} أَفلا تتعظون.

4

قَوْله تَعَالَى {إِلَيْهِ مرجعكم جَمِيعًا وعد الله حَقًا} نصب وعد الله حَقًا يعْنى: وعد الله وَعدا حَقًا {إِنَّه يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم {ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: بِالْعَدْلِ {وَالَّذين كفرُوا لَهُم شراب من حميم} الْحَمِيم هُوَ المَاء الَّذِي انْتهى حره. وَفِي الْقَصَص: أَن النَّار أوقدت عَلَيْهِ مُنْذُ يَوْم خلقهَا إِلَى أَن يدْخل الْكفَّار [فِي] (1) النَّار. قَوْله: {وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا

{الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ وَالَّذين كفرُوا لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون (4) هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا وَقدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ يفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ (5) إِن فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا خلق الله فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لآيَات لقوم يَتَّقُونَ (6) إِن الَّذين لَا يرجون لقاءنا وَرَضوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطمأنوا بهَا وَالَّذين هم عَن أياتنا غافلون} أَي: عَذَاب موجع بكفرهم.

5

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل الشَّمْس ضِيَاء وَالْقَمَر نورا} الْآيَة، الشَّمْس وَالْقَمَر جسمان نيران، أَحدهمَا أَضْوَأ من الآخر، وَقَوله: {جعل الشَّمْس ضِيَاء} أَي: ذَات ضِيَاء {وَالْقَمَر نورا} أَي: ذَا نور. وَقَوله: {وَقدره منَازِل} مِنْهُم من قَالَ: هَذَا ينْصَرف إِلَى الْقَمَر خَاصَّة، وَمِنْهُم من قَالَ: ينْصَرف إِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنه اكْتفى بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر. ومنازل الْقَمَر ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا، أساميها مَعْلُومَة عِنْد الْعَرَب، تكون أَرْبَعَة عشر مِنْهَا ظَاهِرَة أبدا، وَأَرْبَعَة عشر مِنْهَا غَائِبَة أبدا، وَكلما طلع وَاحِد غَابَ وَاحِد، وَالْقَمَر ينزل كل لَيْلَة منزلا مِنْهَا. وَقَوله تَعَالَى: {لِتَعْلَمُوا عدد السنين والحساب} يَعْنِي: قدره منَازِل لِتَعْلَمُوا عدد السنين وحساب الشُّهُور وَالْأَيَّام. وَقَوله: {مَا خلق الله ذَلِك إِلَّا بِالْحَقِّ} أَي: للحق. قَوْله: {يفصل الْآيَات لقوم يعلمُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.

6

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} مَعْنَاهُ مَعْلُوم إِلَى آخر الْآيَة، وَقد ذكرنَا من قبل.

7

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين لَا يرجون لقاءنا} قَوْله: " لَا يرجون " فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يخَافُونَ، وَالْآخر: لَا يطمعون. وَقَوله: {لقاءنا} قد بَينا من قبل. وَقَوله تَعَالَى: {وَرَضوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَالَ قَتَادَة: لَهَا يطْلبُونَ وَبهَا يفرحون. وَقَوله تَعَالَى: {واطمأنوا بهَا} سكنوا إِلَيْهَا. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هم عَن آيَاتنَا غافلون} الْغَفْلَة سَهْو يعتري الْقلب يصرفهُ عَن وجد

( {7) أُولَئِكَ مأواهم النَّار بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات يهْدِيهم رَبهم بإيمَانهمْ تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار فِي جنَّات النَّعيم (9) دَعوَاهُم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتحيتهم فِيهَا سَلام وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين (10) الْعلم.

8

ثمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ مأواهم النَّار بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

9

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات يهْدِيهم رَبهم بإيمَانهمْ} قَالَ مُجَاهِد: هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {نورا يمشي بِهِ} . وَقَالَ غَيره: يهْدِيهم رَبهم: يرشدهم رَبهم بإيمَانهمْ إِلَى الْجنَّة {تجْرِي من تَحْتهم الْأَنْهَار} أَي: من تَحت الْأَشْجَار. قَوْله: {فِي جنَّات النَّعيم} .

10

ثمَّ قَالَ: {دَعوَاهُم فِيهَا} مَعْنَاهُ: دعاؤهم فِيهَا {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} هَذَا كلمة تَنْزِيه وتبرئة الرب عَن السوء. وَفِي الْأَخْبَار: " أَن قَوْله: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} عَلامَة بَين أهل الْجنَّة والخدم، وَإِذا أَرَادوا الطَّعَام قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، فَيدْخل الخدم بالموائد، كل مائدة ميل فِي ميل، قَوَائِمهَا من اللُّؤْلُؤ، على كل مائدة سَبْعُونَ ألف صَحْفَة، فِي كل صَحْفَة لون من الطَّعَام لَا يشبه بعضه بَعْضًا، ثمَّ تجىء الطير كأمثال البخت، قَوَائِمهَا لون، وأجنحتها لون، وبطونها وظهورها لون، فَيَقَع بَين أيدى أهل الْجنَّة فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا مَا يشاءون، ثمَّ تطير كَمَا كَانَت ". وَقَوله تَعَالَى: {وتحيتهم فِيهَا سَلام} يعْنى: تَحِيَّة بَعضهم بَعْضًا يكون بِالسَّلَامِ، وَيُقَال مَعْنَاهُ: إِن تَحِيَّة الْمَلَائِكَة لَهُم بِالسَّلَامِ، وَيُقَال: إِن تَحِيَّة الله لَهُم بِالسَّلَامِ. قَوْله تَعَالَى: {وَآخر دَعوَاهُم} مَعْنَاهُ: وَآخر قَوْلهم: {أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} فَيكون ابْتِدَاء أَمرهم بالتسبيح، وانتهاء أَمرهم بِالْحَمْد وَالشُّكْر.

{يعجل الله للنَّاس الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ لقضي إِلَيْهِم أَجلهم فَنَذر الَّذين لَا يرجون لقاءنا فِي طغيانهم يعمهون (11) وَإِذا مس الْإِنْسَان الضّر دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو}

11

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ استعجالهم بِالْخَيرِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي قَول الرجل يَقُول عِنْد الْغَضَب لأَهله وَولده: لعنكم الله، لَا بَارك الله فِيكُم، وَمَعْنَاهُ: وَلَو يعجل الله للنَّاس الشَّرّ - يعْنى: الْمَكْرُوه - استعجالهم بِالْخَيرِ أَي: كَمَا يحبونَ استعجالهم بِالْخَيرِ {لقضى إِلَيْهِم أَجلهم} فهلكوا جَمِيعًا وماتوا. وَقَوله: {فَنَذر الَّذين لَا يرجون لقاءنا} أَي: لَا يخَافُونَ لقاءنا {فِي طغيانهم} أَي: فِي ضلالتهم. قَوْله {يعمهون} يَتَرَدَّدُونَ، وَقيل: يتمادون، وَقد ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي بشر أغضب كَمَا يغْضب الْبشر، فأيما [رجل] سببته أولعنته فاجعلها لَهُ طهرة وَرَحْمَة ". وَفِي الْبَاب رِوَايَات كَثِيرَة كلهَا صَحِيحَة.

12

قَوْله تَعَالَى {وَإِذا مس الْإِنْسَان الضّر} أَي: الْمَكْرُوه {دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا يحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا: إِذا مس الْإِنْسَان الضّر لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما دَعَانَا. وَالْآخر: يحْتَمل إِذا مس الْإِنْسَان الضّر دَعَانَا لجنبه أَو قَاعِدا أَو قَائِما، يَعْنِي: على هَذِه الْأَحْوَال كلهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا كشفنا عَنهُ ضره مر} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: مر طاغيا كَمَا كَانَ من قبل، وَالْآخر: اسْتمرّ على مَا كَانَ من قبل. قَالَ بَعضهم فِي هَذَا الْمَعْنى: (كَأَن الْفَتى لم يعر يَوْمًا إِذا اكتسى ... وَلم تَكُ صعلوكا إِذا مَا تمولا) قَوْله تَعَالَى: {كَأَن لم يدعنا إِلَى ضرّ مَسّه} مَعْنَاهُ: كَأَن لم يطْلب منا كشف ضرمسه. قَوْله {كَذَلِك زين للمسرفين} قَالَ ابْن جريج: كَذَلِك زين للمسرفين {مَا

{قَائِما فَلَمَّا كشفنا عَنهُ ضره مر كَأَن لم يدعنا إِلَى ضرّ مَسّه كَذَلِك زين للمسرفين مَا كَانُوا يعْملُونَ (12) وَلَقَد أهلكنا الْقُرُون من قبلكُمْ لما ظلمُوا وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا ليؤمنوا كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين (13) ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من} كَانُوا يعْملُونَ) من الدُّعَاء عِنْد الْبلَاء، وَترك الشُّكْر عِنْد الرخَاء. وَفِيه معنى آخر: وَهُوَ أَنه كَمَا زين لكم أَعمالكُم، كَذَلِك زين للمسرفين الَّذين كَانُوا من قبلكُمْ أَعْمَالهم.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أهلكنا الْقُرُون من قبلكُمْ لما ظلمُوا وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {وَمَا كَانُوا ليؤمنوا} قَالَ الزّجاج: هَذَا فِي قوم علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَنعهم الله من الْإِيمَان جَزَاء على كفرهم. قَوْله: {كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين} وَهَذَا دَلِيل على أَن قَول ابْن الْأَنْبَارِي أصح.

14

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائف فِي الأَرْض من بعدهمْ} يَعْنِي: خلفاء فِي الأَرْض من بعدهمْ {لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ} وَمَعْنَاهُ: ليختبركم فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ. رُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: يَا ابْن أم عمر، لقد اسْتخْلفت، فَانْظُر كَيفَ تعْمل. وَرُوِيَ أَنه قَالَ فِي موعظته: أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِن الله استخلفكم لينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ، فأروا الله أَعمالكُم الْحَسَنَة، وَكفوا عَن الْأَعْمَال القبيحة.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله} رُوِيَ فِي التفاسير أَن الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: يَا مُحَمَّد، إِن كنت تُرِيدُ أَن نؤمن لَك فأت بقرآن لَيْسَ فِيهِ سبّ آلِهَتنَا، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْبَعْث والنشور وَإِن لم ينزله الله هَكَذَا، فقله من عِنْد نَفسك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش الْفرق بَين قَوْله: {ائْتِ بقرآن غير هَذَا} [وَقَوله] : {أَو بدله} أَلَيْسَ مَعْنَاهُمَا وَاحِد؟

{بعدهمْ لنَنْظُر كَيفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هَذَا أَو بدله قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم (15) قل لَو شَاءَ الله مَا تلوته عَلَيْكُم وَلَا أدراكم بِهِ فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله أَفلا تعقلون (16) فَمن أظلم مِمَّن} الْجَواب: أَن مَعْنَاهُمَا مُخْتَلف، وَقَوله: {ائْتِ بقرآن غير هَذَا} يجوز أَن يَأْتِي بِغَيْرِهِ مَعَه، وَقَوله: {أَو بدله} لَا يكون إِلَّا أَن يتْرك هَذَا وَيَأْتِي بِغَيْرِهِ. قَوْله تَعَالَى: {قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لم أقل هَذَا من تِلْقَاء نَفسِي حَتَّى أَقُول غَيره من تِلْقَاء نَفسِي.

16

ثمَّ قَالَ: {قل لَو شَاءَ الله مَا تلوته عَلَيْكُم} يَعْنِي: لَو شَاءَ الله مَا أنزل الْقُرْآن عَليّ، {وَلَا أدراكم بِهِ} أَي: وَلَا أعلمكُم الله بِهِ {فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله} الْعُمر والعمر بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر: (بَان الشَّبَاب وأخلف الْعُمر ... وتنكر الإخوان والدهر) وَقدر الْعُمر الَّذِي لبث فيهم من قبله: هُوَ أَرْبَعُونَ سنة بِاتِّفَاق أهل الْعلم؛ فَإِن النَّبِي بعث إِلَيْهِم وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، ولبث بِمَكَّة ثَلَاث عشرَة سنة، وبالمدينة عشرا، وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة. وَفِي رِوَايَة عَن أنس " أَن النَّبِي مكث بِمَكَّة عشرا، وبالمدينة عشرا وتوفاه الله على رَأس سِتِّينَ سنة. وَالرِّوَايَة الأولى أظهر وَأشهر. قَوْله {أَفلا تعقلون} مَعْنَاهُ: أَفلا تفقهون.

17

قَوْله تَعَالَى: {فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح المجرمون} مَعْلُوم الْمَعْنى.

18

قَوْله تَعَالَى: {ويعبدون من دون الله مَا لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ} فَإِن قَالَ قَائِل:

{افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح المجرمون (17) ويعبدون من دون الله مَا لَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله قل أتنبئون الله بِمَا لَا يعلم فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاس} كَيفَ قَالَ: {وَلَا يضرهم} وَلَا شكّ أَنه ضرهم؟ الْجَواب عَنهُ مَعْنَاهُ: لَا يضرهم إِن تركُوا عِبَادَته، وَلَا يَنْفَعهُمْ إِن عبدوه. وَقَوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله وهم لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ؟ . الْجَواب: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شفعاؤنا عِنْد الله فِي مصَالح مَعَايِشنَا فِي الدُّنْيَا. وَقَوله تَعَالَى: {قل أتنبئون الله} أَي: أتخبرون الله؟ {بِمَا لَا يعلم فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَحَقِيقَة الْآيَة: الرَّد أَو الْإِنْكَار عَلَيْهِم.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ النَّاس إِلَّا أمة وَاحِدَة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قَول مُجَاهِد وَهُوَ: أَن النَّاس كَانُوا على الْإِسْلَام فِي زمَان آدم إِلَى أَن قتل أحد ابنيه الآخر {فَاخْتَلَفُوا} . وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْعَرَب كَانُوا على دين إِبْرَاهِيم حَتَّى اخْتلفُوا. وَمن الْمَعْرُوف أَن أول من غير دين إِبْرَاهِيم من الْعَرَب هُوَ عَمْرو بن لحي. وَثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت [عَمْرو] بن لحي يجر قصبه فِي النَّار ". وَيُقَال فِي الْآيَة: إِن المُرَاد من " الْأمة " أهل سفينة نوح عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} يَعْنِي: فِي التَّأْجِيل والإمهال {لقضى بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَي: لحكم بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

{إِلَّا أمة وَاحِدَة فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لقضي بَينهم فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه فَقل إِنَّمَا الْغَيْب لله فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (20) وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة من بعد ضراء مستهم إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا قل}

20

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه} فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ الرَّسُول قد أَتَى بِالْآيَاتِ على زعمكم؟ الْجَواب عَنهُ: بلَى، وَمعنى الْآيَة: هلا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه على مَا نقترحه. {فَقل إِنَّمَا الْغَيْب لله} يَعْنِي: علم الْغَيْب لله، إِن شَاءَ أَتَى بِالْآيَةِ الَّتِي تسألونها وَإِن شَاءَ لم يَأْتِ {فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين} يَعْنِي: انتظروا الْغَيْب إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين.

21

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة من بعد ضراء مستهم} الذَّوْق: تنَاول مَاله طعم بفمه ليجد طعمه، فَأَما الرَّحْمَة هَاهُنَا فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الْعَافِيَة، وَالْآخر: أَنَّهَا الخصب وَالنعْمَة. وَالضَّرَّاء فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الشدَّة، وَالْآخر: أَنَّهَا الجدب والقحط. {مستهم} أَي: أَصَابَتْهُم. وَقَوله تَعَالَى: {إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا} الْمَكْر: صرف الشَّيْء عَن وَجهه بطرِيق الْحِيلَة. قَالَ مُجَاهِد: {إِذا لَهُم مكر فِي آيَاتنَا} أَي: تَكْذِيب واستهزاء. وَقَوله تَعَالَى: {قل الله أسْرع مكرا} يَعْنِي: أَشد أخذا. وَيُقَال: مَعْنَاهُ: إِن مَا يَأْتِي من الْعَذَاب من قبله أسْرع فِي إهلاككم مِمَّا يَأْتِي مِنْكُم فِي دفع الْحق وتكذيبه. وَقَوله: {إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

22

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر} قُرِئت بقراءتين: " يسيركم " و " ينشركم "، وَالْمَعْرُوف: " يسيركم " وَمَعْنَاهُ: تسهيل طَرِيق السّير عَلَيْكُم فِي الْبر وَالْبَحْر. وَأما من قَرَأَ: " ينشركم " مَعْنَاهُ: يبثكم. وَرُوِيَ عَن الضَّحَّاك أَنه قَالَ: الْبَحْر هُوَ الْأَمْصَار، وَالْبر هُوَ الْبَوَادِي. وَقَوله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك} قَالَ أهل

{الله أسْرع مكرا إِن رسلنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يسيركم فِي الْبر وَالْبَحْر حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بهَا جاءتها ريح عاصف} اللُّغَة: الْفلك تؤنث وتذكر. قَالَ الله تَعَالَى: {فِي الْفلك المشحون} وَقَالَ هَاهُنَا: {وجرين بهم} وَقَالُوا أَيْضا: إِن الْفلك يكون بِمَعْنى الْوَاحِد وَبِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: {برِيح طيبَة} أَي: هينة لينَة. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الرّيح من روح الله، فسألوا الله من خَيرهَا، وتعوذوا بِاللَّه من شَرها ". فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم} فَهَذَا تَغْيِير الْكَلَام عَن وَجهه؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب تقيم المعاينة مقَام المخاطبة، والمخاطبة مقَام المعاينة، قَالَ الشَّاعِر: (وشطت مَزَار العاشقين فَأَصْبَحت ... عسيرا على طلابك ابْنة مخرم) وَمِنْهُم من قَالَ: معنى الْآيَة: حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة يَا مُحَمَّد. وَقَوله: {وفرحوا بهَا جاءتها ريح عاصف} وَهِي الشَّدِيدَة الْمهْلكَة، قَالَ الشَّاعِر: (فِي فيلق شهباء ملمومة ... تعصف بالحاسر والدارع) وَقَوله: {وجاءهم الموج من كل مَكَان} الموج: مَا يظْهر على الْبَحْر من الرّيح.

{وجاءهم الموج من كل مَكَان وظنوا أَنهم أحيط بهم دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ} وَقَوله: {وظنوا} وتيقنوا {أَنهم أحيط بهم} يُقَال لمن كَانَ فِي بلَاء وَشدَّة: إِنَّه قد أحيط بِهِ. وَقَوله: {دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} مَعْنَاهُ: أَنهم أَخْلصُوا فِي الدُّعَاء، وَلم يدعوا أحدا سوى الله. وَقَوله: {لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

23

ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أنجاهم إِذا هم يَبْغُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} الْبَغي: هُوَ قصد الاستعلاء على الْغَيْر بالظلم، وَالْبَغي هَا هُنَا بِمَعْنى الْفساد، وَيُقَال: بغي الْجرْح إِذا أدّى إِلَى الْفساد، وبغت الْمَرْأَة إِذا فجرت. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يُؤَخر الله صَاحب بغي " أَي: لَا يمهله. وَفِي الْأَخْبَار - أَيْضا -: " الْبَغي مصراعة ". ثمَّ قَالَ: {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم} أَي: وبال بَغْيكُمْ عَلَيْكُم. قَوْله {مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} وقرىء: " مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا "؛ فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع مَعْنَاهُ: هُوَ مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَمن قَرَأَ بِالنّصب مَعْنَاهُ: يمتعون مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا. وَعَن الْأَعْمَش قَالَ: الْمَتَاع: زَاد الرَّاكِب. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: حَقِيقَة معنى الْآيَة: أَن الْبَغي مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا.

{فَلَمَّا أنجاهم إِذا هم يَبْغُونَ فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ إِلَيْنَا مرجعكم فننبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء فاختلط بِهِ نَبَات الأَرْض مِمَّا يَأْكُل النَّاس والأنعام حَتَّى إِذا أخذت الأَرْض زخرفها وازينت بهَا وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون عَلَيْهَا} قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِلَيْنَا مرجعكم فننبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: نخبركم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ.

24

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا مثل الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَعْنَاهُ: إِنَّمَا صفة الْحَيَاة الدُّنْيَا {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من السَّمَاء} أَي: من السَّحَاب {فاختلط بِهِ نَبَات الأَرْض} يَعْنِي: اخْتَلَط الْمَطَر بالنبات، والنبات بالمطر {مِمَّا يَأْكُل النَّاس والأنعام} ظَاهر الْمَعْنى، وَقَوله: {حَتَّى إِذا أخذت الأَرْض زخرفها} الزخرف: كَمَال الْحسن، وَالذَّهَب زخرف؛ لكماله فِي الْحسن، وَمعنى الزخرف هَاهُنَا: الْبَهْجَة والنضرة. وَقَوله: {وازينت} أَي: تزينت، وَقَالُوا مَعْنَاهُ: أنبتت وأثمرت وأينعت. وَقَوله: {وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون عَلَيْهَا} مَعْنَاهُ: وَظن أَهلهَا أَنهم قادرون على جذاذها وقطافها وحصادها. وَقَوله: {أَتَاهَا أمرنَا لَيْلًا أَو نَهَارا} أَي: عذابنا لَيْلًا أَو نَهَارا. وَقَوله: {فجعلناها حصيدا} الحصيد: المحصود، وَالْمعْنَى هَا هُنَا: هُوَ الاستئصال بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {كَأَن لم تغن بالْأَمْس} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: كَأَن لم تعمر بالْأَمْس. وَقَالَ غَيره: كَأَن لم يكن قَائِما بالْأَمْس، يُقَال: غنى فلَان بِالْمَكَانِ إِذا قَامَ فِيهِ، والمغاني هِيَ الْمنَازل، قَالَ لبيد: (وَلَقَد سئمت من الْحَيَاة وطولها ... وسؤال هَذَا النَّاس كَيفَ لبيد) (وغنيت سبتا قبل مجْرى داحس ... لَو كَانَ للنَّفس اللجوج خُلُود) وَمعنى غنيت: أَقمت، والسبت: الدَّهْر هَاهُنَا. قَالَ قَتَادَة: معنى الْآيَة: هُوَ أَن المتشبث بالدنيا يَأْتِيهِ أَمر الله وعذابه أغفل مَا يكون وأعجب بهَا. وَقَوله {كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يتفكرون} ظَاهر الْمَعْنى.

{أَتَاهَا أمرنَا لَيْلًا أَو نَهَارا فجعلناها حصيدا كَأَن لم تغن بالْأَمْس}

25

قَوْله تَعَالَى {وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام} فِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من يَوْم تطلع فِيهِ الشَّمْس إِلَّا وبجنبتيها ملكان يسمعان الْخَلَائق إِلَّا الثقلَيْن: أَلا هلموا إِلَى ربكُم، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَالله يدعوا إِلَى دَار السَّلَام} . وَفِي الْآثَار - أَيْضا -: " أَنه مَا من يَوْم وَلَا ليل إِلَّا وينادى مُنَاد: يَا طَالب الْخَيْر هَلُمَّ، وَيَا طَالب الشَّرّ أقصر. وَأما دَار السَّلَام: فالدار هِيَ الْجنَّة، وَفِي السَّلَام قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه هُوَ الله. وَالْآخر: أَن السَّلَام بِمَعْنى السَّلامَة؛ كَأَنَّهُ قَالَ: يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام من الْآفَات. وروى أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر، عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَن على رَأْسِي جِبْرِيل، وَكَأن

{كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يتفكرون (24) وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (25) } على رجْلي مِيكَائِيل، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: اضْرِب لَهُ مثلا، فَقَالَ الآخر: مثلك يَا مُحَمَّد مثل ملك بنى دَارا ثمَّ بنى فِي دَار بَيْتا، ثمَّ وضع فِي الْبَيْت مأدبة، ثمَّ دَعَا إِلَيْهَا النَّاس، فَمنهمْ التارك وَمِنْهُم الْمُجيب، فالملك: هُوَ الله تَعَالَى، وَالدَّار: هُوَ الْإِسْلَام، وَالْبَيْت: الْجنَّة، والداعي: أَنْت، فَمن أجَاب دخل الْجنَّة، وَمن دخل الْجنَّة أكل مِنْهَا ". وَقَوله: {وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} الصِّرَاط الْمُسْتَقيم: هُوَ الْإِسْلَام، وَفِيه أَقْوَال أخر، ذَكرنَاهَا من قبل.

26

قَوْله تَعَالَى: {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة} الْإِحْسَان هَاهُنَا: الْإِسْلَام، وَالْإِحْسَان: هُوَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَاخْتلفُوا فِي الْحسنى وَزِيَادَة، فَروِيَ عَن أبي بكر الصّديق وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَابْن عَبَّاس، وَحُذَيْفَة، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: الْحسنى: هِيَ الْجنَّة، وَالزِّيَادَة: هِيَ النّظر إِلَى الله عز وَعلا. وروى أَبُو الْقَاسِم بن بنت منيع، عَن هدبة بن خَالِد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن صُهَيْب - رَضِي الله عَنْهُم - أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة قَالَ الله - تَعَالَى -: يَا أهل الْجنَّة، إِن لكم عِنْدِي موعدا وَأَنا منجزكموه، فَقَالُوا: وَمَا ذَلِك؟ ألم تبيض وُجُوهنَا؟ ألم تثقل موازيننا؟ ألم تُدْخِلنَا الْجنَّة وتخلصنا من النَّار؟ قَالَ: فيتجلى لَهُم فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجهه، فَمَا أعْطوا شَيْئا هُوَ أحب (إِلَيْهِم) من النّظر إِلَيْهِ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة} ".

{للَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى وَزِيَادَة} قَالَ الإِمَام أَبُو المظفر: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد بن النقور بِالتَّخْفِيفِ بِبَغْدَاد قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن بنت منيع ... الْخَبَر خرجه مُسلم فِي " الصَّحِيح ". وَفِي الْآيَة أَقْوَال آخر. وروى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: الزِّيَادَة: غرفَة من اللُّؤْلُؤ لَهَا أَرْبَعَة آلَاف بَاب. وروى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْحسنى: هِيَ الْمثل من الثَّوَاب، وَالزِّيَادَة: هِيَ الزِّيَادَة على الْمثل إِلَى سَبْعمِائة ضعف. وَقَالَ مُجَاهِد: الْحسنى، هِيَ الْمثل، وَالزِّيَادَة: رضوَان الله تَعَالَى. قَوْله ا \ تَعَالَى: {وَلَا يرهق وُجُوههم قتر وَلَا ذلة} القتر: سَواد الْوَجْه، وأصل (القتار) : هُوَ الدُّخان. قَوْله: {وَلَا ذلة} أَي: هوان. قَوْله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كسبوا السَّيِّئَات جَزَاء سَيِّئَة بِمِثْلِهَا} الْآيَة، هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يَجْزِي إِلَّا مثلهَا} . قَوْله: { [و] ترهقهم ذلة} أَي: تغشاهم ذلة، أَي: ذل. {مَا لَهُم من الله من عَاصِم} أَي: مَانع. وَقَوله: {كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا} قُرِئت بقراءتين: " قطعا " و " قطعا "، فالقطع

{وَلَا يرهق وُجُوههم قتر وَلَا ذلة أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ (26) وَالَّذين كسبوا السَّيِّئَات جَزَاء سَيِّئَة بِمِثْلِهَا وترهقهم ذلة مَا لَهُم من الله من عَاصِم كَأَنَّمَا أغشيت وُجُوههم قطعا من اللَّيْل مظلما أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (27) وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا مَكَانكُمْ أَنْتُم وشركاؤكم فزيلنا بَينهم وَقَالَ} بتحريك الطَّاء - جمع الْقطعَة، وَالْقطع - بِسُكُون الطَّاء - وَاحِد. فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: " قطعا من اللَّيْل مظْلمَة "؟ قُلْنَا: تَقْدِير الْآيَة: قطعا من اللَّيْل فِي حَال ظلمته، هَكَذَا قَالَه أهل اللُّغَة. {أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} ظَاهر.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا مَكَانكُمْ أَنْتُم وشركاؤكم} الْآيَة. معنى الْآيَة: ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا: الزموا أَنْتُم وشركاؤكم مَكَانكُمْ. قَوْله: {فزيلنا بَينهم} مَعْنَاهُ: ميزنا بَينهم يَعْنِي: فرقنا بَين الْمُشْركين والأصنام؛ وَهُوَ من قَوْله: زلت، لَا من قَوْله: ذلت {وَقَالَ شركاؤكم مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ} الشُّرَكَاء: هِيَ الْأَصْنَام الَّتِي جعلوها شُرَكَاء لله تَعَالَى على زعمهم. وَقَوله: {مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ} مَعْنَاهُ: كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ بطلبنا ودعوتنا.

29

قَوْله تَعَالَى: {فَكفى بِاللَّه شَهِيدا بَيْننَا وَبَيْنكُم إِن كُنَّا عَن عبادتكم لغافلين} مَعْلُوم الْمَعْنى.

30

قَوْله تَعَالَى: {هُنَالك تبلو} الْآيَة، قُرِئت بقراءتين: " تتلو " و " تبلو " فَقَوله: " تبلو " قَالَ مُجَاهِد: تختبر، مَعْنَاهُ: تَجدهُ وتقف عَلَيْهِ، وَقَوله " تتلو " قَالَ الْأَخْفَش: يقْرَأ، فَيكون فِي معنى قَوْله: {يخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة} إِلَى قَوْله: {اقْرَأ كتابك كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبا} .

{شركاؤهم مَا كُنْتُم إيانا تَعْبدُونَ (28) فَكفى بِاللَّه شَهِيدا بَيْننَا وَبَيْنكُم إِن كُنَّا عَن عبادتكم لغافلين (29) هُنَالك تبلو كل نفس مَا أسلفت وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى " تتلو ": تتبع، قَالَ الشَّاعِر: (أرى الْمُرِيب يتبع المريبا ... كَمَا رَأَيْت الذيب يَتْلُوا الذيبا) قَوْله تَعَالَى: {كل نفس مَا أسلفت} أَي: مَا قدمت. قَوْله تَعَالَى: {وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} وَقَالَ هَاهُنَا: {وردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق} فَكيف وَجه الْآيَتَيْنِ؟ . الْجَواب عَنهُ: أَن الْمولى هُنَاكَ بِمَعْنى النَّاصِر والحافظ، وَالْمولى هَاهُنَا بِمَعْنى الْمَالِك، فَلم يكن بَين الْآيَتَيْنِ اخْتِلَاف. وَقَوله [تَعَالَى] {وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} أَي: فَاتَ عَنْهُم مَا كَانُوا يكذبُون.

31

قَوْله تَعَالَى: {قل من يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض} الرزق من السَّمَاء بالمطر، وَمن الأَرْض بالنبات. وَقَوله: {أم من يملك السّمع والأبصار} مَعْنَاهُ: وَمن أَعْطَاكُم الأسماع والأبصار. وَقَوله {وَمن يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} مَعْنَاهُ: وَمن يخرج النُّطْفَة من الْحَيّ، والحي من النُّطْفَة، والسنبلة من الْحبّ، وَالْحب من السنبلة، وَالْبيض من الطير وَالطير من الْبيض، وَالشَّجر من النواة، والنواة من الشّجر، وَالْمُؤمن من الْكَافِر، وَالْكَافِر من الْمُؤمن. وَقَوله {وَمن يدبر الْأَمر} وَمن يقْضِي الْأَمر. وَقَوله: {فسيقولون الله فَقل أَفلا تَتَّقُون} مَعْنَاهُ: أَفلا تَتَّقُون الشّرك مَعَ هَذَا الْإِقْرَار.

32

قَوْله تَعَالَى: {فذلكم الله ربكُم الْحق} مَعْنَاهُ: فذلكم الَّذِي صفته هَذَا هُوَ ربكُم الْحق. وَقَوله: {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} مَعْنَاهُ: فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الْبَاطِل.

{وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (30) قل من يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض أَمن يملك السّمع والأبصار وَمن يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وَمن يدبر الْأَمر فسيقولون الله فَقل أَفلا تَتَّقُون (31) فذلكم الله ربكُم الْحق فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال فَأنى تصرفون (32) } وَرُوِيَ عَن حَرْمَلَة أَنه قَالَ: سَأَلت (مَالك بن أنس) عَن الْغناء، فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال "} وَرُوِيَ عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد من التَّابِعين نَحوا من هَذَا فِي هَذَا الْمَعْنى. وَقَوله {فَأنى تصرفون} أَي: كَيفَ يعدل بكم عَن وَجه الْحق؟ .

33

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك حقت} أَي: وَجَبت {كلمة رَبك} أَي: حِكْمَة رَبك {على الَّذين فسقوا} أَي: كفرُوا {أَنهم لَا يُؤمنُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا فِي أَقوام بأعيانهم علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ.

34

قَوْله تَعَالَى: {قل هَل من شركائكم من يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} مَعْنَاهُ: ينشىء الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ. وَقَوله: {قل الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} مَعْنَاهُ: ينشىء الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ، وَمعنى الْإِعَادَة: هِيَ الْإِحْيَاء للبعث يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله {فَأنى تؤفكون} مَعْنَاهُ: فَكيف تصرفون؟ .

35

قَوْله تَعَالَى: {قل هَل من شركائكم من يهدي إِلَى الْحق قل الله يهدي للحق} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَقَوله: {أَفَمَن يهدي إِلَى الْحق أَحَق أَن يتبع أَمن لَا يهدي إِلَّا أَن يهدى} قُرِئت بقراءات كَثِيرَة قَالَ أهل الْعَرَبيَّة: أَصَحهَا: " أَمن لَا يهدي " أَو " يهدي " على وَجه الْإِدْغَام؛ لِأَن مَعْنَاهُ: يَهْتَدِي. ثمَّ قَالَ: {إِلَّا أَن يهدى} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {إِلَّا أَن يهدى} والأصنام لَا يتَصَوَّر فِيهَا أَن تهدى وَلَا أَن تهتدي؟ الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن معنى الْهِدَايَة هَاهُنَا هِيَ النَّقْل، يعْنى: لَا ينْتَقل من مَكَان إِلَى مَكَان إِلَّا أَن ينْقل.

{كَذَلِك حقت كلمت رَبك على الَّذين فسقوا أَنهم لَا يُؤمنُونَ (33) قل هَل من شركائكم من يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ قل الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ فَأنى تؤفكون (34) قل هَل من شركائكم من يهدي إِلَى الْحق قل الله يهدي للحق أَفَمَن يهدي أَي الْحق أَحَق أَن يتبع أَمن لَا يهدي إِلَّا أَن يهدى فَمَا لكم كَيفَ تحكمون (35) وَمَا يتبع أَكْثَرهم إِلَّا ظنا إِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا إِن الله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ وتفصيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من} وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذَا مَذْكُور على وَجه الْمجَاز؛ فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَام أَنَّهَا تسمع وتعقل وتهدي، فَذكر ذَلِك فِي الْأَصْنَام على وفْق مَا يَعْتَقِدُونَ، وَجعلهَا بِمَنْزِلَة من يعقل فِي هَذَا الْخطاب، وَأثبت عجزها عَن الْهِدَايَة. قَوْله: {فَمَا لكم كَيفَ تحكمون} مَعْنَاهُ ظَاهر.

36

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يتبع أَكْثَرهم إِلَّا ظنا} الْآيَة، الظَّن: حَالَة بَين الشَّك وَالْيَقِين. وَقَوله: {وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} مَعْنَاهُ: إِن الظَّن لَا يقوم مقَام الْحق بِحَال. وَقَوله: {إِن الله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ} مَعْنَاهُ ظَاهر.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله} الْآيَة، وَفِيه وَجْهَان من الْمَعْنى: أَحدهمَا: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن افتراء من دون الله. وَالْوَجْه الثَّانِي: وَمَا يَنْبَغِي لمثل هَذَا الْقُرْآن أَن يفترى من دون الله لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل} مَعْنَاهُ: وَمَا يَنْبَغِي لمثل النَّبِي أَن يغل. وَقَوله: {وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. وَالثَّانِي: تَصْدِيق الشَّيْء الَّذِي الْقُرْآن بَين يَدَيْهِ من الْقِيَامَة والبعث. وَقَوله: {وتفصيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين} التَّفْصِيل: التَّبْيِين،

{رب الْعَالمين (37) أم يَقُولُونَ افتراه قل فَأتوا بِسُورَة مثله وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين (38) بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين (39) وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ وَرَبك أعلم بالمفسدين (40) وَإِن كَذبُوك فَقل لي عَمَلي وَلكم عَمَلكُمْ} وَمعنى بَاقِي الْآيَة مَعْلُوم.

38

قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افتراه قل فَأتوا بِسُورَة مثله} معنى الْآيَة: هُوَ الِاحْتِجَاج على الْكفَّار بمعجزة الْقُرْآن؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا قد افتراه، فَقَالَ لَهُم: إِن كَانَ افتراه وأتى بِهِ من عِنْد نَفسه فَأتوا أَنْتُم بِمثلِهِ. فَإِن قيل: قَالَ: {فَأتوا بِسُورَة مثله} فللقرآن مثل يُؤْتى بِسُورَة مِنْهُ؟ الْجَواب: أَن مَعْنَاهُ: فَأتوا بِسُورَة من مثله فِي البلاغة وَالنّظم وَصِحَّة الْمَعْنى. وَقيل: إِن مَعْنَاهُ: فَأتوا بِسُورَة مثل سُورَة الْقُرْآن. وَقَوله: {وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله} مَعْنَاهُ: وَاسْتَعِينُوا بِمن اسْتَطَعْتُم من دون الله {إِن كُنْتُم صَادِقين} .

39

قَوْله: {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ} الْإِحَاطَة بِعلم الشَّيْء هِيَ: الْمعرفَة بِهِ من جَمِيع وجوهه، وَمعنى الْآيَة: بل كذبُوا بِالْقُرْآنِ وَلم يحيطوا بِعِلْمِهِ، يَعْنِي: لم يعلموه. وَقَوله: {وَلما يَأْتهمْ تَأْوِيله} أَي: وَلم يَأْتهمْ تَأْوِيله، وَمَعْنَاهُ: وَلم يعلمُوا مَا يؤول إِلَيْهِ عَاقِبَة أَمرهم. ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى.

40

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ وَرَبك أعلم بالمفسدين} مَعْنَاهُ: وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ - بِالْقُرْآنِ - كأصحاب النَّبِي من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ كَأبي جهل وَمن (تَابعه) ، وَمِنْهُم من قَالَ: وَمِنْهُم من يُؤمن

{أَنْتُم بريئون مِمَّا أعمل وَأَنا بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك أفأنت تسمع الصم وَلَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ (42) وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك أفأنت تهدي الْعمي وَلَو} بِهِ سرا وَعَلَانِيَة كالمؤمنين المخلصين، وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ سرا كالمنافقين. {وَرَبك أعلم بالمفسدين} ظَاهر الْمَعْنى.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَذبُوك فَقل لي عَمَلي وَلكم عَمَلكُمْ} الْآيَة، مَعْنَاهُ: لي عَمَلي وجزاؤه وَلكم عَمَلكُمْ وجزاؤه. قَوْله: {أَنْتُم بريئون مِمَّا أعمل وَأَنا بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ} هَذَا مثل قَوْله: {لكم دينكُمْ ولي دين} وَمثل قَوْله تَعَالَى: {لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم} .

42

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك} الْآيَة، الِاسْتِمَاع: طلب السّمع، وَقد كَانُوا يطْلبُونَ سَماع الْقُرْآن للرَّدّ والتكذيب بِهِ، لَا للتفهم وَالْإِيمَان بِهِ. وَقَوله: {أفأنت تسمع الصم} الصمم: آفَة تمنع من السماع، وَالْمرَاد من الصمم هَاهُنَا: صمم الْقلب؛ فَإِنَّهُم لما لم يسمعوا الْقُرْآن للْإيمَان بِهِ وقبوله كَأَنَّهُمْ لم يسمعوا، وجعلهم بِمَنْزِلَة الصم، والصم: جمع الْأَصَم. وَقَالَ الزّجاج: قد كَانُوا يسمعُونَ حَقِيقَة؛ وَلَكِن لشدَّة بغضهم وعداوتهم للنَّبِي لم يستمعوا ليفهموا، فجعلهم كَأَن لم يسمعوا. قَوْله: {وَلَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ} مَعْنَاهُ: وَلَو كَانُوا جُهَّالًا.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك} النّظر: طلب الرُّؤْيَة بتقليب الْبَصَر، وَأما نظر الْقلب: هُوَ طلب الْعلم بالفكرة. وَقَوله: {أفأنت تهدي الْعمي} جعلهم بِمَنْزِلَة الْعمي؛ لأَنهم لم ينْظرُوا لطلب الْحق، وَالْمرَاد من الْعَمى هَاهُنَا: عمى الْقلب. وَمِنْهُم من قَالَ: جعلهم بِمَنْزِلَة الْعَمى كَمَا جعلهم بِمَنْزِلَة الصم حَيْثُ لم ينتفعوا لَا بأسماعهم وَلَا بِأَبْصَارِهِمْ. وَذكر ابْن الْأَنْبَارِي حاكيا عَن ابْن قُتَيْبَة أَنه اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة على أَن السّمع أفضل

{كَانُوا لَا يبصرون (43) إِن الله لَا يظلم النَّاس شَيْئا وَلَكِن النَّاس أنفسهم يظْلمُونَ (44) وَيَوْم يحشرهم كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من النَّهَار يَتَعَارَفُونَ بَينهم قد خسر الَّذين} من الْبَصَر، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي الصمم: {لَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ} ، وَقَالَ فِي الْعَمى: {وَلَو كَانُوا لَا يبصرون} . قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَهَذَا غلط؛ لِأَن المُرَاد من الْآيَة عمى الْقلب لَا عمى الْعين، وَكَذَلِكَ صمم الْقلب لَا صمم الْأذن؛ فعلى هَذَا لَا يَقع التَّفْضِيل. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَلِأَن حاسة الْبَصَر أفضل من حاسة السّمع، أَلا ترى أَن الْجمال فِيهَا أَكثر، وَالنُّقْصَان بفوتها أعظم، وسماها الرَّسُول كريمتى الْإِنْسَان؛ فَإِنَّهُ قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: من أخذت كريمتيه فَصَبر واحتسب، لم يكن لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة ". وَإِذا كَانَ الرجل أعمى فَإِنَّهُ لَا يبصر إقباله من إدباره، وَلَا طَرِيق غيه من طَرِيق رشده، وَيكون أَسِيرًا فِي نَفسه، (ويتعطل) عَلَيْهِ مَنَافِع عَامَّة جوارحه.

44

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يظلم النَّاس شَيْئا وَلَكِن النَّاس أنفسهم يظْلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يحشرهم كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من النَّهَار} معنى الْآيَة: تقريب وَقت مماتهم من وَقت بَعثهمْ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار} . وَقَوله: {يَتَعَارَفُونَ بَينهم} يَعْنِي: يعرف بَعضهم بَعْضًا. وَفِي بعض

{كذبُوا بلقاء الله وَمَا كَانُوا مهتدين (45) وَإِمَّا نرنيك بعض الَّذين نعدهم أَو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلكُل أمة رَسُول فَإِذا جَاءَ رسولهم قضي بَينهم بِالْقِسْطِ وهم لَا يظْلمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (48) قل لَا أملك لنَفْسي ضرا وَلَا نفعا إِلَّا مَا شَاءَ الله لكل أمة أجل إِذا جَاءَ أَجلهم فَلَا} الْآثَار: أَن الْإِنْسَان يَوْم الْقِيَامَة يعرف من بجنبه، وَلَا يكلمهُ هَيْبَة وخشية. وَقَوله: {قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله وَمَا كَانُوا مهتدين} الخسران هَاهُنَا: خسران النَّفس، وَلَا شَيْء أعظم من خسران النَّفس. وَفِي بعض الْآثَار: يَا بَان آدم، أَنْت فِي دَار التِّجَارَة فاربح فِيهَا نَفسك.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم} قَالَ مُجَاهِد: بعض الَّذِي نعدهم هُوَ: الْقَتْل يَوْم بدر. وَقَالَ غَيره: معنى الْآيَة: إِمَّا نعذبهم فِي حياتك {أَو نتوفينك} قبل تعذيبهم {فإلينا مرجعهم} ومرجعهم إِلَيْنَا. وَقَوله: {ثمَّ الله شَهِيد على مَا يَفْعَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى، و " ثمَّ " هَاهُنَا بِمَعْنى الْوَاو.

47

وَقَوله تَعَالَى: {وَلكُل أمة رَسُول} الْأمة: هِيَ الْجَمَاعَة إِذا كَانُوا على مَنْهَج وَاحِد ومقصد وَاحِد. وَالرَّسُول: كل من حمل رِسَالَة ليؤديها على الْحق. وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا جَاءَ رسولهم} قَالَ مُجَاهِد: فَإِذا جَاءَ رسولهم شَاهدا عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة {قضى بَينهم بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ {وهم لَا يظْلمُونَ} يَعْنِي: لَا ينقص من حَقهم. وَفِي الْآيَة معنى آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {فَإِذا جَاءَ رسولهم} يَعْنِي: إِذا جَاءَ رسولهم بالإعذار والإنذار قضى بَينهم بِالْقِسْطِ أَي: بِالْحَقِّ، وَمَعْنَاهُ: أَنه قبل مَجِيء الرُّسُل لَا يتَوَجَّه ثَوَاب وَلَا عِقَاب.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} يَعْنِي: وعد السَّاعَة.

49

ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {قل لَا أملك لنَفْسي ضرا وَلَا نفعا إِلَّا مَا شَاءَ الله} الْآيَة. الْملك: قُوَّة يتَصَرَّف بهَا فِي الشَّيْء، وَقَوله: {ضرا وَلَا نفعا} يَعْنِي: دفع ضرّ وَلَا جلب نفع لم يقدره الله تَعَالَى. وَقَوله: {لكل أمة أجل} الْأَجَل: مُدَّة مَضْرُوبَة لحلول أَمر.

{يستئخرون سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قل أَرَأَيْتُم إِن أَتَاكُم عَذَابه بياتا أَو نَهَارا مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون (50) أَثم إِذا مَا وَقع آمنتم بِهِ الْآن وَقد كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون (51) ثمَّ قيل للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب الْخلد هَل تُجْزونَ إِلَّا بِمَا كُنْتُم تكسبون (52) ويستنبئونك أَحَق هُوَ قل إِي وربي إِنَّه لحق وَمَا أَنْتُم بمعجزين (53) وَلَو أَن} وَقَوله: {إِذا جَاءَ أَجلهم فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

50

قَوْله تَعَالَى {قل أَرَأَيْتُم إِن أَتَاكُم عَذَابه بياتا أَو نَهَارا} والبيات: مَا يحصل لَيْلًا. وَقَوله: {مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون} مَعْنَاهُ: مَاذَا يستعجل من الله المجرمون؟ وَقيل: مَاذَا يستعجل من الْعَذَاب المجرمون؟ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنهم كَانُوا يستعجلون الْعَذَاب؛ مثل قَول النَّضر بن الْحَارِث، فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك، فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء، أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم، فَقَالَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة: {مَاذَا يستعجل مِنْهُ المجرمون} يَعْنِي: وأيش يعلم المجرمون مَاذَا يستعجلون وَيطْلبُونَ؟ كَالرّجلِ يَقُول لغيره: مَاذَا جنيت على نَفسك؟ إِذا فعل فعلا قبيحا.

51

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِذا مَا وَقع آمنتم بِهِ} قيل فِي التَّفْسِير: معنى قَوْله: (أَثم) : هُنَالك إِذا مَا وَقع - أَي: الْعَذَاب {آمنتم بِهِ} يَعْنِي: آمنتم بِاللَّه؟ من وَقع الْعَذَاب؟ أَي: نزل. ثمَّ قَالَ: {الْآن} وَفِيه حذف وَمَعْنَاهُ: الْآن آمنتم بِهِ {وَقد كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون} تَكْذِيبًا واستهزاء.

52

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ قيل للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب الْخلد هَل تُجْزونَ إِلَّا بِمَا كُنْتُم تكسبون} ظَاهر الْمَعْنى.

53

قَوْله تَعَالَى: {ويستنبئونك أَحَق هُوَ} مَعْنَاهُ: ويستخبرونك أَحَق هُوَ؟ وَالْحق ضد الْبَاطِل، وَيُقَال: الْحق مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيل. وَقَوله: {قل إِي وربي} مَعْنَاهُ: قل نعم وربي {إِنَّه لحق وَمَا أَنْتُم بمعجزين} مَعْنَاهُ: وَمَا أَنْتُم بفائتين من الْعَذَاب؛ لِأَن من عجز عَن الشَّيْء فقد فَاتَهُ.

54

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن لكل نفس ظلمت مَا فِي الأَرْض لافتدت بِهِ} الافتداء

{لكل نفس ظلمت مَا فِي الأَرْض لافتدت بِهِ وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب وَقضي بَينهم بِالْقِسْطِ وَهُوَ لَا يظْلمُونَ (54) أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض أَلا إِن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (55) هُوَ يحيي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ ترجعون (56) يَا أَيهَا} هَاهُنَا: بذل مَا ينجو بِهِ عَن الْعَذَاب. وَقَوله: {وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قَول أبي عُبَيْدَة، وَهُوَ: أَن مَعْنَاهُ: وأظهروا الندامة. وَالْقَوْل الثَّانِي: وأسروا الرؤساء مِنْهُم الندامة من الضُّعَفَاء خوفًا من مذامتهم وتعييرهم. وَقَوله: {وَقضى بَينهم بِالْقِسْطِ وهم لَا يظْلمُونَ} قد بَينا الْمَعْنى.

55

قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن عنْدكُمْ السَّمَوَات سبع، والأرضون سبع، فَكيف ذكر السَّمَوَات بِلَفْظ الْجمع وَالْأَرْض بِلَفْظ (الوحدان) ؟ الْجَواب: أَن الْوَاحِد هَاهُنَا بِمَعْنى الْجمع، وَالْعرب قد تذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع، وَالْجمع بِلَفْظ الْوَاحِد، وَقيل: إِن الْأَرْضين وَإِن كَانَت سبعا وَلَكِن لما لم تظهر سوى هَذِه الْوَاحِدَة وَكَانَت الْبَاقُونَ مخفية، ذكر بِلَفْظ الوحدان. وَقَوله: {أَلا إِن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

56

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ يحيي وَيُمِيت وَإِلَيْهِ ترجعون} مَعْلُوم الْمَعْنى.

57

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم} الْآيَة، الموعظة: قَول على طَرِيق الْعلم يُؤَدِّي إِلَى صَلَاح الْعباد. وَقَوله: {وشفاء لما فِي الصُّدُور} الشِّفَاء هَاهُنَا هُوَ الدَّوَاء لذِي الْجَهْل. وَقَالَ أهل الْعلم: لَا دَاء أعظم من الْجَهْل، وَلَا دَوَاء أعز من دَوَاء الْجَهْل، وَلَا طَبِيب أقل من طَبِيب الْجَهْل، وَلَا شِفَاء أبعد من شِفَاء الْجَهْل.

{النَّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم وشفاء لما فِي الصُّدُور وَهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين (57) قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ (58) قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون} وَأما قَوْله {لما فِي الصُّدُور} الصَّدْر مَوضِع الْقلب، وَهُوَ أعز مَوضِع فِي الْإِنْسَان؛ لجوار الْقلب. وَقَوله: {وَهدى} يَعْنِي: وَهدى من الضَّلَالَة. وَقَوله: {وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين} الرَّحْمَة: هِيَ النِّعْمَة على الْمُحْتَاج، فَإِنَّهُ لَو أهْدى ملك إِلَى ملك شَيْئا لَا يُقَال: قد رَحمَه، وَإِن كَانَ هَذَا نعْمَة على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ لم يَضَعهَا فِي مُحْتَاج.

58

قَوْله تَعَالَى: {قل بِفضل الله وبرحمته} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فضل الله: الْقرَان، وَرَحمته: الْإِسْلَام. وَعَن بَعضهم: فضل الله: الْإِسْلَام، وَرَحمته: الْقُرْآن. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: فضل الله: الْقُرْآن، وَرَحمته: أَن جعلنَا من أَهله. وَهَذَا مَرْوِيّ أَيْضا عَن عِكْرِمَة. وَقَوله: {فبذلك فليفرحوا} وَقَرَأَ الْحسن: " فبذلك فلتفرحوا " مَعْنَاهُ: فبذلك فلتعجبوا. وَقَوله: {هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ} أَي: مِمَّا يجمع الْكفَّار من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير.

59

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم مِنْهُ حَرَامًا وحلالا} قَالَ أهل التَّفْسِير: معنى هَذَا هِيَ السوائب والحوامي الَّتِي جعلهَا أهل الشّرك حَرَامًا عَلَيْهِم، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام، وَمَا أحلُّوا من ذَلِك وَمَا حرمُوا فِي تَفْسِير قَوْله: {وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا ومحرم على أَزوَاجنَا} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا الْمَعْنى، وَقد قَالَ فِي آخر الْآيَة: {قل الله أذن لكم أم على الله تفترون} ؟ وَلَيْسَ المُرَاد من الْآيَة الِاسْتِفْهَام؛ وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهَا الرَّد وَالْإِنْكَار عَلَيْهِم.

60

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة} قَالُوا: مَعْنَاهُ:

((59} وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون (60) وَمَا تكون فِي شَأْن وَمَا تتلو مِنْهُ من قُرْآن وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ وَمَا يعزب عَن رَبك من مِثْقَال ذرة فِي وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة، أيلقاهم الْخَيْر أم يلقاهم الشَّرّ؟ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن الشَّرّ يلقاهم؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَلِيق بافترائهم. وَقَوله: {إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون} فِي التفاسير: من ألف وَاحِد شَاكر.

61

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تكون فِي شَأْن} الشَّأْن: اسْم مُبْهَم، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: مَا حملك وَمَا بالك؟ وَمَا شانك؟ وَقَوله: {فِي شَأْن} يَعْنِي: فِي شَأْن من الشؤون. وَقَوله: {وَمَا تتلو مِنْهُ من قُرْآن} فَإِن قيل: [أيش معنى] قوبه: {وَمَا تتلو مِنْهُ} وَلم يسْبق ذكر الْقُرْآن؟ الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: وَمَا تتلو من الشَّأْن، من قُرْآن، وَالْآخر: أَنه رَاجع إِلَى الْقُرْآن أَيْضا، فأبطن فِي قَوْله: {مِنْهُ} وَأظْهر فِي قَوْله {من قُرْآن} تفخيما لَهُ. وَقَوله: {وَلَا تعلمُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا} الشُّهُود هَاهُنَا: جمع شَاهد. وَقَوله: {إِذْ تفيضون فِيهِ} قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: إِذْ تندفعون فِيهِ، والإفاضة هِيَ الدّفع بِالْكَثْرَةِ. وَقَوله: {وَمَا يعزب عَن رَبك} مَعْنَاهُ: وَمَا يغيب عَن رَبك {من مِثْقَال ذرة} من وزن ذرة؛ والذرة: هِيَ النملة الصَّغِيرَة، وَقيل: مَا يظْهر فِي شُعَاع الشَّمْس. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.

{الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر إِلَّا فِي كتاب مُبين (61) أَلا إِن} وَقَوله: {فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَلَا أَصْغَر من ذَلِك} يَعْنِي: أَصْغَر من الذّرة. {وَلَا أكبر} مَعْنَاهُ: وَلَا أكبر من الذّرة إِلَى مَا لَا يعلم قدره إِلَّا الله تَعَالَى. قَوْله: {إِلَّا فِي كتاب مُبين} مَعْنَاهُ: إِلَّا هُوَ مُبين فِي الْكتاب، يَعْنِي: اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة: " أَن الله تَعَالَى لما خلق الْقَلَم قَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله قدر الْمَقَادِير قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة ". خرجه مُسلم فِي " صَحِيحه ".

62

قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله} اخْتلفُوا فِي أَوْلِيَاء الله على أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنهم الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَالْآخر: أَنهم الَّذين يرضون بِالْقضَاءِ، ويشكرون عِنْد الرخَاء، ويصبرون على الْبلَاء، وَالثَّالِث: هم المتحابون فِي الله تَعَالَى. وَقد روى عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " إِن من عباد الله عبادا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاء، يَغْبِطهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاء لِمَكَانِهِمْ عِنْد الله. فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، وَمن هم؟ فَقَالَ رَسُول: قوم تحَابوا بِروح الله من غير أَرْحَام يصلونها، وَلَا أَمْوَال يَتَعَاطونَهَا، وَإِن على وُجُوههم لنورا، وَإِنَّهُم على مَنَابِر من نور، لَا يخَافُونَ إِذا خَافَ النَّاس، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذا حزن النَّاس، ثمَّ قَرَأَ: {أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم} ". ذكره أَبُو دَاوُد فِي " سنَنه " قَرِيبا من هَذَا.

{أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (62) الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُم} وَالرَّابِع: هُوَ أَن أَوْلِيَاء الله من إِذا رؤوا [ذكر] الله. وَفِي بعض الْأَخْبَار المرفوعة إِلَى النَّبِي: " سُئِلَ من أَوْلِيَاء الله؟ فَقَالَ الَّذين إِذا رؤوا [ذكر] الله ". وَفِي رِوَايَة: " الَّذين [يذكر] الله برؤيتهم ". وَقَوله: {لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} الْخَوْف: انزعاج فِي النَّفس من توقع مَكْرُوه، والحزن: هم يَقع فِي الْقلب لنَوْع عَارض.

63

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

64

ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَهُم الْبُشْرَى} اخْتلفُوا فِي هَذِه الْبُشْرَى على أَقْوَال: الأول: روى (أَبُو الدَّرْدَاء) - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الْمُؤمن أوترى لَهُ ". وَرَوَاهُ - أَيْضا - عبَادَة بن الصَّامِت أَبُو الْوَلِيد - رَضِي الله عَنهُ -. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الرُّؤْيَا الصادقة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من

{الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة لَا تَبْدِيل لكلمات الله ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (64) وَلَا يحزنك قَوْلهم إِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (65) أَلا إِن لله من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء إِن يتبعُون إِلَّا} النُّبُوَّة ". وَالْقَوْل الثَّانِي: روى أَبُو ذَر - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " إِن الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا: هُوَ الثَّنَاء الْحسن، وَفِي الْآخِرَة: الْجنَّة ". وَالثَّالِث: الْبُشْرَى: هِيَ نزُول نزُول مَلَائِكَة الرَّحْمَة بالبشارة من الله تَعَالَى عِنْد الْمَوْت. وَالرَّابِع: الْبُشْرَى: هِيَ علم الْمُؤمن بمكانه من الْجنَّة قبل أَن يَمُوت. قَالَه قوم من التَّابِعين. وَقَوله تَعَالَى: {لَا تَبْدِيل لكلمات الله} مَعْنَاهُ: لَا خلف لوعد الله. وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} أَي: النجَاة الْعَظِيمَة.

65

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يحزنك قَوْلهم} وقف تَامّ. ثمَّ قَالَ: {إِن الْعِزَّة لله جَمِيعًا} يعْنى: إِن الْغَلَبَة لله جَمِيعًا {هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى.

66

قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِن لله من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء} مَعْنَاهُ: وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء على الْحَقِيقَة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لله شريك. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَمَا يتبع الَّذين يدعونَ من دون الله شُرَكَاء علما ويقينا؛ بل يتبعُون على الظَّن كَمَا قَالَ: {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون} وَمعنى قَوْله: {يخرصون} : يكذبُون؛ لقَوْله: {قتل الخراصون} أَي: الكذابون.

{الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون (66) هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ (67) قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض إِن عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ (68) قل إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون (69) مَتَاع فِي الدُّنْيَا ثمَّ إِلَيْنَا}

67

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. قَوْله: {وَالنَّهَار مبصرا} أَي: مبصرا فِيهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ: وَالنَّهَار ذَا إبصار، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فِي عيشة راضية} يَعْنِي: ذَات رضَا. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

68

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ} فَإِن قَالَ قَائِل: أيش الْفرق بَين اتِّخَاذ الْوَلَد واتخاذ الْخَلِيل؟ الْجَواب عَنهُ: أَن الْحَقِيقَة الْخلَّة مَقْصُورَة على الله تَعَالَى؛ لِأَن الْخلَّة: تصفية الود، وَهَذَا يجوز على الله تَعَالَى. وَأما حَقِيقَة الْوَلَد: لَا يجوز على الله تَعَالَى؛ فاتخاذه لَا يجوز، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يتَّخذ الْوَلَد ليرثه ملكه أَو ليسر بِهِ، أَو ليعنه على أَمر، أَو ليخلفه فِي أُمُوره، وَالله تَعَالَى منزه عَن هَذَا كُله، وَلَا يجوز عَلَيْهِ، فَلم يجز اتِّخَاذ الْوَلَد لَهُ. وَقَوله تَعَالَى: {هُوَ الْغَنِيّ} إِشَارَة إِلَى مَا قُلْنَا من عدم الْحَاجة. وَقَوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض إِن عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا} أَي: من حجَّة بِهَذَا؟ . وَقَوله: {أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

69

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون} أَي: لَا ينجون.

70

وَقَوله {مَتَاع فِي الدُّنْيَا} مَعْنَاهُ: إِن الَّذين يفترون على الله حاصلهم مَتَاع فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: {ثمَّ إِلَيْنَا مرجعهم ثمَّ نذيقهم الْعَذَاب الشَّديد بِمَا كَانُوا يكفرون} مَعْنَاهُ مَعْلُوم.

{مرجعهم ثمَّ نذيقهم الْعَذَاب الشَّديد بِمَا كَانُوا يكفرون (70) واتل عَلَيْهِم نبأ نوح إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قوم إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فعلى الله توكلت فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون}

71

قَوْله تَعَالَى: {واتل عَلَيْهِم نبأ نوح} مَعْنَاهُ: واتل عَلَيْهِم خبر نوح {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قوم إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري} مَعْنَاهُ: إِن كَانَ ثقل عَلَيْكُم مقَامي أَي: طول مكثي فِيكُم وتذكيري {بآيَات الله} وتحذيري إيَّاكُمْ بآيَات الله {فعلى الله توكلت} قَالُوا هَذَا اعْتِرَاض فِي الْكَلَام وَفِي الْمَعْنى. قَوْله: {فَأَجْمعُوا أَمركُم} هُوَ مُتَّصِل بِمَا سبق كَأَنَّهُ قَالَ: إِن كَانَ كبر عَلَيْكُم مقَامي وتذكيري بآيَات الله فَأَجْمعُوا أَمركُم. وَفِي الشاذ: " فاجمعوا أَمركُم " قَرَأَهُ عَاصِم الجحدري. قَوْله: {فاجمعوا} قَالَ الْفراء: فاعزموا على أَمركُم وَادعوا {شركاءكم} وَقَالَ الزّجاج: فاجمعوا أَمركُم مَعَ شركائكم، إِلَّا أَنه لما ترك كلمة " مَعَ " فانتصب، قَالَ الشَّاعِر: (يَا لَيْت شعري والمنى لَا تَنْفَع ... حَتَّى أرى أَمْرِي وأمري مجمع) أَي: معزم عَلَيْهِ. وَقَوله: {ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة} أَي: ملتبسا، وَمِنْه الْغَمَام، وَالْغَم. وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ اقضوا إِلَيّ} قرىء فِي الشاذ: " ثمَّ أفضوا إِلَيّ " بِالْفَاءِ، وَالْمَعْرُوف بِالْقَافِ. قَالَ مُجَاهِد مَعْنَاهُ: ثمَّ اعلموا مَا فِي أَنفسكُم. وَقيل مَعْنَاهُ: توجهوا إليَّ بِالْقَتْلِ وَالْمَكْرُوه، وَهَذَا على طَرِيق التَّعْجِيز، فَإِنَّهُ قَالَ هَذِه الْمقَالة وعجزوا عَن إِيصَال مَكْرُوه إِلَيْهِ، فَهَذَا كَانَ (نوع) معْجزَة لَهُ، وَمِنْهُم من قَالَ: قَوْله: {اقضوا إليَّ} أَي: ثمَّ اقضوا مَا أَنْتُم قاضون، وَاعْمَلُوا مَا أَنْتُم عاملون، وَهَذَا مثل قَول السَّحَرَة: {فَاقْض مَا أَنْت قَاض} ، مَعْنَاهُ: فاعمل مَا أَنْت عَامل. وَحَقِيقَة

( {71) فَإِن توليتم فَمَا سألتكم من أجر إِن أجري إِلَّا على الله وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين (72) فَكَذبُوهُ فنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين (73) ثمَّ بعثنَا من بعده رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل كَذَلِك نطبع على قُلُوب} الْقَضَاء: هُوَ إحكام الْأَمر والفراغ عَنهُ، وَمِنْه يُقَال للرجل إِذا مَاتَ: قد قضى فلَان، أَي: فرغ من أمره. قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْظرُون} أَي: لَا تمهلون.

72

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توليتم فَمَا سألتكم من أجر} مَعْنَاهُ: فَإِن أعرضتم فَمَا سألتكم من ثَوَاب على تَبْلِيغ الرسَالَة. قَوْله: {إِن أجري إِلَّا على الله} أَي: إِن ثوابي إِلَّا على الله {وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين} أَي: من الْمُوَحِّدين. وَمِنْهُم من قَالَ: معنى قَوْله: {من الْمُسلمين} أَي: من المستسلمين لأمر الله.

73

قَوْله تَعَالَى: {فَكَذبُوهُ فنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ مَعَه فِي الْفلك ثَمَانُون رجلا، وَكَانَ أول من حمله: الذّرة، وَآخر من حمله: الْحمار، وَتعلق الشَّيْطَان بذنب الْحمار، وَجعل يَقُول: نوح للحمار، ادخل فَلَا يدْخل حَتَّى قَالَ: ادخل يَا شَيْطَان فَدخل وإبليس مَعَه. وَقَوله تَعَالَى: {وجعلناهم خلائف} أَي: وَجَعَلنَا الَّذين مَعَه فِي الْفلك خلفاء الْقَوْم الَّذين أغرقناهم فِي دُورهمْ ومساكنهم ومنازلهم. وَقَوله تَعَالَى: {وأغرقنا الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين} الْغَرق: هَلَاك بِالْمَاءِ والغامر. وَيُقَال: إِن مُدَّة الإغراق كَانَت أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكَانَ من وَقت إرْسَال المَاء من السَّمَاء إِلَى أَن (نضب) المَاء سِتَّة أشهر وعدة أَيَّام.

74

وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ بعثنَا من بعده رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ} يَعْنِي: من بعد نوح رسلًا إِلَى قَومهمْ {فَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات الواضحات {فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذبُوا بِهِ من قبل} أَي: فَمَا كَانُوا ليؤمنوا بِمَا كذب بِهِ قوم نوح من

{الْمُعْتَدِينَ (74) ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى وَهَارُون إِلَى فِرْعَوْن وملئه بِآيَاتِنَا فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين (75) فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا قَالُوا إِن هَذَا لسحر مُبين (76) قَالَ مُوسَى أتقولون للحق لما جَاءَكُم أَسحر هَذَا وَلَا يفلح الساحرون (77) قَالُوا أجئتنا لتلفتنا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكون لَكمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْض وَمَا نَحن لَكمَا بمؤمنين (78) وَقَالَ فِرْعَوْن ائْتُونِي بِكُل سَاحر عليم (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون (80) فَلَمَّا ألقوا قَالَ مُوسَى مَا جئْتُمْ بِهِ السحر إِن الله سيبطله إِن} قبل {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ} يَعْنِي: يخْتم على قُلُوب الْمُعْتَدِينَ.

75

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ بعثنَا من بعدهمْ مُوسَى وَهَارُون إِلَى فِرْعَوْن وملئه بِآيَاتِنَا فاستكبروا وَكَانُوا قوما مجرمين} مَعْنَاهُ ظَاهر. وَالْآيَة الَّتِي تَلِيهَا كَذَا مَعْلُوم الْمَعْنى.

78

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أجئتنا لتلفتنا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} مَعْنَاهُ: لتصرفنا. وَقَالَ قَتَادَة: لتلفتنا: لتلوينا، وَقَالَهُ ثَعْلَب من الْمُتَأَخِّرين. وَقَوله: {وَتَكون لَكمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْض} قَالَ مُجَاهِد: الْكِبْرِيَاء: الْملك؛ وَإِنَّمَا سمي الْملك الْكِبْرِيَاء؛ لِأَنَّهُ أكبر مَا يطْلب فِي الدُّنْيَا. وَقيل: معنى الْكِبْرِيَاء: هُوَ العظمة. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْغَلَبَة. قَوْله: {وَمَا نَحن لَكمَا بمؤمنين} أَي: بمصدقين.

79

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْن ائْتُونِي بِكُل سَاحر عليم} فِي الْقَصَص: أَنه جمع سبعين ألف سَاحر.

80

وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون} أَي: اطرحوا مَا أَنْتُم طارحون.

81

وَقَوله: {فَلَمَّا ألقوا قَالَ مُوسَى مَا جئْتُمْ بِهِ السحر} وَقد بَينا معنى السحر من قبل. {إِن الله سيبطله} أَي: سيذهبه {إِن الله لَا يصلح عمل المفسدين} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَفِي الْقَصَص أَنهم كَانُوا سبعين ألفا، مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم حَبل وعصا، فَألْقوا تِلْكَ الحبال والعصي، فَجعلت تخيل فِي أعين النَّاس كَأَنَّهَا ثعابين وحيات.

{الله لَا يصلح عمل المفسدين (81) ويحق الله الْحق بكلماته وَلَو كره المجرمون (82) فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّة من قومه على خوف من فِرْعَوْن وملئهم أَن يفتنهم وَإِن فِرْعَوْن لعال فِي الأَرْض وَإنَّهُ لمن المسرفين (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قوم إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه فَعَلَيهِ توكلوا إِن كُنْتُم مُسلمين (84) فَقَالُوا على الله توكلنا رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم}

82

وَقَوله تَعَالَى: {ويحق الله الْحق بكلماته} مَعْنَاهُ: يعلي الله الْحق بآياته {وَلَو كره المجرمون} .

83

قَوْله تَعَالَى: {فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّة من قومه} مَعْنَاهُ: فَمَا آمن لمُوسَى إِلَّا قَلِيل فِي قومه، وَاخْتلفُوا فِي الذُّرِّيَّة هَاهُنَا، قَالَ بَعضهم: إِنَّهُم قوم كَانَت آباؤهم فِي القبط وأمهاتهم من بني إِسْرَائِيل. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّهُم قوم نَجوا من قتل فِرْعَوْن، فَإِن فِرْعَوْن لما أَمر بقتل أَبنَاء بني إِسْرَائِيل كَانَت الْمَرْأَة من بني إِسْرَائِيل إِذا ولد لَهَا ابْن سلمته إِلَى امْرَأَة قبطية، وَتقول: وهبته لَك خوفًا عَلَيْهِ من الْقَتْل، فَنَشَأَ أُولَئِكَ الْأَوْلَاد عِنْد القبط، وَأَسْلمُوا فِي ذَلِك الْيَوْم، يَعْنِي: يَوْم السَّحَرَة الَّذين غلبوا. وَقَوله: {على خوف من فِرْعَوْن وملئهم أَن يفتنهم} قَالَ بعض أهل الْمعَانِي: فِي الْآيَة حذف؛ كَأَنَّهُ قَالَ: على خوف من آل فِرْعَوْن وملئهم، وَهَذَا مثل (قَوْله) : {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة. وَمِنْهُم من قَالَ: لما ذكر فِرْعَوْن دخل قومه مَعَه كَالرّجلِ يَقُول: قدم الْخَلِيفَة أَو الْأَمِير بِكَذَا وَكَذَا، فضاقت الْمنَازل على النَّاس، مَعْنَاهُ: قدم الْخَلِيفَة وَمن مَعَه. ثمَّ قَالَ: {أَن يفتنهم} مَعْنَاهُ: أَن يعذبهم. وَقَوله: {وَإِن فِرْعَوْن لعال فِي الأَرْض} أَي: لطاغ فِي الأَرْض {وَإنَّهُ لمن المسرفين} مَعْلُوم.

84

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قوم إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه فَعَلَيهِ توكلوا إِن كُنْتُم مُسلمين} التَّوَكُّل: هُوَ الثِّقَة بِاللَّه والاعتماد عَلَيْهِ فِي الْأُمُور. وَقَوله: {إِن كُنْتُم

{الظَّالِمين (85) ونجنا بِرَحْمَتك من الْقَوْم الْكَافرين (86) وأوحينا إِلَى مُوسَى وأخيه أَن تبوءا لقومكما بِمصْر بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَبشر الْمُؤمنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن} مُسلمين) أَي: إِذا كُنْتُم مُسلمين.

85

قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا على الله توكلنا} أَي: على الله اعتمدنا. وَقَوله: {رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم الظَّالِمين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا تُهْلِكنَا بأيدي الظَّالِمين فيفتتنوا أَو يَظُنُّوا أَنا لم نَكُنْ على الْحق، قَالَه أَبُو مجلز. وَالثَّانِي: لَا تعذبنا بِعَذَاب من عنْدك فيظنوا أَنهم خير منا، فَيصير ذَلِك فتْنَة لَهُم

86

وَقَوله تَعَالَى: {ونجنا بِرَحْمَتك من الْقَوْم الْكَافرين} ظَاهر الْمَعْنى.

87

قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى مُوسَى وأخيه أَن تبوءا} معنى قَوْله: {تبوءا} اتخذا. قَالَ الشَّاعِر: (نَحن بَنو عدنان لَيْسَ شكّ ... تبوأ الْمجد بِنَا وَالْملك) وَقَوله {لقومكما بِمصْر بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة وَأقِيمُوا الصَّلَاة} ذكر أهل التَّفْسِير أَن فِرْعَوْن أَمر بتخريب كنائس بني إِسْرَائِيل وبيعهم لما جَاءَ مُوسَى وَدعَاهُ إِلَى الله، فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يأمرا بني إِسْرَائِيل أَن يتخذوا فِي بُيُوتهم الْمَسَاجِد، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قبْلَة} يَعْنِي: مَسْجِدا. وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ أَمرهم الله تَعَالَى أَن يتوجهوا إِلَى الْكَعْبَة. وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّهُم خَافُوا من إِظْهَار الصَّلَاة، فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يقيموا الصَّلَاة فِي الْبيُوت. وَقَوله تَعَالَى: {وَبشر الْمُؤمنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

88

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى رَبنَا إِنَّك آتيت فِرْعَوْن وملأه} الْآيَة. قَوْله: {زِينَة

{سَبِيلك رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم (88) قَالَ قد أجيبت دعوتكما فاستقيما وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ (89) } وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا) قيل فِي التَّفْسِير: إِنَّه كَانَ من فسطاط مصر إِلَى الْعَريش إِلَى قريب من الْحَبَشَة معادن الذَّهَب وَالْفِضَّة والياقوت والزبرجد، فَهَذَا معنى قَوْله: {زِينَة وأموالا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبنَا ليضلوا عَن سَبِيلك} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذِه " اللَّام " لَام الصيرورة، وَيُقَال: هِيَ لَام الْعَاقِبَة، وَهَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (وللموت مَا تَلد الوالدة ... ) فَلَمَّا كَانَت عَاقِبَة أَمرهم الضلال وَالْكفْر قَالَ: ليضلوا عَن سَبِيلك {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم} الطمس: تَغْيِير صُورَة الشَّيْء، وَقيل: هُوَ الإنمحاء، ودروس الْأَثر. قَالَ قَتَادَة: صَارَت أَمْوَالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حِجَارَة كلهَا. وَفِي بعض الرِّوَايَات: إِن عبيدهم وإماءهم صَارُوا حِجَارَة. وَقَوله: {وَاشْدُدْ على قُلُوبهم} قَالَ مُجَاهِد: بالضلالة. وَقَالَ السّديّ: أمتهم على الْكفْر. وَقَوله: {فَلَا يُؤمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} قيل: هَذَا بِمَعْنى الدُّعَاء (كَأَنَّهُ) قَالَ: فَلَا آمنُوا حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم. وَقيل: مَعْنَاهُ معنى الْخَبَر.

89

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قد أجيبت دعوتكما} فِي الْقَصَص: أَنه كَانَ بَين دُعَاء مُوسَى وإجابته أَرْبَعُونَ سنة، وَكَذَلِكَ كَانَ بَين دُعَاء يَعْقُوب وإجابته أَرْبَعُونَ سنة. فَإِن قَالَ قَائِل: إِن الدَّاعِي كَانَ مُوسَى، وَقَالَ: {قد أجيبت دعوتكما} . الْجَواب الْمَرْوِيّ: أَن مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُون يُؤمن، والتأمين: دُعَاء؛ فَإِن معنى التَّأْمِين: اللَّهُمَّ استجب. قَوْله: {فاستقيما} يَعْنِي: على الطَّاعَة وَالدّين. وَقَوله: {وَلَا تتبعان سَبِيل الَّذين لَا يعلمُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.

{وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فأتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده بغيا وعدوا حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل وَأَنا من الْمُسلمين (90) آلآن وَقد}

90

قَوْله تَعَالَى: {وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر} الْآيَة، مَعْنَاهُ: عبرنا ببني ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر. وَقَوله: {فأتبعهم فِرْعَوْن وَجُنُوده} قَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال: اتبعهُ إِذا سَار فِي أَثَره، وَأتبعهُ إِذا أدْركهُ ولحقه. وَقَوله: {بغيا وعدوا} ظلما واعتداء، قرىء: " عدوا " و " عدوا " وَالْمعْنَى وَاحِد. وَقَوله: {حَتَّى إِذا أدْركهُ الْغَرق} يَعْنِي: حَتَّى إِذا غمره المَاء وَقرب هَلَاكه {قَالَ آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بن بَنو إِسْرَائِيل} وَمَعْنَاهُ: آمَنت بالإله الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل {وَأَنا من الْمُسلمين} .

91

وَقَوله: {آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين} فِي الْقَصَص " أَن جِبْرِيل كَانَ وَاقِفًا حِين قَالَ هَذَا القَوْل، فَقَالَ لَهُ: آلآن وَقد عصيت قبل وَكنت من المفسدين، وَقَالَ لَهُ هَذَا القَوْل بِأَمْر الله تَعَالَى، آلآن وَقد عصيت. وروى يُوسُف بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي " أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: يَا مُحَمَّد، لَو رَأَيْتنِي وَأَنا آخذ من حَال الْبَحْر، وأدسه فِي فَم فِرْعَوْن خشيَة أَن تُدْرِكهُ الرَّحْمَة ". وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " أَن جِبْرِيل قَالَ: يَا مُحَمَّد، مَا أبغضت أحدا من خلق الله مثل مَا أبغضت فِرْعَوْن لما قَالَ لِقَوْمِهِ: مَا علمت لكم من، إِلَه غَيْرِي، فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ حِين غرق فَجعلت أدس الطين فِي فَمه لِئَلَّا يَقُول

{عصيت قبل وَكنت من المفسدين (91) فاليوم تنجيك ببدنك لتَكون لمن خلقك آيَة وَإِن كثيرا من النَّاس عَن آيَاتنَا لغافلون (92) وَلَقَد بوأنا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق} لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَفِي رِوَايَة: " لِئَلَّا يثنى مَخَافَة أَن يغْفر الله لَهُ ". قَالَ أَبُو عِيسَى: والْحَدِيث صَحِيح فِي الْجُمْلَة.

92

وَقَوله تَعَالَى: {فاليوم ننجيك ببدنك} فِي الْبر، قرىء: " ننحيك ببدنك " بِالْحَاء [من التنحية] ، وَالْمَعْرُوف بِالْجِيم أَي: نلقيك على نجوة من الأَرْض. والنجوة: الْمَكَان الْمُرْتَفع. فِي الْقَصَص: أَن فِرْعَوْن لما غرق قَالَت بَنو إِسْرَائِيل: هُوَ أجل من أَن يغرق، فَلم يصدقُوا مُوسَى أَنه قد غرق، فَأمر الله تَعَالَى المَاء حَتَّى أَلْقَاهُ على وَجهه؛ وَهَذَا معنى قَوْله: {ننجيك ببدنك} وَقَوله: {ببدنك} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: بدرعك، وَكَانَ لَهُ درع مَشْهُور من اللُّؤْلُؤ مرصع من الْجَوَاهِر، فرأوه فِي درعه فصدقوا. وَالْقَوْل الثَّانِي: ببدنك يَعْنِي: بجسد لَا روح فِيهِ. قَوْله: {لتَكون لمن خَلفك آيَة} أَي: عِبْرَة. وَقَوله: {وَإِن كثيرا من النَّاس عَن آيَاتنَا لغافلون} ظَاهر الْمَعْنى.

93

وَقَوله تَعَالَى {وَلَقَد بوأنا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق} أَي: أنزلنَا بني إِسْرَائِيل مبوأ صدق أَي: أنزلنَا بني إِسْرَائِيل منَازِل صدق. وَقيل: إِن تِلْكَ الْمنَازل هِيَ مصر. وَقيل: إِنَّهَا الشَّام. وَقَوله: {مبوأ صدق} يَعْنِي: بصدقهم وَإِيمَانهمْ. وَقَوله: {ورزقناهم من الطَّيِّبَات} مَعْلُوم. وَقَوله: {فَمَا اخْتلفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم} يَعْنِي: التَّوْرَاة، فَإِنَّهُم اخْتلفُوا بعد نزُول التَّوْرَاة وَذَهَاب مُوسَى اخْتِلَافا شَدِيدا. ثمَّ قَالَ: {إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

{ورزقناهم من الطَّيِّبَات فَمَا اخْتلفُوا حَتَّى جَاءَهُم الْعلم إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك فاسئل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك لقد جَاءَك الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين (94) وَلَا تكونن}

94

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك} فِي الْآيَة سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ: أَنه قَالَ: {فَإِن كنت فِي شكّ} كَيفَ يجوز أَن يكون الرَّسُول فِي الشَّك حَتَّى يَقُول لَهُ: فَإِن كنت فِي شكّ؟ . الْجَواب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الْخطاب مَعَه وَالْمرَاد مِنْهُ قومه، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} وأمثالها كَثِيرَة. وَقَالَ بَعضهم: تَقْدِيره: فَإِن كنت فِي شكّ أَيهَا الشاك فأسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: مَا كنت فِي شكّ. وَقَوله: {فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك} زِيَادَة تثبيت؛ وَالَّذين يقرءُون الْكتاب: هم الَّذين أَسْلمُوا من الْيَهُود، مثل عبد الله بن سَلام، وَابْن يَامِين وَغَيرهمَا. وَالْوَجْه الثَّالِث: هَذَا على عَادَة كَلَام الْعَرَبِيّ، فَإِن الرجل يَقُول لِابْنِهِ: افْعَل كَذَا إِن كنت ابْني، وَلَا يكون هَذَا على الشَّك، وَكَذَا يَقُول لغلامه: أَطْعمنِي إِن كنت عَبدِي، وَلَا يكون على الشَّك. ٍ وَقَوله: {فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك} فَقَالَ: مرهم {فاسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب من قبلك لقد جَاءَك الْحق من رَبك فَلَا تكونن من الممترين} من الشاكين، وَمَعْنَاهُ: دم على الْيَقِين الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ. الْوَجْه الأول اخْتِيَار الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي.

95

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تكونن من الَّذين كذبُوا بآيَات الله} إِلَى آخر الْآيَة ظَاهر

{من الَّذين كذبُوا بآيَات الله فَتكون من الخاسرين (95) إِن الَّذين حقت عَلَيْهِم كلمت رَبك لَا يُؤمنُونَ (96) وَلَو جَاءَتْهُم كل آيَة حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم (97) فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة} الْمَعْنى.

96

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين حقت عَلَيْهِم كلمة رَبك} مَعْنَاهُ: وَجب عَلَيْهِم عَذَاب رَبك. وَيُقَال: معنى الْكَلِمَة: هُوَ قَوْله تَعَالَى: " هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي، وَهَؤُلَاء فِي النَّار وَلَا أُبَالِي " كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَار. وَقَوله: {لَا يُؤمنُونَ وَلَو جَاءَتْهُم كل آيَة حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} يَعْنِي: الْإِيمَان عَن الْبَأْس.

98

قَوْله تَعَالَى: {فلولا كَانَت قَرْيَة آمَنت فنفعها إيمَانهَا إِلَّا قوم يُونُس} مَعْنَاهُ: فَلم تكن قَرْيَة آمَنت - أَي أهل قَرْيَة آمَنت - فنفعهم إِيمَانهم إِلَّا قوم يُونُس، وَهَذَا الْإِيمَان هُوَ عِنْد نزُول الْعَذَاب. وَالْمَنْقُول فِي الْقَصَص: أَن يُونُس - صلوَات الله عَلَيْهِ - أنذر قومه بِالْعَذَابِ وَخرج من بَينهم، فَلَمَّا رَأَوْا الْعَذَاب شبه النيرَان فِي السَّمَاء خَرجُوا من بلدهم إِلَى الصَّحرَاء، وَفرقُوا بَين الْأَوْلَاد والأمهات والبهائم والأجنة، وضجوا إِلَى الله تَعَالَى ضجة وَاحِدَة، فكشف الله عَنْهُم الْعَذَاب بعد أَن رَأَوْهُ عيَانًا، وَلم يفعل هَذَا بِأحد غَيرهم، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين} أَي: إِلَى أجل مَعْلُوم. وَفِي بعض التفاسير: أَن الدُّعَاء الَّذِي دَعَا بِهِ قوم يُونُس هُوَ: يَا حَيّ حِين لَا حَيّ، يَا حَيّ يَا محيي الْمَوْتَى، يَا حَيّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت.

{الدُّنْيَا ومتعناهم إِلَى حِين (98) وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين (99) وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله وَيجْعَل} وَاخْتلف القَوْل فِي أَنهم هَل رَأَوْا الْعَذَاب عيَانًا أَو رَأَوْا دَلِيل الْعَذَاب؟ فالأكثرون على أَنهم رَأَوْا الْعَذَاب عيَانًا. قَالَ قَتَادَة: تدنى عَلَيْهِم الْعَذَاب حَتَّى صَار بَينهم وَبَين الْعَذَاب قدر ميل. وَقَالَ بَعضهم: رَأَوْا دَلِيل الْعَذَاب، وَلم يرَوا عين الْعَذَاب. وَالْقَوْل الأول أصح؛ بِدَلِيل قَوْله: {كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} والكشف إِنَّمَا يكون بعد وُقُوع الْعَذَاب أَو قرب الْعَذَاب. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قبل إِيمَانهم عِنْد المعاينة، وَلم يقبل إِيمَان غَيرهم، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} دلّ أَن الْإِيمَان المقبول هُوَ الْإِيمَان بِالْغَيْبِ؟ الْجَواب: أَن قوم يُونُس استثنوا من هَذَا الأَصْل بِنَصّ الْقُرْآن، وَالله تَعَالَى يفعل مَا يَشَاء وَلَا سُؤال عَلَيْهِ فِيمَا يفعل. وَزعم الْخَلِيل وسيبويه: أَن الِاسْتِثْنَاء هَاهُنَا مُنْقَطع، وَمعنى الْآيَة: لَكِن قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: الحذر لَا يرد الْقدر، وَالدُّعَاء يرد الْقدر؛ فَإِن الله تَعَالَى كشف الْعَذَاب عَن قوم يُونُس بِالدُّعَاءِ. وَعَن عَليّ - أَيْضا - أَنه قَالَ: كَانَ كشف الْعَذَاب يَوْم عَاشُورَاء. وَقيل فِي تَقْدِير ابْتِدَاء الْآيَة: " فَهَلا " كَانَت قَرْيَة آمَنت حِين ينفعها إيمَانهَا؛ لَكِن قوم يُونُس لما آمنُوا كشفنا عَنْهُم الْعَذَاب، وَمعنى قَرْيَة: أهل قَرْيَة. وَقيل: اسْم تِلْكَ الْقرْيَة كَانَ نِينَوَى، من بِلَاد الجزيرة.

99

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} فِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أخبر أَنه لم يَشَأْ إِيمَان جَمِيع النَّاس، وَعِنْدهم أَنه شَاءَ إِيمَان جَمِيع النَّاس. وَقَوله: {أفأنت تكره النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤمنين} هَذَا تَسْلِيَة للنَّبِي

{الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ (100) قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا تغني الْآيَات وَالنّذر عَن قوم لَا يُؤمنُونَ (101) فَهَل ينتظرون إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين (102) ثمَّ ننجي رسلنَا وَالَّذين آمنُوا كَذَلِك حَقًا} أَنى لَو أردْت لأكرهتهم على الْإِيمَان، وَلم أرد، فَلَا ترد أَنْت - أَيْضا - أَن تكرههم على الْإِيمَان.

100

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} قَالَ عَطاء: إِلَّا بِتَوْفِيق الله. وَقَالَ غَيره: إِلَّا بِعلم الله. وَقيل: إِلَّا بِإِطْلَاق الله ذَلِك بِدفع الْمَوَانِع، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تَمُوت إِلَّا بِإِذن الله} مِنْهُم من قَالَ: " بِإِذن الله " أَي: بِقَضَائِهِ وَتَقْدِيره وَحكمه، والمعاني كلهَا صَحِيحَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا يعْقلُونَ} قَالَ الْفراء: الرجس بِمَعْنى الرجز، وَالرجز هُوَ الْعَذَاب. وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - إِن الرجس هُوَ السخط. وَقيل: إِنَّه الْإِثْم. وَقيل: إِنَّه الْهَلَاك. وَأما قَوْله: {على الَّذين لَا يعْقلُونَ} مَعْنَاهُ: لَا يُؤمنُونَ. وَقيل: معنى قَوْله: {لَا يعْقلُونَ} أَي: لَا يعْقلُونَ عَن الله أمره وَنَهْيه.

101

قَوْله: {قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض من الدَّلَائِل والعبر والحجج. وَقَوله: {وَمَا تغني الْآيَات وَالنّذر عَن قوم لَا يُؤمنُونَ} هَذَا فِي قوم بأعيانهم علم الله تَعَالَى أَنهم لَا يُؤمنُونَ وَإِن نظرُوا فِي الْآيَات.

102

قَوْله تَعَالَى: {فَهَل ينتظرون إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم} الِانْتِظَار هُوَ الثَّبَات لتوقع أَمر. وَقَوله: {إِلَّا مثل أَيَّام الَّذين خلوا من قبلهم} يَعْنِي: مثل أَيَّام الْهَلَاك فِي الَّذين خلوا من قبلهم من الْأُمَم المكذبة. قَوْله: {قل فانتظروا إِنِّي مَعكُمْ من المنتظرين} ظَاهر الْمَعْنى.

103

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ ننجي رسلنَا وَالَّذين آمنُوا} قَوْله: " ننجي " مُسْتَقْبل بِمَعْنى

{علينا ننج الْمُؤمنِينَ (103) قل يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم وَأمرت أَن أكون من الْمُؤمنِينَ (104) وَأَن أقِم وَجهك للدّين حَنِيفا وَلَا تكونن من الْمُشْركين (105) وَلَا تدع من دون} الْمَاضِي، وَمَعْنَاهُ: أنجينا رسلنَا وَالَّذين آمنُوا. قَوْله {كَذَلِك حَقًا علينا ننجي الْمُؤمنِينَ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه.

104

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني، وهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بطلَان مَا جَاءَ بِهِ على بَصِيرَة؟ الْجَواب: أَنه قد كَانَ فيهم قوم شاكوك، فَالْمُرَاد من الْآيَة أُولَئِكَ الْقَوْم. وَالثَّانِي: أَنهم لما رَأَوْا الْآيَات اضْطَرَبُوا وَشَكوا فِي أَمرهم وَأمر النَّبِي. قَوْله: {فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم} ظَاهر الْمَعْنى. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: {إِن كُنْتُم فِي شكّ من ديني فَلَا أعبد الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله} وَهُوَ لَا يعبد الَّذين من دون الله شكوا أَو لم يشكوا؟ وَمَا معنى قَوْله: {وَلَكِن أعبد الله الَّذِي يتوفاكم} ولأي شَيْء خص الْوَفَاة بِالذكر؟ الْجَواب: أما الأول مَعْنَاهُ: إِن كُنْتُم فِي شكّ فلست فِي شكّ، وَلَا أعبد إِلَّا الله على يَقِين وبصيرة. وَأما ذكر الْوَفَاة فِي قَوْله: " يتوفاكم " بِمَعْنى التهديد، فَإِن الْعَذَاب يَقع على الْكَافِر حَتَّى تُدْرِكهُ الْوَفَاة. {وَأمرت أَن أكون من الْمُؤمنِينَ} أَي: من المخلصين.

105

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن أقِم وَجهك للدّين حَنِيفا} مَعْنَاهُ: وَأمرت أَن أستقيم لله على الدّين مخلصا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: واستقم على الدّين الَّذِي أمرت بِهِ بِوَجْهِك. قَوْله تَعَالَى: {حَنِيفا} قد بَينا من قبل، وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي التَّوَجُّه إِلَى الْقبْلَة، وَهِي الْكَعْبَة؛ وَهِي فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} . وَقَوله: {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} ظَاهر الْمَعْنى.

{الله مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك فَإِن فعلت فَإنَّك إِذا من الظَّالِمين (106) وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله يُصِيب بِهِ من يَشَاء من عباده وَهُوَ الغفور الرَّحِيم (107) قل يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الْحق من ربكُم فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَمَا أَنا عَلَيْكُم بوكيل (108) وَاتبع مَا يُوحى}

106

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تدع من دون الله مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك} الدُّعَاء يكون بمعنيين: أَحدهمَا: بِمَعْنى النداء، كَقَوْلِك: يَا زيد، وَيَا عَمْرو، وَالْآخر: بِمَعْنى الطّلب. وَقَوله: {مَا لَا ينفعك وَلَا يَضرك} مَعْنَاهُ: لَا ينفعك إِن دَعوته، وَلَا يَضرك إِن تركت دعاءه. وَقَوله: {فَإِن فعلت فَإنَّك إِذا من الظَّالِمين} يَعْنِي: مِمَّن وضع الدُّعَاء فِي غير مَوْضِعه.

107

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ} مَعْنَاهُ: إِن يصبك الله بضر، والضر: هُوَ الْخَوْف وَالْمَرَض والجوع وَنَحْوه. وَقَوله: {فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ} أَي: لَا كاشف لذَلِك الضّر إِلَّا الله. وَقَوله: {وَإِن يَرك بِخَير} أَي: يصبك بِخَير، وَالْخَيْر: هُوَ الخصب وَالسعَة والعافية وَنَحْوه. وَقَوله: {فَلَا راد لفضله} أَي: لَا مَانع لفضله. قَوْله: {يُصِيب بِهِ من يَشَاء من عباده وَهُوَ الغفور الرَّحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

108

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الْحق من ربكُم} الْحق هَاهُنَا: هُوَ مَا ينجو بِهِ الْإِنْسَان، وضده: الْبَاطِل، وَهُوَ الَّذِي يهْلك بِهِ الْإِنْسَان. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْإِسْلَام. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْقُرْآن. وَقَوله: {فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ} " يَعْنِي ": يحْتَاط لنَفسِهِ. {وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا} يَعْنِي: من كفر وَترك الْإِيمَان؛ فَإِنَّمَا وباله وضلاله عَلَيْهِ. قَوْله: {وَمَا أَنا عَلَيْكُم بوكيل} أَي: بمسلط، وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ تسْأَلُون عَن

{إِلَيْك واصبر حَتَّى يحكم الله وَهُوَ خير الْحَاكِمين (109) } أَعمالكُم وَلَا أسأَل أَنا عَن أَعمالكُم، كَمَا يسْأَل من وكل بالشَّيْء.

109

قَوْله تَعَالَى: {وَاتبع مَا يوحي إِلَيْك} الْوَحْي: إِلْقَاء الشَّيْء فِي قلب الْإِنْسَان على الْخفية. وَقَوله: {واصبر} الصَّبْر: تجرع المرارة بالامتناع عَن الشَّيْء المشتهى لتوقع المحبوب فِي الْعَاقِبَة، وَمِمَّا يعين الْإِنْسَان على الصَّبْر علمه بِحَقِيقَة الْأَمر، وَمَا ينَال من الثَّوَاب، والثقة بموعود الله تَعَالَى. وَقَوله {حَتَّى يحكم الله} أَي: حَتَّى يقْضِي الله {وَهُوَ خير الْحَاكِمين} أَي: خير القاضين.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {آلر كتاب أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت من لدن حَكِيم خَبِير (1) أَلا تعبدوا إِلَّا الله} تَفْسِير سُورَة هود سُورَة هود مَكِّيَّة، إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل} إِلَى آخر الْآيَة؛ فَإِنَّهَا مَدَنِيَّة.

هود

قَوْله تَعَالَى: {الر} مَعْنَاهُ: أَنا الله أرى. وَقَوله: {كتاب} أَي: هَذَا كتاب. وَقَوله: {أحكمت آيَاته} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: أحكمها الله فَلَيْسَ فِيهَا اخْتِلَاف وَلَا تنَاقض. وَالثَّانِي: أَن معنى قَوْله: (أحكمت آيَاته) يَعْنِي: هِيَ محكمَة غير مَنْسُوخَة. وَالثَّالِث: {أحكمت أياته} يَعْنِي: بِالْأَمر وَالنَّهْي، والحلال وَالْحرَام. وَقَوله: {ثمَّ فصلت} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: ثمَّ فصلت بالوعد والوعيد. وَقَالَ مُجَاهِد: فصلت أَي: فسرت وبينت. وَالثَّالِث: ثمَّ فصلت أَي: أنزلهَا الله شَيْئا فَشَيْئًا. وَقيل: أحكمت آيَاته للمعتبرين، ثمَّ فصلت أَحْكَامه لِلْمُتقين. وَقيل: أحكمت آيَاته للقلوب، ثمَّ فصلت أَحْكَامه على الْأَبدَان. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " ثمَّ فصلت " وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا جَاءَت. {من لدن حَكِيم خَبِير} أَي: من عِنْد حَكِيم خَبِير.

2

قَوْله تَعَالَى: {أَلا تعبدوا إِلَّا الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: بِأَن لَا تعبدوا إِلَّا الله. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَمركُم أَن لَا تعبدوا إِلَّا الله. وَقَوله: {إِنَّنِي لكم مِنْهُ نَذِير وَبشير} مَعْنَاهُ: نَذِير للعاصين، وَبشير للمطيعين.

{إِنَّنِي لكم مِنْهُ نَذِير وَبشير (2) وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يمتعكم مَتَاعا حسنا}

3

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قَالَ أهل الْمعَانِي: إِنَّمَا قدم الْمَغْفِرَة على التَّوْبَة؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَطْلُوبَة بِالتَّوْبَةِ. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " مَا أصر من اسْتغْفر وَإِن عَاد سبعين مرّة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار، وَلَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار ". وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {وَأَن اسْتَغْفرُوا ربكُم} يَعْنِي: فِي الْمَاضِي {ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} يَعْنِي: فِي المستأنف. قَوْله: {يمتعكم مَتَاعا حسنا} مَعْنَاهُ: يعيشكم عَيْشًا حسنا. وَقيل: يعمركم عمرا حسنا. وَأما الْعَيْش الْحسن: قَالَ بَعضهم: هُوَ الرِّضَا بالميسور، وَالصَّبْر على (الْمُقدر) . وَقيل: الْعَيْش الْحسن: هُوَ طيب النَّفس وسعة الرزق. وَيُقَال: الْعَيْش الْحسن: هُوَ الْكِفَايَة بالحلال. وَقَوله {إِلَى أجل مُسَمّى} أَي: إِلَى حِين الْمَوْت. وَقَوله: {وَيُؤْت كل ذِي فضل فَضله} فِيهِ قَولَانِ:

{إِلَى أجل مُسَمّى وَيُؤْت كل ذِي فضل فَضله وَإِن توَلّوا فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم كَبِير (3) إِلَى الله مرجعكم وَهُوَ على كل شَيْء قدير (4) أَلا إِنَّهُم يثنون صُدُورهمْ} أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ يُؤْت كل ذِي عمل حسن فِي الدُّنْيَا ثَوَابه فِي الْآخِرَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {يُؤْت كل ذِي فضل فَضله} يَعْنِي: من عمل لله تَعَالَى وَفقه الله تَعَالَى فِيمَا يسْتَقْبل على طَاعَته ويهديه إِلَيْهَا. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: كل مَا يحْتَسب الْإِنْسَان فِيهِ من قَول أَو عمل هُوَ دَاخل فِيهَا، حَتَّى الْكَلِمَة الْوَاحِدَة يَقُولهَا. قَوْله: (وَإِن توَلّوا) أَي: فَإِن أَعرضُوا. قَوْله: {فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم كَبِير} أَي: يَوْم الْقِيَامَة.

4

ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى: {إِلَى الله مرجعكم وَهُوَ على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.

5

قَوْله تَعَالَى {أَلا إِنَّهُم يثنون صُدُورهمْ ليستخفوا مِنْهُ} الْآيَة، قَالَ عبد الله بن شَدَّاد: كَانَ الرجل الْكَافِر يمر بِالنَّبِيِّ فيثني صَدره، ويستغشي بِثَوْبِهِ بغضا للنَّبِي حَتَّى لَا يرَاهُ النَّبِي وَلَا يرى هُوَ النَّبِي. وَعَن بَعضهم: أَن الرجل من الْكفَّار كَانَ يدْخل بَيته ويرخي ستره، ويتغشى بِثَوْبِهِ ويحني ظَهره وَيَقُول: هَل يعلم الله مَا فِي قلبِي؟ وَعَن أبي رزين قَرِيبا من القَوْل الأول، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَمعنى قَوْله: {يثنون صُدُورهمْ} أَي: يعطفون ويطوون، وَمِنْه ثني الثَّوْب، قَالَ الشَّاعِر فِي التغشي: (أرعى النُّجُوم وَلم أُؤمر برعيتها ... وَتارَة أتغشى فضل أطمار) وَقَوله: {ليستخفوا مِنْهُ} أَي: ليستخفوا من الله تَعَالَى. وَقيل: ليستخفوا من النَّبِي. وَفِي الشاذ أَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَرَأَ: " أَلا إِنَّهُم يثنوني صُدُورهمْ " على وزن يفعوعل، وكما يُقَال: يحلولي. {أَلا حِين يستغشون ثِيَابهمْ} يَعْنِي: يتغشون بثيابهم. قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا

{ليستخفوا مِنْهُ أَلا حِين يستغشون ثبابهم يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (5) وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها وَيعلم مستقرها ومستودعها كل فِي كتاب مُبين (6) وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام وَكَانَ عَرْشه} يسرون وَمَا يعلنون إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور) قَالَ الْأَزْهَرِي وَغَيره: معنى الْآيَة من أَولهَا إِلَى آخرهَا: إِن الَّذين أضمروا عَدَاوَة النَّبِي لَا يخفى علينا حَالهم. وَفِي بعض التفاسير: أَن رجلا كَانَ يبطن عَدَاوَة النَّبِي وَكَانَ يخْتَلف إِلَيْهِ وَيظْهر الْمحبَّة لَهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْآيَة.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} الْآيَة. الدَّابَّة: كل مَا يدب على الأَرْض من الْحَيَوَانَات. وَقَوله: {إِلَّا على الله رزقها} أَي: إِن الله يسبب ويسهل رزقها. قَالَ أهل الْمعَانِي: هَذَا على الْمَشِيئَة، لِأَنَّهُ قد يرْزق وَقد لَا يرْزق. وَقَوله: {وَيعلم مستقرها ومستودعها} فِي الْآيَة أَقْوَال: روى مقسم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: المستقر: هُوَ الْمَكَان الَّذِي يأوي إِلَيْهِ، والمستودع: هُوَ الْمَكَان الَّذِي يدْفن فِيهِ. وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: المستقر: هُوَ أَرْحَام الْأُمَّهَات، والمستودع: هُوَ الْموضع الَّذِي يدْفن فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: المستقر: هُوَ الَّذِي يسْتَقرّ عَلَيْهِ عمله، والمستودع: هُوَ الَّذِي يصير إِلَيْهِ أمره فِي الْعَاقِبَة. وَيُقَال: المستقر: أَرْحَام الْأُمَّهَات، والمستودع: هُوَ أصلاب الْآبَاء. وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. وَقَوله: {كل فِي كتاب مُبين} فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} قد بَينا من قبل.

{على المَاء ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا وَلَئِن قلت إِنَّكُم مبعوثون من بعد الْمَوْت ليَقُولن الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (7) وَلَئِن أخرنا عَنْهُم الْعَذَاب إِلَى أمة مَعْدُودَة ليَقُولن مَا يحسه أَلا يَوْم يَأْتِيهم لَيْسَ مصروفا عَنْهُم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون} وَقَوله: {وَكَانَ عَرْشه على المَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الْعَرْش على المَاء، وَالْمَاء على متن الرّيح، أَي: صلب الرّيح. وروى يزِيد بن هَارُون، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن وَكِيع ابْن حدس، عَن أبي رزين الْعقيلِيّ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، أَيْن كَانَ رَبنَا قبل أَن يخلق خلقه؟ قَالَ: فِي عماء مَا فَوْقه هَوَاء وَمَا تَحْتَهُ هَوَاء، وَكَانَ عَرْشه على المَاء ". قَالَ يزِيد بن هَارُون: معنى قَوْله: " فِي عماء " أَي: لَيْسَ مَعَه غَيره. أوردهُ ابو عِيسَى فِي كِتَابه على هَذَا الْوَجْه. قَوْله: {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} مَعْنَاهُ: ليختبركم أَيّكُم أعمل بِطَاعَة الله تَعَالَى، وأسرع إِلَى طلب مرضات الله، وَأَوْرَع عَن محارم الله، وَمَعْنَاهُ: الِابْتِلَاء من الله وَقد بَينا من قبل. وَقَوله: {وَلَئِن قلت إِنَّكُم مبعوثون من بعد الْمَوْت ليَقُولن الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} أَي: إِلَّا خدع ظَاهر.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أخرنا عَنْهُم الْعَذَاب إِلَى أمة مَعْدُودَة} مَعْنَاهُ: إِلَى أجل مَعْدُودَة. قَوْله: {ليَقُولن مَا يحْبسهُ} مَعْنَاهُ: ليَقُولن الَّذين كفرُوا: أَي شَيْء يحْبسهُ؟ يَعْنِي: الْعَذَاب. وَقَوله: {أَلا يَوْم يَأْتِيهم لَيْسَ مصروفا عَنْهُم} مَعْنَاهُ: أَلا يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب لَا يكون الْعَذَاب مصروفا عَنْهُم. وَقَوله {وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون} مَعْنَاهُ: وَنزل بهم جَزَاء استهزائهم.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة} الرَّحْمَة هَاهُنَا: هِيَ سَعَة الرزق.

( {8) وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ إِنَّه ليئوس كفور (9) وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني إِنَّه لفرح فخور (10) إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير (11) فلعلك تَارِك بعض مَا يُوحى إِلَيْك وضائق بِهِ صدرك أَن يَقُولُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ كنز أَو جَاءَ مَعَه ملك إِنَّمَا أَنْت} وَقَوله: {ثمَّ نزعناها مِنْهُ} يَعْنِي أخذناها مِنْهُ، قَوْله: {إِنَّه ليئوس كفور} أَي: قنوط من رَحْمَة الله تَعَالَى، كفور بِنِعْمَة الله.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني} يَعْنِي: يَقُول الْإِنْسَان: ذهب السَّيِّئَات عني باستحقاقي لذَلِك، وَلَا يرَاهُ من الله تَعَالَى. وَقَوله: {إِنَّه لفرح فخور} الْفَرح: لَذَّة فِي الْقلب بنيل المشتهى، وَالْفَخْر: هُوَ التطاول على النَّاس بتعديد المناقب، وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ فِي الْقُرْآن فِي مواضغ كَثِيرَة.

11

وَقَوله: {إِلَّا الَّذين صَبَرُوا} قَالَ الْفراء والزجاج: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ. وَلَكِن الَّذين صَبَرُوا {وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير} مَعْنَاهُ ظَاهر.

12

قَوْله تَعَالَى: {فلعلك تَارِك بعض مَا يُوحى إِلَيْك وضائق بِهِ صدرك} قَالَ أهل التَّفْسِير: سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الْكفَّار لما قَالُوا: يَا مُحَمَّد، أئت بقرآن غير هَذَا أَو بدله، يعنون: ائْتِ بقرآن لَيْسَ فِيهِ سبّ آلِهَتنَا - على مَا ذكرنَا فِي سُورَة يُونُس - همّ النَّبِي أَن يدع سبّ آلِهَتهم ظَاهرا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {فلعلك تَارِك بعض مَا يُوحى إِلَيْك} يَعْنِي: سبّ الْآلهَة ظَاهرا {وضائق بِهِ صدرك} يَعْنِي: ولعلك يضيق صدرك {أَن يَقُولُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ كنز أَو جَاءَ مَعَه ملك} أَي: هلاّ أنزل عَلَيْهِ كنز أوجاء مَعَه ملك. وَقَوله: {إِنَّمَا أَنْت نَذِير} مَعْنَاهُ: إِن عَلَيْك الْإِنْذَار والإبلاغ، وَلَيْسَ عَلَيْك أَن تَأتي بِالْآيَاتِ الَّتِي يقترحونها. وَقَوله {وَالله على كل شَيْء وَكيل} أَي: حَافظ.

13

قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افتراه} مَعْنَاهُ: بل يَقُولُونَ: افتراه، وافتراه: اختلقه {قل

{نَذِير وَالله على كل شَيْء وَكيل (12) أم يَقُولُونَ افتراه قل فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله إِن كُنْتُم صَادِقين (13) فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا} فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات) ومعني مثله: أَي: مثله فِي البلاغة. قَالَ عَليّ بن عِيسَى النَّحْوِيّ: البلاغة على ثَلَاث مَرَاتِب: الْمرتبَة الْعليا: معْجزَة، وَالْوُسْطَى والأدنى ممكنه. وَالْقُرْآن فِي الْمرتبَة الْعليا من البلاغة. فَإِن قيل: قد قَالَ فِي سُورَة يُونُس: {فَأتوا بِسُورَة مثله} وَقد عجزوا عَن أَن يَأْتُوا بِسُورَة، فَكيف يَصح أَن يَقُول لَهُم {فَأتوا بِعشر سور مثله} ، وَمَا هَذَا إِلَّا كَرجل يَقُول لغيره: أَعْطِنِي درهما، فيعجز عَنهُ فَيَقُول: أَعْطِنِي عشرَة دَرَاهِم، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {مفتريات} وَهل يجوز أَن يَأْمر الله تَعَالَى أَن يَأْتُوا بالافتراء؟ الْجَواب عَنهُ: عَنهُ مِنْهُم من قَالَ: إِن سُورَة هود نزلت أَولا وَإِن كَانَت فِي التَّرْتِيب آخرا، وَأنكر الْمبرد هَذَا، وَقَالَ: لَا، بل نزلت سُورَة يُونُس أَولا. وَأجَاب عَن السُّؤَال وَقَالَ: معنى قَوْله: {فَأتوا بِسُورَة مثله} فِي سُورَة يُونُس يَعْنِي مثله فِي الْخَبَر عَن الْغَيْب وَالْأَحْكَام. والوعد والوعيد، فعجزوا، فَقَالَ لَهُم فِي سُورَة هود: إِن عجزتم عَن الْإِتْيَان بِسُورَة مثل الْقُرْآن فِي أخباره وَأَحْكَامه ووعده ووعيده، فَأتوا بِعشر سور مثله مفتريات يَعْنِي: مختلقات من غير خبر عَن غيب وَلَا حكم وَلَا وعد وَلَا وَعِيد، وَإِنَّمَا هِيَ مُجَرّد البلاغة. وَهَذَا جَوَاب صَحِيح. وَأما السُّؤَال الثَّانِي فَالْجَوَاب: قُلْنَا: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يَأْمُرهُم بالإفتراء، وَإِنَّمَا تحدى، وَمَعْنَاهُ: أَن إصراركم فِي تَكْذِيب مُحَمَّد وزعمكم أَنه افترى الْقُرْآن يُوجب عَلَيْكُم أَن تَأْتُوا بِمثلِهِ افتراء، ليظْهر كذب مُحَمَّد كَمَا زعمتموه، فَلَمَّا عجزتم دلّ أَنه صَادِق. وَقَوله: {وَادعوا من اسْتَطَعْتُم من دون الله} مَعْنَاهُ: وَاسْتَعِينُوا بِمن اسْتَطَعْتُم من دون الله {إِن كُنْتُم صَادِقين} .

{لكم فاعلموا أَنما أنزل بِعلم الله وَأَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ (14) من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا وهم فِيهَا لَا يبخسون (15) أُولَئِكَ الَّذين لَيْسَ لَهُم فِي الْآخِرَة إِلَّا النَّار وحبط مَا صَنَعُوا فِيهَا وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ (16) أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه ويتلوه شَاهد مِنْهُ وَمن قبله كتاب مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَة أُولَئِكَ}

14

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لكم فاعلموا أَنما أنزل بِعلم الله} يجوز أَن يكون قَوْله: {فاعلموا} خطاب للْمُؤْمِنين، وَيجوز أَن يكون خطابا للْمُشْرِكين. وَقَوله {بِعلم الله} بِمَعْنى أنزلهُ وَفِيه علمه، وَهَذَا رد على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ قَالُوا: لَا علم لله. وَقَوله: {وَأَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ} يَعْنِي: فاعلموا أَن لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ؟ أَي: مخلصون.

15

قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا} قَالَ الضَّحَّاك: نزلت الْآيَة فِي الْمُشْركين. وَقَالَ مُجَاهِد وَجَمَاعَة: نزلت الْآيَة فِي كل من عمل عملا وَأَرَادَ بِهِ غير الله. وَقَوله: {نوف إِلَيْهِم أَعْمَالهم فِيهَا} يَعْنِي: نجازيهم على أَعْمَالهم فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بسعة الرزق وَدفع المكاره وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {وهم فِيهَا لَا يبخسون} فِيهَا أَي: فِي الدُّنْيَا، لَا يبخسون يَعْنِي: لَا ينقص حظهم. ثمَّ قَالَ:

16

{أُولَئِكَ الَّذين لَيْسَ لَهُم فِي الْآخِرَة إِلَّا النَّار وحبط مَا صَنَعُوا فِيهَا} وَبَطل مَا صَنَعُوا فِيهَا. وَقَوله: {وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: وَمَا حق مَا كَانُوا يعْملُونَ.

17

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه} فِي الْآيَة حذف، وَمَعْنَاهُ: أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه كمن يُرِيد الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا. وَعَامة أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد بِهِ النَّبِي، وَقيل: إِن المُرَاد مِنْهُ: النَّبِي وكل مُؤمن فِي الْعَالم. وَالْأول هُوَ الصَّحِيح. وَقَوله: {على بَيِّنَة من ربه} أَي: على بَيَان من ربه. وَقَوله {ويتلوه شَاهد مِنْهُ} فِيهِ أَقْوَال: الأول: عَلَيْهِ أَكثر أهل التَّفْسِير: أَن المُرَاد مِنْهُ: جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَهَذَا قَول

ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر تلميذ النَّخعِيّ، وَالنَّخَعِيّ، وَغَيرهم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {ويتلوه شَاهد مِنْهُ} يَعْنِي: لِسَان مُحَمَّد. حكى هَذَا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَرَوَاهُ بَعضهم عَن [الْحُسَيْن] بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا. وَالثَّالِث: أَن قَوْله {ويتلوه شَاهد مِنْهُ} هُوَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: مَا من قرشي إِلَّا وَنزلت فِيهِ آيَة من الْقُرْآن، فَقيل لَهُ: وَهل نزل فِيك شَيْء؟ فَقَالَ: {وتيلوه شَاهد مِنْهُ} . وَالرَّابِع: {ويتلوه شَاهد مِنْهُ} ملك من الْمَلَائِكَة نزل يحفظه ويسدده وَيشْهد لَهُ. وَقيل: إِن قَوْله: {شَاهد مِنْهُ} هُوَ الْإِنْجِيل، وَمَعْنَاهُ: يتبعهُ مُصدقا لَهُ، يَعْنِي: وَهُوَ مصدقه. وَقَوله: {وَمن قبله كتاب مُوسَى إِمَامًا} أَرَادَ بِهِ: التَّوْرَاة، وَقَوله {إِمَامًا وَرَحْمَة} يَعْنِي: كَانَت إِمَامًا وَرَحْمَة لمن اتبعها، وَهِي مصدقة لِلْقُرْآنِ، شاهدة للنَّبِي. وَقَوله: {أُولَئِكَ يُؤمنُونَ بِهِ} قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الَّذين أَسْلمُوا من أهل الْكتاب. وَقَوله: {وَمن يكفر بِهِ} يَعْنِي: بالرسول {من الأخزاب} وهم تحزبوا على النَّبِي أَي: تفَرقُوا من قبائلهم واجتمعوا عَلَيْهِ من قُرَيْش وَغَيرهم. وَفِي بعض التفاسير: أَنهم بَنو أُميَّة وَبَنُو الْمُغيرَة وبنوأبي طَلْحَة بن عبد الْعُزَّى، وَالْمرَاد هُوَ: الْكفَّار مِنْهُم دون الْمُسلمين. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْأَحْزَاب أهل الْملَل كلهَا. روى أَبُو موس الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من أحد يسمع بِي فَلَا يُؤمن إِلَّا أدخلهُ الله النَّار ". قَالَ سعيد بن جُبَير: طلبت مصداق هَذَا من الْقُرْآن فَوَجَدته فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن يكفر بِهِ من الْأَحْزَاب فَالنَّار موعده} .

{يُؤمنُونَ بِهِ وَمن يكفر بِهِ من الْأَحْزَاب فَالنَّار موعده فَلَا تَكُ فِي مرية مِنْهُ إِنَّه الْحق من رَبك وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ (17) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أُولَئِكَ يعرضون على رَبهم وَيَقُول الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم أَلا لعنة الله على الظَّالِمين (18) الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا وهم بِالآخِرَة هم كافرون} وَقَوله: {فَلَا تَكُ فِي مرية مِنْهُ} يَعْنِي: فَلَا تَكُ فِي شكّ مِنْهُ. وَقيل مَعْنَاهُ: فَلَا تَكُ فِي شَيْء مِنْهُ أَيهَا الشاك. قَوْله: {إِنَّه الْحق من رَبك وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته} مَعْنَاهُ: لَا أحد أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا. ثمَّ قَالَ: {أُولَئِكَ يعرضون على رَبهم} الْعرض: هُوَ إِظْهَار الشَّيْء ليرى وَيُوقف على حَاله، وَمِنْه قَوْلهم: عرض السُّلْطَان الْجند. وَقَوله: {وَيَقُول الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم} اخْتلف القَوْل فِي الأشهاد، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هم الْأَنْبِيَاء والمرسلون. وَقَالَ مُجَاهِد: هم الْمَلَائِكَة. وَقَالَ بَعضهم: الْخَلَائق كلهم. وَقَوله: {هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى. وروى ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: " يدنى الْمُؤمن ربه يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يضع كنفه عَلَيْهِ، فيقرره بذنوبه وَيَقُول: هَل تعرف كَذَا؟ فَيَقُول: أعرف. هَل تعرف كَذَا؟ فَيَقُول: أعرف. فيسأله مَا سَأَلَهُ، ثمَّ يَقُول: سترته عَلَيْك فِي الدُّنْيَا، وَأَنا أغفره لَك الْيَوْم، ثمَّ يعْطى كِتَابه بِيَمِينِهِ، وَأما الْكفَّار فينادى على رُءُوس الأشهاد: هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم، أَلا لعنة الله على الظَّالِمين ". وَهَذَا الحَدِيث هُوَ حَدِيث النَّجْوَى، اتَّفقُوا على صِحَّته عَن النَّبِي.

19

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله} مَعْنَاهُ: الَّذين يمْنَعُونَ عَن دين الله. وَقَوله: {ويبغونها عوجا} يَعْنِي: وَيطْلبُونَ الأعوجاج فِي دين الله. وَقَوله {وهم

( {19) أُولَئِكَ لم يَكُونُوا معجزين فِي الأَرْض وَمَا كَانَ لَهُم من دون الله من أَوْلِيَاء يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون (20) أُولَئِكَ} بِالآخِرَة هم كافرون) قَالَ ثَعْلَب: تَكْرِير " هم " على طَرِيق التَّأْكِيد لدُخُول الْآخِرَة بَينهمَا.

20

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ لم يَكُونُوا معجزين فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: أُولَئِكَ لم يَكُونُوا فائتين، وَقيل: أُولَئِكَ لم يَكُونُوا هاربين من عذابنا؛ فَإِن من هرب عَن الشَّيْء وَقع الْعَجز عَنهُ. وَقَوله: {وَمَا كَانَ لَهُم من دون الله من أَوْلِيَاء} يَعْنِي: من ناصرين وحافظين عَن عذابنا. وَقَوله: {يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب} فَإِن قيل: مَا معنى تَضْعِيف الْعَذَاب وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا} ؟ الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مضاعفة الْعَذَاب بمضاعفة الجرم. وَالْآخر: أَن الْآيَة فِي رُؤَسَاء أهل الشّرك، وتضعيف الْعَذَاب عَلَيْهِم بتضليل الإتباع ودعائهم إيَّاهُم إِلَى شركهم. وَقَوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون} قَالَ ابْن عَبَّاس: حَال الله بَينهم وَبَين اإيمان. وَذكر الْفراء عَن بعض أهل الْمعَانِي: أَن معنى الْآيَة: يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع فَلَا يَسْتَمِعُون. وَسَائِر النُّحَاة أَنْكَرُوا تَقْدِير " الْبَاء " هَاهُنَا. والاستطاعة: قُوَّة تنطاع بهَا الْجَوَارِح للْعَمَل. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنهم لما يسمعوا اسْتِمَاع (التفهم) وَالِانْتِفَاع بِهِ، وَلم يبصروا بصر الْحَقِيقَة؛ جعلهم كمن لَا يَسْتَطِيع السّمع وَالْبَصَر.

21

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين خسروا أنفسهم} مَعْنَاهُ: غبنوا أنفسهم. وَقيل إِن

{الَّذين خسروا أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (21) لَا جرم أَنهم فِي الْآخِرَة هم الأخسرون (22) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وأخبتوا إِلَى رَبهم أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ (23) مثل الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَل} أعظم الخسران، خسران النَّفس، وَأعظم الرِّبْح: ربح النَّفس. وَقَوله: {وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} يَعْنِي: فَاتَ عَنْهُم مَا كَانُوا يَزْعمُونَ من شَفَاعَة الْمَلَائِكَة والأصنام.

22

قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لاجرم يَعْنِي: حَقًا {أَنهم فِي الْآخِرَة هم الأخسرون} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {لَا} رد لما قَالُوا، وَقَوله: {جرم} ابْتِدَاء كَلَام، وجرم بِمَعْنى: كسب، قَالَ الشَّاعِر: (وَلَقَد طعنت أَبَا عُيَيْنَة طعنة ... جرمت فَزَارَة بعْدهَا أَن يغضبوا) يَعْنِي: كسبتهم الْغَضَب. وَقَالَ آخر: (نصبنا رَأسه فِي رَأس جذع ... بِمَا جرمت يَدَاهُ وَمَا اعتدينا.) فَمَعْنَى الْآيَة: جرم أَي: كسب لَهُم كفرهم التباب والخسران.

23

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وأخبتوا إِلَى رَبهم} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: خشعوا. وَقَالَ بَعضهم: اطمأنوا. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: خَافُوا. وَقَوله: {إِلَى رَبهم} أَي: لرَبهم، مثل قَوْله تَعَالَى {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} أَي: إِلَيْهَا، فَكَذَلِك هَاهُنَا: إِلَى رَبهم. وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة هم فِيهَا خَالدُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

24

قَوْله تَعَالَى: {مثل الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى والأصم والبصير والسميع} الْآيَة، الْفَرِيقَانِ هَاهُنَا: فريق الْكفَّار، وفريق الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {كالأعمى والأصم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن " الْوَاو " صلَة، وَمَعْنَاهُ: كالأعمى الْأَصَم، كَمَا يَقُول الْقَائِل: رَأَيْت الْعَاقِل والظريف أَي: رَأَيْت الْعَاقِل الظريف.

{يستويان مثلا أَفلا تذكرُونَ (24) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه إِنِّي لكم نَذِير جين (25) أَن لَا تعبدوا إِلَّا الله إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم أَلِيم (26) فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه مَا نرَاك إِلَّا بشرا مثلنَا وَمَا نرَاك اتبعك إِلَّا الَّذين هم أراذلنا بَادِي الرَّأْي وَمَا} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " الْوَاو " لتعميم التَّشْبِيه، وَمَعْنَاهُ: حَال الْكَافِر كَحال الْأَعْمَى، وحاله كَحال الْأَصَم، وحاله كَحال الْأَعْمَى والأصم. وَقَوله: {والبصير والسميع} الْكَلَام فِيهِ مثل هَذَا، وَالْمرَاد مِنْهُ: حَالَة الْمُؤمن. وَقَوله {هَل يستويان مثلا} رُوِيَ أَن الْكفَّار لما سمعُوا هَذَا قَالُوا: لَا يستويان، فَأنْزل الله تَعَالَى: {أَفلا تذكرُونَ} يَعْنِي: أَفلا تتعظون؟ !

25

قَوْله: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه إِنِّي لكم نَذِير مُبين} قرئَ بقراءتين؛ بِالنّصب والخفض؛ فَمَعْنَى النصب: بِأَنِّي لكم نَذِير مُبين.

26

قَوْله تَعَالَى: {أَلا تعبدوا إِلَّا الله} مَعْنَاهُ: آمركُم أَلا تعبدوا إِلَّا الله، وَالْعِبَادَة: التَّوْحِيد، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالتَّوْحِيدِ لِأَنَّهُ من أهم الْأُمُور. وَقَوله: {إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم أَلِيم} أَي: مؤلم، والمؤلم: الموجع.

27

قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه} الْمَلأ هم الْأَشْرَاف والرؤساء. وَقَوله: {مَا نرَاك إِلَّا بشرا مثلنَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَمَا نرَاك اتبعك إِلَّا الَّذين هم أراذلنا بَادِي الرَّأْي} والأراذل: جمع الرذل، والرذل: الخسيس الدون. وَقيل: الأراذل: الأسافل، والرذل: السفلة، وَفِي السفلة أَقْوَال كَثِيرَة لأهل الْعلم. قَالَ مَالك بن أنس: السفلة: هُوَ الَّذِي يسب أَصْحَاب النَّبِي. وروى عَن الْحسن بن زِيَاد اللؤْلُؤِي أَنه قَالَ: السفلة: الَّذِي لَا دين لَهُ. وَعَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ: السفلة: الَّذِي لَا يُبَالِي مَا قَالَ وَمَا قيل لَهُ. وَعَن ابْن الْمُبَارك قَالَ: هم الَّذين يتقلسون ويأتون أَبْوَاب الْقُضَاة يطْلبُونَ الشَّهَادَات. وروى ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: السفلة: هُوَ الَّذِي يَأْكُل بِدِينِهِ، وسفلة السفلة هُوَ

{نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27) قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي وآتاني رَحْمَة من عِنْده فعميت عَلَيْكُم أنلزمكموها وَأَنْتُم لَهَا كَارِهُون (28) وَيَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ مَالا إِن أجري إِلَّا على الله وَمَا أَنا بطارد الَّذين آمنُوا إِنَّهُم ملاقوا} الَّذِي يُسَوِّي دنيا غَيره بِدِينِهِ. وَفِي بعض الْآثَار: أَشْقَى الأشقياء من بَاعَ دينه بدنيا غَيره. وَقيل: إِن السفلة هم أَصْحَاب الصناعات الدنية مثل: الكناسين، والدباغين، والسماكين، والحجامين، والحاكة، وَغَيرهم. وَرُوِيَ أَن بعض الْعلمَاء بِبَغْدَاد سُئِلَ عَن امْرَأَة قَالَت لزَوجهَا: يَا سفلَة، فَقَالَ: إِن كنت سفلَة فَأَنت طَالِق، فَقَالَ لَهُ ذَلِك الْعَالم: مَا صناعتك؟ فَقَالَ: سماك، فَقَالَ: سفلَة وَالله سفلَة. وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: هم الَّذين إِذا اجْتَمعُوا غلبوا، وَإِذا تفَرقُوا لم يعرفوا. وَقَوله: {بَادِي الرَّأْي} قرئَ بقراءتين: بِالْهَمْز، وَترك الْهَمْز فَأَما بِالْهَمْز فَمَعْنَاه: أول الرَّأْي؛ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُم اتبعوك فِي أول الرَّأْي وَلم يتفكروا وَلَو تَفَكَّرُوا، لم يتبعوك. وَأما بَادِي الرَّأْي بترك الْهَمْز فَمَعْنَاه: ظَاهر الرَّأْي. قَالَ الزّجاج: يَعْنِي: اتبعوك ظَاهرا لَا بَاطِنا. وَقَوله: {وَمَا نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} ظَاهر الْمَعْنى.

28

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي} يَعْنِي: على بَيَان من رَبِّي. وَقَوله: {وآتاني رَحْمَة من عِنْده} الرَّحْمَة هَاهُنَا هِيَ النُّبُوَّة وَالْهدى. قَوْله {فعميت عَلَيْكُم} أَي: فخفيت عَلَيْكُم؛ لِأَن من عمي عَن الشَّيْء فقد خفى ذَلِك الشَّيْء عَلَيْهِ. وَقُرِئَ: " فعميت عَلَيْكُم " مَعْنَاهُ: فأخفيت عَلَيْكُم. وَقَوله: {أنلزمكموها} مَعْنَاهُ: أنلزمكم الدعْوَة {وَأَنْتُم لَهَا كَارِهُون} قَالَ قَتَادَة: لَو قدر الْأَنْبِيَاء أَن يلزموا قَومهمْ لألزموا [قَومهمْ] ؛ وَلَكِن لم يقدروا.

29

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ مَالا إِن أجري إِلَّا على الله} مَعْنَاهُ: مَا

{رَبهم وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوما تجهلون (29) وَيَا قوم من ينصرني من الله إِن طردتهم أَفلا تذكرُونَ (30) وَلَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول إِنِّي ملك وَلَا أَقُول للَّذين تزدري أعينكُم لن يُؤْتِيهم الله خيرا الله أعلم بِمَا فِي أنفسهم إِنِّي إِذا لمن الظَّالِمين (31) قَالُوا يَا نوح قد جادلتنا فَأَكْثَرت جدالنا فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من} ثوابي إِلَّا على الله. وَقَوله: {وَمَا أَنا بطارد الَّذين آمنُوا} فِيهِ دَلِيل أَنهم طلبُوا مِنْهُ أَن يطرد الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {إِنَّهُم ملاقوا رَبهم} يَعْنِي: إِنَّهُم صائرون إِلَى رَبهم فيجزي من طردهم. وَقَوله: {وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوم تجهلون} ظَاهر الْمَعْنى.

30

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم من ينصرني من الله إِن طردتهم} مَعْنَاهُ: من يَمْنعنِي من عَذَاب الله إِن طردتهم {أَفلا تذكرُونَ} أَي: أغلا تتعظون؟ .

31

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله} مَعْنَاهُ: لَيْسَ عِنْدِي خَزَائِن الله فَآتي مَا تطلبون. وَقَوله: {وَلَا أعلم الْغَيْب} يَعْنِي: لَا أعلم الْغَيْب فأخبركم بِمَا تُرِيدُونَ. وَقَوله: {وَلَا أَقُول إِنِّي ملك} هَذَا جَوَاب لقَولهم: {مَا نرَاك إِلَّا بشرا مثلنَا} . وَقَوله: {وَلَا أَقُول للَّذين تزدري أعينكُم} تزدري أَي: تحتقر وتستخس، هَذَا جَوَاب لقَولهم: {وَمَا نرَاك اتبعك إِلَّا الَّذين هم أراذلنا بَادِي الرَّأْي} . وَقَوله {لن يُؤْتِيهم الله خيرا} أَي: لن يُؤْتِيهم أجرا {الله أعلم بِمَا فِي أنفسهم} . [يَعْنِي: فِي صُدُورهمْ، فِي أَن يَأْتِيهم الله خيرا] وَقَوله: {إِنِّي إِذا لمن الظَّالِمين} يَعْنِي: إِنِّي إِذا لمن الظَّالِمين لَو قلت هَذَا أَو طردتهم.

32

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا نوح قد جادلتنا فَأَكْثَرت جدالنا} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " فَأَكْثَرت جدالنا " بِالْفَتْح؛ والمجادلة خُصُومَة على وَجه الْمُبَالغَة، وأصل الجدل: هُوَ الفتل، وَالْعرب تسمى الصَّقْر: الأجدل؛ لِشِدَّتِهِ فِي الْجَوَارِح. وَالْفرق بَين الْحجَّاج والمجادلة: أَن الْمَطْلُوب من الْحجَّاج ظُهُور الْحق فِي الْمَطْلُوب، وَمن المجادلة هُوَ رُجُوع الْخصم إِلَى قَوْله.

{الصَّادِقين (32) قَالَ إِنَّمَا يأتيكم بِهِ الله إِن شَاءَ وَمَا أَنْتُم بمعجزين (33) وَلَا ينفعكم نصحي إِن أردْت أَن أنصح لكم إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم هُوَ ربكُم وَإِلَيْهِ ترجعون (34) أم يَقُولُونَ افتراه قل إِن افتريته فعلي إجرامي وَأَنا بَرِيء مِمَّا تجرمون (35) } وَالْفرق بَين المراء والمجادلة: أَن الْمَرْء مَذْمُوم؛ لِأَنَّهُ خُصُومَة بعد ظُهُور الْحق، والجدال غير مَذْمُوم، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُبَالغ فِيهِ من غير قصد طلب الْحق. وَقَوله تَعَالَى: {فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين} هَذَا دَلِيل على أَنه كَانَ وعدهم الْعَذَاب إِن لم يُؤمنُوا.

33

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا يأتيكم بِهِ الله إِن شَاءَ} يَعْنِي: بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {وَمَا أَنْتُم بمعجزين} أَي: بفائتين وَلَا هاربين.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا ينفعكم نصحي} والنصح: إخلاص الْعَمَل عَن الْفساد. وَقيل: إِنَّه بَيَان مَوضِع الغي ليجتنب، وَبَيَان مَوضِع الرشد ليطلب. وَقَوله: {إِن أردْت أَن أنصح لكم} أَرَادَ مُوَافقَة لأمر الله. وَقَوله: {إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن مَعْنَاهُ: يضلكم. وَقيل: يخلق الغي فِي قُلُوبكُمْ، والغي ضد الرشد. وَذكر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ أَن معنى قَوْله: {يغويكم} : يهلككم. وَلم يرض ابْن الْأَنْبَارِي هَذَا من حَيْثُ اللُّغَة، وَقَالَ: لَا يَسْتَقِيم فِي اللُّغَة أَن يذكر الإغواء بِمَعْنى الإهلاك. وَقَالَ بَعضهم: يخيبكم من رَحمته. وَقَوله: {هُوَ ربكُم وَإِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى، وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة.

35

قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افتراه} بل يَقُولُونَ: افتراه أَي: اختلقه. وَقَوله: {قل إِن افتريته فعلي إجرامي} قرئَ فِي الشاذ: " قعلي أجرامي " بِالْفَتْح، والأجرام: جمع الجرم، والإجرام: هُوَ كسب الذَّنب، وَمعنى الْآيَة: فعلي وبال ذَنبي وجرمي. وَقَوله: {وَأَنا برِئ مِمَّا تجرمون} يَعْنِي: أَنا برِئ مِمَّا تكتسبون من الذَّنب.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَأوحى إِلَى نوح} روى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن قوم نوح كَانُوا يضْربُونَ نوحًا حَتَّى [يسْقط] ، فيلقونه فِي لبد ويلقونه فِي بَيته ويظنون أَنه قد

{وأوحي إِلَى نوح أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) واصنع الْفلك بأعيننا ووحينا وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون (37) } مَاتَ، فَيخرج فِي الْيَوْم الثَّانِي ويدعوهم إِلَى الله؛ فَروِيَ أَن شَيخا جَاءَ يتَوَكَّأ على عَصا وَمَعَهُ ابْنه فَقَالَ: يَا بني لَا يغرنك هَذَا الشَّيْخ الْمَجْنُون، فَقَالَ: يَا ابة، أمكني من الْعَصَا، فَدفع إِلَيْهِ الْعَصَا، فَضرب نوحًا على رَأسه وشجمة شجة مُنكرَة حَتَّى سَالَتْ الدِّمَاء مِنْهُ، وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِيمَان، فَأنْزل الله تَعَالَى: {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} فَحِينَئِذٍ استجار بِالدُّعَاءِ وَقَالَ: {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} . وَقَوله: {فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: فَلَا تحزن. قَالَ أهل اللُّغَة: الابتئاس: حزن مَعَ استكانة، قَالَ الشَّاعِر: (مَا يقسم الله فاقبل غير مبتئس ... مِنْهُ واقعد كَرِيمًا ناعم الْبَالِي)

37

قَوْله تَعَالَى: {واصنع الْفلك بأعيننا} عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: بمرأى منا. وَعَن الضَّحَّاك: بمنظر منا. وَقيل: برؤيتنا وحفظنا. وَفِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - أَتَى نوحًا - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ: إِن رَبك يَأْمُرك أَن تصنع الْفلك. قَالَ: كَيفَ أصنع وَلست بنجار؟ ! فَقَالَ: إِن رَبك يَقُول: اصْنَع الْفلك فَأَنت بعيني. فَأخذ الْقدوم وَجعل يصنع الْفلك فَلَا يخطيء موضعا. وَقَوله: {ووحينا} أَي: وأمرنا. وَقَوله: {وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا تخاطبني فِي إمهال الْكفَّار، فَإِنِّي قد حكمت بإغراقهم. وَالثَّانِي: لَا تخاطبني فِي ابْنك؛ فَإِنَّهُ هَالك مَعَ الْقَوْم.

38

قَوْله تَعَالَى: {ويصنع الْفلك} رُوِيَ عَن زيد بن أسلم أَنه قَالَ: مكث نوح مائَة سنة يغْرس الْأَشْجَار وَيقطع، وَمكث مائَة سنة يعْمل الْفلك. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: إِن نوحًا عمل السَّفِينَة فِي ثَلَاثِينَ سنة. وَرُوِيَ عَن سلمَان الْفَارِسِي: أَن نوحًا

{ويصنع الْفلك وَكلما مر عَلَيْهِ مَلأ من قومه سخروا مِنْهُ قَالَ إِن تسخروا منا فَإنَّا نسخر مِنْكُم كَمَا تسخرون (38) فَسَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب} عمل السَّفِينَة فِي أَرْبَعمِائَة سنة. ذكر فِي بعض التفاسير، وَالْمَعْرُوف الأول. وَقَوله: {وَكلما مر عَلَيْهِ مَلأ من قومه سخروا مِنْهُ} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانُوا إِذا مروا عَلَيْهِ قَالُوا: إِن هَذَا الَّذِي كَانَ يزْعم أَنه نَبِي قد صَار نجارا. وَرُوِيَ أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: يَا نوح، مَا تصنع؟ فَيَقُول: أصنع بَيْتا يمشي على المَاء، فيضحكون ويتعجبون مِنْهُ. وَفِي بعض التفاسير عَن ابْن عَبَّاس: أَنهم لم يَكُونُوا رَأَوْا بحرا قطّ وَلَا سفينة، وَإِنَّمَا الْبحار الْآن من بقايا الطوفان. وَقَوله: {قَالَ إِن تسخروا منا فَإنَّا نسخر مِنْكُم كَمَا تسخرون} فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يسخر نَبِي من الْأَنْبِيَاء من قومه؟ الْجَواب: إِن هَذَا على وَجه ازدواج الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: إِن تستجهلوني فَإِنِّي أستجهلكم إِذا نزل الْعَذَاب. وَقيل مَعْنَاهُ: إِن تسخروا مني فسترون عَاقِبَة سخريتكم.

39

قَوْله تَعَالَى: {فَسَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه} هَذَا مُتَّصِل بقوله: {فَسَوف تعلمُونَ} وَمَعْنَاهُ: فَسَوف تعلمُونَ أَيّنَا {يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه} وَقيل: فَسَوف تعلمُونَ الَّذِي يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه، هَذَا وَمعنى قَوْله: " يخزيه ": يهلكه، وَقيل: يذله. وَقَوله {وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم} مَعْنَاهُ: ينزل عَلَيْهِ عَذَاب دَائِم، وَهُوَ الْغَرق.

40

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور} اخْتلفُوا فِي التَّنور على أَقْوَال: الْأَكْثَرُونَ على أَنه تنور الخابزة، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَجَمَاعَة. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: هُوَ وَجه الأَرْض. وَحكي هَذَا عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. وَقَالُوا: كَأَن الله تَعَالَى جعل بَينه وَبَين نوح عَلامَة، وَقَالَ: إِذا رَأَيْت المَاء قد فار على وَجه الأَرْض فاركب السَّفِينَة.

{مُقيم (39) حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك} وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " وفار التَّنور " يَعْنِي: انفجر الصُّبْح؛ وَهُوَ من قَوْلهم: نور الصُّبْح تنويرا. وَقَالَ بَعضهم: التَّنور هَاهُنَا: تنور من حِجَارَة كَانَت حَوَّاء تخبز فِيهِ فورثه نوح، وَقَالَ الله تَعَالَى لنوح: إِذا فار المَاء من آخر مَوضِع فِي دَارك فَهُوَ الْعَلامَة، وَاسم التَّنور اسْم وَافَقت الْعَرَبيَّة فِيهِ العجمية. وَاخْتلفُوا فِي مَوضِع التَّنور: رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: كَانَ بِالْكُوفَةِ، وَأَشَارَ إِلَى بَاب كِنْدَة لِلْمَسْجِدِ، وَمثله عَن الشّعبِيّ أَن التَّنور فار من نَاحيَة الْجَانِب الْأَيْمن من مَسْجِد الْكُوفَة. وَحكي أَن رجلا جَاءَ إِلَى عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنِّي اشْتريت رَاحِلَة وأعددت زادا لأذهب وأصلي فِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، فَقَالَ: بِعْ راحلتك، وكل زادك، وصل فِي هَذَا الْمَسْجِد - يَعْنِي: مَسْجِد الْكُوفَة -؛ فَإِنَّهُ صلى فِيهِ سَبْعُونَ نَبيا، وَمِنْه فار التَّنور. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ التَّنور بِالشَّام. وَقَالَ بَعضهم كَانَ بِأَرْض الْهِنْد. وَقَالَ بَعضهم: التَّنور عين بالجزيرة تسمى عين الوردة. وَقَوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} " فِيهَا " ينْصَرف إِلَى الْفلك، وَاخْتلفُوا فِي قدر الْفلك: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: كَانَ طول السَّفِينَة ألفا وَمِائَتَيْنِ ذِرَاع، وعرضها سِتّمائَة ذِرَاع. وَالْمَعْرُوف أَن طولهَا كَانَ ثلثمِائة ذِرَاع، وعرضها كَانَ (خمسين) ذِرَاعا، وارتفاعها إِلَى السَّمَاء كَانَ ثَلَاثِينَ ذِرَاعا، وَقد قيل غير هَذَا، وَالله أعلم. قَالَ قَتَادَة: وَكَانَ بَابهَا فِي عرضهَا. قَالُوا: وَكَانَت ثَلَاث طَبَقَات: الطَّبَقَة الْعليا للطير، والطبقة السُّفْلى للسباع والوحوش، وَالْوُسْطَى للنِّسَاء وَالرِّجَال، والحاجز بَين النِّسَاء وَالرِّجَال جَسَد آدم؛ فَإِنَّهُ كَانَ حمله مَعَ نَفسه فِي السَّفِينَة.

{إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل وَمن آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل (40) وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسم الله} وَقَوله: {من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الزَّوْج كل وَاحِد لَا يَسْتَغْنِي عَن مثله، يُقَال: زوج خف، وَزوج نعل، وَالْمرَاد من الزَّوْجَيْنِ هَاهُنَا: الذّكر وَالْأُنْثَى، وَمَعْنَاهُ: من كل ذكر وَأُنْثَى اثْنَيْنِ. وَفِي الْقِصَّة: أَن نوحًا - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: يَا رب، كَيفَ أحمل من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ؟ فحشر الله تَعَالَى السبَاع وَالطير إِلَيْهِ، فَجعل يضْرب بيدَيْهِ فِي كل جنس، فَيَقَع الذّكر فِي يَده الْيُمْنَى وَالْأُنْثَى فِي يَده الْيُسْرَى فيحملها فِي السَّفِينَة. وَذكر وهب بن مُنَبّه أَن النَّاس شكوا الفأر إِلَى نوح فِي السَّفِينَة، فَأمره الله تَعَالَى أَن يمسح جبهة الْأسد، فَخرج من مَنْخرَيْهِ سنوران فأكلا الفأر، وَشَكوا إِلَيْهِ أَيْضا كَثْرَة الْعذرَة فَأمره أَن يمسح على مُؤخر الْفِيل، فَخرج مِنْهُ خنزيران فأكلا الْعذرَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَأهْلك} مَعْنَاهُ: واحمل أهلك {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} يَعْنِي: ابْنه وَامْرَأَته. وَقَوله: {وَمن آمن} مَعْنَاهُ: وأحمل من آمن. وَقَوله: {وَمَا آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل} اخْتلفُوا فِي عَددهمْ، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كَانُوا ثَمَانِينَ نَفرا. وَعَن بَعضهم: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسبعين نَفرا. وَعَن الْأَعْمَش قَالَ: كَانُوا سَبْعَة نفر: ثَلَاثَة بَنِينَ لنوح وهم: سَام، وَحَام، وَيَافث وَثَلَاث كنائنهم - يَعْنِي: نِسَاؤُهُم -، ونوح. وَقَالَ قَتَادَة: كَانُوا ثَمَانِيَة نَفرا.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسم الله مجريها ومرسيها} بِفَتْح الميمين، وَقَرَأَ أَبُو رَجَاء العطاردي: " مجريها ومرسيها " بِالرَّفْع. أما معنى قَوْله: {مجريها ومرسيها} يَعْنِي: بِسم الله إجراؤها وإرساؤها، وَمعنى مجريها ومرسيها بِالنّصب يَعْنِي: بِسم الله جريها ورسوها. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ إِذا قَالَ نوح: بِسم الله وَأَرَادَ الجري جرت، وَإِذا قَالَ: بِسم الله وَأَرَادَ الرسو رست. وَأما مُدَّة لبث نوح فِي السَّفِينَة: قَالُوا: اسْتَقَلت السَّفِينَة على وَجه المَاء لعشر خلون من رَجَب، وَجَرت مائَة وَخمسين يَوْمًا، وأرست لعشر خلون من ذِي الْحجَّة، وهبطوا

{مجريها وَمرْسَاهَا إِن رَبِّي لغَفُور رَحِيم (41) وَهِي تجْرِي بهم فِي موج كالجبال ونادى نوح ابْنه وَكَانَ فِي معزل يَا بني اركب مَعنا وَلَا تكن مَعَ الْكَافرين (42) قَالَ سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء قَالَ لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم وَحَال بَينهمَا الموج} يَوْم عَاشُورَاء إِلَى الأَرْض، فصَام ذَلِك الْيَوْم وَأمر الْقَوْم بصومه. وَفِي الْقَصَص: أَن السَّفِينَة طافت جَمِيع الدُّنْيَا، وَحين وصلت إِلَى الْكَعْبَة طافت بهَا أسبوعا، وَكَانَت الْكَعْبَة قد رفعت وَبَقِي الْموضع. وَقَوله: {إِن رَبِّي لغَفُور رَحِيم} مَعْنَاهُ ظَاهر.

42

قَوْله تَعَالَى: {وَهِي تجْرِي بهم فِي موج كالجبال} معنى الموج: قِطْعَة من الْبَحْر ترْتَفع عِنْد شدَّة الرّيح. وَقَوله: {ونادى نوح ابْنه وَكَانَ فِي معزل} قيل: فِي معزل من السَّفِينَة، وَقيل: فِي معزل من قومه. وَقَوله: {يَا بني اركب مَعنا} قرىء بقراءتين: " يَا بني " و " يابني "، ومعناهما وَاحِد. وَقَوله: {وَلَا تكن مَعَ الْكَافرين} أَي: من الْكَافرين، مَعْنَاهُ ظَاهر. وَاخْتلفُوا فِي أَنه هَل كَانَ ابْنه من صلبه أَولا؟ فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَعِكْرِمَة، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالضَّحَّاك، وَجَمَاعَة أَنهم قَالُوا: كَانَ ابْنه من صلبه. قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: مَا بَغت امْرَأَة نَبِي قطّ. وَكَانَ عِكْرِمَة بِحلف أَنه كَانَ ابْن نوح لصلبه. وَأما الْحسن وَمُجاهد: فَإِنَّهُمَا قَالَا: كَانَ ابْن امْرَأَته، وَلم يكن ابْنه، واستدلا بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} ، قَالَا: كَانَ يظنّ أَنه ابْنه وَلم يكن ابْنه. وَالْأول هُوَ الْأَصَح. وَقيل: إِن اسْمه كَانَ كنعان. وَقيل: إِن اسْمه كَانَ " يام ".

43

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء} يَعْنِي: ألتجىء إِلَى الْجَبَل يَمْنعنِي من الْغَرق. ف {قَالَ} لَهُ نوح: {لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم}

{فَكَانَ من المغرقين (43) وَقيل يَا أَرض ابلعي ماءك وَيَا سَمَاء أقلعي وغيض المَاء وَقضي الْأَمر واستوت على الجودي وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين (44) ونادى نوح ربه فَقَالَ رب} فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن العاصم بِمَعْنى الْمَعْصُوم، وَمَعْنَاهُ: لَا مَعْصُوم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا الله. قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من رحم} هُوَ الله تَعَالَى. وَقَوله {وَحَال بَينهمَا الموج فَكَانَ من المغرقين} أَي: صَار من المغرقين. وَفِي الْقِصَّة: أَن المَاء علا على رُءُوس الْجبَال بِقدر أَرْبَعِينَ ذِرَاعا. وَقيل: دونه، وَالله أعلم.

44

قَوْله تَعَالَى: {وَقيل يَا أَرض ابلعي ماءك} مَعْنَاهُ: اشربي ماءك، وَيُقَال: ابلعي أَي: غيبي ماءك فِي جوفك. وَقَوله: {وَيَا سَمَاء أقلعي} أَي: أمسكي. وَقَوله: {وغيض المَاء وَقضى الْأَمر} مَعْنَاهُ: وَنقص المَاء ونضب. وَقَوله: {وَقضي الْأَمر} أَي: فرغ من الْأَمر، وَهُوَ هَلَاك الْقَوْم. وَقَوله: {واستوت على الجودى} مَعْنَاهُ: واستقرت على الجودى، قيل: إِنَّه جبل بِنَاحِيَة آمد. وَقَالَ الْفراء: جبل بِنَاحِيَة نَصِيبين. وَقَوله: {وَقيل بعدا للْقَوْم الظَّالِمين} أَي: هَلَاكًا للْقَوْم الظَّالِمين. وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " وغيض المَاء واستوت على الجودي وَقضي الْأَمر ". وَرُوِيَ أَن نوحًا - صلوَات الله عَلَيْهِ - بعث بالغراب ليَأْتِيه بِخَبَر الأَرْض، فَوَقع على جيفة وَلم يرجع، فَبعث بالحمامة فَجَاءَت بورق زيتونة فِي منقارها ولطخت رِجْلَيْهَا بالطين؛ ليعلم نوح أَن المَاء قد نضب، فَأعْطيت الطوق [وخضاب] الرجلَيْن من ذَلِك الْوَقْت. وَهَذِه الْآيَة تعد من فصيحات الْقُرْآن، وَحكي أَنَّهَا قُرِئت عِنْد أَعْرَابِي فَقَالَ: هَذَا

{إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق وَأَنت أحكم الْحَاكِمين (45) قَالَ يَا نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك إِنَّه عمل غير صَالح فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِنِّي أعظك أَن تكون من} كَلَام قَادر.

45

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ونادى نوح ربه فَقَالَ رب إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق وَأَنت أحكم الْحَاكِمين} يَعْنِي: أَنْت وَعَدتنِي أَن تنجي أَهلِي وَأَنت أحكم الْحَاكِمين يَعْنِي: وَأَنت أحكم الْحَاكِمين بِالْعَدْلِ.

46

قَالَ الله تَعَالَى: {يَا نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك} مَعْنَاهُ: لَيْسَ من أهلك الَّذين وعدتك أَن أنجيهم. وعَلى قَول الْحسن، وَمُجاهد يَعْنِي: لَيْسَ بابنك. وَقَوله: {إِنَّه عمل غير صَالح} مَعْنَاهُ: إِنَّه ذُو عمل غير صَالح. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن سؤالك إيَّايَ إنجاءه؛ عمل غير صَالح. وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ - " إِنَّه عمل غير صَالح ". {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَهَذَا يُؤَيّد الْمَعْنى الثَّانِي. وقرىء: " إِنَّه عمل غير صَالح " وَمَعْنَاهُ: إِن ابْنك عمل غير صَالح. وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن نوحًا كَانَ يظنّ أَنه مُسلم وَهُوَ يبطن الْكفْر من أَبِيه، فَهَذَا معنى قَوْله: {لَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ بِابْن لَك على مَا ذكرنَا. وَقَوله: {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} مَعْنَاهُ: إِنِّي أحذرك أَن تكون من الآثمين، وذنب الْمُؤمن جهل، وذنب الْكَافِر كفر. وَالْقَوْل الثَّانِي: {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} - يَعْنِي: أَن تَدْعُو بِهَلَاك الْكفَّار ثمَّ تطلب نجاة كَافِر.

{الْجَاهِلين (46) قَالَ رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47) قيل يَا نوح اهبط بِسَلام منا وبركات عَلَيْك وعَلى أُمَم مِمَّن مَعَك وأمم سنمتعهم ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم (48) تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها إِلَيْك مَا كنت تعلمهَا أَنْت وَلَا قَوْمك من قبل هَذَا فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين (49) وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هودا}

47

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ} أَي: قَالَ نوح: {رب إِنِّي أعوذ بك أَن أَسأَلك} غير أَنِّي أمتنع بك أَن أَسأَلك {مَا لَيْسَ لي بِهِ علم} وَمَعْنَاهُ: سُؤال الْعِصْمَة. وَقَوله: {وَإِلَّا تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} ظَاهر الْمَعْنى.

48

قَوْله تَعَالَى: {قيل يَا نوح اهبط بِسَلام منا} مَعْنَاهُ: انْزِلْ بسلامة لَك من قبلنَا. وَقَوله: {وبركات عَلَيْك} الْبركَة: ثُبُوت الْخَيْر، وَمِنْه بروك الْبَعِير. وَقيل: إِن الْبركَة هَاهُنَا هُوَ أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعله آدم الْأَصْغَر، فَأهْلك سَائِر من مَعَه من غير نسل، وَجعل النَّسْل من ذُريَّته إِلَى قيام السَّاعَة. وَقَوله: {وعَلى أُمَم مِمَّن مَعَك} مَعْنَاهُ: على ذُرِّيَّة أُمَم مِمَّن مَعَك. قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: دخل فِيهِ كل مُؤمن إِلَى قيام السَّاعَة كَانَ فِي صلب نوح. وَقَوله {وأمم سنمتعهم} ابْتِدَاء كَلَام، وَمَعْنَاهُ: وأمم سنمتعهم وهم الْكفَّار. وَقَوله {ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

49

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها إِلَيْك} أَي: نلقيها إِلَيْك. قَوْله: {مَا كنت تعلمهَا أَنْت وَلَا قَوْمك من قبل هَذَا} يَعْنِي: من قبل انزال الْقُرْآن. قَوْله: {فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين} ظَاهر الْمَعْنى.

50

قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هودا} عَاد قوم كَانُوا بالأحقاف، وَهِي رمال بَين الْيمن وَالشَّام. وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا بِنَفس الْيمن، وَكَانُوا أعْطوا زِيَادَة فِي الْجِسْم وَالْقُوَّة على سَائِر الْخلق. وَقَوله: {أَخَاهُم} يَعْنِي: أَخَاهُم فِي النّسَب لَا فِي الدّين، وَمعنى الْآيَة: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد أَخَاهُم وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد أَخَاهُم هودا.

{قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِن أَنْتُم إِلَّا مفترون (50) يَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن أجري إِلَّا على الَّذِي فطرني أَفلا تعقلون (51) وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم وَلَا تَتَوَلَّوْا مجرمين (52) قَالُوا يَا هود مَا جئتنا بِبَيِّنَة وَمَا نَحن بتاركي آلِهَتنَا عَن قَوْلك وَمَا نَحن لَك بمؤمنين} قَوْله: {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله. قَوْله: {مالكم من إِلَه غَيره إِن أَنْتُم إِلَّا مفترون} والافتراء: الْكَذِب، وَكَانَ كذبهمْ على الله تَعَالَى.

51

قَوْله تَعَالَى: {يَا قوم لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا} أَي: ثَوابًا، يَعْنِي: لَا أَسأَلكُم على الإبلاغ أجرا. وَقَوله: {إِن أجري إِلَّا على الَّذِي فطرني} مَعْنَاهُ: إِن ثوابي إِلَّا على الَّذِي فطرني، أَي: خلقني {أَفلا تعقلون} ظَاهر [الْمَعْنى] .

52

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قدم الاستغفارعلى التَّوْبَة لما بَينا من الْمَعْنى. وَقَوله: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} مَعْنَاهُ: يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا بالمطر مرّة بعد أُخْرَى فِي أَوْقَات الْحَاجة، والمدرار على طَرِيق الْمُبَالغَة، يُقَال: امْرَأَة معطار مذكار. وَقَوله: {ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم} رُوِيَ أَن الله تَعَالَى حبس عَنْهُم الْمَطَر ثَلَاث سِنِين، وأعقم أَرْحَام الْأُمَّهَات فَلم يلدن، فَمَعْنَى قَوْله: {يزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم} يَعْنِي: يُرْسل عَلَيْكُم الْمَطَر فتزدادون مَالا، ونعيد أَرْحَام الْأُمَّهَات إِلَى مَا كَانَ فيلدن فتزدادون قُوَّة بالأموال وَالْأَوْلَاد. وَقيل: " ويزدكم قُوَّة إِلَى قوتكم " أَي: شدَّة إِلَى شدتكم. وَقيل: يزدكم قُوَّة فِي دينكُمْ إِلَى قوتكم فِي أبدانكم. وَقَوله: {وَلَا تَتَوَلَّوْا مجرمين} أَي: وَلَا تعرضوا.

53

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا هود مَا جئتنا بِبَيِّنَة} أَي: بِحجَّة وَاضِحَة. وَقَوله: {وَمَا نَحن بتاركي آلِهَتنَا عَن قَوْلك} أَي: بِسَبَب قَوْلك: {وَمَا نَحن لَك بمؤمنين} أَي: بمصدقين.

54

قَوْله تَعَالَى: {إِن نقُول إِلَّا اعتراك} مَعْنَاهُ: إِلَّا أَصَابَك، قَالَ الشَّاعِر: (أَتَيْتُك عَارِيا خلقا ثِيَابِي ... على خوف تظن بِي الظنونا)

( {53) إِن نقُول إِلَّا اعتراك بعض آلِهَتنَا بِسوء قَالَ إِنِّي أشهد الله واشهدوا أَنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون (54) من دونه فكيدوني جَمِيعًا ثمَّ لَا تنْظرُون (55) إِنِّي توكلت على الله رَبِّي وربكم مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم (56) فَإِن} والعاري هَاهُنَا هُوَ السَّائِل؛ سمي عَارِيا لِأَنَّهُ يطْلب الْإِصَابَة. وَقَوله: {بعض آلِهَتنَا بِسوء} أَي: بلمم وخبل، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّك سببت آلِهَتنَا فانتقموا مِنْك بالتخبيل واللمم. وَقَوله: {قَالَ إِنِّي أشهد الله واشهدوا أَنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون من دونه} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ للْمُشْرِكين: {واشهدوا} وَلَا شَهَادَة لَهُم؟ قُلْنَا: هَذَا مَذْكُور على طَرِيق الْمُبَالغَة فِي الْحجَّة، لَا على طَرِيق إِثْبَات الشَّهَادَة لَهُم. وَقَوله: {فكيدوني جَمِيعًا ثمَّ لَا تنْظرُون} الكيد: احتيال بشر. وَهَذَا القَوْل معْجزَة لهود صلوَات الله عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَمرهم أَن يحتالوا بِكُل حِيلَة لإيصال مَكْرُوه إِلَيْهِ، ومنعهم الله تَعَالَى عَن ذَلِك فَلم يقدروا عَلَيْهِ، وَهَذَا مثل قَول نوح فِي سُورَة يُونُس: {فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون} وَقد بَينا تَفْسِيره.

56

قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي توكلت على الله رَبِّي وربكم} مَعْنَاهُ: اعتمدت على الله رَبِّي وربكم. وَقَوله: {مَا من دَابَّة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها} مَعْنَاهُ: مَا من دَابَّة إِلَّا وَهِي فِي قَبضته وتنالها قدرته، وَخص الناصية بِالذكر؛ لِأَن الإذلال والإقماء فِي أَخذ الناصية. وَقَوله: {إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: إِن رَبِّي يعْمل بِالْعَدْلِ، وَإِن كَانَ قَادِرًا على كل شَيْء، فَلَا يعْمل إِلَّا بِالْإِحْسَانِ وَالْعدْل. وَالثَّانِي: {إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} مَعْنَاهُ: إِن دين رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم. وَالثَّالِث: قَوْله {إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم} هُوَ فِي معنى قَوْله: {إِن رَبك لبالمرصاد} يَعْنِي: إِنَّه على طَرِيق الْخلق أجمع.

{توَلّوا فقد أبلغتكم مَا أرْسلت بِهِ إِلَيْكُم ويستخلف رَبِّي قوما غَيْركُمْ وَلَا تضرونه شَيْئا إِن رَبِّي على كل شَيْء حفيظ (57) وَلما جَاءَ أمرنَا نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا ونجيناهم من عَذَاب غليظ (58) وَتلك عَاد جَحَدُوا بآيَات رَبهم وعصوا رسله وَاتبعُوا أَمر كل جَبَّار عنيد (59) وأتبعوا فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة أَلا إِن عادا}

57

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توَلّوا فقد أبلغتكم مَا أرْسلت بِهِ إِلَيْكُم} مَعْنَاهُ: فَإِن أَعرضُوا فقد أبلغتكم مَا أرْسلت بِهِ إِلَيْكُم. وَقَوله: {ويستخلف رَبِّي قوما غَيْركُمْ} مَعْنَاهُ: إِن أعرضتم يهلككم ويستخلف قوما غَيْركُمْ هم أطوع لله مِنْكُم. وَقَوله {وَلَا تضرونه شَيْئا} يَعْنِي: وَلَا تنقصونه شَيْئا. وَقَوله: {إِن رَبِّي على كل شَيْء حفيظ} أَي: حَافظ لأمور خلقه على مَا دبر وَقدر.

58

قَوْله تَعَالَى {وَلما جَاءَ أمرنَا نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه} الْآيَة. قَوْله: {أمرنَا} أَي: عذابنا، {نجينا هودا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا} أَي: بِمَا هديناهم وبيناهم طَرِيق الْهدى حَتَّى آمنُوا. وَقَوله: {ونجيناهم من عَذَاب غليظ} الْعَذَاب الغليظ: هُوَ الْعَذَاب الَّذِي أهلك بِهِ عادا وَقَومه وَهُوَ الرّيح الْعَقِيم، فَكَانَت الرّيح تدخل فِي مناخرهم وأفواههم، وَتخرج من أدبارهم فتقطعهم تقطيعا أَي: قِطْعَة قِطْعَة.

59

وَقَوله تَعَالَى: {وَتلك عَاد جَحَدُوا بآيَات رَبهم} مَعْنَاهُ: أَنْكَرُوا آيَات رَبهم. وَقَوله: {وعصوا رسله} أَي: بالتكذيب. وَقَوله: {وَاتبعُوا أَمر كل جَبَّار عنيد} قيل: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يقتل على الْغَضَب، والعنيد هم هُوَ المعاند. قَالَ الشَّاعِر: (إِنِّي لشيخ لَا أُطِيق العندا ... وَلَا أُطِيق البكرات الشردا)

60

قَوْله تَعَالَى: {وأتبعوا فِي هَذِه الدُّنْيَا لَعنه} اللَّعْنَة: هِيَ الإبعاد عَن الرَّحْمَة. قَالَ أهل الْعلم: وَلَا يجوز لعن الْبَهَائِم؛ لِأَنَّهَا غير مُسْتَحقَّة للبعد من رَحْمَة الله. وَقد ثَبت " أَن رجلا لعن بعيره فِي سَفَره فَأمره النَّبِي أَن ينزل عَنهُ ويخليه وَقَالَ: لَا يصحبنا مَلْعُون ". وَهَذَا على طَرِيق الزّجر والردع للاعن. وَقَوله: {وَيَوْم الْقِيَامَة أَلا إِن عادا

{كفرُوا رَبهم أَلا بعدا لعاد قوم هود (60) وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره هُوَ أنشأكم من الأَرْض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثمَّ تُوبُوا} كفرُوا رَبهم) أَي: كفرُوا برَبهمْ. وَقَوله: {أَلا بعدا لعاد قوم هود} مَعْنَاهُ: أَلا سحقا وخزيا وهلاكا لعاد قوم هود.

61

قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا} مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا، وَقَوله: {أَخَاهُم} على مَا قدمنَا، وَثَمُود قوم كَانُوا بِحجر بَين الْحجاز وَالشَّام. وَقَوله: {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله {مالكم من إِلَه غَيره} أَي: مالكم من معبود غَيره. وَقَوله: {هُوَ أنشأكم من الأَرْض} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أنشأكم فِي الأَرْض، وَالْآخر وَهُوَ: أَنه أنشأكم من الأَرْض؛ لِأَنَّهُ خلقهمْ من آدم، وَخلق آدم من الأَرْض. وَقَوله {واستعمركم فِيهَا} ] فِيهِ [قَولَانِ: أَحدهمَا: أَطَالَ عمركم فِيهَا وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يعِيش من ثلثمِائة سنه إِلَى ألف سنة، وَهَكَذَا قوم عَاد. وَالْقَوْل الثَّانِي: جعلكُمْ عمارا فِيهَا، بِبِنَاء المساكن وغرس الْأَشْجَار. ذكره الْفراء والزجاج. وَقَوله: {فاستغفروه ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قد بَينا الْمَعْنى. وَقَوله: {إِن رَبِّي قريب

{إِلَيْهِ إِن رَبِّي قريب مُجيب (61) قَالُوا يَا صَالح قد كنت فِينَا مرجوا قبل هَذَا أتنهانا أَن نعْبد مَا يعبد آبَاؤُنَا وإننا لفي شكّ مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ مريب (62) قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي وآتاني مِنْهُ رَحْمَة فَمن ينصرني من الله إِن عصيته فَمَا تزيدونني غير تخسير (63) وَيَا قوم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله وَلَا} مُجيب) قريب من الْمُؤمنِينَ، مُجيب لدعائهم.

62

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا صَالح قد كنت فِينَا مرجوا قبل هَذَا} أَي: قد كُنَّا نرجوا فِيك الْخَيْر، والآن قد يئسنا من خيرك وفلاحك. وَقَوله: {أتنهانا أَن نعْبد مَا يعبد آبَاؤُنَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وإننا لفي شكّ} لفي ريب {مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ مريب} أَي: مرتاب. وَهَذَا على طَرِيق التَّأْكِيد.

63

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي} أَي: على حجَّة من رَبِّي. وَقَوله تَعَالَى: {وآتاني مِنْهُ رَحْمَة} الرَّحْمَة هَاهُنَا: بِمَعْنى النُّبُوَّة. وَقَوله: {فَمن ينصرني من الله إِن عصيته} أَي: فَمن يمْنَع مني عَذَاب الله إِن عصيته. وَقَوله: {فَمَا تزيدونني غير تخسير} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِن اتبعتكم مَا كنت إِلَّا كمن يزْدَاد خسارا وهلاكا. وَالْقَوْل الثَّانِي: فَمَا تزيدونني غير تخسير لكم، وَحَقِيقَته: أَنِّي أطلب مِنْكُم الرشد، وَأَنْتُم تعطونني الخسار والهلاك، يَعْنِي: لأنفسكم. هَذَا كُله جَوَاب عَن سُؤال من سَأَلَ فِي هَذِه الْآيَة: كَيفَ قَالَ {فَمَا تزيدونني غير تخسير} وَلم يَك صَالح فِي خسار؟

64

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَا قوم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} روى أَن قومه طلبُوا مِنْهُ أَن يخرج نَاقَة عشراء من هَذِه الصَّخْرَة الصماء، وأشاروا إِلَى صَخْرَة أمامهم، قَالَ: فَدَعَا صَالح ربه فتمخضت الصَّخْرَة وَسمع لَهَا أَنِين كأنين النَّاقة، ثمَّ خرجت مِنْهَا نَاقَة كأعظم مَا

{تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب قريب (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تمَتَّعُوا فِي داركم ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك وعد غير مَكْذُوب (65) فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا نجينا صَالحا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا وَمن خزي يَوْمئِذٍ إِن رَبك هُوَ الْقوي الْعَزِيز (66) وَأخذ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} يكون من النوق، وَولدت فِي الْحَال ولدا مثالها، فَهَذَا معنى قَوْله: {هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} . وَقَوله: {فذروها تَأْكُل فِي أَرض الله} أَي: فدعوها تَأْكُل فِي أَرض الله. وَقَوله: {وَلَا تمسوها بِسوء} أَي: بإهلاك. وَقَوله {فيأخذكم عَذَاب قريب} مَعْنَاهُ: قريب من إهلاك النَّاقة.

65

قَوْله تَعَالَى: {فَعَقَرُوهَا} الْعقر هَا هُنَا: جِرَاحَة تُؤدِّي إِلَى الْهَلَاك. وَقَوله {فَقَالَ تمَتَّعُوا فِي داركم} مَعْنَاهُ: عيشوا فِي داركم، وَالدَّار بِمَعْنى الديار. وَقَوله: {ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك وعد غير مَكْذُوب} فَروِيَ أَنه قَالَ لَهُم: يأتيكم الْعَذَاب بعد ثَلَاثَة أَيَّام، فتصبحون الْيَوْم الأول ووجوهكم مصفرة، ثمَّ تُصبحُونَ الْيَوْم الثَّانِي ووجوهكم محمرة، ثمَّ تُصبحُونَ الْيَوْم الثَّالِث ووجوهكم مسودة؛ فَكَانَ كَمَا قَالَ، وأتاهم الْعَذَاب الْيَوْم الرَّابِع.

66

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا نجينا صَالحا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا} فِي بعض التفاسير: أَنه آمن مَعَه أَرْبَعَة آلَاف نفر. وَقَوله: {وَمن خزي يَوْمئِذٍ} مَعْنَاهُ: وَمن هَلَاك يَوْمئِذٍ. وَقَوله: {إِن رَبك هُوَ الْقوي الْعَزِيز} قد بَينا معنى الْقوي والعزيز من قبل.

67

قَوْله تَعَالَى: {وَأخذ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} الْمَعْرُوف انه صَاح بهم جِبْرِيل صَيْحَة وَاحِدَة فهلكوا عَن آخِرهم، وَقَالَ بَعضهم: خلق الله تَعَالَى صياحا فِي جَوف بعض الْحَيَوَانَات فأهلكهم، فَإِن قيل: الصَّيْحَة مُؤَنّثَة، وَقد قَالَ: {وَأخذ الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الصَّيْحَة هَا هُنَا بِمَعْنى الصياح، وَهُوَ جَائِز فِي اللُّغَة.

{فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين (67) كَأَن لم يغنوا فِيهَا أَلا إِن ثَمُود كفرُوا رَبهم إِلَّا بعدا لثمود (68) وَلَقَد جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى قَالُوا سَلاما قَالَ سَلام فَمَا لبث أَن} وَقَوله: {فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين} أَي: ميتين. وَيُقَال: إِنَّهُم سقطوا على وُجُوههم موتى عَن آخِرهم، وَمِنْه جثم الطَّائِر. وَمِنْه الْخَبَر الْمَرْوِيّ: " نهى عَن الْمُجثمَة ".

68

وَقَوله تَعَالَى: {كَأَن لم يغنوا فِيهَا} مَعْنَاهُ: كَأَن لم يقيموا فِيهَا منعمين مسرورين. وَقَوله: {أَلا إِن ثمودا كفرُوا رَبهم} أَي: برَبهمْ. وَقَوله: {أَلا بعدا لثمود} مَعْنَاهُ كَمَا قدمنَا من قبل.

69

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى} قَالَ السّديّ: كَانُوا اثنى عشر ملكا. وَقَالَ غَيره: كَانُوا تِسْعَة من الْأَمْلَاك. وَيُقَال: إِنَّهُم ثَلَاثَة: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وإسرافيل. وَقيل: جَاءُوا على صُورَة الْبشر. وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - كَانَ لَا يَأْكُل إِلَّا مَعَ الضَّيْف، وَمكث خمس عشرَة لَيْلَة وَلم يَأْته ضيف، ثمَّ جَاءَهُ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {بالبشرى} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: بالبشرى بِإسْحَاق، وَالْآخر: بالبشرى بإهلاك قوم لوط. وَقَوله: {قَالُوا سَلاما} مَعْنَاهُ: قَالُوا سلمنَا سَلاما {قَالَ سَلام} قرئَ بقراءتين: إِحْدَاهمَا: " سَلام " وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَالْآخر: " سلم " قِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ. أما قَوْله: {سَلام} مَعْنَاهُ: جوابي سَلام، أَو قولي سَلام. أما قَوْله: " سلم " قيل: إِن السّلم وَالسَّلَام بِمَعْنى وَاحِد، كالحل، والحلال، وَالْحرم وَالْحرَام. وَيُقَال: إِن " السّلم " بِمَعْنى

{جَاءَ بعجل حنيذ (69) فَلَمَّا رأى أَيْديهم لَا تصل إِلَيْهِ نكرهم وأوجس مِنْهُم خيفة قَالُوا لَا تخف إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم لوط (70) وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت فبشرناها بِإسْحَاق وَمن} الصُّلْح، فَمَعْنَاه: أَنا أطلب السَّلامَة مِنْكُم. وَقَوله: {فَمَا لبث أَن جَاءَ بعجل حنيذ} فَهَذَا دَلِيل على ان الضَّيْف يَنْبَغِي أَن يعجل لَهُ [بِشَيْء] يَأْكُلهُ، وَهُوَ سنة إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَقَوله: {أَن جَاءَ بعجل حنيذ} الْعجل: ولد الْبَقَرَة، والحنيذ: هُوَ المحنوذ، وَهُوَ المشوي على الْحِجَارَة المحماة يخد لَهُ فِي الأَرْض خدا فيشوى فِيهِ. وَرُوِيَ أَنه كَانَ سمينا يسيل دسما.

70

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رأى أَيْديهم لَا تصل إِلَيْهِ} أَي: لما رَآهُمْ لَا يَأْكُلُون؛ فَإِن الْمَلَائِكَة لَا تَأْكُل. قَوْله: {نكرهم} أَي: أنكرهم، قَالَ الشَّاعِر: (فأنكرتني وَمَا كَانَ الَّذِي نكرت ... من الْحَوَادِث إِلَّا الشيب والصلعا) وَقَوله: {وأوجس مِنْهُم خيفة} كَانَ إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - نازلا على طرف من النَّاس، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَلم يَأْكُلُوا خَافَ انهم جَاءُوا لبلية وَقصد مَكْرُوه، وَعَادَة الْعَرَب أَن الْقَوْم إِذا أكلُوا من الطَّعَام أمنُوا مِنْهُم، وَإِذا لم يَأْكُلُوا استشعروا خوفًا، فَهَذَا معنى قَوْله: {وأوجس مِنْهُم خيفة} وَقَوله: {وأوجس} أَي: فاضمر مِنْهُم خوفًا. وَقَوله: {قَالُوا لَا تخف إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم لوط} مَعْنَاهُ: إِنَّا مَلَائِكَة أرسلنَا رَبنَا إِلَى قوم لوط.

71

وَقَوله: {وَامْرَأَته قَائِمَة} فِي مصحف ابْن مَسْعُود: " وَامْرَأَته قَائِمَة وَهُوَ قَاعد " وَهِي سارة بنت هاران، فَيُقَال: إِن سارة كَانَت تخدمهم وَإِبْرَاهِيم يتحدث مَعَهم. وَيُقَال: إِن سارة كَانَت قَائِمَة وَرَاء السّتْر. قَوْله: {فَضَحكت} الْأَكْثَرُونَ على أَن الضحك هَاهُنَا هُوَ الضحك الْمَعْرُوف، وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة: فَضَحكت، أَي: حَاضَت. يُقَال: ضحِكت الأرنب، إِذا حَاضَت.

{وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب (71) قَالَت يَا ويلتي أألد وَأَنا عَجُوز وَهَذَا بعلي شَيخا إِن هَذَا} وَأما الضحك الْمَعْرُوف فَاخْتلف القَوْل فِي أَنَّهَا لم ضحِكت؟ فالأكثرون على أَنَّهَا ضحِكت سُرُورًا بِمَا زَالَ من الْخَوْف عَنْهَا وَعَن إِبْرَاهِيم. وَقيل: بِبِشَارَة إِسْحَاق. وعَلى هَذَا القَوْل: الْآيَة على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَامْرَأَته قَائِمَة فبشرناها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب فَضَحكت. وَالْقَوْل الثَّالِث: ضحِكت تَعَجبا من غَفلَة قوم لوط، وَقد نزلت الْمَلَائِكَة بعذابهم. وَقَوله {فبشرناها بِإسْحَاق} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله {وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب} أَي: من بعد إِسْحَاق يَعْقُوب. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الوراء: ولد الْوَلَد. وَقَوله {يَعْقُوب} قرئَ بقراءتين: " يَعْقُوب " و " يَعْقُوب " بِالرَّفْع وَالنّصب أما الرّفْع مَعْنَاهُ: وَيحدث يَعْقُوب من بعد إِسْحَاق. وَأما النصب فَمَعْنَاه: بشرناها بِإسْحَاق وبشرناها بِيَعْقُوب. وَأنْشد الشَّاعِر فِي الوراء: (حَلَفت فَلم أترك لنَفسك رِيبَة ... وَلَيْسَ وَرَاء الله للمرء مَذْهَب) وَهَذَا شعر الْأَعْشَى.

72

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت يَا ويلتي أألد وانا عَجُوز وَهَذَا بعلي شَيخا} قَالُوا: أصل قَوْله: {يَا ويلتي} : يَا ويلتي؛ إِلَّا أَن هَا هُنَا أبدل الْألف عَن الْيَاء. وَمعنى قَوْله: {يَا ويلتي} هَاهُنَا: اعجبا؛ وَهَذِه كلمة يَقُولهَا الْإِنْسَان عِنْد رُؤْيَة مَا يتعجب مِنْهُ، وَلَيْسَ على حَقِيقَة الدُّعَاء بِالْوَيْلِ. وَقَوله تَعَالَى: {أألد وَأَنا عَجُوز} اخْتلفُوا فِي سنّ إِبْرَاهِيم وَسَارة فِي ذَلِك الْوَقْت. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: كَانَ سنّ إِبْرَاهِيم مائَة وَعشْرين سنة، وَسن سارة تسعين سنة. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ سنّ إِبْرَاهِيم مائَة سنة، وَسن سارة تِسْعَة وَتِسْعين سنة. وَقيل غير هَذَا، وَالله أعلم.

{لشَيْء عَجِيب (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله رحمت الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت إِنَّه حميد مجيد (73) فَلَمَّا ذهب عَن إِبْرَاهِيم الروع وجاءته الْبُشْرَى يجادلنا فِي قوم} قَوْله تَعَالَى {وَهَذَا بعلي} يَعْنِي: هَذَا زَوجي {شَيخا} نصب على الْقطع، وَقيل: على الْحَال. وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وَهَذَا بعلي شيخ " على الْخَبَر. قَوْله تَعَالَى {إِن هَذَا لشَيْء عَجِيب} يَعْنِي: إِن هَذَا لشَيْء مستعجب بِخِلَاف الْعَادة.

73

قَوْله: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله} مَعْنَاهُ: لَا تعجبي من أَمر الله؛ فَإِن الله إِذا أَرَادَ شَيْئا كَانَ. وَقَوله تَعَالَى: {رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم أهل الْبَيْت} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا على معنى الدُّعَاء من الْمَلَائِكَة. وَالْآخر: أَنه على معنى الْخَبَر، و {رَحْمَة الله} أَي: نعْمَة الله {وَبَرَكَاته} والبركات: جمع الْبركَة، وَالْبركَة: ثُبُوت الْخَيْر. وَقيل: وَبَرَكَاته: سعاداته. وَقَوله: {عَلَيْكُم أهل الْبَيْت} هَذَا دَلِيل على أَن الْأزْوَاج يجوز أَن يسمين أهل الْبَيْت. وَزَعَمت الشِّيعَة فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} أَن الْأزْوَاج لَا يدخلن فِي هَذَا. وَهَذِه الْآيَة دَلِيل على أَنَّهُنَّ يدخلن فِيهَا. قَوْله: {إِنَّه حميد مجيد} الحميد: هُوَ الْمَحْمُود فِي أَفعاله، والمجيد: هُوَ الْكَرِيم، وأصل الْمجد هُوَ الرّفْعَة والشرف.

74

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا ذهب عَن إِبْرَاهِيم الروع} قَالَ قَتَادَة: الروع: الْفَزع؛ وَأما الروع بِالرَّفْع هُوَ النَّفس، وَمِنْه قَوْله: " ألْقى روح الْقُدس فِي روعي: (أَن لن) تَمُوت

{لوط (74) إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب (75) يَا إِبْرَاهِيم أعرض عَن هَذَا إِنَّه قد جَاءَ} نفس حَتَّى تستكمل رزقها، فَاتَّقُوا الله واجملوا فِي الطّلب ". وَقَوله: {وجاءته الْبُشْرَى} قيل: إِن الْبُشْرَى بِإسْحَاق وَيَعْقُوب. وَقيل: إِنَّهَا بإهلاك قوم لوط. وَقَوله: {يجادلنا} مَعْنَاهُ: جعل إِبْرَاهِيم يجادلنا، والمجادلة هَاهُنَا كَمَا قَالَ فِي سور الذاريات وَالْحجر: {قَالَ فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ يجوز أَن يُجَادِل إِبْرَاهِيم ربه فِي شَيْء قَضَاهُ وَأمر بِهِ؟ الْجَواب: أَن هَذِه المجادلة كَانَت مَعَ اللائكة لَا مَعَ الرب، وَإِنَّمَا قَالَ: {يجادلنا} على توسع الْكَلَام. وَفِي التَّفْسِير: أَن مجادلته كَانَت أَنه قَالَ للْمَلَائكَة: أَرَأَيْتُم لَو كَانَ فِي مَدَائِن قوم لوط خَمْسُونَ من الْمُؤمنِينَ أتهلكونهم؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُم إِن كَانَ فيهم أَرْبَعُونَ أتهلكونهم؟ قَالُوا: لَا، فَمَا زَالَ ينقص عشرَة عشرَة حَتَّى بلغ خَمْسَة نفر وَكَانَ عِنْد إِبْرَاهِيم أَن امْرَأَة لوط مُؤمنَة. وَكَانَت هِيَ الْخَامِسَة، وَلم يعلم أَنَّهَا كَافِرَة، فَمَا بلغ عدد الْمُؤمنِينَ خَمْسَة {فِي قوم لوط} .

75

وَقَوله تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} قد بَينا من قبل. وَرُوِيَ عَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: الْمُنِيب هُوَ الَّذِي يكون قلبه مَعَ الله تَعَالَى. وَحَقِيقَة الْإِنَابَة: هِيَ الرُّجُوع، يُقَال: نَاب وآب وأناب، إِذا رَجَعَ.

76

قَوْله تَعَالَى {يَا إِبْرَاهِيم أعرض عَن هَذَا} معنى الْآيَة: أَن الْمَلَائِكَة قَالُوا: يَا إِبْرَاهِيم أعرض عَن المجادلة. قَوْله: {إِنَّه قد جَاءَ أَمر رَبك} أَي: قَضَاء رَبك وَحكم رَبك. وَقَوله: {وَإِنَّهُم

{أَمر رَبك وَإِنَّهُم آتيهم عَذَاب غير مَرْدُود (76) وَلما جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وَقَالَ هَذَا يَوْم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ وَمن قبل كَانُوا} آتيهم عَذَاب غير مَرْدُود) أَي: غير مَصْرُوف عَنْهُم.

77

قَوْله: {لما جَاءَت رسلنَا لوطا} هَؤُلَاءِ الرُّسُل هم الَّذين كَانُوا عِنْد إِبْرَاهِيم جَاءُوا لوطا على صُورَة غلْمَان مرد، حسن وُجُوههم، نظيف ثِيَابهمْ، طيب [روائحهم] . وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لقوا لوطا وَهُوَ يحتطب واستضافوه، فَحمل الْحَطب وَتَبعهُ الْمَلَائِكَة، فَمر مَعَهم على جمَاعَة من قومه فغمزوا فِيمَا بَينهم، فَقَالَ لوط لَهُم: إِن قومِي شَرّ خلق الله، ثمَّ إِنَّه مر مَعَهم على قوم آخَرين مِنْهُم، فغمزوا - أَيْضا - فِيمَا بَينهم، فَقَالَ لوط - ثَانِيًا -: إِن قومِي شَرّ خلق الله تَعَالَى، ثمَّ إِنَّه مر مَعَهم على قوم آخَرين، فتغامزوا فِيمَا بَينهم - أَيْضا - فَقَالَ لوط - ثَالِثا -: إِن قومِي شَرّ خلق الله، وَكَانَ الله تَعَالَى قَالَ لجبريل: لَا تهلكهم حَتَّى يشْهد لوط عَلَيْهِم ثَلَاث مَرَّات، فَكَانَ كلما قَالَ لوط هَذَا القَوْل قَالَ جِبْرِيل للْمَلَائكَة الَّذين مَعَه: اشْهَدُوا. وَقَوله: {سيء بهم} مَعْنَاهُ: سَاءَهُ مجيئهم. وَقَوله: {وضاق بهم ذرعا} يُقَال: ضَاقَ ذرعاً فلَان بِكَذَا إِذا وَقع فِي مَكْرُوه لَا يُطيق الْخَلَاص عَنهُ. وَمعنى الْآيَة هَاهُنَا: أَنه ضَاقَ ذرعا فِي حفظهم وَمنع القَوْل مِنْهُم. قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ هَذَا يَوْم عصيب} أَي: شَدِيد. قَالَ الشَّاعِر: (فَإنَّك إِن لم ترض بكر بن وَائِل ... يكن لَك يَوْم بالعراق عصيب) أَي: شَدِيد. وَقَالَ آخر: (يَوْم عصيب يعصب الأبطالا ... عصب القوى السّلم الطوالا)

78

قَوْله تَعَالَى: {وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ} الْآيَة، يهرعون إِلَيْهِ مَعْنَاهُ: يسرعون ويهرولون؛ وَقد بَينا أَن لوطا قد مر مَعَهم بهم. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن الْمَلَائِكَة جَاءُوا إِلَى بَيت لوط - عَلَيْهِ السَّلَام - وَكَانَ لوط فِي دَاره، فَذَهَبت امْرَأَته السوء الْكَافِرَة إِلَى قومه وَأَخْبَرتهمْ مَجِيء هَؤُلَاءِ فَلَمَّا سمعُوا جَاءُوا لقصد الْفَاحِشَة.

{يعْملُونَ السَّيِّئَات قَالَ يَا قوم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم فَاتَّقُوا الله وَلَا تخزون فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد (78) قَالُوا لقد علمت مَا لنا فِي بناتك من حق وَإنَّك لتعلم مَا} وَقَوله: {وَمن قبل كَانُوا يعْملُونَ السَّيِّئَات} يَعْنِي: الْفَوَاحِش؛ وَهِي: إتْيَان الرِّجَال. وَقَوله: {قَالَ يَا قوم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هن أطهر لكم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه عرض عَلَيْهِم بَنَات نَفسه تزويجا ونكاحا؛ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز للمشرك أَن يتَزَوَّج بِمسلمَة؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك كَانَ جَائِزا فِي شريعتهم. وَمِنْهُم من قَالَ: عرض عَلَيْهِم بِشَرْط الْإِسْلَام. وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ قَول مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير، وَغَيرهمَا -: أَنه عرض عَلَيْهِم نِسَاءَهُمْ، وسماهن بَنَات نَفسه؛ لِأَن النَّبِي للْأمة بِمَنْزِلَة الْأَب؛ وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وَهُوَ أَب لَهُم ". وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا على طَرِيق الدّفع، لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، وَلم يرْضوا هَذَا القَوْل؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْصُوما من الْكَذِب. وَقَوله: {هن أطهر لكم} مَعْنَاهُ: أحل لكم. قَوْله: {فَاتَّقُوا الله وَلَا تخزون فِي ضَيْفِي} مَعْنَاهُ: خَافُوا الله وَلَا تفضحوني فِي أضيافي. {أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد} مَعْنَاهُ: أَلَيْسَ مِنْكُم رجل يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَيدْفَع الْقَوْم عَن أضيافي. وَرُوِيَ عَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: معنى قَوْله: {أَلَيْسَ مِنْكُم رجل رشيد} مَعْنَاهُ: أَلَيْسَ فِيكُم رجل يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله.

79

قَوْله: {قَالُوا لقد علمت مَا لنا فِي بناتك من حق} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: مَا لنا فِي بناتم من حق، أَي: حَاجَة وشهوة. وَالثَّانِي: مَا لنا فِي بناتك من حق، أَي: من نِكَاح. وَقَوله {وَإنَّك لتعلم مَا نُرِيد} مَعْنَاهُ: إِنَّا نُرِيد أدبار الرِّجَال.

{نُرِيد (79) قَالَ لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد (80) قَالُوا يَا لوط إِنَّا رسل رَبك لن يصلوا إِلَيْك فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إِلَّا امْرَأَتك إِنَّه}

80

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَو أَن لي بكم قُوَّة أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد} الْقُوَّة هَاهُنَا: هِيَ الْقُوَّة فِي الْبدن، أَو الْقُوَّة بالأتباع. والركن الشَّديد: المنعة بالعشيرة. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رحم الله أخي لوطا؛ لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد " أَي: إِلَى الله. رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: مَا بعث الله بعد ذَلِك نَبيا إِلَّا فِي مَنْعَة من قومه.

81

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا لوط إِنَّا رسل رَبك لن يصلوا إِلَيْك} . روى أَنهم جَاءُوا وكسروا بَاب لوط وقصدوا الدُّخُول. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَنهم كَانُوا ينازعون مَعَ لوط على الْبَاب، فَقَالَ جِبْرِيل: يَا لوط، افْتَحْ الْبَاب ودعهم يدخلُوا، فَلَمَّا دخلُوا ضرب بجناحه وُجُوههم فعموا كلهم، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد راودوه عَن ضَيفه فطمسنا أَعينهم} فَقَالُوا: يَا لوط، لقد جئتنا بِقوم سحرة، سترى مَا تلقى منا غَدا، وَكَانُوا جَاءُوا مسَاء. وَقَوله: {لن يصلوا إِلَيْك} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل} قرئَ: " فسر " من السرى، و " فَأسر " من الْإِسْرَاء؛ والسرى: هُوَ السّير بِاللَّيْلِ. وَقَالَ الشَّاعِر: (عِنْد الصَّباح يحمد الْقَوْم السرى ... وتنجلي عني غيابات الْكرَى) وَقَوله: {أسر} من الْإِسْرَاء، والمعنيان وَاحِد. وَقَوله: {بِقطع من اللَّيْل} أَي: بآخر اللَّيْل. وَقيل: إِنَّه السحر الأول. قَالَ الشَّاعِر: (ونائحة تنوح بِقطع ليل ... على ميت بقارعة الصَّعِيد)

{مصيبها مَا أَصَابَهُم إِن موعدهم الصُّبْح أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب (81) فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا جعلنَا عاليها سافلها وأمطرنا عَلَيْهَا حِجَارَة من سجيل منضود} وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إِلَّا امْرَأَتك} بِالرَّفْع، وَقُرِئَ: " إِلَّا امْرَأَتك " بِالنّصب؛ فَقَوله بِالنّصب مَعْنَاهُ: فَأسر بأهلك إِلَّا امْرَأَتك. وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع مَعْنَاهُ: وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد إِلَّا امْرَأَتك؛ فَإِنَّهَا تلْتَفت؛ فَروِيَ أَنَّهَا لما سَمِعت الهدة فِي هَلَاك الْقَوْم التفتت وَرَاءَهَا فأصابها حجر فَمَاتَتْ، وَقد كَانَ الله أَمر لوطا وَأَهله أَن لَا يلتفتوا. وَقَوله: {إِنَّه مصيبها مَا أَصَابَهُم} ظَاهر الْمَعْنى. قَوْله: {إِن موعدهم الصُّبْح} رُوِيَ أَن لوطا - عَلَيْهِ السَّلَام - لما سمع هَذَا من جِبْرِيل قَالَ: يَا جِبْرِيل، أُرِيد أَن تهلكهم الْآن فَقَالَ لَهُ مجيبا: {أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب} ؟

82

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أمرنَا} أَي: عذابنا. وَقَوله: {جعلنَا عاليها سافلها} رُوِيَ أَن جِبْرِيل جعل جنَاحه تَحت مدائ لوط، وَهِي خمس مَدَائِن، وفيهَا أَرْبَعمِائَة ألف، وَقيل: فِيهَا أَرْبَعَة آلَاف ألف - ثمَّ رفع الْمَدَائِن حَتَّى قربت من السَّمَاء وَسمع أهل السَّمَاء صياح الديكة ونباح الْكلاب، وَرُوِيَ أَنه لم يكفأ لَهُم إِنَاء وَلَا انتبه لَهُم نَائِم، ثمَّ قَلبهَا وأتبعهم الله تَعَالَى بِالْحِجَارَةِ، هَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {جعلنَا عاليها سافلها وأمطرنا عَلَيْهَا حِجَارَة من سجيل} . وَقَوله: {من سجيل} قَالَ ابْن عَبَّاس: سنك وكل؛ وَكلمَة سجيل فارسية معربة. وَقيل: إِنَّه كَانَ طينا مطبوخا كالآجر. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن السجيل هُوَ السَّمَاء الدُّنْيَا. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن السجيل هُوَ السجين؛ أبدلت النُّون بِاللَّامِ. وَقيل: إِن السجيل: مَأْخُوذ من السّجل؛ وَهُوَ سجل الدَّلْو. قَالَ الشَّاعِر: (وَأَنا الْأَخْضَر من يعرفنِي ... أَخْضَر الْجلْدَة من بَيت الْعَرَب)

{مسومة عِنْد رَبك وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد (83) وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا قَالَ يَا قوم} (من يساجلني يساجل ماجدا ... يمْلَأ الدَّلْو إِلَى عقد الكرب) وَمعنى السجيل فِي الْآيَة: هُوَ الْإِرْسَال، يَعْنِي: إرْسَال الْحِجَارَة. وَقَوله: {منضود} مَعْنَاهُ: يتبع بَعْضهَا بَعْضًا.

83

وَقَوله: {مسومة} أَي: معلمة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ عَلَيْهَا خطوط حمر فِي سَواد. وَالْقَوْل الثَّانِي: " مسومة " أَي: عَلَيْهَا أَسمَاء الْقَوْم. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه كَانَ عَلَيْهَا شبه الخواتيم. قَوْله: {عِنْد رَبك} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد} يَعْنِي: من ظالمي أهل مَكَّة بِبَعِيد. وَقد رُوِيَ فِي بعض الْآثَار: أَن على رَأس كل ظَالِم حجرا مُعَلّقا فِي السَّمَاء ينْتَظر أَمر الله تَعَالَى. وَهَذَا من الغرائب، وَالله أعلم. وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه كَانَ مِنْهُم رجل فِي الْحرم، فَبَقيَ الْحجر مُعَلّقا فِي السَّمَاء أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى خرج الرجل [وأصابه الْحجر] . وَرُوِيَ أَن الْحجر اتبع شرادهم ومسافريهم أَيْن كَانُوا فِي الْبِلَاد حَتَّى هَلَكُوا. وَأورد بَعضهم أَن الله تَعَالَى أهلك مَدَائِن لوط سوى زعر، فَإِنَّهُ أبقاها للوط وَأَهله.

84

قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا} قد بَينا أَن الْأُخوة هَاهُنَا هِيَ الْأُخوة فِي النّسَب لَا فِي الدّين. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه لم يكن بَين شُعَيْب وَأهل مَدين أخوة فِي النّسَب - أَيْضا - وَكَانَ غَرِيبا فيهم، وَإِنَّمَا أَرَادَ بالأخوة المجانسة فِي البشرية. وَالصَّحِيح هُوَ الأول.

{اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره وَلَا تنقصوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِنِّي أَرَاكُم بِخَير وَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم مُحِيط (84) وَيَا قوم أَوْفوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (85) بقيت الله خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ (86) قَالُوا يَا شُعَيْب أصلاتك تأمرك أَن نَتْرُك مَا} وَقَوله: {قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره} ظَاهر الْمَعْنى. قَول: {وَلَا تنقصوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان} مَعْنَاهُ: وَلَا تبخسوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان. وَكَانُوا مَعَ شركهم يُطَفِّفُونَ فِي الْمِكْيَال وَالْمِيزَان. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر أَنه كَانَ إِذا مر بِالسوقِ قَالَ: أَيهَا الباعة، أَوْفوا الْكَيْل وأوفوا الْوَزْن، وَقد سَمِعْتُمْ مَا فعل الله بِقوم شُعَيْب. وَعَن ابْن عَبَّاس قريب من هَذَا. وَقَوله: {إِنِّي أَرَاكُم بِخَير} قَالَ مُجَاهِد: أَي: بخصب وسعة. وَقَوله: {وَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم مُحِيط} أَي: مُحِيط بكم فيهلككم.

85

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم أَوْفوا الْمِكْيَال وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ. وَقيل: تَقْوِيم لِسَان الْمِيزَان. وَقَوله: {وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم} أَي: لَا تنقصوا النَّاس أشياءهم. وَقَوله: {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} .

86

قَوْله تَعَالَى: {بَقِيَّة الله خير لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين} مَعْنَاهُ: مَا أبقى الله لكم من الْحَلَال خير مِمَّا تأخذون بالبخس فِي الْمِكْيَال وَالْمِيزَان. وَقيل: بَقِيَّة الله: طَاعَة الله. وَقَوله: {إِن كُنْتُم مُؤمنين} أَي: إِن كُنْتُم مُؤمنين أَن مَا عنْدكُمْ من رزق الله تَعَالَى وعطائه. قَوْله: {وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ} قيل مَعْنَاهُ: لم أُؤمر بقتالكم. وَقيل: مَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ أَي: بوكيل.

87

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْب أصلاتك تأمرك أَن نَتْرُك} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أدينك يَأْمُرك؟ ، وَالثَّانِي: أقرآنك يَأْمُرك أَن نَتْرُك {مَا يعبد آبَاؤُنَا أَو أَن

{يعبد آبَاؤُنَا أَو أَن نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد (87) قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رزقا حسنا وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ إِن أُرِيد إِلَّا الْإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْت وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب (88) وَيَا قوم لَا يجرمنكم شقاقي أَن يُصِيبكُم مثل مَا أصَاب قوم نوح أَو قوم} نَفْعل فِي أَمْوَالنَا مَا نشَاء) يَعْنِي: من النُّقْصَان وَالزِّيَادَة: وَقيل: من قرض الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير، وَكَانَ قد نَهَاهُم عَن ذَلِك، وَزعم أَنه محرم عَلَيْهِم. وَقَوله: {إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد فِي زعمك؛ قَالُوا ذَلِك استهزاء. وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: إِنَّك لأَنْت السَّفِيه الأحمق.

88

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُم إِن كنت على بَيِّنَة من رَبِّي} مَعْنَاهُ: على بَيَان من رَبِّي. وَقَوله: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رزقا حسنا} مَعْنَاهُ: رزقا حَلَالا. وَفِي الْقِصَّة: أَن شعيبا كَانَ كثير المَال. وَقيل: الرزق الْحسن هَاهُنَا: هُوَ النُّبُوَّة. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ} مَعْنَاهُ: مَا أُرِيد أَن آمركُم بِشَيْء وأعمل خِلَافه. وَقَوله: {إِن أُرِيد إِلَّا الْإِصْلَاح مَا اسْتَطَعْت} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه} دَلِيل على أَن الطَّاعَة لَا يُؤْتى بهَا إِلَّا بِتَوْفِيق الله، والتوفيق من الله: هُوَ التسهيل والتيسير والمعونة. قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهِ توكلت} أَي: عَلَيْهِ اعتمدت. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ أنيب} مَعْنَاهُ: إِلَيْهِ أرجع.

89

قَوْله: {وَيَا قوم لَا يجرمنكم شقاقي} مَعْنَاهُ: لَا يكسبنكم وَلَا يحملنكم شقاقي أَي: خلافي على فعل {أَن يُصِيبكُم} فيصيبكم {مثل مَا أصَاب قوم نوح} من

{هود أَو قوم صَالح وَمَا قوم لوط مِنْكُم بِبَعِيد (89) وَاسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِن رَبِّي رَحِيم ودود (90) قَالُوا يَا شُعَيْب مَا نفقه كثيرا مِمَّا تَقول وَإِنَّا لنراك فِينَا ضَعِيفا} الْغَرق {أَو قوم هود} من الرّيح {أَو قوم صَالح} من الصَّيْحَة الصعقة. وَقَوله {وَمَا قوم لوط مِنْكُم بِبَعِيد} قيل: إِنَّهُم كَانُوا جيران قوم لوط فِي الديار، وَكَانَت مدائنهم قَرِيبا بَعْضهَا من بعض.

90

قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفرُوا ربكُم ثمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قد بَينا الْمَعْنى. وَقَوله: {إِن رَبِّي رَحِيم ودود} فِي الْوَدُود مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن الْوَدُود هُوَ الْمُحب لِعِبَادِهِ. وَالثَّانِي: أَو الْوَدُود بِمَعْنى المودود أَي: يُحِبهُ الْعباد لفضله وإحسانه. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " أَحبُّوا الله بِمَا يغذوكم بِهِ مِنْهُ نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بَيْتِي لحبي ". وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " كَانَ شُعَيْب خطيب الْأَنْبِيَاء ".

91

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا شُعَيْب مَا نفقه كثيرا مِمَّا تَقول} مَعْنَاهُ: مَا نفهم كثيرا مِمَّا تَقول. وَقَوله: {وَإِنَّا لنراك فِينَا ضَعِيفا} فِي الضَّعِيف أَقْوَال، أَكثر الْمُفَسّرين أَن الضَّعِيف هَاهُنَا: هُوَ ضَرِير بالبصر. وَيُقَال: إِنَّه لُغَة حمير. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الضَّعِيف هُوَ الضَّعِيف فِي الْبدن. وَالثَّالِث: أَنه قَلِيل الأتباع.

{وَلَوْلَا رهطك لرجمناك وَمَا أَنْت علينا بعزيز (91) قَالَ يَا قوم أرهطي أعز عَلَيْكُم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إِن رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيط (92) وَيَا قوم اعْمَلُوا على} وَقَوله: {وَلَوْلَا رهطك لرجمناك} أَي: وَلَوْلَا عشيرتك لرجمناك، وَالرَّجم أقبح القتلات. وَقَوله: {وَمَا أَنْت علينا بعزيز} يَعْنِي: مَا أَنْت عندنَا بعزيز، وَإِنَّمَا نَتْرُكك لمَكَان رهطك.

92

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم أرهطي أعز عَلَيْكُم من الله} مَعْنَاهُ: أمكان رهطي عنْدكُمْ أهيب وَأَمْنَع من الله تَعَالَى؟ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ تركْتُم قَتْلِي بمَكَان رهطي فَأولى أَن تحفظوني فِي الله تَعَالَى. وَقَوله: {واتخذتموه وراءكم ظهريا} مَعْنَاهُ: وألقيتم أَمر الله تَعَالَى وَرَاء ظهوركم. يُقَال: فلَان جعل كَذَا مِنْهُ ظهريا أَي: أَلْقَاهُ وَرَاء ظَهره. وَقَوله: {إِن رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيط} ظَاهر الْمَعْنى. وَذكر الْأَزْهَرِي فِي تَقْدِير الْآيَة وَمَعْنَاهَا قَالَ: إِنَّكُم تَزْعُمُونَ أَنكُمْ تتركون قَتْلِي لكرامة رهطي، فَأولى أَن تكرموا أَمر الله وتتبعوه؛ وَحَقِيقَة الْمَعْنى: هُوَ الْإِنْكَار على من اتَّقى النَّاس وَلم يتق الله. قَالَ: وَقَوله: {واتخذتموه وراءكم ظهريا} تَقول الْعَرَب: فلَان جعل كَذَا بِظهْر إِذا تَركه وَلم يلْتَفت إِلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِر: (تَمِيم بن قيس لَا تكونن حَاجَتي ... بِظهْر فَلَا يعيا على جوابها)

93

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم} قيل: المكانة: هِيَ الْحَالة الَّتِي يتَمَكَّن فِيهَا الْمَرْء من الْفِعْل) . وَمعنى الْآيَة: اعْمَلُوا على تمكنكم ومنزلتكم {إِنِّي عَامل} على تمكني ومنزلتي {سَوف تعلمُونَ} من ينجو وَمن يهْلك. وَالْآيَة فِيهَا تهديد ووعيد شَدِيد، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن {سَوف تعلمُونَ} إِلَّا فِي هَذِه الْآيَة.

{مكانتكم إِنِّي عَامل سَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه وَمن هُوَ كَاذِب وارتقبوا إِنِّي مَعكُمْ رَقِيب (93) وَلما جَاءَ أمرنَا نجينا شعيبا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا وَأخذت الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين (94) كَأَن لم يغنوا فِيهَا أَلا بعدا لمدين كَمَا بَعدت ثَمُود (95) وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين (96) إِلَى} وَقَوله تَعَالَى: {من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه} يذله ويفضحه {وَمن هُوَ كَاذِب} فِيهِ حذف، وَتَقْدِير الْآيَة: سَوف تعلمُونَ من يَأْتِيهِ عَذَاب يخزيه، وَمن هُوَ كَاذِب يخزى أَيْضا. وَقَوله: {وارتقبوا إِنِّي مَعكُمْ رَقِيب} يَعْنِي: انتظروا إِنِّي مَعكُمْ منتظر.

94

قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَ أمرنَا} مَعْنَاهُ: لما جَاءَ وَقت عذابنا {نجينا شعيبا وَالَّذين آمنُوا مَعَه برحمة منا وَأخذت الَّذين ظلمُوا الصَّيْحَة} والصيحة: الْهَلَاك، تَقول الْعَرَب: صَاح فلَان فِي مَال فلَان أَي: أهلكه، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فدع عَنْك نهبا صِيحَ فِي حجراته ... وَلَكِن حَدِيثا مَا حَدِيث الرَّوَاحِل) رُوِيَ أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - تمثل بِهَذَا الْبَيْت فِي بعض أُمُوره. وَيُقَال: إِن الصَّيْحَة هَاهُنَا صَيْحَة جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - صَاح بهم صَيْحَة وَاحِدَة فماتوا عَن آخِرهم، فَهَذَا معنى قَوْله: {فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين} أَي: ميتين خامدين، لَا يتحركون.

95

قَوْله: {كَأَن لم يغنوا فِيهَا} مَعْنَاهُ: كَأَن لم يَكُونُوا يُقِيمُونَ فِيهَا منعمين مسرورين. وَقَوله: {أَلا بعدا لمدين كَمَا بَعدت ثَمُود} مَعْنَاهُ: أَلا خيبة وهلاكا لمدين كَمَا خابت وَهَلَكت ثَمُود.

96

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين} مَعْنَاهُ: بِآيَاتِنَا التسع، وسلطان مُبين أَي: حجَّة بَيِّنَة، وكل سُلْطَان ذكر فِي الْقُرْآن فَهُوَ بِمَعْنى الْحجَّة. وَقيل:

{فِرْعَوْن وملئه فاتبعوا أَمر فِرْعَوْن وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد (97) يقدم قومه يَوْم الْقِيَامَة فأوردهم النَّار وَبئسَ الْورْد المورود (98) وأتبعوا فِي هَذِه لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة بئس الرفد المرفود (99) ذَلِك من أنباء الْقرى نَقصه عَلَيْك مِنْهَا قَائِم وحصيد (100) وَمَا} السُّلْطَان مَأْخُوذ من السليط، وَهُوَ الزَّيْت الَّذِي يستضاء بِهِ.

97

قَوْله: {إِلَى فِرْعَوْن وملئه} وملأه مَعْلُوم. قَوْله: {فاتبعوا أَمر فِرْعَوْن وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} مَعْنَاهُ: اتبعُوا أَمر فِرْعَوْن فِي اتِّخَاذه إِلَهًا وَترك الْإِيمَان بمُوسَى {وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد} أَي: بمرشد إِلَى خير وَصَلَاح.

98

قَوْله تَعَالَى: {يقدم قومه يَوْم الْقِيَامَة} مَعْنَاهُ: يتَقَدَّم قومه يَوْم الْقِيَامَة {فأوردهم النَّار} فأدخلهم النَّار. {وَبئسَ الْورْد المورود} مَعْنَاهُ: بئس الدَّاخِل وَبئسَ الْمدْخل. وَفِي بعض المسانيد: عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة جمع الله الْخَلَائق فِي صَعِيد وَاحِد، ثمَّ يرفع لكل قوم آلِهَتهم الَّتِي كَانُوا يعبدونها من دون الله، فيوردونهم النَّار، وَيبقى الْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُول الله عز وَعلا لَهُم: مَاذَا تنتظرون؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِر رَبًّا كُنَّا نعبده بِالْغَيْبِ، فَيَقُول لَهُم: هَل تعرفونه؟ فَيَقُولُونَ: إِن شَاءَ عرفنَا نَفسه. قَالَ: فيتجلى لَهُم، فَيَخِرُّونَ لَهُ سجدا، فَيَقُول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أهل التَّوْحِيد، ارْفَعُوا رءوسكم؛ فقد أوجبت لكم الْجنَّة، وَجعلت مَكَان كل وَاحِد مِنْكُم يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا ".

99

وَقَوله تَعَالَى: {وأتبعوا فِي هَذِه لعنة} مَعْنَاهُ: فِي الدُّنْيَا لعنة بِعَذَاب التَّفْرِيق {وَيَوْم الْقِيَامَة} لعنة بِعَذَاب النَّار. وَقَوله: {بئس الرفد المرفود} يَعْنِي: بئست اللَّعْنَة بعد اللَّعْنَة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: بئس العون (المعان) ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: أَن اللَّعْنَة جعلت لَهُم فِي مَوضِع المعونة. وَقيل: بئس الْعَطاء الْمُعْطِي.

100

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك من أنباء الْقرى نَقصه عَلَيْك} مَعْنَاهُ: من أَخْبَار الْقرى نَقصه

{ظلمناهم وَلَكِن ظلمُوا أنفسهم فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر رَبك وَمَا زادوهم غير تتبيب (101) وَكَذَلِكَ أَخذ رَبك إِذا أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة إِن أَخذه أَلِيم شَدِيد (102) إِن فِي ذَلِك لآيَة لمن خَافَ عَذَاب الْآخِرَة ذَلِك يَوْم مَجْمُوع لَهُ النَّاس وَذَلِكَ يَوْم مشهود (103) وَمَا نؤخره إِلَّا لأجل مَعْدُود (104) يَوْم} عَلَيْك {مِنْهَا قَائِم وحصيد} أَي: مِنْهَا معمور وخراب. وَقيل مَعْنَاهُ: مِنْهَا قَائِم أَي: بقيت الْحِيطَان، وَسَقَطت السقوف. وَمِنْهَا حصيد: أَي: انمحى أَثَره.

101

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن ظلمُوا أنفسهم} قد بَيناهُ من قبل. وَقَوله: {فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر بك} يَعْنِي: بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {وَمَا زادوهم غير تتبيب} أَي: غي تخسير. وَقيل: غير تدمير.

102

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخذ رَبك إِذْ أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة} وَجه التَّشْبِيه أَن أَخذه هَؤُلَاءِ فِي حَال الظُّلم والشرك كأخذه أهل الْقرى حِين كَانُوا فِي مثل حَالهم من الظُّلم والشرك. وَقَوله: {إِن أَخذه أَلِيم شَدِيد} ظَاهر الْمَعْنى. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله بمهل الظَّالِم - أَو يملي الظَّالِم - حَتَّى إِذا أَخذه لم يفلته " ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخذ رَبك إِذا أَخذ الْقرى وَهِي ظالمة} وَالْخَبَر فِي " الصَّحِيحَيْنِ " بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.

103

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَة} مَعْنَاهُ: لعبرة {لمن خَافَ عَذَاب الْآخِرَة} ظَاهر الْمَعْنى {ذَلِك يَوْم مَجْمُوع لَهُ النَّاس} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة يجمع الله فِيهِ الْأَوَّلين والآخرين {وَذَلِكَ يَوْم مشهود} يَعْنِي: يشهده جَمِيع الْخلق. وَقيل: أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض.

104

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نؤخره إِلَّا لأجل مَعْدُود} يَعْنِي: إِلَّا لوقت مَعْلُوم عِنْد الله لَا

{يَأْتِ لَا تكلم نفس إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمنهمْ شقي وَسَعِيد (105) } عِنْد النَّاس. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: مُدَّة الدُّنْيَا سَبْعَة آلَاف سنة، لَا يدْرِي أحدكُم مَا مضى مِنْهَا وَكم بَقِي.

105

وَقَوله: {يَوْم يَأْتِ} وَقُرِئَ: " يَوْم يَأْتِي " بِالْيَاءِ. وَحكى الْخَلِيل وسيبويه أَن الْعَرَب تَقول: لَا أدر، أَي: لَا أَدْرِي. وَذكر الْفراء أَن الْعَرَب تجتزيء بالكسرة عَن الْيَاء بعْدهَا. وَقَوله: {لَا تكلم نفس إِلَّا بِإِذْنِهِ} فِي الْآيَة سُؤال مَعْرُوف وَهُوَ: أَن الله تَعَالَى قد قَالَ فِي (مَوضِع) آخر: {وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتساءلون} وَقَالَ هَاهُنَا: {لَا تكلم نفس إِلَّا بِإِذْنِهِ} فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَينهمَا؟ الْجَواب: قد ذكرنَا أَن فِي الْقِيَامَة مَوَاقِف؛ فَفِي موقف يَتَكَلَّمُونَ ويتساءلون، وَفِي مَوضِع يسكتون وَلَا يَتَكَلَّمُونَ، وَفِي موقف يخْتم على أَفْوَاههم وتتكلم جوارحهم، وَقيل غير هَذَا، وَقد بَينا. وَقَوله: {فَمنهمْ شقي وَسَعِيد} الشقاوة: قُوَّة أَسبَاب الْبلَاء، والسعادة: قُوَّة أَسبَاب النِّعْمَة. وَمعنى الْآيَة هَاهُنَا عِنْد أهل السّنة: فَمنهمْ شقي سبقت لَهُ الشقاوة، وَمِنْهُم سعيد سبقت لَهُ السَّعَادَة. وَفِي الْأَخْبَار المسندة: أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لما حَضرته الْوَفَاة أُغمي عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاق قَالَ: أَتَانِي ملكان فظان غليظان وجراني وَقَالا: تعال نحاكمك إِلَى الْعَزِيز الْأمين، قَالَ: فلقيهما ملك وَقَالَ: أَيْن تريدان بِهِ؟ قَالَا: نحاكمه إِلَى الْعَزِيز الْأمين، فَقَالَ لَهما: خليا عَنهُ، فَإِنَّهُ مِمَّن سبقت لَهُ السَّعَادَة فِي الذّكر الأول.

{فَأَما الَّذين شَقوا فَفِي النَّار لَهُم فِيهَا زفير وشهيق (106) } وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي خبر ملك الْأَرْحَام: " إِنَّه إِذا كتب أَجله وَعَمله ورزقه يَقُول: يَا رب، أشقي أم سعيد؟ فَيَقُول الله تَعَالَى، وَيكْتب الْملك ". خرجه مُسلم. وروى ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - " أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَمنهمْ شقي وَسَعِيد} قَالَ عمر: يَا رَسُول الله: فيمَ الْعَمَل؟ أنعمل فِي أَمر قد فرغ مِنْهُ وَجَرت بِهِ الأقلام، أَو فِي أَمر لم يفرغ مِنْهُ؟ فَقَالَ: بل فِي أَمر قد فرغ مِنْهُ وَجَرت بِهِ الأقلام يَا عمر، وَلَكِن كل ميسر لما خلق لَهُ ". أوردهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه. وَقَالَ بَعضهم: إِن السَّعَادَة والشقاوة هَاهُنَا فِي الرزق والحرمان. وَقَالَ بَعضهم: الشقاوة: بِالْعَمَلِ السيء، والسعادة: بِالْعَمَلِ الْحسن. والمأثور الصَّحِيح هُوَ الأول.

106

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين شَقوا فَفِي النَّار لَهُم فِيهَا زفير وشهيق} هَذِه الْآيَة تعد من مشكلات الْقُرْآن، وَقد أَكثر الْعلمَاء فِيهَا الْأَقْوَال، وَنَذْكُر مَا يعْتَمد عَلَيْهِ: أما الزَّفِير: قيل: إِنَّه صَوت فِي الْحلق، والشهيق: صَوت فِي الْجوف. وَيُقَال: إِن الزَّفِير: أول نهاق الْحمير، والشهيق: آخر نهاق الْحمير.

107

وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} أما بِالْمَعْنَى الْمَأْثُور: روى الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُؤمنِينَ يدخلهم الله تَعَالَى النَّار، ثمَّ يخرجهم مِنْهَا إِلَى الْجنَّة، ويسمون الجهنميين. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جَابر أَن النَّبِي

{خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك إِن رَبك فعال لما يُرِيد (107) وَأما الَّذين سعدوا فَفِي الْجنَّة خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا} قَالَ: " يخرج الله قوما من النَّار قد صَارُوا (حمما) فيدخلهم الْجنَّة ". وَفِي الْبَاب أَخْبَار كَثِيرَة. فعلى هَذَا القَوْل معنى الْآيَة: فَأَما الَّذين شَقوا: هَؤُلَاءِ الَّذين أدخلهم النَّار {لَهُم فِيهَا زفير وشهيق} ظَاهر الْمَعْنى {خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِيهَا {مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} عبر بِهَذَا عَن طول الْمكْث. وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك إِن رَبك فعال لما يُرِيد} الِاسْتِثْنَاء وَقع على مَا بعد الْإِخْرَاج من النَّار بشفاعة الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ.

108

وَأما قَوْله: {وَأما الَّذين سعدوا فَفِي الْجنَّة} أَرَادَ بِهِ الْمُؤمنِينَ الَّذين أدخلهم الْجنَّة من غير أَن يدخلُوا فِي النَّار. وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مقيمين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، كنى بِهَذَا عَن طول الْمكْث، وَالْعرب تَقول مثل هَذَا وتريد بِهِ الْأَبَد، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: لَا آتِيك مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض يَعْنِي: لَا آتِيك أبدا، وَلَا آتِيك مَا كَانَ لله فِي الْبَحْر قَطْرَة يَعْنِي: لَا آتِيك أبدا. فَخرج هَذَا الْكَلَام على مخرج كَلَام الْعَرَب. وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} الِاسْتِثْنَاء وَقع على الْمدَّة الَّتِي كَانُوا فِي النَّار قبل إدخالهم الْجنَّة. وَفِي الْآيَة قَولَانِ آخرَانِ معروفان سوى هَذَا عِنْد أهل الْمعَانِي: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} هُوَ على ظَاهره، أَي: مُدَّة بَقَاء السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} مَعْنَاهُ: سوى مَا شَاءَ رَبك من الزِّيَادَة على مُدَّة بقائهما. وَحكى الْفراء عَن الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ: لَك عَليّ ألف إِلَّا الْأَلفَيْنِ يَعْنِي: سوى الْأَلفَيْنِ الَّذين تقدما.

{مَا شَاءَ رَبك عَطاء غير مجذوذ (108) فَلَا تَكُ فِي مرية مِمَّا يعبد هَؤُلَاءِ مَا يعْبدُونَ إِلَّا كَمَا يعبد آباؤهم من قبل وَإِنَّا لموفوهم نصِيبهم غير مَنْقُوص (109) وَلَقَد آتَيْنَا} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مَا دَامَ سموات الْجنَّة وأرضها. وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} الِاسْتِثْنَاء وَاقِف على زمَان الْوُقُوف فِي الْقِيَامَة وَمُدَّة الْمكْث فِي الْقَبْر. وَقيل فِي الِاسْتِثْنَاء قَول ثَالِث وَهُوَ: أَنه قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} مَعْنَاهُ: وَلَو شَاءَ لقطع التخليد عَلَيْهِم، وَلَكِن لَا يَشَاء، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا [يكون] لنا ان نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين، وَلَكِن لَا يَشَاء الله. وَقَوله: {إِن رَبك فعال لما يرد} يَعْنِي: لَا يمْتَنع عَلَيْهِ شَيْء، وَقَالَ فِي الْآيَة الثَّانِيَة: {عَطاء غير مجذوذ} غير مَقْطُوع. وَفِي بعض التفاسير عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: يَأْتِي على جَهَنَّم زمَان لَا يبْقى فِيهَا أحد. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَرِيبا من هَذَا. وَمعنى هَذَا عِنْد أهل السّنة - إِن ثَبت - أَن المُرَاد مِنْهُ الْموضع الَّذِي فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ من النَّار، ثمَّ يخرجُون عَنهُ فَلَا يبْقى فِيهَا أحد، وَأما مَوَاضِع الْكفَّار فَهِيَ ممتلئة بهم أَبَد الْأَبَد على مَا نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة، نَعُوذ بِاللَّه من النَّار.

109

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَكُ فِي مرية} فِي شكّ {مِمَّا يعبد هَؤُلَاءِ} يُقَال: إِن الْخطاب مَعَه وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة. وَقَوله: {مَا يعْبدُونَ إِلَّا كَمَا يعبد آباؤهم من قبل} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَإِنَّا لموفوهم نصِيبهم غير مَنْقُوص} قَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: لموفوهم نصِيبهم من الْخَيْر وَالشَّر بِلَا نُقْصَان.

{مُوسَى الْكتاب فَاخْتلف فِيهِ وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لقضي بَينهم وَإِنَّهُم لفي شكّ مِنْهُ مريب (110) وَإِن كلا لما ليوفينهم رَبك أَعْمَالهم إِنَّه بِمَا يعلمُونَ خَبِير (111) فاستقم كَمَا أمرت وَمن تَابَ مَعَك وَلَا تطغوا إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (112) }

110

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب فَاخْتلف فِيهِ} المُرَاد من الْآيَة: تَسْلِيَة النَّبِي، كَأَنَّهُ قَالَ: إِن اخْتلفُوا عَلَيْك وَلم يُؤمنُوا بك فقد اخْتلفُوا على مُوسَى وَلم يُؤمنُوا بِهِ. وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} يَعْنِي: لَوْلَا مَا سبق من حكم الله بِتَأْخِير الْعَذَاب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {لقضي بَينهم} أَي: لعذبوا فِي الْحَال وأهلكوا. وَقَوله: {وَإِنَّهُم لفي شكّ مِنْهُ مريب} ظَاهر الْمَعْنى.

111

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كلا} قرئَ: " وَإِن " و " إِن " - بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد -، أما " إِن " و " إِن " قَالُوا: هما بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر: ((وَوجه) حسن النَّحْر ... كَأَن ثدييه حقان) مَعْنَاهُ: كَأَن ثدييه حقان. وَقَوله: {لما} بِالتَّخْفِيفِ قيل: " لما " بِمَعْنى " لمن "، وَيُقَال: إِن اللَّام للقسم، كَأَن الله تَعَالَى قَالَ: وَإِن كلا لمن الله ليوفينهم رَبك أَعْمَالهم. وَأما قَوْله: " لما " بِالتَّشْدِيدِ قيل: معنى " لما " بِالتَّشْدِيدِ هُوَ مَعْنَاهَا بِالتَّخْفِيفِ. ذكره الْمَازِني. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: أصح الْمعَانِي أَن " لما " بِمَعْنى " إِلَّا " أَي: وَإِلَّا ليوفينهم رَبك أَعْمَالهم {إِنَّه بِمَا يعْملُونَ خَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.

112

وَقَوله تَعَالَى: {فاستقم كَمَا أمرت} معنى الاسْتقَامَة: هُوَ المداومة على مُوجب الْأَمر وَالنَّهْي. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي مُسلم الْخَولَانِيّ، عَن عمر بن الْخطاب - وَالصَّحِيح عَن أبي ذَر - أَنه قَالَ: " لَو صليتم حَتَّى تَكُونُوا كالحنايا، وصمتم حَتَّى تَكُونُوا كالحنائر - وَمَعْنَاهُ: كالأوتاد - ثمَّ كَانَ الِاثْنَان أحب إِلَيْكُم

من الْوَاحِد لم تبلغوا حد الاسْتقَامَة ". روى هَذَا الْخَبَر جمَاعَة من الزهاد؛ رَوَاهُ حَاتِم الْأَصَم، عَن شَقِيق، عَن إِبْرَاهِيم بن أدهم، عَن مَالك بن دِينَار، عَن أبي مُسلم بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: أَن النَّبِي قَالَ: " اسْتَقِيمُوا وَلنْ تُحْصُوا، وَلنْ يحافظ على الْوضُوء إِلَّا مُؤمن ". وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الاسْتقَامَة: أَن تستقيم على الْأَمر وَالنَّهْي، وَلَا تروغ روغان الثعالب. وَهَذَا أثر مَشْهُور. وَقد رُوِيَ غير هَذَا فِي الاسْتقَامَة، يذكر فِي موضعهَا. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَيْضا: أَن النَّبِي قَالَ: " شيبتني هود " وَفِيه مَعْنيانِ: أَحدهمَا: قَالَ هَذَا لِكَثْرَة مَا ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة من إهلاك الْقُرُون الْمَاضِيَة (و) الْأُمَم السالفة. وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَنه قَالَ؛ لقَوْله تَعَالَى {فاستقم كَمَا أمرت} . وَقَوله: {وَمن تَابَ مَعَك} مَعْنَاهُ: وَمن أسلم مَعَك. وَقَوله: {وَلَا تطغوا} فِيهِ مَعْنيانِ:

{وَلَا تركنوا إِلَى الَّذين ظلمُوا فتمسكم النَّار وَمَا لكم من دون الله من أَوْلِيَاء ثمَّ لَا تنْصرُونَ (113) } أَحدهمَا: وَلَا تطغوا فِي الاسْتقَامَة يَعْنِي: لَا تَزِيدُوا على مَا أمرت ونهيت، فتحرموا مَا أحل الله، وتكلفوا أَنفسكُم مَا لم يشرعه الله وَلم يَفْعَله الرَّسُول وَأَصْحَابه. وَالْمعْنَى الثَّانِي: الطغيان هُوَ البطر لزِيَادَة النِّعْمَة. وَقيل: الطغيان وَالْبَغي بِمَعْنى وَاحِد. {إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

113

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تركنوا إِلَى الَّذين ظلمُوا فمسكم النَّار} الركون: هُوَ الْمحبَّة والمودة والميل بِالْقَلْبِ. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: هُوَ الرِّضَا بأعمالهم. وَعَن السّديّ قَالَ: هُوَ المداهنة مَعَهم. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: هُوَ طاعتهم. وَقَوله: {فتمسكم النَّار} أَي: فتصيبكم النَّار. وَقَوله: {وَمَا لكم من دون الله من أَوْلِيَاء ثمَّ لَا تنْصرُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

114

قَوْله تَعَالَى: {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: طرفِي النَّهَار: الصُّبْح وَالْعصر، {وَزلفًا من اللَّيْل} : الْمغرب وَالْعشَاء. وَقَالَ مُجَاهِد: طرفِي النَّهَار: الصُّبْح وَالظّهْر وَالْعصر، وَزلفًا من اللَّيْل: الْمغرب وَالْعشَاء. وعَلى هَذَا القَوْل: الْآيَة جَامِعَة للصلوات الْخمس. وَعَن بَعضهم: طرفا النَّهَار: الصُّبْح وَالْمغْرب، وَزلفًا من اللَّيْل: الْعَتَمَة. وَمعنى قَوْله: {زلفا من اللَّيْل} سَاعَات اللَّيْل. وَقيل: سَاعَة من اللَّيْل. وَقَرَأَ مُجَاهِد: " وزلفى من اللَّيْل " وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " وَزلفًا من اللَّيْل ". وَالْمَعْرُوف: زلفا من اللَّيْل. قَالَ الشَّاعِر: (طي اللَّيَالِي زلفا فزلفا ... سماوة الْهلَال حَتَّى احقوقفا)

{وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ (114) } وَسبب نزُول الْآيَة: مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - " أَن رجلا أَتَى النَّبِي فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي دخلت بستانا فَأَصَبْت امْرَأَة، فنلت مِنْهَا مَا ينَال الرجل من امْرَأَته، إِلَّا أَنِّي لم أجامعها، وَهَا أَنا ذَا بَين يَديك فَاصْنَعْ مَا شِئْت، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وأقم الصَّلَاة} إِلَى ان قَالَ: {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} . قَالَ معَاذ بن جبل: يَا رَسُول الله - وَفِي رِوَايَة قَالَ: جَاءَ رجل من الْقَوْم فَقَالَ: يَا رَسُول الله - هَذَا لَهُ خَاصَّة أَو للْمُسلمين عَامَّة؟ فَقَالَ رَسُول الله: بل للْمُسلمين عَامَّة ". وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ: " أَن رجلا أَتَى رَسُول الله وَقَالَ: يَا رَسُول الله: إِنِّي أصبت حدا فأقمه عَليّ، فَقَالَ: هَل شهِدت مَعنا هَذِه الصَّلَاة وَقد تطهرت؟ فَقَالَ: نعم. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: اذْهَبْ فقد غفر الله لَك مَا أصبت ". وروت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ: " لَو أَن نَهرا بِبَاب أحدكُم يغْتَسل فِيهِ خمس مَرَّات فِي الْيَوْم، هَل يبْقى من درنه شَيْئا؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُول الله. قَالَ: فَذَلِك مثل الصَّلَوَات الْخمس يمحو الله بهَا الْخَطَايَا ". وَهَذَا خبر صَحِيح. وَفِي تَكْفِير الْخَطَايَا بالصلوات الْخمس خبر عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - وَذكر فِيهِ: " أَن كل صَلَاة تكفر مَا بَينهَا وَبَين الصَّلَاة الْأُخْرَى ". وَعَن سلمَان - رَضِي الله عَنهُ

{واصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ (115) } - أَنه كَانَ قَاعِدا فِي ظلّ شَجَرَة فَأخذ مِنْهَا غصنا يَابسا وهزه فتحات عَنهُ الْوَرق، ثمَّ قَالَ: هَل تَدْرُونَ لم فعلت هَذَا؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ: من تطهر وَصلى الصَّلَوَات الْخمس تحاتت عَنهُ الذُّنُوب كَمَا تحات هَذَا الْوَرق من هَذَا الْغُصْن. وَعَن أبي الْيُسْر - رجل من الْأَنْصَار - " أَن امْرَأَة أَتَت إِلَيْهِ تطلب تَمرا تشتريه، فَقَالَ: فِي الدّكان تمر أَجود مِمَّا ترينه، قَالَ: فَدخلت الدّكان فقبلها والتزمها، وَأصَاب مِنْهَا مَا يُصِيب الرجل من امْرَأَته إِلَّا أَنه لم يُجَامِعهَا، ثمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - وَذكر لَهُ ذَلِك، وَقَالَ: افْعَل بِي مَا شِئْت، فَسكت النَّبِي سَاعَة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار} إِلَى أَن قَالَ: {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} . وَرُوِيَ عَن معَاذ أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله، أوصني، فَقَالَ: " اتَّقِ الله حَيْثُمَا كنت، وأتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها، وخالق النَّاس بِخلق حسن ". فَهَذِهِ الْأَخْبَار كلهَا دَالَّة على معنى الْآيَة. وَفِي بعض التفاسير: أَن رجلا جلس إِلَى سعيد بن الْمسيب، فَسَمعهُ ابْن الْمسيب يَقُول: اللَّهُمَّ وفقني للباقيات الصَّالِحَات، فَقَالَ لَهُ سعيد: وَمَا الْبَاقِيَات الصَّالِحَات؟ قَالَ: الصَّلَوَات الْخمس، فَقَالَ سعيد: لَا، إِنَّمَا الْبَاقِيَات الصَّالِحَات: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم، وَإِنَّمَا الصَّلَوَات الْخمس هِيَ الْحَسَنَات. وَقَوله: {ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} يَعْنِي: ذَلِك عظة للمتعظين.

{فلولا كَانَ من الْقُرُون من قبلكُمْ أولو بَقِيَّة ينهون عَن الْفساد فِي الأَرْض إِلَّا قَلِيلا مِمَّن أنجينا مِنْهُم وَاتبع الَّذين ظلمُوا مَا أترفوا فِيهِ وَكَانُوا مجرمين (116) وَمَا كَانَ رَبك ليهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا مصلحون (117) وَلَو شَاءَ رَبك لجعل النَّاس أمة وَاحِدَة وَلَا يزالون مُخْتَلفين (118) }

115

قَوْله تَعَالَى: {واصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى، حث على الصَّبْر على هَذِه الصَّلَوَات، فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ.

116

قَوْله: {فلولا كَانَ من الْقُرُون من قبلكُمْ} الْآيَة، قَوْله: " فلولا " مَعْنَاهُ: فَهَلا، وَقيل: فَلم لَا، وَالْآيَة للتوبيخ والتعجيب. وَقَوله: {أولُوا بَقِيَّة} قيل: أولُوا طَاعَة. وَقيل: أولُوا تَمْيِيز. وَقيل: أولو بَقِيَّة من خير. وَيُقَال: فلَان على بَقِيَّة من الْخَيْر إِذا كَانَ على طَاعَة، أَو مسكة من عقل، أَو على خصْلَة محمودة. وَقَوله: {ينهون عَن الْفساد فِي الأَرْض} يَعْنِي: يقومُونَ بِالنَّهْي عَن الْفساد. وَقَوله: {إِلَّا قَلِيلا} هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن قَلِيلا مِمَّن أنجينا من الْقُرُون (نهوا) عَن الْفساد. وَقَوله: {مِمَّن أنجينا مِنْهُم وَاتبع الَّذين ظلمُوا مَا أترفوا فِيهِ} المترف: هُوَ المتنعم. وَقيل: هُوَ المعود بِالسَّعَةِ واللذة. وَقيل: المترف: هُوَ الَّذِي أبطره الْغنى وَالنعْمَة. فَمَعْنَى الْآيَة: وَاتبع الَّذين ظلمُوا مَا عودوا من ركُوب الشَّهَوَات وَاللَّذَّات. {وَكَانُوا مجرمين} ظَاهر.

117

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبك ليهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا مصلحون} فِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَا يُهْلِكهُمْ بِمُجَرَّد الشّرك إِذا تعاطوا الْإِنْصَاف فِيمَا بَينهم، وَلم يظلم بَعضهم بَعْضًا. وَالثَّانِي: هُوَ أَن الله لَا يظلم أهل قَرْيَة فيهلكهم بِلَا جِنَايَة. وَالْأول أشهر.

118

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شَاءَ رَبك لجعل النَّاس أمة وَاحِدَة} أَي: وَلَو شَاءَ رَبك لجعل

{إِلَّا من رحم رَبك وَلذَلِك خلقهمْ وتمت كلمة رَبك لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ (119) وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك وجاءك فِي} النَّاس على دين وَاحِد. وَقَوله: {وَلَا يزالون مُخْتَلفين} المُرَاد مِنْهُ: أهل الْبَاطِل كاليهود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَأهل الشّرك، وَكَذَلِكَ من خَالف السّنة من أهل الْقبْلَة.

119

وَقَوله: {إِلَّا من رحم رَبك} أَي: لَكِن من رحم رَبك، وهم أهل الْحق لَا يَخْتَلِفُونَ. وَقَوله: {وَلذَلِك خلقهمْ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: مَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: وللرحمة خلقهمْ. وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وللاختلاف خلقهمْ. وَهُوَ أَيْضا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ فِي رِوَايَة أُخْرَى: خلق أهل الْجنَّة للجنة، وَخلق أهل النَّار للنار، وَخلق أهل الشَّقَاء للشقاء، وَخلق أهل السَّعَادَة للسعادة. وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: إِن الَّذِي أختاره فِي معنى الْآيَة: أَنه خلق فريقا للرحمة وفريقا للعذاب. قَالَ: وَعَلِيهِ أهل السّنة. وَذكر بَعضهم: أَن مَقْصُود الْآيَة هُوَ أَن أهل الْبَاطِل مُخْتَلفُونَ، وَأهل الْحق متفقون، وَخلق أهل الْبَاطِل للِاخْتِلَاف، وَخلق أهل الْحق للاتفاق. قَالَ النّحاس: وَهَذَا أبين الْأَقْوَال وأسرحها. وَاسْتدلَّ أَبُو عبيد على مَا زعم من الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {وتمت كلمة رَبك لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} قَالَ: وَمَعْنَاهُ: وَتمّ حكم رَبك لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ - حاكيا عَن الله مُحَاجَّة الْجنَّة وَالنَّار، فَقَالَ للجنة: " أَنْت رَحْمَتي أرْحم بك من شِئْت من عبَادي، وَقَالَ للنار: أَنْت عَذَابي أعذب بك من شِئْت، وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا ".

{هَذِه الْحق وموعظة وذكرى للْمُؤْمِنين (120) وَقل للَّذين لَا يُؤمنُونَ اعْمَلُوا على مكانتكم إِنَّا عاملون (121) وَانْتَظرُوا إِنَّا منتظرون (122) وَللَّه غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِلَيْهِ يرجع الْأَمر كُله فاعبده وتوكل عَلَيْهِ وَمَا رَبك بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) }

120

وَقَوله تَعَالَى: {وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك} مَعْنَاهُ: وكل الَّذِي تحْتَاج إِلَيْهِ من أنباء الرُّسُل نَقصهَا عَلَيْك؛ لثبت بهَا فُؤَادك. فَإِن قيل: قد كَانَ فُؤَاده ثَابتا فأيش معنى قَوْله: {لنثبت بِهِ فُؤَادك} ؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: لتزداد ثباتا، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم: {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} . وَقَوله: {وجاءك فِي هَذِه الْحق} الْأَكْثَرُونَ أَن مَعْنَاهُ: وجاءك فِي هَذِه السُّورَة الْحق. وَقَالَ بَعضهم: وجاءك فِي هَذِه الدُّنْيَا الْحق. فَإِن قيل: أَي فَائِدَة فِي تَخْصِيص هَذِه السُّورَة وَقد جَاءَهُ الْحق فِي كل سُورَة؟ قُلْنَا: فَائِدَته: تشريف السُّورَة، وتشريفها بالتخصيص لَا يدل على انه لم يَأْته الْحق فِي غَيرهَا، أَلا ترى أَن الْإِنْسَان يَقُول: فلَان فِي الْحق إِذا حَضَره الْمَوْت، وَإِن كَانَ فِي الْحق قبله وَبعده. قَوْله: {وموعظة} مَعْنَاهُ: وجاءتك موعظة {وذكرى للْمُؤْمِنين} أَي: وتذكير للْمُؤْمِنين.

121

قَوْله تَعَالَى: {وَقل للَّذين لَا يُؤمنُونَ اعْمَلُوا على مكانتكم إِنَّا عاملون} معنى الْآيَة: هُوَ التهديد والوعيد على مَا بَينا من قبل.

122

وَقَوله: {وَانْتَظرُوا إِنَّا منتظرون} فِي معنى الْآيَة.

123

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: وَللَّه علم مَا غَابَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ يرجع الْأَمر كُله فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} مَعْنَاهُ: إِلَيْهِ يرجع أَمر الْعباد فيجازيهم على الْخَيْر وَالشَّر {وَمَا رَبك بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: أَنه لَا يغيب عَنهُ شَيْء من أَعمال الْعباد وَإِن صغر، وَالله أعلم.

تمّ بِحَمْد الله تَعَالَى المجلد الثَّانِي من تَفْسِير أبي المظفر السَّمْعَانِيّ ويتلوه المجلد الثَّالِث إِن شَاءَ الله تَعَالَى وأوله تَفْسِير سُورَة يُوسُف

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة يُوسُف وَهِي مَكِّيَّة بِاتِّفَاق الْقُرَّاء، وَفِي الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى أنزل مَا أنزل من الْقُرْآن فقرأه الْمُسلمُونَ مُدَّة، ثمَّ قَالُوا: يَا رَسُول الله، لَو قصصت علينا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، وفيهَا: {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص} ثمَّ قَالُوا بعد ذَلِك: لَو حَدَّثتنَا يَا رَسُول الله، فَأنْزل {الله نزل أحسن الحَدِيث} ، ثمَّ قَالُوا: (لَو ذكرتنا) يَا رَسُول الله، فَأنْزل الله تَعَالَى: {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله} كل ذَلِك يحيلهم على الْقُرْآن. وَعَن خَالِد بن معدان أَنه قَالَ: سُورَة يُوسُف وَسورَة مَرْيَم يتفكه (بهما) أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة. وروى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم ابْن الْكَرِيم يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِم السَّلَام - وَلَو لَبِثت فِي السجْن مَا لبث يُوسُف ثمَّ دعيت إِلَى مَا دعى إِلَيْهِ لَأَجَبْت " - وعنى حِين دَعَاهُ الْملك من السجْن. وَالْخَبَر صَحِيح.

{الر تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون (2) نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن وَإِن كنت من قبله لمن الغافلين}

يوسف

قَوْله تَعَالَى: {الر} مَعْنَاهُ: أَنا الله أرى؛ وَقد بَينا من قبل سوى هَذَا من الْمَعْنى فِي معنى [الْحُرُوف] الْمُقطعَة، فَلَا نعيد. وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين} يَعْنِي: هَذِه الْآيَات الَّتِي أنزلتها عَلَيْك هِيَ تِلْكَ الْآيَات الَّتِي وعدت إنزالها فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. وَقَوله: {الْمُبين} مَعْنَاهُ: الْبَين حَلَاله وَحَرَامه. وَقيل: الْبَين رشده وغيه.

2

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد مِنْهُ: إِنَّا أنزلنَا الْقُرْآن عَرَبيا. وَفِي مسانيد ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَحبُّوا الْعَرَب لثلاث: لِأَنِّي عَرَبِيّ، وَالْقُرْآن عَرَبِيّ، وَكَلَام أهل الْجنَّة بِالْعَرَبِيَّةِ ". وَقَوله {لَعَلَّكُمْ تعقلون} أَي: تفهمون.

3

قَوْله تَعَالَى: {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص} قَالَ أهل التَّفْسِير: مَعْنَاهُ: نَحن نبين لَك أَخْبَار الْأُمَم السالفة والقرون الْمَاضِيَة أحسن الْبَيَان؛ والقاص: هُوَ الَّذِي يَأْتِي بالْخبر على وَجهه. وَقيل: إِن المُرَاد من الْآيَة قصَّة يُوسُف خَاصَّة؛ سَمَّاهَا أحسن الْقَصَص لزِيَادَة التشريف. (وَقيل) : أعجب الْقَصَص. وَقيل: أحكم الْقَصَص. وَالْأول هُوَ القَوْل الْمَشْهُور. وَحكي عَن ابْن عَطاء أَنه قَالَ: لَا يسمع سُورَة يُوسُف محزون إِلَّا استروح إِلَيْهَا

( {3) إِذْ قَالَ يُوسُف لِأَبِيهِ يَا أَبَت إِنِّي رَأَيْت أحد عشر كوكبا وَالشَّمْس وَالْقَمَر رَأَيْتهمْ لي ساجدين (4) قَالَ يَا بني لَا تقصص رُؤْيَاك على إخْوَتك فيكيدوا لَك كيدا إِن} وَقَوله: {بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن} مَعْنَاهُ: بوحينا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن. وَقَوله: {وَإِن كنت من قبله لمن الغافلين} أَي: لمن الساهين عَن هَذِه الْقِصَّة وَغَيرهَا.

4

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ يُوسُف لِأَبِيهِ} مَعْنَاهُ: اذكر إِذْ قَالَ يُوسُف لِأَبِيهِ: {يَا أَبَت} قرىء بقراءتين: " يَا أَبَت " و " يَا أَبَت " بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح؛ أما بِالْكَسْرِ فَالْأَصْل: " يَا أبتي " ثمَّ حذف الْيَاء واجتزىء بالكسرة. وَأما بِالْفَتْح: فَالْأَصْل: " يَا أبتا " ثمَّ أسقط الْألف وَاكْتفى بِالنّصب. قَالَ الْأَعْشَى: (فيا أبتا لَا تزل عندنَا ... فَإنَّا نَخَاف بِأَن نخترم) وَقَوله: {إِنِّي رَأَيْت أحد عشر كوكبا} فِي الْقِصَّة: أَن يُوسُف كَانَ لَهُ اثْنَتَا عشرَة سنة حِين رأى هَذِه الرُّؤْيَا. وَقد قيل غير ذَلِك، وَالله أعلم. وروى (أَنه رأى هَذِه) الرُّؤْيَا لَيْلَة الْجُمُعَة لَيْلَة الْقدر. وَقَوله {أحد عشر كوكبا} يَعْنِي: أحد عشر نجما من نُجُوم السَّمَاء، وَكَانَ المُرَاد مِنْهَا إخْوَته، وَكَانُوا أحد عشر رجلا، يستضاء بهم كَمَا يستضاء بالكواكب. وَقَوله {وَالشَّمْس وَالْقَمَر} تَأْوِيل الشَّمْس: أَبوهُ، وَتَأْويل الْقَمَر: أمه. هَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَغَيره. وَقَالَ بَعضهم: كَانَت أمه فِي الْمَوْتَى، وَهَذِه خَالَته راحيل. وَقَالَ ابْن جريج: الْقَمَر: أَبوهُ، وَالشَّمْس: أمه؛ لِأَن الشَّمْس مُؤَنّثَة وَالْقَمَر مُذَكّر. وَقَوله: {رَأَيْتهمْ لي ساجدين} قَالَ بَعضهم: عِنْدِي ساجدين لله. وَالأَصَح: أَنهم سجدوا لَهُ تَحِيَّة وكرامة. فَإِن قَالَ قَائِل: (قد قَالَ) : {ساجدين} وَلم يقل " ساجدات " وَحقّ الْعَرَبيَّة فِي النُّجُوم أَن يُقَال: " ساجدات ". الْجَواب: أَن الله تَعَالَى لما أخبر عَنْهُم بِفعل من يعقل وَهُوَ السُّجُود ألحقهم بِمن يعقل فِي إِعْرَاب الْكَلَام فَقَالَ: ساجدين، وَلم يقل: " ساجدات " بِهَذَا.

{الشَّيْطَان للْإنْسَان عَدو مُبين (5) وَكَذَلِكَ يجتبيك رَبك ويعلمك من تَأْوِيل الْأَحَادِيث وَيتم نعْمَته عَلَيْك وعَلى آل يَعْقُوب كَمَا أتمهَا على أَبَوَيْك من قبل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق إِن رَبك عليم حَكِيم (6) لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات للسائلين (7) إِذْ قَالُوا}

5

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ يَا بني لَا تقصص رُؤْيَاك على إخْوَتك} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحي، فَعلم يَعْقُوب أَن الْإِخْوَة لَو سمعُوا (بِهَذِهِ) الرُّؤْيَا عرفُوا أَنَّهَا حق فيحسدونه (فَأمره بِالْكِتْمَانِ) لهَذَا الْمَعْنى. وَقَوله: {فيكيدوا لَك كيدا} مَعْنَاهُ: فيحتالوا لَك حِيلَة. {إِن الشَّيْطَان للْإنْسَان عَدو مُبين} وَمَعْنَاهُ: إِن الشَّيْطَان يزين لَهُم ذَلِك ويحملهم عَلَيْهِ لعداوته. للعداوة الْقَدِيمَة.

6

قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ يجتبيك رَبك} مَعْنَاهُ: وكما رفع منزلتك وأراك هَذِه الرُّؤْيَا فَكَذَلِك يجتبيك أَي: يصطفيك رَبك. {ويعلمك من تَأْوِيل الْأَحَادِيث} تَأْوِيل [مَا تؤول إِلَيْهِ عَاقِبَة أمره] . وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد من هَذَا علم التَّعْبِير وَمَا تؤول إِلَيْهِ الرُّؤْيَا، قَالُوا: وَكَانَ يُوسُف أعلم النَّاس بالرؤيا وأعبرهم لَهَا. وَقَوله: {وَيتم نعْمَته عَلَيْك} يَعْنِي: يجعلك نَبيا، وَذَلِكَ تَمام النِّعْمَة على الْأَنْبِيَاء {وعَلى آل يَعْقُوب} وعَلى أَوْلَاد يَعْقُوب؛ فَإِن أَوْلَاد يَعْقُوب كلهم كَانُوا أَنْبيَاء. وَقَوله: {كَمَا أتمهَا على أَبوك من قبل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق} يَعْنِي: كَمَا جَعلهمَا نبيين من قبل كَذَلِك يجعلك نَبيا. وَقَوله: {إِن رَبك عليم حَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى. وَقد قيل: إِن المُرَاد من تَمام النِّعْمَة على إِبْرَاهِيم: هُوَ إنجاؤه من النَّار، وَالْمرَاد من تَمام النِّعْمَة على إِسْحَاق: هُوَ إنجاؤه من الذّبْح. وَهَذَا قَول مَشْهُور. وَذكر الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه كَانَ بَين هَذِه الرُّؤْيَا وَبَين هَذَا القَوْل وَبَين تحقيقها، ثَمَانُون سنة. وَذكر عبد الله بن شَدَّاد أَنه كَانَ بَينهمَا أَرْبَعُونَ سنة. وَهَذَا أشهر الْقَوْلَيْنِ.

{ليوسف وَأَخُوهُ أحب إِلَى أَبينَا منا وَنحن عصبَة إِن أَبَانَا لفي ضلال مُبين (8) اقْتُلُوا}

7

قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ فِي يُوسُف وَإِخْوَته آيَات للسائلين} وَفِي بعض الْمَصَاحِف: " عِبْرَة للسائلين "، والآيات: جمع الْآيَة؛ وَالْآيَة: هِيَ الدّلَالَة على أَمر عَظِيم. وَفِي معنى الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْيَهُود سَأَلُوا رَسُول الله عَن قصَّة يُوسُف - عَلَيْهِ [الصَّلَاة] السَّلَام - وَفِي بعض الرِّوَايَات (أَنهم سَأَلُوهُ) عَن سَبَب انْتِقَال ولد يَعْقُوب من كنعنان إِلَى مصر، فَذكر لَهُم قصَّة يُوسُف فوجدوها مُوَافقَة لما فِي التَّوْرَاة؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {آيَات للسائلين} أَي: دلَالَة على نبوة الرَّسُول. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن (نعنى) قَوْله: {آيَات للسائلين} يَعْنِي: أَنَّهَا غبر للمعتبرين فَإِنَّهَا تشْتَمل على ذكر حسد إخْوَة يُوسُف لَهُ وَمَا آل إِلَيْهِ أَمرهم فِي الْحَسَد، وتشتمل على ذكر رُؤْيَاهُ وَمَا حقق الله مِنْهَا، وتشتمل على مَا صَبر يُوسُف عَن قَضَاء الشَّهْوَة، وعَلى الْعُبُودِيَّة فِي السجْن، وَمَا آل إِلَيْهِ أمره من الْملك، وتشتمل أَيْضا على ذكر حزن يَعْقُوب وَمَا آل إِلَيْهِ أمره من الْوُصُول إِلَى المُرَاد، وَذَهَاب الْحزن عَنهُ، وَغير هَذَا مِمَّا يذكر فِي السُّورَة؛ فَهَذِهِ عبر للمعتبرين.

8

قَوْله: {إِذْ قَالُوا ليوسف وَأَخُوهُ أحب إِلَى أَبينَا منا} الْآيَة، كَانَ يُوسُف وَأَخُوهُ بنيامين من أم وَاحِدَة، وَكَانَ يَعْقُوب شَدِيد الْحبّ ليوسف، وَكَانَ إخْوَة يُوسُف يرَوْنَ مِنْهُ من الْميل إِلَيْهِ مَا لَا [يرونه] لأَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا هَذِه الْمقَالة. وَقَوله: {وَنحن عصبَة} قَالَ الْفراء: الْعصبَة هِيَ: الْعشْرَة فَمَا زَادَت. (قَالَ القتيبي) وَمن الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين. وَقَالَ غَيرهمَا: " وَنحن عصبَة " أَي: جمَاعَة يتعصب بَعْضنَا لبَعض. وَقَوله: {إِن أَبَانَا لفي ضلال مُبين} مَعْنَاهُ: إِن أَبَانَا لفي خطأ ظَاهر. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ وصفوا رَسُولا من رسل الله مثل يَعْقُوب بالضلالة؟ الْجَواب عَنهُ: لَيْسَ (الْمَعْنى) من الضلال هَاهُنَا هُوَ الضلال فِي الدّين، وَلَو

{يُوسُف أَو اطرحوه أَرضًا يخل لكم وَجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9) } أرادوه صَارُوا كفَّارًا؛ وَإِنَّمَا المُرَاد من الضلال هَاهُنَا: هُوَ الْخَطَأ (فِي تَدْبِير) أَمر الدُّنْيَا، وعنوا بذلك: أَنا أولى بالمحبة فِي تَدْبِير أَمر الدُّنْيَا؛ لأَنا أَنْفَع لَهُ وأكبر من يُوسُف، ونصلح لَهُ أَمر معايشه، وَنرعى لَهُ مواشيه؛ فَهُوَ مخطىء من هَذَا الْوَجْه.

9

قَوْله تَعَالَى: {اقْتُلُوا يُوسُف} الْقَتْل: تخريب البنية على وَجه لَا يَصح مَعهَا وجود الْحَيَاة. وَقَوله: {أَو اطرحوه أَرضًا} أَي: اطرحوه فِي أَرض تَأْكُله السبَاع، وَقيل: اطرحوه إِلَى أَرض يبعد عَن أَبِيه وَيبعد أَبوهُ عَنهُ. وَقَوله: {يخل لكم وَجه أبيكم} يَعْنِي: يخلص لكم وَجه أبيكم. وَقَوله: {وتكونوا من بعده قوما صالحين} يَعْنِي: تُوبُوا بعد أَن فَعلْتُمْ هَذَا، ودوموا على الصّلاح يعف الله عَنْكُم. وَاسْتدلَّ أهل السّنة بِهَذِهِ الْآيَة على أَن تَوْبَة الْقَاتِل عمدا مَقْبُولَة؛ فَإِن الله تَعَالَى ذكر عزم الْقَتْل [مِنْهُم] وَذكر التَّوْبَة وَلم يُنكر عَلَيْهِم التَّوْبَة بعد الْقَتْل؛ دلّ أَنَّهَا مَقْبُولَة. قَالَ ابْن إِسْحَاق - يَعْنِي: مُحَمَّد بن إِسْحَاق -: وَقد اشْتَمَل فعلهم على جرائم، مِنْهَا: قطيعة الرَّحِم، وعقوق (الْوَالِد) ، وَقلة الرأفة بالصغير الطريح الَّذِي لَا ذَنْب لَهُ، والغدر بالأمانة، وَترك الْعَهْد بِالْحِفْظِ، وَالْكذب الَّذِي عزموا عَلَيْهِ مَعَ أَبِيهِم يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ عَفا الله عَنْهُم مَعَ هَذَا كُله؛ لِئَلَّا ييأس أحد من رَحمته. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِنَّهُم عزموا على قَتله؛ وَلَكِن الله تَعَالَى حَبسهم عَن قَتله رأفة وَرَحْمَة بهم، وَلَو مضوا على قَتله لهلكوا أَجْمَعِينَ.

10

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قَائِل مِنْهُم} الْأَكْثَرُونَ على أَن هَذَا كَانَ يهوذا، وَكَانَ أكبرهم

{قَالَ قَائِل مِنْهُم لَا تقتلُوا يُوسُف وألقوه فِي غيابة الْجب يلتقطه بعض السيارة إِن كُنْتُم} فِي الْعقل لَا أكبرهم فِي السن. هَذَا قَول ابْن عَبَّاس، قَالَ: وَكَانَ ابْن خَالَة يُوسُف. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ روبيل. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: هُوَ شَمْعُون. وَأَصَح الْأَقْوَال هُوَ الأول. وَقَوله: {لَا تقتلُوا يُوسُف} أَشَارَ عَلَيْهِم أَن لَا ترتكبوا هَذِه الْكَبِيرَة الْعَظِيمَة. وَقَوله {وألقوه فِي غيابة الْجب} يَعْنِي: أَسْفَل الْجب، والغيابة: كل مَوضِع ستر عَنْك الشَّيْء (وغيبه) . قَالَ الشَّاعِر: (بني إِذا مَا غيبتني غيابتي ... فسيروا بسيري فِي الْعَشِيرَة والأهل) وعنى بالغيابة: الْقَبْر؛ لِأَنَّهُ يغيب الْمَيِّت ويستره. والجب: هُوَ الْبِئْر الَّتِي لم تطو لِأَنَّهُ قطع قطعا وَلم تطو بعد، والجب: هُوَ الْقطع. قَوْله: {يلتقطه بعض السيارة} أَي: يجده بعض السيارة، والالتقاط: هُوَ أَخذ الشَّيْء من حَيْثُ لَا يحتسبه، والسيارة: هم المسافرون. قَوْله: {إِن كُنْتُم فاعلين} يَعْنِي: إِن عزمتم على فعلكم. وَاخْتلف أهل الْعلم أَنهم كَانُوا بالغين أَو لم يَكُونُوا بالغين حِين عزموا على هَذَا وفعلوا؟ فالأكثرون أَنهم كَانُوا رجَالًا بالغين، إِلَّا أَنهم لم يَكُونُوا أَنْبيَاء بعد، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنهم قَالُوا: وتكونوا من بعده قوما صالحين؛ وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم بعد الْبلُوغ وَيدل (عَلَيْهِ) أَنهم قَالُوا: يَا أَبَانَا اسْتغْفر لنا ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطئين، وَالصَّغِير لَا ذَنْب لَهُ، دلّ أَنهم كَانُوا رجَالًا. وَمِنْهُم من قَالَ: كَانُوا صغَارًا. وَهَذَا القَوْل غير مرضِي. وَاسْتدلَّ من قَالَ بِهَذَا القَوْل

{فاعلين (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَك لَا تأمنا على يُوسُف وَإِنَّا لَهُ لناصحون (11) أرْسلهُ مَعنا غَدا يرتع ويلعب وَإِنَّا لَهُ لحافظون (12) قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تذْهبُوا بِهِ وأخاف} بِأَنَّهُم قَالُوا: " أرْسلهُ مَعنا غَدا نرتع وَنَلْعَب "، واللعب فعل الصغار لَا فعل الْكِبَار. وَأَجَابُوا عَن هَذَا: أَنهم لم يذكرُوا لعبا حَرَامًا، وَإِنَّمَا عنوا لعبا مُبَاحا. وَحكي عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَنه سُئِلَ عَن قَوْله: {نلعب} فَقيل لَهُ: كَيفَ قَالُوا: " نلعب " وَقد كَانُوا أَنْبيَاء؟ فَقَالَ: هَذَا قبل أَن نبأهم الله تَعَالَى.

11

قَوْله تَعَالَى {قَالُوا يَا أَبَانَا مَالك لَا تأمنا على يُوسُف} بدءوا أَولا (بالإنكار) عَلَيْهِ فِي ترك إرْسَاله مَعَهم وَحفظه مَعَ نَفسه من بَينهم، كَأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّك لَا ترسله مَعنا أتخافنا عَلَيْهِ؟ ! قَوْله: {وَإِنَّا لَهُ لناصحون} النصح هَاهُنَا: هُوَ الْقيام بمصلحه، وَقيل: إِنَّه الْبر والعطف، وَمَعْنَاهُ: إِنَّا عاطفون عَلَيْهِ، بارون بِهِ، قائمون بمصلحته.

12

قَوْله تَعَالَى: {أرْسلهُ مَعنا غَدا نرتع وَنَلْعَب وَإِنَّا لَهُ لحافظون} قَوْله: {نرتع} الرتع: هُوَ الاتساع فِي الملاذ فِي طلب وجوهها يَمِينا وَشمَالًا. وَقيل معنى الْآيَة: نَأْكُل وَنَشْرَب وننشط ونلهو. وقرىء: " يرتع ويلعب " بِالْيَاءِ، وَهُوَ فِي معنى الأول، إِلَّا أَنه ينْصَرف إِلَى يُوسُف خَاصَّة، وقرىء: " يرتعي " وَهُوَ يفتعل من الرَّعْي، وَمَعْنَاهُ: إِنَّه يرْعَى الْمَاشِيَة كَمَا نرعى. وَقَوله: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} .

13

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تذْهبُوا بِهِ} مَعْنَاهُ: إِنِّي ليغمني أَن تذْهبُوا بِهِ؛ والحزن هَاهُنَا: ألم الْقلب بِفِرَاق المحبوب. وَقَوله: {وأخاف أَن يَأْكُلهُ الذِّئْب} فِي الْقِصَّة: أَن يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ رأى فِي الْمَنَام كَأَن ذئبا شدّ على يُوسُف - وَكَانَ يخَاف من ذَلِك - فَقَالَ مَا قَالَ بذلك الْخَوْف. وَقد قَالَ بَعضهم: إِنَّه أَرَادَ بالذئب إيَّاهُم. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ لَو خافهم عَلَيْهِ لم يَدْفَعهُ إِلَيْهِم، وَمَا كَانَ يجوز لَهُ ذَلِك، وَلِأَنَّهُ معنى متكلف مستكره، فَلَا يجوز أَن يُصَار إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَأَنْتُم عَنهُ غافلون}

{أَن يَأْكُلهُ الذِّئْب وَأَنْتُم عَنهُ غافلون (13) قَالُوا لَئِن أكله الذِّئْب وَنحن عصبَة إِنَّا إِذا لخاسرون (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمعُوا أَن يجْعَلُوا فِي غيابت الْجب وأوحينا إِلَيْهِ} أَي: ساهون.

14

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَئِن أكله الذِّئْب وَنحن عصبَة} أَي: جمَاعَة يتقوى بَعْضنَا بِبَعْض. وَقَوله: {إِنَّا ذَا لخاسرون} يَعْنِي: إِنَّا إِذا لعاجزون.

15

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابة الْجب} الْإِجْمَاع: هُوَ الْعَزْم على الشَّيْء، وَالْوَاو هَاهُنَا مقحمة، وَالْمعْنَى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ أَجمعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابة الْجب. قَالَ الشَّاعِر: (أَجمعُوا أَمرهم بلَيْل فَلَمَّا ... أَصْبحُوا أَصْبحُوا عَليّ لصوصا) وَقَوله { [وَأَجْمعُوا] أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابة الْجب} مَعْنَاهُ: بِأَن يلقوه فِي غيابة الْجب. وَذكر وهب بن مُنَبّه، وَغَيره أَنهم لما أخذُوا يُوسُف أَخَذُوهُ بغاية الْإِكْرَام وَجعلُوا يحملونه إِلَى أَن أصحروا بِهِ، فَلَمَّا أصحروا بِهِ ألقوه وَجعلُوا يضربونه وَهُوَ يستغيث حَتَّى كَادُوا يقتلونه، ثمَّ إِن يهوذا مَنعهم مِنْهُ. وَذكروا أَنه كَانَ من أَبنَاء [اثنتى عشرَة] سنة. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه كَانَ ابْن سِتّ سِنِين. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه كَانَ ابْن سبع عشرَة سنة. وَهَذَا مَعْرُوف أَيْضا. ثمَّ أَنهم أَجمعُوا (على أَن) يطرحوه فِي الْبِئْر، فَجَاءُوا إِلَى بِئْر على غير الطَّرِيق وَاسع الْأَسْفَل، ضيق الرَّأْس، فطرحوه فِيهَا، فَروِيَ أَنه كَانَ يتَعَلَّق بجوانب الْبِئْر، فشدوا

{لتنبئهم بأمرهم هَذَا وهم لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أباهم عشَاء يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِق وَتَركنَا يُوسُف عِنْد متاعنا فَأَكله الذِّئْب وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا وَلَو كُنَّا} يَدَيْهِ ثمَّ ألقوه. وَفِي بعض الرِّوَايَات: (أَنهم) جَعَلُوهُ فِي دلو وأرسلوه فِي الْبِئْر، فَلَمَّا بلغ المَاء فَإِذا صَخْرَة فَقَامَ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ أَنهم قَالُوا لَهُ: اقعد فِي ذَلِك الطاق من الْبِئْر، فَإِذا جَاءَ من يَسْتَقِي فَتعلق بالدلو حَتَّى تخرج. قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي: لما صَار يُوسُف فِي الْبِئْر دَعَا الله تَعَالَى فَقَالَ: يَا شَاهدا غير غَائِب، وَيَا غَالِبا غير مغلوب، وَيَا قَرِيبا غير بعيد، اجْعَل لي مِمَّا أَنا فِيهِ فرجا ومخرجا. ثمَّ اخْتلفت الرِّوَايَة أَنه كم بَات فِي الْبِئْر؟ فالأكثرون: أَنه بَات فِيهَا ثَلَاث ليَالِي وَالْقَوْل الآخر: أَنه بَات فِيهَا لَيْلَة. وَقَوله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَيْهِ لتنبئنهم بأمرهم هَذَا} [قَول] أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن هَذَا الْوَحْي إِلَى يُوسُف، وَبعث الله جِبْرِيل يؤنسه ويبشره بِالْخرُوجِ ويخبره: أَنه ينبئهم بِمَا فعلوا ويجازيهم عَلَيْهِ وهم لَا يعْرفُونَ أَنه يُوسُف، وَسَيَأْتِي بعد هَذِه الْقِصَّة. وَقيل: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَنه أوحى إِلَيْهِ. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الْوَحْي هَاهُنَا هُوَ الإلهام؛ وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى أَن أرضعيه} وَأما إتْيَان جِبْرِيل كَانَ بعد هَذَا.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءُوا أباهم عشَاء يَبْكُونَ} قَالَ أهل الْمعَانِي: جَاءُوا فِي ظلمَة الْعشَاء ليكونوا أجرأ على الِاعْتِذَار بِالْكَذِبِ؛ فَروِيَ أَن يَعْقُوب سمع صِيَاحهمْ وعويلهم فَخرج وَقَالَ: مَا لكم؟ هَل أصَاب الذِّئْب من غنمكم شَيْئا؟ قَالُوا: لَا؛ وَإِنَّمَا الذِّئْب أكل يُوسُف. وَقَرَأَ الْحسن: " غشاء يَبْكُونَ "، وَمَعْنَاهُ: قد غشيت أَبْصَارهم من الْبكاء.

17

وَقَوله: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِق} أَي: ننتضل وَنَنْظُر لمن السَّبق. وَقيل:

{صَادِقين (17) وَجَاءُوا على قَمِيصه بِدَم كذب قَالَ بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم أمرا فَصَبر} نَسْتَبِق على أقدامنا. وَقد ثَبت أَن النَّبِي سَابق عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مرَّتَيْنِ، فسبقته عَائِشَة فِي الْمرة الأولى، وسبقها النَّبِي فِي الْمرة الثَّانِيَة، فَقَالَ لَهَا: " هَذِه بِتِلْكَ ". وَقَوله: {وَتَركنَا يُوسُف عِنْد متاعنا} يَعْنِي: عِنْد ثيابنا وأقمشتنا {فَأَكله الذِّئْب وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا} يَعْنِي: بمصدق لنا {وَلَو كُنَّا صَادِقين} يَعْنِي: وَإِن كُنَّا صَادِقين. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز أَن يَقُولُوا لنَبِيّ الله: أَنْت لَا تصدق الصَّادِق؟ { الْجَواب مَعْنَاهُ: أَنا لَو كُنَّا صَادِقين عنْدك كنت تتهمنا فِي هَذَا الْأَمر بِشدَّة حبك لَهُ وميلك إِلَيْهِ، فَكيف وَقد خفتنا فِي الِابْتِدَاء واتهمتنا فِي حَقه؟} وَفِيه معنى آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله {وَمَا أَنْت بِمُؤْمِن لنا} : أَنَّك لَا تصدقنا لِأَنَّهُ لَا دَلِيل لنا على صدقنا، وَإِن كُنَّا صَادِقين عِنْد الله.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءُوا على قَمِيصه بِدَم كذب} هَذَا دَلِيل على أَنهم نزعوا قَمِيصه عَنهُ حِين ألقوه فِي الْبِئْر، فروى أَنه قَالَ لَهُم: دعوا لي قَمِيصِي أتستر بِهِ، فَقَالُوا لَهُ: ادْع الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب تسترك - يعنون: مَا رأى من الرُّؤْيَا. وَقَوله: {بِدَم كذب} وَقيل: بِدَم يَعْنِي: بِدَم ذِي كذب. وَقيل: مَكْذُوب فِيهِ. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَرَأَ: " بِدَم كدب " بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة وَهُوَ الدَّم الْمُتَغَيّر. وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لطخوا الْقَمِيص بِالدَّمِ وَلم يشقوه، فَقَالَ يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ: كَيفَ أكله الذِّئْب وَلم يشق قَمِيصه؟ ! مَا عهِدت الذِّئْب حَلِيمًا. حكى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ.

{جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون (18) وَجَاءَت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قَالَ يَا بشرى هَذَا غُلَام وأسروه بضَاعَة وَالله عليم بِمَا يعْملُونَ (19) وشروه بِثمن} وَرُوِيَ أَن بَعضهم قَالُوا: قَتله اللُّصُوص، فَاخْتَلَفُوا على يَعْقُوب فَاتَّهمهُمْ بِهِ و {قَالَ بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم} يَعْنِي: كَذبْتُمْ، بل زينت لكم أَنفسكُم {أمرا} والتسويل: التزيين، وَقَوله: {فَصَبر جميل} مَعْنَاهُ: فأمري صَبر جميل. وَقيل: فَصَبر جميل أختاره. وَالصَّبْر الْجَمِيل: هُوَ الَّذِي لَا شكوى فِيهِ وَلَا جزع. وَقَوله: {وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} مَعْنَاهُ: وَالله الْمُسْتَعَان على الصَّبْر على مَا تكذبون. وَفِي الْقِصَّة: أَنهم ذَهَبُوا وَجَاءُوا بذئب وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي أكل ولدك، فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب: يَا ذِئْب! أكلت وَلَدي وَثَمَرَة فُؤَادِي؟ فأنطقه الله تَعَالَى وَقَالَ: بِاللَّه مَا رَأَيْت وَجه ابْنك قطّ، فَقَالَ: فَكيف وَقعت بِأَرْض كنعان؟ فَقَالَ: جِئْت لصلة قرَابَة. أوردهُ النقاش فِي تَفْسِيره، وَالله أعلم. وَاخْتلفُوا فِي مَوضِع الْبِئْر الَّذِي أدلي فِيهَا يُوسُف؛ قَالَ قَتَادَة: هِيَ بِئْر بَيت الْمُقَدّس. وَقيل: إِنَّهَا بِئْر بِأَرْض الْأُرْدُن، وَقَالَ مقَاتل: بِئْر مَعْرُوفَة، كَانَت بَين منزل يَعْقُوب وَبَينهَا ثَلَاثَة فراسخ، وَالله أعلم.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءَت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه} السيارة: هم الْقَوْم المسافرون، سموا سيارة لأَنهم يَسِيرُونَ فِي الأَرْض. وَقَوله: {فأرسلوا واردهم} والوارد: هُوَ الَّذِي يقدم الْقَوْم ليستقي المَاء من الْبِئْر. قَالَ الْأَصْمَعِي: تَقول الْعَرَب: أدليت الدَّلْو إِذا أرسلتها فِي الْبِئْر، ودليتها إِذا نزعتها من الْبِئْر. وَقَوله {قَالَ (يَا بشراي} هَذَا غُلَام) فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا - وَهُوَ أظهر الْقَوْلَيْنِ -: أَن معنى قَوْله: {يَا بشراي} أَي: أَبْشِرُوا، هَذَا غُلَام. ذكره الْفراء والزجاج. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه نَادَى صَاحبه - وَكَانَ اسْمه بشرى - فَقَالَ: يَا بشراي، هَذَا غُلَام أَي: يَا فلَان، هَذَا غُلَام. ذكره الْأَعْمَش وَالسُّديّ.

وَفِي الْقِصَّة: أَن الْبِئْر كَانَت على غير الطَّرِيق، وَلَكِن الْقَوْم ضلوا الطَّرِيق حَتَّى وَقَعُوا عَلَيْهَا، فَلَمَّا جَاءَ الْوَارِد وَأرْسل الدَّلْو لطلب المَاء، تعلق بِهِ يُوسُف، نزعوا على ظن أَنه المَاء. وروى ابْن مُجَاهِد، عَن أَبِيه أَن جدران الْبِئْر كَانَت تبْكي على يُوسُف حَتَّى أخرج مِنْهَا. وَفِي الْقِصَّة أَيْضا أَن صَاحب السيارة كَانَ مَالك بن دعر، رجل من خُزَاعَة. وَقَوله: {وأسروه بضَاعَة} مَعْنَاهُ: أَن الْوَارِد وَمن كَانَ مَعَه أسروه بضَاعَة عَن أهل الرّفْقَة، مَخَافَة أَن يطلبوا الْمُشَاركَة فِيهِ. وَقَوله: {بضَاعَة} مَعْنَاهُ: أَنهم قَالُوا: نقُول للْقَوْم: إِن أهل المَاء استبضعونا هَذَا الْغُلَام. والبضاعة: هِيَ الْقطعَة من المَال، والبضع: هُوَ الْقطع. وَمِنْه قَوْله فِي فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا: " إِنَّهَا بضعَة مني " أَي: قِطْعَة مني. وَهَذَا خبر ثَابت. وَقَوله: {وَالله عليم بِمَا يعْملُونَ} ظَاهر.

20

قَوْله تَعَالَى: {وشروه بِثمن بخس دَرَاهِم مَعْدُودَة} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن الَّذين باعوه إخْوَته، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَعَامة الْمُتَقَدِّمين. وَقَوله " شروه " هُوَ بِمَعْنى: باعوه. قَالَ الشَّاعِر: (وشريت بردا لَيْتَني ... من بعد برد كنت هَامة) وَفِي الْقِصَّة: أَن الْقَوْم لما اسْتخْرجُوا يُوسُف من الْبِئْر جَاءَ إخْوَته وَقَالُوا: هَذَا غُلَام أبق منا وهددوا يُوسُف حَتَّى لم يعرف (حَاله) وَأقر مَا قَالُوهُ ثمَّ إِنَّهُم باعوه مِنْهُم. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الَّذين باعوا يُوسُف هم الَّذين استخرجوه من الْبِئْر. وَالصَّحِيح هُوَ الأول. وَقَوله: {بِثمن بخس} البخس فِي اللُّغَة: هُوَ النَّقْص، وَمعنى البخس هَاهُنَا: هُوَ الْحَرَام؛ سمي الْحَرَام بخسا لِأَنَّهُ مبخوس الْبركَة. هَذَا قَول الشّعبِيّ وَغَيره. وَقَالَ بَعضهم: {بِثمن بخس} أَي: ذِي ظلم. وَعَن ابْن مَسْعُود، وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا:

{بخس دَرَاهِم مَعْدُودَة وَكَانُوا فِيهِ من الزاهدين (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ من مصر لامْرَأَته أكرمي مثواه} بِثمن بخس: زيوف. وَقيل: بِثمن بخس أَي: قَلِيلا. اخْتلفُوا، كم كَانَ الثّمن؟ قَالَ مُجَاهِد: كَانَ [اثْنَيْنِ وَعشْرين] درهما، وَالإِخْوَة أحد عشر رجلا، فاقتسموا وَأخذ كل وَاحِد دِرْهَمَيْنِ سوى يهوذا فَإِنَّهُ لم يَأْخُذ شَيْئا. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: باعوه بِعشْرين درهما. وَقيل: [باعوه] بِأَرْبَعِينَ. قَوْله {دَرَاهِم مَعْدُودَة} يَعْنِي: أَنهم عدوها عدا وَلم يزنوها وزنا لقلتهَا. وَقَالَ: إِنَّهُم كَانُوا لَا يزنون مَا دون الْأُوقِيَّة وَهُوَ أَرْبَعُونَ درهما. وَقَوله: {وَكَانُوا فِيهِ من الزاهدين} يَعْنِي: (أَنهم) لم يكن لَهُم رَغْبَة فِي يُوسُف؛ لأَنهم لم يعرفوا كرامته على الله. وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا فِي الثّمن من الزاهدين على معنى أَنه لم يكن قصدهم الثّمن؛ إِنَّمَا قصدهم تبعيد يُوسُف عَن أَبِيه.

21

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ من مصر لامْرَأَته أكرمي مثواه} فِي الْقَصَص: أَن مَالك بن دعر قدم بِهِ مصر وَعرضه على البيع فَاشْتَرَاهُ قطيفير صَاحب أَمر الْملك وخازنه، وَقيل: قنطور، وَكَانَ يُسمى الْعَزِيز وَلم يَك أحد بِمصْر يُسمى باسمه كَرَامَة وتشريفا، فروى أَنه اشْتَرَاهُ بِعشْرين دِينَارا ونعلين وحلة. وَذكر وهب بن مُنَبّه أَنه لما عرض على البيع تزايد النَّاس فِي ثمنه حَتَّى بلغ ثمنه: وَزنه ذَهَبا ووزنه فضَّة ووزنه مسكا ووزنه حَرِيرًا، وَكَانَ وَزنه أَرْبَعمِائَة رَطْل وَمِائَتَا (من) ". قَالَ وهب: وَكَانَ ابْن ثَلَاث عشرَة سنة فِي ذَلِك الْوَقْت. وَقد بَينا أَن على قَول بَعضهم: كَانَ ابْن سبع عشرَة سنة. قَالَ كَعْب وَغَيره: كَانَ من أحسن النَّاس وَجها، كَانَ على صُورَة آدم حِين خلقه

{عَسى أَن ينفعنا أَو نتخذه ولدا وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الأَرْض ولنعلمه من} الله تَعَالَى قبل أَن يواقع الْمعْصِيَة. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن يُوسُف أعطي شطر الْحسن ". وَهُوَ غَرِيب، وَقيل: إِنَّه انتزع إِلَى جدته سارة، وَكَانَت سارة أَعْطَيْت سدس الْحسن. وَقَوله: {لامْرَأَته} قيل: كَانَ اسْمهَا: راغيل. وَقيل: كَانَ اسْمهَا: زليخة. وَقَوله: {أكرمي مثواه} مَعْنَاهُ: أكرميه فِي الْمطعم والملبس وَالْمقَام. والمثوى فِي اللُّغَة: مَوضِع الْإِقَامَة، وَيُقَال: ثوى بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ. وَقَوله {عَسى أَن ينفعنا} يَعْنِي: نبيع بِالرِّبْحِ إِن أردنَا البيع، أَو ينفعنا بِالْخدمَةِ إِن لم نبعه. وَقَوله {أَو نتخذه ولدا} يَعْنِي: أَو نعتقه ونتبناه. وَقد ثَبت عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ بِرِوَايَة أبي إِسْحَاق، عَن أبي الْأَحْوَص، عَنهُ أَنه قَالَ: أَفرس النَّاس ثَلَاثَة: الْعَزِيز فِي يُوسُف حِين قَالَ لامْرَأَته: " أكرمي مثواه عَسى أَن ينفعنا " وَابْنَة شُعَيْب فِي مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - حَيْثُ قَالَت: " يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين " [وَأَبُو بكر فِي عمر رَضِي الله عَنْهُمَا] حَيْثُ اسْتَخْلَفَهُ. وَقَوله: {وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: كَمَا خلصناه من الْهَلَاك ونجيناه من ظلمَة الْبِئْر كَذَلِك مكناه فِي الأَرْض؛ وَالْأَرْض هَاهُنَا: أَرض مصر، وَقَوله: ( {مكناه} ) أَي (بالتهليل) وَبسط الْيَد وَرفع الْمنزلَة إِلَى أَن بلغ مَا بلغ. وَقَوله: {ولنعلمه من تَأْوِيل الْأَحَادِيث} قد بَينا من قبل. وَقَوله: {وَالله غَالب على أمره} فِيهِ قَولَانِ؛ أَحدهمَا: أَن الله غَالب على أمره لَا يمنعهُ مِنْهُ مَانع، وَلَا يردهُ عَمَّا يُرِيد راد.

{تَأْوِيل الْأَحَادِيث وَالله غَالب على أمره وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (21) وَلما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ (22) وراودته الَّتِي هُوَ فِي بَيتهَا عَن} وَالْقَوْل الثَّانِي: وَالله غَالب على أَمر يُوسُف بِالتَّدْبِيرِ والحياطة حَتَّى يبلغهُ مُنْتَهى علمه فِيهِ. وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} ظَاهر.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَلما بلغ أشده} الْأَكْثَرُونَ على أَن الأشد: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة وإليها تَنْتَهِي، يَعْنِي: قُوَّة الشَّبَاب. وَقيل: ثَلَاثُونَ سنة. وَقيل: من تَمام [ثَمَانِي عشرَة] سنة إِلَى أَرْبَعِينَ. وَسُئِلَ مَالك عَن الأشد، فَقَالَ: هُوَ الْحلم. وَقَوله {آتيناه حكما وعلما} أَي: فقها وعقلا. وَقيل: الحكم: النُّبُوَّة، وَالْعلم: هُوَ الْفِقْه فِي الدّين. وَالْفرق بَين الْحَكِيم والعالم: أَن الْعَالم هُوَ الَّذِي يعلم الْأَشْيَاء، والحكيم: هُوَ الَّذِي يعلم بِمَا يُوجِبهُ الْعلم. وَقيل: هُوَ الَّذِي يمْنَع نَفسه عَمَّا يجهله ويسفهه، وَمِنْه حِكْمَة الدَّابَّة؛ لِأَنَّهَا تمنع الدَّابَّة عَن الْفساد. قَالَ الشَّاعِر: (أبني حنيفَة أحكموا سفهاءكم ... إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم أَن أغضبا) يَعْنِي: امنعوا سفهاءكم. وَقَوله: {وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

23

قَوْله تَعَالَى: {وراودته الَّتِي هُوَ فِي بَيتهَا عَن نَفسه} معنى المراودة: طلب الْفِعْل، وَالْمرَاد هَاهُنَا: هُوَ الدُّعَاء إِلَى الْفَاحِشَة. وَقَوله: {وغلقت الْأَبْوَاب} يَعْنِي: أطبقت الْأَبْوَاب واستوثقت مِنْهَا، وَيُقَال: إِنَّهَا غلقت سَبْعَة أَبْوَاب. وَقَوله: {وَقَالَت هيت لَك} مَعْنَاهُ: هَلُمَّ، وعَلى هَذَا أَكثر الْمُفَسّرين. وَقيل: مَعْنَاهُ: تعال أَنا لَك. وقريء: " هيت لَك " أَي: تهيأت لَك. وَأنكر الْكسَائي هَذِه الْقِرَاءَة. قَالَ الشَّاعِر فِي قَوْله هيت: (أبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ ... أَخا الْعرَاق إِذا أَتَيْنَا) (أَن الْعرَاق وَأَهله ... عنق إِلَيْك فهيت هيتا)

{نَفسه وغلقت الْأَبْوَاب وَقَالَت هيت لَك قَالَ معَاذ الله إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه} وَقَوله: {قَالَ معَاذ الله} مَعْنَاهُ: قَالَ: أعوذ بِاللَّه أَي: أَعْتَصِم بِهِ إِنَّه رَبِّي. [و] الْأَكْثَرُونَ أَنه أَرَادَ بِهِ الْعَزِيز؛ وَمَعْنَاهُ: إِنَّه سَيِّدي. وَقَوله: {إِنَّه رَبِّي أحسن مثواي} أَي: أكْرم مثواي. وَقَوله: {إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} أَنه لَا يسْعد الزناة وَلَا العصاة.

24

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا} [الْآيَة] ، الْهم: هُوَ المقاربة من الْفِعْل من غير دُخُول فِيهِ. وَقَوله: {وَلَقَد هَمت بِهِ} همها: هُوَ عزمها على الْمعْصِيَة وَالزِّنَا، وَأما هم يُوسُف: فَاعْلَم أَنه قد ثَبت عَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن قَوْله {وهم بهَا} قَالَ: جلس مِنْهَا مجْلِس الخاتن وَحل هِمْيَانه. رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة، وَعَطَاء وَغَيرهمَا. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: حل سراويله وَجعل يعالج ثِيَابه. وَهَذَا قَول أَكثر الْمُتَقَدِّمين؛ مِنْهُم: سعيد بن جُبَير، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَالضَّحَّاك وَغَيرهم. [و] قَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: وَقد أنكر قوم هَذَا القَوْل؛ وَالْقَوْل مَا قَالَه متقدمو هَذِه الْأمة وهم كَانُوا أعلم بِاللَّه أَن يَقُولُوا فِي الْأَنْبِيَاء من غير علم. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي، وَزعم بعض الْمُتَأَخِّرين أَن الْهم (كَانَ مِنْهَا) : هُوَ الْعَزِيمَة على الْمعْصِيَة، وَأما الْهم مِنْهُ: كَانَ خاطر الْقلب وَشدَّة الْمحبَّة بالشهوة. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمَرْأَة قَالَت لَهُ: مَا أحسن عَيْنَيْك، فَقَالَ: هِيَ أول مَا تسيل من وَجْهي فِي قَبْرِي، فَقَالَت: مَا أحسن شعرك، فَقَالَ: هُوَ أول مَا ينشر فِي قَبْرِي، فَقَالَت إِن فرَاش الْحَرِير مَبْسُوط فَقُمْ فَاقْض حَاجَتي، فَقَالَ: إِذا يذهب نَصِيبي من الْجنَّة، فَقَالَت: إِن الجنينة عطشة فَقُمْ فاسقها، فَقَالَ: إِن الْمِفْتَاح بيد غَيْرِي، قَالَ: فجَاء

الشَّيْطَان وَدخل بَينهمَا وَأخذ يحنكه وحنكها حَتَّى هَمت بِهِ وهم بهَا، ثمَّ إِن الله تَعَالَى تدارك عَبده وَنبيه بالبرهان الَّذِي ذكره. وَقَالَ قطرب: معنى قَوْله: {وهم بهَا} أَي: وهم بهَا لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه. وَأنكر سَائِر النُّحَاة عَلَيْهِ هَذَا القَوْل، وَقَالُوا إِن الْعَرَب لَا تُؤخر لَوْلَا عَن الْفِعْل، وَإِنَّمَا كَلَام الْعَرَب هُوَ التَّقْدِيم فَحسب، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: لَوْلَا كَذَا لفَعَلت كَذَا، وَلَا يَقُولُونَ، فعلت كَذَا لَوْلَا كَذَا. وَقَالَ بَعضهم: " وهم بهَا " أَي: بضربها وَدفعهَا عَن نَفسه، وَهُوَ تَأْوِيل بعيد. وَقَالَ بعض أهل التَّفْسِير: يحْتَمل أَن ذَلِك الْقدر الَّذِي فعله يُوسُف من الْهم كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَة من الصَّغَائِر يجوز على الْأَنْبِيَاء. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِن الله تَعَالَى لم يذكر ذنُوب الْأَنْبِيَاء فِي الْقُرْآن ليعيرهم بهَا؛ وَلَكِن ذكرهَا ليبين موقع النِّعْمَة عَلَيْهِم بِالْعَفو، وَلِئَلَّا ييأس أحد من رَحمته وَقيل: إِنَّه ابْتَلَاهُم بِالذنُوبِ ليتفرد بِالطَّهَارَةِ والعزة، ويلقاه جَمِيع الْخلق يَوْم الْقِيَامَة على انكسار الْمعْصِيَة. وَقَوله: {لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه} أَكثر أهل التَّفْسِير: أَنه رأى يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ [صَكه] فِي صَدره وَهُوَ يَقُول لَهُ: أتعمل عمل السُّفَهَاء وَأَنت فِي ديوَان الْأَنْبِيَاء؟ ! وروى لَيْث، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قعد مِنْهَا مقْعد الرجل من امْرَأَته فَرَأى كفا بِلَا معصم وَلَا عضد مَكْتُوب عَلَيْهَا:: {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} فَفَزعَ وهرب، ثمَّ إِنَّه عَاد، فَظهر ذَلِك الْكَفّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: {وَلَا تقربُوا الزِّنَا إِنَّه كَانَ فَاحِشَة وساء سَبِيلا} فَفَزعَ وهرب، ثمَّ إِنَّه عَاد فَرَأى ذَلِك الْكَفّ أَيْضا مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} فَفَزعَ وهرب، ثمَّ إِنَّه عَاد؛ فَقَالَ الله لجبريل: أدْرك عَبدِي قبل أَن يواقع الْخَطِيئَة، فجَاء ومسحه بجناحه حَتَّى خرجت شَهْوَته من أنامله.

{كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين (24) واستبقا الْبَاب} وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق: معنى الْبُرْهَان: أَنه كَانَ فِي الْبَيْت صنم فَقَامَتْ الْمَرْأَة وسترته بِثَوْب، فَقَالَ لَهَا يُوسُف: لم فعلت هَذَا؟ فَقَالَت: استحييت مِنْهُ أَن يراني وَأَنا أواقع الْمعْصِيَة، فَقَالَ يُوسُف: أَنا أَحَق أَن أستحي من رَبِّي، وهرب. وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: الْبُرْهَان: هُوَ أَن الله تَعَالَى أخطر بقلب يُوسُف حُرْمَة الزِّنَا، وَشدَّة الْعقُوبَة عَلَيْهِ، فهرب وَترك. وَأورد النقاش أَنه لما قرب مِنْهَا رأى شَعْرَة بَيْضَاء فِي أنفها فعافها وَتركهَا. وَهَذَا قَول بعيد؛ وَالأَصَح من هَذِه الْأَقْوَال: الأول. وَقد رُوِيَ أَن يَعْقُوب صلوَات الله عَلَيْهِ لما تمثل لَهُ صك فِي صَدره وَقَالَ: يَا يُوسُف أَنْت قبل أَن تَزني كالطير فِي جو السَّمَاء [وَلَا تطاق] ، فَإِذا زَنَيْت فَأَنت كالطير يسْقط وَيَمُوت، وَأَنت قبل أَن تَزني كالثور لَا يُطَاق، فَإِذا زَنَيْت صرت كالثور يهْلك فَيدْخل النَّمْل فِي (أصُول) قرنه. وَقَوله: {كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء} السوء: هُوَ الثَّنَاء الْقَبِيح، والفحشاء: هُوَ مواقعة الزِّنَا. فَإِن قيل: هَذَا دَلِيل على أَنه لم يهم بِالزِّنَا وَلم يَقْصِدهُ، قُلْنَا: لَا، هَذَا بعد الْهم. فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد قَالَ فِي أثْنَاء السُّورَة: {ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ} ؟ قُلْنَا: قد ثَبت عَن النَّبِي: " أَن يُوسُف لما قَالَ هَذَا، قَالَ لَهُ جِبْرِيل: وَلَا حِين هَمَمْت؟ فَقَالَ: وَمَا أبرئ نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء ". قَوْله: {إِنَّه من عبادنَا المخلصين} قرئَ: " المخلَصين " و " المخلِصين " وَمعنى المخلِص: هُوَ الَّذِي يخلص الطَّاعَة لله، وَمعنى المخلَص: هُوَ الَّذِي أخلصه الله وَاخْتَارَهُ.

{وقدت قَمِيصه من دبر وألفيا سَيِّدهَا لدا الْبَاب قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم (25) قَالَ هِيَ راودتني عَن نَفسِي وَشهد شَاهد من أَهلهَا إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت وَهُوَ من الْكَاذِبين (26) وَإِن كَانَ قَمِيصه قد من دبر فَكَذبت وَهُوَ من الصَّادِقين (27) فَلَمَّا رأى قَمِيصه قد من دبر قَالَ إِنَّه من كيدكن إِن}

25

قَوْله تَعَالَى: { [واستبقا] الْبَاب} رُوِيَ أَن يُوسُف بَادر الْبَاب ليفتح وَيخرج، وَالْمَرْأَة بادرت الْبَاب لتمسك الْبَاب فَلَا يخرج يُوسُف، فَسبق يُوسُف وأدركته الْمَرْأَة وَأخذت بِثَوْبِهِ وشقته من دبر؛ وَهَذَا معنى قَوْله: {وقدت قَمِيصه من دبر} أَي: شقَّتْ. وَقَوله: {وألفيا سَيِّدهَا لدا الْبَاب} يَعْنِي: وجدا زوج الْمَرْأَة عِنْد الْبَاب فبادرت الْمَرْأَة {قَالَت مَا جَزَاء من أَرَادَ بأهلك سوءا} ثمَّ خَافت عَلَيْهِ أَن يقتل فَقَالَت: {إِلَّا أَن يسجن أَو عَذَاب أَلِيم} ضرب بالسياط، فَلَمَّا سمع يُوسُف مقالتها

26

{قَالَ هِيَ راودتني عَن نَفسِي} يَعْنِي: هِيَ طلبت مني الْفَاحِشَة. وَقَوله: {وَشهد شَاهد من أَهلهَا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الشَّاهِد كَانَ صَبيا فِي المهد قَالَ هَذَا القَوْل، وَهَذَا قَول أبي هُرَيْرَة وَسَعِيد بن جُبَير وَالضَّحَّاك، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: " تكلم ثَلَاثَة من الصّبيان فِي المهد: عِيسَى ابْن مَرْيَم صلوَات الله عَلَيْهِ (وَصَاحب) جريج وَشَاهد يُوسُف " وَالْقَوْل الثَّانِي أَن الشَّاهِد كَانَ رجلا حكيما من قَرَابَات الْمَرْأَة وَكَانَ قَائِما مَعَ زَوجهَا فَسمع الجلبة من وَرَاء الْبَاب وَرَأى شقّ الْقَمِيص فَقَالَ القَوْل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن كَانَ قَمِيصه قد من قبل فصدقت وَهُوَ من الْكَاذِبين} الْآيَة.

28

وَقَوله: {فَلَمَّا رأى قَمِيصه قد من دبر} عرف أَن الذَّنب لَهَا {قَالَ إِنَّه من كيدكن إِن كيدكن عَظِيم} وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ قَلِيل الحمية والغيرة، ثمَّ قَالَ ليوسف:

29

{يُوسُف أعرض عَن هَذَا} يَعْنِي: لَا تذكر هَذَا حَتَّى يشيع، ثمَّ قَالَ للْمَرْأَة: {واستغفري لذنبك} توبي إِلَى الله تَعَالَى {إِنَّك كنت من الخاطئين} ظَاهر الْمَعْنى.

{كيدكن عَظِيم (28) يُوسُف أعرض عَن هَذَا واستغفري لذنبك إِنَّك كنت من الخاطئين (29) وَقَالَ نسْوَة فِي الْمَدِينَة امْرَأَة الْعَزِيز تراود فتاها عَن نَفسه قد شغفها حبا إِنَّا}

30

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ نسْوَة فِي الْمَدِينَة امْرَأَة الْعَزِيز تراود فتاها عَن نَفسه} الْمَدِينَة هَاهُنَا: مَدِينَة مصر، وَقيل: إِنَّهَا مَدِينَة عين شمس. وَأما النسْوَة قَالُوا: هن خمس نسْوَة: امْرَأَة حَاجِب الْملك، وَامْرَأَة صَاحب الدَّوَابّ، وَامْرَأَة صَاحب الطَّعَام، وَامْرَأَة صَاحب الشَّرَاب، وَامْرَأَة صَاحب السجْن. وَقَالَ بَعضهم: هن نسْوَة من أَشْرَاف نسْوَة مصر. وَقَوله: {امْرَأَة الْعَزِيز} قيل الْعَزِيز: هُوَ الْمُمْتَنع بقدرته عَن أَن يضام فِي أمره. وَقَوله: {تراود فتاها عَن نَفسه} فتاها هَاهُنَا بِمَعْنى: عَبدهَا، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا تطلب من عَبدهَا [أَن] يرتكب الْفَاحِشَة. وَقَوله {قد شغفها حبا} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهَا - أَنه قَالَ: " شغفها حبا " أَي: غلبها. وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: " شغفها حبا " أَي: دخل الْحبّ فِي شغَاف قَلبهَا، وشغاف الْقلب: دَاخل الْقلب. وَقيل: شغَاف الْقلب: جلدَة الْقلب؛ كَأَن الْحبّ خرق الْجلْدَة وَأصَاب الْقلب وَغلب عَلَيْهِ. وَقيل: شغَاف الْقلب: [سويداء] الْقلب. وَقيل: حَبَّة الْقلب. قَالَ الشَّاعِر: (وَلَا [وجد] إِلَّا دون وجد وجدته ... أصَاب شغَاف الْقلب فالقلب مشغف) قرئَ فِي الشاذ: (شعفها) حبا " وَمَعْنَاهُ: ذهب الْحبّ بهَا كل مَذْهَب، وَمِنْه: شعف الْجبَال أَي: رءوسها. وَقَوله: {إِنَّا لنراها فِي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ ظَاهر. وَيُقَال: فِي ضلال مُبين يَعْنِي: أَنَّهَا تركت مَا يكون عَلَيْهِ أَمْثَالهَا من السّتْر والعفاف.

{لنراها فِي ضلال مُبين (30) فَلَمَّا سَمِعت بمكرهن أرْسلت إلَيْهِنَّ وأعتدت لَهُنَّ متكأ وآتت كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا وَقَالَت اخْرُج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رأينه أكبرنه وقطعن أَيْدِيهنَّ}

31

قَوْله: {فَلَمَّا سَمِعت بمكرهن} أَي: بتدبيرهن. وَقد رُوِيَ أَنَّهَا أفشت إلَيْهِنَّ سرها واستكتمتهن فأفشين ذَلِك؛ فَلهَذَا سَمَّاهُ مكرا. وَقَوله: {وَأرْسلت إلَيْهِنَّ} أَي: دعتهن. وَقَوله: {وأعتدت لَهُنَّ مُتكئا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: المتكأ يتكئون على الوسائد. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أما أَنا فَلَا آكل مُتكئا " وَهَذَا مِمَّا اخْتَارَهُ الله تَعَالَى لَهُ من التَّوَاضُع، وَأما الجبارون والعظماء فقد اعتادوا الْأكل متكئين. وَقيل: " وأعتدت لَهُنَّ مُتكئا " أَي: طَعَاما وَشَرَابًا واتكاء. وقرىء فِي الشاذ: " وأعتدت لَهُنَّ متكا " والمتك: هُوَ الأترج. ذكره ابْن عَبَّاس وَمُجاهد. وَقيل: إِنَّه البزماورد. أوردهُ الضَّحَّاك. وَقيل: هُوَ كل مَا يحز بالسكين. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا دعت أَرْبَعِينَ امْرَأَة من أَشْرَاف [نسَاء] مصر وزينت بَيْتا بألوان الْفَوَاكِه والوسائد وفرشت الْبسط. وَقَوله: {وآتت كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا} أَي: وأعطت كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ سكينا؛ وَقد كَانُوا يَأْكُلُون اللَّحْم جزا بالسكين؛ وَالسّنة هُوَ النهش. وَقَوله: {وَقَالَت اخْرُج عَلَيْهِنَّ} أمرت يُوسُف بِأَن يخرج عَلَيْهِنَّ فَخرج وَقد أخذن السكاكين ليقطعن الْمَأْكُول. وَقَوله: {فَلَمَّا رأينه أكبرنه} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أعظمنه. وَالْآخر: حضن. قَالَ الشَّاعِر: (نأتي النِّسَاء لَدَى أطهارهن وَلَا ... نأتي النِّسَاء إِذا أكبرن إكبارا) يَعْنِي: إِذا حضن. وَالْأولَى هُوَ الأول. وَأنكر أَبُو عُبَيْدَة أَن يكون " أكبرن " بِمَعْنى:

{وقلن حاش لله مَا هَذَا بشرا إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم (31) قَالَت فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} حضن. وَقَوله {وقطعن أَيْدِيهنَّ} الْأَكْثَرُونَ على أَن هَذَا خدش وجرح بِلَا إبانة. وَقَالَ بَعضهم: إنَّهُنَّ قطعن أَيْدِيهنَّ على (تَحْقِيق) قطع الْيَد جملَة. وَالْأول أصح. يُقَال: قطع فلَان يَده إِذا خدشها وجرحها. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهُنَّ بهتن وَذَهَبت عقولهن [و] قطعن أَيْدِيهنَّ وَلم يعلمن بذلك حَتَّى سَالَتْ الدِّمَاء مِنْهُنَّ وَقَوله: {وقلن حاش الله} وقرىء: " حاشا لله " وَمَعْنَاهُ: [معَاذ] الله أَن يكون {مَا هَذَا بشرا} وَمَعْنَاهُ: بشرا مثل سَائِر الْبشر. وقرىء: " مَا هَذَا مُشْتَريا " أَي: بِعَبْد مشترى. وَقَوله: {إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم} يَعْنِي: ملك كريم على ربه. وَقد روى أنس، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أعطي يُوسُف شطر الْحسن ". وَعَن ابْن إِسْحَاق - صَاحب الْمعَانِي - قَالَ: ذهب يُوسُف وَأمه بِثُلثي الْحسن. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، عَن النَّبِي فِي قصَّة الْمِعْرَاج " أَنه رأى يُوسُف فِي السَّمَاء الثَّالِثَة، قَالَ: فَرَأَيْت وَجهه كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر ". وَرُوِيَ أَنه كَانَ إِذا مَشى فِي سِكَك مصر رئي لوجهه ضوء على الجدران. وَرُوِيَ أَنه لما ملك، وَكَانَ إِذا دخلت عَلَيْهِ امْرَأَة غطى وَجهه لِئَلَّا تفتتن بِهِ.

32

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} الْمَلَامَة هُوَ الْوَصْف بالقبيح على وَجه التحقير، وَمعنى قَوْلهَا " فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ " أَن هَذَا هُوَ الَّذِي لمتنني فِيهِ،

{وَلَقَد راودته عَن نَفسه فاستعصم وَلَئِن لم يفعل مَا آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32) قَالَ رب السجْن أحب إِلَيّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب} ثمَّ صرحت بِمَا فعلت (وَقَالَت) : {وَلَقَد راودته عَن نَفسه} وَإِنَّمَا صرحت بذلك لِأَنَّهَا علمت أَنه لَا ملامة عَلَيْهَا مِنْهُنَّ بعد ذَلِك وَقد أصابهن مَا أصابهن من رُؤْيَته. وَقَوله تَعَالَى: {فاستعصم} أَي: امْتنع. وَقَوله: {وَلَئِن لم يفعل مَا آمره ليسجنن} يَعْنِي: ليعاقبن بِالْحَبْسِ. وَقَوله: {وليكونا من الصاغرين} أَي: (لَيَكُونن) من المستحقرين والمستذلين. وَعَن وهب بن مُنَبّه: أَن أُولَئِكَ النسْوَة عشقنه وَمَاتَتْ جمَاعَة مِنْهُنَّ من عشقه.

33

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب السجْن أحب إِلَيّ} وقرىء فِي الشاذ: " رب السجْن " وَهُوَ الْحَبْس، والسجن مَوضِع الْحَبْس {مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} يُقَال: لَو لم يقل هَذَا لم يبتل بالسجن. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " الْبلَاء مُوكل بالْمَنْطق "، وَالْأولَى بِالْمَرْءِ أَن يسْأَل الله الْعَافِيَة. وَقَوله: {مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الدُّعَاء كَانَ مِنْهَا خَاصَّة؛ لكنه أضَاف إِلَى جَمِيع النسْوَة خُرُوجًا من التَّصْرِيح إِلَى التَّعْرِيض. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُنَّ جَمِيعًا دعينه إِلَى أَنْفسهنَّ. وَقَوله: {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن} مَعْنَاهُ: وَإِلَّا تصرف عَنى شرهن {أصب إلَيْهِنَّ} أَي: أمل إلَيْهِنَّ. قَالَ الشَّاعِر: (حَتَّى مَتى تصبو ورأسك أشمط ... أظننت أَن الْمَوْت بِاسْمِك يغلط) وَقَوله: {وأكن من الْجَاهِلين} هَذَا دَلِيل على أَن الْمُؤمن إِذا ارْتكب ذَنبا يرتكب عَن جَهَالَة، وَقيل مَعْنَاهُ: وأكن من المذمومين كَمَا يذم الْإِنْسَان بِفعل مَا يقدم عَلَيْهِ جَاهِلا.

{إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين (33) فَاسْتَجَاب لَهُ ربه فصرف عَنهُ كيدهن إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (34) ثمَّ بدا لَهُنَّ من بعد مَا رَأَوْا الْآيَات ليسجننه حَتَّى حِين (35) وَدخل مَعَه السجْن فتيَان قَالَ أَحدهمَا إِنِّي أَرَانِي أعصر خمرًا وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أحمل فَوق}

34

قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَجَاب لَهُ ربه} أَي: أجَاب لَهُ ربه. وَقَوله: {فصرف عَنهُ كيدهن} أَي: شرهن {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

35

قَوْله: {ثمَّ بدا لَهُم} أَي: ظهر لَهُم. وَقَوله: {من بعد مَا رَأَوْا الْآيَات} هَاهُنَا شقّ الْقَمِيص، وَكَلَام الطِّفْل، وجز النِّسَاء أَيْدِيهنَّ بالسكاكين، وَذَهَاب عقولهن بِمَا رأين من جماله. وَقَوله: {ليسجننه حَتَّى حِين} أَي: ليحبسنه إِلَى مُدَّة. قَالَ عَطاء: إِلَى حِين: إِلَى أَن تَنْقَطِع مقَالَة النَّاس.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَدخل مَعَه السجْن فتيَان} فِي الْقِصَّة: أَن الْمَرْأَة قَالَت لزَوجهَا: قد فضحني هَذَا الْغُلَام العبراني (فِي النَّاس) ، فإمَّا أَن تَأذن [لي] أخرج وأعتذر من النَّاس، وَإِمَّا أَن تحبسه، فحبسه، وَلما حبس حبس الْملك بعد ذَلِك رجلَيْنِ من خاصته؛ أَحدهمَا: صَاحب طَعَامه، وَالْآخر: صَاحب شرابه، وَيُقَال: كَانَ يُسمى أَحدهمَا: سرهم، وَالْآخر: شرهم. وَكَانَ سَبَب حبسهما: أَن الْملك اتهمَ صَاحب الطَّعَام [أَنه] : قصد سمه، وَظن أَيْضا أَن صَاحب الشَّرَاب مالأه على ذَلِك؛ وَكَانَ الْملك هُوَ الْوَلِيد بن مَرْوَان العمليقي، وَقيل غير هَذَا الِاسْم. وَقَوله: {قَالَ أَحدهمَا إِنِّي أَرَانِي أعصر خمرًا} وَرُوِيَ أَن يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - لما دخل السجْن جعل يَدْعُو إِلَى الله وينشر علمه، فَرَأى هذَيْن الرجلَيْن وهما مهمومان فَسَأَلَهُمَا عَن شَأْنهمَا فذكرا أَنَّهُمَا صاحبا الْملك، وَأَن الْملك حبسهما، وَقد رَأيا رُؤْيا وَقد غمهما ذَلِك، فَقَالَ لَهما: قصا عَليّ مَا رَأَيْتُمَا، فقصا عَلَيْهِ رؤياهما؛ وَهَذَا معنى قَوْله: {قَالَ أَحدهمَا إِنِّي أَرَانِي أعصر خمرًا} . وَفِي الْقِصَّة: أَنه قَالَ: رَأَيْت حبلة عَلَيْهَا ثَلَاثَة عناقيد فجنيتهن وعصرتهن خمرًا وسقيت مِنْهُ الْملك.

{رَأْسِي خبْزًا تَأْكُل الطير مِنْهُ نبئنا بتأويله إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يأتيكما طَعَام ترزقانه إِلَّا نبأتكما بتأويله قبل أَن يأتيكما ذلكما مِمَّا عَلمنِي رَبِّي إِنِّي تركت مِلَّة} وَقَوله: {أعصر خمرًا} الْعَصْر: هُوَ الِاعْتِمَاد بِالْيَدِ على مَا فِيهِ مائية ليحلب عَنهُ المَاء. وَقَوله {خمرًا} : قيل: عنبا، قيل: هَذَا بلغَة عمان، قَالَ الْمُعْتَمِر: لقِيت أَعْرَابِيًا مَعَه سلة فِيهَا [عِنَب] فَقلت: مَا مَعَك؟ قَالَ: الْخمر. وَقَالَ الشَّاعِر: (يُنَازعنِي بِهِ ندمان صدق (شواء) الطير وَالْعِنَب الحقينا) وَأَرَادَ بالعنب: الْخمر. وَيُقَال: معنى قَوْله: {أعصر خمرًا} أَي: عِنَب خمر. وَيُقَال: معنى قَوْله: {أعصر خمرًا} أَي: عنبا؛ سَمَّاهُ خمرًا باسم مَا يؤول إِلَيْهِ؛ تَقول الْعَرَب: فلَان يعصر الدبس ويطبخ الْآجر يَعْنِي: يعصر الْعِنَب للدبس، ويطبخ اللَّبن للآجر، قَالَ الشَّاعِر: (الْحَمد لله الْجَلِيل المنان ... صَار الثَّرِيد فِي رُءُوس العيدان) وَقَوله: {وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أحمل فَوق رَأْسِي خبْزًا تَأْكُل الطير مِنْهُ} رُوِيَ أَن الآخر قَالَ: إِنِّي أَرَانِي كَأَنِّي أحمل ثَلَاث سلال من الْخبز على رَأْسِي وسباع الطير ينهش مِنْهُ. وَقَوله: {نبئنا بتأويله إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ} قَالَ: كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام إِذا مرض فِي السجْن مَرِيض عَاده وَقَامَ عَلَيْهِ، وَإِذا افْتقر إِنْسَان جمع لَهُ شَيْئا، وَإِذا رأى مَظْلُوما نَصره، وَإِذا رأى حَزينًا سلاه، وَكَانَ مَعَ هَذَا يقوم اللَّيْل كُله بِالصَّلَاةِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: {إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ} يَعْنِي: من الْمُحْسِنِينَ لعبارة الرُّؤْيَا، وَالْإِحْسَان بِمَعْنى الْعلم؛ يُقَال: فلَان يحسن كَذَا، أَي: يُعلمهُ.

37

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَا يأتيكما طَعَام} الْآيَة، بَدَأَ يُوسُف - صلوَات الله عَلَيْهِ - قبل تَعْبِير الرُّؤْيَا بِإِظْهَار المعجزة وَالدُّعَاء إِلَى تَوْحِيد الله؛ فَقَوله: {لَا يأتيكما طَعَام ترزقانه

{قوم لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وهم بِالآخِرَة هم كافرون (37) وَاتَّبَعت مِلَّة آبَائِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب مَا كَانَ لنا أَن نشْرك بِاللَّه من شَيْء ذَلِك من فضل الله علينا وعَلى} إِلَّا نبأتكما بتأويله قبل أَن يأتيكما) فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لَا تدعوان بِطَعَام من منازلكما إِلَّا نبأتكما بِقَدرِهِ ولونه وطعمه وَالْوَقْت الَّذِي يصل إلَيْكُمَا فِيهِ قبل أَن يصل إلَيْكُمَا؛ وَهَذِه المعجزة مثل معْجزَة عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَوله: {وأنبئكم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدخرون فِي بُيُوتكُمْ} . وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَانَ من رسم الْملك إِذا أَرَادَ أَن يقتل إنْسَانا يبْعَث إِلَيْهِ بِطَعَام مَعْرُوف عِنْدهم، وَإِذا أَرَادَ أَن يكرم إنْسَانا بعث إِلَيْهِ بِطَعَام مَعْرُوف عِنْدهم؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {لَا يأتيكما طَعَام ترزقانه} . وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا يأتيكما طَعَام ترزقانه فِي الْمَنَام إِلَّا نبأتكما بتأويله فِي الْيَقَظَة، فَقَالُوا: من أَيْن لَك ذَلِك، أتتكهن أم تتنجم؟ فَقَالَ: لَا؛ وَلَكِن مِمَّا عَلمنِي رَبِّي. فَهَذَا معنى قَوْله {ذلكما مِمَّا عَلمنِي رَبِّي} . وَقَوله: {إِنِّي تركت مِلَّة قوم لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وهم بِالآخِرَة هم كافرون} ظَاهر.

38

ثمَّ قَالَ: {وَاتَّبَعت مِلَّة آبَائِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب} أظهر أَنه نَبِي وَأَنه من ولد الْأَنْبِيَاء. وَقَوله: {مَا كَانَ لنا أَن نشْرك بِاللَّه من شَيْء} مَعْنَاهُ: أَن الله قد عصمنا من الْإِشْرَاك بِهِ. وَقَوله: {ذَلِك من فضل الله علينا وعَلى النَّاس} يَعْنِي بِهِ: مَا أَقَامَ من الدَّلِيل وَبَين من الْهدى. وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون} ظَاهر الْمَعْنى. ثمَّ زَاد فِي الدّلَالَة على التَّوْحِيد فَقَالَ:

39

{يَا صَاحِبي السجْن أأرباب متفرقون} وسماهما: صَاحِبي السجْن؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا فِي السجْن، وَقَوله {أأرباب متفرقون} أَي: أَمْلَاك متباينون هَذَا [من] ذهب، وَهَذَا من فضَّة، وَهَذَا من نُحَاس، وَهَذَا من خشب، وَقيل: هَذَا أَعلَى، وَهَذَا أَوسط، وَهَذَا أدنى، وَقَوله: {خير أم الله الْوَاحِد القهار} الْوَاحِد الْغَالِب على كل شَيْء، وَالْمرَاد، نفي الْخَيْرِيَّة مِنْهُم أصلا، وَقد ذكرنَا

{النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون (38) يَا صَاحِبي السجْن أأرباب متفرقون خير أم الله الْوَاحِد القهار (39) مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن الحكم إِلَّا لله أَمر أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (40) يَا صَاحِبي السجْن أما أَحَدكُمَا فيسقي ربه خمرًا وَأما الآخر} من قبل ثمَّ زَاد وَقَالَ:

40

{مَا تَعْبدُونَ من دونه} أَي: من دون الله {إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} يَعْنِي: هَذِه الْأَصْنَام أَسمَاء مُجَرّدَة خَالِيَة عَن الْمَعْنى. وَقَوله: {مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان} أَي: حجَّة {إِن الحكم إِلَّا لله} مَا الحكم إِلَّا الله {أَمر أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} ظَاهر الْمَعْنى. قَوْله: {ذَلِك الدّين الْقيم} أَي: الطَّرِيق الْمُسْتَقيم {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي الْقِصَّة: أَن صَاحب السجْن لما سمع مِنْهُ مَا سمع، وَرَأى مِنْهُ مَا رأى أحبه حبا شَدِيدا وَجعله على أهل السجْن، وَكَذَلِكَ أهل السجْن أحبوه حَتَّى كَانَ الرجل يخلى من السجْن فَيَعُود إِلَيْهِ، فَروِيَ أَن صَاحب السجْن قَالَ لَهُ: أَنا أحبك فَقَالَ: أنْشدك الله أَن تحبني - يَعْنِي: أَن لَا تحبني - فَإِن من أَحبَّنِي يوقعني فِي الْبلَاء، أحبتني عَمَّتي فَوَقَعت فِي بلَاء، وأحبني وَالِدي فألقيت فِي الْجب، وأحبتني امْرَأَة الْعَزِيز فحبست. وَرُوِيَ أَن صَاحِبي الْملك قَالَا لَهُ هَذِه الْمقَالة فأجابهما بِهَذَا.

41

قَوْله: {يَا صَاحِبي السجْن أما أَحَدكُمَا فيسقي ربه خمرًا} رُوِيَ أَنه قَالَ لصَاحب الشَّرَاب: أما تَأْوِيل رُؤْيَاك: فَإنَّك تدعى بعد ثَلَاثَة أَيَّام وَترد إِلَى منزلتك من الْملك. وَقَوله: {وَأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رَأسه} قَالَ: وَأما أَنْت يَا صَاحب الطَّعَام فَتُدْعَى بعد ثَلَاثَة أَيَّام وتصلب وتأكل الطير من رَأسك؛ فَروِيَ أَنَّهُمَا جَمِيعًا قَالَا: كذبنَا مَا رَأينَا شَيْئا، فَقَالَ: {قضي الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان} يَعْنِي: فرغ من الْأَمر وَمَا قلت كَائِن؛ رَأَيْتُمَا أَو لم ترياه. وَقَالَ أَبُو مجلز: الَّذِي قَالَ لَهُ: أَنا لم أر شَيْئا هُوَ صَاحب الطَّعَام خَاصَّة. وَقد رُوِيَ أَنَّهُمَا قد رَأيا مَا قَالَا حَقِيقَة. قَوْله: {قضي الْأَمر} تتميم الْكَلَام.

{فيصلب فتأكل الطير من رَأسه قضي الْأَمر الَّذِي فِيهِ تستفتيان (41) وَقَالَ للَّذي ظن أَنه نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْد رَبك فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين}

42

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ للَّذي ظن أَنه نَاجٍ مِنْهُمَا} مَعْنَاهُ: أَنه (أَيقَن) أَنه نَاجٍ مِنْهُمَا {اذْكُرْنِي عِنْد رَبك} أَي: عِنْد سيدك، فَروِيَ أَنه قَالَ لَهُ: قل للْملك: إِن فِي السجْن رجلا مَظْلُوما قد طَال حَبسه. وَقَوله: {فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه} الْأَكْثَرُونَ: مَعْنَاهُ: فأنسى يُوسُف الشَّيْطَان ذكر ربه حَتَّى اسْتَغَاثَ بمخلوق مثله، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الشَّيْطَان أنسى الرجل الَّذِي خلي من السجْن ذكر يُوسُف لسَيِّده. وَقَوله: {فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين} الْأَكْثَرُونَ: على أَن بضع سِنِين هَاهُنَا: سبع سِنِين وَقد كَانَ لبث من قبل خمس سِنِين؛ فَمَكثَ فِيهِ [اثْنَتَيْ عشرَة] سنة. وَقَالَ الْأَخْفَش: الْبضْع: من الْوَاحِد إِلَى الْعشْرَة، وَقيل: من ثَلَاث إِلَى التسع؛ فَروِيَ: أَن الله تَعَالَى بعث جِبْرِيل إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قل يَا يُوسُف من حببك إِلَى أَبِيك؟ فَقَالَ: أَنْت يَا رب، فَقَالَ: من خلصك من الْجب؟ قَالَ: أَنْت يَا رب، قَالَ: من صرف عَنْك السوء والفحشاء؟ قَالَ: أَنْت يَا رب، قَالَ: فَمَا استحييت مني أَن استعنت بمخلوق؟ {وَعِزَّتِي لأطيلن مكثك فِي السجْن. وَرُوِيَ أَنه قَالَ: يَا رب بِحَق آبَائِي اغْفِر لي ذَنبي، فجَاء جِبْرِيل وَقَالَ لَهُ: وَأي حق لآبائك عَليّ؟} أما جدك إِبْرَاهِيم: فقد جعلت النَّار عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، وَأما إِسْمَاعِيل: ففديته بكبش عَظِيم، وَأما أَبوك يَعْقُوب: (فأعطيته) اثْنَي عشر ابْنا وَأخذت مِنْهُم وَاحِدًا، فَمَا زَالَ يبكي حَتَّى ابْيَضَّتْ عَيناهُ وَجعل يشكوني، فَقَالَ يُوسُف: إلهي بمنك الْقَدِيم وفضلك الْعَظِيم وأياديك الْكَثِيرَة اغْفِر لي ذَنبي، فغفر لَهُ. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: دخل جِبْرِيل على

( {42) وَقَالَ الْملك إِنِّي أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات يَا أَيهَا الْمَلأ أفتوني فِي رءياي إِن كُنْتُم للرءيا تعبرون (43) قَالُوا} يُوسُف عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي السجْن، فَقَالَ لَهُ: يُوسُف، يَا أَخ الْمُنْذرين مَا تعْمل بَين المذنبين؟ فَقَالَ [لَهُ] جِبْرِيل: يَا طيب ابْن الطيبين يَقُول لَك رَبك: أما (استحييت) مني أَن استعنت بمخلوق مثلك؟ ! وَعِزَّتِي لأطيلن حَبسك، فَقَالَ لَهُ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام: أهوَ رَاض عني؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ: إِذا لَا أُبَالِي. وَرُوِيَ أَنه قَالَ لجبريل: مَا بلغ حزن أبي يَعْقُوب؟ فَقَالَ: حزن سبعين ثَكْلَى، فَقَالَ: وَكَيف أجره؟ فَقَالَ: أجر مائَة شَهِيد.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْملك إِنِّي أرى سبع بقرات سمان [يأكلهن سبع عجاف] } الْملك هَاهُنَا: ملك مصر، وَالْملك هُوَ الْقَادِر الْوَاسِع الْمَقْدُور فِيمَا يرجع إِلَى السياسة وَالتَّدْبِير. وَقَوله: {إِنِّي أرى} مَعْنَاهُ: إِنِّي أرى فِي الْمَنَام. وَقَوله: {بقرات} : الْبَقر: حَيَوَان مَعْرُوف يصلح للكراب، وَمِنْه (الْمثل) : الكراب على الْبَقر؛ لِأَنَّهُ أقوم بِهِ. وَقَوله: {سمان} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَرُوِيَ أَن الْملك رأى سبع بقرات سمان خرجن من الْبَحْر كأسمن مَا يكون من الْبَقر، ثمَّ خرج عَقِيبه سبع بقرات عجاف فِي غَايَة الهزال والعجف، ثمَّ إِن الْعِجَاف ابتلعت السمان وأكلتها حَتَّى لم يتَبَيَّن على الْعِجَاف مِنْهَا شَيْء، ثمَّ رأى [ {وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات} أَي:] سبع سنبلات يابسة التوت على الْخضر حَتَّى غلبت عَلَيْهَا فَلم يبْق من خضرتها شَيْء. وَقَوله: {يَا أَيهَا الْمَلأ أفتوني فِي رُؤْيَايَ إِن كُنْتُم للرؤيا تعبرون} الرُّؤْيَا (هُوَ) مَا يتخيله الْإِنْسَان فِي الْمَنَام، وَقد بَينا أَن النَّبِي قَالَ فِي الرُّؤْيَا الصادقة: " تِلْكَ عَاجل بشرى الْمُؤمن " وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ:

{أضغاث أَحْلَام وَمَا نَحن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين (44) وَقَالَ الَّذِي نجا مِنْهُمَا وادكر} " إِذا تقَارب الزَّمَان لم تكد رُؤْيا الْمُؤمن تكذب " وَله مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن تقَارب الزَّمَان هُوَ اسْتِوَاء اللَّيْل وَالنَّهَار؛ والطباع عِنْد اسْتِوَاء اللَّيْل وَالنَّهَار أصح؛ فالرؤيا أصدق. وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَن تقَارب الزَّمَان هُوَ تقَارب السَّاعَة. وَقد رُوِيَ فِي بَدْء وَحي النَّبِي: " أَنه كَانَ إِذا رأى الرُّؤْيَا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ". وَقَوله: {إِن كُنْتُم للرؤيا تعبرون} يُقَال: عبرت الرُّؤْيَا: إِذا فسرتها، وَالتَّعْبِير هُوَ التَّفْسِير هَاهُنَا.

44

قَوْله تَعَالَى {قَالُوا أضغاث أَحْلَام} الضغث: كل مَا قبض عَلَيْهِ من الأخلاط من الْحَشِيش وَغَيره. وَمعنى الْآيَة: رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: أضغاث أَحْلَام أَي: أخلاط أَحْلَام. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: أهاويل أَحْلَام، وَقيل: أباطيل أَحْلَام. وَقَوله: {وَمَا نَحن بِتَأْوِيل الأحلام بعالمين} (وَمَعْنَاهُ) : وَمَا نَحن بِتَأْوِيل الأحلام (الَّتِي) وصفتها هَذِه بعالمين.

45

قَوْله: {وَقَالَ الَّذِي نجا مِنْهُمَا وادكر بعد أمة} أَي: مُدَّة، [و] فِي الْقِصَّة: أَن الْملك جمع السَّحَرَة والكهنة والمعبرين وقص عَلَيْهِم رُؤْيَاهُ، فَلَمَّا عجزوا عَن تعبيرها اهتم هما شَدِيدا، فَتذكر الْغُلَام الساقي حَال يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد كَانَ فجىء بقوله، فجثى بَين يَدي الْملك وَقَالَ: إِن فِي السجْن رجلا مَحْبُوسًا وَهُوَ يعبر الرُّؤْيَا، وَذكر قصَّته؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {وَقَالَ الَّذِي نجا مِنْهُمَا وَاذْكُر بعد أمة} وَالْأمة هَاهُنَا بِمَعْنى الْحِين؛ وَقد بَينا أَنه حبس سبع سِنِين بعد مَا عبر رُؤْيا صَاحب الْملك. وَعَن وهب

{بعد أمة أَنا أنبئكم بتأويله فأرسلون (45) يُوسُف أَيهَا الصّديق أَفْتِنَا فِي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات لعَلي أرجع إِلَى النَّاس لَعَلَّهُم يعلمُونَ (46) قَالَ تزرعون سبع سِنِين دأبا فَمَا حصدتم فذروه فِي سنبله إِلَّا قَلِيلا} بن مُنَبّه قَالَ: مكث يُوسُف فِي السجْن سبع سِنِين، وَمكث أَيُّوب فِي الْبلَاء سبع سِنِين. وقرىء فِي الشاذ: " وادكر بعد أمة " بِالْهَاءِ؛ وَمَعْنَاهُ: بعد نِسْيَان. وَقَوله: {أَنا أنبئكم بتأويله} مَعْنَاهُ: أَنا آتيكم بتأويله {فأرسلون} يَعْنِي: أَرْسلنِي أَيهَا الْملك إِلَيْهِ.

46

وَقَوله: {يُوسُف أَيهَا الصّديق} فِي الْآيَة اخْتِصَار، وَمَعْنَاهُ: أَن الْملك أرْسلهُ إِلَى يُوسُف، وَهُوَ قَالَ: يُوسُف أَيهَا الصّديق، وَالصديق: (الْكثير للصدق) . وَقَوله: {أَفْتِنَا} مَعْنَاهُ: أجبنا {فِي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وَسبع سنبلات خضر وَأخر يابسات} هَذَا ذكر تقصيص الرجل رُؤْيا الْملك على يُوسُف. وَقَوله: {لعَلي أرجع إِلَى النَّاس لَعَلَّهُم يعلمُونَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لعَلي أرجع إِلَى النَّاس لَعَلَّهُم يعلمُونَ تَأْوِيل الرُّؤْيَا. وَالثَّانِي [مَعْنَاهُ] : لعَلي أرجع إِلَى النَّاس لَعَلَّهُم يعلمُونَ منزلتك ودرجتك فِي الْعلم.

47

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ تزرعون سبع سِنِين دأبا} هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر؛ وَمَعْنَاهُ: ازرعوا سبع سِنِين، يَعْنِي: على عادتكم؛ والدأب: الْعَادة. وَقَوله {فَمَا حصدتم} الْحَصاد مَعْلُوم. وَقَوله: {فذروه فِي سنبله} أَمرهم أَن يتْركُوا الْحِنْطَة فِي السنابل ليَكُون أبقى على الزَّمَان. وَقَوله: {إِلَّا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ} يَعْنِي: مِمَّا تدرسون وتأكلون؛ فَكَأَنَّهُ أَمرهم أَن يحفظوا الْأَكْثَر ويأكلوا بِقدر الْحَاجة.

48

وَقَوله: {ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد يأكلن} سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على النَّاس. وَقَوله: {يأكلن مَا قدمتم لَهُنَّ} مَعْنَاهُ: (يفنين) ويهلكن

{مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد يأكلن مَا قدمتم لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلا مِمَّا تحصنون (48) ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك عَام فِيهِ يغاث النَّاس وَفِيه يعصرون (49) وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول قَالَ ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ مَا بَال النسْوَة اللَّاتِي} مَا قدمتم لَهُنَّ، وَهَذَا على طَرِيق التَّوَسُّع وَالْمجَاز؛ فَإِن السنين لَا تَأْكُل شَيْئا، وَإِن الْقَوْم فِي السنين يَأْكُلُون. وَقَوله: {إِلَّا قَلِيلا مِمَّا تحصنون} يَعْنِي: تحرزون؛ وَمَعْنَاهُ: تحرزون للبذر.

49

وَقَوله: {ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك عَام فِيهِ يغاث النَّاس} الغياث هَاهُنَا: هُوَ الخصب وَالسعَة. وَقَوله {وَفِيه يعصرون} قرىء بقراءتين: " يعصرون " و " تعصرون " وَمَعْنَاهُ: يعصرون الزَّيْت من الزَّيْتُون، وَمن الْعِنَب الْعصير، وَمن السمسم الدّهن. هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد. وَقيل: يعصرون: ينجون. قَالَ الشَّاعِر: (وصاديا يستغيث غير مغاث ... وَلَقَد كَانَ عصرة المنجود) وَلَقَد كَانَ عصرة المنجود يَعْنِي: المنجاة. وَقيل: يعصرون: ينزل عَلَيْهِم الْمَطَر من السَّحَاب، قَالَ الله تَعَالَى {وأنزلنا من المعصرات مَاء ثجاجا} .

50

قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ} فِي الْآيَة اخْتِصَار أَيْضا فَإِن الرجل رَجَعَ إِلَى الْملك وقص عَلَيْهِ تَأْوِيل الرُّؤْيَا ثمَّ قَالَ الْملك: ائْتُونِي بِهِ. وَقَوله: ( {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُول قَالَ} ارْجع إِلَى رَبك) إِلَى سيدك {فَاسْأَلْهُ مَا بَال النسْوَة اللَّاتِي} أَي: مَا حَال النسْوَة اللَّاتِي {قطعن أَيْدِيهنَّ} على مَا بَينا من قبل، وَلم يُصَرح بِذكر امْرَأَة الْعَزِيز أدبا واحتراما. وَقَوله: {إِن رَبِّي بكيدهن عليم} أَي: بحيلهن ومكرهن عليم. وَاعْلَم أَنه قد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَو لَبِثت فِي السجْن مثل مَا لبث يُوسُف ثمَّ جَاءَنِي الدَّاعِي لَأَجَبْت " وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن النَّبِي قَالَ: " رحم الله أخي يُوسُف؛ لقد كَانَ ذَا حلم وأناة، وَلَو كنت مَكَانَهُ ثمَّ دعيت لَبَادَرت ".

{قطعن أَيْدِيهنَّ إِن رَبِّي بكيدهن عليم (50) قَالَ مَا خطبكن إِذْ راودتن يُوسُف عَن نَفسه قُلْنَ حاش لله مَا علمنَا عَلَيْهِ من سوء قَالَت امرأت الْعَزِيز الْآن حصحص الْحق أَنا راودته عَن نَفسه وَإنَّهُ لمن الصَّادِقين (51) ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ وَأَن الله لَا يهدي} فَإِن قيل: أيش قصد يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام من رد الرَّسُول وَذكر النسْوَة، وَقد مضى على ذَلِك الزَّمَان الطَّوِيل؟ الْجَواب: المُرَاد أَنه أَن لَا ينظر إِلَيْهِ الْملك بِعَين التُّهْمَة وَيصير إِلَيْهِ وَقد زَالَ الشكوك عَن أمره فَقَالَ مَا قَالَ هَذَا.

51

قَوْله (تَعَالَى) {قَالَ مَا خطبكن إِذْ راودتن يُوسُف} رُوِيَ أَن الْملك بعث إِلَى النسْوَة وفيهن امْرَأَة الْعَزِيز فَدَعَا بِهن وَقَالَ لَهُنَّ هَذِه الْمقَالة، وَقَوله: {مَا خطبكن} أَي: مَا (حالكن) ؟ وَقيل: مَا أمركن؟ وَقَوله: {إِذْ راودتن يُوسُف عَن نَفسه} خاطبهن بِهَذِهِ الْمقَالة، وَالْمرَاد: امْرَأَة الْعَزِيز خَاصَّة، وَقيل: إِن امْرَأَة الْعَزِيز راودته عَن نَفسه وَسَائِر النسْوَة أمرنه بِالطَّاعَةِ لَهَا؛ فَلهَذَا قَالَ: إِذْ راودتن يُوسُف عَن نَفسه. وَقَوله: {قُلْنَ حاش لله} معَاذ الله {مَا علمنَا عَلَيْهِ من سوء} يَعْنِي: مَا علمنَا عَلَيْهِ من تُهْمَة وَلَا خِيَانَة. وَقَوله: {قَالَت امْرَأَة الْعَزِيز الْآن حصحص الْحق أَنا راودته عَن نَفسه} وَفِي الْقِصَّة: أَن النسْوَة لما أخبرن بِبَرَاءَة يُوسُف عَمَّا قرن بِهِ أقبلن على امْرَأَة الْعَزِيز يقرونها. وَرُوِيَ أَنَّهَا خَافت أَن يقبلن عَلَيْهَا ويشهدن عَلَيْهَا فأقرت وَقَالَت: الْآن حصحص الْحق. مَعْنَاهُ: تبين الْحق. وَقيل: مَعْنَاهُ: الْآن ظهر الْأَمر بعد الانكتام. قَالَ الشَّاعِر: (أَلا مبلغ عني خداشا بِأَنَّهُ ... كذوب إِذا مَا حصحص الْحق ظَالِم) {أَنا راودته عَن نَفسه} ظَاهر الْمَعْنى. قَوْله: {وَإنَّهُ لمن الصَّادِقين}

52

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك ليعلم} اخْتلفُوا على أَن هَذَا قَول من؟ الْأَكْثَرُونَ أَنه قَول يُوسُف؛ وَمَعْنَاهُ: ذَلِك ليعلم الْعَزِيز {أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ

{كيد الخائنين (52) وَمَا أبرىء نَفسِي إِن النَّفس لأمارة بالسوء إِلَّا مَا رحم رَبِّي إِن رَبِّي غَفُور رَحِيم (53) وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ أستخلصه لنَفْسي فَلَمَّا كَلمه قَالَ إِنَّك الْيَوْم} وَأَن الله لَا يهدي كيد الخائنين) وَمَعْنَاهُ: إِنَّه لَا يُوضح وَلَا يرشد كيد الخائنين. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ دخل قَول يُوسُف فِي وسط هَذَا الْكَلَام، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور كَلَام جرى بَين الْملك والنسوة؟ ! قُلْنَا: اعْتِرَاض كَلَام آخر بَين كَلَام. جَائِز على لُغَة الْعَرَب؛ قَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة سُلَيْمَان حِكَايَة عَن بلقيس: {قَالَت إِن الْمُلُوك إِذا دخلُوا قَرْيَة أفسدوها وَجعلُوا أعزة أَهلهَا أَذِلَّة وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} كَلَام الله تَعَالَى اعْتِرَاض فِي الْوسط وَمِنْهُم من قَالَ: وَفِي [الْآيَة] تَقْدِير من التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، مَعْنَاهُ: ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ مَا بَال النسْوَة اللَّاتِي قطعن أَيْدِيهنَّ إِن رَبِّي بكيدهن عليم؛ ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ وَأَن الله لَا يهدي كيد الخائنين، ثمَّ يرتب على هَذَا فِي الْمَعْنى قَوْله: {مَا خطبكن إِذْ راودتن يُوسُف عَن نَفسه} .

53

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أبرىء نَفسِي} الْآيَة. رُوِيَ: " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ليوسف حِين قَالَ: ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ. [فَقَالَ لَهُ] : وَلَا حِين هَمَمْت ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ: حِين حللت التكة. فَقَالَ يُوسُف: (وَمَا أبرىء نَفسِي) {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} يَعْنِي: إِن النَّفس كَثِيرَة الْأَمر بالسوء: السوء هَاهُنَا هُوَ الْمعْصِيَة. وَقَوله: {إِلَّا مَا رحم رَبِّي} قيل: إِلَّا من رحم رَبِّي، وَفِيه مَعْنيانِ؛ أَحدهمَا: أَنه أَشَارَ إِلَى حَالَة الْعِصْمَة عِنْد رُؤْيَة الْبُرْهَان. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِلَّا من رحم رَبِّي: هم الْمَلَائِكَة؛ فَإِن الله تَعَالَى لم يركب فيهم الشَّهْوَة وخلقهم على الْعِصْمَة من الْهم وَغَيره.

{لدينا مكين أَمِين (54) قَالَ اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض إِنِّي حفيظ عليم (55) وَكَذَلِكَ} وَقَوله: {إِن رَبِّي غَفُور رَحِيم} ظَاهر.

54

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ أستخلصه لنَفْسي} مَعْنَاهُ: أجعله خَاصّا لنَفْسي لَا يشركني فِيهِ أحد {فَلَمَّا كَلمه} فِي الْآيَة اخْتِصَار أَيْضا فَروِيَ أَنه ذهب الرَّسُول وَدعَاهُ فَقَامَ واغتسل وَلبس ثيابًا (نضافا) وَجَاء إِلَى الْملك. وَقَوله: {فَلَمَّا كَلمه} فِي الْقِصَّة أَن الْملك طلب مِنْهُ أَن يُعِيد تَعْبِير الرُّؤْيَا ليسمع مِنْهُ شفاها، فَقص عَلَيْهِ، فَهَذَا معنى قَوْله: {فَلَمَّا كَلمه} وَقيل: إِن الْملك كَانَ يعلم سبعين لُغَة من لُغَات النَّاس فَكلم يُوسُف بِتِلْكَ اللُّغَات فَأَجَابَهُ يُوسُف بهَا كلهَا وَزَاد (لِسَان) العبرية والعربية وَلم يكن الْملك يعلم ذَلِك، فَقَالَ: {إِنَّك الْيَوْم لدينا مكين أَمِين} والمكانة: هِيَ الجاه والحشمة والدرجة الرفيعة، وَقَوله: {أَمِين} أَي: صَادِق.

55

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض} اخْتلفُوا أَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لم طلب هَذَا؟ قَالَ (بَعضهم) : إِنَّمَا طلب ذَلِك لِأَنَّهُ عرف أَن ذَلِك؛ وَصله إِلَى وُصُول أَهله إِلَيْهِ من أَبِيه وَإِخْوَته وَغَيرهم، وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا طلب ذَلِك لِأَنَّهُ عرف أَنه أقوم النَّاس بِالْقيامِ بمصالح النَّاس فِي السنين الشداد، فَطلب لهَذَا الْمَعْنى. وَقَوله: {اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض} الأَرْض هَاهُنَا: أَرض مصر، والخزائن: هِيَ خَزَائِن الطَّعَام وَالْأَمْوَال. وَقَالَ ربيع بن أنس: " اجْعَلنِي على خَزَائِن الأَرْض " أَي: على خراج مصر ودخلها. {إِنِّي حفيظ عليم} أَي: حفيظ للخزائن، عليم بِوُجُوه مصالحها. وَفِي بعض التفاسير: " إِنِّي حفيظ عليم " أَي: كَاتب حاسب. فَإِن قيل: هَل يجوز أَن يتَوَلَّى الْمُسلم من يَد كَافِر عملا؟ قُلْنَا قد قَالُوا: إِنَّه إِذا علم أَن الْكَافِر يخليه وَالْعَمَل بِالْحَقِّ يجوز أَن يتَوَلَّى. وَقد

{مكنا ليوسف فِي الأَرْض يتبوأ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نصيب برحمتنا من نشَاء وَلَا نضيع أجر} رُوِيَ أَن ملك مصر لم يكن طاغيا ظَالِما، وَإِنَّمَا كَانَ رجلا عفيفا فِي دينه، وَإِنَّمَا الطاغي الظَّالِم كَانَ فِرْعَوْن مُوسَى. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْملك مكث سنة لَا يوليه ثمَّ ولاه. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي: " أَن يُوسُف لَو لم يطْلب يوليه فِي الْحَال، وَلكنه لما طلب أخر الْملك سنة ". فَإِن قَالَ قَائِل: أَيجوزُ للْإنْسَان أَن يُزكي نَفسه وَقد قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام: " إِنِّي حفيظ عليم "؟ قُلْنَا: يجوز إِذا كَانَ فِي ذَلِك مصلحَة عَامَّة. وَقيل: إِنَّه يجوز (إِذا عرف أَنه) لَا يلْحقهُ بذلك آفَة وَأمن الْعجب على نَفسه. وَعَن بعض الْأَئِمَّة: لَا يضر الْمَدْح من عرف نَفسه. وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر " وَالْخَبَر بِطُولِهِ.

56

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مكنا} رُوِيَ أَن الْملك ولاه مَا طلب بعد سنة وَتوجه بتاج مرصع بجواهر وَأَجْلسهُ على سَرِير الذَّهَب وَاعْتَزل الْأَمر كُله، وفوض إِلَيْهِ، ودانت لَهُ الْمُلُوك وَسمي بالعزيز. وَفِي الْقِصَّة أَيْضا أَن امْرَأَة الْعَزِيز مَاتَ زَوجهَا فَزَوجهَا الْملك من يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - وَولدت لَهُ وَلدين. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنَّهَا وقفت على طَرِيق يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَنَادَتْ: سُبْحَانَ من جعل الْمُلُوك عبيدا بمعصيتهم، وَجعل العبيد ملوكا بطاعتهم. قَوْله تَعَالَى: { [مكنا] } وَمَعْنَاهُ: ملكنا وبسطنا {ليوسف فِي الأَرْض} يَعْنِي: أَرض مصر {يتبوأ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} أَي: ينزل مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء {نصيب

{الْمُحْسِنِينَ (56) ولأجر الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاء إخْوَة يُوسُف} برحمتنا) مَعْنَاهُ: (نصيب بنعمتنا) {من نشَاء وَلَا نضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

57

قَوْله: {ولأجر الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا} مَعْنَاهُ: ثَوَاب الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا. وَقَوله: {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء إخْوَة يُوسُف فَدَخَلُوا عَلَيْهِ} قَالَ أَصْحَاب الْأَخْبَار: لما نصب الْملك يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - للْقِيَام بِالْأَمر، وتدبير مَال مصر دبر فِي جمع الطَّعَام أحسن التَّدْبِير بنى الْحُصُون والبيوت الْكَبِيرَة، وَجمع فِيهَا طَعَاما للسنين المجدبة، وَأنْفق مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى مَضَت السنون المخصبة وَدخلت سنُون الْقَحْط، فَروِيَ أَنه كَانَ دبر فِي [طَعَام] الْملك وحاشيته مرّة وَاحِدَة وَهُوَ نصف النَّهَار، فَكلما دخلت سنة الْقَحْط كَانَ أول من أَخذ الْجُوع هُوَ الْملك فَنَادَى بِنصْف اللَّيْل: يَا يُوسُف، الْجُوع، الْجُوع. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَنه كَانَ يقدر لكل اثْنَيْنِ طَعَام اثْنَيْنِ وَكَانَ يقدم جَمِيعه بَين يَدي الْوَاحِد فَلَا يَأْكُل إِلَّا نصفه، فَلَمَّا دخلت سنة الْقَحْط (قدم طَعَام اثْنَيْنِ بَين يَدي وَاحِد فَقدم فَأكل جَمِيعه وَطلب زِيَادَة فَعرف يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام أَنه دخلت سنة الْقَحْط) ، وَالله أعلم. قَالُوا: وَدخلت السّنة الأولى بهول وَشدَّة لم يعْهَد النَّاس مثله، وَكَانَ كلما جَاءَت سنة أُخْرَى كَانَت أهول وَأَشد، فَلَمَّا كَانَت السّنة الثَّانِيَة وصل الْقَحْط إِلَى كنعان - وَهُوَ منزل يَعْقُوب وَأَوْلَاده - فاحتاجوا إِلَى الطَّعَام حَاجَة شَدِيدَة فَدَعَا بنيه وَقَالَ لَهُم: بَلغنِي أَن بِمصْر ملكا صَالحا يَبِيع الطَّعَام فتجهزوا واذهبوا إِلَيْهِ لتشتروا مِنْهُ الطَّعَام، قَالَ: فأرسلهم وهم عشرَة نفر وَحبس [ابْنه بنيامين] عِنْده فقدموا مصر، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَجَاء إخْوَة يُوسُف} . وَقَوله: {فعرفهم}

{فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فعرفهم وهم لَهُ منكرون (58) وَلما جهزهم بجهازهم قَالَ ائْتُونِي بِأَخ لكم من أبيكم أَلا ترَوْنَ أَنِّي أوفي الْكَيْل وَأَنا خير المنزلين (59) فَإِن لم} قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: عرفهم بِأول مَا نظر إِلَيْهِم، وَقَالَ الْحسن: لم يعرفهُمْ حَتَّى تعرفوا إِلَيْهِ. وَمعنى الْآيَة: فعرفهم بالتعريف؛ والمعرفة: تبين الشَّيْء بِمَا لَو شوهد لميز بَينه وَبَين غَيره. وَقَوله: {وهم لَهُ منكرون} يَعْنِي: أَنهم لم يعرفوه؛ وَالْإِنْكَار إبِْطَال الْمعرفَة بالْقَوْل، فَإِن قَالَ قَائِل، كَيفَ عرفهم وَلم [يعرفوه] وهم إخْوَة؟ ! وَالْجَوَاب من وُجُوه: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: كَانَ عَلَيْهِ تَاج الْملك وَكَانَ قَاعِدا على سَرِير الْملك فَلم يعرفوه. وَذكر الْكَلْبِيّ أَنه كَانَ على زِيّ مُلُوك مصر والأعاجم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَلمهمْ من وَرَاء ستر فَلم يعرفوه لهَذَا وعرفهم؛ لِأَنَّهُ أبصرهم وَلم يعرفوه؛ لأَنهم لم يبصروه، وَهَذَا أَضْعَف الْأَقْوَال. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنهم كَانُوا تَرَكُوهُ صَغِيرا، وَكَانَ بَين أَن باعوه وَبَين أَن دخلُوا عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ سنة فَلم يعرفوه لهَذَا. وَهَذَا قَول حسن. وَأما هُوَ فَكَانَ تَركهم رجَالًا. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن يُوسُف كَانَ يتَوَقَّع قدومهم عَلَيْهِ فَلَمَّا [جَاءُوا] عرفهم، وَأما الْإِخْوَة مَا ظنُّوا أَنه يصل إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ [فأنكروه] لهَذَا.

59

قَوْله {وَلما جهزهم بجهازهم} الْآيَة، الجهاز: هُوَ فاخر الْمَتَاع الَّذِي ينْقل من بلد إِلَى بلد؛ وَمعنى التَّجْهِيز هَاهُنَا: هُوَ أَنه بَاعَ مِنْهُم الطَّعَام وَسلمهُ إِلَيْهِم وَسَهل لَهُم الرُّجُوع إِلَى بلدهم. وَقَوله: {قَالَ ائْتُونِي بِأَخ لكم من أبيكم} فِي الْقِصَّة: أَنهم لما دخلُوا عَلَيْهِ خلا بهم فِي الْبَيْت وَقَالَ: إِنِّي استربت بحالكم فَأَخْبرُونِي من أَنْتُم؟ فَقَالُوا: نَحن بَنو رجل صديق، فَقَالَ: وَمن هُوَ؟ قَالُوا: يَعْقُوب، فاستخبرهم عَن حَاله، فَذكرُوا أَنه كَانَ لَهُ اثْنَا

{تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كيل لكم عِنْدِي وَلَا تقربون (60) قَالُوا سنراود عَنهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لفاعلون (61) وَقَالَ لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فِي رحالهم لَعَلَّهُم يعرفونها إِذا عشر ابْنا وَأَنه هلك وَاحِد مِنْهُم فِي الْبَريَّة (وَحبس} وَاحِدًا وَهُوَ أَخُوهُ لأمه ليستأنس بِهِ، فَقَالَ: أَنا مستريب بكم، فَإِن كُنْتُم صَادِقين فاحملوا ذَلِك الْأَخ مَعكُمْ لتزول الرِّيبَة عَن حالكم. وَقيل: إِنَّه قَالَ لَهُم لما قصت الْقِصَّة عَلَيْهِ، قصتي مثل قصتكم أَيهَا الْقَوْم وَقد فقدت أَخا لي من أُمِّي وَأَنا شَدِيد الْحزن عَلَيْهِ وَقد نغص فِرَاقه عَليّ ملكي فَأحب أَن تَحملُوهُ إِلَيّ لأشكو إِلَيْهِ حزني ويشكو إِلَيّ حزنه، فَبِهَذَا الطَّرِيق قَالَ: ائْتُونِي بِأَخ لكم من أبيكم. وَفِي بعض (التفاسير) : أَنهم ذكرُوا إِيثَار يَعْقُوب بنيامين) و (أَخَاهُ) فِي الْمحبَّة فَأحب أَن يرى بنيامين لينْظر هَل هُوَ مَوضِع الإيثار؟ وَقَوله: {أَلا ترَوْنَ أَنِّي أوفي الْكَيْل} يَعْنِي: أتم الْكَيْل وَلَا أبخسه. وَقَوله: {وَأَنا خير المنزلين} قَالَ مُجَاهِد: أَنا خير المضيفين، وَكَانَ قد أحسن ضيافتهم.

60

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن لم تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كيل لكم عِنْدِي} قَالَ الْحسن: إِن لم تَأْتُونِي بِهِ فَلَا طَعَام لكم عِنْدِي إِن جئْتُمْ. وَقَوله: {وَلَا تقربون} أَي: لَا تقربُوا بلادي وَلَا دَاري.

61

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سنراود عَنهُ أَبَاهُ} مَعْنَاهُ: سنطلب إِلَى أَبِيه أَن يُرْسِلهُ مَعنا. وَقَوله: {وَإِنَّا لفاعلون} أَي: مجتهدون.

62

قَوْله: {وَقَالَ لفتيته} قرىء بقراءتين: " لفتيانه " و " لفتيته " والفتى: هُوَ الشَّبَاب الْكَامِل فِي الْقُوَّة، والفتية والفتيان هَاهُنَا: الغلمان. وَقَوله: {اجعلوا بضاعتهم فِي رحالهم} يُقَال: إِن بضاعتهم كَانَت دَارهم حملوها لشراء الطَّعَام. وَعَن بَعضهم: أَن بضاعتهم كَانَت ثَمَانِيَة جرب من سويق الْمقل. وَالأَصَح هُوَ الأول. وَقَوله: {فِي رحالهم} الرحل هَاهُنَا: وعَاء الْمَتَاع. وَقيل: فِي جواليقهم. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يعرفونها

{انقلوا إِلَى أهلهم لَعَلَّهُم يرجعُونَ (62) فَلَمَّا رجعُوا إِلَى أَبِيهِم قَالُوا يَا أَبَانَا منع منا الْكَيْل فَأرْسل مَعنا أخانا نكتل وَإِنَّا لَهُ لحافظون (63) قَالَ هَل آمنكم عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أمنتكم على أَخِيه من قبل فَالله خير حَافِظًا وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ (64) } إِذا انقلبوا إِلَى أهلهم لَعَلَّهُم يرجعُونَ) فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَعَلَّهُم يعْرفُونَ كرامتهم علينا، وإحساننا إِلَيْهِم فيحملهم ذَلِك على الرُّجُوع. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَعَلَّهُم يعرفونها إِذا انقلبوا إِلَى أهلهم - يَعْنِي: البضاعة - فيرجعون لرد البضاعة نفيا للغلط. وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه لم رد بضاعتهم عَلَيْهِم؟ فأحد الْأَقْوَال: مَا بَينا، وَهُوَ أَن يكون ذَلِك حثا لَهُم على الرُّجُوع. وَالثَّانِي: أَنه عرف أَن الدَّرَاهِم كَانَت قَليلَة عِنْدهم فَرد الدَّرَاهِم عَلَيْهِم ليَكُون عونا لَهُم على شِرَاء الطَّعَام. وَالثَّالِث: أَنه استحيا أَن يُعْطي أَبَاهُ وَإِخْوَته بِالثّمن مَعَ شدَّة حَاجتهم وسعة الْأَمر عَلَيْهِ.

63

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رجعُوا إِلَى أَبِيهِم قَالُوا يَا أَبَانَا منع منا الْكَيْل} إِن لم نحمل أخانا مَعنا. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ أعْطى باسم كل وَاحِد مِنْهُم وقرا، وَلم يُعْط باسم بنيامين شَيْئا، وَقَالَ: احملوه لأعطي باسمه؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {منع منا الْكَيْل} أَي: منع منا الْكَيْل لبنيامين؛ وَالْمعْنَى بِالْكَيْلِ هُوَ الطَّعَام؛ لِأَنَّهُ يُكَال. وَقَوله: {فَأرْسل مَعنا أخانا نكتل} أَي: نكيل الطَّعَام، وَقيل: نكتل لَهُ. وَقَوله: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} ظَاهر.

64

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَل ءآمنكم عَلَيْهِ} الْآيَة، معنى هَذَا: كَيفَ آمنكم عَلَيْهِ وَقد فَعلْتُمْ بِيُوسُف مَا فَعلْتُمْ. وَقَوله: {فَالله خير حَافِظًا} قرىء: " حفظا " و " حَافِظًا " وَمَعْنَاهُ: حفظ الله خير من حفظكم، وحافظ الله خير من حافظكم. قَوْله: {وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} ظَاهر.

65

قَوْله تَعَالَى: {وَلما فتحُوا مَتَاعهمْ وجدوا بضاعتهم ردَّتْ إِلَيْهِم} يَعْنِي: مَا حملُوا من الدَّرَاهِم {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نبغي} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَي شَيْء نطلب؟ على طَرِيق الِاسْتِفْهَام؛ قَالَه قَتَادَة. وَحَقِيقَته: أَنهم ذكرُوا ليعقوب عَلَيْهِ السَّلَام إِحْسَان الْملك

{وَلما فتحُوا مَتَاعهمْ وجدوا بضاعتهم ردَّتْ إِلَيْهِم قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نبغي هَذِه بضاعتنا ردَّتْ إِلَيْنَا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذَلِك كيل يسير (65) قَالَ لن أرْسلهُ مَعكُمْ حَتَّى تؤتون موثقًا من الله لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط} إِلَيْهِم وإكرامه إيَّاهُم، [وحثوه] بذلك على إرْسَال بنيامين، فَلَمَّا فتحُوا الْمَتَاع ووجدوا البضاعة قَالُوا: أَي شَيْء نطلب بالْكلَام، هَذَا هُوَ العيان فِي الْإِحْسَان وَالْإِكْرَام. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " مَا " هَاهُنَا للنَّفْي؛ وَمَعْنَاهُ: لَا نطلب مِنْك مَالا لنشري بِهِ الطَّعَام {هَذِه بضاعتنا ردَّتْ إِلَيْنَا} هَذَا المَال قد رد إِلَيْنَا فنحمله ونشتري بِهِ الطَّعَام. وَالْقَوْل الأول أصح. وَقَوله: {ونمير أهلنا} يُقَال: مار أَهله إِذا حمل لَهُم الطَّعَام من بلد إِلَى بلد؛ والميرة: هُوَ الطَّعَام الْمَحْمُول. وَقَوله: {ونحفظ أخانا} يَعْنِي: مِمَّا تخَاف عَلَيْهِ. وَقَوله: {ونزداد كيل بعير} قَالَ مُجَاهِد: الْبَعِير هَاهُنَا: هُوَ الْحمار، قَالَ: هُوَ لُغَة، وَكَانُوا أَصْحَاب حمر وَلم يكن لَهُم إبل. وَالأَصَح أَنه الْبَعِير الْمَعْرُوف. وَقَوله: {ونزداد} إِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ يعْطى حمل بعير باسم كل رجل وَلَا يزِيد؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {ونزداد كيل بعير} . قَوْله: {ذَلِك كيل يسير} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: ذَلِك كيل قَلِيل؛ يَعْنِي: مَا حملناه قَلِيل لَا يكفينا وأهلنا، فَأرْسل مَعنا أخانا [نكتل] ليكْثر مَا نحمله من الطَّعَام. وَالْمعْنَى الثَّانِي: ذَلِك كيل يسير أَي: هَين على من يكتاله.

66

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لن أرْسلهُ مَعكُمْ} فِي الْقِصَّة: أَن الْإِخْوَة جهدوا أَشد الْجهد وضاق الْأَمر على يَعْقُوب وَقَومه فِي الطَّعَام فَلم يجد بدا من إرْسَال [بنيامين] مَعَهم فَقَالَ: {لن أرْسلهُ مَعكُمْ حَتَّى تؤتون موثقًا من الله} الموثق: هُوَ الْعَهْد الْمُؤَكّد بالقسم، وَقيل: الْمُؤَكّد بإشهاد الله على نَفسه. وَقَوله: {لتأتنني بِهِ إِلَّا أَن يحاط بكم} فِيهِ قَولَانِ، أَحدهمَا: إِلَّا أَن تهلكوا جَمِيعًا. وَالْآخر: إِلَّا أَن يأتيكم أَمر من السَّمَاء لَيْسَ لكم بِهِ قُوَّة.

{بكم فَلَمَّا آتوه موثقهم قَالَ الله على مَا نقُول وَكيل (66) وَقَالَ يَا بني لَا تدْخلُوا من بَاب وَاحِد وادخلوا من أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة وَمَا أُغني عَنْكُم من الله من} وَقَوله: {فَلَمَّا آتوه موثقهم} يَعْنِي: أَعْطوهُ {قَالَ الله} تَعَالَى {على مَا نقُول وَكيل} قَالَ يَعْقُوب: الله على مَا نقُول وَكيل؛ وَالْوَكِيل هُوَ الْقَائِم بِالتَّدْبِيرِ، وَقيل: وَكيل أَي: شَاهد [وَقيل: شَهِيد، أَي: شَاهد] وَقيل: حفيظ.

67

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ يَا بني لَا تدْخلُوا من بَاب وَاحِد} أَكثر الْمُفَسّرين [على] أَنه خَافَ الْعين: لِأَنَّهُ كَانُوا أعْطوا جمالا وَقُوَّة وامتداد قامة، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره من الْمُفَسّرين؛ وَالْعين حق. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه كَانَ يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن فَيَقُول: (أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله [التَّامَّة] من كل شَيْطَان [و] هَامة، وَمن كل عين لَامة " (3) . وَفِي الْبَاب أَخْبَار كَثِيرَة، وَفِي بعض الْآثَار. " الْعين حق، تدخل الْجمل الْقدر وَالرجل الْقَبْر ". وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنه خَافَ عَلَيْهِم ملك مصر إِذا رأى قوتهم واجتماعهم أَن يحبسهم أَو يقتلهُمْ. وَحكي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: كَانَ يَرْجُو يَعْقُوب أَن يرَوا يُوسُف ويجدوه فَقَالَ: {وادخلوا من أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة} لَعَلَّكُمْ (تَجِدُونَ) يُوسُف [أَو] تلقونه. وَالصَّحِيح هُوَ الأول. وَقَوله: {وَمَا أغْنى عَنْكُم من الله من شَيْء} مَعْنَاهُ: إِن كَانَ الله قضى فِيكُم [قَضَاء] فيصيبكم [قَضَاؤُهُ] مُجْتَمعين كُنْتُم أَو مُتَفَرّقين؛ وَمعنى " أغْنى "

{شَيْء إِن الحكم إِلَّا لله عَلَيْهِ توكلت وَعَلِيهِ فَليَتَوَكَّل المتوكلون (67) وَلما دخلُوا من حَيْثُ أَمرهم أبوهم مَا كَانَ يُغني عَنْهُم من الله من شَيْء إِلَّا حَاجَة فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا وَإنَّهُ لذُو علم لما علمناه وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (68) وَلما دخلُوا على يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنا أَخُوك فَلَا تبتئس بِمَا} أَي: أدفَع. وَفِي الْخَبَر: الحذر لَا يرد الْقدر. وَقَوله: {إِن الحكم إِلَّا لله} هَذَا تَفْوِيض يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام أُمُوره إِلَى الله؛ وَالْحكم: هُوَ الْفَصْل بَين الْخُصُوم بِمُوجب الْعلم من الْبشر، وَمن الله صنع بِمُوجب الْحِكْمَة {عَلَيْهِ توكلت} يَعْنِي: بِهِ وثقت وَعَلِيهِ اعتمدت. {وَعَلِيهِ فَليَتَوَكَّل المتوكلون} مَعْنَاهُ: وَبِه يَثِق الواثقون.

68

قَوْله تَعَالَى: {وَلما دخلُوا من حَيْثُ أَمرهم أبوهم} يَعْنِي: من الْأَبْوَاب المتفرقة قيل: إِن الْمَدِينَة مَدِينَة الفرما، و (كَانَت) لَهَا أَرْبَعَة أَبْوَاب، كَانَت مَدِينَة الْعَريش. وَقَوله {مَا كَانَ يُغني عَنْهُم من الله من شَيْء} مَعْنَاهُ: مَا كَانَ يدْفع عَنْهُم من الله من شَيْء، وَهَذَا الْحق تَحْقِيق لما ذكره يَعْقُوب من قَوْله: {وَمَا أغْنى عَنْكُم من الله من شَيْء} . وَقَوله: {إِلَّا حَاجَة فِي نفس يَعْقُوب قَضَاهَا} يَعْنِي: إِلَّا مرَادا ليعقوب عَلَيْهِ السَّلَام ذكره وَجرى الْأَمر على ذَلِك. وَقَوله: {وَإنَّهُ لذُو علم لما علمناه} قَالَ أهل التَّفْسِير: مَعْنَاهُ: وَأَنه كَانَ يعْمل مَا يعْمل عَن علم، لَا عَن جهل. وَمِنْهُم من قَالَ: وَإنَّهُ لذُو علم بِسَبَب تعليمنا إِيَّاه {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} لأَنهم لم يسلكوا طَرِيق الْعلم.

69

قَوْله: {وَلما دخلُوا على يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} آوى إِلَيْهِ: ضم إِلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ: أنزلهُ مَعَ نَفسه. وَفِي الْقِصَّة: أَنه أنزل كل أَخَوَيْنِ من أم بَيْتا، فَبَقيَ بنيامين وَحده فَقَالَ: انْزِلْ معي، وَكَانَ كل أَخَوَيْنِ من أم على حِدة. وَقَوله: {قَالَ إِنِّي أَنا أَخُوك}

{كَانُوا يعْملُونَ (69) فَلَمَّا جهزهم بجهازهم جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه ثمَّ أذن مُؤذن أيتها العير إِنَّكُم لسارقون (70) قَالُوا وَأَقْبلُوا عَلَيْهِم مَاذَا تَفْقِدُونَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أسر إِلَيْهِ أَنه أَخُوهُ. وَالْآخر: أَنه قَالَ: أَنا لَك مَكَان أَخِيك الْهَالِك. ذكره وهب وَغَيره. وَقَوله: {فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} مَعْنَاهُ: فَلَا تحزن بِمَا عمِلُوا مَعَ أَخِيك، فَإِنِّي لَك بدل أَخِيك، فَروِيَ أَنه قَالَ لَهُ بنيامين: وَمن يجد أَخا مثلك أَيهَا الْملك؛ وَلَكِنَّك لست من يَعْقُوب؛ فَحِينَئِذٍ ذكر أَنه أَخُوهُ حَقِيقَة.

70

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جهزهم بجهازهم} قد ذكرنَا. وَقَوله: {وَجعل السِّقَايَة} السِّقَايَة: هِيَ الْإِنَاء الَّذِي يشرب بِهِ. وَاخْتلفُوا أَنَّهَا من أيش كَانَت؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَت من زبرجد. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَت من فضَّة مرصعة بالجوهر، وَقيل: كَانَ من ذهب. وَعَن بَعضهم: أَنه كَانَ (إِنَاء) مستطيلا شبه المكوك وَله رأسان وَفِي وَسطه مقبض، فَكَانَ يُكَال من أحد الرأسين وَيشْرب من (الرَّأْس) الآخر، وَكَانَ لَا يُكَال إِلَّا بِهِ لعزة الطَّعَام، وَكَانَ يسمع لَهَا صَوت: قد كيل فِي كَذَا. وَقَوله: {فِي رَحل أَخِيه} أَي: فِي وعَاء أَخِيه بَين طَعَامه. وَقَوله: {ثمَّ أذن مُؤذن} رُوِيَ أَنه تَركهم حَتَّى ذَهَبُوا منزلا، وَقيل: حَتَّى أصحروا وَخَرجُوا من الْعِمَارَة، ثمَّ بعث من خَلفهم من استوقفهم وَقَالَ: {أيتها العير إِنَّكُم لسارقون} وَالْعير: هم أَصْحَاب الْحمير. وَقيل: قد يذكر وَيُرَاد بِهِ الْإِبِل. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ استجاز يُوسُف أَن ينسبهم إِلَى السّرقَة وَلم يسرقوا؟ الْجَواب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا مَعْنَاهُ: إِنَّكُم لسارقو يُوسُف من أَبِيه، وعملتم كَمَا يعْمل السراق. وَالثَّانِي: أَن الرجل قَالَ من غير أَمر يُوسُف، فَإِنَّهُ حِين فقد الصَّاع ظن أَنهم سرقوا. وَالثَّالِث: أَن هَذِه هفوة من يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام. وَقد قَالُوا: إِنَّه عير ثَلَاث عيرات: الأولى: حِين هم بِامْرَأَة الْعَزِيز إِلَى أَن رأى الْبُرْهَان، وَالثَّانِي حِين قَالَ للساقي: اذْكُرْنِي عِنْد رَبك، وَالثَّالِث: هَذَا؛ وَهُوَ أَنه نسب إخْوَته إِلَى السّرقَة. وَالْقَوْل الأول أَجود الْأَقَاوِيل، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ وَاضع مَعَ بنيامين، وَقَالَ مَا قَالَ بالمواضعة، وَالله أعلم.

( {71) قَالُوا نفقد صواع الْملك وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير وَأَنا بِهِ زعيم (72) قَالُوا تالله لقد علمْتُم مَا جِئْنَا لنفسد فِي الأَرْض وَمَا كُنَّا سارقين (73) قَالُوا فَمَا}

71

قَوْله: {قَالُوا وَأَقْبلُوا عَلَيْهِم مَاذَا تَفْقِدُونَ} رُوِيَ أَنهم وقفُوا وَقَالُوا للْقَوْم: مَاذَا تطلبون؟

72

قَوْله: {قَالُوا نفقد صواع الْملك} قَرَأَ يحيى بن يعمر: " صوغ الْملك " بالغين الْمُعْجَمَة [و] الصوغ من الذَّهَب أَو الْفضة، والصواع يذكر وَيُؤَنث، [و] الصواع: هُوَ السِّقَايَة الَّتِي ذكرهَا فِي الْآيَة الأولى. وَقيل: إِنَّه كَانَ يكون بَين يَدي الْملك، فَإِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ أَخذ. وَقَوله: {وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير} يَعْنِي: وَلمن رده حمل بعير من الطَّعَام. وَقَوله: {وَأَنا بِهِ زعيم} أَي: كَفِيل، والزعيم وَالْكَفِيل والضمين بِمَعْنى وَاحِد، وَيُسمى الرئيس زعيما؛ لِأَنَّهُ كفل أُمُور الْقَوْم زعيم يقوم بمصالحهم وَيتَكَلَّم عَنْهُم. فَإِن قيل: أتجوز الْكفَالَة بِالْمَجْهُولِ عنْدكُمْ وَهَذِه كَفَالَة بِالْمَجْهُولِ؟ قُلْنَا: لَا تجوز، وَيحْتَمل أَن حمل الْبَعِير كَانَ مَعْلُوما قدره عِنْدهم. وَالثَّانِي: أَن هَذِه جعَالَة وَلم تكن كَفَالَة، وَعِنْدنَا تجوز مثل هَذِه الْجعَالَة.

73

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا تالله لقد علمْتُم مَا جِئْنَا لنفسد فِي الأَرْض} يَعْنِي: وَالله مَا جِئْنَا لنفسد فِي الأَرْض أَي: لنسرق فِي ملك مصر {وَمَا كُنَّا سارقين} فِي بِلَادنَا فنسرق فِي بِلَادكُمْ. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالُوا: لقد علمْتُم وَكَانَ (من جوابهم) أَن يَقُولُوا: نَحن لَا نعلم؟ (قُلْنَا) : إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك؛ لأَنهم كَانُوا جمَاعَة لَهُم قُوَّة وَشدَّة وَلم يَكُونُوا يظْلمُونَ أحدا من الطَّرِيق وَلَا يتركون دوابهم تدخل فِي حرث أحد، وَرُوِيَ أَنهم دخلُوا مصر حِين دخلُوا وَقد جعلُوا الأكمة على رُءُوس دوابهم لِئَلَّا تفْسد شَيْئا. وَجَوَاب آخر: أَنهم إِنَّمَا قَالُوا هَذَا لأَنهم ردوا البضاعة المحمولة فِي رحالهم قَالُوا: فَلَو

{جَزَاؤُهُ إِن كُنْتُم كاذبين (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ من وجد فِي رَحْله فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِك نجزي الظَّالِمين (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قبل وعَاء أَخِيه ثمَّ استخرجها من} كُنَّا سارقين مَا رددنا البضاعة؛ لِأَن من يطْلب شَيْئا ليسرقه لَا يخلي شَيْئا وَقع فِي يَده. فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ فِي الْعَرَبيَّة أَن يَقُول الْقَائِل: (تالله، وَلَا يجوز أَن يَقُول: تالرحمن وتالرحيم) ؟ قُلْنَا: لِأَن التَّاء بدل الْبَاء؛ فَإِن الأَصْل فِي الْقسم حرف الْبَاء ثمَّ أبدلت الْوَاو بِالتَّاءِ فَلَمَّا كَانَت بدل الْبَدَل ضعفت عَن التَّصَرُّف واقتصرت على الِاسْم الَّذِي هُوَ الأَصْل فِي الْقسم عَادَة وَلِسَانًا وَهُوَ " الله ".

74

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنْتُم كاذبين} مَعْنَاهُ: فَمَا جَزَاء السَّارِق إِن كُنْتُم كاذبين بقولكم إِنَّا لم نَسْرِق؟

75

قَوْله: {قَالُوا جَزَاؤُهُ من وجد فِي رَحْله فَهُوَ جَزَاؤُهُ} استعباد السَّارِق من وجد فِي رَحْله (فَهَذَا) الْجَزَاء جَزَاؤُهُ؛ فَيكون الثَّانِي تَأْكِيدًا للْأولِ. وَفِي الأول حذف على عَادَة كَلَام الْعَرَب، وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالُوا: جَزَاؤُهُ من وجد فِي رَحْله فالسارق جَزَاؤُهُ؛ فَهُوَ كِنَايَة عَن السَّارِق، وَمعنى جعله جَزَاء: أَنه يسترق ويستعبد. وَاعْلَم أَنه كَانَ من سنة يَعْقُوب: أَن من سرق شَيْئا اسْترق سنة، وَكَانَ حكم ملك مصر أَن يضْرب وَيغرم ضعْفي قِيمَته، [فمراد] يُوسُف أَن يحبس أَخَاهُ عِنْده فَرد الحكم فِي السّرقَة إِلَيْهِم فَذكرُوا من حكم السّرقَة بِمَا عرفوه فِي شَرِيعَة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام، فَأخذ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بذلك وَحصل مُرَاده من حبس أَخِيه. وَقَوله: {كَذَلِك نجزي الظَّالِمين} يَعْنِي: أَن إخْوَة يُوسُف قَالُوا: كَذَلِك نجزي السراق عندنَا.

76

قَوْله تَعَالَى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قبل وعَاء أَخِيه ثمَّ استخرجها من وعَاء أَخِيه} رُوِيَ أَن الْمُؤَذّن فتش عَن أوعيتهم، وَرُوِيَ أَنه رد جَمَاعَتهمْ إِلَى يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام -

{وعَاء أَخِيه كَذَلِك كدنا ليوسف مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك إِلَّا أَن يَشَاء الله نرفع دَرَجَات من نشَاء وَفَوق كل ذِي علم عليم (76) قَالُوا إِن يسرق} فَأمر بتفتيش أوعيتهم بَين يَدَيْهِ. وَفِي الْقِصَّة: أَن ذَلِك الرجل كَانَ كلما فتش وعَاء وَلم يجد الصَّاع اسْتغْفر الله وَأظْهر التَّوْبَة فَلَمَّا بَقِي رَحل بنيامين قَالَ: مَا أَظن أَن هَذَا أَخذ شَيْئا قَالُوا: وَالله لَا نَتْرُكك حَتَّى تفتش وعاءه فتطيب أَنْفُسنَا ونفسك، ففتش وعاءه واستخرج الصَّاع فبقوا منكسرين مستحيين ونكسوا رُءُوسهم خجلا وَقَالُوا لبنيامين: مَا هَذَا يَا ابْن راحيل؟ {فَقَالَ: وَالله مَا سرقت، فَقَالُوا: كَيفَ وَقد وجد الصَّاع فِي رحلك؟} فَقَالَ: وضع الصَّاع فِي رحلي من وضع البضاعة فِي رحالكُمْ. قَالَ: وَأخذُوا بنيامين رَقِيقا عبدا. وَفِي الْقِصَّة: أَن ذَلِك الرجل أَخذ بِرَقَبَتِهِ ورده إِلَى يُوسُف كَمَا يرد السراق. وَقَوله: {كَذَلِك كدنا ليوسف} مَعْنَاهُ: دبرنا ليوسف، وَقيل: صنعنَا ليوسف. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أردنَا ليوسف؛ وَأنْشد قَول الشَّاعِر (كَادَت وكدت وَذَاكَ خير إِرَادَة ... لَو عَاد من لَهو الصبابة مَا مضى) فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {كَذَلِك} وأيش هَذِه الْكَاف، وَالْكَاف للتشبيه؟ الْجَواب عَنهُ: أَن هَذَا منصرف إِلَى قَول يَعْقُوب فِي أول السُّورَة: {فيكيدوا لَك كيدا} وَكَانَ كيدهم: أَنهم أَخَذُوهُ من أَبِيه بحيلة وألقوه فِي الْجب فَقَالَ الله تَعَالَى: كَمَا كَادُوا فِي أَمر يُوسُف: {كدنا ليوسف} فِي أَمرهم؛ والكيد من الْخلق هُوَ: الْحِيلَة، وَمن الله: التَّدْبِير بِالْحَقِّ. وَقَوله: {مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك} مَعْنَاهُ: مَا كَانَ يُوسُف ليجازي أَخَاهُ فِي حكم الْملك، وَقيل: فِي عَادَة الْملك. قَالَ الشَّاعِر: (أَقُول وَقد درأت لَهَا وضيني ... أَهَذا دينه أبدا وديني) و" مَا " هَاهُنَا للنَّفْي. وَقَوله: {إِلَّا أَن يَشَاء الله} مَعْنَاهُ: إِلَّا بِمَشِيئَة الله يَعْنِي: فعل مَا فعل بِمَشِيئَة الله تَعَالَى. وَقَوله: {نرفع دَرَجَات من نشَاء} قَالَ هَذَا فِي هَذَا الْموضع؛ لِأَنَّهُ رفع دَرَجَة يُوسُف على درجتهم فِي الْعلم وَالْملك وَالْعقل وَغَيره. وَقيل:

{فقد سرق أَخ لَهُ من قبل فأسرها يُوسُف فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم قَالَ أَنْتُم شَرّ مَكَانا وَالله أعلم بِمَا تصفون (77) قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا} نرفع دَرَجَات من نشَاء بالتوفيق والعصمة. وَقَوله: {وَفَوق كل ذِي علم عليم} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَفَوق كل عَالم عَالم إِلَى أَن يَنْتَهِي الْعلم إِلَى الله. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: وَفَوق كل عَالم عليم ".

77

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِن يسرق فقد سرق أَخ لَهُ من قبل} أَرَادوا بأَخيه من قبل: يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه أيش سرق؟ قَالَ سعيد بن جُبَير وَقَتَادَة: كَانَ عِنْد جده إِلَى أمه صُورَة تعبد فَأَخذهَا سرا وَأَلْقَاهَا لِئَلَّا تعبد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَانَ يَأْخُذ الطَّعَام من مائدة أَبِيه سرا فيعطيه الْمَسَاكِين. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه كَانَ عِنْد عمته تربيه، فَأَرَادَ يَعْقُوب أَن ينتزعه مِنْهَا فشدت عمته تَحت ثِيَابه منْطقَة، وَادعت أَنه سَرَقهَا لتحبسه عِنْد نَفسهَا وَيتْرك عِنْدهَا؛ فَإِنَّهَا كرهت أَن يُؤْخَذ مِنْهَا وَكَانَت أحبته حبا شَدِيدا، ذكره ابْن إِسْحَاق. وَقَوله: {فأسرها يُوسُف فِي نَفسه} فَإِن قَالَ قَائِل: إِلَى أَيْن يرجع قَوْله: {فأسرها يُوسُف فِي نَفسه وَلم يبدها لَهُم} ؟ قُلْنَا: لَيْسَ لهَذَا مَذْكُور سَابق، وَمَعْنَاهُ: أسر الْكَلِمَة فِي نَفسه، وَتلك الْكَلِمَة أَنه قَالَ: {أَنْتُم شَرّ مَكَانا} ، وَلم يُصَرح بِهَذَا القَوْل. وَقَوله: {شَرّ مَكَانا} يَعْنِي: شَرّ صنيعا. وَحَقِيقَة مَعْنَاهُ: أَنه لم يكن من يُوسُف سَرقَة صَحِيحَة، وَقد كَانَت مِنْكُم سَرقَة صَحِيحَة؛ وَهُوَ سرقتكم يُوسُف من أَبِيه. وَقَوله: {وَالله أعلم بِمَا تصفون} يَعْنِي: وَالله أعلم أَن أَخَاهُ قد سرق أَو لم يسرق

78

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا} فِي الْقِصَّة: أَنهم غضبوا غَضبا شَدِيدا لهَذِهِ الْحَالة، وَكَانَ يهوذا إِذا غضب لم يقم لغضبه شَيْء، وَإِذا صَاح [فَكل] امْرَأَة حَامِل سَمِعت صياحه أَلْقَت وَلَدهَا، وَكَانَ مَعَ هَذَا إِذا مَسّه أحد من

{فَخذ أَحَدنَا مَكَانَهُ إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ معَاذ الله أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده إِنَّا إِذا لظالمون (79) فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خلصوا نجيا قَالَ} ولد يَعْقُوب [سكن] غَضَبه، وَقيل: إِن هَذَا كَانَ صفة شَمْعُون من أَوْلَاد يَعْقُوب؛ فَروِيَ أَنه قَالَ لإخوته: كم يكون من عدد الْأَسْوَاق بِمصْر؟ فَقَالُوا: عشرَة أسواق، فَقَالَ: اكفوني أَنْتُم الْأَسْوَاق وَأَنا أكفكم الْملك، أَو قَالَ: اكفوني أَنْتُم الْملك وَأَنا أكفكم الْأَسْوَاق، قَالَ: فَدَخَلُوا على يُوسُف فَقَالَ لَهُ يهوذا: أتردن علينا أخانا أَو لأصيحن صَيْحَة تلقي كل حَامِل وَلَدهَا فِي هَذِه الْبَلدة، وَكَانَ عِنْد يُوسُف ابْن لَهُ صَغِير قَائِم عِنْده فَقَالَ: اذْهَبْ وَخذ بيد ذَلِك الرجل وائتني بِهِ، فَذهب وَأخذ بِيَدِهِ فسكن غَضَبه، فَقَالَ لإخوته: وَالله إِن هَاهُنَا بذرا من بذر يَعْقُوب، فَقَالَ لَهُ الابْن الصَّغِير: وَمن يَعْقُوب وَأَنا لَا أَدْرِي يَعْقُوب وَلَا وَلَده؟ . وَرُوِيَ أَنه غضب ثَانِيًا فَقَامَ إِلَيْهِ يُوسُف وركضه بِرجلِهِ وَأخذ بتلابيبه فَوَقع على الأَرْض وَقَالَ: معشر العبرانيين تظنون أَن لَا أحد أَشد مِنْكُم، ذكر هَذَا كُله السّديّ وَغَيره، فَلَمَّا صَار أَمرهم إِلَى هَذَا خضعوا وذلوا وَقَالُوا: {يَا أَيهَا الْعَزِيز إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا} . والعز: منع الضيم أَو الضير بسعة السُّلْطَان وَالْقُدْرَة، والعزيز: هُوَ المنيع بِمَا حصل لَهُ من وَاسع الْمَقْدُور. قَوْله: {إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا فَخذ أَحَدنَا مَكَانَهُ} مَعْنَاهُ: خُذ أَحَدنَا بدله، وَنصب شَيخا على نعت قَوْله: {أَبَا} . وَقَوله: {إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ} يَعْنِي: إِنَّا نرَاك من الْمُحْسِنِينَ إِلَيْنَا، وإحسانه إِلَيْهِم بتوفية الْكَيْل، وَحسن الضِّيَافَة، ورد البضاعة، وَغَيره.

79

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ معَاذ الله} أَعْتَصِم بِاللَّه {أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده إِنَّا إِذا لظالمون} مَعْلُوم الْمَعْنى، وَمَعْنَاهُ: أَن نَأْخُذ البرىء بدل الْجَانِي، فَإِن أَخذنَا فَإنَّا ظَالِمُونَ.

80

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ} فِي الْقِصَّة: أَنه لما استخرج الصَّاع وَعَاد الْإِخْوَة إِلَيْهِ دَعَا بالصاع ونقره بقضيب فِي يَده فطن الصَّاع.

{كَبِيرهمْ ألم تعلمُوا أَن أَبَاكُم قد أَخذ عَلَيْكُم موثقًا من الله وَمن قبل مَا فرطتم فِي يُوسُف فَلَنْ أَبْرَح الأَرْض حَتَّى يَأْذَن لي أبي أَو يحكم الله لي وَهُوَ خير} فَقَالَ: يَا قوم إِن هَذَا الصَّاع ليخبرني بِخَبَر، قَالُوا: وَمَا يُخْبِرك أَيهَا الْملك؟ فَقَالَ: إِنَّه يُخْبِرنِي أَنكُمْ كُنْتُم (اثنى) عشر إخْوَة وأنكم أَخَذْتُم أَخا لكم من أبيكم وألقيتموه فِي الْجب وبعتموه من بعد، قَالَ: فَجعل ينظر بَعضهم إِلَى بعض فَقَامَ بنيامين وَسجد لَهُ، وَقَالَ: صدق صاعك (أَيهَا الْملك) ، سَله: أَحَي أخي أَو لَا؟ ، فَنقرَ الصَّاع ثَانِيًا وَطن فَقَالَ: إِنَّه يَقُول: هُوَ حَيّ، وستراه. فَقَالَ: سَله من سرق الصَّاع؟ فَقَالَ: هُوَ غَضْبَان - يَعْنِي الصَّاع - وَيَقُول كَيفَ تَسْأَلنِي وَقد رَأَيْت فِي يَد من كنت؟ ! أوردهُ النقاش وَأَبُو الْحسن بن فَارس وَغَيرهمَا، وَالله أعلم. وَمعنى قَوْله: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ} أَي: تيأسوا مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: استيأسوا استيقنوا أَن الْأَخ لَا يرد إِلَيْهِم، وَأنْشد: (أَقُول لَهُم بِالشعبِ إِذْ يأسرونني ... ألم تيأسوا أَنِّي ابْن فَارس زَهْدَم) يَعْنِي: ألم تعلمُوا. وَقَوله {خلصوا نجيا} يَعْنِي: انفردوا يتناجون، ويتشاورون فِي أَمر أخيهم، وَمعنى {خلصوا} : أَنه لم يكن مَعَهم غَيرهم. تَقول الْعَرَب: قوم نجى. قَالَ الشَّاعِر: (حَتَّى إِذا مَا الْقَوْم كَانُوا أنجية ... واختلطت أَحْوَالهم كالأرشية) وَقَوله: {قَالَ كَبِيرهمْ} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ يهوذا وَلم يكن أكبرهم فِي السن، وَلَكِن كَانَ فِي الْعقل أكبرهم، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ شَمْعُون وَكَانَت لَهُ الرِّئَاسَة على إخْوَته، وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الروبيل وَكَانَ أكبرهم فِي السن. وَقَوله: {ألم تعلمُوا أَن أَبَاكُم قد أَخذ عَلَيْكُم موثقًا من الله} قد بَينا معنى الموثق. وَقَوله: {وَمن قبل مَا فرطتم فِي يُوسُف} يَعْنِي: قصرتم وتركتم عهد أبيكم.

{الْحَاكِمين (80) ارْجعُوا إِلَى أبيكم فَقولُوا يَا أَبَانَا إِن ابْنك سرق وَمَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا علمنَا وَمَا كُنَّا للغيب حافظين (81) واسأل الْقرْبَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون (82) قَالَ بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم أمرا فَصَبر} وَقَوله: {فَلَنْ أَبْرَح الأَرْض} يَعْنِي: لن أَبْرَح أَرض مصر {حَتَّى يَأْذَن لي أبي} يَعْنِي: يدعوني أبي {أَو يحكم الله لي} أَي: يرد أخي إِلَيّ، وَقيل: يحكم الله لي بِالسَّيْفِ فأقاتلهم وأسترد أخي {وَهُوَ خير الْحَاكِمين} يَعْنِي: وَهُوَ خير الفاصلين.

81

قَوْله تَعَالَى: {ارْجعُوا إِلَى أبيكم} الْآيَة: امضوا إِلَى أبيكم {فَقولُوا يَا أَبَانَا إِن ابْنك سرق} وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " أَنه إِن ابْنك سرق " وَفِيه مَعْنيانِ: أَحدهمَا: اتهمَ بِالسَّرقَةِ. وَالْآخر: علم مِنْهُ السّرقَة. وَقَوله: {وَمَا شَهِدنَا إِلَّا بِمَا علمنَا} يَعْنِي: إِلَّا بِمَا رَأينَا فَإنَّا رَأينَا إِخْرَاج الصَّاع من مَتَاعه. وَقَوله: {وَمَا كُنَّا للغيب حافظين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا كُنَّا لليله ونهاره وذهابه ومجيئه حافظين، وَإِنَّمَا كُنَّا نعلم من حَاله مادام عندنَا، وَالْقَوْل الثَّانِي يَعْنِي: أَنا لَو علمنَا أَنه سيسرق مَا حملناه مَعَ أَنْفُسنَا فَنحْن لم نعلم هَذَا الْغَيْب.

82

قَوْله تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا} يَعْنِي: أهل الْقرْيَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا. {وَالْعير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا} يَعْنِي: وَأهل العير الَّتِي أَقبلنَا فِيهَا، أَي: كُنَّا فِيهَا. وَقَوله: {وَإِنَّا لصادقون} ظَاهر. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ استجاز يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن يعْمل كل هَذَا بِأَبِيهِ وَلم يُخبرهُ بمكانه وَلم يُرْسل إِلَيْهِ أحدا، ثمَّ حبس أَخَاهُ عِنْده وَقد عرف شدَّة وجده عَلَيْهِ، وَهَذَا أعظم من كل عقوق، وَفِيه قطع الرَّحِم وَقلة الشَّفَقَة؟ الْجَواب عَنهُ: قد أَكثر النَّاس فِي هَذَا، وَالصَّحِيح أَنه عمل مَا عمل بِأَمْر الله تَعَالَى، وَأمره الله تَعَالَى بذلك ليزِيد فِي بلَاء يَعْقُوب ويضاعف لَهُ الْأجر، وَيرْفَع دَرَجَته [فيلحقه] فِي الدرجَة بآبائه الماضين. وَقيل: إِنَّه لم يظْهر نَفسه للإخوة؛ لِأَنَّهُ لم يَأْمَن عَلَيْهِم أَن يدبروا، فِي ذَلِك تدبيرا ويكتموا عَن أَبِيهِم، وَالصَّحِيح هُوَ الأول.

83

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم أمرا} فِي الْآيَة اخْتِصَار؛ لأَنهم رجعُوا

{جميل عَسى الله أَن يأتيني بهم جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الْعلم الْحَكِيم (83) وَتَوَلَّى عَنْهُم وَقَالَ يَا أسفى على يُوسُف وابيضت عَيناهُ من الْحزن فَهُوَ كظيم (84) } وَذكروا لأبيهم بِمَا علمهمْ كَبِيرهمْ، ثمَّ إِن يَعْقُوب قَالَ مَا قَالَ، وَمعنى التسويل هَاهُنَا: أَن زينت لكم أَنفسكُم حمل أخيكم إِلَى مصر لتطلبوا نفعا عَاجلا. قَوْله تَعَالَى: {فَصَبر جميل} أَي: فصبري صَبر جميل. وَالصَّبْر: حبس النَّفس عَمَّا تنَازع إِلَيْهِ النَّفس وَقد بَينا معنى الْجَمِيل. وَقَوله: {عَسى الله أَن يأتيني بهم جَمِيعًا} يَعْنِي: يُوسُف وأخاه بنيامين ويهوذا. وَفِي الْقِصَّة: أَن ملك الْمَوْت - عَلَيْهِ السَّلَام - زار يَعْقُوب فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الْملك الطّيب رِيحه، الْحسن صورته هَل قبضت روح وَلَدي فِي الْأَرْوَاح؟ فَقَالَ: لَا. فسكن يَعْقُوب على ذَلِك، وَعلم أَنه حَيّ وطمع فِي رُؤْيَته. وَقَوله: {إِنَّه هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم} مَعْنَاهُ: الْعَلِيم بمكانهم، الْحَكِيم فِي تدبيرهم.

84

قَوْله تَعَالَى: {وَتَوَلَّى عَنْهُم وَقَالَ يَا أسفى على يُوسُف} الْآيَة. رُوِيَ أَن بنيامين لما حَبسه يُوسُف اشْتَدَّ الْأَمر على يَعْقُوب غَايَة الشدَّة وَبلغ الْحزن [بِهِ نهايته] ، وَلم يملك بعد ذَلِك الصَّبْر، فجزع، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَتَوَلَّى عَنْهُم} أَي: أعرض عَنْهُم {وَقَالَ يَا أسفى} وروى أنس بن مَالك - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " أَن بعض إخْوَان يَعْقُوب زَارَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا يَعْقُوب، مَا الَّذِي أعمى عَيْنَيْك وقوس ظهرك؟ فَقَالَ: أعمى عَيْني كَثْرَة الْبكاء على يُوسُف، وقوس ظَهْري شدَّة الْحزن على بنيامين، فَبعث الله تَعَالَى إِلَيْهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ: يَا يَعْقُوب أَتَشْكُونِي إِلَى خلقي؟ ! فَبعد ذَلِك دخل بَيته ورد بَابه، و {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله} " وَمعنى

{قَالُوا تالله تفتأ تذكر يُوسُف حَتَّى تكون حرضا أَو تكون من الهالكين (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ (86) يَا بني} قَوْله: {يَا أسفى} يَا حزن على يُوسُف، والأسف: شدَّة الْحزن. وَقَوله: {وابيضت عَيناهُ من الْحزن} يَعْنِي: غلب الْبيَاض على الحدقة وَذَهَبت الرُّؤْيَة. وَنسبه إِلَى الْحزن؛ لِأَنَّهُ كَانَ يبكي لشدَّة الْحزن وَعمي لشدَّة الْبكاء. وَقَوله: {فَهُوَ كظيم} أَي: مُمْسك على حزنه لَا يبثه وَلَا يذكرهُ للنَّاس. فَهَذَا بعد أَن نَهَاهُ الله عَن ذَلِك على مَا بَينا.

85

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا تالله تفتأ تذكر يُوسُف} يَعْنِي: لَا تزَال تذكر يُوسُف، و " لَا " محذوفة، وَقَوله: {حَتَّى تكون حرضا} قَالَ ثَعْلَب - أَحْمد بن يحيى - الحرض: كل شَيْء لَا ينْتَفع بِهِ، قَالَ مُجَاهِد: الحرض مَا دون الْمَوْت، وَقَالَ الْفراء: الحرض هُوَ الَّذِي فسد جِسْمه وعقله، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الحرض هُوَ الَّذِي أذابه الْحزن. وَقيل: هُوَ المدنف البال، والأقوال مُتَقَارِبَة. وَعَن أنس بن مَالك أَنه قَرَأَ: " حَتَّى تكون حرضا " والحرض: الأشنان، وَمَعْنَاهُ: حَتَّى تصير كعود [الأشنان] ، وَقَوله: {أَو تكون من الهالكين} أَي: من الميتين.

86

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ} قد بَينا الْخَبَر [الْوَارِد] فِي هَذَا بِرِوَايَة أنس. والبث: الْهم، {وحزني إِلَى الله} ، وروى أَنه قَالَ: يَا رب، أما ترحمني، قد أخذت مني كَذَا وَكَذَا - وَجعل يعدد - رد إِلَيّ ريحانتي (فأشمها شمة ثمَّ افْعَل) بِي مَا أردْت وَلَا أُبَالِي، فَأوحى الله - تَعَالَى - إِلَيْهِ: أَن اسكن وَفرغ روعك فسأردهما إِلَيْك. وَفِي الْآثَار المسندة عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: بَكَى يَعْقُوب ثَمَانِينَ سنة وَمَا جف لَهُ دمع، وَلم يكن على وَجه الأَرْض أحد أكْرم على الله مِنْهُ. قَوْله: {وَأعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ} يَعْنِي: أعلم من حَيَاة يُوسُف مَا لَا تعلمُونَ، وَقيل: أعلم من تَحْقِيق رُؤْيا يُوسُف مَا لَا تعلمُونَ، فَإِن قَالَ قَائِل:

كَيفَ بَكَى يَعْقُوب كل هَذَا الْبكاء وحزن هَذَا الْحزن، وَهل أُصِيب إِلَّا بفقد ولد وَاحِد، أفما كَانَ عَلَيْهِ أَن يسلم الْأَمر إِلَى الله تَعَالَى ويصبر؟ الْجَواب عَنهُ: أَنه امتحن فِي هَذَا بِمَا لم يمْتَحن بِهِ غَيره، وَلم يسْأَل عَن يُوسُف مَعَ طول الزَّمَان، وَكَانَ [ابتلاؤه] فِيهِ أَنه لم يعلم حَيَاته فيرجو رُؤْيَته، وَلم يعلم مَوته فَيسْأَل عَنهُ، وَكَانَ يُوسُف من بَين سَائِر الْإِخْوَة خص بالجمال الْكَامِل (وَالْعقل) وَحسن الْخلق وَسَائِر مَا يمِيل الْقلب إِلَيْهِ. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه مَاتَ أَخُوهُ فَبكى عَلَيْهِ بكاء شَدِيدا فَسئلَ عَن ذَلِك؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ من لم يَجْعَل الْحزن عارا على أَهله، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله} . وروى حبيب بن أبي ثَابت قَالَ: لما كبر يَعْقُوب وَطَالَ عَلَيْهِ الْحزن سقط حاجباه على عَيْنَيْهِ من الْكبر فَكَانَ يرفعهما بِخرقَة، فَدخل عَلَيْهِ بعض جِيرَانه وَقَالَ: مَا الَّذِي بلغ بك مَا بلغ وَلم تبلغ سنّ أَبِيك بعد؟ قَالَ: طول الزَّمَان وَكَثْرَة [الأحزان] ، فَبعث الله إِلَيْهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ: يَا يَعْقُوب، شكوتني إِلَى خلقي؟ ! فَقَالَ: خَطِيئَة فاغفرها لي يَا رب. فغفرها الله لَهُ، وَكَانَ بعد ذَلِك إِذا سُئِلَ عَن حَاله قَالَ: " إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله " وَعَن وهب بن مُنَبّه: أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى يَعْقُوب - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ: أَتَدْرِي لم عاقبتك وَفرقت بَيْنك وَبَين ولدك؟ قَالَ: يَا رب لَا، فَقَالَ: لِأَنَّك ذبحت شَاة وشويتها وقترت على جَارك وأكلت وَلم تطعمه؛ وَقد روى أنس، عَن النَّبِي قَرِيبا من هَذَا أوردهُ الْحَاكِم أَبُو عبد الله. وَفِي خبر أنس: " أَن الله تَعَالَى قَالَ ليعقوب: اتخذ طَعَاما وادع إِلَيْهِ الْمَسَاكِين، فَفعل وَكَانَ بعد ذَلِك إِذا تغد أَمر من يُنَادي: من أَرَادَ الْغَدَاء فليأت يَعْقُوب، وَإِذا أفطر أَمر من يُنَادي: من أَرَادَ أَن يفْطر فليأت يَعْقُوب، فَكَانَ يتغدى مَعَه الْقَوْم الْكثير، ويتعشى مَعَه الْقَوْم الْكثير من الْمَسَاكِين ". وَفِي الْقِصَّة: أَن سَبَب ابتلاء يَعْقُوب أَنه ذبح عجلا بَين يَدي أمهَا وَهِي تخور. وَعَن عبد الله بن يزِيد وَابْن أبي فَرْوَة: أَن يَعْقُوب - عَلَيْهِ السَّلَام - كتب كتابا إِلَى

{اذْهَبُوا فتحسسوا من يُوسُف وأخيه وَلَا تيأسوا من روح الله إِنَّه لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز مسنا} يُوسُف حِين حبس بنيامين: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من يَعْقُوب إِسْرَائِيل الله بن إِسْحَاق ذبيح الله ابْن إِبْرَاهِيم خَلِيل الله إِلَى ملك مصر أما بعد: فَإنَّا أهل بَيت (وكل) بِنَا الْبلَاء، أما جدي إِبْرَاهِيم فشدت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَأُلْقِي فِي النَّار فجعلهما الله عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا؛ وَأما أبي إِسْحَاق فشدت يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَوضع السكين على حلقه فَفَدَاهُ الله بكبش، وَأما أَنا فابتليت بِفِرَاق أحب أَوْلَادِي إِلَيّ وَكنت أَتَسَلَّى بأَخيه من أمه وَقد حَبسته وَزَعَمت أَنه سرق، وَالله مَا أَنا بسارق وَلم أَلد سَارِقا فَإِن رَددته إِلَيّ وَإِلَّا دَعَوْت عَلَيْك دَعْوَة تدْرك السَّابِع من ولدك. فَلَمَّا بلغ (إِلَيْهِ الْكتاب) بَكَى بكاء شَدِيدا وَأظْهر نَفسه على مَا يرد.

87

قَوْله تَعَالَى: {يَا بني اذْهَبُوا فتحسسوا من يُوسُف} التحسس: طلب الشَّيْء بالحاسة، وَمَعْنَاهُ: اطْلُبُوا وابحثوا عَن خبر يُوسُف وأخيه. وَقَوله: {وَلَا تيأسوا من روح الله} فِي الشاذ قرىء: " من روح الله " (وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَرَأَ: " من رَحْمَة الله " وَالروح مَأْخُوذ من الرّيح، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مَا يستراح بِهِ. وَقيل: من روح الله) أَي: من فرج الله، قَالَه أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء، وَقيل: من رَحْمَة الله، وَقيل: من فضل الله. وَقَوله: {إِنَّه لَا ييأس من روح الله إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

88

قَوْله تَعَالَى: ( {فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ} قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز مسنا وأهلنا الضّر) يَعْنِي: الْجُوع وَالْحَاجة. وَقَوله: {وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَت دراهمهم زُيُوفًا فِي هَذِه الكرة، وَلم تَكُ تنْفق فِي الطَّعَام فَهَذَا معنى المزجاة، وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة: مزجاة: قَليلَة يسيرَة، وَقَالَ مقَاتل: كَانَت بضاعتهم حَبَّة الخضراء، وَعَن الْكَلْبِيّ قَالَ: كَانَت بضاعتهم الحبال وَخلق الغرائر، وَقيل: كَانَت سويق الْمقل.

{وأهلنا الضّر وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الْكَيْل وَتصدق علينا إِن الله يَجْزِي المتصدقين (88) قَالَ هَل علمْتُم مَا فَعلْتُمْ بِيُوسُف وأخيه إِذْ أَنْتُم جاهلون (89) قَالُوا أئنك لأَنْت يُوسُف قَالَ أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي قد من الله علينا إِنَّه} وَقَالَ (كَعْب: كَانَت عشرَة دَنَانِير. وَقيل: كَانَ مَتَاع الْأَعْرَاب من الصُّوف والأقط وَغَيره. وَقَوله: {فأوف لنا الْكَيْل} مَعْنَاهُ: أتم كَمَا كنت تتمّ كل مرّة. وَقَوله: {وَتصدق علينا} أَي: بِمَا بَين النافق والكاسد. وَقيل: تصدق علينا بالتجوز. قَالَ الشَّاعِر: (تصدق علينا يَا ابْن عَفَّان واحتسب ... وَأمر علينا الْأَشْعَرِيّ لياليا) يعنون: أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَقيل: وَتصدق علينا بِإِطْلَاق أخينا، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: يكره أَن يَقُول الرجل: اللَّهُمَّ تصدق عَليّ؛ لِأَن الصَّدَقَة إِنَّمَا تكون مِمَّن يَبْتَغِي الثَّوَاب. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالُوا: وَتصدق علينا، وَالصَّدَََقَة لَا تحل للأنبياء؟ الْجَواب: أَن سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة قَالَ: قد كَانَت حَلَالا لَهُم، ولأنا بَينا أَن المُرَاد مِنْهُ التَّجَوُّز والمحاباة، وَهَذَا جَائِز بالِاتِّفَاقِ. وَقَوله: {إِن الله يَجْزِي المتصدقين} لم يَقُولُوا: يجْزِيك؛ لأَنهم لم يثقوا بإيمانه، فَقَالُوا: إِن الله يَجْزِي المتصدقين على الْإِطْلَاق لهَذَا.

89

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَل علمْتُم مَا فَعلْتُمْ بِيُوسُف وأخيه} رُوِيَ أَنهم [لما] قَالُوا هَذَا وسَمعه يُوسُف أَدْرَكته الرقة، فَقَالَ لَهُم هَذَا القَوْل: هَل [علمْتُم] مَا فَعلْتُمْ أَي: مَا صَنَعْتُم بِيُوسُف وأخيه، وَالَّذِي فعلوا بأَخيه هُوَ التَّفْرِيق بَينهمَا وَلم يذكر مَا فعلوا بِيَعْقُوب دفعا لحشمته وتعظيما لَهُ. وَقَوله: {إِذْ أَنْتُم جاهلون} مَعْنَاهُ: إِذْ أَنْتُم آثمون عاصون، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِذْ أَنْتُم صبيان، وَعَن الْحسن قَالَ: إِذْ أَنْتُم شُبَّان وَمَعَكُمْ جهل الشبَّان، وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما قَالَ هَذَا القَوْل تَبَسم فَرَأَوْا ثناياه منظوما كَاللُّؤْلُؤِ فعرفوه وَقَالُوا:

90

{أئنك لأَنْت يُوسُف} وَقَالَ بَعضهم: قَالُوا هَذَا على التَّوَهُّم وَلم يَكُونُوا تيقنوا بعد حَتَّى قَالَ لَهُم: أَنا يُوسُف. وَقَوله: {أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي}

{من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تالله لقد آثرك الله علينا وَإِن كُنَّا لخاطئين (91) قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بقميصي هَذَا فألقوه على وَجه أبي يَأْتِ بَصيرًا وأتوني بأهلكم} حكى الضَّحَّاك أَن فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وَهَذَا أخي بيني وَبَينه قربى ". وَقَوله: {قد من الله علينا} أَي: أنعم الله علينا {إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} مَعْنَاهُ: من يتق عَن الْمعاصِي ويصبر على الطَّاعَات والمصائب. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: من يتق الزِّنَا ويصبر على الْعُزُوبَة.

91

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا تالله لقد آثرك الله علينا} يَعْنِي: فضلك الله علينا {وَإِن كُنَّا لخاطئين} وَمَا كُنَّا إِلَّا خاطئين، وَقيل: وَقد كُنَّا خاطئين، وَالْفرق بَين خطأ وَأَخْطَأ أَن خطأ: خطأ إِذا تعمد، وَأَخْطَأ: خطأ إِذا كَانَ غير متعمد.

92

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم} التثريب هُوَ التعيير ذكره ثَعْلَب وَغَيره، وَقيل: لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم أَي: لَا عُقُوبَة عَلَيْكُم الْيَوْم بعد اعترافكم بالذنب، قَالَ الشَّاعِر: (فعفوت عَنْكُم عَفْو غير مثرب ... وتركتكم لعقاب يَوْم سرمد) وَقَوله: {الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

93

قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبُوا بقميصي هَذَا} رُوِيَ أَن الله تَعَالَى لما جعل النَّار على إِبْرَاهِيم بردا وَسلَامًا أنزل عَلَيْهِ قَمِيصًا من حَرِير الْجنَّة فَأعْطَاهُ إِبْرَاهِيم إِسْحَاق، وَأَعْطَاهُ إِسْحَاق يَعْقُوب فَجعله يَعْقُوب فِي (قَصَبَة) وَشد رَأسهَا وعلقها فِي عنق يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - وَكَانَ يكون فِي عُنُقه، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَقْت بعث الله جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن افْتَحْ القصبة: وَابعث إِلَيْهِ بالقميص فَإِنَّهُ لَا يمسهُ مبتلى إِلَّا عوفي، وَلَا سقيم إِلَّا صَحَّ وبرأ، فَبعث بذلك الْقَمِيص إِلَى يَعْقُوب، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبُوا بقميصي هَذَا} وَفِي الْقِصَّة أَن يهوذا قَالَ: أَنا أذهب بالقميص إِلَيْهِ فَإِنِّي

{أَجْمَعِينَ (93) وَلما فصلت العير قَالَ أبوهم إِنِّي لأجد ريح يُوسُف لَوْلَا أَن تفندون} ذهبت بالقميص مُلَطَّخًا بِالدَّمِ إِلَيْهِ، فَأعْطَاهُ وَخرج حافيا [حاسرا] يعدو وَمَعَهُ سَبْعَة أرغفة فَلم يستوفها حَتَّى بلغ كنعان، وَقيل: إِنَّه بعث على يَد غَيره، [وَقَالَ] : {فألقوه على وَجه أبي يَأْتِ بَصيرًا} قَالَ الْفراء: يرجع بَصيرًا، وَقَالَ غَيره: يعد بَصيرًا؛ قَالَ الْحسن: لم يعلم أَنه يعود بَصيرًا إِلَّا بعد أَن أعلمهُ الله ذَلِك. وَقَوله: {وأتوني بأهلكم أَجْمَعِينَ} أَي: جيئوني بأهلكم أَجْمَعِينَ.

94

قَوْله تَعَالَى: {وَلما فصلت العير} يَعْنِي: انفصلت من مصر وَخرجت. قَوْله: {قَالَ أبوهم إِنِّي لأجد} فِي الْقِصَّة: أَن ريح الصِّبَا اسْتَأْذَنت من رَبهَا أَن تَأتي برِيح يُوسُف إِلَى يَعْقُوب - عَلَيْهِمَا السَّلَام - فَهِيَ الَّتِي جَاءَت برِيح يُوسُف، وَالصبَا: ريح تَأتي من قبل الْمشرق إِذا هبت على الْأَبدَان لينتها ونعمتها وطيبتها، وهيجت الأشواق إِلَى الأحباب والحنين إِلَى الأوطان، قَالَ الشَّاعِر: (أيا جبلي نعْمَان بِاللَّه خليا ... سَبِيل الصِّبَا يخلص إِلَى نسيمها) (فَإِن الصِّبَا ريح إِذا مَا تنسمت ... على قلب محزون تجلت همومها) وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد بالدبور " وَرُوِيَ أَن الْقَمِيص لما نشر هَاجَتْ مِنْهُ ريح الْجنَّة [فشمها] يَعْقُوب - عَلَيْهِ السَّلَام - فَعلم أَنَّهَا جَاءَت من قبل قَمِيص يُوسُف؛ لِأَنَّهُ لم يكن فِي الأَرْض شَيْء من الْجنَّة سواهُ. وَقَوله: {لَوْلَا أَن تفندون} مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن تضعفوا رَأْي، وَقيل: لَوْلَا أَن تسفهوني، وَقيل: لَوْلَا أَن تنسبوني إِلَى الْخَوْف وَالْجهل. قَالَ الشَّاعِر:

{قَالُوا تالله إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم (95) فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجهه فَارْتَد بَصيرًا قَالَ ألم أقل لكم إِنِّي أعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتغْفر} (يَا صَاحِبي دَعَا الْمَلَامَة واقصرا ... طَال الْهوى وأطلتما التفنيدا)

95

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا تالله إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم} هَذَا قَول بني بنيه، فَإِن بنيه كَانُوا بِمصْر، وَمَعْنَاهُ: تالله إِنَّك لفي خطئك الْقَدِيم، وَالْخَطَأ: هُوَ الذّهاب عَن طَرِيق الصَّوَاب؛ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدهم أَن يُوسُف قد مَاتَ، وَكَانُوا يرَوْنَ يَعْقُوب قد لهج بِذكرِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يخرج من بَيته فيلقاه الرجل وَمَعَهُ شَيْء يحملهُ فَيَقُول: ضَعْهُ واسمع مني حَدِيثي، وَكَانَ يلقاه الْخَادِم وَالْجَارِيَة فَيَقُول مَعَه مثل هَذَا القَوْل؛ وَكَانُوا يظنون بِهِ خرفا وَخطأ عَظِيما، فَهَذَا معني قَوْلهم: إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم، وَقيل: إِنَّك لفي [شقائك] الْقَدِيم، والشقاء هَاهُنَا بِمَعْنى التَّعَب، وَقيل: فِي غفلتك الْقَدِيمَة، وَقيل: فِي محبتك الْقَدِيمَة؛ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فَكَانَ هَذَا عقوقا (عَظِيما) مِنْهُم.

96

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجهه} وَمَعْنَاهُ: ألْقى الْقَمِيص على وَجهه. وَقَوله: {فَارْتَد بَصيرًا} أَي: عَاد بَصيرًا وَرجع بَصيرًا، فَروِيَ أَنه عَادَتْ قوته فِي الْحَال، وَذَهَبت [الغشاوة] وَزَالَ الْبيَاض الَّذِي كَانَ بِعَيْنِه، وَفتح عَيْنَيْهِ كأحسن مَا يكون، و {قَالَ} لِبَنِيهِ وَبني بنيه: {ألم أقل لكم إِنِّي أعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ} وَهَذَا دَلِيل على أَنه قد كَانَ قَالَ لَهُم: إِن يُوسُف حَيّ، وَإِنِّي أَرْجُو رُؤْيَته. (وَقيل) : {إِنِّي أعلم من الله مَا لَا تعلمُونَ} يَعْنِي: من تَحْقِيق رُؤْيا يُوسُف مَا لَا تعلمُونَ، وَفِي بعض الْأَخْبَار أَنه قَالَ للبشير: لَيْسَ عِنْدِي شَيْء أُعْطِيك وَلَكِن هون الله عَلَيْك سَكَرَات الْمَوْت. وَرُوِيَ أَنه لما جَاءَهُ خبر يُوسُف قَالَ للبشير: على أَي دين تركت يُوسُف؟ قَالَ: على دين الْإِسْلَام، قَالَ: الْآن تمت النِّعْمَة.

97

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتغْفر لنا ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطئين} هَذَا دَلِيل على أَنهم عمِلُوا مَا عمِلُوا وَكَانُوا بالغين.

{لنا ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطئين (97) قَالَ سَوف أسْتَغْفر لكم رَبِّي إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم (98) فَلَمَّا دخلُوا على يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادخُلُوا مصر إِن شَاءَ الله آمِنين}

98

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ سَوف أسْتَغْفر لكم رَبِّي} رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: أخر الدُّعَاء إِلَى السحر وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يَقُول الله تَعَالَى: هَل من دَاع (فيستجاب) لَهُ؟ هَل من سَائل فَيعْطى سؤله "؟ (الْخَبَر) " هَل من مُسْتَغْفِر فَيغْفر لَهُ؟ " وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أخر إِلَى لَيْلَة الْجُمُعَة حكى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَقد رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. وَعَن عَطاء بن ميسرَة الْخُرَاسَانِي قَالَ: الْحَاجة إِلَى الشَّبَاب أسْرع إِجَابَة من الْحَاجة إِلَى الشُّيُوخ، فَإِن يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم، يغْفر الله لكم وَلم يُؤَخر، وَحين طلبُوا من يَعْقُوب سَوف وَأخر. وَفِي الْقِصَّة: أَن يَعْقُوب كَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل وَيقوم يُوسُف خَلفه وَيقوم بنوه خلف يُوسُف وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُم هَكَذَا عشْرين سنة إِلَى أَن نزل الْوَحْي بمغفرتهم، وَقَوله: {إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

99

قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا دخلُوا على يُوسُف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} رُوِيَ أَن يُوسُف بعث بِمِائَتي رَاحِلَة وجهاز كثير ليأتوا بِيَعْقُوب وَقَومه، قَالَ مَسْرُوق: كَانُوا ثَلَاثَة وَتِسْعين من بَين رجل وَامْرَأَة، وَرُوِيَ: اثْنَان وَسبعين وَهُوَ الْأَشْهر. قَالَ أهل الْأَخْبَار: وَلما خرج مُوسَى ببني إِسْرَائِيل من مصر كَانَ قد (بلغ) عَددهمْ سِتّمائَة ألف مقَاتل وَسبعين ألفا، والذرية ألف ألف وَسَبْعمائة ألف وَكَذَا فِي الْقِصَّة أَنهم جَاءُوا فَلَمَّا قربوا من مصر

{وَرفع أَبَوَيْهِ على الْعَرْش وخروا لَهُ سجدا وَقَالَ يَا أَبَت هَذَا تَأْوِيل رءياي من قبل} خرج يُوسُف ليلقاهم مَعَ الْجند، وَرُوِيَ أَنه حمل الْملك الْأَكْبَر مَعَ نَفسه، فَلَمَّا وصلوا إِلَى يَعْقُوب قَالُوا ليعقوب: هَذَا ابْنك قد جَاءَ، قَالَ: فَأَرَادَ يُوسُف أَن يبدأه بِالسَّلَامِ، فَقَالَ جِبْرِيل: لَا حَتَّى يبْدَأ يَعْقُوب بِالسَّلَامِ، فَقَالَ (يَعْقُوب:) السَّلَام عَلَيْك يَا مَذْهَب الأحزان، وَقد رُوِيَ أَنَّهُمَا نزلا وتعانقا، وَفِي بعض الْقَصَص أَنَّهُمَا مشيا فتقدمه يُوسُف بخطوة فجَاء جِبْرِيل وَقَالَ لَهُ: أتتقدم على أَبِيك لَا أخرج من ذريتك نَبيا أبدا، وَفِي بعض الْقَصَص: أَن يُوسُف كَانَ فِي أَرْبَعَة آلَاف من الْجند، وَقد قيل غَيره. وَقَوله: {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أَي: ضم إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَالْأَكْثَرُونَ أَن أَبَوَيْهِ أَي: أَبَاهُ وخالته، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ أَبوهُ وَأمه وَقد كَانَت حَيَّة، وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى بعث أمه وأحياها حَتَّى جَاءَت مَعَ يَعْقُوب إِلَى مصر، وَالله أعلم. وَقَوله: {وَقَالَ ادخُلُوا مصر إِن شَاءَ الله آمِنين} اخْتلفُوا فِي [معنى] الْمَشِيئَة هَاهُنَا، قَالَ بَعضهم: ادخُلُوا آمِنين من الْجَوَاز {إِن شَاءَ الله} ، وَقد كَانُوا لَا يدْخلُونَ قبل ذَلِك لمصر إِلَّا بِجَوَاز، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ: سَوف أسْتَغْفر لكم رَبِّي إِن شَاءَ الله وَقَالَ: ادخُلُوا مصر آمِنين.

100

قَوْله تَعَالَى: {وَرفع أَبَوَيْهِ على الْعَرْش} الرّفْع: هُوَ النَّقْل إِلَى الْعُلُوّ، وضده الْوَضع، وَالْعرش: سَرِير الْملك، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ " قيل: أَرَادَ بِهِ سَرِيره (الَّذِي حمل عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَن الْكَلَام خرج على وصف التكريم، وَلَا كَرَامَة فِي اهتزاز سَرِيره الَّذِي حمل عَلَيْهِ) ، وَفِي بعض الرِّوَايَات: " اهتز عرش الرَّحْمَن لمَوْت سعد بن معَاذ " فالعرش فِي هَذَا الْخَبَر هُوَ الْعَرْش الْمَعْرُوف واهتزازه استبشاره لإقبال روح سعد بن معَاذ. وَيجوز أَن يكون المُرَاد

{قد جعلهَا رَبِّي حَقًا وَقد أحسن بِي إِذْ أخرجني من السجْن وَجَاء بكم من البدو من بعد} بِذكر الْعَرْش أهل الْعَرْش من الْمَلَائِكَة، وَالله أعلم. وَقَوله: {وخروا لَهُ سجدا} مَعْنَاهُ: وَقَعُوا لَهُ ساجدين، وَاخْتلفُوا فِي هَذِه السَّجْدَة فالأكثرون أَنهم سجدوا لَهُ، [و] كَانَت السَّجْدَة سَجْدَة الْمحبَّة لَا سَجْدَة الْعِبَادَة، وَهُوَ مثل سُجُود الْمَلَائِكَة لآدَم - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ أهل الْعلم: وَكَانَ ذَلِك جَائِز فِي الْأُمَم السالفة، ثمَّ إِن الله تَعَالَى نسخ ذَلِك فِي هَذِه الشَّرِيعَة وأبدل بِالسَّلَامِ، وَقَالَ بَعضهم: أَنهم سجدوا لله لَا ليوسف، وَإِنَّمَا خروا لَهُ سجدا؛ لِأَنَّهُ كَانَ قدامهم فَحصل سجودهم إِلَيْهِ كَمَا يسْجد إِلَى الْمِحْرَاب والجدار، وَالصَّحِيح هُوَ الأول، هَكَذَا قَالَه أهل الْعلم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه كَانَ فِي رُؤْيَاهُ: {إِنِّي رَأَتْ أحد عشر كوكبا وَالشَّمْس وَالْقَمَر رَأَيْتهمْ لي ساجدين} ، فالشمس وَالْقَمَر أَبَوَاهُ، وَأحد عشر كوكبا هم إخْوَته. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ جَازَ السُّجُود لغير الله؟ وَإِذا جَازَ السُّجُود لغير الله فَلم لَا تجوز الْعِبَادَة لغير الله؟ وَالْجَوَاب: أَن الْعِبَادَة نِهَايَة التَّعْظِيم، وَنِهَايَة التَّعْظِيم لَا تجوز إِلَّا لله؛ وَأما السُّجُود: نوع تذلل وخضوع بِوَضْع الخد على الأَرْض وَهُوَ دون الْعِبَادَة، فَلم يمْتَنع جَوَازه للبشر كالانحناء. وَقَالَ بَعضهم: {وخروا لَهُ سجدا} السُّجُود هَاهُنَا هُوَ الانحناء وَعبر عَنهُ بِالسُّجُود، وَأما حَقِيقَة السُّجُود فَلم تكن. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول وَالله أعلم. قَوْله: {وَقَالَ يَا أَبَت هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ من قبل} [تَفْسِير] رُؤْيَايَ من قبل {قد جعلهَا رَبِّي حَقًا} أَي: صدقا {وَقد أحسن بِي} أَي: أنعم عَليّ {إِذْ أخرجني من السجْن} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ لم يقل: إِذْ أخرجني من الْجب، وَكَانَت المحنة عَلَيْهِ والبلية فِي الْجب أَكثر مِنْهَا فِي السجْن؟ الْجَواب عَنهُ: أَنه أعرض عَن ذكر

{أَن نَزغ الشَّيْطَان يَبْنِي وَبَين إخوتي إِن رَبِّي لطيف لما يَشَاء إِنَّه هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم (100) رب قد آتيتني من الْملك وعلمتني من تَأْوِيل الْأَحَادِيث فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنْت وليي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة توفني مُسلما وألحقني بالصالحين (101) ذَلِك من أنباء الْغَيْب} الْجب تكرما لِأَن لَا يخجل الْإِخْوَة عَنهُ، وَكَانَ قد قَالَ: {لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم} وَفِي إِعَادَته تَثْرِيب وملامة، وَلِأَن النِّعْمَة عَلَيْهِ فِي الْإِخْرَاج من السجْن كَانَت أَكثر؛ لِأَنَّهُ أخرج من الْجب وَجعل عبدا، وَأخرج من السجْن وَجعل ملكا. قَوْله: {وَجَاء بكم من البدو} البدو: بسيط من الأَرْض يسكنهُ أهل الْمَاشِيَة بماشيتهم، وَقد كَانَ يَعْقُوب وَأَوْلَاده أهل مواشي وَعمد، والعمد: الْخيام، فَلهَذَا قَالَ: وَجَاء بكم من البدو. وَقَوله: {من بعد أَن نَزغ الشَّيْطَان} مَعْنَاهُ: من بعد أَن أفسد الشَّيْطَان {بيني وَبَين إخوتي} بِالْحَسَدِ. وَقَوله: {إِن رَبِّي لطيف لما يَشَاء} اللَّطِيف هُوَ: الرفيق، وَيُقَال معنى الْآيَة: إِن رَبِّي لطيف (بِمن) يَشَاء. وَحَقِيقَة اللَّطِيف هُوَ الَّذِي يُوصل الْإِحْسَان إِلَى غَيره بِرِفْق. وَقَوله: {إِنَّه هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

101

قَوْله تَعَالَى: {رب قد آتيتني من الْملك} الْملك هُوَ: اتساع الْمَقْدُور لمن لَهُ السياسة وَالتَّدْبِير، وَأدْخل كلمة " من " وَهِي للتَّبْعِيض؛ لِأَنَّهُ كَانَ من يَد ملك مصر، وَقيل: " من " للتجنيس هَاهُنَا، قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: ملك يُوسُف اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة. وَقَالَ غَيره: ثَمَانِينَ سنة. وَقَوله: {وعلمتني من تَأْوِيل الْأَحَادِيث} يَعْنِي: علم الرُّؤْيَا. وَقَوله {فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: يَا فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {أَنْت ولي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} يَعْنِي: أَنْت تلِي أَمْرِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَقَوله: {توفني مُسلما} مَعْنَاهُ: ثبتني على الْإِسْلَام عِنْد الْوَفَاة. قَالَ قَتَادَة: وَلم يسْأَل نَبِي من الْأَنْبِيَاء الْمَوْت سوى يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضر نزل بِهِ وَلَكِن ليقل: اللَّهُمَّ

أحيني مَا دَامَت الْحَيَاة خيرا لي، وتوفني إِذا كَانَت الْوَفَاة خيرا لي " وَفِي الْقِصَّة: أَن يُوسُف لما جمع لَهُ شَمله وأوصل الله إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَأَهله اشتاق إِلَى ربه فَقَالَ هَذَا القَوْل. وَقد قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: عَاشَ بعد هَذَا سِنِين كَثِيرَة. وَقَالَ غَيره: لما قَالَ هَذَا القَوْل لم يمض عَلَيْهِ أُسْبُوع حَتَّى توفّي. وَأما خبر وَفَاة يَعْقُوب - صلوَات الله عَلَيْهِ - فقد قَالَ أَصْحَاب الْأَخْبَار: إِن يَعْقُوب عَاشَ عِنْد يُوسُف أَرْبعا وَعشْرين سنة بأغبط حَال وأهنأ عَيْش ثمَّ أَدْرَكته الْوَفَاة فَدَعَا بنيه وَقَالَ: يَا بني، {مَا تَعْبدُونَ من بعدِي} الْآيَة، وَقد ذكرنَا فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَأوصى يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن يحملهُ إِلَى الأَرْض المقدسة ويدفنه بِجنب أَبِيه إِسْحَاق فَفعل ذَلِك. وَقَالُوا: عَاشَ يَعْقُوب مائَة وَسبعا وَأَرْبَعين سنة، وَأما يُوسُف فَإِنَّهُ عَاشَ بعد أَبِيه سنتَيْن، وَقيل: أَكثر من ذَلِك، وَالله أعلم، وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن مائَة وَعشْرين سنة فدفنوه فِي نيل مصر: (لِأَن أهل مصر تشاحنوا عَلَيْهِ وَطلب أهل كل محلّة أَن يدْفن فِي محلتهم رَجَاء بركته، ثمَّ اتَّفقُوا أَن يدْفن فِي نيل مصر) ليجري المَاء عَلَيْهِ وَتصل بركته إِلَيْهِم كلهم. وَعَن عِكْرِمَة: أَنه دفن فِي [الْجَانِب] الْأَيْمن من النّيل فأخصب ذَلِك الْجَانِب وأجدب الْجَانِب الآخر فاتفقوا على أَن جَعَلُوهُ فِي تَابُوت من حَدِيد - وَقيل: من رُخَام - ودفنوه فِي وسط النّيل، وقدروا ذَلِك بسلسلة عِنْدهم فأخصب الجانبان، وَكَانَ يُوسُف أوصى إخْوَته أَنهم إِذا خَرجُوا من مصر أَخْرجُوهُ مَعَ أنفسهم، فَلَمَّا كَانَ زمن مُوسَى أخرجه مُوسَى مَعَ نَفسه إِلَى الأَرْض المقدسة ودفته بِقرب آبَائِهِ؛ وَفِي الْقَصَص أَن عجوزا دلتهم على قبر يُوسُف وَأَن تِلْكَ الْعَجُوز سَأَلت مُوسَى مرافقته فِي الْجنَّة بِهِ حَتَّى دلّت، فَنزل الْوَحْي على مُوسَى بِأَن يُعْطِيهَا ذَلِك. وروى الْكَلْبِيّ، عَن أبي صَالح، عَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى لما جمع بَين يَعْقُوب ويوسف قَالَ لَهُ يُوسُف: يَا أبتاه حزنت عَليّ حَتَّى انحنى ظهرك، وبكيت عَليّ حَتَّى

{نوحيه إِلَيْك وَمَا كنت لديهم إِذْ أَجمعُوا أَمرهم وهم يمكرون (102) وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين (103) وَمَا تَسْأَلهُمْ عَلَيْهِ من أجر إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (104) } عمى بَصرك، أما علمت أَنا كُنَّا نَلْتَقِي يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ: يَا بني، خشيت أَن يسلب دينك فَلَا نَلْتَقِي يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {وألحقني بالصالحين} يَعْنِي: من آبَائِي وهم: إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب.

102

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك من أنباء الْغَيْب} يَعْنِي: من أَخْبَار الْغَيْب. قَوْله: {نوحيه إِلَيْك} أَي: نلقيه إِلَيْك بِالْوَحْي. وَقَوله: {وَمَا كنت لديهم إِذْ أَجمعُوا أَمرهم وهم يمكرون} هَذَا منصرف إِلَى إخْوَة يُوسُف ومكرهم حِين أَخَذُوهُ من أَبِيه، وَفَائِدَة الْآيَة: أَنَّك إِذا علمت هَذَا بتعليمنا إياك ووحينا إِلَيْك.

103

وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} رُوِيَ أَن قُريْشًا وَالْيَهُود سَأَلُوا النَّبِي عَن قصَّة يُوسُف، فَلَمَّا أخْبرهُم بهَا على مَا كَانَ يُوَافق التَّوْرَاة، وَلم يكن فِي نَفسه قَارِئًا طمع أَن يسلمُوا فَلم يسلمُوا؛ فَحزن لذَلِك فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين} مَعْنَاهُ: وَمَا أَكثر النَّاس بمؤمنين وَإِن حرصت على إِيمَانهم.

104

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تَسْأَلهُمْ عَلَيْهِ} أَي: على التَّبْلِيغ {من أجر} أَي: من جعل وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: عظة للْعَالمين.

105

قَوْله - تَعَالَى -: {وكأين من آيَة} مَعْنَاهُ: وَكم من آيَة. وَقَوله: {فِي السَّمَوَات} السَّمَوَات: سقوف الأَرْض بَعْضهَا على بعض طبقًا طبقًا {وَالْأَرْض} هِيَ مَوضِع سُكْنى الْآدَمِيّين، وَأما الْآيَات فِي السَّمَوَات (كَمَا) بَينا من قبل، وَذَلِكَ من شمسها وقمرها ونجومها ودوران الْفلك بهَا، واستوائها من غير عمد وَغير ذَلِك، وَقد زعم بعض أهل الْعلم أَنه يجوز للْإنْسَان أَن يتَعَلَّم علم النُّجُوم بِقدر مَا يعرف بِهِ

{وكأين من آيَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يَمرونَ عَلَيْهَا وهم عَنْهَا معرضون (105) وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون (106) أفأمنوا أَن تأتيهم غاشية من عَذَاب الله أَو تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (107) قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن} من آيَات السَّمَاء، وَأما آيَات الأَرْض مَعْلُومَة أَيْضا [وَهِي] : شَجَرهَا ونباتها وَجَمِيع مَا فِيهَا وَمَا يخرج مِنْهَا. وَقَوله: {يَمرونَ عَلَيْهَا وهم عَنْهَا معرضون} مَعْنَاهُ: أَنهم يعرضون عَنْهَا مَعَ مشاهدتها وَلَا يستدلون بهَا على وحدانية الله.

106

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} فَإِن قيل: كَيفَ يجوز اجْتِمَاع الْإِيمَان مَعَ الشّرك فِي الْوَاحِد؟ الْجَواب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه} أَي: وَمَا يقر أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون بقلوبهم وضمائرهم. وَالثَّانِي: أَن مُشْركي مَكَّة كَانُوا إِذا قيل لَهُم: من خَلقكُم؟ قَالُوا: الله، وَإِذا قيل لَهُم: من يرزقكم؟ قَالُوا: الله، وَإِذا قيل لَهُم: من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قَالُوا: الله ثمَّ مَعَ ذَلِك يعْبدُونَ الْأَصْنَام، وَبَعْضهمْ يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وَبَعْضهمْ يَقُول: الْأَصْنَام شفعاؤنا عِنْد الله، فَالْقَوْل الأول: هُوَ الْإِيمَان، [وَلَيْسَ] المُرَاد من الْإِيمَان هُوَ حَقِيقَة الْإِيمَان الَّذِي يصير بِهِ الْإِنْسَان مُؤمنا، وَإِنَّمَا المُرَاد مَا بَينا. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى شركهم هُوَ شركهم فِي التَّلْبِيَة، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، لَا شريك لَك إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك تملكه وَمَا ملك.

107

قَوْله تَعَالَى: {أفأمنوا أَن تأتيهم غاشية من عَذَاب الله} قيل: قِطْعَة من عَذَاب الله، وَقيل: عُقُوبَة محللة من عَذَاب الله. وَقَوله: {أَو تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة} أَي: فَجْأَة، والبغتة: وُقُوع الشَّيْء من غير توقع سَابق. قَالَ الشَّاعِر: (وَلَكنهُمْ باتوا وَلم أدر بَغْتَة ... وأفظع شَيْء حِين يفجؤك البغت) وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ

{اتبعني وَسُبْحَان الله وَمَا أَنا من الْمُشْركين (108) وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم من أهل الْقرى أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم ولدار الْآخِرَة خير للَّذين اتَّقوا أَفلا تعقلون (109) حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم}

108

قَوْله تَعَالَى: {قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله} أَي: طريقي، والسبيل يذكر وَيُؤَنث، قَالَ الشَّاعِر: (تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن مت ... فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد) وَقَوله: {على بَصِيرَة} أَي: على (يَقِين) ، والبصيرة هِيَ الْمعرفَة الَّتِي يُمَيّز بهَا بَين الْحق وَالْبَاطِل. وَقَوله: {أَنا وَمن اتبعني} مَعْنَاهُ: أَدْعُو إِلَى الله أَنا، وَمن اتبعني يدعونَ أَيْضا إِلَى الله، وَقَالَ بَعضهم: تمّ الْكَلَام عِنْد قَوْله {أَدْعُو إِلَى الله} ثمَّ اسْتَأْنف وَقَالَ: {على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني} . وَقَوله: {وَسُبْحَان الله وَمَا أَنا من الْمُشْركين} يَعْنِي أَقُول: سُبْحَانَ الله، وَمَا أَنا من الْمُشْركين.

109

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم من أهل الْقرى} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لم يبْعَث الله نَبيا من بَدو، وَإِنَّمَا بعث الله الْأَنْبِيَاء من الْأَمْصَار والقرى. وَقَالَ أَيْضا: لم يبْعَث الله نَبيا من الْجِنّ وَلَا من النِّسَاء، وَقيل: لم يبْعَث الله نَبيا من الْبَادِيَة لغلظهم وجفائهم، وَأما أهل الْأَمْصَار فهم [أحن] قلوبا وأذكى وأفطن فِي الْأُمُور؛ فَلهَذَا بعث الله الْأَنْبِيَاء مِنْهُم. وَقَوله: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {ولدار الْآخِرَة} مَعْنَاهُ: وَالْحَال فِي الدَّار الْآخِرَة، وللإنسان حالان: الْحَال الأولى، وَالْحَال الْآخِرَة، وَقيل: " ولدار الْآخِرَة " هَذَا إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه كَقَوْلِهِم: {خير للَّذين اتَّقوا} يَوْم الْخَمِيس، وَيَوْم الْجُمُعَة، قَالَ الشَّاعِر: (أتمدح فقعسا وتذم عبسا؟ { ... أَلا لله أمك من هجين} !) (وَلَو فزت عَلَيْك ديار عبس ... عرفت الذل عرفان الْيَقِين)

{قد كذبُوا جَاءَهُم نصرنَا فنجي من نشَاء وَلَا يرد بأسنا عَن الْقَوْم الْمُجْرمين (110) لقد} أضَاف الْعرْفَان إِلَى الْيَقِين: وَقَوله: {أَفلا تعقلون} أَفلا تفقهون.

110

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا انهم قد كذبُوا} قرىء بقراءتين بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، قَرَأَ أهل الْكُوفَة بِالتَّخْفِيفِ، وَالْآيَة مشكلة إِذا قُرِئت بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَن الْقَائِل يَقُول: كَيفَ ظن الرُّسُل أَنهم قد كذبُوا، وَلَا يجوز هَذَا على الْأَنْبِيَاء. وَكَانَت عَائِشَة تنكر هَذِه الْقِرَاءَة، وَتقول: إِنَّمَا هُوَ " كذبُوا " بِالتَّشْدِيدِ، يَعْنِي: أَن الرُّسُل ظنُّوا أَن من آمن بهم كذبوهم لشدَّة المحنة وَالْبَلَاء عَلَيْهِم، وتطاول الْمدَّة بهم، هَذَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة. وَعَن قَتَادَة: أَن الظَّن هَاهُنَا بِمَعْنى الْيَقِين، وَمَعْنَاهُ: وأيقن الرُّسُل أَن الْقَوْم كذبوهم تَكْذِيبًا لَا يُرْجَى بعده إِيمَانهم، وَهُوَ تَأْكِيد لقَوْله: {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل} لِأَن مَعْنَاهُ: حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل من إِيمَان قَومهمْ، أَي: أيسوا، وَأما الْقِرَاءَة بِالتَّخْفِيفِ هَذِه قِرَاءَة صَحِيحَة، وَهِي منقولة عَن عَليّ وَعَن عبد الله بن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَكثير من الصَّحَابَة. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: ضعفت قُلُوب الرُّسُل - وَقد كَانُوا بشرا - بتطاول الزَّمَان وَكَثْرَة الْإِمْهَال، وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر: {وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله} وَقَوله: {مَتى نصر الله} : استبطاء، أَو قَالُوا هَذَا من ضعف البشرية. وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الصَّحِيح - وَهُوَ مَنْقُول أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى الْآيَة: وَظن من آمن بالرسل، أَن الرُّسُل قد كذبُوا بِالتَّخْفِيفِ، أَو ظن الْقَوْم الَّذين بعث إِلَيْهِم أَن الرُّسُل قد كذبُوا بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ مُجَاهِد: " وظنوا أَنهم قد كذبُوا " وَمَعْنَاهُ كَمَا ذكرنَا فِي القَوْل الثَّانِي: أَن ظن الْقَوْم أَن الرُّسُل قد كذبُوا. وَقَوله: { [جَاءَهُم] نصرنَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {فنجي من نشَاء} الْمَشِيئَة وَاقعَة على الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {وَلَا يرد بأسنا} أَي: عذابنا {عَن الْقَوْم الْمُجْرمين} أَي:

{كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب مَا كَانَ حَدِيثا يفترى وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ وتفصيل كل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (111) } عَن الْقَوْم الْكفَّار.

111

قَوْله - تَعَالَى -: {لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة} أَي: دلَالَة وَآيَة. قَوْله: {لأولي الْأَلْبَاب} أَي: لأولي الْعُقُول. وَقَوله: {مَا كَانَ حَدِيثا يفترى} أَي: [يختلق] يَعْنِي: قصَّة يُوسُف. وَقَوله: {وَلَكِن تَصْدِيق الَّذِي بَين يَدَيْهِ} يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. وَقَوله: {وتفصيل كل شَيْء} يَعْنِي: من الْحَلَال وَالْحرَام، وَالْأَمر وَالنَّهْي، والوعد والوعيد. وَقَوله: {وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} (مَعْنَاهُ: بَيَان ونعمة لقوم يُؤمنُونَ) . وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {المر تِلْكَ آيَات الْكتاب وَالَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ (1) الله الَّذِي رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد ترونها ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش وسخر} سُورَة الرَّعْد تَفْسِير سُورَة الرَّعْد، وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا آيَتَيْنِ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} وَقَوله تَعَالَى: {وَيَقُول الَّذين كفرُوا لست مُرْسلا} الْآيَة، فَإِنَّهُمَا مدنيتان.

الرعد

قَوْله تَعَالَى: {المر} قَالُوا: مَعْنَاهُ أَنا الله أعلم وَأرى، وَقيل: إِن الْألف من الله، وَاللَّام من جِبْرِيل، وَالْمِيم من مُحَمَّد، وَالرَّاء من إرْسَال الله إِيَّاه - يَعْنِي مُحَمَّدًا - وَقد بَينا من قبل غير هَذَا. وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْكتاب} قد بَينا فِي سُورَة يُوسُف. وَقَوله: {وَالَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق} الْإِنْزَال هُوَ النَّقْل من الْعُلُوّ إِلَى الْأَسْفَل، وَمعنى الْآيَة أَن مَا أهبط الله بِهِ جِبْرِيل عَلَيْك هُوَ الْحق، وَالْحق ضد الْبَاطِل، وَقيل: وضع الشَّيْء فِي مَوْضِعه على مَا توجبه الْحِكْمَة. وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ} يَعْنِي من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين.

2

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد} الْعمد: جسم مستطيل يمْنَع الْمُرْتَفع من الميلان، وَفِي معنى قَوْله: {بِغَيْر عمد} قَولَانِ: أَحدهمَا، وَهُوَ الْأَصَح: أَن مَعْنَاهُ: رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد {ترونها} كَذَلِك. وَقد قَالَ أهل الْمعَانِي: لَو كَانَ لِلسَّمَوَاتِ عمد لرأيناها؛ لِأَن عمد الْجِسْم الغليظ يكون بالجسم الغليظ، فَلَا بُد أَن ترى، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَأكْثر الْمُفَسّرين. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: معنى الْآيَة رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد ترونها.

{الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي لأجل مُسَمّى يدبر الْأَمر يفصل الْآيَات لَعَلَّكُمْ بلقاء ربكُم توقنون (2) وَهُوَ الَّذِي مد الأَرْض وَجعل فِيهَا رواسي وأنهارا وَمن كل الثمرات جعل فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يغشي اللَّيْل النَّهَار إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (3) وَفِي} وَقَوله: {ترونها} رَاجع إِلَى الْعمد، كَأَنَّهُ قَالَ: لَهَا عمد لَا ترونها، وَزعم أَن لَهَا عمدا على جبل قَاف، وَأَن السَّمَاء عَلَيْهَا مثل الْقبَّة، وجبل قَاف مُحِيط بالدنيا، وَهُوَ من زبرجدة خضراء، وَالصَّحِيح مَا بَينا. وَقَوله: {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} قد بَينا الْمَعْنى. وَقَوله: {وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر} مَعْنَاهُ: ذلل الشَّمْس وَالْقَمَر فهما مذللان مقهوران يجريان على مَا يُرِيد الله. وَقَوله: {كل يجْرِي لأجل مُسَمّى} أَي: لمُدَّة مَضْرُوبَة. وَقَوله: {يدبر الْأَمر} التَّدْبِير من الله تَعَالَى فعل الْأَشْيَاء على مَا يُوجب الْحِكْمَة. وَقَوله: {يفصل الْآيَات} مَعْنَاهُ يبين الدلالات. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ بلقاء ربكُم توقنون} تؤمنون.

3

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مد الأَرْض} الْآيَة قد كَانَت الأَرْض مَدَرَة مُدَوَّرَة، فبسطها الله تَعَالَى ومدها. وَقَوله: {وَجعل فِيهَا رواسي} أَي: جبالا ثوابت. وَقَوله: {وأنهارا} الْأَنْهَار: مجاري المَاء الواسعة. وَقَوله: {وَمن كل الثمرات جعل فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أَي: صنفين اثْنَيْنِ أَحْمَر وأصفر وحلو وحامض، وَقيل: إِن قَوْله {اثْنَيْنِ} تَأْكِيد لقَوْله: {زَوْجَيْنِ} . وَقَوله: {يغشي اللَّيْل النَّهَار} مَعْنَاهُ: يلبس النَّهَار بظلمة اللَّيْل، ويلبس ظلمَة اللَّيْل بضوء النَّهَار. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات} لدلالات {لقوم يتفكرون} التفكر تصرف الْقلب فِي طلب مَعَاني الْأَشْيَاء.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَفِي الأَرْض قطع متجاورات} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن فِيهِ حذفا؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: " وَفِي الأَرْض قطع متجاورات وَغير متجاورات، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وسرابيل تقيكم الْحر} يَعْنِي: وسرابيل تقيكم الْحر وَالْبرد.

{الأَرْض قطع متجاورات وجنات من أعناب وَزرع ونخيل صنْوَان وَغير صنْوَان يسقى بِمَاء وَاحِد ونفضل بَعْضهَا على بعض فِي الْأكل إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ (4) } وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة حذف، وَهُوَ صَحِيح الْمَعْنى، وَفِي المتجاورات قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ أَنَّهَا متجاورة فِي الظَّاهِر مُخْتَلفَة فِي الْمَعْنى، هَذِه سبخَة وَهَذِه عذبة، وَهَذِه قَليلَة الرّيع، وَهَذِه كَثِيرَة الرّيع، وَهَذِه مزرعة، وَهَذِه مغرسة، وَهَذِه لَا مزرعة وَلَا مغرسة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: هَذِه عامرة، وَهَذِه غامرة، وَهَذِه صحاري وبراري، وَهَذِه جبال وأودية، فعلى هَذَا إِذا قَدرنَا فِي الْآيَة متجاورات وَغير متجاورات، فالمتجاورات هِيَ الأَرْض العامرة الْمُتَّصِل بَعْضهَا بِبَعْض، وَغير المتجاورات هِيَ الأَرْض الخربة الَّتِي فِيهَا الأودية والدكادك. وَقَوله: {وجنات من أعناب} يَعْنِي: بساتين من أعناب. وَقَوله: {وَزرع ونخيل} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {صنْوَان وَغير صنْوَان} قرىء: " صنْوَان " بِالضَّمِّ: وَالْمَعْرُوف " صنْوَان " بِالْكَسْرِ، وَفِي الْآثَار المسندة عَن الْبَراء بن عَازِب - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الصنوان هُوَ النّخل الْمُجْتَمع، وَغير الصنوان هُوَ المتفرق، وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الصنوان هِيَ النخلات أَصْلهَا وَاحِد، وَغير صنْوَان هِيَ النَّخْلَة الْوَاحِدَة بأصلها. وَقَوله: {يسقى بِمَاء وَاحِد} المَاء جسم رَقِيق مَائِع يشرب، بِهِ حَيَاة كل نَام، قَالَ الله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ} وَفِي الْآيَة رد على أَصْحَاب الطبيعة، فَإِن المَاء وَاحِد، والهواء وَاحِد، وَالتُّرَاب وَاحِد، والحرارة وَاحِدَة، وَالثِّمَار مُخْتَلفَة فِي اللَّوْن والطعم، وَقلة الرّيع وَكَثْرَة الرّيع، والطبيعة وَاحِدَة يَسْتَحِيل أَن توجب شَيْئَيْنِ مُخْتَلفين؛ فَدلَّ هَذَا أَن الْجَمِيع من الله تَعَالَى. فِي جَامع أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي فِي قَوْله: {ونفضل

{وَإِن تعجب فَعجب قَوْلهم أئذا كُنَّا تُرَابا أئنا لفي خلق جَدِيد أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا برَبهمْ وَأُولَئِكَ الأغلال فِي أَعْنَاقهم وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (5) } بَعْضهَا على بعض فِي الْأكل) قَالَ: " هَذَا حُلْو وَهَذَا حامض، وَهَذَا دقل وَهَذَا فَارسي ". وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات} يَعْنِي: الدلالات {لقوم يعْقلُونَ} يفهمون. وأنشدوا فِي الصنوان: (الْعلم والحلم خلتا كرم ... للمرء زين إِذا هما اجْتمعَا) (صنْوَان لَا يستتم حسنهما ... إِلَّا بِجمع ذَا وَذَاكَ مَعًا) وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عَم الرجل صنو أَبِيه ". مَعْنَاهُ: أَنه وَأَبوهُ من أصل وَاحِد.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تعجب فَعجب قَوْلهم} الْعجب: تغير النَّفس بِرُؤْيَة المستبعد فِي الْعَادَات، وَالْخطاب للرسول وَمَعْنَاهُ: أَنَّك تعجب؛ فَعجب من إنكارهم النشأة الْآخِرَة مَعَ إقرارهم ابْتِدَاء الْخلق من الله، وَقد تقرر فِي الْقُلُوب أَن الْإِعَادَة أَهْون من الِابْتِدَاء؛ فَهَذَا مَوضِع التَّعَجُّب. وَفِي الْأَمْثَال: لَا خير فِيمَن لَا يتعجب من الْعجب، وأرذل مِنْهُ من يتعجب من غير عجب. وَقَوله: {أئذا كُنَّا تُرَابا أئنا لفي خلق جَدِيد} هَذَا هُوَ الْمَعْنى فِي إنكارهم الْبَعْث. وَقَوله: {أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا برَبهمْ} جَحَدُوا برَبهمْ. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ الأغلال فِي أَعْنَاقهم} الغل طوق تجمع بِهِ الْيَد إِلَى الْعُنُق وَهَذِه الأغلال من نَار. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

6

قَوْله تَعَالَى: {ويستعجلونك بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة} الاستعجال طلب تَعْجِيل الْأَمر قبل مَجِيء (وقته) ، وَقد كَانَ الله تَعَالَى أخر عُقُوبَة الاصطلام عَن الْمُشْركين

{ويستعجلونك بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة وَقد خلت من قبلهم المثلات وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم وَإِن رَبك لشديد الْعقَاب (6) وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه إِنَّمَا أَنْت مُنْذر وَلكُل قوم هاد (7) الله يعلم مَا تحمل كل أُنْثَى وَمَا تغيض} كَرَامَة للنَّبِي. والسيئة هَاهُنَا هِيَ الْعقُوبَة، والحسنة: الْعَافِيَة، وَمَعْنَاهُ: أَنهم يطْلبُونَ الْعقُوبَة بَدَلا من الْعَافِيَة، وَقد دلّ على هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} وَقَوله تَعَالَى: {سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع} . وَقَوله: {وَقد خلت من قبلهم المثلات} رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: المثلات الْأَمْثَال، وَالْأَكْثَرُونَ أَن المثلات الْعُقُوبَات، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " المثلات " بِفَتْح الْمِيم وَكسر التَّاء، وَحكي عَنهُ أَنه قَرَأَ: " المثلات " بِضَم الْمِيم وتسكين الثَّاء، والمعاني مُتَقَارِبَة. وَقَوله: {وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة للنَّاس على ظلمهم} مَعْنَاهُ: لذُو تجَاوز عَن النَّاس على ظلمهم {وَإِن رَبك لشديد الْعقَاب} وَفِي بعض المسانيد عَن سعيد بن الْمسيب " أَن النَّبِي قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة: لَوْلَا فضل الله وتجاوزه مَا هنىء أحد الْعَيْش، وَلَوْلَا وعيده وعقوبته لَا تكل كل أحد ".

7

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه} مَعْنَاهُ: لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة مِمَّا نقترحها، وَإِلَّا فالآيات قد كَانَت نازلة عَلَيْهِ. وَقَوله: {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر} مخوف أَو مبلغ للوحي بالإنذار. وَقَوله: {وَلكُل قوم هاد} فِيهِ أَقْوَال، الْأَكْثَرُونَ أَن مَعْنَاهُ: وَلكُل قوم نَبِي يَدعُوهُم إِلَى الله، وَالْقَوْل الثَّانِي: وَلكُل قوم هاد، يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَقيل: الْهَادِي هُوَ الله.

8

قَوْله تَعَالَى: {الله يعلم مَا تحمل كل أُنْثَى} مَعْنَاهُ: الله يعلم مَا تحمل كل أُنْثَى

{الْأَرْحَام وَمَا تزداد وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار (8) عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْكَبِير المتعال (9) سَوَاء مِنْكُم من أسر القَوْل وَمن جهر بِهِ وَمن هُوَ مستخف بِاللَّيْلِ وسارب بِالنَّهَارِ} من ذكر أَو أُنْثَى، أَو سوى الْخلق أَو غير سويه، أَو وَاحِد أَو اثْنَيْنِ أَو أَكثر. قَوْله: {وَمَا تغيض الْأَرْحَام وَمَا تزداد} الغيض هُوَ النُّقْصَان، هَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَغَيره، وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَ الْمَطَر قيظا، وَالْولد غيضا، وغاض الْكِرَام غيضا، وفاض اللئام فيضا " الْخَبَر. وَفِي غيض الْأَرْحَام وزيادتها ثَلَاثَة أَقْوَال: الأول: أَنه النُّقْصَان عَن سَبْعَة أشهر، وَالزِّيَادَة على تِسْعَة أشهر، وَالثَّانِي أَنه: النُّقْصَان بِإِسْقَاط السقط، وَالزِّيَادَة بِتمَام الْخلق، وَالثَّالِث: أَنه النُّقْصَان بِالْحيضِ على الْحمل، وَالزِّيَادَة بِعَدَمِ الْحيض على الْحمل؛ فَإِن الْوَلَد ينتقص إِذا أهراقت الْمَرْأَة الدَّم على الْحمل وتتم إِذا لم تهرق. وَعَن مَكْحُول أَنه قَالَ: دم الْحيض غذَاء الْوَلَد فِي الرَّحِم. وَقَوله: {وكل شَيْء عِنْده بِمِقْدَار} أَي: بِتَقْدِير.

9

وَقَوله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْكَبِير المتعال} يَعْنِي: المتعال عَمَّا يَقُوله الْمُشْركُونَ.

10

قَوْله تَعَالَى: {سَوَاء مِنْكُم من أسر القَوْل وَمن جهر بِهِ} الْآيَة مَعْنَاهُ: يَسْتَوِي فِي علم الله المسر بالْقَوْل والجاهر بِهِ. وَقَوله: {وَمن هُوَ مستخف بِاللَّيْلِ} أَي: مستتر بظلمة اللَّيْل وَقَوله: {وسارب بِالنَّهَارِ} أَي: ظَاهر ذَاهِب بِالنَّهَارِ، والسرب: الطَّرِيق، تَقول الْعَرَب: خل لَهُ سربه أَي:

((10) لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم) طَرِيقه، وَزعم بعض أهل الْمعَانِي أَن قَوْله: {وَمن هُوَ مستخف بِاللَّيْلِ} أَي: ظَاهر بِاللَّيْلِ، يُقَال: خفيت إِذا ظَهرت، وأخفيت إِذا كتمت، قَالَ الشَّاعِر: (خفاهن من أنفاقهن كَأَنَّمَا ... خفاهن ودق من سَحَاب مركب) وَقَوله: {وسارب بِالنَّهَارِ} أَي مستكن بِالنَّهَارِ، يُقَال: أسرب الْوَحْش إِذا استكن، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْأَصَح.

11

قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه} الْآيَة، فِي الْآيَة أَقْوَال، أظهرها: أَن المعقبات: الْمَلَائِكَة، والمعقبات المتداينات، يَعْنِي: يذهب بَعْضهَا وَيَأْتِي الْبَعْض فِي عَقبهَا، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: إِن لله مَلَائِكَة يتعاقبون بَيْنكُم، ويجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر فيعرج الَّذين باتوا فِيكُم؛ فَيَقُول الله لَهُم: كَيفَ تركْتُم عبَادي؟ فَيَقُولُونَ: أتيناهم وهم يصلونَ، وتركناهم وهم يصلونَ. القَوْل الثَّانِي هُوَ مَا رُوِيَ عَن عِكْرِمَة قَالَ: الْآيَة فِي الْأُمَرَاء وحرسهم. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن ابْن جريج أَنه قَالَ: الْآيَة فِي الَّذِي يقْعد عَن الْيَمين وَالشمَال يكْتب، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يتلَقَّى المتلقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد} . وَقَوله: {يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله} الْأَكْثَرُونَ على أَن قَوْله: {من أَمر الله} وَمَعْنَاهُ: أَنهم يَحْفَظُونَهُ بِإِذن الله، فَإِذا جَاءَ الْقدر خلوا بَينه وَبَينه، وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى يُوكل مَلَائِكَة بالنائم يَحْفَظُونَهُ من الْحَيّ والهوام فَإِذا قَصده شَيْء، قَالُوا: وَرَاءَك وَرَاءَك إِلَّا شَيْئا قدر أَن يُصِيبهُ.

{حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا فَلَا مرد لَهُ وَمَا لَهُم من دونه من وَال (11) هُوَ الَّذِي يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا وينشىء السَّحَاب الثقال (12) ويسبح الرَّعْد} وَرُوِيَ عَمْرو بن أبي جُنْدُب: كُنَّا عِنْد سعيد بن قيس الْهَمدَانِي، فجَاء عَليّ يتَوَكَّأ على عنزة لَهُ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أما تخَاف أَن يغتالك أحد؟ فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى قد وكل بِابْن آدم مَلَائِكَة يَحْفَظُونَهُ، فَإِذا جَاءَ الْقدر خلوا بَينه وَبَينه. وَفِي قَوْله: {من أَمر الله} قَول آخر، وَهُوَ أَنه على الْمَعْنى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَكَأن الله تَعَالَى قَالَ: لَهُ مُعَقِّبَات من أمره يَحْفَظُونَهُ من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه وَقيل: من أَمر الله: مِمَّا أَمر الله بِهِ من الْحِفْظ عَنهُ. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ ورقباء من خَلفه ". وقرى فِي الشاذ: " لَهُ معاقيب من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه ". وَقَوله: {إِن الله لَا يُغير مَا بِقوم} مَعْنَاهُ: لَا يُغير شَيْئا بِقوم من النِّعْمَة {حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} بالمعصية. وَقَوله: {وَإِذا أَرَادَ الله بِقوم سوءا} فِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة صَرِيحًا، وَمَعْنَاهُ: بلَاء وَعَذَابًا {فَلَا مرد لَهُ} أَي: لَا راد لَهُ. {وَمَا لَهُم من دونه من وَال} أَي: من ولي يمنعهُم وَيَنْصُرهُمْ، قَالَ الشَّاعِر: (مَا فِي السَّمَاء سوى الرَّحْمَن من وَال ... )

12

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا} الْبَرْق: نور مضىء شبه عَمُود من نَار من اتقاد السَّحَاب، وَالتَّفْسِير الْمَعْرُوف عَن السّلف أَن الْبَرْق مخاريق بأيدي الْمَلَائِكَة من نَار يسوقون بهَا السَّحَاب إِلَى حَيْثُ شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَوله {خوفًا وَطَمَعًا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا أَن الْخَوْف من الصاعقة، والطمع فِي نفع الْمَطَر. وَالثَّانِي: أَن الْخَوْف للْمُسَافِر، فَإِن عَادَة الْمُسَافِر أَن يتَأَذَّى بالمطر، والطمع للمقيم، لِأَن الْمُقِيم يَرْجُو الخصب بالمطر.

{بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة من خيفته وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء وهم يجادلون فِي} وَالثَّالِث: أَن الْخَوْف من الْمَطَر فِي غير إبانة، وَفِي غير مَكَانَهُ، والطمع إِذا كَانَ فِي إبانه ومكانه من الْبلدَانِ [فَمنهمْ] إِذا مُطِرُوا قحطوا، مثل مصر وَغَيره، وَإِذا لم يمطروا أخصبوا. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي " أَن الله تَعَالَى يَقُول: لَو أَن عبَادي أطاعوني أسقيتهم الْمَطَر بِاللَّيْلِ، وأطلعت عَلَيْهِم الشَّمْس بِالنَّهَارِ، وَلم أسمعهم صَوت الرَّعْد ". وَقَوله: {وينشىء السَّحَاب الثقال} يَعْنِي: الثقال بِالْمَاءِ، وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: السَّحَاب غربال السَّمَاء. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى خلق السَّحَاب كل سبع سِنِين مرّة.

13

وَقَوله: {ويسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ} أَكثر الْمُفَسّرين أَن الرَّعْد ملك، والمسموع من الصَّوْت تسبيحه، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن النَّبِي حِين سَأَلَهُ الْيَهُود عَن الرَّعْد، وَذكر فِيهِ أَن الصَّوْت هُوَ زَجره للسحاب، وَقد حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس وَعلي وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن. وَعَن قَتَادَة قَالَ: هَذَا عبد لله تَعَالَى سامع مُطِيع.

وَفِي الْآثَار: أَن الْإِنْسَان إِذا سمع الرَّعْد يَنْبَغِي أَن يَقُول: سُبْحَانَ من سبحت لَهُ. رُوِيَ هَذَا عَن ابْن الزبير وَغَيره، وَعَن عبد الله بن عَبَّاس قَالَ: من قَالَ إِذا سمع صَوت الرَّعْد: سُبْحَانَ من يسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَة من خيفته وَهُوَ على كل شَيْء قدير؛ فَإِن أَصَابَته صَاعِقَة فعلى دِيَته. وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ: الصاعقة تصيب الْمُسلم وَغير الْمُسلم وَلَا تصيب الذاكر. وَفِي الرَّعْد قَول آخر، وَهُوَ أَنه صَوت اصطكاك الأجرام العلوية. وَالصَّحِيح هُوَ الأول، وَقيل أَيْضا: إِن الرَّعْد نطق السَّحَاب، والبرق ضحكه. وَقَوله {وَالْمَلَائِكَة من خيفته} يَعْنِي: وتسبح الْمَلَائِكَة من خيفته. وَعَن ابْن عَبَّاس أَن لله تَعَالَى مَلَائِكَة يَبْكُونَ من خَشيته من يَوْم خلقهمْ، وملائكة فِي الرُّكُوع، وملائكة فِي السُّجُود، وملائكة فِي التَّسْبِيح لَا يشغلهم عَن ذَلِك شَيْء. وَقَوله: {وَيُرْسل الصَّوَاعِق فَيُصِيب بهَا من يَشَاء} الصاعقة: هِيَ الْعَذَاب المهلك، وَهِي تنزل من الْبَرْق فِي بعض الْأَحْوَال فتحرق مَا تصيبه، وَالْآيَة نزلت فِي شَأْن أَرْبَد بن ربيعَة حِين جَاءَ إِلَى النَّبِي فَقَالَ: مِم رَبك؟ أَمن در أَو ياقوت أَو من ذهب [أَو من فضَّة] ؟ فَنزلت صَاعِقَة من السَّمَاء فَأَحْرَقتهُ، ورثاه أَخُوهُ لبيد بن ربيعَة، فَقَالَ: (أخْشَى على أَرْبَد الحتوف وَلَا ... أرهب نوء السماك والأسد) (فجعني الْبَرْق وَالصَّوَاعِق بالفارس ... يَوْم الكريهة النجد) وَيُقَال: إِنَّه جَاءَ مَعَ عَامر بن طفيل، وَقصد الفتك بِالنَّبِيِّ فجفت يَده على قَائِمَة السَّيْف، فَلَمَّا خرج من عِنْد رَسُول الله أَصَابَته صَاعِقَة فِي يَوْم صحو قائظ، فَأَما عَامر فأصابته غُدَّة، وَمَات فِي بَيت سَلُولِيَّة، وَجعل يَقُول: أغدة كَغُدَّة الْبَعِير وَمَوْت فِي بَيت سَلُولِيَّة. وَرُوِيَ " أَن يَهُودِيّا أَتَى النَّبِي وَسَأَلَهُ: مِم رَبك؟ فَنزلت صَاعِقَة وأحرقته ".

{الله وَهُوَ شَدِيد الْمحَال (13) لَهُ دَعْوَة الْحق وَالَّذين يدعونَ من دونه لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء إِلَّا كباسط كفيه إِلَى المَاء ليبلغ فَاه وَمَا هُوَ ببالغه وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي} وَقَوله: {وهم يجادلون فِي الله} يَعْنِي: يُخَاصِمُونَ وَيَقُولُونَ فِي الله مَا لَا يعلمُونَ وَقيل: وهم يجادلون فِي الله: يكذبُون بعظمة الله. وَقَوله: {وَهُوَ شَدِيد الْمحَال} قَالَ ابْن عَبَّاس: شَدِيد الْحول، وَمِنْه قَوْله: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَقيل: شَدِيد الْمحَال شَدِيد الانتقام. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - شَدِيد الْأَخْذ. وَقيل: شَدِيد الإهلاك. وَقيل: شَدِيد الْمَكْر. وَقَالَ الشَّاعِر: (فرع نبع يَهْتَز فِي غُصْن الْمجد ... عَزِيز الندى شَدِيد الْمحَال) وقرىء فِي الشاذ: " شَدِيد الْمحَال " بِنصب الْمِيم.

14

قَوْله تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَة الْحق} هِيَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، هَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَقيل: دَعْوَة الْحق هُوَ الدُّعَاء بالإخلاص، وَالدُّعَاء بالإخلاص لَا يكون إِلَّا لله، أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ: { [فَادعوا] الله مُخلصين لَهُ الدّين} . قَوْله: {وَالَّذين يدعونَ من دونه} يَعْنِي: الْأَصْنَام {لَا يستجيبون لَهُم بِشَيْء} يَعْنِي: لَا يجيبون لَهُم شَيْئا. وَقَوله: {إِلَّا كباسط كفيه إِلَى المَاء} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه كالقابض على المَاء، وَمن قبض على المَاء لم يبْق فِي يَده شَيْء. قَالَ الشَّاعِر: (فَأَصْبَحت (فِيمَا) كَانَ بيني وَبَينهَا ... من الود مثل الْقَابِض المَاء بِالْيَدِ) وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْرُوف - أَن قَوْله: {كباسط كفيه إِلَى المَاء} يَعْنِي: كالعطشان المشير بكفه إِلَى المَاء، وَبَينه وَبَين المَاء مَسَافَة لَا يصل إِلَيْهِ؛ فَهُوَ يُشِير بكفه وَيَدْعُو بِلِسَانِهِ، وَلَا يصل إِلَيْهِ؛ فَكَذَلِك من يدع الْأَصْنَام بِدفع أَو نفع لَا يصل إِلَى شَيْء بدعائه. وَقَوله: {ليبلغ فَاه} يَعْنِي: ليناله فَاه {وَمَا هُوَ ببالغه} وَمَا هُوَ بنائله.

{ضلال (14) وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال (15) قل من رب السَّمَوَات وَالْأَرْض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أَوْلِيَاء لَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير أم هَل تستوي الظُّلُمَات} وَقَوله: {وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال} يَعْنِي: إِلَّا فِي خطأ وَبطلَان.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها} يَعْنِي: يسْجد من فِي السَّمَوَات طَوْعًا، وَيسْجد من فِي الأَرْض بَعضهم طَوْعًا وَبَعْضهمْ كرها. وَالسُّجُود هُوَ الخضوع بالتذلل، وَقيل: إِن سُجُود الْأَشْيَاء [هُوَ] تذللها وتسخيرها لما أُرِيد لَهُ وسخر لَهُ. وَقَوله: {وظلالهم} قَالُوا: ظلّ الْكَافِر يسْجد طَوْعًا، وَالْكَافِر يسْجد كرها، وظل الْمُؤمن يسْجد طَوْعًا، وَكَذَا الْمُؤمن يسْجد طَوْعًا، هَذَا هُوَ القَوْل الْمَنْقُول عَن السّلف. وَقيل: إِن سُجُود الظل هُوَ تسخيره وتذليله لما أُرِيد لَهُ. وَقيل: إِن معنى قَوْله: {وظلالهم} أشخاصهم {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} بالبكر والعشايا.

16

قَوْله تَعَالَى: {قل من رب السَّمَوَات وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: قل يَا مُحَمَّد: من رب السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ ثمَّ أمره بالإجابة، وَقَالَ: {قل الله} وَرُوِيَ أَنه إِنَّمَا قَالَ هَذَا للْمُشْرِكين، عطفوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: أجب أَنْت، فَأمره الله، وَقَالَ: {قل الله} وَإِنَّمَا صحت هَذِه الْإِجَابَة مَعَهم؛ لأَنهم كَانُوا يقرونَ أَن الله خالقهم وخالق السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {قل أفاتخذتم من دونه أَوْلِيَاء} مَعْنَاهُ: أَنكُمْ مَعَ إقراركم أَن الله خالقكم وخالق السَّمَوَات وَالْأَرْض اتخذتم من دونه أَوْلِيَاء يَعْنِي: الْأَصْنَام. {لَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا} يَعْنِي: أَنهم عجزة، فَإِذا لم يملكُوا لأَنْفُسِهِمْ نفعا وَلَا ضرا، فَكيف يملكُونَ لكم؟ . وَقَوله: {قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} ضرب مثلا لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر وَالْإِيمَان وَالْكفْر؛ فَقَالَ: ( {قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} أم هَل تستوي الظُّلُمَات

{والنور أم جعلُوا لله شُرَكَاء خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم قل الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ الْوَاحِد القهار (16) أنزل من السَّمَاء مَاء فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار ابْتِغَاء حلية أَو مَتَاع زبد مثله كَذَلِك يضْرب الله} والنور) أَي: كَمَا لَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير والظالمات والنور؛ فَكَذَلِك لَا يَسْتَوِي الْمُؤمن وَالْكَافِر وَالْإِيمَان وَالْكفْر. وَقَوله: {أم جعلُوا لله شُرَكَاء} يَعْنِي: أجعلوا لله شُرَكَاء {خلقُوا كخلقه فتشابه الْخلق عَلَيْهِم} أَي: اشْتبهَ مَا خلقوه بِمَا خلقه الله، وَمعنى الْآيَة: أَنهم كَمَا عرفُوا أَن الْأَصْنَام لَا تخلق كخلق الله؛ فَلَا يَنْبَغِي أَن تعبد كعبادة الله. وَقَوله: {قل الله خَالق كل شَيْء} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله {وَهُوَ الْوَاحِد القهار} الْوَاحِد: هُوَ الشَّيْء الَّذِي لَا يَنْقَسِم، وَقد يكون شَيْئَيْنِ لَا يَنْقَسِم فِي معنى، وَيُسمى وَاحِد، مثل قَوْلهم: دِينَار وَاحِد؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِم فِي الدينارية. والقهار: الْغَالِب الَّذِي لَا يغلبه شَيْء، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " سُبْحَانَ من تعزز بقدرته وقهر عباده بِالْمَوْتِ ".

17

قَوْله تَعَالَى: {أنزل من السَّمَاء مَاء} هَذَا مثل ضربه الله فِي الْقُرْآن، وَضرب الأودية مثلا للقلوب، فَقَوله: {أنزل من السَّمَاء مَاء} أَي: مَطَرا {فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا} قرئَ: " بِقَدرِهَا "، قَرَأَهَا أَبُو الْأَشْهب الْعقيلِيّ، وَالْمعْنَى: بِقَدرِهَا من الصغر وَالْكبر، وَكَذَلِكَ الْقُلُوب تحمل الْقُرْآن بِقَدرِهَا من الضّيق وَالسعَة. وَقَوله: {فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا} الزّبد: هُوَ الْخبث الَّذِي يظْهر على وَجه المَاء، وَكَذَلِكَ على وَجه الْقدر، وَكَذَلِكَ على فَم الْبَعِير. وَقَوله: {رابيا} أَي: طافيا عَالِيا تمّ الْمثل الأول هَاهُنَا. ثمَّ ذكر مثلا ثَانِيًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار} وَمن الَّذِي توقدون عَلَيْهِ، الإيقاد: جعل النَّار تَحت الشَّيْء ليذوب. وَقَوله: {ابْتِغَاء حلية} مَعْنَاهُ: لطلب الْحِلْية، وَالَّذِي أوقد عَلَيْهِ هَاهُنَا هُوَ الذَّهَب وَالْفِضَّة؛ لِأَن الْحِلْية تطلب مِنْهُمَا. وَقَوله: {أَو مَتَاع} مَعْنَاهُ: أَو طلب مَتَاع، وَذَلِكَ من الصفر والنحاس وَغَيره يُوقد عَلَيْهَا، وَالْمَتَاع: هُوَ الْأَوَانِي المتخذة من هَذِه الْأَشْيَاء.

{الْحق وَالْبَاطِل فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث فِي الأَرْض كَذَلِك يضْرب الله الْأَمْثَال (17) للَّذين اسْتَجَابُوا لرَبهم الْحسنى وَالَّذين لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ أُولَئِكَ لَهُم سوء الْحساب ومأواهم} وَقَوله: {زبد مثله} أَي: زبد مثل زبد المَاء {كَذَلِك يضْرب الله الْحق وَالْبَاطِل} أَي: كَذَلِك يبين الله الْحق وَالْبَاطِل بِضَرْب الْمثل، ثمَّ قَالَ: {فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء} يَعْنِي ضائعا بَاطِلا، يُقَال: أجفأت الْقدر، إِذا زبدت من جوانبها، وَذهب الزّبد. وَذكر أَبُو زيد اللّغَوِيّ أَن رؤبة بن العجاج قَرَأَ: " فَأَما الزّبد فَيذْهب جفالا " وَالْمعْنَى قريب من الأول. وَقَوله: {وَأما مَا ينفع النَّاس فيمكث} يَعْنِي: المَاء وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والرصاص والصفر والنحاس. قَوْله: {فيمكث فِي الأَرْض} أَي: يبْقى وَلَا يذهب. وَقَوله {كَذَلِك يضْرب الله الْأَمْثَال} جعل هَذَا مثلا للحق وَالْبَاطِل فِي الْقُلُوب، يَعْنِي: أَن الْبَاطِل كالزبد يذهب ويضيع وَيهْلك، وَالْحق كَالْمَاءِ وكهذه الْأَشْيَاء يمْكث وَيبقى فِي الْقُلُوب، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا تَسْلِيَة للْمُؤْمِنين، يَعْنِي أَن أَمر الْمُشْركين كَذَلِك الزّبد، يرى فِي الصُّورَة شَيْئا ثَابتا وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَة. وَأمر الْمُؤمنِينَ كَالْمَاءِ المستقر فِي مَكَانَهُ، فَلهُ الثَّبَات والبقاء، يُقَال: للباطل جَوْلَة، وللحق دولة.

18

قَوْله تَعَالَى: {للَّذين اسْتَجَابُوا لرَبهم الْحسنى} الْآيَة، قد بَينا أَن الاستجابة والإجابة بِمَعْنى وَاحِد. وَقَوله: {الْحسنى} الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا الْجنَّة، وَقيل: هُوَ الرزق والعافية فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيم فِي الْآخِرَة، وَالْحُسْنَى فعلى من الْحسن. وَقَوله: {وَالَّذين لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أَي: لم يجيبوا لَهُ. وَقَوله: {لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ} يَعْنِي: لبذلوا ذَلِك افتداء من النَّار. وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم سوء الْحساب} رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ لفرقد: يَا فريقد، أَتَدْرِي مَا سوء الْحساب؟ هُوَ أَن يُحَاسب على جَمِيع الذُّنُوب وَلَا يغْفر مِنْهَا شَيْئا. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " من نُوقِشَ الْحساب

{جَهَنَّم وَبئسَ المهاد (18) أَفَمَن يعلم أَنما أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق كمن هُوَ أعمى إِنَّمَا يتَذَكَّر أولُوا الْأَلْبَاب (19) الَّذين يُوفونَ بِعَهْد الله وَلَا ينقضون الْمِيثَاق (20) وَالَّذين يصلونَ مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل ويخشون رَبهم وَيَخَافُونَ سوء الْحساب (21) وَالَّذين صَبَرُوا ابْتِغَاء وَجه رَبهم وَأَقَامُوا الصَّلَاة وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة} عذب " وَفِي رِوَايَة " هلك " وَقيل: إِن سوء الْحساب هُوَ أَن لَا يقبل حَسَنَة، وَلَا يعْفُو عَن سَيِّئَة. وَقَوله: {ومأواهم جَهَنَّم} أَي: مستقرهم جَهَنَّم. وَقَوله: {وَبئسَ المهاد} أَي: بئس مَا مهدوا لأَنْفُسِهِمْ أَي: بئس مَا مهد لَهُم.

19

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن يعلم أَنما أنزل إِلَيْك من رَبك الْحق كمن هُوَ أعمى} نزلت الْآيَة فِي حَمْزَة بن عبد الْمطلب وَأبي جهل بن هِشَام، فَالْأول حَمْزَة وَالثَّانِي أَبُو جهل، وَقيل: فِي عمار بن يَاسر وَأبي جهل. وَقَوله: {إِنَّمَا يتَذَكَّر أولو الْأَلْبَاب} أَي: يتعظ أولو الْأَلْبَاب، وَمعنى الْآيَة: أَن من يبصر الْحق ويتبعه، وَمن لَا يبصر الْحق وَلَا يتبعهُ لَا يستويان أبدا.

20

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يُوفونَ بِعَهْد الله} ظَاهر الْمَعْنى، وَقيل: عهد الله تَعَالَى مَا أَخذه الله تَعَالَى من الْعَهْد على ذُرِّيَّة آدم حِين أَخذهم من صلبه. وَقَوله: {وَلَا ينقضون الْمِيثَاق} هُوَ تَحْقِيق الْوَفَاء السَّابِق.

21

وَقَوله: {وَالَّذين يصلونَ مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل} يَعْنِي: يُؤمنُونَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاء، وَقيل: يصلونَ الرَّحِم وَلَا يقطعونه. وَقَوله: {ويخشون رَبهم} أَي: يخَافُونَ رَبهم {وَيَخَافُونَ سوء الْحساب} أَي: يرهبون سوء الْحساب، وَسُوء الْحساب قد بَينا.

22

وَقَوله: {وَالَّذين صَبَرُوا ابْتِغَاء وَجه رَبهم} يَعْنِي: صَبَرُوا على أَمر الله [طلبا لرضا] رَبهم، وَقيل: صَبَرُوا على الْفقر، وعَلى المصائب والبلايا، وَقيل: صَبَرُوا عَن

{ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة أُولَئِكَ لَهُم عُقبى الدَّار (22) جنَّات عدن يدْخلُونَهَا وَمن صلح من آبَائِهِم وأزواجهم وذرياتهم وَالْمَلَائِكَة يدْخلُونَ عَلَيْهِم من كل بَاب (23) } الْمعاصِي وَقيل: صَبَرُوا عَن شهوات الدُّنْيَا ولذاتها. وَقَوله: {يدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة} يَعْنِي: يدْفَعُونَ السَّيئَة بِالْحَسَنَة، وَهُوَ معنى قَوْله: {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} وَمعنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا عملت سَيِّئَة فاعمل بجنبها حَسَنَة تمحها ". وَفِي الْآيَة قَول آخر وَهُوَ أَن السَّيئَة: الذَّنب. والحسنة: التَّوْبَة. وَمَعْنَاهُ: يدْفَعُونَ الذَّنب بِالتَّوْبَةِ وَفِي الْخَبَر: " مَا من شَيْء أدْرك لشَيْء من تَوْبَة حَدِيثَة لذنب قديم ". قَوْله: {أُولَئِكَ لَهُم عُقبى الدَّار} أَي: الْجنَّة، وَمَعْنَاهُ: لَهُم عَاقِبَة دَار الثَّوَاب.

23

قَوْله: {جنَّات عدن يدْخلُونَهَا} أَي: بساتين [للإقامة] . وَقَوله: {يدْخلُونَهَا} مَعْنَاهُ مَعْلُوم. وَقَوله: {وَمن صلح من آبَائِهِم} أَي: ويدخلها من صلح من آبَائِهِم {وأزواجهم وذرياتهم} وَفِي الْخَبَر: أَن الْمُؤمن يدْخل الْجنَّة، فَيرى ذُريَّته فِيهَا، فَيَقُول: مَتى دَخَلْتُم فِيهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَحن مُنْذُ قديم ننتظرك، وَالله أعلم. وَقَوله: {وَالْمَلَائِكَة يدْخلُونَ عَلَيْهِم من كل بَاب} يَعْنِي: من أَبْوَاب الْجنَّة، وَقيل: من أَبْوَاب الْقُصُور.

24

وَقَوله: {سَلام عَلَيْكُم} يَعْنِي: يسلمُونَ عَلَيْهِم سَلاما، وَقيل: يَقُولُونَ: قد سلمكم الله من الْآفَات الَّتِي كُنْتُم تخافونه مِنْهَا، وَفِي الْآثَار أَنهم - يَعْنِي: الْمَلَائِكَة - يأْتونَ بالتحف والهدايا من الله تَعَالَى بِقدر كل يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا [ثَلَاث] عشرَة مرّة. وَقَوله: {بِمَا صَبَرْتُمْ} قد بَينا. وَقَوله: {فَنعم عُقبى الدَّار} أَي: نعم عَاقِبَة الدَّار.

{سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعم عُقبى الدَّار (24) وَالَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَو يُوصل ويفسدون فِي الأَرْض أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة وَلَهُم سوء الدَّار (25) الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع (26) وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه قل إِن}

25

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} ظَاهر، وَهَذَا وَارِد فِي الْكفَّار. وَقَوله تَعَالَى: {ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل} يَعْنِي: يُؤمنُونَ بِبَعْض الْأَنْبِيَاء، ويكفرون بِالْبَعْضِ، وَقيل: يقطعون الرَّحِم. وَقَوله: {ويفسدون فِي الأَرْض} يَعْنِي: يعْملُونَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي. وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم اللَّعْنَة} أَي: الْبعد من رَحْمَة الله. وَقَوله: {وَلَهُم سوء الدَّار} أَي: سوء المنقلب لِأَن المنقلب: مُنْقَلب النَّاس إِلَى الدَّار.

26

قَوْله: {الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} يَعْنِي: يُوسع على من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء. وَقَوله: {وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْفَرح: لَذَّة فِي الْقلب بنيل المشتهى، وَهَذَا دَلِيل على أَن الْفَرح بالدنيا حرَام مَنْهِيّ عَنهُ. قَوْله: {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع} يَعْنِي: إِلَّا قَلِيل، وَيُقَال: كمتاع الرَّاكِب، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يَجْعَل أحدكُم أُصْبُعه فِي اليم فَلْينْظر بِمَ يرجع ".

27

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَقُول الَّذين كفرُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه} يعنون الْآيَة المقترحة؛ فَإِن قَالَ قَائِل: لم لَا يجوز أَن يُجِيبهُمْ إِلَى الْآيَة المقترحة، ولعلها تكون سَببا لإيمانهم؟ وَالْجَوَاب: أَن الْآيَة المقترحة لَا نِهَايَة لَهَا، وَإِن وَجب فِي الْمصلحَة أَن يُجيب وَاحِدًا، وَجب أَن يُجيب آخر، إِلَى مَا يتناهى. وَقَوله: {قل إِن الله يضل من يَشَاء} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَيهْدِي إِلَيْهِ من أناب} مَعْنَاهُ: وَيهْدِي إِلَيْهِ من يَشَاء بالإنابة، وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة، وَالله الْهَادِي إِلَى الصَّوَاب بمنه.

{الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من أناب (27) الَّذين آمنُوا وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب (28) الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات طُوبَى لَهُم وَحسن}

28

وَقَوله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله} أَي: تسكن قُلُوبهم بِذكر الله، وَقيل: تستأنس قُلُوبهم بِذكر الله، والسكون بِالْيَقِينِ، وَالِاضْطِرَاب بِالشَّكِّ، قَالَ الله تَعَالَى فِي شَأْن الْمُشْركين: {إِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} أَي: اضْطَرَبَتْ، وَقَالَ فِي الْمُؤمنِينَ {الَّذين آمنُوا وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله} . وَقَوله: {أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب} مَعْنَاهُ: أَلا بِذكر الله تسكن الْقُلُوب، وطمأنينة الْقلب بِزَوَال الشَّك مِنْهُ واستقرار الْيَقِين فِيهِ، فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ الله تَعَالَى قَالَ: {وجلت قُلُوبهم} فَكيف توجل وتطمئن فِي حَالَة وَاحِدَة؟ وَالْجَوَاب: أَن الوجل بِذكر الْوَعيد وَالْعِقَاب، والطمأنينة بِذكر الْوَعْد وَالثَّوَاب، فَكَأَنَّهَا توجل إِذا ذكر عدل الله وَشدَّة حسابه، وتطمئن إِذا ذكر فضل الله وَكَرمه.

29

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} مَعْنَاهُ: وَعمِلُوا الطَّاعَات. وَقَوله: {طُوبَى لَهُم} فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي أُمَامَة وَأبي الدَّرْدَاء وَعَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة الْكَلْبِيّ أَنهم قَالُوا: طُوبَى شَجَرَة فِي الْجنَّة تظلل الْجنان كلهَا. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن أَصْلهَا فِي منزل النَّبِي وقصره، وَفِي كل قصر من قُصُور الْجنَّة غُصْن مِنْهَا، وَعَلَيْهَا من جَمِيع أَنْوَاع الثَّمر، وَتَقَع عَلَيْهَا طيور كالبخت إِذا رَآهَا الْمُؤمن واشتهى مِنْهَا سَقَطت بَين يَدَيْهِ، فيأكل مِنْهَا مَا شَاءَ ثمَّ تطير، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن رجلا لَو ركب حَقًا أَو جذعا، وَجعل يطوف بأصلها لقَتله الْهَرم، وَلم يبلغ إِلَى الْموضع الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن طُوبَى اسْم الْجنَّة، قَالَ مُجَاهِد: هِيَ اسْم الْجنَّة بالحبشية. وَعَن عِكْرِمَة: طُوبَى لَهُم أَي نعماء لَهُم، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أَي خير وكرامة لَهُم، وَعَن

{مئاب (29) كَذَلِك أَرْسَلْنَاك فِي أمة قد خلت من قبلهَا أُمَم لتتلو عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وهم يكفرون بالرحمن قل هُوَ رَبِّي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ متاب (30) } الضَّحَّاك: طُوبَى لَهُم أَي: غِبْطَة لَهُم. والأقوال مُتَقَارِبَة فِي الْمَعْنى، قَالَ الزّجاج: طُوبَى فعلى من الطّيب، وَمَعْنَاهَا: الْعَيْش الطّيب لَهُم. وَقَوله: {وَحسن مآب} أَي: حسن مُنْقَلب.

30

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك أَرْسَلْنَاك فِي أمة} الْآيَة. معنى كَاف التَّشْبِيه هَاهُنَا: إِنَّا كَمَا أرسلنَا الْأَنْبِيَاء إِلَى سَائِر الْأُمَم؛ كَذَلِك أَرْسَلْنَاك إِلَى هَذِه الْأمة. قَوْله: {قد خلت من قبلهَا أُمَم} أَي: قد مَضَت من قبلهَا أُمَم. قَوْله: {لتتلوا عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} أَي. لتقرأ عَلَيْهِم الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك. وَقَوله: {وهم يكفرون بالرحمن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قَالَ ابْن جريج: الْآيَة مَدَنِيَّة فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة فَإِن سُهَيْل بن عَمْرو لما جَاءَ وَاتَّفَقُوا على أَن يكتبوا كتاب الصُّلْح، كتب عَليّ رَضِي الله عَنهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَقَالُوا: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن، اكْتُبْ كَمَا نكتب نَحن: بِاسْمِك اللَّهُمَّ ... الْقِصَّة، فَهَذَا معنى قَوْله: {وهم يكفرون بالرحمن} . وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْرُوف - أَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَسبب نُزُولهَا أَن أَبَا جهل سمع النَّبِي وَهُوَ فِي الْحجر يَدْعُو وَيَقُول: " يَا الله، يَا رَحْمَن ". فَرجع إِلَى الْمُشْركين، وَقَالَ: إِن مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَهَيْنِ يَدْعُو الله، وَيَدْعُو آخر يُسمى الرَّحْمَن وَلَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا رَحْمَن الْيَمَامَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأنزل أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن} . وَقَوله: {قل هُوَ رَبِّي} يَعْنِي قل: الرَّحْمَن رَبِّي {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ توكلت} عَلَيْهِ اعتمدت وَبِه وثقت {وَإِلَيْهِ متاب} يَعْنِي: وَإِلَيْهِ التَّوْبَة، وَالتَّوْبَة هِيَ النَّدَم على مَا سلف من الجرائم مَعَ الإقلاع عَنْهَا فِي الْمُسْتَقْبل.

{وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال أَو قطعت بِهِ الأَرْض أَو كلم بِهِ الْمَوْتَى بل لله الْأَمر جَمِيعًا أفلم ييئس الَّذين آمنُوا أَن لَو يَشَاء الله لهدى النَّاس جَمِيعًا وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا}

31

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال} رُوِيَ أَن الْمُشْركين قَالُوا لرَسُول الله: سل رَبك أَن يسير هَذِه الْجبَال الَّتِي بِمَكَّة فتتسع أَرْضنَا ونتخذ فِيهَا الْمزَارِع، وسل رَبك أَن يقرب إِلَيْنَا الشَّام، فَإِن إِلَيْهِ متاجرنا وَقد أبعد عَنَّا، وَقَالُوا أَيْضا: سل رَبك أَن يخرج لنا الْأَنْهَار ويشق الْعُيُون فِي الأَرْض لنغرس الْأَشْجَار، ونتخذ الْبَسَاتِين، وسل رَبك أَن يبْعَث لنا جمَاعَة من الْمَوْتَى فنسألهم عَن أَمرك، وأحى لنا قصيا؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا مُبَارَكًا حَتَّى نَسْأَلهُ عَن أَمرك. وَفِي بعض الرِّوَايَات أَنهم قَالُوا: سل رَبك بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزل عَلَيْك أَن يفعل هَذَا فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال} مَعْنَاهُ: وَلَو قضيت أَن أَسِير الْجبَال بِكِتَاب أَو أقطع الأَرْض بِهِ أَو أحيي بِهِ الْمَوْتَى لفَعَلت بِهَذَا الْقُرْآن. فَإِن قيل: هَذَا الْجَواب الَّذِي تَقولُونَ غير مَذْكُور فِي الْقُرْآن، وَهَذَا زِيَادَة؟ الْجَواب عَنهُ، أَن الْجَواب مَحْذُوف، وَالْعرب تفعل مثل هَذَا، قَالَ الشَّاعِر: (فَلَو أَنَّهَا نفس تَمُوت سوية ... وَلكنهَا نفس تساقط أنفسا) وَمَعْنَاهُ: وَلَو أَنَّهَا نفس وَاحِدَة لتسليت بهَا، وَلكنهَا أنفس كَثِيرَة. وَذكر الْفراء أَن الْجَواب هُوَ: {وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال أَو قطعت بِهِ الأَرْض أَو كلم بِهِ الْمَوْتَى} لم يُؤمنُوا؛ لما سبق فِي علمنَا من تَركهم الْإِيمَان. مَعْنَاهُ: أَنا لَو فعلنَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزل إِلَيْك مَا سَأَلُوا، لم يُؤمنُوا أَيْضا. وَقَوله: {بل لله الْأَمر جَمِيعًا} مَعْنَاهُ: بل لله الْأَمر جَمِيعًا فِي هَذِه الْأَشْيَاء؛ إِن شَاءَ فعلهَا وَإِن شَاءَ لم يَفْعَلهَا. وَقَوله: {أفلم ييئس الَّذين آمنُوا} أَكثر أهل الْمعَانِي على أَن مَعْنَاهُ: أفلم يعلم الَّذين آمنُوا، وَفِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس هَكَذَا: " أفلم يتَبَيَّن للَّذين آمنُوا " وَقد ورد هَذَا اللَّفْظ بِمَعْنى الْعلم فِي لُغَة الْعَرَب، قَالَ الشَّاعِر:

{تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة أَو تحل قَرِيبا من دَارهم حَتَّى يَأْتِي وعد الله إِن الله لَا يخلف الميعاد (31) وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للَّذين كفرُوا ثمَّ أخذتهم فَكيف} (أَقُول لَهُم بِالشعبِ إِذْ يأسرونني ... ألم تيئسوا أَنِّي ابْن فَارس زَهْدَم) وَقَالَ آخر: (ألم ييئس الْأَبْطَال أَنِّي أَنا ابْنه ... وَإِن كنت عَن أَرض الْعَشِيرَة تائيا) وَأنكر الْكسَائي أَن يكون هَذَا بِمَعْنى الْعلم، وَقَالَ: إِن الْعَرَب لَا تعرف الْيَأْس بِمَعْنى الْعلم، قَالَ: وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما سمعُوا هَذَا من الْمُشْركين طمعوا فِي أَن يفعل الله مَا سَأَلُوا ويؤمنوا؛ فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة: {أفلم ييئس الَّذين آمنُوا} يَعْنِي: من الصَّحَابَة من إِيمَان هَؤُلَاءِ الْقَوْم، وكل من علم شَيْئا فقد يئس عَن خِلَافه وضده، وَبَعْضهمْ قَالَ مَعْنَاهُ: أفلم يعلم الَّذين آمنُوا من حَال هَؤُلَاءِ الْكفَّار علما يُوجب يأسهم عَن إِيمَانهم، وَقَوله: {أَن لَو يَشَاء الله لهدى النَّاس جَمِيعًا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} أَي نازلة وبلية، وَقيل: إِن القارعة هَاهُنَا: سَرَايَا رَسُول الله {أَو تحل قَرِيبا من دَارهم} يَعْنِي: أَو تحل السّريَّة قَرِيبا من دَارهم، وَقيل: أَو تنزل أَنْت قَرِيبا من دَارهم. {حَتَّى يَأْتِي وعد الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يَوْم بدر. وَقَوله: {إِن الله لَا يخلف الميعاد} ظَاهر الْمَعْنى.

32

قَوْله: {وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك} الِاسْتِهْزَاء: طلب الهزء، وَقد كَانَ الْكفَّار يسْأَلُون هَذِه الْأَشْيَاء عَن طَرِيق الِاسْتِهْزَاء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة تَسْلِيَة للنَّبِي، مَعْنَاهُ: وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك يَعْنِي: كَمَا استهزءوا بك، فقد استهزئ برسل من قبلك. {فأمليت للَّذين كفرُوا} مَعْنَاهُ: فأمهلت وأطلت الْمدَّة لَهُم، وَمِنْه الملوان وَهُوَ اللَّيْل وَالنَّهَار. وَقَوله: {ثمَّ أخذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب} مَعْنَاهُ: ثمَّ أخذتهم فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، وَفِي الْآخِرَة بالنَّار فَكيف كَانَ [عقابي] لَهُم.

{كَانَ عِقَاب (32) أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت وَجعلُوا لله شُرَكَاء قل سموهم أم تنبئونه بِمَا لَا يعلم فِي الأَرْض أم بِظَاهِر من القَوْل بل زين للَّذين كفرُوا مَكْرهمْ وصدوا عَن السَّبِيل وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (33) لَهُم عَذَاب فِي الْحَيَاة}

33

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت} أَكثر الْمُفَسّرين أَن قَوْله: {أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت} هُوَ الله، وَالله تَعَالَى لَا يجوز أَن يُسمى قَائِما على الْإِطْلَاق؛ لِأَن الشَّرْع لم يرد بِهِ، وَلِأَن الْقَائِم هُوَ المنتصب، وَيجوز أَن يُوصف بِالْقيامِ على التَّقْيِيد، وَهُوَ أَنه قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت، وَمعنى قَوْله: {قَائِم على كل نفس} : أَنه الْمُتَوَلِي لأحوالها وأعمالها وأرزاقها، وَغير ذَلِك، وَكَذَلِكَ هُوَ الْمُتَوَلِي للمجازاة بكسب الْخَيْر وَالشَّر. وَقَالَ بَعضهم: معنى قَوْله: {أَفَمَن هُوَ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت} أَي: عَالم بكسب كل نفس، قَالَ الشَّاعِر: (فلولا رجال من قُرَيْش أعزة ... سرقتم ثِيَاب الْبَيْت وَالله قَائِم) أَي: عَالم. وَقَوله: {أَفَمَن} مَعْنَاهُ: أَفَمَن كَانَ هَكَذَا كمن لَيْسَ بِهَذَا الْوَصْف. وَقَوله: {وَجعلُوا لله شُرَكَاء} أَي: وصفوا لله شُرَكَاء، وَقَوله: {قل سموهم} مَعْنَاهُ: قل صفوهم بِالصِّفَاتِ الَّتِي هِيَ مُسْتَحقَّة لَهَا، ثمَّ انْظُرُوا هَل هِيَ أهل أَن تعبد أَو لَا؟ قَوْله: {أم تنبئونه بِمَا لَا يعلم فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: أم أَنْتُم تنبئون الله بِمَا لَا يعلم. يَعْنِي: تذكرُونَ لَهُ شَرِيكا وإلها آخر، وَهُوَ لَا يُعلمهُ. وَقَوله: {أم بِظَاهِر من القَوْل} يَعْنِي أم تتعلقون بِظَاهِر من القَوْل لَا معنى لَهُ، شبه المتجاهل الَّذِي لَا يطْلب حَقِيقَة الْأَمر، وَقيل: بِظَاهِر من القَوْل بباطل من القَوْل: قَالَ الشَّاعِر: (وعيرني الواشون أَنِّي أحبها ... وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها) أَي: زائل، وَحكي أَن عبد الله بن الزبير أنْشد هَذَا حِين قيل لَهُ: يَا ابْن ذَات النطاقين، وَقصد الْقَائِل تَعْبِيره وذمه؛ فَقَالَ عبد الله بن الزبير: (وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها ... ) . قَوْله: {بل زين للَّذين كفرُوا مَكْرهمْ} أَي: كفرهم. وَقَوله: {وصدوا عَن السَّبِيل} وَقُرِئَ: " وصدوا " بِرَفْع الصَّاد، أَي: فعل بهم ذَلِك. وَقَوله: {وصدوا}

{الدُّنْيَا ولعذاب الْآخِرَة أشق وَمَا لَهُم من الله من واق (34) مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار أكلهَا دَائِم وظلها تِلْكَ عُقبى الَّذين اتَّقوا وعقبى الْكَافرين النَّار (35) وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون بِمَا أنزل إِلَيْك وَمن الْأَحْزَاب من} مَعْنَاهُ: فعلوا هم ذَلِك، وَقَوله: {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} ظَاهر الْمَعْنى.

34

وَقَوله: {لَهُم عَذَاب فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} قد بَينا الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا. {ولعذاب الْآخِرَة أشق} يَعْنِي: أَشد. وَقَوله: {وَمَا لَهُم من الله من واق} أَي: من يقي.

35

وَقَوله: {مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون} قرئَ فِي الشاذ: " أَمْثَال الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون " [و] الْمَعْرُوف: {مثل الْجنَّة} وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: صفة الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون، وَالْقَوْل الثَّانِي: مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون جنَّة {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار أكلهَا دَائِم} أَي: لَا يَنْقَطِع ثَمَرهَا وَنَعِيمهَا. فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ هَاهُنَا: {أكلهَا دَائِم} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا} فَكيف التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ الْجَواب: أَن الدَّوَام بِمَعْنى عدم الِانْقِطَاع، فَإِذا لم يَنْقَطِع ورزقوا بكرَة وعشيا، فَهُوَ دَائِم. وَقَوله: {وظلها} هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وظل مَمْدُود} . وَفِي الْأَخْبَار: " أَن ظلّ شَجَرَة وَاحِدَة فِي الْجنَّة يسير الرَّاكِب فِيهَا مائَة عَام لَا يقطعهُ ". وَقَوله تَعَالَى: {تِلْكَ عُقبى الَّذين اتَّقوا} مَعْنَاهُ: تِلْكَ عَاقِبَة الَّذين اتَّقوا. وَقَوله: {وعقبى الْكَافرين النَّار} أَي: عَاقِبَة الْكَافرين النَّار.

{يُنكر بعضه قل إِنَّمَا أمرت أَن أعبد الله وَلَا أشرك بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مئاب (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد مَا جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولي وَلَا واق (37) وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك وَجَعَلنَا لَهُم أَزْوَاجًا وذرية وَمَا كَانَ}

36

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون بِمَا أنزل إِلَيْك} الْآيَة. رُوِيَ أَن [الْيَهُود] الَّذين أَسْلمُوا كَانُوا يستقلون ذكر الرَّحْمَن فِي الْقُرْآن مَعَ كَثْرَة ذكره فِي التَّوْرَاة، فَلَمَّا كرر الله ذكر الرَّحْمَن فِي الْقُرْآن فرحوا فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يفرحون} الْآيَة. وَقَوله: {وَمن الْأَحْزَاب من يُنكر بعضه} الْأَحْزَاب: هم الَّذين تحزبوا على النَّبِي. وَقَوله: {من يُنكر بعضه} يَعْنِي: ذكر الرَّحْمَن؛ لأَنهم كَانُوا لَا يُنكرُونَ ذكر الله، وَقَوله: {قل إِنَّمَا أمرت أَن أعبد الله وَلَا أشرك بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مآب} ظَاهر الْمَعْنى.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حكما عَرَبيا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قُرْآنًا عَرَبيا؛ لِأَن فِيهِ الْأَحْكَام، وَالْآخر نَبيا عَرَبيا؛ لِأَن النَّبِي كَانَ مِنْهُم، وَالْقُرْآن نزل بلغتهم. وَقَوله: {وَلَئِن اتبعت أهواءهم} الْهوى: ميل الطَّبْع لشَهْوَة النَّفس. وَأَكْثَره مَذْمُوم. قَوْله: {بعد مَا جَاءَك من الْعلم} يَعْنِي: من الْقُرْآن {مَالك من الله من ولي وَلَا واق} يَعْنِي: من نَاصِر وَلَا حَافظ.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك} الْآيَة، رُوِيَ أَن الْيَهُود ذموا النَّبِي باستكثاره من النِّسَاء، وَقَالُوا: هَذَا الرجل لَيْسَ لَهُ همة إِلَّا فِي النِّسَاء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: وَقيل: إِن الْمُشْركين قَالُوا هَذَا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك وَجَعَلنَا لَهُم أَزْوَاجًا وذرية} وَيُقَال: إِنَّه كَانَ لداود مائَة امْرَأَة، وَقد صَحَّ الْخَبَر فِيهِ عَن النَّبِي، وَدلّ عَلَيْهِ الْكتاب. وَكَانَ لِسُلَيْمَان [ألف] امْرَأَة

{لرَسُول أَن يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله لكل أجل كتاب (38) يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فِي الصَّحِيح، ثلثمِائة امْرَأَة، وَسَبْعمائة سَرِيَّة؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {وَجَعَلنَا لَهُم أَزْوَاجًا وذرية} وَكَذَلِكَ عَامَّة الْأَنْبِيَاء تزوجوا وَولد لَهُم. وَقَوله: {وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله} أَي: إِلَّا بِأَمْر الله {لكل أجل كتاب} مَعْنَاهُ: لكل أجل أَجله الشَّرْع كتاب أثبت فِيهِ. وَقيل: هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: لكل كتاب أجل وَمُدَّة، وَمَعْنَاهُ الْكتب الْمنزلَة وَقيل: لكل أجل كتاب، أَي: لكل قَضَاء قَضَاهُ الله تَعَالَى وَقت يَقع فِيهِ، وَكتاب أثبت فِيهِ.

39

قَوْله تَعَالَى: {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه يمحو الله مَا يَشَاء من الشَّرِيعَة، أَي: ينْسَخ. وَيثبت مَا يَشَاء، فَلَا ينْسَخ. وَحكي عَنهُ أَيْضا بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير قَالَ: {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} إِلَّا الشقاوة والسعادة والحياة وَالْمَوْت، وَعَن عمر وَعبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنْهُم - أَنَّهُمَا قَالَا: يمحو الشقاوة والسعادة أَيْضا، ويمحو الْأَجَل والرزق، وَيثبت مَا يَشَاء. وَكَانَ عمر يَقُول: اللَّهُمَّ إِن كنت كتبتني شقيا فامحه واكتبني مَا تشَاء سعيدا، فَإنَّك قلت: {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} . وَفِي بعض الْآثَار أَن الرجل يكون قد بَقِي لَهُ من عمره ثَلَاثُونَ سنة فَيقطع رَحمَه، فَيرد إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَالرجل يكون قد بَقِي لَهُ من عمره ثَلَاثَة أَيَّام فيصل رَحمَه فيمد إِلَى ثَلَاثِينَ سنة. وَقد ورد خبر يُؤَيّد قَول ابْن عَبَّاس فِي أَنه لَا يمحى الشقاوة والسعادة وَالْأَجَل والرزق، روى حُذَيْفَة بن أسيد عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا وَقعت النُّطْفَة فِي الرَّحِم، وَمضى عَلَيْهَا خمس وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة، قَالَ الْملك: يَا رب، أذكر أم أُنْثَى؟ فَيَقْضِي الله، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: يَا رب، أشقي أم سعيد؟ فَيَقْضِي الله تَعَالَى، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: يَا رب مَا الْأَجَل؟ وَمَا الرزق؟ فَيَقْضِي الله تَعَالَى وَيكْتب الْملك ثمَّ لَا يُزَاد فِيهِ وَلَا ينقص. ذكره مُسلم فِي الصَّحِيح.

{وَعِنْده أم الْكتاب (39) وَإِن مَا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وعلينا الْحساب (40) أولم يرَوا أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها وَالله} وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ قَول الْحسن: {يمحو الله مَا يَشَاء} أَي: يمحو من حضر أَجله وَيثبت مَا يَشَاء من لم يحضر أَجله، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: أَن المُرَاد مِنْهُ أَن الْحفظَة يَكْتُبُونَ جَمِيع أَعمال بني آدم، فَيَمْحُو الله مِنْهَا مَا يَشَاء، وَهُوَ مَا لَا ثَوَاب عَلَيْهِ وَلَا عِقَاب، وَيثبت مَا يَشَاء وَهُوَ الَّذِي يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَقيل: {يمحو الله مَا يَشَاء} أَي: يمحو مَا يَشَاء لمن عَصَاهُ فختم أمره بِالطَّاعَةِ، وَيثبت بالمعصية لمن أطَاع، وَختم أمره بالمعصية. وَالْمَنْقُول عَن السّلف هِيَ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكرنَاهَا قبل هَذَا القَوْل. وَقَوله: {وَعِنْده أم الْكتاب} مَعْنَاهُ: وَعِنْده أصل الْكتاب، وأصل الْكتاب: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي بعض الْأَخْبَار " أَن الله تَعَالَى ينظر فِي الْكتاب الَّذِي عِنْده لثلاث سَاعَات يبْقين من اللَّيْل؛ فَيَمْحُو مَا يَشَاء وَيثبت مَا يَشَاء، ويبدل مَا يَشَاء ويقرر مَا يَشَاء ".

40

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم} الْآيَة. بعض الَّذين نعدهم، أَي: قبل وفاتك {أَو نتوفينك} وَقبل أَن نريك ذَلِك {فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ} أَي: التَّبْلِيغ {وعلينا الْحساب} يَوْم الْقِيَامَة.

41

قَوْله تَعَالَى: {أولم يرَوا أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد من هَذَا هُوَ فتح ديار الشّرك، وَسمي ذَلِك نُقْصَانا؛ لِأَنَّهُ إِذا زَاد فِي دَار الْإِسْلَام فقد نقص من دَار الشّرك، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَجَمَاعَة. وَعَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى - قَالَ: هُوَ موت الأخيار وَالْعُلَمَاء. وَحكي ذَلِك عَن مُجَاهِد. وَقيل: ننقصها من أطرافها بخرابها، والساعة تقوم وكل الأَرْض خربة، وَيُقَال فِي منثور

{يحكم لَا معقب لحكمه وَهُوَ سريع الْحساب (41) وَقد مكر الَّذين من قبلهم فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا يعلم مَا تكسب كل نفس وَسَيعْلَمُ الْكفَّار لمن عُقبى الدَّار (42) وَيَقُول الَّذين كفرُوا لست مُرْسلا قل كفى بِاللَّه شَهِيدا بيني وَبَيْنكُم وَمن عِنْده علم الْكتاب (43) } الْكَلَام: الْأَشْرَاف على الْأَطْرَاف ليقرب مِنْهُم الأضياف. وَقَوله: {وَالله يحكم لَا معقب لحكمه} أَي: لَا راد وَلَا نَاقص لحكمه {وَهُوَ سريع الْحساب} مَعْلُوم.

42

قَوْله تَعَالَى: {وَقد مكر الَّذين من قبلهم} الْمَكْر: إِيصَال الْمَكْرُوه إِلَى الْإِنْسَان من حَيْثُ لَا يشْعر. قَوْله {فَللَّه الْمَكْر جَمِيعًا} أَي عِنْد الله جَزَاء مَكْرهمْ جَمِيعًا. وَقيل إِن الله خَالق مَكْرهمْ جَمِيعًا. وَقَوله: {يعلم مَا تكسب كل نفس} ظَاهر الْمَعْنى {وَسَيعْلَمُ الْكفَّار لمن عُقبى الدَّار} لمن عَاقِبَة الدَّار، وَالْآيَة تهديد ووعيد. وَقَوله: {وَيَقُول الَّذين كفرُوا لست مُرْسلا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {قل كفى بِاللَّه شَهِيدا} أَي: شَاهدا {بيني وَبَيْنكُم} . وَقَوله: {وَمن عِنْده علم الْكتاب} قَالَ قَتَادَة: هُوَ عبد الله بن سَلام، وَقيل: عبد الله بن سَلام وسلمان الْفَارِسِي وَتَمِيم الدَّارِيّ، وعَلى هَذَا جمَاعَة من التَّابِعين، وَأنكر الشّعبِيّ وَعِكْرِمَة وَجَمَاعَة هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: السُّورَة مَكِّيَّة، وَعبد الله بن سَلام أسلم بِالْمَدِينَةِ، وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى كَيفَ يستشهد بمخلوق، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ هُوَ الله تَعَالَى. وَقد قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وَمن عِنْده علم الْكتاب " وَهَذَا يبين أَن المُرَاد [مِنْهُ] هُوَ الله تَعَالَى. وعنى عبد الله بن سَلام نَفسه، قَالَ: أَنا المُرَاد بِالْآيَةِ. وَعَن الْحسن وَمُجاهد أَن المُرَاد هُوَ الله. وَسَعِيد بن جُبَير قَالَ: هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَالصَّحِيح أحد الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الر كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذن رَبهم إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد (1) الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وويل للْكَافِرِينَ من} تَفْسِير سُورَة إِبْرَاهِيم وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا} إِلَى قَوْله: {فَإِن مصيركم إِلَى النَّار} وَالله أعلم.

إبراهيم

قَوْله تَعَالَى: {الر} مَعْنَاهُ: أَنا الله أرى، وَقيل مَعْنَاهُ: أَنا الله الرَّحْمَن. وَقَوله: {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك} مَعْنَاهُ: هَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك. وَقَوله: {لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} مَعْنَاهُ: من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى، وَمن الْكفْر إِلَى الْإِيمَان وَمن الغواية إِلَى الرشد، وَقيل: من الْبِدْعَة إِلَى السّنة. والظلمة اسوداد الجو بِمَا يمْنَع من الْبَصَر، والنور: بَيَاض شعاعي يحصل بِهِ الإبصار. قَوْله: {بِإِذن رَبهم} أَي: بِأَمْر رَبهم، وَقيل: بِعلم رَبهم. وَقَوله {إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد} الصِّرَاط هُوَ الدّين، والعزيز الحميد هُوَ الله تَعَالَى. وَمعنى الْعَزِيز: الْغَالِب، وَمعنى الحميد: هُوَ الْمُسْتَحق للحمد فِي أَفعاله؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا متفضل أَو عَادل.

2

وَقَوله: {الله الَّذِي} قرئَ بِالرَّفْع والخفض، فَمن قَرَأَ بالخفض فَهُوَ مَسْبُوق على قَوْله: {الْعَزِيز الحميد} ، وَمن رفع فعلى تَقْدِير هُوَ الله. وَقَوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} يَعْنِي: لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {وويل للْكَافِرِينَ} الويل: وَاد فِي جَهَنَّم، وَقيل: إِنَّه دُعَاء الْهَلَاك. {من

{عَذَاب شَدِيد (2) الَّذين يستحبون الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة ويصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا أُولَئِكَ فِي ضلال بعيد (3) وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين} عَذَاب شَدِيد) أَي: عَذَاب عَظِيم.

3

قَوْله: {الَّذين يستحبون الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة} مَعْنَاهُ: الَّذين يؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَمعنى الإيثار: هُوَ طلب الدُّنْيَا من غير نظر للآخرة، وَذَلِكَ بِأَن يَأْخُذ من حَيْثُ يجد، وَلَا يُبَالِي أَنه حرَام أَو حَلَال. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَأْتِي على النَّاس زمَان لَا يُبَالِي الْمَرْء أَخذ الدُّنْيَا بحلال أَو بِحرَام ". وَقَوله: {ويصدون عَن سَبِيل الله} يَعْنِي: يمتنعون عَن قبُول دين الله، وَيمْنَعُونَ النَّاس عَن قبُوله. {ويبغونها عوجا} العوج فِي الدّين، والعوج فِي الرمْح والحائط، وَمعنى الْآيَة: وَيطْلبُونَ دين الله زيغا، وَقيل: وَيطْلبُونَ سَبِيل الله جائرين عَن الْقَصْد، وَقيل: يطْلبُونَ لمُحَمد الْهَلَاك، وَيُقَال: إِن الْكِنَايَة رَاجِعَة إِلَى الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: يطْلبُونَ الدُّنْيَا على طَرِيق الْميل عَن الْحق، وَذَلِكَ هُوَ بِجِهَة الْحَرَام على مَا قُلْنَاهُ. وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي ضلال بعيد} أَي: فِي خطأ طَوِيل.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه} وَالْحكمَة فِي هَذَا: هُوَ أَنه إِذا أرْسلهُ بِلِسَان قومه عقلوا قَوْله، وفهموا عَنهُ، فَإِن قَالَ قَائِل: إِن الله تَعَالَى بعث النَّبِي إِلَى كل الْخلق على مَا قَالَ: " بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود " وَلم يبْعَث بِلِسَان كل الْخلق؟ . وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن سَائِر الْخلق تبع الْعَرَب فِي الدعْوَة، وَقد بعث بلسانهم ثمَّ إِنَّه بعث بالرسل إِلَى الْأَطْرَاف يَدعُونَهُمْ إِلَى الله، وَترْجم لَهُم قَوْله.

{لَهُم فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (4) لقد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَن أخرج قَوْمك من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَذكرهمْ بأيام الله إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (5) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ أنجاكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وَفِي} وَقَوله: {ليبين لَهُم} مَعْنَاهُ مَا بَينا. وَقَوله: {فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَن أخرج قَوْمك من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} يَعْنِي: من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان. وَقَوله: {وَذكرهمْ بأيام الله} رُوِيَ عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ: بنعم الله. وَفِي بعض المسانيد نقل هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: بأيام الله أَي: بنقم الله. وَقَالَ بَعضهم: بوقائع الله، يَعْنِي: بِمَا أوقع بالأمم الْمَاضِيَة، يُقَال: فلَان عَارِف بأيام الْعَرَب، أَي: بوقائعهم. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} الصبار: كثير الصَّبْر، وَالصَّبْر: حبس النَّفس عَمَّا تنَازع إِلَيْهِ النَّفس، وَقد رُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: الصَّبْر نصف الْإِيمَان، وَالشُّكْر نصفه، وَالْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله. والشكور: هُوَ الْكثير الشُّكْر.

6

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم} الْآيَة أَي: منَّة الله عَلَيْكُم. قَوْله: {إِذْ نجاكم من آل فِرْعَوْن يسومونكم سوء الْعَذَاب} قد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة. وَقَوله تَعَالَى: {ويذبحون أبناءكم} قَالَ فِي مَوضِع بِغَيْر الْوَاو، وَقَالَ هَاهُنَا بِالْوَاو، وَذكر الْوَاو يَقْتَضِي أَنه سبق الذّبْح عَذَاب آخر، وَترك ذكر الْوَاو يَقْتَضِي أَن

{ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم (6) وَإِذ تَأذن ربكُم لَئِن شكرتم لأزيدنكم وَلَئِن كَفرْتُمْ إِن عَذَابي لشديد (7) وَقَالَ مُوسَى إِن تكفرُوا أَنْتُم وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا فَإِن الله لَغَنِيّ حميد (8) ألم يأتكم نبأ الَّذين من قبلكُمْ قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من} الْعَذَاب هُوَ الذّبْح. وَقَوله: {ويستحيون نساءكم} يَعْنِي: يتركون قتل النِّسَاء، وَفِي الْخَبَر: " اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين، واستحيوا شرخهم ". {وَفِي ذَلِكُم بلَاء من ربكُم عَظِيم} قيل: إِن الْبلَاء هُوَ المحنة، وَقيل: إِن الْبلَاء هُوَ النِّعْمَة، وَمَوْضِع النِّعْمَة فِي الإنجاء من الْبلَاء، وَقيل مَعْنَاهُ: اختبار من الله عَظِيم.

7

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ تَأذن ربكُم} أَي: أعلم ربكُم، والتأذين: الْإِعْلَام، والأذين والمؤذن هُوَ الْمعلم، قَالَ الشَّاعِر: (وَلم (تشعر) بضوء الصُّبْح حَتَّى ... سمعنَا فِي مَسَاجِدنَا الأذينا) وَقَوله: {لَئِن شكرتم لأزيدنكم} الشُّكْر هُوَ الِاعْتِرَاف بِالنعْمَةِ على وَجه الخضوع للمنعم. وَقد حُكيَ عَن دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: يَا رب، كَيفَ أشكرك وَلم أؤد شكرك إِلَّا بِنِعْمَة جَدِيدَة عَليّ. فَقَالَ: يَا دَاوُد، الْآن شكرتني. وَرُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ لَهُ رجل: أوصني يَا رَسُول الله، فَقَالَ: " عَلَيْك بالشكر فَإِنَّهُ زِيَادَة ". وَمعنى الْآيَة: لَئِن شكرتموني بِالتَّوْحِيدِ لأزيدنكم نعْمَة الْآخِرَة على نعْمَة الدُّنْيَا. وَقيل: لَئِن شكرتم بِالطَّاعَةِ لأزيدنكم فِي الثَّوَاب. وَقَوله: {وَلَئِن كَفرْتُمْ} جحدتم. {إِن عَذَابي لشديد} لعَظيم.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تكفرُوا أَنْتُم وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا فَإِن الله لَغَنِيّ حميد} أَي: غَنِي عَن خلقه، حميد فِي فعله.

9

قَوْله تَعَالَى: {ألم يأتكم نبأ الَّذين من قبلكُمْ} أَي: خبر الَّذين من قبلكُمْ.

( {بعدهمْ لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم وَقَالُوا إِنَّا} قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله) رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَرَأَ هَذِه الْآيَة، ثمَّ قَالَ: كذب النسابون، وَنقل بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي ". وَعَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه قَالَ: بَين إِبْرَاهِيم وَبَين عدنان جد الرَّسُول ثَلَاثُونَ قرنا لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله. وَعَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: وَمَا وَرَاء عدنان إِلَى إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - لَا يعلمهُمْ إِلَّا الله، وَعَن مَالك بن أنس أَنه كره أَن ينْسب الْإِنْسَان نَفسه أَبَا أَبَا إِلَى آدم، وَكَذَلِكَ فِي حق الرَّسُول كَانَ يكره؛ لِأَنَّهُ لَا يعلم أُولَئِكَ الْآبَاء أحد إِلَّا الله. وَقَوله: {جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات الواضحات. وَقَوله: {فَردُّوا أَيْديهم فِي أَفْوَاههم} رُوِيَ عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: عضوا أَيّدهُم غيظا، قَالَ الشَّاعِر: (لَو أَن سلمى أَبْصرت التخددي ... ورقة فِي عظم ساقي ويدي) (وَبعد أَهلِي وجفاء عودي ... عضت من الوجد أَطْرَاف الْيَد) وَقَالَ آخر: (قد أفنى أنامله غيظه ... فأمسى يعَض على الوظيفا) وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْأَنْبِيَاء لما قَالُوا: نَحن رسل الله، وضع الْكفَّار أَيْديهم على أَفْوَاههم أَن اسْكُتُوا، نَقله الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى الْآيَة أَنهم كذبُوا الرُّسُل فِي أَقْوَالهم، يُقَال: رددت قَول فلَان فِي فِيهِ إِذا كَذبته. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الْأَيْدِي هَاهُنَا هِيَ النعم، وَمَعْنَاهُ: ردوا مَا لَو قبلوا كَانَت آيادي وَنِعما.

{كفرنا بِمَا أرسلتم بِهِ وَإِنَّا لفي شكّ مِمَّا تدعوننا إِلَيْهِ مريب (9) قَالَت رسلهم أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى قَالُوا إِن أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا تُرِيدُونَ أَن تصدونا عَمَّا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا فأتونا بسُلْطَان مُبين (10) قَالَت لَهُم رسلهم إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ وَلَكِن الله يمن على من يَشَاء من عباده وَمَا كَانَ لنا أَن نأتيكم بسُلْطَان إِلَّا بِإِذن الله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} وَقَوله: {فِي أَفْوَاههم} يَعْنِي: بأفواههم، وَمَعْنَاهُ: بألسنتهم تَكْذِيبًا. وأشرق الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول، وَالْقَوْل الثَّالِث محكي عَن ابْن عَبَّاس. وَقَوله: {وَقَالُوا إِنَّا كفرنا بِمَا أرسلتم بِهِ} أَي: جحدنا بِمَا أرسلتم بِهِ. وَقَوله: {وَإِنَّا لفي شكّ مِمَّا تدعوننا إِلَيْهِ مريب} أَي: مرتاب، وَالشَّكّ هُوَ التَّرَدُّد بَين طرفِي نقيض.

10

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت رسلهم أَفِي الله شكّ} مَعْنَاهُ: لَيْسَ فِي الله شكّ، وَهَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى نفي مَا اعتقدوه. وَقَوله: {فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " من " صلَة، وَمَعْنَاهُ: ليغفر لكم ذنوبكم. وَقَوله: {ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى} إِلَى حِين اسْتِيفَاء آجالكم. وَقَوله: {قَالُوا إِن أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا تُرِيدُونَ أَن تصدونا} أَي: تمنعونا. {عَمَّا كَانَ يعبد آبَاؤُنَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {فأتونا بسُلْطَان مُبين} أَي: بِحجَّة [ومعجزة] بَيِّنَة، وَالسُّلْطَان هَاهُنَا: هُوَ الْبُرْهَان الَّذِي يرد الْمُخَالف إِلَى الْحق.

11

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت لَهُم رسلهم إِن نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ} أَي: مَا نَحن إِلَّا بشر مثلكُمْ. {وَلَكِن الله يمن على من يَشَاء من عباده} يَعْنِي: ينعم على من يَشَاء من عباده بِالنُّبُوَّةِ، وَقيل: بالتوفيق وَالْهِدَايَة. وَقَوله: {وَمَا كَانَ لنا أَن نأتيكم بسُلْطَان} أَي: بِحجَّة ومعجزة. {إِلَّا بِإِذن الله}

( {11) وَمَا لنا أَلا نتوكل على الله وَقد هدَانَا سبلنا ولنصبرن على مَا آذيتمونا وعَلى الله فَليَتَوَكَّل المتوكلون (12) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لرسلهم لنخرجنكم من أَرْضنَا أَو لتعودن فِي ملتنا فَأوحى إِلَيْهِم رَبهم لَنهْلكَنَّ الظَّالِمين (13) ولنسكننكم الأَرْض من بعدهمْ ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد (14) واستفتحوا وخاب كل جَبَّار عنيد (15) من} أَي: بِأَمْر الله. {وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لنا أَلا نتوكل على الله} مَعْنَاهُ: وَأي شَيْء لنا فِي أَلا نتوكل على الله؛ وَقد عرفنَا أَنه لَا ينَال شَيْء بِجهْد إِلَّا بعد أَن يَقْضِيه الله تَعَالَى ويقدره. وَقَوله: {وَقد هدَانَا سبلنا} أَي: أرشدنا إِلَى سبل الْحق. وَقَوله: {ولنصبرن على مَا آذيتمونا} وَالْآيَة تَعْلِيم الْمُؤمنِينَ وإرشادهم إِلَى الصَّبْر على أَذَى مخالفي الْحق. قَوْله: {وعَلى الله فَليَتَوَكَّل المتوكلون} ظَاهر الْمَعْنى.

13

وَقَوله: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لرسلهم لنخرجنكم من أَرْضنَا أَو لتعودن فِي ملتنا} قد بَينا هَذَا فِي سُورَة الْأَعْرَاف، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو لتعودن فِي ملتنا} . وَقَوله: {فَأوحى إِلَيْهِم رَبهم لَنهْلكَنَّ الظَّالِمين} أَي: الْمُشْركين.

14

وَقَوله: {ولنسكننكم الأَرْض من بعدهمْ} يَعْنِي: نجْعَل دِيَارهمْ مَوضِع سكناكم، وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم} . وَقَوله: {ذَلِك لمن خَافَ مقَامي} الْفرق بَين الْمقَام والمُقام: أَن الْمقَام مَوضِع الْإِقَامَة، والمُقام فعل الْإِقَامَة. فَإِن قيل: كَيفَ يكون لله مقَام، وَقد قَالَ: {ذَلِك لمن خَافَ مقَامي} ؟ قُلْنَا: أجمع أهل التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: ذَلِك لمن خَافَ مقَامه بَين يَدي، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} . وَقَوله: {وَخَافَ وَعِيد} أَي: عقابي.

15

قَوْله تَعَالَى: {واستفتحوا} مَعْنَاهُ: واستنصروا، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي يستفتح بصعاليك الْمُهَاجِرين " أَي: يستنصر من الله بحقهم.

{وَرَائه جَهَنَّم ويسقى من مَاء صديد (16) يتجرعه وَلَا يكَاد يسيغه ويأتيه الْمَوْت من} وَقَوله: {وخاب كل جَبَّار عنيد} وخاب أَي: خسر، وَقيل: وَهلك كل جَبَّار. والجبار هُوَ الَّذِي لَا يرى فَوْقه أحد، والجبرية طلب الْعُلُوّ بِمَا لَا غَايَة وَرَاءه، وَهُوَ وصف لَا يَصح إِلَّا لله، وَأما فِي وصف الْخلق فَهُوَ مَذْمُوم، وَقيل: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يجْبر الْخلق على مُرَاده. وَأما العنيد: هُوَ المعاند للحق. قَوْله تَعَالَى: {من وَرَائه جَهَنَّم} الْأَكْثَرُونَ مَعْنَاهُ: من أَمَامه جَهَنَّم. قَالَ الشَّاعِر: (وَمن ورائك يَوْم أَنْت بالغه ... لَا حَاضر معجز عَنهُ وَلَا باد) يَعْنِي: من أمامك، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة:

16

قَوْله: {وَمن وَرَائه جَهَنَّم} يَعْنِي: من بعده جَهَنَّم. وَقَوله: {ويسقى من مَاء صديد} مَعْنَاهُ: من مَاء هُوَ صديد. والصديد مَا يسيل من الْكفَّار من الْقَيْح وَالدَّم، وَالْأَصْل فِي الصديد هُوَ المَاء الَّذِي يخرج من الْجرْح مختلطا بِالدَّمِ والقيح، وَقيل: من مَاء صديد أَي: من مَاء كالصديد.

17

وَقَوله: {يتجرعه} أَي: يشربه جرعة جرعة من مرارته وشدته. وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أدناه من وَجهه شوى وَجهه وَسَقَطت فَرْوَة رَأسه، وَإِذا شربه تقطعت أمعاؤه، وَخرجت الأمعاء من دبره ". وَقَوله: {وَلَا يكَاد يسيغه} يَعْنِي: لَا يسيغه، وَقيل مَعْنَاهُ: يكَاد لَا يسيغه، ويسيغه؛ ليغلي فِي جَوْفه. وَقَوله: {ويأتيه الْمَوْت من كل مَكَان} قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: من كل شَعْرَة من جسده، وَقيل: يَأْتِيهِ الْمَوْت من قدامه وَمن خَلفه، وَمن فَوْقه وَمن تَحْتَهُ، وَعَن يَمِينه وَعَن شِمَاله. وَقَوله: {وَمَا هُوَ بميت} يَعْنِي: عَلَيْهِ شدَّة الْمَوْت وَلَا يَمُوت، وَهُوَ فِي معنى قَوْله

{كل مَكَان وَمَا هُوَ بميت وَمن وَرَائه عَذَاب غليظ (17) مثل الَّذين كفرُوا برَبهمْ أَعْمَالهم كرماد اشتدت بِهِ الرّيح فِي يَوْم عَاصِم لَا يقدرُونَ مِمَّا كسبوا على شَيْء ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد (18) ألم تَرَ أَن الله خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يذهبكم} تَعَالَى: {لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} . وَقَوله: {وَمن وَرَائه عَذَاب غليظ} أَي: شَدِيد، وَالْعَذَاب الغليظ هُوَ الخلود فِي النَّار.

18

قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين كفرُوا برَبهمْ أَعْمَالهم} وَمَوْضِع الْمثل فِي قَوْله: {كرماد اشتدت بِهِ الرّيح} يَعْنِي: ذهبت الرّيح المشتدة بِهِ. وَقَوله: {فِي يَوْم عاصف} فِيهِ مَعْنيانِ. أَحدهمَا: أَنه وصف الْيَوْم بالعاصف؛ لِأَن فِيهِ العصوف، كَمَا يُقَال: يَوْم حَار وَيَوْم بَارِد، أَي: فِيهِ الْحر وَالْبرد، قَالَ الشَّاعِر: (يَوْمَيْنِ غيمين وَيَوْما شمسا ... ) وَالْمعْنَى الثَّانِي: فِي يَوْم عاصف أَي: فِي يَوْم عاصف الرّيح، قَالَ الشَّاعِر: (ويضحك عرفان الدروع جلودنا ... إِذا جَاءَ يَوْم مظلم الشَّمْس (كاسف)) أَي: كاسف الشَّمْس. وَقَوله {لَا يقدرُونَ مِمَّا كسبوا على شَيْء} لِأَن أَعْمَالهم قد ذهبت وَبَطلَت كالرماد الَّذِي ذهبت بِهِ الرّيح العاصف. وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد} الْخَطَأ الطَّوِيل.

19

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} معنى خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ: مَا نصب فِيهَا من الدَّلَائِل على وحدانيته وَسَائِر صِفَاته. وَقَوله: {إِن يَشَأْ يذهبكم} يَعْنِي: إِن يَشَأْ يهلككم. {وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد} أَي: بِقوم آخَرين، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ} .

{وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد (19) وَمَا ذَلِك على الله بعزيز (20) وبرزوا لله جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء قَالُوا لَو هدَانَا الله لهديناكم سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا مَا لنا من محيص (21) وَقَالَ} قيل فِي التَّفْسِير: قوما أطوع لله مِنْكُم.

20

وَقَوله: {وَمَا ذَلِك على الله بعزيز} أَي: شَدِيد؛ وَذَلِكَ لِأَن الْأَشْيَاء كلهَا سهلة هينة فِي الْقُدْرَة، وَلَا يصعب على الله شَيْء من الْأَشْيَاء وَإِن جلّ وَعظم.

21

قَوْله تَعَالَى: {وبرزوا لله جَمِيعًا} أَي: خَرجُوا من قُبُورهم إِلَى الله جَمِيعًا. وَقَوله: {فَقَالَ الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا} معنى الَّذين استكبروا: يَعْنِي تكبروا على النَّاس، وتكبروا عَن الْإِيمَان، وهم القادة والرؤساء. وَقَوله: {إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون} كُنَّا لكم تبعا، أَي: أتباعا {فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء} أَي: دافعون عَنَّا من عَذَاب الله من شَيْء. وَقَوله: {قَالُوا لَو هدَانَا الله لهديناكم} مَعْنَاهُ: لَو هدَانَا الله لدعوناكم إِلَى الْهدى، فَلَمَّا أضلنا دعوناكم إِلَى الضَّلَالَة. وَقَوله: {سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا} فِي الْآثَار أَنهم يَقُولُونَ: قد جزع أَقوام فِي الدُّنْيَا؛ فنجوا فَنحْن نجزع لننجوا، فيجزعون مُدَّة مديدة فَلَا يرَوْنَ نجاة، فَيَقُولُونَ: قد صَبر أَقوام فِي الدُّنْيَا، فَنحْن نصبر للنجوا، فيصبرون مُدَّة مديدة، فَلَا يرَوْنَ نجاة فَيَقُولُونَ بعد ذَلِك: سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا. قَوْله: {مَا لنا من محيص} أَي: منجي ومخلص، وَيُقَال: يجزعون مائَة سنة، ويصبرون مائَة سنة، وَيُقَال: فلَان وَقع فِي حيص بيص، وحاص وباص إِذا وَقع فِي أَمر لَا مخلص عَنهُ.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَان لما قضى الْأَمر} قَوْله: {لما قضى الْأَمر} دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة وَأهل النَّار النَّار. وَفِي بعض الْآثَار: " أَنه يوضع لإبليس مِنْبَر من نَار فيصعد عَلَيْهِ ويخطبهم " وَذَلِكَ حِين يتعلقون بِهِ، وَيَقُولُونَ: أَنْت فعلت بِنَا هَذَا.

{الشَّيْطَان لما قضي الْأَمر إِن الله وَعدكُم وعد الْحق ووعدتكم فأخلفتكم وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان إِلَّا أَن دعوتكم فاستجبتم لي فَلَا تلوموني ولوموا أَنفسكُم مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي إِنِّي كفرت بِمَا أشركتموني من قبل إِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم (22) وَأدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا} وَقَوله: {إِن الله وَعدكُم وعد الْحق ووعدتكم فأخلفتكم} ووعد الْحق هُوَ الَّذِي يَقع الْوَفَاء [بِهِ] . وَقَوله: {ووعدتكم فأخلفتكم} هُوَ مَا لَا يَقع بِهِ الْوَفَاء، وَقيل: إِنَّه يَقُول لَهُم: قلت لكم لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار، وَغير ذَلِك. وَقَوله: {وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان} مَعْنَاهُ: أَنِّي لم آتكم بِحجَّة فِيمَا دعوتكم إِلَيْهِ. وَقَوله: {إِلَّا أَن دعوتكم} هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِن دعوتكم أَي: زينت لكم. قَوْله: {فاستجبتم لي} أَي: أجبتم لي. وَقَوله: {فَلَا تلوموني ولوموا أَنفسكُم} يَعْنِي: لَا تعودوا باللائمة عَليّ، وعودوا باللائمة على أَنفسكُم. وَقَوله: {مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخي} مَعْنَاهُ: مَا أَنا بمعينكم وَمَا أَنْتُم بمعيني، وَقيل [مَعْنَاهُ] : مَا أَنا بمنجيكم وَمَا أَنْتُم بمنجي، وَقَرَأَ حَمْزَة: " وَمَا أَنْتُم بمصرخي " بِكَسْر الْيَاء، وَأهل النَّحْو لَا يرضون هَذِه الْقِرَاءَة، وَذكر الْفراء شعرًا يدل على قِرَاءَة حَمْزَة. قيل: إِنَّه لُغَة بني يَرْبُوع. وَالشعر: (قَالَ لَهَا هَل أَنْت يَا باغي ... قَالَت لَهُ مَا أَنْت بالمرضي) وَقَوله: {إِنِّي كفرت بِمَا أشركتمون من قبل} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِنِّي كفرت بجعلكم إيَّايَ شَرِيكا فِي عبَادَة الله وطاعته، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنِّي كفرت قبل أَن أشركتموني فِي عِبَادَته، يَعْنِي: كفرت قبل كفركم. وَقَوله: {إِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: وجيع.

{الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا بِإِذن رَبهم تحيتهم فِيهَا سَلام (23) ألم تَرَ كَيفَ ضرب الله مثلا}

23

قَوْله تَعَالَى: {وَأدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} قد بَينا. {خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِيهَا أبدا. {بِإِذن رَبهم} بِأَمْر رَبهم. قَوْله: {تحيتهم فِيهَا سَلام} وَفِي المحيي بِالسَّلَامِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن المحيي بِالسَّلَامِ هُوَ الله تَعَالَى، وَالْآخر: هم الْمَلَائِكَة، وَالثَّالِث: أَن المحيي بِالسَّلَامِ بَعضهم على بعض.

24

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ ضرب الله مثلا كلمة طيبَة} الْمثل قَول سَائِر لتشبه شَيْء بِشَيْء فِي الْمَعْنى. وَقَوله: {كلمة طيبَة} أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَن الْكَلِمَة الطّيبَة هَاهُنَا: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَوله: {كشجرة طيبَة} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن الشَّجَرَة الطّيبَة هَاهُنَا: هِيَ النَّخْلَة، وَقد بيّنت بِرِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ لأَصْحَابه: " أخبروني عَن شَجَرَة هِيَ مثل الْمُؤمن؟ فَوَقَعت الصَّحَابَة فِي شجر الْبَوَادِي. قَالَ ابْن عمر: وَوَقع فِي نَفسِي أَنَّهَا النَّخْلَة، ثمَّ إِن النَّبِي قَالَ: هِيَ النَّخْلَة. قَالَ ابْن عمر: فَذكرت لأبي أَنه كَانَ وَقع فِي نَفسِي كَذَا، فَقَالَ: لَو كنت قلته كَانَ أحب إِلَيّ من حمر النعم ". وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أكْرمُوا النَّخْلَة فَإِنَّهَا عمتكم ". وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا خلقت من فضل طِينَة آدم.

{كلمة طيبَة كشجرة طيبَة أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء (24) تؤتي أكلهَا كل حِين بِإِذن رَبهَا وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس لَعَلَّهُم يتذكرون (25) وَمثل كلمة خبيثة كشجرة} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الشَّجَرَة الطّيبَة شَجَرَة فِي الْجنَّة، وَقد حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَقيل: إِن الشَّجَرَة الطّيبَة شَجَرَة جوز الْهِنْدِيّ. وَقَوله: {أَصْلهَا ثَابت} أَي: ثَابت فِي الأَرْض. وَقَوله: {وفرعها فِي السَّمَاء} أَي: أَعْلَاهَا فِي السَّمَاء.

25

وَقَوله: {تؤتي أكلهَا كل حِين} الْحِين فِي اللُّغَة هُوَ الْوَقْت، وَفِي معنى الْحِين أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: سِتَّة أشهر؛ لِأَنَّهَا من حِين ضرابها إِلَى حِين إطلاعها، وَقَالَ مُجَاهِد: الْحِين هَاهُنَا هُوَ سنة كَامِلَة؛ لِأَن النَّخْلَة تثمر كل سنة. وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: أَرْبَعَة أشهر لِأَنَّهَا من حِين ظُهُورهَا إِلَى حِين إِدْرَاكهَا، وَقَالَ بَعضهم: شَهْرَان؛ لِأَنَّهُ من حِين يُؤْكَل إِلَى حِين يصرم. وَالْقَوْل الْخَامِس: أَنه غدْوَة وَعَشِيَّة؛ لِأَن ثَمَر النَّخْلَة يُؤْكَل مِنْهَا أبدا، إِمَّا رطبا، وَإِمَّا تَمرا وَإِمَّا بسرا. وَقَوله: {بِإِذن رَبهَا} أَي: بِأَمْر رَبهَا. وَقَوله: {وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس} مَوضِع الْمثل أَن الْإِيمَان ثَابت فِي الْقلب، وَالْعَمَل صاعد إِلَى السَّمَاء، كالنخلة ثَابت أَصْلهَا فِي الأَرْض، وفروعها مُرْتَفعَة إِلَى السَّمَاء، مَوضِع الْمثل فِي قَوْله: {تؤتي أكلهَا كل حِين} لِأَن فَائِدَة الْإِيمَان وبركته لَا تَنْقَطِع أبدا، بل تصل إِلَى الْمُؤمن فِي كل وَقت، كَمَا أَن نفع النَّخْلَة وبركتها تصل إِلَى حَاجَتهَا فِي كل وَقت. وَاسْتدلَّ بَعضهم على أَن النَّخْلَة تشبه الْآدَمِيّ؛ لِأَنَّهَا محتاجة إِلَى اللقَاح، كالآدمي لَا يُولد لَهُ حَتَّى يلقح. قَوْله: {لَعَلَّهُم يتذكرون} أَي: يتعظون.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَمثل كلمة خبيثة} الْكَلِمَة الخبيثة هِيَ الشّرك. وَقَوله: {كشجرة خبيثة} اخْتلفُوا فِيهَا، قَالَ أنس بن مَالك: هِيَ الحنظلة، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هِيَ الثوم، وَقيل: إِنَّهَا الكشوثا، وَهِي العشقة.

{خبيثة اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار (26) يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} وَقَوله: {اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار} أَي: اقتلعت من فَوق الأَرْض. وَقَوله: {مَا لَهَا من قَرَار} أَي: مَا لَهَا من ثبات، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنه لَيْسَ لَهَا أصل ثَابت فِي الأَرْض، وَلَا فرع يصعد إِلَى السَّمَاء، وَمَوْضِع الْمثل مَعْلُوم.

27

قَوْله تَعَالَى: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} القَوْل الثَّابِت: كلمة التَّوْحِيد وَهِي لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَالَ: {يثبت الله} لِأَنَّهُ هُوَ الْمُثبت للْإيمَان فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} يَعْنِي: قبل الْمَوْت. وَقَوله { [و] فِي الْآخِرَة} أَي: فِي الْقَبْر، وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير، وَقد ثَبت ذَلِك عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب، وَهُوَ قَول عبد الله بن مَسْعُود، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة. وَاعْلَم أَن سُؤال الْقَبْر ثَابت فِي السّنة، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَقد وَردت فِيهِ الْأَخْبَار الْكَثِيرَة، روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن النَّبِي كَانَ فِي جَنَازَة، فَذكر لأَصْحَابه أَنه يدْخل على الرجل فِي قَبره ملكان ويسألانه، فَيَقُولَانِ: من رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمن نبيك؟ قَالَ: فَأَما الْمُؤمن فَيَقُول: رَبِّي الله، وديني الْإِسْلَام، وَنَبِي مُحَمَّد. فَيفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار، فَيُقَال لَهُ: هَذَا كَانَ مَكَانك لَو قلت غير هَذَا، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة، ويفسح لَهُ فِي قَبره مد الْبَصَر. وَأما الْكَافِر فَيَقُول الْملكَانِ لَهُ: من رَبك؟ وَمَا دينك؟ وَمن نبيك؟ فَيَقُول: لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ: لَا دَريت وَلَا تليت، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة، فَيَقُولَانِ: هَذَا مَكَانك لَو أجبْت، ثمَّ يفتح لَهُ بَاب إِلَى النَّار، ويضيق عَلَيْهِ الْقَبْر حَتَّى تخْتَلف أضلاعه، ويضربانه بِمِطْرَقَةٍ من نَار فَيَصِيح صَيْحَة يسْمعهَا كل الْخَلَائق إِلَّا الثقلَيْن ".

{فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة ويضل الله الظَّالِمين وَيفْعل الله مَا يَشَاء (27) ألم تَرَ إِلَى} وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي قَالَ: لَو نجا أحد من عَذَاب الْقَبْر لنجا سعد بن معَاذ، وَلَقَد ضمه الْقَبْر ضمة أَو ضمتين " وَرُوِيَ أَن النَّبِي قَالَ لعمر: " كَيفَ بك إِذا أَتَاك ملكان ... " الْخَبَر. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَمَعِي عَقْلِي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أكفيهما إِذا ". وَقيل: إِن عَذَاب الْقَبْر ثَلَاثَة أَثلَاث: ثلث من ترك الاستنزاه من الْبَوْل، وَثلث من الْغَيْبَة، وَثلث من الْمَشْي بالنميمة. وَالله أعلم. وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن الْحَيَاة الدُّنْيَا هِيَ الْقَبْر، وَفِي الْآخِرَة هِيَ الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الأول أصح. وَقَوله: {ويضل الله الظَّالِمين} مَعْنَاهُ: أَنه لَا يهدي الْمُشْركين إِلَى هَذَا الْجَواب، وَلَا يلقنهم إِيَّاه. وَقَوله: {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} من التَّوْفِيق والخذلان والتثبيت وَترك التثبيت.

28

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعْمَة الله كفرا} الْآيَة [فِيهَا] ثَلَاثَة

{الَّذين بدلُوا نعمت الله كفرا وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار (28) جَهَنَّم يصلونها وَبئسَ الْقَرار (29) وَجعلُوا لله أندادا ليضلوا عَن سَبيله قل تمَتَّعُوا فَإِن مصيركم إِلَى النَّار} أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم كفار قُرَيْش، وَالْآخر: أَنهم قادة الْمُشْركين ببدر، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَالثَّالِث: رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: هم الأفجران بَنو الْمُغيرَة وَبَنُو أُميَّة: فَأَما بَنو الْمُغيرَة فَقتلُوا يَوْم بدر، وَأما بَنو أُميَّة فمتعوا إِلَى حِين. وَقَوله: {وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار} أَي: دَار الْهَلَاك، وَهِي جَهَنَّم قَالَ الشَّاعِر: (إِن لقيما وَإِن قتلا ... وَإِن لُقْمَان حَيْثُ باروا) يَعْنِي: هَلَكُوا.

29

وَقَوله: {جَهَنَّم يصلونها [وَبئسَ] الْقَرار} ظَاهر الْمَعْنى.

30

قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا لله أندادا} أَي: شُرَكَاء وأمثالا، قَالَ حسان بن ثَابت: شعرًا: (أتهجوه وَلست لَهُ بند ... فشركما لخير كَمَا الْفِدَاء) وَاعْلَم أَن الله لَيْسَ لَهُ ضد وَلَا ند. أما الند الَّذِي هُوَ الْمثل فمعلوم، وَأما الضِّدّ فَلِأَن فِيهِ معنى من المثلية، وَالله لَيْسَ لَهُ مثل بِوَجْه مَا. وَقَوله: {ليضلوا عَن سَبيله} إِنَّمَا نسب إِلَيْهِم الضَّلَالَة، لأَنهم سَبَب فِي (الضلال) ، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل: فتنتني الدُّنْيَا؛ نسب الْفِتْنَة إِلَى الدُّنْيَا، لِأَنَّهَا سَبَب فِي الْفِتْنَة. وَقَوله: {ليضلوا عَن سَبيله} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {قل تمَتَّعُوا فَإِن مصيركم إِلَى النَّار} قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو أَن كَافِرًا كَانَ فِي أَشد بؤس وضر لَا يهدأ لَيْلًا وَلَا نَهَارا، كَانَ ذَلِك نعيما فِي جنب مَا يصير إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة، وَلَو أَن مُؤمنا كَانَ فِي أنعم عَيْش، كَانَ ذَلِك بؤسا فِي جنب مَا يصير إِلَيْهِ فِي الْآخِرَة. وَقَوله: {فَإِن مصيركم إِلَى النَّار} أَي: مرجعكم إِلَى النَّار.

( {30) قل لعبادي الَّذين آمنُوا يقيموا الصَّلَاة وينفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ وَلَا خلال (31) الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل من السَّمَاء مَاء فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الْفلك لتجري فِي الْبَحْر بأَمْره وسخر لكم الْأَنْهَار (32) وسخر لكم الشَّمْس وَالْقَمَر دائبين وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار}

31

وَقَوله تَعَالَى: {قل لعبادي الَّذين آمنُوا يقيموا الصَّلَاة} هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، أَي: أقِيمُوا الصَّلَاة. وَقَوله: {وينفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة} يَعْنِي: جَهرا وَغير جهر. وَقيل: نفلا سرا، وفرضا جَهرا. وَقَوله: {من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا بيع فِيهِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَعْنِي لَا فدَاء فِيهِ {وَلَا خلال} أَي: لَا مخالة وَلَا صداقة، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .

32

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل من السَّمَاء مَاء فَأخْرج بِهِ من الثمرات رزقا لكم} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وسخر لكم الْفلك لتجري فِي الْبَحْر بأَمْره} أَي: بِعِلْمِهِ وإذنه. وَقَوله: {وسخر لكم الْأَنْهَار} أَي: ذلل لكم الْأَنْهَار تجرونها حَيْثُ شِئْتُم. وَقَوله: {وسخر لكم الشَّمْس وَالْقَمَر دائبين} وَذَلِكَ لكم، وتسخير الشَّمْس وَالْقَمَر هُوَ جريانهما على وتيرة وَاحِدَة فِيمَا يعود إِلَى مصَالح الْعباد. وَقَوله: {دائبين} مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا لَا يفتران وَلَا يقفان، والدأب فِي الشَّيْء هُوَ الجري على عَادَة وَاحِدَة.

33

وَقَوله: {وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار} ظَاهر الْمَعْنى.

34

وَقَوله: {وآتاكم من كل مَا سألتموه} قرىء بقراءتين، الْمَعْرُوف: {من كل مَا سألتموه} ، وَيقْرَأ: " من كل مَا سألتموه " بِالتَّشْدِيدِ والتنوين، فَالْقَوْل الْمَعْرُوف مَعْنَاهُ: يَعْنِي من كل الَّذِي سألتموه. فَإِن قَالَ قَائِل: نَحن نَسْأَلهُ أَشْيَاء وَلَا يُعْطِينَا؟ وَالْجَوَاب: أَن جنسه يُعْطي الْآدَمِيّين

( {33) وآتاكم من كل مَا سألتموه وَإِن تعدوا نعمت الله لَا تحصوها إِن الْإِنْسَان لظلوم كفار (34) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا الْبَلَد آمنا واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام} وَإِن لم يُعْطه على التَّعْيِين؛ فاستقام الْكَلَام على هَذَا، وَقيل مَعْنَاهُ: من كل مَا سألتموه، وَلم تسألوه. وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة، فَمَعْنَى " مَا " هُوَ النَّفْي، وَمَعْنَاهُ: أَعْطَاكُم أَشْيَاء لم تسألوها، فَإِن الله تَعَالَى أَعْطَانَا اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم والرياح، وَمَا أشبه ذَلِك وَلم نَسْأَلهُ شَيْئا مِنْهَا. وَقَوله: {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: مَعْنَاهُ: لَا تُطِيقُوا عدهَا، وَقيل: لَا تطيقون شكرها. وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لظلوم كفار} يَعْنِي: ظَالِم لنَفسِهِ كَافِر بربه، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي جهل خَاصَّة، وَيُقَال: إِنَّهَا نزلت فِي جنس الْكفَّار، وَيجوز أَن يذكر الْإِنْسَان وَيُرَاد بِهِ جنس النَّاس، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفي خسر} وَقيل: [الظَّالِم] هُوَ الَّذِي يشْكر غير من أنعم عَلَيْهِ، وَالْكَافِر هُوَ الَّذِي يجْحَد منعمه.

35

قَوْله: {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم رب اجْعَل هَذَا الْبَلَد آمنا} أَجمعُوا أَن الْبَلَد هُوَ مَكَّة، وَقَوله: {آمنا} أَي: ذَا أَمن. وَقَوله: {واجنبني وَبني أَن نعْبد الْأَصْنَام} مَعْنَاهُ: بعدني وَبني من عبَادَة الْأَصْنَام، فَإِن قَالَ قَائِل: قد كَانَ إِبْرَاهِيم مَعْصُوما عَن عبَادَة الْأَصْنَام، فَكيف يَسْتَقِيم سُؤَاله لنَفسِهِ، وَقد عبد كثير من بنيه الْأَصْنَام، فَأَيْنَ الْإِجَابَة؟ الْجَواب: أما فِي حق إِبْرَاهِيم، فالدعاء لزِيَادَة الْعِصْمَة والتثبيت، وَأما فِي حق الْبَنِينَ فَيُقَال: إِن الدُّعَاء لِبَنِيهِ من الصلب، وَلم يعبد أحد مِنْهُم الصَّنَم، وَقيل: إِن دعاءه لمن كَانَ مُؤمنا من بنيه.

( {35) رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم (36) رَبنَا إِنِّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذِي زرع عِنْد بَيْتك الْمحرم رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوي إِلَيْهِم وارزقهم من الثمرات لَعَلَّهُم}

36

وَقَوله: {رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس} نسب الضَّلَالَة إلَيْهِنَّ لما بَينا من الْمَعْنى. وَقَوله: {فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني} أَي: من أهل ديني. وَقَوله: {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم} يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قَالَ هَذَا قبل أَن يُعلمهُ الله أَنه لَا يغْفر الشّرك. وَالْآخر: أَن المُرَاد من الْعِصْيَان هُوَ مَا دون الشّرك.

37

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا إِنِّي أسكنت} يَعْنِي: أنزلت. قَوْله تَعَالَى: {من ذريتي} الذُّرِّيَّة هَاهُنَا إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأمه هَاجر. وَفِي الْقِصَّة: أَنه حمل هَاجر وَإِسْمَاعِيل وَهُوَ طِفْل يرضع، وَكَانُوا ثَلَاثَتهمْ على الْبراق، فجَاء بهم إِلَى مَوضِع الْبَيْت، وَهِي مَدَرَة حَمْرَاء، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: هَاهُنَا أمرت. فَأنْزل إِسْمَاعِيل وَأمه فِي مَوضِع الْحجر، وَمضى رَاجعا إِلَى الشَّام، فنادته هَاجر، يَا خَلِيل الله، إِلَى من تكلنا؟ قَالَ: إِلَى الله تَعَالَى. قَالَت: قد قبلنَا ذَلِك، والقصة فِي هَذَا مَعْرُوفَة. وَقَوله: {بواد غير ذِي زرع} قَالَ هَذَا لِأَن مَكَّة بَين جبلين، وَهِي وَاد. وَقَوله: {عِنْد بَيْتك الْمحرم رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة} سَمَّاهُ محرما؛ لِأَنَّهُ يحرم عِنْده مَا لَا يحرم عِنْد غَيره. وَقَوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس} الأفئدة جمع الْفُؤَاد، قَالَ ابْن عَبَّاس: لَو قَالَ " أَفْئِدَة النَّاس " لزاحمتكم [فَارس] وَالروم، وَفِي رِوَايَة: التّرْك والديلم، وَفِي رِوَايَة عَن غَيره: لحجت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس. وَقَوله: {تهوي إِلَيْهِم} أَي: تحن إِلَيْهِم، قَالَ السّديّ مَعْنَاهُ: أمل قُلُوبهم إِلَى هَذَا

{يشكرون (37) رَبنَا إِنَّك تعلم مَا نخفي وَمَا نعلن وَمَا يخفى على الله من شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء (38) الْحَمد لله الَّذِي وهب لي على الْكبر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق إِن رَبِّي لسميع الدُّعَاء (39) رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلَاة وَمن ذريتي رَبنَا وَتقبل دُعَاء} لموْضِع؛ فَإِن الْإِنْسَان يمِيل مَعَ قلبه حَيْثُ مَال. وَقَوله: {وارزقهم من الثمرات} فِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى قلع قَرْيَة من الشَّام بأشجارها وأرضها فوضعها بمَكَان الطَّائِف. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يشكرون} ظَاهر الْمَعْنى.

38

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا إِنَّك تعلم مَا نخفي وَمَا نعلن وَمَا يخفى على الله من شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء} ظَاهر الْمَعْنى.

39

وَقَوله: {الْحَمد لله الَّذِي وهب لي على الْكبر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق} . فِي الْقِصَّة: أَن إِسْمَاعِيل ولد لَهُ وَهُوَ ابْن تسع وَتِسْعين سنة، وَإِسْحَاق ولد لَهُ بعد ذَلِك بِثَلَاث عشرَة سنة. وَيُقَال: إِن إِسْمَاعِيل ولد لَهُ بعد أَن بلغ سنة مائَة [وَسبع] عشرَة سنة. وَقَوله: {إِن رَبِّي لسميع الدُّعَاء} ظَاهر الْمَعْنى.

40

قَوْله: {رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلَاة وَمن ذريتي} يَعْنِي: مِمَّن يُقيم الصَّلَاة بحدودها وأركانها، ويحافظ عَلَيْهَا. قَوْله: {وَمن ذريتي} مَعْنَاهُ: وَاجعَل من ذريتي من يُقِيمُونَ الصَّلَاة. قَوْله: {رَبنَا وَتقبل دُعَاء} أَي: واستجب دعائي.

41

قَوْله: {رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي} قَرَأَ سعيد بن جُبَير: {ولوالِديّ} ، وَقَرَأَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَيحيى بن يعمر: " ولوالدتي "، وَالْمَعْرُوف: {ولوالدي} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ اسْتغْفر لوَالِديهِ وَلم يَكُونَا آمنا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قد قيل: إِن أمه قد أسلمت، وَأما الْوَالِد فَإِنَّمَا اسْتغْفر لَهُ قبل أَن يتَبَيَّن لَهُ أَنه مُقيم على الشّرك، وَقد بَينا هَذَا من قبل، وَقيل: ولوالدي آدم وحواء، وَقيل: نوح وَأم إِبْرَاهِيم.

( {40) رَبنَا اغْفِر لي ولوالدي وَلِلْمُؤْمنِينَ يَوْم يقوم الْحساب (41) وَلَا تحسبن الله غافلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يؤخرهم ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار (42) مهطعين مقنعي} وَفِي تَفْسِير الدمياطي: أَن قَوْله: {ولوالدي} أَي: لوَلَدي، قَالَ ابْن فَارس: وَيجوز هَذَا فِي اللُّغَة، وَهُوَ أَن يذكر الْوَالِد بِمَعْنى الْمَوْلُود، كَمَا يُقَال: مَاء دافق أَي: مدفوق. وَقَوله: {وَلِلْمُؤْمنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {يَوْم يقوم الْحساب} أَي: يَوْم يُحَاسب الله الْخلق.

42

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الله غافلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} الْآيَة. الْغَفْلَة معنى يمْنَع الْإِنْسَان من الْوُقُوف على حَقِيقَة الْأُمُور. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة تَعْزِيَة للمظلوم وتسلية لَهُ، وتهديد للظالم. وَقَوله: {إِنَّمَا يؤخرهم} مَعْنَاهُ: إِنَّمَا يمهلهم. وَقَوله: {ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار} يَعْنِي: من الدهش والحيرة وَشدَّة الْأَمر، وَمعنى تشخص أَي: ترْتَفع وتزول عَن أماكنها.

43

وَقَوله {مهطعين} الْأَكْثَرُونَ أَن مَعْنَاهُ مُسْرِعين، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى الثَّعْلَب: الإهطاع هُوَ النّظر فِي (الذل والخضوع) . وَقيل: مهطعين أَي: مديمي النّظر لَا يطرفون. وَمعنى الْإِسْرَاع الَّذِي ذكرنَا هُوَ أَنهم لَا يلتفتون يَمِينا وَلَا شمالا، وَلَا يعْرفُونَ مَوَاطِن أَقْدَامهم، وَلَيْسَ لَهُم همة وَلَا نظر إِلَى مَا يساقون إِلَيْهِ. وَقَوله: {مقنعي رُءُوسهم} يُقَال: أقنع رَأسه أَي: رَفعه، وأقنع رَأسه إِذْ خفضه، فَإِن كَانَ المُرَاد هُوَ الرّفْع فَمَعْنَاه: أَن أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء ينظرُونَ مَاذَا يرد عَلَيْهِم من الله تَعَالَى، وَإِن حمل الْإِقْنَاع على خفض الرَّأْس فَمَعْنَاه: مطرقون ناكسون، قَالَ الشَّاعِر: (نغض رَأْسِي نَحوه وأقنعا ... كَأَنَّمَا يطْلب شَيْئا أطمعا) وَقَالَ المؤرج: رفعوا رُءُوسهم حَتَّى كَادُوا يضعونها على أكتافهم.

{رُءُوسهم لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم وأفئدتهم هَوَاء (43) وأنذر النَّاس يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب فَيَقُول الَّذين ظلمُوا رَبنَا أخرنا إِلَى أجل قريب نجب دعوتك وَنَتبع الرُّسُل أَو لم تَكُونُوا أقسمتم من قبل مَا لكم من زَوَال (44) وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم} وَقَوله {لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم} يَعْنِي: لَا يرجع إِلَيْهِم طرفهم، فَكَأَنَّهُ ذهلهم مَا بَين أَيْديهم فَلَا ينظرُونَ لشَيْء سواهُ. وَقَوله: {وأفئدتهم هَوَاء} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: متخرقة لَا تعي شَيْئا، وَقَالَ قَتَادَة: خرجت قُلُوبهم عَن صُدُورهمْ حَتَّى بلغت الْحَنَاجِر من شدَّة ذَلِك الْيَوْم وهوله فَهَذَا معنى قَوْله: {وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر} ، فعلى هَذَا قَوْله: {وأفئدتهم هَوَاء} أَي: خَالِيَة، وَمِنْه سمي الجو هَوَاء لخلوه، وَقيل: خَالِيَة عَن الْعُقُول؛ فَكَأَنَّهَا ذهبت من الْفَزع وَالْخَوْف. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: " وأفئدتهم هَوَاء " أَي: مترددة لَا تَسْتَقِر فِي مَكَان، وَقيل: هَوَاء أَي: متخربة من الْجُبْن والفزع. قَالَ حسان بن ثَابت: (أَلا أبلغ أَبَا سُفْيَان عني ... فَأَنت مجوف نخب هَوَاء) حَقِيقَة الْمَعْنى من الْآيَة أَن الْقُلُوب زائلة عَن أماكنها، والأبصار شاخصة من هول ذَلِك الْيَوْم.

44

وَقَوله: {وأنذر النَّاس يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب} يَعْنِي: خوف النَّاس. قَوْله: {فَيَقُول الَّذين ظلمُوا رَبنَا أخرنا إِلَى أجل قريب} مَعْنَاهُ: أمهلنا. وَقَوله: {إِلَى أجل قريب} هَذَا سُؤال الرّجْعَة، كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا ردهم إِلَى الدُّنْيَا. وَقَوله: {نجب دعوتك وَنَتبع الرُّسُل} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {أَو لم تَكُونُوا أقسمتم} أَي حلفتم فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: {من قبل مَا لكم من زَوَال} يَعْنِي: لَيْسَ لكم بعث وَلَا جَزَاء وَلَا حِسَاب.

45

وَقَوله: {وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم} أَي: ظلمُوا أنفسهم

{وَتبين لكم كَيفَ فعلنَا بهم وضربنا لكم الْأَمْثَال (45) وَقد مكروا مَكْرهمْ وَعند الله مَكْرهمْ وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال (46) فَلَا تحسبن الله مخلف وعده رسله} فأهلكناهم. وَقَوله: {وَتبين لكم كَيفَ فعلنَا بهم} يَعْنِي: عَرَفْتُمْ عقوبتنا إيَّاهُم. وَقَوله: {وضربنا لكم الْأَمْثَال} أَي: الْأَشْبَاه، وَمَعْنَاهُ: بَينا أَن مثلكُمْ كمثلهم.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَقد مكروا مَكْرهمْ} أَي: كَادُوا كيدهم. وَقَوله: {وَعند الله مَكْرهمْ} أَي: عِنْد الله جَزَاء مَكْرهمْ. وَقَوله: {وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال} قرئَ بقرائتين: " لتزول " و " لتزول " قَرَأَهُ الْكسَائي وَحده بِنصب اللَّام. أما قَوْله: {لتزول} - بِكَسْر اللَّام وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ - مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال، يَعْنِي: أَن مَكْرهمْ لَا يزِيل أَمر مُحَمَّد الَّذِي هُوَ ثَابت كثبوت الْجبَال. وَقيل: إِن معنى الْآيَة بَيَان ضعف كيدهم ومكرهم، وَأَنه لَا يبلغ هَذَا الْمبلغ، وَأما قَوْله: " وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول " بِنصب اللَّام الأول وَرفع الثَّانِي مَعْنَاهُ: أَن مَكْرهمْ لَو بلغ فِي الْعظم بِمُحَمد يزِيل الْجبَال لم يقدروا على إِزَالَة أَمر مُحَمَّد. وَقَرَأَ عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة: " وَإِن كَاد مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال:. وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَرَأَ: " وَلَوْلَا كلمة الله لزال بمكرهم الْجبَال ". وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي معنى الْآيَة: وَهُوَ أَنَّهَا نزلت فِي نمروذ حِين قَالَ: لأصعدن السَّمَاء، وَاتخذ النسور وجوعها ثمَّ اتخذ تابوتا، وَنصب خشبات فِي أطرافها، وَجعل على رءوسها اللَّحْم، ثمَّ ربط قَوَائِم النسور على الخشبات وخلاها، فاستعلت النسور، وَقد جلس نمروذ فِي التابوت مَعَ حَاجِبه، وَقيل: مَعَ غُلَام لَهُ، وللتابوت بَابَانِ: بَاب من أَعلَى، وَبَاب من أَسْفَل، وَقَالَ: فَلَمَّا صعدت النسور فِي السَّمَاء، وَمضى على ذَلِك يَوْم، قَالَ لغلامه: افْتَحْ الْبَاب السُّفْلى، فَإِذا الأَرْض

{إِن الله عَزِيز ذُو انتقام (47) يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَوَات وبرزوا لله} كاللجة، فَقَالَ: افْتَحْ الْبَاب الْأَعْلَى فَإِذا السَّمَاء كَمَا هِيَ، ثمَّ مر [يَوْم] آخر فَقَالَ: افْتَحْ الْبَاب الْأَسْفَل فَفتح فَإِذا الأَرْض كالدخان، فَقَالَ: افْتَحْ الْبَاب الْأَعْلَى فَفتح فَإِذا السَّمَاء كَمَا هِيَ، فَأمر غُلَامه حَتَّى يصوب رُءُوس النسور والخشبات، فجَاء التابوت إِلَى جَانب الأَرْض وَله هدة عَظِيمَة، فخافت الْجبَال أَنه جَاءَ من السَّمَاء أَمر، وكادت تَزُول عَن أماكنها، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول} - بِنصب اللَّام الأولى وَرفع الثَّانِي - {مِنْهُ الْجبَال} . وَفِي الْآيَة قَول آخر - وَهُوَ قَول قَتَادَة - أَن مَعْنَاهَا: وَإِن كَانَ شركهم لتزول مِنْهُ الْجبَال، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا} .

47

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تحسبن الله مخلف وعده رسله} قيل: هَذَا من المقلوب وَمَعْنَاهُ: مخلف رسله وعده. قَوْله: {إِن الله عَزِيز ذُو انتقام} قد بَينا الْمَعْنى.

48

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَوَات وبرزوا} قَالَ ابْن مَسْعُود: تبدل هَذِه الأَرْض بِأَرْض بَيْضَاء كالفضة لم يسفك عَلَيْهَا دم، وَلم يعْمل فِيهَا بخطيئة، وَأما السَّمَاء تبدل بسماء من ذهب. وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَه أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر وَمُحَمّد بن كَعْب: أَنه تبدل الأَرْض بِأَرْض من خبْزَة يَأْكُلُون مِنْهَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر: {وَمَا جعلناهم جسدا لَا يَأْكُلُون الطَّعَام} وَالْقَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة أَن تَبْدِيل الأَرْض هُوَ تغييرها من هَيْئَة إِلَى هَيْئَة، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: تبدلت بعدِي، أَي: تَغَيَّرت هيئتك وحالك. وتغيير الأَرْض بتسيير جبالها، وطم أنهارها، وتسوية أَوديتهَا، وَقلع أشجارها وَجعلهَا قاعا

{الْوَاحِد القهار (48) وَترى الْمُجْرمين يَوْمئِذٍ مُقرنين فِي الأصفاد (49) سرابيلهم من} صفصفا لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا، وَأما تَبْدِيل السَّمَوَات بتغيير حَالهَا، وَذَلِكَ بتكوير شمسها وقمرها، وانتثار نجومها، وَكَونهَا مرّة كالدهان، وَهُوَ الْأَدِيم الْأَحْمَر، وَمرَّة كَالْمهْلِ، وَقيل: إِن معنى التبديل هُوَ أَنه يَجْعَل السَّمَوَات جنَانًا وَالْأَرضين نيرانا، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة مَسْرُوق عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " يَا رَسُول الله، قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض} أَيْن يكون النَّاس حِينَئِذٍ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: على الصِّرَاط " وَإِذا ثَبت هَذَا فَالْأولى هُوَ هَذَا القَوْل. أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الرَّحْمَن الشَّافِعِي، قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس، قَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد المقريء قَالَ: حَدثنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله، قَالَ: نَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الشّعبِيّ، عَن مَسْرُوق، عَن عَائِشَة عَن النَّبِي ... الْخَبَر. وَقَوله: {وبرزوا لله الْوَاحِد القهار} مَعْنَاهُ: وَخَرجُوا من قُبُورهم لله الْوَاحِد القهار يحكم فيهم بِمَا أَرَادَ.

49

قَوْله: {وَترى الْمُجْرمين يَوْمئِذٍ مُقرنين فِي الأصفاد} يُقَال: صفده إِذا قَيده، وأصفده إِذا أعطَاهُ، قَالَ الْأَعْشَى: (تضيفته يَوْمًا فَأكْرم مقعدي ... وأصفدني على الزمانة قائدا) أصفدني أَي: أَعْطَانِي. وَقَوله: {مُقرنين} أَي: مجعولين بَعضهم مَعَ بعض فِي السلَاسِل والأقياد، وَقيل: إِنَّه يقرن كل كَافِر مَعَ شَيْطَان فِي كل سلسلة وَقيد، ذكره الْكَلْبِيّ، وَيُقَال: تجمع رِجْلَاهُ إِلَى عُنُقه ويغل، فَهُوَ معنى قَوْله: {مُقرنين فِي الأصفاد} .

{قطران وتغشى وُجُوههم النَّار (50) ليجزي الله كل نفس مَا كسبت إِن الله سريع الْحساب (51) هَذَا بَلَاغ للنَّاس ولينذروا بِهِ وليعلموا أَنما هُوَ إِلَه وَاحِد وليذكر أولُوا الْأَلْبَاب (52) }

50

وَقَوله: {سرابيلهم من قطران} أَي: قميصهم من قطران، والقطران مَا تهنأ بِهِ الْإِبِل، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة: " من قطرآن " أَي: من صفر مذاب، (قَالَ) : انْتهى حره. وَقيل: من نُحَاس مذاب قد انْتهى حره. قَالَ أهل الْمعَانِي: وَإِنَّمَا ذكر أَن قميصهم من قطران؛ لِأَن النَّار إِلَيْهِ أسْرع اشتعالا. وَقَوله: {وتغشى وُجُوههم النَّار} مَعْنَاهُ: وَتَعْلُو وُجُوههم النَّار، وَقيل: تصلى.

51

وَقَوله: {ليجزي الله كل نفس بِمَا كسبت} يَعْنِي: مَا كسبت من خير وَشر. وَقَوله: {إِن الله سريع الْحساب} مَعْنَاهُ: سريع المجازاة، وَحَقِيقَة الْحساب إحصاء مَا عمله الْإِنْسَان من خير أَو شَرّ ليجازي عَلَيْهِ.

52

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا بَلَاغ للنَّاس} يَعْنِي: هَذَا الْقُرْآن، وَهَذَا الَّذِي أنزلته عَلَيْك بَلَاغ للنَّاس، أَي: فِيهِ تَبْلِيغ للنَّاس. قَوْله: {ولينذروا بِهِ} أَي: [و] ليخوفوا بِهِ. وَقَوله: {وليعلموا أَنما هُوَ إِلَه وَاحِد} أَي: ليستدلوا بِهَذِهِ الْآيَات على وحدانية الله تَعَالَى. وَقَوله: {وليذكر أولو الْأَلْبَاب} مَعْنَاهُ: وليتعظ أولو الْأَلْبَاب - أَي أولو الْعُقُول -، وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الر تِلْكَ آيَات الْكتاب وَقُرْآن مُبين (1) رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين} تَفْسِير سُورَة الْحجر وَهِي مَكِّيَّة

الحجر

قَوْله تَعَالَى: {الر} مَعْنَاهُ: أَنا الله أرى، وَقيل: " الر "، و " حم " و " ن " هُوَ الرَّحْمَن. {تِلْكَ آيَات الْكتاب} مَعْنَاهُ: هَذِه آيَات الْكتاب. {وَقُرْآن مُبين} مَعْنَاهُ: أَنه يبين الْحَلَال من الْحَرَام، وَالْحق من الْبَاطِل، فَإِن قَالَ قَائِل: الْقُرْآن هُوَ الْكتاب، وَالْكتاب هُوَ الْقُرْآن، فأيش فَائِدَة الْجمع بَينهمَا؟ الْجَواب: أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يُفِيد معنى لَا يفِيدهُ الآخر، فَإِن الْكتاب هُوَ مَا يكْتب، وَالْقُرْآن هُوَ مَا يجمع بعضه إِلَى بعض، وَقيل: إِن المُرَاد من الْكتاب هُوَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَالْقُرْآن هُوَ الَّذِي أنزلهُ الله تَعَالَى على مُحَمَّد.

2

قَوْله تَعَالَى: {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو كَانُوا مُسلمين} اعْلَم أَن كم للتكثير، وَرب للتقليل، وَيُقَال: رُبمَا للتشديد، وَرُبمَا بِالتَّخْفِيفِ، وربتما بِالتَّاءِ بِمَعْنى وَاحِد. قَالَ الشَّاعِر: (ماوي يَا ربتما غَارة ... شعواء كاللذعة بالميسم) وَقد فصل بَعضهم بَين رب وَرُبمَا، قَالَ: رب تدخل على الِاسْم، وَرُبمَا على الْفِعْل، فَقَالَ: رب رجل جَاءَنِي، وَيُقَال: رُبمَا جَاءَنِي. وَاخْتلف القَوْل فِي الْحَال الَّذِي يتَمَنَّى الْكفَّار هَذَا، - والود هُوَ التَّمَنِّي -[فَالْقَوْل] الأول: أَنه فِي حَال المعاينة، وَهَذَا قَول الضَّحَّاك. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الثَّالِث - وَهُوَ الْأَشْهر -: أَنه حِين يخرج

{ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فَسَوف يعلمُونَ (3) وَمَا أهلكنا من قَرْيَة} الله الْمُؤمنِينَ من النَّار. وَفِي الْأَخْبَار المسندة بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي قَالَ: " يدْخل الله قوما - من أهل الْقبْلَة النَّار مَعَ الْكفَّار فيمكثون فِيهَا مَا شَاءَ الله؛ فَيَقُول الْكفَّار لَهُم: أَنْتُم مُسلمُونَ، فَيَقُولُونَ: نعم، فَيَقُول الْكفَّار: مَا أغْنى عَنْكُم إسلامكم شَيْئا، وَأَنْتُم مَعنا فِي النَّار، فَيَقُولُونَ: نَحن أَذْنَبْنَا ذنوبا فأخذنا بهَا، فَيسمع الله تَعَالَى ذَلِك كُله، فَيَقُول: أخرجُوا من النَّار من كَانَ مُسلما - وَفِي رِوَايَة: من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله - فَيخْرجُونَ، فَحِينَئِذٍ يتَمَنَّى الْكفَّار لَو كَانُوا مُسلمين ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: " أَن الْكفَّار إِذا قَالُوا للْمُسلمين هَذِه الْمقَالة؛ يغْضب الله تَعَالَى لقَولهم، فَيَقُول: أخرجُوا ... ، على مَا بَينا. فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَت رُبمَا للتقليل، فَكيف يقل تمنيهم هَذَا، وَنحن نعلم حَقِيقَة أَن كلهم يتمنون هَذَا، وَأَن هَذَا التَّمَنِّي مِنْهُم يكثر؟ وَالْجَوَاب: أَن الْعَرَب قد تذكر هَذَا اللَّفْظ وتريد بِهِ التكثير، يَقُول الْقَائِل لغيره: رُبمَا تندم على هَذَا الْفِعْل، وَهُوَ يعلم أَنه يكثر مِنْهُ النَّدَم عَلَيْهِ، وَيكون الْمَعْنى: إِنَّك لَو نَدِمت قَلِيلا لَكَانَ الْقَلِيل من الندامة يَكْفِيك للاجتناب عَنهُ، فَكيف الْكثير؟ ! . وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن شغلهمْ بِالْعَذَابِ لَا يفرغهم للندامة، وَفِي بعض الآحايين رُبمَا يَقع لَهُم هَذَا النَّدَم، ويخطر ببالهم.

3

قَوْله تَعَالَى: {ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا} الْآيَة. هَذَا تهديد ووعيد، وَالْأكل مَعْلُوم، وَأما التَّمَتُّع هُوَ التَّلَذُّذ بِطَلَبِهِ حَالا بعد حَال (كالتعرب) هُوَ طلبه حَالا بعد حَال. قَوْله: {ويلههم الأمل} أَي: يشغلهم الأمل عَن الْآخِرَة.

{إِلَّا وَلها كتاب مَعْلُوم (4) مَا تسبق من أمة أجلهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيهَا الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر إِنَّك لمَجْنُون (6) لَو مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كنت من الصَّادِقين (7) مَا ننزل الْمَلَائِكَة إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذا منظرين (8) إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر} قَوْله: {فَسَوف يعلمُونَ} تهديد آخر، وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: " ذرهم " تهديد. وَقَوله: {فَسَوف يعلمُونَ} تهديد آخر، فَمَتَى يهنأ الْعَيْش بَين تهديدين؟ .

4

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إِلَّا وَلها كتاب مَعْلُوم} أَي: أجل مَضْرُوب لَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ وَلَا يتَأَخَّر عَنهُ.

5

وَقَوله: {مَا تسبق من أمة أجلهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} مَعْنَاهُ: أَن الْعَذَاب الْمَضْرُوب لَا يتَقَدَّم على وقته، وَلَا يتَأَخَّر عَن وقته، وَقيل: هَذَا فِي الْمَوْت أَنه لَا يتَقَدَّم وَلَا يتَأَخَّر عَن وقته.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا أَيهَا الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر إِنَّك لمَجْنُون} الذّكر هُوَ الْقُرْآن. وَقَوله: {إِنَّك لمَجْنُون} خطابهم مَعَ النَّبِي. وَقَوله " {يَا أَيهَا الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر} إِنَّمَا قَالُوهُ على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء؛ لأَنهم لَو قَالُوا ذَلِك على طَرِيق التَّحْقِيق لآمنوا بِهِ.

7

قَوْله تَعَالَى: {لَو مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} أَي: هلا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ، قَالَ الشَّاعِر: (تَعدونَ (قَعْر) النيب أفضل مجدكم ... بنى (طوطبري) لَوْلَا الكمي المقنعا) أَي: هلا تَعدونَ الكمي المقنعا. وَقَوله: {إِن كنت من الصَّادِقين} مَعْنَاهُ: أَنَّك نَبِي.

8

قَوْله تَعَالَى: {مَا ننزل الْمَلَائِكَة إِلَّا بِالْحَقِّ} الْحق الَّذِي تنزل بِهِ الْمَلَائِكَة هُوَ الْوَحْي، وَقبض [أَرْوَاح] الْعباد، وإهلاك الْكفَّار، وكتبة الْأَعْمَال، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {وَمَا كَانُوا إِذا منظرين} أَي: مؤخرين، وَقد كَانَ الْكفَّار يطْلبُونَ إِنْزَال

{وَإِنَّا لَهُ لحافظون (9) وَلَقَد أرسلنَا من قبلك فِي شيع الْأَوَّلين (10) وَمَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزءون (11) كَذَلِك نسلكه فِي قُلُوب الْمُجْرمين (12) لَا} الْمَلَائِكَة عيَانًا، فأجابهم الله تَعَالَى بِهَذَا، وَمَعْنَاهُ: أَنهم لَو نزلُوا عيَانًا زَالَ الْإِمْهَال عَن الْكفَّار وعذبوا فِي الْحَال.

9

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر} يَعْنِي: الْقُرْآن {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنا نَحْفَظ مُحَمَّدًا، وَالْآخر: أَنا نَحْفَظ الْقُرْآن، وَهُوَ الْأَلْيَق بِظَاهِر اللَّفْظ، وَمعنى حفظ الْقُرْآن أَنه يمْنَع من الزِّيَادَة فِيهِ أَو النُّقْصَان عَنهُ، قَالَ الله تَعَالَى {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} وَالْبَاطِل هُوَ إِبْلِيس، وَمَعْنَاهُ: أَن إِبْلِيس لَا يقدر أَن يزِيد فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا أَن ينقص عَنهُ مَا هُوَ مِنْهُ.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا من قبلك فِي شيع الْأَوَّلين} الشِّيعَة: هم الْقَوْم المجتمعة المتفقة كلمتهم، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: فِي أُمَم الْأَوَّلين.

11

وَقَوله: {وَمَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون} هَذَا تَسْلِيَة للنَّبِي، وَمَعْنَاهُ: أَنهم كَمَا استهزءوا بك فقد استهزىء بالأنبياء من قبلك.

12

وَقَوله تَعَالَى: {كَذَلِك نسلكه فِي قُلُوب الْمُجْرمين} قَالَ الْحسن: كَذَلِك نسلك الشّرك فِي قُلُوب الْمُجْرمين، ونسلك، أَي: ندخل، وَقَالَ مُجَاهِد: نسلك التَّكْذِيب، وَمعنى كَاف التَّشْبِيه، أَي: كَمَا فعلنَا بالكفار من قبل هَؤُلَاءِ، كَذَلِك نَفْعل بهؤلاء الْكفَّار. وَقد قَالَ بَعضهم: إِن معنى قَوْله: {كَذَلِك نسلكه} أَي: نسلك الْقُرْآن، وَمَعْنَاهُ: أَنه لما أَعْطَاهُم مَا يفهمون بِهِ الْقُرْآن، فَكَأَنَّهُ سلك الْقُرْآن فِي قُلُوبهم. وَالْمَنْقُول عَن السّلف هُوَ القَوْل الأول، وَهُوَ رد على الْقَدَرِيَّة صَرِيحًا.

13

وَقَوله: {لَا يُؤمنُونَ بِهِ} يَعْنِي بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآن. {وَقد خلت سنة الْأَوَّلين} أَي: مَضَت سنة الْأَوَّلين، وَسنة الْأَوَّلين: هُوَ الإهلاك عِنْد تَكْذِيب الْأَنْبِيَاء.

{يُؤمنُونَ بِهِ وَقد خلت سنة الْأَوَّلين (12) وَلَو فتحنا عَلَيْهِم بَابا من السَّمَاء فظلوا فِيهِ يعرجون (14) لقالوا إِنَّمَا سكرت أبصارنا بل نَحن قوم مسحورون (15) وَلَقَد جعلنَا فِي السَّمَاء بروجا وزيناها للناظرين (16) وحفظناها من كل شَيْطَان رجيم (17) إِلَّا من}

14

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو فتحنا عَلَيْهِم بَابا من السَّمَاء} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {فظلوا فِيهِ يعرجون} يُقَال: ظلّ يفعل كَذَا إِذا فعله نَهَارا، وَبَات يفعل كَذَا إِذا فعله لَيْلًا. وَقَوله: {يعرجون} يصعدون، يُقَال: عرج يعرج إِذا صعد، وعرج يعرج إِذا صَار أعرج، وَاخْتلف القَوْل فِي الْمَعْنى بقوله: {فظلوا} الْأَكْثَرُونَ على أَنهم الْمَلَائِكَة، وَالْقَوْل الآخر أَنهم الْمُشْركُونَ.

15

وَقَوله: {لقالوا إِنَّمَا سكرت أبصارنا} قرىء بقراءتين " سُكِّرت " " سُكِرت " مخفف، فَمَعْنَى التَّخْفِيف أَي: سحرت، وَمعنى التَّشْدِيد أَي: سدت وَأخذت، وَقيل: عميت، قَالَ عَمْرو بن الْعَلَاء: هُوَ مَأْخُوذ من السكر، يَعْنِي: كَمَا أَن السكر يُغطي على عقولنا، كَذَلِك هَذَا غطي على أبصارنا. وَقَوله: {بل نَحن قوم مسحورون} أَي: مخدوعون، وَقيل مَعْنَاهُ: عمل فِينَا السحر.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جعلنَا فِي السَّمَاء بروجا} البروج: هِيَ النُّجُوم الْكِبَار، وَهُوَ مَأْخُوذ من الظُّهُور، يُقَال: تبرجت الْمَرْأَة إِذا ظَهرت. وَيُقَال: إِنَّهَا الْمنَازل، وَيُقَال: إِنَّهَا البروج الإثنا عشر، وَيُقَال: إِنَّهَا السَّبع السيارة، وَعَن عَطِيَّة الْعَوْفِيّ: أَنَّهَا قُصُور فِي السَّمَاء عَلَيْهَا الحرس. قَوْله: {وزيناها للناظرين} ظَاهر الْمَعْنى.

17

قَوْله تَعَالَى: {وحفظناها من كل شَيْطَان رجيم} ذكر الْكَلْبِيّ أَن السَّمَوَات لم تكن مَحْفُوظَة من الشَّيَاطِين قبل عِيسَى، فَلَمَّا بعث عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - حفظت ثَلَاثَة من السَّمَوَات، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد حفظت السَّمَوَات كلهَا. وَقَوله: {رجيم} أَي: مرجوم، وَقيل: أَي: مَلْعُون، وَقيل: شتيم.

18

وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا من اسْترق السّمع} فِي الْأَخْبَار: أَن الشَّيَاطِين يركب بَعضهم بَعْضًا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، ويسترقون السّمع من الْمَلَائِكَة؛ فترجمهم الْكَوَاكِب فَتقْتل

{اسْترق السّمع فَأتبعهُ شهَاب مُبين (18) وَالْأَرْض مددناها وألقينا فِيهَا رواسي وأنبتنا فِيهَا} الْبَعْض وتخبل الْبَعْض ". وَاخْتلف القَوْل فِي أَنهم مَتى يسْتَرقونَ السّمع؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنهم يسْتَرقونَ السّمع من الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء، وَالْقَوْل الآخر: أَنهم يسْتَرقونَ السّمع من الْمَلَائِكَة فِي الْهَوَاء. وَأما معرفَة مَلَائِكَة السَّمَاء بِالْأَمر فباستخبارهم مَلَائِكَة أهل السَّمَاء الثَّانِيَة، هَكَذَا يستخبر أهل كل سَمَاء من أهل السَّمَاء [الَّتِي] فَوْقهم، حَتَّى يصلوا إِلَى حَملَة الْعَرْش فيخبرون بِمَا قَضَاهُ الله تَعَالَى من الْأَمر، وَيرجع الْخَبَر من سَمَاء إِلَى سَمَاء حَتَّى يصل إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ الشَّيَاطِين يسْتَرقونَ على مَا قُلْنَا من قبل. وَقَوله: {فَأتبعهُ شهَاب مُبين} الشهَاب هُوَ الشعلة من النَّار، فَإِن قَالَ قَائِل: نَحن لَا نرى نَارا، وَإِنَّمَا نرى نورا أَو نجما ينْقض. وَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَنه ينْقض نورا، فَإِذا وصل إِلَيْهِ صَار نَارا، أَو يحْتَمل أَنه يرى من بعد الْمَكَان أَنه نجم وَهُوَ نَار، وَقيل: إِن النَّجْم ينْقض فَيَرْمِي الشَّيْطَان ثمَّ يعود إِلَى مَكَانَهُ. وَاعْلَم أَن هَذَا لم يكن ظَاهرا فِي زمن الْأَنْبِيَاء قبل الرَّسُول، وَلم يذكرهُ شَاعِر من الْعَرَب قبل زمَان النَّبِي، وَإِنَّمَا رُوِيَ هَذَا فِي ابْتِدَاء أَمر النَّبِي، وَكَانَ ذَلِك أساسا لنبوته، وَإِنَّمَا ذكر الشُّعَرَاء ذَلِك فِي زَمَانه، قَالَ الشَّاعِر: (كَأَنَّهُ كَوْكَب فِي إِثْر عفرية ... مُسَوَّم فِي سَواد اللَّيْل منقضب)

19

قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَرْض مددناها} مَعْنَاهُ: بسطناها، وَيُقَال: إِنَّهَا مسيرَة خَمْسمِائَة سنة فِي مثلهَا، دحيت من تَحت الْكَعْبَة. وَقَوله: {وألقينا فِيهَا رواسي} أَي: جبالا ثوابت، وَقد كَانَت الأَرْض تميل إِلَى أَن أرساها الله بالجبال.

{من كل شَيْء مَوْزُون (19) وَجَعَلنَا لكم فِيهَا معايش وَمن لَسْتُم لَهُ برازقين (20) وَإِن من شَيْء إِلَّا عندنَا خزائنه وَمَا ننزله إِلَّا بِقدر مَعْلُوم (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح لَوَاقِح فأنزلنا} وَقَوله: {وأنبتنا فِيهَا من كل شَيْء مَوْزُون} أَي: مَعْلُوم، وَيُقَال: من كل شَيْء مَوْزُون مَعْنَاهُ: من الْحَدِيد والرصاص والنحاس وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وكل مَا يُوزن.

20

وَقَوله: {وَجَعَلنَا لكم فِيهَا معايش} قيل: إِنَّهَا المطاعم والمشارب والملابس، وَقيل: إِنَّهَا مَا يَعش بِهِ الْمَرْء فِي الدُّنْيَا، قَالَ جرير شعرًا: (تطالبني معيشة آل زيد ... وَمن لي (بالمرقق وَالصِّنَاب)) الضباب من الآجار، وَغير ذَلِك من (اللوامخ) {وَمن لَسْتُم لَهُ برازقين} مَعْنَاهُ: جعلنَا فِيهَا معايش لكم، وَجَعَلنَا فِيهَا من لَسْتُم (فِيهَا) برازقين، وَهِي الدَّوَابّ والطيور والوحوش. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنا جعلنَا لكم فِيهَا معايش، وَجَعَلنَا لكم أَيْضا الدَّوَابّ والطيور والأنعام، وكفيناكم رزقها، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: " وَمن لَسْتُم لَهُ برازقين "، و " من " إِنَّمَا تقال فِيمَن يعقل لَا فِيمَن لَا يعقل؟ . وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن العبيد والمماليك قد دخلُوا فِي هَؤُلَاءِ، وَالْعرب إِذا جمعت بَين من يعقل وَبَين من لَا يعقل غلبت من يعقل.

21

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إِلَّا عندنَا خزائنه} يَعْنِي: مَفَاتِيح خزائنه، وَقيل: إِنَّهَا نفس الخزائن، وَمعنى الخزائن أَنه إِذا قَالَ: كن كَانَ. قَوْله: {وَمَا ننزله إِلَّا بِقدر مَعْلُوم} أَي: إِلَّا بِقدر مَعْلُوم فِي وَقت مَعْلُوم، وَيُقَال: إِنَّه لَا تنزل قَطْرَة من السَّمَاء إِلَّا وَمَعَهَا ملك يَسُوقهَا حَيْثُ يُرِيد الله، وَالله أعلم.

{من السَّمَاء مَاء فأسقيناكموه وَمَا أَنْتُم لَهُ بخازنين (22) وَإِنَّا لنَحْنُ نحيي ونميت وَنحن}

22

قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح لَوَاقِح} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ملاقح واحدتها ملقحة، وَقَالَ غَيره: هِيَ لَوَاقِح وَاحِدهَا لاقح، وَمعنى اللاقح أَنَّهَا تحمل المَاء، وَمعنى الملقح أَنَّهَا تمر على السَّحَاب وَالْأَرْض فتلقحه، وإلقاح السَّحَاب هُوَ أَن يلقِي إِلَى السَّحَاب مَا يحمل بِهِ المَاء، وَقيل: إِنَّهَا تلقح الْأَشْجَار أَيْضا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِن الرّيح تحمل المَاء فتجريه السَّحَاب؛ فتدر السَّحَاب، كَمَا تدر اللقحة، وَعَن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: تجىء الرّيح المبشرة فتقم الأَرْض قما، ثمَّ تجىء الرّيح المنشأة فتنشىء السَّحَاب نشئا، ثمَّ تَجِيء الرّيح الْمُؤَلّفَة فتؤلف السَّحَاب بعضه إِلَى بعض، ثمَّ تَجِيء الرّيح اللاقحة فتلقح السَّحَاب. (وفى) : أَن لقح الرِّيَاح؛ الْجنُوب. وَفِي بعض الْآثَار: " مَا هبت ريح الْجنُوب إِلَّا وأنبعت عينا غرقة غدقة "، وَأما الرّيح الْعَقِيم هِيَ الَّتِي لَا تلقح وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فأسقيناكموه} يَعْنِي: أعطينا لكم بهَا سقيا، يُقَال: أسْقى فلَانا إِذا جعل لَهُ سقيا، وَسَقَى فلَانا إِذا أعطَاهُ مَا يشرب. وَقَوله: {وَمَا أَنْتُم لَهُ بخازنين} يَعْنِي: أَنه فِي خزائننا، وَلَيْسَ فِي خزائنكم، وَقيل: وَمَا أَنْتُم لَهُ بمانعين وَلَا دافعين (أَي: أردتموه) .

23

قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا لنَحْنُ نحيي ونميت وَنحن الوارثون} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: وَالْوَارِث فِي صِفَات الله أَنه الْبَاقِي بعد هَلَاك الْخلق أَجْمَعِينَ، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن مصير

{الوارثون (23) وَلَقَد علمنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُم وَلَقَد علمنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِن رَبك هُوَ يحشرهم إِنَّه حَكِيم عليم (25) وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من صلصال من حمأ مسنون} الْخلق إِلَيْهِ.

24

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد علمنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُم وَلَقَد علمنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} قَالَ الشّعبِيّ: مَعْنَاهُ: وَلَقَد علمنَا الْأَوَّلين مِنْكُم والآخرين، وَيُقَال مَعْنَاهُ: علمنَا الْمُتَقَدِّمين مِنْكُم بِالطَّاعَةِ، والمتأخرين مِنْكُم بالمعصية، وَقيل: علمنَا من خلقنَا مِنْكُم وَمن سنخلقه من بعد. وَعَن الرّبيع بن أنس " أَن النَّبِي حض النَّاس على الْجَمَاعَة فَتقدم بَعضهم، وَتَأَخر الْبَعْض لِكَثْرَة الْجمع؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَقَد علمنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُم وَلَقَد علمنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} ". وَيُقَال مَعْنَاهُ: وَلَقَد علمنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُم فِي حق الْقِتَال، وَعلمنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ عَنهُ. وَفِي الْآيَة خبر مُسْند بِرِوَايَة أبي الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس: " أَن امْرَأَة كَانَت تحضر الْجَمَاعَة، وَهِي من أحسن النِّسَاء وَجها، فَكَانَ قوم يتقدمون لِئَلَّا يرونها، وَقوم يتأخرون. فَإِذا ركعوا نظرُوا إِلَيْهَا من تَحت آباطهم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". أوردهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن رَبك هُوَ يحشرهم} يَعْنِي: يحشرهم إِلَى الْقِيَامَة. وَقَوله: {إِنَّه حَكِيم عليم} أَي: حَكِيم فِي تَدْبيره، عليم بخلقه.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من صلصال من حمأ مسنون} الصلصال هُوَ

( {26) والجان خلقناه من قبل من نَار السمُوم (27) وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي خَالق} الطين الْيَابِس الَّذِي إِذا حرك صلصل أَي: صَوت، قَالَ الشَّاعِر: (وقاع ترى الصلصال فِيهِ ودونه ... بقاع تلال بالعرى والمناكب) وَيُقَال: الصلصال المنتن، يُقَال: صل اللَّحْم إِذا أنتن، وَذكر الْكَلْبِيّ عَن ابْن عَبَّاس: أَن الصلصال هُوَ الطين الرطب، وَيُقَال: إِذا جرى المَاء على الأَرْض الطينة، ثمَّ انحسر المَاء وتشققت الأَرْض حَتَّى يرى مثل الخزف، فَهُوَ صلصال. وَقَوله: {من حمأ مسنون} الحمأ: الحمأة، وَهِي الطين الْأسود، والمسنون: الْمُتَغَيّر المنتن، كَذَلِك قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ بَعضهم: الْمسنون المصبوب، وَهَذَا يشبه القَوْل الَّذِي بَينا أَن الصلصال هُوَ الطين الرطب، وَفِي الْآثَار: أَن الْحسن كَانَ يسن المَاء على وَجهه سنا، أَي: يصب. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن الْمسنون هُوَ المصبوب على قالب وَصُورَة، وَفِي بعض (التفاسير) : أَن الله تَعَالَى خمر طِينَة آدم، وَتَركه حَتَّى صَار متغيرا أسود منتنا، ثمَّ خلق آدم مِنْهَا.

27

قَوْله: {والجآن خلقناه من قبل من نَار السمُوم} يُقَال: الجآن هُوَ إِبْلِيس، وَيُقَال: الجآن أَبُو الْجِنّ، كَمَا أَن آدم أَبُو الْبشر، وَأما إِبْلِيس هُوَ أَبُو الشَّيَاطِين، وَفِي الْجِنّ مُؤمنُونَ وكافرون، ويحيون ويموتون. وَأما الشَّيَاطِين فَلَيْسَ فيهم مُسلم، ويموتون إِذا مَاتَ إِبْلِيس، وَذكر وهب بن مُنَبّه: أَن من الْجِنّ من يُولد لَهُم، ويأكلون وَيَشْرَبُونَ بِمَنْزِلَة الْآدَمِيّين، وَمن الْجِنّ من هم بِمَنْزِلَة الرّيح لَا يتوالدون، وَلَا يَأْكُلُون، وَلَا يشربون، وَالله أعلم. وَقَوله: {من نَار السمُوم} أَي: من الرّيح الحارة، والسموم: ريح حارة تدخل فِي مسام الْإِنْسَان فتقتله، وَيُقَال: إِن السمُوم بِالنَّهَارِ والحرور بِاللَّيْلِ، وَيُقَال: إِن السمُوم

{بشرا من صلصال من حمأ مسنون (28) فَإِذا سويته ونفخت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين (29) فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيس أَبى أَن يكون مَعَ} بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار جَمِيعًا، وَقيل: نَار السمُوم لهيب النَّار. وَفِي بعض الْآثَار عَن عبد الله بن مَسْعُود: أَن هَذَا السمُوم الَّذِي نرَاهُ جُزْء من سبعين جُزْءا من سموم جَهَنَّم. وَيُقَال: من نَار السمُوم أَي: من نَار جَهَنَّم.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي خَالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون} قد ذكرنَا.

29

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا سويته} أَي: صورته. وَقَوله: {ونفخت فِيهِ من روحي} الرّوح: جسم لطيف يحيا بِهِ الْإِنْسَان، [وأضافها] إِلَى نَفسه تَشْرِيفًا وتكريما. وَقَوله: {فقعوا لَهُ ساجدين} أَي: أسقطوا لَهُ ساجدين.

30

قَوْله تَعَالَى: {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} فِي بعض التفاسير: أَنه قَالَ لجَماعَة من الْمَلَائِكَة: اسجدوا لآدَم فَلم يَفْعَلُوا؛ فَجَاءَت نَار وأحرقتهم جَمِيعًا، ثمَّ قَالَ لجَماعَة آخَرين: اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس. وَقَوله: {كلهم أَجْمَعُونَ} فِيهِ سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ أَنه يُقَال: لما قَالَ {فَسجدَ الْمَلَائِكَة} ؟ فأيش فَائِدَة قَوْله: {كلهم أَجْمَعُونَ} ؟ . وَالْجَوَاب: أَن الْخَلِيل وسيبويه زعما أَن هَذَا تَأْكِيدًا بعد تَأْكِيد، (وَذكر) الْمبرد أَن قَوْله: {فَسجدَ الْمَلَائِكَة} كَانَ من الْمُحْتَمل أَن بَعضهم سجد؛ فَذكر كلهم ليزيل هَذَا الْإِشْكَال، ثمَّ كَانَ يحْتَمل أَنهم سجدوا فِي أَوْقَات مُخْتَلفَة؛ فَذكر أَجْمَعُونَ ليزيل الالتباس.

31

وَقَوله: {إِلَّا إِبْلِيس أَبى أَن يكون مَعَ الساجدين} ظَاهر الْمَعْنى.

32

قَوْله تَعَالَى:

{الساجدين (31) قَالَ يَا إِبْلِيس مَا لَك أَلا تكون مَعَ الساجدين (32) قَالَ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون (33) قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم (34) وَإِن عَلَيْك اللَّعْنَة إِلَى يَوْم الدّين (35) قَالَ رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون (36) } {قَالَ يَا إِبْلِيس مَا لَك أَلا تكون مَعَ الساجدين} مَعْنَاهُ: لم لم تسْجد وَقد أَمرتك؟

33

قَوْله: {قَالَ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} مَعْنَاهُ: أَنِّي أفضل مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ طيني، وَأَنا نَارِي، وَالنَّار تَأْكُل الطين. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الله تَعَالَى خلق الْمَلَائِكَة من نور الْعِزَّة، وَخلق الجآن من النَّار، وَخلق آدم من التُّرَاب ". فَإِن قَالَ: إِذا كَانَ عنْدكُمْ أَن إِبْلِيس من الْمَلَائِكَة، وَقد خلقُوا من النُّور، فَكيف قَالَ إِبْلِيس خلقتني من نَار؟ الْجَواب عَنهُ: أَن إِبْلِيس كَانَ من قَبيلَة من الْمَلَائِكَة خلقُوا من النَّار، وَقد ذكرنَا فِي سُورَة الْبَقَرَة.

34

قَوْله: {قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم وَإِن عَلَيْك اللَّعْنَة إِلَى يَوْم الدّين} ظَاهر الْمَعْنى، وَيُقَال: إِن إِبْلِيس مَلْعُون السَّمَاء وَالْأَرْض، وَإِن أهل السَّمَاء يلعنونه، كَمَا أَن أهل الأَرْض يلعنونه.

36

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون} أَي: فأمهلني إِلَى يَوْم الْبَعْث، وَأَرَادَ الملعون أَلا يَمُوت؛ فَأَجَابَهُ الله تَعَالَى وَقَالَ:

37

{إِنَّك من المنظرين إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم} أَي: الْوَقْت الَّذِي يَمُوت فِيهِ الْخَلَائق، وَيُقَال: إِن مُدَّة موت إِبْلِيس أَرْبَعُونَ سنة، وَهُوَ مَا بَين النفختين. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: إِن إِبْلِيس لما سَأَلَ الْإِمْهَال لم تكن إِجَابَة الله إِيَّاه كَرَامَة لَهُ، بل كَانَت زِيَادَة لَهُ فِي شقائه وبلائه.

{قَالَ فَإنَّك من المنظرين (37) إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم (38) قَالَ رب بِمَا أغويتني لأزينن لَهُم فِي الأَرْض ولأغوينهم أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين (40) قَالَ هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم (41) إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من}

39

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب بِمَا أغويتني} الْأَكْثَرُونَ على أَن مَعْنَاهُ: بِمَا أضللتني، وَقيل: بِمَا خيبتني من رحمتك، وَقيل: بِمَا أهلكتني، وَيُقَال: بِمَا نسبتني إِلَى الغواية، وَهُوَ تَأْوِيل بَاطِل عِنْد أهل السّنة. وَقَوله: {لأزينن لَهُم فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: لأزينن لَهُم حب الدُّنْيَا والغواية. وَقَوله: {ولأغوينهم أَجْمَعِينَ} أَي: لأضلنهم أَجْمَعِينَ، وَالْمرَاد من إغواء إِبْلِيس تسببه إِلَى الغواية.

40

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} والمخلصين: ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا من قبل.

41

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم} أَكثر أهل الْمعَانِي على أَن الْآيَة للتهديد والوعيد، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: طريقك عَليّ، مسيرك إِلَيّ، أَي: لَا تفلت مني. وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك لبالمرصاد} أَي: على طَرِيق الْخلق. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن معنى قَوْله: {هَذَا صِرَاط عَليّ} أَي: إِلَيّ. وَقَوله {مُسْتَقِيم} أَي: بأَمْري وإرادتي. وَالْقَوْل الثَّالِث: صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم أَي: عَليّ استقامته بِالْبَيَانِ والبرهان والتوفيق وَالْهِدَايَة، وَقَرَأَ الْحسن وَابْن سِيرِين: " هَذَا صِرَاط عَليّ مُسْتَقِيم " أَي: رفيع، وعبروا عَنهُ: رفيع من أَن ينَال، مُسْتَقِيم من أَن يمال، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الصِّرَاط بِمَعْنى الطَّرِيق: (أَمِير الْمُؤمنِينَ على صِرَاط ... إِذا اعوج الْمَوَارِد مُسْتَقِيم)

42

قَوْله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين} هَذَا تَحْقِيق لقَوْله تَعَالَى فِيمَا سبق: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} .

{الغاوين (42) وَإِن جَهَنَّم لموعدهم أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب لكل بَاب مِنْهُم جُزْء مقسوم (44) إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات وعيون (45) ادخلوها بِسَلام آمِنين (46) }

43

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جَهَنَّم لموعدهم أَجْمَعِينَ} يَعْنِي: موعد إِبْلِيس وَمن تبعه للخلود فِيهَا.

44

قَوْله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب} رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: سَبْعَة أَبْوَاب بَعْضهَا فَوق بعض، وَقَالَ ابْن جريج: النَّار سَبْعَة دركات: أولاها جَهَنَّم، ثمَّ لظى، ثمَّ الحطمة، ثمَّ السعير، ثمَّ سقر، ثمَّ الْجَحِيم، ثمَّ الهاوية. وَقَوله: {لكل بَاب مِنْهُم جُزْء مقسوم} أَي: لكل دركة قوم يسكنونها بِقدر ذنوبهم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن فِي الدركة الأولى [الْمُسلمين]- يَعْنِي: الَّذين أدخلُوا النَّار بِقدر ذنوبهم ثمَّ يخرجُون مِنْهَا - وَفِي الثَّانِيَة النَّصَارَى، وَفِي الثَّالِثَة الْيَهُود، وَفِي الرَّابِعَة [الصابئين] ، وَفِي الْخَامِسَة الْمَجُوس، وَفِي السَّادِسَة أهل الشّرك، وَفِي السَّابِعَة [الْمُنَافِقين] .

45

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات وعيون} أَي: فِي بساتين وأنهار.

46

قَوْله: {ادخلوها بِسَلام أمنين} يَعْنِي: يُقَال لَهُم: ادخلوها بِسَلام آمِنين، وَالسَّلَام هُوَ السَّلامَة، والأمن من الْمَوْت وَالْخُرُوج.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل} فِي الْأَخْبَار المسندة عَن النَّبِي قَالَ: " يحبس الْمُؤْمِنُونَ على قنطرة بَين النَّار وَالْجنَّة فيقتص لبَعْضهِم من بعض، حَتَّى إِذا هذبوا ونقوا، وَخرج الغل من قُلُوبهم، أَمر بهم إِلَى الْجنَّة ". وَأما الغل فقد قيل: إِنَّه الشحناء والعداوة، وَقيل: إِنَّه الحقد والحسد والخيانة، قَالَ الشَّاعِر: (جزى الله عَنَّا جَمْرَة ابْنة نَوْفَل ... جَزَاء مغل بالأمانة كَاذِب)

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل إخْوَانًا على سرر مُتَقَابلين (47) لَا يمسهم فِيهَا نصب وَمَا هم مِنْهَا بمخرجين (48) نبىء عبَادي أَنِّي أَنا الغفور الرَّحِيم (49) وَأَن عَذَابي هُوَ} أَي: خائن. وَفِي بعض الْآثَار: أَن أهل الْجنَّة يصلونَ إِلَى بَاب الْجنَّة والغل فِي صُدُورهمْ، فَإِذا دخلُوا يذهب الغل كُله عَن صُدُورهمْ. وَمن الْمَعْرُوف عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَن أكون وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل إخْوَانًا على سرر مُتَقَابلين} . وَقَوله: {على سرر مُتَقَابلين} أَي: لَا ينظر بَعضهم إِلَى قفا بعض، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَن الْمُؤمن فِي الْجنَّة إِذا ود أَن يلقاه أَخَاهُ الْمُؤمن سَار سَرِير كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى صَاحبه، ويلتقيان ويتحدثان، ثمَّ ينْصَرف كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى منزله ".

48

قَوْله تَعَالَى: {لَا يمسهم فِيهَا نصب} أَي: تَعب. قَوْله: {وَمَا هم مِنْهَا بمخرجين} هَذَا أنص آيَة فِي الْقُرْآن على الخلود؛ هَكَذَا قَالَ أهل الْعلم.

49

قَوْله تَعَالَى: {نبىء عبَادي أَنِّي أَنا الغفور الرَّحِيم} رُوِيَ أَن النَّبِي خرج على الصَّحَابَة، وهم يَضْحَكُونَ، فَقَالَ لَهُم: " أتضحكون، وَبَين أَيْدِيكُم النَّار؛ فجَاء جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَة وَقَالَ: يَقُول لَك رَبك: يَا مُحَمَّد، لم تقنط عبَادي؟ "

{الْعَذَاب الْأَلِيم (50) ونبئهم عَن ضيف إِبْرَاهِيم (51) إِذْ دخلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاما قَالَ إِنَّا مِنْكُم وجلون (52) قَالُوا لَا توجل إِنَّا نبشرك بِغُلَام عليم (53) قَالَ أبشرتموني على أَن مسني الْكبر فَبِمَ تبشرون (54) قَالُوا بشرناك بِالْحَقِّ فَلَا تكن من القانطين} وَقَوله: {أَنِّي أَنا الغفور الرَّحِيم وَأَن عَذَابي هُوَ الْعَذَاب الْأَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى. وروى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَو يعلم الْمُؤمن مَا عِنْد الله من الرَّحْمَة مَا تورع عَن ذَنْب، وَلَو يعلم الْكَافِر مَا عِنْد الله من الْعقُوبَة لنخع نَفسه ". وَأورد مُسلم فِي صَحِيحه مَا هُوَ قريب من هَذَا.

51

قَوْله تَعَالَى: {ونبئهم عَن ضيف إِبْرَاهِيم} قيل مَعْنَاهُ: عَن أضياف إِبْرَاهِيم، وَقد بَينا عدد الْمَلَائِكَة الَّذين كَانُوا أضيافه.

52

وَقَوله: {إِذا دخلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاما} أَي: سلمُوا سَلاما. وَقَوله: {قَالَ إِنَّا مِنْكُم وجلون} وَسبب وَجل إِبْرَاهِيم مِنْهُم؛ أَنه قرب إِلَيْهِم الطَّعَام فَلم يأكلوه، وَقد كَانُوا إِذا لم يَأْكُل الضَّيْف استرابوا بِهِ.

53

{قَالُوا لَا توجل} أَي: لَا تخف، قَالَ الشَّاعِر: (لعمرك لَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل ... على أَيّنَا تعدو الْمنية أول) وَقَوله: {إِنَّا نبشرك بِغُلَام عليم} مَعْنَاهُ: غُلَام فِي صغره، عليم فِي كبره، وَهُوَ إِسْحَاق.

54

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ أبشرتموني} الأَصْل: أبشرتمونني؛ فأسقط إِحْدَى النونين وَاكْتفى بالكسرة. وَقَوله: {على أَن مسني الْكبر} يَعْنِي: على حَال الْكبر، وَهَذَا على طَرِيق التَّعَجُّب، وَكَذَلِكَ قَوْله: {فَبِمَ تبشرون} على طَرِيق التَّعَجُّب، وَلَيْسَ على طَرِيق الشَّك وَالْإِنْكَار.

55

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بشرناك بِالْحَقِّ فَلَا تكن من القاطنين} الْحق: وضع الشَّيْء فِي مَوْضِعه على مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحِكْمَة، والقنوط هُوَ الْيَأْس، وَمعنى الْحق هَاهُنَا هُوَ الصدْق.

( {55) قَالَ وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون (56) قَالَ فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين (58) إِلَّا آل لوط إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَته قَدرنَا إِنَّهَا لمن الغابرين (60) فَلَمَّا جَاءَ آل لوط المُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُم قوم منكرون (62) قَالُوا بل جئْنَاك بِمَا كَانُوا فِيهِ يمترون (63) وأتيناك بِالْحَقِّ وَإِنَّا}

56

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ وَمن يقنط من رَحْمَة ربه إِلَّا الضالون} يَعْنِي: إِلَّا الْكَافِرُونَ، والقنوط من رَحْمَة الله كَبِيرَة من الْكَبَائِر كالأمن من مكر الله.

57

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ} قد ذكرنَا مَعْنَاهُ فِي سُورَة هود.

58

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين} أَرَادَ بِهِ قوم لوط.

59

وَقَوله: {إِلَّا آل لوط} المُرَاد مِنْهُ لوط وَبنَاته وَمن آمن بِهِ، وَقد ذكرنَا. وَقَوله: {إِنَّا لمنجوهم أَجْمَعِينَ} هَذَا اسْتثِْنَاء من الِاسْتِثْنَاء، فالاستثناء الأول من المهلكين، وَالثَّانِي من المنجين، فَبَقيَ الْمُسْتَثْنى بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي فِي المهلكين وَهُوَ امْرَأَته، وَهَذَا مثل مَا يَقُول الرجل لَك: على عشرَة إِلَّا أَرْبَعَة إِلَّا ثَلَاثَة، فالمستثنى بِالِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي (بَقِي) فِي الْمقر بِهِ بِالْإِقْرَارِ الأول، فَيصير كَأَنَّهُ اسْتثْنى درهما، وَيجب تِسْعَة دَرَاهِم. وَقَوله: {قَدرنَا} أَي: حكمنَا. وَقَوله: {إِنَّهَا لمن الغابرين} أَي: من البَاقِينَ فِي الْعَذَاب، قَالَ الشَّاعِر: (لَا تكسع الشول بأغبارها ... إِنَّك لَا تَدْرِي من الناتج) أَي: ببقاياها، وَفِي الْأَحَادِيث: " يذهب أهل الْعلم وَتبقى غبرات فِي أوعية سوء " أَي: بقايا.

61

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ آل لوط المُرْسَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

62

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّكُم قوم منكرون} لِأَنَّهُ لم يعرفهُمْ.

63

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بل جئْنَاك بِمَا كَانُوا فِيهِ يمترون} أَي: يَشكونَ، وَفِي الْقِصَّة: أَن لوطا كَانَ يتوعدهم بِالْعَذَابِ، فَلَا يصدقونه فَهُوَ فِي معنى قَوْله: {بِمَا كَانُوا فِيهِ يمترون} .

{لصادقون (64) فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل وَاتبع أدبارهم وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد وامضوا حَيْثُ تؤمرون (65) وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمر أَن دابر هَؤُلَاءِ مَقْطُوع مصبحين (66) وَجَاء أهل الْمَدِينَة يستبشرون (67) قَالَ إِن هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تفضحون (68) وَاتَّقوا الله وَلَا تخزون (69) قَالُوا أولم ننهك عَن الْعَالمين (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن}

64

وَقَوله: {وآتيناك بِالْحَقِّ وَإِنَّا لصادقون} ظَاهر الْمَعْنى.

65

قَوْله تَعَالَى: {فَأسر بأهلك} سرى وَأسرى بِمَعْنى وَاحِد. وَقَوله: {بِقطع من اللَّيْل} أَي: بِقِطْعَة من اللَّيْل. وَقَوله: {وَاتبع أدبارهم} هَذَا دَلِيل على أَن الله تَعَالَى أمره أَن يقدم أَهله، ثمَّ يمْضِي فِي إثرهم. وَقَوله: {وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد} أَمرهم بترك الإلتفات حَتَّى لَا يرتاعوا من الْعَذَاب إِذا نزل بقومهم، وَقيل: إِن الله تَعَالَى جعل ذَلِك عَلامَة لمن ينجو من آل لوط، فَإِن الْمَرْأَة التفتت لما سَمِعت الهدة فَهَلَكت. وَقَوله: {وامضوا حَيْثُ تؤمرون} يُقَال: أمروا أَن يمضوا إِلَى " زغر "، وَهِي بَلْدَة بِالشَّام، وَقيل: إِلَى أَرض الْأُرْدُن وفلسطين.

66

قَوْله تَعَالَى: {وقضينا إِلَيْهِ ذَلِك الْأَمر} قد ذكرنَا أَن الْقَضَاء بِمَعْنى الْفَرَاغ وَمَعْنَاهُ: أَنا حكمنَا وأبرمنا الْأَمر الَّذِي أمرناه فِي قوم لوط. وَقَوله: {أَن دابر هَؤُلَاءِ} أَي: أصل هَؤُلَاءِ، وَقيل: آخر هَؤُلَاءِ {مَقْطُوع مصبحين} يَعْنِي: حِين يدْخلُونَ فِي الصُّبْح.

67

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء أهل الْمَدِينَة يستبشرون} يَعْنِي: يبشر بَعضهم بَعْضًا لما يرجون من ارْتِكَاب الْفَاحِشَة.

68

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تفضحون} الفضيحة: فعل يفعل بِالْمَرْءِ يلْزمه بِهِ الْعَار (والأنفة)

69

{فَاتَّقُوا الله وَلَا تخزون} فالخزي بِمَعْنى الفضيحة.

70

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أولم ننهك عَن الْعَالمين} مَعْنَاهُ: أولم ننهك أَن تضيف

{كُنْتُم فاعلين (71) لعمرك إِنَّهُم لفي سكرتهم يعمهون (72) فَأَخَذتهم الصَّيْحَة مشرقين (73) فَجعلنَا عاليها سافلها وأمطرنا عَلَيْهِم حِجَارَة من سجيل (74) إِن فِي ذَلِك لآيَات} أحدا، وَقيل: أولم ننهك عَن الْعَالمين، يَعْنِي: إِدْخَال الغرباء فِي الْمَدِينَة، فَإنَّك إِن أدخلتهم (نركب مِنْهُم) الْفَاحِشَة.

71

{قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُم فاعلين} قد بَينا.

72

وَقَوله: {لعمرك إِنَّهُم لفي سكرتهم يعمهون} قَالَ ابْن عَبَّاس: وعيشك، وَقيل: وحياتك. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: مَا خلق الله خلقا أكْرم عَلَيْهِ من مُحَمَّد، فَإِن الله تَعَالَى لم يقسم بحياة أحد إِلَّا بحياة مُحَمَّد. وَقَوله: {لفي سكرتهم يعمهون} أَي: فِي ضلالتهم يَتَرَدَّدُونَ.

73

قَوْله تَعَالَى: {فَأَخَذتهم الصَّيْحَة مشرقين} يُقَال: أشرقت الشَّمْس إِذا طلعت، فَإِن قيل: قد قَالَ قبل هَذَا: {مصبحين} ، وَقَالَ هَاهُنَا: {مشرقين} فَكيف وَجه الْجمع؟ الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن ابْتِدَاء الْعَذَاب كَانَ من الصُّبْح، وَتَمَامه عِنْد الْإِشْرَاق. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن الْإِشْرَاق هَاهُنَا بِمَعْنى الإصباح، وَهُوَ جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب.

74

وَقَوله: {فَجعلنَا عاليها سافلها} قد بَينا. وَقَوله: {وأمطرنا عَلَيْهِم حِجَارَة من سجيل} قد بَينا.

75

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين} أَي: للناظرين المعتبرين. وَقيل للمتفرسين، وهم الَّذين يعلمُونَ النَّاس [بِسِيمَاهُمْ] على مَا يُرِيهم الله مِنْهَا.

{للمتوسمين (75) وَإِنَّهَا لبسبيل مُقيم (76) إِن فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين (77) وَإِن كَانَ} وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي: " اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله " رَوَاهُ عَطِيَّة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي، ذكره أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه. وروى ثَابت عَن أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أمتِي قوم يعلمُونَ النَّاس بالتوسم "

76

وَقَوله: {وَإِنَّهَا لبسبيل مُقيم} أَي: بطرِيق وَاضح لَا يخفى وَلَا يندرس، وَسَماهُ مُقيما لثُبُوت الْآيَات فِيهِ، وَقد كَانُوا يَمرونَ عَلَيْهَا عِنْد مضيهم إِلَى الشَّام ورجوعهم.

77

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين} ظَاهر الْمَعْنى.

78

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَانَ أَصْحَاب الأيكة لظالمين} قَالَ أهل الْمعَانِي: " إِن " للتَّأْكِيد، وَكَذَا اللَّام فِي قَوْله {لظالمين} وَمعنى الْآيَة: وَقد كَانَ أَصْحَاب الأيكة ظالمين. والأيكة هِيَ الغيضة، وَقيل: هِيَ الشّجر الملتف، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ شجرهم دَوْمًا، وَقَالَ بَعضهم: كَانَت أَشْجَارهم مثمرة يَأْكُلُون مِنْهَا رطبا بالصيف ويابسا بالشتاء، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {ليكة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الأيكة وليكة بِمَعْنى وَاحِد. وَالْآخر: أَن الأيكة اسْم الْبِلَاد، وليكة اسْم الْقرْيَة، قَالَ أهل التَّفْسِير: وَكَانَ رسولهم شُعَيْب النَّبِي، وَبعث إِلَى أهل مَدين وَإِلَى أهل الأيكة، فَأَما أهل مَدين

{أَصْحَاب الأيكة لظالمين (78) فانتقمنا مِنْهُم وإنهما لبإمام مُبين (79) وَلَقَد كذب أَصْحَاب الْحجر الْمُرْسلين (80) وآتيناهم آيَاتنَا فَكَانُوا عَنْهَا معرضين (81) وَكَانُوا ينحتون من الْجبَال بُيُوتًا آمِنين (82) فَأَخَذتهم الصَّيْحَة مصبحين (83) فَمَا أغْنى عَنْهُم} أهلكوا بالصيحة، وَأما أهل الأيكة فأهلكوا بِعَذَاب [الظلة] . وَفِي الْقِصَّة: أَنه أَصَابَهُم حر شَدِيد فِي مَنَازِلهمْ، وَمنع الله تَعَالَى الرّيح عَنْهُم، وشدد الْحر عَلَيْهِم، وَكَانُوا كَذَلِك أَيَّامًا، ثمَّ اضطرم عَلَيْهِم الْوَادي نَارا فهلكوا أَجْمَعِينَ. وَيُقَال: إِنَّهُم هَلَكُوا غما؛ وَهَذَا معنى قَوْله: {فانتقمنا مِنْهُم} . وَقَوله: {وإنهما لبإمام مُبين} أَي: بطرِيق وَاضح، وسمى الطَّرِيق إِمَامًا؛ لِأَنَّهُ يؤتم بِهِ وَتبع، وَالْكِنَايَة فِي قَوْله: {وإنهما} تَنْصَرِف إِلَى قَرْيَة قوم لوط وقرية أَصْحَاب الأيكة، وَهَذِه الْبِلَاد بَين الْحجاز وَالشَّام، وَقد كَانَت قُرَيْش يَمرونَ عَلَيْهَا فِي أسفارهم.

80

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كذب أَصْحَاب الْحجر الْمُرْسلين} " الْحجر ": ديار ثَمُود. وَقَوله: {الْمُرْسلين} المُرَاد بِهِ صَالح - عَلَيْهِ السَّلَام

81

- وَقَوله: {وآتيناهم آيَاتنَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَات فِي النَّاقة: خُرُوجهَا من الصَّخْرَة، وكبرها وَقرب وِلَادَتهَا وغزارة لَبنهَا، فقد كَانُوا يحلبونها مَا يكفيهم يَوْمًا. وَقَوله: {فَكَانُوا عَنْهَا معرضين} ظَاهر الْمَعْنى.

82

قَوْله: {وَكَانُوا ينحتون من الْجبَال بُيُوتًا آمِنين} أَي: آمِنين من الْوُقُوع عَلَيْهِم، وَقيل: (عَلَيْهِم) آمِنين من الخراب، وَقيل: آمِنين من الْعَذَاب.

83

وَقَوله: {فَأَخَذتهم الصَّيْحَة مصبحين} أَي: حِين دخلُوا فِي الصُّبْح.

84

وَقَوله: {فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أَي: مَا دفع عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.

{مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِن السَّاعَة لآتية فاصفح الصفح الْجَمِيل (85) إِن رَبك هُوَ الخلاق الْعَلِيم (86) وَلَقَد آتيناك سبعا}

85

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أَي: لإِظْهَار الْحق، وَوجه اتِّصَال هَذَا بِمَا قبله فِي الْمَعْنى أَنهم لما كذبُوا بِالْحَقِّ أهلكناهم؛ لأَنا مَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، وَقيل: معنى الْحق هُوَ جَزَاء المحسن بإحسانه، وَجَزَاء المسيىء بإساءته. قَوْله تَعَالَى: {وَإِن السَّاعَة لآتية} أَي: فَيظْهر الْجَزَاء بِالْإِحْسَانِ والإساءة. وَقَوله: {فاصفح الصفح الْجَمِيل} أَي: أعرض عَنْهُم من غير جزع وَلَا شكوى. قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخ بِآيَة السَّيْف.

86

وَقَوله: {إِن رَبك هُوَ الخلاق الْعَلِيم} يَعْنِي: الْخَالِق الْعَلِيم بخلقه.

87

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا، فَروِيَ عَن عمر وَعلي وَعبد الله بن مَسْعُود - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - وَمُجاهد وَقَتَادَة أَنهم قَالُوا: هِيَ فَاتِحَة الْكتاب، وَقد ثَبت هَذَا عَن النَّبِي بِرِوَايَة آدم بن أبي إِيَاس عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " الْحَمد لله: أم الْكتاب، والسبع المثاني، وَالْقُرْآن الْعَظِيم ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل شيخ الْإِسْلَام أَبُو المظفر: أخبرناه الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني قَالَ: أَنا جدي أَبُو الْهَيْثَم مُحَمَّد بن الْمَكِّيّ، قَالَ: أَنا الْفربرِي، قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ عَن آدم بن أبي إِيَاس ... " الْخَبَر. وَقد اخْتلفُوا فِي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَقَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس: إِنَّهَا الْآيَة السَّابِعَة، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَمُجاهد وَقَتَادَة: إِنَّهَا لَيست بِآيَة مِنْهَا، وَالْآيَة السَّابِعَة قَوْله: {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم} . وروى أبي بن كَعْب أَن النَّبِي قَالَ: " أنزلت عَليّ سُورَة مَا أنزلت فِي التَّوْرَاة

وَالْإِنْجِيل مثلهَا، وَهِي أم الْقُرْآن، والسبع المثاني، وَالْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أَعْطيته " ذكره أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن السَّبع المثاني هِيَ السَّبع (الطول) وَوَاحِدَة الطول طولى، وَهِي الْبَقَرَة وَآل عمرَان وَالنِّسَاء والمائدة والأنعام والأعراف وَيُونُس وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُول، وَهُوَ قَول عبد الله بن عَبَّاس - فِي رِوَايَة سعيد بن جُبَير - وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَجَمَاعَة من التَّابِعين. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن السَّبع المثاني: الْأَمر، وَالنَّهْي، والبشارة، والنذارة، وَضرب الْأَمْثَال، وتعداد النعم، وأنباء الْقُرُون السالفة. وَأما معنى المثاني: فَإِذا حملنَا الْآيَة على الْفَاتِحَة، فَمَعْنَاه: أَنَّهَا تثنى فِي كل رَكْعَة، وَقيل: لِأَن فِيهَا الثَّنَاء على الله تَعَالَى، فَهُنَا تكون " من " للتجنيس لَا للتَّبْعِيض، فَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} وَذكر بَعضهم أَن معنى الْآيَة: وَلَقَد آتيناك سبعا من الْقُرْآن الَّذِي هُوَ مثاني، وَسمي الْقُرْآن مثاني؛ لِأَنَّهُ تثنى [فِيهِ] الْأَحْكَام والقصص والأمثال والعبر؛ فَتكون على هَذَا " من " للتَّبْعِيض، وَأما على القَوْل الَّذِي قُلْنَا أَن سبع المثاني هِيَ السَّبع (الطول) فَإِنَّمَا سَمَّاهَا مثاني؛ لِأَنَّهُ يثني فِيهَا الْأَخْبَار والأمثال والعبر والقصص. وَأما قَوْله: {وَالْقُرْآن الْعَظِيم} المُرَاد مِنْهُ سَائِر الْقُرْآن سوى الْفَاتِحَة، وَفِي هَذَا شرف عَظِيم للفاتحة؛ لِأَنَّهُ خصها بِالذكر والإمتنان عَلَيْهِ بهَا، ثمَّ ذكر سَائِر الْقُرْآن، وعَلى القَوْل الثَّانِي: الْقُرْآن الْعَظِيم هُوَ السَّبع (الطول) وَغَيرهَا، وَخص السَّبع

{من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم (87) لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم وَلَا} (الطول) بِالذكر تَشْرِيفًا لَهَا، قَالَ الشَّاعِر: (نشدتكم بمنزل الْفرْقَان ... أم الْكتاب السَّبع من المثاني) ((ثِنْتَيْنِ) من آي من الْقُرْآن ... )

88

قَوْله تَعَالَى: {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَّا مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} وَجه اتِّصَال هَذَا بِمَا قبله أَنه لما من عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، نَهَاهُ عَن الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا وَالنَّظَر إِلَى زينتها، ومزاحمة أَهلهَا عَلَيْهَا، وروى أَبُو عبيد أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ فِي معنى قَوْله: " لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " أَي: لم يسْتَغْن بِالْقُرْآنِ، ثمَّ تَأَول هَذِه الْآيَة {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم، لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} على هَذَا. وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أُوتِيَ الْقُرْآن فَظن أَن أحدا أعْطى أفضل مِمَّا أعْطى فقد صغر عَظِيما وَعظم صَغِيرا ". وَقَوله: {أَزْوَاجًا مِنْهُم} مَعْنَاهُ: أصنافا مِنْهُم، وهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْمُشْركين، وَقيل: إِنَّهُم الْأَغْنِيَاء. وَقَوله: {وَلَا تحزن عَلَيْهِم} يَعْنِي: لَا تغتم على مَا فاتك من مشاركتهم فِي الدُّنْيَا،

{تحزن عَلَيْهِم واخفض جناحك للْمُؤْمِنين (88) وَقل إِنِّي أَنا النذير الْمُبين (89) كَمَا} وَفِي بعض التفاسير عَن أبي رَافع: " أَن رَسُول الله أَتَاهُ ضيف فَلم يَك عِنْده مَا يقدمهُ إِلَيْهِ؛ فَبعث إِلَى يَهُودِيّ يستقرض مِنْهُ طَعَاما إِلَى هِلَال رَجَب، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: وَالله لَا أعطينه إِلَّا برهن، فَقَالَ رَسُول الله: أَنا أَمِين الله فِي السَّمَاء وَالْأَرْض، وَلَو بَاعَنِي أَو أَسْلفنِي لقضيته ثمَّ بِعْت بدرعه فرهنها مِنْهُ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ} . وَقَوله: {واخفض جناحك للْمُؤْمِنين} أَي: ألن جَانِبك للْمُؤْمِنين.

89

وَقَوله تَعَالَى: {وَقل إِنِّي أَنا النذير الْمُبين} للحق.

90

قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أنزلنَا على المقتسمين} فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى الْكَاف هَاهُنَا، وَهِي للتشبيه؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ أنذركم عذَابا ينزل بكم، كَمَا أنزلنَا على المقتسمين من الْعَذَاب، وَيُقَال: إِن الْكَاف صلَة، وَمَعْنَاهُ: وَقل إِنِّي أَنا النذير الْمُبين مَا أنزلنَا على المقتسمين. وَأما معنى المقتسمين فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَمعنى الاقتسام مِنْهُم أَنهم آمنُوا بِبَعْض الْكتب وَكَفرُوا بِالْبَعْضِ، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم قُرَيْش، وَمعنى الاقتسام أَنهم فرقوا القَوْل فِي رَسُول الله فَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَاهِن، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ سَاحر، وَبَعْضهمْ: هُوَ شَاعِر. وَالْقَوْل الثَّالِث: ذكر الْفراء أَن أهل مَكَّة بعثوا بِقوم فِي طرق الواردين إِلَى مَكَّة أَيَّام الْمَوْسِم حَتَّى يَقُولُوا لمن لَقِيَهُمْ من الواردين إِلَى مَكَّة: لَا تقربُوا مُحَمَّدًا، وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُمْ عَن حَاله؛ فَيَقُول بَعضهم: هُوَ كَاهِن، وَيَقُول بَعضهم: هُوَ مَجْنُون، وَيَقُول

{أنزلنَا على المقتسمين (90) الَّذين جعلُوا الْقُرْآن عضين (91) فوربك لنسألنهم} بَعضهم: هُوَ سَاحر، وَبَعْضهمْ يَقُول: هُوَ شَاعِر، وَمعنى الاقتسام: أَنهم اقتسموا طرق مَكَّة، وَهَذَا قَول مَعْرُوف ذكره مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا.

91

وَقَوله: {الَّذين جعلُوا الْقُرْآن عضين} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عضين مَأْخُوذ من الإعضاء، (وَزعم) الْفراء: أَنه من الْعضَاة. وَقَالَ الْكسَائي: يجوز أَن يكون مِنْهُمَا، وَمعنى الْآيَة أَنهم جعلُوا الْقُرْآن أبعاضا وأجزاء، فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه أساطير الْأَوَّلين، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه كهَانَة، وَمَا أشبه هَذَا. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {عضين} يَعْنِي: سموهُ سحرًا، والعضة هِيَ السحر، فَتكون العضة والعضين بِمَعْنى وَاحِد، مثل عزة وعزين، قَالَ الشَّاعِر: (وَلَيْسَ دين الله بالمعضي ... ) أَي: بالمتفرق.

92

قَوْله تَعَالَى: {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} روى أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " هُوَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله "، وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: إِن جَمِيع (الْخلق) يسْأَلُون عَن شَيْئَيْنِ: عَن التَّوْحِيد، وَعَن إِجَابَة الْمُرْسلين. وَقيل: إِن معنى قَوْله: {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} يَعْنِي: جَمِيع الْأَعْمَال الَّتِي يعملونها الدَّاخِلَة تَحت التَّكْلِيف.

94

قَوْله تَعَالَى: [ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} ] قَالَ القتيبي مَعْنَاهُ: اظهر بِمَا تُؤمر، وأبن

{أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر وَأعْرض عَن الْمُشْركين (94) إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) } غير مراقب لأحد، وَقد كَانَ رَسُول الله مختفيا إِلَى [أَن] أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمره بالظهور، وَقَالَ بَعضهم: معنى قَوْله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} أَي: أفرق بِالْقُرْآنِ بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَذكر مُجَاهِد أَن معنى قَوْله: {فَاصْدَعْ} أَي: اجهر بِالْقُرْآنِ، وَقد كَانَ يقْرَأ (مسرا) خوفًا من الْمُشْركين؛ فَأمره الله تَعَالَى بالجهر وَألا يُبَالِي بهم. والصدع فِي اللُّغَة مَأْخُوذ من الظُّهُور، وَمِنْه الصديع اسْم للصبح، قَالَ الشَّاعِر: (كأنهن ربابة وَكَأَنَّهُ ... يسر يفِيض على القداح ويصدع) قَوْله تَعَالَى: {وَأعْرض عَن الْمُشْركين} أَي: عَن جوابهم؛ لِأَن السَّفِيه لَا يسافه مَعَه إِلَّا سَفِيه.

95

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كَفَيْنَاك الْمُسْتَهْزِئِينَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: المستهزئون خَمْسَة نفر: وهم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَالْعَاص بن وَائِل، وَالْأسود بن عبد يَغُوث، وَالْأسود بن الْمطلب، وعدي بن قيس، وَقد ضم بَعضهم إِلَى هَؤُلَاءِ الْحَارِث بن الطُّلَاطِلَة، والْحَارث بن غيطلة، والمروي عَن ابْن عَبَّاس مَا بَينا، فَروِيَ: " أَن جِبْرِيل كَانَ وَاقِفًا مَعَ النَّبِي فَمر بهما هَؤُلَاءِ الْقَوْم رجلا رجلا، وَكَانَ جِبْرِيل يَقُول للنَّبِي: مَا قَوْلك فِي هَذَا

{الَّذين يجْعَلُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر فَسَوف يعلمُونَ (96) وَلَقَد نعلم أَنَّك يضيق صدرك بِمَا يَقُولُونَ (97) فسبح بِحَمْد رَبك وَكن من الساجدين (98) واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك} الرجل؟ فَيَقُول النَّبِي: بئس عبد الله هَذَا، فَيَقُول جِبْرِيل: كفيناكه فهلكوا، أما الْوَلِيد بن الْمُغيرَة فَمر بِسَهْم فَتعلق بردائه فَذهب يجلس فَقطع أكحله فنزف فَمَاتَ، وَأما الْعَاصِ بن وَائِل فَمر على شَوْكَة فخدشت سَاقه، فتساقط من ذَلِك لَحْمه وَمَات، وَأما الْأسود بن عبد يَغُوث فَضرب بِغُصْن من شوك على وَجهه فسالت حدقتاه وَمَات، وَجعل يَقُول: استجيبت فِي دَعْوَة مُحَمَّد، وَأما عدي بَين قيس، وَالْأسود بن الْمطلب، فَإِن أَحدهمَا قَامَ من اللَّيْل فلسعته حَيَّة فَمَاتَ، وَأما الآخر فَأَصَابَهُ عَطش، فَمَا زَالَ يشرب حَتَّى انْشَقَّ بَطْنه وَهلك "؛ فَهَذَا هُوَ معنى كِفَايَة الْمُسْتَهْزِئِينَ.

96

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يجْعَلُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} وَصفهم بالشرك وَعبادَة الْأَوْثَان. وَقَوله: {فَسَوف يعلمُونَ} تهديد ووعيد.

97

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد نعلم أَنَّك يضيق صدرك بِمَا يَقُولُونَ} فَهَذَا تَسْلِيَة [للنَّبِي] ، قد رُوِيَ فِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى لما أنزل فِي الْقُرْآن سُورَة العنكبوت وَسورَة النَّمْل وَسورَة الذُّبَاب وَسورَة النَّحْل، وَكَانُوا يَجْتَمعُونَ وَيَقُولُونَ

{الْيَقِين (99) } استهزاء: يَقُول هَذَا إِلَى سُورَة النَّمْل، وَيَقُول هَذَا إِلَى سُورَة الذُّبَاب، وَيَقُول هَذَا إِلَى سُورَة العنكبوت، وَيَقُول هَذَا إِلَى سُورَة النَّحْل، وَمَا أشبه ذَلِك؛ فَأنْزل الله تَعَالَى {وَلَقَد نعلم أَنه يضيق صدرك بِمَا يَقُولُونَ} وَهَذَا هُوَ الِاسْتِهْزَاء الْمَذْكُور فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة.

98

وَقَوله: {فسبح بِحَمْد رَبك} وَالتَّسْبِيح: هُوَ الثَّنَاء على الله بالتبرئة والتنزيه من الْعُيُوب، وَقيل: فصل بِأَمْر رَبك، وَفِي رِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -: " أَن النَّبِي كَانَ إِذا حزبه أَمر فزع إِلَى الصَّلَاة ". وَقَوله: {وَكن من الساجدين} أَي: من الْمُصَلِّين.

99

قَوْله تَعَالَى: {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} أَي: الْمَوْت. فَإِن قَالَ قَائِل: أما كَانَ يَكْفِي قَوْله: {واعبد رَبك} فَمَا فَائِدَة قَوْله: {حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} ؟ . قُلْنَا: لَو اقْتصر على قَوْله: {واعبد رَبك} لَكَانَ إِذا عبد مرّة خرج عَن مُوجب الْأَمر، فَقَالَ: {حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} ليدوم عَلَيْهَا إِلَى أَن يَمُوت، وَهَذِه الْآيَة فِي معنى الْآيَة الَّتِي ذكرهَا من بعد، وَهِي فِي مَرْيَم، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة مَا دمت حَيا} .

وَفِي الْأَخْبَار المسندة بِرِوَايَة جُبَير بن نفير عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا أَمرنِي الله بِجمع المَال، وَأَن أكون من التاجرين، وَلَكِن أَمرنِي بِالصَّلَاةِ، وَأَن أكون من الساجدين، وَأَن أعبد رَبِّي حَتَّى يأتيني الْيَقِين ".

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {أَتَى أَمر الله فَلَا تستعجلوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (1) ينزل الْمَلَائِكَة بِالروحِ} تَفْسِير سُورَة النَّحْل وَهِي مَكِّيَّة سوى ثَلَاث آيَات من آخرهَا، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إِلَى آخر السُّورَة، وَقيل: إِن قَوْله: {ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد فتنُوا} الْآيَة مَدَنِيَّة أَيْضا، وَهَذِه السُّورَة تسمى سُورَة النعم، وَقيل: سُورَة الآلاء.

النحل

قَوْله تَعَالَى: {أَتَى أَمر الله} أَي: دنا وَقرب، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: أَتَاك الْخَبَر، أَو أَتَاك الْغَوْث إِذا دنى مِنْهُ، وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ سَيَأْتِي أَمر الله، وَهَذَا مثل مَا يَقُول الْقَائِل: إِذا أكرمتني أكرمتك أَي: أكرمك. وَاخْتلفُوا فِي معنى قَوْله: {أَمر الله} فالأكثرون على أَن المُرَاد مِنْهُ عُقُوبَته وعذابه للمكذبين الجاحدين. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من أَمر الله هُوَ الْفَرَائِض وَالْأَحْكَام، ذكره الضَّحَّاك، وَهَذَا قَول ضَعِيف. وَزعم الْكَلْبِيّ وَغَيره أَن المُرَاد مِنْهُ الْقِيَامَة. وَقَوله: {فَلَا تستعجلوه} الاستعجال طلب الشَّيْء قبل حِينه، وَمَعْنَاهُ: لَا تطلبوه قبل وقته، وَرُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لما نزل قَوْله: {أَتَى أَمر الله} رفع الْكفَّار رُءُوسهم، وظنوا أَنَّهَا قد أَتَت حَقِيقَة، لما قَالَ: {فَلَا تستعجلوه} خفضوا رُءُوسهم. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {أَتَى أَمر الله} قَامَ رَسُول الله فَزعًا، فَقَالَ جِبْرِيل: فَلَا تستعجلوه "، قد ذكره مقَاتل فِي تَفْسِيره. وَقَوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} مَعْنَاهُ: تعاظم بالأوصاف الحميدة عَمَّا يصفه بِهِ (الْمُشْركُونَ) .

2

قَوْله تَعَالَى: {ينزل الْمَلَائِكَة بِالروحِ من أمره} روى

{من أمره على من يَشَاء من عباده أَن أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون (2) خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (3) خلق الْإِنْسَان من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين (4) والأنعام خلقهَا لكم فِيهَا دفء وَمَنَافع وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلكم} مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: أَن الرّوح خلق من خلق الله تَعَالَى على صور بني آدم، وَلَيْسوا بِالْمَلَائِكَةِ، لَا ينزل الله ملكا إِلَّا وَمَعَهُ روح، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الرّوح هُوَ الْوَحْي؛ لِأَنَّهُ تقع بِهِ حَيَاة الْقُلُوب، كالروح تقع بهَا حَيَاة الْأَبدَان، وَقيل: إِنَّهَا النُّبُوَّة، وَقيل: إِنَّهَا الرَّحْمَة. وَقَوله: {على من يَشَاء من عباده} يَعْنِي: من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ. وَقَوله: {أَن أنذروا أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاتقون} مَعْنَاهُ: مُرُوهُمْ بقول لَا إِلَه إِلَّا الله منذرين ومخوفين لَهُم بِالْعَذَابِ؛ يَقُولُوا أَو لم يَقُولُوا. فَقَوله: {فاتقون} أَي: فخافون.

3

قَوْله تَعَالَى: {خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَي: لإِظْهَار الْحق. وَقَوله تَعَالَى: {تَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} أَي: ارْتَفع عَمَّا يشركُونَ.

4

قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من نُطْفَة} يُقَال: إِنَّه نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي بن خلف، وَالصَّحِيح أَنَّهَا عَامَّة فِي الْكل. وَقَوله: {من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين} أَي: مخاصم مفصح عَمَّا فِي ضَمِيره بِالْخُصُومَةِ، وَالْخُصُومَة: قد تكون حَسَنَة، وَقد تكون قبيحة؛ فالحسن مِنْهَا مَا كَانَ لإِظْهَار الْحق، والقبيح مَا كَانَ لدفع الْحق، وَمعنى الْآيَة بَيَان الْقُدْرَة، وَهِي أَن الله تَعَالَى خلق النُّطْفَة من كَائِن بِهَذِهِ الْحَالة، وَقيل: إِن المُرَاد من الْآيَة بَيَان النِّعْمَة، وَقيل: إِن المُرَاد من الْآيَة كشف قَبِيح مَا فعلوا من جحدهم نعْمَة الله مَعَ ظُهُورهَا عَلَيْهِم.

5

قَوْله تَعَالَى: {والأنعام خلقهَا لكم فِيهَا دفء} الدفء هُوَ الْحر المعتدل الَّذِي يكون فِي بدن الْإِنْسَان من الدثار. وَأما معنى الْآيَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: الدفء هُوَ اللبَاس، وَقَالَ قَتَادَة: مَا يستدفأ بِهِ من الأصواف والأوبار، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: الدفء هُوَ النَّسْل، وَذكر الْآمِدِيّ أَن هَذَا من كَلَام الْعَرَب.

{فِيهَا جمال حِين تريحون وَحين تسرحون (6) وَتحمل أثقالكم إِلَى بلد لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس إِن ربكُم لرءوف رَحِيم (7) وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير} وَقَوله: {وَمَنَافع} الْمَنَافِع هِيَ الرّكُوب والنتاج، وَسَائِر مَا ينْتَفع بِهِ. وَقَوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} هُوَ التَّنَاوُل من لَحمهَا ولبنها.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَلكم فِيهَا جمال} أَي: زِينَة، قَالَ السّديّ: الْجمال: أَنَّهَا إِذا خرجت ورئيت قيل: هَذِه إبل فلَان. وَإِنَّمَا خص [بقوله] : {حِين تريحون وَحين تسرحون} الرواح فِي الْأَنْعَام هُوَ إِذا جَاءَت من مراعيها إِلَى أفنية ملاكها عشيا، والسراح هُوَ إِذا خرجت من الأفنية إِلَى المراعي بكرَة؛ فَإِن قَالَ قَائِل: لم قدم الرواح، والسراح هُوَ الْمُقدم؟ قُلْنَا: لِأَن الْمَالِك يكون أعجب بهَا إِذا راحت؛ وَلِأَن الْمَنَافِع مِنْهَا إِنَّمَا تُؤْخَذ بعد الرواح.

7

وَقَوله: {وَتحمل أثقالكم} الثّقل: هُوَ الْمَتَاع الَّذِي يثقل حمله. وَقَوله: {إِلَى بلد لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس} أَي: بِجهْد الْأَنْفس ومشقتها، وَقُرِئَ: " بشق الْأَنْفس ". وَاخْتلفُوا فِي الْبَلَد الْمَذْكُور، قَالَ بَعضهم: هِيَ مَكَّة، وَقَالَ بَعضهم: أَي بلد كَانَ فِي الْعَالم، فَإِن قَالَ قَائِل: أَي مشقة فِي أَن يركب دَابَّة وطية ويسير عَلَيْهَا من بلد إِلَى بلد مَعَ الزَّاد التَّام وَأمن الطَّرِيق؟ وَالْجَوَاب أَن السّفر لَا يَخْلُو عَن مشقة فِي الْجُمْلَة، وَالثَّانِي: أَن معنى الْآيَة لم تَكُونُوا بالغيه إِلَّا بشق الْأَنْفس، لَوْلَا هَذِه الدَّوَابّ. وَقَوله: {إِن ربكُم لرءوف رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير} الْآيَة حُكيَ أَن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء سُئِلَ: لم سميت الْخَيل خيلا؟ فَلم يذكر شَيْئا، وَكَانَ ثمَّ أَعْرَابِي حَاضرا، فَقَالَ: سميت الْخَيل خيلا لاختيالها. وَقَوله: {لتركبوها} زعم بَعضهم أَن ركُوب الْحمر الْغرَّة الحسان أبلغ فِي الزِّينَة من الْخَيل وَالْبِغَال؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {لتركبوها وزينة} عقيب ذكر الْحمر، وَهَذَا

{لتركبوها وزينة ويخلق مَا لَا تعلمُونَ (8) } كَقَوْلِه تَعَالَى: {قَالُوا ادْع لنا رَبك يخرج لنا مِمَّا تنْبت الأَرْض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} دلّ أَن البصل أرذل من هَذِه الْأَشْيَاء حَيْثُ ذكر قَوْله: {أتستبدلون الَّذِي هُوَ أدنى} عقيب ذكر البصل، وَقيل: شَرّ الْحمر الْأسود الْقصير. وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْجمال فِي الْخَيل أَكثر لِلْحسنِ والعيان؛ وَلِأَن الله تَعَالَى بَدَأَ بهَا بِالذكر. وَقيل لخَالِد بن صَفْوَان: مَا لَك لَا تركب الْحمر؟ قَالَ: هِيَ بطيئة الْغَوْث كَثِيرَة الروث، إِذا سَار أَبْطَأَ وَإِذا وقف أدلى. ورؤي مرّة على حمَار؛ فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ: أدب عَلَيْهِ دبيبا، وَألقى عَلَيْهِ حبيبا، ويمنعني أَن أكون جبارا عنيدا. وَقد ثَبت أَن رَسُول الله ركب الْفرس والبغل وَالْحمار. وَفِي الْآثَار: أَن الْأَنْبِيَاء من بني إِسْرَائِيل كَانُوا يركبون الأتن. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه كره لحم الْخَيل؛ قَالَ: لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {لتركبوها وزينة} . وَقد ثَبت بِرِوَايَة جَابر أَن النَّبِي أذن فِي لُحُوم الْخَيل "، وَثَبت أَيْضا عَن أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق أَنَّهَا قَالَت: " أكلنَا لحم فرس على عهد رَسُول الله " فَالْأولى هُوَ الْإِبَاحَة، وَعَلِيهِ أَكثر أهل الْعلم. وَقَوله: {ويخلق مَا لَا تعلمُونَ} قيل مَعْنَاهُ: ويخلق مَا لَا يخْطر ببال أحد،

{وعَلى الله قصد السَّبِيل وَمِنْهَا جَائِر وَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء لكم مِنْهُ شراب وَمِنْه شجر فِيهِ تسيمون (10) ينْبت لكم بِهِ الزَّرْع وَالزَّيْتُون} وَالْإِنْسَان قل مَا يَخْلُو فِي يَوْم وَلَيْلَة أَن يرى شَيْئا من خلق الله تَعَالَى لم يره من قبل. وروى ابْن السّديّ عَن أَبِيه أَن معنى قَوْله: {ويخلق مَا لَا تعلمُونَ} أَي: السوس فِي النَّبَات والحبوب. وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " إِن لله تَعَالَى أَرضًا بَيْضَاء خلقهَا، ومسافتها قدر مسيرَة الشَّمْس ثَلَاثِينَ لَيْلَة، وَقد ملأها من خلق لم يعصوا الله طرفَة عين؛ فَقيل لَهُ: أهم من بني آدم؟ فَقَالَ: إِنَّهُم لَا يعلمُونَ أَن الله تَعَالَى خلق آدم، فَقيل لَهُ: فَكيف لَا يفتنهم إِبْلِيس؟ قَالَ: إِنَّهُم لَا يعلمُونَ أَن لله فِي خلقه إِبْلِيس " وَهَذَا خبر غَرِيب، وَالله أعلم.

9

قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الله قصد السَّبِيل} قيل مَعْنَاهُ: وعَلى الله بَيَان الْهدى من الضَّلَالَة، وَقيل: بَيَان الْحق بِالْآيَاتِ والبراهين، وَهَذَا بِحكم الْوَعْد، وَيُقَال: وعَلى الله قصد السَّبِيل أَي: على الله الحكم بِالْعَدْلِ بَين الْخلق. وَقَوله: {وَمِنْهَا جَائِر} مَعْنَاهُ: وَمن السَّبِيل جَائِر، وَقَرَأَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: " ومنكم جَائِر ". أَي: عَادل عَن الْحق، قَالَ الشَّاعِر: (لما خلطت دماؤنا بدمائهم ... وقف الثقال بهَا (وجار) الْعَادِل) الثقال: البطر. وَقَوله: {وَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} ظَاهر الْمَعْنى، وَفِيه رد على الْقَدَرِيَّة.

10

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء لكم مِنْهُ شراب} أَي: لكم مِنْهُ مَا تشربون. وَقَوله: {وَمِنْه شجر فِيهِ تسيمون} أَي: تسيمون الْمَوَاشِي فِيهَا، والإسامة هِيَ

{والنخيل وَالْأَعْنَاب وَمن كل الثمرات إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون (11) وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ (12) وَمَا ذَرأ لكم فِي الأَرْض مُخْتَلفا ألوانه إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يذكرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سخر الْبَحْر لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا وتستخرجوا مِنْهُ حلية تلبسونها} تخلية الْمَوَاشِي للرعي.

11

وَقَوله تَعَالَى: {ينْبت لكم بِهِ الزَّرْع وَالزَّيْتُون والنخيل وَالْأَعْنَاب وَمن كل الثمرات إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون} الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.

12

وَقَوله تَعَالَى: {وسخر لكم اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: ذلل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار، وَقيل: سخر ضوء الشَّمْس بِالنَّهَارِ وَنور الْقَمَر بِاللَّيْلِ. وَقَوله: {والنجوم مسخرات بأَمْره} أَي: مذللات بأَمْره. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

13

{وَمَا ذَرأ لكم فِي الأَرْض} أَي: مَا خلق لكم فِي الأَرْض. وَقَوله: {مُخْتَلفا ألوانه} أَي: صورته وهيئته. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يذكرُونَ} أَي: يعتبرون.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سخر الْبَحْر} أَي: ذلل الْبَحْر {لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا} أَي: السّمك. وَقَوله: {وتستخرجوا مِنْهُ حلية تلبسونها} يَعْنِي: دَرأ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ لباسا للتحلي. وَقَوله: {وَترى الْفلك مواخر فِيهِ} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مواقر - أَي مَمْلُوءَة - وَيُقَال: مواخر أَي: مقبلة مُدبرَة برِيح وَاحِدَة، والمخر هُوَ الشق، والسفينة تمخر المَاء أَي: تشقه، وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أَرَادَ أحدكُم الْبَوْل فليتمخر الرّيح " أَي:

{وَترى الْفلك مواخر فِيهِ ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (14) وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم وأنهارا وسبلا لَعَلَّكُمْ تهتدون (15) وعلامات وبالنجم هم يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق أَفلا تذكرُونَ (17) وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها إِن الله لغَفُور رَحِيم (18) وَالله يعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون (19) وَالَّذين} لينْظر مَوضِع هبوبها فليستدبرها، والمخر: صَوت هبوب الرّيح عِنْد شدتها. وَقَوله: {ولتبتغوا من فَضله} يَعْنِي: للتِّجَارَة. وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} يَعْنِي: إِذا رَأَيْتُمْ صنع الله فِيمَا سخر لكم، وَرُوِيَ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - كتب إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ يسْأَله عَن الْبَحْر؛ فَقَالَ: خلق عَظِيم يركبه خلق ضَعِيف، دود على عود، لَيْسَ إِلَّا السَّمَاء وَالْمَاء، إِن مَال غرق، وَإِن نجا برق، أَي: دهش وتحير.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَألقى فِي الأَرْض رواسي} أَي: جبالا ثوابت، وَفِي الْآثَار: أَن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض كَانَت تكفأ؛ فَقَالَت الْمَلَائِكَة: إِن هَذِه غير مقرة على ظهرهَا أحد؛ فَأَصْبحُوا وَقد خلق الْجبَال فاستقرت وَثبتت. وَقَوله: {أَن تميد بكم} أَي: أَن تميل بكم. وَقَوله: {وأنهارا وسبلا} يَعْنِي: طرائق. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تهتدون} أَي: لَعَلَّكُمْ تهتدون بِالطَّرِيقِ وَالْجِبَال.

16

وَقَوله: {وعلامات} أَي: ودلالات، وَقيل: إِن هَذِه العلامات هِيَ الْجبَال. وَقَوله: {وبالنجم هم يَهْتَدُونَ} قَالَ الْفراء: بالجدي والفرقدين، وَقيل: وبالنجوم هم يَهْتَدُونَ، وَعَن قَتَادَة قَالَ: خلق الله النُّجُوم لثَلَاثَة أَشْيَاء: لزينة السَّمَاء الدُّنْيَا، ولرجم الشَّيَاطِين، وليهتدي بهَا فِي الْبَحْر وَالْبر، فَمن طلب مِنْهَا علما غير هَذَا فقد أَخطَأ، وَهَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن.

17

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق} قيل: أَفَمَن ينعم كمن لَا ينعم. وَقَوله: {أَفلا تذكرُونَ} أَي: أَفلا تعتبرون.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تعدوا نعْمَة الله لَا تحصوها} أَي: تُطِيقُوا عدهَا، وَقيل: لَا تُطِيقُوا شكرها. وَقَوله: {إِن الله لغَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

{يدعونَ من دون الله لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون (20) أموات غير أَحيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون (21) إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فَالَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة قُلُوبهم مُنكرَة}

19

قَوْله تَعَالَى: {وَالله يعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون وَالَّذين يدعونَ من دون الله لَا يخلقون شَيْئا} أَرَادَ بِهِ الْأَصْنَام. وَقَوله: {وهم يخلقون} مَعْنَاهُ: أَن الْمَخْلُوق لَا يكون إِلَهًا.

21

قَوْله تَعَالَى: {أموات غير أَحيَاء} فَإِن قيل: الصَّنَم كَيفَ يكون مَيتا وَلم يكن حَيا قطّ؟ الْجَواب: أَن مَعْنَاهُ: أَنَّهَا كالأموات فِي أَنَّهَا لَا تعقل. وَقَوله: {غير أَحيَاء} تَأْكِيد للْأولِ. وَقَوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون} أَي: مَتى يبعثون؟ فَإِن قيل: هَل للأصنام بعث؟ وَالْجَوَاب: أَنه قد ذكر فِي بعض التفاسير: أَن الْأَصْنَام تبْعَث، وَتجْعَل فِيهَا الْحَيَاة، وتتبرأ من عابديها، وَقد دلّ على هَذَا الْقُرْآن فِي مَوَاضِع، وَقيل فِي معنى الْآيَة: وَمَا تشعر الْأَصْنَام مَتى يبْعَث الْكفَّار؟ وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن مَعْنَاهَا: وَمَا يشْعر الْكفَّار مَتى يبعثون؟ .

22

قَوْله تَعَالَى: {إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فَالَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة قُلُوبهم مُنكرَة} أَي: جاحدة، وَهَذَا دَلِيل على أَن الْعبْرَة بجحد الْقلب وإنكاره. وَقَوله: {وهم مستكبرون} أَي: متكبرون، وَيُقَال: إِنَّه لَا يُنكر الدّين إِلَّا متكبر. قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يدْخل الْجنَّة أحد فِي قلبه ذرة من كبر ".

23

قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم} مَعْنَاهُ: حَقًا {أَن الله يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون إِنَّه

{وهم مستكبرون (22) لَا جرم أَن الله يعلم مَا يسرون وَمَا يعلنون إِنَّه لَا يحب المستكبرين (23) وَإِذا قيل لَهُم مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا أساطير الْأَوَّلين (24) ليحملوا أوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمن أوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم أَلا سَاءَ مَا يزرون (25) } لَا يحب المستكبرين) أَي: المتكبرين.

24

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم مَاذَا أنزل ربكُم} مَعْنَاهُ: وَإِذا قيل للْكفَّار الَّذين تقدم ذكرهم: " مَاذَا أنزل ربكُم "؟ مَا الَّذِي أنزل ربكُم؟ وَقَوله: {قَالُوا أساطير الْأَوَّلين} يَعْنِي: أكاذيب الْأَوَّلين، والأساطير وَاحِدهَا أسطورة، وَقيل: أقاصيص الْأَوَّلين.

25

وَقَوله: {وليحملوا أوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة} الأوزار هِيَ الذُّنُوب. وَقَوله: {كَامِلَة} إِنَّمَا ذكر الْكَمَال؛ لِأَن البلايا والمحن الَّتِي تلحقهم فِي الدُّنْيَا لَا تكفر عَنْهُم شَيْئا، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ بنية الْحَسَنَات. وَقَوله: {وَمن أوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم} وَمن ذنُوب الَّذين يضلونهم، وهم الأتباع. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يحملون أوزار الأتباع، وَالله تَعَالَى يَقُول: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: يحملوا ذنوبهم بِحكم الإغواء وَالدُّعَاء إِلَى الضلال؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَيّمَا دَاع دَعَا إِلَى الْهدى (فَاتبع) ؛ فَلهُ أجره وَأجر من عمل بِهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء، وَأَيّمَا دَاع دَعَا إِلَى ضَلَالَة فَاتبع فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من غير أَن ينقص من أوزارهم شَيْء ".

{قد مكر الَّذين من قبلهم فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم} وَقَوله: {بِغَيْر علم} مَعْنَاهُ: أَنهم رجعُوا إِلَى مَحْض التَّقْلِيد من غير دَلِيل، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: أَنهم دعوهم إِلَى الضلال من غير حجَّة. وَقَوله: {أَلا سَاءَ مَا يزرون} مَعْنَاهُ: أَلا بئس مَا يحملون من الذُّنُوب.

26

قَوْله تَعَالَى: {قد مكر الَّذين من قبلهم} مَعْنَاهُ: قد أشرك الَّذين من قبلهم، وَقيل: الْمَكْر هُوَ التَّدْبِير الْفَاسِد. وَقَوله: {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد} وَهَذَا مَذْكُور على طَرِيق التَّمْثِيل، يَعْنِي: قلع الله مَكْرهمْ من أَصله، ورد وبال مَكْرهمْ وضرره عَلَيْهِم، وَإِلَّا فَلَيْسَ ثمَّ بُنيان وَلَا أساس وَلَا سقف. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْآيَة نزلت فِي نمروذ بن كنعان لما بنى الصرح ليصعد إِلَى السَّمَاء، وَفِي الْقِصَّة: أَنه بنى قصرا طوله فِي السَّمَاء فرسخان، وَقيل: كَانَ خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَزِيَادَة شَيْء، وَعرضه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع؛ فَبعث الله جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَرمى بِرَأْسِهِ فِي الْبَحْر، ثمَّ خرب الْبَاقِي؛ فَسقط عَلَيْهِم وهم تَحْتَهُ، فَهَذَا معنى قَوْله: {فَأتى الله بنيانهم من الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم} وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -. فَإِن قيل: قَالَ: {فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم} فأيش معنى قَوْله: {من فَوْقهم} وَقد فهم الْمَعْنى بقوله: {فَخر عَلَيْهِم السّقف} ؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك مَذْكُور على طَرِيق التَّأْكِيد مثل قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} ، وَمثل قَوْله: {فويل للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم} . جَوَاب آخر ذكره ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره: أَن الْعَرَب تَقول: خر على فلَان بيوته، إِذا سَقَطت، وَإِن لم يكن تحتهَا، فَإِذا قَالَت: خر على فلَان بَيته من فَوْقه يفهم أَنه كَانَ

{وأتاهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يخزيهم وَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تشاقون فيهم قَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم إِن الخزي الْيَوْم وَالسوء على الْكَافرين (27) الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم فَألْقوا السّلم مَا كُنَّا نعمل من سوء بلَى إِن} تَحْتَهُ. وَقَوله: {وأتاهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} مَعْنَاهُ: من الْجِهَة الَّتِي كَانُوا آمِنين مِنْهَا.

27

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يخزيهم} يَعْنِي: يذلهم ويهينهم فِيهَا. وَقَوله: {وَيَقُول أَيْن شركاءي الَّذين كُنْتُم تشاقون فيهم} أَي: تعادون الْمُؤمنِينَ فيهم. فَإِن قيل: أَيْن شركائي؟ وَلَيْسَ لله شريك، فَكيف معنى الْآيَة؟ وَالْجَوَاب أَن مَعْنَاهَا: أَيْن شكائي فِي زعمكم؟ {وَمِنْهُم من قَالَ: أَيْن الَّذين كُنْتُم تدعونهم شُرَكَاء؟} وَقَوله: {قَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {إِن الخزي الْيَوْم وَالسوء على الْكَافرين} مَعْنَاهُ: أَن الْعَذَاب الْيَوْم والهوان على الْكَافرين.

28

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذِه نزلت فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة، فَلَمَّا هَاجر النَّبِي لم يهاجروا، ثمَّ إِن الْمُشْركين لما هَاجرُوا إِلَى بدر أخرجوهم مَعَ أنفسهم، فَلَمَّا رَأَوْا النَّبِي وَقلة من مَعَه ظنُّوا أَنهم يهْلكُوا على أَيدي الْمُشْركين، فَمَكَثُوا مَعَ الْكفَّار فَقتلُوا يَوْمئِذٍ فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة: {الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم} مَعْنَاهُ: فِي حَال ظلمهم أنفسهم بتركهم المهاجرة مَعَ النَّبِي وخروجهم مَعَ الْكفَّار. قَوْله: {فَألْقوا السّلم} أَي: استسلموا وانقادوا لملك الْمَوْت. وَقَوله: {مَا كُنَّا نعمل من سوء} أَي: مَا كُنَّا مُشْرِكين. وَقَوله: {بلَى إِن الله عليم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} مَعْنَاهُ: أَن الله عليم بأنكم عملتم عمل الْكفَّار - وَعمل الْكفَّار هُوَ ترك المهاجرة وَالْخُرُوج مَعَ الْمُشْركين - وَقد كَانَ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام لَا يقبل

{الله عليم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (28) فادخلوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فلبئس مثوى المتكبرين (29) وَقيل للَّذين اتَّقوا مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا خيرا للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة ولدار الْآخِرَة خير ولنعم دَار الْمُتَّقِينَ (30) جنَّات عدن يدْخلُونَهَا تجْرِي} الْإِسْلَام إِلَّا مَعَ الْهِجْرَة، فَهَؤُلَاءِ أَسْلمُوا وَلم يهاجروا، فَلم يقبل إسْلَامهمْ.

29

وَقَوله: {فادخلوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا} أَي: مقيمين دائمين فِيهَا، وَهَا هُنَا إِضْمَار، وَهُوَ أَنه يُقَال لَهُم: ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم. وَقَوله: {فلبئس مثوى المتكبرين} يَعْنِي: منزل الْكَافرين.

30

قَوْله تَعَالَى: {وَقيل للَّذين اتَّقوا مَاذَا أنزل ربكُم} فَإِن قيل: قد قَالَ من قبل: {وَإِذا قيل لَهُم مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا أساطير الْأَوَّلين} بِالرَّفْع وَقَالَ هَا هُنَا: {مَاذَا أنزل ربكُم قَالُوا خيرا} بِالنّصب، فَكيف وَجه الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: أَن معنى قَوْله: {أساطير الْأَوَّلين} أَي: الْمنزل أساطير الْأَوَّلين، وَقَوله: {قَالُوا خيرا} مَعْنَاهُ: أنزل رَبنَا خيرا. وَقَوله: {للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة} إحسانهم هُوَ قَول: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَوله: {حَسَنَة} اخْتلف القَوْل فِيهَا: قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ تَضْعِيف الْأجر إِلَى الْعشْر فَمَا زَاد، وَقَالَ الضَّحَّاك: الْحَسَنَة هُوَ النَّصْر وَالْفَتْح، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ الرزق الْحسن، وَقَالَ غَيره: مَا فتح الله على الْمُسلمين من الْبلدَانِ، وأفاء عَلَيْهِم من الْغَنَائِم. وَقَوله: {ولدار الْآخِرَة خير} مَعْنَاهُ: ولحال دَار الْآخِرَة خير. وَقَوله: {ولنعم دَار الْمُتَّقِينَ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد [مِنْهَا] الْجنَّة، وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: هِيَ الدُّنْيَا، وَالدُّنْيَا دَار الْمُتَّقِينَ، وَمِنْهَا يتزود إِلَى الْآخِرَة، [و] فِيهَا يطْلب رضَا الله تَعَالَى، وَرُوِيَ عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ إِذا فرق العطايا بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار قَالَ: هَذَا لكم فِي الدُّنْيَا وَمَا ادخر الله لكم فِي الْآخِرَة.

{من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُم فِيهَا مَا يشاءون كَذَلِك يَجْزِي الله الْمُتَّقِينَ (31) الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة طيبين يَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (32) هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة أَو يَأْتِي أَمر رَبك كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم وَمَا ظلمهم الله وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا عمِلُوا وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ}

31

قَوْله تَعَالَى: {جنَّات عدن يدْخلُونَهَا تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار لَهُم فِيهَا مَا يشاءون كَذَلِك يَجْزِي الله الْمُتَّقِينَ} ظَاهر.

32

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين تتوفاهم الْمَلَائِكَة طيبين} يَعْنِي: طاهرين زاكين من الشّرك، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن وفاتهم تقع طيبَة سهلة. قَوْله: {يَقُولُونَ سَلام عَلَيْكُم} يُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة، يبلغون سَلام الله إِلَيْهِم، وَفِي الْأَخْبَار: " أَنهم يَقُولُونَ لكل وَاحِد مِنْهُم: السَّلَام عَلَيْك يَا ولي الله ". وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا -: أَن الْمَيِّت الْمُؤمن يزف إِلَى الله كَمَا تزف الْعَرُوس. وَقَوله: {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: يُقَال لَهُم: ادخُلُوا الْجنَّة بإيمانكم وطاعتكم.

33

قَوْله تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة} مَعْنَاهُ: هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة بِالْمَوْتِ؟ {أَو يَأْتِي أَمر رَبك} الْقِيَامَة. وَفِي بعض الْآثَار: أَن أعوان ملك الْمَوْت سِتَّة أَمْلَاك: ثَلَاثَة يقبضون أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ، وَثَلَاثَة يقبضون أَرْوَاح الْكفَّار، وَقيل: هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة بِالْعَذَابِ وَالْقَتْل للْكفَّار، أَو يَأْتِي أَمر رَبك؟ يَعْنِي: الْمَوْت. وَقَوله: {كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم} يَعْنِي: كَذَلِك كفر الَّذِي من قبلهم. وَقَوله: {وَمَا ظلمهم الله وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

34

قَوْله تَعَالَى: {فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا عمِلُوا} مَعْنَاهُ: فَأَصَابَهُمْ وبال السَّيِّئَات الَّتِي

{يستهزءون (34) وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم فَهَل على الرُّسُل إِلَّا} عمِلُوا، وَقيل: جَزَاء السَّيِّئَات الَّتِي عمِلُوا. وَقَوله: {وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} مَعْنَاهُ: نزل بهم، وأحاط بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون.

35

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا عَبدنَا من دونه من شَيْء نَحن وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء} . وَمعنى التَّحْرِيم الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ مَا حرمُوا من الْبحيرَة والوصيلة والسائبة والحام، وَقد احتجت الْقَدَرِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة، وَوجه احتجاجهم أَن الْمُشْركين قَالُوا: لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا، [ {وَلَا حرمنا من دونه من شَيْء} ] ثمَّ إِن الله تَعَالَى قَالَ فِي آخر الْآيَة: {كَذَلِك فعل الَّذين من قبلهم} ردا وَإِنْكَارا عَلَيْهِم، فَدلَّ على أَن الله تَعَالَى لَا يَشَاء الْكفْر، وَأَنَّهُمْ فعلوا مَا فعلوا بِغَيْر مَشِيئَة الله. وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر الزّجاج وَغَيره أَنهم قَالُوا هَذَا القَوْل على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، وَلَو قَالُوا على طَرِيق التَّحْقِيق لَكَانَ قَوْلهم مُوَافقا لقَوْل الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة شُعَيْب: {إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} فَإِنَّهُم قَالُوا هَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء لَا على طَرِيق التَّحْقِيق، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة يس، {وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ} وَهَذَا إِنَّمَا قَالُوهُ على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء؛ لِأَنَّهُ فِي نَفسه قَول حق يُوَافق قَول الْمُؤمنِينَ، كَذَلِك هَاهُنَا قَالُوا مَا قَالُوا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء؛ فَلهَذَا أنكر الله تَعَالَى عَلَيْهِم، ورد قَوْلهم، وَالدَّلِيل على أَن المُرَاد من هَذَا مَا ذكر من بعد وسنبين. وَقَوله: {فَهَل على الرُّسُل إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} يَعْنِي: لَيْسَ إِلَيْهِم الْهِدَايَة والإضلال، وَإِنَّمَا عَلَيْهِم التَّبْلِيغ.

{الْبَلَاغ الْمُبين (35) وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (36) إِن تحرص على هدَاهُم فَإِن الله لَا يهدي من يضل وَمَا لَهُم من ناصرين (37) وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَا يبْعَث الله من يَمُوت بلَى وَعدا عَلَيْهِ}

36

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد بعثنَا فِي كل أمة رَسُولا أَن اعبدوا الله وَاجْتَنبُوا الطاغوت} أَي: وحدوا الله وَاجْتَنبُوا الْأَصْنَام. وَقَوله: {فَمنهمْ من هدى الله وَمِنْهُم من حقت عَلَيْهِ الضَّلَالَة} مَعْنَاهُ: فَمنهمْ من هداه الله للْإيمَان، وَمِنْهُم من وَجَبت عَلَيْهِ الضَّلَالَة، وَتَركه فِي الْكفْر بِالْقضَاءِ السَّابِق، فَهَذِهِ الْآيَة تبين أَن من آمن بِمَشِيئَة الله، وَأَن من كفر، كفر بِمَشِيئَة الله. وَقَوله: {فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين} مَعْنَاهُ: مآل أَمر المكذبين ومرجعهم.

37

قَوْله تَعَالَى: {إِن تحرص على هدَاهُم} الْحِرْص: طلب الشَّيْء بالجد وَالِاجْتِهَاد: وَقَوله: {فَإِن الله لَا يهدي من يضل} قَرَأَ بقراءتين: قَرَأَ أهل الْكُوفَة: " لَا يهدي من يضل " بِفَتْح الْيَاء الأولى وَضم الثَّانِيَة، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: " لَا يهدي من يضل " بِضَم اليائين، أما الْقِرَاءَة الأولى فَمَعْنَاه: لَا يهدي الله من أضلّهُ، وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة فَمَعْنَاه: فَإِن من يضله الله لَا يهدى، وَقيل: لَا يقدر أحد على هدايته، قَالُوا: وَهَذَا أولى الْقِرَاءَتَيْن. وَقَوله: {وَمَا لَهُم من ناصرين} أَي: مانعين من الْعَذَاب.

38

قَوْله تَعَالَى: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} جهد الْيَمين هُوَ أَن يحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه غَيره. وَقَوله: {لَا يبْعَث الله من يَمُوت} هَذَا دَلِيل على أَنهم كَانُوا مستبصرين فِي كفرهم. وَقَوله: {بلَى وَعدا عَلَيْهِ حَقًا} مَعْنَاهُ: لَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالُوا، وَلَكِن الله يَبْعَثهُم، ثمَّ قَالَ: {وَعدا عَلَيْهِ حَقًا} أَي: وَاجِبا. وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: أَن وعد الله حق؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعلمهُ

{حَقًا وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (38) ليبين لَهُم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وليعلم الَّذين كفرُوا أَنهم كَانُوا كاذبين (39) إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون (40) وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا لنبوئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة ولأجر الْآخِرَة} الْمُؤْمِنُونَ دون الْكفَّار.

39

قَوْله تَعَالَى: {ليبين لَهُم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} يَعْنِي: ليظْهر لَهُم الْحق فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. وَقَوله: {وليعلم الَّذين كفرُوا أَنهم كَانُوا كاذبين} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا.

40

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه} فَإِن قيل: قد قُلْتُمْ بِأَن الْمَعْدُوم لَيْسَ بِشَيْء، وَقد جعل الله هَاهُنَا الْمَعْدُوم شَيْئا حَيْثُ قَالَ: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه} وَمَعْنَاهُ: أردنَا تكوينه. وَالْجَوَاب: أَن الْأَشْيَاء الَّتِي قدر الله كَونهَا هِيَ فِي علم الله كالكائنة (الْقَائِمَة) ؛ فاستقام قَوْله: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه} وَقيل: إِن هَذَا على طَرِيق الْمجَاز، وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا يكون شَيْئا إِذا أردنَا تكوينه. وَقَوله: {أَن نقُول لَهُ} مَعْنَاهُ: أَن نقُول لأَجله: {كن فَيكون} أَي: كن فَكَانَ، وقرىء بقرائتين. " فَيكون " بِالنّصب، " وَيكون " بِالرَّفْع. أما بِالرَّفْع مَعْنَاهُ: فَهُوَ يكون، وَأما بِالنّصب فَهُوَ منسوق على قَوْله: {أَن نقُول} وَذَلِكَ يَقْتَضِي النصب.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا} قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة فِي عمار، وبلال، وصهيب بن سِنَان، وخباب بن الْأَرَت، وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة. وَقَوله: {من بعد مَا ظلمُوا} يَعْنِي: من بعد مَا عذبُوا وأوذوا. وَقَوله: {لنبوئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} قَالَ ابْن عَبَّاس وَالشعْبِيّ وَالْحسن: هِيَ الْمَدِينَة، وَيُقَال: هِيَ قدم الصدْق، وَقيل: التَّوْفِيق وَالْهِدَايَة.

{أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ (41) الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ والزبر وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون (44) أفأمن} وَقَوله: {ولأجر الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: أعظم لَو كَانُوا يعلمُونَ. وَقَوله: {لَو كَانُوا يعلمُونَ} منصرف إِلَى الْمُشْركين دون هَؤُلَاءِ النَّفر، فَإِنَّهُم كَانُوا يعلمُونَ أَن أجر الْآخِرَة أكبر.

42

وَقَوله: {الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى، وَهِي نازلة فِي هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم} مَعْنَاهُ: إِلَّا رجَالًا من الْبشر نوحي إِلَيْهِم، فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يُنكرُونَ إرْسَال الْآدَمِيّين، وَيطْلبُونَ إرْسَال الْمَلَائِكَة على مَا ذكر الله تَعَالَى ذَلِك فِي غير مَوضِع. وَقَوله: {فاسألوا أهل الذّكر} يَعْنِي: مؤمني أهل الْكتاب، وَقيل: حَملَة أهل الْكِتَابَيْنِ، فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يُنكرُونَ هَذَا. وَقَوله: {إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

44

قَوْله تَعَالَى: {بِالْبَيِّنَاتِ والزبر} اخْتلفُوا فِي أَن قَوْله: {بِالْبَيِّنَاتِ والزبر} إِلَى مَاذَا يرجع؟ قَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ والزبر، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: وَمَا أرسلنَا من قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم بِالْبَيِّنَاتِ والزبر. ثمَّ قَالَ: {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} . قَوْله: {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} . وَقد كَانَ الرَّسُول مُبينًا للوحي، وَقد قَالَ أهل الْعلم: إِن بَيَان الْكتاب فِي السّنة. وَقَوله: {ولعلهم يتفكرون} يَعْنِي: يتدبرون ويعتبرون.

45

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أفأمن الَّذين مكروا السَّيِّئَات أَن يخسف الله بهم الأَرْض} " مكروا السَّيِّئَات " يَعْنِي: فعلوا السَّيِّئَات، وَذَلِكَ جحدهم التَّوْحِيد وعبادتهم غير الله، وعملهم بِالْمَعَاصِي، وَقد قَالُوا: إِن الْمَكْر فِي هَذَا الْمَوْضُوع هُوَ السَّعْي بِالْفَسَادِ، وَمَا قُلْنَاهُ أفسد الْفساد.

{الَّذين مكروا السَّيِّئَات أَن يخسف الله بهم الأَرْض أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَو يَأْخُذهُمْ فِي تقلبهم فَمَا هم بمعجزين (46) أَو يَأْخُذهُمْ على تخوف} وَقَوله: {أَن يخسف الله بهم الأَرْض} الْخَسْف مَعْلُوم الْمَعْنى، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " بَيْنَمَا رجل يتبختر فِي حلَّة لَهُ فَخسفَ بِهِ الأَرْض، فَهُوَ يتجلجل فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَحكى النقاش عَن بعض أهل الْعلم مُسْندًا: أَن قوما تدافعوا الْإِمَامَة بعد مَا أُقِيمَت الصَّلَاة فَخسفَ الله بهم الأَرْض. وَفِي بعض المسانيد عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يفتح للنَّاس مَعْدن، ويبدو من الذَّهَب أَمْثَال البخت؛ فيميل النَّاس إِلَيْهِ فيخسف الله بهم وبالمعدن، فهم يتجلجلون فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَقَوله: {أَو يَأْتِيهم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ.

46

قَوْله تَعَالَى: {أَو يَأْخُذهُمْ فِي تقلبهم} قَالَ ابْن جريج: فِي إقبالهم وإدبارهم، وَقيل: فِي ليلهم ونهارهم، وَقيل: فِي أسفارهم. وَقَوله: {فَمَا هم بمعجزين} أَي: بفائتين.

47

قَوْله تَعَالَى: {أَو يَأْخُذهُمْ على تخوف} قَالَ ابْن عَبَّاس: على تنقص، وَمعنى التنقص فِي هَذَا الْموضع أَنه يَأْخُذهُمْ الأول فَالْأول حَتَّى يُهْلِكهُمْ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى التخوف هُوَ أَن يَأْخُذ قوما وَلَا يَأْخُذ آخَرين، وتخوفهم بِأخذ هَؤُلَاءِ، قَول الْحسن وَالضَّحَّاك. وَالْقَوْل الثَّالِث: حكى عَن اللَّيْث بن سعد أَنه قَالَ: سَمِعت أَنه على عجل.

{فَإِن ربكُم لرءوف رَحِيم (47) أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل سجدا لله} وَقَوله: {فَإِن ربكُم لرءوف رَحِيم} رَحمته للْكفَّار هِيَ إمهالهم فِي الْعَذَاب.

48

قَوْله تَعَالَى: (أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله) يتَحَوَّل ظلاله، وَأما الْفرق بَين الْفَيْء والظل: فَيُقَال: إِن الظل بِالْغَدَاةِ، والفيء بالْعَشي، وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُمَا وَاحِد. وَقَوله: {عَن الْيَمين} أَي: عَن الْأَيْمَان؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ عَقِيبه: {وَالشَّمَائِل} والظل دائر من جَوَانِب الْإِنْسَان، فَمرَّة يكون عَن يَمِينه، وَمرَّة يكون عَن شِمَاله، وَمرَّة يكون قدامه، وَمرَّة يكون خَلفه. وَقَوله: {سجدا لله} أَكثر السّلف أَن السُّجُود هَاهُنَا: هُوَ الطَّاعَة لله، وَأَن كل الْأَشْيَاء سَاجِدَة لله مطيعة من حَيَوَان وجماد، وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ الْحسن: يَا ابْن آدم، ظلك يسْجد لله تَعَالَى، وَأَنت لَا تسْجد، فبئس مَا صنعت. وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة ابْن عمر عَن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: أَربع بعد الزَّوَال قبل الظّهْر يعدلن مِثْلهنَّ من السحر، وَمَا من شَيْء إِلَّا وَيسْجد لله فِي تِلْكَ السَّاعَة، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله} الْآيَة. قَالَ الضَّحَّاك: المُرَاد من سُجُود الظلال سُجُود الْأَشْخَاص، وَذكر بَعضهم أَن معنى قَوْله: {سجدا لله} أَي: خاضعة ذليلة خادمة فِيمَا أُرِيد لَهَا بِأَصْل الْخلقَة، والأشياء.

{وهم داخرون (48) وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم ويفعلون مَا يؤمرون (50) وَقَالَ الله} كلهَا مجبولة على مَا أُرِيد لَهَا فِي أصل الْخلقَة. وَذكر بَعضهم: أَنه إِنَّمَا أضَاف السُّجُود إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء؛ لِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى السُّجُود، فَكَأَنَّهَا فِي أَنْفسهَا سَاجِدَة، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول ثمَّ الثَّانِي. وَقَوله: {وهم داخرون} أَي: صاغرون.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة} المُرَاد من الدَّابَّة هَاهُنَا قَالُوا: هِيَ الْحَيَوَان؛ لِأَن الْحَيَوَان من شَأْنه الدبيب، وَيُقَال: وَللَّه يسْجد مَا فِي السَّمَوَات من الْمَلَائِكَة، وَمَا فِي الأَرْض من دَابَّة. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا الْمَعْنى، وَقد قَالَ بعده: {وَالْمَلَائِكَة} ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه خصهم بِالذكر تَشْرِيفًا لَهُم. وَالْآخر: أَن المُرَاد من الْمَلَائِكَة الْمَذْكُورين أخيرا هم مَلَائِكَة الله فِي الأَرْض، يعْبدُونَ الله تَعَالَى ويسبحونه. وَقَوله: {وهم لَا يستكبرن} الاستكبار: طلب الْكبر بترك الإذعان للحق.

50

قَوْله تَعَالَى: {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} قَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: يخَافُونَ عَذَاب رَبهم من فَوْقهم، وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح - أَن هَذِه صفة الْعُلُوّ [الَّتِي] تفرد الله بهَا، وَهُوَ كَمَا وصف بِهِ نَفسه من غير تكييف. وَقَوله: {ويفعلون مَا يؤمرون} يَعْنِي: أَن الْمَلَائِكَة لَا يعصونه.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الله لَا تَتَّخِذُوا إلَيْهِنَّ اثْنَيْنِ} فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى قَوْله: {اثْنَيْنِ} وَقد قَالَ: {إِلَهَيْنِ} ؟ الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: على طَرِيق التَّأْكِيد، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَام

{لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد فإياي فارهبون (51) وَله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَله الدّين واصبا أفغير الله تَتَّقُون (52) وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله ثمَّ إِذا} ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا أرجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة) . وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن الْآيَة على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهَا: وَقَالَ الله: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد. {فإياي فارهبون} يَعْنِي: فخافون.

52

قَوْله تَعَالَى: {وَله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {وَله الدّين واصبا} أَي: دَائِما، هَكَذَا قَالَه ابْن عَبَّاس، وَالدّين بِمَعْنى الطَّاعَة. وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَن [طَاعَة] غير الله تَنْقَطِع وتزول، وَطَاعَة الله لَا تَزُول وَلَا تَنْقَطِع، وَقيل: واصبا أَي: خَالِصا، والوصب فِي اللُّغَة هُوَ التَّعَب، فَيُقَال على هَذَا: أَن معنى الْآيَة أَن الطَّاعَات كلهَا لله، وَإِن كَانَ فِيهَا الوصب والتعب. وَقَوله: {أفغير الله تَتَّقُون} أَي: تخافون، وَهَذَا اسْتِفْهَام على طَرِيق الْإِنْكَار.

53

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله} مَعْنَاهُ: وَمَا يكن لكم من نعْمَة فَمن الله، وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا مس عبدا نعْمَة فَعلم أَنَّهَا من الله إِلَّا وَقد [شكر] الله، وَإِن لم يحمده ". وَقَوله: {ثمَّ إِذا مسكم الضّر} قيل: الْقَحْط، وَقيل: الْمَرَض. وَقَوله: {فإليه تجأرون} الجؤار هُوَ الصَّوْت على وَجه الاستغاثة، وَمِنْه جؤار الْبَقر، وَمعنى الْآيَة أَنكُمْ تدعون الله مستغيثين. قَالَ الشَّاعِر:

{مسكم الضّر فإليه تجأرون (53) ثمَّ إِذا كشف الضّر عَنْكُم إِذا فريق مِنْكُم برَبهمْ يشركُونَ (54) ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم فتمتعوا فَسَوف تعلمُونَ (55) ويجعلون لما لَا يعلمُونَ نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تالله لتسألن عَمَّا كُنْتُم تفترون (56) ويجعلون لله الْبَنَات} (يراوح فِي صلوَات المليك ... فطورا سجودا وطورا وجؤارا)

54

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِذا كشف الضّر عَنْكُم} يَعْنِي: مَا يضركم. وَقَوله: {إِذا فريق مِنْكُم برَبهمْ يشركُونَ} أَي: يكفرون.

55

قَوْله تَعَالَى: {ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم} مَعْنَاهُ: أَن حَاصِل أَمرهم هُوَ كفرهم بِمَا آتَيْنَاهُم من النِّعْمَة، وَهَذِه اللَّام وأمثالها تسمى لَام الْعَاقِبَة، وَقيل: إِن النِّعْمَة هِيَ الْآيَات الَّتِي أَرَاهَا خلقه على وحدانيته. وَقَوله: {فتمتعوا} أَي: عيشوا الْمدَّة الَّتِي ضرب لكم فِي طلب اللَّذَّة {فَسَوف تعلمُونَ} عَاقِبَة أَمركُم.

56

قَوْله تَعَالَى: {ويجعلون لما لَا يعلمُونَ نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} مَعْنَاهُ: ويجعلون للأصنام نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا هَذَا لله بزعمهم وَهَذَا لشركائنا} . وَقَوله: {لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: لَا يعلمُونَ أَنَّهَا تَضُرهُمْ وَلَا تنفعهم. وَقَوله: {تالله لتسألن عَمَّا كُنْتُم تفترون} مَعْنَاهُ: وَالله لتسألن، وَالسُّؤَال سُؤال إِلْزَام الْحجَّة، لَا سُؤال الاستعلام والاستفهام.

57

قَوْله تَعَالَى: {ويجعلون لله الْبَنَات} هَذَا معنى قَوْلهم: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله. وَقَوله: {سُبْحَانَهُ} هُوَ بَيَان تنزيهه عَن قَوْلهم. وَقَوله: {وَلَهُم مَا يشتهون} أَي: الْبَنِينَ، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ الْبَنَات، وَلنَا البنون.

58

وَقَوله: {وَإِذا بشر أحدهم بِالْأُنْثَى} كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يودون الذُّكُور من الْأَوْلَاد، ويكرهون الْإِنَاث، وَيَقُولُونَ: إنَّهُنَّ لَا يقاتلن، وَلَا يركبن الْخَيل، وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا دنت ولادَة امْرَأَته توارى من نَادَى قومه، فَإِن بشر بالابن ظهر، ويهنئه الْقَوْم،

{سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَا يشتهون (57) وَإِذا بشر أحدهم بِالْأُنْثَى ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم (58) يتَوَارَى من الْقَوْم من سوء مَا بشر بِهِ أيمسكه على هون أم يدسه فِي التُّرَاب أَلا} وَإِن بشر بِالْأُنْثَى تغير واستخفى وَرُبمَا يئدها؛ فَهَذَا معنى

59

قَوْله: {يتَوَارَى من الْقَوْم من سوء مَا بشر بِهِ} يَعْنِي: من كَرَاهَة مَا بشر بِهِ. وَأما قَوْله: {ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم} مَعْنَاهُ: تغير وَجهه من الْغم، تَقول الْعَرَب: اسود وَجه فلَان، إِذا تغير بِمَا أَصَابَهُ من الْغم. وَقَوله: {وَهُوَ كظيم} أَي: ممتلىء حزنا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: حَزِين، وَقَالَ غَيره: امْتَلَأَ حزنا، فَهُوَ يكظمه، أَي: يمسِكهُ وَلَا يظهره. وَأما قَوْله: {أيمسكه على هون} قَرَأَ الجحدري: " على هوان "، وَقَالَ الْكسَائي: الْهون والهوان بِمَعْنى وَاحِد، وَقَالَت الخنساء شعرًا: (نهين النُّفُوس ووهن النُّفُوس ... ليَوْم الكريهة أبقى لَهَا) وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر: " أم يدسها فِي التُّرَاب " وَيلْزمهُ على هَذِه الْقِرَاءَة أَن يقْرَأ: " أيمسكها "، وَأما على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فَإِنَّهَا تَنْصَرِف إِلَى لَفْظَة " مَا " وَمَا بِمَعْنى الَّذِي. وَقَوله: (أم يدسه فِي التُّرَاب) أَي: يدفنه حَيا، وَعَن قَتَادَة قَالَ: رب أُنْثَى خير لأَهْلهَا من غُلَام، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا وضعت امْرَأَة بِنْتا إِلَّا وضع الْملك يَده على رَأسهَا وَقَالَ: ضَعِيفَة خرجت من ضَعِيفَة، الْمُنفق عَلَيْهَا معَان إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".

{سَاءَ مَا يحكمون (59) للَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة مثل السوء وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (60) وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة وَلَكِن} وَقَوله: {أَلا سَاءَ مَا يحكمون} أَي: بئس مَا يحكمون، وحكمهم: وأد الْبَنَات وَترك الْبَنِينَ.

60

قَوْله تَعَالَى: {للَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة مثل السوء} أَي: صفة السوء، وَقيل: عَاقِبَة السوء. وَقَوله: {وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى} أَي: الصّفة الْعليا، وَذَلِكَ مثل قَوْلهم: عَالم وقادر ورازق وَحي، وَغير هَذَا. وَقَالَ مُجَاهِد: " وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى " شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} وَقَالَ هَاهُنَا: {وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى} فَكيف وَجه الْجمع؟ وَالْجَوَاب أَن معنى قَوْله: {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} أَي: الْأَمْثَال الَّتِي هِيَ الْأَشْبَاه فَإِن الله تَعَالَى لَا شبه لَهُ، وَأما قَوْله: {وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى} أَي: الصّفة الْعليا، وَهَذَا جَائِز لكل أحد أَن يَقُوله، بل وَاجِب. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.

61

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم} أَي: بكفرهم. وَقَوله: {مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة} رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِن الْجعل فِي جُحْره يعذب بذنب بني آدم، وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه سمع رجلا يَقُول: إِن الظَّالِم لَا يضر إِلَّا نَفسه، فَقَالَ لَهُ: بئْسَمَا قلت، إِن الْحُبَارَى تَمُوت هزلا من ظلم الظَّالِم. وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي معنى الْآيَة: لَو أَخذ الظَّالِمين فَأهْلك الْآبَاء انْقَطع النَّسْل، وَلم يُوجد الْأَبْنَاء فَيهْلك من فِي الأَرْض.

{يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) ويجعلون لله مَا يكْرهُونَ وتصف ألسنتهم الْكَذِب أَن لَهُم الْحسنى لَا جرم أَن لَهُم النَّار وَأَنَّهُمْ مفرطون (62) تالله لقد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم} وَقَوله: {وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى} يَعْنِي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

62

قَوْله تَعَالَى: {ويجعلون لله مَا يكْرهُونَ} يَعْنِي: الْبَنَات. وَقَوله: {وتصف ألسنتهم الْكَذِب} معنى الْكَذِب الْمَذْكُور هُوَ قَوْلهم: {أَن لَهُم الْحسنى} . وَفِي الْحسنى قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا البنون، وَالْآخر: أَنَّهَا الْجنَّة. وَقَوله: {لَا جرم أَن لَهُم النَّار} " لَا " رد لقَولهم. وَقَوله: {جرم} أَي: حَقًا، وَقيل: لَا محَالة أَن لَهُم النَّار، وَقيل: لَا بُد، وَقد بَينا أَن رجم بِمَعْنى كسب، وَذكرنَا عَلَيْهِ الاستشهاد. وَقَوله: {وَأَنَّهُمْ مفرطون} أَكثر الْقُرَّاء قرأوا بِفَتْح الرَّاء، وَقَرَأَ نَافِع: " مفرطون " بِالْكَسْرِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي: " مفرِّطون " بتَشْديد الرَّاء. وَاخْتلف القَوْل فِي معنى قَوْله: {مفرطون} بِفَتْح الرَّاء، قَالَ سعيد بن جُبَير وَمُجاهد: منسيون، وعنهما: متروكون، وَقيل: مضيعون، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ، مقدمون إِلَى النَّار، وَمِنْه الفارط، وَهُوَ الَّذِي يتَقَدَّم إِلَى المَاء، قَالَ الشَّاعِر: (استعجلونا فَكَانُوا من صحابتنا ... كَمَا تقدم فراط لوراد) وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَنا فَرَطكُمْ على الْحَوْض " أَي: متقدمكم، وَاخْتَارَ الْكسَائي وَأَبُو عُبَيْدَة وَالْفراء معنى قَول مُجَاهِد. وَأما قَوْله: " مفرطون " بِكَسْر الرَّاء، هُوَ من الإفراط، يَعْنِي: مبالغون فِي الْإِسَاءَة، وَأما قَوْله: " مفرطون " هُوَ من التَّفْرِيط، يَعْنِي: أَنهم مقصرون.

63

قَوْله تَعَالَى: {تالله لقد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك} يَعْنِي: وَالله لقد أرسلنَا إِلَى أُمَم

{فَهُوَ وليهم الْيَوْم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (63) وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ (64) وَالله أنزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يسمعُونَ (65) وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة} من قبلك. وَقَوله: {فزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم} يَعْنِي: كفرهم وجحودهم. وَقَوله: {فَهُوَ وليهم الْيَوْم} سَمَّاهُ وليا لَهُم لطاعتهم إِيَّاه. وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم.

64

قَوْله: {وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ} الْفرق بَين التَّبْيِين والتمييز، أَن فِي التَّبْيِين طلب الْعلم، وَلَيْسَ فِي التَّمْيِيز طلب الْعلم، فَإِن الرجل يُمَيّز بَين الْجيد والردىء (مَعَ علمه) بهما. وَقَوله: {اخْتلفُوا فِيهِ} أَي: فِي الْكتاب. وَقَوله: {وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ} مَعْنَاهُ: أَن الْكتاب هدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين، وَقيل: إِن الرَّسُول هدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين.

65

قَوْله تَعَالَى: {وَالله أنزل من السَّمَاء مَاء} أَي: الْمَطَر. وَقَوله: {فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا} أَي: بالنبات. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يسمعُونَ} يَعْنِي: يسمعُونَ سَماع التفهم.

66

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم} قرىء بِالنّصب وَالرَّفْع، أما بِالنّصب فمعلوم الْمَعْنى، وَأما بِالرَّفْع فَهُوَ أَن يَجْعَل لكم سقيا، قَالَ الشَّاعِر فِي الْفرق بَينهمَا: (سقى قومِي بني مجد وأسقي ... نميرا والقبائل من هِلَال) قَوْله: {مِمَّا فِي بطونه} فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: مِمَّا فِي بطونها، والأنعام جمع؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ: مِمَّا فِي بطُون كل وَاحِد مِنْهُمَا أَو كل نوع مِنْهَا، وَالْعرب قد تحذف مثل هَذَا، قَالَ الشَّاعِر: (أَلا يَا سُهَيْل فالقطيخ قد فسد ... وطاب ألبان اللقَاح فبرد)

{نسقيكم مِمَّا فِي بطونه من بَين فرث وَدم لَبَنًا خَالِصا سائغا للشاربين (66) وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} أَي بردت. وَقَوله: {من بَين فرث وَدم} الفرث هُوَ مَا يحصل فِي الكرش من الثّقل، وَيُقَال: إِن الْعلف الَّذِي تَأْكُله الدَّابَّة يتَغَيَّر فِي الكرش فيتحول لَبَنًا وفرثا ودما فأعلاه دم، وأوسطه لبن، وأسفله فرث، ثمَّ يُمَيّز الله تَعَالَى بَينهمَا، فَيجْرِي كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مجْرَاه على حِدة، (فَيجْعَل) اللَّبن فِي الضَّرع، وَيجْعَل الدَّم فِي الْعُرُوق، وَيبقى الفرث فِي الكرش، فَهَذَا معنى قَوْله: {من بَين فرث وَدم} . وَقَوله: {لَبَنًا خَالِصا} أَي: لَيْسَ عَلَيْهِ لون الدَّم وَلَا رَائِحَة الفرث. وَقَوله: {سائغا} السائغ: مَا يجْرِي فِي الْحلق على السهولة، وَفِي بعض الْأَخْبَار: مَا غص أحد بِلَبن؛ لقَوْله: {سائغا} . وَقَوله: {للشاربين} ظَاهر الْمَعْنى.

67

قَوْله: {وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا} اخْتلفُوا فِي السكر، فالمروي عَن ابْن عَبَّاس: أَن السكر مَا حرم من الثَّمر، والرزق الْحسن مَا حل من الثَّمر، وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ: أَن الْآيَة مَنْسُوخَة، وَهَذَا قبل تَحْرِيم الْخمر ثمَّ حرمت. وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: السكر هُوَ النَّبِيذ، والرزق الْحسن هُوَ التَّمْر وَالزَّبِيب، وَهَذَا قَول من يُبِيح (النَّبِيذ) ، وَأما على قَول ابْن عَبَّاس فَالْمُرَاد من الْآيَة هُوَ الْإِخْبَار عَنْهُم، لَا الْإِحْلَال لَهُم، وَأولى الْأَقَاوِيل أَن قَوْله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا} مَنْسُوخ. وَفِي بعض المسانيد أَن النَّبِي قَالَ: " لكم من الْعِنَب خَمْسَة حَلَال: الْعصير، وَالزَّبِيب، والخل، والرب، وَأَن تأكلوه عنبا " وَالله أعلم بِصِحَّتِهِ. وَقَالَ الشَّاعِر فِي

{إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعْقلُونَ (67) وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا وَمن الشّجر وَمِمَّا يعرشون (68) ثمَّ كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل رَبك دللا} السكر: (بئس الضجيع وَبئسَ الشّرْب شربهم ... إِذا جرى فيهم المزاء وَالسكر) أَي: الْمُسكر. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعْقلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

68

قَوْله تَعَالَى: {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} الْآيَة، وَأوحى رَبك أَي: ألهم رَبك، وَالْوَحي فِي اللُّغَة هُوَ إِعْلَام الشَّيْء فِي الستْرَة، وَقد يكون ذَلِك بِالْكِتَابَةِ، وَقد يكون بِالْإِشَارَةِ وَقد يكون بالإلهام، وَقد يكون بالْكلَام الْخَفي، وَقَالَ بَعضهم معنى قَوْله: {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} أَي: جعل فِي غرائزها ذَلِك، وَقيل: أوحى بِمَعْنى سخر، وذلل، وَأَصَح الْأَقَاوِيل هُوَ الأول. وَقَوله: {إِلَى النَّحْل} والنحل: ذُبَاب الْعَسَل، وَفِي رِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كل الذُّبَاب فِي النَّار إِلَّا النَّحْل " وَالْخَبَر غَرِيب. وَقَوله: {أَن اتخذي من الْجبَال بُيُوتًا وَمن الشّجر} أَي: خلايا، وَهِي الْأَمْكِنَة الَّتِي يضع النَّحْل فِيهَا الْعَسَل، وَيُقَال: إِنَّمَا يضع الْعَسَل فِي أَجْوَاف الْأَشْجَار، وَقد يضع على أَغْصَان الْأَشْجَار، وَقَوله: {وَمِمَّا يعرشون} يَعْنِي: يبنون، وَقد جرت عَادَة أَهلهَا أَنهم يبنون لَهَا الْأَمَاكِن فَهِيَ تأوي إِلَيْهَا بتسخير الله إِيَّاهَا لذَلِك.

69

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل رَبك} أَي: طرق رَبك، قَالَ مُجَاهِد: هِيَ تسلك سبلها لَا يتوعر عَلَيْهَا مَكَان.

{يخرج من بطونها شراب مُخْتَلف ألوانه فِيهِ شِفَاء للنَّاس إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون} وَقَوله: {ذللا} يحْتَمل وَجْهَيْن: يحْتَمل أَنه رَاجع إِلَى الطّرق، يُقَال: سَبِيل ذَلُول، وسبل ذلل، إِذا كَانَت سهلة المسلك، وَيحْتَمل أَنه ينْصَرف إِلَى النَّحْل، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا مطيعة منقادة لما خلقت لَهُ، وَيُقَال: إِن للنحل يعسوبا - وَهُوَ سيد النَّحْل - إِذا وقفت وقفت، وَإِذا سَارَتْ سَارَتْ، وَيُقَال: " ذللا " يَعْنِي لأربابها؛ فَإِنَّهُ قد جرت الْعَادة أَن أَرْبَابهَا ينقلونها من مَكَان إِلَى مَكَان، فَهِيَ مسخرة لذَلِك. وَقَوله: {يخرط من بطونها} . فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا يخرج من أفواهها لَا من بطونها؟ ، وَالْجَوَاب عَنهُ أَنه إِنَّمَا ذكر بطونها لِأَن الاستحالة تقع فِي بطونها؛ وَلِأَنَّهُ يخرج من بطونها إِلَى أفواهها، ثمَّ تسيل من أفواهها كَهَيئَةِ الرِّيق، وَرُوِيَ أَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - مر على عبد الرَّحْمَن بن عتاب بن أسيد، وَهُوَ مقتول يَوْم الْجمل؛ فَقَالَ: هَذَا يعسوب قُرَيْش شفيت نَفسِي، وَقتلت قومِي، أَشْكُو إِلَى الله عجري وبجري، أَي: همومي وأحزاني. وَقَوله: {شراب مُخْتَلف ألوانه} يَعْنِي: أَحْمَر، وأصفر، وأبيض. وَقَوله: {فِيهِ شِفَاء للنَّاس} لَا يشكل على أحد أَن فِي الْعَسَل شِفَاء لبَعض الْأَمْرَاض، وَقد يَجْعَل فِي المعجونات وَكثير من الْأَدْوِيَة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: فِيهِ شِفَاء للنَّاس، أَي: فِي الْقُرْآن، وَالْأَظْهَر فِي الْآيَة هُوَ القَوْل الأول. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن رجلا أَتَى النَّبِي وَذكر أَن أَخَاهُ اشْتَكَى بَطْنه فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ، فَزَاد الوجع، فَعَاد وَذكر لَهُ؛ فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ فازداد وجعا، فَعَاد وَذَلِكَ لَهُ ذَلِك؛ فَقَالَ: اسْقِهِ عسلا، فَسَقَاهُ فبرأ، فَعَاد وَذكر ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ: صدق الله، وَكذب بطن أَخِيك ". وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: من اشْتَكَى شَيْئا فليأخذ من امْرَأَته أَرْبَعَة

( {69) وَالله خَلقكُم ثمَّ يتوفاكم ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر لكَي لَا يعلم بعد علم شَيْئا إِن الله عليم قدير (70) وَالله فضل بَعْضكُم على بعض فِي الرزق فَمَا الَّذين فضلوا} دَرَاهِم من مهرهَا وليشتر بهَا عسلا، وليخلطه بِمَاء الْمَطَر وليشربه؛ فَإِن فِيهِ شِفَاء. وَكَانَ ابْن عمر إِذا أَصَابَهُ وجع طلى على مَوضِع الوجع بالعسل حَتَّى الدمل: وَعَن أبي حرَّة أَنه كَانَ يكتحل بالعسل. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يتفكرون} أَي: يتدبرون.

70

قَوْله تَعَالَى: {وَالله خَلقكُم ثمَّ يتوفاكم ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر} يَعْنِي: الْهَرم، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِنَّه خمس وَسَبْعُونَ سنة، وَقيل: ثَمَانُون سنة، حَكَاهُ قطرب. وَقيل: تسعون سنة، وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: من قَرَأَ الْقُرْآن لم يرد إِلَى أرذل الْعُمر، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يذهب عقله وَلَا يخرف، وَقيل: إِن الرَّد إِلَى أرذل الْعُمر للْكَافِرِينَ؛ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين إِلَّا الَّذين آمنُوا} . وَقَوله: {لكيلا يعلم بعد علم شَيْئا} يَعْنِي: ينتقص علمه وعقله، وَهَذَا دَلِيل على أَنه قد يذكر الشَّيْء، وَيُرَاد بِهِ الْأَغْلَب، فَإِنَّهُ إِذا رد إِلَى أرذل الْعُمر لَا يذهب جَمِيع علمه إِذا، وَإِنَّمَا يذهب أَكثر علمه. وَقَوله: {إِن الله عليم قدير} ظَاهر الْمَعْنى.

71

قَوْله تَعَالَى: {وَالله فضل بَعْضكُم على بعض فِي الرزق} مَعْنَاهُ: بسط لهَذَا وضيق على هَذَا، وَأكْثر لهَذَا وقلل. وَقَوله: {فَمَا الَّذين فضلوا برادي رزقهم على مَا ملكت أَيْمَانهم} فِي الْآيَة رد على الْمُشْركين فِي اتخاذهم الْأَصْنَام آلِهَة مَعَ الله، وَمعنى الْآيَة: أَن الْأَحْرَار المالكين مِنْكُم لَا تسخو أنفسهم بِدفع أَمْوَالهم إِلَى عبيدهم ليشاركوهم فِي الْملك، فَيَكُونُوا وهم سَوَاء؛ فَإِذا لم ترضوا هَذَا لأنفسكم؛ فَأولى أَن تنزهوا ربكُم عَنهُ، وَنَظِير هَذَا مَا ذكر فِي سُورَة الرّوم: {ضرب لكم مثلا من أَنفسكُم} إِلَى قَوْله: {فَأنْتم فِيهِ سَوَاء} .

{برادي رزقهم على مَا ملكت أَيْمَانهم فهم فِيهِ سَوَاء أفبنعمة الله يجحدون (71) وَالله جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وحفدة ورزقكم من الطَّيِّبَات أفبالباطل يُؤمنُونَ وبنعمت الله هم يكفرون (72) ويعبدون من دون الله مَا لَا} وَقَوله: {أفبنعمة الله يجحدون} يَعْنِي: بِأَن أنعم عَلَيْكُم جحدتموه، واتخذتم غَيره إِلَهًا مَعَه.

72

قَوْله تَعَالَى: {وَالله جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا فِي آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - فَإِن الله تَعَالَى خلق حَوَّاء من بعض أضلاعه. وَالْقَوْل الثَّانِي: خلق من أَنفسكُم أَزْوَاجًا أَي: من جنسكم أَزْوَاجًا. وَقَوله: {وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وحفدة} فِي الحفدة أَقْوَال: رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: هم الْأخْتَان، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: هم الأصهار، وَمعنى الْآيَة على هَذَا القَوْل: وَجعل لكم من أزواجكم بَنِينَ وَبَنَات تزوجونهم؛ فَيحصل لكم بسببهم الْأخْتَان والأصهار. وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - وَمُجاهد وَغَيرهمَا أَنهم قَالُوا: الخدم، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: الأعوان، وَقيل: [أَوْلَاد] الْأَوْلَاد، وَقيل: بَنو الْمَرْأَة من غَيره. والحفد فِي اللُّغَة: هُوَ الْإِسْرَاع فِي الْعَمَل، وَفِي دُعَاء الْقُنُوت: وَإِلَيْك نسعى ونحفد أَي: نسرع، وَقَالَ الشَّاعِر: (حفد الولائد حَوْلهنَّ وَأسْلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال) وَقيل: إِن الْبَنِينَ هم الْكِبَار، والحفدة هم الصغار، وَيُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: وَجعل لكم حفدة وَمن أزواجكم بَنِينَ. وَقَوله: {ورزقكم من الطَّيِّبَات} يَعْنِي: من النعم الْحَلَال. وَقَوله: {أفبالباطل يُؤمنُونَ} وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار. وَقَوله: {وبنعمة الله هم

{يملك لَهُم رزقا من السَّمَوَات وَالْأَرْض شَيْئا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (74) ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء وَمن} يكفرون) يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ هم يكفرون، وَقيل: بمحمدهم يكفرون.

73

وَقَوله تَعَالَى: {ويعبدون من دون الله مَا لَا يملك لَهُم رزقا من السَّمَوَات وَالْأَرْض شَيْئا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} المُرَاد من الْآيَة ذكر عجز الْأَصْنَام عَن إِيصَال نفع أَو دفع ضرّ.

74

وَقَوله: {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال} أَي: الْأَشْبَاه، وَمَعْنَاهُ: فَلَا تجْعَلُوا لله شبها. وَلَا مثلا؛ فَإِنَّهُ لَا شبه لَهُ، وَلَا مثل لَهُ. وَقَوله: {إِن الله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

75

قَوْله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا لَا يقدر على شَيْء وَمن رزقناه منا رزقا حسنا فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا} قَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك: ضرب الْمثل لنَفسِهِ وللصنم الَّذِي عبد من دونه، فَقَوله: {عبدا مَمْلُوكا} أَرَادَ بِهِ الصَّنَم. وَقَوله: {وَمن رزقناه منا رزقا حسنا} ضرب مثلا لنَفسِهِ على معنى أَنه الْجواد الرازق الَّذِي يُعْطي من حَيْثُ يُعلمهُ العَبْد وَمن حَيْثُ لَا يُعلمهُ. وَقَالَ قَتَادَة - وَهُوَ القَوْل الثَّانِي - هُوَ ضرب مثلا للْكَافِرِ وَالْمُؤمن، فَقَوله: {عبدا مَمْلُوكا} أَرَادَ بِهِ الْكَافِر، وَقَوله: {وَمن رزقناه منا رزقا حسنا} أَرَادَ بِهِ الْمُؤمن، وَقيل: إِن القَوْل الأول أليق بِظَاهِر الْآيَة؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سبق ذكر الْأَصْنَام، (وَتَأَخر ذكر الْأَصْنَام) . وَمن نصر القَوْل الثَّانِي اسْتدلَّ على صِحَّته بقوله: {عبدا مَمْلُوكا} والصنم لَا يُسمى عبدا، وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس أَن الْآيَة فِي رجلَيْنِ بأعيانهما: أما الَّذِي رزقه الله رزقا حسنا، فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا، هُوَ عَمْرو بن هِشَام، وَأما [العَبْد] الْمَمْلُوك فَهُوَ هُوَ مَوْلَاهُ أَبُو الْجَواب، وَكَانَ يَأْمُرهُ بِالْإِيمَان وَيمْتَنع، أوردهُ

{رزقناه منا رزقا حسنا فَهُوَ ينْفق مِنْهُ سرا وجهرا هَل يستوون الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (75) وَضرب الله مثلا رجلَيْنِ أَحدهمَا أبكم لَا يقدر على شَيْء وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير هَل يَسْتَوِي هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ وَهُوَ على صِرَاط} النّحاس فِي تَفْسِيره بِإِسْنَادِهِ. وَقَوله: {هَل يستوون} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {هَل يستوون} ، وَإِنَّمَا ضرب الْمثل لاثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن المُرَاد مِنْهُ الْجِنْس لَا وَاحِد بِعَيْنِه. وَقَوله: {الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى. أَي: حمد نَفسه على علمه وجهلهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: قل الْحَمد لله على مَا أوضح من الدَّلِيل. وَبَين من الْحق بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ، وَيُقَال: الْحَمد لي فَإِنِّي أَنا الْمُسْتَحق للحمد لَا مَا يشركُونَ بِي، بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ أَنِّي أَنا الْمُسْتَحق للحمد.

76

قَوْله تَعَالَى: {وَضرب الله مثلا رجلَيْنِ أَحدهمَا أبكم} الأبكم: هُوَ الَّذِي لَا ينْطق، وَلَا يعقل، وَلَا يفهم. وَقَوله: {لَا يقدر على شَيْء} أَي: لَا يقدر على النُّطْق. وَقَوله: {وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ} أَي: ثقل على مَوْلَاهُ. وَقَوله: {أَيْنَمَا يوجهه لَا يَأْتِ بِخَير} يَعْنِي: أَيْنَمَا يَبْعَثهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى خير. وَقَوله: {هَل يَسْتَوِي هُوَ وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ} عَنى بِهِ نَفسه، وَالله تَعَالَى يَأْمر بِالْعَدْلِ، وَيفْعل الْعدْل. وَقَوله: {وَهُوَ على صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: على طَرِيق قويم، وَالْمرَاد من الْآيَة: ضرب مثلا آخر لنَفسِهِ وللأصنام، فَالْأول هُوَ الصَّنَم، وَالْمرَاد من قَوْله: {وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ} هُوَ الله تَعَالَى. وَقَوله: {على صِرَاط مُسْتَقِيم} لِأَن الله تَعَالَى على طَرِيق الْحق، وَلَيْسَ عَنهُ معدل. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ مَا روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْآيَة فِي رجلَيْنِ بأعيانهما: أما الأول: فَهُوَ أسيد بن أبي العيض. وَقَوله: {وَمن يَأْمر بِالْعَدْلِ} هُوَ عُثْمَان بن عَفَّان، وَكَانَ عُثْمَان يَأْمُرهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يسلم.

77

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: علم غيب السَّمَوَات

{مُسْتَقِيم (76) وَللَّه غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب إِن الله على كل شَيْء قدير (77) وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون (78) ألم يرَوا إِلَى الطير مسخرات فِي جو السَّمَاء مَا يمسكهن إِلَّا الله إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (79) } وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر} مَعْنَاهُ: أَنه إِذا قَالَ لَهُ: كن فَيكون. وَقَوله: {أَو هُوَ أقرب} يَعْنِي: أدنى من لمح الْبَصَر، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {أَو هُوَ أقرب} ، و " أَو " للشَّكّ وَلَا يجوز على الله هَذَا؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن قَوْله: {أَو هُوَ أقرب} يَعْنِي: بل هُوَ أقرب قَالَ الشَّاعِر: (بَدَت مثل قرن الشَّمْس فِي رونق الضُّحَى ... وبهجته أَو أَنْت فِي الْعين أَمْلَح) يَعْنِي: بل أَنْت فِي الْعين أَمْلَح. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ: أَو هُوَ أقرب فِي علمكُم. وَقَوله: {إِن الله على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.

78

قَوْله تَعَالَى: {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا} يَعْنِي: لَا تعلمُونَ شَيْئا مِمَّا علمْتُم الْآن. وَقَوله: {وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة} أَي: الأسماع والأبصار والأفئدة، وَهِي جمع الْفُؤَاد. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تشكرون} أَي: نعمتي عَلَيْكُم.

79

قَوْله تَعَالَى: {ألم يرَوا إِلَى الطير مسخرات فِي جو السَّمَاء} أَي: مذلالات فِي كبد السَّمَاء، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَن الطير يرْتَفع اثنى عشر ميلًا وَلَا يرْتَفع فَوق هَذَا. وَفَوق الجو السكاك وَفَوق السكاك السَّمَاء. وَقَوله: {مَا يمسكهن إِلَّا الله} يَعْنِي: فِي حَال طيرانهن وقبضهن وبسطهن.

{وَالله جعل لكم من بُيُوتكُمْ سكنا وَجعل لكم من جُلُود الْأَنْعَام بُيُوتًا تستخفونها يَوْم ظعنكم وَيَوْم إقامتكم وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين (80) وَالله جعل لكم مِمَّا خلق ظلالا وَجعل لكم من الْجبَال أكنانا وَجعل لكم سرابيل تقيكم الْحر} وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} أَي: لعبرا.

80

قَوْله تَعَالَى: {وَالله جعل لكم من بُيُوتكُمْ سكنا} أَي: مَوَاضِع تسكنون فِيهَا. وَقَوله: {وَجعل لكم من جُلُود الْأَنْعَام بُيُوتًا} يَعْنِي: الفساطيط والخيم والقباب من الْأدم. وَقَوله: {تستخفونها} يَعْنِي: يخف عَلَيْكُم حملهَا. وَقَوله: {يَوْم ظعنكم} يَعْنِي: يَوْم سفركم. وَقَوله: {وَيَوْم إقامتكم} أَي: حَال إقامتكم. وَقَوله: {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا} الأصواف للغنم، والأوبار لِلْإِبِلِ، والأشعار للمعز. وَقَوله: {أثاثا} الأثاث: مَتَاع الْبَيْت، وَهُوَ مَا يتأثث بِهِ أَي: ينْتَفع بِهِ، قَالَ الشَّاعِر: (أهاجتك الظعائن يَوْم بانوا ... على الزي الْجَمِيل من الأثاث) وَقيل: الأثاث اللبَاس. وَقَوله: {ومتاعا إِلَى حِين} أَي: مُتْعَة إِلَى حِين آجالكم.

81

قَوْله تَعَالَى: {وَالله جعل لكم مِمَّا خلق ظلالا} أَي: مَا يظلكم من الشَّمْس من الْأَشْجَار والحيطان والسقوف وَالْجِبَال وَأَشْبَاه ذَلِك. وَقَوله: {وَجعل لكم من الْجبَال أكنانا} أَي: الغيران والأسراب، والأكنان جمع الْكن. وَقَوله: {وَجعل لكم سرابيل} أَي: قمصا، وَقد تكون من الصُّوف، وَقد تكون من الْقطن، وَقد تكون من الْكَتَّان. وَقَوله: {تقيكم الْحر} هَاهُنَا حذف، وَمَعْنَاهُ: تقيكم الْحر وَالْبرد. قَالَ الشَّاعِر: (وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني) قَالَ النّحاس: أُرِيد الْخَيْر وأتقي الشَّرّ؛ لِأَن كل من يُرِيد الْخَيْر فيتقي الشَّرّ، وَقَوله: أَيهمَا يليني أَي: الْخَيْر وَالشَّر.

{وسرابيل تقيكم بأسكم كَذَلِك يتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تسلمون (81) فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ الْمُبين (82) يعْرفُونَ نعمت الله ثمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرهم الْكَافِرُونَ (83) } وَقَوله: {وسرابيل تقيكم بأسكم} أَي: الدروع، والبأس هُوَ مَا يَقع بِهِ الْبَأْس، وَهُوَ السِّلَاح. وَقَوله: {كَذَلِك يتم نعْمَته عَلَيْكُم} يَعْنِي: منته عَلَيْكُم. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تسلمون} أَي: تؤمنون، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " لَعَلَّكُمْ تسلمون " وَالْقِرَاءَة غَرِيبَة. فَإِن قيل: كَيفَ ذكر هَذِه النعم من الْجبَال والظلال والسرابيل والقمص والأوبار والأصواف، وَللَّه تَعَالَى نعم كَثِيرَة فَوق هَذَا لم يذكرهَا؟ فَمَا معنى تَخْصِيص هَذِه النعم وَترك مَا فَوْقهَا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب كَانُوا أَصْحَاب أنعام، وَكَانُوا أهل جبال، وَكَانَت بِلَادهمْ حارة؛ فَذكر من النعم مَا يَلِيق بحالهم، وَكَانَت هَذِه النعم عِنْدهم فَوق كل نعْمَة؛ فخصها بِالذكر لهَذَا الْمَعْنى، وَعَن قَتَادَة: أَن هَذِه السُّورَة تسمى سُورَة النعم.

82

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ الْمُبين} هَذِه تَسْلِيَة للنَّبِي وَمَعْنَاهُ: أَنهم إِن أَعرضُوا فَلَا يلحقك فِي ذَلِك عتب وَلَا سمة تقصيرا؛ فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وَقد بلغت.

83

قَوْله تَعَالَى: {يعْرفُونَ نعْمَة الله ثمَّ يُنْكِرُونَهَا} قَالَ السّديّ: هُوَ مُحَمَّد، وعَلى هَذَا جمَاعَة من أهل التَّفْسِير، وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ الْإِسْلَام. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى الْآيَة: أَنه كَانَ إِذا قيل لَهُم: من أَعْطَاكُم هَذِه النعم؟ فَيَقُولُونَ: الله، فَإِذا قيل لَهُم: فوحدوه؛ فَيَقُولُونَ: أعطينا بشفاعة آلِهَتنَا. وَعَن قَتَادَة: أَنهم يقرونَ أَن النعم من الله، ثمَّ إِذا قيل لَهُم: تصدقوا، وامتثلوا فِيهَا أَمر الله تَعَالَى، قَالُوا: وَرِثْنَاهَا من آبَائِنَا. وَعَن عون بن عبد الله قَالَ: إِنْكَار النِّعْمَة هُوَ أَن يَقُول: لَوْلَا كَذَا لَأُصِبْت كَذَا، وَلَوْلَا فلَان لأصابني كَذَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: النعم سِتَّة: مُحَمَّد،

{وَيَوْم نبعث من كل أمة شَهِيدا ثمَّ لَا يُؤذن للَّذين كفرُوا وَلَا هم يستعتبون (84) وَإِذا رأى الَّذين ظلمُوا الْعَذَاب فَلَا يُخَفف عَنْهُم وَلَا هم ينظرُونَ (85) وَإِذا رأى الَّذين أشركوا شركاءهم قَالُوا رَبنَا هَؤُلَاءِ شركاؤنا الَّذين كُنَّا نَدْعُو من دُونك فَألْقوا إِلَيْهِم القَوْل إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ (86) وألقوا إِلَى الله يَوْمئِذٍ السّلم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} وَالْقُرْآن، وَالْإِسْلَام، والعافية، والستر، والاستغناء عَن النَّاس. وَقَوله: {وَأَكْثَرهم الْكَافِرُونَ} يَعْنِي: وَكلهمْ الْكَافِرُونَ؛ لِأَن الْآيَة فِي الْكفَّار.

84

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم نبعث من كل أمة شَهِيدا} هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا} . وَقَوله: (ثمَّ لَا يُؤذن للَّذين كفرُوا) يَعْنِي: فِي الِاعْتِذَار، وَقيل: فِي الْكَلَام أصلا. وَقَوله: {وَلَا هم يستعتبون} يَعْنِي: لَا يردون إِلَى الدُّنْيَا ليتوبوا، وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الاستعتاب: هُوَ التَّعْرِيض لطلب الرِّضَا، وَهَذَا الْبَاب منسد على الْكفَّار فِي الْآخِرَة.

85

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رأى الَّذين ظلمُوا الْعَذَاب} يَعْنِي: جَهَنَّم. وَقَوله: {فَلَا يُخَفف عَنْهُم} أَي: لَا يسهل عَلَيْهِم. وَقَوله: {وَلَا هم ينظرُونَ} أَي: لَا يمهلون.

86

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رأى الَّذين أشركوا شركاءهم} هَذَا فِي الْوَقْت الَّذِي يبْعَث الله الْأَصْنَام ويحضرها، فَإِذا رَآهَا الْكفَّار {قَالُوا رَبنَا هَؤُلَاءِ شركاؤنا الَّذين كُنَّا ندعوا من دُونك} . وَقَوله: {فَألْقوا إِلَيْهِم القَوْل إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ} فِيهِ قَولَانِ: الْأَظْهر أَن هَذَا قَول الْأَصْنَام يَقُولُونَ للْمُشْرِكين: إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ، يَعْنِي: فِي أَنا دعوناكم إِلَى عبادتنا، أَو فِي قَوْلكُم: إِن هَؤُلَاءِ آلِهَة، أَو فِي قَوْلكُم: إِنَّا نستحق الْعِبَادَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمَلَائِكَة يَقُولُونَ: إِنَّكُم لَكَاذِبُونَ.

87

قَوْله تَعَالَى: {وألقوا إِلَى الله يَوْمئِذٍ السّلم} أَي: استسلم العابد والمعبود لله

( {87) الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يفسدون (88) وَيَوْم نبعث فِي كل أمة شَهِيدا عَلَيْهِم من أنفسهم وَجِئْنَا بك شَهِيدا على هَؤُلَاءِ ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة وبشرى للْمُسلمين (89) إِن} تَعَالَى. وَقَوله: {وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} أَي: بَطل عَنْهُم مَا كَانُوا يكذبُون، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه فَاتَ عَنْهُم مَا زعموه؛ فَإِنَّهُ كَانَ فِرْيَة وكذبا.

88

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله} يَعْنِي: منعُوا النَّاس من طَرِيق الْحق. وَقَوله: {زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب} روى مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: عقارب كالبغال، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ: أفاعي كالفيلة، وعقارب كالنخيل الطوَال، وَعَن أبي الزَّاهِرِيَّة قَالَ: [مَا] من عَذَاب يعرفهُ النَّاس، أَو لَا يعرفونه إِلَّا ويعذب الله بِهِ أهل النَّار. وَرُوِيَ أَنهم يهربون من النَّار، فَيخْرجُونَ إِلَى زمهرير فِي جَهَنَّم، هُوَ أَشد عَلَيْهِم من النَّار؛ فيعودون إِلَى النَّار مستغيثين بهَا، وَقَوله: {بِمَا كَانُوا يفسدون} أَي: [يشركُونَ] .

89

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَوْم نبعث فِي كل أمة شَهِيدا عَلَيْهِم من أنفسهم وَجِئْنَا بك شَهِيدا على هَؤُلَاءِ} قد بَينا الْمَعْنى. وَقَوله: {ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء} أَي: بَيَانا للثَّواب وَالْعِقَاب، والحلال وَالْحرَام. وَعَن الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: تبيانا بِالسنةِ. وَقَوله: {وَهدى} أَي: من الضَّلَالَة. وَقَوله: {وَرَحْمَة} أَي: عطفا على من أنزل عَلَيْهِم. وَقَوله: {وبشرى} أَي: بِشَارَة {للْمُسلمين} .

90

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْعدْل هُوَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَقيل: إِنَّه التَّوْحِيد، وَهُوَ فِي معنى الأول.

{الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْإِنْصَاف وَترك [الْجور [، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ أَنه دَعَاهُ عمر بن عبد الْعَزِيز حِين ولي الْخلَافَة، فَقَالَ لَهُ: صف لي الْعدْل، فَقَالَ: كن للصَّغِير أَبَا، وللكبير ابْنا، ولمثلك أَخا، وعاقب النَّاس على قدر ذنوبهم، وَإِيَّاك أَن تضرب أحدا (بِغَضَبِك) وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ أَن الْعدْل هُوَ أَن تستوي سريرة الْمَرْء وعلانيته. وَقَوله تَعَالَى: {وَالْإِحْسَان} أَن تكون سريرة الْمَرْء أفضل من عَلَانِيَته عِنْد الله، وَقَوله: {وَالْإِحْسَان} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْإِحْسَان هُوَ الْعَفو، وَالْآخر: هُوَ أَدَاء الْفَرَائِض وَالثَّالِث: (أَنه) أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك، وَالرَّابِع: أَنه التفضل، وَقيل: الْإِحْسَان أَن تكون سريرة الْمَرْء أفضل من عَلَانِيَته. وَقَوله: {وإيتاء ذِي الْقُرْبَى} أَي: صلَة ذَوي الْأَرْحَام، وَقيل: إِنَّه يدْخل فِي هَذَا جَمِيع بني آدم؛ لِأَن بَينه وَبَين الْكل وصلَة بِآدَم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَأدنى مَا يَقع فِي الصِّلَة ترك الْأَذَى، وَأَن يحب لَهُ مَا يُحِبهُ لنَفسِهِ، وَيكرهُ لَهُ مَا يكره لنَفسِهِ. وَقَوله: {وَينْهى عَن الْفَحْشَاء} الْفَحْشَاء: كل مَا استقبح من الذُّنُوب، وَقيل: إِنَّه الزِّنَا، وَقيل: إِنَّه الْبُخْل، وَقيل الْفَحْشَاء: أَن تكون عَلَانيَة الْمَرْء أفظع من سَرِيرَته. وَقَوله: {وَالْمُنكر} يَعْنِي: كل مَا يكون مُنْكرا فِي الدّين، وَقيل: إِنَّه الشّرك، فَإِنَّهُ أعظم الْمَنَاكِير. وَقَوله: {وَالْبَغي} يُقَال: إِنَّه الظُّلم والاستطالة على النَّاس، وَقيل: إِنَّه الْكبر، وَقيل: إِنَّه الْغَيْبَة، وَعَن قَتَادَة قَالَ: جمع الله تَعَالَى كل مَا يحب، وكل مَا يكره فِي هَذِه الْآيَة.

{يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (90) وأوفوا بِعَهْد الله إِذا عاهدتم وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا إِن الله يعلم مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي} وَفِي بعض المسانيد: أَن شتيرا جَاءَ إِلَى مَسْرُوق، فَقَالَ لَهُ: إِمَّا أَن تُحَدِّثنِي عَن عبد الله فأصدقك، أَو أحَدثك عَن عبد الله فتصدقني، فَقَالَ: حدث أَنْت، فَقَالَ: سَمِعت عبد الله يَقُول: أجمع آيَة فِي الْقُرْآن للخير وَالشَّر قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} فَقَالَ لَهُ مَسْرُوق: صدقت. وَيُقَال: إِن الْعدْل زَكَاة الْولَايَة، وَالْعَفو زَكَاة الْقُدْرَة، وَالْإِحْسَان زَكَاة النِّعْمَة، والكتب إِلَى الإخوان زَكَاة الجاه؛ يَعْنِي: كتب الْوَسِيلَة. وَقَوله تَعَالَى: {يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} يَعْنِي: تعتبرون.

91

قَوْله تَعَالَى: {وأوفوا بِعَهْد الله إِذا عاهدتم} الْآيَة، قَالَ: الْعَهْد هَاهُنَا هُوَ الْيَمين، وَعَن جَابر بن زيد وَالشعْبِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: الْعَهْد يَمِين، وكفارته كَفَّارَة الْيَمين. وَعَن عمر قَالَ: الْوَعْد من الْعَهْد، وَمثله عَن ابْن عَبَّاس. وَقَوله: {وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها} أَي: بعد إحكامها {وَقد جعلتم الله عَلَيْكُم كَفِيلا} أَي: شَهِيدا، وَقيل: توثقتم باسمه كَمَا يتوثق بالكفيل. وَقَوله: {إِن الله يعلم مَا تَفْعَلُونَ} وَعِيد وتهديد.

92

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نقضت غزلها} هَذِه امْرَأَة كَانَت تسمى ريطة بنت سعد، وَكَانَت بهَا وَسْوَسَة؛ فَكَانَت تجْلِس بِجَانِب الْحجر، وتغزل طول نَهَارهَا بمغزل كَبِير، فَإِذا كَانَ الْعشي نقضته. وَقيل: كَانَت تَأمر جواريها بنقضه، فَشبه الله من نقض الْعَهْد بهَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا لم تكف عَن الْعَمَل، وَلَا حِين عملت كفت عَن النَّقْض، فَكَذَلِك أَنْتُم لَا كففتم عَن الْعَهْد، وَلَا حِين عهدتم وفيتم. وَقَوله: {من بعد قُوَّة} أَي: بعد إحكام. وَقَوله: {أنكاثا} أَي: إنقاضا وقطعا.

{نقضت غزلها من بعد قُوَّة أنكاثا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم أَن تكون أمة هِيَ أربى من أمة إِنَّمَا يبلوكم الله بِهِ وليبينن لكم يَوْم الْقِيَامَة مَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (92) وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء ولتسألن عَمَّا كُنْتُم} وَقَوله: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم} أَي: غشا وخديعة. والدخل: مَا تدخل فِي الشَّيْء للْفَسَاد، وَيُقَال: إِن (الدغل) هُوَ أَن يظْهر الْوَفَاء، ويبطن النَّقْض، وَكَذَلِكَ الدخل. وَقَوله: {أَن تكون أمة هِيَ أربى} أَي: أَكثر، وَأما مَعْنَاهُ: فروى عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: كَانُوا يعاهدون مَعَ قوم، فَإِذا رَأَوْا أَقْوَامًا أعز مِنْهُم وَأكْثر، نقضوا عهد الْأَوَّلين، وعاهدوا مَعَ الآخرين؛ فعلى هَذَا قَوْله: {أَن تكون أمة هِيَ أربى من أمة} يَعْنِي: طلبتم الْعِزّ بِنَقْض الْعَهْد بِأَن كَانَت أمة أَكثر من أمة. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهِي نزلت فِي قوم عَاهَدُوا مَعَ النَّبِي ثمَّ نقضوا الْعَهْد مَعَه، وعاهدوا مَعَ قوم من الْكفَّار، فظنوا أَن قوتهم أَكثر، لِأَن عَددهمْ أَكثر، وَيُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْمُؤمنِينَ، نَهَاهُم الله تَعَالَى عَن نقض الْعَهْد؛ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِذا عاهدتم مَعَ قوم لمخافة، فَإِذا أمنتم فَلَا تنقضوا، ليَكُون جانبكم أقوى وَأكْثر. وَقَوله: {إِنَّمَا يبلوكم الله بِهِ} يَعْنِي: بِالْكَثْرَةِ والقلة، وَقيل: يبلوكم الله بِهِ يَعْنِي: بِالْأَمر بِالْوَفَاءِ بالعهد. وَقَوله: {وليبين لكم يَوْم الْقِيَامَة مَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون} ظَاهر الْمَعْنى.

93

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شَاءَ الله لجعلكم أمة وَاحِدَة} أَي: على دين وَاحِد، وَهُوَ الْإِسْلَام. وَقَوله: {وَلَكِن يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وَالْآيَة صَرِيحَة فِي الرَّد على الْقَدَرِيَّة. وَقَوله: {ولتسألن عَمَّا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنِّي لَا أسأَل عَمَّا أفعل من الإضلال وَالْهِدَايَة، وَأَنْتُم تسْأَلُون عَمَّا تَعْمَلُونَ من الْخَيْر وَالشَّر.

94

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم} أَي: سَبَب فَسَاد بَيْنكُم، وَقد

{تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانكُم دخلا بَيْنكُم فتزل قدم بعد ثُبُوتهَا وتذوقوا السوء بِمَا صددتم عَن سَبِيل الله وَلكم عَذَاب عَظِيم (94) وَلَا تشتروا بِعَهْد الله ثمنا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْد الله هُوَ خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (95) مَا عنْدكُمْ ينْفد وَمَا عِنْد الله بَاقٍ ولنجزين الَّذين صَبَرُوا أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ (96) من عمل صَالحا من ذكر} بَينا معنى الدخل. وَقَوله: {فتزل قدم بعد ثُبُوتهَا} يَعْنِي: تزل عَن الْإِسْلَام بعد ثُبُوتهَا على الْإِسْلَام قَالَ: (النَّحْو صَعب وطويل سلمه ... إِذا ارْتقى فِيهِ الَّذِي لَا يُعلمهُ) (زلت بِهِ إِلَى الحضيض قدمه ... ) وَقَوله: {وتذوقوا السوء} بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {بِمَا صددتم عَن سَبِيل الله} يَعْنِي: سهلتم طَرِيق نقض الْعَهْد على النَّاس بنقضكم الْعَهْد. وَقَوله: {وَلكم عَذَاب عَظِيم} أَي: كَبِير.

95

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تشتروا بِعَهْد الله ثمنا قَلِيلا} يَعْنِي: شَيْئا يَسِيرا من عرض الدُّنْيَا. وَقَوله: {إِنَّمَا عِنْد الله هُوَ خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

96

قَوْله تَعَالَى: {مَا عنْدكُمْ ينْفد} يَعْنِي: أَن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا تفنى. وَقَوله: {وَمَا عِنْد الله بَاقٍ} يَعْنِي: الْآخِرَة، وعَلى الْعَاقِل أَن يُؤثر مَا يبْقى، وَفِي بعض الْآثَار: للدنيا بنُون، وللآخرة بنُون، فكونوا من أَبنَاء الْآخِرَة، وَلَا تَكُونُوا من أَبنَاء الدُّنْيَا. وَقَوله: {ولنجزين الَّذين صَبَرُوا أجرهم} يَعْنِي: صَبَرُوا عَن الدُّنْيَا. وَقَوله: {أجرهم} أَي: ثوابهم وجزاءهم. وَقَوله: {بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ.

97

قَوْله تَعَالَى: {من عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة} اخْتلفُوا فِي الْحَيَاة الطّيبَة على أقاويل:

{أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فلنحيينه حَيَاة طيبَة ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ (97) فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم (98) } رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة هِيَ الرزق الْحَلَال. وَعَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة: أَنَّهَا القناعة، وَفِي بعض دُعَاء النَّبِي: " اللَّهُمَّ قنعني بِمَا رزقتني " وَفِي منثور الْكَلَام: القناعة ملك خَفِي. وَالْقَوْل الثَّالِث: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة فِي الْجنَّة، قَالَ الْحسن: وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَيَاة طيبَة، وَعنهُ أَنه قَالَ: الدُّنْيَا كلهَا بلَاء، فَمَا كَانَ فِيهَا من خير فَهُوَ ريح، وَرُوِيَ أَنه سمع رجلا يَقُول لآخر: لَا أَرَاك الله مَكْرُوها أبدا، فَقَالَ لَهُ: دَعَوْت الله لَهُ بِالْمَوْتِ، فَإِن الدُّنْيَا لَا تَخْلُو عَن الْمَكْرُوه. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: الْحَيَاة الطّيبَة رزق يَوْم بِيَوْم، وَقيل: إِنَّه حلاوة الْعِبَادَة وَأكل الْحَلَال، وَيُقَال: إِنَّهَا عَيْش الْإِنْسَان فِي بَلَده مَعَ الْكِفَايَة والعافية، وَقيل: مُطلق الْكِفَايَة والعافية. وَقَوله: {ولنجزينهم أجرهم بِأَحْسَن مَا كَانُوا يعْملُونَ} قد بَينا الْمَعْنى.

98

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن} رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم بعد الْقِرَاءَة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} وَحكى بَعضهم عَن مَالك مثل هَذَا. وَالأَصَح أَن الِاسْتِعَاذَة قبل الْقِرَاءَة، وَقد رُوِيَ ذَلِك بروايات كَثِيرَة عَن النَّبِي وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي المتَوَكل النَّاجِي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ لَهُ: " إِذا افتتحت الْقِرَاءَة فَقل: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ". وَثَبت

{إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون (100) وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله أعلم بِمَا ينزل} أَن النَّبِي قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الشَّيْطَان من همزه ونفثه ". وَأما معنى الْآيَة: إِذا أردْت قِرَاءَة الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {يأيها الَّذين آمنُوا إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا} يَعْنِي: إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَفِي بعض الْآثَار: أَنه لَا شَيْء أَشد على إِبْلِيس من الِاسْتِعَاذَة، والاستعاذة بِاللَّه هِيَ الِاعْتِصَام بِاللَّه. وَقَوله: {من الشَّيْطَان الرَّجِيم} أَي: الشَّيْطَان المرجوم.

99

وَقَوله تَعَالَى: {إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا} أَي: لَيْسَ لَهُ ولَايَة على الَّذين آمنُوا. وَقَوله: {وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} يُقَال مَعْنَاهُ: أَنه لَا يقدر على إيقاعهم فِي ذَنْب لَيْسَ لَهُم مِنْهُ تَوْبَة، وَقيل: إِنَّه لَا يقدر على إدخالهم فِي الشّرك وإغوائهم.

100

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه} يَعْنِي: الَّذين يدْخلُونَ فِي ولَايَته ويتبعونه. وَقَوله: {وَالَّذين هم بِهِ مشركون} قَالَ بَعضهم: بِرَبّ الْعَالمين مشركون، وَقَالَ ثَعْلَب: وَالَّذين هم بِهِ مشركون أَي: لأَجله مشركون أَي: لأجل إِبْلِيس، وَهَذَا معنى صَحِيح؛ لِأَن من يُشْرك بإبليس يكون مُؤمنا بِاللَّه، فَالْمَعْنى هَذَا.

101

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ النَّبِي إِذا نزلت عَلَيْهِ آيَة شدَّة، ثمَّ نسخت، وأنزلت عَلَيْهِ آيَة لين، قَالَ الْمُشْركُونَ: انْظُرُوا إِلَى

{قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (101) قل نزله روح الْقُدس من رَبك بِالْحَقِّ ليثبت الَّذين آمنُوا وَهدى وبشرى للْمُسلمين (102) وَلَقَد نعلم أَنهم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعلمهُ} هَذَا الرجل يُبدل كَلَام الله من قبل نَفسه، وَكَانُوا يَقُولُونَ على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء: وتبدل الشَّيْء بالشَّيْء؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة} " أَي: وَضعنَا آيَة مَكَان آيَة. وَقَوله: {وَالله أعلم بِمَا ينزل} يَعْنِي: وَالله أعلم بِمَنْفَعَة الْعباد فِيمَا ينزل. وَقَوله: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْت مفتر} أَي: مختلق. وَقَوله: {بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} يَعْنِي: كلهم لَا يعلمُونَ أَنِّي أَنا الْمنزل لجَمِيع الْآيَات النَّاسِخ والمنسوخ.

102

قَوْله تَعَالَى: {قل نزله روح الْقُدس} أَي: جِبْرِيل. وَقَوله: {من رَبك بِالْحَقِّ} أَي: بِالصّدقِ وَقَوله: {ليثبت الَّذين آمنُوا} أَي: ليثبت قُلُوب الَّذين آمنُوا. وَقَوله: {وَهدى وبشرى للْمُسلمين} قد بَينا الْمَعْنى.

103

قَوْله: {وَلَقَد نعلم أَنهم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعلمهُ بشر} الْآيَة، اخْتلفت الْأَقَاوِيل فِي معنى قَوْله: {بشر} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ غُلَام لعامر بن الْحَضْرَمِيّ، وَكَانَ يقْرَأ الْكتب، وَكَانَ الْمُشْركُونَ يَزْعمُونَ أَن رَسُول الله يتَعَلَّم مِنْهُ، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ غُلَام لحويطب، وَقَالَ غَيره: كَانَ اسْمه جبر، وَمِنْهُم من قَالَ: غلامان من عين التَّمْر يُسمى أَحدهمَا: جبر، وَالْآخر: يسَار، وَكَانَا يقرآن الْكتب بلسانهما، وَقَالَ بَعضهم: كَانَ اسْمه: أَبُو (فكيهة) ، وَقيل: كَانَ اسْمه: عايش، قَالُوا: كَانَ النَّبِي يجلس إِلَيْهِمَا، ويدعوهما، إِلَى الْإِسْلَام، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ} قرئَ: " يلحدون إِلَيْهِ " و " يلحدون "، والإلحاد: الْميل، والملحد هُوَ الَّذِي مَال عَن الْحق إِلَى التعطيل؛ فَقَوله: {يلحدون إِلَيْهِ} أَي: يميلون إِلَيْهِ. وَقَوله: {يلحدون إِلَيْهِ} أَي: يميلون القَوْل إِلَيْهِ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يومئون إِلَيْهِ،

{بشر لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ أعجمي وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين (103) إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله لَا يهْدِيهم الله وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (104) إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ (105) } وَقَوله: {أعجمي} الأعجمي: هُوَ الَّذِي لَا يفصح بِالْعَرَبِيَّةِ. وَقَوله: {وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين} أَي: كَلَام عَرَبِيّ مُبين، وَمعنى الْآيَة: أَنه كَيفَ يَأْخُذ مِنْهُم، وهم لَا يفصحون بِالْعَرَبِيَّةِ؟ وَقد رُوِيَ أَن ذَلِك الرجل الَّذِي كَانُوا يشيرون إِلَيْهِ أسلم، وَحسن إِسْلَامه.

104

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله لَا يهْدِيهم الله} يَعْنِي: لَا يرشدهم الله إِلَى الْحق، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} . وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم.

105

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله وَأُولَئِكَ هم الكذبون} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: {إِنَّمَا يفتري الْكَذِب} فأيش معنى قَوْله: {وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: {إِنَّمَا يفتري الْكَذِب} هَذَا إِخْبَار عَن فعل الْكَذِب، وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ} نعت لَازم، وَمَعْنَاهُ: أَن هَذَا صفتهمْ ونعتهم، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول لغيره: كذبت، وَأَنت كَاذِب أَي: كذبت فِي هَذَا القَوْل، وَمن صِفَتك الْكَذِب. وَفِي بعض المسانيد عَن يعلى بن الْأَشْدَق عَن عبد الله بن جَراد أَنه قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله: الْمُؤمن يَزْنِي؟ قَالَ: قد يكون ذَلِك، فَقلت: الْمُؤمن يسرق؟ قَالَ: قد يكون ذَلِك، فَقلت الْمُؤمن يكذب؟ فَقَالَ: لَا، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يفتري الْكَذِب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله} " وَعَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ

{من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب عَظِيم (106) ذَلِك بِأَنَّهُم استحبوا الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة وَأَن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين (107) أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وسمعهم وأبصارهم وَأُولَئِكَ هم الغافلون (108) لَا جرم أَنهم فِي الْآخِرَة هم} : الْكَذِب مُجَانب للْإيمَان.

106

قَوْله تَعَالَى: {من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه} نزلت الْآيَة فِي عمار بن يَاسر - رَضِي الله عَنهُ - أَخذه الْمُشْركُونَ، وأكرهوه على سبّ النَّبِي فطاوعهم فِي بعض القَوْل، ثمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " مَا وَرَاءَك؟ فَقَالَ: شَرّ يَا رَسُول الله، لم يتركني الْكفَّار حَتَّى نلْت مِنْك، وَذكرت آلِهَتهم بِخَير، فَقَالَ: وَكَيف وجدت قَلْبك؟ فَقَالَ: مطمئنا بِالْإِيمَان؛ فَقَالَ: إِن عَادوا فعد؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " وَتَقْدِير الْآيَة: من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب أَلِيم إِلَّا من أكره، وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان {وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} فَحكمه مَا بَينا. وَقَوله: {شرح} أَي: فتح قلبه لقبُول الْكفْر.

107

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم استحبوا الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة} يَعْنِي: آثروا الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة. وَاعْلَم أَن الْمُؤمن يجوز أَن يطْلب الدُّنْيَا، وَيطْلب الْآخِرَة، وَلَكِن لَا يُؤثر الدُّنْيَا على الْآخِرَة إِلَّا الْكَافِر. وَقَوله: {وَأَن الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين} لَا يرشد الْقَوْم الْكَافرين.

108

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وسمعهم وأبصارهم وَأُولَئِكَ هم الغافلون} أَي: عَمَّا يُرَاد بهم.

109

قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم أَنهم فِي الْآخِرَة هم الخاسرون} أَي: حَقًا أَنهم فِي الْآخِرَة هم المغبونون.

{الخاسرون (109) ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد مَا فتنُوا ثمَّ جاهدوا وصبروا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم (110) يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا وَتوفى كل}

110

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد فتنُوا} نزلت الْآيَة فِي قوم كَانُوا بقوا بِمَكَّة من الْمُسلمين، وعذبهم الْمُشْركُونَ حَتَّى ذكرُوا كلمة الْكفْر بلسانهم، مِنْهُم عمار وخباب وصهيب وَغَيرهم. وَقَوله: {من بعد مَا فتنُوا} أَي: عذبُوا حَتَّى وَقَعُوا فِي الْفِتْنَة، ثمَّ إِنَّهُم بعد ذَلِك هَاجرُوا، وَلَحِقُوا بِالنَّبِيِّ. وَقَوله: {ثمَّ جاهدوا وصبروا} يَعْنِي: على الْجِهَاد وَالْإِيمَان. وَقَوله: {إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم} أَي: من بعد فعلتهم الَّتِي فَعَلُوهَا من إِعْطَاء الْكفَّار بعض مَا أَرَادوا مِنْهُم. فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ ذَلِك رخصَة، فَلَا يحْتَاج إِلَى الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة؟ وَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَنهم فعلوا مَا فعلوا ذَلِك قبل نزُول الرُّخْصَة.

111

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا} . فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: تجَادل، وَقد سبق ذكر كل، وَلَفظ كل مُذَكّر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه عَاد كلمة كل على الْمُؤَنَّث؛ فَلهَذَا الْمَعْنى أنث، وَهَذَا كَمَا يُقَال: كل امْرَأَة قَائِمَة، وَمَا أشبه هَذَا. وَقَوله: {تجَادل عَن نَفسهَا} أَي: تخاصم عَن نَفسهَا، ومجادلتهم هِيَ قَوْلهم: وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين، وَقَوْلهمْ: رَبنَا هَؤُلَاءِ شركاؤنا الَّذين كُنَّا ندعوا من دُونك، وَمَا أشبه هَذَا من الْأَقْوَال الَّتِي ذكرت فِي الْقُرْآن. وَقيل: تجَادل عَن نَفسهَا: تدفع عَن نَفسهَا. وَرُوِيَ عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: تزفر جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة زفرَة، فَلَا يبْقى ملك مقرب، وَلَا نَبِي مُرْسل إِلَّا خر وجثى على رُكْبَتَيْهِ، وَيَقُول: نَفسِي نَفسِي حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن فَيَقُول: رَبِّي لَا أُرِيد إِلَّا نجاة نَفسِي، قَالَ كَعْب: وَهُوَ فِي كتاب الله تَعَالَى: {يَوْم تَأتي كل نفس تجَادل عَن نَفسهَا} .

{نفس مَا عملت وهم لَا يظْلمُونَ (111) وَضرب الله مثلا قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة يَأْتِيهَا رزقها رغدا من كل مَكَان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف بِمَا كَانُوا} وَرُوِيَ أَنه قَالَ هَذَا بَين يَدي عمر - رَضِي الله عَنهُ - وَقد كَانَ عمر قَالَ لَهُ: حَدثنَا، ذكرنَا. وَقَوله: {وَتوفى كل نفس مَا عملت وهم لَا يظْلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

112

قَوْله تَعَالَى: {وَضرب الله مثلا قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة} الْآيَة. أَكثر أهل التَّفْسِير: أَن الْقرْيَة هَا هُنَا هِيَ مَكَّة - وَقَوله: {يَأْتِيهَا رزقها رغدا من كل مَكَان} هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وارزقهم من الثمرات} . وَقَوله: {فكفرت بأنعم الله} الأنعم: جمع النِّعْمَة. وَقَوله: {فأذاقها الله لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف} ذكر الذَّوْق، لِأَن المُرَاد من لِبَاس الْجُوع وَالْخَوْف التعذيب، ويستقيم أَن يُقَال فِي التعذيب: ذُقْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} . وَالْمعْنَى: أَن الْعَذَاب يَتَجَدَّد إِدْرَاكه كل سَاعَة كالذوق. رُوِيَ أَن الله تَعَالَى سلط عَلَيْهِم الْقَحْط سبع سِنِين حَتَّى أكلُوا (الطَّعَام) الْمُحْتَرِقَة وَالْعِلْهِز، وَهُوَ الْوَبر بِالدَّمِ، حَتَّى كَانَ ينظر أحدهم إِلَى السَّمَاء فَيرى كشبه الدُّخان من الْجُوع ". {وَالْخَوْف} هُوَ الْخَوْف من الْقَتْل، وَمن سَرَايَا النَّبِي. وَالْمرَاد من الْقرْيَة: أهل الْقرْيَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} وَكَذَلِكَ قَوْله: {آمِنَة} أَي: آمن أَهلهَا، وَكَذَلِكَ مطمئنة. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنه كل بلد من بلدان الْكفَّار.

{يصنعون (112) وَلَقَد جَاءَهُم رَسُول مِنْهُم فَكَذبُوهُ فَأَخذهُم الْعَذَاب وهم ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رزقكم الله حَلَال طيبا واشكروا نعمت الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ (114) إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَإِن الله غَفُور رَحِيم (115) وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا} وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنَّهَا الْمَدِينَة، وكفران أَهلهَا بأنعم الله هُوَ مَا فعلوا بعد النَّبِي من قتل عُثْمَان، وَمَا يعقبه من الْأُمُور، وَهُوَ قَول ضَعِيف. وَأما ذكر اللبَاس فِي الْآيَة، فَلِأَن من جَاع لحقه من الهزال والشحوب والتغير مَا يزِيد ظَاهره عَمَّا كَانَ من قبل؛ فَجعل ذَلِك كاللباس لجلوده. وَقَوله: {بِمَا كَانُوا يصنعون} أَي: يكفرون.

113

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جَاءَهُم رَسُول مِنْهُم} أَي: مُحَمَّد، وَقَوله: {مِنْهُم} أَي: نسبهم، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان. وَقَوله: {فَكَذبُوهُ} أَي: كفرُوا بِهِ. وَقَوله: {فَأَخذهُم الْعَذَاب وهم ظَالِمُونَ} أَي: كافرون.

114

قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا رزقكم الله حَلَال طيبا واشكروا نعْمَة الله إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} قد بَينا الْمَعْنى.

115

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد} معنى قَوْله: {بَاغ} أَي: طَالب بذلك ليتقوى على الْمعْصِيَة {وَلَا عَاد} أَي: لَا يتَعَدَّى الْقدر الَّذِي جوز لَهُ من التَّنَاوُل، وَهَذَا دَلِيل على أَن العَاصِي فِي السّفر لَا يترخص بِهَذِهِ الرُّخْصَة. وَقَوله: {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

116

قَوْله: {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب} يَعْنِي: لوصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب. وَقَوله: {هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} المُرَاد مِنْهُ: مَا ذَكرُوهُ فِي الْبحيرَة والسائبة

{حرَام لتفتروا على الله الْكَذِب إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون (116) مَتَاع قَلِيل وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (117) وعَلى الَّذين هادوا حرمنا مَا قَصَصنَا عَلَيْك من قبل وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (118) ثمَّ إِن رَبك للَّذين عمِلُوا السوء بِجَهَالَة ثمَّ تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم (119) إِن} والوصيلة والحام، وَقد كَانُوا يحلونها لقوم، ويحرمونها على قوم. وَقَوله: {لتفتروا على الله الْكَذِب} أَي: لتختلقوا على الله الْكَذِب. وَقَوله: {إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون} أَي: لَا يفوزون.

117

قَوْله تَعَالَى: {مَتَاع قَلِيل وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: عيشهم فِي الدُّنْيَا مَتَاع قَلِيل، {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: وجيع.

118

قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين هادوا حرمنا مَا قَصَصنَا عَلَيْك من قبل} مَعْنَاهُ: مَا ذكره فِي سُورَة الْأَنْعَام، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر} . وَقَوله: {وَمَا ظلمناهم} أَي: مَا نقصنا من حَقهم {وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} أَي: هم الَّذين نَقَصُوا من حُقُوقهم.

119

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِن رَبك للَّذين عمِلُوا السوء بِجَهَالَة} قَالَ أهل الْعلم: وكل من عمل بِمَعْصِيَة، فَهُوَ من دَاعِي الْجَهَالَة. وَقَوله: {ثمَّ تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا} شَرط الصّلاح هَاهُنَا، وَمَعْنَاهُ: الاسْتقَامَة على التَّوْبَة. وَقَوله: {إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم} أَي: من بعد الفعلة الَّتِي تَابُوا عَنْهَا.

120

قَوْله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة} فِي الْأمة أَقْوَال، أحسن الْأَقَاوِيل مَا حَكَاهُ مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود أَنه الْمعلم للخير، وَهُوَ الَّذِي يقْتَدى بِهِ ويؤتم؛ وَرُوِيَ أَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ بعد موت معَاذ بن جبل: كَانَ معَاذ بن جبل أمة، وَأَرَادَ بِهِ هَذَا الْمَعْنى. القَوْل الثَّانِي: كَانَ أمة، أَي: إِمَام هدى، وَالْقَوْل الثَّالِث: كَانَ أمة أَي: كَانَ مُؤمنا

{إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا وَلم يَك من الْمُشْركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين (122) ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن ابتع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (123) إِنَّمَا جعل السبت على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ وَإِن رَبك ليحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا} بِاللَّه، وَجَمِيع النَّاس كافرون. وَقَوله: {قَانِتًا لله} قَالَ ابْن مَسْعُود: مُطيعًا لله، وَقَالَ غَيره: قَائِما بأوامر الله، وَقيل: دَائِما على الْعِبَادَة. وَقَوله: {حَنِيفا} أَي: مخلصا، وَقيل: مُسْتَقِيمًا على الدّين. قَوْله: {وَلم يَك من الْمُشْركين} أَي: مِمَّن يعبد الْأَصْنَام، وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي: كَانَ يرى الْعَطاء وَالْمَنْع من الله.

121

قَوْله: {شاكرا لأنعمه} أَي: لنعمه. وَقَوله: {اجتباه وهداه} أَي: اخْتَارَهُ وأرشده. وَقَوله: {إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: إِلَى دين الْحق.

122

قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} قيل: هِيَ النُّبُوَّة، وَقيل: لِسَان الصدْق، وَقيل: التنويه لذكره بِطَاعَتِهِ لرَبه، وَقيل: قبُول كل أهل الْملَل لَهُ، وَقيل: ضيافته وَدُعَاء النَّاس لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين} ظَاهر الْمَعْنى.

123

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} هَذَا دَلِيل على أَنه يجوز للفاضل أَن يتبع الْمَفْضُول. وَقَوله: {وَمَا كَانَ من الْمُشْركين} ظَاهر الْمَعْنى. وَقد قَالَ بعض أهل الْأُصُول: إِن النَّبِي كَانَ مَأْمُورا بشريعة إِبْرَاهِيم إِلَّا مَا نسخ فِي شَرِيعَته بِدَلِيل هَذِه الْآيَة، وَقد قيل غير هَذَا، وَالصَّحِيح أَنه كَانَ مَأْمُورا بِاتِّبَاع شَرِيعَته فِي بعض الْأَشْيَاء، وَصَارَ ذَلِك شَرِيعَة لَهُ.

124

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جعل السبت على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ} مَعْنَاهُ: إِنَّمَا جعل السبت لعنة على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ. وَقَوله: {اخْتلفُوا فِيهِ} أَي: خالفوا فِيهِ، وَقَالَ

{كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين (125) وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين} بَعضهم: اخْتلفُوا فِيهِ أَي: حرم بَعضهم، وَأحل بَعضهم يَعْنِي: السبت. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ الله تَعَالَى أَمرهم بِالْجمعَةِ فَأَبَوا، وطلبوا السبت فَشدد عَلَيْهِم فِيهِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى أمروا بِالْجمعَةِ فَأَبَوا، وطلبوا الْأَحَد، وَأعْطى الله تَعَالَى الْجُمُعَة لهَذِهِ الْأمة فقبلوا، وبورك لَهُم فِيهَا، وَفِي الْبَاب خبر صَحِيح قد بَيناهُ من قبل. قَوْله: {وَإِن رَبك ليحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

125

قَوْله تَعَالَى: {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك} إِلَى دين رَبك. وَقَوله: {بالحكمة} أَي: بِالْقُرْآنِ، وَقيل: الْحِكْمَة معرفَة الْأَشْيَاء على مراتبها فِي الْحسن والقبح، وَقيل: الدُّعَاء بالحكمة هُوَ الرَّد عَن الْقَبِيح إِلَى الْحسن بِشَرْط الْعلم. وَقَوله: {وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} الموعظة هِيَ الدُّعَاء إِلَى الله بالترغيب والترهيب، وَقيل: الموعظة الْحَسَنَة هِيَ القَوْل اللين الرَّقِيق من غير غلظة وَلَا تعنيف. وَقَوله: {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} أَي: مَعَ الْإِعْرَاض عَن أذاهم لَك وَالصَّبْر على مكروههم، وَقد نسخ هَذَا بِآيَة السَّيْف. وَقَوله: {إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين} ظَاهر الْمَعْنى.

126

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِيمَا فعله الْمُشْركُونَ بِحَمْزَة وَأَصْحَابه؛ فَإِنَّهُ يرْوى: " أَن النَّبِي - مر عَلَيْهِ، وَقد بقر بَطْنه، وَأخذ كبده، وَقطعت مذاكيره وَجعلت فِي فِيهِ؛ فَرَأى أمرا فظيعا؛ فَقَالَ: لَئِن قدرت عَلَيْهِم لَأُمَثِّلَن بسبعين مِنْهُم، وَرُوِيَ أَن الصَّحَابَة قَالُوا قَرِيبا

{واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تَكُ فِي ضيق مِمَّا يمكرون (127) إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون (128) } من هَذَا القَوْل فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". وَقد قَالَ زيد بن أسلم وَالضَّحَّاك: إِن الْآيَة مَكِّيَّة، وَلَيْسَت فِي حَمْزَة وَأَصْحَابه، وَالأَصَح هُوَ الأول. وَقَوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهو خير للصابرين} يَعْنِي: لَئِن عفوتم {لَهو خير للصابرين} أَي: خير للعافين، وَقد تحقق هَذَا الْعَفو فِي حق وَحشِي قَاتل حَمْزَة بَعْدَمَا أسلم، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كل الْمُشْركين الَّذين أَسْلمُوا.

127

قَوْله تَعَالَى: {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} أَي: بمعونة الله. وَقَوله: {وَلَا تحزن عَلَيْهِم} أَي: لَا تحزن على أفعالهم وإبائهم لِلْإِسْلَامِ. وَقَوله: {وَلَا تَكُ فِي ضيق مِمَّا يمكرون} قرئَ: " فِي ضيق " وَمعنى الْقِرَاءَتَيْن: لَا يضيقن صدرك {مِمَّا يمكرون} أَي: يشركُونَ، وَقيل: مِمَّا فعلوا من الأفاعيل.

128

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون} يَعْنِي: اتَّقوا المناهي {وَالَّذين هم محسنون} بأَدَاء الْفَرَائِض، [وَقَوله] : {مَعَ} بِالْحِفْظِ والنصرة والمعونة، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى} تَفْسِير سُورَة بني إِسْرَائِيل وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا خمس آيَات، سنذكرها فِي موَاضعهَا. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: سُورَة بني إِسْرَائِيل والكهف وَمَرْيَم وطه من تلادي، وَهن من الْعتاق الأول.

الإسراء

قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ} سُبْحَانَ: تَنْزِيه الله من كل سوء، وَحَقِيقَته تَعْظِيم الله بِوَصْف الْمُبَالغَة، وَوَصفه بِالْبَرَاءَةِ من كل نقص. وَكلمَة سُبْحَانَ؛ كلمة ممتنعة لَا يحوز أَن يُوصف بهَا غير الله؛ لِأَن الْمُبَالغَة فِي التَّعْظِيم لَا تلِيق لغير الله، وَلَا تَنْصَرِف حسب مَا ينْصَرف كثير من المصادر؛ لِأَنَّهُ لما لم يستقم الْوَصْف بِهِ لغير الله، وَلم تتصرف جهاته لزم أَيْضا منهاجا وَاحِدًا فِي الصّرْف. وَأما التَّسْبِيح فِي الْقُرْآن على وُجُوه: قد ورد بِمَعْنى الصَّلَاة، قَالَ الله تَعَالَى: {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين} أَي: من الْمُصَلِّين. وَورد بِمَعْنى الِاسْتِثْنَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {قَالَ أوسطهم ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون} أَي: تستثنون. وَورد بِمَعْنى التَّنْزِيه. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ} ، وَورد فِي الْخَبَر بِمَعْنى النُّور، وَهُوَ فِي الْخَبَر الَّذِي قَالَ: " لأحرقت سبحات وَجهه مَا أدْركهُ بَصَره " أَي: نور وَجهه، وَقد ورد فِي الْخَبَر عَن النَّبِي " أَنه فسر سُبْحَانَ الله

{بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِد الْحَرَام} بتنزيه الله من كل سوء ". وَقَوله: {أسرى بِعَبْدِهِ} يُقَال: أسرى بِهِ إِذا سيره لَيْلًا، وَكَذَا سرى بِهِ. قَالَ الشَّاعِر: (وَلَيْلَة ذَات ندى سريت ... وَلم يلتني عَن سراها لَيْت) وَقَوله: {بِعَبْدِهِ} أَي: بِمُحَمد، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله اتَّخَذَنِي عبدا قبل أَن يتخذني رَسُولا ". وَقَوله: {لَيْلًا} ذكر لَيْلًا؛ لينبه أَنه كَانَ فِي طَائِفَة مِنْهُ. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " أسرى بِعَبْدِهِ من اللَّيْل ". وَقَوله: {من الْمَسْجِد الْحَرَام} اخْتلفُوا فِي الْموضع الَّذِي أسرِي مِنْهُ برَسُول الله؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه من الْمَسْجِد الْحَرَام، وَعَلِيهِ يدل ظَاهر الْآيَة. وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: أَن النَّبِي قَالَ: " كنت نَائِما فِي الْحجر، فَأَتَانِي جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وحركني حَرَكَة لَطِيفَة، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، قُم وافدا إِلَى رَبك ". وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أسرى بِهِ من بَيت أم هَانِيء بنت أبي طَالب، وَهَذَا فِي رِوَايَة أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس.

{إِلَى الْمَسْجِد الأقصا الَّذِي باركنا حوله لنريه من آيَاتنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير (1) } وَاخْتلف القَوْل فِي الْوَقْت الَّذِي أسرى بِهِ؛ قَالَ مقَاتل: كَانَ قبل الْهِجْرَة بِسنة، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ فِي رَجَب، وَيُقَال: فِي رَمَضَان. وَقَالَ بَعضهم أسرى بِهِ وَهُوَ ابْن إِحْدَى وَخمسين سنة وَتِسْعَة أشهر وَثَمَانِية وَعشْرين يَوْمًا، وَالله أعلم. وَقَوله {إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} يَعْنِي: إِلَى مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، وَسَماهُ الْأَقْصَى لبعده من الْمَسْجِد الْحَرَام. وَقَوله: {الَّذِي باركنا حوله} يَعْنِي: بِالْمَاءِ وَالشَّجر، وَقيل: باركنا حوله؛ لِأَنَّهُ (مَوَاضِع) الْأَنْبِيَاء ومهبط الْمَلَائِكَة. قَوْله: {لنريه من آيَاتنَا} أَي: من عجائب قدرتنا، وَقد رأى هُنَاكَ الْأَنْبِيَاء، وَرَأى آثَارهم. وَقَوله: {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير} - ذكر السَّمِيع هَا هُنَا لينبه على أَنه الْمُجيب لدعائه، وَذكر الْبَصِير لينبه على أَنه كَانَ الْحَافِظ لَهُ فِي ظلمَة اللَّيْل. وَأما الْكَلَام فِي الْإِسْرَاء فَاخْتلف القَوْل على أَنه أسرِي بجسمه وروحه أم بِرُوحِهِ؟ فالأكثرون على أَنه أسرِي بجسمه وروحه جَمِيعًا. وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: مَا فقد جسم رَسُول الله وَإِنَّمَا أسرِي بِرُوحِهِ؟ وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار الصَّحِيحَة على مَا يُوَافق القَوْل الأول، وأتمها حَدِيث أنس عَن مَالك بن صعصعة، عَن النَّبِي، وَفِيه: أَنه أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ مِنْهُ إِلَى السَّمَاء، واستفتح جِبْرِيل السَّمَاء الدُّنْيَا، فَقيل لَهُ: وَمن مَعَك؟ فَقَالَ: مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام. فَقَالُوا: أوبعث؟ قَالَ: نعم.

قَالُوا: مرْحَبًا بِهِ، فَنعم الْمَجِيء جَاءَ، وَهَكَذَا فِي كل سَمَاء، وَذكر فِيهِ: أَنه رأى فِي السَّمَاء الدُّنْيَا آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - وَفِي السَّمَاء الثَّانِيَة ابْني الْخَالَة عِيسَى وَيحيى، وَفِي السَّمَاء الثَّالِثَة يُوسُف، وَفِي السَّمَاء الرَّابِعَة إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي السَّمَاء الْخَامِسَة هَارُون، وَفِي السَّمَاء السَّادِسَة مُوسَى، وَفِي السَّمَاء السَّابِعَة إِبْرَاهِيم، وَفِيه أَنه قَالَ: " رفعت إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى، فَإِذا أوراقها كآذان الفيلة، وَإِذا نبقها كقلال هجر، وَرَأَيْت أَرْبَعَة أَنهَار يخرج من أَصْلهَا نهران باطنان ونهران ظاهران؛ فَأَما الباطنان فِي الْجنَّة، وَأما الظاهران: فالنيل والفرات وَذكر فِيهِ أَن الله تَعَالَى فرض عَلَيْهِ خمسين صَلَاة. . الْقِصَّة بِطُولِهَا إِلَى أَن ردَّتْ إِلَى الْخمس. وَقد روى شبها بِهَذِهِ الْقِصَّة جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: ابْن عَبَّاس، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَغَيرهم. وروى معمر عَن قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ بِالْبُرَاقِ مسرجا مُلجمًا، فَأَرَادَ الرَّسُول أَن يركبهَا فاستعصت عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا جِبْرِيل: وَالله مَا ركبك أحد أكْرم على الله مِنْهُ فَارْفض بِهِ عرقا ". ذكره أَبُو عِيسَى فِي جَامعه. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أتيت بِدَابَّة دون البغلة وَفَوق الْحمار، خطوها عِنْد مُنْتَهى بصرها ". وَثَبت أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَأَيْت مُوسَى لَيْلَة أسرِي بِي، كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة، وَرَأَيْت عِيسَى ربعَة أَحْمَر، كَأَنَّهُ خرج من ديماس، وَرَأَيْت

{وآتينا مُوسَى الْكتاب} إِبْرَاهِيم وصاحبكم أشبه النَّاس بِهِ ". وَفِي هَذَا الْخَبَر أَنه قَالَ: " أتيت بإناءين فِي أَحدهمَا لبن، وَفِي الآخر خمر، فَأخذت اللَّبن وشربته، فَقَالَ جِبْرِيل: أصبت الْفطْرَة، أما إِنَّك لَو أخذت الْخمر غوت أمتك ". وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما أصبح تحدث النَّاس بمسراه، [ففتن] كثير من النَّاس، وارتد جمَاعَة مِمَّن آمن بِهِ وَصدق، وَجَاء الْمُشْركُونَ إِلَى أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالُوا لَهُ: أَلا ترى إِلَى صَاحبك يحدث أَنه أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَرجع من ليلته، وَنحن نضرب أكباد الْإِبِل شهرا حَتَّى نصل إِلَيْهِ! فَقَالَ أَبُو بكر: إِن كَانَ قَالَ ذَلِك فقد صدق، فَقَالُوا لَهُ: أَتصدق بِمثل هَذَا؟ قَالَ: نعم، وَأكْثر مِنْهُ، فَأَنا أصدقه أَنه يَأْتِيهِ خبر السَّمَاء فِي غدْوَة أَو رَوْحَة. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كنت قَائِما فِي الْحجر، فَرفع لي بَيت الْمُقَدّس (فَجعلت أنعته) لَهُم " وَهَذَا حِين سَأَلُوهُ عَن وَصفه. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُشْركين سَأَلُوهُ عَن ركب لَهُم فِي الطَّرِيق فَقَالَ: قد بلغ مَوضِع كَذَا، ويقدمه جمل أَوْرَق، قَالُوا: وَمَتى يصل؟ قَالَ: مَعَ طُلُوع الشَّمْس، فَخرج بَعضهم يرتقبون العير، وَبَعْضهمْ يرتقبون طُلُوع الشَّمْس، فَقَالَ أُولَئِكَ: هَذَا العير قد أقبل، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: هَذِه الشَّمْس قد طلعت.

{وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل أَلا تَتَّخِذُوا من دوني وَكيلا (2) ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا (3) وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض} وَرُوِيَ أَنه قَالَ: " مَرَرْت بِإِنَاء مغطى وَهُوَ ملآن مَاء فَشَرِبت بعضه وَتركته " فَسئلَ الركب عَن ذَلِك فَأخْبرُوا بصورته.

2

قَوْله تَعَالَى: {وآتينا مُوسَى الْكتاب} الْآيَة يَعْنِي: أعطينا مُوسَى الْكتاب، وَهُوَ التَّوْرَاة. وَقَوله: {وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل} أَي: يَهْتَدِي بِهِ بَنو إِسْرَائِيل. وَقَوله: {أَلا تَتَّخِذُوا} قرئَ بقراءتين: بِالتَّاءِ، وَالْيَاء، فَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ فَمَعْنَاه: وآتينا مُوسَى الْكتاب آمرين أَلا تَتَّخِذُوا، وَمن قَرَأَ بِالْيَاءِ فَمَعْنَاه: وعهدنا إِلَيْهِم أَلا يتخذوا. قَوْله: {من دوني وَكيلا} أَي: شَرِيكا، وَقيل مَعْنَاهُ: أمرناهم أَن لَا يتوكلوا على غَيْرِي، وَلَا يتخذوا أَرْبَابًا دوني.

3

قَوْله تَعَالَى: {ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح} مَعْنَاهُ: يَا ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح، وَقَرَأَ مُجَاهِد بِنصب الذَّال. وَعَن زيد بن ثَابت فِي بعض الرِّوَايَات: " ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح " بِكَسْر الذَّال. وَإِنَّمَا قَالَ: {ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح} لِأَن الْخلق الْآن من أَوْلَاد نوح على مَا بَينا من قبل. وَقَوله: {من حملنَا} أَي: فِي السَّفِينَة. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا} سمي نوحًا لِكَثْرَة نوحه على نَفسه، وَقيل: كَانَ اسْمه عبد الْغفار. ذكره النقاش فِي تَفْسِيره. وَأما شكره: فَروِيَ أَنه كَانَ إِذا أكل قَالَ: الْحَمد لله، وَإِذا شرب قَالَ: الْحَمد الله،

{مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا (4) فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما بعثنَا عَلَيْكُم عبادا لنا أولي بَأْس} وَإِذا لبس قَالَ: الْحَمد الله، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه إِذا دخل قَالَ: الْحَمد الله، وَإِذا خرج قَالَ: الْحَمد الله، وَكَذَا فِي الْقيام وَالْقعُود. وَرُوِيَ أَنه لم يخط خطْوَة إِلَّا ذكر الله تَعَالَى، فَقَالَ: {إِنَّه كَانَ عبدا شكُورًا} أَي: كثير الشُّكْر.

4

قَوْله تَعَالَى: {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب} الْآيَة. الْقَضَاء: فصل الْأَمر بِالْأَحْكَامِ، وَمعنى قضينا هَا هُنَا أَي: أَوْحَينَا، وَأَعْلَمنَا. وَقيل مَعْنَاهُ: وقضينا على بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب. وَقَوله: {لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ} أَي لتعصن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ. وَقَوله: {ولتعلن} أَي: لتتعظمن وتبغن وتتكبرن. وَقَوله: {علوا كَبِيرا} أَي: كبرا عَظِيما.

5

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا جَاءَ وعد أولاهما} يَعْنِي: أولى الْمَرَّتَيْنِ. وَفِي الْقِصَّة: أَن فسادهم فِي الْمرة الأولى وَكَانَ بقتل إشعيا النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - وارتكابهم الْمعاصِي، ورفضهم مَا أمروا بِهِ. وَفِي بعض التفاسير: أَنهم عبدُوا الْأَوْثَان. وَالْأَرْض الْمَذْكُورَة: أَرض الشَّام، وَأَرْض بَيت الْمُقَدّس. وَقَوله: {بعثنَا عَلَيْكُم عبادا لنا} هَذَا الْبَعْث هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين} فَيجوز أَن تكون بِمَعْنى التسليط، وَيجوز أَن تكون بِمَعْنى التَّخْلِيَة بَينهم وَبَين الْقَوْم، [وَاخْتلفت] الْأَقَاوِيل فِي أَنهم من كَانُوا؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: هم جالوت وَقَومه، وَقَالَ سعيد بَين الْمسيب: بخت نصر الْفَارِسِي،

{شَدِيد فجاسوا خلال الديار وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا (5) ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أَكثر نفيرا (6) إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم وَإِن} وَقَالَ غَيره: سنحاريب الْملك، وَقَالَ بَعضهم: العمالقة. وَأظْهر الْأَقَاوِيل أَنه بخت نصر، وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: ملك الأَرْض أَرْبَعَة: مُؤْمِنَانِ، وَكَافِرَانِ؛ أما المؤمنان: فسليمان، وَذُو القرنين - عَلَيْهِمَا السَّلَام - وَأما الكافران: فنمروذ، وبخت نصر. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل: أخبرنَا بِهَذَا أَبُو على الشَّافِعِي بِمَكَّة قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس قَالَ: أَنا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الديبلي وَقَالَ: أَنا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي قَالَ: أَنا [سُفْيَان] بن عُيَيْنَة عَن دَاوُد بن شَابُور عَن مُجَاهِد. وَقَوله: {أولي بَأْس شَدِيد} أَي: أولي قُوَّة شَدِيدَة. وَقَوله: {فجاسوا خلال الديار} والجوس: طلب الشَّيْء بالاستقصاء. قَالَ الزّجاج: طلبُوا خلال الديار هَل بَقِي أحد فَيقْتل؟ وخلال الديار وسط الديار. وَقَوله: {وَكَانَ وَعدا مَفْعُولا} أَي: وَعدا لَا بُد مِنْهُ. قَالَ الشَّاعِر: (فِي الجوس جسنا إِلَيْك اللَّيْل بالمطي ... )

6

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم} أَي: الدولة عَلَيْهِم، وَفِي الْقِصَّة: أَن هَذَا التخريب كَانَ بعد ملك سُلَيْمَان، وَأَن بخت نصر قتل الْمُقَاتلَة، وسبى الذُّرِّيَّة، وَخرب بَيت الْمُقَدّس، وَألقى الْجِيَف فِي مَسْجده، وَكَانَ من موت عُزَيْر النَّبِي مائَة سنة فِي هَذَا التخريب، وَمَا قصّ الله من أمره فِي سُورَة الْبَقَرَة، ثمَّ إِن الله تَعَالَى رد الدولة إِلَى بني إِسْرَائِيل حَتَّى عمروا مَا خرب. وَفِي بعض الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى أرسل ملكا إِلَيْهِم حَتَّى رد العمارات، واستنقذ

{أسأتم فلهَا فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة ليسوؤوا وُجُوهكُم وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة وليتبروا مَا علوا تتبيرا (7) } الْأُسَارَى، وَعَاد الْبَلَد أفضل مِمَّا كَانَ. فَهَذَا معنى قَوْله: {ثمَّ رددنا لكم الكرة عَلَيْهِم} وَفِي تَعْذِيب بخت نصر ومسخه قصَّة طَوِيلَة لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. وَقَوله: {وأمددناكم بأموال وبنين} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وجعلناكم أَكثر نفيرا} أَي: أَكثر عددا. قَالَ الشَّاعِر: (وَأكْرم بقحطان من معشر ... وحمير أكْرم بِقوم نفيرا)

7

قَوْله تَعَالَى: {إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم} يَعْنِي: جلبتم النَّفْع إِلَيْهَا. وَقَوله: {وَإِن أسأتم فلهَا} أَي: فعلَيْهَا. وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ وعد الْآخِرَة} يَعْنِي: وعد الكرة الْآخِرَة. وَقَوله: {ليسوءوا وُجُوهكُم وليدخلوا الْمَسْجِد كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة} قرئَ هَكَذَا، وَقُرِئَ: " ليسوء وُجُوهكُم " مَقْصُور، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: " لنسوء وُجُوهكُم " بالنُّون، وَهُوَ اخْتِيَار الْكسَائي، وَفِي الشاذ: " لنسوء وُجُوهكُم " بِفَتْح اللَّام. أما قَوْله: {ليسوء وُجُوهكُم} بِالْيَاءِ يَعْنِي: أُولَئِكَ الْقَوْم يسوءوا وُجُوهكُم: وَقَوله: {ليسوءوا وُجُوهكُم} أَي: ليسوء الْوَعْد وُجُوهكُم. وَقَوله: " لنسوء " بالنُّون ظَاهر الْمَعْنى، وَسُوء الْوَجْه بِإِدْخَال الْغم والحزن. وَقَوله: {وليتبروا مَا علو تتبيرا} أَي: ليخربوا، ويدمروا مَا علوا عَلَيْهِ - أَي: مَا ظَهَرُوا - تخريبا. قَالَ الشَّاعِر: (وَمَا النَّاس إِلَّا عاملان فعامل ... يتبر مَا يَبْنِي وَآخر رَافع) وَفِي الْقِصَّة: أَن فسادهم الثَّانِي كَانَ بقتل يحيى بن زَكَرِيَّا - عَلَيْهِمَا السَّلَام -

{عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ وَإِن عدتم عدنا وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا (8) إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} وَكَانَ سَبَب قَتله، أَن بغية من بَغَايَا بني إِسْرَائِيل طلبت من الْملك أَن يقْتله فَقتله، فَلَمَّا قَتله، وَوَقع دَمه على الأَرْض، جعل يغلي فَلَا يسكن بِشَيْء، وسلط الله عَلَيْهِم عدوهم. فَقيل: إِن الْعَدو فِي الكرة الثَّانِيَة كَانَ بخت نصر، وَفِي الأولى جالوت. وَقيل: إِن الْعَدو فِي الْمرة الثَّانِيَة كَانَ ملكا من الرّوم، جَاءَ وَخرب بَيت الْمُقَدّس، وَقتل الْمُقَاتلَة، وسبى الذُّرِّيَّة. فَروِيَ أَنه استصعب عَلَيْهِ فتح الْمَدِينَة، فَقَالَت عَجُوز: أَيهَا الْملك، أَتُرِيدُ أَن تفتح هَذِه الْمَدِينَة؟ فَقَالَ: نعم، فَقَالَت: قل اللَّهُمَّ إِنِّي أستفتحك هَذِه الْمَدِينَة بِدَم يحيى بن زَكَرِيَّا، فَقَالَ هَذَا القَوْل، فتساقطت حيطان الْمَدِينَة؛ فَدخل بِالسَّيْفِ يقتل، وَوصل إِلَى الْمَكَان الَّذِي يغلي فِيهِ دم يحيى. فَقَالَ: لأقتلن عَلَيْهِ النَّاس حَتَّى يسكن الدَّم؛ فَقتل عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ ألفا فَلم يسكن، فَقتل خمسين ألفا فَلم يسكن، فَقتل سِتِّينَ ألفا فَلم يسكن، فَقَالَ: وَالله لَا أَزَال أقتل عَلَيْهِ حَتَّى يسكن، فاستكمل سبعين ألفا فسكن، وَقيل: ثَمَانِينَ ألفا.

8

وَقَوله تَعَالَى: {عَسى ربكُم أَن يَرْحَمكُمْ وَإِن عدتم عدنا} قَالَ مُجَاهِد: عَسى من الله وَاجِب. وَقَوله: {أَن يَرْحَمكُمْ} أَي: يرد الدولة إِلَيْكُم بعد زَوَالهَا. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى رد إِلَيْهِم الدولة، وَعمر بَيت الْمُقَدّس بعد مَا خرب، [و] عَاد ملكم على مَا كَانَ. وَقَوله: {وَإِن عدتم عدنا} مَعْنَاهُ: وَإِن عدتم إِلَى الْمعْصِيَة عدنا إِلَى الانتقام. فَروِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: عَادوا إِلَى الْمعْصِيَة، فانتقم الله مِنْهُم بالعرب، فهم مقهورون مستذلون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: بِمُحَمد. وَالْقَوْلَان متقاربان فِي الْمَعْنى.

{ويبشر الْمُؤمنِينَ الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات أَن لَهُم أجرا كَبِيرا (9) وَأَن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة أَعْتَدْنَا لَهُم عذَابا أَلِيمًا (10) ويدع الْإِنْسَان بِالشَّرِّ دعاءه بِالْخَيرِ وَكَانَ} وَقَوله: {وَجَعَلنَا جَهَنَّم للْكَافِرِينَ حَصِيرا} قَالَ مُجَاهِد: محبسا، وَقيل: حَصِيرا أَي: حاصرا، فعيل بِمَعْنى فَاعل، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. والحصر هُوَ الْحَبْس، والسجن يُسمى حَصِيرا فِي اللُّغَة.

9

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا الْقُرْآن يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: للكلمة الَّتِي هِيَ أقوم، وأقوم أَي: أعدل، والكلمة هِيَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَه الزّجاج {يهدي للَّتِي هِيَ أقوم} أَي: للْحَال الَّتِي هِيَ أقوم، وَالْحَال الَّتِي هِيَ أقوم: تَوْحِيد الله، وَاتِّبَاع رسله، وطواعيته فِي أوامره. وَقَوله: {ويبشر الْمُؤمنِينَ الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات} يَعْنِي: الْقُرْآن يبشر الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات. وَقَوله: {أَن لَهُم أجرا كَبِيرا} أَي: عَظِيما.

10

وَقَوله: {وَأَن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} مَعْنَاهُ: ويبشر الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة أَنا {أَعْتَدْنَا لَهُم عذَابا أَلِيمًا} أَي: أعددنا. والبشارة هَاهُنَا بِمَعْنى الْخَبَر؛ لِأَن الْعَرَب لَا تضع الْبشَارَة إِلَّا فِي مَوضِع السرُور. وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَي: ضع هَذَا الْخَبَر لَهُم مَوضِع الْبشَارَة.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَيَدْعُو الْإِنْسَان بِالشَّرِّ دعاءه بِالْخَيرِ وَكَانَ الْإِنْسَان عجولا} دُعَاء الْإِنْسَان بِالشَّرِّ هُوَ أَن يَدْعُو على نَفسه وَأَهله وَولده حَالَة الْغَضَب، فَيَقُول: اللَّهُمَّ أهلكهم، اللَّهُمَّ العنهم، وَرُبمَا يَقُول لنَفسِهِ هَذِه الْمقَالة. وَقَوله: {دعاءه بِالْخَيرِ} أَي: كدعائه بِالْخَيرِ، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث فَإِنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.

{الْإِنْسَان عجولا (11) } فَاسْتَجَاب الله لَهُ، وَضربت عُنُقه صبرا يَوْم بدر. وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي بشر، أغضب كَمَا يغْضب الْبشر، وَأَيّمَا مُسلم لعنته، أَو سببته فاجعلها لَهُ صَلَاة وَرَحْمَة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَتَى النَّبِي بأسير فسلمه إِلَى سَوْدَة بنت زَمعَة لتحفظه، وَكَانَ الْأَسير أَتَى مشدودا فَجعل جَمِيع اللَّيْل يَئِن، فَقَامَتْ سَوْدَة، وأرخت من وثَاقه؛ فهرب الْأَسير، فَلَمَّا دخل رَسُول الله قَالَ لَهَا: أَيْن الْأَسير؟ فَذكرت لَهُ ذَلِك فَقَالَ: قطع الله يدك، وَبعث خلف الْأَسير من رده، فأخرجت سَوْدَة يَدهَا؛ ليجيء من يقطعهَا بِدُعَاء النَّبِي؛ فَدخل عَلَيْهَا النَّبِي، وَرَآهَا على تِلْكَ الْحَالة، فَسَأَلَهَا: مِمَّن هَذَا؟ فَقَالَت: لدعائك يَا رَسُول الله؛ فَقَالَ رَسُول الله: " اللَّهُمَّ إِنِّي بشر أغضب كَمَا يغْضب الْبشر. . " الْخَبَر. وَقَوله: {وَكَانَ الْإِنْسَان عجولا} يَعْنِي: أَنه يعجل بِدُعَاء الشَّرّ، وَالله لَا يعجل بالإجابة. وَفِي الْآيَة قَول وَهُوَ أَن هَذَا فِي آدم صلوَات الله عَلَيْهِ، وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى أَدخل الرّوح فِي رَأسه، فَجعل ينظر إِلَى نَفسه كَيفَ يخلق! فَلَمَّا بلغ الرّوح وَسطه أَرَادَ أَن يقوم فَلم يقدر، فَقَالَ الله تَعَالَى: " وَخلق الْإِنْسَان عجولا ". هَذَا محكي عَن قَتَادَة وَغَيره، وَعَن سلمَان الْفَارِسِي أَن الله خلق آدم فِي آخر سَاعَة

{وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ فمحونا آيَة اللَّيْل وَجَعَلنَا آيَة النَّهَار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكُم ولتعلموا عدد السنين والحساب} من يَوْم الْجُمُعَة، فَجعل الرّوح تجْرِي فِي جسده، وَيحيى آدم فَنظر إِلَى الشَّمْس، وَهِي تغرب، فَقَالَ: يَا رب، قبل اللَّيْل - أَي أتم خلقي قبل اللَّيْل - فَقَالَ الله تَعَالَى: " وَخلق الْإِنْسَان عجولا ". وَفِي أصل الْآيَة قَول آخر؛ وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {وَيَدْعُو الْإِنْسَان بِالشَّرِّ} أَي: يَدْعُو بِفعل الْمعْصِيَة كَمَا يَدْعُو بِفعل الطَّاعَة. قَالَ الشَّاعِر: (عَسى فارج الْهم عَن يُوسُف ... يسخر لي ربة الْمحمل) وَالصَّحِيح مَا قدمنَا من قبل.

12

قَوْله: {وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ} أَي: علامتين دالتين على أَن لَهما إِلَهًا وَاحِدًا. وَقيل: علامتين على اللَّيْل وَالنَّهَار، وَالْمرَاد من اللَّيْل وَالنَّهَار: هُوَ الشَّمْس وَالْقَمَر. وَقَوله: {فمحونا آيَة اللَّيْل} رُوِيَ عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا: المحو هُوَ السوَاد الَّذِي فِي الْقَمَر. وَفِي بعض الْآثَار أَن ابْن الْكواء قَامَ إِلَى عَليّ فَسَأَلَهُ عَن هَذَا فَقَالَ: أعمى - أَرَادَ عمى الْقلب - يسْأَل عَن عمياء! ثمَّ قَالَ: هُوَ السوَاد الَّذِي فِي الْقَمَر، وَقيل: إِن معنى قَوْله: {فمحونا آيَة اللَّيْل} أَي: جعلنَا اللَّيْل بِحَيْثُ لَا يبصر فِيهِ كَمَا [لَا] يبصر الْكتاب إِذا مُحي. وَقَالَ قَتَادَة وَجَمَاعَة من الْمُفَسّرين، وَهُوَ محكي أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس قَالُوا: إِن الله تَعَالَى خلق الشَّمْس وَالْقَمَر مضيئين نيرين كل وَاحِد مِنْهُمَا مثل الآخر فِي الضياء، فَلم يكن يعرف اللَّيْل من النَّهَار، وَالنَّهَار من اللَّيْل، فَأمر جِبْرِيل حَتَّى مسح بجناحه

{وكل شَيْء فصلناه تَفْصِيلًا (12) وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه وَنخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة كتابا يلقاه منشورا (13) اقْرَأ كتابك} وَجه الْقَمَر. قَالَ مقَاتل: انْتقصَ مِمَّا كَانَ تِسْعَة وَسِتُّونَ جُزْءا، وَبَقِي جُزْء وَاحِد. وَقَوله: {وَجَعَلنَا آيَة النَّهَار مبصرة} أَي: مضيئة نيرة، وَقيل: ذَات أبصار أَي: يبصر بهَا. وَقَوله: {لتبتغوا فضلا من ربكُم} بِالنَّهَارِ. وَقَوله: {ولتعلموا عدد السنين والحساب} أَي: عدد السنين وحساب الشُّهُور وَالْأَيَّام. وَقَوله: {وكل شَيْء فصلناه تَفْصِيلًا} أَي: بَيناهُ تبيينا.

13

قَوْله تَعَالَى: {وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه} روى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ مَعْنَاهُ: مَا قدر لَهُ من خير وَشر. وَعَن مُجَاهِد: عمله من خير وَشر، وَعَن الضَّحَّاك: أَجله ورزقه وسعادته وشقاوته. وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: حَظه. وَقيل: كِتَابه. وَعَن مُجَاهِد فِي رِوَايَة أُخْرَى: ورقة (مُتَعَلقَة) فِي عُنُقه مَكْتُوب فِيهَا شقي أَو سعيد. والأقوال مُتَقَارِبَة، وَإِنَّمَا سمي طائرا أَي: مَا طَار لَهُ من خير أَو شَرّ، وَهَذَا على جِهَة التَّمْثِيل والتشبيه، وَمن ذَلِك السوانح والبوارح، فالسانح: هُوَ الَّذِي يطير من قبل الْيَمين، فيتبرك بِهِ الْإِنْسَان، والبارح: هُوَ الَّذِي يطير من قبل الشمَال، فيتشاءم بِهِ الْإِنْسَان. قَالَ الشَّاعِر: (تطير غدائر الْإِشْرَاك شفعا ... ووترا والزعامة للغلام) وَقَوله: {وَنخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة} وقرىء: " وَيخرج لَهُ " بِالْيَاءِ أَي: الطَّائِر يخرج لَهُ،

{كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبا (14) من اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا (15) وَإِذا أردنَا} وقرىء: " وَيخرج لَهُ يَوْم الْقِيَامَة كتاب " على مَا لم يسم فَاعله، وقرىء " وَيخرج " بِفَتْح الْيَاء يَعْنِي: عمله يخرج {كتابا} يَوْم الْقِيَامَة، كَأَنَّهُ يتَحَوَّل الْعَمَل كتابا فِي الْقِيَامَة. وَقَوله: {يلقاه} قَرَأَ الْحسن: " يلقاه " بِضَم الْيَاء من التلقية، وَهَذَا فِي الشاذ. وَقَوله: {منشورا} فِي الْآثَار أَن الله تَعَالَى يَأْمر الْملكَيْنِ بطي الصَّحِيفَة، إِذا تمّ عمر العَبْد، فَلَا ينشر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الصُّحُف نشرت} .

14

قَوْله: {اقْرَأ كتابك} فِيهِ إِضْمَار، وَهُوَ أَنه يُقَال لَهُ: اقْرَأ كتابك. قَالَ قَتَادَة: يقْرَأ كل إِنْسَان سَوَاء كَانَ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا، أَو لم يكن قَارِئًا. وَقَوله: {كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبا} أَي: شَاهدا قَالَ الْحسن: عدل مَعَك من جعلك حسيب نَفسك. وَقَالَ بَعضهم: يُقَال لَهُ هَذَا كتاب كَانَ لسَانك قلمه، وَرِيقك مداده، وجوارحك قرطاسه، وَكتب المملي على كاتبيك، فاقرأ مَا أمليت، وَالله أعلم.

15

قَوْله تَعَالَى: {من اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ} أَي: نفع اهتدائه لَهُ. وَقَوله: {وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا} أَي: وبال ضلالته عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} يُقَال: نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، فَإِنَّهُ قَالَ لمن أسلم: ارْجعُوا إِلَى دينكُمْ الْقَدِيم، فَإِنِّي أحمل أوزاركم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يُؤَاخذ أحد بذنب أحد، وَقيل: لَيْسَ لأحد أَن يُذنب، فَيَقُول: فلَان قد أذْنب فَأَنا أتبعه، فَإِنِّي لَا آخذ أحدا بذنب أحد. وَقَوله: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} هَذَا دَلِيل على أَن مَا وَجب وَجب

{أَن نهلك قَرْيَة أمرنَا مُتْرَفِيهَا ففسقوا فِيهَا فَحق عَلَيْهَا القَوْل فدمرناها تدميرا (16) } بِالسَّمْعِ لَا بِالْعقلِ، فَإِن الله تَعَالَى نَص أَنه لَا يعذب أحدا حَتَّى يبْعَث الرَّسُول. وَفِي بعض المسانيد عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة أهل الفترة و [الْمَعْتُوه] والأصم والأبكم والأخرس والشيوخ الَّذين لم يدركوا الْإِسْلَام (فيؤجج) لَهُم نَارا، فَيَقُول: ادخلوها، فَيَقُولُونَ: كَيفَ ندْخلهَا، وَلم تبْعَث إِلَيْنَا رَسُولا؟ ! وَلَو دخلوها لكَانَتْ عَلَيْهِم بردا وَسلَامًا، فَيُرْسل الله إِلَيْهِم رَسُولا، فيطيعه من علم الله أَنه يطيعه، ويعصيه من علم الله أَنه يعصيه، فيفصل بَينهم على ذَلِك.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة} أَي: أهل قَرْيَة، وقرىء {أمرنَا مُتْرَفِيهَا} وَالْمَعْرُوف هَذَا، وقرىء: " آمرنا " - بِالْمدِّ -، " مُتْرَفِيهَا " وهذل محكي عَن عَليّ، وَقُرِئَ " أمرنَا " بِالْقصرِ وَالتَّشْدِيد، وَقُرِئَ: " أمرنَا - بِكَسْر الْمِيم - مُتْرَفِيهَا " وَهَذَا محكي عَن ابْن عَبَّاس. أما قَوْله: {أمرنَا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَعْنَاهُ أمرناهم بِالطَّاعَةِ ففسقوا وعصوا. وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم ابْن جريج وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي: أمرنَا أَي: أكثرنا، يُقَال: أَمر الْقَوْم: إِذا كَثُرُوا، قَالَ الشَّاعِر: (إِن يغبطوا يهبطوا وَإِن أمروا ... يَوْمًا يصيروا للهلك والنكد) وَأنكر الْكسَائي أَن يكون أمرنَا بِمَعْنى أكثرنا، وَقَالَ: هُوَ آمرنا بِمَعْنى أكثرنا، وَهَذَا هُوَ اللُّغَة الْغَالِبَة. وَأما أَبُو عُبَيْدَة فَقَالَ: تَقول الْعَرَب: أمرنَا بِمَعْنى أكثرنا، وَإِنَّمَا احتجنا إِلَى هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَن الله تَعَالَى لَا يَأْمر بِالْمَعَاصِي. وَهَذَا بِاتِّفَاق الْأمة وَفِي الْآيَة سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ أَنه يُقَال: كَيفَ يَأْمر مُتْرَفِيهَا بِالْفِسْقِ، وَالله تَعَالَى يَقُول: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} ، وَيَقُول: {إِن الله

{وَكم أهلكنا من الْقُرُون من بعد نوح وَكفى بِرَبِّك بذنوب عباده خَبِيرا بَصيرًا (17) من كَانَ يُرِيد العاجلة عجلنا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد ثمَّ جعلنَا لَهُ جَهَنَّم يصلاها مذموما مَدْحُورًا (18) وَمن أَرَادَ الْآخِرَة وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا (19) } لَا يَأْمر بالفحشاء) ؟ وَالْجَوَاب مَا سبق. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث وَهُوَ أَنه معنى قَوْله: {أمرنَا مُتْرَفِيهَا} أَي: بعثنَا، وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَإِذا أردنَا أَن نهلك قَرْيَة بعثنَا مُتْرَفِيهَا "، وَأما قَوْله: " أمرنَا " بِالتَّشْدِيدِ أَي: سلطنا. وَقيل: أمرنَا أَي: جعلناهم أُمَرَاء؛ فَيجوز أَن يكون بعثنَا على هَذَا الْمَعْنى. وَأما " أمرنَا " - بِكَسْر - الْمِيم فقد ذكرُوا أَنه ضَعِيف فِي اللُّغَة. وَقَوله: {مُتْرَفِيهَا} أَي: منعميها، والمترف: الْملك الْمُنعم، أوردهُ ثَعْلَب. وَقَوله: {ففسقوا فِيهَا} أَي: عصوا فِيهَا. {فَحق عَلَيْهَا القَوْل} أَي: وَجب عَلَيْهَا الْعَذَاب. وَقَوله: {فدمرناها تدميرا} أَي: أهلكناها إهلاكا.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَكم أهلكنا من الْقُرُون من بعد نوح} . اخْتلفُوا فِي الْقرن، فَقَالَ بَعضهم: الْقرن مائَة وَعِشْرُونَ سنة، وَقَالَ بَعضهم: مائَة سنة، وَقَالَ بَعضهم: ثَمَانُون سنة، وَقَالَ بَعضهم: أَرْبَعُونَ سنة، وَالْمرَاد من الْقُرُون أهل الْقُرُون. وَقَوله: {وَكفى بِرَبِّك بذنوب عباده خَبِيرا بَصيرًا} ظَاهر الْمَعْنى.

18

قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد العاجلة} أَي: الدُّنْيَا، وَهَذَا وصف الْكفَّار؛ لأَنهم الَّذين يُرِيدُونَ الدُّنْيَا، وَلَا يُرِيدُونَ الْآخِرَة، وَالْآيَة فِي قوم أَرَادوا العاجلة فَحسب. وَقَوله: {عجلنا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد} يَعْنِي: لمن نُرِيد إهلاكه. وَقَوله: {ثمَّ جعلنَا لَهُ جَهَنَّم يصلاها} أَي: يدخلهَا، وَقيل: يقاسي حرهَا. وَقَوله: {مذموما مَدْحُورًا} والمذموم من الذَّم، والمدحور هُوَ المطرود والمبعد من

{كلا نمد هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من عَطاء رَبك وَمَا كَانَ عَطاء رَبك مَحْظُورًا (20) انْظُر كَيفَ فضلنَا بَعضهم على بعض وللآخرة أكبر دَرَجَات وأكبر تَفْضِيلًا (21) } رَحْمَة الله، يُقَال: (دحره) عَن كَذَا أَي: أبعده.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أَرَادَ الْآخِرَة} أَي: طلب الْآخِرَة {وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن} أَي: عمل لَهَا عَملهَا، وَهُوَ مُؤمن. وَقَوله: {فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا} أَي: مَقْبُولًا. وَيُقَال: إِن الشُّكْر من الله هُوَ قبُول الْحَسَنَات، والتجاوز عَن السَّيِّئَات، وَقيل معنى الْآيَة: أَنه وضع أَعْمَالهم الْموضع الَّذِي يشْكر عَلَيْهَا.

20

قَوْله تَعَالَى: {كلا نمد هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار. وَقَوله: {من عَطاء رَبك} أَي: من رزق رَبك. وَقَوله: {وَمَا كَانَ عَطاء رَبك مَحْظُورًا} أَي: مَمْنُوعًا. وَأجْمع أهل التَّفْسِير أَن معنى عَطاء رَبك فِي هَذِه السُّورَة هُوَ الدُّنْيَا، فَإِن الْآخِرَة لِلْمُتقين، وَلَيْسَ للْكفَّار فِيهَا نصيب. وَفِي بعض المسانيد عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم، وَإِن الله تَعَالَى يُعْطي الدُّنْيَا من يحب وَمن لَا يحب، وَلَا يُعْطي الدّين إِلَّا من يحب ".

21

قَوْله تَعَالَى: {انْظُر كَيفَ فضلنَا بَعضهم على بعض} يَعْنِي: الدُّنْيَا، وَمعنى

{لَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر فتقعد مذموما مخذولا (22) } لتفضيل هُوَ التقتير والتوسيع، والتقليل والتكثير، وَالْقَبْض والبسط، وَقد رُوِيَ فِي بعض الْآثَار أَن الله تَعَالَى عرض ذُرِّيَّة آدم على آدم فَرَأى فيهم تَفَاوتا شَدِيدا! فَقَالَ: رب هلا سويت بَين خلقك؟ فَقَالَ: يَا آدم، أردْت أَن أشكر. وَقَوله: {وللآخرة أكبر دَرَجَات} قد بَينا أَن الدرجَة مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض. وَفِي بعض المسانيد عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْجنَّة مائَة دَرَجَة؛ مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ خَمْسمِائَة سنة ". وَقَوله: {وأكبر تَفْضِيلًا} أَي: أعظم تَفْضِيلًا. وَفِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الْمُؤمنِينَ يدْخلُونَ الْجنَّة بإيمَانهمْ؛ ويقتسمون الدَّرَجَات بأعمالهم ".

22

قَوْله تَعَالَى: {لَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد فِيهِ الْأمة، وَقد بَينا نَظِير هَذَا من قبل. وَالْقَوْل الآخر: لَا تجْعَل أَيهَا الْإِنْسَان مَعَ الله إِلَهًا آخر، وَهَذَا الْخطاب مَعَ كل أحد. وَقيل: إِن المُرَاد مِنْهُ النَّبِي على مَا هُوَ الظَّاهِر، وَهُوَ وَإِن كَانَ مَعْصُوما، فَلم يسْقط عَنهُ الْخطاب بالاحتراز والمباعدة عَن الْكفْر. وَقَوله: {فتقعد مذموما مخذولا} أَي: مذموما من غير حمد، ومخذولا من غير نصر.

{وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وبالوالدين إحسانا إِمَّا يبلغن عنْدك الْكبر أَحدهمَا أَو} وَقيل: مخذولا أَي: متروكا من الْعِصْمَة، وَالله تَعَالَى إِذا ترك العَبْد فقد أهلكه. وَمعنى قَوْله: {فتقعد} أَي: فَتكون مأفوكا، وَتبقى مخذولا.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} قَرَأَ عبد الله بن مَسْعُود: " ووصى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه "، وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ فِي الأَصْل " ووصى " إِلَّا أَنه اتَّصل الْوَاو بالصَّاد فِي الْكِتَابَة فقرىء: " وَقضى ". وَالْمَعْرُوف هُوَ قَوْله: {وَقضى} . وَعَلِيهِ اتِّفَاق الْقُرَّاء؛ وَمَعْنَاهُ: وَأمر رَبك؛ وَحَقِيقَة الْقَضَاء هُوَ إحكام الشَّيْء وإمضاؤه على وَجه الْفَرَاغ مِنْهُ، وَمِنْه قَوْلهم: قضى القَاضِي بَين الْخَصْمَيْنِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون} أَي: أفرغوا مَا فِي أَنفسكُم وامضوه، فعلى هَذَا معنى قَوْله: {وَقضى رَبك} أَي: حكم عَلَيْهِم رَبك حكم تعبد. وَمعنى الْفَرَاغ هَاهُنَا: هُوَ إتْمَام التَّعَبُّد. وَفِي بعض التفاسير: أَن رجلا أَتَى الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَالَ: إِنِّي طلقت امْرَأَتي ثَلَاثًا، فَقَالَ: عصيت رَبك، وَبَانَتْ مِنْك امْرَأَتك، فَقَالَ الرجل: كَذَلِك كَانَ قَضَاء الله؟ فَقَالَ الْحسن: كذبت، مَا قضى الله. أَي: مَا أَمر الله، وَكَانَ الْحسن فصيحا فَلم يفهم النَّاس قَوْله؛ فَذكرُوا أَنه يُنكر الْقدر. وَفِي بعض الرِّوَايَات أَنه قيل لَهُ: إِن بني أُميَّة يقتلُون النَّاس، وَيَقُولُونَ: كَذَا قَضَاء الله، فَقَالَ الْحسن: كذب أَعدَاء الله؛ وَمَعْنَاهُ مَا بَينا. وَقيل: إِنَّه أنكر جعلهم ذَلِك عِلّة لقتلهم، ذكره ابْن قُتَيْبَة فِي المعارف. وَقَوله: {أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه} يَعْنِي: أَن توحدوه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ. وَقَوله: {وبالوالدين إحسانا} أَي: أَمر أَن تحسنوا بالوالدين إحسانا. وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود، أَنه سَأَلَ رَسُول الله فَقَالَ: " أَي الذُّنُوب أعظم؟ فَقَالَ: الْإِشْرَاك بِاللَّه. قَالَ: ثمَّ أَي؟ قَالَ: عقوق الْوَالِدين ".

{كِلَاهُمَا فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما وَقل لَهما قولا كَرِيمًا (23) } وَقَوله:: {إِمَّا يبلغان} وَقُرِئَ: " إِمَّا يبلغن عنْدك الْكبر " فَقَوله: {يبلغان} ينْصَرف إِلَيْهِمَا؛ فعلى هَذَا قَوْله: {أَحدهمَا أَو كِلَاهُمَا} على وَجه الِاسْتِئْنَاف. وَقَوله: {يبلغن} ينْصَرف إِلَى أَحدهمَا، فَقَوله: {أَو كِلَاهُمَا} على الْبَدَل مِنْهُ. وَقَوله: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} قرئَ: " أُفٍّ " بِكَسْر الْفَاء، و " أُفٍّ " بِفَتْح الْفَاء، و " أُفٍّ " بِكَسْر الْفَاء والتنوين. قَالُوا: وَفِيه سِتّ لُغَات: أفًّا وأفٌّ وأفٍّ الثَّلَاثَة بِالتَّنْوِينِ، وأفَّ وأفُّ وأفِّ بِغَيْر التَّنْوِين. قَالَ الْأَصْمَعِي: الأف وسخ الْأذن، والتف وسخ الْأَظْفَار، وَقيل: الأف وسخ الْأَظْفَار، والتف الشَّيْء الحقير، وَحَقِيقَته أَنه كلمة تقال عِنْد الضجر من الشَّيْء واستثقاله، وَقيل: الأف بِأَدْنَى مَا يتبرم بِهِ، فمنى الْآيَة: لَا يتبرم بهما، وَلَا يستثقل معالجة أذاهما. وَذكر مُجَاهِد أَنه عِنْد الْحَدث وَذكر الْبَوْل وَصَاحبه أَنه لَا يستثقل معالجتهما فِي ذَلِك؛ كَمَا لم يستثقلا معالجته. وَقَوله: {وَلَا تنهرهما} الِانْتِهَار من النَّهر، [و] هُوَ الزّجر بالإغلاظ والصياح. وَقَوله: {وَقل لَهما قولا كَرِيمًا} أَي: قولا لينًا. وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ: شَرّ الْآبَاء من يحملهُ الْبر على الإفراط، وَشر الْأَبْنَاء من يحملهُ التَّقْصِير على العقوق. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: لَو علم الله شَيْئا أبلغ فِي الزّجر من قَوْله: {أُفٍّ} ، لنهى عَن ذَلِك، ثمَّ قَالَ عَليّ: ليعْمَل الْبَار مَا شَاءَ فَلَنْ يدْخل النَّار، وليعمل الْعَاق مَا يَشَاء فَلَنْ يدْخل الْجنَّة. وَفِي الْأَخْبَار، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْبر يزِيد فِي الْعُمر ". وَذكر مُسلم فِي

{واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة وَقل رب ارحمهما كَمَا ربياني صَغِيرا (24) ربكُم أعلم بِمَا فِي نفوسكم إِن تَكُونُوا صالحين} الصَّحِيح بِرِوَايَة سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " رغم أَنفه. رغم أَنفه، رغم أَنفه! فَقيل: من يَا رَسُول الله؟ قَالَ: من أدْرك أَبَوَيْهِ على الْكبر أَو أَحدهمَا فَلم يدْخل الْجنَّة ". وروى عَامر بن ربيعَة أَن رجلا أُتِي النَّبِي فَقَالَ: " إِن أَبَوي قد توفيا، فَهَل بَقِي شَيْء أبرهما بِهِ؟ فَقَالَ: نعم، إِنْفَاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وَالِاسْتِغْفَار لَهما، وَالصَّدَََقَة عَنْهُمَا ".

24

قَوْله تَعَالَى: {واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة} مَعْنَاهُ: وألن جَانِبك لَهما. وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أطعهما مَا أمراك. والخفض هُوَ التَّوَاضُع، وَجَنَاح الذل: ترك الاستعلاء. مَأْخُوذ من استعلاء الطَّائِر [بجناحيه] . وَقَوله: {من الرَّحْمَة} أَي: من الشَّفَقَة والعطف. وَقَرَأَ عَاصِم الجحدري وَيحيى بن دثار: " واخفض لَهما جنَاح الذل " - بِكَسْر الذَّال - فالذل - بِضَم الذَّال - من التذلل، أَي: كن لَهما كالذليل المقهور، والذل - بِكَسْر الذَّال - من الانقياد وَالطَّاعَة. وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: كن بَين يديهما كَالْعَبْدِ المذنب بَين يَدي السَّيِّد الْفظ الغليظ.

{فَإِنَّهُ كَانَ للأوابين غَفُورًا (25) وَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه والمسكين وَابْن السَّبِيل وَلَا تبذر تبذيرا (26) } وَقَوله: {وَقل رب ارحمهما كَمَا ربياني صَغِيرا} أَي: كَمَا رحماني بتربيتي صَغِيرا.

25

قَوْله تَعَالَى: {ربكُم أعلم بِمَا فِي نفوسكم} أَي: بِمَا فِي قُلُوبكُمْ. وَقَوله: {إِن تَكُونُوا صالحين} أَي: مُطِيعِينَ. وَقَوله: {فَإِنَّهُ كَانَ للأوابين غَفُورًا} وَوجه اتِّصَال الْآيَة بِمَا قبلهَا، هُوَ أَن الله تَعَالَى قَالَ: {ربكُم أعلم بِمَا فِي نفوسكم} من العقوق وَالْبر، فَإِن بدرت من بار بدرة من العقوق، فَإِن الله كَانَ للأوابين غَفُورًا يَعْنِي: [للتوابين] غَفُورًا. وَفِي الأواب أَقْوَال كَثِيرَة، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ الَّذِي يرجع من الشَّرّ إِلَى الْخَيْر، وَعَن سعيد بن الْمسيب: هُوَ الَّذِي كلما أذْنب تَابَ وَإِن كثر، وَعَن عبيد بن عُمَيْر: هُوَ الَّذِي لَا يقوم من مجْلِس حَتَّى يسْتَغْفر الله من ذنُوبه، وَقيل: إِن الأواب هُوَ المسبح، قَالَ الله تَعَالَى: {يَا جبال أوبي مَعَه} وَعَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ: الأواب الَّذِي يُصَلِّي بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَتسَمى الصَّلَاة فِي ذَلِك الْوَقْت صَلَاة الْأَوَّابِينَ، وَعَن عون الْعقيلِيّ قَالَ: الأواب هُوَ الَّذِي يُصَلِّي الضُّحَى، وَعَن السّديّ قَالَ: هُوَ الَّذِي يُذنب سرا وَيَتُوب سرا. وأصل الأواب: هُوَ الرَّاجِع، قَالَ الشَّاعِر: (يَوْمَانِ يَوْم مقامات وتفدية ... وَيَوْم سير على الْأَعْدَاء تأويب)

26

قَوْله تَعَالَى: {وَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه} الْأَكْثَرُونَ على أَن ذَا الْقُرْبَى هَا هُنَا قرَابَة الْإِنْسَان، وَمعنى الْآيَة: الْأَمر بصلَة ذَوي الْأَرْحَام. وَعَن عَليّ بن الْحُسَيْن قَالَ: ذَا الْقُرْبَى هَا هُنَا قرَابَة الرَّسُول. وَقَوله: {والمسكين}

{إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين وَكَانَ الشَّيْطَان لرَبه كفورا (27) وَإِمَّا تعرضن عَنْهُم ابْتِغَاء رَحْمَة من رَبك ترجوها فَقل لَهُم قولا ميسورا (28) } أَي: السَّائِل الطّواف. وَقَوله: {وَابْن السَّبِيل} قيل: الْمُنْقَطع بِهِ، وَقيل: الضَّيْف. وَقَوله: {وَلَا تبذر تبذيرا} أَي: لَا تسرف إسرافا. والتبذير: هُوَ الْإِنْفَاق فِي غير طَاعَة الله تَعَالَى. وَعَن عُثْمَان بن الْأسود قَالَ: كنت أَطُوف مَعَ مُجَاهِد بِالْبَيْتِ فَقَالَ: لَو أنْفق عشرَة آلَاف دِرْهَم فِي طَاعَة الله مَا كَانَ مُسْرِفًا، وَلَو أنْفق درهما وَاحِدًا فِي مَعْصِيّة الله، كَانَ من المسرفين.

27

قَوْله تَعَالَى: {إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين} أَي: أشباه الشَّيَاطِين، وَقيل: سماهم إخْوَان الشَّيَاطِين؛ لأَنهم اتبعُوا مَا سَوَّلَ لَهُم الشَّيَاطِين، [وَقيل] لمن اتبع إنْسَانا فِي شَيْء هُوَ أَخُوهُ. وَقَوله: {وَكَانَ الشَّيْطَان لرَبه كفورا} أَي: بربه كَافِرًا.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا تعرضن عَنْهُم} الْإِعْرَاض صرف الْوَجْه عَن الشَّيْء ( ... .) أَو إِلَى من هُوَ أولى مِنْهُ، أَو لإذلال من يصرف عَنهُ الْوَجْه. وَقَوله: {ابْتِغَاء رَحْمَة من رَبك} أَي: طلب رزق من رَبك. وَقَوله: {ترجوها} الرَّجَاء: تَعْلِيق النَّفس بِمن تطلب مِنْهُ الْخَيْر. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لَا ترجون إِلَّا رَبك، وَلَا تخافن إِلَّا من رَبك.

{وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك وَلَا تبسطها كل الْبسط فتقعد ملوما محسورا (29) } وَقَوله: {فَقل لَهُم قولا ميسورا} الْيُسْر: ضد الْعسر، والميسور هَا هُنَا هُوَ الْعدة فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين. وَهُوَ أَن يَقُول: يأتينا شَيْء فَنُعْطِيه. وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ: عدَّة النَّبِي دين، وَقيل: القَوْل الميسور هُوَ أَن تَقول: يرزقنا الله وَإِيَّاك، أَو يَقُول: بَارك الله فِيك. وَاعْلَم أَن الْآيَة خطاب مَعَ النَّبِي، وَقد كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم يسألونه، وَكَانَ يكره الرَّد وَلَيْسَ عِنْده شَيْء يعْطى، فَجعل يمسك من القَوْل، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {فَقل لَهُم قولا ميسورا} .

29

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك} الْآيَة. روى ابْن مَسْعُود: " أَن امْرَأَة بعثت غُلَاما إِلَى رَسُول الله تسأله شَيْئا، فَقَالَ النَّبِي: لَيْسَ عِنْدِي شَيْء، فَرجع الْغُلَام وَذكر لَهَا؛ فَردَّتْ الْغُلَام وَقَالَت: سَله قَمِيصه الَّذِي هُوَ لابسه، فَسَأَلَهُ فَأعْطَاهُ ذَلِك، وَبَقِي فِي الْبَيْت بِلَا قَمِيص، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". وَقَوله: {وَلَا تجْعَل يدك مغلولة إِلَى عُنُقك} أَي: لَا تبخل، وَالْكَلَام على وَجه التَّمْثِيل فَجعل الْبَخِيل الممسك كمن يَده مغلولة إِلَى عُنُقه. وَقَوله: {وَلَا تبسطها كل الْبسط} أَي: لَا تسرف فِي الْإِعْطَاء. وَقَوله: {فتقعد ملوما محسورا} والملوم: هُوَ الَّذِي أَتَى بِمَا يلوم بِهِ نَفسه ويلومه غَيره، والمحسور هُوَ الْمُنْقَطع بِهِ الَّذِي قد ذهب مَاله، وَبَقِي ذَا حسرة، يُقَال: دَابَّة حسير إِذا أعيت من السّير فَقَامَتْ بالراكب. فَمَعْنَى الْآيَة لَا تحمل على نَفسك كل الْحمل فِي الْإِعْطَاء، فَتَصِير بِمَنْزِلَة من بلغت بِهِ النِّهَايَة فِي التَّعَب والإعياء. قَالَ قَتَادَة: محسورا أَي: نَادِما. وأنشدوا فِي الدَّابَّة الحسير:

{إِن رَبك يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِنَّه كَانَ بعباده خَبِيرا بَصيرًا (30) وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق نَحن نرزقكم وَإِيَّاكُم إِن قَتلهمْ كَانَ خطئا كَبِيرا (31) وَلَا تقربُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَة وساء سَبِيلا (32) } (لَهُ ديك حسري ... فَأَما عظامها فبيض ... وَأما جلدهَا فصليب)

30

قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِنَّه كَانَ بعباده خَبِيرا بَصيرًا} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا معنى الْبسط وَالْقدر من قبل.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق} أَي: خشيَة الْفقر، وَقد كَانُوا يئدون الْبَنَات خشيَة الْفقر. وَقَوله: {نَحن نرزقهم وَإِيَّاكُم} أَي: نَحن الْمُعْطِي للزرق لَا أَنْتُم. وَقَوله: {إِن قَتلهمْ كَانَ خطأ كَبِيرا} الْمَعْرُوف: " خطأ " بِالْكَسْرِ وَالْقصر. وَقَرَأَ ابْن كثير " خطاء كَبِيرا " بِالْكَسْرِ وَالْمدّ، وَقَرَأَ ابْن عَامر: " خطأ " بِفَتْح الْخَاء والطاء وَالْقصر، وَقُرِئَ: " خطآء " بِالْفَتْح وَالْمدّ، فَأَما قَوْله: " خطأ " بِالْكَسْرِ وَالْقصر أَي: إِثْمًا كَبِيرا. وَأما قَوْله: " خطأ " بِالْكَسْرِ وَالْمدّ، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: أهل اللُّغَة لَا يعْرفُونَ هَذَا! وَلَعَلَّه لُغَة. وَأما قَوْله: " خطاء " بِالْفَتْح وَالْقصر مصدر مثل قَوْله: أخطا، وَالْفرق بَين الخِطأ والخَطأ كِلَاهُمَا بِالْقصرِ أَن الْخَطَأ - بِالْكَسْرِ - مَا يتَعَمَّد بِالْفِعْلِ وآثم فَاعله. وَالْخَطَأ - بِالْفَتْح - مَا لم يتَعَمَّد. وأنشدوا: (عباد يخطئون وَأَنت رب ... كريم لَا يَلِيق بك الذموم)

32

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقربُوا الزِّنَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ فَاحِشَة} الْفَاحِشَة: فعل قَبِيح على أقبح الْوُجُوه. وَقَوله: {وساء سَبِيلا} أَي: سَاءَ طَرِيقا، وَمَعْنَاهُ بئس السلك هَذَا الْفِعْل. وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " فِي الزِّنَا

{وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا فَلَا يسرف فِي الْقَتْل إِنَّه كَانَ منصورا (33) } سِتّ خِصَال: (ثَلَاث) فِي الدُّنْيَا، (وَثَلَاث) فِي الْآخِرَة؛ أما الثَّلَاث فِي الدُّنْيَا: يذهب نور الْوَجْه، وَيُورث الْفقر، وَينْقص الْعُمر، وَأما الثَّلَاث فِي الْآخِرَة: فَغَضب الرب، وَسُوء الْحساب، وَدخُول النَّار ".

33

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} قد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: الْكفْر بعد الْإِيمَان، وَالثَّيِّب الزَّانِي، وَالْقَاتِل نفسا بِغَيْر حق ". فَقَوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} فالقتل بِالْحَقِّ أَن يَقع بِأحد هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة. وَقَوله: {وَمن قتل مَظْلُوما فقد جعلنَا لوَلِيِّه سُلْطَانا} أَي: سُلْطَان الْقود، هَكَذَا قَالَه قَتَادَة وَغَيره. وَعَن الضَّحَّاك أَن السُّلْطَان هَا هُنَا هُوَ تَخْيِير ولي الْقَتِيل بَين أَن يقتل أَو يعْفُو، أَو يَأْخُذ الدِّيَة. وأصل السُّلْطَان هُوَ الْحجَّة، فَلَمَّا ثَبت هَذَا لوَلِيّ الْقَتِيل بِحجَّة ظَاهِرَة سَمَّاهُ سُلْطَانا، وَقيل: معنى الْآيَة أَن الْوَلِيّ يقتل؛ فَإِن لم يكن ولي، قَتله السُّلْطَان. وَقَوله: {فَلَا يسرف فِي الْقَتْل} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن السَّرف فِي الْقَتْل أَن يقتل غير الْقَاتِل، وَقيل: إِن السَّرف فِي الْقَتْل أَن يمثل بالمقتول، وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: السَّرف فِي الْقَتْل أَن يطْلب قتل الْجَمَاعَة بِالْوَاحِدِ، وَقد كَانَت الْجَاهِلِيَّة لَا يرضون بقتل الْقَاتِل وَحده؛ إِذا كَانَ الْمَقْتُول شريفا وَيطْلبُونَ قتل الْقَاتِل وَجَمَاعَة مَعَه من أقربائه وَقَومه.

{وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن حَتَّى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إِن الْعَهْد كَانَ مسئولا (34) } وَقُرِئَ: " فَلَا تسرف " " بِالتَّاءِ " على خطاب ولي الْقَتِيل، وَأما " بِالْيَاءِ " على المغايبة. وَفِي الْآيَة قَول آخر وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {فَلَا يسرف فِي الْقَتْل} بِالْيَاءِ أَي: الْقَاتِل الأول الْمُتَعَدِّي. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ منصورا} على هَذَا يَعْنِي أَن الْقَاتِل الأول لَو تعدى فولي الْقَتِيل مَنْصُور من قبلي، وَقد قَالَ أهل الْمعَانِي: أَن معنى قَوْله: {إِنَّه كَانَ منصورا} مَعْنَاهُ أَي: الْقَتِيل مَنْصُور فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؛ أما النُّصْرَة فِي الدُّنْيَا فَفِي إِيجَاب الْقود لَهُ. وَأما النُّصْرَة فِي الْآخِرَة فبتكفير خطاياه، وبإيجاب الثأر لقاتله، وَقيل: إِنَّه كَانَ منصورا؛ أَي: ولي الْقَتِيل. وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " فَلَا تسرفوا فِي الْقَتْل إِن ولي الْقَتِيل كَانَ منصورا ".

34

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} مَعْنَاهُ: إِلَّا بالعفة الَّتِي هِيَ أحسن. وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ على أقاويل: أَحدهَا: أَن القربان بالأحسن هُوَ حفظ الْأُصُول، وتثمير الْفُرُوع، وَالْآخر: أَن القربان بالأحسن هُوَ التِّجَارَة فِي مَاله، وَهَذَا قريب من الأول، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن القربان بالأحسن هُوَ أَن لَا يخالط مَال الْيَتِيم بِمَال نَفسه. فروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة ميز الأوصياء طعامهم من طَعَام الْيَتَامَى، وشرابهم من شراب الْيَتَامَى، وَكَانُوا يمسكون طَعَام الْيَتِيم حَتَّى يَأْكُل أَو يفْسد، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَإِن تخالطوهم فإخوانكم} . وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: القربان بالأحسن أَن يستقرض من مَال الْيَتِيم إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ، فَإِذا اسْتغنى رد.

{وأوفوا الْكَيْل إِذا كلتم وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا (35) } وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا يقرب مَاله أصلا، وَلَا يشرب المَاء من مَاله. وَذهب بعض الْعلمَاء مِنْهُم أَبُو يُوسُف إِلَى أَن قَوْله تَعَالَى: {وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} مَنْسُوخ بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} . وَقد ذكرنَا فِي هَذَا الْمَعْنى من قبل مَا هُوَ أَكثر من هَذَا. وَقَوله: {حَتَّى يبلغ أشده} الْأَكْثَرُونَ على أَن الأشد هُوَ الْحلم، وَمِنْهُم من قَالَ: (ثَمَان) عشرَة سنة، وَمِنْهُم من قَالَ: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة، وَهَذَا وَقت مُنْتَهى الْقُوَّة وَتَمام الْعقل بالحنكة والتجارب. وَقَوله: {وأوفوا بالعهد} قَالَ قَتَادَة: الْعَهْد: كل مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ وَنهى عَنهُ. وَقَوله: {إِن الْعَهْد كَانَ مسئولا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ مَظْلُوما، وَهُوَ قَول السّديّ. وَالْآخر: كَانَ مسئولا عَنهُ، وَهُوَ أحسن الْأَقَاوِيل، وَالثَّالِث: أَن الْعَهْد يسْأَل عَن صَاحب الْعَهْد. فَيُقَال لَهُ: فيمَ نقضت، كالموءودة تسْأَل فيمَ قتلت؟ . وَفِي معنى الْعَهْد قَول آخر: وَهُوَ أَنه كل مَا يلتزمه الْإِنْسَان على نَفسه.

35

قَوْله تَعَالَى: {وأوفوا الْكَيْل إِذا كلتم} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه القبان، وَالْآخر: أَنه كل ميزَان يكون. ذكره الزّجاج. وَاخْتلفُوا أَن القسطاس رومي أَو عَرَبِيّ؟ قَالَ مُجَاهِد: هُوَ رومي مُعرب، وَقَالَ غَيره:

{وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد} هُوَ عَرَبِيّ مَأْخُوذ من الْقسْط، والقسط هُوَ الْعدْل، فعلى هَذَا معنى الْآيَة وزنوا بِالْعَدْلِ الْمُسْتَقيم. وَقَوله: {ذَلِك خير} يَعْنِي: ذَلِك خير لكم فِي الدُّنْيَا بِحسن الذّكر. {وَأحسن تَأْوِيلا} وَأحسن عَاقِبَة فِي الْآخِرَة.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} قَالُوا: مَعْنَاهُ وَلَا تقل مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم، وَقُرِئَ: " وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم " بِرَفْع الْقَاف؛ مَعْنَاهُ مَا ذكرنَا، وَمِنْهُم من قَالَ: معنى قَوْله: {وَلَا تقف} أَي: لَا ترم بِالظَّنِّ مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم. وأصل القيافة اتِّبَاع الْأَثر، يُقَال: قَفَوْت فلَانا، إِذا [اتبعت] أَثَره. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: وَلَا تتبع لسَانك مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فيتكلم بالحدس وَالظَّن. وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نَحن بَنو النَّضر بن كنَانَة لَا نقفوا أمنا، وَلَا ننتفي من أَبينَا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " من تقوف مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم حبس فِي ردغة الخبال حَتَّى يخرج مِمَّا قَالَ ". وَقَوله: {إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد} رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: لَا تقل سَمِعت وَلم تسمع، وَلَا رَأَيْت وَلم تَرَ، وَلَا علمت وَلم تعلم. وَاخْتلف القَوْل فِي سُؤال السّمع وَالْبَصَر والفؤاد؛ فَفِي أحد الْقَوْلَيْنِ: يسْأَل الْمَرْء عَن سَمعه وبصره وفؤاده.

{كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا (36) وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا إِنَّك لن تخرق الأَرْض وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا (37) كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها (38) ذَلِك مِمَّا} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد يسْأَل عَمَّا فعله الْمَرْء. فَإِن قيل: قد قَالَ: {كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسئولا} ، وَأُولَئِكَ لَا يُقَال إِلَّا للعقلاء؟ وَالْجَوَاب: قُلْنَا: يجوز أَن يُقَال لغير الْعُقَلَاء. قَالَ جرير: (ذمّ الْمنَازل بعد منزلَة اللوى ... والعيش بعد أُولَئِكَ الْأَيَّام)

37

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا} المرح هُوَ الْفَرح بِالْبَاطِلِ، وَيُقَال: هُوَ الأشر والبطر، وَيُقَال: هُوَ البأو وَالْعَظَمَة، وَقيل: الْخُيَلَاء. وَقَوله: {إِنَّك لن تخرق الأَرْض} أَي: لن تثقب الأَرْض، وَقيل: لن تقطع الأَرْض بالسير. وَقَوله: {وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا} أَي: لَا يقدر أَن يَتَطَاوَل الْجبَال، وَفِي الْمَعْنى وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن الْإِنْسَان إِذا مَشى مختالا، فَمرَّة يمشي على عَقِبَيْهِ، وَمرَّة يمشي على صُدُور قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: لن تثقب الأَرْض إِن مشيت على عقبيك، وَلنْ تبلغ الْجبَال طولا إِن مشيت على صُدُور قَدَمَيْك. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن من أَرَادَ أَن يخرق الأَرْض أَو يطاول الْجبَال لَا يحصل على شَيْء، فَكَذَلِك من مَشى مختالا لَا يحصل باختياله على شَيْء.

38

وَقَوله: {كل ذَلِك كَانَ سَيِّئَة عِنْد رَبك مَكْرُوها} قرى: " سيئه " وَقَوله: " سَيِّئَة " بِالتَّنْوِينِ أَي: كل مَا نهيت عَنهُ فِي هَذِه الْآيَات فَهِيَ سَيِّئَة مَكْرُوهَة عِنْد رَبك، وَمن قَرَأَ " سيئه " بِالرَّفْع فَمَعْنَاه على التَّبْعِيض؛ لِأَنَّهُ قد تقدم بعض مَا لَيْسَ بسيئة مثل قَوْله: {وَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه} ، وَكَذَلِكَ قَوْله: {واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة وَقل رب ارحمهما} وَغير ذَلِك. فَمَعْنَاه أَن مَا تقدم فِي هَذِه الْآيَات من السَّيئَة مَكْرُوهَة عِنْد رَبك.

{أوحى إِلَيْك رَبك من الْحِكْمَة وَلَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتلقى فِي جَهَنَّم ملوما مَدْحُورًا (39) أفأصفاكم ربكُم بالبنين وَاتخذ من الْمَلَائِكَة إِنَاثًا إِنَّكُم لتقولون قولا عَظِيما (40) وَلَقَد صرفنَا فِي هَذَا الْقُرْآن لِيذكرُوا وَمَا يزيدهم إِلَّا نفورا (41) قل لَو كَانَ مَعَه}

39

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك مِمَّا أوحى إِلَيْك رَبك من الْحِكْمَة} كل مَا أَمر الله بِهِ وَنَهَاهُ فَهِيَ حِكْمَة. وَقَوله: {وَلَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر} قد بَينا هَذَا من قبل، وَهُوَ أَن الْخطاب مَعَه، وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة. وَقَوله: {فَتلقى فِي جَهَنَّم ملوما مَدْحُورًا} أَي: مطرودا.

40

قَوْله تَعَالَى: {أفأصفاكم ربكُم} مَعْنَاهُ: أفجعل لكم الصفوة، وَجعل لنَفسِهِ مَا لَيْسَ بصفوة؟ وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَة بَنَات الله. وَقَوله: {بالبنين وَاتخذ من الْمَلَائِكَة إِنَاثًا} هَذَا مَعْنَاهُ. وَقَوله: {إِنَّكُم لتقولون قولا عَظِيما} أَي: فظيعا كَبِيرا.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صرفنَا فِي هَذَا الْقُرْآن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: تَكْرِير الْأَمر وَالنَّهْي والمواعظ والقصص، وَالْآخر: تَبْيِين القَوْل بِجَمِيعِ جهاته. وَقَوله: {لِيذكرُوا} مَعْنَاهُ: ليتعظوا. وَقَوله: {وَمَا يزيدهم إِلَّا نفورا} أَي: مَا يزيدهم التَّبْيِين إِلَّا نفورا. وَقيل: تصريف القَوْل فِي الْأَمر وَالنَّهْي.

42

قَوْله تَعَالَى: {قل لَو كَانَ مَعَه} أَي: مَعَ الله {آلِهَة} . وَقَوله: {كَمَا يَقُولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِذا لطلبوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا بالتقرب إِلَيْهِ، وَالْآخر: وَهُوَ الْأَصَح إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا بالمفازة والمغالبة وَطلب الْملك، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} .

{آلِهَة كَمَا يَقُولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا (43) تسبح لَهُ السَّمَوَات السَّبع وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح}

43

قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ علوا كَبِيرا} ظَاهر الْمَعْنى.

44

قَوْله تَعَالَى: {تسبح لَهُ السَّمَاوَات السَّبع وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} قد بَينا من قبل. وَقَوله: {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} قَالَ عِكْرِمَة: وَإِن من شَيْء حَيّ إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَعَن عِكْرِمَة أَيْضا قَالَ: الشَّجَرَة تسبحه. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: كل الْأَشْيَاء تسبح لله حَيا كَانَ أَو جمادا، وتسبيحها (بسبحان الله وَبِحَمْدِهِ) . وَعَن أبي صَالح أَنه سمع صرير بَاب فَقَالَ: هُوَ تسبيحه. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لَا تضربوا الدَّوَابّ على رءوسها فَإِنَّهَا تسبح الله، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِن تَسْبِيح هَذِه الْأَشْيَاء: يَا حَلِيم، يَا غَفُور. وروى مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أَبُو غياث عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: " وَإِن من شَيْء جماد أَو حَيّ إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ حَتَّى صرير الْبَاب ونقيض السّقف. وَاعْلَم أَن لله فِي الجماد علما لَا يُعلمهُ غَيره، وَلَا يقف عَلَيْهِ غَيره، فَيَنْبَغِي أَن يُوكل علمه إِلَيْهِ. وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي: تَسْبِيح السَّمَاوَات وَالْأَرْض والجمادات وَسَائِر الْحَيَوَانَات سوى الْعُقَلَاء، هُوَ مَا دلّت بلطيف تركيبها وَعَجِيب هيئاتها على خَالِقهَا، فَيصير ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّسْبِيح مِنْهَا. وَالْمَنْقُول عَن السّلف مَا قُلْنَا من قبل، وَالله أعلم. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} أَي: لَا تعلمُونَ تسبيحهم. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن مَوضِع هَذِه الْآيَة فِي التَّوْرَاة ألف آيَة كَانَ الله تَعَالَى قَالَ:

{بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا (45) وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن} سبح لي كَذَا، وَسبح لي كَذَا، وَسبح لي كَذَا، وعَلى القَوْل الْأَخير قَوْله: {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} أَي: لَا تستدلون بمشاهدة هَذِه الْأَشْيَاء على تَعْظِيم الله. وَهَذَا لَيْسَ بمعتمد، وَالصَّحِيح مَا بَينا. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} قد بَينا معنى الْحَلِيم والغفور.

45

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا} رُوِيَ فِي الْأَخْبَار أَنه لما نزلت سُورَة {تبت يدا أبي لَهب} جَاءَتْهُ امْرَأَته أم جميل، وَمَعَهَا فهر، وقصدت النَّبِي وَهِي تَقول: مذمما أَبينَا، وَدينه قلينا، وَأمره عصينا، وَكَانَ النَّبِي جَالِسا مَعَ أبي بكر فِي الْحجر، فَقَالَ أَبُو بكر للنَّبِي: هَذِه الْمَرْأَة قد جَاءَت، فَقَالَ النَّبِي: إِنَّهَا لَا تراني؛ وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة؛ فَجَاءَت الْمَرْأَة، وَقَالَت: يَا أَبَا بكر، أَيْن صَاحبك؟ فقد بَلغنِي أَنه هجاني، وهجا أَبَا لَهب، وَقد علمت قُرَيْش أَنِّي بنت سَيِّدهَا. فَلم يقل أَبُو بكر شَيْئا، وَرجعت وَهِي تَقول: قد كنت جِئْت بِهَذَا الْحجر؛ لأرضخ رَأسه ". روته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا. وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ النَّبِي يُصَلِّي وَيقْرَأ الْقُرْآن، وَكَانَ الْمُشْركُونَ يقصدونه بالأذى، فَكَانُوا يجيئون وَلَا يرونه. وَقَوله: {حِجَابا مَسْتُورا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: حِجَابا ساترا، وَالْآخر: مَسْتُورا بِهِ. وَقيل: إِن الْحجاب الَّذِي جعله الله هُوَ الأكنة الَّتِي خلقهَا على قُلُوبهم.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة} أَي: أغطية، وَحكى بعض السّلف أَنه

{يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده ولوا على أدبارهم نفورا (46) نَحن أعلم بِمَا يَسْتَمِعُون بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُون إِلَيْك وَإِذ هم نجوى إِذْ يَقُول الظَّالِمُونَ} سمع رجلا يقْرَأ: {وَمَا منع النَّاس أَن يُؤمنُوا إِذا جَاءَهُم الْهدى} فَقَالَ: الأكنة. وَقَوله: {أَن يفقهوه} مَعْنَاهُ: كَرَاهَة أَن يفقهوه، وَقيل: لِئَلَّا يفقهوه. وَقَوله: {وَفِي آذانهم وقرا} أَي: ثقلا، وَمَعْنَاهُ: لِئَلَّا يسمعوه. وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة صَرِيحًا. وَقَوله: {وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده} هُوَ قَوْله: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَوله: {ولوا على أدبارهم نفورا} أَي: نافرين. وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} .

47

قَوْله تَعَالَى: {نَحن أعلم بِمَا يَسْتَمِعُون بِهِ} قَالَ أهل التَّفْسِير: " بِهِ " صلَة، وَمَعْنَاهُ نَحن أعلم بِمَا يَسْتَمِعُون، أَي: يطْلبُونَ سَمَاعه، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا ذكر الَّذين من دونه إِذا هم يستبشرون} . وَقَوله تَعَالَى: {إِذْ يَسْتَمِعُون إِلَيْك وَإِذ هم نجوى} أَي: ذووا نجوى. وَفِي الْقِصَّة: أَن النَّبِي كَانَ يقْرَأ، وَالْمُشْرِكُونَ قد اجْتَمعُوا، وَكَانُوا يتناجون فِيمَا بَينهم، فَيَقُول هَذَا: كَاهِن، وَيَقُول هَذَا: سَاحر، وَيَقُول هَذَا: شَاعِر، وَيَقُول هَذَا: مَجْنُون؛ ويريدون بِهِ الرَّسُول. وَقَوله: {إِذْ يَقُول الظَّالِمُونَ إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحورا} قَالَ مُجَاهِد: مخدوعا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: رجلا لَهُ سحر، وَهُوَ الرئة، يَعْنِي: أَنه بشر. قَالَ الشَّاعِر: (أرانا موضِعين (لحتم) غيب ... ونسحر بِالطَّعَامِ وبالشراب)

{إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحورا (47) انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (48) وَقَالُوا أئذا كُنَّا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جَدِيدا (49) قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا (50) } أَي: نعلل ونخدع، وَهُوَ على تَأْوِيل الخدع، وَهُوَ الْأَصَح. وَقيل: مسحورا أَي: مصروفا عَن الْحق.

48

وَقَوله تَعَالَى: {انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال} أَي: الْأَشْبَاه. وَقَوله: {فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} أَي: وصُولا إِلَى طَرِيق الْحق.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أءذا كُنَّا عظاما ورفاتا} قَالَ الْفراء: رفاتا، أَي: تُرَابا، وَقَالَ غَيره: رفاتا: أَي: حطاما. يَعْنِي: إِذا تحطمنا. وَقَوله: {أءنا لمبعوثون خلقا جَدِيدا} قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار.

50

قَوْله تَعَالَى: {قل كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} فَإِن قيل: كَيفَ يَأْمُرهُم بِأَن يَكُونُوا حِجَارَة أَو حديدا، وهم لَا يقدرُونَ عَلَيْهِ قطعا؟ وَالْجَوَاب: أَن هَذَا أَمر تعجيز، وَلَيْسَ بِأَمْر إِلْزَام، وَمعنى الْآيَة أَي: استشعروا فِي قُلُوبكُمْ أَنكُمْ حِجَارَة أَو (حَدِيد) ، فَلَو كُنْتُم كَذَلِك لم تفوتوني، وَقيل مَعْنَاهُ: لَو كُنْتُم خلقْتُمْ من الْحِجَارَة وَالْحَدِيد بدل اللَّحْم والعظم لمتم ثمَّ بعثتم. قَالَه أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ.

51

قَوْله تَعَالَى: {أَو خلقا مِمَّا يكبر فِي صدوركم} قَالَ ابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: هُوَ الْمَوْت. وَمَعْنَاهُ: لَو كُنْتُم الْمَوْت بِعَيْنِه لأدرككم الْمَوْت. وَقد ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يجاء بِالْمَوْتِ يَوْم الْقِيَامَة على هَيْئَة كَبْش أغبر، فَيُوقف بَين الْجنَّة وَالنَّار؛ فيعرفه كلهم، فَيذْبَح، فَيُقَال: يَا أهل الْجنَّة، خُلُود لكم وَلَا موت، وَيَا أهل النَّار، خُلُود وَلَا موت ".

{أَو خلقا مِمَّا يكبر فِي صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الَّذِي فطركم أول مرّة فسينغضون إِلَيْك رُءُوسهم وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قل عَسى أَن يكون قَرِيبا (51) يَوْم يدعوكم فتستجيبون بِحَمْدِهِ وتظنون إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا (52) } وَعَن مُجَاهِد أَن معنى قَوْله: {أَو خلقا مِمَّا يكبر فِي صدوركم} هُوَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال. أَي: لَو كُنْتُم كَذَلِك لمتم وبعثتم. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ كل مَا يعظم فِي عين الْإِنْسَان وصدره. وَعَن الْكَلْبِيّ قَالَ: هُوَ الْقِيَامَة. وَقَوله: {فسيقولون من يعيدنا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {قل الَّذِي فطركم أول مرّة} أَي: أنشأكم أول مرّة، وَمن قدر على الْإِنْشَاء فَهُوَ على الْإِعَادَة أقدر. وَقَوله: {فسينغضون إِلَيْك رُءُوسهم} أَي: يحركون إِلَيْك رُءُوسهم، وَهَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء. وَقَوله: {وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ} أَي: مَتى السَّاعَة؟ وَهَذَا أَيْضا قَالُوهُ استهزاء. وَقَوله: {قل عَسى أَن يكون قَرِيبا} مَعْنَاهُ: أَنه قريب، " وَعَسَى " من الله وَاجِب على مَا بَينا.

52

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يدعوكم فتستجيبون بِحَمْدِهِ} أَي: حامدين لَهُ. فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا؟ وَالْخطاب مَعَ الْكفَّار؛ وَالْكَافِر كَيفَ يبْعَث حامدا لرَبه؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه خطاب للْمُؤْمِنين، وَقد انْقَطع خطاب الْكفَّار إِلَى هَذِه الْآيَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْخطاب مَعَ الْكفَّار، وَمعنى قَوْله: {فتستجيبون بِحَمْدِهِ} أَي: مقرين أَنه خالقكم وباعثكم. وَقَوله: {وتظنون إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا} هَذَا فِي جنب مُدَّة الْقِيَامَة (وَالْخُلُود) فَلَو مكث الْإِنْسَان فِي قَبره الألوف من السنين، يعد ذَلِك قَلِيلا فِي جنب مَا يصل إِلَيْهِ من

{وَقل لعبادي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحسن إِن الشَّيْطَان ينزغ بَينهم إِن الشَّيْطَان كَانَ للْإنْسَان عدوا مُبينًا (53) ربكُم أعلم بكم إِن يَشَأْ يَرْحَمكُمْ أَو إِن يَشَأْ يعذبكم وَمَا أَرْسَلْنَاك} الخلود. وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِنَّهُم يستحقرون مُدَّة الدُّنْيَا فِي جنب الْقِيَامَة. وَعَن سعيد بن أبي عرُوبَة قَالَ: يقومُونَ فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك. وَالْأولَى أَن يكون هَذَا فِي الْمُؤمنِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِن الله تَعَالَى يرفع الْعَذَاب عَن الْكفَّار بَين النفختين، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سنة، فَإِذا حشروا وَقد استراحوا تِلْكَ الْمدَّة قَالُوا: مَا لبثنا إِلَّا قَلِيلا.

53

قَوْله تَعَالَى: {وَقل لعبادي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحسن} فِي الْآيَة قَولَانِ: الْأَشْهر وَالْأَظْهَر أَن قَوْله: {يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحسن} أَي: الْكفَّار، وَهَذَا قبل نُزُوله آيَة السَّيْف. قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ الْمُشْركُونَ يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ، وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ يستأذنون رَسُول الله فِي الْقِتَال فينهاهم عَن ذَلِك، وَيَأْمُرهُمْ بِالْإِحْسَانِ فِي القَوْل، وَالْإِحْسَان فِي القَوْل هُوَ قَوْلهم للْكفَّار: يهديكم الله. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن عمر شَتمه بعض الْكفَّار، فَأَرَادَ أَن يقاتله، فَأمره رَسُول الله بالصفح وَالْعَفو. وَالْقَوْل الثَّانِي: فِي الْآيَة: أَن المُرَاد بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَأَرَادَ بِهِ: أَن يَقُولُوا ويفعلوا الَّتِي هِيَ أحسن. أَي: الْخلَّة الَّتِي هِيَ أحسن. وَقيل: المُرَاد مِنْهُ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر. وَقَوله: {إِن الشَّيْطَان ينزغ بَينهم} أَي: يفْسد بإيقاع الْعَدَاوَة. وَقَوله: {إِن الشَّيْطَان كَانَ للْإنْسَان عدوا مُبينًا} أَي: عدوا ظَاهر الْعَدَاوَة.

54

قَوْله تَعَالَى: {ربكُم أعلم بكم إِن يَشَأْ يَرْحَمكُمْ وَإِن يَشَأْ يعذبكم} قَالَ: يَرْحَمكُمْ بالتوفيق وَالْهِدَايَة، ويعذبكم بالإضلال، وَقيل: يَرْحَمكُمْ بالإنجاء من النَّار، أَو يعذبكم بالإيقاع فِيهِ. وَقَوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم وَكيلا} أَي: كَفِيلا. قَالَ الشَّاعِر: ( [ذكرت] أَبَا أروى فَبت كأنني ... برد الْأُمُور الماضيات وَكيل)

{عَلَيْهِم وَكيلا (54) وَرَبك أعلم بِمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض وآتينا دَاوُد زبورا (55) قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم وَلَا تحويلا (56) أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة أَيهمْ} أَي: كَفِيل. وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: لم يسلطك عَلَيْهِم بمنعهم من الْكفْر.

55

قَوْله تَعَالَى: {وَرَبك أعلم بِمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: وَرَبك الْعَالم بِمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْعَالم بأحوالهم وأفعالهم ومقاصدهم. وَقَوله: {وَلَقَد فضلنَا بعض النَّبِيين على بعض} مَعْنَاهُ: أَنه اتخذ بَعضهم خَلِيلًا، وكلم بَعضهم، وسخر الْجِنّ وَالْإِنْس وَالطير وَالرِّيح لبَعْضهِم، وَأَحْيَا الْمَوْتَى لبَعْضهِم، فَهَذَا معنى التَّفْضِيل. وَقَوله: {وآتينا دَاوُد زبورا} قَالُوا: الزبُور كتاب يشْتَمل على مائَة وَخمسين سُورَة، كلهَا تحميد وتمجيد وثناء على الله، لَيْسَ فِيهَا أَمر وَلَا نهي وَلَا حَلَال وَلَا حرَام. وَمعنى الْآيَة: أَنكُمْ لما لم تنكروا تَفْضِيل سَائِر النَّبِيين وإعطائهم الْكتب، فَلَا تنكروا فضل النَّبِي وإعطائه الْقُرْآن. فَيجوز أَن يكون هَذَا الْخطاب مَعَ أهل الْكتاب، وَيجوز أَن يكون مَعَ قوم كَانُوا مقرين بِهَذَا من مُشْركي الْعَرَب. وَالزَّبُور مَأْخُوذ من الزبر؛ والزبر هُوَ الْكِتَابَة.

56

وَقَوله تَعَالَى: {قل ادعوا الَّذين زعمتم من دونه} رُوِيَ أَن الْمُشْركين لما قحطوا حَتَّى أكلُوا الْكلاب والجيف اسْتَغَاثُوا بِالنَّبِيِّ، ليدعو لَهُم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {قل ادعوا الَّذين زعمتم} أَنهم آلِهَة {من دونه} أَي: من دون الله. وَقَوله: {فَلَا يملكُونَ كشف الضّر عَنْكُم} أَي: كشف الْجُوع والقحط عَنْكُم. وَقَوله: {وَلَا تحويلا} أَي: لَا يملكُونَ نقل الْحَال، وتحويلا من السقم إِلَى الصِّحَّة، وَمن الجدب إِلَى الخصب، وَمن الْعسر إِلَى الْيُسْر.

57

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " أُولَئِكَ الَّذين تدعون "

{أقرب ويرجون رَحمته وَيَخَافُونَ عَذَابه إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا (57) وَإِن من قَرْيَة إِلَّا نَحن مهلكوها قبل يَوْم الْقِيَامَة أَو معذبوها عذَابا شَدِيدا كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب} وَعنهُ أَنه قَالَ: كَانَ قوم من الْمُشْركين يعْبدُونَ قوما من الْجِنّ، فَأسلم الجنيون الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ، وَبَقِي هَؤُلَاءِ على شركهم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. مَعْنَاهُ: إِن الَّذين كُنْتُم تدعونهم وتعبدونهم {يَبْتَغُونَ} أَي: يطْلبُونَ {إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} والوسيلة هِيَ الدرجَة الرفيعة فِي الْجنَّة، وَقيل: الْوَسِيلَة كل مَا يتوسل بِهِ إِلَى الله تَعَالَى أَي: يتَقرَّب. وَقَوله: {أَيهمْ أقرب} مَعْنَاهُ: ينظرُونَ أَيهمْ أدنى وَسِيلَة، وَقيل: أَيهمْ أقرب إِلَى الله فيتوسلون بِهِ، وَقيل: الْآيَة فِي عُزَيْر والمسيح وَغَيرهمَا، وَقيل: الْآيَة فِي الْمَلَائِكَة؛ فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة، وَالْمَلَائِكَة عبيد يطْلبُونَ إِلَى الله الْوَسِيلَة، وَهَذَا فِي نفر من الْمُشْركين دون جَمِيعهم. وَقَوله: {ويرجون رَحمته وَيَخَافُونَ عَذَابه} يَعْنِي: الجنيين الَّذين أَسْلمُوا وَالْمَلَائِكَة، أَو عُزَيْرًا والمسيح. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " لَو وزن خوف الْمُؤمن ورجاؤه لاعتدلا ". وَقَوله: {إِن عَذَاب رَبك كَانَ محذورا} أَي: يطْلب مِنْهُ الحذر.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من قَرْيَة إِلَّا نَحن مهلكوها قبل يَوْم الْقِيَامَة} مَعْنَاهُ: وَمَا من قَرْيَة إِلَّا نَحن مهلكوها فإهلاك الْمُؤمنِينَ بالإماتة، وإهلاك الْكفَّار بالاستئصال وَالْعَذَاب، وَقيل قَوْله: {مهلكوها} هَذَا فِي حق الْمُؤمنِينَ بالإماتة. قَوْله: {أَو معذبوها عذَابا شَدِيدا} فِي حق الْكفَّار.

{مسطورا (58) } وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره بِإِسْنَادِهِ عَن مقَاتل بن سُلَيْمَان قَالَ: وجدت فِي كتاب ضحاك بن مُزَاحم - وَهُوَ الْكتاب المخزون - وَقد ذكر فِيهِ مَا يهْلك الله بِهِ أهل كل بَلْدَة، أما مَكَّة فيهلكها الحبشان، وَأما الْمَدِينَة فالجوع، وَأما الْبَصْرَة فَالْفرق، وَأما الْكُوفَة فعدو [سلطه] الله عَلَيْهِم، وَأما الشَّام ومصر فويل لَهَا من عدوها، وَقيل: تخربها الرِّيَاح، وَأما أصفهان وَفَارِس وكرمان فبالظلمات وَالصَّوَاعِق، وَكَذَلِكَ ذكر فِي أرمينية وأذربيجان، وَأما الرّيّ، فيغلب عَلَيْهِم عدوهم من الديلم، وَأما الهمذان فيهلكهم عَدو لَهُم فَلَا همذان بعده، وَأما النيسابور فالرعود والبروق وَالرِّيح، وَأما مرو فيغلب عَلَيْهِ الرمل وَبِهِمَا الْعلمَاء الْكثير، وَأما هراة فيمطرون حيات فتأكلهم، وَأما سجستان فتهلك بِالرِّيحِ، وَأما بَلخ فيغلب عَلَيْهِ المَاء فتهلك، وَأما بُخَارى فيغلب عَلَيْهِم التّرْك، وَأما سَمَرْقَنْد وفرغانة والشاش وإسبيجاب وخوارزم فيغلب عَلَيْهِم بَنو قنطورا بن كركرى فيهلكون عَن آخِرهم، وَالْخَبَر غَرِيب جدا. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " ويل لأهل بَغْدَاد يخسف بهم " والأثر غَرِيب. وَفِي بعض المسانيد عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا يهْلك الله قوما حَتَّى يظْهر فيهم الزِّنَا والربا. وَقَوله: {كَانَ ذَلِك فِي الْكتب مسطورا} أَي: مَكْتُوبًا، وَمعنى الْكتاب: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أول مَا خلق الله الْقَلَم فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". يُقَال: سطر إِذا كتب.

{وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ وآتينا ثَمُود النَّاقة مبصرة فظلموا بهَا وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا (59) وَإِذ قُلْنَا لَك إِن رَبك أحَاط بِالنَّاسِ وَمَا جعلنَا}

59

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} الْآيَة. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز أَلا يُرْسل الله الْآيَات لِأَن الْأَوَّلين كذبُوا بهَا؟ وَمَا وَجه الإمتناع عَن إرْسَال الْآيَات بتكذيب الْأَوَّلين؟ وَالسُّؤَال مَعْرُوف، وَهُوَ مُشكل. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن " إِلَّا " مَحْذُوف، وَمثله قَول الشَّاعِر: (وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ ... لعَمْرو أَبِيك إِلَّا الفرقدان) وَمَعْنَاهُ: وَمَا منعنَا من إرْسَال الْآيَات وَإِن كذب بهَا الْأَولونَ، يَعْنِي: أَن تَكْذِيب الْأَوَّلين لَا يمنعنا من إرْسَال الْآيَات. وَالْجَوَاب الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْرُوف - وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ الَّتِي اقترحها الْكفَّار، فَإِنَّهُ قَالُوا للنَّبِي: اجْعَل لنا الصَّفَا ذَهَبا، أَو بعد عَنَّا هَذِه الْجبَال لنزرع الْأَرَاضِي. وَقَوله: {إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} معنى الِاسْتِثْنَاء فِي إهلاك الْأَوَّلين حِين كذبُوا بِالْآيَاتِ المقترحة، وَقد حكمنَا أَن هَذِه الْأمة ممهلة فِي الْعَذَاب، قَالَ الله تَعَالَى: {بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى وَأمر} وتلخيص الْجَواب: أَن الْأَوَّلين اقترحوا الْآيَات فَلَمَّا أعْطوا كذبوها فأهلكوا، فَلَو أعطينا هَؤُلَاءِ الْآيَات المقترحة وكذبوا بهَا عاجلناهم بِالْعَذَابِ، وَقد حكمنَا بإمهالهم، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا الْجَواب أَنه قَالَ: {وآتينا ثَمُود النَّاقة مبصرة} أَي: آيَة نيرة مضيئة، أَو آيَة يبصر بهَا الْحق، وَقَوله: {فظلموا بهَا} أَي: كذبُوا بهَا، فعوجلوا بالعقوبة. فَهَذَا هُوَ المُرَاد، وَإِن كَانَ غير مَذْكُور. وَقَوله: {وَمَا نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا تخويفا} أَي: تحذيرا.

60

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْنَا لَك إِن رَبك أحَاط بِالنَّاسِ} قَالَ مُجَاهِد أَي هم فِي قَبضته. قَالَ الْحسن: حَال بَينهم وَبَين أَن يَقْتُلُوك أَو يكيدوك بِغَيْر الْقَتْل. فَهَذَا معنى الْإِحَاطَة.

{الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس والشجرة الملعونة فِي الْقُرْآن ونخوفهم فَمَا يزيدهم إِلَّا طغيانا كَبِيرا (60) } وَقَوله: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} الْأَكْثَرُونَ أَن هَذِه الرُّؤْيَا هِيَ لَيْلَة الْمِعْرَاج، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَالْحسن، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالضَّحَّاك، وَغَيرهم. فَإِن قَالَ قَائِل: لَيْلَة الْمِعْرَاج كَانَت رُؤْيَة عين لَا رُؤْيا نوم؟ وَالْجَوَاب: أَنه قد صَحَّ عَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: هِيَ رُؤْيا عين، أسرى بِالنَّبِيِّ تِلْكَ اللَّيْلَة. {والشجرة الملعونة} هِيَ شَجَرَة الزقوم. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل أَبُو المظفر مَنْصُور بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة قَالَ: أَنا أَبُو الْحسن بن فراس، قَالَ: أَنا أَبُو جَعْفَر الديبلي، قَالَ: أَنا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، ذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه. وَأما ذكر الرُّؤْيَا بِمَعْنى الرُّؤْيَة هَاهُنَا يجوز؛ لِأَنَّهُمَا أخذا من معنى وَاحِد. وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ لَهُ معراجان: مِعْرَاج رُؤْيَة، ومعراج رُؤْيا. وَأما معنى الْفِتْنَة على هَذَا القَوْل: أَن قوما من الَّذين آمنُوا ارْتَدُّوا حِين سمعُوا عَن النَّبِي هَذَا، وَفِي أصل الْآيَة قَول آخر: (وَهُوَ) أَن الرُّؤْيَا الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة هِيَ " أَن النَّبِي رأى فِي النّوم أَنه قد دخل مَكَّة، فاستعجل، وَسَار إِلَى مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة محرما بِالْعُمْرَةِ، وَذكر الصَّحَابَة أَنه رأى هَذِه الرُّؤْيَا، فَلَمَّا صد عَن مَكَّة حَتَّى احْتَاجَ إِلَى الرُّجُوع افْتتن بذلك قوم.

وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور، أَن عمر قَالَ لأبي بكر: أَلَيْسَ قد رأى أَنه يدْخل مَكَّة؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: هَل قَالَ: إِنَّه يدْخل الْعَام؟ قَالَ: لَا. قَالَ: سيدخلها. . الْخَبَر إِلَى آخِره. وَالْقَوْل الثَّالِث فِي الْآيَة: مَا حَكَاهُ الدمياطي فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " رأى النَّبِي فِي مَنَامه كَأَن أَوْلَاد الحكم بن أبي الْعَاصِ ينزون على منبره نزو القرود - وَفِي رِوَايَة (يتداولون منبره تداول الكرة) - فساءه ذَلِك، فَدَعَا أَبَا بكر وَعمر وأخبرهما بذلك، ثمَّ سمع أَن الحكم بن أبي الْعَاصِ يَحْكِي الرُّؤْيَا، فَلم يتهم أَبَا بكر، واتهم عمر فَدَعَاهُ، وَقَالَ لَهُ: لم أفشيت سري؟ فَقَالَ: وَالله مَا ذكرته لأحد؟ فَقَالَ رَسُول الله، كَيفَ وَالْحكم يَحْكِي هَذَا للنَّاس؟ ! فَقَالَ عمر: نَجْتَمِع ثَانِيًا حَتَّى أخْبرك من أفشاه. قَالَ: فجَاء هُوَ وَأَبُو بكر، وقعدا مَعَ الرَّسُول فِي ذَلِك الْموضع، وَجعلُوا يذكرُونَ هَذَا، ثمَّ إِن عمر خرج مبادرا، فَإِذا هُوَ بالحكم يستمع، فَذكر ذَلِك للنَّبِي، فطرده رَسُول الله من الْمَدِينَة، وَلم يأوه أَبُو بكر وَلَا عمر، وَمَا زَالَ طريدا إِلَى زمن عُثْمَان " الْقِصَّة إِلَى آخرهَا. هَذَا هُوَ الرُّؤْيَا الَّتِي ذكر فِي الْآيَة. وَقد رُوِيَ " أَن النَّبِي مَا روى مستجمعا [ضَاحِكا] مُنْذُ رأى هَذِه الرُّؤْيَا إِلَى أَن مَاتَ. وَأما الشَّجَرَة الملعونة فالأكثرون أَنَّهَا شَجَرَة الزقوم، فَإِن قيل: أَيْن لعنها فِي الْقُرْآن؟ وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد من الشَّجَرَة الملعونة، أَي: الملعون آكلها. وَقَالَ الزّجاج: الْعَرَب تَقول لكل طَعَام كريه: طَعَام مَلْعُون. فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي

{وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس قَالَ أأسجد لمن خلقت طينا (61) } أريناك) ، وَكَذَلِكَ مَا جعلنَا الشَّجَرَة الملعونة {فِي الْقُرْآن} إِلَّا فتْنَة للنَّاس. وَأما الْفِتْنَة فِي شَجَرَة الزقوم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن أَبَا جهل قَالَ: إِن النَّار تَأْكُل الشّجر، وَأَن مُحَمَّدًا يزْعم أَن النَّار تنْبت الشَّجَرَة. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن عبد الله بن الزبعري قَالَ: يَا قوم، إِن مُحَمَّدًا يخوفنا بالزقوم، وَمَا نَعْرِف الزقوم إِلَّا الزّبد وَالتَّمْر، فَقَالَ أَبُو جهل: يَا جَارِيَة، هَلُمِّي فزقمينا. وَالْقَوْل الثَّانِي: فِي شَجَرَة الزقوم أَنَّهَا شَجَرَة الكشوثا الَّتِي تلتوي على الشّجر فتجففه. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الشَّجَرَة الملعونة فِي الْقُرْآن أَوْلَاد الحكم بن أبي الْعَاصِ، وَهُوَ مَرْوَان وَبَنوهُ. ذكره سعيد بن الْمسيب، وَأنكر جمَاعَة من أهل التَّفْسِير هَذَا القَوْل، وَالله أعلم. وَقَوله: {ونخوفهم} أَي: نحذرهم {فَمَا يزيدهم} أَي: مَا يزيدهم التخويف {إِلَّا طغيانا كَبِيرا} أَي: تمردا وعتوا عَظِيما.

61

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} قد ذكرنَا معنى السُّجُود فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَاخْتِلَاف النَّاس فِيهِ. وَقَوله: {فسجوا إِلَّا إِبْلِيس قَالَ أأسجد لمن خلقت طينا} مَعْنَاهُ: لمن خلقته طينا. وَقَوله: {طينا} نصب على الْحَال أَي: فِي حَال طينته، وَفِي الْآيَة حذف، وَمَعْنَاهُ: أأسجد لمن خلقته من طين، وخلقتني من نَار، وللنار فضل على الطين، فَإِن النَّار تَأْكُل الطين. وَلم يعلم الْخَبيث أَن الْجَوَاهِر كلهَا من جنس وَاحِد؛ وَالْفضل لما فَضله الله تَعَالَى. وَفِي الطين من الْمَنَافِع مَا يقادم مَنَافِع النَّار، أَو يرقى عَلَيْهَا، وللطين من كرم الطَّبْع مَا لَيْسَ للنار.

{قَالَ أرأيتك هَذَا الَّذِي كرمت عَليّ لَئِن أخرتن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لأحتنكن ذُريَّته إِلَّا قَلِيلا (62) } وروى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: أَن الله بعث إِبْلِيس حَتَّى أَخذ من الأَرْض قَبْضَة من التُّرَاب، وَكَانَ فِيهَا المالح والعذب فخلق مِنْهَا آدم، فَمن خلقه من العذب كَانَ سعيدا وَإِن كَانَ من أبوين كَافِرين، وَمن خلقه من المالح كَانَ شقيا، وَإِن كَانَ من صلب (بني آدم) . قَالَ ابْن عَبَّاس فَقَوله: {أأسجد لمن خلقت طينا} أَي: أأخضع لمن خلقته من طين، وَأَنا جِئْت بِهِ؟ .

62

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أرأيتك هَذَا الَّذِي} قَوْله: " أَرَأَيْت " أَي: أَخْبرنِي، وَالْكَاف لتأكيد المخاطبة. وَقَوله تَعَالَى: {هَذَا الَّذِي كرمت عَليّ} أَي: كرمته عَليّ وفضلته. وَقَوله: {لَئِن أخرتن} أَي: أمهلتني {إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} فطمع الْخَبيث أَن ينطر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وينجو من الْمَوْت، فَأبى الله تَعَالَى ذَلِك عَلَيْهِ، على مَا قَالَ فِي سُورَة الْحجر: {فَإنَّك من المنظرين إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم} . وَقَوله: {لأحتنكن ذُريَّته} قَالُوا: لأستأصلنهم؛ يُقَال: احتنك الْجَرَاد الزَّرْع إِذا استأصله. وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ مَأْخُوذ من حنك الدَّابَّة إِذا شدّ فِي حنكها الْأَسْفَل حبلا (رسنا) يَسُوقهَا بِهِ. وَمَعْنَاهُ: لأسوقنهم إِلَى الْمعاصِي سوقا، ولأميلنهم إِلَيْهِ ميلًا، وَقيل: لأستولين عَلَيْهِم بالإعواء، وَقيل: لأضلنهم. وَقَوله: {ذُريَّته} أَوْلَاده {إِلَّا قَلِيلا} والقليل هم الَّذين قَالَ الله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} فَإِن قيل: كَيفَ عرف إِبْلِيس أَن

{قَالَ اذْهَبْ فَمن تبعك مِنْهُم فَإِن جَهَنَّم جزاؤكم جَزَاء موفورا (63) واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك وشاركهم فِي الْأَمْوَال} أَكثر ذُرِّيَّة آدم يتبعونه؟ قُلْنَا: الْجَواب من وَجْهَيْن: أَنه لما رأى انقياد آدم لوسوسته طمع فِي ذُريَّته. وَالثَّانِي: أَنه رأى ذَلِك فِي اللَّوْح مَكْتُوبًا، وَعرف كَمَا عرف الْمَلَائِكَة حِين قَالُوا: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء} .

63

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ اذْهَبْ فَمن تبعك مِنْهُم فَإِن جَهَنَّم جزاؤكم جَزَاء موفورا} أَي: موفرا وَمعنى موفرا أَي: مكملا وَقَالَ الشَّاعِر: (وَمن يَجْعَل الْمَعْرُوف من دون عرضه ... يفسره وَمن لَا يتق الشتم يشْتم)

64

قَوْله تَعَالَى: {واستفزز} قَالَ الْأَزْهَرِي مَعْنَاهُ: وادعوهم دُعَاء تستفزهم إِلَى إجابتك، أَي: فتستخفهم. وَقيل: استفزز بهم أَي: أسْرع بهم، وَقيل: احملهم على الإغواء. وَقَوله: {من اسْتَطَعْت مِنْهُم} بَينا معنى الِاسْتِطَاعَة، وَأنْشد الشَّاعِر فِي معنى الاستفزاز: (فَقلت لَهَا هِيَ فَلَا تستفزي ... ذَوَات الْعُيُون وَالْبَيَان المحصب) وَقَوله: {بصوتك} قَالَ مُجَاهِد: الْغناء وَاللَّهْو، وَقَالَ الْحسن: الدُّف والمزمار، وَقيل: كل صَوت يَدْعُو إِلَى غير طَاعَة الله، وَقيل: كل كَلَام يتَكَلَّم بِهِ فِي غير ذَات الله. وَقَوله: {وأجلب عَلَيْهِم} أَي: اجْمَعْ عَلَيْهِم مكائدك وحيلك، يُقَال: جلب على الْعَدو إِذا جمع عَلَيْهِم الْجَيْش. وَفِي الْمثل: " إِذا لم تغلب فأجلب " وَقيل مَعْنَاهُ: أجمع عَلَيْهِم جيشك وجندك. وَقَوله: {بخيلك ورجلك} كل رَاكب فِي مَعْصِيّة فَهُوَ من خيل إِبْلِيس، وكل ماشي فِي مَعْصِيَته فَهُوَ فِي رجل إِبْلِيس. وَالْخَيْل: الرَّاكِب، وَالرجل: المشاة، وَفِي الْخَبَر:

{وَالْأَوْلَاد وعدهم وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا (64) } " يَا خيل الله، ارْكَبِي ". وَقَوله: {وشاركهم فِي الْأَمْوَال} كل كسب من حرَام، وكل مَا أنْفق [فِي] مَعْصِيّة الله، فَهُوَ الَّذِي شَارك فِيهِ إِبْلِيس، وَقيل: مَا زين لَهُم من الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحام. وَقَوله: {وَالْأَوْلَاد} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: الموءودة. قَالَ مُجَاهِد: أَوْلَاد الزِّنَا، وَقَالَ غَيره: هُوَ تهويدهم وتنصيرهم وتمجيسهم. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى هُوَ: تسميتهم الْأَوْلَاد: عبد الْعُزَّى، وَعبد الدَّار، وَعبد منَاف، وَمَا أشبه ذَلِك. وَفِي بعض المسانيد عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا أَتَاهُ، وَقَالَ: إِن امْرَأَتي استيقظت، وَكَأن فِي فرجهَا شعلة نَار، قَالَ: ذَاك من وطىء الْجِنّ. قَالَ: فَمن أَوْلَادهم؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ المخنثون. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد: إِن الشَّيْطَان يقْعد على ذكر الرجل؛ فَإِذا لم يسم الله أصَاب امْرَأَته مَعَه، وَأنزل فِي فرجهَا كَمَا ينزل الرجل. وَرُوِيَ قَرِيبا من هَذَا عَن مُجَاهِد. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " إِن فِيكُم مغربين. قيل: وَمن المغربون؟ قَالَ: الَّذين شَارك فيهم الْجِنّ ". وَقَوله: {وعدهم} أَي: قل لَهُم: لَا جنَّة وَلَا نَار، وَقيل: قل لَهُم: أَن لَا بعث. وَقَوله: {وَمَا يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا} الْغرُور: تَزْيِين الْبَاطِل بِمَا يظنّ أَنه حق. وَفِي بعض التفاسير بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي: " أَن إِبْلِيس قَالَ: يَا رب، لعنتني، وأخرجتني من الْجنَّة لأجل آدم؛ فسلطني عَلَيْهِ وعَلى ذُريَّته، فَقَالَ الله تَعَالَى: أَنْت مسلط، فَقَالَ: إِنِّي لَا أستطيعه إِلَّا بك فزدني، فَقَالَ: {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم}

{إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان وَكفى بِرَبِّك وَكيلا (65) } إِلَى آخر الْآيَة. فَقَالَ آدم: يَا رب، أَنْت سلطت إِبْلِيس عَليّ وعَلى ذريتي، وَإِنِّي لَا أستطيعه إِلَّا بك فَمَالِي، فَقَالَ: لَا يُولد لَك ولد إِلَّا وكلت بِهِ من يَحْفَظُونَهُ، فَقَالَ: زِدْنِي، فَقَالَ: الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، والسيئة بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: التَّوْبَة معروضة مادام الرّوح فِي الْجَسَد، فَقَالَ: زِدْنِي، فَقَالَ: {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} الْآيَة ". وَفِي هَذَا الْخَبَر " أَن إِبْلِيس قَالَ: يَا رب، بعثت أَنْبيَاء، وأنزلت كتبا، فَمَا قرآني؟ قَالَ: الشّعْر. قَالَ: فَمَا كتابي؟ قَالَ: الوشم. قَالَ: فَمَا طَعَامي؟ قَالَ: كل طَعَام مَا لم يذكر عَلَيْهِ اسْم الله. قَالَ: فَمَا شرابي؟ قَالَ: كل مُسكر. قَالَ: فَمَا حبائلي؟ قَالَ: النِّسَاء. قَالَ: فَمَا آذَانِي؟ قَالَ المزمار. قَالَ: فَمَا بَيْتِي؟ قَالَ: الْحمام. قَالَ: فَمَا منتصبي؟ قَالَ: السُّوق ". وَالْخَبَر غَرِيب جدا، وَالله أعلم. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَأْمر الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَهُوَ يَقُول: {إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} وَالْجَوَاب: أَن هَذَا أَمر تهديد ووعيد، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} وكالرجل يَقُول لغيره: افْعَل مَا شِئْت فسترى، وَمثل هَذَا يكثر.

65

قَوْله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} قد بَينا، وَقد قيل إِن مَعْنَاهُ: لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان فِي أَن تحملهم على ذَنْب لَا أقبل تَوْبَتهمْ مِنْهُ. وَقَوله: {وَكفى بِرَبِّك وَكيلا} أَي: حَافِظًا، أَو من يُوكل إِلَيْهِ الْأَمر.

{ربكُم الَّذِي يزجي لكم الْفلك فِي الْبَحْر لتبتغوا من فَضله إِنَّه كَانَ بكم رحِيما (66) وَإِذا مسكم الضّر فِي الْبَحْر ضل من تدعون إِلَّا إِيَّاه فَلَمَّا نجاكم إِلَى الْبر أعرضتم وَكَانَ الْإِنْسَان كفورا (67) أفأمنتم أَن يخسف بكم جَانب الْبر أَو يُرْسل عَلَيْكُم}

66

قَوْله تَعَالَى: {ربكُم الَّذِي يزجي لكم الْفلك فِي الْبَحْر} أَي: يَسُوق ويسير، قَالَ الشَّاعِر: (يَا أَيهَا الرَّاكِب المزجى مطيته ... سَائل بني أَسد مَا هَذِه الصَّوْت) وَقَوله: {لكم الْفلك فِي الْبَحْر} أَي: السَّفِينَة فِي الْبَحْر. {ولتبتغوا من فَضله} أَي: لتطلبوا من رزقه. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ بكم رحِيما} ظَاهر.

67

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا مسكم الضّر فِي الْبَحْر} أَي: الشدَّة فِي الْبَحْر، وَإِنَّمَا خص الْبَحْر بِالذكر؛ لِأَن الْيَأْس عِنْد وُقُوع الشدَّة فِيهِ أغلب. وَقَوله: {ضل من تدعون إِلَّا إِيَّاه} أَي: بَطل وَسقط. وَقَوله: {من تدعون} أَي: من تَدعُونَهُ {إِلَّا إِيَّاه} أَي: إِلَّا الله، وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} . وَقَوله: {فَلَمَّا نجاكم إِلَى الْبر أعرضتم} يَعْنِي: عَن الْإِخْلَاص والالتجاء إِلَى الله. وَقَوله: {وَكَانَ الْإِنْسَان كفورا} أَي: كَافِرًا.

68

قَوْله تَعَالَى: {أفأمنتم أَن يخسف بكم جَانب الْبر} الْخَسْف بالشَّيْء: هُوَ تغييبه فِي الأَرْض، وَقيل: هُوَ ابتلاع الأَرْض إِيَّاه. وَقَوله {جَانب الْبر} أَي: طرفا من الْبر. وَقَوله: {أَو يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا} أَي: ريحًا ذَات حَصْبَاء، والحصباء الْحِجَارَة. مَعْنَاهُ: ريحًا ترمي بِالْحِجَارَةِ.

{حاصبا ثمَّ لَا تَجدوا لكم وَكيلا (68) أم أمنتم أَن يعيدكم فِيهِ تَارَة أُخْرَى فَيُرْسل عَلَيْكُم قاصفا من الرّيح فيغرقكم بِمَا كَفرْتُمْ ثمَّ لَا تَجدوا لكم علينا بِهِ تبيعا (69) وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر ورزقناهم من الطَّيِّبَات وفضلناهم} وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة الحاصب: الْبرد، وَقَالَ بَعضهم الحاصب: الثَّلج. قَالَ الفرزدق: (مُسْتَقْبلين شمال الرّيح بطردهم ... ذُو حاصب كنديف [الْقطن] منثور) وَقَوله: {ثمَّ لَا تَجدوا لكم وَكيلا} أَي: من تكلون أَمركُم إِلَيْهِ فينجيكم؟ .

69

قَوْله تَعَالَى: {أم أمنتم أَن يعيدكم فِيهِ تَارَة أُخْرَى} أَي: فِي الْبَحْر كرة أُخْرَى. وَقَوله: {فَيُرْسل عَلَيْكُم قاصفا من الرّيح} القاصف: هُوَ الرّيح الَّتِي تكسر كل شَيْء وصلت إِلَيْهِ. وَقَوله: {فيغرقكم بِمَا كَفرْتُمْ} أَي: بكفركم. وَقَوله: {ثمَّ لَا تَجدوا لكم علينا بِهِ تبيعا} أَي: ثائرا، وَهُوَ طَالب الثأر، هَكَذَا قَالَه الْفراء، وَقيل: من يتبعنا بالإنكار.

70

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كرمنا بني آدم} فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ أكلهم بِالْيَدِ، وَسَائِر الْحَيَوَانَات يَأْكُلُون بأفواههم، وَقيل: امتداد الْقَامَة وانتصابها، وَالدَّوَاب منكبة على وجوهها، وَقيل: بِالْعقلِ والتمييز، وَقيل: بِأَن سخر جَمِيع الْأَشْيَاء لَهُم، وَقيل: بِأَن جعل فيهم خير أمة أخرجت للنَّاس، وَقيل: بالخط والقلم. وَقَوله: {وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر} أَي: حملناهم فِي الْبر على الدَّوَابّ، وَفِي الْبَحْر على السفن. وَقَوله: {ورزقناهم من الطَّيِّبَات} الَّتِي رزقها الله تَعَالَى بني آدم فِي الدُّنْيَا مَعْلُومَة، وَقيل: الْحَلَال، وَقيل.

{على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْم نَدْعُو كل أنَاس بإمامهم} {وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا} قَالَ أَبُو النَّضر مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ: على كل الْخلق سوى طَائِفَة من الْمَلَائِكَة مِنْهُم جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وعزرائيل، وَفِي تَفْضِيل الْبشر على الْمَلَائِكَة أَو الْمَلَائِكَة على الْبشر كَلَام كثير لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. وَظَاهر الْآيَة أَنه فَضلهمْ على كثير من خلقه لَا على الْكل، وَيجوز أَن يذكر الْأَكْثَر، وَيُرَاد بِهِ الْكل، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْبشر أفضل من الْمَلَائِكَة على تَفْصِيل مَعْلُوم، وَهُوَ أَن عوام الْمُؤمنِينَ الأتقياء أفضل من عوام الْمَلَائِكَة، وخواص الْمُؤمنِينَ أفضل من خَواص الْمَلَائِكَة. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة} والبرية كل من خلق الله على الْعُمُوم.

71

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم نَدْعُو كل أنَاس بإمامهم} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: بِنَبِيِّهِمْ، وَالْآخر: بِكِتَابِهِمْ، وَالثَّالِث: بأعمالهم، وَعَن ابْن عَبَّاس: إِمَام هدى وَإِمَام ضَلَالَة، وَعَن سعيد بن الْمسيب: كل قوم يَجْتَمعُونَ إِلَى رئيسهم فِي الْخَيْر وَالشَّر. وَفِي الْخَبَر: يُنَادى يَوْم الْقِيَامَة: قومُوا يَا متبعي مُوسَى، يَا متبعي عِيسَى، يَا متبعي مُحَمَّد، يَا متبعي شَيْطَان، يَا متبعي كَذَا وَكَذَا. وَفِي جَامع [أبي] عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي هَذِه الْآيَة: " أَن النَّبِي قَالَ: يعْطى الْمُؤمن كِتَابه بِيَمِينِهِ، ويمد فِي جِسْمه سِتُّونَ ذِرَاعا، ويبيض وَجهه، وَيُوضَع على رَأسه تَاج من لُؤْلُؤ، فَيقبل إِلَى أَصْحَابه، وَيَقُول لَهُم: أَبْشِرُوا؛ فَلِكُل رجل مِنْكُم مثل هَذَا. وَأما الْكَافِر فَيعْطى كِتَابه بِشمَالِهِ، ويمد فِي جِسْمه سِتُّونَ ذِرَاعا، ويسود وَجهه، وَيُوضَع على رَأسه تَاج من نَار، فَيقبل (إِلَى) أَصْحَابه وَيَقُول لَهُم: أَبْشِرُوا؛ فَلِكُل رجل مِنْكُم مثل هَذَا ".

{فَمن أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَأُولَئِك يقرءُون كِتَابهمْ وَلَا يظْلمُونَ فتيلا (71) وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا (72) وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن} وَقَوله تَعَالَى: {فَمن أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَأُولَئِك يقرءُون كِتَابهمْ} وَالْكتاب: هُوَ صحيفَة الْحَسَنَات والسيئات. وَقَوله: {وَلَا يظْلمُونَ فتيلا} أَي: لَا ينقص من حَقهم بِقدر الفتيل. والفتيل: هُوَ الَّذِي فِي شقّ النواة، وَقيل: مَا فتل بَين الْأَصَابِع.

72

قَوْله تَعَالَى: {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا} لَيْسَ الْعَمى هَاهُنَا هُوَ عمى الْبَصَر؛ لِأَن النَّاس يحشرون بأتم خلق مصححة الأجساد لخلود الْأَبَد. وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي قَالَ: " تحشرون يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة غرلًا بهما " وَقَوله: بهما: أَي: مصححة الأجساد للخلود. فعلى هَذَا معنى قَوْله: {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى} أَي: أعمى الْقلب عَن رُؤْيَة [الْحق] {فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى} أَي: أَشد عمى. وَقيل مَعْنَاهُ: من كَانَ فِي هَذِه الدُّنْيَا بَعيدا عَن الْحق، فَهُوَ فِي الْآخِرَة أبعد، وَقيل: من كَانَ فِي هَذِه الدُّنْيَا أعمى من الِاعْتِبَار، فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى عَن الِاعْتِذَار. وَقَوله: {وأضل سَبِيلا} أَي: أَخطَأ طَرِيقا.

73

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} مَعْنَاهُ: ليصرفونك عَن الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك. وَسبب نزُول الْآيَة أَن الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: اطرد هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء عَنْك حَتَّى نجلس مَعَك ونسلم؛ فهم أَن يفعل ثمَّ يَدعُوهُم من بعد، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن سعيد بن جُبَير وَمُجاهد أَنَّهُمَا قَالَا: طلبُوا من النَّبِي أَن يمس آلِهَتهم حَتَّى يسلمُوا ويتبعوه، فَقَالَ النَّبِي فِي نَفسه: وَمَا عَليّ أَن أفعل ذَلِك إِذا علم الله مني أَنِّي كَارِه لَهُ، وَكَانَ ذَلِك خاطر قلب، وَلم يكن عزما - فَأنْزل

{الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك لتفتري علينا غَيره وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إِلَيْهِم شَيْئا قَلِيلا (74) } الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن أهل الطَّائِف لما جَاءُوا إِلَى النَّبِي ليسلموا، وَكَانَ استصعب عَلَيْهِ أَمرهم، وحاصرهم بضع عشرَة لَيْلَة، وَلم يفتح، فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا للنَّبِي: نسلم بِشَرْط أَن لَا نركع، وَأَن تَمَتعنَا بِاللات سنة من غير أَن نعبدها، وَذكروا غير هَذَا، فَقَالَ: " أما ترك الرُّكُوع فَلَا خير فِي دين لَا رُكُوع فِيهِ، وَأما اللات فَلَا أترك وثنا بَين الْمُسلمين؛ فراجعوه فِي أَمر اللات، وَقَالُوا: لتتحدث الْعَرَب زِيَادَة كرامتنا عَلَيْك، فَسكت النَّبِي، فطمع الْقَوْم عِنْد سُكُوته، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " وَهَذَا قَول مَعْرُوف. وَقَوله: {لتفتري علينا غَيره} أَي: تَقول علينا غير مَا أَنزَلْنَاهُ عَلَيْك. وَقَوله: {وَإِذا لاتخذوك خَلِيلًا} أَي: صاحبا ووديدا.

74

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن إلَيْهِنَّ شَيْئا قَلِيلا} معنى كَاد أَي: قرب، وكدت أَي: قربت من الْفِعْل. وَقَوله: {شَيْئا قَلِيلا} فِي مَوضِع الْمصدر كَأَنَّهُ قَالَ: لقد كدت تركن إِلَيْهِم ركونا. فَإِن قيل: النَّبِي كَانَ مَعْصُوما من الشّرك والكبائر، فَكيف يجوز أَن يقرب مِمَّا طلبوه مِنْهُ؛ وَالَّذِي طلبوه مِنْهُ كفر؟ الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنا نعتقد أَن الرَّسُول مَعْصُوم من الشّرك والكبائر، ونحمل على أَن مَا وجد مِنْهُ كَانَ هما من غير عزم، وَقد قَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى وضع عَن أمتِي مَا حدثت بِهِ نَفسهَا مَا لم تَتَكَلَّم بِهِ أَو تعْمل " وَفِي الْجُمْلَة الله

{إِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات ثمَّ لَا تَجِد لَك علينا نَصِيرًا (75) } أعلم بِرَسُولِهِ من غَيره، وَقد قَالَ قَتَادَة: لما وَقع هَذَا كَانَ رَسُول الله يَقُول بعد ذَلِك: " اللَّهُمَّ، لَا تَكِلنِي إِلَى نَفسِي طرفَة عين ". وَالْجَوَاب الثَّانِي: وَهُوَ أَنه قَالَ: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاك لقد كدت تركن} وَقد ثبته وَلم يركن، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته} إِلَى أَن قَالَ: {إِلَّا قَلِيلا} وَقد تفضل الله، ورحم، وَلم يتبعوا الشَّيْطَان.

75

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا لأذقناك ضعف الْحَيَاة وَضعف الْمَمَات} قَالَ ابْن عَبَّاس: ضعف عَذَاب الْحَيَاة، وَضعف عَذَاب الْمَمَات. وَقيل: ضعف عَذَاب الدُّنْيَا، وَضعف عَذَاب الْآخِرَة، وَقيل: إِن الضعْف بِمَعْنى الْعَذَاب، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لأذقناك عَذَاب الْحَيَاة وَعَذَاب الْمَمَات، وَإِنَّمَا سمي الْعَذَاب ضعفا لتضاعف الْأَلَم فِيهِ. فَإِن قيل: لم يُضَاعف الْعَذَاب لَهُ؟ قُلْنَا: لعلو مرتبته كَمَا يُضَاعف الثَّوَاب لَهُ عِنْد الطَّاعَة. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين} وَالْمعْنَى مَا بَينا. وَقَوله: {ثمَّ لَا تَجِد لَك علينا نَصِيرًا} أَي: لَا تَجِد من يمنعنا من عذابك.

76

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَادُوا ليستفزونك من الأَرْض ليخرجوك مِنْهَا} الاستفزاز: هُوَ الإزعاج بِسُرْعَة. وَاخْتلفُوا فِي معنى هَذِه الْآيَة، فَقَالَ بَعضهم: إِنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَسبب نُزُولهَا أَن يهود قُرَيْظَة وَالنضير وَبني قينقاع أَتَوا النَّبِي، وَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِم، قد علمت أَن بِلَاد الْأَنْبِيَاء هِيَ الشَّام وَهِي الأَرْض المقدسة، وَمَتى سَمِعت

{وَإِن كَادُوا ليستفزونك من الأَرْض ليخرجوك مِنْهَا وَإِذا لَا يلبثُونَ خِلافك إِلَّا قَلِيلا (76) سنة من قد أرسلنَا قبلك من رسلنَا وَلَا تَجِد لسنتنا تحويلا (77) } بِنَبِي من تهَامَة؟ ! فَاخْرُج مَعنا إِلَى الشَّام نؤمن بك وننصرك؛ فهم النَّبِي بِالْخرُوجِ مَعَهم، وَضرب بقبته على ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة ليخرج؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَالْأَرْض هَاهُنَا هِيَ الْمَدِينَة، وَهَذَا قَول مَعْرُوف. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْآيَة مَكِّيَّة، وَمعنى الأَرْض: أَرض مَكَّة، وَكَانَ الْمُشْركُونَ قد هموا أَن يخرجوه مِنْهَا أَو يقتلوه، فَأمره الله تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ، وَأَن يخرج بِنَفسِهِ. وَقيل: الأَرْض جَمِيع الأَرْض، والإخراج مِنْهَا هُوَ الْقَتْل. وَقَوله: {وَإِذا لَا يلبثُونَ خَلفك} وقرىء: " خِلافك " وَمَعْنَاهُ: بعْدك {إِلَّا قَلِيلا} وَمعنى الْقَلِيل على القَوْل الثَّانِي: مَا بَين خُرُوج رَسُول الله إِلَى أَن قتلوا ببدر، وعَلى القَوْل الأول مُدَّة الْحَيَاة.

77

قَوْله تَعَالَى: {سنة من قد أَرْسَلْنَاك قبلك من رسلنَا} الْآيَة. [انتصبت] السّنة؛ لِأَن مَعْنَاهُ: [هَذِه] السّنة كَسنة من قد أرسلنَا، ثمَّ حذفت الْكَاف فانتصبت السّنة، وَمعنى سنة الله هُوَ استئصال الْقَوْم بِالْهَلَاكِ إِذا أخرجُوا الرَّسُول أَو قَتَلُوهُ. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تَجِد لسنتنا تحويلا} أَي: تبديلا، وَقيل: لعادتنا، وَمَعْنَاهُ: مَا أجْرى الله تَعَالَى من الْعَادة فِي خلقه.

78

قَوْله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} اخْتلفُوا فِي الدلوك: قَالَ ابْن [مَسْعُود] : هُوَ الْغُرُوب، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الزَّوَال، وَقد حُكيَ عَنْهُمَا كلا الْقَوْلَيْنِ، وَكَذَلِكَ اخْتلف التابعون فِي هَذَا. وأصل الدلوك من الْميل، وَالشَّمْس تميل إِذا زَالَت أَو غربت، وَقيل: من الدَّلْك، وَالْإِنْسَان عِنْد الزَّوَال يدلك عَيْنَيْهِ لشدَّة ضوء

{أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس إِلَى غسق اللَّيْل وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا (78) } الشَّمْس، ويدلك عَيْنَيْهِ عِنْد الْغُرُوب، فَتبين الشَّمْس لمعْرِفَة جرمها. قَالَ الشَّاعِر: (مصابيح لَيست باللواتي تقودها ... نُجُوم وَلَا بالآفلات الدوالك) تَقول الْعَرَب: طَرِيق دوالك إِذا كَانَت ذَات شعب. وَأولى الْقَوْلَيْنِ أَن يحمل على الزَّوَال لِكَثْرَة الْقَائِلين بِهِ، فَإِن أَكثر التَّابِعين حملوه عَلَيْهِ، ولأنا إِذا حملنَا عَلَيْهِ تناولت الْآيَة جَمِيع الصَّلَوَات الْخمس، فَإِن قَوْله: {لدلوك الشَّمْس} يتَنَاوَل الظّهْر وَالْعصر. وَقَوله: {إِلَى غسق اللَّيْل} يتَنَاوَل الْمغرب وَالْعشَاء. وغسق اللَّيْل: ظُهُور ظلمته، وَقيل: اجْتِمَاع سوَاده. وقله: {وَقُرْآن الْفجْر} أَي: صَلَاة الْفجْر، وَاسْتدلَّ الْعلمَاء بِهَذَا على وجوب الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة حَيْثُ سمى الصَّلَاة قُرْآنًا. وَقَوله: {إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} أَي: تشهده مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار. وَمعنى تشهده: تحضره. وَقد صَحَّ بِرِوَايَة الْأَعْمَش رَحمَه الله عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " إِن قُرْآن الْفجْر - صَلَاة الْفجْر - تشهده مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار ". وَقيل معنى قَوْله: {مشهودا} أَي: أَمر النَّاس بشهودها ليصلوها جمَاعَة. وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول.

79

قَوْله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ} يُقَال: تهجد إِذا قَامَ بعد النّوم للصَّلَاة، وهجد إِذا نَام. قَالَ الْأَزْهَرِي: التَّهَجُّد: إِلْقَاء الهجور، وَهُوَ النّوم، وَعَن عَلْقَمَة وَالْأسود وَغَيرهمَا: أَنه لَا يكون التَّهَجُّد إِلَّا بعد النّوم. وَقَوله: {نَافِلَة لَك} أَي: زِيَادَة لَك، قيل: هِيَ زِيَادَة لكل أحد فَمَا معنى

{وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا (79) } تَخْصِيص النَّبِي بذلك؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ هِيَ تَكْفِير الذُّنُوب لغيره وَزِيَادَة لَهُ، لِأَن ذنُوبه مغفورة، وَقيل: نَافِلَة لَك أَي: فَرِيضَة عَلَيْك، وَقد كَانَ عَلَيْهِ الْقيام بِاللَّيْلِ فَرِيضَة، وَقيل: نَافِلَة لَك أَي: فَضِيلَة لَك، وَخص بِالذكر، ليَكُون لَهُ السَّبق فِي هَذِه الْفَضِيلَة؛ وليقتدي النَّاس بِهِ فِيهَا. وَقَوله: {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} أجمع الْمُفَسِّرُونَ أَن هَذَا مقَام الشَّفَاعَة، وَقد ثَبت هَذَا عَن النَّبِي. وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَرَأَ قَوْله: {عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا} قَالَ: " هُوَ الْمقَام الَّذِي أشفع فِيهِ لأمتي " وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " أَنا سيد الْأَنْبِيَاء إِذا بعثوا، وَأَنا وافدهم إِذا تكلمُوا، وَأَنا مبشرهم إِذا أبلسوا، وَأَنا إمَامهمْ إِذا سجدوا؛ أَقُول فليسمع، وأشفع فأشفع، وأسأل فَأعْطِي ". وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: يجلسه على الْعَرْش، وَعَن غَيره: يقعده على الْكُرْسِيّ بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم: يقيمه عَن يَمِين الْعَرْش. وَعَن حُذَيْفَة أَنه قَالَ: يجمع الله النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي صَعِيد وَاحِد يسمعهم الدَّاعِي، وَينْفذهُمْ الْبَصَر، وهم حُفَاة عُرَاة قيام، لَا يسمع مِنْهُم حس، فَيَقُول الله تَعَالَى: يَا مُحَمَّد، فَيَقُول: لبيْك وَسَعْديك وَالْخَيْر فِي يَديك، والمهتدى من هديت، تَبَارَكت وَتَعَالَيْت، لَا ملْجأ وَلَا منجا مِنْك إِلَّا إِلَيْك، وَأَنا عَبدك بَين يَديك. قَالَ: فَهَذَا

{وَقل رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق وَاجعَل لي من لَدُنْك سُلْطَانا نَصِيرًا (80) } هُوَ الْمقَام الْمَحْمُود. وَعَن بَعضهم أَن الْمقَام الْمَحْمُود: هُوَ لِوَاء الْحَمد الَّذِي يعْطى النَّبِي وَقد ثَبت عَن النَّبِي، أَنه قَالَ: " شَفَاعَتِي لأهل الْكَبَائِر من أمتِي ". وَقَالَ: " إِن لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة، وَإِنِّي ادخرت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة ". وَعنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ: " لَا أَزَال أشفع حَتَّى يسلم إِلَيّ صكاك بأسماء قوم وَجَبت لَهُم النَّار، وَحَتَّى يَقُول مَالك خَازِن النَّار: مَا تركت للنار فِي أمتك من نقمة ". وَالْأَخْبَار فِي الشَّفَاعَة كَثِيرَة، وَأول من أنكرها عَمْرو بن عبيد، وَهُوَ ضال مُبْتَدع بِإِجْمَاع أهل السّنة.

80

قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أدخلني الْمَدِينَة مدْخل صدق، وَأخرج من مَكَّة مخرج صدق، وَذكر الصدْق لمدح الْإِخْرَاج، كَقَوْلِه: {وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق} فالصدق لمدح الْقدَم، وَكَذَلِكَ قَوْله: {فِي مقْعد صدق} لمدح المقعد. وَإِنَّمَا مدح لما يؤول إِلَيْهِ الْخُرُوج وَالدُّخُول من النَّصْر والعز ودولة الدّين. وَالْقَوْل الثَّانِي: أخرجني من مَكَّة، وأدخلني مَكَّة، قَالَه الضَّحَّاك. وَالْقَوْل الثَّالِث: أدخلني فِي الدّين، وأخرجني من الدُّنْيَا، وَالْقَوْل الرَّابِع: أدخلني فِي الرسَالَة، وأخرجني من الدُّنْيَا، وَقد قُمْت بِمَا وَجب على من حَقّهَا. وَالْقَوْل الْخَامِس: أخرجني يَعْنِي من المناهي وأدخلني يَعْنِي فِي الْأَوَامِر. وَالْمَشْهُور هُوَ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. والمخرج بِمَعْنى الْإِخْرَاج، والمدخل بِمَعْنى الإدخال.

{وَقل جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا (81) } وَقَوله: {وَاجعَل لي من لَدُنْك سُلْطَانا نَصِيرًا} قَالَ مُجَاهِد: حجَّة بَيِّنَة، وَقَالَ غَيره: ملكا عَزِيزًا، وَالْملك الْعَزِيز: هُوَ الْمُؤَيد بِالْقُدْرَةِ وَالْحجّة.

81

قَوْله تَعَالَى: {وَقل جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل} قَالَ قَتَادَة: الْحق: الْقُرْآن، وَالْبَاطِل: الشَّيْطَان. وَقيل: الْحق: عبَادَة الله، وَالْبَاطِل: عبَادَة الْأَصْنَام. وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود: " أَن النَّبِي دخل مَكَّة، وحول الْكَعْبَة ثلثمِائة وَسِتُّونَ صنما، فَجعل يطعنها وَيَقُول: جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا " ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح، قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل الزَّاهِد أَبُو المظفر مَنْصُور بن مُحَمَّد السَّمْعَانِيّ: أخبرنَا بِهِ الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني قَالَ: أَنا جدي أبي الْهَيْثَم قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن يُوسُف الْفربرِي قَالَ: أخبرنَا البُخَارِيّ قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن [الْمَدِينِيّ] قَالَ: أَنا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن أبي معمر، عَن عبد الله بن مَسْعُود الْخَبَر ". وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي كَانَ يُشِير بِيَدِهِ إِلَى الصَّنَم فيستلقي الصَّنَم من غير أَن يمسهُ. وَقَوله: {إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا} أَي: ذَاهِبًا. يُقَال: زهقت نَفسه إِذا خرجت.

82

قَوْله تَعَالَى: {وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة} الْآيَة قيل: إِن " من " هَا هُنَا للتجنيس لَا للتَّبْعِيض. وَمَعْنَاهُ: وننزل الْقُرْآن الَّذِي مِنْهُ الشِّفَاء، وَقيل: وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة أَي: مَا كُله شِفَاء فَيكون المُرَاد من الْبَعْض هُوَ الْكل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: (أَو يعتلق بعض النُّفُوس حمامها ... )

{وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا (82) وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان أعرض ونأى بجانبه وَإِذا مَسّه الشَّرّ كَانَ يئوسا (83) } أَي: كل النُّفُوس، الْحمام: هُوَ الْمَوْت. وَأما المُرَاد من الشِّفَاء هُوَ الشِّفَاء من الْجَهْل بِالْعلمِ، وَمن الضَّلَالَة بِالْهدى، وَمن الشَّك بِالْيَقِينِ، وَقيل: المُرَاد من الشِّفَاء هُوَ الشِّفَاء من الْمَرَض بالتبرك بِهِ، وَقيل: إِن معنى الشِّفَاء هُوَ ظُهُور دَلِيل الرسَالَة مِنْهُ بالإعجاز وَعَجِيب النّظم والتأليف. وَقَوله: {وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين} أَي: هُوَ بركَة وَبَيَان وَهدى للْمُؤْمِنين. وَقَوله: {وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا} معنى زِيَادَة الخسار فِي الْقُرْآن للظالمين: مَا كَانَ يَتَجَدَّد مِنْهُم بالتكذيب عِنْد نُزُوله آيَة آيَة، فَذَلِك زِيَادَة الخسار وَالْكفْر.

83

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان} أَي: بِالصِّحَّةِ، وسعة الرزق، وَطيب الْحَيَاة، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {أعرض} أَي: تولى. وَقَوله: {ونأى بجانبه} أَي: تبَاعد بجانبه. وَقُرِئَ " وناء بجانبه " وَهَذَا يقرب مَعْنَاهُ من الأول. وَمعنى الْآيَة: هُوَ ظُهُور التضرع وَالْإِخْلَاص فِي الدُّعَاء والالتجاء إِلَى الله عِنْد المحنة والشدة، وَترك ذَلِك عِنْد النِّعْمَة وَالصِّحَّة. وَمعنى التباعد: هُوَ ترك التَّقَرُّب إِلَى الله، وَمَا كَانَ يظهره من ذَلِك عِنْد الضّر والشدة. وَقَوله: {وَإِذا مَسّه الشَّرّ كَانَ يؤسا} أَي: آيسا. وَمَعْنَاهُ أَنه يتَضَرَّع وَيَدْعُو عِنْد الضّر والشدة، فَإِذا خرت الْإِجَابَة يئس، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَن ييئس من إِجَابَة الله، وَإِن تَأَخَّرت الْإِجَابَة مُدَّة طَوِيلَة. وَعَن بعض التَّابِعين أَنه قَالَ: إِنِّي أَدْعُو الله بدعوة مُنْذُ عشْرين سنة وَلم يجبني إِلَيْهَا وَمَا آيست مِنْهَا. قيل: وَمَا تِلْكَ الدعْوَة؟ قَالَ: ترك مَا لَا يعنيني.

84

قَوْله تَعَالَى: {قل كل يعْمل على شاكلته} أَي: على جديلته وطبيعته، وَمَعْنَاهُ: مَا يشاكل خلقه. وصحف بَعضهم كل يعْمل على جديلته - وَهُوَ تَصْحِيف قريب من الْمَعْنى - والتصحيف فِي التَّفْسِير.

{قل كل يعْمل على شاكلته فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا (84) ويسألونك عَن} وَقَوله: {فربكم أعلم بِمن هُوَ أهْدى سَبِيلا} أَي: أوضح طَرِيقا، وَأبين مسلكا.

85

قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الرّوح} الْآيَة. روى عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: " كنت مَعَ رَسُول الله فِي حرث، وَهُوَ متوكئ على عسيب فَجَاءَهُ قوم من الْيَهُود، وسألوه عَن الرّوح فَوقف رَسُول الله ينظر إِلَى السَّمَاء فَعرفت أَنه يُوحى إِلَيْهِ، وتنحيت عَنهُ، ثمَّ قَالَ: {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} وَهَذَا خبر صَحِيح ". وَعَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة عَطاء " أَن قُريْشًا اجْتمعت وَقَالُوا: إِن مُحَمَّدًا نَشأ فِينَا بالأمانة والصدق، وَمَا أتهمناه بكذب، وَقد ادّعى مَا ادّعى، فَابْعَثُوا بِنَفر إِلَى الْيَهُود، واسألوهم عَنهُ، فبعثوا بِقوم إِلَى الْمَدِينَة؛ لِيَسْأَلُوا يهود الْمَدِينَة عَنهُ، فَذَهَبُوا وسألوهم، فَقَالُوا: سلوه عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِن أجَاب عَن اثْنَيْنِ، وَلم يجب عَن الثَّالِث، فَهُوَ نَبِي، وَإِن أجَاب عَن الثَّلَاث، أَو لم يجب عَن شَيْء من الثَّلَاثَة فَلَيْسَ بِنَبِي، سلوه عَن ذِي القرنين، وَعَن فتية فقدوا فِي الزَّمن الأول، وَعَن الرّوح، - وَأَرَادُوا بِالَّذِي لَا يُجيب عَنهُ الرّوح - فَرَجَعُوا وسألوا النَّبِي عَن ذَلِك، وَقد اجْتمعت قُرَيْش فَقَالَ: سأجيبكم غَدا. وَلم يقل: إِن شَاءَ الله، فتلبث الْوَحْي أَرْبَعِينَ يَوْمًا لما أَرَادَ الله تَعَالَى، ثمَّ إِنَّه نزل بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَنزل الْوَحْي بِقصَّة (أَصْحَاب) الْكَهْف وقصة ذِي القرنين، وَنزل بِالروحِ قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} . وَاخْتلفُوا فِي الرّوح على أقاويل: فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر {نزل بِهِ الرّوح الْأمين} . وَعنهُ أَنه قَالَ: خلق فِي السَّمَاء من

{الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} جنس بني آدم لَهُم أَيدي وأرجل لَيْسُوا من الْمَلَائِكَة. . وَذكره أَبُو صَالح أَيْضا، وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: الرّوح ملك ذُو سَبْعُونَ ألف وَجه، لكل وَجه سَبْعُونَ ألف لِسَان - وَفِي رِوَايَة سَبْعُونَ لِسَانا يسبح الله بألسنته كلهَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: إِن الرّوح هَا هُنَا: هُوَ الْقُرْآن. وَقيل: إِنَّه عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَمَعْنَاهُ أَنه لَيْسَ كَمَا قَالَ الْيَهُود وَلَا كَمَا قَالَ النَّصَارَى، وَلكنه روح الله وكلمته تكون بأَمْره. وَأَصَح الْأَقَاوِيل: أَن الرّوح هَا هُنَا هُوَ الرّوح الَّذِي يحيا بِهِ الْإِنْسَان، وَعَلِيهِ أَكثر الْمُفَسّرين. وَاخْتلفُوا فِيهِ: مِنْهُم من قَالَ: هُوَ الدَّم؛ أَلا ترى أَن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ لم يغب مِنْهُ إِلَّا الدَّم، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ تنفس الْإِنْسَان من الْهَوَاء؛ أَلا ترى أَن المخنوق يَمُوت لاحتباس النَّفس عَلَيْهِ، وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّه عرض، وَقَالَ بَعضهم: جسم لطيف يشبه الرّيح، يجْرِي فِي تجاويف الْإِنْسَان. وَاسْتدلَّ من قَالَ إِنَّه جسم [إِن] الله تَعَالَى قَالَ: {بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله} وَإِنَّمَا يتَصَوَّر رزق الْأَجْسَام لَا رزق الْأَعْرَاض وتدل عَلَيْهِ أَن النَّبِي قَالَ: " أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تعلف من ثَمَر الْجنَّة أَو تَأْكُل ". وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد بأَرْبعَة آلَاف سنة " وَهَذَا كُله دَلِيل على أَن الرّوح جسم وَلَيْسَ بِعرْض، وَهَذَا أولى الْقَوْلَيْنِ.

{وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا (85) } وَذكر بعض أهل الْمعَانِي: أَن الرّوح معنى اجْتمع فِيهِ النُّور وَالطّيب وَالْعلم والعلو والبقاء، أَلا ترى أَنه إِذا كَانَ مَوْجُودا رَأَتْ الْعين وَسمعت الْأذن، فَإِذا ذهب الرّوح فَاتَ السّمع وَالْبَصَر، وَإِذا كَانَ مَوْجُودا فالإنسان طيب فَإِذا خرج أنتن وَإِذا كَانَ مَوْجُودا فيوجد فِي الْإِنْسَان الْعلم بالأشياء، فَإِذا فَاتَ صَار جَاهِلا، وَكَذَلِكَ تُوجد فِيهِ الْحَيَاة فَإِذا فَاتَ صَار الْإِنْسَان مَيتا، وَيُوجد فِيهِ الْعُلُوّ واللطافة فَاتَ تسفل وكنف. وَأولى الْأَقَاوِيل فِي الرّوح أَن يُوكل علمه إِلَى الله. وَيُقَال: هُوَ معنى يحيا بِهِ الْإِنْسَان لَا يُعلمهُ إِلَّا الله. وَذكر الْقُرْآن أَن الله تَعَالَى لم يخبر أحدا بِمَعْنى الرّوح، وَلَا يُعلمهُ غَيره. وَعَن عبد الله بن بُرَيْدَة أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى لم يطلع على معنى الرّوح ملكا مقربا، وَلَا نَبيا مُرْسلا، وَخرج رَسُول الله من الدُّنْيَا، وَلم يعلم معنى الرّوح، وَالله أعلم. وَقَوله: {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} مَعْنَاهُ: من علم رَبِّي، وَقد قَالَ بَعضهم: إِن رَسُول الله علم معنى الرّوح إِلَّا أَنه لم يُخْبِرهُمْ بِهِ؛ لِأَن ترك إخبارهم بِهِ كَانَ علما على نبوته. وَأَيْضًا لم يُخْبِرهُمْ بِهِ؛ لِئَلَّا يكون إخْبَاره ذَرِيعَة إِلَى سُؤَالهمْ عَمَّا لَا يعنيهم. وَقَوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} يَعْنِي: فِي جنب علم الله، وَيُقَال: إِن هَذَا خطاب للْيَهُود على معنى أَنه قَالَ للنَّبِي: قل للْيَهُود. وَقيل: إِنَّه خطاب للرسول. وَقد رُوِيَ أَن الْيَهُود قَالُوا: قد أوتينا التَّوْرَاة، وفيهَا الْعلم الْكثير؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل لَو كَانَ الْبَحْر مدادا لكلمات رَبِّي} الْآيَة مَعْنَاهُ: أَن مَا أُوتِيتُمْ من الْعلم الَّذِي فِي التَّوْرَاة قَلِيل فِي جنب علم الله.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {كهيعص (1) ذكر رحمت رَبك عَبده زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى ربه نِدَاء خفِيا (3) } (تَفْسِير) سُورَة مَرْيَم مَكِّيَّة (و) قد روينَا عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " سُورَة بني إِسْرَائِيل والكهف وَمَرْيَم وطه من تلادي، وَفِي رِوَايَة: من الْعتاق الأول ".

مريم

وَقَوله تَعَالَى: {كهيعص} . رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: هَذَا اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَحكي عَنهُ أَنه قَالَ: (يَا الله يَا عين صَاد) ، اغْفِر لي. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: اسْم من أَسمَاء السُّورَة. وَأما ابْن عَبَّاس فالمروي عَنهُ: أَن كل حرف مَأْخُوذ من اسْم، فالكاف مَأْخُوذ من الْكَافِي، وَمِنْهُم من قَالَ: من كَبِير، وَمِنْهُم من قَالَ: من كريم، وَأما الْهَاء قَالَ ابْن عَبَّاس: مَأْخُوذ من الْهَادِي، وَأما الْيَاء مَأْخُوذ من حَلِيم، وَمِنْهُم من قَالَ: من يَمِين، وَمِنْهُم من قَالَ: من أَمِين، وَقَالَ بَعضهم: الْيَاء من يَاء النداء، وَأما الْعين فَقَالَ ابْن عَبَّاس: من عليم، وَعَن غَيره: من عَزِيز. وَأما الصَّادِق، قَالَ ابْن عَبَّاس: من الصادم. وَقد بَينا قبل هَذَا أقوالا فِي الْحُرُوف المهجاة فِي أَوَائِل السُّور.

2

وَقَوله: {ذكر رَحْمَة رَبك عَبده زَكَرِيَّا} يَعْنِي: هَذَا ذكر رَحْمَة رَبك عَبده زَكَرِيَّا، وَقَالَ بَعضهم: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير؛ يَعْنِي: هَذَا ذكر رَبك عَبده زَكَرِيَّا بِالرَّحْمَةِ.

3

وَقَوله: {إِذْ نَادَى ربه نِدَاء خفِيا} أَي: دَعَا ربه دُعَاء خفِيا. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " خير الدُّعَاء الْخَفي، وَخير الرزق مَا يَكْفِي ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا: " دَعْوَة السِّرّ

{قَالَ رب إِنِّي وَهن الْعظم مني واشتعل الرَّأْس شيبا وَلم أكن بدعائك رب شقيا (4) وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا فَهَب لي من لَدُنْك وليا (5) } تفضل دَعْوَة الْعَلَانِيَة بسبعين دَرَجَة ". فَإِن قيل: لم أخْفى؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَنه أفضل، وَالْآخر: لِأَنَّهُ استحيا من النَّاس أَن يَدْعُو جَهرا، فَيَقُولُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخ يسْأَل على كبره الْوَلَد! . وَيُقَال: إِنَّه أخْفى، لِأَنَّهُ دَعَا فِي جَوف اللَّيْل، وَهُوَ ساجد.

4

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي وَهن الْعظم مني} يَعْنِي: رق وَضعف من الْكبر. قَالَ قَتَادَة: اشْتَكَى سُقُوط الأضراس. قَوْله: {واشتعل الرَّأْس شيبا} أَي: شعر الرَّأْس. وَالْعرب تَقول إِذا كثر الشيب فِي الرَّأْس: اشتعل رَأسه، وَهَذَا أحسن اسْتِعَارَة، لِأَنَّهُ يشتعل فِيهِ كاشتعال النَّار فِي الْحَطب. وَقَوله: {وَلم أكن بدعائك رب شقيا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّك عودتني الْإِجَابَة، وَلم تخيبني، وَالْآخر: وَلم أكن بدعائك لي شقيا يَعْنِي: لما دعوتني إِلَى الْإِيمَان آمَنت، وَلم أشق بترك الْإِيمَان.

5

وَقَوله: {وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي} قَالَ أَبُو صَالح: المُرَاد مِنْهُ الْكَلَالَة. وَعَن أبي عُبَيْدَة: بَنو الْعم. وَقَوله: {ورائي} أَي بعدِي، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ورائي أَي: أَمَامِي. وَالْقَوْل الأول أصح. وَفِي الشاذ: " وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي " أَي: قلت. وَقَوله: {وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا} . العاقر: هِيَ الَّتِي لَا تَلد. وَقَوله: {فَهَب لي من لَدُنْك وليا} .

6

وَقَوله: {يَرِثنِي} أَي: ولدا يَرِثنِي. فَإِن

{يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا (6) } قيل: كَيفَ يخَاف نَبِي الله أَن يَرِثهُ بَنو الْعم والعصبة؟ وأيش معنى هَذَا الْخَوْف؟ ! وَعَن قَتَادَة قَالَ: أَي شَيْء كَانَ على نَبِي الله زَكَرِيَّا أَن يَرِثهُ غير وَلَده؟ وَالْجَوَاب: أَنه اخْتلف الْأَقْوَال فِي الْإِرْث: فَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه أَرَادَ بِهِ إِرْث المَال، وَهُوَ قَول جمَاعَة، وَعنهُ أَيْضا أَن المُرَاد مِنْهُ: إِرْث الْعلم، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ، وَفِيه قَول ثَالِث: أَنه مِيرَاث الحبورة، فَإِنَّهُ كَانَ رَأس الْأَحْبَار. قَالَ الزّجاج: وَالْأولَى أَن يحمل على مِيرَاث غير المَال؛ لِأَنَّهُ يبعد أَن يشفق زَكَرِيَّاء عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ نَبِي من الْأَنْبِيَاء - أَن يَرِثهُ بَنو عَمه وعصبته مَالا، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَانَ زَكَرِيَّا نجارا ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل: أخبرنَا بِهِ أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن النقور، قَالَ أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، قَالَ عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ، قَالَ هدبة بن خَالِد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي ... الْخَبَر. خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح، وَلم يُخرجهُ البُخَارِيّ؛ لِأَنَّهُ لَا يرْوى عَن حَمَّاد بن سَلمَة. وَالْمرَاد من الْخَوْف أَنه أَرَادَ أَن يكون وَارثه فِي النُّبُوَّة والحبورة وَلَده، وَقد قَالَ النَّبِي: " إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع [عمله] إِلَّا من ثَلَاثَة. . وَقَالَ فِيهَا: ولد صَالح يَدْعُو لَهُ ". وَقَوله: {وَيَرِث من آل يَعْقُوب} قيل: النُّبُوَّة، وَقيل: الْملك؛ لِأَن زَكَرِيَّا كَانَ من بَيت الْملك. وَقَوله: {واجعله رب رَضِيا} أَي: مرضيا.

{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا (7) قَالَ رب أَنى}

7

قَوْله تَعَالَى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك بِغُلَام} مَعْنَاهُ: قُلْنَا: زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك. وَقَوله: {بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} يَعْنِي: من تسمى باسمه. فَإِن قيل: وَأي فَضِيلَة لَهُ فِي هَذَا؟ قُلْنَا: فَضِيلَة التَّخْصِيص، وَقيل: فَضِيلَة تَسْمِيَة الله إِيَّاه بِهَذَا الِاسْم. وَفِي الْآيَة قَول آخر: هُوَ أَن قَوْله: {لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} أَي: شبها ومثلا؛ فَإِنَّهُ لم يُذنب، وَلم يهم بذنب، وَمَا من أحد إِلَّا وَقد أذْنب أَو هم بذنب. وَقد رُوِيَ هَذَا عَن النَّبِي فِي خبر مُسْند أَنه قَالَ: " مَا من أحد يَأْتِي الله يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا وَقد أذْنب أَو هم بذنب غير يحيى بن زَكَرِيَّا، ثمَّ أَخذ عودا صَغِيرا من الأَرْض وَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ إِلَّا مثل هَذَا " وَالْخَبَر غَرِيب.

{يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا وَقد بلغت من الْكبر عتيا (8) قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا (9) قَالَ رب اجْعَل لي آيَة قَالَ} وَقيل فِي منع الشُّبْهَة: أَنه لم تَلد عَاقِر من النِّسَاء مثله.

8

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب أَنى يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا وَقد بلغت من الْكبر عتيا} أَي: يأسا وجفوفا، كَأَنَّهُ شكى نحولة الْعظم والفحل. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " عسيا " بِالسِّين، وَالْمعْنَى وَاحِد. وَقيل: كَيفَ سَأَلَ الله الْوَلَد فَلَمَّا أُجِيب قَالَ: {أَنى يكون لي غُلَام} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه كَانَ قَالَ حَال الشَّبَاب، ثمَّ إِنَّه أُجِيب فِي حَال الْكبر. وَهَذَا قَول ضَعِيف. القَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: أَنى يكون لي غُلَام؟ يَعْنِي: كَيفَ يكون لي غُلَام؟ أفتردني إِلَى حَال الشَّبَاب أَو تهب لي الْغُلَام وَأَنا شيخ؟ وَقيل: إِنَّه سَأَلَ الْوَلَد مُطلقًا لَا من هَذِه الْمَرْأَة، فَقَالَ: كَيفَ يكون لي الْغُلَام؟ أَمن هَذِه الْمَرْأَة أَو من غَيرهَا؟

9

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين} أَي: يسير. وَقَوله: {وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا} قد بَينا.

10

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب اجْعَل لي آيَة} أَي: دلَالَة. فَإِن قيل: لم سَأَلَ الْآيَة؟ أما صدق الله تَعَالَى حَتَّى يسْأَل الْآيَة؟ . وَالْجَوَاب: أَن فِي الْقِصَّة: أَن الشَّيْطَان تمثل لَهُ، وَقَالَ: إِن الَّذِي يجبك لَيْسَ هُوَ الله، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان يستهزئ بك، فَحِينَئِذٍ سَأَلَ الله

{آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا (10) فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا بكرَة وعشيا (11) يَا يحيى} الْآيَة، وَقد سَأَلَ الْآيَة ليَكُون زِيَادَة فِي سُكُون الْقلب. وَقَوله: {قَالَ آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال سويا} أَي: مُتَتَابِعَات، وَقيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: أَلا يتَكَلَّم النَّاس سويا يَعْنِي: وَأَنت سوي لَا آفَة بك ثَلَاث لَيَال. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لم يقدر أَن يتَكَلَّم مَعَ النَّاس، وَكَانَ إِذا أَرَادَ التَّسْبِيح وَذكر الله يُطلق لِسَانه.

11

قَوْله تَعَالَى: {فَخرج على قومه من الْمِحْرَاب} قد بَينا معنى الْمِحْرَاب. وَقَوله: {فَأوحى إِلَيْهِم} أَي: أَوْمَأ إِلَيْهِم {أَن سبحوا بكرَة وعشيا} وَرُوِيَ أَنه كَانَ يَدُور على الْأَحْبَار كل يَوْم بكرَة وعشيا، وَيَأْمُرهُمْ بِالْعبَادَة وَالصَّلَاة، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِه الْأَيَّام جعل يُشِير، وَيُقَال: إِنَّه كتب حَتَّى قرءوا مِنْهُ. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِن أَخذ لِسَانه عَن الْكَلَام كَانَ عُقُوبَة عَلَيْهِ لما سَأَلَ الله تَعَالَى عَن الْآيَة بعد أَن سمع وعد الله إِيَّاه، وَالله أعلم.

12

قَوْله تَعَالَى: {يَا يحيى} قيل: يحيى مَأْخُوذ من قَوْله: (يَا) حَيّ ". وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره: أَن " سارة " كَانَ اسْمهَا " يسارة " فسماها جِبْرِيل " سارة "، فَقَالَت: لم نقصت من اسْمِي حرفا؟ فَقَالَ: هُوَ لولد لَك يَأْتِي من بعْدك، وَكَانَ اسْم يحيى: " حَيّ " فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ على معنى أَنه حَيّ من كبيرين أيسا من الْوَلَد، ثمَّ زيد فِيهِ الْيَاء فَصَارَ " يحيى ". وَفِي الْآيَة حذف، وَمَعْنَاهُ: وهبنا لَهُ الْوَلَد ثمَّ قُلْنَا: يَا يحيى.

{خُذ الْكتاب بِقُوَّة وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا (12) وَحَنَانًا من لدنا وَزَكَاة وَكَانَ تقيا (13) وَبرا بِوَالِديهِ وَلم يكن جبارا عصيا (14) وَسَلام عَلَيْهِ يَوْم ولد وَيَوْم يَمُوت وَيَوْم يبْعَث} وَقَوله: {خُذ الْكتاب بِقُوَّة} أَي: بجد واجتهاد. وَقَوله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} أَي النُّبُوَّة. هَذَا قَول أَكثر الْمُفَسّرين، وَقَالَ قَتَادَة: أعْطى النُّبُوَّة وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِنِين. وَقيل: المُرَاد من الحكم هُوَ الْعلم، فَقَرَأَ التَّوْرَاة، وَهُوَ صَغِير. وَعَن بعض السّلف قَالَ: من قَرَأَ الْقُرْآن قبل أَن يبلغ، فَهُوَ مِمَّن أُوتِيَ الحكم صَبيا. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث رَوَاهُ أَبُو وَائِل: وَهُوَ أَن يحيى قيل لَهُ وَهُوَ صَغِير: تعال نلعب، فَقَالَ: مَا للعب خلقت ". فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} .

13

قَوْله تَعَالَى: {وَحَنَانًا من لدنا} أَي: رَحْمَة من عندنَا، قَالَ الشَّاعِر: (أَبَا مُنْذر (أفنيت فَاسْتَبق بَعْضنَا) حنانيك بعض الشَّرّ أَهْون من بعض) هُوَ مَأْخُوذ من التحنن وَهُوَ التعطف. وَقَوله: " وَزَكَاة " أَي " طَهَارَة وتوفيقا، وَقيل: إخلاصا. وَقَوله: {وَكَانَ تقيا} . وَصفه بالتقوى؛ لِأَنَّهُ لم يُذنب، وَلم يهم بذنب.

14

وَقَوله: {وَبرا بِوَالِديهِ} أَي: عطوفا. وَقَوله: {وَلم يكن جبارا عصيا} الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يقتل على

15

وَقَوله تَعَالَى: {وَسَلام عَلَيْهِ يَوْم ولد وَيَوْم يَمُوت وَيَوْم يبْعَث حَيا} خص هَذِه الْأَحْوَال بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، لِأَن هَذِه الْأَحْوَال أوحش شَيْء فَإِنَّهُ عِنْد الْولادَة يخرج من بطن

{حَيا (15) وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم إِذْ انتبذت من أَهلهَا مَكَانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حِجَابا فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا فتمثل لَهَا بشرا سويا (17) قَالَت إِنِّي أعوذ} الْأُم على وَحْشَة شَدِيدَة، وَيَمُوت على وَحْشَة شَدِيدَة، وَيبْعَث على وَحْشَة شَدِيدَة. وَمعنى السَّلَام هُوَ: الْأمان فِي هَذِه الْمَوَاضِع.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم إِذا انتبذت من أَهلهَا} أَي: تنحت واعتزلت. وَقَوله: {من أَهلهَا} أَي: من قَومهَا. وَقَوله: {مَكَانا شرقيا} أَي: من جَانب الْمشرق، وَيُقَال: كَانَ يَوْمًا شاتيا شَدِيد الْبرد، فَذَهَبت إِلَى مشرقه تفلي رَأسهَا. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَت طهرت من الْحيض فَذَهَبت لتغتسل.

17

قَوْله تَعَالَى: {فاتخذت من دونهم حِجَابا} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا الْحجاب: أحد الْأَقْوَال: أَنه وَرَاء جِدَار، وَقيل: وَرَاء جبل، وَالْقَوْل الثَّالِث: وَرَاء ستر. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَت تجردت لتغتسل. وَقَوله: {فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا رُوحنَا} الْأَكْثَرُونَ على أَنه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِيه قَول آخر: أَن المُرَاد من الرّوح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، جَاءَ فِي صُورَة بشر، وحملت بِهِ، وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول. قَوْله تَعَالَى: {فتمثل لَهَا بشرا سويا} فِي الْقِصَّة: أَنه جِبْرِيل جَاءَ فِي صُورَة غُلَام أَمْرَد وضىء الْوَجْه، (لَهُ) جعد قطط.

18

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت إِنِّي أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا} يَعْنِي: أستجير بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا. فَإِن قيل: إِنَّمَا يستعاذ بالرحمن من الشَّخْص إِذا كَانَ فَاجِرًا، فَأَما إِذا كَانَ متقيا لَا يكون مَحل الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ متقي لَا يقدم على الْفُجُور، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن هَذَا كَقَوْل الْقَائِل: إِن كنت مُؤمنا فَلَا تظلمني، يَعْنِي أَنه يَنْبَغِي أَن

{بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك غُلَاما زكيا (19) قَالَت أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر وَلم أك بغيا (20) قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين ولنجعله آيَة للنَّاس وَرَحْمَة منا وَكَانَ أمرا مقضيا (21) فَحَملته فانتبذت بِهِ} يكون إيمانك مَانِعا من الظُّلم. كَذَلِك هَاهُنَا مَعْنَاهُ: يَنْبَغِي أَن يكون تقواك مَانِعا من الْفُجُور وَقيل: إِنَّهَا شكت فِي حَاله، فَقَالَت مَا قَالَت على الشَّك، وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن كنت متقيا يَعْنِي: مَا كنت متقيا جِئْت دخلت عَليّ فِي هَذِه الْحَالة، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {قل إِن كَانَ للرحمن ولد} أَي: مَا كَانَ للرحمن ولد. وَعَن بعض السّلف أَنه قَالَ: إِن كنت متقيا علمت أَن التقى ذُو نهية أَي: ذُو عقل؟ فَلهَذَا قَالَت: إِن كنت تقيا.

19

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا أَنا رَسُول رَبك لأهب لَك} . وقرىء: " ليهب لَك " فَقَوله: {لأهب} أضَاف إِلَى نَفسه، لِأَنَّهُ أرسل بالموهوب على يَده، وَقَوله: " ليهب " أَي: ليهب الله لَك. وَقَوله: {غُلَاما زكيا} أَي: طَاهِرا صَالحا.

20

قَوْله: {قَالَت أَنى يكون لي غُلَام وَلم يمسسني بشر} أَي: زوج. {وَلم أك بغيا} أَي: زَانِيَة وَمَعْنَاهُ: إِن الْوَلَد يكون من نِكَاح أَو سفاح، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَاحِد مِنْهُمَا.

21

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ عَليّ هَين} أَي: يسير. وَقَوله: {ولنجعله آيَة للنَّاس} أَي: عَلامَة للنَّاس وَدلَالَة. قَوْله: {وَرَحْمَة منا} أَي: ونعمة منا. وَقَوله: {وَكَانَ أمرا مقضيا} أَي: مَحْكُومًا [محتما] لَا يرد وَلَا يُبدل.

22

قَوْله تَعَالَى: {فَحَملته} فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نفخ فِي جيب درعها، وَفِي رِوَايَة: فِي كم قميصها، وَفِي رِوَايَة: فِي فِيهَا، فَحملت بِعِيسَى فِي الْحَال، وَأخذ يَتَحَرَّك فِي الْبَطن.

{مَكَانا قصيا (22) فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت} وَقَوله: {فانتبذت} أَي: فتنحت وَتَبَاعَدَتْ {بِهِ مَكَانا قصيا} أَي: شاسعا بَعيدا. قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الْحمل والولادة فِي سَاعَة وَاحِدَة. وَقَالَ غَيره: حملت بِهِ ثَمَانِيَة أشهر، وَولدت لَهَا، وَلَا يعِيش ولد فِي الْعَالم يود لثمانية أشهر، وَكَانَ هَذَا معْجزَة لعيسى. وَفِي الْقِصَّة عَن مَرْيَم أَنَّهَا قَالَت: كنت إِذا خلوت جعل عِيسَى يحدثني، وَأَنا أحدثه وَهُوَ فِي بَطْني، وَإِذا كنت مَعَ النَّاس، وتكلمت مَعَهم أَخذ يسبح وأسمع تسبيحه.

23

قَوْله تَعَالَى: {فأجاءها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة} وَقَالَ أهل اللُّغَة: جاءها وأجاءها بِمَعْنى وَاحِد، كَمَا يُقَال: أذهبته وَذَهَبت بِهِ. قَالَ مُجَاهِد: فأجاءها أَي: فألجأها. وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " فأداها الْمَخَاض إِلَى جذع النَّخْلَة ". وَفِي بعض الْقِرَاءَة: " فاجأها " من المفاجئة، قَالَ الشَّاعِر: (وجار سَار مُعْتَمدًا عَلَيْكُم ... فاجاءته المخافة والرجاء) والمخاض: وجع الْولادَة. فَإِن قَالَ قَائِل: لم التجأت إِلَى جذع النَّخْلَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: لتستظل بهَا، وَالأَصَح أَنَّهَا التجأت إِلَى النَّخْلَة، لتستند إِلَيْهَا، أَو لتتمسك بهَا، فتستعين بذلك على وجع الْولادَة. وَالدَّلِيل على أَن هَذَا القَوْل أصح، أَو أَنه من الْمَشْهُور أَن النَّخْلَة كَانَت يابسة لَا رَأس لَهَا، وَقيل: كَانَت نخرة مجوفة، وَمثل هَذَا لَا يستظل بهَا وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الثَّانِي. وَعَن السّديّ أَنه قَالَ: كَانَت النَّخْلَة يابسة، فَلَمَّا هزت النَّخْلَة حييت، وأورقت وأطلعت ثمَّ صَار الطّلع بلحا، ثمَّ زهوا ثمَّ أرطبت، وتساقطت عَلَيْهَا. وَقَوله تَعَالَى: {قَالَت يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسيا منسيا}

{نسيا منسيا (23) فناداها من تحتهَا أَلا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سريا (24) وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنيا (25) فكلي واشربي وقري عنيا فإمَّا تَرين} النسي فِي اللُّغَة: كمل مَا (إِذا) ألقِي لم يذكر وَنسي؛ لحقارته وخساسته. وَقَوله: {نسيا} أَي: متروكا. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَعْنَاهُ: يَا لَيْتَني لم أخلق، وَلم أك شَيْئا. وَعَن قَتَادَة: لم أعرف وَلم أذكر. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: دم حَيْضَة ملقاة. فَإِن قيل: لم تمنت الْمَوْت؟ . وَالْجَوَاب: أَنَّهَا تمنت الْمَوْت استحياء من قَومهَا. وَيُقَال: إِنَّهَا تمنت الْمَوْت، لِأَنَّهَا علمت أَن النَّاس يكفرون بِسَبَب ابْنهَا وبسببها، فتمنت الْمَوْت حَتَّى لَا يعْصى الله بِسَبَبِهَا وبسبب ابْنهَا.

24

قَوْله تَعَالَى: {فناداها من تحتهَا} قرىء: " من " بِالْفَتْح وَالْكَسْر، فَأَما من قَرَأَ بِالْفَتْح فَحمل الْآيَة على أَن الْمُنَادِي كَانَ جِبْرِيل. وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَجَمَاعَة، وَأما من قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَحمل على أَن الْمُنَادِي هُوَ عِيسَى. وَهَذَا قَول الْحسن وَمُجاهد، وَأظْهر الْقَوْلَيْنِ أَن الْمُنَادِي هُوَ جِبْرِيل، وَيجوز أَن تحمل القراءتان على ذَلِك. وَفِي الْقِصَّة: أَن مَرْيَم كَانَت على أكمة، فَكَانَ جِبْرِيل وَرَاء الأكمة تحتهَا. وَقَوله: {أَلا تحزني} . أَلا تغتمي بِالْولادَةِ من غير زوج وبالوحدة. وَقَوله: {قد جعل رَبك تَحْتك سريا} أَكثر الْمُفَسّرين أَن السّري هَاهُنَا هُوَ: النَّهر، وَيُسمى سريا؛ لِأَنَّهُ يسري فِيهِ المَاء، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هُوَ نهر صَغِير. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ هُنَاكَ نهر يَابِس فَأجرى الله تَعَالَى فِيهِ المَاء، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى: {فكلي واشربي} أَي: كلي من الرطب، واشربي من النَّهر، وَقَالَ الشَّاعِر فِي السّري بِمَعْنى النَّهر: (سهل الْخَلِيفَة ماجد ذِي نائل ... مثل السّري عدَّة الْأَنْهَار) وَفِي السّري قَول آخر، وَهُوَ أَنه بِمَعْنى: الشريف، وَالْمرَاد بِهِ. عِيسَى. قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين:

{من الْبشر أحدا فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا (26) فَأَتَت بِهِ} (إِن السّري إِذا سرى بِنَفسِهِ ... وَابْن السّري إِذا سرى أسراهما)

25

قَوْله تَعَالَى: {وهزي إِلَيْك بجذع الْخلَّة} قد بَينا هَذَا من قبل، وَذكرنَا أَنَّهَا هزت وأورقت وأثمرت. وَقَوله: {تساقط عَلَيْك رطبا} أَي: تتساقط، فأدغمت إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى. والجني: هُوَ الَّذِي بلغ الْغَايَة، وَجَاء أَوَان اجتنائه. قَالَ الْكَلْبِيّ: رطبا بغباره. وَعَن ابْن الْمسيب بن دارم قَالَ: كَانَ برنيا، وَهِي أشْبع التَّمْر. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب قَالَ: كَانَ عَجْوَة.

26

قَوْله تَعَالَى: {فكلي واشربي} أَي: كل من الرطب، واشربي من النَّهر. وَقَوله: {وقري عينا} أَي: طيبي نفسا. وَمِنْه قَوْلهم: أقرّ الله عَيْنك، وَقيل: [أَن] الْعين إِذا بَكت من السرُور بالدمع يكون بَارِدًا، وَإِذا بَكت من الْحزن يكون حارا، فَمن هَذَا: أقرّ الله عَيْنك، وأسخن الله عينه. وَقَوله: {فإمَّا تَرين} مَعْنَاهُ: فإمَّا تَرين، وَذكر النُّون للتَّأْكِيد. وَقَوله: {من الْبشر أحدا} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما} قرىء فِي الشاذ: " صمتا ". وَالْمَعْرُوف: " صوما " وَمَعْنَاهُ هُوَ: صمت، وَيُقَال: إِنَّهَا صَامت عَن الْكَلَام وَالطَّعَام جَمِيعًا، وَقيل: كَانَ الرجل من بني إِسْرَائِيل إِذا اجْتهد فِي الْعِبَادَة صَامَ عَن الْكَلَام وَالطَّعَام جَمِيعًا. وَالنّذر عقد على الْبر لَو تمّ أَمر. وَقَوله: {فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا} أَي: أحدا. فَإِن قيل: هِيَ تَكَلَّمت بِهَذَا، فَكيف تكون صَائِمَة عَن الْكَلَام؟ قُلْنَا: أذن لَهَا فِي هَذَا الْقدر من الْكَلَام.

{قَومهَا تحمله قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فريا (27) يَا أُخْت هَارُون مَا كَانَ أَبوك امْرأ}

27

قَوْله تَعَالَى: {فَأَتَت بِهِ قَومهَا تحمله} فِي الْقِصَّة أَنَّهَا ولدت ثمَّ (حَملته) فِي الْحِين إِلَى قَومهَا، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنَّهَا حَملته إِلَى قَومهَا بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا من وِلَادَتهَا. وَقَوله: {قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فريا} قَالَ مُجَاهِد: عَظِيما مُنْكرا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عجبا. وَقيل: مختلقا مفتعلا. وَقد رُوِيَ أَنَّهَا لما أَتَت بِعِيسَى إِلَى قَومهَا وَأهل بَيتهَا حزنوا حزنا شَدِيدا - وَكَانُوا أهل بَيت صالحين - وظنوا بهَا الظنون.

28

قَوْله تَعَالَى: {يَا أُخْت هَارُون} يَا شَبيهَة هَارُون. قَالَ قَتَادَة: وَكَانَ هَارُون رجلا عابدا فِي بني إِسْرَائِيل، وَلَيْسَ هُوَ هَارُون أَخُو مُوسَى، فشبهوها بِهِ على معنى أَنا ظننا وحسبنا (أَنَّك فِي) الصّلاح مثل هَارُون، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين} أَي: أشباه الشَّيَاطِين. وَعَن كَعْب: أَن هَارُون كَانَ من أعبد بني إِسْرَائِيل وأمثلهم، قَالَ: وَلما توفّي صلى على جنَازَته أَرْبَعُونَ ألفا، كلهم يسمون هَارُون سوى سَائِر النَّاس، وَكَانُوا يسمون أَوْلَادهم باسمه لحبهم إِيَّاه. وروى الْمُغيرَة بن شُعْبَة " أَن النَّبِي لما (بَعثه) إِلَى نَجْرَان قَالَ لَهُ نَصَارَى نَجْرَان: إِنَّكُم تقرءون: يَا أُخْت هَارُون! بَين مَرْيَم وَهَارُون كَذَا وَكَذَا من السنين، فَلم يدر الْمُغيرَة كَيفَ يُجيب، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى النَّبِي ذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: أَلا قلت لَهُم: كَانُوا يسمون باسم أَنْبِيَائهمْ وصالحيهم ". رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن المُرَاد بهَارُون: أَخُو مُوسَى، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل:

{سوء وَمَا كَانَت أمك بغيا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} أَخا تَمِيم، أَو يَا أَخا ثَعْلَب، إِذا كَانَ من أَوْلَاده، وَقد كَانَت مَرْيَم من أَوْلَاد هَارُون. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن هَارُون كَانَ رجلا فَاسِقًا فِي بني إِسْرَائِيل عَظِيم الْفسق، فشبهوها بِهِ. وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: أَن هَارُون كَانَ أَخا مَرْيَم لأَبِيهَا، فعلى هَذَا المُرَاد من الْأُخوة فِي النّسَب. وَقَوله: {مَا كَانَ أَبوك امْرأ سوء وَمَا كَانَت أمك بغيا} أَي: زَانِيَة. وَمَعْنَاهُ: كَيفَ جِئْت مفْسدَة زَانِيَة من أبوين صالحين؟

29

قَوْله تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} مَعْنَاهُ: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَي: كَلمُوهُ. قَالَ ابْن مَسْعُود: لما لم يكن لَهَا حجَّة أشارت إِلَيْهِ؛ لتبرىء ساحتها، وَيكون كَلَامه حجَّة (لَهَا) . وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا لما أشارت إِلَيْهِ غضب الْقَوْم، وَقَالُوا: مَعَ مَا فعلت تهزئين وتسخرين بِنَا. وَقَوله تَعَالَى: {قَالُوا كَيفَ نُكَلِّم من كَانَ فِي المهد صَبيا} فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله: {كَانَ فِي المهد صَبيا} ، وَمَا من رجل من الْعَالم إِلَّا كَانَ فِي المهد صَبيا؟ ! وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانَ صلَة، وَمعنى الْآيَة: كَيفَ نُكَلِّم صَبيا فِي المهد؟ . وَقَالَ الزّجاج: هَذَا على طَرِيق الشَّرْط، أَي: من هُوَ صبي فِي المهد كَيفَ نكلمه؟ . وَمعنى " كَانَ ": هُوَ، أَو معنى " كَانَ ": صَار، وَهَذَا اخْتِيَار [ابْن] الْأَنْبَارِي.

30

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي عبد الله} فِي التَّفْسِير: أَن مَرْيَم لما أشارت إِلَيْهِ فَكَانَ يرتضع من ثديها فَترك الثدي، وَأَقْبل على (الْقَوْم، واتكأ على) يسَاره، وَجعل يُشِير بِيَمِينِهِ، وَقَالَ هَذَا القَوْل. وَقَوله: {إِنِّي عبد الله} أقرّ بالعبودية أَولا؛ لِئَلَّا يتَّخذ إِلَهًا.

( {29) قَالَ إِنِّي عبد الله آتَانِي الْكتاب وَجَعَلَنِي نَبيا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْن مَا كنت وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة مَا دمت حَيا (31) وَبرا بوالدتي وَلم يَجْعَلنِي جبارا شقيا} وَقَوله: {آتَانِي الْكتاب} . أَي: الْإِنْجِيل. وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه أُوتِيَ الْإِنْجِيل وَهُوَ صَغِير طِفْل؛ إِلَّا أَنهم قَالُوا: كَانَ يعقل عقل الرِّجَال. هَذَا قَول الْحسن وَغَيره من السّلف، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: جعل نَبيا، وأوتي الْإِنْجِيل، وَهُوَ فِي بطن أمه. وَقَالَ بَعضهم: {آتَانِي الْكتاب} أَي: سيؤتيني الْكتاب، ويجعلني نَبيا إِذا صرت رجلا. وَالصَّحِيح هُوَ الأول. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت على وصف آدم فِي الْعقل وَالْعلم دون الْقَامَة والجثة. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: أسلمته أمه إِلَى الْمعلم، فَقَالَ الْمعلم: قل بِسم. فَقَالَ: الله. فَقَالَ: قل: الرَّحْمَن. قَالَ: الرَّحِيم. فَجعل كلما ذكر اسْما ذكر هُوَ الَّذِي يَلِيهِ، فَقَالَ الْمعلم: هَذَا أعلم مني، ثمَّ جعل يخبر الصّبيان بِمَا خبأت أمهاتهم فِي الْبيُوت، فَجعل الصّبيان يرجعُونَ إِلَى بُيُوتهم ويأخذونها، فضجت الْأُمَّهَات من ذَلِك.

31

فَقَوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} أَي: نَفَّاعًا معلما للخير، وَقَالَ الضَّحَّاك: قَضَاء للحوائج. وَقَالَ الثَّوْريّ: آمرا بِالْمَعْرُوفِ وناهيا عَن الْمُنكر. وَقَوله: {أَيْنَمَا كنت} أَي: حَيْثُ كنت. وَقَوله: {وأوصاني بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة} أَي: أَمرنِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة. فَإِن قيل: لم يكن لعيسى مَال، فَكيف يُؤمر بِالزَّكَاةِ؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ أَمرنِي بِالزَّكَاةِ لَو كَانَ لي مَال، وَقيل: أَمرنِي بِالزَّكَاةِ أَي: بِالطَّهَارَةِ من الذُّنُوب، وَيُقَال: بالاستكثار من الْخَيْر. وَقَوله: {مادمت حَيا} أَي: مَا حييت.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَبرا بوالدتي} أَي: رءوفا وعطوفا بوالدتي.

( {32) وَالسَّلَام عَليّ يَوْم ولدت وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أبْعث حَيا (33) ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم قَول الْحق الَّذِي فِيهِ يمترون (34) مَا كَانَ لله أَن يتَّخذ من ولد سُبْحَانَهُ إِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون (35) } وَقَوله: {وَلم يَجْعَلنِي جبارا شقيا} الْجَبَّار: المتكبر، والشقي هُوَ الَّذِي يَعْصِي الله، وَيُقَال: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يقتل، وَيضْرب على الْغَضَب، وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَيُقَال: الْجَبَّار هُوَ الَّذِي يظلم النَّاس، والشقي هُوَ الَّذِي يُذنب، وَلَا يَتُوب من الذَّنب.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّلَام عَليّ يَوْم ولدت} مَعْنَاهُ: التَّحِيَّة وَالْحِفْظ من الله لي يَوْم ولدت {وَيَوْم أَمُوت وَيَوْم أبْعث حَيا} وَقَالَ بَعضهم: السَّلَام بِمَعْنى السَّلامَة عِنْد الْولادَة، هُوَ السَّلامَة من طعن الشَّيْطَان وهمزه، والسلامة عِنْد الْمَوْت هُوَ من الشّرك، فَإِن أَكثر الشّرك يكون عِنْد الْمَوْت، والسلامة يَوْم الْقِيَامَة من الْأَهْوَال. وَقيل: السَّلامَة عِنْد الْمَوْت من ضغطة الْقَبْر، وَقيل: سَلامَة عِنْد الْمَوْت بالوصول إِلَى السَّعَادَة.

34

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَم} يَعْنِي: هَذَا عِيسَى ابْن مَرْيَم {قَول الْحق الَّذِي فِيهِ يمترون} . يَعْنِي: هَذَا القَوْل هُوَ القَوْل الْحق، وَقَوله {الَّذِي فِيهِ يمترون} أَي: يَخْتَلِفُونَ.

35

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لله أَن يتَّخذ من ولد} مَعْنَاهُ: مَا يصلح لله، وَمَا يَنْبَغِي أَن يتَّخذ من ولد. فَإِن قيل: هلا قَالَ ولدا؟ قُلْنَا: قَالَ من ولد للْمُبَالَغَة؛ فَإِن الرجل قد يَقُول: مَا اتخذ فلَان فرسا يُرِيد الْعدَد، وَإِن كَانَ قد اتخذ وَاحِدًا. فَإِذا قَالَ: مَا اتخذ فلَان من فرس، يكون ذَلِك نفيا للْوَاحِد وَالْعدَد. وَقد بَينا أَن الْوَلَد يكون من جنس الْوَالِد، وَالله لَا جنس لَهُ. وَقَوله سُبْحَانَهُ: {إِذا قضى أمرا} قد بَينا معنى الْقَضَاء. وَقَوله: {فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} قد ذكرنَا أَيْضا.

{وَإِن الله رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم (36) فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم فويل للَّذين كفرُوا من مشْهد يَوْم عَظِيم (37) أسمع بهم وَأبْصر يَوْم يأتوننا لَكِن}

36

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن الله رَبِّي وربكم} . أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذَا بِنَاء على قَول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَعْنَاهُ: قَالَ إِنِّي عبد الله ... إِلَى آخِره، وَقَالَ: إِن الله رَبِّي وربكم، وَأما أَن بِالْفَتْح مَعْنَاهُ: وَأخْبر بِأَن الله رَبِّي وربكم، وَقيل تَقْدِيره: وَلِأَن الله رَبِّي وربكم، فاعبده، وَالْعَامِل قَوْله: {فاعبدوه} . وَقَوله: {فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

37

قَوْله تَعَالَى: {فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم} قَالَ قَتَادَة وَابْن جريج وَغَيرهمَا: لما رفع عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى السَّمَاء، اخْتَار بَنو إِسْرَائِيل أَرْبَعَة من رُءُوسهم، وسألوهم عَن عِيسَى، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ أحدهم: كَانَ هُوَ الله نزل من السَّمَاء، وَصَارَ فِي بطن مَرْيَم، وَأَحْيَا وأمات، ثمَّ صعد إِلَى السَّمَاء. فَقَالَ الْآخرُونَ: كذبت، وَهَذَا قَول اليعقوبية من النَّصَارَى. وَقَالَ الثَّانِي: كَانَ هُوَ ابْن الله، فَقَالَ الْآخرَانِ: كذبت. وَهَذَا قَول النسطورية من النَّصَارَى. وَقَالَ الثَّالِث: كَانَ ثَالِث ثَلَاثَة: الله وَمَرْيَم وَعِيسَى، فعيسى أحد الأقانيم الثَّلَاثَة، وَهَذَا قَول الملكانية من النَّصَارَى، قَالَ الرَّابِع: كذبت. ثمَّ إِن الرَّابِع قَالَ: هُوَ عبد الله وَرَسُوله، وَتبع كل وَاحِد جمَاعَة فَاقْتَتلُوا، وَظهر على الْمُسلمين، وَبَقِي الْأَقْوَال الثَّلَاثَة من النَّصَارَى. فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم} . وَقَوله: {فويل للَّذين كفرُوا} . قد بَينا معنى الويل. وَقَوله: {من مشْهد يَوْم عَظِيم} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.

38

قَوْله تَعَالَى: {أسمع بهم وَأبْصر} يَعْنِي: مَا أسمعهم وأبصرهم يَوْم الْقِيَامَة. وَإِنَّمَا

{الظَّالِمُونَ الْيَوْم فِي ضلال مُبين (38) وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر وهم فِي غَفلَة} وَصفهم بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ وَصفهم بالبكم والعمي والصمم فِي الدُّنْيَا، فَأخْبر أَنهم يسمعُونَ ويبصرون فِي الْآخِرَة، مَا لم يسمعوا ويبصروا فِي الدُّنْيَا. وَيُقَال: وَصفهم بِشدَّة السّمع وَالْبَصَر فِي الْآخِرَة بِحُصُول الْإِدْرَاك بِغَيْر رُؤْيَة وَلَا فكر. وَقَوله: {يَوْم يأتوننا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {لَكِن الظَّالِمُونَ الْيَوْم فِي ضلال مُبين} أَي: خطأ بَين. وَيُقَال قَوْله: {أسمع بهم وَأبْصر} تهديد ووعيد وَمَعْنَاهُ: أَنهم يسمعُونَ مَا تصدع قُلُوبهم، ويرون مَا يُهْلِكهُمْ.

39

وَقَوله تَعَالَى: {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة} مَعْنَاهُ: يَوْم الندامة، وَيُقَال: كل النَّاس يندمون يَوْم الْقِيَامَة؛ أما الْمُسِيء فيندم هلا أحسن، وَأما المحسن فيندم هلا ازْدَادَ (حسنا) . وَأما قَول أَكثر الْمُفَسّرين فِي الْآيَة: هَذِه الْحَسْرَة حَيْثُ يذبح الْمَوْت على الصِّرَاط، وَقد صَحَّ الْخَبَر بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي، أَنه قَالَ: " إِذا أَدخل الله أهل الْجنَّة الْجنَّة، وَأهل النَّار النَّار يُنَادي مُنَاد: يَا أهل الْجنَّة، فيشرفون وَيَنْظُرُونَ، وينادي: يَا أهل النَّار، فيشرفون وَيَنْظُرُونَ؛ فَيُؤتى بِالْمَوْتِ على صُورَة كَبْش أَمْلَح، فَيُقَال لَهُم: هَل تعرفُون هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نعرفه، هَذَا هُوَ الْمَوْت فَيذْبَح ". وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة: " يذبح على الصِّرَاط " ثمَّ يُقَال: يَا أهل الْجنَّة خُلُود (وَلَا موت) ، وَيَا أهل النَّار، خُلُود فَلَا موت ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: " لَو مَاتَ أهل الْجنَّة لماتوا فَرحا، وَلَو مَاتَ أهل النَّار لماتوا حزنا، ثمَّ قَرَأَ النَّبِي: {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الْحَسْرَة إِذْ قضي الْأَمر} . . الْآيَة ".

{وهم لَا يُؤمنُونَ (39) إِنَّا نَحن نرث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وإلينا يرجعُونَ (40) وَاذْكُر فِي الْكتاب إِبْرَاهِيم إِنَّه كَانَ صديقا نَبيا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَت لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا (42) يَا أَبَت إِنِّي قد جَاءَنِي من الْعلم مَا لم يأتك فاتبعني} وَقَوله: {قضي الْأَمر} أَي: فرغ من الْأَمر. وَقَوله: {وهم فِي غَفلَة} مَعْنَاهُ: وهم فِي غَفلَة فِي الدُّنْيَا عَمَّا يعْمل بهم فِي الْآخِرَة. وَقَوله: {وهم لَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يصدقون.

40

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحن نرث الأَرْض وَمن عَلَيْهَا} الْآيَة. مَعْنَاهُ: إِنَّا نميت سكان الأَرْض، ونهلكهم، فَتكون الأَرْض وَمن عَلَيْهَا لنا وَفِي حكمنَا. وَمعنى الْإِرْث: هُوَ أَنه لَا يبْقى لأحد ملك وَلَا سَبَب سوى الله. قَوْله: {وإلينا يرجعُونَ} أَي: يردون.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب إِبْرَاهِيم إِنَّه كَانَ صديقا} الصّديق هُوَ: الْكثير الصدْق، الْقَائِم عَلَيْهِ. وَيُقَال: من صدق الله فِي وحدانيته، وَصدق أنبياءه وَرُسُله، وَصدق بِالْبَعْثِ، وَقَامَ بالأوامر فَعمل بهَا؛ فَهُوَ صديق. وَقَوله: {نَبيا} النَّبِي هُوَ: العالي فِي الرُّتْبَة بإرسال الله إِيَّاه، وَإِقَامَة الدَّلِيل على صدقه.

42

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَت} مَعْنَاهُ: يَا أبي، فأقيمت التَّاء مقَام يَاء الْإِضَافَة. وَقَوله: {لم تعبد مَا لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا} أَي: لَا يسمع إِن دَعوته، وَلَا يبصر إِن أَتَيْته {وَلَا يُغني عَنْك شَيْئا} لَا يدْفع عَنْك، وَمَعْنَاهُ: لَا يغيثك إِن استغثت بِهِ.

43

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَبَت إِنِّي قد جَاءَنِي مَا لم يأتك} أَي: من الْعلم والمعرفة بِاللَّه مَا لم يأتك.

{أهدك صراطا سويا (43) يَا أَبَت لَا تعبد الشَّيْطَان إِن الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عصيا (44) يَا أَبَت إِنِّي أَخَاف أَن يمسك عَذَاب من الرَّحْمَن فَتكون للشَّيْطَان وليا (45) قَالَ أراغب أَنْت عَن آلهتي يَا إِبْرَاهِيم لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمنك واهجرني مَلِيًّا (46) قَالَ سَلام} {فاتبعني أهدك} أرشدك {صراطا سويا} مُسْتَقِيمًا.

44

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَبَت لَا تعبد الشَّيْطَان} مَعْنَاهُ: لَا تُطِع الشَّيْطَان فِيمَا يزين لَك من الْكفْر والشرك. وَقَوله: {إِن الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عصيا} أَي: عَاصِيا.

45

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَبَت إِنِّي أَخَاف} الْخَوْف هَا هُنَا بِمَعْنى: الْعلم، وَمَعْنَاهُ: إِنِّي أعلم أَنه {يمسك عَذَاب من الرَّحْمَن} إِن أَقمت على الْكفْر. {فَتكون للشَّيْطَان وليا} يَعْنِي: يلزمك ولَايَة أَي: مُوالَاة الشَّيْطَان وَتَكون مثله. وَقيل: فتوكل إِلَى الشَّيْطَان، ويخذلك الله.

46

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أراغب أَنْت عَن آلهتي يَا إِبْرَاهِيم} فِي الْقِصَّة: أَن أَبَا إِبْرَاهِيم كَانَ ينحت الصَّنَم ويعبده، وَكَانَ يُعْطي الْأَصْنَام بنيه يبيعونها، فَكَانَ إِذا أعْطى إِبْرَاهِيم صنما يَبِيعهُ، فَيَقُول إِبْرَاهِيم: من يَشْتَرِي مني مَا يضرّهُ وَلَا يَنْفَعهُ؟ ! فَيرجع وَمَا بَاعَ، وَيرجع سَائِر الْبَنِينَ وَقد باعوا. وَقَوله: {قَالَ أراغب أَنْت عَن آلهتي يَا إِبْرَاهِيم} يُقَال: رغب عَن الشَّيْء إِذا تَركه، وَرغب (فِي الشَّيْء إِذا طلبه) . وَقَوله: {لَئِن لم تَنْتَهِ} يَعْنِي: عَن عَمَلك. {لأرجمنك} . قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لأَقْتُلَنك بِالْحِجَارَةِ، وَقَالَ غَيره: لأشتمنك، ولأبعدنك عَن نَفسِي بالشتم والقبح من القَوْل "، وَهَذَا أعرف الْقَوْلَيْنِ. وَقَوله: {واهجرني مَلِيًّا} قَالَ الْحسن: زَمَانا طَويلا. وَقَالَ عِكْرِمَة: دهرا.

{عَلَيْك سأستغفر لَك رَبِّي إِنَّه كَانَ بِي حفيا (47) وأعتزلكم وَمَا تدعون من دون الله وأدعو رَبِّي عَسى أَلا أكون بِدُعَاء رَبِّي شقيا (48) فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يعْبدُونَ من دون} قَالَ مهلهل شعرًا: (فتصدعت صم الْجبَال لمَوْته ... وبكت عَلَيْهِ المرملات مَلِيًّا) وَمِنْه: الملوان هُوَ اللَّيْل وَالنَّهَار. وَيُقَال: مَلِيًّا أَي: سليما سويا من عقوبتي وإيذائي، وَحكي هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَمِنْه: فلَان ملي بِأَمْر كَذَا، إِذا كَانَ كَامِلا فِيهِ.

47

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ سَلام عَلَيْك} . قَالَ بَعضهم: هَذَا سَلام هجران ومفارقة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ سَلام بر ولطف، وَهُوَ جَوَاب حَلِيم لسفيه، قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما} . وَيُقَال: معنى قَوْله: {سَلاما} أَي: سَلامَة لَك مني؛ لِأَنَّهُ لم يكن أَمر بقتاله. وَقَوله: {سأستغفر لَك رَبِّي} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: سأستغفر لَك رَبِّي إِن آمَنت، وَالْقَوْل الثَّانِي: سأسأل الله لَك التَّوْبَة الَّتِي توجب الْمَغْفِرَة، وَقد كَانَت تَوْبَته هِيَ الْإِيمَان. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ بِي حفيا} أَي: عودني الْإِجَابَة لدعائي. وَقيل: محبا.

48

قَوْله تَعَالَى: {وأعتزلكم} [هَذَا الاعتزال] هُوَ: تَركهم فِي مهاجرته إِلَى الشَّام على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي} . وَقَوله: {وَمَا تدعون من دون الله} أَي: تَعْبدُونَ من دون الله. وَقَوله: {وأدعو رَبِّي} أَي: وأعبد رَبِّي. وَقَوله: {عَسى أَلا أكون بِدُعَاء رَبِّي شقيا} عَسى من الله وَاجِب، وَالدُّعَاء بِمَعْنى الْعِبَادَة، والشقاوة: الخيبة من الرَّحْمَة.

49

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يعْبدُونَ من دون الله وهبنا لَهُ إِسْحَاق}

{الله وهبنا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وكلا جعلنَا نَبيا (49) وَوَهَبْنَا لَهُم من رَحْمَتنَا وَجَعَلنَا لَهُم لِسَان صدق عليا (50) وَاذْكُر فِي الْكتاب مُوسَى إِنَّه كَانَ مخلصا وَكَانَ رَسُولا نَبيا} {وَيَعْقُوب} هُوَ ابْن إِسْحَاق. وَمَعْنَاهُ: أَنا أعطيناه أَوْلَادًا كراما بررة عوض الَّذين كَانَ يَدعُوهُم إِلَى عبَادَة الله فَلم يجيبوا. وَقَوله: {وكلا جعلنَا نَبيا} يَعْنِي: إِسْحَاق وَيَعْقُوب.

50

{وَوَهَبْنَا لَهُم من رَحْمَتنَا} يَعْنِي: أنعمنا عَلَيْهِم، وأعطيناهم من كرامتنا ونعمنا. وَقَوله: {وَجَعَلنَا لَهُم لِسَان صدق عليا} أَي: ثَنَاء حسنا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقد بَينا أَن كل أهل الْأَدْيَان يتولون: إِبْرَاهِيم، فَهُوَ الثَّنَاء الْحسن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مُوسَى إِنَّه كَانَ مخلصا} وَقُرِئَ: " مخلصا " " مخلصا " بِالْفَتْح وَالْكَسْر، فبالكسر أَي: موحدا لله وبالفتح أَي: مُخْتَارًا من الله تَعَالَى. وَقيل: مخلصا أَي: خَالِصا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {ورجلا سلما لرجل} أَي: خَالِصا لرجل. وَقَوله: {وَكَانَ رَسُولا نَبيا} . قيل: الرَّسُول وَالنَّبِيّ وَاحِد، وَقد فرق بَينهمَا، وَقد بَينا من قبل.

52

قَوْله تَعَالَى: {وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن} الطّور: جبل بَين مصر ومدين، وَيُقَال: اسْمه الزبير. وَقَوله: {الْأَيْمن} وَقيل: يَمِين الْجَبَل، وَقيل: يَمِين مُوسَى، وَالأَصَح يَمِين مُوسَى؛ لِأَن الْجَبَل لَيْسَ لَهُ يَمِين وَلَا شمال.

( {51) وناديناه من جَانب الطّور الْأَيْمن وقربناه نجيا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ من رَحْمَتنَا أَخَاهُ هَارُون نَبيا (53) وَاذْكُر فِي الْكتاب إِسْمَاعِيل إِنَّه كَانَ صَادِق الْوَعْد وَكَانَ رَسُولا نَبيا} وَقَوله: {وقربناه نجيا} قَالَ ابْن عَبَّاس: أدناه حَتَّى سمع صرير الْقَلَم، وَقيل: صريف الْقَلَم. وَفِي رِوَايَة: رَفعه على الْحجب. وَيُقَال: قربناه نجيا أَي: كلمناه، والتقريب هَا هُنَا هُوَ التَّكَلُّم، وَأما النجي فَهُوَ المناجي، وَكَأن مَعْنَاهُ على هَذَا القَوْل: أَن الله يكلمهُ، وَهُوَ يكلم الله.

53

قَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ من رَحْمَتنَا أَخَاهُ هَارُون نَبيا} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا سمى نبوة هَارُون هبة لمُوسَى؛ لِأَن مُوسَى كَانَ قَالَ: {وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي هَارُون أخي} .

54

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب إِسْمَاعِيل} . الْأَكْثَرُونَ أَن هَذَا: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم أَبُو النَّبِي، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ إِسْمَاعِيل بن حزقيل، نَبِي آخر؛ فَإِن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم توفّي قبل إِبْرَاهِيم. وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول، وَقد كَانَ بعث إِلَى جرهم [وَهِي] قَبيلَة، وَأما وَفَاته قبل إِبْرَاهِيم لَا تعرف. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ صَادِق الْوَعْد} قَالَ سُفْيَان: لم يعد الله شَيْئا من نَفسه إِلَّا وفى بِهِ، وَمن الْمَعْرُوف أَنه وعد إنْسَانا شَيْئا فأنتظره ثَلَاثَة أَيَّام فِي مَكَان وَاحِد، فَسُمي صَادِق الْوَعْد، وَيُقَال: انتظره حولا. وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ: إِن للكذاب أطرافا، وَأعظم الْكَذِب إخلاف المواعيد، واتهام الأبرياء. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي بَايع رجلا قبل الْوَحْي، فَقَالَ لَهُ ذَلِك الرجل: مَكَانك يَا مُحَمَّد، حَتَّى أرجع إِلَيْك، وَذهب وَنسي، ثمَّ مر بذلك الْمَكَان بعد ثَلَاثَة أَيَّام، فَوجدَ النَّبِي جَالِسا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: أتعبتني أَيهَا الرجل، أَنا أنتظرك

( {54) وَكَانَ يَأْمر أَهله بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَكَانَ عِنْد ربه مرضيا (55) وَاذْكُر فِي الْكتاب} مُنْذُ ثَلَاث ". وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه جعل إخلاف الْوَعْد ثلث النِّفَاق. وَعَن زيد بن أَرقم، أَن من وعد إنْسَانا وَمن نِيَّته أَن يَفِي بِهِ، ثمَّ لم يتَّفق الْوَفَاء، فَإِنَّهُ لَا يدْخل فِي هَذَا الْوَعيد. وروى [قباث] بن أَشْيَم أَن النَّبِي قَالَ: " الْعدة عَطِيَّة ". هُوَ خبر غَرِيب. وَقَوله: {وَكَانَ رَسُولا نَبيا} قد بَينا.

55

قَوْله: {وَكَانَ يَأْمر أَهله بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَكَانَ يَأْمر قومه بِالصَّلَاةِ ". وَقَالَ أهل التَّفْسِير: إِن معنى قَوْله: {وَكَانَ يَأْمر أَهله} أَي: أمته، وَإِن أمة كل نَبِي أهلوه. وَقَوله: {وَكَانَ عِنْد ربه مرضيا} أَي: مُخْتَارًا وَمَعْنَاهُ: رضيه الله لنبوته ورسالته.

{إِدْرِيس إِنَّه كَانَ صديقا نَبيا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا (57) أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله}

56

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب إِدْرِيس} . قيل: إِدْرِيس هُوَ أَبُو جد نوح. يُسمى إِدْرِيس لِكَثْرَة درسه الْكتب. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: هُوَ أول من خطّ بالقلم، وَأول من لبس الثِّيَاب، وَكَانَ من قبله يلبسُونَ الْجُلُود، وَأول من اتخذ السِّلَاح وَقَاتل الْكفَّار. قَوْله: {إِنَّه كَانَ صديقا نَبيا} قد بَينا.

57

وَقَوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا} قد ثَبت بِرِوَايَة أنس أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت إِدْرِيس لَيْلَة الْمِعْرَاج فِي السَّمَاء الرَّابِعَة ". فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا} فِي الْجنَّة يَعْنِي: رَفعه. وَقيل: هِيَ الرّفْعَة بعلو الْمرتبَة. وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه فِي السَّمَاء الرَّابِعَة حَيّ أم ميت: أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه حَيّ. قَالَ قوم من أهل الْعلم: أَرْبَعَة من الْأَنْبِيَاء فِي الْأَحْيَاء، اثْنَان فِي السَّمَاء، وَاثْنَانِ فِي الأَرْض، أما اللَّذَان فِي السَّمَاء: فإدريس، وَعِيسَى، وَأما اللَّذَان فِي الأَرْض: فالخضر، وإلياس. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن إِدْرِيس ميت. قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: كَانَ لإدريس صديق من الْمَلَائِكَة، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أحب أَن أعرف مَتى أَمُوت؛ لِأَزْدَادَ من الْعَمَل، فَهَل لَك أَن تسْأَل ملك الْمَوْت؟ فَقَالَ: أسأله وَأَنت تسمع، ثمَّ رَفعه تَحت جنَاحه إِلَى السَّمَاء، وَجَاء إِلَى ملك الْمَوْت، فَقَالَ: هَل تعرف أَن إِدْرِيس مَتى يَمُوت؟ فَقَالَ: حَتَّى أنظر، ثمَّ

{عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا وبكيا (58) فخلف من} استخرج كتابا، وَنظر فِيهِ، فَقَالَ: بَقِي من عمره سِتّ سَاعَات - وَفِي رِوَايَة لَحْظَة - وَقبض روحه ثمَّة، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا} وَهَذَا قَول مَعْرُوف.

58

قَوْله: {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم} وَالْمرَاد من ذُرِّيَّة آدم: إِدْرِيس. وَقَوله: {وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح} . أَي: وَمن ذُرِّيَّة من حملنَا مَعَ نوح، وَالْمرَاد مِنْهُ: إِبْرَاهِيم؛ لِأَنَّهُ كَانَ من ولد سَام بن نوح. وَقَوله: {وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم} المُرَاد مِنْهُ: إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب. وَقَوله تَعَالَى: {وَإِسْرَائِيل} . أَي: من ذُرِّيَّة إِسْرَائِيل، وَالْمرَاد مِنْهُ: مُوسَى وَدَاوُد وَسليمَان ويوسف وَعِيسَى، وكل أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل. وَقَوله: {وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا} هَذَا يرجع إِلَى الْأَوَّلين، وَمَعْنَاهُ: أَنا هديناهم، واختبرناهم، وَهَؤُلَاء ذُرِّيتهمْ. وَقَوله: {إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا} أَي: سقطوا، وَقيل: وَقَعُوا بِوُجُوهِهِمْ ساجدين، والسجد جمع ساجد. وَقَوله: {وبكيا} أَي: بَاكِينَ. وَرُوِيَ أَن النَّبِي مر على رجل، وَهُوَ ساجد يَدْعُو، فَقَالَ: " هَذَا السُّجُود وَأَيْنَ الْبكاء "؟ ! .

59

قَوْله تَعَالَى: {فخلف من بعدهمْ خلف} الْخلف: الرَّدِيء من الْقَوْم. وَالْخلف

(بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا (59) إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ شَيْئا (60) جنَّات عدن الَّتِي وعد الرَّحْمَن عباده بِالْغَيْبِ إِنَّه كَانَ وعده مأتيا (61)) الصَّالح فِي الْقَوْم. وَالْخلف هُوَ الَّذِي يخلف غَيره، وَذكر الْفراء والزجاج أَنه يجوز أَن يسْتَعْمل أَحدهمَا مَكَان الآخر. وَقَوله: {أضاعوا الصَّلَاة} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أخروها عَن وَقتهَا، وَالْآخر: تركوها أصلا. وَعَن ابْن شَوْذَب: هُوَ التَّأْخِير عَن الْوَقْت، وَلَو تركوها أصلا لكفروا. وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: هُوَ شربهم الْخمر، وتركهم الصَّلَاة. وَقَالَ مُجَاهِد: هَؤُلَاءِ قوم يظهرون فِي آخر الزَّمَان ينزوا بَعضهم على بعض فِي الْأَسْوَاق والأزقة، وَقيل: هم الزناة. وَيُقَال: أضاعوا الصَّلَاة بِاتِّبَاع الشَّهَوَات. وَقَوله: {فَسَوف يلقون غيا} قيل: الغي وَاد فِي جَهَنَّم، وَقيل: غيا: هَلَاكًا، وَقيل: غيا: جُزْءا غيهم. شعر: (وَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمره ... وَمن يغو لَا يعْدم على الغي لائما)

60

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَا يظْلمُونَ شَيْئا} . أَي: لَا ينقصُونَ شَيْئا.

61

قَوْله: {جنَّات عدن الَّتِي وعد الرَّحْمَن عباده بِالْغَيْبِ} مَعْنَاهُ: جنَّات إِقَامَة، يُقَال: عدن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ. وَقَوله: {الَّتِي وعد الرَّحْمَن عباده بِالْغَيْبِ} أَي: بالمغيب. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ وعده مأتيا} . مفعول فِي الْإِتْيَان، وكل مَا أَتَيْته فقد أَتَاك، وَالْعرب لَا تفرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: أتيت على خمسين سنة أَو يَقُول: أَتَت على خَمْسُونَ سنة، وَكَذَلِكَ لَا تفرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: وصل الْخَيْر إِلَيّ، وَبَين أَن يَقُول:

{لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا (62) تِلْكَ الْجنَّة الَّتِي} وصل إِلَيّ الْخَيْر: وَيُقَال معنى قَوْله: (" آتِيَا " أَي: " مأتيا ") مفعول بِمَعْنى الْفَاعِل.

62

قَوْله تَعَالَى: {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا إِلَّا سَلاما} الغغو: هُوَ الْفَاسِد من الْكَلَام، وَمَا لَا معنى لَهُ، وَقيل: هُوَ الهذر من القَوْل، وَقيل: الْقَبِيح مِنْهُ، وَقيل: هُوَ الْحلف الكاذبة. وَقَوله: {إِلَّا سَلاما} . مَعْنَاهُ: لَكِن يسمعُونَ سَلاما. فَإِن قيل: أَيجوزُ اسْتثِْنَاء السَّلَام من اللَّغْو؛ وَهُوَ لَيْسَ من جنسه؟ قُلْنَا: هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع كَمَا بَينا. وَذكر الْأَزْهَرِي أَن تَقْدِيره: لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا، لَا يسمعُونَ إِلَّا سَلاما. وَأما السَّلَام فَهُوَ تَسْلِيم بَعضهم على بعض، وَقيل: تَسْلِيم الله عَلَيْهِم. وَيُقَال: هُوَ قَول يسلمُونَ مِنْهُ. وَالسَّلَام اسْم لكَلَام جَامع للخيارت، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ اسْم لكَلَام يتَّصل بِهِ السَّلامَة. وَقَوله: {وَلَهُم رزقهم فِيهَا بكرَة وعشيا} فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {بكرَة وعشيا} ، وَلَيْسَ فِي الْجنَّة ليل وَلَا نَهَار؟ ! وَالْجَوَاب عَنهُ أَن مَعْنَاهُ: بكرَة وعشياء أَي: على مقادير الْبكر والعشايا. وَيُقَال: إِنَّه يعرف وَقت النَّهَار بِرَفْع الْحجب وَفتح الْأَبْوَاب، وَوقت اللَّيْل بإسبال الْحجب وغلق الْأَبْوَاب. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {بكرَة وعشيا} أَي: لَهُم فِيهَا رفاهة الْعَيْش؛ الرزق الْوَاسِع من غير تضييق وَلَا تقتير. وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ إِذا قَرَأَ هَذِه الْآيَة قَالَ: لقد علمت الْعَرَب أَن أرفه الْعَيْش هُوَ الرزق بالبكرة والعشية، وَلَا يعْرفُونَ من الرَّفَاهِيَة فَوق هَذَا.

{نورث من عبادنَا من كَانَ تقيا (63) وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا}

63

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ الْجنَّة الَّتِي نورث من عبادنَا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: يعْطى وينول، وَالْقَوْل الآخر: أَنه مَا من أحد من الْكفَّار إِلَّا وَله منزل فِي الْجنَّة وَأهل لَو أسلم، فَإِذا لم يسلم وَرثهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَوله: {من كَانَ تقيا} قيل: مخلصا.

64

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك} . قد ثَبت بِرِوَايَة عمر بن ذَر، عَن أَبِيه، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن جِبْرِيل، أَبْطَأَ على النَّبِي، فَلَمَّا نزل، قَالَ: " يَا جِبْرِيل لَو زرتنا أَكثر مِمَّا تَزُورنَا، فَقَالَ جِبْرِيل: وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك ". وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن النَّبِي قَالَ لَهُ: " يَا جِبْرِيل، قد كنت مشتاقا إِلَيْك، (فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، وَأَنا وَالله قد كنت مشتاقا إِلَيْك) ، وَلَكِن مَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك ". وَرُوِيَ أَنه أَبْطَا [اثْنَتَا عشرَة] لَيْلَة، وَرُوِيَ أَكثر من هَذَا، وَالله أعلم. وَقَوله: {لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا} . يَعْنِي: لَهُ علم مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا. وَفِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا بَين أَيْدِينَا يَعْنِي: الْآخِرَة، وَمَا خلفنا: مَا مضى من الدُّنْيَا، وَمَا بَين ذَلِك: من السَّاعَة إِلَى النفخة. وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا بَين أَيْدِينَا: مَا قابلناه وواجهناه، وَمَا خلفنا: مَا استدبرناه وجاوزناه

{وَمَا بَين ذَلِك وَمَا كَانَ رَبك نسيا (64) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فاعبده واصطبر لعبادته هَل تعلم لَهُ سميا (65) وَيَقُول الْإِنْسَان أئذا مَا مت لسوف أخرج حَيا (66) أَولا يذكر الْإِنْسَان أَنا خلقناه من قبل وَلم يَك شَيْئا (67) فوربك لنحشرنهم} (بَين) الْوَقْت وَمَا بَين ذَلِك، الْحَال. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا بَين أَيْدِينَا: الأَرْض، وَمَا خلفنا: السَّمَوَات، وَمَا بَين ذَلِك: الْهَوَاء. وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا بَين أَيْدِينَا: بعد أَن نموت، وَمَا خلفنا: قبل أَن نخلق، وَمَا بَين ذَلِك. مُدَّة الْحَيَاة. وَقَوله: {وَمَا كَانَ رَبك نسيا} . أَي: مَا نسيك رَبك، وَمعنى نسيك أَي: تَركك.

65

قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {فاعبده} أَي: وَحده. وَقَوله: {واصطبر لعبادته} أَي: اصبر على عِبَادَته. وَقَوله: {هَل تعلم لَهُ سميا} قَالَ ابْن عَبَّاس: هَل تعلم أحدا يُسمى " الرَّحْمَن " غير الله؟ وَقيل: يُسمى " الله " غير الله، وَقَالَ قَتَادَة: هَل تعلم لَهُ سميا؟ أَي: مثلا، وَقَالَ بَعضهم: سميا أَي: ولدا.

66

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُول الْإِنْسَان أإذا مَا مت} قَالُوا: نزلت الْآيَة فِي أبي بن خلف. وَقَوله: {لسوف أخرج حَيا} أَي: أسوف أخرج حَيا؟

67

قَوْله تَعَالَى: {أَولا يذكر} قَرَأَ أبي بن كَعْب: " أَولا يتَذَكَّر الْإِنْسَان " وَمَعْنَاهُ: أَولا يتفكر، وَلَا ينظر {الْإِنْسَان} . وَقَوله: {أَنا خلقناه من قبل وَلم [يَك] شَيْئا} . وَمَعْنَاهُ: أَنا لما قَدرنَا على إنْشَاء خلقهمْ، فَنحْن على الْإِعَادَة أقدر.

{وَالشَّيَاطِين ثمَّ لنحضرنهم حول جَهَنَّم جثيا (68) ثمَّ لننزعن من كل شيعَة أَيهمْ أَشد على الرَّحْمَن عتيا (69) ثمَّ لنَحْنُ أعلم بالذين هم أولى بهَا صليا (70) وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها}

68

قَوْله تَعَالَى: {فوربك لنحشرنهم وَالشَّيَاطِين} . فِي الْخَبَر: أَنه يحْشر كل كَافِر مسلسلا مَعَ شَيْطَان. وَقَوله: {ثمَّ لنحضرنهم حول جَهَنَّم جثيا} أَي: جاثين على الركب. قَالَ السّديّ: قاعين على الركب من ضيق الْمَكَان، " وحول جَهَنَّم " هُوَ عين جَهَنَّم.

69

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لننزعن من كل شيعَة} أَي: لنستخرجن ونأخذن من كل شيعَة، أَي: من كل أمة وَأهل دين من الْكفَّار. وَقَوله: {أَيهمْ أَشد على الرَّحْمَن عتيا} أَي: الأعتى فالأعتى، وَمعنى الْآيَة: أَنا نقدم فِي إِدْخَال النَّار من هُوَ أَكثر جرما، وَأَشد أمرا، وَقَالَ أهل اللُّغَة: وَقَوله: {عتيا} أَي: افتراء بلغَة تَمِيم. وَيُقَال: هَؤُلَاءِ هم قادة الْكفْر ورؤساؤه، وَفِي بعض الْآثَار: أَنهم يحْضرُون جَمِيعًا حول جَهَنَّم مسلسلين مغلولين، ثمَّ يقدم الأكفر فالأكفر.

70

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لنَحْنُ أعلم بالذين هم أولى بهَا صليا} أَي: أَحَق دُخُولا. وَيُقَال: الَّذين هم أَشد عنوا أولى بهَا صليا، فَهَذَا تَقْدِير الْآيَة.

71

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها} مَعْنَاهُ: وَمَا مِنْكُم إِلَّا واردها. وَاخْتلفُوا فِيمَا ينْصَرف إِلَيْهِ قَوْله: {واردها} قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ النَّار، قَالَ: والورود هُوَ الدُّخُول، وَقَالَ: يدخلهَا الْبر والفاجر، ثمَّ ينجو الْبر، وَيبقى الْفَاجِر. وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار قَالَ: تمارا ابْن عَبَّاس وَنَافِع بن الْأَزْرَق فِي الْوُرُود، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدُّخُول، وتلا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} ثمَّ قَالَ: يَا نَافِع، أَنا وَأَنت داخلها، وَأَرْجُو أَن ينجيني الله مِنْهَا، وَلَا

ينجيك مِنْهَا، لِأَنَّك كذبت بِهِ. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن [فراس] قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد المقرىء قَالَ: حَدثنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد، عَن سُفْيَان. وروى قُرَّة عَن ابْن مَسْعُود أَن النَّاس يردون النَّار، ويصدر الْمُؤْمِنُونَ عَنْهَا بأعمالهم، فأولهم كلمح الْبَصَر، ثمَّ كَالرِّيحِ ثمَّ كحضر الْفرس، ثمَّ كشد الرجل، ثمَّ كالماشي. وَعَن ابْن ميسرَة أَنه كَانَ يدْخل دَاره فيبكي، فَيُقَال لَهُ: مَا يبكيك؟ فَيَقُول: الله تَعَالَى أَنبأَنَا أَنا نرد النَّار، وَلم ينبئنا أَنا صادرون عَنْهَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: " حق لِابْنِ آدم أَن يبكي ... وَذكر نَحوا من هَذَا ". وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة هم الْكفَّار. هَذَا قَول عِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير. وقرىء فِي الشاذ: " وَإِن مِنْهُم إِلَّا واردها ". وعَلى هَذَا كثير من أهل الْعلم، وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى: {إِن الَّذين سبقت لَهُم من الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا} . وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد من الْوُرُود هُوَ الْحُضُور والرؤية دون الدُّخُول. وَهَذَا قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَقد يذكر الْوُرُود بِمَعْنى الْحُضُور، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلما ورد مَاء مَدين} أَي: حضر. وَقَالَ زُهَيْر شعرًا: (وَلما وردن المَاء زرقا جمامه ... تركن عصي الْحَاضِر المتخيم)

وَالْقَوْل الرَّابِع، وَرُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها: الْقِيَامَة. وَقد استحسنوا هَذَا القَوْل لتقدم ذكر الْقِيَامَة. وَالْقَوْل الْخَامِس: أَن الصِّرَاط. وَفِي الْآيَة قَول سادس: رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: وُرُود النَّار هُوَ الْحمى فِي الدُّنْيَا. وَفِي بعض المسانيد عَن النَّبِي أَنه عَاد رجلا من وعك - أبي: الْحمى - بِهِ، فَقَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: هِيَ نَارِي أُسَلِّطهَا على من شِئْت من الْمُؤمنِينَ، ليَكُون حَظه من نَار جَهَنَّم ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " الْحمى (كي) من جَهَنَّم، وَهِي حَظّ الْمُؤمن من النَّار ". وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْحمى من فيح جَهَنَّم، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قدم من الْوَلَد لم يلج النَّار، إِلَّا تَحِلَّة الْقسم ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَنَّهَا تستعر على الْكفَّار، وتخمد تَحت أَقْدَام الْمُؤمنِينَ ". روى خَالِد بن معدان عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يدْخل الله قوما من الْمُؤمنِينَ الْجنَّة،

{كَانَ على رَبك حتما مقضيا (71) ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا وَنذر الظَّالِمين فِيهَا جثيا (72) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أَي الْفَرِيقَيْنِ خير مقَاما وَأحسن نديا (73) وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا (74) قل من كَانَ} فَيَقُولُونَ: ألم تعدنا رَبنَا أَن ندخل النَّار؟ فَقَالَ لَهُم: قد وردتموها وَهِي خامدة ". وَقَوله: {كَانَ على رَبك حتما مقضيا} أَي: لَازِما يُصِيب بِهِ.

72

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ ننجي الَّذين اتَّقوا} اسْتدلَّ بِهَذَا من قَالَ: إِن الْوُرُود هُوَ الدُّخُول؛ لِأَن التنجية إِنَّمَا تكون بعد الدُّخُول. وَقَالَ أَيْضا: {وَنذر الظَّالِمين فِيهَا جثيا} وَهَذَا دَلِيل على أَن الْكل قد دخلوها، وَأما من قَالَ: إِن الْوُرُود هُوَ الْحُضُور قَالَ: يجوز أَن تذكر التنجية لأجل الإشراف على الْهَلَاك.

73

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات} مَعْنَاهُ: واضحات. وَقَوله: {قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أَي الْفَرِيقَيْنِ خير مقَاما} أَي: مَكَانا. وَقَوله: {وَأحسن نديا} قَالَ ثَعْلَب: مَجْلِسا، قَالَ الْكسَائي: الندي والنادي بِمَعْنى وَاحِد، وَمِنْه دَار الندوة؛ لأَنهم كَانُوا يَجْتَمعُونَ فِيهَا. وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الْمُشْركين كَانُوا يَقُولُونَ لفقراء الْمُؤمنِينَ: نَحن أعز مَجْلِسا، وَأحسن مَكَانا، وَأكْثر مَالا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالْمقَام: مَوضِع الْإِقَامَة، وَالْمقَام: فعل الْإِقَامَة. قَالَ الشَّاعِر: (ومقام حسن فرقته ... بحسامي ولساني وجدل) (لَو يكون الْفِيل أَو فياله ... زل عَن مثل مقَامي ورحل)

74

قَوْله تَعَالَى: {وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} وقرىء: " وريا " بِغَيْر همز، وَفِي الشاذ: " وزيا " بالزاء، حُكيَ هَذَا عَن سعيد بن جُبَير. أما قَوْله

{فِي الضَّلَالَة فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون إِمَّا الْعَذَاب وَإِمَّا السَّاعَة فسيعلمون من هُوَ شَرّ مَكَانا وأضعف جندا (75) وَيزِيد الله الَّذين اهتدوا هدى والباقيات الصَّالِحَات خير عِنْد رَبك ثَوابًا وَخير مردا (76) أفرءيت الَّذِي كفر بِآيَاتِنَا} {ورئيا} بِالْهَمْز هُوَ المنظرة، وَأما بِغَيْر الْهَمْز هُوَ من النِّعْمَة. وَأما الزي هُوَ الهيأة. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: [وَأحسن رئيا] هُوَ حسن الصُّورَة. وَقيل: الرّيّ من الارتواء، والمتنعم يظْهر فِيهِ ارتواء النِّعْمَة، وَالْفَقِير يظْهر عَلَيْهِ ذبول الْبُؤْس والفقر.

75

قَوْله تَعَالَى: {قل من كَانَ فِي الضَّلَالَة فليمدد لَهُ الرَّحْمَن مدا} هَذَا أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى يتركهم فِي الْكفْر، ويمهلهم فِيهِ. وَقَوله: {حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون إِمَّا الْعَذَاب وَإِمَّا السَّاعَة} الْعَذَاب: هُوَ الْقَتْل والأسر فِي الدُّنْيَا، والساعة: الْقِيَامَة. وَمَعْنَاهُ: لَو نصر عَلَيْهِم الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا فَقتلُوا وأسروا، أَو جَاءَتْهُم السَّاعَة، فأدخلوا النَّار {فسيعلمون} عِنْد ذَلِك {من هُوَ شَرّ مَكَانا} أَي: منزلا {وأضعف جندا} أَي: ناصرا. وَقَوله: {وأضعف جندا} يرجع إِلَى الدُّنْيَا، وَقَوله: {شَرّ مَكَانا} يرجع إِلَى الْآخِرَة.

76

{وَيزِيد الله الَّذين اهتدوا هدى} يَعْنِي: يَقِينا على يقينهم، ورشدا على رشدهم. وَقَوله: {والباقيات الصَّالِحَات} قيل: إِنَّهَا الصَّلَوَات الْخمس، وَقيل: هِيَ الْأَذْكَار الَّتِي قلناها، وَقد بَينا. وَقَوله: {خير عِنْد رَبك ثَوابًا} أَي: جَزَاء {وَخير مردا} أَي: مرجعا. وَنقل الْكَلْبِيّ عَن ابْن عَبَّاس [أَن] زِيَادَة الْهدى هوالإيمان بالناسخ والمنسوخ.

77

قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْت الَّذِي كفر بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَولدا} سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى مَسْرُوق عَن خباب [بن] الْأَرَت قَالَ: " كنت قينا وحدادا بِمَكَّة، فَعمِلت للعاص بن وَائِل السَّهْمِي، فاجتمعت لي عَلَيْهِ دَرَاهِم، فَجِئْته أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا

{وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَولدا (77) أطلع الْغَيْب أم اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا (78) كلا} أقضيك حَتَّى تكفر بِمُحَمد، فَقلت: لَا أكفر حَتَّى تَمُوت ثمَّ تبْعَث. فَقَالَ الْعَاصِ: أَو مَبْعُوث أَنا؟ ! فَقلت: نعم. قَالَ: فَإِذا بعثت فَيكون لي هُنَاكَ مَال وَولد، فَأَقْضِيك حَقك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو اللَّيْث، قَالَ الْفربرِي، قَالَ: ثَنَا البُخَارِيّ، قَالَ: ثَنَا الْحميدِي، عَن سُفْيَان، عَن الْأَعْمَش، عَن أبي الضُّحَى، عَن مَسْرُوق ... الحَدِيث.

78

وَقَوله: {أطلع الْغَيْب} أَي: اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: علم الْغَيْب، فَعلم أَن لَهُ مَالا وَولدا بِعلم الْغَيْب؟ . وَقَوله: {أم اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} قَالَ سُفْيَان: عملا صَالحا، وَقَالَ غَيره: لَا إِلَه إِلَّا الله. وروى الْأسود بن يزِيد، عَن عبد الله بن مَسْعُود، أَنه قَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول الله تَعَالَى: " من كَانَ لَهُ عِنْدِي عهد (فَليقمْ) . فَقيل: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، وَمَا ذَلِك الْعَهْد؟ فَعلمنَا، فَقَالَ: قَالَ: " أَيعْجزُ أحدكُم أَن يتَّخذ كل صباح وَمَسَاء عهدا؟ قَالُوا: وَكَيف؟ قَالَ: يَقُول: اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة، إِنِّي أَتَّخِذ عنْدك عهدا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَإنَّك إِن تَكِلنِي إِلَى نَفسِي تقربني من الشَّرّ، وَتُبَاعِدنِي من الْخَيْر، وَإِنِّي لَا أَثِق إِلَّا بِرَحْمَتك، فاحفظ عهدي تُؤَدِّيه إِلَيّ يَوْم الْقِيَامَة، إِنَّك لَا تخلف الميعاد ".

{سنكتب مَا يَقُول ونمد لَهُ من الْعَذَاب مدا (79) ونرثه مَا يَقُول ويأتينا فَردا (80) وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة ليكونوا لَهُم عزا (81) كلا سيكفرون بعبادتهم وَيَكُونُونَ}

79

قَوْله تَعَالَى: {كلا سنكتب مَا يَقُول} قَوْله: {كلا} يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمر على مَا زعم الْعَاصِ بن وَائِل، ثمَّ قَالَ: {سنكتب مَا يَقُول} أَي: يَأْمر الْمَلَائِكَة حَتَّى يكتبوا. وَقَوله: {ونمد لَهُ من الْعَذَاب مدا} أَي: نطيل مُدَّة عَذَابه.

80

وَقَوله: {ونرثه مَا يَقُول} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " ونرثه مَا عِنْده " فَإِن قيل: القَوْل كَيفَ يُورث وَالْمَعْرُوف {ونرثه مَا يَقُول} ؟ ! وَالْجَوَاب عَنهُ قَالَ ثَعْلَب: مَعْنَاهُ: ونرثه مَا زعم أَن لَهُ مَالا وَولدا، أَي: لَا يُعْطِيهِ، وَيُعْطِي غَيره، فَيكون الْإِرْث رَاجعا إِلَى مَا تَحت القَوْل، لَا إِلَى نفس القَوْل. وَيجوز أَن يكون معنى قَوْله: {ونرثه مَا يَقُول} أَي: ونرثه مَا عِنْده، على مَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {ونرثه مَا يَقُول} أَي: نَحْفَظ مَا يَقُول حَتَّى يجاز بِهِ. وَقَوله: {ويأتينا فَردا} أَي: فَردا لَا أنصار لَهُ، وَلَا أعوان، وَقيل: هُوَ فِي معنى قَوْله: {وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} الْآيَة وَحَقِيقَته: أَنه يأتينا وَلَا مَال لَهُ وَلَا ولد.

81

قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة} يَعْنِي: آلِهَة يعبدونها. وَقَوله: {ليكونوا لَهُم عزا} أَي: مَنْعَة، وَمعنى المنعة: أَنهم يمتنعون بهَا من الْعَذَاب.

82

قَوْله تَعَالَى: {كلا} أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا زَعَمُوا. وَقَوله: {سيكفرون بعبادتهم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة

{عَلَيْهِم ضدا (82) ألم تَرَ أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين تؤزهم أزا (83) فَلَا تعجل عَلَيْهِم إِنَّمَا نعد لَهُم عدا (84) يجحدون عِبَادَتهم، وَالْقَوْل الآخر: أَن الْمُشْركين يُنكرُونَ عبَادَة الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة. فَإِن قيل: مَا عرف فِي الْمُشْركين أحد كَانَ يعبد الْمَلَائِكَة؟ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ كَانَ بطن من الْعَرَب يسمون: بني الْمليح، كَانُوا يعْبدُونَ الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِم ضدا} أَي: بلَاء. وَقيل: أَعدَاء.

83

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين} فَإِن قيل: أتقولون: إِن الشَّيَاطِين مرسلون، وَالله قَالَ: {وَسَلام على الْمُرْسلين} فَإِذا كَانُوا مرسلين وَجب أَن يدخلُوا فِي جُمْلَتهمْ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه لَيْسَ معنى الْإِرْسَال هَاهُنَا هُوَ الْإِرْسَال الَّذِي يؤجد فِي الْأَنْبِيَاء، وَلَكِن معنى الْإِرْسَال هَاهُنَا أحد الشَّيْئَيْنِ: إِمَّا التَّخْلِيَة بَينهم وَبَين الْكفَّار، وَإِمَّا التسليط على الْكفَّار. وَقَوله: {تؤزهم أزا} قَالَ ابْن عَبَّاس: تزعجهم إزعاجا، كَأَنَّهُ يحركهم ويحثهم وَيَقُول: اقدموا على الْكفْر. والهز والأز: هُوَ التحريك، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ يُصَلِّي، وبجوفه أزيز كأزيز الْمرجل " أَي: حَرَكَة.

84

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعجل عَلَيْهِم} يَعْنِي: لَا تعجل بِطَلَب عقوبتهم. وَقَوله: {إِنَّمَا نعد لَهُم عدا} قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ عد الْأَيَّام. وَقَالَ غَيره: عد السَّاعَات. وَعَن الْحسن: عد الأنفاس. وَقيل لبَعض الصَّالِحين: إِنَّمَا أيامك أنفاس مَعْدُودَة، فَقَالَ: من صِحَة الْعدَد أَخَاف. وروى الْأَصْمَعِي عَن أَبِيه أَنه قَالَ: رَأَيْت رجلا على بَاب الْبَصْرَة أَيَّام الطَّاعُون يعد

{يَوْم نحْشر الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا (85) ونسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا (86) لَا} الْمَوْتَى، وقدامه كوز، كلما مر عَلَيْهِ بميت، يلقِي فِيهِ حَصى. فعد فِي الْيَوْم الأول ثَمَانِينَ ألفا، وَفِي الْيَوْم الثَّانِي مائَة وَعشْرين ألفا. قَالَ: فمررنا عَلَيْهِ بِجنَازَة، ثمَّ عدنا، فَإِذا عِنْد الْكوز غَيره. قُلْنَا لَهُ: أَيْن ذهب الرجل؟ قَالَ: وَقع فِي الْكوز.

85

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نحْشر الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفْدًا} الْحَشْر: جمع الأقوام من كل (صقع) فِي مَوضِع وَاحِد. وَقَوله: {وَفْدًا} مَعْنَاهُ: ركبانا، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَرَأَ هَذِه الْآيَة، وَقَالَ: يُؤْتونَ بِنُوق من نُوق الْجنَّة عَلَيْهَا أرحلة من الذَّهَب، وَلها أزمة من الزبرجد، فيركبون عَلَيْهَا حَتَّى يقرعُوا بَاب الْجنَّة. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يحْشر الْأَنْبِيَاء على دَوَاب فِي الْجنَّة، وأحشر على الْبراق، ويحشر الْحسن وَالْحُسَيْن على العضباء والقصواء، ويحشر بِلَال على نَاقَة من نُوق الْجنَّة فَيُؤذن، فَإِذا بلغ قَوْله: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، شهد بهَا جَمِيع الْخلق، قبل مِمَّن قبل، ورد على من رد ". وَقيل: {وَفْدًا} أَي: مكرمين. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَن الْمُؤمن إِذا بعث يُؤْتى بِعَمَلِهِ على أحسن صُورَة، فَيَقُول: من أَنْت؟ فَيَقُول: أَنا عَمَلك الصَّالح طالما ركبتك فاركبني الْيَوْم. وَأما الْكَافِر يُؤْتى بِعَمَلِهِ على أقبح صُورَة، فَيَقُول: من أَنْت؟ فَيَقُول: أَنا عَمَلك الْخَبيث، قَالَ: طالما ركبتني، وَأَنا أركبك الْيَوْم ".

86

وَقَوله: {ونسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وردا} أَي: مشَاة. وَقيل: عطاشا.

{يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا (87) وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا (88) لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا (89) تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا (90) أَن دعوا للرحمن ولدا (91) وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا (92) }

87

قَوْله تَعَالَى: {لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} قَالَ بعض أهل التَّفْسِير: هَذَا رَاجع إِلَى الْمَلَائِكَة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ رَاجع إِلَى الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} يَعْنِي: لَا يشفعون إِلَّا لمن اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا، فالعهد هُوَ " لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَيُقَال: لَا يشفع إِلَّا من اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا يَعْنِي: لَا يشفع إِلَّا مُؤمن.

88

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا لقد جئْتُمْ شَيْئا إدا} أَي: مُنْكرا عَظِيما، (والإد) والاتخاذ إعداد الشَّيْء لأمر فِي الْعَاقِبَة.

90

قَوْله تَعَالَى: {تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ} الانفطار: الانشقاق، وتكاد أَي: تقرب، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْكَافرين لما قَالُوا: اتخذ الله ولدا غضِبت السَّمَوَات وَالْأَرْض، وتسعرت جَهَنَّم، فَطلب الْجَمِيع أَن ينتقموا من الْقَائِلين بِهَذَا القَوْل، فَهَذَا معنى الْآيَة. وَقَوله: {وتنشق الأَرْض} أَي: تخسف بهم، أما الانفطار فِي السَّمَاء فَمَعْنَاه على هَذَا: أَن [تسْقط] عَلَيْهِم. وَقَوله: {وتخر الْجبَال هدا} أَي: تنكسر انكسارا، وَمَعْنَاهُ على مَا ذكرنَا أَي: تنطبق عَلَيْهِم.

91

وَقَوله: {أَن دعوا للرحمن ولدا} أَي: حِين دعوا للرحمن ولدا.

92

وَقَوله: {وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا} قد بَينا.

{إِن كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) وَكلهمْ آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا (95) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ}

93

وَقَوله: {إِن كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مَا كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {إِلَّا آتٍ الرَّحْمَن عبدا} وَقد أجمع أهل الْعلم أَن الْبُنُوَّة مَعَ الْعُبُودِيَّة لَا يَجْتَمِعَانِ، وَمن اشْترى ابْنه يعْتق عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يصلح أَن يكون ابْنا وعبدا.

94

قَوْله تَعَالَى: {لقد أحصاهم وعدهم عدا} أَي: يعلمهُمْ، وَعلم عَددهمْ.

95

وَقَوله: {وَكلهمْ آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا} قد بَينا.

96

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا} أَي: محبَّة. قَالَ مُجَاهِد: يُحِبهُمْ الله، ويحببهم إِلَى الْمُؤمنِينَ. وَقيل: يحب بَعضهم بَعْضًا. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى جعل مَعَ الْإِيمَان الْمحبَّة [والشفقة] والألفة ". وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " إِذا أحب الله عبدا يُنَادي جِبْرِيل، فَيَقُول: أَنا أحب فلَانا فَأَحبهُ، فينادي فِي أهل السَّمَاء: إِن الله يحب فلَانا فَأَحبُّوهُ، ثمَّ يوضع لَهُ الْمحبَّة فِي الأَرْض - وَفِي رِوَايَة " الْقبُول " - وَإِذا أبْغض عبدا يُنَادي جِبْرِيل فَيَقُول: أَنا أبْغض فلَانا فَأَبْغضهُ، فينادي فِي أهل السَّمَاء: إِن الله يبغض فلَانا فَأَبْغضُوهُ، ثمَّ يوضع لَهُ البغض فِي الأَرْض ". خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وَحكى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة نزلت فِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَالْمرَاد مِنْهُ: مَوَدَّة أهل الْإِيمَان لَهُ.

{لَهُم الرَّحْمَن ودا (96) فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لتبشر بِهِ الْمُتَّقِينَ وتنذر بِهِ قوما لدا (97) وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا (98) } وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعَلي: " لَا يحبك إِلَّا مُؤمن تَقِيّ، وَلَا يبغضك إِلَّا مُنَافِق شقي ". خرج مُسلم فِي الصَّحِيح.

97

قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك} يَعْنِي: سهلنا الْقُرْآن بلسانك. وَقَوله: {لتبشر بِهِ الْمُتَّقِينَ وتنذر بِهِ قوما لدا} اللد جمع الألد، والألد: المخاصم بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ الَّذِي لَا ينقاد للحق وَلَا يقبله. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لدا أَي: صمًّا عَن الْحق. وَقيل: الألد هَاهُنَا هُوَ الظَّالِم. قَالَ الشَّاعِر: (أَبيت نجيا للهموم كأنني ... أخاصم أقوما ذَوي جدل لدا)

98

قَوْله تَعَالَى: {وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هَل تحس مِنْهُم من أحد} مَعْنَاهُ: هَل ترى مِنْهُم من أحد؟ . وَقَوله: {أَو تسمع لَهُم ركزا} أَي: صَوتا. قَالَ أهل اللُّغَة: الركز: الصَّوْت الْخَفي. قَالَ الْحسن: بادوا جَمِيعًا، فَلم يبْق مِنْهُم عين وَلَا أثر.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة طه وَهِي مَكِّيَّة وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي: قَالَ: " إِن الله تَعَالَى قَرَأَ سُورَة طه وَيس قبل أَن يخلق آدم بألفي عَام، فَقَالَت الْمَلَائِكَة: طُوبَى لأمة نزلت عَلَيْهِم هَذَا، وطوبى لقلوب حملت هَذِه، وطوبى لألسن تَكَلَّمت بِهَذَا ".

طه

قَوْله تَعَالَى: {طه} رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَن رجلا اقْرَأ عَلَيْهِ: " طه " - بالإمالة - فَقَالَ: اقْرَأ {طه} ، فَقَالَ الرجل: أَلَيْسَ مَعْنَاهُ طَيء الأَرْض بقدميك؟ فَقَالَ: " هَكَذَا أَقْرَأَنِيهِ رَسُول الله ". وَاخْتلفت الْأَقَاوِيل فِي معنى طه، فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ بالسُّرْيَانيَّة: يَا رجل. وَنقل الْكَلْبِيّ: أَنه يَا إِنْسَان بلغَة عك. قَالَ الشَّاعِر: (إِن السفاهة طه من خليقتكم ... لَا قدس الله أَرْوَاح الملاعين) وَقَالَ آخر: (هَتَفت بطه فِي الْقِتَال فَلم يجب ... فَخفت عَلَيْهِ أَن يكون مواليا)

{طه (1) مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى (2) إِلَّا تذكرة لمن يخْشَى (3) تَنْزِيلا} وَيُقَال: إِن طه اسْم للسورة، وَقيل: إِنَّه قسم أقسم الله بِهِ. وَمن الْمَعْرُوف أَن مَعْنَاهُ: طىء الأَرْض بقدميك، وَهَذَا مَنْقُول عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَسَببه أَن النَّبِي اجْتهد فِي الْعِبَادَة حَتَّى جعل يراوح بَين الرجلَيْن، فَيقوم على وَاحِد، وَيرْفَع وَاحِدًا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَنقل بَعضهم: أَنه قَامَ بمفرد قدم. وَمِنْهُم من قَالَ: إِن الطَّاء من الطَّهَارَة، وَالْهَاء من الْهِدَايَة، فالطاء: إِشَارَة إِلَى طَهَارَة قلبه من غير الله، وَالْهَاء: إِشَارَة إِلَى اهتداء قلبه إِلَى الله.

2

وَقَوله: {مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى} أَي: لتتعب وتنصب، وَرُوِيَ أَنه لما اجْتهد فِي الْعِبَادَة، قَالَ الْمُشْركُونَ: يَا مُحَمَّد، مَا أنزل الْقُرْآن إِلَّا لشقاوتك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَمَعْنَاهُ: اجْتهد، وَلَا كل هَذَا التَّعَب حَتَّى تنْسب إِلَى الشقاوة.

3

وَقَوله: {إِلَّا تذكرة لمن يخْشَى} مَعْنَاهُ: لَكِن تذكرة، أَي: تذكيرا ووعظا لمن يخْشَى، والخشية وَالْخَوْف بِمَعْنى وَاحِد، وَفرق بَعضهم بَينهمَا، فَقَالَ: الخشية مَا لَا يعرف سَببه، وَالْخَوْف مَا يعرف سَببه، وَهُوَ ضَعِيف. وَذكر الْأَزْهَرِي أَن تَقْدِير الْآيَة: مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن لتشقى مَا أنزلنَا إِلَّا تذكرة لمن

{مِمَّن خلق الأَرْض وَالسَّمَوَات العلى (4) الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَمَا بَينهمَا} يخْشَى.

4

وَقَوله: {تَنْزِيلا} أَي: منزل تَنْزِيلا من الله (الَّذِي) {خلق الأَرْض وَالسَّمَوَات العلى} والعلى: جمع الْعليا.

5

وَقَوله: {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} اعْلَم أَن مخارج الاسْتوَاء فِي اللُّغَة كَثِيرَة: وَقد يكون بِمَعْنى الْعُلُوّ، وَقد يكون بِمَعْنى الِاسْتِقْرَار، وَقد يكون بِمَعْنى الِاسْتِيلَاء - على بعد - وَقد يكون بِمَعْنى الإقبال. وَالْمذهب عِنْد أهل السّنة أَنه يُؤمن بِهِ وَلَا يكيف، وَقد [رووا] عَن جَعْفَر بن عبد الله، وَبشر الْخفاف قَالَا: كُنَّا عِنْد مَالك، فَأَتَاهُ رجل وَسَأَلَهُ عَن قَوْله: {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} كَيفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالك مَلِيًّا، وعلاه الرحضاء، ثمَّ قَالَ: الكيف غير مَعْقُول، والاستواء مَجْهُول، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب، وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة، وَمَا أَظُنك إِلَّا ضَالًّا، ثمَّ أَمر بِهِ فَأخْرج. وَنقل أهل الحَدِيث عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَاللَّيْث بن سعد، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعبد الله بن الْمُبَارك أَنهم قَالُوا فِي الْآيَات المتشابهة: أمروها كَمَا جَاءَت. وَقَالَ بَعضهم: تَأْوِيله الْإِيمَان بِهِ، وَأما تَأْوِيل الاسْتوَاء بالاستقبال، فَهُوَ تَأْوِيل الْمُعْتَزلَة. وَذكر الزّجاج، والنحاس، وَجَمَاعَة [من] النُّحَاة من أهل السّنة: أَنه لَا يُسمى الاسْتوَاء اسْتِيلَاء فِي اللُّغَة إِلَّا إِذا غلب غَيره عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يجوز على الله تَعَالَى.

6

قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَمَا بَينهمَا} أَي: علم مَا فِي السَّمَوَات، وَمَا فِي الأَرْض، وَمَا بَينهمَا.

{وَمَا تَحت الثرى (6) وَإِن تجْهر بالْقَوْل فَإِنَّهُ يعلم السِّرّ وأخفى (7) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى (8) } وَقَوله: {وَمَا تَحت الثرى} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الثرى هِيَ الأَرْض السَّابِعَة، وَالْآخر: أَن الثرى هُوَ التُّرَاب المبتل، وَهَذَا مَعْرُوف فِي اللُّغَة. وَحكى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْأَرْضين على ظهر الْحُوت، والحوت على الْبَحْر، وَالْبَحْر على الصَّخْرَة، والصخرة على قرن ثَوْر، والثور على الثرى، وَمَا تَحت الثرى لَا يُعلمهُ إِلَّا الله.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تجْهر بالْقَوْل فَإِنَّهُ يعلم السِّرّ وأخفى} مَعْنَاهُ: إِن جهرت أَو أسررت فَلَا يغيب عَن علمه. وَاخْتلف الْأَقْوَال فِي قَوْله: {وأخفى} فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " السِّرّ " مَا تحدث بِهِ غَيْرك، " وأخفى " مَا تحدث بِهِ نَفسك. وَفِي الْآيَة تَقْدِير، وَمَعْنَاهُ: وأخفى مِنْهُ، أَي: من السِّرّ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " السِّرّ " مَا تحدث بِهِ نَفسك، " وأخفى " مَا يلقيه الله تَعَالَى فِي قَلْبك من بعد وَلم تحدث بِهِ نَفسك. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن السِّرّ هُوَ الْعَزِيمَة، وأخفى هُوَ دون الْعَزِيمَة، كَأَنَّهُ مَا يخْطر على الْقلب، وَلم تعزم عَلَيْهِ. وَالْقَوْل الرَّابِع: يعلم السِّرّ وأخفى، أَي: والخفي. قَالَ الشَّاعِر: (تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت ... فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد) أَي: بِالْوَاحِدِ. وَالْقَوْل الْخَامِس: يعلم السِّرّ وأخفى، أَي: أخْفى سره من عباده، وَهَذَا قَول ابْن زيد.

8

قَوْله تَعَالَى: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} قيل: فِيهِ إِضْمَار، وَمَعْنَاهُ: فَادعوا الله بهَا. وَقَالَ: الْحسنى للأسماء هُوَ جمع، وَالْحُسْنَى صفة الْوَاحِد، وَذَلِكَ لِأَن

{وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى (9) إِذْ رأى نَارا فَقَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا بقبس أَو أجد على النَّار هدى} هَذِه تتَنَاوَل الْأَسْمَاء لِأَنَّهَا جمع، كَمَا تتَنَاوَل الْوَاحِدَة من المؤنثات، يُقَال: هَذِه أَسمَاء؛ فَلذَلِك صَحَّ أَن يُقَال: حسنى، وَلم يقل: حسان، وَهَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {مآرب أُخْرَى} وَلم يقل: آخر.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} مَعْنَاهُ: وَقد أَتَاك حَدِيث مُوسَى، وَهُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير.

10

وَقَوله: {إِذْ رأى نَارا} فِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ رجلا غيورا، فَكَانَ يصحب الرّفْقَة بِاللَّيْلِ، ويتنحى عَنْهُم بِالنَّهَارِ؛ لِئَلَّا ترى امْرَأَته، فَأَخْطَأَ مرّة الطَّرِيق - لما كَانَ فِي علم الله تَعَالَى - فَكَانَ لَيْلًا مظلما، فَرَأى نَارا من بعيد {فَقَالَ لأَهله امكثوا} أَي: أقِيمُوا. وَقَوله: {إِنِّي آنست نَارا} أَي: أَبْصرت نَارا. وَقَوله تَعَالَى: {لعَلي آتيكم مِنْهَا بقبس} القبس: كل مَا فِي رَأسه نَار من شعلة أَو فَتِيلَة. وَقَوله: {أَو أجد على النَّار هدى} أَو أجد عِنْد النَّار من يهديني، ويدلني على الطَّرِيق، فَروِيَ أَنه لما توجه إِلَى النَّار رأى شَجَرَة خضراء، أطافت بِهِ النَّار، وَالنَّار كأضوء مَا يكون، والشجرة كأخضر مَا يكون، فَلَا ضوء النَّار يُغير خضرَة الشَّجَرَة، وَلَا خضرَة الشَّجَرَة تغير ضوء النَّار. وَيُقَال: إِن الشَّجَرَة كَانَت شَجَرَة الْعنَّاب، وَيُقَال: شَجَرَة من عوسج، وَقيل: من العليق. وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى أَخذ شَيْئا من الْحَشِيش الْيَابِس، ودنا من الشَّجَرَة، فَكَانَ كلما دنا من الشَّجَرَة نأت مِنْهُ النَّار، وَإِذا نأى هُوَ دنت النَّار، فَبَقيَ وَاقِفًا متحيرا،

{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنا رَبك فاخلع نعليك إِنَّك بالواد الْمُقَدّس طوى (12) وَأَنا اخْتَرْتُك فاستمع لما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني وأقم} فَنُوديَ: يَا مُوسَى.

11

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى} قد بَينا.

12

وَقَوله: {إِنِّي أَنا رَبك} رُوِيَ أَن مُوسَى لما سمع قَوْله: {يَا مُوسَى} قَالَ: من الَّذِي يكلمني؟ قَالَ: {إِنِّي أَنا رَبك} . فَإِن قيل: بِمَ عرف كَلَام الله عز وَعلا؟ قُلْنَا: سمع كلَاما لَا يشبه كَلَام المخلوقين، وَرُوِيَ أَنه سمع من جَمِيع جوانبه. وَقَوله: {فاخلع نعليك} اخْتلف القَوْل أَنه لم أمره بخلع نَعْلَيْه؟ وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: كَانَتَا من جلد حمَار ميت، وَهَذَا قَول كَعْب. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أمره بخلع نَعْلَيْه: ليباشر الْوَادي بقدميه، وَهَذَا قَول مُجَاهِد، وَقد جرت عَادَة الْمُسلمين أَنهم يخلعون نعَالهمْ إِذا بلغُوا الْمَسْجِد الْحَرَام لِلْحَجِّ، ويطوفون حُفَاة. وَقَوله: {إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس} أَي: المطهر، قَالَ الشَّاعِر: (وَأَنت وُصُول للأقارب مَدَرَة ... ترَاءى من الْآفَات إِنِّي مقدس) أَي: مطهر. وَقيل: معنى الْمُقَدّس، أَي: الْمُبَارك فِيهِ. وَقَوله: {طوى} عَامَّة الْمُفَسّرين أَنه اسْم الْوَادي، وَقيل: طوى أَي: قدس مرَّتَيْنِ.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا اخْتَرْتُك} أَي: اصطفيتك. وَقَوله: {فاستمع لما يُوحى} أَي: لما يُوحى إِلَيْك.

14

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني} أَي: لَا أحد يسْتَحق الْعِبَادَة سواي.

{الصَّلَاة لذكري (14) إِن السَّاعَة آتِيَة أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى (15) } وَقَوله: {وأقم الصَّلَاة لذكري} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: لتذكرني فِيهَا. وَالْآخر: تذكرني، وَهُوَ قَوْله: الله أكبر. وَالثَّالِث: أقِم الصَّلَاة لذكري أَي: صل إِذا ذكرت الصَّلَاة، وَهَذَا قَول مَعْرُوف. روى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن قَتَادَة، عَن أنس، أَن النَّبِي قَالَ: " من نسي صَلَاة فليصلها إِذا ذكرهَا؛ فَإِن ذَلِك وَقتهَا، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وأقم الصَّلَاة لذكري} ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور، قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، قَالَ: حَدثنَا ابْن بنت منيع، قَالَ: حَدثنَا هدبة، عَن حَمَّاد بن سَلمَة. . الحَدِيث. خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح عَن هدبة.

15

قَوْله تَعَالَى: {إِن السَّاعَة آتِيَة أكاد أخفيها} فِي الْآيَة أَقْوَال، وَهِي مشكلة. رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَأبي بن كَعْب أَنَّهُمَا قرآ: " أكاد أخفيها من نَفسِي ". وَبَعْضهمْ نقل: " فَكيف أظهرها لكم " فَهَذَا هُوَ أحد الْأَقْوَال فِي معنى الْآيَة. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله " أكاد أخفيها من نَفسِي "؟ قُلْنَا: هَذَا على عَادَة الْعَرَب، وَالْعرب إِذا بالغت فِي الْإِخْبَار عَن إخفاء الشَّيْء، قَالَت: كتمته حَتَّى من نَفسِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {أكاد} أَي: أُرِيد، وَمَعْنَاهُ: إِن السَّاعَة آتِيَة أُرِيد أخفيها. وَهَذَا قَول الْأَخْفَش. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَوْله: {أكاد} صلَة، وَمَعْنَاهُ: إِن السَّاعَة آتِيَة أخفيها. وَالْقَوْل الرَّابِع: إِن السَّاعَة آتِيَة أكاد، وَمعنى أكاد: تقريب الْوُرُود والإتيان، كَمَا قَالَ ضبائي البرجمي: (هَمَمْت وَلم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عُثْمَان تبْكي حلائله) فَقَوله: كدت لتقريب الْفِعْل، ثمَّ اسْتَأْنف قَوْله: {أخفيها لتجزى كل نفس بِمَا تسْعَى} أَي: تَأْتيكُمْ بَغْتَة، لتجزى كل نفس بِمَا عملت من خير وَشر، هَذَا اختبار

{فَلَا يصدنك عَنْهَا من لَا يُؤمن بهَا وَاتبع هَوَاهُ فتردى (16) وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا وأهش بهَا على غنمي ولي فِيهَا مآرب آخرى (18) } ابْن الْأَنْبَارِي. وَالْقَوْل الْخَامِس: {أكاد أخفيها} أَي: أظهرها، وَقُرِئَ: " أخفيها " بِفَتْح الْألف. وَمعنى الْإِظْهَار فِي هَذِه الْقِرَاءَة أظهر فِي اللُّغَة. قَالَ الشَّاعِر: (فَإِن تدفنوا الدَّاء لم نخفه ... وَإِن تأذنوا بِحَرب لَا نقعد) وَمعنى لَا نخفه: لم نظهره.

16

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا يصدنك عَنْهَا} أَي: فَلَا يمنعنك عَن التَّصْدِيق بهَا. {من لَا يُؤمن بهَا} أَي: من لَا يصدق بهَا. وَقَوله: {وَاتبع هَوَاهُ فتردى} أَي: تهْلك.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى} هَذَا سُؤال تَقْرِير، وَلَيْسَ بسؤال اسْتِفْهَام، وَالْحكمَة فِيهِ تثبيته وتوثيقه على أَنَّهَا عَصا، حَتَّى إِذا قَلبهَا الله حَيَّة، يعلم أَنَّهَا معْجزَة عَظِيمَة. وَهَذَا قَول على عَادَة الْعَرَب أَيْضا؛ يَقُول الرجل لغيره: هَل تعرف هَذَا؟ وَهُوَ لَا يشك أَنه يعرفهُ، وَيُرِيد بِهِ أَن يَنْضَم إِقْرَاره بِلِسَانِهِ إِلَى مَعْرفَته بِقَلْبِه.

18

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا} أَي: أعْتَمد عَلَيْهَا. وَقَوله: {وأهش بهَا على غنمي} أَي: أخبط بهَا (ورق الشّجر؛ لترعاه غنمي، وَقَرَأَ عِكْرِمَة: " وأهش بهَا) على غنمي " بِالسِّين غير الْمُعْجَمَة، وَالْفرق بَين الهش والهس؛ أَن الهش هُوَ خبط الشّجر، وإلقاء الْوَرق عَنهُ، والهس زجر الْغنم. وَقَوله: {ولي فِيهَا مآرب أُخْرَى} أَي: حاجات أخر، وَمن تِلْكَ الْحَاجَات؛ قَالَ

{قَالَ ألقها يَا مُوسَى (19) فألقاها فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تخف} أهل الْمعَانِي: كَانَ يقتل بهَا الْحَيَّات، ويحارب بهَا السبَاع، وَيحمل بهَا الزَّاد وَالنَّفقَة، ويصل الْحَبل إِذا استقى من الْبِئْر، ويستظل بهَا إِذا قعد، وَعَن الضَّحَّاك: كَانَت تضئ لَهُ بِاللَّيْلِ بِمَنْزِلَة السراج، وَقَالَ وهب: كَانَت الْعَصَا من آس الْجنَّة، وطولها اثْنَا عشر ذِرَاعا، وَلها شعبتان، وَعَلَيْهَا محجن. وَعَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: كَانَ اسْم الْعَصَا مَا شَاءَ. وأنشدوا فِي الهش: (أهش بالعصا على أغنامي ... من ناعم الْأَرَاك والبشام)

19

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ ألقها يَا مُوسَى} أَي: انبذها.

20

وَقَوله: {فألقاها} أَي: نبذها. وَقَوله: {فَإِذا هِيَ حَيَّة تسْعَى} أَي: تجئ وَتذهب، وَذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام نظر فَإِذا الْعَصَا صَارَت حَيَّة من أعظم مَا يكون من الْحَيَّات، وَصَارَت شعبتاها شدقين، والمحجن صَار عرفا يَهْتَز كالبتارك وعيناها تتقدان كالنار، وَهِي تمر بِالْحجرِ كَالْجمَلِ البارك فتبتلعه، وَلها أَنْيَاب تقصف الشّجر، فَرَأى مُوسَى أمرا عَظِيما فهرب، ثمَّ تذكر أَمر ربه، فَوقف مستحيا.

21

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تخف} لما هرب مُوسَى، قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: {أقبل وَلَا تخف} ، فَلَمَّا أقبل، قَالَ: {خُذْهَا} . وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ على مُوسَى مدرعة من صوف، قد خللها بعيدان، فَلَمَّا قَالَ الله لَهُ: {خُذْهَا} ، لف طرف كم المدرعة على يَده، فَأمره الله أَن يكْشف يَده، فكشف يَده، ووضعها فِي شدق الْحَيَّة، فَإِذا هِيَ عَصا كَمَا كَانَت، وَإِذا يَده فِي شعبتها. وَذكر بَعضهم: أَنه لما لف كم المدرعة على يَده، قَالَ لَهُ ملك: أَرَأَيْت لَو أذن الله لمن تحذره، أَكَانَت تغني عَنْك مدرعتك؟ فَقَالَ أَنا ضَعِيف، خلقت من ضعف.

{سنعيدها سيرتها الأولى (21) واضمم يدك إِلَى جناحك تخرج بَيْضَاء من غير سوء آيَة أُخْرَى (22) لنريك من آيَاتنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (24) قَالَ} وَقَوله: {سنعيدها سيرتها الأولى} . إِلَى هيئتها الأولى، وَإِنَّمَا انتصب؛ لِأَن مَعْنَاهُ: إِلَى هيئتها الأولى، فَحذف إِلَى فانتصب.

22

قَوْله تَعَالَى: {واضمم يدك إِلَى جناحك} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِلَى جَنْبك، وَالْآخر: إِلَى عضدك. والجناح هُوَ الْعَضُد إِلَى أصل الْإِبِط، قَالَ الشَّاعِر: (خفضت لَهُم مني جنَاح مَوَدَّة ... على كتف عطفاه أهل ومرحب) وَقَوله: {تخرج بَيْضَاء من غير سوء} أَي: نيرة مشرقة من غير مَكْرُوه وعيب، السوء هَا هُنَا بِمَعْنى البرص. وَقَالَ قَتَادَة: كَانَت الْيَد لَهَا نور سَاطِع كضوء الشَّمْس وَالْقَمَر، تضئ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار. وَقَوله: {آيَة أُخْرَى} أَي: دلَالَة أُخْرَى.

23

وَقَوله: {لنريك من آيَاتنَا الْكُبْرَى} . أَي: الْكَبِيرَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: أكبر الْآيَتَيْنِ يَده؛ فَكَانَ إِذا أخرجهَا من تَحت عضده، رَأَوْا لَهَا شعاعا وضياء تحار الْأَعْين فِيهَا، فَإِذا ردهَا إِلَى إبطه، وأخرجها عَادَتْ إِلَى مَا كَانَت.

24

وَقَوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} أَي: جَاوز الْحَد فِي الْعِصْيَان والتمرد، وَيُقَال: كَانَ اسْمه: وليد بن مُصعب، وَكَانَ أغْنى الفراعنة الَّذين كَانُوا بِمصْر.

25

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب اشرح لي صَدْرِي} أَي: وَسعه للحق، وَكَانَ مُوسَى يخَاف من فِرْعَوْن خوفًا شَدِيدا؛ لشدَّة شوكته، وَكَثْرَة جنده، فَضَاقَ قلبه لما بعث إِلَى فِرْعَوْن من الْخَوْف؛ فَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يُوسع قلبه للحق؛ فَيعلم أَنه لَا يقدر أحد أَن يعْمل بِهِ شَيْئا إِلَّا بِإِذن الله، أَو يَنَالهُ بمكروه إِلَّا بمشيئته.

26

وَقَوله: {وَيسر لي أَمْرِي} أَي: سهل عَليّ الْأَمر الَّذِي بعثتني لَهُ.

{رب اشرح لي صَدْرِي (25) وَيسر لي أَمْرِي (26) واحلل عقدَة من لساني (27) يفقهوا قولي (28) وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي (29) هرون أخي (30) اشْدُد بِهِ أزري (31) وأشركه فِي أَمْرِي (32) كي نسبحك كثيرا (33) ونذكرك كثيرا (34) إِنَّك}

27

قَوْله: {واحلل عقدَة من لساني} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَت على لِسَان مُوسَى عقدَة من أَخذه الْجَمْر، وَوَضعه إِيَّاه فِي فَمه، وَسَببه أَن أمْرَأَة فِرْعَوْن جَاءَت بمُوسَى إِلَى فِرْعَوْن، فَوَضَعته فِي حجره، فَأخذ بلحية فِرْعَوْن، وَفِي رِوَايَة: لطم وَجه فِرْعَوْن لطمة، فَغَضب فِرْعَوْن، وَقَالَ: هَذَا هُوَ عدوي، وَأَرَادَ أَن يقْتله، فَقَالَت امْرَأَة فِرْعَوْن: إِنَّه صبي، لَا يعقل وَلَا يُمَيّز، وَهُوَ لَا يُمَيّز بَين الْجَوْهَر والجمر، فدعي لَهُ بطبق من جمر، وطبق من جَوْهَر، فَأخذ الْجَمْر، وَوَضعه فِي فِيهِ، فَاحْتَرَقَ لِسَانه، وَصَارَت عَلَيْهِ عقدَة. وَذكر بَعضهم: أَنه أَرَادَ أَن يَأْخُذ الْجَوْهَر، فصرف جِبْرِيل يَده إِلَى الْجَمْر.

28

وَقَوله: {يفقهوا قولي} أَي: يفهموا قولي.

29

{وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي} الْوَزير من يؤازرك على الشئ، أَي: يعينك، ويتحمل عَنْك بعض ثقله، ووزير الْأَمِير من يتَحَمَّل عَنهُ بعض مَا عَلَيْهِ.

30

وَقَوله: {هَارُون أخي} كَانَ هَارُون أكبر مِنْهُ بِأَرْبَع سِنِين، فَكَانَ أفْصح مِنْهُ لِسَانا، وأجمل مِنْهُ وَجها، وأوسم وأبيض، وَكَانَ مُوسَى أَدَم، أقنى جَعدًا.

31

وَقَوله {اشْدُد بِهِ أزري} أَي: قو بِهِ ظَهْري، وَيُقَال: إِنَّه لم يكن أحد على أَخِيه أسعد ولأخيه أَنْفَع من مُوسَى لهارون.

32

وَقَوله: {وأشركه فِي أَمْرِي} أَي: النُّبُوَّة وَأَدَاء الرسَالَة.

33

وَقَوله: {كي نسبحك كثيرا} أَي: نصلي لَك كثيرا.

34

{ونذكرك كثيرا} نتعاون على ذكرك.

35

{إِنَّك كنت بِنَا بَصيرًا} أَي: خَبِيرا عليما.

{كنت بِنَا بَصيرًا (35) قَالَ قد أُوتيت سؤلك يَا مُوسَى (36) وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَينَا إِلَى أمك مَا يُوحى (38) أَن اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فليلقه اليم بالسَّاحل يَأْخُذهُ عَدو لي وعدو لَهُ وألقيت عَلَيْك محبَّة مني ولتصنع على عَيْني}

36

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قد أُوتيت سؤلك يَا مُوسَى} أَي: أَعْطَيْت جَمِيع مَا سَأَلت.

37

وَقَوله: {وَلَقَد مننا عَلَيْك مرّة أُخْرَى} أَي: أنعمنا عَلَيْك مرّة أُخْرَى سوى هَذِه الْمرة.

38

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ أَوْحَينَا إِلَى أمك مَا يُوحى} ذكر نعمه وعددها عَلَيْهِ؛ ليعرفها، وَيزِيد فِي شكره. وَقَوله: {إِذْ أَوْحَينَا إِلَى أمك مَا يُوحى} أَي: ألهمنا أمك مَا يُوحى، أَي: مَا يلهم.

39

وَقَوله تَعَالَى: {أَن اقذفيه} أَي: ألهمناها أَن أقذفيه. قَوْله تَعَالَى: {فِي التابوت} هُوَ شَيْء يتَّخذ من الْخشب. وَقَوله: {فاقذفيه فِي اليم} اليم: هُوَ الْبَحْر، وَيُقَال: إِن اليم هَا هُنَا هُوَ النّيل، وَالْعرب تسمي المَاء الْكثير بحرا. رُوِيَ أَن الْمُسلمين لما وصلوا إِلَى دجلة يَوْم فتحُوا الْمَدَائِن، فَقَالُوا: كَيفَ نَفْعل، وَهَذَا الْبَحْر بَيْننَا وَبينهمْ؟ ثمَّ إِنَّهُم ارتطموا دجلة بخيولهم، وخاضوا الْقِصَّة إِلَى آخرهَا. وَقَوله: {فليلقه اليم بالسَّاحل} فِي الْقِصَّة: أَن المَاء أَلْقَاهُ إِلَى مشرعة دَار فِرْعَوْن، وَرُوِيَ أَنَّهَا ألقته فِي النّيل، وألقاه النّيل فِي الْبَحْر، ثمَّ إِن الْبَحْر أَلْقَاهُ بالسَّاحل. وَقَوله: {وألقيت عَلَيْك محبَّة مني} قَالَ عِكْرِمَة: لم يره أحد إِلَّا أحبه، وَقَالَ قَتَادَة: ملاحة فِي عَيْنَيْهِ تَأْخُذ (بالقلوب) . وَقَوله: {ولتصنع على عَيْني} أَي: تربى وتغذى على نظر مني، وَهُوَ مثل قَوْله

( {39) إِذْ تمشي أختك فَتَقول هَل أدلكم على من يكفله فرجعناك إِلَى أمك كي تقر عينهَا وَلَا تحزن وَقتلت نفسا فنجيناك من الْغم وَفَتَنَّاك فُتُونًا} تَعَالَى: {واصنع الْفلك بأعيننا} فَإِن قيل: مَا من أحد فِي الْعَالم إِلَّا وَهُوَ يربى وَيغدى بمرأى من الله وَنظر مِنْهُ، فَأَي معنى لتخصيص مُوسَى؟ وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى فعل فِي اللطف فِي تربية مُوسَى مَا لم يفعل فِي تربية غَيره، فالتخصيص إِشَارَة إِلَى ذَلِك اللطف.

40

وَقَوله: {إِذْ تمشي أختك} سنذكر هَذَا فِي سُورَة الْقَصَص، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَوله: {فَتَقول هَل أدلكم على من يكفله} يَعْنِي: على امْرَأَة ترْضِعه، وتضمه إِلَيْهَا. وَقَوله: {فرجعناك إِلَى أمك} أَي: فرددناك. وَقَوله: {إِلَى أمك كي تقر عينهَا} قد بَينا معنى قُرَّة الْعين، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى فرحها وسرورها بِوُجُودِهِ. وَقَوله: {وَلَا تحزن} أَي: يذهب عَنْهَا الْحزن. وَقَوله: {وَقتلت نفسا} أَي: القبطي، وسنذكره من بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَوله: {فنجيناك من الْغم} أَي: من الْقَتْل، وَقيل: من غم التابوت، وغم الْبَحْر. وَقَوله: {وَفَتَنَّاك فُتُونًا} أَي: ابتليناك مرّة بعد مرّة، وَقيل: بلَاء بعد بلَاء، وَيُقَال: أخلصناك إخلاصا. من الْمَشْهُور الْمَعْرُوف أَن سعيد بن جُبَير، سَأَلَ عبد الله بن عَبَّاس عَن قَوْله: {وَفَتَنَّاك فُتُونًا} فَقَالَ: تَغْدُو على غَدا، فَلَمَّا جَاءَهُ من الْغَد، أَخذ مَعَه فِي قصَّة مُوسَى من أَولهَا، وَجعل يعد عَلَيْهِ شَيْئا فَشَيْئًا من وِلَادَته فِي سنة قتل الْأَبْنَاء، وَمن إلقائه فِي المَاء، وَجعله فِي التابوت، ووقوعه فِي يَد فِرْعَوْن، ولطمه وَجهه، وَأَخذه

{فَلَبثت سِنِين فِي أهل مَدين ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى (40) واصطنعتك لنَفْسي (41) اذْهَبْ أَنْت وأخوك بآياتي وَلَا تنيا فِي ذكري (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (43) } الْجَمْرَة، ثمَّ من قَتله القبطي، ثمَّ فراره إِلَى مَدين ... إِلَى آخر الْقِصَّة على مَا يرد، وَجعل يَقُول كلما ذكر شَيْئا من هَذَا: ذَلِك (من) الْفُتُون يَا ابْن جُبَير، حَتَّى عد عَلَيْهِ الْجَمِيع. وَقَوله: {فَلَبثت سِنِين فِي أهل مَدين} يَعْنِي: تراعي الأغنام. وَقَوله: {ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى} أَي: على قدر النُّبُوَّة والرسالة. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَلم يبْعَث الله نَبيا إِلَّا على رَأس أَرْبَعِينَ سنة، وَجَاء مُوسَى ربه، وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة؛ فنبأه الله وأرسله، فَهَذَا معنى قَوْله: {ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى} . وَقيل مَعْنَاهُ: جِئْت على موعد يَا مُوسَى، وَلم يكن هَذَا الْموعد مَعَ مُوسَى، وَإِنَّمَا كَانَ موعدا فِي تَقْدِير الله تَعَالَى. وَيُقَال: وافيت فِي الْوَقْت الَّذِي قدرت أَي: توافى فِيهِ، قَالَ الشَّاعِر: (نَالَ الْخلَافَة إِذْ كَانَت لَهُ قدرا ... كَمثل مُوسَى الَّذِي وافى على قدر)

41

وَقَوله: {واصطنعتك لنَفْسي} قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: اخْتَرْتُك لأمري، وجعلتك الْقَائِم بحجتي، والمخاطب بيني وَبَين خلقي، كَأَنِّي الَّذِي أَقمت عَلَيْهِم الْحجَّة وخاطبتهم، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: استكفيتك طلب كِفَايَة أَمر من خَاص أَمْرِي، وصنيعة الْإِنْسَان خاصته وتربيته إِذا أعده لأمر من مُهِمّ أمره.

42

وَقَوله: {اذْهَبْ أَنْت وأخوك بآياتي} أَي: بدلائلي. وَقَوله: {وَلَا تنيا فِي ذكري} . أَي: وَلَا تضعفا فِي ذكري، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَلَا تهنا فِي ذكري ".

43

وَقَوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} قد بَينا.

44

قَوْله تَعَالَى: {فقولا لَهُ قولا لينًا} . مَعْنَاهُ: دارياه [بالرفق] ، وارفقا مَعَه، وَيُقَال

{فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى (44) قَالَا رَبنَا إننا نَخَاف أَن يفرط علينا أَو أَن} مَعْنَاهُ: كنياه. وَاخْتلفُوا فِي كنيته: مِنْهُم من قَالَ: كنيته أَبُو الْوَلِيد، وَمِنْهُم من قَالَ: أَبُو مرّة وَمِنْهُم من قَالَ: أَبُو الْعَبَّاس، وَالله أعلم. وَقَوله: {لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى} . أَي: يتعظ وَيخَاف. فَإِن قيل قَوْله {لَعَلَّه} تطميع، فَكيف يطمعهما فِي إِسْلَامه، وَقد قدر أَنه لَا يسلم؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: اذْهَبَا على رجائكما وطمعكما، وَقَضَاء الله وَرَاء أمركما، وَقَالَ بَعضهم: قد تذكر وَخَافَ، إِلَّا أَنه حِين لم تَنْفَعهُ التَّذْكِرَة وَالْخَوْف، وَقد بَينا فِي سُورَة يُونُس. وَفِي قَوْله: {فقولا لَهُ قولا لينًا} كَلِمَات مَعْرُوفَة؛ قَالَ بَعضهم: هَذَا رفقك بِمن يَقُول: أَنا الْإِلَه، فَكيف رفقك بِمن يَقُول: أَنْت الْإِلَه، وَهَذَا رفقك بالكفار، فَكيف رفقك بالأبرار؟ وَهَذَا رفقك بِمن جحدك، فَكيف رفقك بِمن وَحدك. وَهَذِه تحببك إِلَى من تعاديه، فَكيف إِلَى من تواليه وتناديه؟ .

45

قَوْله تَعَالَى: {قَالَا رَبنَا إننا نَخَاف أَن يفرط علينا أَو أَن يطغى} يَعْنِي: أَن يُبَادر ويعجل بعقوبتنا قبل أَن نريه الْآيَات. وَحكي عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: كَانَ مُوسَى يخَاف من فِرْعَوْن خوفًا شَدِيدا، وَكَانَ إِذا دخل عَلَيْهِ، يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَره، وأدرأك فِي نَحره، فحول الله تَعَالَى ذَلِك الْخَوْف إِلَى فِرْعَوْن؛ فَكَانَ إِذا رأى مُوسَى بَال فِي ثِيَابه كَمَا يَبُول الْحمار. وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا دخل أحدكُم على سُلْطَان يخَاف تغطرسه، فَلْيقل: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من شَره، وَشر أحزابه؛ أَن يفرط أحد مِنْهُم عَليّ أَو يطغى، عز جَارك، وَجل ثناؤك، وَلَا إِلَه غَيْرك ".

{يطغى (45) قَالَ لَا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى (46) فَأتيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولا رَبك فَأرْسل مَعنا بني إِسْرَائِيل وَلَا تُعَذبهُمْ قد جئْنَاك بِآيَة من رَبك وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى (47) إِنَّا قد أُوحِي إِلَيْنَا أَن الْعَذَاب على من كذب وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمن رَبكُمَا}

46

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ لَا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى} أَي: أسمع دعاءكما فَأُجِيب، وَأرى أمركما مَعَ فِرْعَوْن فأدفعه عنكما.

47

قَوْله تَعَالَى: {فَأتيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولا رَبك فَأرْسل مَعنا بني إِسْرَائِيل} أَي: خلهم، وأطلقهم من أعمالك، وَقد بَينا أَنه كَانَ يكلفهم الْأَعْمَال الشاقة، وَقد ضرب عَلَيْهِم الضرائب. وَقَوله: {وَلَا تُعَذبهُمْ} قد بَينا. وَقَوله: {قد جئْنَاك بِآيَة من رَبك} بِدلَالَة من رَبك. وَقَوله: {وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى} . لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ تَحِيَّة فِرْعَوْن، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ أَن من اتبع الْهدى فقد سلم من عَذَاب الله، وَمِنْهُم من قَالَ: مَعْنَاهُ: (من) أسلم سلم. وَفِي بعض الْآثَار عَن السّديّ: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لفرعون: " آمن بِاللَّه، وَلَك شباب لَا تهرم فِيهِ، وَملك لَا ينْزع مِنْك، وَلَذَّة فِي الْمطعم وَالْمشْرَب والمنكح إِلَى أَن تَمُوت، ثمَّ إِذا مت دخلت الْجنَّة، فأعجبه هَذَا الْكَلَام، وَكَانَ لَا يقطع أمرا دون هامان، فَقَالَ: حَتَّى أنظر فِي ذَلِك؛ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ هامان، قَالَ لَهُ: ألم تَرَ أَن هَذَا الرجل الَّذِي أَتَانَا قَالَ كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ قبل ذَلِك يُسَمِّيه السَّاحر، فَلم يسمه السَّاحر فِي ذَلِك الْيَوْم، فَقَالَ لَهُ هامان: كنت أَظن أَن لَك رَأيا وعقلا! تُرِيدُ أَن تصير مربوبا بعد أَن كنت رَبًّا، وعبدا بعد أَن كنت معبودا، فغلبه عَن رَأْيه، فَأبى على مُوسَى مَا أَرَادَ مِنْهُ.

48

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا قد أُوحِي إِلَيْنَا أَن الْعَذَاب على من كذب وَتَوَلَّى} . أَي: كذب بآيَات الله، وَتَوَلَّى عَن طَاعَة الله.

{يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبنَا الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى (50) قَالَ فَمَا بَال الْقُرُون الأولى (51) قَالَ علمهَا عِنْد رَبِّي فِي كتاب لَا يضل رَبِّي وَلَا ينسى (52) الَّذِي}

49

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَمن رَبكُمَا يَا مُوسَى} ظَاهر الْمَعْنى.

50

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ رَبنَا الَّذِي أعْطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى} قَالَ الْحسن: أعْطى كل شَيْء مَا يصلحه، ثمَّ هداه إِلَيْهِ. وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ أعْطى كل شَيْء صُورَة، ثمَّ هداه إِلَى مَنَافِعه من الْمطعم وَالْمشْرَب والمنكح. وَفِيه قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنه أعْطى كل حَيَوَان زوجه، ثمَّ هداه إِلَى مأتاه، وكل ذكر يَهْتَدِي كَيفَ يَأْتِي الْأُنْثَى. وَرُوِيَ عَن أبس سابط أَنه قَالَ: أبهمت الْبَهَائِم إِلَّا عَن أَربع: تعرف خَالِقهَا، وتطلب رزقها، وتدفع عَن نَفسهَا، وتعرف كَيفَ يَأْتِي (أنثاه) .

51

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَمَا بَال الْقُرُون الأولى} مَعْنَاهُ: فَمَا حَال الْقُرُون الأولى، وَأَرَادَ بِهِ مَا حَالهم فِيمَا دعوتني إِلَيْهِ؟ وَقيل: لما دَعَاهُ مُوسَى إِلَى الْإِقْرَار بِالْبَعْثِ سَأَلَ وَقَالَ: مَا حَال الْقُرُون الأولى فِي الْبَعْث؟ وَيُقَال: إِنَّه انْصَرف إِلَى هَذَا الْكَلَام تعنتا، وعدولا عَن الْجَواب.

52

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ علمهَا عِنْد رَبِّي} أَي: علم الْقُرُون الأولى عِنْد رَبِّي. [قَوْله: {فِي كتاب} قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ] . وَقَوله: {لَا يضل رَبِّي} أَي: لَا يخطىء رَبِّي، وَقَالَ ثَعْلَب: لَا يذهب عَلَيْهِ مَوْضِعه، وَقيل: لَا يغيب عَن رَبِّي، وَقَرَأَ الْحسن: " لَا يضل رَبِّي " بِرَفْع الْيَاء، من الإضلال، وَيُقَال: لَا يضل رَبِّي: لَا يغْفل عَنهُ رَبِّي. وَقَوله: {وَلَا ينسى} أَي: لَا يتْركهُ، فينتقم من الْكَافِر، ويجازي الْمُؤمن، وَيُقَال:

{جعل لكم الأَرْض مهدا وسلك لكم فِيهَا سبلا وَأنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ أَزْوَاجًا من نَبَات شَتَّى (53) كلوا وارعوا أنعامكم إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجم تَارَة أُخْرَى (55) وَلَقَد أريناه آيَاتنَا كلهَا فكذب وأبى (56) قَالَ أجئتنا لتخرجنا من أَرْضنَا بسحرك يَا مُوسَى (57) } . هُوَ النسْيَان حَقِيقَة. وَقَرَأَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ: " وَلَا ينسى " على مَا لم يسم فَاعله.

53

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي جعل لكم الأَرْض مهادا} وقرىء: " مهدا " إِلَى هَذَا الْموضع انْتهى كَلَام فِرْعَوْن مَعَ مُوسَى وَجَوَابه إِيَّاه. وَقَوله: {الَّذِي جعل لكم الأَرْض مهدا} ابْتِدَاء كَلَام من الله وَمَعْنَاهُ: مُسْتَقرًّا. وَقَوله: {وسلك لكم فِيهَا سبلا} أَي: سهل ووطأ لكم فِيهَا طرقا. وَقَوله: {وَأنزل من السَّمَاء مَاء} أَي: الْمَطَر. وَقَوله: {فأخرجنا بِهِ أَزْوَاجًا} أَي: أصنافا: الْأَحْمَر، والأصفر، والأخضر. وَقَوله: {من نَبَات شَتَّى} أَي: من نَبَات مُتَفَرِّقَة.

54

وَقَوله: {كلوا وارعوا أنعامكم} أَي: كلوا، وأسيموا أنعامكم ترعى. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى} قَالَ ثَعْلَب: لأولي الْعُقُول، وَقيل: للَّذين يَنْتَهِي إِلَى رَأْيهمْ، وَقيل: للَّذين يتناهون عَن الْمعاصِي وينزجرون عَنْهَا بعقولهم.

55

قَوْله تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} أَي: من الأَرْض. وَقَوله: {وفيهَا نعيدكم} أَي: عِنْد الْمَوْت. وَقَوله: {وَمِنْهَا نخرجكم تَارَة أُخْرَى} أَي: عِنْد الْحَشْر. فَإِن قيل: فِي الِابْتِدَاء لم نخرج عَن الأَرْض، فَكيف قَالَ: {تَارَة أُخْرَى} ؟ . قُلْنَا مَعْنَاهُ: وَمِنْهَا نخلقكم تَارَة أُخْرَى، فَيصح الْمَعْنى على هَذَا.

56

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أريناه آيَاتنَا كلهَا} هِيَ الْآيَات التسع الَّتِي أعطيها مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله: {فكذب وأبى} أَي: كذب بِالتَّوْحِيدِ، وأبى عَن الْإِيمَان.

57

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أجئتنا لتخرجنا من أَرْضنَا بسحرك يَا مُوسَى} مَعْنَاهُ: لتأْخذ رمنا أَرْضنَا؛ فَيكون لَك الْملك وَالسُّلْطَان، وَتخرج من تشَاء، وَتدْخل من تشَاء.

{فلنأتينك بِسحر مثله فَاجْعَلْ بَيْننَا وَبَيْنك موعدا لَا نخلفه نَحن وَلَا أَنْت مَكَانا سوى (58) قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة وَأَن يحْشر النَّاس ضحى (59) فَتَوَلّى فِرْعَوْن فَجمع كَيده ثمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُم مُوسَى وَيْلكُمْ لَا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بِعَذَاب}

58

قَوْله: {فلنأتينك بِسحر مثله} يَعْنِي: مثل سحرك. وَقَوله: {فَاجْعَلْ بَيْننَا وَبَيْنك موعدا} أَي: موعدا للاجتماع. وَقَوله: {لَا نخلفه نَحن وَلَا أَنْت} أَي: لَا نتخلف نَحن وَلَا أَنْت. وَقَوله: {مَكَانا سوى} قرىء بِالرَّفْع، وقرىء بِالْكَسْرِ. وَمَعْنَاهُ: مَكَانا عدلا، وَقيل: منصفا وَيُقَال: فِي مَكَان مستوى لَا يغيب عَن أحد فِيهَا مَا يفعل بَعْضنَا بِبَعْض. قَالَ ابْن فَارس: وَهَذَا قَول الْحسن، وَيُقَال: مَكَانا سوى أَي: يَسْتَوِي فِي الْمسَافَة إِلَيْهِ.

59

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَوْم الزِّينَة يَوْم عيد لَهُم؛ كَانُوا يَجْتَمعُونَ لَهُ، وَيُقَال: يَوْم الفيروز. وَعَن عَطاء: أَنه كره الزِّينَة للأعياد؛ قَالَ: هُوَ من عمل الْكفَّار. وَقَوله: {وَأَن يحْشر النَّاس ضحى} أَي: فِي صدر النَّهَار، وَقد جرت الْعَادة أَن الأعياد تكون فِي أول النَّهَار، وَكَذَلِكَ اجْتِمَاع النَّاس فِي الْأُمُور أَكثر مَا يكون فِي أول النَّهَار.

60

وَقَوله تَعَالَى: {فَتَوَلّى فِرْعَوْن} مَعْنَاهُ: فَأَعْرض، وَقيل: ولى الْأَمر فِرْعَوْن. وَقَوله: {فَجمع كَيده} أَي: مكره وحيلته. وَقَوله: {ثمَّ أَتَى} أَي: ثمَّ أَتَى بالموعد.

61

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَهُم مُوسَى وَيْلكُمْ لَا تفتروا على الله كذبا} قَالَ الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس: جمع فِرْعَوْن سبعين ألفا من السَّحَرَة، وَذكر مقَاتل: حمس عشرَة ألفا، وَذكر بَعضهم: نيفا وَسبعين رجلا، وَهُوَ قَول مَعْرُوف.

{وَقد خَابَ من افترى (61) فتنازعوا أَمرهم بَينهم وأسروا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِن} وَقَوله: {وَيْلكُمْ لَا تفتروا عَليّ كذبا} أَي: لَا تختلقوا على الله كذبا، مَعْنَاهُ: لَا تكذبوا على الله. وَقَوله: {فيسحتكم بِعَذَاب} بِنصب الْيَاء، وقرىء: " فيسحتكم " بِرَفْع الْيَاء، وَمَعْنَاهُ: الاستئصال أَي: يستأصلكم بِالْعَذَابِ، قَالَ الفرزدق شعرًا: (وعض زمَان يَا بن مَرْوَان لم يدع ... من المَال إِلَّا مسحتا أَو مجلف) وَفرق بَعضهم بَين الرّفْع وَالْفَتْح؛ فَقَالَ: هُوَ بِالنّصب أَن لَا يبْقى شَيْء، وبالرفع أَن يبْقى بَقِيَّة، وَالأَصَح أَن لَا فرق. وَقيل: فيسحتكم، أَي: (شهد) لكم. وَقَوله: {وَقد خَابَ من افترى} أَي: خسر وَهلك من افترى.

62

قَوْله تَعَالَى: {فتنازعوا أَمرهم بَينهم وأسروا النَّجْوَى} قَالَ قَتَادَة: هَذَا ينْصَرف إِلَى السَّحَرَة، وإسرارهم النَّجْوَى أَنهم قَالُوا: إِن كَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مُوسَى سحرًا، فسنغلبه، وَإِن غلبنا فَلهُ أَمر، وَرُوِيَ أَنهم قَالُوا: إِن غلبنا اتبعناه.

63

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِن هَذَانِ لساحران} اعْلَم أَن هَذِه الْآيَة مشكلة فِي الْعَرَبيَّة، وفيهَا ثَلَاث قراءات: قَرَأَ أَبُو عَمْرو: " إِن هذَيْن لساحران "، وَقَرَأَ حَفْص: " إِن هَذَانِ لساحران "، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: " إِن هَذَانِ لساحران ". أما قِرَاءَة أبي عَمْرو: فَهِيَ المستقيمة على ظَاهر الْعَرَبيَّة، وَزعم أَبُو عَمْرو أَن " هَذَانِ " غلط من الْكَاتِب فِي الْمُصحف.

وَعَن عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أرى فِي الْمُصحف لحنا، (تستقيمه) الْعَرَب بألسنتها. وَمثله عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا -. وَأما قِرَاءَة حَفْص: فَهِيَ مُسْتَقِيمَة أَيْضا على الْعَرَبيَّة؛ لِأَن إِن مُخَفّفَة يكون مَا بعْدهَا مَرْفُوعا، وَمَعْنَاهُ: مَا هَذَانِ إِلَّا ساحران. وَأما قِرَاءَة الْأَكْثَرين - وَهُوَ الْأَصَح - قَالَ الزّجاج: لَا نرضى قِرَاءَة أبي عَمْرو فِي هَذِه الْآيَة؛ لِأَنَّهَا خلاف الْمُصحف، وَأما وَجه قَوْله: {إِن هَذَانِ} فَلهُ وُجُوه فِي الْعَرَبيَّة: أما القدماء من النَّحْوِيين فَإِنَّهُم قَالُوا: " هُوَ على تَقْدِير: إِنَّه هَذَانِ، فَحذف الْهَاء، وَمثله كثير فِي الْعَرَبيَّة، وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذَا لُغَة كنَانَة وخثعم (وزبيد) ، وَقَالَ الْكسَائي: لُغَة بلحارث بن كَعْب من كنَانَة، وَأنْشد الْكسَائي شعرًا: (تزَود مني بَين أذنَاهُ ضَرْبَة ... دَعَتْهُ إِلَى هَذِه التُّرَاب عقيم) وَأنْشد غَيره: (إِن أَبَاهَا وَأَبا أَبَاهَا قد ... بلغا فِي الْمجد غايتاها) وأنشدوا أَيْضا: (أَي قلُوص رَاكب ترَاهَا ... طاروا علاهن فطر علاها) أَي: عَلَيْهِنَّ. قَالَ الْكسَائي: على هَذِه اللُّغَة يَقُولُونَ: أَتَانِي الزيدان، وَرَأَيْت الزيدان، ومررت بالزيدان، وَلَا يتركون ألف التَّثْنِيَة فِي شَيْء مِنْهَا. وَأما الْوَجْه الثَّالِث، هُوَ أصح الْوُجُوه، فَإِن الْقُرْآن لَا يحمل على اللُّغَة الْبَعِيدَة؛ وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {إِن هَذَانِ} أَي: نعم هَذَانِ، قَالَ الشَّاعِر: (بكر العواذل فِي الصَّباح ... يلمنني وألومهن) (وَيَقُلْنَ شيب قد علاك ... وَقد كَبرت فَقلت إِنَّه)

{هَذَانِ لساحران يُريدَان أَن يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) فَأَجْمعُوا كيدكم ثمَّ ائْتُوا صفا} أَي: نعم وَرُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا أَتَى عبد الله بن الزبير يطْمع شَيْئا، فَلم (يحصل) لَهُ طمعه، فَقَالَ الْأَعرَابِي: لعن الله نَاقَة حَملتنِي إِلَيْك، فَقَالَ ابْن الزبير: إِن، وصاحبها، أَي: نعم. وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " إِن ذَاك إِلَّا ساحران "، وَهِي شَاذَّة. وَقَوله: {يُريدَان أَن يخرجاكم من أَرْضكُم بسحرهما} قد بَينا. وَقَوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} أَي: بالطريقة المستقيمة الَّتِي أَنْتُم عَلَيْهَا، وَكَانُوا يظنون أَنهم على دين مُسْتَقِيم، والمثلى تَأْنِيث الأمثل. وَأما ابْن عَبَّاس قَالَ: بطريقتكم المثلى أَي: الرِّجَال الْأَشْرَاف. وَقَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ بني إِسْرَائِيل، وَكَانُوا أهل يسَار (وَعزة) . فَقَالُوا: يُريدَان أَن يذهبا بهؤلاء. وَالْعرب تَقول: هَؤُلَاءِ طَريقَة الْقَوْم أَي: أَشْرَافهم. وَمِنْهُم من قَالَ: مَعْنَاهُ أهل طريقتكم المثلى.

64

وَقَوله: {فَأَجْمعُوا كيدكم} وقرىء بالوصل: " فاجمعوا ". أما قَوْله: {فَأَجْمعُوا} بِالْقطعِ فَمَعْنَاه: الْعَزِيمَة والإحكام. قَالَ الْأَزْهَرِي: تَقْدِيره: اعزموا كلكُمْ على كَيده مُجْتَمعين لَهُ، وَلَا تختلفوا فيختل أَمركُم. وَأما قَوْله: " فاجمعوا " بالوصل، مَعْنَاهُ: جيئوا بِكُل كيد لكم؛ لتعارضوا مُوسَى. وَقَوله: {ثمَّ ائْتُوا صفا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مصطفين، وَقَالَ غَيره: الصَّفّ هُوَ

{وَقد أَفْلح الْيَوْم من استعلى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون أول من ألْقى (65) قَالَ بل ألقوا فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى (66) فأوجس فِي نَفسه خيفة مُوسَى (67) [الْمصلى] ، وَمَعْنَاهُ: ثمَّ ائْتُوا الْمَكَان الْمَوْعُود. وَقَوله: {وَقد أَفْلح الْيَوْم من استعلى} أَي: سعد وفاز من كَانَت لَهُ الْغَلَبَة فِي الْيَوْم.

65

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تلقي وَإِمَّا أَن نَكُون أول من ألْقى} مَعْنَاهُ: اختر، إِمَّا أَن تلقي أَنْت أَولا، أَو نلقي نَحن أَولا.

66

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ بل ألقوا} يَعْنِي: ابتدءوا أَنْتُم بالإلقاء. فَإِن قَالَ قَائِل: إلقاؤهم كَانَ كفرا وسحرا، فَهَل يجوز أَن يَأْمُرهُم مُوسَى بالإلقاء الَّذِي هُوَ سحر وَكفر؟ الْجَواب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذَا أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: إِن كَانَ إلقاؤكم عنْدكُمْ حجَّة فَألْقوا، وَالثَّانِي: أَنه أَمرهم بالإلقاء على قصد إبِْطَال سحرهم بِمَا يلقى من عَصَاهُ، وَهَذَا جَائِز. وَقَوله: {فَإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِلَيْهِ من سحرهم أَنَّهَا تسْعَى} وقرىء بِالْيَاءِ وَالتَّاء " تخيل "، فَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ، فَهُوَ رَاجع إِلَى العصي والحبال، فأنثت لِأَنَّهَا جمع، وَأما بِالْيَاءِ فَيَنْصَرِف إِلَى الْإِلْقَاء. وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لما ألقوا الحبال والعصي رأى مُوسَى وَالْقَوْم كَأَن الأَرْض امْتَلَأت حيات، وَهِي تسْعَى أَي: تذْهب وتجيء. وَاعْلَم أَن التخايل مَا لَا أصل لَهُ. وَيُقَال: إِنَّهُم أخذُوا بأعين النَّاس، فظنوا وَحَسبُوا أَنَّهَا حيات، وَقيل: إِن حبالهم وعصيهم أخذت ميلًا من هَذَا الْجَانِب، وميلا من ذَلِك الْجَانِب.

67

قَوْله تَعَالَى: {فأوجس فِي نَفسه خيفة مُوسَى} أَي: وجد فِي نَفسه خيفة، وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الْخَوْف على قَوْلَيْنِ:

{قُلْنَا لَا تخف إِنَّك أَنْت الْأَعْلَى (68) وألق مَا فِي يَمِينك تلقف مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى (69) فألقي السَّحَرَة سجدا قَالُوا آمنا بِرَبّ} أَحدهمَا: أَنه خوف البشرية، وَالْآخر: خَافَ على الْقَوْم أَن يلتبس عَلَيْهِم الْأَمر، فَلَا يُؤمنُوا، وَيُقَال: خَافَ على قومه أَن يشكوا، فيرجعوا عَن الْإِيمَان.

68

قَوْله تَعَالَى: {قُلْنَا لَا تخف إِنَّك أَنْت الْأَعْلَى} أَي: الْغَلَبَة وَالظفر لَك.

69

قَوْله تَعَالَى: {وألق مَا فِي يَمِينك تلقف مَا صَنَعُوا} أَي: تلتقم وتبتلع. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا فتحت فاها، فابتلعت كل مَا كَانَ يمر من العصي والحبال، وَفرْعَوْن يضْحك ويظن أَنه سحر، ثمَّ قصدت قبَّة فِرْعَوْن، وَكَانَ طولهَا فِي الْهَوَاء [أَرْبَعِينَ] ذِرَاعا، ففتحت فاها على قدر ثَمَانِينَ ذِرَاعا، وأرادت أَن تلتقم الْقبَّة، فَنَادَى فِرْعَوْن: يَا مُوسَى، بِحَق التربية، قَالَ: فجَاء فَأَخذهَا، فَعَادَت عَصا على مَا كَانَت. وَقَوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كيد سَاحر} قرىء " سَاحر "، وقرىء " سحر "، فَقَوله: {كيد سَاحر} أَي: حِيلَة سَاحر. وَقَوله: {كيد سحر} أَي: حِيلَة من سحر. وَقَوله: {وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} فِي التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: أَيْن وجد قتل. وَفِي بعض المسانيد عَن جُنْدُب بن عبد الله، أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أَخَذْتُم السَّاحر فَاقْتُلُوهُ، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يفلح السَّاحر حَيْثُ أَتَى} ".

70

قَوْله تَعَالَى: {فألقي السَّحَرَة سجدا} قد بَينا من قبل. وَقَوله: {قَالُوا آمنا بِرَبّ هَارُون ومُوسَى} أَي: بإله هَارُون ومُوسَى، وَقدم هَارُون على مُوسَى على وفْق رُءُوس الْآي.

{هرون ومُوسَى (70) قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذن لكم إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر فلأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل ولتعلمن أَيّنَا أَشد عذَابا وَأبقى (71) قَالُوا لن نؤثرك على مَا جَاءَنَا من الْبَينَات وَالَّذِي فطرنا فَاقْض مَا أَنْت}

71

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذن لكم} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر} أَي: معلمكم الَّذِي علمكُم السحر. وَحكى الْكسَائي أَن الْعَرَب تَقول: رجعت من عِنْد كبيري أَي: معلمي. وَقَوله: {فلأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} مَعْنَاهُ: على جُذُوع النّخل، وَذكر كلمة فِي؛ لِأَن المصلوب يصلب مستطيلا على الْجذع؛ فالجذع يشْتَمل عَلَيْهِ. وَقَوله: {ولتعلمن أَيّنَا أَشد عذَابا وَأبقى} أَي: أَنا أقوى أَو رب مُوسَى؟ وَذكر الْكَلْبِيّ: أَن فِرْعَوْن قطع أَيْديهم وأرجلهم وصلبهم، وَذكر غَيره: أَنه لم يقدر عَلَيْهِم، وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {لَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون} .

72

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لن نؤثرك} أَي: لن نختارك. {على مَا جَاءَنَا من الْبَينَات} أَي: الدلالات؛ وَكَانَ استدلالهم أَنهم قَالُوا: إِن كَانَ هَذَا سحر، فَأَيْنَ حبالنا وعصينا؟ وَقيل: من الْبَينَات أَي: الْيَقِين وَالْعلم. وَقَوله: {وَالَّذِي فطرنا} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: (وَقَوله) وَلنْ نؤثرك على الَّذِي فطرنا، وَالْآخر: أَنه قسم. وَقَوله: {فَاقْض مَا أَنْت قَاض} أَي: فَاصْنَعْ مَا أَنْت صانع. وَقَوله: {إِنَّمَا تقضي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: أَمرك وسلطانك فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا، وسيزول عَن قريب.

{قَاض إِنَّمَا تقضي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وَمَا أكرهتنا عَلَيْهِ من السحر وَالله خير وَأبقى (73) إِنَّه من يَأْتِ ربه مجرما فَإِن لَهُ جَهَنَّم لَا يَمُوت فِيهَا}

73

وَقَوله: {إِنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} أَي: ذنوبنا. وَقَوله: {وَمَا أكرهتنا عَلَيْهِ من السحر} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا وَقد جَاءُوا مختارين، وحلفوا بعزة فِرْعَوْن أَن لَهُم الْغَلَبَة على مَا ذكر فِي مَوضِع آخر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: كَانَ فِرْعَوْن يجْبر قوما على تعلم السحر؛ لكيلا يذهب أَصله، وَكَانَ قد أكرههم فِي الِابْتِدَاء على تعلمه، فأرادوا بذلك. وَقَوله: {وَالله خير وَأبقى} قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب مَعْنَاهُ: وَالله خير ثَوابًا إِن أطيع، وَأبقى عقَابا إِن عصي. يُقَال: إِن أَمر السُّلْطَان إِكْرَاه؛ فَلهَذَا قَالُوا: وَمَا أكرهتنا عَلَيْهِ من السحر، لما سجدوا أَرَاهُم الله تَعَالَى مواضعهم فِي الْجنَّة، وَمَا أعد لَهُم من الثَّوَاب والكرامة، فَلَمَّا رفعوا رُءُوسهم وَقد [رَأَوْا] قَالُوا مَا قَالُوا. وَعَن عِكْرِمَة: أَصْبحُوا وهم سحرة، وأمسوا وهم شُهَدَاء. وَرُوِيَ أَن الْحسن كَانَ إِذا بلغ إِلَى هَذِه الْآيَة قَالَ: عجبا لقوم كَافِرين سحرة من أَشد النَّاس كفرا، رسخ الْإِيمَان فِي قُلُوبهم حِين قَالُوا مَا قَالُوا، وَلم يبالوا بِعَذَاب فِرْعَوْن، وَترى الرجل من هَؤُلَاءِ يصحب الْإِيمَان سِتِّينَ سنة، ثمَّ يَبِيعهُ بِثمن يسير. وَفِي الْقِصَّة: أَن امْرَأَة فِرْعَوْن كَانَت تستخبر فِي ذَلِك الْيَوْم لمن الْغَلَبَة، فَلَمَّا أخْبرت أَن الْغَلَبَة كَانَت لمُوسَى، أظهرت الْإِيمَان لله، فَذكر ذَلِك لفرعون، فَبعث قوما، وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى أعظم صَخْرَة، فَإِن أصرت على قَوْلهَا، فَألْقوا عَلَيْهَا الصَّخْرَة، فأراها الله تَعَالَى موضعهَا من الْجنَّة، وَقبض روحها، فَجَاءُوا وألقوا الصَّخْرَة على جَسَد ميت.

74

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه من يَأْتِ ربه مجرما} قَالَ بَعضهم: هَذَا من قَول السَّحَرَة، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى. قَوْله: {مجرما} أَي: مُشْركًا. وَقَوله: {فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} أَي: لَا يحيا حَيَاة ينْتَفع بهَا،

{وَلَا يحيى (74) وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى (75) جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء من تزكّى (76) وَلَقَد أَوْحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أسر بعبادي فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبسا لَا} وَلَا يَمُوت فيستريح، وَيُقَال: إِن أَرْوَاحهم تكون معلقَة بحناجرهم، لَا تخرج فيموتون، وَلَا تَسْتَقِر فِي موضعهَا فيحيون، قَالَ الشَّاعِر: (أَلا من لنَفس تَمُوت فينقضي ... شقاها وَلَا تحيا حَيَاة لَهَا طعم)

75

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات} أَي: أدّى الْفَرَائِض. قَالَ الْحسن: من أدّى الفراض فقد اسْتكْمل الْإِيمَان، وَمن لم يؤد الْفَرَائِض فَلم يستكمل الْإِيمَان. وَقَوله: {فَأُولَئِك لَهُم الدَّرَجَات العلى} جمع الْعليا، والعليا تَأْنِيث الْأَعْلَى.

76

قَوْله تَعَالَى: {جنَّات عدن} قد بَينا هَذَا من قبل، وَفِي بعض التفاسير عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: جنَّة عدن قصر لَهُ عشرَة آلَاف بَاب، لَا يعلم سعتها إِلَّا الله وَيُقَال: نهر فِي الْجنَّة على حافتيه قُصُور الْجنان. وَقَوله: {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} قد بَينا. وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا} أَي: مقيمين فِيهَا. وَقَوله: {وَذَلِكَ جَزَاء من تزكّى} أَي: تَطْهِير من الذُّنُوب، وَقيل: جَزَاء من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله.

77

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أَوْحَينَا إِلَى مُوسَى أَن أسر بعبادي} أَي: سر بهم لَيْلًا. وَقَوله: {فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبسا} أَي: ذَا يبس، وَقيل: يَابسا، أَي: لَا ندوة فِيهِ، وَلَا بَلل.

{تخَاف دركا وَلَا تخشى (77) فأتبعهم فِرْعَوْن بجُنُوده فغشيهم من اليم مَا غشيهم (78) وأضل فِرْعَوْن قومه وَمَا هدى (79) يَا بني إِسْرَائِيل قد أنجيناكم من عَدوكُمْ وواعدناكم جَانب الطّور الْأَيْمن ونزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى (80) كلوا} وَقَوله تَعَالَى: {لَا تخَاف دركا وَلَا تخشى} رُوِيَ أَنهم لما بلغُوا الْبَحْر قَالُوا: يَا مُوسَى، هَذَا الْبَحْر أمامنا، وَفرْعَوْن وجنده وَرَاءَنَا، فَقَالَ الله تَعَالَى: {لَا تخَاف دركا وَلَا تخشى} . أَي: لَا تخَاف أَن يدركك فِرْعَوْن من ورائك، وَلَا تخشى أَن يغرقك الْبَحْر أمامك، وَقَرَأَ حَمْزَة: " وَلَا تخف " على الْأَمر.

78

قَوْله تَعَالَى: {فأتبعهم فِرْعَوْن بجُنُوده} قرىء: " فأتبعهم "، وقرىء: " فاتبعهم " أما قَوْله: {فأتبعهم} أَي: بعث فِي إثرهم جُنُوده. وَقَوله: {فاتبعهم} أَي: اتبعهم بجنده. وَقَوله: {فغشيهم من اليم مَا غشيهم} مَعْنَاهُ: غشيهم من الْبَحْر مَا غرقهم، وَيُقَال: غشيهم من اليم مَا غشي قوم مُوسَى فنجا قوم مُوسَى، وغرقوا هم، وَيُقَال: غشيهم من اليم مَا أهلكهم.

79

وَقَوله: {وأضل فِرْعَوْن قومه وَمَا هدى} أَي: وَمَا أرشد، وَهُوَ جَوَاب لقَوْل فِرْعَوْن: {وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد} .

80

وَقَوله تَعَالَى: {يَا بني إِسْرَائِيل قد أنجيناكم من عَدوكُمْ} أَي: من أعدائكم، وَيُقَال: أَرَادَ بِهِ فِرْعَوْن وَحده. وَقَوله: {وواعدناكم جَانب الطّور الْأَيْمن} فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى وعد مُوسَى أَن يؤتيه كتابا من عِنْده، وَهُوَ التَّوْرَاة، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وواعدناكم جَانب الطّور الْأَيْمن} أَي: لإعطاء الْكتاب. وَقَوله: {ونزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى} قد بَيناهُ فِي سُورَة الْبَقَرَة.

81

وَقَوله: {كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم} أَي: من حَلَال مَا رزقناكم.

{من طَيّبَات مَا رزقناكم وَلَا تطغوا فِيهِ فَيحل عَلَيْكُم غَضَبي وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي فقد هوى (81) وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ وآمن وَعمل صَالحا ثمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أعجلك عَن قَوْمك يَا مُوسَى (83) قَالَ هم أولاء على أثري وعجلت إِلَيْك رب} وَقَوله: {وَلَا تطغوا فِيهِ} . أَي: لَا تكفرُوا النِّعْمَة، وَيُقَال: لَا تخلطوا الْحَرَام بالحلال، وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا تدخروا ثمَّ لَا تدخروا فتدود، وَلَوْلَا مَا صَامُوا لم يتود طَعَام. وَقَوله: {فَيحل عَلَيْكُم غَضَبي} قرىء بِالْكَسْرِ وَالرَّفْع، أما بِالْكَسْرِ فَيجب، وَأما بِالرَّفْع فَينزل. وَقَوله: {وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي} أَي: ينزل عَلَيْهِ، وقرىء: " وَمن يحلل " أَي: يجب. وَقَوله: {فقد هوى} أَي: هلك، وَعَن شفي بن ماتع الأصبحي قَالَ: هوى وَاد فِي جَهَنَّم يهوي فِيهِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَمعنى الْآيَة أَي: وَقع فِيهِ.

82

قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ} أَي: من الشّرك. {وآمن} أَي: آمن بِاللَّه. وَقَوله: {وَعمل صَالحا} أَي: أدّى الْفَرَائِض. وَقَوله: {ثمَّ اهْتَدَى} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: لم يشك فِي إيمَانه وَعَن قَتَادَة قَالَ: مَاتَ على الْإِيمَان. وَعَن سعيد بن جُبَير: لزم السّنة وَالْجَمَاعَة. وَقَالَ بَعضهم: أخْلص، وَقَالَ بَعضهم: عمل (بِعَمَلِهِ) وَعَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ: تولى أهل الْبَيْت.

83

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أعجلك عَن قَوْمك يَا مُوسَى} فِي الْقِصَّة: أَنه لما جَاءَ مَعَ السّبْعين الميعاد تعجل بِنَفسِهِ، وَخلف السّبْعين وَرَاءه، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ: {وَمَا أعجلك عَن قَوْمك يَا مُوسَى} أَي شَيْء حملك على العجلة؟

84

وَقَوله: {قَالَ هم أولاء على أثري} أَي: يأتوني خَلْفي. وَقَوله: {وعجلت إِلَيْك رب لترضى} أَي: لتزداد رضَا، وَعَن بعض السّلف: أَنه

{لترضى (84) قَالَ فَإنَّا قد فتنا قَوْمك من بعْدك وأضلهم السامري (85) فَرجع مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا قَالَ يَا قوم ألم يَعدكُم ربكُم وَعدا حسنا أفطال عَلَيْكُم الْعَهْد أم أردتم أَن يحل عَلَيْكُم غضب من ربكُم فأخلفتم موعدي (86) قَالُوا مَا} تعجل شوقا.

85

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَإنَّا قد فتنا قَوْمك من بعْدك} أَي: أوقعناهم فِي الْفِتْنَة. قَوْله: {وأضلهم السامري} أَي: ضلوا بِسَبَبِهِ، وَقد بَينا طرفا من هَذِه الْقِصَّة فِي سُورَة الْأَعْرَاف. وَحكي عَن وهب بِإِسْنَادِهِ عَن رَاشد بن سعد أَن الله تَعَالَى لما قَالَ لَهُ هَذَا القَوْل قَالَ: يَا رب، من صاغ الْعجل؟ قَالَ: السامري، قَالَ: فَمن أَحْيَاهُ وَأظْهر مِنْهُ الخوار؟ قَالَ: أَنا، قَالَ: فَأَنت أضللتهم يَا رب، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ: يَا (رَأس) النَّبِيين، أَنا رَأَيْت ذَلِك فِي قُلُوبهم فسهلته عَلَيْهِم.

86

وَقَوله: {فَرجع مُوسَى إِلَى قومه غَضْبَان أسفا} أَي: شَدِيد الْحزن لما أصَاب قومه من الْفِتْنَة. قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم ألم يَعدكُم ربكُم وَعدا حسنا} مَعْنَاهُ: مَا وعد من إِنْزَال الْكتاب، وَمن التنجية من فِرْعَوْن وَقَومه، وَغير هَذَا مِمَّا وعد وحقق. وَقَوله: {أفطال عَلَيْكُم الْعَهْد} كَانَ مُوسَى وعد أَن يعود بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا مَضَت عشرُون يَوْمًا، عدوا النَّهَار عشْرين، وَاللَّيْل عشْرين، وَقَالُوا قد مضى الْوَعْد. وَقَوله: {أم أردتم أَن يحل عَلَيْكُم غضب من ربكُم} . أَي: أردتم أَن تَفعلُوا فعلا يجب عَلَيْكُم الْغَضَب من ربكُم. وَقَوله: {فأخلفتم موعدي} (أَو) وعدي.

{أخلفنا موعدك بملكنا وَلَكنَّا حملنَا أوزارا من زِينَة الْقَوْم فقذفناها فَكَذَلِك ألْقى}

87

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا مَا أخلفنا موعدك بملكنا} . قرىء: " بملكنا "، وقرىء: " بمُلْكنا "؛ فَقَوله: " بمِلْكنا " أَي: بطاقتنا، وَقَوله: " بمُلْكنا " أَي: بسلطاننا. وَكَذَلِكَ " بمَلْكنا " بِفَتْح الْمِيم. وَأحسن مَا قيل فِي هَذَا هُوَ أَن الْمَرْء إِذا وَقع فِي البلية والفتنة لم يملك نَفسه. وَقد ثَبت عَن النَّبِي فِي بعض دعواته: " اللَّهُمَّ إِذا أردْت بِقوم فتْنَة فاقبضني إِلَيْك غير مفتون ". وَقَوله: {وَلَكنَّا (حملنَا} ) وقرىء: " حملنَا ". فِي الْقِصَّة: أَنهم استعاروا حلي نسَاء القبط، ثمَّ لم يردوا حَتَّى خَرجُوا إِلَى جَانب الْبَحْر، فَهُوَ معنى قَوْله: {حملنَا أوزارا من زِينَة الْقَوْم} . أَي: من حلي الْقَوْم، والأوزار: الأثقال، وسمى الْحلِيّ أوزارا، لأَنهم كَانُوا أخذوها على وَجه الْعَارِية، وَلم يردوها، فَكَانَت بِجِهَة الْخِيَانَة. وَيُقَال: إِن الله تَعَالَى لما أغرقهم نبذ الْبَحْر حليهم، فَأَخذهَا، وَلم تكن الْغَنِيمَة حَلَالا لَهُم فِي ذَلِك الزَّمَان، فسماها أوزارا لهَذَا الْمَعْنى، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الأوزار: (وأعددت للحرب أَوزَارهَا ... رماحا طوَالًا وخيلا ذُكُورا) وَقَوله تَعَالَى: {فقذفناها} (رُوِيَ أَن) هَارُون - عَلَيْهِ السَّلَام - أَمر أَن يحْفر حُفْرَة، ثمَّ أَمرهم أَن يلْقوا تِلْكَ الْحلِيّ فِيهَا، وأضرم عَلَيْهَا نَارا، وَفِي قَول آخر: أَن السامري أَمرهم بذلك، فَهُوَ معنى قَوْله: {فقذفناها} . وَقَوله: {فَكَذَلِك ألْقى السامري} يَعْنِي: ألْقى السامري أَيْضا مَا عِنْده من الْحلِيّ.

{السامري (87) فَأخْرج لَهُم عجلا جسدا لَهُ خوار فَقَالُوا هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي (88) أَفلا يرَوْنَ أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا وَلَا يملك لَهُم ضرا وَلَا نفعا (89) }

88

وَقَوله: {فَأخْرج لَهُم عجلا جسدا لَهُ خوار} فِي الْقِصَّة: أَن النَّار لما أخلصت الذَّهَب وَالْفِضَّة جَاءَ السامري، وَألقى فِيهِ قَبْضَة من التُّرَاب، أَخذهَا من تَحت حافر فرس جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ: كوني عجلا لَهُ خوار، فَصَارَ عجلا يخور. وَقَوله: {جسدا} قيل: جسدا لَا رَأس لَهُ، وَقيل: جسدا لَا يضر وَلَا ينفع، وَقَالَ الْخَلِيل: الْعَرَب تسمي كل مَا لَا يَأْكُل وَلَا يشرب جسدا، وَكَانَ الْعجل لَا يَأْكُل وَلَا يشرب ويصيح، وَالْقَوْل الأول أَضْعَف الْأَقْوَال، وَاخْتلفُوا فِي الخوار: فالأكثرون أَنه صَوت عجل حَيّ، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَالْحسن، وَقَتَادَة وَجَمَاعَة، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ صَوت حفيف الرّيح، كَانَت تدخل فِي جَوْفه وَتخرج، وَهُوَ قَول ضَعِيف. وَقَوله: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فنسي} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى، تَركه مُوسَى هَاهُنَا، وَذهب يَطْلُبهُ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: فنسي السامري الْإِيمَان بِاللَّه، أَي: ترك. وَقيل: فنسي مُوسَى أَن يذكر لكم أَن هَذَا هُوَ الْإِلَه.

89

وَقَوله: {أَفلا يرَوْنَ أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا} فِي بعض التفاسير: أَن الْعجل خار خوارا وَاحِدًا، وَلم يعد، فَهُوَ معنى قَوْله: {أَلا يرجع إِلَيْهِم قولا} وَقَالَ بَعضهم: لَا يُجِيبهُمْ إِذا دَعوه. وَقَوله: {وَلَا يملك لَهُم ضرا وَلَا نفعا} ظَاهر الْمَعْنى. فَإِن قيل: السامري كَانَ كَافِرًا، وَهَذَا الَّذِي ظهر على يَده معْجزَة، فَكيف يجوز أَن تظهر المعجزة على يَد كَافِر؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك كَانَ لفتنة بني إِسْرَائِيل وابتلائهم. وَعند أهل السّنة هَذَا جَائِز، وَلَا نقُول: هُوَ معْجزَة، وَلكنه محنة وفتنة. وَفِي بعض الْآثَار: أَن هَارُون مر على السامري، وَهُوَ يصوغ الْعجل، فَقَالَ لَهُ:

{وَلَقَد قَالَ لَهُم هَارُون من قبل يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ وَإِن ربكُم الرَّحْمَن فَاتبعُوني وَأَطيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُون مَا مَنعك إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا (92) أَلا تتبعن أفعصيت أَمْرِي (93) قَالَ يَا} مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هُوَ [شي] ينفع وَلَا يضر فَادع لي. فَقَالَ هَارُون: اللَّهُمَّ أعْطه على مَا فِي نَفسه، فَألْقى التُّرَاب فِي فَم الْعجل، وَقَالَ: كن عجلا يخور، فَكَانَ كَذَلِك بدعوة هَارُون. وَقد قَالَ أهل الْعلم: إِنَّه لَيْسَ من عجل من ذهب يخور بِشُبْهَة تقع فِي أَنه إِلَه ومعبود.

90

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد قَالَ لَهُم هَارُون من قبل يَا قوم إِنَّمَا فتنتم بِهِ} أَي: ابتليتم بِهِ. {وَإِن ربكُم الرَّحْمَن} أَي: معبودكم الرَّحْمَن، لَا مَا اتخذتموه معبودا. وَقَوله: {فَاتبعُوني} أَي: اتبعوني فِي عبَادَة الله. {وَأَطيعُوا أَمْرِي} فِي ترك عبَادَة الْعجل.

91

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين} أَي: لن نزل مقيمين على عِبَادَته {حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى} .

92

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا هَارُون} فِيهِ تَقْدِير، وَهُوَ أَن مُوسَى رَجَعَ، وَقَالَ: يَا هَارُون. وَقَوله: {مَا مَنعك إِذْ رَأَيْتهمْ ضلوا أَلا تتبعن} لَا زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: أَن تتبعني. وَقَوله: {أفعصيت أَمْرِي} أَي: خَالَفت أَمْرِي. فَإِن قَالَ قَائِل: هَل تَقولُونَ إِن هَارُون خَالف مُوسَى فِيمَا طلب مِنْهُ، وَأَنه داهن عَبدة الْعجل، وَلم يشدد فِي مَنعهم عَنْهَا؟ وَالْجَوَاب: أَن مُوسَى لم يطْلب من هَارُون إِلَّا أَن يخلفه فِي قومه، وَأَن يرفق بهم، فَرَأى هَارُون أَن لَا يقاتلهم، وَأَن الْإِمْسَاك عَن قِتَالهمْ أصلح، وَرَأى مُوسَى أَن يقاتلهم، وَرَأى أَن الْقِتَال أصلح، فَهَذَا رَأْي مُجْتَهد خَالف رَأْي مُجْتَهد، وَلَا عيب فِيهِ، وَإِنَّمَا

{بنؤم لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي إِنِّي خشيت أَن تَقول فرقت بَين بَين إِسْرَائِيل وَلم ترقب قولي (94) } عاتبه مُوسَى فِي تَركه الْقِتَال، يَعْنِي: لَو كنت أَنا مَكَانك كنت أقاتلهم، فَهَلا فعلت مثل ذَلِك.

94

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَابْنَ أم} . قرىء: " يَا بن أم " بِالنّصب و " يَابْنَ أم " بِالْكَسْرِ، وَقد بَينا هَذَا من قبل. وَقَوله: {لَا تَأْخُذ بلحيتي وَلَا برأسي} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَخذ رَأسه بِيَمِينِهِ، وَأخذ لحيته بيساره، وَيُقَال: إِن المُرَاد من الرَّأْس شعر الرَّأْس، وَيُقَال: أَرَادَ بِالرَّأْسِ الْأذن، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا تهاون بِنَبِي من أَنْبيَاء الله، فَتكون كَبِيرَة من الْكَبَائِر، فَكيف وَجه فعل هَذَا من مُوسَى؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه يحْتَمل أَنه لم يكن مثل هَذَا الْفِعْل تهاونا فِي عَادَتهم، فَكَانَ الْأَخْذ باللحية شبه الْأَخْذ بالكف عِنْدهم، وَقَالَ بَعضهم: أَنه أَخذ بلحيته كَمَا يَأْخُذ الْإِنْسَان بلحية نَفسه عِنْد الْغَضَب فَجعله كنفسه، وَقد رُوِيَ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ إِذا غضب جعل يفتل شَاربه، وَأولى الْأَجْوِبَة أَن هَذَا فعل الْإِنْسَان بِمثلِهِ وشكله عِنْد الْغَضَب، فَتكون صَغِيرَة لَا كَبِيرَة، والصغائر جَائِزَة على الْأَنْبِيَاء، وَإِنَّمَا ذكر هَارُون " الْأُم "، وَلم يذكر " الْأَب "، ليرققه على نَفسه. وَقَوله: {إِنِّي خشيت أَن تَقول فرقت بَين بني إِسْرَائِيل} هَذَا بَيَان مَا رَأْي من الرَّأْي، يَعْنِي: خشيت أَن تَقول: جعلتهم أحزابا، فحزب عبدُوا الْعجل، وحزب قَاتلُوا، وحزب أَمْسكُوا عَن الْقِتَال، والتبس عَلَيْهِم أَنه هَل يجوز الْقِتَال أَو لَا؟ ، وحزب أَنْكَرُوا لم يُقَاتلُون؟ فَكل هَذَا التَّفَرُّق كَانَ جَائِزا لَو قَاتل هَارُون. وَقَوله: {وَلم ترقب قولي} أَي: لم تحفظ قولي، وَهَذَا منصرف إِلَى قَوْله: {واخلفني فِي قومِي وَأصْلح} (وَقد بَينا أَن معنى قَوْله: {وَأصْلح} ) أَي: ارْفُقْ، فَرَأى أَن الرِّفْق أَن يكف يَده.

{قَالَ فَمَا خَطبك يَا سامري (95) قَالَ بصرت بِمَا لم يبصروا بِهِ فقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول فنبذتها وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي}

95

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَمَا خَطبك يَا سامري} قَالَ أهل التَّفْسِير: لما اعتذر هَارُون بِمَا اعتذر بِهِ أقبل مُوسَى على السامري، فَقَالَ: {مَا خَطبك يَا سامري} والخطب هُوَ: الْجَلِيل من الْأَمر، وَمعنى الْآيَة: مَا هَذَا الْأَمر الْعَظِيم الَّذِي جِئْت بِهِ؟

96

وَقَوله: {قَالَ بصرت بِمَا لم يبصروا بِهِ} رَأَيْت بِمَا لم يرَوا، وَيُقَال: فطنت بِمَا لم يفطنوا بِهِ. وَقَوله: {فقبضت قَبْضَة من أثر الرَّسُول} الْمَعْرُوف: بالضاد الْمُعْجَمَة، وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ: " فقبصت " بالصَّاد غير الْمُعْجَمَة، وَالْفرق بَينهمَا أَن الْقَبْض: هُوَ الْأَخْذ بملء الْكَفّ، والقبص هُوَ الْأَخْذ بأطراف الْأَصَابِع. وَقَوله: {من أثر الرَّسُول} يَعْنِي: من تُرَاب حافر فرس جِبْرِيل، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عرف هَذَا؟ وَكَيف رأى جِبْرِيل من بَين سَائِر النَّاس؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن أمه لما وَلدته فِي السّنة الَّتِي كَانَ يقتل فِيهَا الْأَنْبِيَاء، وَضعته فِي كَهْف حذرا عَلَيْهِ، فَبعث الله جِبْرِيل ليربيه ويغذيه لما قضى الله على يَده من الْفِتْنَة، فَلَمَّا رَآهُ عرفه وَأخذ التُّرَاب، وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن جِبْرِيل كَانَ على فرس حصان أبلق، وَكَانَ ذَلِك الْفرس تسمى فرس الْحَيَاة، وَكَانَ كلما وضع (الْفرس) حَافره على مَوضِع أَخْضَر مَا تَحت حَافره، فَعرف أَنه فرس الْحَيَاة، وَكَانَ سمع بِذكرِهِ، وَأَن الَّذِي عَلَيْهِ جِبْرِيل، فَأخذ القبضة. وَقَوله: {فنبذتها} أَي: ألقيتها فِي فَم الْعجل، وَقد قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا خار الْعجل لهَذَا؟ وَهُوَ أَن التُّرَاب كَانَ مأخوذا من تَحت فرس الْحَيَاة. وَقَوله: {وَكَذَلِكَ سَوَّلت لي نَفسِي} أَي: زينت لي نَفسِي.

97

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس} أَي: لَا أمس لَا

{الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس وَإِن لَك موعدا لن تخلفه وَانْظُر إِلَى إلهك الَّذِي ظلت عَلَيْهِ عاكفا لنحرقنه ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفا (97) إِنَّمَا إِلَهكُم الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وسع كل شَيْء علما (98) كَذَلِك نقص عَلَيْك من أنباء مَا قد سبق وَقد آتيناك من لدنا ذكرا (99) من أعرض عَنهُ فَإِنَّهُ يحمل يَوْم الْقِيَامَة وزرا (100) خَالِدين} أمس، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى دَعَا عَلَيْهِ فَصَارَ يهيم مَعَ الْوَحْش، وَرُوِيَ أَنه كَانَ إِذا مس أحدا أَو مَسّه أحد حما جَمِيعًا، قَالَ الشَّاعِر: {تَمِيم كرهط السامري وَقَوله ... أَلا لَا يُرِيد السامري مساسا} وَقَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ السامري رجلا من أهل كرمان، وَيُقَال: من باجرما، وَالْأَكْثَرُونَ أَنه كَانَ من بني إِسْرَائِيل من رَهْط يُقَال لَهُم: السامري. وَقَوله: {وَإِن لَك موعدا لن تخلفه} أَي: لن تكذبه، وَمَعْنَاهُ: أَن الله يكافئك على فعلك وَلَا تفوته، وَقُرِئَ: " لن تخلفه " بِكَسْر اللَّام أَي: توافى يَوْم الْقِيَامَة لميعاد الْعَذَاب وَلَا تخلف. وَقَوله: {وَانْظُر إِلَى إلهك الَّذِي ظلت عَلَيْهِ عاكفا} أَي: ظلت عَلَيْهِ مُقيما. وَقَوله: {لنحرقنه} وَقُرِئَ: " لنحرقنه " من الإحراق، وهما فِي الْمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ التحريق بالنَّار، وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قرآ: " لنحرقنه " وَهِي قِرَاءَة أبي جَعْفَر، وَمَعْنَاهُ: لنبردنه بالمبرد، وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " لنذبحنه ثمَّ لنحرقنه ". وَقَوله: {ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفا} يَعْنِي: لنذرينه فِي الْبَحْر تذرية.

98

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا إِلَهكُم الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وسع كل شَيْء علما} أَي: وسع علمه كل شَيْء، وَقَالُوا هَذَا من فصيح الْقُرْآن.

99

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك نقص عَلَيْك من أنباء مَا قد سبق} أَي: من أَخْبَار من تقدم. وَقَوله: {وَقد آتيناك من لدنا ذكرا} الذّكر هَا هُنَا هُوَ: الْقُرْآن.

100

قَوْله تَعَالَى: {من أعرض عَنهُ} أَي: عَن الْقُرْآن. وَقَوله: {فَإِنَّهُ يحمل يَوْم الْقِيَامَة وزرا} أَي: ثقلا، وَمَعْنَاهُ: إِثْمًا يثقله.

{فِيهِ وساء لَهُم يَوْم الْقِيَامَة حملا (101) يَوْم ينْفخ فِي الصُّور ونحشر الْمُجْرمين يَوْمئِذٍ زرقا (102) يتخافتون بَينهم إِن لبثتم إِلَّا عشرا (103) نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ}

101

وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا} أَي: مقيمين فِي عَذَاب الْوزر. وَقَوله: {وساء لَهُم يَوْم الْقِيَامَة حملا} أَي: بئس الْوزر حملهمْ يَوْم الْقِيَامَة.

102

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم ينْفخ فِي الصُّور} وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو: " وَيَوْم ننفخ فِي الصُّور " وَاسْتدلَّ بِمَا عطف عَلَيْهِ من قَوْله: {ونحشر الْمُجْرمين} وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: {يَوْم ينْفخ فِي الصُّور} وَهَذَا هُوَ الأولى، وَقد بَينا معنى الصُّور من قبل. وَقَوله تَعَالَى: {ونحشر الْمُجْرمين يَوْمئِذٍ زرقا} قَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَجَمَاعَة: عميا. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} وَالله تَعَالَى إِنَّمَا خلقهمْ بصرا؛ وَالْجَوَاب: أَنه حُكيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن فِي الْقِيَامَة تارات وحالات فيحشرون بصرا ثمَّ يعمون. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي قَوْله: {زرقا} : أَنه خضرَة الْعين، فيحشر الْكفَّار زرق الْأَعْين سود الْوُجُوه، وَالْقَوْل الثَّالِث: عطاشا، وَمَعْنَاهُ: وَقد تَغَيَّرت أَعينهم من شدَّة الْعَطش، وَالْقَوْل الرَّابِع: {زرقا} أَي: شاخصة أَبْصَارهم من عظم الْخَوْف، قَالَ الشَّاعِر: (لقد زرقت عَيْنَاك يَابْنَ مكعبر ... كَذَا كل ضبي من اللؤم أَزْرَق) وَالْقَوْل الْخَامِس: {زرقا} أَي: أحد الْبَصَر؛ لِأَن الْأَزْرَق يكون أحد بصرا.

103

وَقَوله: {يتخافتون بَينهم} أَي: يتساررون، ويتكلمون خُفْيَة. وَقَوله: {إِن لبثتم إِلَّا عشرا} أَي: مَا لبثتم إِلَّا عشرا، وَقد قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي " الْقَبْر "، وَقَالَ بَعضهم: فِي الدُّنْيَا، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا كذب صَرِيح، وَقد لَبِثُوا فِي الدُّنْيَا والقبر سِنِين كَثِيرَة! ، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن من شدَّة هول الْقِيَامَة يظنون أَنهم مَا

{إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة إِن لبثتم إِلَّا يَوْمًا (104) ويسألونك عَن الْجبَال فَقل ينسفها رَبِّي نسفا (105) فيذرها قاعا صفصفا (106) لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا (107) يَوْمئِذٍ يتبعُون الدَّاعِي لَا عوج لَهُ وخشعت الْأَصْوَات للرحمن فَلَا تسمع إِلَّا همسا} لَبِثُوا إِلَّا هَذَا الْقدر، وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تَعَالَى يرفع الْعَذَاب عَنْهُم بَين النفختين فيستريحون، فَقَوْلهم: {إِن لبثتم إِلَّا عشرا} رَاجع إِلَى هَذَا.

104

قَوْله تَعَالَى: {نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ} مَعْنَاهُ: أَنِّي عَالم بقَوْلهمْ وَإِن خافتوا. وَقَوله: {إِذْ يَقُول أمثلهم طَريقَة} تَقول الْعَرَب: فلَان أمثل قومه أَي: أعدل قومه، وَمعنى الْآيَة هَا هُنَا: أعقلهم وَخَيرهمْ طَريقَة فِي نَفسه. وَقَوله: {إِن لبثتم إِلَّا يَوْمًا} أَي: مَا لبثتم إِلَّا يَوْمًا.

105

قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْجبَال} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: سَأَلَ الْمُشْركُونَ رَسُول الله مَا يفعل الله بِهَذِهِ الْجبَال يَوْم الْقِيَامَة؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {فَقل ينسفها رَبِّي نسفا} النسف هُوَ الْقلع من الأَصْل، وَمعنى النسف فِي الْآيَة: هُوَ تسيير الْجبَال أَو جعلهَا هباء جعلهَا رملا سَائِلًا.

106

وَقَوله: {فيذرها قاعا صفصفا} أَي: يذر أَمَاكِن الْجبَال قاعا صفصفا، والقاع هُوَ الْمَكَان الْوَاسِع المستوي، والصفصف هُوَ الأملس الَّذِي لَا نَبَات فِيهِ.

107

وَقَوله: {لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا} أَي: حدبا ونبكا، وَمَعْنَاهُ: انخفاضا وارتفاعا.

108

قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ يتبعُون الدَّاعِي} قَالَ أهل التَّفْسِير: الدَّاعِي هَا هُنَا هُوَ إسْرَافيل يضع الصُّور فِي فِيهِ، وَيَقُول: أيتها الْعِظَام البالية، والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة، هلموا إِلَى عرض الرَّحْمَن، أَو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ. وَقَوله: {لَا عوج لَهُ} أَي: لَا يزيغون يَمِينا وَلَا شمالا، وَقيل: لَا يُمكنهُم أَلا يتبعوه. وَقَوله: {وخشعت الْأَصْوَات للرحمن} أَي: سكنت وخضعت، وَقَالَ قَتَادَة:

( {108) يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَرَضي لَهُ قولا (109) يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يحيطون بِهِ علما (110) وعنت الْوُجُوه للحي القيوم} ذلت. قَالَ الشَّاعِر: ((فَمَا) أَتَى خبر الزبير تصدعت ... سور الْمَدِينَة وَالْجِبَال الخشع) وَقَوله: {فَلَا تسمع إِلَّا همسا} الهمس هُوَ الصَّوْت الْخَفي، وَيُقَال: صَوت وَطْء الْأَقْدَام كهمس الْإِبِل، قَالَ الشَّاعِر: (فَبَاتُوا يذبحون وَبَات يسري ... بَصِير بالدجى هار هموس)

109

قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة} أَي: لَا تَنْفَع الشَّفَاعَة لأحد. وَقَوله: {إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن} أَي: إِلَّا لمن أذن الرَّحْمَن فِي الشَّفَاعَة لَهُ. وَقَوله: {وَرَضي لَهُ قولا} أَي: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَهُوَ القَوْل المرضي عِنْد الله.

110

قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم} أَي: يعلم مَا بَين أَيْديهم من الْآخِرَة، وَمَا خَلفهم من الْأَعْمَال، وَيُقَال: يعلم مَا بَين أَيْديهم أَي: (لم يخلقهم وَهُوَ يُرِيد أَن يخلقهم) . وَقَوله: {وَمَا خَلفهم} أَي: الَّذين خَلفهم من قبلهم فخلفوهم. وَقَوله: {وَلَا يحيطون بِهِ علما} أَي: لَا يحيطون بِاللَّه علما، وَالله يُحِيط بالأشياء، وَلَا يحاط بِهِ؛ لِأَن الْإِحَاطَة بالشَّيْء هِيَ الْعلم بالشَّيْء من كل جِهَة يجوز أَن يعلم، وَالله تَعَالَى لَا يقدر قدره، وَلَا يبلغ كنه عَظمته، وَأما سَائِر الْأَشْيَاء فَإِن الله يعلم كل شَيْء بِكُل جِهَة يجوز أَن تعلم.

111

قَوْله تَعَالَى: {وعنت الْوُجُوه للحي القيوم} أَي: ذلت الْوُجُوه، وَقَالَ طلق بن أبي حبيب: خرت الْوُجُوه للسُّجُود. وَقَوله: {للحي القيوم} هُوَ الدَّائِم الَّذِي لم يزل، والقيوم هُوَ الْقَائِم بتدبير الْخلق،

{وَقد خَابَ من حمل ظلما (111) وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما (112) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا وصرفنا فِيهِ من الْوَعيد لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ أَو يحدث لَهُم ذكرا (113) فتعالى الله الْملك الْحق وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من} والقائم على كل نفس بِمَا كسبت. وَقَوله: {وَقد خَابَ من حمل ظلما} أَي: هلك من حمل شركا، وَحمل الشّرك هُوَ نفس الْإِشْرَاك.

112

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما} قَوْله: {ظلما} أَي: يحمل عَلَيْهِ ذَنْب غَيره. {وَلَا هضما} أَي: لَا يخَاف أَن ينقص من حَقه، وَقيل: ظلما أَي: لَا يقبل طَاعَته، و {هضما} أَي: ينقص من ثَوَابه.

113

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} أَي: بِلِسَان الْعَرَب. وَقَوله: {وصرفنا فِيهِ من الْوَعيد} أَي: صرفنَا القَوْل فِيهِ بِذكر الْوَعيد. قَالَ قَتَادَة: هُوَ ذكر وقائع الله فِي الْأُمَم الخالية. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} أَي: يَتَّقُونَ الشّرك والمعاصي. وَقَوله: {أَو يحدث لَهُم ذكرا} أَي: يحدث لَهُم الْقُرْآن اعْتِبَارا؛ فيعتبرون بِهِ، وَقَالَ بَعضهم: يحدث لَهُم الْوَعيد ذكر الْعَذَاب؛ فينزجرون عَن الْمعاصِي. وَقَالَ بَعضهم: أَو يحدث لَهُم ذكرا أَي: شرفا لإيمانهم بِهِ.

114

قَوْله تَعَالَى: {فتعالى الله الْملك الْحق} ارْتَفع الْملك الْحق ذُو الْحق. وَقَوله: {وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه} فِيهِ أَقْوَال: الْمَشْهُور مَا ذكره ابْن عَبَّاس وَغَيره، أَن النَّبِي كَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ، تَلا أول الْآيَة قبل أَن يفرغ جِبْرِيل من الإبلاغ مَخَافَة التفلت مِنْهُ وَالنِّسْيَان؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " وَمَعْنَاهَا: لَا تعجل بِقِرَاءَة الْقُرْآن قبل أَن يفرغ جِبْرِيل من الإبلاغ. وَالْقَوْل

{قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه وَقل رب زِدْنِي علما (114) وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي وَلم نجد لَهُ عزما (115) وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس} الثَّانِي: مَعْنَاهَا: وَلَا تطلب الْإِنْزَال من الله تَعَالَى، واصبر حَتَّى يَأْتِيك جِبْرِيل بِمَا ينزله الله تَعَالَى. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَعْنَاهَا: وَلَا تبين للنَّاس مَا لم يُصَلِّي إِلَيْك تَأْوِيله، وَمَعْنَاهُ: وَلَا تبين من قبل نَفسك. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَقَوله: {وَقل رب زِدْنِي علما} أَي: علما إِلَى مَا علمت، فَكَانَ ابْن مَسْعُود إِذا قَرَأَ هَذِه الْآيَة قَالَ: اللَّهُمَّ زِدْنِي إِيمَانًا ويقينا. وَعَن مَالك بن أنس قَالَ: من شَأْن ابْن آدم أَلا يعلم كل شَيْء، وَمن شَأْن ابْن آدم أَن يعلم ثمَّ ينسى، وَمن شَأْن ابْن آدم أَن يطْلب من الله علما إِلَى علمه.

115

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل} الْعَهْد هَا هُنَا هُوَ الْأَمر. وَقَوله: {فنسي} مَعْنَاهُ: فَترك، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الْإِنْسَان سمي إنْسَانا؛ لِأَنَّهُ ينسى. وَقَوله: {وَلم نجد لَهُ عزما} مَعْنَاهُ: صبرا، وَقيل: حزما، وَقَالَ عَطِيَّة: حفظا لما أَمر بِهِ والعزم هُوَ توطين النَّفس على الْفِعْل. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو قوبل عقل آدم بعقل جَمِيع وَلَده لرجحهم، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلم نجد لَهُ عزما} . وَعَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: لَو وزن حلم آدم بحلم جَمِيع وَلَده لرجح حلمه، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلم نجد لَهُ عزما} فَإِن قيل: أتقولون أَن آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - كَانَ نَاسِيا لأمر الله تَعَالَى حِين أكل من الشَّجَرَة؟ قُلْنَا: يجوز أَنه نسي، وَمِنْهُم من قَالَ: نسي عُقُوبَة الله تَعَالَى، وَظن أَنه نهي تَنْزِيه، لَا نهي تَحْرِيم، وَمِنْهُم من قَالَ: ظن أَنه إِنَّمَا نهى عَن شَجَرَة بِعَينهَا، وَلم ينْه عَن جنس الشَّجَرَة.

116

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس أَبى} ظَاهر الْمَعْنى.

{أَبى (116) فَقُلْنَا يَا آدم إِن هَذَا عَدو لَك ولزوجك فَلَا يخرجنكما من الْجنَّة فتشقى (117) إِن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى (118) وَأَنَّك لَا ظمأ فِيهَا وَلَا تضحى}

117

وَقَوله: {فَقُلْنَا يَا آدم إِن هَذَا عَدو لَك ولزوجك فَلَا يخرجنكما من الْجنَّة فتشقى} أَي: تتعب وتنصب. وَقَالَ السّديّ: بالحرث والحصد والطحن وَالْخبْز. وَعَن سعيد بن جُبَير: أَن الله تَعَالَى أنزل عَلَيْهِ ثورا أحمرا، فَجعل يحرث، ويرشح الْعرق عَن جَبينه، فَذَلِك شقاؤه. وَرُوِيَ عَن سعيد أَنه قَالَ: جعل آدم يَسُوق الثور، وَقد تَعب، وعرق، فَقَالَ: يَا حَوَّاء، هَذَا من قبلك، فَبَقيَ ذَلِك فِي وَلَده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَيَقُولُونَ عِنْد الحراثة: حوحو. ذكره ابْن فَارس فِي تَفْسِيره. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره. وَعَلِيهِ الْخَبَر الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ -، عَن النَّبِي قَالَ: " لَقِي آدم مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِمَا - فَقَالَ: يَا آدم، أَنْت الَّذِي أشقيتنا، وأخرجتنا من الْجنَّة، فَقَالَ لَهُ آدم: يَا مُوسَى، أتلومني على أَمر قدره الله عَليّ قبل أَن أخلق. . الْخَبَر بِطُولِهِ. إِلَى أَن قَالَ: فحج آدم مُوسَى ثَلَاثًا ". وَفِي بعض الحَدِيث: أَن الله تَعَالَى لما أهبط آدم إِلَى الأَرْض قَالَ: " لأطعمنك حَتَّى يعرق جبينك، ويتعب بدنك، وفهو معنى قَوْله: {فتشقى} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ لم يقل: فتشقيا، وَقد قَالَ من قبل: {فَلَا يخرجنكما} ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: فتشقيا، وَلكنه اكْتفى بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر، وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى: {عَن الْيمن وَعَن الشمَال قعيد} أَي: قعيدان. وَالْآخر: أَنه قَالَ: {فتشقى} ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الكاد والساعي على الْمَرْأَة، فالتعب عَلَيْهِ.

118

قَوْله تَعَالَى: {إِن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} ظَاهر الْمَعْنى.

119

وَقَوله: {وَأَنَّك لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى} . أَي: لَا تعطش، وَلَا يصيبك أَذَى

( {119) فوسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان قَالَ يَا آدم هَل أدلك على شَجَرَة الْخلد وَملك لَا يبْلى (120) فأكلا مِنْهَا فبدت لَهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة وَعصى آدم ربه فغوى (121) } الشَّمْس. فَإِن قيل: لَيست فِي الْجنَّة شمس، فَكيف يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب: أَنه مُسْتَقِيم؛ لِأَن أهل الْجنَّة فِي ظلّ مَمْدُود، فَلَا يصيبهم أَذَى الشَّمْس مثل مَا يصيبهم فِي الدُّنْيَا، وَقيل مَعْنَاهُ: لَا يصيبك حر يُؤْذِيك، وَلَا تضحى: لَا تعرق، وَالْعرب تَقول: أضحى فلَان إِذا بدر للشمس. وَفِي بعض الْآثَار: اضح لمن أخدمت لَهُ. وَقَالَ عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي أَبُو الْخطاب - وَولد لَيْلَة مَاتَ عمر - رَضِي الله عَنهُ -: (رَأَتْ رجلا أما إِذا الشَّمْس عارضت ... فيضحى وَأما بالْعَشي فيخصر)

120

قَوْله تَعَالَى: {فوسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان قَالَ يَا آدم هَل أدلك على شَجَرَة الْخلد وَملك لَا يبْلى} أَي: لَا يخلق وَلَا يفنى، وَقد بَينا معنى [شَجَرَة] الْخلد من قبل.

121

قَوْله تَعَالَى: {فأكلا مِنْهَا فبدت لَهما سوءاتهما} أَي: عوراتهما. وَقَالَ بعض أهل الْمعَانِي: بَدَت عورتهما لَهما دون غَيرهمَا؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {فبدت لَهما سوءاتهما} . وَقَوله: {وطفقا يخصفان} أَي: طلبا. يُقَال: طفق يفعل كَذَا، إِذا جعل يَفْعَله. وَقَوله: {يخصفان} أَي: يلصقان الْوَرق بالورق للباسهما. وَقَوله: {عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة} أَي: للباسهما. وَقَوله: {وَعصى آدم ربه} قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يجوز أَن يُقَال: عصى آدم، وَلَكِن لَا يُقَال: آدم عَاص؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَال: عَاص إِذا اعْتَادَ فعل الْمعْصِيَة؛ وَهَذَا كَالرّجلِ يخيط ثَوْبه، يُقَال: خاط ثَوْبه، وَلَا يُقَال: خياط إِلَّا إِذا اعْتَادَ الْخياطَة. وَأما قَوْله: {فغوى} مَعْنَاهُ: ضل وخاب، والضلال هَا هُنَا بِمَعْنى: أَخطَأ طَرِيق الْحق، والخيبة: فَوَات مَا طمع فِيهِ من الخلود.

{ثمَّ اجتباه ربه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى (122) قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا بَعضهم لبَعض عَدو فإمَّا يَأْتينكُمْ مني هدى فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى (123) وَمن أعرض عَن ذكري فَإِنَّهُ لَهُ معيشة ضنكا} وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: غوى أَي: فسد عيشه، وَصَارَ من الْعِزّ إِلَى الذل، وَمن الرَّاحَة إِلَى التَّعَب.

122

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ اجتباه ربه فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى} أَي: اخْتَارَهُ ربه وَتَابَ عَلَيْهِ، أَي: قبل تَوْبَته. وَهدى أَي: أرشده إِلَى الْإِنَابَة.

123

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضكُم لبَعض عَدو} وَقد بَينا من قبل. وَقَوله: {فإمَّا يَأْتينكُمْ مني هدى} أَي: بَيَان. وَقَوله: {فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى} أَي: لَا يضل فِي الدُّنْيَا، وَلَا يشقى فِي الْآخِرَة. وَعَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: أَجَارَ الله تَعَالَى من تبع الْقُرْآن، وَعمل بِمَا فِيهِ أَن يضل أَو يشقى، ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة.

124

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أعرض عَن ذكري} أَي: عَن وحيي. وَقَوله: {فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنهم قَالُوا: عَذَاب الْقَبْر. قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ -: يضغط حَتَّى تخْتَلف أضلاعه. وَفِي بعض المسانيد هَذَا عَن النَّبِي، وَلَفظه: " يلتئم عَلَيْهِ الْقَبْر، حَتَّى تخْتَلف أضلاعه، وَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يبْعَث ". قَالَه فِي هَذِه الْآيَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاك: هُوَ أكل الْحَرَام، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن يكْسب دون مَا يَكْفِيهِ، والضنك هُوَ الضّيق، وَقَالَ الْحسن: معيشة ضنكا: عَذَاب جَهَنَّم، وَقَالَ

{ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمى (124) قَالَ رب لم حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا (125) قَالَ كَذَلِك أتتك آيَاتنَا فنسيتها وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى (126) وَكَذَلِكَ نجزي من أسرف وَلم يُؤمن بآيَات ربه ولعذاب الْآخِرَة أَشد وَأبقى (127) أفلم يهد لَهُم} بَعضهم: هُوَ الضريع، والزقوم (فِي النَّار) . وَقَوله: {ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمى} فَقَالَ: أعمى عَن الْحجَّة، وَيُقَال: أعمى الْعين، وَقد بَينا أَنه رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: يحشرهم بَصيرًا ثمَّ يعمى، وَقيل: أعمى عَن الْحق، وَقيل: أعمى عَن كل شَيْء إِلَّا عَن عَذَاب جَهَنَّم.

125

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب لم حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا} مَعْنَاهُ: وَلم حشرتني أعمى عَن الْحجَّة، وَقد كنت بَصيرًا بِالْحجَّةِ؟ وَقيل: أعمى الْعين، وَقد كنت بَصِير الْعين.

126

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ كَذَلِك أتتك آيَاتنَا فنسيتها} أَي: تركتهَا. وَقَوله: {وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى} أَي: تتْرك. قَالَ قَتَادَة: نسوا من الْخَيْر، وَلم ينسوا من الْعَذَاب.

127

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نجزي من أسرف} أَي: من أشرك. وَقَوله تَعَالَى: {وَلم يُؤمن بآيَات ربه} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {ولعذاب الْآخِرَة أَشد وَأبقى} . أَي: أعظم وأدوم.

128

قَوْله تَعَالَى: {أفلم يهد لَهُم} وَقُرِئَ: " نهد " بالنُّون، فَقَوله: {يهد} بِالْيَاءِ أَي: يهدي الْقُرْآن، وَمعنى نهدي: نبين، وَقَوله: " نهدي " أَي: نبين نَحن، وصلته بِاللَّامِ دَلِيل على أَنه بِمَعْنى التبين. وَقَوله: {كم أهلكنا قبلهم من الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مساكنهم} قَالَ أهل التَّفْسِير:

{كم أهلكنا قبلهم من الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مساكنهم إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى (128) وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك لَكَانَ لزاما وَأجل مُسَمّى (129) فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا وَمن آنَاء اللَّيْل فسبح} هَذَا الْخطاب لقريش، وَقد كَانُوا يسافرون إِلَى الشَّام، فيرون ديار المهلكين من أَصْحَاب الْحجر وَثَمُود وقريات لوط. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات} أَي: لدلالات وعبرا. وَقَوله: {لأولي النهى} أَي: لأولي الْعُقُول، يُقَال: فلَان ذُو نهية أَي: ذُو عقل.

129

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك وَأجل مُسَمّى {لَكَانَ لزاما} أَي: الْعَذَاب لزاما، والكلمة هِيَ الحكم بِتَأْخِير الْعَذَاب، وَالْأَجَل الْمُسَمّى هُوَ وعد الْقِيَامَة، قَالَ الله تَعَالَى: {بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى وَأمر} . وَقَوله تَعَالَى: {لزاما} أَي: الْعَذَاب لَا يفارقهم.

130

قَوْله تَعَالَى: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك} أَي: صل بِأَمْر رَبك. وَقَوله: {قبل طُلُوع الشَّمْس} هُوَ الْفجْر. {وَقبل غُرُوبهَا} هُوَ الْعَصْر {وَمن آنَاء اللَّيْل} الْمغرب وَالْعشَاء. والآناء جمع إنى، والإنى: السَّاعَة. وَقَوله: {وأطراف النَّهَار} هُوَ الظّهْر. فَإِن قيل: كَيفَ سمي أَطْرَاف النَّهَار؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ طرف النّصْف الأول انْتِهَاء، وطرف النّصْف الثَّانِي ابْتِدَاء، وَهَذَا قَول قَتَادَة وَأكْثر الْمُفَسّرين. وَقَالَ بَعضهم: أَطْرَاف النَّهَار: سَاعَات النَّهَار للتطوع، وعَلى هَذَا قَوْله: قبل غرُوب الشَّمْس دخل فِيهِ الظّهْر وَالْعصر، وَقَالَ بَعضهم: أَطْرَاف النَّهَار المُرَاد مِنْهُ الصُّبْح وَالْعصر، وَهُوَ مَذْكُور لتأكيد مَا سبق. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جرير بن عبد الله البَجلِيّ قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِي، فَنظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، فَقَالَ: " إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم مثل هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى الْقَمَر، لَا تضَامون فِي رُؤْيَته، فَإِن اسْتَطَعْتُم أَلا تغلبُوا على صَلَاة

{وأطراف النَّهَار لَعَلَّك ترْضى (130) وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا لنفتنهم فِيهِ وزرق رَبك خير وَأبقى (131) وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ} قبل غرُوب الشَّمْس، وَقبل طُلُوعهَا فافعلوا، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة: {فسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا} . قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم، قَالَ: حَدثنَا الْفربرِي، قَالَ: نَا البُخَارِيّ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: نَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَن جرير بن عبد الحميد الضَّبِّيّ، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد، عَن قيس بن أبي حَازِم عَن جرير ... ... الحَدِيث. قَوْله: {لَعَلَّك ترْضى} أَي: لَعَلَّك ترْضى ثَوَابه، وقرىء: " لَعَلَّك تُرضى " على مَا لم يسم فَاعله، أَي: تُعْطى ثَوَابه.

131

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} رُوِيَ عَن أبي رَافع " أَن النَّبِي نزل بِهِ ضيف، وَلم يكن عِنْده شَيْء، فَبعث إِلَى يَهُودِيّ يستقرض مِنْهُ طَعَاما، فَأبى إِلَّا برهن، فرهن مِنْهُ درعه وحزن مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". وَقَوله: {أَزْوَاجًا مِنْهُم} أَي: رجَالًا، وَقيل: أضيافا مِنْهُم. وَقَوله: {زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا} . (زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَقيل: زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا) بهجتها وحسنها، وَمَا تروق النَّاظر مِنْهُمَا. وَقَوله: {لنفتنهم فِيهِ} أَي: نوقعهم فِي الْفِتْنَة بِسَبَبِهِ. وَقَوله: {ورزق رَبك خير وَأبقى} أَي: خير لَك فِي الْآخِرَة، وَأبقى بركَة فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: من لم يتعز بعز الله تَعَالَى تقطعت نَفسه حسرات، وَمن يتبع بَصَره مَا فِي أَيدي النَّاس يطلّ حزنه، وَمن ظن أَن نعْمَة الله تَعَالَى

{واصطبر عَلَيْهَا لَا نَسْأَلك رزقا نَحن نرزقك وَالْعَاقبَة للتقوى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يأتينا بِآيَة من ربه أولم تأتهم بَيِّنَة مَا فِي الصُّحُف الأولى (133) وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب} فِي مطعمه ومشربه وملبسه، فقد قل عمله وَحضر عَذَابه. وَعَن يزِيد بن ميسرَة، أَنه قَالَ: كَانُوا يسمون الدُّنْيَا: خنزيرة، وَلَو علمُوا اسْما أسوء مِنْهُ لسموها بِهِ، فَكَانَت إِذا أَقبلت على أحدهم، قَالَ: إِلَيْك يَا خنزيرة.

132

قَوْله تَعَالَى: {وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ واصطبر عَلَيْهَا} فِي قَوْله: {أهلك} قَولَانِ: أَحدهمَا: أهل دينك، وَالْآخر: قرابتك وقومك. وَفِي بعض المسانيد عَن سلمَان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي كَانَ إِذا أصَاب أَهله خير أَمرهم بِالصَّلَاةِ، وتلا هَذِه الْآيَة {وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ واصطبر عَلَيْهَا} . وَقَوله: {لَا نَسْأَلك رزقا} أَي: لَا نَسْأَلك أَن ترزق أحدا من خلقي، وَلَا أَن ترزق نَفسك، وَقيل: ثَوابًا. وَقَوله: {نَحن نرزقك} . أَي: نوصل إِلَيْك رزقك، وَقيل: ننشئك. وَقَوله: {وَالْعَاقبَة للتقوى} أَي: (لأهل) التَّقْوَى.

133

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا يأتينا بِآيَة من ربه} أَي: الْآيَة المقترحة، فَإِنَّهُ كَانَ قد أَتَاهُم بآيَات كَثِيرَة. وَقَوله: {أولم تأتهم بَيِّنَة مَا فِي الصُّحُف الأولى} أَي: بَيَان مَا فِي الصُّحُف الأولى من أنباء الْأُمَم، فَإِنَّهُم اقترحوا الْآيَات، فأعطوا وَلم يُؤمنُوا، فأهلكهم الله تَعَالَى، وَلَو أعطينا هَؤُلَاءِ أَيْضا، وَلم يُؤمنُوا ألحقنا إهلاكهم.

{من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى (134) قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أَصْحَاب الصِّرَاط السوي وَمن اهْتَدَى (135) }

134

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله} أَي: من قبل إرْسَال الرُّسُل وإنزال الْقُرْآن. قَوْله: {لقالوا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا} أَي: لقالوا يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى} أَي: نذل فِي الدُّنْيَا، ونخزى فِي الْآخِرَة. والذل: الهوان، والخزي: الافتضاح.

135

قَوْله تَعَالَى: {قل كل متربص} رُوِيَ أَن الْمُشْركين قَالُوا: نتربص بِمُحَمد حوادث الدَّهْر، فَإِذا مَاتَ تخلصنا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة {قل كل متربص} أَي: منتظر. وَقَوله: {فتربصوا} أَي: فانتظروا. وَقَوله: {فستعلمون من أَصْحَاب الصِّرَاط السوي} فِي الشاذ: " من أَصْحَاب الصِّرَاط السوى " على وزن فُعلى، وَالْمَعْرُوف: " السوى ". وَمعنى الصِّرَاط السوى: الدّين القويم. وَقَوله {وَمن اهْتَدَى} أَي: من هدى ورشد، والمهتدون نَحن أم أَنْتُم؟

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {اقْترب للنَّاس حسابهم وهم فِي غَفلَة معرضون (1) مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم} تَفْسِير سُورَة الْأَنْبِيَاء وَهِي مَكِّيَّة، قَالَ ابْن مَسْعُود: سُورَة بني إِسْرَائِيل والكهف وَمَرْيَم وطه والأنبياء من الْعتاق الأول، وَهن من تلادي.

الأنبياء

قَوْله تَعَالَى: {اقْترب للنَّاس حسابهم} قَوْله: {اقْترب} : افتعل، من الْقرب. وَقَوله: {للنَّاس حسابهم} أَي: وَقت حسابهم، وَقيل: عَذَابهمْ، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من نُوقِشَ فِي الْحساب عذب. وَالْآيَة فِي الْمُشْركين دون الْمُؤمنِينَ، وَهَذَا قَوْله بَعضهم، وَإِنَّمَا سمى السَّاعَة قريبَة؛ لِأَنَّهَا كَانَت لَا محَالة، وكل مَا هُوَ كَائِن لَا محَالة فَهُوَ قريب، وَأَيْضًا فَإِن مَا بَقِي من الدُّنْيَا فِي جنب مَا مضى (قَلِيل) ، فَسمى السَّاعَة قريبَة؛ على هَذَا الْمَعْنى، وَقد رُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة ارتدع الْمُشْركُونَ عَن بعض مَا هم عَلَيْهِ، ثمَّ لما لم يرَوا للقيامة أثرا انهمكوا فِيمَا كَانُوا، وَهَكَذَا رُوِيَ أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَتَى أَمر الله} ، وَالله أعلم. وَقَوله: {وهم فِي غَفلَة معرضون} أَي: هم غافلون معرضون، وَقيل: فِي اشْتِغَال بِالْبَاطِلِ عَن الْحق، وَيُقَال: وهم فِي غَفلَة عَمَّا يُرَاد بهم وأريدوا بِهِ.

2

قَوْله تَعَالَى: {مَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث} اسْتدلَّ الْمُعْتَزلَة بِهَذَا على أَن الْقُرْآن مَخْلُوق، وَقَالُوا: كل مُحدث مَخْلُوق، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {مُحدث} أَي: مُحدث تَنْزِيله، ذكره الْأَزْهَرِي وَغَيره، وَيُقَال: أنزل فِي زمَان بعد زمَان، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كلما جدد لَهُم ذكرا استمروا على جهلهم، وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن الذّكر الْمُحدث هَاهُنَا مَا ذكره النَّبِي، وَبَينه من السّنَن والمواعظ

{مُحدث إِلَّا استمعوه وهم يَلْعَبُونَ (2) لاهية قُلُوبهم وأسروا النَّجْوَى الَّذين ظلمُوا هَل هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ أفتأتون السحر وَأَنْتُم تبصرون (3) قَالَ رَبِّي يعلم القَوْل فِي السَّمَاء} والدلائل سوى مَا فِي الْقُرْآن، وأضافه إِلَى الرب؛ لِأَنَّهُ قَالَه بِأَمْر الرب تَعَالَى. وَقَوله: {إِلَّا استمعوه وهم يَلْعَبُونَ} أَي: استمعوه لاعبين.

3

وَله تَعَالَى: {لاهية قُلُوبهم} أَي: غافلة، وَقيل: مشتغلة بِالْبَاطِلِ عَن الْحق. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فمثلك حُبْلَى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عَن ذِي تمائم محول) أَي شغلتها. وَقَوله: {وأسروا النَّجْوَى} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وأخفوا النَّجْوَى، وَالْآخر: وأظهروا النَّجْوَى، وَالْعرب تَقول: أسر إِذا أخْفى، وَأسر إِذا أظهر، وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة: أسر إِذا أخْفى بِالسِّين غير الْمُعْجَمَة، وأشر إِذا أظهر بالشين الْمُعْجَمَة. قَالَ الشَّاعِر: (وَلما رأى الْحجَّاج جرد سَيْفه (أسر) الحروري الَّذِي كَانَ أضمرا) وَقَوله: {الَّذين ظلمُوا} أَي: أشركوا. وَقَوله: {هَل هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ} أَنْكَرُوا إرْسَال الْبشر، وطلبوا إرْسَال الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {أفتأتون السحر} أَي: تحضرون السحر وتقبلونه. وَقَوله: {وَأَنْتُم تبصرون} أَي: تعلمُونَ أَنه سحر.

4

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّي يعلم القَوْل فِي السَّمَاء وَالْأَرْض} يَعْنِي: القَوْل يسر بِهِ، ويجهر بِهِ فِي السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

{وَالْأَرْض وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (4) بل قَالُوا أضغاث أَحْلَام بل افتراه بل هُوَ شَاعِر فليأتنا بِآيَة كَمَا أرسل الْأَولونَ (5) مَا آمَنت قبلهم من قَرْيَة أهلكناهم أفهم يُؤمنُونَ (6) وَمَا أرسلنَا قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ (7) وَمَا}

5

قَوْله تَعَالَى: {بل قَالُوا أضغاث أَحْلَام} أَي: تهاويل أَحْلَام، وَيُقَال: أخلاط أَحْلَام، وَيُقَال: مَا لَا تَأْوِيل لَهُ وَلَا تَفْسِير. قَالَ الشَّاعِر: (أَحَادِيث [طسم] أَو سراب بقيعة ... ترقرق للساري وأضغاث حالم) وَقَوله: {بل افتراه} أَي: اختلقه. وَقَوله: {بل هُوَ شَاعِر} أَي: مثل أُميَّة بن الصَّلْت وَمن أشبه، وَالْمرَاد من الْآيَة: بَيَان تناقضهم فِي قَوْلهم، وَأَنَّهُمْ غير مستقرين على شَيْء وَاحِد. وَقَوله: {فليأتنا بِآيَة كَمَا أرسل الْأَولونَ} بِالْآيَاتِ، وطلبوا آيَة مثل النَّاقة أَو عَصا مُوسَى، وَيَد مُوسَى، وَمَا أشبه ذَلِك، وَقد كَانَ الله تَعَالَى بَين الْآيَات سوى مَا طلبُوا.

6

قَوْله تَعَالَى: {مَا آمَنت قبلهم من قَرْيَة أهلكناها} مَعْنَاهُ: مَا آمَنت قبلهم من أهل قَرْيَة طلبُوا آيَة فأعطوا، أَي: أعطيناهم الْآيَة، وَلم يُؤمنُوا. وَقَوله: {أهلكناها} أَي: حكمنَا بهلاكها. وَقَوله: {أفهم يُؤمنُونَ} مَعْنَاهُ: كَمَا لم يُؤمن أُولَئِكَ، فَلَا يُؤمن هَؤُلَاءِ.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي إِلَيْهِم} يَعْنِي: أَنا لم نرسل الْمَلَائِكَة قبلك إِلَى الْأَوَّلين، فنرسل ملكا إِلَى قَوْمك. وَقَوله: {فاسألوا أهل الذّكر} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِأَهْل الذّكر مؤمنو أهل

{جعلناهم جسدا لَا يَأْكُلُون الطَّعَام وَمَا كَانُوا خَالِدين (8) ثمَّ صدقناهم الْوَعْد فأنجيناهم وَمن نشَاء وأهلكنا المسرفين (9) لقد أنزلنَا إِلَيْكُم كتابا فِيهِ ذكركُمْ أَفلا تعقلون (10) وَكم قصمنا من قَرْيَة كَانَت ظالمة وأنشأنا بعْدهَا قوما آخَرين (11) فَلَمَّا أحسوا} الْكتاب، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنهم عُلَمَاء هَذِه الْأمة. وَقَوله: {إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعلناهم جسدا} أَي: ذَوي أجساد. وَقَوله: {لَا يَأْكُلُون الطَّعَام} مَعْلُوم. وَقَوله: {وَمَا كَانُوا خَالِدين} أَي: فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا رد لقَولهم: {وَقَالُوا مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام} الْآيَة.

9

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ صدقناهم الْوَعْد} مَعْنَاهُ: صدقناهم الْوَعْد فِي الْعقَاب وَالثَّوَاب. وَقَوله: {فأنجيناهم وَمن نشَاء وأهلكنا المسرفين} أَي: أنجينا الْمُؤمنِينَ، وأهلكنا المكذبين، وكل مكذب مُشْرك مُسْرِف على نَفسه، والسرف: مُجَاوزَة الْحَد.

10

وَقَوله تَعَالَى: {لقد أنزلنَا إِلَيْكُم كتابا فِيهِ ذكركُمْ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: ذكركُمْ أَي: حديثكم، وَقيل ذكركُمْ أَي: ذكركُمْ مَا تحتاجون إِلَيْهِ من دينكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِد: ذكركُمْ أَي: شرفكم، وَهُوَ شرف لمن يُؤمن بِهِ، لَا لمن يكفر بِهِ. وَقَوله: {أَفلا تعقلون} أَي: أَفلا تعتبرون.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَكم قصمنا} القصم: الْكسر، والفصم - بِالْفَاءِ - الصدع، وَفِي الْخَبَر: " يرفع أهل الدَّرَجَات الْعلَا إِلَى غرفَة من در لَيْسَ فِيهَا قَصم وَلَا فَصم ". وَقَوله: {من قَرْيَة كَانَت ظالمة} أَي: ظلم أَهلهَا. وَقَوله: {وأنشئنا بعْدهَا قوما آخَرين} أَي: فريقا آخَرين.

12

وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا أحسوا بأسنا} أَي: (وجدوا عذابنا) ، وَقيل: وصل إِلَيْهِم

{بأسنا إِذا هم مِنْهَا يركضون (12) لَا تركضوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون (13) قَالُوا يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين (14) فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعوَاهُم حَتَّى} عذابنا. وَقَوله: {إِذا هم مِنْهَا يركضون} أَي: يهربون ركضا، يُقَال: ركض الدَّابَّة إِذا أسْرع فِي سَيرهَا.

13

قَوْله تَعَالَى: {لَا تركضوا} أَي: لَا تهربوا. وَقَوله: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ} أَي: نعمتم فِيهِ، والمترف: الْمُنعم، وَقيل: إِلَى دنياكم {ومساكنكم} الَّتِي نعمتم فِيهَا. قَالَ أَكثر أهل التَّفْسِير: هَذِه الْآيَات نزلت فِي أهل مَدِينَة كفرُوا، فَسلط الله عَلَيْهِم بعض الْجَبَابِرَة - وَقيل: كَانَ بخْتنصر - فَلَمَّا أَصَابَهُم عَذَاب السَّيْف هربوا، فَقَالَ لَهُم الْمَلَائِكَة، وَالسُّيُوف قد أخذتهم: لَا تهربوا، وَارْجِعُوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم. {لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون} من دنياكم، فتعطون من شِئْتُم، وتمنعون من شِئْتُم، قَالُوا هَذَا لَهُم استهزاء، وَقد قيل: هَذَا فِي أهل مَدِينَة أَصَابَهُم عَذَاب من السَّمَاء، فَخَرجُوا هاربين، وَقَالَ لَهُم الْمَلَائِكَة هَذَا القَوْل، وَيُقَال فِي قَوْله: {لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون} أَي: تسْأَلُون لم تركْتُم مَا يصلح دينكُمْ وَأمر آخرتكم، واشتغلتم بِمَا يُوجب الْعَذَاب عَلَيْكُم؟ وَيُقَال: لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون عَمَّا عاينتم من الْعَذَاب، قَالَت الْمَلَائِكَة هَذَا توبيخا لَهُم.

14

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين} الويل: دُعَاء الْهَلَاك. وَقَوله: {ظالمين} أَي: ظالمين لأنفسنا.

15

قَوْله تَعَالَى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعوَاهُم} أَي: دعاؤهم وَقَوْلهمْ. وَقَوله: {حَتَّى جعلناهم حصيدا خامدين} الحصيد: هُوَ المستأصل. وَقَوله: {خامدين} أَي: ميتين، وَمعنى الْآيَة: جعلناهم كَأَن لم يَكُونُوا.

16

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين} أَي:

{جعلناهم حصيدا خامدين (15) وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين (16) لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إِن كُنَّا فاعلين (17) بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق وَلكم الويل مِمَّا تصفون (18) وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} للعب.

17

قَوْله تَعَالَى: {لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهوا} اخْتلفُوا فِي اللَّهْو هَاهُنَا على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن اللَّهْو هُوَ الْمَرْأَة، وَالْآخر: أَن اللَّهْو هُوَ الْوَلَد، وَهُوَ فِي الْمَرْأَة أظهر؛ فَإِن الْوَطْء يُسمى لهوا فِي اللُّغَة، وَالْمَرْأَة مَحل الْوَطْء، قَالَ الشَّاعِر: (أَلا زعمت بسباسة الْيَوْم أنني ... كَبرت وَألا يحسن اللَّهْو أمثالي) وَعَن بَعضهم: أَن اللَّهْو هُوَ الْغناء، وَهُوَ ضَعِيف فِي هَذَا الْموضع. وَقَوله: {لاتخذناه من لدنا} أَي: لاتخذناه من عندنَا لَا من عنْدكُمْ، وَيُقَال: اتخذناه بِحَيْثُ لَا ترَوْنَ) . وَقَوله: {إِن كُنَّا فاعلين} أَي: مَا كُنَّا فاعلين، وَيُقَال: إِن كُنَّا فاعلين، وَلم نفعله؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيق بِنَا.

18

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل} الْحق هَاهُنَا: قَول الله تَعَالَى: " إِنَّه لَا ولد لَهُ " وَالْبَاطِل قَوْلهم: إِن الله اتخذ ولدا، وَيُقَال: إِن الْحق هُوَ الْقُرْآن، وَالْبَاطِل هُوَ الشَّيْطَان. وَقَوله: {نقذف} أَي: نلقي. وَقَوله: {فيدمغه} أَي: يُزِيلهُ، يُقَال: دمغت فلَانا إِذا كسرت دماغه وقتلته. وَقَوله: {فَإِذا هُوَ زاهق} أَي: ذَاهِب، وَهَذَا من حَيْثُ بَيَان الدَّلِيل وَالْحجّة، لَا من حَيْثُ إِزَالَة الْكفْر أصلا، فَإِن الْكفْر وَالْبَاطِل فِي الْعَالم كثير. وَقَوله: {وَلكم الويل مِمَّا تصفون} قَالَ قَتَادَة: مِمَّا تكذبون، وَقَالَ الْحسن: هُوَ لكل واصف كذبا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.

{وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون (19) يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون (20) أم اتَّخذُوا آلِهَة من الأَرْض هم ينشرون (21) لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله}

19

قَوْله تَعَالَى: {وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض عبيدا وملكا. وَقَوله: {وَمن عِنْده} أَي: الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته} . أَي: لَا يتعظمون عَن عِبَادَته، وَذكر ابْن فَارس فِي تَفْسِيره فِي خبر: أَن الله تَعَالَى لما اسْتَوَى على عَرْشه، سجد ملك فَلَا يرفع رَأسه من السُّجُود إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَإِذا رفع رَأسه يَوْم الْقِيَامَة قَالَ: سُبْحَانَكَ، مَا عبدتك حق عبادتك غير أَنِّي لم أشرك بك، وَلم أَتَّخِذ لَك ندا. وَقَوله: {وَلَا يستحسرون} أَي: لَا يعيون، يُقَال: دَابَّة حسيرة إِذا كَانَت عيية، قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: التَّسْبِيح لَهُم كالتنفس لبني آدم.

20

قَوْله تَعَالَى: {يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون} يَعْنِي: يسبحون دَائِما، لَا يضعفون وَلَا يفنون، وَاعْلَم أَنه لَيْسَ عِنْد الْمَلَائِكَة ليل وَلَا نَهَار؛ وَإِنَّمَا المُرَاد بِذكر اللَّيْل وَالنَّهَار هَاهُنَا: هُوَ الدَّوَام على التَّسْبِيح.

21

قَوْله تَعَالَى: {أم اتَّخذُوا آلِهَة من الأَرْض هم ينشرون} معنى قَوْله: {من الأَرْض} أَي: من الْخشب وَالْحِجَارَة، (وَقد كَانَت عَامَّة أصنام الْمُشْركين من الْخشب وَالْحِجَارَة) ، وهما من الأَرْض. وَقَوله: {هم ينشرون} أَي: يحيون، وَلَا يسْتَحق الإلهية إِلَّا من يقدر على الْإِحْيَاء والإيجاد من الْعَدَم؛ لِأَنَّهُ الإنعام بأبلغ وُجُوه النعم، وَهَذَا لَا يَلِيق بِوَصْف الْبشر وكل مُحدث. وأنشدوا للأعشى فِي الانتشار: (لَو أسندت مَيتا إِلَى نحرها ... عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر) (حَتَّى يَقُول النَّاس مِمَّا رَأَوْا ... أيا عجبا للْمَيت الناشر)

{لفسدتا فسبحان الله رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ (22) لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} وقرىء: " ينشرون " بِفَتْح الْيَاء أَي: يحيون أبدا، وَمعنى الْآيَة هُوَ الْإِنْكَار على متخذ الْأَصْنَام آلِهَة، وَبَيَان أَنه لَا يَلِيق بهَا الإلهية.

22

قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} قَالَ أَكثر أهل التَّفْسِير: " إِلَّا " هَاهُنَا بِمَعْنى " غير "، قَالَ الشَّاعِر: (وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ ... لعَمْرو أَبِيك إِلَّا الفرقدان) يَعْنِي: غير الفرقدين، وَهَذَا على مَا اعتقدوا من دوَام السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَالَ بَعضهم: {إِلَّا الله} " إِلَّا " بِمَعْنى " الْوَاو " هَاهُنَا، وَمَعْنَاهُ: لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة وَالله (أَيْضا) لفسدتا، وَمعنى الْفساد فِي السَّمَاء وَالْأَرْض إِذا كَانَ الْإِلَه اثْنَيْنِ، هُوَ فَسَاد التَّدْبِير وَعدم انتظام الْأُمُور بِوُقُوع الْمُنَازعَة والمضادة، وَهُوَ أَيْضا معنى قَوْله تَعَالَى: {ولعلا بَعضهم على بعض} . وَقَوله: {فسبحان الله رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ} نزه نَفسه عَمَّا يصفه بِهِ الْمُشْركُونَ من الشَّرِيك وَالْولد.

23

قَوْله تَعَالَى: {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم (يسْأَلُون} ) يَعْنِي: لَا يسْأَل عَمَّا يحكم على خلقه، والخلق يسْأَلُون عَن (أفعالهم وأعمالهم) ، وَقيل: لَا يسْأَل عَمَّا يفعل؛ لِأَنَّهُ كُله حِكْمَة وصواب، وهم يسْأَلُون عَمَّا يَفْعَلُونَ لجَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِم، وَقيل: معنى لَا يسْأَل عَمَّا يفعل: لَا يُقَال لَهُ: لم؟ ، ولماذا؟ بِخِلَاف الْخلق، وَفِي الْآيَة رد على الْقَدَرِيَّة، وَقطع شبهتهم بِالْكُلِّيَّةِ. وَقد روى أَبُو الْأسود الدؤَلِي أَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ لَهُ: أَرَأَيْت مَا يسْعَى فِيهِ النَّاس ويكدحون، أهوَ أَمر قضي عَلَيْهِم أَو شَيْء يستأنفونه؟ فَقلت: لَا، بل أَمر قضي عَلَيْهِم، قَالَ: أَفلا يكون ظلما؟ قلت: سُبْحَانَ الله {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم

( {23) أم اتَّخذُوا من دونه آلِهَة قل هاتوا برهانكم هَذَا ذكر من معي وَذكر من قبلي بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ الْحق فهم معرضون (24) وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول إِلَّا نوحي} يسْأَلُون) فَقَالَ لي: أصبت يَا أَبَا الْأسود، وَقد أجزت عقلك، ثمَّ روى عمرَان أَن رجلا من جُهَيْنَة - أَو مزينة - أَتَى النَّبِي قَالَ لَهُ: عَمَّا يفعل النَّاس أَو يكدحون فِيهِ، أهوَ شَيْء قضي عَلَيْهِم؟ أم شَيْء يستأنفونه؟ فَقَالَ النَّبِي: " هُوَ شَيْء قضي عَلَيْهِم، فَقَالَ ذَلِك الرجل: يَا رَسُول الله، أَفلا يكون ظلما؟ قَالَ: لَا، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون} " قَالَ الشَّيْخ: وَقد ذكرنَا هَذَا الْخَبَر فِي كتاب " مُسْند الْقدر ".

24

قَوْله تَعَالَى: {أم اتَّخذُوا من دونه آلِهَة قل هاتوا برهانكم} أَي: حجتكم. وَقَوله: {هَذَا ذكر من معي} أَي: ذكر من معي (بِمَا) أمروا من الْحَلَال وَالْحرَام. وَقَوله: {وَذكر من قبلي} أَي: من يحيى مِنْهُم بِالطَّاعَةِ وَهلك بالمعصية، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: ذكر من معي فَهُوَ الْقُرْآن، وَذكر من قبلي هُوَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَمَعْنَاهُ: راجعوا الْقُرْآن والتوراة وَالْإِنْجِيل وَسَائِر الْكتب، هَل تَجِدُونَ فِيهَا أَن الله اتخذ ولدا؟ وَقَوله: {بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ الْحق فهم معرضون} ظَاهر الْمَعْنى.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول إِلَّا نوحي إِلَيْهِ أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدون} أَي: وحدون.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا} قَالَ قَتَادَة: قَالَ طَائِفَة من الْمُشْركين: إِن الله تَعَالَى صاهر الْجِنّ، فالملائكة بَنَاته.

{إِلَيْهِ أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدون (25) وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون (26) لَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ (27) يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى وهم من خَشيته مشفقون (28) وَمن يقل مِنْهُم إِنِّي} وَقَوله: {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَمَّا قَالُوا. وَقَوله: {بل عباد مكرمون} أَي: عبيد مكرمون.

27

قَوْله تَعَالَى: {لَا يسبقونه بالْقَوْل} هَذَا ثَنَاء من الله على الْمَلَائِكَة، وَمعنى قَوْله: {لَا يسبقونه بالْقَوْل} أَنهم لَا يَقُولُونَ قولا بِخِلَافِهِ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} أَي: لَا تَقولُوا قولا بِخِلَاف الْكتاب وَالسّنة، وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أحدث فِي ديننَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد ". والإحداث فِي الدّين أَن يَقُول بِخِلَاف الْكتاب وَالسّنة. وَقَوله: {وهم بأَمْره يعْملُونَ} مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يخالفونه، لَا قولا، وَلَا عملا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: إِذْ أَمر بِأَمْر أطاعوا، فَإِذا قَالَ لَهُم: افعلوا قَالُوا: طَاعَة.

28

قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم} أَي: مَا قدمُوا وأخروا، وَقيل: مَا بَين أَيْديهم هُوَ الْآخِرَة، وَمَا خَلفهم أَعْمَالهم. وَقَوله: {وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى} مَعْنَاهُ: إِلَّا لمن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَيُقَال: إِلَّا لمن رَضِي الله عَنهُ عمله. وَقَوله: {وهم من خَشيته مشفقون} أَي: من عَذَابه.

29

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يقل مِنْهُم إِنِّي إِلَه من دونه فَذَلِك نجزيه جَهَنَّم كَذَلِك نجزي الظَّالِمين} . فَإِن قيل: هَل قَالَ أحد من الْمَلَائِكَة إِنِّي إِلَه من دونه؟ (قُلْنَا) مَعْنَاهُ: لَو

{إِلَه من دونه فَذَلِك نجزيه جَهَنَّم كَذَلِك نجزي الظَّالِمين (29) أَو لم ير الَّذين كفرُوا أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقا ففتقناهما وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ أَفلا يُؤمنُونَ} قَالُوا، وَلم يَقُولُوا، وَالْجَوَاب الْمَعْرُوف: أَن المُرَاد مِنْهُ إِبْلِيس لَعنه الله؛ فَإِنَّهُ دَعَا النَّاس إِلَى طَاعَته، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَمن يقل مِنْهُم إِنِّي إِلَه} وَهَذَا دَلِيل على أَن من دَعَا إنْسَانا إِلَى طَاعَته فِي مَعْصِيّة الْخَالِق فَكَأَنَّهُ قَالَ: اعبدني أَو اتَّخَذَنِي إِلَهًا.

30

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم ير الَّذين كفرُوا أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقا ففتقناهما} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ: أَو لم ير الْكفَّار، [و] لم يرَوا شَيْئا من هَذَا وَلَا الْمُسلمُونَ! وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ أَو لم يعلمُوا بإخبارك إيَّاهُم، وَقيل: أَو لم يخبروا. وَأما الرتق فِي اللُّغَة هُوَ السد، والفتق هُوَ الشق، قَالَ الشَّاعِر: (يهون عَلَيْهِم إِذا يغضبون ... سخط العداة وإرغامها) (ورتق الفتوق وفتق الرتوق ... وَنقض الْأُمُور وإبرامها) وَأما معنى الْآيَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: قَوْله: {كَانَتَا رتقا} أَي: كَانَ السَّمَاء وَالْأَرْض ملتصقين، ففتقناهما بالهواء، وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: كَانَ السَّمَاء شَيْئا وَاحِدًا، ففتقناها، وجعلناها سبع سموات، وَكَانَت الأَرْض شَيْئا وَاحِدًا ففتقناها، وجعلناها سبع أَرضين، وَالْقَوْل الثَّالِث قَالَه مُجَاهِد: فتقنا السَّمَاء بالمطر، وَالْأَرْض بالنبات. وَقَوله: {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ} فَإِن قَالَ قَائِل: قد خلق بعض مَا هُوَ حَيّ من غير المَاء، فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله: {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ} ؟ وَأَيْضًا فَإِن الْإِنْسَان قد يَمُوت بِالْمَاءِ، وَالشَّجر والنبات قد يهْلك بِالْمَاءِ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن المَاء هَاهُنَا هُوَ النُّطْفَة، والحي هُوَ الْآدَمِيّ، وَمَعْنَاهُ: كل شَيْء حَيّ من الْآدَمِيّ. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن هَذَا على وَجه التكثير، وَأكْثر الْأَحْيَاء فِي الأَرْض إِنَّمَا هُوَ مَخْلُوق من المَاء أَو بَقَاؤُهُ بِالْمَاءِ، فاستقام معنى الْآيَة من هَذَا الْوَجْه.

( {30) وَجَعَلنَا فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بهم وَجَعَلنَا فِيهَا فجاجا سبلا لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلنَا السَّمَاء سقفا مَحْفُوظًا وهم عَن آياتها معرضون (32) وَهُوَ الَّذِي خلق اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر كل فِي فلك يسبحون (33) } وَقَوله: {أَفلا يُؤمنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا فِي الأَرْض رواسي} أَي: جبالا ثوابت، وَقيل: ثقالا، قَالَ الشَّاعِر: (رسا أَصله تَحت الثرى وسمائه ... إِلَى النَّجْم فرع لَا ينَال طَوِيل) وَقَوله: {أَن تميد بهم} . أَي: كَرَاهَة أَن تميد بهم، والميد: الْحَرَكَة. وَقَوله: {وَجَعَلنَا فِيهَا فجاجا سبلا} الْفَج هُوَ الْوَاسِع بَين الجبلين. وَقَوله: {سبلا} أَي: طرقا مسلوكة. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ} أَي: يَهْتَدُونَ إِلَى الْحق.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا السَّمَاء سقفا مَحْفُوظًا} أَي: مَحْفُوظًا من وُقُوعه على الأَرْض، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} وَيُقَال مَعْنَاهُ: مَحْفُوظًا عَن الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ. وَقَوله: {وهم عَن آياتها معرضون} آياتها: شمسها وقمرها ونجومها وارتفاعها واستمساكها بِغَيْر عمد، وَغير ذَلِك.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر} الْمَعْرُوف عَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة عِكْرِمَة أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى خلق اللَّيْل قبل النَّهَار، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {أَو لم ير الَّذين كفرُوا أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقا} أَي: كَانَتَا مظْلمَة بالرتق ففتقتا بالضياء. وَقَوله: {وَالشَّمْس وَالْقَمَر كل فِي فلك يسبحون} أَي: يجرونَ، وَيُقَال يَدُور

{وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد أَفَإِن مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الْمَوْت} بهم فلك دون السَّمَاء، وَيُقَال: يَدُور بهم السَّمَاء، وَالله أعلم؛ وَإِنَّمَا ذكر {يسبحون} وَلم يقل: يسبح على مَا يُقَال لما لَا يعقل؛ لِأَنَّهُ ذكر عَنْهُم مَا يذكر من الْعُقَلَاء، وَهُوَ الجري والسبح، فَذكر على مَا يعقل.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد} كَانُوا يَقُولُونَ: نتربص بِمُحَمد ريب الْمنون، فَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد} يَعْنِي: أَن الْمَوْت طَرِيق مَعْهُود مسلوك لَا بُد مِنْهُ لكل حَيّ. وَقَوله: {أَفَإِن مت فهم الخالدون} مَعْنَاهُ: أفهم الخالدون إِن مت؟ وَقد رُوِيَ " أَن النَّبِي لما توفّي دخل أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَوضع فَمه بَين عَيْنَيْهِ وَيَده على جَانب رَأسه، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، طبت حَيا وَمَيتًا، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد أَفَإِن مت فهم الخالدون} وَقد كَانَ عمر يَقُول: إِنَّه لم يمت، فَلَمَّا تَلا أَبُو بكر هَذِه الْآيَة، فَكَأَن النَّاس لم يسمعوا هَذِه الْآيَة إللا ذَلِك الْوَقْت، وأعرضوا عَن عمر (وَقَوله) ، وَعَلمُوا أَنه قد مَاتَ ".

35

قَوْله تَعَالَى: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} قد بَينا من قبل. وَقَوله: {ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر} أَي: بالرخاء والشدة، وَالصِّحَّة والسقم، وبالإشقاء والإسعاد، وَغير ذَلِك مِمَّا يخْتَلف على الْإِنْسَان، وَقيل: بِالشَّرِّ وَالْخَيْر أَي: بِمَا يحبونَ ويكرهون، وَيُقَال: الشَّرّ غَلَبَة الْهوى على الْإِنْسَان، وَالْخَيْر الْعِصْمَة من الْمعاصِي، قَالَه سهل بن عبد الله.

{ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فتْنَة وإلينا ترجعون (35) وَإِذا رآك الَّذين كفرُوا إِن يتخذونك إِلَّا هزوا أَهَذا الَّذِي يذكر آلِهَتكُم وهم بِذكر الرَّحْمَن هم كافرون (36) خلق الْإِنْسَان} وَقَوله: {فتْنَة} أَي: محنة وخبرة. وَقَوله: {وإلينا ترجعون} أَي: تردون.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رآك الَّذين كفرُوا إِن يتخذونك إِلَّا هزوا} أَي: مَا يتخذونك إِلَّا هزوا. وَقَوله: {أَهَذا الَّذِي يذكر آلِهَتكُم} أَي: يعيب آلِهَتكُم، يُقَال: فلَان يذكر فلَانا أَي: يعِيبهُ، وَفُلَان يذكر الله أَي: يعظمه ويجله. وَقَوله: {وهم بِذكر الرَّحْمَن هم كافرون} قَالَ هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا مُسَيْلمَة، وهم " الثَّانِيَة صلَة.

37

قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من عجل} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: سرعَة وتعجيل، وَالْإِنْسَان هُوَ آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَقد خلقه الله تَعَالَى من غير تَرْتِيب خلق سَائِر الْآدَمِيّين من النُّطْفَة، والعلقة، والمضغة، وَغَيره، وَهَذَا قَول حسن. وَالْقَوْل الثَّانِي: من عجل أَي: عجولا، وَيجوز أَن يكون المُرَاد من الْإِنْسَان جَمِيع بني آدم، وَأما ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ آدم لما نفخ الله فِيهِ الرّوح وَبلغ صَدره، أَرَادَ أَن يقوم، فَهُوَ عجلته. وَذكر الْكَلْبِيّ: أَنه لما نفخ فِيهِ الرّوح نظر إِلَى الشَّمْس فَإِذا هِيَ تغرب، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أتم خلقي قبل أَن تغرب الشَّمْس، فَهُوَ عجلته. وَالْقَوْل الثَّالِث: خلق الْإِنْسَان والعجلة مِنْهُ، وَقيل: والعجلة فِيهِ، وَهَذَا على طَرِيق الْمُبَالغَة، وَالْعرب تَقول للشرير: خلقت من الشَّرّ، وَكَذَلِكَ تَقول: خلق فلَان من الْخَيْر إِذا ذكر على طَرِيق الْمُبَالغَة. وَالْقَوْل الرَّابِع: قَوْله: {خلق الْإِنْسَان من عجل} أَي: من طين. قَالَ الشَّاعِر: (والنبع فِي الصَّخْرَة الصماء منبته ... وَالنَّخْل ينْبت بَين المَاء والعجل) أَي: الطين.

{من عجل سأريكم آياتي فَلَا تَسْتَعْجِلُون (37) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (38) لَو يعلم الَّذين كفرُوا حِين لَا يكفون عَن وُجُوههم النَّار وَلَا عَن ظُهُورهمْ وَلَا هم ينْصرُونَ (39) بل تأتيهم بَغْتَة فتبهتهم فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ردهَا وَلَا هم ينظرُونَ (40) } وَقَوله: {سأريكم آياتي فَلَا تَسْتَعْجِلُون} هَذَا فِي الْمُشْركين، فَإِنَّهُم كَانُوا يستعجلون الْقِيَامَة على مَا قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر: {يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا} وَقَالَ بَعضهم: {سأريكم آياتي} أَي: مواعدي. وَقَوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُون} أَي: لَا تَطْلُبُوا الْعَذَاب مني قبل وقته، وَإِنَّمَا نزلت هَذِه الْآيَة؛ لِأَن النَّضر بن الْحَارِث كَانَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} ظَاهر الْمَعْنى.

39

قَوْله تَعَالَى: {لَو يعلم الَّذين كفرُوا حِين لَا يكفون} أَي: لَا يدْفَعُونَ. وَقَوله: {عَن وُجُوههم النَّار وَلَا عَن ظُهُورهمْ} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: (وَلَا هم ينْصرُونَ) . أَي: لَا يمْنَعُونَ من الْعَذَاب، وَفِي الْآيَة جَوَاب مَحْذُوف وَمَعْنَاهُ: لعلموا صدق وعدنا. وَقَوله: {لَو يعلم} فِي ابْتِدَاء الْآيَة مَعْنَاهُ: لَو يرى.

40

قَوْله تَعَالَى: {بل تأتيهم بَغْتَة} أَي: الْقِيَامَة فَجْأَة. وَقَوله: {فتبهتهم} . أَي: تحيرهم، يُقَال: فلَان مبهوت أَي: متحير، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فبهت الَّذِي كفر} . وَقَوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ردهَا وَلَا هم ينظرُونَ} أَي: يمهلون.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد استهزىء برسل من قبلك} ظَاهر الْمَعْنى.

{وَلَقَد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (41) قل من يكلؤكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار من الرَّحْمَن بل هم عَن ذكر رَبهم معرضون (42) أم لَهُم آلِهَة تمنعهم من دُوننَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نصر أنفسهم وَلَا هم منا يصحبون (43) بل متعنَا هَؤُلَاءِ وآباءهم حَتَّى طَال عَلَيْهِم الْعُمر أَفلا يرَوْنَ أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها} وَقَوله: {فحاق بالذين سخروا مِنْهُم} أَي: نزل بالذين سخروا مِنْهُم. {مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: جَزَاء استهزائهم.

42

وَقَوله تَعَالَى: {قل من يكلؤكم} أَي: يحفظكم. قَالَ الشَّاعِر: (إِن سليمى فَالله يكلؤها ... ضنت بِشَيْء مَا كَانَ يرزؤها) وَقَوله: {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار من الرَّحْمَن} أَي: من عَذَاب الرَّحْمَن، وَالله تَعَالَى يحفظ الْعباد من عَذَاب نَفسه. وَقَوله: {بل هم عَن ذكر رَبهم معرضون} ظَاهر الْمَعْنى.

43

قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم آلِهَة تمنعهم من دُوننَا} أَي: تمنع الْعَذَاب عَنْهُم من دُوننَا. وَقَوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ نصر أنفسهم} أَي: منع أنفسهم. وَقَوله: {وَلَا هم منا يصحبون} أَي: يجارون، يُقَال: أجارك الله أَي: حفظك، وَتقول الْعَرَب: صحبك الله أَي: حفظك ونصرك، وَقد قيل: يصحبون أَي: ينْصرُونَ.

44

قَوْله تَعَالَى: {بل متعنَا هَؤُلَاءِ وآباءهم} أَي: أملينا وأمهلنا، وَيُقَال: متعنَا أَي: أعطيناهم النِّعْمَة. وَقَوله: {حَتَّى طَال عَلَيْهِم الْعُمر} أَي: امْتَدَّ بهم الزَّمَان. وَقَوله: {أَفلا يرَوْنَ أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها} الْأَكْثَرُونَ: أَن هَذَا هُوَ ظُهُور النَّبِي، وفتحه ديار الشّرك أَرضًا أَرضًا وبلدة بَلْدَة، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا

{أفهم الغالبون (44) قل إِنَّمَا أنذركم بِالْوَحْي وَلَا يسمع الصم الدُّعَاء إِذا مَا ينذرون (45) وَلَئِن مستهم نفحة من عَذَاب رَبك ليَقُولن يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين (46) وَنَضَع} التَّأْوِيل أَنه قَالَ: {أفهم الغالبون} أَي: لَيست الْغَلَبَة لَهُم؛ إِنَّمَا الْغَلَبَة لي ولرسولي، وَعَن ابْن جريج قَالَ: مَا ينقص من سَائِر الْأَرْضين يُزَاد فِي الشَّام، وَمَا ينقص من الشَّام يُزَاد فِي أَرض فلسطين، وَبهَا الْمَحْشَر. وَقَالَ عِكْرِمَة: لَو نقص من الأَرْض مَا وجد أحد مَكَانا يقْعد فِيهِ، وَلَكِن المُرَاد من الْآيَة ذهَاب خِيَارهَا وعلماؤها، وَيُقَال: هُوَ موت أَهلهَا، وَقيل: خرابها.

45

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أنذركم بِالْوَحْي} أَي: بِالْقُرْآنِ. وَقَوله: {وَلَا يسمع الصم الدُّعَاء} وقرىء: " لَا يسمع الصم الدُّعَاء "، وَقَرَأَ عبد الرَّحْمَن المقرىء: " لَا تسمع الصم الدُّعَاء "، وَأما الْمَعْرُوف هُوَ ظَاهر الْمَعْنى، والصم هم الْكفَّار، وَسَمَّاهُمْ صمًّا، لأَنهم لم يسمعوا مَا يَنْفَعهُمْ. وَقَوله: {إِذا مَا ينذرون} أَي: يخوفون بِالْوَحْي.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن مستهم نفحة} النفحة هِيَ: الدفعة الْيَسِيرَة، تَقول الْعَرَب: نفح فلَان بِالسَّيْفِ على هَذَا الْمَعْنى، وَهِي بِخِلَاف ... والنفخة لَا بُد فِيهَا من خُرُوج الرّيح من الْخَوْف، وَمعنى {وَلَئِن مستهم نفحة} أَي: طرف من عَذَاب رَبك، وَقيل: أدنى شَيْء من عَذَاب رَبك. وَقَوله: {ليَقُولن يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين} مَعْنَاهُ: يَا هلاكنا، إِنَّا كُنَّا مُشْرِكين، كَأَنَّهُمْ أقرُّوا على أنفسهم بِاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَنَضَع الموازين الْقسْط} مَعْنَاهُ: ذَوَات الْقسْط، والقسط، الْعدْل، وَفِي الْمَشْهُور فِي الْأَخْبَار: أَن الْمِيزَان لَهُ لِسَان وكفتان، وَفِي بعض الْمَأْثُور: أَن دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: يَا رب: أَرِنِي الْمِيزَان الَّذِي يُوزن بِهِ أَعمال الْعباد، فَأرَاهُ إِيَّاه،

{الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة فَلَا تظلم نفس شَيْئا وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل أَتَيْنَا بهَا} وكل كفة مِنْهُ مثل مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، فَقَالَ: يَا رب: وَمن يمْلَأ هَذَا من الْحَسَنَات؟ فَقَالَ: باداود، إِذا رضيت عَن عَبدِي ملأته بكسرة أَو تَمْرَة وَالله أعلم. وَأما كَيْفيَّة الْوَزْن فقد قَالَ بَعضهم إِنَّه يُوزن الْحَسَنَات والسيئات، وَقيل: يُوزن خَوَاتِيم الْأَعْمَال، وَقَالَ بَعضهم: الْمِيزَان عَلامَة يعرف بهَا مقادير اسْتِحْقَاق الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَالصَّحِيح هُوَ الْمِيزَان حَقِيقَة، فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا} فَكيف التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا} أَي: لَا يَسْتَقِيم وزنهم على الْحق، فَإِن ميزانهم شائل نَاقص خَفِيف، وَيُقَال: {فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا} أَي: ثَوابًا، قَالَ بعض الْخَوَارِج فِي ضَرْبَة ابْن ملجم لعَلي رَضِي الله عَنهُ: - (يَا ضَرْبَة من تقى مَا أَرَادَ بهَا ... إِلَّا ليدرك من ذِي الْعَرْش رضوانا) (إِنِّي لأذكر يَوْمًا فأحسبه ... أوفى الْبَريَّة عِنْد الله ميزانا) أَي ثَوابًا، وَنحن نبرأ من معنى هَذَا الشّعْر وَمن قَائِله. وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا تظلم نفس شَيْئا} أَي: [لَا] يُزَاد فِي سيئاته، وَلَا ينقص من حَسَنَاته. وَقَوله: {وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل} أَي: زنة حَبَّة خَرْدَل. وَقَول: {أَتَيْنَا بهَا} أَي: أحضرناها؛ لنجازى عَلَيْهَا. وقرىء فِي الشاذ: " آتَيْنَا بهَا " بِمد الْألف، من الإيتاء أَي: جازينا بهَا أَو أعطينا بهَا. وَقَوله: {وَكفى بِنَا حاسبين} أَي: محاسبين، وَقيل: حافظين عَالمين، وَقيل: محصين.

{وَكفى بِنَا حاسبين (47) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون الْفرْقَان وضياء وذكرا لِلْمُتقين (48) الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ وهم من السَّاعَة مشفقون (49) وَهَذَا ذكر مبارك أَنزَلْنَاهُ أفأنتم لَهُ منكرون (50) وَلَقَد آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رشده من قبل وَكُنَّا بِهِ عَالمين (51) إِذْ قَالَ}

48

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُون الْفرْقَان} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه التَّوْرَاة، وَالْآخر: أَنه الْبُرْهَان الَّذِي فرق بِهِ بَين حق مُوسَى وباطل فِرْعَوْن. وَقَوله: {وضياء} وقرىء بِغَيْر الْوَاو، فَأَما بِالْوَاو فَهُوَ صفة أُخْرَى للتوراة، إِذا حملنَا الْفرْقَان على التَّوْرَاة، وَإِن حملناه على الْبُرْهَان، فَمَعْنَاه: أعطيناه الْبُرْهَان، وأعطيناه التَّوْرَاة الَّتِي هِيَ ضِيَاء، فَأَما بِغَيْر الْوَاو فَمَعْنَى الْفرْقَان على هَذَا لَيْسَ إِلَّا التَّوْرَاة، وَقَوله: {وضياء} صفة لَهَا. وَقَوله: {وذكرا لِلْمُتقين} أَي: تذكيرا لِلْمُتقين.

49

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} إِنَّمَا قَالَ: {بِالْغَيْبِ} ؛ لِأَن الْمُؤمنِينَ يخشونه وَلَا يرونه، فَأَما هُوَ يراهم وَلَيْسوا بِغَيْب عَنهُ. وَقَوله: {وهم من السَّاعَة مشفقون} أَي: خائفون.

50

قَوْله تَعَالَى: {وَهَذَا ذكر مبارك أَنزَلْنَاهُ} قد بَينا معنى الْمُبَارك، وَقيل: يتبرك بِهِ أَي: يطْلب مِنْهُ الْخَيْر. وَقَوله: {أفأنتم لَهُ منكرون} مَذْكُور على وَجه التوبيخ والذم لإنكارهم.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا إِبْرَاهِيم رشده من قبل} فِي الرشد قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْهِدَايَة، وَالْآخر: أَنه النُّبُوَّة. وَقَوله: {من قبل} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: من قبل الْبلُوغ، وَهُوَ حِين خرج من السرب، وَهُوَ صَغِير، وَنظر إِلَى النُّجُوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر فاستدل، كَمَا ذكرنَا فِي سُورَة الْأَنْعَام، وَالْقَوْل الثَّانِي: من قبل أَي: من قبل مُوسَى وَهَارُون. وَقَوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالمين} أَي: عارفين.

{لِأَبِيهِ وَقَومه مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون (52) قَالُوا وجدنَا آبَاءَنَا لَهَا عابدين (53) قَالَ لقد كُنْتُم أَنْتُم وآباؤكم فِي ضلال مُبين (54) قَالُوا أجئتنا بِالْحَقِّ أم أَنْت من اللاعبين (55) قَالَ بل ربكُم رب السَّمَوَات وَالْأَرْض الَّذِي فطرهن وَأَنا على ذَلِكُم من الشَّاهِدين (56) وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أَن توَلّوا مُدبرين (57) فجعلهم جذاذا}

52

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَا هَذِه التماثيل الَّتِي أَنْتُم لَهَا عاكفون} أَي: الْأَصْنَام الَّتِي أَنْتُم عَلَيْهَا مقيمون لِلْعِبَادَةِ.

53

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا وجدنَا آبَاءَنَا لَهَا عابدين} مَعْنَاهُ: وجدناهم كَذَلِك فاتبعناهم.

54

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لقد كُنْتُم أَنْتُم وآباؤكم فِي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ بَين، والبين الْوَاضِح، والمبين الموضح.

55

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أجئتنا بِالْحَقِّ أم أَنْت من اللاعبين} أَي: بِالصّدقِ وَالْجد، أم أَنْت من الهازئين؟

56

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ بل ربكُم رب السَّمَوَات وَالْأَرْض الَّذِي فطرهن} أَي: خَلقهنَّ. وَقَوله: {وَأَنا على ذَلِكُم من الشَّاهِدين} أَي: على أَنه الْإِلَه الَّذِي لَا يسْتَحق الْعِبَادَة غَيره، وَأَن الْأَصْنَام لَيست بآلهة، وَقيل: وَأَنا من الشَّاهِدين على أَنه خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.

57

قَوْله تَعَالَى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} الكيد: إِيصَال ضرّ بِالْغَيْر بِضَرْب من التَّدْبِير، وَقيل: الكيد شبه الْمُحَاربَة. وَفِي مغازي الرَّسُول غزا مَوضِع كَذَا، فَلم يلق كيدا، أَي: حَربًا. وَقَوله: {بعد أَن توَلّوا مُدبرين} أَي: بعد أَن تدبروا منطلقين إِلَى عيدكم، فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر كيد الْأَصْنَام، وَهِي لَا تعقل؟ قُلْنَا: سنبين وَجه كَيده لَهَا.

58

قَوْله: {فجعلهم جذاذا} قرىء: " جذاذا " و " جذاذا " وَفِي الشاذ " جذاذا "، فَقَوله: " جذاذا " بِالرَّفْع هُوَ مثل الحطام والرفات، وَقَوله: " جذاذا " بِالْكَسْرِ فَهُوَ جمع

{إِلَّا كَبِيرا لَهُم لَعَلَّهُم إِلَيْهِ يرجعُونَ (58) قَالُوا من فعل هَذَا بآلهتنا إِنَّه لمن الظَّالِمين} الجذيذ، مثل الْخَفِيف والخفاف، وَمَعْنَاهُ: أَنه قطعهَا وَكسرهَا، أَي: جعلهَا قِطْعَة قِطْعَة، وكسرة كسرة. وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لما مروا إِلَى عيدهم قَالُوا لَهُ: أَلا تخرج مَعنا؟ فَقَالَ: لَا، إِنِّي سقيم، وَمَعْنَاهُ: مَا برد بعد، ثمَّ قَالَ فِي نَفسه: تالله لأكيدن أصنامكم، فَسَمعهُ رجل مِنْهُم، ومروا وَلم يبْق فِي الْبَلَد أحد، فجَاء إِلَى بَيت أصنامهم، وَمَعَهُ فأس، وَكَانَ فِي الْبَيْت اثْنَان وَسَبْعُونَ صنما، بَعْضهَا من حجر، وَبَعضهَا من فضَّة، وَبَعضهَا من ذهب، وَغير ذَلِك، والصنم الْكَبِير من الذَّهَب، وَهُوَ مكلل بالجوهر، وَعَيناهُ ياقوتتان تتقدان، وَهُوَ على هَيْئَة عَظِيمَة، فَأخذ الفأس، وَكسر الْكل إِلَّا الْكَبِير، فَإِنَّهُ تَركه وعلق الفأس فِي عُنُقه، وَقيل: ربطه بِيَدِهِ، فَهَذَا هُوَ كيد الْأَصْنَام، وَمَعْنَاهُ: [أَنه] كادهم على مَا يَعْتَقِدُونَ فيهم، فَهَذَا معنى قَوْله: {فجعلهم جذاذا إِلَّا كَبِيرا لَهُم} ، وأنشدوا فِي الْجذاذ شعرًا: (جذذ الْأَصْنَام فِي مِحْرَابهَا ... ذَاك فِي الله الْعلي المقتدر) وَقَوله: {لَعَلَّهُم إِلَيْهِ يرجعُونَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَعَلَّهُم عِنْده يرجعُونَ من الشّرك أَي: عِنْد هَذَا الْفِعْل، وَالْقَوْل الثَّانِي: لَعَلَّهُم إِلَى الْكَبِير يرجعُونَ، وَمَعْنَاهُ: أَنهم إِذا رَأَوْا أَمْثَال الصَّنَم الْكَبِير مقطعَة مكسرة، وَعرفُوا أَنه مثلهم، وَلم يكن عِنْدهم دفع، عرفُوا أَنه لَا دفع عِنْده أَيْضا، وَأما قَول من قَالَ: إِن معنى الْآيَة: {لَعَلَّهُم إِلَيْهِ يرجعُونَ} : أَن الْكَبِير هُوَ الَّذِي فعل بهم ذَلِك حمية وأنفة، فَهُوَ قَول بَاطِل؛ لِأَنَّهُ لَا يدْخل فِي عقل أحد أَن الصَّنَم الْكَبِير يكسر الْأَصْنَام الصَّغِيرَة، وَإِنَّمَا علق الفأس فِي عنق الْكَبِير تعييرا لَهُم وتبكيتا، وَقيل: على طَرِيق إِلْزَام الْحجَّة، فَإِن اعْتِقَادهم يُوجب هَذَا، وَهُوَ أَن الْكَبِير لَا يرضى بالأصنام الصغار مَعَ هُوَ لَو كَانُوا يعْقلُونَ.

59

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا من فعل هَذَا بآلهتنا} فِيهِ تَقْدِير، وَهُوَ أَنهم رجعُوا ودخلوا على الْأَصْنَام، فَلَمَّا رأوها قَالُوا كَذَلِك.

( {59) قَالُوا سمعنَا فَتى يذكرهم يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم (60) قَالُوا فَأتوا بِهِ على أعين النَّاس لَعَلَّهُم يشْهدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْت فعلت هَذَا بآلهتنا يَا إِبْرَاهِيم (62) قَالَ بل فعله} وَقَوله: {إِنَّه لمن الظَّالِمين} أَي: من الْمُجْرمين.

60

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سمعنَا فَتى} أَي: شَابًّا {يذكرهم} أَي: يعيبهم، وَفِي الْقِصَّة: أَن ذَلِك الرجل الَّذِي سمع مِنْهُ ذكر كيد الْأَصْنَام قَالَ هَذَا. وَقَوله: {يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم} مَعْلُوم.

61

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا فَأتوا بِهِ على أعين النَّاس} فِي الْقِصَّة: أَن الْملك - وَهُوَ نمروذ - قَالَ هَذَا القَوْل، وَمَعْنَاهُ: جيئوا بِهِ على مشْهد النَّاس. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يشْهدُونَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم يشْهدُونَ عَذَابه إِذا عذبناه، وَالْقَوْل الآخر: لَعَلَّهُم يشْهدُونَ أَي: يسمعُونَ قَول الرجل أَنه قَالَ كَذَا فِي الْأَصْنَام، قَالَ السّديّ: كره الْملك أَن يُعَاقِبهُ بِغَيْر بَيِّنَة.

62

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أَأَنْت فعلت هَذَا بآلهتنا يَا إِبْرَاهِيم} طلبُوا مِنْهُ الْإِقْرَار وَالِاعْتِرَاف بِمَا فعل.

63

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا} اعْلَم أَنه قد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِبْرَاهِيم كذب ثَلَاث كذبات " - وَفِي رِوَايَة: " فِي الله " - قَوْله: {بل فعله كَبِيرهمْ} ، وَقَوله: {إِنِّي سقيم} ، وَقَوله لسارة: هَذِه أُخْتِي ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي قَالَ أَبُو الْحسن بن [فراس] ، قَالَ: نَا أَبُو جَعْفَر الديبلي، قَالَ: نَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، قَالَ: نَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي الزِّنَاد. . الحَدِيث.

{كَبِيرهمْ هَذَا فاسألوهم إِن كَانُوا ينطقون (63) فَرَجَعُوا إِلَى أنفسهم فَقَالُوا إِنَّكُم أَنْتُم الظَّالِمُونَ (64) ثمَّ نكسوا على رُءُوسهم لقد علمت مَا هَؤُلَاءِ ينطقون (65) قَالَ أفتعبدون من دون الله مَا لَا ينفعكم شَيْئا وَلَا يضركم (66) أُفٍّ لكم وَلما تَعْبدُونَ من} قَالَ أهل الْمعَانِي: قَالَ إِبْرَاهِيم مَا قَالَ بِإِذن الله تَعَالَى لقصد الصّلاح، وَهُوَ مثل مَا أذن ليوسف أَن يَقُول للإخوة: " أيتها العير إِنَّكُم لسارقون، وَقَالَ بَعضهم، هُوَ قَول يُخَالف لَفظه مَعْنَاهُ، وَلكُل تَأْوِيل، أما قَوْله: {بل فعله كَبِيرهمْ} أَي: على زعمكم واعتقادكم، وَهُوَ على وَجه إِلْزَام الْحجَّة، كَمَا بَينا على تَحْقِيق الْخَبَر، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا {فَسَأَلُوهُمْ إِن كَانُوا ينطقون} ، قَالَه على سَبِيل الشَّرْط، قَالَ النّحاس: وَفِي هَذَا التَّأْوِيل بعد، وَهُوَ مُخَالف للْأَخْبَار الثَّابِتَة، وَأما قَوْله: {إِنِّي سقيم} أَي: سأسقم وَقيل مَعْنَاهُ: سقيم أَي: مُغْتَم بضلالتكم، فَكَأَنَّهُ سقيم الْقلب بذلك، وَأما قَوْله لسارة: هَذِه أُخْتِي أَي: أُخْتِي فِي الدّين، وَالْأولَى مَا ذَكرْنَاهُ من الْمَعْنى الأول، وَهُوَ قَول أهل السّنة، وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أذن لَهُ فِيهِ.

64

قَوْله تَعَالَى: {فَرَجَعُوا إِلَى أنفسهم فَقَالُوا إِنَّكُم أَنْتُم الظَّالِمُونَ} مَعْنَاهُ: رجعُوا إِلَى فكرهم وعقولهم فَقَالُوا: إِنَّكُم أَنْتُم الظَّالِمُونَ يَعْنِي: بعبادتكم مَا لَا يدْفع عَن نَفسه شَيْئا.

65

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ نكسوا على رُءُوسهم} قَالَ أهل التَّفْسِير: أجْرى الله تَعَالَى حَقًا على لسانهم فِي القَوْل الأول، ثمَّ أدركتهم الشقاوة، فَهُوَ معنى قَوْله: {ثمَّ نكسوا على رُءُوسهم} وَمَعْنَاهُ: رجعُوا إِلَى شركهم، وَيُقَال: نكس الْمَرِيض إِذا رَجَعَ إِلَى حَاله الأول، وَقيل: نكسوا على رُءُوسهم أَي: رجعُوا، وَمَعْنَاهُ: إِلَى الِاحْتِجَاج عَن الْأَصْنَام. وَقَوله: {لقد علمت مَا هَؤُلَاءِ ينطقون} وَمَعْنَاهُ: فَكيف نسألهم؟ .

66

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أفتعبدون من دون الله مَا لَا ينفعكم شَيْئا وَلَا يضركم} مَعْنَاهُ: لَا ينفعكم إِن عبدتموه، وَلَا يضركم إِن تركْتُم عِبَادَته.

67

وَقَوله: {أُفٍّ لكم} أَي: نَتنًا وقذرا لكم. وَقَوله: {وَلما تعبدو من دون الله}

{دون الله أَفلا تعقلون (67) قَالُوا حرقوه وانصروا آلِهَتكُم إِن كُنْتُم فاعلين (68) قُلْنَا يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على إِبْرَاهِيم (69) } أَي: الْأَصْنَام. وَقَوله: {أَفلا تعقلون} أَي: أَلَيْسَ لكم عقل تعرفُون هَذَا؟ .

68

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا حرقوه وانصروا آلِهَتكُم} التحريق هُوَ التقطيع بالنَّار، وَاخْتلفُوا أَن الْقَائِل لقَوْله: {حرقوه} من كَانَ؟ فَعَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: هُوَ رجل من أكراد فَارس، وَقَالَ غَيره: هُوَ نمروذ الْجَبَّار، وَعَن بَعضهم: أَنه رجل يُقَال لَهُ: (هيرون) خسف الله بِهِ الأَرْض، فَهُوَ يتجلجل فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {وانصروا آلِهَتكُم} قَالَ الْأَزْهَرِي مَعْنَاهُ: عظموا آلِهَتكُم بإحراقه، وَقيل: وادفعوا عَن آلِهَتكُم. وَقَوله: {إِن كُنْتُم فاعلين} يَعْنِي: إِن كُنْتُم ناصرين لَهَا أَي: للآلهة. قَوْله تَعَالَى: {قُلْنَا يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا} فِي الْقِصَّة: أَنهم بنوا أتونا بقرية من قرى كوثى، وجمعوا الأحطاب مُدَّة. وَعَن السّديّ قَالَ: كَانَ الرجل مِنْهُم يمرض فيوصي بشرَاء الْحَطب وإلقائه فِيهِ، وَالْمَرْأَة تغزل فتشتري الْحَطب بغزلها فتلقيه فِيهِ، ثمَّ أوقدوا عَلَيْهَا سَبْعَة أَيَّام، ثمَّ ألقوا فِيهَا إِبْرَاهِيم. وَرُوِيَ أَنهم لم يعلمُوا كَيفَ يلقونه فِيهَا؟ فجَاء إِبْلِيس - عَلَيْهِ مَا يسْتَحق - وعلمهم عمل المنجنيق، فوضعوه فِيهِ، وطرحوه فِي النَّار. وَعَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: لما طرح إِبْرَاهِيم فِي النَّار ضجت الخليقة، وَقَالَت: يَا رب، إِن خَلِيلك يلقى فِي النَّار، فَقَالَ الله تَعَالَى: إِنَّه خليلي، لَيْسَ لي خَلِيل غَيره، وَأَنا إلهه، لَيْسَ لَهُ إِلَه غَيْرِي، فَإِن اسْتَغَاثَ بكم فأغيثوه، فَلم يستغث بِأحد. وَمن الْمَعْرُوف أَنه قَالَ حِين ألقِي فِي النَّار: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل. وَرُوِيَ أَنه قَالَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت رب الْعَالمين، وَلَك الْحَمد لَا شريك لَك. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار

وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: جعل كل شَيْء يطفيء عَنهُ النَّار إِلَّا الوزغة، فَإِنَّهُ جعل ينْفخ فِي النَّار، فَأمر الرَّسُول بقتْله. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " من قتل وزغا فَكَأَنَّمَا قتل كَافِرًا ".

69

وَقَوله: {قُلْنَا يَا نَار كوني بردا} أَي: ذَات برد، قَالَ أهل الْمعَانِي: يحْتَمل أَنه خلق بردا فِي النَّار بدل الْحر، وَيحْتَمل أَنه أحَال بَين النَّار وَبَين إِبْرَاهِيم. وَقَوله {وَسلَامًا} (رُوِيَ) عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لَو لم يقل: {وَسلَامًا} لقتلته الْبرد وَمثله عَن كَعْب. وَعَن قَتَادَة قَالَ: لم تحرق مِنْهُ إِلَّا وثَاقه. وَمن الْمَعْرُوف فِي الْآثَار: أَنه لم ينْتَفع فِي ذَلِك الْيَوْم بِنَار فِي الْعَالم. وَقَوله: {على إِبْرَاهِيم} لَو لم يقل: {على إِبْرَاهِيم} بقيت ذَات برد أبدا، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لما طرحوه فِي النَّار، وَجعلهَا الله عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، قَالَ نمروذ وَأَصْحَابه: إِنَّه قد سحر النَّار، فَقَالَ أَبُو لوط - وَكَانَ كَافِرًا - اطرحوا فِيهِ رجلا آخر وجربوه، فطرحوا فِيهَا رجلا آخر فأكلته النَّار فِي الْحَال. وَفِي بعض الغرائب من المسانيد عَن النَّبِي: " أَنه لما طرح إِبْرَاهِيم فِي النَّار بعث الله جِبْرِيل إِلَيْهِ، وَبعث مَعَه بطنفسة من طنافس الْجنَّة، وقميص من قمص الْجنَّة، فأقعده على الطفنسة، وَألبسهُ الْقَمِيص وَقعد مَعَه يحدثه ". وَرُوِيَ: " أَنهم نظرُوا فَإِذا هُوَ فِي رَوْضَة تهتز ".

{وَأَرَادُوا بِهِ كيدا فجعلناهم الأخسرين (70) ونجيناه ولوطا إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا للْعَالمين (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب نَافِلَة وكلا جعلنَا صالحين (72) وجعلناها أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا وأوحينا إِلَيْهِم فعل الْخيرَات وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَكَانُوا لنا}

70

وَقَوله {وَأَرَادُوا بِهِ كيدا فجعلناهم الأخسرين} فَمَعْنَى الأخسرين هَا هُنَا: أَنهم خسروا السَّعْي وَالنَّفقَة، وَلم يحصل لَهُم مُرَادهم، وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى أرسل على نمروذ وَقَومه البعوض، فَأكلت لحومهم، وشربت دِمَاءَهُمْ، وَدخلت بعوضة فِي رَأس نمروذ حَتَّى أهلكته، ذكره مقَاتل وَغَيره.

71

قَوْله تَعَالَى: {ونجيناه ولوطا إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا للْعَالمين} يَعْنِي: الشَّام، وبركتها كَثْرَة مياهها وأشجارها، وَعُمُوم الخصب بهَا، حَتَّى يعِيش فِيهَا الْفَقِير والغني بعيش طيب، وَيُقَال: بركتها كَثْرَة الْأَنْبِيَاء بهَا، وَفِي الْآيَة قَول آخر: هُوَ أَن المُرَاد من الأَرْض الَّتِي بَارك فِيهَا هِيَ مَكَّة، وَقيل: مصر، وَالأَصَح هُوَ الأول؛ لِأَنَّهُ مَشْهُور أَنه خرج وَامْرَأَته - يَعْنِي: إِبْرَاهِيم - إِلَى حران، ثمَّ من حران إِلَى الشَّام، وَأما لوط فَإِنَّهُ ابْن أخي إِبْرَاهِيم، وَكَانَ خرج مَعَه.

72

قَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب نَافِلَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: النَّافِلَة هُوَ يَعْقُوب، وَأما إِسْحَاق فَلَيْسَ بنافلة؛ لِأَن الله تَعَالَى أعطَاهُ إِسْحَاق بدعائه، وَإِنَّمَا زَاد يَعْقُوب على مَا دَعَا، والنافلة هِيَ الزِّيَادَة، وَقَالَ مُجَاهِد: كِلَاهُمَا نَافِلَة، وَالأَصَح هُوَ الأول. وَقَوله: {وكلا جعلنَا صالحين} ظَاهر الْمَعْنى.

73

وَقَوله تَعَالَى: {وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا} يَعْنِي: يرشدون بأمرنا. وَقَوله: {وأوحينا إِلَيْهِم فعل الْخيرَات} مَعْنَاهُ: الْعَمَل بالشرائع. وَقَوله: {وإقام الصَّلَاة} أَي: الْمُحَافظَة عَلَيْهَا. {وإيتاء الزَّكَاة} مَعْنَاهُ: وَإِعْطَاء الزَّكَاة. وَقَوله: {وَكَانُوا لنا عابدين} أَي: مُوَحِّدين.

{عابدين (73) ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من الْقرْيَة الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فاسقين (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتنَا إِنَّه من الصَّالِحين (75) ونوحا إِذْ نَادَى من قبل فاستجبنا لَهُ فنجيناه وَأَهله من الكرب الْعَظِيم (76) ونصرناه من الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ}

74

قَوْله تَعَالَى: {ولوطا آتيناه حكما وعلما} وَقَوله: {ونجيناه من الْقرْيَة الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث} الْقرْيَة: هِيَ سدوم، وَأما الْخَبَائِث قيل: إتيانهم الذُّكُور، وَيُقَال هُوَ: [التضارط] فِي الأندية. وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فاسقين} ظَاهر الْمَعْنى.

75

قَوْله تَعَالَى: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتنَا إِنَّه من الصَّالِحين} ظَاهر الْمَعْنى.

76

قَوْله تَعَالَى: {ونوحا إِذْ نَادَى من قبل} نداؤه هُوَ قَوْله: {أَنِّي مغلوب فانتصر} ، (وَقيل هُوَ قَوْله:) {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} . وَقَوله: {فاستجبنا لَهُ} أَي: أجبناه. وَقَوله: {فنجيناه وَقَومه من الكرب الْعَظِيم} فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ أطول الْأَنْبِيَاء عمرا، وَأَشد الْأَنْبِيَاء بلَاء، وَرُوِيَ أَنه كَانَ يضْرب فِي الْيَوْم سبعين مرّة. وَقَوله: {من الكرب الْعَظِيم} أَي: من الْغَرق، وَقيل: من الْغم والضيق.

77

قَوْله تَعَالَى: {ونصرناه من الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} أَي: منعناه وحفظناه. {إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

78

قَوْله تَعَالَى: {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث} اخْتلف القَوْل فِي الْحَرْث:

{يحكمان فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين (78) ففهمناها} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ كرما قد بَدَت عناقيده، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ زرعا، وَأما الْقِصَّة فِيهِ: فَروِيَ أَنه كَانَ رجلَانِ لأَحَدهمَا حرث وَللْآخر غنم، فَدخل الْغنم فِي حرث صَاحبه لَيْلًا، فَأكلت وأفسدت، حَتَّى لم يبْق شَيْء - وَهُوَ معنى قَوْله: {إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم} والنفش هُوَ الرَّعْي لَيْلًا، والهمل هُوَ الرَّعْي نَهَارا - فَلَمَّا أصبحا جَاءَ صَاحب الْحَرْث يُخَاصم صَاحب الْغنم عِنْد دَاوُد، فَقَالَ دَاوُد: خُذ بِرَقَبَة الأغنام فَهِيَ لَك بدل حرثك، وَكَانَ سُلَيْمَان ثمَّ فَقَالَ: يَا نَبِي الله، أَو غير ذَلِك؟ هَذَا قَول ابْن مَسْعُود، أَن سُلَيْمَان ثمه. وَقَالَ غَيره: أَنَّهُمَا خرجا فمرا على سُلَيْمَان، وذكرا لَهُ حكم دَاوُد، فَقَالَ: قد كَانَ هَا هُنَا حكم هُوَ أرْفق بِالرجلَيْنِ، فَذكر ذَلِك لِأَبِيهِ دَاوُد، فَدَعَاهُ وَسَأَلَهُ بِحَق الْأُبُوَّة، فَقَالَ: تسلم الْغنم إِلَى صَاحب الْحَرْث، ينْتَفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتسلم الْحَرْث إِلَى صَاحب الْغنم يقوم عَلَيْهِ، حَتَّى إِذا عَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَيْلَة نفشت فِيهِ الْغنم سلمت الْحَرْث إِلَى صَاحبه؛ فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {ففهمناها سُلَيْمَان} وَأخذ دَاوُد بذلك. وَأما قَوْله: {وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين} أَي: لم يغب عَنَّا حكمهمَا جَمِيعًا، وَكَانَ بعلمنا ومرامنا.

79

قَوْله تَعَالَى: {ففهمناها سُلَيْمَان} قد بَينا الْمَعْنى. وَاخْتلف الْعلمَاء أَن دَاوُد حكم مَا حكم بِالِاجْتِهَادِ أَو بِالْوَحْي؟ وَكَذَلِكَ سُلَيْمَان، فَقَالَ بَعضهم: إنَّهُمَا فعلا بِالِاجْتِهَادِ، وَقَالُوا: يجوز الِاجْتِهَاد للأنبياء؛ ليدركوا ثَوَاب الْمُجْتَهدين، إِلَّا أَن دَاوُد أَخطَأ، وَسليمَان أصَاب، وَالْخَطَأ يجوز على الْأَنْبِيَاء إِلَّا أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ، وَاخْتلفُوا [فِي] أَنه هَل يجوز على نَبينَا الْخَطَأ فِي الحكم كَمَا يجوز على سَائِر الْأَنْبِيَاء؟ قَالَ أَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة: لَا يجوز؛ لِأَن شَرِيعَته ناسخة، وَلَيْسَ

بعده نَبِي، وَقَالَ غَيره: يجوز كَمَا يجوز على سَائِر الْأَنْبِيَاء. وَقد رُوِيَ " أَن امْرَأَة أَتَت النَّبِي وَقَالَت: إِن زَوجي توفّي فَأَيْنَ أَعْتَد؟ فَقَالَ لَهَا: اعْتدي أَيْن شِئْت، فَلَمَّا ولت دَعَاهَا وَقَالَ: سُبْحَانَ الله امكثي فِي بَيْتك حَتَّى يبلغ الْكتاب " وَالْخَبَر غَرِيب. وَرُوِيَ أَن رجلا أَتَى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت إِن قتلت صَابِرًا محتسبا، هَل يحجزني من الْجنَّة شَيْء؟ قَالَ: لَا، ثمَّ دَعَاهُ وَقَالَ: " إِلَّا الدّين، سَارَّنِي بِهِ جِبْرِيل " وَهُوَ خبر مَعْرُوف، والخبران يدلان على أَنه يجوز أَنه يُخطئ، إِلَّا أَنه لَا يُقرر عَلَيْهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي أصل الْحُكُومَة: هُوَ أَن دَاوُد وَسليمَان - عَلَيْهِمَا السَّلَام - حكما بِالْوَحْي، إِلَّا أَن مَا حكم بِهِ دَاوُد كَانَ مَنْسُوخا، وَالَّذِي حكم بِهِ سُلَيْمَان كَانَ نَاسِخا، وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم: لَا يجوز للنَّبِي أَن يجْتَهد فِي الْحَوَادِث؛ لِأَنَّهُ مستغن بِالْوَحْي عَن الِاجْتِهَاد، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} ، وَالْأول هُوَ الْأَصَح. وَأما حكم هَذِه الْمَسْأَلَة فِي شريعتنا: فَاعْلَم أَن مَا أفسدت الْمَاشِيَة بِاللَّيْلِ عندنَا مَضْمُون على صَاحبهَا، وَمَا أفسدت بِالنَّهَارِ فَلَا ضَمَان، وَالْحجّة فِيهِ مَا روى الزُّهْرِيّ، عَن حرَام بن محيصة عَن أَبِيه: " أَن نَاقَة الْبَراء بن عَازِب دخلت حرث قوم فأفسدته، فَارْتَفعُوا إِلَى النَّبِي فَقضى بِأَن حفظ الْمَاشِيَة على أَرْبَابهَا لَيْلًا، وَأَن حفظ الْحَرْث على أَرْبَابهَا نَهَارا " وَهَذَا أحسن حكم يكون؛ لِأَن الْعَادة جرت أَن الْمَوَاشِي تحفظ

{سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما وسخرنا مَعَ دَاوُد الْجبَال يسبحْنَ وَالطير وَكُنَّا فاعلين} بِاللَّيْلِ، وتسيب بِالنَّهَارِ، وَأما الحروث والزروع تحفظ بِالنَّهَارِ، ويتعذر حفظهَا بِاللَّيْلِ. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث القَاضِي الإِمَام الْوَالِد، قَالَ: نَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن الْبَزَّار، قَالَ: أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا العذافري، قَالَ: أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي قَالَ: [حَدثنَا] عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ ... . الْخَبَر. وَقَوله: {وكلا آتَيْنَا حكما وعلما} وَقد بَينا. فَإِن قيل: قد كَانَ دَاوُد حكم بِمَا حكم بِهِ، والحادثة إِذا جرى فِيهَا حكم الْحَاكِم لَا يجوز أَن تنقض بِغَيْرِهِ، فَكيف وَجه هَذَا؟ وَالْجَوَاب: يحْتَمل أَنه كَانَ طُولِبَ بالحكم، وَلم يحكم بعد، إِلَّا أَنه ذكر وَجه الحكم، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه كَانَ حكم بِالِاجْتِهَادِ، فَلَمَّا قَالَ سُلَيْمَان مَا قَالَ، نزل الْوَحْي أَن الحكم مَا قَالَ. وَقَوله: {وسخرنا مَعَ دَاوُد الْجبَال يسبحْنَ وَالطير} قيل: تسبيحها صلَاتهَا، وَقيل: تسبيحها هُوَ الثَّنَاء على الله بِالطَّهَارَةِ وَالتَّقْدِيس، وَقد رُوِيَ أَن الْجبَال كَانَت تجاوب دَاوُد بالتسبيح، وَرُوِيَ أَنه كَانَ إِذا قَرَأَ سَمعه الله تَسْبِيح الْجبَال وَالطير؛ لينشط فِي التَّسْبِيح، ويشتاق إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَكُنَّا فاعلين} . أَي: قَادِرين على مَا نُرِيد، وَقيل مَعْنَاهُ: فعلنَا مَا فعلنَا بِالتَّدْبِيرِ الصَّحِيح.

80

قَوْله تَعَالَى: {وعلمناه صَنْعَة لبوس لكم} اللبوس هَا هُنَا هُوَ الدرْع، وَفِي اللُّغَة: اللبوس مَا يلبس، قَالَ قَتَادَة: لم يسْرد الدرْع، وَلم يحلقه أحد قبل دَاوُد، وَكَانَ قبله

( {79) وعلمناه صَنْعَة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فَهَل أَنْتُم شاكرون (80) ولسليمان الرّيح عَاصِفَة تجْرِي بأَمْره إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا وَكُنَّا بِكُل شَيْء عَالمين (81) وَمن الشَّيَاطِين من يغوصون لَهُ ويعملون عملا دون ذَلِك وَكُنَّا لَهُم حافظين (82) } يتَّخذ الدرْع من صَفَائِح، فَلَمَّا عمل هُوَ الدرْع جمع الخفة والحصانة. وَقَوله: {لتحصنكم من بأسكم} أَي: من بَأْس عَدوكُمْ. وَقَوله: {لتحصنكم} قرئَ بقراءات: بِالْيَاءِ وَالتَّاء وَالنُّون، أما الْيَاء فَمَعْنَاه: ليحصنكم اللبوس، وَقيل: ليحصنكم الله، وَأما التَّاء فَمَعْنَاه: لتحصنكم الصَّنْعَة، وَأما بالنُّون ينْصَرف إِلَى الله. وَقَوله: {فَهَل أَنْتُم شاكرون} يَعْنِي: يَا دود وَأهل بَيته، هَل أَنْتُم شاكرون؟ .

81

قَوْله تَعَالَى: {ولسليمان الرّيح عَاصِفَة} الرّيح الْعَاصِفَة هِيَ الَّتِي يشْتَد هبوبها، فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {رخاء حَيْثُ أصَاب} والرخاء: اللين؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه كَانَ إِذا أَرَادَ أَن تشتد اشتدت، وَإِذا أَرَادَ أَن تلين لانت. وَقَوله: {تجْرِي بأَمْره إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا} فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ يسير من الشَّام إِلَى اصطخر تحمله الرّيح غدْوَة، ويسير من اصطخر إِلَى الشَّام تحمله الرّيح عَشِيَّة. وَقَوله: {وَكُنَّا بِكُل شَيْء عَالمين} يَعْنِي: أَنه مَا غَابَ عَنَّا شَيْء من الْأَشْيَاء.

82

قَوْله تَعَالَى: {وَمن الشَّيَاطِين من يغوصون لَهُ} الغوص هُوَ النُّزُول فِي قَعْر الْبَحْر، فَكَانَ الشَّيَاطِين يَفْعَلُونَ ذَلِك لِسُلَيْمَان؛ لاستخراج الدّرّ والجواهر. وَقَوله: {ويعملون عملا دون ذَلِك} أَي: سوى الغوص، وَهُوَ معنى: {يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل} الْآيَة. وَقَوله: {وَكُنَّا لَهُم حافظين} .

{وَأَيوب إِذْ نَادَى ربه أَنِّي مسني الضّر وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ (83) } قَالَ الْفراء والزجاج معنى ذَلِك: أَنا حفظنا الشَّيَاطِين من أَن يفسدوا مَا عمِلُوا. وَفِي الْقِصَّة: أَن سُلَيْمَان كَانَ إِذا بعث شَيْطَانا مَعَ إِنْسَان ليعْمَل لَهُ عملا قَالَ لَهُ: إِذْ فرغ من عمله قبل اللَّيْل، أشغله بِعَمَل آخر؛ لِئَلَّا يفْسد مَا عمل، وَكَانَ من عَادَة الشَّيْطَان أَنه إِذا فرغ من الْعَمَل، وَلم يشغل بِعَمَل آخر يخرب مَا عمل، ويفسده، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَكُنَّا لَهُم حافظين} على مَا ذكرنَا من الْفراء والزجاج، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا.

83

قَوْله تَعَالَى: {وَأَيوب إِذْ نَادَى ربه} أَي: دَعَا ربه. وَقَوله: {أَنِّي مسني الضّر} أَي: الْبلَاء والشدة، وَقيل: الْجهد. وَقَوله: {وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ} أَي: أرْحم من يرحم. وَاعْلَم أَن قصَّة أَيُّوب طَوِيلَة، وَذكر فِي التَّفْسِير مِنْهَا، وَكَذَا نذْكر بَعْضهَا، فَروِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن الله تَعَالَى أعْطى أَيُّوب مَالا وَولدا، ثمَّ أهلك مَاله وَولده. وَذكر وهب بن مُنَبّه وَغَيره: أَنه كَانَ ذَلِك لتسليط إِبْلِيس على مَاله وَولده، قَالَ الْحسن: فَلَمَّا بلغه هَلَاك مَاله وَولده، حمد الله حمدا كثيرا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّه كَانَ يشغلني مَالِي وَوَلَدي عَن عبادتك، والآن قد فرغ لَك سَمْعِي وبصري وقلبي وليلي ونهاري. قَالَ وهب: ثمَّ ابتلاه الله تَعَالَى فِي جِسْمه، وَكَانَ إِبْلِيس يحسده فِي كَثْرَة عِبَادَته وَكَثْرَة ثَنَاء أهل السَّمَاء عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رب، لَو ابتليته لقصر فِي عبادتك، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ: سلطتك على جِسْمه سوى قلبه وَلسَانه وعقله - هَذَا قَول وهب وَغَيره، وَالله أعلم - ثمَّ ظهر الْبلَاء فِي جسم أَيُّوب، وَاشْتَدَّ بِهِ الْبلَاء غَايَة الشدَّة حَتَّى قرح جَمِيع جسده وتدود، واجتنبه جَمِيع قومه، وَأُلْقِي على مزبلة من مزابل بني إِسْرَائِيل، وَلم يقربهُ أحد غير امْرَأَته كَانَت تَتَصَدَّق النَّاس وتطعمه، وَاخْتلفُوا فِي مُدَّة بلائه: فَقَالَ ابْن عَبَّاس: سبع حجج، وَقَالَ وهب: ثَلَاث أَحْوَال.

وَأما قَوْله: {أَنِّي مسني الضّر} فَفِي الْقِصَّة: أَنه لم يدع الله تَعَالَى بكشف الضّر فِي تِلْكَ الْمدَّة الطَّوِيلَة إِلَى أَن بلغ وَقت الْكَشْف ثمَّ دَعَا، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب دُعَائِهِ: قَالَ الْحسن: كَانَ سَبَب ذَلِك أَن جمَاعَة من أصدقائه رَأَوْا بِهِ ذَلِك الْبلَاء الشَّديد فَقَالُوا: لَو كَانَت عبادتك الَّتِي كنت تفعل لله تَعَالَى خَالِصا مَا أَصَابَك هَذَا الْبلَاء. قَالَ حبيب بن أبي ثَابت: لم يدع الله تَعَالَى بالكشف حَتَّى ظَهرت ثَلَاثَة أَشْيَاء أكره مَا يكون: أما الأول: فَقدم عَلَيْهِ صديقان لَهُ من الشَّام حِين بلغهما خَبره، فجاءا إِلَيْهِ، وَلم يبْق مِنْهُ إِلَّا عَيناهُ، ورأيا أمرا عَظِيما، فَقَالَا لَهُ: لَو كَانَ لَك عِنْد الله منزلَة مَا أَصَابَك هَذَا، وَالثَّانِي: أَن الْمَرْأَة طلبت طَعَاما فَلم تَجِد شَيْئا تطعمه، فباعت ذؤابتها، وحملت إِلَيْهِ طَعَاما، وَذكرت لَهُ ذَلِك، وَالثَّالِث: أَن إِبْلِيس اللعين لما رأى صبره جزع جزعا شَدِيدا، فَاتخذ تابوتا وجع فِيهِ أدوية، وَقعد على طَرِيق امْرَأَته يداوي النَّاس، فمرت عَلَيْهِ امْرَأَته، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِك قَالَت: أَيهَا الرجل، إِن عِنْدِي مَرِيضا أفتداويه؟ قَالَ: نعم، وأشفيه، قَالَت: مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: لَا أُرِيد شَيْئا إِلَّا أَن يَقُول حِين أشفيه: أَنْت شفيتني، فَذَهَبت وَذكرت ذَلِك لأيوب - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ: هُوَ إِبْلِيس قد خدعك، وَالله لَئِن شفاني الله لأضربنك مائَة جلدَة. وَرُوِيَ أَن إِبْلِيس جَاءَ إِلَى أَيُّوب ووسوس إِلَيْهِ، أَن امْرَأَته زنت، وَأَنه قطعت ذؤابتها لذَلِك، فَحِينَئِذٍ عيل صبره لهَذِهِ الْأَشْيَاء فَدَعَا وَقَالَ: {أَنِّي مسني الضّر} . فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن الله تَعَالَى سَمَّاهُ صَابِرًا، وَقد ترك الصَّبْر حِين دَعَا؟ قُلْنَا: لَا، لم يتْرك الصَّبْر، فَإِن ترك الصَّبْر بِإِظْهَار الشكوى إِلَى الْخلق، فَأَما بإظهارها إِلَى الله تَعَالَى فَلَا يكون تركا للصبر. وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه قَالَ: إِذا أظهر الشكوى إِلَى الْخلق، وَهُوَ رَاض بِقَضَاء الله، فَإِنَّهُ لَا يكون تَارِكًا للصبر أَيْضا. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي " أَن جِبْرِيل دخل عَلَيْهِ فِي مرض الْمَوْت فَقَالَ: كَيفَ تَجِد نَفسك؟ فَقَالَ: يَا جِبْرِيل، أجدني مغموما، أجدني مكروبا ".

{فاستجبنا لَهُ فكشفنا مَا بِهِ من ضرّ وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم} وَرُوِيَ أَنه قَالَ لعَائِشَة - صلوَات الله (عَلَيْهِ) -: " بل أَنا وارأساه " الْخَبَر بِطُولِهِ. وَفِي الْقِصَّة: أَن الدودتين كَانَتَا [تقتتلان] على جسده، فَكَانَ يفرق بَينهمَا، وَيَقُول لَهما: كلا من رزق الله.

84

قَوْله تَعَالَى: {فاستجبنا لَهُ فكشفنا مَا بِهِ من ضرّ} رُوِيَ أَن الله تَعَالَى أنبع لَهُ عينا، وَأمره أَن يغْتَسل فِيهَا فاغتسل فِيهَا، وَخرج كأصح مَا يكون. وَقَوله: {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم} قَالَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَالْحسن: رد إِلَيْهِ أَهله وَأَوْلَاده بأعيانهم، وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف، وَظَاهر الْقُرْآن يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضا مَرْوِيّ بِرِوَايَة جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي، وَذكر فِي هَذَا الْخَبَر: أَن الله تَعَالَى رد الْمَرْأَة شبابها، فَولدت لَهُ سِتَّة وَعشْرين ولدا بعد ذَلِك، وَفِي هَذَا الْخَبَر أَيْضا: أَن الله تَعَالَى بعث إِلَيْهِ ملكا وَقَالَ: إِن رَبك يُقْرِئك السَّلَام بصبرك، فَاخْرُج إِلَى ضيَاع أندرك، فَخرج إِلَيْهِ، فَأرْسل الله عَلَيْهِ جَرَادًا من ذهب، قَالَ: فطارت وَاحِدَة فاتبعها وردهَا إِلَى أندره، فَقَالَ لَهُ الْملك: أما يَكْفِيك مَا فِي أندرك حَتَّى تتبع الْخَارِج؟ فَقَالَ: هَذِه بركَة من بَرَكَات رَبِّي، لَا أشْبع من بركته. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أَخْبرنِي بِهَذَا أَبُو عَليّ بن بنْدَار بِإِسْنَادِهِ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد، عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس. وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو، عَن طَاوس: أَن الله تَعَالَى أمطر على أَيُّوب

{رَحْمَة من عندنَا وذكرى للعابدين (84) وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس وَذَا الكفل كل من} جَرَادًا من ذهب، فَجعل يقبضهُ فِي ثَوْبه وَيجمع ذَلِك، فَقيل لَهُ: أَلا تشبع؟ فَقَالَ: إِنَّه من فضل رَبِّي، وَلَا أشْبع من فَضله. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أَنا بِهَذَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي قَالَ: أَنا ابْن فراس قَالَ: أَنا الديبلي قَالَ: أَنا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي قَالَ: أَنا سُفْيَان، عَن عَمْرو ... الْأَثر. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {وَآتَيْنَاهُ أَهله} أَي: ثَوَاب أَهله {وَمثلهمْ مَعَهم} أَي: مثل ذَلِك كَأَنَّهُ ضوعف لَهُ الثَّوَاب، وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: " خير أَيُّوب بَين أَن يرد عَلَيْهِ أَهله بأعيانهم، وَبَين أَن يعْطى مثل أَهله وَأَوْلَاده، فَاخْتَارَ أَن يردوا بأعيانهم وَمثلهمْ مَعَهم فَأعْطِي ذَلِك. وَقَوله: {رَحْمَة من عندنَا} أَي: نعْمَة من عندنَا. وَقَوله: {وذكرى للعابدين} أَي: وعظا واعتبارا للعابدين.

85

قَوْله تَعَالَى: {وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس وَذَا الكفل} أما إِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس فقد ذَكرْنَاهُ، وَأما ذُو الكفل قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل نَبِي، وَكَانَ مَعَ ذَلِك ملكا، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة جمع بني إِسْرَائِيل فَقَالَ: من يكفل لي أَن يقوم اللَّيْل لَا يفتر، وَأَن يَصُوم النَّهَار وَلَا يفْطر، وَأَن يقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يغْضب؟ فَقَامَ شَاب وَقَالَ: أَنا أكفل ذَلِك، فَجعله خَلِيفَته، وَقبض ذَلِك النَّبِي، وَقَامَ بِمَا كفل بِهِ فَسُمي ذَا الكفل. قَالَ ابْن عَبَّاس فِيمَا رُوِيَ عَنهُ فِي هَذِه الْقِصَّة: إِن إِبْلِيس اللعين لما رأى ذَلِك حسده، فجَاء فِي هَيْئَة شيخ ضَعِيف نصف النَّهَار، وَكَانَ ذُو الكفل يقيل سَاعَة فِي نَهَاره، فَدخل عَلَيْهِ وَقَالَ: إِن لي غريما، وَهُوَ يمطلني فَأحب أَن تقوم معي، وتستوفي حَقي مِنْهُ، وَذكر كلَاما كثيرا، فَقَامَ وَخرج مَعَه، فَلَمَّا خرج مَعَه سَاعَة اعتذر إِلَيْهِ وَقَالَ: إِن صَاحِبي قد هرب، فَرجع ذُو الكفل، وَقد ذهب وَقت القائلة، فَفعل هَكَذَا ثَلَاثَة أَيَّام، وَلم يره يغْضب فِي شَيْء من ذَلِك، وَقد ذهب نَومه فِي الْأَيَّام الثَّلَاث، فَقَالَ إِبْلِيس لَهُ عِنْد ذَلِك: أَنا إِبْلِيس، وَقد حسدتك وَلم أقدر عَلَيْك، وَقد وفيت بِمَا قلت. هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف.

{الصابرين (85) وأدخلناهم فِي رَحْمَتنَا إِنَّهُم من الصَّالِحين (86) وَذَا النُّون إِذْ ذهب} وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن ذَا الكفل رجل كفل أَن يُصَلِّي كل لَيْلَة مائَة رَكْعَة إِلَى أَن يقبضهُ الله، فوفي بذلك فَسُمي ذَا الكفل، وَاخْتلف القَوْل أَنه كَانَ نَبيا أَو لم يكن نَبيا، قَالَ بَعضهم: كَانَ نَبيا، وَقَالَ بَعضهم: كَانَ عبدا صَالحا، وَلم يكن نَبيا. وَقَوله: {كل من الصابرين} أَي: على طاعتنا.

86

قَوْله تَعَالَى: {وأدخلناهم فِي رَحْمَتنَا} . قَالَ بعض أهل الْمعَانِي: إِن قَوْله: {وأدخلناهم فِي رَحْمَتنَا} أبلغ من قَوْله: ورحمناهم؛ لِأَن قَوْله: {وأدخلناهم فِي رَحْمَتنَا} يَقْتَضِي أَنهم غمروا بِالرَّحْمَةِ، وَقَوله: ورحمناهم يَقْتَضِي أَنه أَصَابَهُم رَحمته. وَقَوله: {إِنَّهُم من الصَّالِحين} ظَاهر الْمَعْنى، وَالصَّلَاح اسْم يجمع جَمِيع خِصَال الْخَيْر.

87

وَقَوله تَعَالَى: {وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضبا} النُّون: السَّمَكَة. قَالَ الشَّاعِر: (يَا حبذا الْقصر نعم الْقصر والوادي ... وحبذا أَهله من حَاضر بَادِي) (ترقى قراقيره والوحش راتعة ... والضب وَالنُّون والملاح وَالْحَادِي) وَقَوله: {إِذْ ذهب مغاضبا} . قَالَ الشّعبِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير، وَسَعِيد بن جُبَير: أَي: مغاضبا لرَبه، وَأما ابْن عَبَّاس قَالَ: أَرَادَ بِهِ مغاضبا لِقَوْمِهِ، وَالْقَوْل الثَّالِث: مغاضبا للْملك الَّذِي كَانَ فِي زَمَانه. وَأما القَوْل الأول فقد كرهه كثير من الْعلمَاء؛ لِأَن من غضب ربه فقد ارْتكب كَبِيرَة عَظِيمَة، وَذكر بَعضهم: أَن معنى غاضب ربه أَي: أَمر ربه، وَسبب ذَلِك أَنه وعد قومه أَن الْعَذَاب يأتيكم يَوْم كَذَا، وَخرج من بَينهم، فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم، وَرَأى قوم يُونُس الْعَذَاب، خَرجُوا وضجوا إِلَى الله تَعَالَى على مَا ذكرنَا فِي سُورَة يُونُس، فَرد الله عَنْهُم الْعَذَاب، فَلَمَّا بلغ يُونُس أَن الْعَذَاب لم ينزل على قومه غضب، فَمَا كَانَ غَضَبه، لَا كَرَاهَة بِحكم الله، وَلَكِن كَرَاهَة أَن يُسمى كذابا، فَهَذَا معنى هَذَا القَوْل.

{مغاضبا فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} وَأما قَول ابْن عَبَّاس وَهُوَ الْمُخْتَار فَإِنَّهُ خرج مغاضبا لِقَوْمِهِ حِين لم يُؤمنُوا، وَهُوَ حسن صَحِيح لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ. وَأما قَول من قَالَ: إِنَّه غاضب الْملك، فروى عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل ملك، وَكَانَ مَعَ ذَلِك نَبيا يُوحى إِلَيْهِ، وَكَانَ قد غزا بني إِسْرَائِيل قوم، فَدَعَا الْملك يُونُس، وأرسله إِلَى أُولَئِكَ الْقَوْم، فَقَالَ يُونُس: أَمرك الله بِهَذَا أَو سماني لَك؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن أرسلك، فَغَضب وَخرج من بَينهم مُتَوَجها إِلَى الْبَحْر. وَقَوله: {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ "، وَهُوَ شَاذ، وَقَرَأَ ابْن عَامر: " فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ ". وَاعْلَم أَن فِي الْآيَة سؤالا مَعْرُوفا يعد من مشكلات الْقُرْآن، وَهُوَ أَنه قَالَ: {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} فَكيف يظنّ هَذَا بِاللَّه، وَمن ظن هَذَا بِاللَّه فقد كفر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن لِلْآيَةِ وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} أَي: لن نقدر عَلَيْهِ بِمَعْنى الحكم وَالْقَضَاء، يُقَال: قدر وَقدر بِمَعْنى وَاحِد، إِلَّا أَنه يُقَال: قدَر يقدِر، وقدَّر يقدِّر، قَالَ الشَّاعِر: (فَلَيْسَ عشيات اللوى برواجع ... لنا أبدا مَا أبرم السّلم النَّضر) (وَلَا عَائِدًا ذَاك الزَّمَان الَّذِي مضى ... تَبَارَكت مَا تقدر يَقع وَلَك الشُّكْر) يَعْنِي: يقدره. وَمن هَذَا قَوْله: " فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ " أَي: قدرُوا لَهُ، وَهُوَ خبر صَحِيح. وَالْوَجْه الثَّانِي من الْجَواب: وَهُوَ [أَن] معنى قَوْله: {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} أَي: لن نضيق عَلَيْهِ، وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه}

{فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين (87) فاستجبنا لَهُ ونجيناه من الْغم وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ (88) } أَي: ضيق، وَاعْلَم أَن معنى التَّضْيِيق وَالتَّقْدِير عَلَيْهِ هُوَ الْحَبْس فِي بطن الْحُوت. قَالَ أهل الْعلم: وَلم يكن يُونُس من أولي الْعَزْم من الرُّسُل، وَكَانَ ضيق الصَّدْر، فَلَمَّا وضع عَلَيْهِ أعباء النُّبُوَّة تفسخ تحتهَا كَمَا يتفسخ الرّبع، وَهَذَا القَوْل مأثور عَن السّلف. وَقَوله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} فِي الْقِصَّة: أَنه لما ذهب ركب السَّفِينَة، وَفِي السَّفِينَة قوم كثير، فجَاء حوت وَحبس السَّفِينَة، وخشي الْقَوْم على أنفسهم الْهَلَاك، وتنبه يُونُس أَنه هُوَ المُرَاد فَقَالَ: ألقوني تنجوا، فامتنعوا عَن ذَلِك، ثمَّ إِنَّهُم استهموا فَخرج السهْم عَلَيْهِ مَرَّات، فألقوه فالتقمه الْحُوت، وَمَرَّتْ السَّفِينَة، قَالَ سَالم بن أبي الْجَعْد: والتقم الْحُوت حوت آخر. وَأما قَوْله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} أَي: ظلمَة اللَّيْل، وظلمة الْبَحْر، وظلمة بطن الْحُوت، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحُوت مر بِهِ إِلَى الأَرْض السَّابِعَة، وَسمع من تَسْبِيح الْأَرْضين والأحجار ودواب الْبحار أمرا عَظِيما، فَنَادَى فِي الظُّلُمَات: {أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين} قَالَ ابْن عَبَّاس: مكث فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَعَن غَيره: ثَلَاثَة أَيَّام، وَرُوِيَ أَنه لما دَعَا بِهَذِهِ الدعْوَة سَمِعت الْمَلَائِكَة صَوته، فَقَالُوا: يَا رب صَوت مَعْرُوف من مَكَان مَجْهُول، فَقَالَ الله تَعَالَى: هُوَ عَبدِي يُونُس جعلت بطن الْحُوت سجنا لَهُ فدعوا.

88

وَقَوله تَعَالَى: {فاستجبنا لَهُ} يَعْنِي: أجبناه. وَقَوله: {ونجيناه من الْغم} أَي: من غم الْبَحْر وضيق الْمَكَان. وَقَوله: {وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ} وقرىء: نجى الْمُؤمنِينَ "، وَالْأولَى أَن يقْرَأ بنونين، قَالَ الزّجاج: بنُون وَاحِد لحن، وَهُوَ من [الْخَطَأ] روى عَاصِم عَنهُ.

{وزَكَرِيا إِذْ نَادَى ربه رب لَا تذرني فَردا وَأَنت خير الْوَارِثين (89) فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وأصلحنا لَهُ زوجه إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات ويدعوننا رغبا ورهبا وَكَانُوا} وَرُوِيَ عَن [سعد بن أبي] وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: سَمِعت النَّبِي يَقُول: " كلمة أعرفهَا لَا يَقُولهَا أحد فِي كرب إِلَّا فرج عَنهُ، وَهِي كلمة أخي يُونُس: لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين ". وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحُوت أَلْقَاهُ فِي سَاحل الْبَحْر: وَأنْبت الله لَهُ شَجَرَة من يَقْطِين، وقصة ذَلِك تَأتي من بعد فِي سُورَة: " وَالصَّافَّات "، فَإِن قيل: قَوْله: {وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ} هُوَ مَكْتُوب فِي الْمُصحف بنُون وَاحِدَة فَكيف جعلتم أصح الْقِرَاءَتَيْن بنونين؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه إِنَّمَا كتب بنُون وَاحِد؛ لِأَن النُّون الأولى متحركة، وَالنُّون الثَّانِيَة سَاكِنة، فخفيت الساكنة فِي جنب المتحركة، فحذفت، وَقد ذكر الْفراء وَجها لقِرَاءَة عَاصِم، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: نجى النَّجَاء الْمُؤمنِينَ فخفض الْمُؤمنِينَ على إِضْمَار الْمصدر.

89

قَوْله تَعَالَى: {وزَكَرِيا إِذْ نَادَى ربه} أَي: دَعَا ربه. وَقَوله: {رب لَا تذرني فَردا} أَي: وحيدا، وَمَعْنَاهُ: هُوَ مَا ذكرنَا من دُعَاء الْوَلَد. وَقَوله: {وَأَنت خير الْوَارِثين} .

90

قَوْله تَعَالَى: {فاستجبنا لَهُ} أَي: فأجبناه. وَأما قَوْله: {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} سمي يحيى، لِأَن رَحمهَا حَيّ بِالْوَلَدِ. وَقَوله: {وأصلحنا لَهُ زوجه} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا - وَهُوَ الْمَعْرُوف - أَنه كَانَ عقيما فَجعله ولودا، وَالْآخر: مَا رُوِيَ عَن عَطاء أَنه قَالَ: معنى الْإِصْلَاح أَنه كَانَ فِي لِسَان امْرَأَته طول، وَفِي خلقهَا سوء فأصلحها. وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات} ينْصَرف إِلَى جَمِيع الْأَنْبِيَاء الَّذين ذكرهم.

{لنا خاشعين (90) وَالَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهَا من رُوحنَا وجعلناها وَابْنهَا آيَة للْعَالمين (91) إِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاعبدون (92) وتقطعوا أَمرهم} وَقَوله: {يُسَارِعُونَ} أَي: يبادرون. وَقَوله: {ويدعوننا رغبا ورهبا} أَي: رغبا فِي الطَّاعَات، ورهبا من الْمعاصِي، (وَقيل: رغبا فِي الْجنَّة، ورهبا من النَّار) . وَقَالَ خصيف: رغبا ببطون الأكف، ورهبا بظهورها. وَقَوله: {وَكَانُوا لنا خاشعين} أَي: متواضعين، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ أَن يضع يَمِينه على شِمَاله فِي الصَّلَاة، يومىء ببصره إِلَى مَوضِع السُّجُود، وَقَالَ مُجَاهِد: الْخُشُوع هُوَ الْخَوْف اللَّازِم فِي الْقلب، وَعَن الْحسن قَالَ: ذللا لأمر الله تَعَالَى.

91

{وَالَّتِي أحصنت} أَي: عفت {فرجهَا} ، وَقيل: منعت من الْحَرَام. وَقَوله: {فنفخنا فِيهَا من رُوحنَا} الْأَكْثَرُونَ أَن هَذَا جيب الدرْع على مَا بَينا، وَفِيه قَول آخر: أَنه نفخ رَحمهَا، وَخلق الله الْمَسِيح فِي بَطنهَا، وَذكر رُوحنَا تَخْصِيصًا وكرامة للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله: {وَجَعَلنَا وَابْنهَا آيَة للْعَالمين} . أَي: دلَالَة للْعَالمين، فَإِن قيل: هما كَانَا آيَتَيْنِ، فَهَلا قَالَ آيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: إِنَّمَا قَالَ: آيَة؛ لِأَن الْآيَة فيهمَا كَانَت وَاحِدَة، وَهِي أَنَّهَا أَتَت بِهِ من غير فَحل، قَالَ أهل الْعلم: وفيهَا آيَات: أَحدهَا: (أَنه لم (تعتن) قبلهَا أُنْثَى للتحرز) ، وَالْآخر: إتيانها بِعِيسَى من غير أَب، وَالثَّالِث: مجيىء رزقها من عِنْد الله من غير سَبَب من مَخْلُوق، وَيُقَال: إِنَّهَا لم تقبل ثدي أحد سوى أمهَا.

92

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة} أَي: ملتكم ودينكم مِلَّة وَاحِدَة،

{بَينهم كل إِلَيْنَا رَاجِعُون (93) فَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا كفران لسعيه وَإِنَّا لَهُ كاتبون (94) وَحرَام على قَرْيَة أهلكناها أَنهم لَا يرجعُونَ (95) حَتَّى إِذا فتحت} وَالْأمة فِي أصل اللُّغَة: اسْم للْجَمَاعَة، وسمى الدّين أمة؛ لِأَنَّهُ يبْعَث على الِاجْتِمَاع. وَقَوله: {وَأَنا ربكُم فاعبدون} أَي: وحدوني، وَحَقِيقَة معنى الْآيَة: أَن الْملَّة الَّتِي دعوتكم إِلَيْهَا هِيَ مِلَّة الْأَنْبِيَاء قبلكُمْ، إِذْ دين الْكل وَاحِد، وَهَذَا فِي التَّوْحِيد، فَأَما الشَّرَائِع يجوز اختلافها، وَيُقَال: معنى الْآيَة: أَنكُمْ خلق وَاحِد وَكُونُوا على دين وَاحِد.

93

قَوْله تَعَالَى: {وتقطعوا أَمرهم بَينهم} أَي: دَعَوْت الْخلق إِلَى دين وَاحِد فَتَفَرَّقُوا، وَيُقَال: صَارُوا قطعا مُتَفَرّقين. وَقَوله: {كل إِلَيْنَا رَاجِعُون} أَي: من تفرق، وَمن لم يتفرق.

94

قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا كفران لسعيه} أَي: لَا جحود لسعيه، وَقيل: لَا يخيب سَعْيه بل يجازى عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَإِنَّا لَهُ كاتبون} أَي: حافظون، وَيُقَال: إِن معنى الشُّكْر من الله هُوَ المجازاة.

95

قَوْله تَعَالَى: {وَحرَام على قَرْيَة} وقرىء: " وَحرم " قَالَ ابْن عَبَّاس معنى قَوْله {حرَام} أَي: وَاجِب، قَالَ الشَّاعِر: (وَإِن حَرَامًا لَا أرى الدَّهْر باكيا ... على (شجوة) إِلَّا بَكَيْت على (عَمْرو)) أَي: وَاجِبا، فَمَعْنَى الْآيَة على هَذَا: أَنه وَاجِب على قَرْيَة أهلكناها أَنهم لَا يرجعُونَ إِلَى الدُّنْيَا، فَإِن قيل: كَيفَ يُوجب عَلَيْهِم أَن لَا يرجِعوا وَلَيْسوا بِمحل الْإِيجَاب وَلَا الْإِبَاحَة [وَلَا] غَيره؟ .

{يَأْجُوج وَمَأْجُوج وهم من كل حدب يَنْسلونَ (96) واقترب الْوَعْد الْحق فَإِذا هِيَ} وَالْجَوَاب: أَن هَذَا على توسع الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: أَنا نمنعهم من الرُّجُوع، وَالتَّحْرِيم فِي اللُّغَة هُوَ الْمَنْع. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " لَا " صلَة، قَالَه أَبُو عبيد، فَمَعْنَاه: حرَام على قَرْيَة أهلكناها أَي: يرجعُونَ، وَقَالَ الزّجاج: قَوْله: {وَحرَام على قَرْيَة} مَعْنَاهُ: وَحرَام على أهل قَرْيَة {أهلكناها} ، أَي: حكمنَا بهلاكها أَن يتَقَبَّل أَعْمَالهم؛ ل {أَنهم لَا يرجعُونَ} أَي: لَا يتولون، قَالَ وَالدَّلِيل على هَذَا الْمَعْنى أَنه قد قَالَ فِي الْآيَة الَّتِي قبلهَا: {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا كفران لسعيه} أَي: يتَقَبَّل عمله، ثمَّ ذكر عقبه هَذِه الْآيَة، وَبَين أَن الْكَافِر لَا يتَقَبَّل عمله.

96

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فتحت} قرىء بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، وَمعنى التَّشْدِيد على الْجمع، وَمعنى التَّخْفِيف على الوحدان. وَقَوله: {يَأْجُوج وَمَأْجُوج} قد بَينا، وَالْفَتْح للسد الَّذِي بَيْننَا وَبينهمْ، وَيُقَال: إِن الْخلق عشرَة أَجزَاء، تِسْعَة أَجزَاء كلهم يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وجزء وَاحِد هم سَائِر الْخلق، وَيُقَال: إِن جُزْءا من ألف جُزْء سَائِر الْخلق، وَالْبَاقِي هم يَأْجُوج وَمَأْجُوج. قَوْله: {وهم من كل حدب يَنْسلونَ} الحدب: الْمَكَان الْمُرْتَفع، فَمَعْنَاه: يسرعون النُّزُول من الآكام، وَهُوَ مَكَان مُرْتَفع من القلاع، ونسلان الذِّئْب: سرعَة مَشْيه، قَالَ الشَّاعِر: (نسلان الذَّنب أَمْسَى باديا ... برد اللَّيْل عَلَيْهِ فينسل) وَقيل: من كل حدب أَي: من كل جَانب، فَإِن قيل: مَا معنى {حَتَّى} فِي أول الْآيَة؟ وَأَيْنَ جَوَابه:؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: حَتَّى إِذا فتحت يَأْجُوج وَمَأْجُوج وهم من كل حدب يَنْسلونَ اقْترب الْوَعْد الْحق، وَالْوَاو مقحمة، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:

{شاخصة أبصار الَّذين كفرُوا يَا ويلنا قد كُنَّا فِي غَفلَة من هَذَا بل كُنَّا ظالمين (97) إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ (98) لَو كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا} (فَلَمَّا أجزنا ساحة الْحَيّ وانتحى ... بِنَا بطن خبت ذِي حقاف عقنقل) وَالْوَاو فِي قَوْله: وانتحى مقحمة. وَالثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {حَتَّى إِذا فتحت يَأْجُوج وَمَأْجُوج وهم من كل حدب يَنْسلونَ} قَالُوا {يَا ويلنا} وَيُقَال: ظهر لَهُم صدق مَا قُلْنَاهُ، وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود: " أَن النَّبِي لَيْلَة أسرِي بِهِ اجْتمع مَعَ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِم - فَذكرُوا أَمر السَّاعَة، فبدءوا بإبراهيم وسألوه عَنْهَا، فَقَالَ: لَا علم لي بهَا، ثمَّ ذكرُوا لمُوسَى فَقَالَ: لَا علم لي بهَا، ثمَّ ذكرُوا لعيسى فَقَالَ عِيسَى: إِن الله تَعَالَى عهد إِلَيّ أَنَّهَا دون وحيها وَلَا يعلم وحيها، إِلَّا الله، ثمَّ قَالَ عِيسَى: إِن الله يهبطني إِلَى الأَرْض فأقتل الدَّجَّال ". ورد الْخَبَر " أَن يَأْجُوج وَمَأْجُوج قد خَرجُوا فيغلبون على الأَرْض، ثمَّ إِن الْمُسلمين يجأرون إِلَى الله، فَيُرْسل الله النغف فِي رقابهم فيهلكون، وَقد تنتن الأَرْض؛ فَيُرْسل الله طيرا كأعناق البخت، فتأخذهم وتلقيهم فِي الْبَحْر ". وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: إِن النَّاس يحجون ويعتمرون بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج وهلاكهم.

97

قَوْله تَعَالَى: {واقترب الْوَعْد الْحق} قد بَينا. وَقَوله: {فَإِذا هِيَ شاخصة أبصار الَّذين كفرُوا} أَي: منزعجة.

{وردوها وكل فِيهَا خَالدُونَ (99) لَهُم فِيهَا زفير وهم فِيهَا لَا يسمعُونَ (100) } وَقَوله: {يَا ويلنا قد كُنَّا فِي غَفلَة من هَذَا بل كُنَّا ظالمين} ظَاهر الْمَعْنى.

98

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} قَرَأَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " حطب جَهَنَّم "، وَقَرَأَ الجحدري: " حصب جَهَنَّم "، وَفِي الشاذ أَيْضا: " حضب جَهَنَّم " بالضاد الْمُعْجَمَة متحركة، وَأما الْمَعْرُوفَة {حصب جَهَنَّم} وَهُوَ مَا يرْمى بِهِ فِي النَّار، وَأما قَوْله: {وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله} ، " رُوِيَ أَن النَّبِي لما قَرَأَ هَذِه الْآيَة على الْكفَّار، قَالَ عبد الله بن الزبعري: خصمت مُحَمَّدًا وَرب الْكَعْبَة، ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، أتزعم أَن مَا يعبد من دون الله يدْخلُونَ النَّار؟ قَالَ: نعم - والورود هَاهُنَا: الدُّخُول - قَالَ عبد الله بن الزبعري: فعيسى وعزير وَالْمَلَائِكَة يعْبدُونَ من دون الله، أفهم مَعنا فِي النَّار؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} ، وَأنزل الله أَيْضا فِي عبد الله بن الزبعري: {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون} " يَعْنِي: أَنهم قَالُوا مَا قَالُوا خُصُومَة ومجادلة بِالْبَاطِلِ، وَإِلَّا قد عرفُوا أَن المُرَاد هم الْأَصْنَام. وَزعم قطرب وَجَمَاعَة من النَّحْوِيين أَن الْآيَة مَا تناولت إِلَّا الْأَصْنَام من حَيْثُ الْعَرَبيَّة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله} وَهَذَا يُقَال فِيمَا لَا يعقل، فَأَما فِيمَن يعقل فَيُقَال: وَمن تبعدون من دون الله.

99

قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا وردوها} أَي: مَا دخلوها. وَقَوله: {وكل فِيهَا خَالدُونَ} أَي: مقيمون.

{إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون (101) لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا وهم فِي مَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ (102) لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر وتتلقاهم الْمَلَائِكَة هَذَا يومكم الَّذِي كُنْتُم توعدون (103) يَوْم نطوي السَّمَاء كطي السّجل للكتب كَمَا بدأنا}

100

قَوْله تَعَالَى: {لَهُم فِيهَا زفير} قد بَينا معنى الزَّفِير. وَقَوله: {وهم فِيهَا لَا يسمعُونَ} . قَالَ ابْن مَسْعُود: يجْعَلُونَ فِي توابيت من نَار، وَقَالَ بَعضهم: والتوابيت فِي توابيت، فَلَا يسمعُونَ وَلَا يبصرون شَيْئا، ويظن كل وَاحِد أَنه لَا يعذب غَيره؛ لِئَلَّا يكون لَهُ تسلى الأسوة، وَهَذَا الْخَبَر لَيْسَ من قَول ابْن مَسْعُود.

101

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى} قد بَينا. وَيُقَال: سبقت لَهُم منا السَّعَادَة، وَيُقَال: وَجَبت لَهُم الْجنَّة. قَوْله: {أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون} ظَاهر الْمَعْنى.

102

قَوْله تَعَالَى: {لَا يسمعُونَ حَسِيسهَا} أَي: حسها. وَقَوله: {وهم فِيمَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ} أَي: مقيمون.

103

قَوْله تَعَالَى: {لَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر} قَالَ سعيد بن جُبَير: الْفَزع الْأَكْبَر هُوَ أَن تطبق جَهَنَّم، وَذَلِكَ بعد أَن يخرج الله مِنْهَا من يُرِيد أَن يُخرجهُ، وَيُقَال: الْفَزع الْأَكْبَر هُوَ ذبح الْمَوْت، فَيُقَال لهَؤُلَاء: خُلُود وَلَا موت، ولهؤلاء: خُلُود وَلَا موت، وَقيل الْفَزع الْأَكْبَر: الْأَمر بِالْجَرِّ إِلَى النَّار. وَقَوله: {وتتلقاهم الْمَلَائِكَة} أَي: تستقبلهم الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {هَذَا يومكم الَّذِي كُنْتُم توعدون} ظَاهر الْمَعْنى.

104

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نطوي السَّمَاء كطي السّجل للكتب} وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يطوي الله السَّمَاء، وَيَأْخُذ الأَرْض بِيَمِينِهِ فَيَقُول: أَنا الْملك، أَيْن مُلُوك الأَرْض؟ ".

{أول خلق نعيده وَعدا علينا إِنَّا كُنَّا فاعلين (104) وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد الذّكر أَن} وَقَوله: {كطي السّجل للكتب} رُوِيَ عَن ابْن إِسْحَاق أَن السّجل كَاتب للنَّبِي، وَهُوَ قَول غَرِيب. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن السّجل ملك، وَالْقَوْل الثَّالِث - وَهُوَ أصح الْأَقْوَال - أَن السّجل هُوَ الصَّحِيفَة. وَقَوله: {للكتب} أَي: لأجل مَا كتب، فَمَعْنَاه: كطي الصَّحِيفَة لأجل الْمَكْتُوب. وَقَوله: {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده} أَي: قدرتنا على إِعَادَة الْخلق كقدرتنا على إنشائه. وَقَوله: {إِنَّا كُنَّا فاعلين} أَي: قَادِرين عَلَيْهِ، وَقد ورد فِي هَذِه الْآيَة خبر صَحِيح وَهُوَ مَا روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " يحْشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة غرلًا "، وَفِي رِوَايَة: " إِنَّكُم تحشرون يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة غرلًا " ثمَّ قَرَأَ: {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده} ، وَأول من يكسى إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - ويجاء بِقوم من أمتِي فَيُؤْمَر بهم إِلَى النَّار، فَأَقُول: يَا رب، أَصْحَابِي، فَيَقُول: إِنَّهُم لم يزَالُوا مرتدين على أَعْقَابهم مُنْذُ فَارَقْتهمْ، فَأَقُول كَمَا قَالَ العَبْد الصَّالح: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد} وَفِي رِوَايَة " أَقُول: سحقا لأهل النَّار ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أَنا بِهَذَا الحَدِيث الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أَنا جدي أَبُو الْهَيْثَم، قَالَ الْفربرِي قَالَ البُخَارِيّ، قَالَ مُحَمَّد بن كثير، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن الْمُغيرَة بن النُّعْمَان، عَن سعيد بن جُبَير ... الْخَبَر.

105

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور من بعد الذّكر} قَالَ عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ أَبُو عَمْرو: الزبُور زبور دَاوُد، وَالذكر هُوَ التَّوْرَاة، وَقَالَ سعيد بن جُبَير: الزبُور

{الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون (105) إِن فِي هَذَا لبلاغا لقوم عابدين (106) وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين (107) } هُوَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَالذكر هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَمَعْنَاهُ: من بعد مَا كتب ذكره فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَقَوله: {أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَالْأَرْض أَرض الْجنَّة. وَعنهُ أَيْضا: أَن الأَرْض هِيَ أَرَاضِي الْكفَّار، يفتحها الله للْمُسلمين، ويجعلها لَهُم، وَقيل إِن الأَرْض هِيَ الأَرْض المقدسة.

106

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي هَذَا لبلاغا} يجوز أَن يكون قَوْله: {فِي هَذَا} أَي: فِي الْقُرْآن، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: فِي هَذِه السُّورَة، وَقَوله: {لبلاغا} أَي: سَببا يبلغهم إِلَى رضَا الله، وَقيل: بلاغا أَي: كِفَايَة. وَقَوله: {لقوم عابدين} قيل: عَالمين، وَقيل: مُطِيعِينَ.

107

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين} من الْمَشْهُور الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِنَّمَا أَنا رَحْمَة مهداة " أَي: هَدِيَّة من الله، ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْعَالمين على قَوْلَيْنِ: فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنهم الْمُسلمُونَ، فَهُوَ رَحْمَة للْمُسلمين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم جَمِيع الْخلق، وَهَذَا القَوْل أشهر، وَأما معنى رَحمته للْكَافِرِينَ فَهُوَ تَأْخِير الْعَذَاب عَنْهُم، وَقيل: هُوَ رفع عَذَاب الاستئصال عَنْهُم، وَأما رَحمته للْمُؤْمِنين فمعلومة.

{قل إِنَّمَا يُوحى إِلَيّ أَنما إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ (108) فَإِن توَلّوا فَقل آذنتكم على سَوَاء وَإِن أَدْرِي أَقَرِيب أم بعيد مَا توعدون (109) إِنَّه يعلم الْجَهْر من القَوْل وَيعلم مَا تكتمون (110) وَإِن أَدْرِي لَعَلَّه فتْنَة لكم ومتاع إِلَى حِين (111) قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ}

108

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا يُوحى إِلَيّ أَنما إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فَهَل أَنْتُم مُسلمُونَ} أَي: أَسْلمُوا.

109

قَوْله: {فَإِن توَلّوا فَقل آذنتكم على سَوَاء} أَي: لتستووا فِي الْإِيمَان بِهِ، وأوضح الْأَقْوَال مَا ذكره ابْن قُتَيْبَة، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: آذنتكم على وَجه، نستوي نَحن وَأَنْتُم فِي الْعلم بِهِ. وَقَوله: {وَإِن أَدْرِي أَقَرِيب أم بعيد} يَعْنِي: مَا أَدْرِي أَقَرِيب أم بعيد {مَا توعدون} ؟ .

110

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يعلم الْجَهْر من القَوْل} الْآيَة؟ . ظَاهر الْمَعْنى.

111

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أَدْرِي لَعَلَّه فتْنَة لكم} اخْتلفُوا فِي أَن الْهَاء إِلَى مَاذَا ترجع فِي {لَعَلَّه} على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه يرجع إِلَى قَوْله: {وَإِن أَدْرِي أَقَرِيب أم بعيد مَا توعدون} يَعْنِي: إِن هَذَا الَّذِي أَقُول لَعَلَّه فتْنَة لكم، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يرجع إِلَى مَا ذكرنَا من تَأْخِير الْعَذَاب عَنْهُم، وَقَوله: {فتْنَة} أَي: محنة واختبار. وَقَوله: {ومتاع إِلَى حِين} أَي: إِلَى الْقِيَامَة، وَقيل: إِلَى الْمَوْت.

112

قَوْله تَعَالَى: {قل رب احكم بِالْحَقِّ} وَقَرَأَ حَفْص عَن عَاصِم: " قَالَ رب احكم بِالْحَقِّ " على الْخَبَر، وَالْأول هُوَ الْمُخْتَار؛ وَلِأَن سَواد الْمُصحف مُتبع لَا يجوز خِلَافه، فَإِن قيل: قَوْله: {قل رب احكم بِالْحَقِّ} كَيفَ يجوز هَذَا الدُّعَاء، وَالله لَا يحكم إِلَّا بِالْحَقِّ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قُلْنَا رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: كَانَ الْأَنْبِيَاء قبل مُحَمَّد يَقُولُونَ: رَبنَا افصل بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ، فَأمر الله رَسُوله أَن يَقُول: رب احكم بِالْحَقِّ، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ، قَالَ بَعضهم: رب احكم بِالْحَقِّ أَي: عجل الحكم بِالْحَقِّ،

{وربنا الرَّحْمَن الْمُسْتَعَان على مَا تصفون (112) } وَقَالَ أَبُو عبيد: رب احكم بحكمك الْحق، وَالله يحكم بِالْحَقِّ طلب أَو لم يطْلب، وَمعنى الطّلب هُوَ ظُهُور الرَّغْبَة من الطَّالِب فِي حكمه بِالْحَقِّ، وَهَذَا الْأَخير لَيْسَ من قَول أبي عُبَيْدَة، وَقَالَ بَعضهم: {رب احكم بِالْحَقِّ} تعبد من الله، وَالله يحكم بِالْحَقِّ سُئِلَ أَو لم يسْأَل، أوردهُ النّحاس. وَقَوله: {وربنا الرَّحْمَن الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} أَي: تكذبون. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {سيجزيهم وَصفهم} أَي: سيجزيهم جَزَاء كذبهمْ، وَيُقَال: على مَا تصفون أَي: تكذبون.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم (1) يَوْم ترونها تذهل كل} تَفْسِير سُورَة الْحَج قَالَ ابْن عَبَّاس فِي أظهر الرِّوَايَتَيْنِ: هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم} وآيتين بعد هَذِه الْآيَة، وَقَوله تَعَالَى: {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا. .} الْآيَة، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن هَذِه السُّورَة مَدَنِيَّة إِلَّا آيَات فِيهَا نزلت بِمَكَّة.

الحج

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} أَي: احْذَرُوا عَن عُقُوبَته بِطَاعَتِهِ، وَيُقَال: اتَّقوا ربكُم أَي: اتَّقوا جَمِيع المناهي: وفيهَا الشّرك وَغَيره. وَقَوله: {إِن زَلْزَلَة السَّاعَة} الزلزلة شدَّة الْحَرَكَة على حَال هائلة، وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الزلزلة، فَذكر عَلْقَمَة وَالشعْبِيّ: أَنَّهَا قبل يَوْم الْقِيَامَة، وَذكر ابْن عَبَّاس الْحسن وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَغَيرهم: أَنَّهَا عِنْد قيام السَّاعَة، وَهَذِه القَوْل أصح الْقَوْلَيْنِ لما نذكرهُ من الْخَبَر من بعد. وَقَوله: {شَيْء عَظِيم} أَي: أَمر عَظِيم.

2

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترونها} يَعْنِي: السَّاعَة. وَقَوله: {تذهل} أَي: تغفل وتشتغل، وَفِيه تسهو وتنسى، قَالَ الشَّاعِر فِي الذهول. (أَطَالَت بك الْأَيَّام حَتَّى نسيتهَا ... كَأَنَّك عَن يَوْم الْقِيَامَة ذاهل) وَقَالَ عبد الله بن رَوَاحَة بَين يَدي النَّبِي:

{مُرْضِعَة عَمَّا أرضعت وتضع كل ذَات حمل حملهَا وَترى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى وَلَكِن عَذَاب الله شَدِيد (2) } (ضربا يزِيل الْهَام عَن مقِيله ... وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله) وَقَوله: {كل مُرْضِعَة عَمَّا أرضعت} يَعْنِي: كل أم عَن وَلَدهَا. وَقَوله: {وتضع كل ذَات حمل حملهَا} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ تضع الْمَرْأَة حملهَا يَوْم الْقِيَامَة؟ الْجَواب: قُلْنَا: أما على قَوْلنَا إِن الزلزلة قبل قيام السَّاعَة، فَمَعْنَى وضع الْحمل على ظَاهره، وَإِن قُلْنَا إِن الزلزلة عِنْد قيام السَّاعَة، فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من الْآيَة النِّسَاء اللواتي متن وَهن حبالى، وَالْوَجْه الثَّانِي، وَهُوَ الْأَصَح: أَن هَذَا على وَجه تَعْظِيم الْأَمر وَذكر شدَّة الهول، لَا على حَقِيقَة وضع الْحمل، وَالْعرب تَقول: أَصَابَنَا أَمر يشيب فِيهِ الْوَلِيد، وَهَذَا على طَرِيق عظم الْأَمر وشدته، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْمًا يَجْعَل الْوَالِدَان شيبا} وَالْمرَاد مَا بَينا. وَقَوله: {وَترى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى} وقرىء: " سكرى " بِغَيْر الْألف، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل التَّفْسِير: أَن المُرَاد من الْآيَة سكرى من الْفَزع وَالْخَوْف، وَلَيْسوا سكارى من الشَّرَاب وَقَالُوا أَيْضا: فِي صُورَة السكارى، وَلَيْسوا بسكارى، وَالْقَوْل الأول أحسن؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَلَكِن عَذَاب الله شَدِيد} . وَفِي الْآيَة خبر صَحِيح أوردهُ البُخَارِيّ وَغَيره، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَرَأَهَا بَين الْآيَتَيْنِ ثمَّ قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول الله تَعَالَى لآدَم: قُم يَا آدم، فَابْعَثْ من ذريتك بعث النَّار فَيَقُول آدم: لبيْك وَسَعْديك، وَالْخَيْر فِي يَديك، وَمَا بعث النَّار؟ فَيَقُول الله تَعَالَى: من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين إِلَى النَّار، [وَوَاحِد] إِلَى الْجنَّة، فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله: وأينا ذَلِك الْوَاحِد؟ فَقَالَ النَّبِي: " سددوا وقاربوا وَأَبْشِرُوا، فَإِن مَعكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ قوم إِلَّا كَثرَتَاهُ: يَأْجُوج وَمَأْجُوج وكفرة الْجِنّ وَالْإِنْس من قبلكُمْ "، وَفِي رِوَايَة

{وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَيتبع كل شَيْطَان مُرِيد (3) كتب عَلَيْهِ أَنه من تولاه فَأَنَّهُ يضله ويهديه إِلَى عَذَاب السعير (4) } قَالَ: " تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين من يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وَوَاحِد مِنْكُم، ثمَّ قَالَ: " إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا ربع أهل الْجنَّة، فكبرنا، ثمَّ قَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَن تَكُونُوا ثلث أهل الْجنَّة، فكبرنا، ثمَّ قَالَ: إِنِّي أَرْجُو أَن تَكُونُوا نصف أهل الْجنَّة مَا أَنْتُم فِي ذَلِك الْيَوْم بَين النَّاس إِلَّا كالشعرة الْبَيْضَاء فِي الثور الْأسود، أَو كالشعرة السَّوْدَاء فِي الثور الْأَبْيَض " وَفِي رِوَايَة: " مَا أَنْتُم فِي النَّاس إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جنب الْبَعِير، وكالرقمة فِي ذِرَاع الدَّابَّة ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم، قَالَ الْفربرِي، قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ عمر بن حَفْص بن غياث قَالَ: أخبرنَا أبي، عَن الْأَعْمَش ... الْخَبَر.

3

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم} الْأَكْثَرُونَ على أَن الْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث، وَكَانَ يُنكر الْبَعْث ويجادل فِيهِ، وَعَن سهل بن عبد الله فِي هَذِه الْآيَة قَالَ: هُوَ من يُجَادِل فِي آيَات الله بالهوى، وَعَن غَيره قَالَ: هُوَ الَّذِي يرد النَّص بِالْقِيَاسِ. وَقَوله: {وَيتبع كل شَيْطَان مُرِيد} المريد المتمرد، والمتمرد هُوَ المستمر فِي الشَّرّ، يُقَال: حَائِط ممرد أَي: مطول، وَقيل: المريد هُوَ العاري عَن الْخَيْر، يُقَال صبي أَمْرَد إِذا كَانَ عَارِيا خَدّه من الشّعْر.

4

وَقَوله: {كتب عَلَيْهِ} أَي: على الشَّيْطَان. وَقَوله: {أَنه من تولاه فَأَنَّهُ يضله} أَي: كتب على الشَّيْطَان أَن يضل من تولاه. وَقَوله: {ويهديه إِلَى عَذَاب السعير} أَي: إِلَى عَذَاب جَهَنَّم.

{يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة مخلقة وَغير مخلقة}

5

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث} ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة الدّلَالَة على منكري الْبَعْث، وَالْخطاب للْمُشْرِكين. وَقَوله: {إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث} أَي: فِي شكّ من الْبَعْث. وَقَوله: {فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب} ذكر التُّرَاب هَاهُنَا؛ لِأَن آدم خلق من تُرَاب، وَهُوَ الأَصْل. وَقَوله: {ثمَّ من نُطْفَة} النُّطْفَة هِيَ المَاء النَّازِل من الصلب. وَقَوله: {ثمَّ من علقَة} الْعلقَة هِيَ الدَّم المتجمد، وَقيل: المنعقد. وَقَوله: {ثمَّ من مُضْغَة} المضغة هِيَ قِطْعَة لحم كَأَنَّهَا مضغت. وَقَوله: {مخلقة وَغير مخلقة} . قَالَ ابْن عَبَّاس {مخلقة} تَامّ الْخلق {وَغير مخلقة} نَاقص الْخلق، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المخلقة هُوَ الْوَلَد الَّذِي تَأتي بِهِ الْمَرْأَة لوقته، وَغير المخلقة هُوَ السقط، وَفِي هَذَا الْموضع أَخْبَار: مِنْهَا مَا روى عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود أَنه إِذا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَة فِي الرَّحِم أَخذهَا الْملك بِيَدِهِ فَيَقُول: أَي رب، مخلقة أَو غير مخلقة؟ فَإِن قَالَ: غير مخلقة قَذفهَا الرَّحِم دَمًا، وَلم تخلق مِنْهَا نسمَة، وَإِن قَالَ: مخلقة، قَالَ الْملك: أشقي أَو سعيد؟ أذكر أَو أُنْثَى؟ مَا رزقه؟ مَا عمله؟ مَا أَجله؟ وَأَيْنَ الْموضع الَّذِي يقبض فِيهِ؟ فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أم الْكتاب فَفِيهِ كل ذَلِك، فَيذْهب إِلَى أم الْكتاب فيجد فِيهِ أَنه شقي أَو سعيد، ذكر أَو أُنْثَى، فَيكْتب ذَلِك، فيسعى الرجل فِي عمله، وَيَأْكُل رزقه، ويمضي فِي أَجله حَتَّى يتوفاه الله تَعَالَى فِي الْمَكَان الَّذِي قدر أَيْن يقبض فِيهِ. وَقد ورد خبران صَحِيحَانِ عَن النَّبِي فِي هَذَا، أَحدهمَا مَا روى الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: أَخْبرنِي الصَّادِق المصدوق أَبُو الْقَاسِم: أَن خلق أحدكُم يجمع فِي رحم أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة، ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا علقَة،

{لنبين لكم} ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَة، ثمَّ يُؤمر الْملك بِأَرْبَع كَلِمَات؛ فَيكْتب رزقه، وَعَمله، وأجله، وشقي أَو سعيد، ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح ". وَالْخَبَر مُتَّفق على صِحَّته. وَالْخَبَر الثَّانِي: هُوَ مَا روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن أبي الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت عبد الله بن مَسْعُود يَقُول: الشقي من شقي فِي بطن أمه، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو الطُّفَيْل: فَقلت ثكلتني! أنشقى وَلم نعمل؟ فَأتيت حُذَيْفَة بن أسيد، فَذكرت لَهُ قَول ابْن مَسْعُود، فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِأَعْجَب من هَذَا، سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِذا مكثت النُّطْفَة فِي رحم الْأُم أَرْبَعِينَ يَوْمًا - أَو خَمْسَة وَأَرْبَعين - جَاءَ الْملك فَيَقُول: يَا رب، أذكر أَو أُنْثَى؟ فَيَقُول الرب، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: أشقي أَو سعيد؟ فَيَقُول الرب، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: مَا رزقه، مَا عمله، مَا أَجله، مَا أَثَره، مَا مصيبته؟ فَيَقْضِي الله مَا شَاءَ، وَيكْتب الْملك، ثمَّ يطوي الصَّحِيفَة، فَلَا يُزَاد وَلَا ينقص إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة حرسها الله تَعَالَى، قَالَ: أَبُو الْحسن بن [فراس] قَالَ: أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي قَالَ سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، قَالَ سُفْيَان ... الْخَبَر. أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وأنشدوا فِي المخلقة: (أَفِي غير المخلقة الْبكاء ... فَأَيْنَ الْعَزْم وَيحكم وَالْحيَاء) وَقَوله: {لنبين لكم} أَي: نبين لكم أَمر الْخلق فِي الِابْتِدَاء؛ لتستدلوا (بقدرة

{ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء إِلَى أجل مُسَمّى ثمَّ نخرجكم طفْلا ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر لكيلا يعلم من بعد علم شَيْئا} الله) فِي الِابْتِدَاء على قدرته على الْإِعَادَة. وَقَوله: {ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء} أَي: نثبت فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء {إِلَى أجل مُسَمّى} أَي: إِلَى وَقت الْولادَة: وَقَوله: {ثمَّ نخرجكم طفْلا} أَي: أطفالا، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: {ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم} قد بَينا معنى الأشد. وَقَوله: {ومنكم من يتوفى} وَحكى أَبُو حَاتِم أَن فِي قِرَاءَة بَعضهم: " ومنكم من يتوفى " بِفَتْح الْيَاء، وَمَعْنَاهُ يسْتَوْفى أَجله، وَالْمَعْرُوف {يتوفى} بِالرَّفْع يَعْنِي: يتوفى قبل بُلُوغ الْكبر. وَقَوله: {ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر} أَي: إِلَى أخس الْعُمر، وَالْمرَاد مِنْهُ حَالَة الخرف والهرم، قَالَ عِكْرِمَة: من قَرَأَ الْقُرْآن لم يخرف. وَقَوله: {لكيلا يعلم من بعد علم شَيْئا} أَي: لَا يعقل من عبد عقله شَيْئا. وَقَوله: {وَترى الأَرْض هامدة} وَهَذَا ذكر دَلِيل آخر على إحْيَاء الْمَوْت. وَقَوله: {هامدة} أَي: جافة يابسة لَا نَبَات فِيهَا، وَقَالَ قَتَادَة: (هامدة) غبراء منهشمة، وَقيل: هامدة: دارسة، قَالَ الشَّاعِر: (قَالَت قتيلة مَا لجسمك شاحبا ... وَأرى ثِيَابك باليات همدا) وَقَالَ آخر: (رمى الْحدثَان نسْوَة آل حَرْب ... بنازلة همدن لَهَا همودا) (فَرد شعورهن السود بيضًا ... ورد وجوههن الْبيض سُودًا)

{وَترى الأَرْض هامدة فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5) ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق وَأَنه يحيي الْمَوْتَى وَأَنه على كل شَيْء قدير} وَقَوله: {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت} أَي: تحركت، قَالَ الشَّاعِر: (تثنى إِذا قَامَت وتهتز إِن مَا مشت ... كَمَا اهتز غُصْن البان فِي (ورق) خضر) وَقَوله: {وربت} أَي: انتفخت للنبات، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: وربت واهتزت، وَيُقَال اهتزت أَي: النَّبَات، وربت أَي: ارْتَفع، وَإِنَّمَا أنث لذكر الأَرْض، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر: " وربأت " بِالْهَمْز، وَهُوَ فِي معنى الأول. وَقَوله: {وأنبتت من كل زوج بهيج} أَي: صنف حسن، فَهَذَا أَيْضا دَلِيل على إِعَادَة الْخلق، وَفِي بعض مَا ينْقل عَن السّلف: إِذا رَأَيْتُمْ الرّبيع فاذكروا والنشور.

6

وَقَوله: {ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق} يَعْنِي: هَذَا الَّذِي ذكرته لكم [دَلِيل] بِأَن الله هُوَ الْحق. وَقَوله: {وَأَنه يحيى الْمَوْتَى} يَعْنِي: هُوَ دَلِيل على أَنه يحيي الْمَوْتَى. وَقَوله: {وَأَنه على كل شَيْء قدير} أَي: لما قدر على ابْتِدَاء الْخلق، وعَلى إحْيَاء الأَرْض الْميتَة، فَاعْلَم أَنه على كل شَيْء قدير، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " من جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة (بِثَلَاث) لم يصد وَجهه عَن الْجنَّة شَيْء، من علم أَن الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا، وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور ".

( {6) وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور (7) وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير (8) ثَانِي عطفه ليضل عَن سَبِيل الله لَهُ فِي الدُّنْيَا خزي ونذيقه يَوْم الْقِيَامَة عَذَاب الْحَرِيق (9) ذَلِك بِمَا قدمت يداك وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد (10) وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف}

7

وَقَوله: {وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور} قد بَينا.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى} أَي: وَلَا حجَّة. وَقَوله: {وَلَا كتاب مُنِير} أَي: وَلَا كتاب لَهُ نور، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " إِن على الْبَاطِل ظلمَة، وَإِن على الْحق نورا ". وَعَن بَعضهم قَالَ: مَا عز ذُو بَاطِل، وَإِن طلع من جيبه الْقَمَر، وَمَا ذل ذُو حق، وَإِن أصفق الْعَالم. وَاعْلَم أَن الْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، ومجادلته إِنْكَاره الْبَعْث وضربه لذَلِك الْأَمْثَال.

9

وَقَوله: {ثَانِي عطفه} أَي: لاوى عُنُقه، وَقَالَ ابْن جريج: يعرض عَن الْحق تكبرا. وَقَوله: {ليضل عَن سَبِيل الله} أَي: ليضل النَّاس عَن دين الله. وَقَوله: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خزي} أَي: هوان، وَقد قتل النَّضر يَوْم بدر صبرا، وَلم يقتل صبرا غَيره وَغير عقبَة بن أبي معيط. وَقَوله: {ونذيقه يَوْم الْقِيَامَة عَذَاب الْحَرِيق} أَي: المحرق.

10

وَقَوله: {ذَلِك بِمَا قدمت يداك} الْآيَة، ظَاهر الْمَعْنى.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف} قَالَ مُجَاهِد: على شكّ، وَقَالَ الزّجاج: على حرف أَي: الطَّرِيقَة فِي الدّين، لَا يدْخل فِيهَا دُخُول مُتَمَكن، وَلَا يدْخل بكليته فِيهِ، وَيُقَال: وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف أَي: على ضعف، كالقائم على حرف الشَّيْء يكون قدمه ضَعِيفا غير مُسْتَقر، وَمِنْهُم من قَالَ: على

{فَإِن أَصَابَهُ خير اطْمَأَن بِهِ وَإِن أَصَابَته فتْنَة انْقَلب على وَجهه خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين (11) يَدْعُو من دون الله مَا لَا يضرّهُ وَمَا لَا يَنْفَعهُ ذَلِك} حرف أَي: على جِهَة، ثمَّ فسر الْجِهَة فَقَالَ: {فَإِن أَصَابَهُ خير اطْمَأَن بِهِ} أَي: ثَبت على الْإِيمَان، وَرَضي بِهِ، وَسكن إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَإِن أَصَابَته فتْنَة} أَي: محنة وبلية. وَقَوله: {انْقَلب على وَجهه} أَي: رَجَعَ على عقبه وارتد. وَقَوله: {خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} الخسران فِي الدُّنْيَا فَوَات مَا أمل وَطلب، والخسران فِي الْآخِرَة هُوَ الخلود فِي النَّار، وَيُقَال: الخسران فِي الدُّنْيَا هُوَ الْقَتْل على الْكفْر، والخسران فِي الْآخِرَة مَا بَينا، وَقَرَأَ مُجَاهِد: " خاسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ". وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين} أَي: الْبَين. قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين كَانَ يُؤمن أحدهم، فَإِن كثر مَاله، وَصَحَّ جِسْمه، ونتجت فرسه، قَالَ: هَذَا دين حسن، وَقد أصبت فِيهِ خيرا، وَسكن إِلَيْهِ، وَإِن أَصَابَهُ مرض أَو مَاتَ وَلَده، أَو قل مَاله، قَالَ: مَا أصابني من هَذَا الدّين إِلَّا شَرّ فَيرجع. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن رجلا من الْيَهُود أسلم فَعميَ بَصَره، وَهلك مَاله، وَمَات وَلَده، فَأتى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَقلنِي، فَقَالَ: إِن الْإِسْلَام لَا يُقَال، فَقَالَ: مُنْذُ دخلت فِي هَذَا الدّين لم أصب إِلَّا شرا؛ أصابني كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِي: " إِن الْإِسْلَام ليسبك الرجل، كَمَا تسبك النَّار خبث الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد ". وَالْخَبَر غَرِيب.

12

قَوْله تَعَالَى: {يَدْعُو من دون الله مَا لَا يضرّهُ وَمَا لَا يَنْفَعهُ} أَي: لَا يضر إِن لم

{هُوَ الضلال الْبعيد (12) يَدْعُو لمن ضره أقرب من نَفعه لبئس الْمولى ولبئس العشير (13) يعبده، وَلَا يَنْفَعهُ إِن عَبده. وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد} أَي: الضلال المستمر.

13

قَوْله تَعَالَى: {يَدْعُو لمن ضره أقرب من نَفعه} هَذِه الْآيَة من مشكلات الْقُرْآن، وفيهَا أسئلة: أَولهَا قَالَ: قَالُوا فِي الْآيَة الأولى: {مَا لَا يضرّهُ} وَقَالَ هَاهُنَا: {لمن ضره} . (فَكيف وَجه التَّوْفِيق؟ الْجَواب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {يَدْعُو لمن ضره} ) . أَي: لمن ضرّ عِبَادَته، وَقَوله فِي الْآيَة الأولى: {مَا لَا يضرّهُ} أَي: (لَا يضر) إِن ترك عِبَادَته على مَا بَينا. السُّؤَال الثَّانِي: قَالُوا: قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: {أقرب من نَفعه} وَالْجَوَاب: أَن هَذَا على عَادَة الْعَرَب، وهم يَقُولُونَ مثل هَذَا اللَّفْظ، ويريدون أَنه لَا نفع لَهُ أصلا، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك رَجَعَ بعيد} أَي: لَا رَجَعَ أصلا. السُّؤَال الثَّالِث: وَهُوَ الْمُشكل أَنه قَالَ: {لمن ضره} فأيش هَذَا الْكَلَام؟ الْجَواب: أَنه اخْتلف أهل النَّحْو فِي هَذَا، فَأكْثر النَّحْوِيين ذَهَبُوا إِلَى أَن هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَمَعْنَاهُ: يَدْعُو من بضره أقرب من نَفعه، وَأما الْمبرد أنكر هَذَا وَقَالَ: لَا يجوز هَذَا فِي اللُّغَة، وَالْجَوَاب عَن السُّؤَال على هَذَا: قَالَ بَعضهم: معنى {يَدْعُو} : يَقُول. قَالَ الشَّاعِر: (يدعونَ [عنترا] (وَالسُّيُوف) كَأَنَّهَا ... أشطان بِئْر فِي لبان الأدهم) يَعْنِي: يَقُولُونَ. فعلى هَذَا معنى الْآيَة: يَدْعُو أَي: يَقُول لمن ضره أقرب من نَفعه:

{إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار إِن الله يفعل مَا يُرِيد (14) من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فليمدد} هُوَ إِلَه أَو مولى، وَمِنْهُم من قَالَ: يَدْعُو لمن ضره يَعْنِي: إِلَى الَّذِي ضره أقرب من نَفعه، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد يَدْعُو أَي: فِي حَال دُعَائِهِ ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ: {لمن ضره أقرب من نَفعه لبئس الْمولى ولبئس العشير} ، وَمِنْهُم من قَالَ: ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد يَدْعُو يَعْنِي: الَّذِي هُوَ الضلال الْبعيد يَدْعُو، وَذَلِكَ بِمَعْنى " الَّذِي "، ثمَّ اسْتَأْنف قَوْله: {لمن ضره أقرب من نَفعه} اخْتَارَهُ الزّجاج. وَقَالَ ابْن فَارس حِين حكى أَكثر هَذِه الْأَقَاوِيل: وَنكل الْآيَة إِلَى عالمها. وَقَوله: {لبئس الْمولى} أَي: النَّاصِر، وَقيل: المعبود. وَقَوله: {ولبئس العشير} أَي: المخالط والصاحب، وَالْعرب تسمى الزَّوْج: عشيرا؛ لأجل المخالطة. قَالَ النَّبِي: " إنكن تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير " أَي: الزَّوْج.

14

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} الْآيَة إِلَى آخرهَا ظَاهر الْمَعْنى.

15

قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ من كَانَ يظنّ أَن لن ينصر الله مُحَمَّدًا. وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لما دَعَا رَسُول الله أسدا وغَطَفَان إِلَى الْإِسْلَام - وَكَانَ بَينهم وَبَين أهل الْكتاب حلف - فَقَالُوا: لَا يمكننا أَن نسلم ونقطع الْحلف؛ لِأَن مُحَمَّدًا رُبمَا لَا يظْهر وَلَا يغلب؛ فَيَنْقَطِع الْحلف بَيْننَا وَبَين أهل الْكتاب فَلَا يميروننا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله، أَي: لن يرزقه الله، وَهَذَا فِيمَن

{بِسَبَب إِلَى السَّمَاء ثمَّ ليقطع فَلْينْظر هَل يذْهبن كَيده مَا يغِيظ (15) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَات بَيِّنَات وَأَن الله يهدي من يُرِيد (16) إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالَّذين أشركوا إِن الله يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة إِن} أَسَاءَ الظَّن بربه، وَخَافَ أَن لَا يرزقه. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: تَقول الْعَرَب: أَرض منصورة أَي: ممطورة، وَعَن بعض الْأَعْرَاب أَنه سَأَلَ وَقَالَ: انصرني ينصرك الله أَي: أَعْطِنِي أَعْطَاك الله. وَقَوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء} المُرَاد من السَّمَاء: سَمَاء بَيته فِي قَول جَمِيع الْمُفَسّرين، وَهُوَ السّقف. وَالسَّبَب: الْحَبل، وَمَعْنَاهُ: فليمدد حبلا من سقف بَيته {ثمَّ ليقطع} أَي: ليختنق بِهِ. وَقَوله: {فَلْينْظر هَل يذْهبن كَيده مَا يغِيظ} أَي: هَل لَهُ حِيلَة فِيمَا يغيظه ليدفع عَن نَفسه؟ وَيُقَال: ثمَّ لينْظر هَل يَنْفَعهُ مَا فعله؟ . قَالَ أهل الْمعَانِي: وَهُوَ مثل قَوْله الْقَائِل: إِن لم ترض بِكَذَا فمت غيظا.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَات بَيِّنَات} الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.

17

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالَّذين أشركوا} قد بَينا هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة. وَقَوله: {إِن الله يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة} فَإِن قيل: مَا معنى إِعَادَة " إِن " فِي آخر الْآيَة، وَقد ذكرهَا فِي أول الْآيَة؟ وَالْجَوَاب: أَن الْعَرَب تَقول مثل هَذَا للتَّأْكِيد. قَالَ الشَّاعِر: (إِن الْخَلِيفَة إِن الله سربله ... سربال ملك بِهِ ترجى الخواتيم) وَقَوله: {إِن الله على كل شَيْء شَهِيد} أَي: شَاهد.

18

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض} الْآيَة، قَالَ الزّجاج: السُّجُود هَاهُنَا بِمَعْنى الطَّاعَة أَي: يطيعه، واستحسنوا هَذَا القَوْل؛ لِأَنَّهُ مُوَافق للْكتاب، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَأَيْضًا

{الله على كل شَيْء شَهِيد (17) ألم تَرَ أَن الله يسْجد لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَكثير من النَّاس وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب وَمن يهن الله فَمَا لَهُ من مكرم إِن الله يفعل مَا يَشَاء (18) } فَإِن من اعْتِقَاد أهل السّنة أَن الْحَيَوَان والموات مُطِيع كُله لله تَعَالَى، وَقَالَ بَعضهم: إِن سُجُود الْحِجَارَة هُوَ بِظُهُور أثر الصنع فِيهِ، على معنى أَنه يحمل على السُّجُود والخضوع لمن تَأمله وتدبر فِيهِ، وَهَذَا قَول فَاسد، وَالصَّحِيح مَا قدمنَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى وصف الْحِجَارَة بالخشية، فَقَالَ: {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} وَلَا يَسْتَقِيم حمل الخشية على ظُهُور أثر الْقُدْرَة فِيهِ، وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {يَا جبال أوبي مَعَه} أَي: سبحي مَعَه، وَلَو كَانَ المُرَاد ظُهُور أثر الصنع لم يكن لقَوْله: {مَعَ دَاوُد} معنى؛ لِأَن دَاوُد وَغَيره فِي رُؤْيَة أثر الصنع سَوَاء، وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} أَي: يُطِيع الله بتسبيحه {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} وَلَو كَانَ المُرَاد بالتسبيح ظُهُور أثر الصنع فِيهِ لم يستقم قَوْله: {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} ذكر هَذِه الدَّلَائِل أَبُو إِسْحَاق الزّجاج إِبْرَاهِيم بن السّري، وَأثْنى عَلَيْهِ ابْن فَارس فَقَالَ: ذب عَن الدّين وَنصر السّنة. وَقَوله: {وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب} أَي: هَذِه الْأَشْيَاء (كلهَا تسبح الله تَعَالَى) . وَقَوله: {وَكثير من النَّاس} أَي: الْمُسلمُونَ. وَقَوله: {وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب} هم الْكَافِرُونَ، وَإِنَّمَا حق عَلَيْهِم الْعَذَاب هَاهُنَا بترك السُّجُود، وَمعنى الْآيَة: وَكثير من النَّاس أَبُو السُّجُود فَحق عَلَيْهِم الْعَذَاب. وَقَوله: {وَمن يهن الله فَمَا لَهُ من مكرم} أَي: وَمن يشقي الله فَمَا لَهُ من مسعد، وَقَالَ بَعضهم: وَمن يهن الله: وَمن يذله الله، فَمَا لَهُ من إكرام أَي: لَا يُكرمهُ أحد.

{هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم فَالَّذِينَ كفرُوا قطعت لَهُم ثِيَاب من نَار يصب من} وَقَوله: {إِن الله يفعل مَا يَشَاء} أَي: يكرم ويهين، ويشقي ويسعد، بمشيئته وإرادته، وَهُوَ اعْتِقَاد أهل السّنة.

19

قَوْله تَعَالَى: {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا نزلت فِي أهل الْكتاب (وَالْمُسْلِمين، قَالَ أهل الْكتاب) : ديننَا خير من دينكُمْ، وَنحن أَحَق بِاللَّه مِنْكُم؛ لِأَن نَبينَا وَكِتَابنَا أقدم، وَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَحن أولى بِاللَّه مِنْكُم، وَدِيننَا خير من دينكُمْ؛ لِأَن كتَابنَا قَاض على الْكتب؛ وَلِأَن نَبينَا خَاتم النَّبِيين، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَهَذَا قَول قَتَادَة وَجَمَاعَة. وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن سيرن أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي الَّذين بارزوا يَوْم بدر من الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين، فالمسلمون هم: حَمْزَة، وَعلي، وَعبيدَة بن الْحَارِث، وَالْمُشْرِكُونَ هم: شيبَة بن ربيعَة، وَعتبَة بن ربيعَة، والوليد بن عتبَة، فالآية نزلت فِي هَؤُلَاءِ السِّتَّة، وَكَانَ أَبُو ذَر يقسم بِاللَّه أَن الْآيَة نزلت فِي هَؤُلَاءِ، ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة نزلت فِي جملَة الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا نزلت فِي الْجنَّة وَالنَّار اختصمتا، فَقَالَت الْجنَّة: خلقني الله؛ ليرحم بِي، وَقَالَت النَّار: خلقني الله؛ لينتقم بِي، وَهَذَا قَول عِكْرِمَة، وَالْمَعْرُوف الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: ذكر الله تَعَالَى سِتَّة أَجنَاس فِي قَوْله: {إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا} الْآيَة وَجعل خَمْسَة فِي النَّار وَوَاحِد للجنة فَقَوله: {هَذَانِ خصمان} ينْصَرف إِلَيْهِم، فالمؤمنون خصم، وَسَائِر الْخَمْسَة خصم. وَقَوله: {اخْتَصَمُوا فِي رَبهم} أَي: جادلوا فِي رَبهم. وَقَوله: {فَالَّذِينَ كفرُوا قطعت لَهُم ثِيَاب من نَار} أَي: نُحَاس مذاب، وَيُقَال:

{فَوق رُءُوسهم الْحَمِيم (19) يصهر بِهِ مَا فِي بطونهم والجلود (20) وَلَهُم مَقَامِع من حَدِيد (21) كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا من غم أعيدوا فِيهَا وذوقوا عَذَاب} سمى النَّار الَّتِي يُعَذبُونَ بهَا لباسا؛ لِأَنَّهَا تحيط بهم كإحاطة اللبَاس، وَقَالَ بَعضهم: يلبس أهل النَّار مقطعات من النَّار، وَهَذَا أولى الْأَقَاوِيل. وَقَوله: {يصب من فَوق رُءُوسهم الْحَمِيم} وَهُوَ المَاء الَّذِي انْتَهَت حرارته، وَفِي التَّفْسِير: أَن قَطْرَة مِنْهُ لَو وضعت على جبال الدُّنْيَا لأذابتها.

20

وَقَوله: {يصهر بِهِ} أَي: يذاب بِهِ، وَفِي الْأَخْبَار: أَنه يثقب رَأس الْكَافِر، وَيصب على دماغه الْحَمِيم، فيصل إِلَى جَوْفه، فتسليه جَمِيع مَا فِي جَوْفه. وَقَوله: {والجلود} أَي: ويذيب الْجُلُود وينضجها.

21

وَقَوله: {وَلَهُم مَقَامِع من حَدِيد} المقمعة هِيَ المرزبة من حَدِيد، وَيُقَال: هِيَ الْحِرْز من حَدِيد، وَقيل: إِن مقمعَة مِنْهَا لَو وضعت فِي الدُّنْيَا، وَاجْتمعَ الْإِنْس وَالْجِنّ عَلَيْهَا لم يقلوها.

22

وَقَوله: {كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا من غم} أَي: رجوا وَفِي التَّفْسِير: أَن النَّار تجيش بهم، فترفعهم إِلَى أَعْلَاهَا، فيريدون الْخُرُوج، فيضربهم الزَّبَانِيَة بالمقامع من الْحَدِيد، فيهوون فِيهَا سبعين خَرِيفًا. وَقَوله: {وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق} أَي: تَقول لَهُم الْمَلَائِكَة: ذوقوا عَذَاب الْحَرِيق.

23

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب} الأساور جمع السوار. وَقَوله: {من ذهب} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {ولؤلؤ} أَي: وَمن لُؤْلُؤ.

{الْحَرِيق (22) إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فِيهَا حَرِير (23) وهدوا إِلَى الطّيب من القَوْل وهدوا إِلَى صِرَاط الحميد (24) إِن الَّذين كفرُوا} وَقُرِئَ: " لؤلؤا " أَي: يحلونَ لؤلؤا. وَقَوله: {ولباسهم فِيهَا حَرِير} أَي: من الديباج، وروى شُعْبَة عَن خَليفَة بن كَعْب، عَن ابْن الزبير قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب يَقُول: قَالَ رَسُول الله " من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة، (وَمن لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة) ، لَا يدْخل الْجنَّة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {ولباسهم فِيهَا حَرِير} ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " وَلَو دخل الْجنَّة لم يلْبسهُ فِي الْجنَّة ".

24

وَقَوله: {وهدوا إِلَى الطّيب من القَوْل} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَيُقَال هُوَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَقيل: هُوَ قَول أهل الْجنَّة: {الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده} وَعَن قطرب: أَنه الْقُرْآن، وَيُقَال: هُوَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَقيل: هُوَ القَوْل الَّذِي يثنى بِهِ الْخلق، ويثيب عَلَيْهِ الْخَالِق. وَقَوله: {وهدوا إِلَى صِرَاط الحميد} أَي: صِرَاط الله، وصراط الله هُوَ الْإِسْلَام، وَيُقَال: إِلَى الْمنَازل الرفيعة.

25

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا ويصدون عَن سَبِيل الله} (تَقْدِير الْآيَة: إِن الْكَافرين والصادين عَن سَبِيل الله، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: إِن الَّذين كفرُوا فِيمَا تقدم

{ويصدون عَن سَبِيل الله وَالْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاس سَوَاء العاكف فِيهِ والباد وَمن يرد فِيهِ بإلحاد بظُلْم نذقه من عَذَاب أَلِيم (25) } ويصدون عَن سَبِيل الله) فِي الْحَال. وَقَوله: {وَالْمَسْجِد الْحَرَام} أَي: يصدون عَن الْمَسْجِد الْحَرَام. وَقَوله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاس} أَي: جَعَلْنَاهُ للنَّاس قبْلَة لصلاتهم، ومنسكا لحجهم. وَقَوله: {سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي} وَقُرِئَ: " سَوَاء العاكف فِيهِ والباد " بِالنّصب والتنوين، فَقَوله: {سَوَاء} بِالرَّفْع مَعْلُوم الْمَعْنى، وَقَوله: {سَوَاء} بِالنّصب أَي: سويتهم سَوَاء، وَقَوله: {العاكف فِيهِ والبادي} الْمُقِيم فِيهِ، والجائي. وَاخْتلفُوا أَن المُرَاد من هَذَا هُوَ جَمِيع الْحرم أَو الْمَسْجِد الْحَرَام؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ مَسْجِد الْحَرَام، وَهَذَا قَول الْحسن وَجَمَاعَة، وَمعنى التَّسْوِيَة هُوَ التَّسْوِيَة فِي تَعْظِيم الْكَعْبَة، وَفضل فِيهِ، وَفضل الطّواف وَسَائِر الْعِبَادَات وثوابها، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة جَمِيع الْحرم، وَمعنى التَّسْوِيَة: أَن الْمُقِيم بِمَكَّة والجائي من مَكَّة سَوَاء فِي النُّزُول، فَكل من وجد مَكَانا فَارغًا ينزل، إِلَّا أَنه لَا يزعج أحدا، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - ينْهَى النَّاس أَن يغلقوا أَبْوَابهم فِي زمَان الْمَوْسِم، وَفِي رِوَايَة: مَنعهم أَن يتخذوا الْأَبْوَاب فَاتخذ رجل بَابا فَضَربهُ بِالدرةِ، وَفِي الْخَبَر: أَن دور مَكَّة كَانَت تدعى السوائب، من شَاءَ سكن، وَمن اسْتغنى أسكن، وعَلى هَذَا القَوْل لَا يجوز بيع دور مَكَّة وإجارتها، وعَلى القَوْل الأول يجوز. وَقَوله: {وَمن يرد فِيهِ بإلحاد بظُلْم} (فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْبَاء زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: وَمن يرد فِيهِ إلحادا بظُلْم) قَالَ الشَّاعِر: ( [نَحن بني جعدة أَصْحَاب الفلج ... نضرب بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بالفرج] )

{وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت أَن لَا تشرك بِي شَيْئا وطهر بَيْتِي للطائفين والقائمين} أَي: تَدْعُو الْفَرح، وَهَذَا قَول الْفراء ونحاة الْكُوفَة، وَأما الْمبرد أنكر أَن تكون الْبَاء زَائِدَة وَقَالَ معنى الْآيَة: من يكون إِرَادَته فِيهِ بِأَن يلْحد بظُلْم، قَالَ الشَّاعِر: (أُرِيد لأنسى ذكرهَا فَكَأَنَّمَا ... تمثل لي ليلى بِكُل سَبِيل) وَمَعْنَاهُ: أَرَادَ فِي أَن أنسى. وَقَوله: {نذقه من عَذَاب أَلِيم} أَي: يُوصل إِلَيْهِ الْعَذَاب الْأَلِيم، وَأما الْإِلْحَاد فَهُوَ الْميل، يُقَال: لحد وألحد بِمَعْنى وَاحِد، وَمِنْهُم من قَالَ: ألحد إِذا جادل، ولحد إِذا عدل عَن الْحق، وَأما معنى الْإِلْحَاد هَا هُنَا، قَالَ بَعضهم: هُوَ الشّرك، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كل سَيِّئَة حَتَّى شتم الرجل غُلَامه، وَقَالَ عَطاء: الْإِلْحَاد فِي الْحرم هُوَ أَن يدْخل غير محرم، أَو يرتكب مَحْظُور الْحرم بِأَن يقتل صيدا، أَو يقْلع شَجَرَة. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى تَخْصِيص الْحرم بِهَذَا كُله؛ وكل من عمل سَيِّئَة، وَإِن كَانَ خَارج الْحرم اسْتحق الْعقُوبَة؟ . وَالْجَوَاب: مَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: من هم بخطيئة فِي غير الْحرم لم تكْتب عَلَيْهِ، وَمن هم بخطيئة فِي الْحرم كتب عَلَيْهِ، وَعنهُ أَنه قَالَ: وَإِن كَانَ بعدن أبين، وَمَعْنَاهُ: أَنه وَإِن كَانَ بَعيدا من الْحرم فَإِذا هم بخطيئة فِي الْحرم أَخذ بِهِ، وَهَذَا معنى الْإِرَادَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت} أَي: بَينا وَأَعْلَمنَا، وَإِنَّمَا ذكر {مَكَان الْبَيْت} ؛ لِأَن الْكَعْبَة رفعت إِلَى السَّمَاء من الطوفان، ثمَّ إِن الله تَعَالَى لما أَمر إِبْرَاهِيم بِبِنَاء الْبَيْت، بعث ريحًا خجوجا فكنس مَوضِع الْبَيْت حَتَّى أبدى عَن مَوضِع الْبناء. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن الله تَعَالَى بعث سَحَابَة بِقدر الْبَيْت فِيهَا رَأس تكلم فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيم، ابْن بقدري، فَهَذَا معنى قَوْله: {وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت} . وَقَوله: {أَلا تشرك بِي شَيْئا} يَعْنِي: وَقُلْنَا لَهُ: لَا تشرك بِي شَيْئا.

{والركع السُّجُود (26) وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر يَأْتِين من كل فج عميق (27) ليشهدوا مَنَافِع لَهُم ويذكروا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات} وَقَوله: {وطهر بَيْتِي للطائفين} أَي: الطائفين بِالْبَيْتِ. وَقَوله: {والقائمين} أَي المقيمين. {والركع السُّجُود} أَي: الْمُصَلِّين. وَقَوله: {وطهر بَيْتِي} أَي: ابْن بَيْتِي طَاهِرا.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ} وَقَرَأَ ابْن أبي إِسْحَاق: " بِالْحَجِّ " بخفض الْحَاء، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيع الْقُرْآن، وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - صعد الْمقَام، فارتفع الْمقَام حَتَّى صَار كأطول جبل فِي الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَة: صعد أَبَا قبيس ثمَّ نَادَى: يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله تَعَالَى كتب عَلَيْكُم الْحَج فأجيبوا ربكُم، فَأَجَابَهُ كل من يحجّ من أَرْحَام الْأُمَّهَات وأصلاب الْآبَاء، قَالَ ابْن عَبَّاس: وَأول من أَجَابَهُ أهل الْيمن، فهم أَكثر النَّاس حجا، فَالنَّاس يأْتونَ وَيَقُولُونَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، فَهُوَ إِجَابَة إِبْرَاهِيم، وَرُوِيَ أَن إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - لما أمره الله تَعَالَى بِدُعَاء النَّاس قَالَ: يَا رب، كَيفَ يبلغهم صوتي؟ قَالَ: عَلَيْك الدُّعَاء وَعلي التَّبْلِيغ. وَقَوله: {يأتوك رجَالًا} أَي: رجالة، وهم المشاة، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - حج أَرْبَعِينَ حجَّة مَاشِيا. وَقَوله: {وعَلى كل ضامر} أَي: وعَلى كل بعير ضامر، والضامر هُوَ المهزول، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا أتأسف على شَيْء، تأسفي أَنِّي لم أحج مَاشِيا؛ لِأَن الله تَعَالَى قدم المشاة على الركْبَان. وَقَوله: {يَأْتِين من كل فج عميق} أَي: من كل طَرِيق بعيد.

28

وَقَوله: {ليشهدوا مَنَافِع لَهُم} قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ: هِيَ الْمَغْفِرَة، وَقَالَ غَيره: مَنَافِع لَهُم أَي: التِّجَارَة، وَالْقَوْل الأول أحسن، وَيُقَال: مَنَافِع الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَقَوله: {ويذكروا اسْم الله عَلَيْهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَيَّام

{على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا البائس الْفَقِير (28) ثمَّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق (29) } المعلومات هِيَ الْعشْر، وَقَالَ عَليّ وَابْن عمر: هِيَ يَوْم النَّحْر وَثَلَاثَة أَيَّام بعده. وَقَوله: {على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} أَي: إِذا ذبحوها. وَقَوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} هَذَا أَمر إِبَاحَة، وَلَيْسَ بِأَمْر إِيجَاب، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَمر (ندب) ، وَيسْتَحب أَن يَأْكُل مِنْهَا. وَقَوله: {وأطعموا البائس الْفَقِير} البائس هُوَ الَّذِي اشْتَدَّ بؤسه، والبؤس: الْعَدَم، وَقيل: البائس هُوَ الَّذِي بِهِ زَمَانه، والفقر مَعْلُوم الْمَعْنى.

29

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ ليقضوا تفثهم} التفث هَا هُنَا هُوَ حلق الرَّأْس، وقلم الظفر ونتف الْإِبِط وَإِزَالَة الْوَسخ، وَقيل: إِن التفث هَا هُنَا رمي الْجمار، وَقَالَ الزّجاج: وَلَا يعرف التفث وَمَعْنَاهُ إِلَّا من الْقُرْآن، فَأَما قطرب حَكَاهُ عَن أهل اللُّغَة بِمَعْنى الْوَسخ. وَقَوله: {وليوفوا نذورهم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْوَفَاء بِمَا نَذره على ظَاهره، وَالْقَوْل الآخر: أَن مَعْنَاهُ الْخُرُوج عَمَّا وَجب عَلَيْهِ نذرا وَلم ينذر، وَالْعرب تَقول لكل من خرج عَن الْوَاجِب عَلَيْهِ: وفى بنذره. وَقَوله: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} هَذَا الطّواف هُوَ طواف الْإِفَاضَة، وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير. وَقَوله: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} فِي الْعَتِيق قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الله تَعَالَى أعْتقهُ عَن أَيدي الْجَبَابِرَة، فَلم يتسلط عَلَيْهِ جَبَّار، وَالثَّانِي: {الْعَتِيق} أَي: الْقَدِيم، وَهُوَ قَول الْحسن، وَفِي الْعَتِيق قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن معنى {الْعَتِيق} أَن الله تَعَالَى أعْتقهُ عَن الْغَرق أَيَّام الطوفان، وَهَذَا قَول مُعْتَمد يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت} فَلَمَّا قَالَ: {مَكَان الْبَيْت} دلّ أَن الْبَيْت رفع أَيَّام الطوفان.

{ذَلِك وَمن يعظم حرمات الله فَهُوَ خير لَهُ عِنْد ربه وَأحلت لكم الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم فاجتنوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور (30) }

30

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك وَمن يعظم حرمات الله} قَالَ مُجَاهِد: حرمات الله الْحَج وَالْعمْرَة، وَقَالَ عَطاء: حرمات الله مَا نهى عَنهُ، وَالْحُرْمَة كل مَا نهى عَن انتهاكها، قَالَ زيد بن أسلم: حرمات الله هَا هُنَا خَمْسَة: الْبَيْت الْحَرَام، والبلد الْحَرَام، والشهر الْحَرَام، وَالْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْإِحْرَام، وَقَالَ بَعضهم: تَعْظِيم حرمات الله أَن يفعل الطَّاعَة، وَيَأْمُر بهَا، وَيتْرك الْمعْصِيَة، وَينْهى عَنْهَا. وَقَوله: {فَهُوَ خير لَهُ عِنْد ربه} . مَعْنَاهُ: أَن تَعْظِيم الحرمات خير لَهُ عِنْد الله فِي الْآخِرَة. وَقَوله: {وَأحلت لكم الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} مَا يُتْلَى عَلَيْكُم هُوَ قَول الله تَعَالَى فِي سُورَة الْمَائِدَة: {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير} الْآيَة. وَقَوله: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} " من " هَا هُنَا للتجنيس، وَمَعْنَاهُ: اجتنبوا الْأَوْثَان الَّتِي هِيَ رِجْس، وَيُقَال: إِن الرجس وَالرجز هُوَ الْعَذَاب، وَمعنى قَوْله: {فَاجْتَنبُوا الرجس} أَي: اجتنبوا سَبَب الْعَذَاب. وَقَوله: {وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور} أَي: الْكَذِب، قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: أشهد لقد عدلت شَهَادَة الزُّور بالشرك، وتلا هَذِه الْآيَة: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور} . وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي.

{حنفَاء لله غير مُشْرِكين بِهِ وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء فتخطفه الطير أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق (31) ذَلِك وَمن يعظم شَعَائِر الله فَإِنَّهَا من تقوى} وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَول الزُّور هُوَ الشّرك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَول الزُّور هُوَ تلبيتهم: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لَا شريك لَك إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك تملكه وَمَا ملك.

31

وَقَوله: {حنفَاء لله غير مُشْرِكين بِهِ} . قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَت قُرَيْش يَقُولُونَ: من حج واحتنف وضحى، فَهُوَ حنيف، فَقَالَ الله تَعَالَى: {حنفَاء لله غير مُشْرِكين بِهِ} يَعْنِي أَن (الحنيفة) إِنَّمَا يتم بترك الشّرك، وَمن أشرك لَا يكون حَنِيفا، وَقد بَينا معنى الحنيف من قبل. وَقَوله: {وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء} أَي: سقط من السَّمَاء، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن بعض الصَّحَابَة أَنه قَالَ: " بَايَعت رَسُول الله أَن لَا أخر إِلَّا مُسلما " أَي: لَا أسقط مَيتا إِلَّا مُسلما. وَقَوله: {فتخطفه الطير} أَي: تسلبه الطير وَتذهب بِهِ. وَقَوله: {أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق} . أَي: تسْقط بِهِ الرّيح فِي مَكَان بعيد، وَمعنى الْآيَة: أَن من أشرك فقد هلك، وَبعد عَن الْحق بعدا لَا يصل إِلَيْهِ بِحَال مَا دَامَ مُشْركًا.

32

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك وَمن يعظم شَعَائِر الله} فِي الشعائر قَولَانِ: قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الْبدن، وتعظيمها استسمانها واستحسانها، وَعَن عَطاء: أَن شَعَائِر الله هِيَ الْجمار، وَعَن [زيد] بن أسلم قَالَ: شَعَائِر الله: الصَّفَا والمروة، والركن، وَالْبَيْت،

{الْقُلُوب (32) لكم فِيهَا مَنَافِع إِلَى أجل مُسَمّى ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق (33) وَلكُل أمة جعلنَا منسكا} وعرفة، والمشعر الْحَرَام، والجمار، وَقَالَ بَعضهم: شَعَائِر الله: معالم دينه. وَقَوله: {فَإِنَّهَا من تقوى الْقُلُوب} أَي: هَذِه الفعلة، وَهِي التَّعْظِيم من تقوى الْقُلُوب.

33

وَقَوله: {لكم فِيهَا مَنَافِع} قَالَ عُرْوَة بن الزبير: يَعْنِي الْمَنَافِع من الْبدن قبل النَّحْر، وَذَلِكَ ركُوبهَا وَالشرب من لَبنهَا، وَغير ذَلِك، وَقَالَ مُجَاهِد: الْمَنَافِع الَّتِي فِيهَا قبل أَن يُسمى للهدي، فَإِذا سميت للهدي فَلَا ينْتَفع بهَا، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَطَائِفَة من الصَّحَابَة، وَالْقَوْل الأول اخْتَارَهُ الشَّافِعِي - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - استدلوا (على صِحَة القَوْل) الأول بِمَا رُوِيَ: أَن النَّبِي رأى رجلا يَسُوق بَدَنَة، فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَة، فَقَالَ: اركبها وَيلك. وَقَوله: {إِلَى أجل مُسَمّى} على القَوْل الأول: الْأَجَل الْمُسَمّى هُوَ النَّحْر، وعَلى القَوْل الثَّانِي: الْأَجَل الْمُسَمّى تَسْمِيَتهَا بَدَنَة، وَأما إِذا حملنَا الشعائر على غير الْبدن فَقَوله: {لكم فِيهَا [مَنَافِع] } ينْصَرف إِلَى مَا ذكر الله تَعَالَى من الثَّوَاب فِي تَعْظِيم الشعائر الَّتِي ذَكرنَاهَا. وَقَوله: {ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} الْمحل هَا هُنَا هُوَ وَقت النَّحْر ومكانه. وَقَوله: {إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} قد بَينا.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَلكُل أمة جعلنَا منسكا} قَالَ ابْن عَبَّاس: عيدا، وَقَالَ غَيره:

{لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام فإلهكم إِلَه وَاحِد فَلهُ أَسْلمُوا وَبشر المخبتين (34) الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَالصَّابِرِينَ على مَا أَصَابَهُم والمقيمي الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (35) وَالْبدن جعلناها لكم من} مذبحا، وَيُقَال: متعبدا. وَقَوله: {لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} يَعْنِي: لِيذكرُوا اسْم الله تَعَالَى على نحر مَا رزقهم الله من بَهِيمَة الْأَنْعَام. وَقَوله: {فإلهكم إِلَه وَاحِد} يَعْنِي: سموا على الذَّبَائِح اسْم الله تَعَالَى وَحده، فَإِن إِلَهكُم إِلَه وَاحِد. وَقَوله: {فَلهُ أَسْلمُوا} أَي: فَلهُ أَخْلصُوا. وَقَوله: {وَبشر المخبتين} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى المتواضعين، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: بِمَعْنى المخلصين، وَقَالَ غَيره: بِمَعْنى الصَّالِحين، وَيُقَال: بِمَعْنى الْمُسلمين، وَعَن عَمْرو بن أَوْس قَالَ: هم الَّذين لَا يظْلمُونَ، وَإِذا ظلمُوا لم ينتصروا، وَذكر الْكَلْبِيّ أَن المخبتين هم الرقيقة قُلُوبهم، والخبت هُوَ الْمَكَان المطمئن من الأَرْض، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس شعرًا: (فَلَمَّا أجزنا ساحة الْحَيّ وانتحى ... بِنَا بطن خبت ذِي خفاف عقنقل)

35

وَقَوله: {الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} أَي: خَافت قُلُوبهم. وَقَوله: {وَالصَّابِرِينَ على مَا أَصَابَهُم} أَي: وَبشر الصابرين على مَا أَصَابَهُم. وَقَوله: {والمقيمي الصَّلَاة} أَي: المقيمين للصَّلَاة. وَقَوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَالْبدن جعلناها لكم من شَعَائِر الله} الْبدن جمع الْبَدنَة، وَسميت الْبَدنَة لضخامتها، وَالْبَعِير وَالْبَقر يُسمى: بَدَنَة، فَأَما الْغنم لَا تسمى بَدَنَة. وَقَوله: {جعلناها لكم من شَعَائِر الله} قد بَينا، وَمَعْنَاهُ: من أَعْلَام دين الله، وَسمي الْبدن شَعَائِر؛ لِأَنَّهَا تشعر، وإشعارها هُوَ أَن تطعن فِي سنامها على مَا هُوَ

{شَعَائِر الله لكم فِيهَا خير فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف فَإِذا وَجَبت جنوبها فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا القانع والمعتر كَذَلِك سخرناها لكم لَعَلَّكُمْ تشركون (36) لن ينَال} الْمَعْرُوف فِي الْفِقْه، وَفِي الْآثَار: أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - حج آخر حجَّة فِي آخر سنة، فَكَانَ يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة، فأصابت جَمْرَة صلعته فَسَالَ الدَّم مِنْهَا، فَقَالَ رجل: أشعر أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة قتل. وَقَوله: {لكم فِيهَا خير} قد بَينا. وَقَوله: {فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف} وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ: " صوافي "، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَرَأَ: " صَوَافِن "، وَالْمَعْرُوف {صواف} وَمَعْنَاهُ: مصطفة، وَأما " صوافي " مَعْنَاهُ: خَالِصَة، وَأما " صَوَافِن " فَهُوَ أَن يُقَام على ثَلَاث قَوَائِم، وَيعْقل يَده الْيُسْرَى، وَهَذَا هُوَ الصفون. قَالَ الشَّاعِر: (ألف الصفون فَمَا يزَال كَأَنَّهُ ... مِمَّا يقوم على الثَّلَاث كسير) وَقَوله: {فَإِذا وَجَبت جنوبها} أَي: سَقَطت على جنوبها. وَقَوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} قد بَينا. وَقَوله: {وأطعموا القانع والمعتر} الْمَعْرُوف أَن القانع هُوَ السَّائِل، والمعتر هُوَ الَّذِي يتَعَرَّض وَلَا يسْأَل، قَالَ مَالك: أحسن مَا سَمِعت فِي هَذَا أَن القانع هُوَ المعتر والمعتر، الرَّائِي، قَالَ الشَّاعِر: (على مكثريهم حق من يعتريهم ... وَعند المقلين السماحة والبذل) وَيُقَال: القانع هُوَ الَّذِي يقنع بِمَا أعطي، وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول أَن القانع هُوَ السَّائِل، وَيُقَال: الْمِسْكِين الطّواف. وَقَوله: {كَذَلِك سخرناها لكم} أَي: ذللناها لكم. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تشكرون} ظَاهر الْمَعْنى.

37

قَوْله تَعَالَى: {لن ينَال الله لحومها وَلَا دماؤها} رُوِيَ أَن الْمُشْركين كَانُوا إِذا

{الله لحومها وَلَا دماؤها وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم كَذَلِك سخرها لكم لتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ وَبشر الْمُحْسِنِينَ (37) إِن الله يدافع عَن الَّذين آمنُوا إِن الله لَا يحب كل خوان كفور (38) أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَإِن الله على نَصرهم} ذَبَحُوا، أنضحوا بِالدَّمِ حول الْبَيْت، فَأَرَادَ الْمُسلمُونَ أَن يَفْعَلُوا مثل ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {لن ينَال الله لحومها وَلَا دماؤها وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم} ، وَمَعْنَاهُ: لَا يصل الدَّم وَاللَّحم إِلَى الله تَعَالَى؛ وَإِنَّمَا تصل التَّقْوَى، وَقيل: لَا تصل الدِّمَاء واللحوم إِلَّا بالتقوى، وَيُقَال: لَا يرضى إِلَّا بالتقوى. وَقَوله: {كَذَلِك سخرها لكم} أَي: ذللناها لكم. وَقَوله: {لتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} مَعْنَاهُ: لتعظموا الله على مَا هدَاكُمْ. وَقَوله: {وَبشر الْمُحْسِنِينَ} قد بَينا معنى الْمُحْسِنِينَ من قبل.

38

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يدافع عَن الَّذين آمنُوا} وقرىء: " يدْفع "، والمدافعة عَنْهُم بحفظهم ونصرتهم، وَيُقَال: يدافع الْكفَّار عَن الَّذين آمنُوا، وَيُقَال: يدافع الْمُؤمنِينَ وساوس الشَّيْطَان وهواجس النُّفُوس، وَيُقَال: يدافع عَن الْجُهَّال بالعلماء، وَعَن العصاة بالمطيعين. وَقَوله: {إِن الله لَا يحب كل خوان كفور} الخوان هُوَ كثير الْخِيَانَة، والكفور هُوَ الَّذِي كفر النِّعْمَة.

39

قَوْله تَعَالَى: {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذِه أول آيَة نزلت فِي إِبَاحَة الْقِتَال، وَقد رَوَاهُ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وقرىء: " أذن للَّذين يُقَاتلُون " بِنصب الْألف وَالتَّاء، وَإِنَّمَا ذكر " أُذن " و " أَذن " بِالرَّفْع وَالنّصب؛ " لِأَن الْمُسلمين قبل الْهِجْرَة كَانُوا قد اسْتَأْذنُوا من النَّبِي أَن يقاتلوا الْكفَّار فَلم يَأْذَن لَهُم، فَلَمَّا هَاجرُوا إِلَى الْمَدِينَة أنزل الله تَعَالَى آيَات الْقِتَال ".

{لقدير (39) الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا الله وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لهدمت صوامع وَبيع وصلوات ومساجد يذكر فِيهَا اسْم} {ظلمُوا} أَي: لأَنهم ظلمُوا. وَقَوله: {وَإِن الله على نَصرهم لقدير} أَي: قَادر.

40

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق} أَي: ظلما. وَقَوله: {إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا الله} قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن أخرجُوا؛ لأَنهم قَالُوا: رَبنَا الله، وَقَالَ بَعضهم: لَكِن أخرجُوا لتوحيدهم. وَقَوله: {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض} القَوْل الْمَعْرُوف أَن الدّفع هَاهُنَا هُوَ دفع الْمُجَاهدين عَن الدّين، وَعَن سَائِر الْمُسلمين، وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: عَمَّن لَا يُصَلِّي بالمصلى، وَعَمن لَا يُجَاهد بالمجاهد، وَعَمن لَا يعلم بِمن يعلم. وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: هَذَا هُوَ الدّفع عَن التَّابِعين بأصحاب رَسُول الله، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الدّفع عَن الْحُقُوق بالشهود، وَعَن قطرب - واسْمه مُحَمَّد بن الْحُسَيْن - قَالَ: هُوَ الدّفع عَن النُّفُوس بِالْقصاصِ. وَقَوله: {لهدمت صوامع وَبيع} أَي: صوامع الرهبان، وَبيع النَّصَارَى، {وصلوات} الْيَهُود أَي: مَوَاضِع صلَاتهم، وقرىء: " وصلوات " بِرَفْع الصَّاد وَاللَّام قِرَاءَة عَاصِم الجحدري، وَعَن الضَّحَّاك أَنه قَرَأَ: " وصُلوات ". وَقَوله: {ومساجد} أَي: مَسَاجِد الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ بَعضهم: الصوامع لِلنَّصَارَى، وَالْبيع للْيَهُود، والصلوات هِيَ الْمَسَاجِد فِي الطّرق للمسافرين من الْمُؤمنِينَ، وَأما الْمَسَاجِد هِيَ الْمَسَاجِد فِي الْأَمْصَار. وَقَالَ بَعضهم: الصوامع للصابئين، وَالْبيع لِلنَّصَارَى، والصلوات للْيَهُود، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذِه الْمَوَاضِع الَّتِي للْكفَّار يَنْبَغِي أَن تهدم، فَكيف قَالَ: لهدمت؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى الْآيَة: لَوْلَا دفع الله لهدمت هَذِه الْمَوَاضِع فِي زمَان كل نَبِي؛ فهدمت الصوامع فِي زمن مُوسَى، وَالْبيع فِي زمن عِيسَى، والصلوات فِي زمن دَاوُد وَغَيره، والمساجد

{الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز (40) الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور (41) وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود (42) وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط (43) وَأَصْحَاب مَدين وَكذب مُوسَى فأمليت للْكَافِرِينَ ثمَّ أخذتهم فَكيف كَانَ نَكِير (44) فكأين من قَرْيَة أهلكناها وَهِي ظالمة فَهِيَ خاوية} فِي زمن مُحَمَّد. وَقَوله: {يذكر فِيهَا اسْم الله كثيرا} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {ولينصرين الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز} ظَاهر الْمَعْنى.

41

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض} هَذِه الْآيَة تَنْصَرِف إِلَى قَوْله: {ولينصرن الله من ينصره} . وَقَوله: {أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر} الْآيَة نازلة فِي هَذِه الْأمة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْآيَة نزلت فِي طلقاء من بني هَاشم، وَهَذَا قَول غَرِيب. وَقَوله: {وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور} أَي: عواقب الْأُمُور.

42

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح} أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِي تَعْزِيَة النَّبِي وتسليته، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِن كَذبُوك قَوْمك {فقد كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط وَأَصْحَاب مَدين وَكذب مُوسَى} يَعْنِي: أَن هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء قد كذبُوا أَيْضا. وَقَوله: {فأمليت للْكَافِرِينَ} أَي: أمهلت للْكَافِرِينَ، والإمهال من الله هُوَ الاستدراج وَالْمَكْر. وَقَوله: {ثمَّ أخذتهم فَكيف كَانَ نَكِير} أَي: إنكاري، وإنكاره بالعقوبة.

45

قَوْله: {فكأين من قَرْيَة أهلكناها} أَي: فكم من قَرْيَة أهلكناها.

{على عروشها وبئر معطلة وَقصر مشيد (45) } وَقَوله: {وَهِي ظالمة} أَي: أَهلهَا ظَالِمُونَ. وَقَوله: {فَهِيَ خاوية على عروشها} أَي: سَاقِطَة على سقوفها، والخاوية فِي اللُّغَة هِيَ الخالية، وَذكر الخاوية هَاهُنَا؛ لِأَن الدّور إِذا سَقَطت خلت عَن أَهلهَا. وَقَوله: {وبئر معطلة} . وَقَوله: {وَقصر مشيد} أَي: وَكم من قصر مشيد ذهب أهلوه، وهلكوا. وَفِي المشيد قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المشيد هُوَ المطول، وَالْآخر: أَن المشيد هِيَ الْمَبْنِيّ بالشيد، والشيد هُوَ الجص، قَالَ الشَّاعِر: (شاده مرما وجلله كلسا ... فللطير فِي ذراه وكور) وَقَالَ بَعضهم: إِن الْبِئْر المعطلة وَالْقصر المشيد بِالْيمن، أما الْقصر على قلَّة جبل، وَأما الْبِئْر فِي سفحه، وَكَانَ لكل وَاحِد مِنْهُمَا قوم فِي نعْمَة عَظِيمَة، فَكَفرُوا فأهلكهم الله تَعَالَى، وَبَقِي الْبِئْر وَالْقصر خاليتين عَن الْكل، وَحكي أَن سُلَيْمَان بن دَاوُد - صلوَات الله عَلَيْهِمَا - كَانَ إِذا مر بخربة قَالَ: أيتها الخربة، أَيْن ذهب أهلوك؟ وَعَن أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ فِي خطبَته: أَيْن الَّذين بنوا الْمَدَائِن ورفعوها؟ وَأَيْنَ الَّذين بنوا الْقصر وشيدوها؟ وَأَيْنَ الَّذين جمعُوا الْأَمْوَال؟ ثمَّ يقْرَأ {هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا} فَإِن قَالَ قَائِل: أيش فَائِدَة ذكر الْبِئْر المعطلة وَالْقصر المشيد، وَفِي الْعَالم من هَذَا كثير، فَلَا يكون لذكر هَذَا فَائِدَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه قد جرت عَادَة الْعَرَب بِذكر الديار للاعتبار، وَقد ذكرُوا مثل هَذَا كثيرا فِي أشعارهم، فَكَذَلِك هَاهُنَا ذكر الله تَعَالَى الْقُصُور الخالية والديار [المعطلة] ؛ ليعتبر المعتبرون بذلك. قَالَ الْأسود بن يعفر: (مَاذَا أومل بعد آل محرق ... تركُوا مَنَازِلهمْ وَبعد إياد)

{أفلم يسروا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا أَو آذان يسمعُونَ بهَا فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور (46) ويستعجلونك بِالْعَذَابِ} (أهل الخورنق والسرير وبارق ... وَالْقصر ذِي الشرفات من سداد) (نزلُوا بأنقرة يسيل عَلَيْهِم ... مَاء الْفُرَات يَجِيء من أطواد) (وَأرى النَّعيم وكل مَا يلهى بِهِ ... يَوْمًا يصير إِلَى بلَى ونفاد)

46

قَوْله تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا} أَي: يعلمُونَ بهَا، وَيُقَال: إِن الْعقل علم غريزي، وَاسْتدلَّ من قَالَ: إِن مَحَله الْقلب بِهَذِهِ الْآيَة. وَقَوله: {أَو آذان يسمعُونَ بهَا} يَعْنِي: مَا يذكر لَهُم من أَخْبَار الْقُرُون الْمَاضِيَة فيعتبروا بهَا. وَقَوله: {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار} وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا إِن الْعَمى عمى الْقلب ". وَقَالَ بَعضهم: عينان فِي الْوَجْه وعينان فِي الْقلب؛ فالعينان فِي الْوَجْه للنَّظَر، والعينان فِي الْقلب للاعتبار، وَعَن قَتَادَة أَنه قَالَ: الْبَصَر الظَّاهِر بلغَة وَمَنْفَعَة، وَأما بصر الْقلب فَهُوَ الْبَصَر النافع. وَقَوله: {وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} مَعْنَاهُ: أَن الْعَمى الضار هُوَ عمى الْقُلُوب، وَأما عمى الْبَصَر فَلَيْسَ بضار فِي أَمر الدّين، وَمن الْمَعْرُوف فِي كَلَام النَّاس: لَيْسَ الْأَعْمَى من عمي بَصَره، وَإِنَّمَا الْأَعْمَى من عيت بصيرته. وَحكي عَن ابْن عَبَّاس [أَنه] دخل على مُعَاوِيَة بَعْدَمَا عمي، وَكَانَ أَبوهُ قد عمي

{وَلنْ يخلف الله وعده وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ (47) وكأين من قَرْيَة أمليت لَهَا وَهِي ظالمة ثمَّ أَخَذتهَا وإلي الْمصير (48) قل يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا أَنا} فِي آخر عمره، وَكَذَلِكَ جده عبد الْمطلب، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: مَا لكم يَا بني هَاشم، تصابون فِي أبصاركم؟ فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: وَمَا لكم يَا بني أُميَّة، تصابون فِي بصائركم. وَقَوله: {تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} هَاهُنَا على طَرِيق التَّأْكِيد مثل قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ بأفواههم} وَمثل قَول الْقَائِل: نظرت بعيني ومشيت بقدمي.

47

قَوْله تَعَالَى: {ويستعجلونك بِالْعَذَابِ وَلنْ يخلف الله وعده} نزلت الْآيَة فِي النَّضر بن الْحَارِث حِين قَالَ: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} الْآيَة. وَقَوله: {وَلنْ يخلف الله وعده} أَي: وعد الْعَذَاب. وَقَوله: {وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَإِن يَوْمًا من الْأَيَّام الَّتِي خلق فِيهَا الدُّنْيَا كألف سنة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: وَإِن يَوْمًا من أَيَّام عَذَابهمْ كألف سنة {مِمَّا تَعدونَ} وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ الأولى؛ لِأَنَّهُ قد سبق ذكر الْعَذَاب.

48

قَوْله تَعَالَى: {وكأين من قَرْيَة أمليت لَهَا} أَي: أمهلت لَهَا. وَقَوله: {وَهِي ظالمة} يَعْنِي: أَهلهَا ظَالِمُونَ. وَقَوله: {ثمَّ أَخَذتهَا وإلي الْمصير} أَي: الْمرجع.

49

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا أَنا لكم نَذِير مُبين} أَي: مُنْذر مرشد.

50

وَقَوله: {فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة ورزق كريم} الرزق الْكَرِيم هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَطِع أبدا، وَقيل: هُوَ الْجنَّة.

51

وَقَوله: {وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين} أَي: معاندين مشاقين، وقرىء: " معجزين " أَي: مثبطين النَّاس عَن اتِّبَاع النَّبِي، وَيُقَال: ظانين أَنهم يعجزوننا بزعمهم أَن لَا بعث، وَلَا جنَّة، وَلَا نَار، وَمعنى يعجزوننا أَي: يفوتون منا. وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم} أَي: النَّار، والجحيم عبارَة عَن مُعظم النَّار.

{لكم نَذِير مُبين (49) فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (50) وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (51) وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقِي}

52

وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وَلَا مُحدث " قَالَ الشَّيْخ الإِمَام - رَضِي الله عَنهُ - أخبرنَا بِهَذَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن [فراس] قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد المقرىء، عَن جده مُحَمَّد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ هَكَذَا. فَقَوله: " وَلَا مُحدث " يَعْنِي: ملهم، كَأَن الله حَدثهُ فِي قلبه، وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " قد كَانَ فِي الْأُمَم السَّابِقَة محدثون، فَإِن يكن فِي أمتِي مِنْهُم أحد، فَهُوَ عمر ". وَأما الْكَلَام فِي الرَّسُول وَالنَّبِيّ، فَقَالَ بَعضهم: هما سَوَاء، وَفرق بَعضهم بَينهمَا فَقَالَ: الرَّسُول هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - بِالْوَحْي، وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ الْوَحْي فِي الْمَنَام، أَو يلهم إلهاما، وَمِنْهُم من قَالَ: الرَّسُول الَّذِي لَهُ شَرِيعَة يحفظها، وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي بعث على شَرِيعَة غَيره فيحفظها، وَقد قَالُوا: كل رَسُول نَبِي، وَلَيْسَ كل نَبِي برَسُول. وَقَوله: {إِلَّا إِذا تمنى} الْأَكْثَرُونَ على أَن مَعْنَاهُ: إِذا قَرَأَ: {ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} أَي: فِي قِرَاءَته، قَالَ الشَّاعِر فِي عُثْمَان: (تمنى كتاب الله أول لَيْلَة ... وَآخِرهَا لَاقَى حمام المقادر) أَي: تَلا، وَقَالَ بَعضهم: تمنى هُوَ حَدِيث النَّفس، والقصة فِي الْآيَة: هُوَ مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَسَعِيد بن جُبَير، وَالزهْرِيّ، وَالضَّحَّاك، وَغَيرهم أَن

النَّبِي قَرَأَ سُورَة " والنجم " فِي صلَاته، وَعِنْده الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَيُقَال: قَرَأَ فِي الصَّلَاة، فَلَمَّا بلغ قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه: " تِلْكَ الغرانيق العلى وَإِن شفاعتهن لترتجى " وَمر فِي السُّورَة حَتَّى سجد فِي آخرهَا، ففرح الْمُشْركُونَ وسروا، وَقَالُوا: قد ذكر آلِهَتنَا بِخَير، وَلَا نُرِيد إِلَّا هَذَا، وسجدوا مَعَه. قَالَ ابْن مَسْعُود: وَلم يسْجد الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَرفع تُرَابا إِلَى جَبهته، وَقَالَ: سجدت - وَكَانَ شَيخا كَبِيرا - قَالَ: فجَاء جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَالَ: اقْرَأ عَليّ سُورَة " والنجم " فَقَرَأَ، وَألقى الشَّيْطَان على لِسَانه هَكَذَا، فَقَالَ: هَذَا لم آتٍ بِهِ، وَأخرجه من قِرَاءَته، فَحزن رَسُول الله حزنا شَدِيدا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة عَلَيْهِ: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} . فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز هَذَا على النَّبِي، وَقد كَانَ مَعْصُوما من الْغَلَط فِي أصل الدّين؟ وَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} ، وَقَالَ الله تَعَالَى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} أَي: إِبْلِيس؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: اخْتلفُوا فِي الْجَواب عَن هَذَا، قَالَ بَعضهم: إِن هَذَا أَلْقَاهُ بعض الْمُنَافِقين فِي قِرَاءَته، وَكَانَ الْمُنَافِق هُوَ القارىء فَظن الْمُشْركُونَ أَن الرَّسُول قَرَأَ، وسمى ذَلِك الْمُنَافِق شَيْطَانا؛ لِأَن كل كَافِر متمرد بِمَنْزِلَة الشَّيْطَان، وَهَذَا جَوَاب ضَعِيف.

{الشَّيْطَان ثمَّ يحكم الله آيَاته وَالله عليم حَكِيم (52) ليجعل مَا يلقِي الشَّيْطَان فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم مرض والقاسية قُلُوبهم وَإِن الظَّالِمين لفي شقَاق بعيد (53) } وَمِنْهُم من قَالَ: إِن الرَّسُول لم يقْرَأ، وَلَكِن الشَّيْطَان ذكر هَذَا بَين قِرَاءَة النَّبِي، وَسمع الْمُشْركُونَ ذَلِك، وظنوا أَن الرَّسُول قَرَأَ، وَهَذَا اخْتِيَار الْأَزْهَرِي وَغَيره. وَقَالَ بَعضهم: إِن الرَّسُول أغفأ إغفأة ونعس، فَجرى على لِسَانه هَذَا، وَلم يكن بِهِ خبر بإلقاء الشَّيْطَان، وَهَذَا قَول قَتَادَة، وَأما الْأَكْثَرُونَ من السّلف ذَهَبُوا إِلَى أَن هَذَا شَيْء جرى على لِسَان الرَّسُول بإلقاء الشَّيْطَان من غير أَن يعْتَقد، وَذَلِكَ محنة وفتنة من الله (وَعَادَة) ، وَالله تَعَالَى يمْتَحن عباده بِمَا شَاءَ، ويفتنهم بِمَا يُرِيد، وَلَيْسَ عَلَيْهِ اعْتِرَاض لأحد وَقَالُوا: إِن هَذَا وَإِن كَانَ غَلطا عَظِيما، فالغلط يجوز على الْأَنْبِيَاء، إِلَّا أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ. وَعَن بَعضهم: أَن شَيْطَانا يُقَال لَهُ: الْأَبْيَض عمل هَذَا الْعَمَل، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه تصور بِصُورَة جِبْرِيل، وَأدْخل فِي قِرَاءَته هَذَا، وَالله أعلم. وَقَوله: {فَينْسَخ الله مَا يلقِي الشَّيْطَان} أَي: يزِيل الله مَا يلقِي الشَّيْطَان. وَقَوله: {ثمَّ يحكم الله آيَاته} أَي: يثبت الله آيَاته. وَقَوله: {وَالله عليم حَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

53

قَوْله تَعَالَى: {ليجعل مَا يلقِي الشَّيْطَان فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم مرض} أَي: محنة وبلية. وَقَوله: {والقاسية قُلُوبهم} أَي: الجافة قُلُوبهم عَن قبُول الْحق. وَقَوله: {وَإِن الظَّالِمين لفي شقَاق بعيد} أَي: فِي ظلال طَوِيل، وَقيل: مُسْتَمر، وَهُوَ الْأَحْسَن.

{وليعلم الَّذين أُوتُوا الْعلم أَنه الْحق من رَبك فيؤمنوا بِهِ فتخبت لَهُ قُلُوبهم وَإِن الله لهاد الَّذين آمنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (54) وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا فِي مرية مِنْهُ}

54

قَوْله تَعَالَى: {وليعلم الَّذين أُوتُوا الْعلم أَنه الْحق من رَبك} يَعْنِي: مَا أثْبته وَلم ينسخه. وَقَوله: {فيؤمنوا بِهِ} (أَي: يَعْتَقِدُونَ بِهِ من قبل الله تَعَالَى) . وَقَوله: {فتخبت لَهُ قُلُوبهم} أَي: تسكن إِلَيْهِ قُلُوبهم. وَقَوله: {وَإِن الله لهادي الَّذين آمنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: إِلَى طَرِيق قويم، وَهُوَ الْإِسْلَام.

55

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا فِي مرية مِنْهُ} أَي: فِي شكّ مِنْهُ. وَقَوله: {حَتَّى تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة} قيل: هِيَ الْمَوْت، وَقيل: هِيَ الْقِيَامَة. وَقَوله: {أَو يَأْتِيهم عَذَاب يَوْم عقيم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْيَوْم الْعَقِيم هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْيَوْم الْعَقِيم هُوَ يَوْم بدر، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: أَربع آيَات فِي يَوْم بدر: أَحدهَا: هُوَ قَوْله: {عَذَاب يَوْم عقيم} ، وَالْآخر: قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} ، وَالثَّالِث: قَوْله تَعَالَى: {فَسَوف يكون لزاما} ، وَالرَّابِع: قَوْله تَعَالَى: {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر} . فالقتل يَوْم بدر هُوَ الْعَذَاب الْأَدْنَى، وَأما الْعَقِيم فِي اللُّغَة هُوَ الْمَنْع، يُقَال: رجل عقيم، وَامْرَأَة عقيم إِذا منعا من الْوَلَد، وريح عقيم إِذا لم تمطر، وَيَوْم عقيم إِذا لم يكن فِيهِ خير وَلَا بركَة، (فَيوم بدر يَوْم عقيم؛ لِأَنَّهُ لم يكن فِيهِ خير وَلَا بركَة) للْكفَّار. قَالَ الشَّاعِر:

{حَتَّى تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة أَو يَأْتِيهم عَذَاب يَوْم عقيم (55) الْملك يَوْمئِذٍ لله يحكم بَينهم فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي جنَّات النَّعيم (56) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِك لَهُم عَذَاب مهين (57) وَالَّذين هَاجرُوا فِي سَبِيل الله ثمَّ قتلوا أَو مَاتُوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وَإِن الله لَهو خير الرازقين (58) ليدخلنهم مدخلًا يرضونه وَإِن الله لعليم حَلِيم (59) ذَلِك وَمن عاقب بِمثل مَا عُوقِبَ بِهِ ثمَّ} (عقم النِّسَاء فَلَا يلدن شبيهه ... إِن النِّسَاء بِمثلِهِ لعقيم)

56

قَوْله تَعَالَى: {الْملك يَوْمئِذٍ لله يحكم بَينهم} أَي: يقْضِي بَينهم. وَقَوله: {فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي جنَّات النَّعيم} ظَاهر الْمَعْنى.

57

وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِك لَهُم عَذَاب مهين} أَي: مذل مخز.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هَاجرُوا فِي سَبِيل الله ثمَّ قتلوا أَو مَاتُوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا} الرزق الْحسن هُوَ الَّذِي لَا يَنْقَطِع أبدا، وَذَلِكَ رزق الْجنَّة. وَقَوله: {وَإِن الله لَهو خير الرازقين} أَي: أفضل الرازقين.

59

وَقَوله: {ليدخلنهم مدخلًا يرضونه} . وقرىء: " مدخلًا " بِفَتْح الْمِيم، والمدخل بِالرَّفْع من الإدخال، والمدخل بِالْفَتْح الْموضع. وَقَوله: {وَإِن الله لعليم حَلِيم} أَي: عليم بأعمال الْعباد، حَلِيم عَنْهُم.

60

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك وَمن عاقب بِمثل مَا عُوقِبَ بِهِ} رُوِيَ أَن قوما من الْمُسلمين لقوا قوما من الْمُشْركين فِي آخر الْمحرم، وَقد بقيت ليلتان مِنْهُ، فتصد الْمُشْركُونَ الْمُسلمين فَقَالَ لَهُم الْمُسلمُونَ: كفوا، فَإِن هَذَا شهر حرَام، فَلم يكفوا؛ فَقَاتلهُمْ الْمُسلمُونَ على وَجه الدّفع، وظفروا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَيُقَال: إِن قوما من الْمُشْركين قتلوا قوما من الْمُسلمين، فظفر بهم النَّبِي

{بغي عَلَيْهِ لينصرنه الله إِن الله لعفو غَفُور (60) ذَلِك بِأَن الله يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وَأَن الله سميع بَصِير (61) ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق وَأَن مَا يدعونَ من دونه هُوَ الْبَاطِل وَأَن الله هُوَ الْعلي الْكَبِير (62) ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة إِن الله لطيف خَبِير (63) لَهُ مَا فِي السَّمَوَات} وقتلهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَإِنَّمَا سمي الْفِعْل الأول عُقُوبَة، وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة اسْم الْعقُوبَة يَقع على مَا يكون جَزَاء للجناية على ازدواج الْكَلَام؛ لِأَنَّهُ ذكره فِي مُقَابلَة الْعقُوبَة، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} . وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ بغى عَلَيْهِ} الْبَغي هَاهُنَا مَا فعله الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين من الظُّلم والإخراج من الديار وَأخذ الْأَمْوَال. وَقَوله: {لينصرنه الله} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {إِن الله لعفو غَفُور} أَي: ذُو تجَاوز وعفو عَن الْمُسلمين.

61

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَن الله يولج اللَّيْل فِي النَّهَار} الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.

62

وَقَوله: {ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق} أَي: ذُو الْحق. وَقَوله: {وَأَن مَا يدعونَ من دونه هُوَ الْبَاطِل} يَعْنِي: لَيْسَ بِحَق. وَقَوله: {وَأَن الله هُوَ الْعلي الْكَبِير} أَي: المتعالي المتعظم، وَيُقَال: إِن الْعلي هَاهُنَا ينْصَرف إِلَى الدّين أَي: دينه يَعْلُو الْأَدْيَان، وَالْكَبِير صفته تبَارك وَتَعَالَى، وَيُقَال: الْحق اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى، ذكره يحيى بن سَلام، وَأما الْبَاطِل فَيُقَال: إِنَّه إِبْلِيس، وَيُقَال: إِنَّه الْأَوْثَان.

63

قَوْله: {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فَتُصْبِح الأَرْض مخضرة} أَي: ذَات خضرَة، كَمَا يُقَال: مسبعَة ومبقلة أَي: أَرض ذَات بقل وَذَات مسبع. قَالَ عِكْرِمَة: الْآيَة نزلت فِي مَكَّة خَاصَّة، فَإِن الْمَطَر هُنَاكَ يَقع بِاللَّيْلِ، وتخضر

{وَمَا فِي الأَرْض وَإِن الله لَهو الْغَنِيّ الحميد (64) ألم تَرَ أَن الله سخر لكم مَا فِي الأَرْض والفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره ويمسك السَّمَاء أَن تقع على الأَرْض إِلَّا بِإِذْنِهِ إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم (65) وَهُوَ الَّذِي أحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} الأَرْض بِالنَّهَارِ، وَعَن الْخَلِيل قَالَ: " ألم تَرَ " تَنْبِيه ثمَّ ابْتِدَاء، وَقَالَ: ينزل الله الْمَطَر فَتُصْبِح الْأَرْضين مخضرة، فَلهَذَا رفع تصبح. وَقَوله: {إِن الله لطيف خَبِير} أَي: لطيف باستخراج النَّبَات من الأَرْض وبرزق الْعباد، خَبِير بِمَا فِي قُلُوبهم أَي: بِمَا يعرض فِي قُلُوبهم عِنْد نُقْصَان الرزق أَو عَدمه، وَقيل: عِنْد جدوبة الأَرْض.

64

قَوْله: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَإِن الله لَهو الْغَنِيّ الحميد} أَي: الْغَنِيّ عَن أَعمال الْخلق، الْمَحْمُود فِي أَفعاله.

65

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله سخر لكم مَا فِي الأَرْض والفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره} أَي: وسخر الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بأَمْره، وَيُقَال: مَا فِي الأَرْض هِيَ الدَّوَابّ الَّتِي تركب فِي الْبر، وَأما الْفلك هُوَ الَّذِي يركب فِي الْبَحْر. وَقَوله: {ويمسك السَّمَاء أَن تقع على الأَرْض إِلَّا بِإِذْنِهِ} فِي بعض الْآثَار: أَنه إِذا أظهرت الصلبان فِي الأَرْض، وَضربت بالنواقيس، ارتجت السَّمَاء وَالْأَرْض، وكادت السَّمَاء أَن تقع، فَيُرْسل الله (مَلَائِكَة) فيمسكون بأطراف السَّمَاء وَالْأَرْض، ويقرءون سُورَة الْإِخْلَاص حَتَّى تسكن، وَأما الْمَعْرُوف فِي معنى الْآيَة أَن الله يمسك السَّمَاء بِغَيْر عمد، على مَا ذكرنَا من قبل. وَقَوله: {إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم} قد بَيناهُ.

66

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أحياكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} الْإِحْيَاء الأول هُوَ الْإِنْشَاء، والإحياء الثَّانِي هُوَ الْبَعْث من الْقُبُور. وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لكفور} أَي: لكفور (لنعمة الله) .

{إِن الْإِنْسَان لكفور (66) لكل أمة جعلنَا منسكا هم ناسكوه فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر وادع إِلَى رَبك إِنَّك لعلى هدى مُسْتَقِيم (67) وَإِن جادلوك فَقل الله أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ (68) الله يحكم بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (69) ألم تعلم أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْض إِن ذَلِك فِي كتاب إِن ذَلِك على الله يسير}

67

قَوْله تَعَالَى: {لكل أمة جعلنَا منسكا} بِفَتْح السِّين، وقرىء: " منسكا " بِكَسْرِهَا، فالمنسك بِالْكَسْرِ مَوضِع النّسك، كالمجلس مَوضِع الْجُلُوس، وَأما المنسك بِالْفَتْح هُوَ على الْمصدر للنسك، قَالَ الْفراء: المنسك بِالْفَتْح مَوضِع الْعِبَادَة، والمناسك مَوَاضِع أَرْكَان الْحَج، وَيُقَال: المنسك: المذبح، وَعَن ابْن عَبَّاس: منسكا أَي: عيدا، وَقيل: منسكا أَي: شَرِيعَة وملة. وَقَوله: {هم ناسكوه} أَي: عاملون بهَا. وَقَوله: {فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر} منازعتهم أَنهم قَالُوا: أتأكلون مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله؟ وَقَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: {فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر} أَي: فَلَا تنازعهم، قَالَ: وَهَذَا مُسْتَقِيم فِي كل مَا لَا يكون إِلَّا بَين اثْنَيْنِ، يجوز أَن يُقَال: لَا يخاصمنك فلَان أَي: لَا تخاصمه، وَلَا يجوز أَن يُقَال: لَا يضربنك فلَان بِمَعْنى لَا تضربه؛ لِأَن الضَّرْب إِنَّمَا يكون من الْوَاحِد، وَإِنَّمَا قَالَ الزّجاج هَذَا؛ لِأَن قَوْله: {فَلَا ينازعنك} إِخْبَار، وَقد نازعوه، وَلَا يجوز الْخلاف فِي خبر الله تَعَالَى، فَذكر أَن الْمَعْنى: فَلَا تنازعهم؛ ليَكُون أمرا لَا خَبرا، وقرىء: " فَلَا ينزعنك فِي الْأَمر " أَي: لَا يغلبنك. وَقَوله: {وادع إِلَى رَبك إِنَّك لعلى هدى مُسْتَقِيم} أَي: دين مُسْتَقِيم.

68

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جادلوك فَقل الله أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ الله يحكم بَيْنكُم} الْآيَة ظَاهر الْمَعْنى.

70

قَوْله تَعَالَى: {ألم تعلم أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْض} معنى قَوْله: {ألم تعلم} أَي: قد علمت. وَقَوله: {إِن ذَلِك فِي كتاب} هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.

( {70) ويعبدون من دون الله مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم وَمَا للظالمين من نصير (71) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات تعرف فِي وُجُوه الَّذين كفرُوا الْمُنكر يكادون يسطون بالذين يَتلون عَلَيْهِم آيَاتنَا قل أفأنبئكم بشر من ذَلِكُم النَّار وعدها الله الَّذين كفرُوا وَبئسَ الْمصير (72) يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل} وَقَوله: {إِن ذَلِك على الله يسير} أَي: هَين.

71

قَوْله تَعَالَى: {ويعبدون من دون الله مالم ينزل بِهِ سُلْطَانا} أَي: حجَّة. وَقَوله: {وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم} يَعْنِي: أَنهم فعلوا مَا فعلوا عَن جهل لَا عَن علم. وَقَوله: {وَمَا للظالمين من نصير} أَي: مَانع من الْعَذَاب.

72

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات تعرف فِي وُجُوه الَّذين كفرُوا الْمُنكر} أَي: الْإِنْكَار. وَقَوله: {يكادون (يسطون} ) أَي: يقعون. وَقَوله: {بالذين يَتلون عَلَيْهِم آيَاتنَا} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، وَقيل: يتناولون بالشتم وَالْمَكْرُوه. وَقَوله: {قل أفأنبئكم بشر من ذَلِكُم} أَي: بشر عَلَيْكُم وأكره لكم. وَقَوله: {النَّار} كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مَا ذَلِك؟ فَقَالَ: أجب، وَقل: النَّار. وَقَوله: {وعدها الله الَّذين كفرُوا وَبئسَ الْمصير} أَي: بئس الْمرجع.

73

قَوْله: {يَا أَيهَا النَّاس ضرب مثل فَاسْتَمعُوا لَهُ} فَإِن قَالَ قَائِل: أَيْن الْمثل؟ قُلْنَا مَعْنَاهُ: ضرب لي مثل أَي: شبه لي مثل، على معنى أَن الْمُشْركين اتَّخذُوا الْأَصْنَام معي آلِهَة {فَاسْتَمعُوا لَهُ} أَي: اسْتَمعُوا خبر الْأَصْنَام وحالها، ثمَّ قَالَ: {إِن الَّذين تدعون من دون الله} الْأَصْنَام. وَقَوله: {لن يخلقوا ذبابا وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ} ذكر الذُّبَاب لخسته ومهانته وَضَعفه،

{فَاسْتَمعُوا لَهُ إِن الَّذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب (73) مَا قدرُوا الله حق قدره إِن الله لقوي عَزِيز (74) الله يصطفي من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس} وَعَن بعض السّلف قَالَ: خلق الله تَعَالَى الذُّبَاب ليذل؛ بِهِ الْجَبَابِرَة، وَهُوَ حَيَوَان مستأنس مُمْتَنع؛ لِأَنَّهُ يسْتَأْنس بك فَيَقَع عَلَيْك، ثمَّ إِذا أردْت أَن تَأْخُذهُ امْتنع مِنْهُ. وَقَوله: {وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا يطلون الْأَصْنَام بالزعفران، فَإِذا جف جَاءَ الذُّبَاب واستلب مِنْهُ شَيْئا، فَأخْبر الله تَعَالَى أَن الْأَصْنَام لَا يستنقذون من الذُّبَاب مَا استلبه، وَعَن السّديّ: أَنهم كَانُوا يأْتونَ بِالطَّعَامِ، ويضعون بَين يَدي الْأَصْنَام، فَيَجِيء الذُّبَاب ويقعن عَلَيْهِ، ويأكلن مِنْهُ، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ} . وَقَوله: {ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب} (الطَّالِب الذُّبَاب، وَالْمَطْلُوب الصَّنَم، وَيُقَال: الطَّالِب الصَّنَم، وَالْمَطْلُوب) الذُّبَاب. وَقيل: {ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب} أَي: العابد والمعبود.

74

وَقَوله: {مَا قدرُوا الله حق قدره} أَي: مَا عظموا الله حق عَظمته، وَيُقَال: مَا عرفُوا الله حق مَعْرفَته، وَقيل: مَا وصفوا الله حق صفته، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الْيَهُود قَالُوا: إِن الله خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام، واستراح يَوْم السبت، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مَا قدرُوا الله حق قدره} . وَقَوله: {إِن الله لقوي عَزِيز} أَي: قوي على مَا يُرِيد، عَزِيز أَي: منيع فِي ملكه.

75

قَوْله تَعَالَى: {الله يصطفي من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس} أما من الْمَلَائِكَة فهم: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وإسرافيل، وَملك الْمَوْت، وَغَيرهم، وَأما من النَّاس فهم: آدم، ونوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمّد، وَغَيرهم صلوَات الله عَلَيْهِم. وَقَوله: {إِن الله سميع بَصِير} سميع لأقوال الْعباد، بَصِير بهم.

76

قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم} قد بَينا هَذَا من قبل، وَيُقَال:

{إِن الله سميع بَصِير (75) يعلم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (76) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا واعبدوا ربكُم وافعلوا الْخَيْر لَعَلَّكُمْ تفلحون (77) وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده} مَا بَين أَيْديهم: مَا قدمُوا من الْعَمَل، وَمَا خَلفهم: مَا أخروها فَلم يعملوها. وَقَوله: {وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} تصير الْأُمُور.

77

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ارْكَعُوا واسجدوا} وَالرُّكُوع وَالسُّجُود معلومان، وَلَا تقبل صَلَاة إِلَّا بهما سوى صَلَاة الْجِنَازَة. وَقَوله: {واعبدوا ربكُم} أَي: وحدوا ربكُم، وَيُقَال: أَخْلصُوا فِي ركوعكم وسجودكم. وَقَوله: {وافعلوا الْخَيْر} أَي: صلَة الْأَرْحَام وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَسَائِر وُجُوه الْبر. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تفلحون} (وتفوزون) . وَفِي هَذِه الْآيَة سَجْدَة للتلاوة منقولة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، وروى مشرح بن هاعان، عَن عقبَة بن عَامر أَن النَّبِي قَالَ: " فِي الْحَج سَجْدَتَانِ، من لم يسجدهما فَلَا يَقْرَأها "، وَفِي رِوَايَة: " من لم يسجدهما فَلم يَقْرَأها ".

78

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده} اعْلَم أَن الْجِهَاد يكون بِالنَّفسِ، وبالقلب، وبالمال؛ فَأَما الْجِهَاد بِالنَّفسِ فَهُوَ فعل الطَّاعَات وَاخْتِيَار الأشق من الْأُمُور، وَأما الْجِهَاد بِالْقَلْبِ فَهُوَ دفع الخواطر الردية، وَأما الْجِهَاد بِالْمَالِ فَهُوَ الْبَذْل (والإيثار) . وَقَوله: {حق جهاده} قَالَ بَعضهم: " هُوَ أَن يُطِيع الله (وَلَا يعصيه) ، ويذكره

{هُوَ اجتباكم وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم هُوَ سَمَّاكُم} فَلَا ينساه، ويشكره فَلَا يكفره، وَقَالَ بَعضهم: حق جهاده: هُوَ أَن لَا يخل بِفَرْض مَا. وَعَن بعض أهل التَّحْقِيق قَالَ: حق جهاده هُوَ أَن لَا يتْرك جِهَاد نَفسه طرفَة عين. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي لما رَجَعَ من غَزْوَة تَبُوك قَالَ: " رَجعْنَا من الْجِهَاد الْأَصْغَر إِلَى الْجِهَاد الْأَكْبَر " وعنى بِالْجِهَادِ الْأَصْغَر هُوَ الْجِهَاد مَعَ الْكفَّار، وبالجهاد الْأَكْبَر الْجِهَاد مَعَ النَّفس، وَأنْشد بَعضهم. (يَا رب إِن جهادي غير مُنْقَطع ... وكل أَرْضك لي ثغر وطرسوس) وَقَوله: {هُوَ اجتباكم} أَي: اختاركم. وَقَوله: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} (فَإِن قَالَ قَائِل: فِي الدّين حرج كثير بِلَا إِشْكَال فَمَا معنى قَوْله: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} ) ؟ قُلْنَا: فِيهِ أَقُول: أَحدهَا: أَن الْحَرج هُوَ الضّيق، وَمعنى الْآيَة هَاهُنَا: أَنه لَا ضيق فِي الدّين بِحَيْثُ لَا خلاص عَنهُ، فَمَعْنَاه: أَن المذنب وَإِن وَقع فِي ضيق من مَعْصِيَته، فقد جعل الله لَهُ خلاصا بِالتَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ إِذا حنث فِي يَمِينه جعل الله لَهُ الْخَلَاص بِالْكَفَّارَةِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة أَن الله تَعَالَى لم يُكَلف نفسا فَوق وسعهَا، وَقد ذكرنَا هَذَا من قبل، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد من الْآيَة أَنه إِذا كَانَ مَرِيضا فَلم يقدر على الصَّلَاة قَائِما صلى قَاعِدا، فَإِن لم يقدر على الصَّلَاة قَاعِدا صلى بِالْإِيمَاءِ، وَيفْطر إِذا شقّ عَلَيْهِ الصَّوْم بسفر أَو مرض أَو هرم، وَكَذَلِكَ سَائِر وُجُوه الرُّخص. وَقَوله: {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْآيَة خطاب مَعَ الْعَرَب، وَقد كَانَ إِبْرَاهِيم أَبَا لَهُم، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة خطاب مَعَ جَمِيع الْمُسلمين، وَجعل

{الْمُسلمين من قبل وَفِي هَذَا ليَكُون الرَّسُول شَهِيدا عَلَيْكُم وتكونوا شُهَدَاء على النَّاس فأقيموا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} إِبْرَاهِيم أباهم على معنى وجوب احترامه، وَحفظ حَقه كَمَا يجب احترام الْأَب وَحفظ حَقه، وَإِنَّمَا نصب مِلَّة على معنى: ابْتَغوا مِلَّة إِبْرَاهِيم. وَقَوله: {هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الله سَمَّاكُم الْمُسلمين {من قبل} أَو فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. وَقَوله: {وَفِي هَذَا} أَي: فِي الْقُرْآن، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن إِبْرَاهِيم سَمَّاكُم الْمُسلمين، وَالدَّلِيل على هَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى قَالَ خَبرا عَن إِبْرَاهِيم: {رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك} الْآيَة. وَقَوله: {ليَكُون الرَّسُول شَهِيدا عَلَيْكُم وتكونوا شُهَدَاء على النَّاس} ذكرنَا هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة وَالنِّسَاء، وَفِي الْخَبَر: " أَن الله تَعَالَى أعْطى هَذِه الْأمة ثَلَاثًا مثل مَا أعْطى الْأَنْبِيَاء: كَانَ يُقَال للنَّبِي: اذْهَبْ فَلَا حرج عَلَيْك، وَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} ، وَكَانَ يُقَال للنَّبِي: أَنْت شَاهدا على أمتك، فَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: {لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} ، وَكَانَ يُقَال للنَّبِي: سل تعطه، فَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} ". وَقَوله: {فأقيموا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} ظَاهر الْمَعْنى، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا تقبل الصَّلَاة إِلَّا بِالزَّكَاةِ ". وَقَوله: {واعتصموا بِاللَّه} أَي: تمسكوا بدين الله، وَيُقَال مَعْنَاهُ: ادعوا الله

{واعتصموا بِاللَّه هُوَ مولاكم فَنعم الْمولى وَنعم النصير (78) } ليثبتكم على دينه، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الِاعْتِصَام بِاللَّه هُوَ التَّمَسُّك بِالْكتاب وَالسّنة، وَعَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: الِاعْتِصَام بِالسنةِ نجاة. وَقَوله: {هُوَ مولاكم} أَي: حافظكم {فَنعم الْمولى} أَي: الْحَافِظ {وَنعم النصير} أَي: النَّاصِر.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ (1) } تَفْسِير سُورَة الْمُؤمنِينَ وَهِي مَكِّيَّة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

المؤمنون

قَوْله تَعَالَى: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} روى عبد الرَّزَّاق، عَن يُونُس بن سليم، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي، عَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " كُنَّا إِذا نزل الْوَحْي على رَسُول الله سمع عِنْد وَجهه دوِي كَدَوِيِّ النَّحْل، فَأنْزل عَلَيْهِ مرّة فَمَكثْنَا سَاعَة، فَلَمَّا سري عَنهُ، اسْتقْبل الْقبْلَة وَقَالَ: اللَّهُمَّ أكرمنا وَلَا تهنا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمنَا، وارضنا وَارْضَ عَنَّا، وَآثرنَا وَلَا تُؤثر علينا، ثمَّ قَالَ: لقد أنزل عَليّ عشر آيَات من أَقَامَهُنَّ دخل الْجنَّة، وَقَرَأَ: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} إِلَى آخر الْعشْر ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عبيد الله بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن سراج قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَحْبُوب قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عِيسَى بن سُورَة أخبرنَا عبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق. الحَدِيث. وَقَوله: {قد أَفْلح} أَي: فقد سعد وفاز وظفر، وَقَالَ بَعضهم: نَالَ الْبَقَاء الدَّائِم وَالْبركَة. قَالَ الشَّاعِر: (نحل بلادا كلهَا حل قبلنَا ... ونرجوا الصّلاح بعد عَاد وحميرا)

{الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون (2) } وَقُرِئَ " " قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ " أَي: اصيروا إِلَى مَا فِيهِ الصّلاح. وَقَالَ لبيد شعرًا: (فاعقلي إِن كنت (مِمَّا تعقلي) وَلَقَد أَفْلح من كَانَ عقل) وَقَالَ غَيره: (لَو كَانَ حَيّ مدرك الْفَلاح ... أدْركهُ ملاعب الرماح) قَالَ ابْن عَبَّاس: نالوا مَا إِيَّاه طلبُوا، ونجوا مِمَّا عَنهُ هربوا. وَقَوله: {الْمُؤْمِنُونَ} المصدقون.

2

وَقَوله: {الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} أَي: خاضعون خائفون، يُقَال: الْخُشُوع خوف الْقلب، وَحَقِيقَته هُوَ الإقبال فِي الصَّلَاة على معبوده، والتذلل بَين يَدَيْهِ، وَيُقَال: هُوَ جمع الهمة، وَدفع الْعَوَارِض عَن الصَّلَاة، وتدبر مَا يجْرِي على لِسَانه من الْقِرَاءَة وَالتَّسْبِيح والتهليل وَالتَّكْبِير، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: الْخُشُوع أَن لَا يلْتَفت عَن يَمِينه وَلَا عَن شِمَاله فِي الصَّلَاة. وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله يرفعون أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء فِي الصَّلَاة، فَلَمَّا نزل قَوْله تَعَالَى: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} رموا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى مَوَاضِع السُّجُود، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: هُوَ السكن فِي الصَّلَاة.

{وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون (3) وَالَّذين هم لِلزَّكَاةِ فاعلون (4) وَالَّذين هم لفروجهم حافظون (5) إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين}

3

وَقَوله: {وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي الشَّك، وَقَالَ الْحسن: الْمعاصِي كلهَا. ذكر الزّجاج أَن اللَّغْو هُوَ كل كَلَام بَاطِل مطرح، وَيُقَال: إِن اللَّغْو هَا هُنَا هُوَ مُعَارضَة الْكفَّار بالسب والشتم، وَهَذَا قَول حسن؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} أَي: إِذا سمعُوا الْكَلَام الْقَبِيح أكْرمُوا أنفسهم عَن الدُّخُول فِيهِ.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هم لِلزَّكَاةِ فاعلون} أَي: مؤدون. قَالَ الشّعبِيّ: هِيَ زَكَاة الْفطر، وَقَالَ بَعضهم: الزَّكَاة هَا هُنَا هِيَ الْعَمَل الصَّالح فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالَّذين هم للْعَمَل الصَّالح فاعلون.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون} حفظ الْفرج هُوَ التعفف عَن الْحَرَام.

6

وَقَوله: {إِلَّا على أَزوَاجهم} يُقَال: إِن الْآيَة فِي الرِّجَال بِدَلِيل أَن الله تَعَالَى قَالَ: {أَو مَا ملكت أَيْمَانهم} وَالْمَرْأَة لَا يجوز لَهَا أَن تستمتع بِملك يَمِينهَا، وَقيل: إِن أول الْآيَة فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا، وَقَوله: {أَو مَا ملكت أَيْمَانهم} إِلَى الرِّجَال دون النِّسَاء {فَإِنَّهُم غير ملومين} أَي: غير معاتبين، فَإِن قيل: إِذا أصَاب امْرَأَته فِي حَال الْحيض أَو النّفاس وَمَا أشبهه، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَة فقد أَتَى حَرَامًا، وَإِن كَانَ قد حفظ فرجه عَن غير زَوجته وَملك يَمِينه وَيكون ملوما؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن تَقْدِير الْآيَة فِي هَذَا: وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم على وَجه يجوز فِي الشَّرْع فَإِنَّهُم غير ملومين، وَكَذَلِكَ الْجَواب عَن قَول من اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة فِي جَوَاز إتْيَان الْمَرْأَة فِي غير مأتاها أَو الْجَارِيَة.

7

وَقَوله تَعَالَى: {فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون} (أَي: سوى ذَلِك،

( {6) فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون (7) وَالَّذين هم لآماناتهم وَعَهْدهمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذين هم على صلواتهم يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هم} وابتغى أَي: طلب، وَقَوله: {فَأُولَئِك هم العادون} أَي: الظَّالِمُونَ المتجاوزون عَن الْحَلَال إِلَى الْحَرَام، وَاسْتدلَّ الْعلمَاء بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الاستمناء بِالْيَدِ حرَام، وَعَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَنهُ فَقَالَ: هُوَ نائك نَفسه، وَعَن ابْن جريج أَنه قَالَ: سَأَلت عَطاء عَنهُ فَقَالَ: هُوَ مَكْرُوه، فَقلت أفيه حد؟ فَقَالَ: مَا سَمِعت. وَعَن سَالم بن عبد الله بن عمر أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الْفِعْل فَقَالَ: " أُفٍّ أُفٍّ! سَمِعت أَن قوما يحشرون وأيديهم حبالى، فأظن أَنهم هَؤُلَاءِ. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: عذب الله أمة من الْأُمَم كَانُوا يعبثون بمذاكيرهم. وَكَرِهَهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَحكى أَبُو عَاصِم النَّبِيل عَن أبي حنيفَة أَنه كرهه، فَإِن جعل بَين يَدَيْهِ وَبَين ذكره حريرة قَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره عَن عمر بن الْخطاب أَنه قَالَ: أُولَئِكَ أَقوام لَا خلاق لَهُم.

8

وَقَوله تَعَالَى: {وَالَّذين هم لآمانتهم وَعَهْدهمْ رَاعُونَ} يُقَال: رعى كَذَا إِذا قَامَ بِالْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَمِنْه قَوْله: " وكلكم رَاع، وكلكم مسئول عَن رَعيته "، وَيُقَال للوالي: هُوَ رَاع؛ لِأَنَّهُ يقوم بمصلحة الرّعية، وَمعنى قَوْله: {رَاعُونَ} هَا هُنَا أَدَاء الْأَمَانَة وَالْوَفَاء بالعهد.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ} قد بَينا معنى الْمُحَافظَة، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه سُئِلَ عَن الْمُحَافظَة فَقَالَ: حفظ الْوَقْت، فَقيل لَهُ: فَمن تَركهَا أصلا؟ قَالَ: ذَلِك الْكفْر. وَأعَاد ذكر الصَّلَاة هَا هُنَا؛ ليبين أَن الْمُحَافظَة وَاجِبَة كَمَا أَن الْخُشُوع وَاجِب.

10

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ هم الوارثون الَّذين يَرِثُونَ الفردوس} رُوِيَ الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من أحد إِلَّا وَله منزل فِي الْجنَّة ومنزل فِي النَّار، فَإِذا دخل النَّار ورث أهل الْجنَّة منزله ".

وَعَن مُجَاهِد قَالَ: إِذا دخل الْجنَّة هدم منزله فِي النَّار، وَعنهُ أَنه قَالَ: إِن الله غرس جنَّة عدن بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} وأغلق عَلَيْهَا، فَلَا يدخلهَا إِلَّا من شَاءَ الله، وَيفتح بَابهَا فِي كل سحر، وَكَانُوا يرَوْنَ أَن نسيم السحر مِنْهُ. وَفِي بعض المسانيد: عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي: " إِن الله خلق جنَّة عدن، وَخلق فِيهَا مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر، ثمَّ قَالَ لَهَا: تكلمي فَقَالَت: {قلد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} أَنا مُحرمَة على كل بخيل ومرائي ". وَفِي رِوَايَة: " أَن الله تَعَالَى قَالَ: {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} ثمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي لَا يجاورني فِيك بخيل ". وَفِي بعض المسانيد أَيْضا عَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق آدم بِيَدِهِ، وغرس جنَّة عدن بِيَدِهِ، وَكتب التَّوْرَاة بِيَدِهِ، ثمَّ قَالَ لجنة عدن وَعِزَّتِي لَا يسكنك بخيل وَلَا ديوث ". وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي قَالَ: " أَن الله تَعَالَى خلق الفردوس وَجعل لَهَا

{الوارثون (10) الَّذين يَرِثُونَ الفردوس هم فِيهَا خَالدُونَ (11) وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين (12) ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين (13) ثمَّ خلقنَا} لبنة من ذهب ولبنة من فضَّة (وحبالها) الْمسك الأفر "، وَالْأَخْبَار كلهَا غرائب. {هم فِيهَا خَالدُونَ} أَي: مقيمون لَا يظعنون أبدا.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين} قَالَ أهل اللُّغَة: السلالة صفوة المَاء المسلول من الصلب، وَقَوله: {من طين} الطين هَا هُنَا هُوَ آدم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالْمرَاد من الْإِنْسَان وَلَده، وَمِنْهُم من قَالَ: المُرَاد من الْإِنْسَان هُوَ آدم. وَقَوله: {من سلالة} أَي: سل من كل تربة، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: السلالة هَا هُنَا هُوَ الطين الَّذِي إِذا قبض عَلَيْهِ الْإِنْسَان خرج المَاء من جَانِبي يَده، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: هُوَ منى بني آدم. قَالَ الشَّاعِر: (وَهل هِنْد إِلَّا مهرَة عَرَبِيَّة ... [سليلة] أَفْرَاس تجللها بغل) (فَإِن نتجت مهْرا [فَللَّه درها ... وَإِن ولدت بغلا فجَاء بِهِ الْبَغْل] )

13

وَقَوله: {ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين} أَي: فِي مَكَان اسْتَقر فِيهِ، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: مَا من نُطْفَة إِلَّا ويذر عَلَيْهَا من التربة الَّتِي خلق مِنْهَا.

14

وَقَوله: {ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة} الْعلقَة هِيَ الْقطعَة من الدَّم.

{النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ (14) ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون} وَقَوله: {فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة} المضغة هِيَ الْقطعَة من اللَّحْم. وَقَوله: {فخلقنا المضغة عظما} وقري: " عظاما "، وَالْمعْنَى وَاحِد. قَالَ الشَّاعِر: (فِي حلقهم عظم وَقد شجينا ... ) أَي: فِي حُلُوقهمْ عِظَام. وَيُقَال: إِن بَين كل خلقين أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَوله: {فكسونا الْعِظَام لَحْمًا} أَي: ألبسنا. وَقَوله: {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} الْأَكْثَرُونَ أَن المُرَاد مِنْهُ نفخ الرّوح فِيهِ، وَقَالَ الضَّحَّاك: اسْتِوَاء الشَّبَاب، وَعَن قَتَادَة قَالَ: نبت الْأَسْنَان، وَعَن الْحسن: ذكرا أَو أُنْثَى. وَفِي بعض التفاسير أَن الله ينْفخ فِيهِ الرّوح بعد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا من يَوْم وَقعت النُّطْفَة فِي الرَّحِم، وَلِهَذَا تقدرت عدَّة الْوَفَاة بِهَذَا الْقدر من الزَّمَان. وَقَوله: {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} رُوِيَ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - لما سمع هَذِه الْآيَة (قَالَ: فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ فَقَالَ النَّبِي: " هَكَذَا أنزل ". فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة) تدل على أَنا نخلق أفعالنا؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ} ، فَذكر الْخَالِقِينَ على وَجه الْجمع؟ الْجَواب أَن مَعْنَاهُ: أحسن المقدرين، وَقد ورد الْخلق بِمَعْنى التَّقْدِير، قَالَ الشَّاعِر: (ولأنت تفري مَا خلقت وَبَعض ... الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفري)

( {15) ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون (16) وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق وَمَا كُنَّا عَن الْخلق غافلين (17) وأنزلنا من السَّمَاء مَاء بِقدر فأسكناه فِي الأَرْض وَإِنَّا على ذهَاب بِهِ لقادرون (18) فأنشأنا لكم بِهِ جنَّات من نخيل وأعناب لكم فِيهَا فواكه} [أَي] : يقدر. وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ: يصنعون وأصنع، وَأَنا أحسن الصانعين.

15

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون} قَالَ بَعضهم: الْمَيِّت وَالْمَيِّت (وَاحِد، وَقَالَ بَعضهم: الْمَيِّت هُوَ الَّذِي قد مَاتَ، وَالْمَيِّت هُوَ الَّذِي يَمُوت فِي الْمُسْتَقْبل، وَمثله المائت، وَهَذَا كَمَا قَالُوا: سيد وسائد هُوَ الَّذِي يسود فِي الْمُسْتَقْبل.

16

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون} الْبَعْث هُوَ الْإِطْلَاق فكأنهم حبسوا مُدَّة ثمَّ أطْلقُوا.

17

قَوْله: {وَلَقَد خلقنَا فَوْقكُم سبع طرائق} الطرائق هَا هُنَا هِيَ السَّمَوَات، وَفِي تَسْمِيَتهَا طرائق وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنَّهَا سميت طرائق؛ لِأَن بَعْضهَا فَوق بعض، يُقَال: طارقت النَّعْل إِذا جعلت بَعْضهَا فَوق بعض. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهَا سميت طرائق؛ لِأَنَّهَا طرائق الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {وَمَا كُنَّا عَن الْخلق غافلين} أَي: نَحن حافظون لَهُم، يُقَال: حفظنا السَّمَاء أَن تقع عَلَيْهِم، وَيُقَال: مَا تركناهم سدى بِغَيْر أَمر وَلَا نهي.

18

قَوْله تَعَالَى: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء بِقدر} فِي الْخَبَر: " أَن الله تَعَالَى أنزل أَرْبَعَة أَنهَار من الْجنَّة: سيحان، وجيحان، ودجلة، والفرات ". وَرُوِيَ أَنه أنزل خَمْسَة أَنهَار من عين فِي الْجنَّة، وَذكر مَعَ الْأَرْبَعَة الَّتِي ذَكرنَاهَا نيل مصر، وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن الله أودعها الْجبَال ثمَّ أجراها لمَنْفَعَة الْعباد، وَفِي هَذَا الْخَبَر أَيْضا: " أَنه إِذا كَانَ خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج رفع الله الْقُرْآن والكعبة والركن وَالْمقَام وتابوت مُوسَى والأنهار الْخَمْسَة فَلَا يبْقى شَيْء من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَهُوَ قَوْله تَعَالَى:

{كَثِيرَة وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وشجرة تخرج من طور سيناء تنْبت بالدهن وصبغ للآكلين (20) } {وَإِنَّا على ذهَاب بِهِ لقادرون} ".

19

قَوْله تَعَالَى: {فأنشأنا لكم بِهِ جنَّات من نخيل وأعناب لكم فِيهَا فواكه كَثِيرَة وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى، وَخص النخيل وَالْأَعْنَاب بِالذكر؛ لِأَنَّهُمَا كَانَتَا أَكثر فواكه الْعَرَب.

20

قَوْله تَعَالَى: {وشجرة تخرج من طور سيناء} ، مَعْنَاهُ: وأنشأنا شَجَرَة تخرج من طور سيناء، وَهِي شَجَرَة الزَّيْتُون، وَإِنَّمَا خصها بِالذكر؛ لِأَنَّهَا لَا تحْتَاج إِلَى معاهد، فالمنة فِيهَا أَكثر؛ وَلِأَنَّهَا مَأْكُول (ومستصبح) بهَا، وَقَوله: {سيناء} بالحبشية هُوَ الْحسن، وَأما الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من سيناء هُوَ الْبركَة وَمَعْنَاهُ: جبل الْبركَة، وَالْآخر: أَن مَعْنَاهُ الشّجر، يَعْنِي الْجَبَل المشجر، أوردهُ الْكَلْبِيّ. وَقَوله: {تنْبت بالدهن} . وَقُرِئَ " تنْبت " وَاخْتلفُوا فِي هَذَا: مِنْهُم من قَالَ: أنبت وَنبت بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر: (رَأَيْت ذَوي الْحَاجَات حول بُيُوتهم ... قطينا لَهُم حَتَّى إِذا أنبت البقل) يَعْنِي: حَتَّى إِذا نبت البقل، فَالْمَعْنى على هَذَا تنْبت بالدهن أَي: وَمَعَهَا الدّهن، أَو فِيهَا الدّهن، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْبَاء زَائِدَة، فَالْمَعْنى على هَذَا: تنْبت ثَمَر الدّهن. وَأما من فرق بَين تَنبت وتُنبت، فَقَالَ مَعْنَاهُ: تُنبت ثَمَرهَا بالدهن، وتَنبت ثَمَر الدّهن. وأنشدوا فِي زِيَادَة الْبَاء شعرًا:

{وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم مِمَّا فِي بطونها وَلكم فِيهَا مَنَافِع كَثِيرَة وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون (22) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} (سود المحاجر لَا يقْرَأن بالسور ... ) أَي: لَا يقْرَأن السُّور. وَقَوله: {وصبغ للآكلين} . وَقُرِئَ: " وصباغ للآكلين "، وَهُوَ فِي الشاذ، مثل لبس ولباس، وَمَعْنَاهُ: (وإدام) للآكلين، فَإِن الْخبز إِذا غمس فِيهِ أَي: فِي الزَّيْت انصبغ بِهِ بِمَعْنى تلون، والإدام كل مَا يُؤْكَل مَعَ الْخَبَر عَادَة، سَوَاء انصبغ بِهِ الْخَبَر أَو لم ينصبغ، رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه أَخذ لقْمَة وَتَمْرَة، وَقَالَ: " هَذِه إدام هَذِه ". وَعنهُ أَنه قَالَ: " سيد إدام أهل الْجنَّة اللَّحْم ".

21

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة} يَعْنِي الْآيَة: تعتبرون بهَا. وَقَوله: {نسقيكم مِمَّا فِي بطونها} أَي: اللَّبن. وَقَوله: {وَلكم فِيهَا مَنَافِع كَثِيرَة وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يَعْنِي: من لحومها

22

{وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون} ظَاهر الْمَعْنى.

{فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون (23) فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه مَا هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ يُرِيد أَن يتفضل عَلَيْكُم وَلَو شَاءَ الله لأنزل مَلَائِكَة مَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين (24) إِن هُوَ إِلَّا رجل بِهِ جنَّة فتربصوا بِهِ حَتَّى حِين (25) قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون (26) فأوحينا إِلَيْهِ أَن اصْنَع الْفلك}

23

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله. {مَا لكم من إِلَه غَيره} أَي: معبود سواهُ. وَقَوله: {أَفلا تَتَّقُون} مَعْنَاهُ: أَفلا تخافون عُقُوبَته إِذا عَبدْتُمْ غَيره.

24

قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه مَا هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ} قد ذكرنَا معنى الْمَلأ، وَذكرنَا إنكارهم إرْسَال الْبشر. وَقَوله: {يُرِيد أَن يتفضل عَلَيْكُم} يتفضل أَي: يظْهر الْفضل، وَلَا فضل لَهُ، كَمَا يُقَال: فلَان يتحلم أَي: يظْهر الْحلم، وَلَا حلم لَهُ، ويتظرف أَي: يظْهر الظرافة، وَلَا ظرافة لَهُ. وَقَوله: {وَلَو شَاءَ الله لأنزل مَلَائِكَة} يَعْنِي: بإبلاغ الْوَحْي، وَقَوله: {مَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين} . أَي: بإرسال بشر رَسُولا، وَقيل: بدعوة مثل دَعوته.

25

قَوْله تَعَالَى: {إِن هُوَ إِلَّا رجل بِهِ جنَّة} أَي: جُنُون. وَقَوله: {فتربصوا بِهِ حَتَّى حِين} قَالَ ابْن عَبَّاس: إِلَى وَقت مَا، وَيُقَال: إِلَى أَن يَمُوت.

26

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون} يَعْنِي: أهلكهم نصْرَة لي جَزَاء تكذيبهم.

27

قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا إِلَيْهِ أَن اصْنَع الْفلك بأعيينا ووحينا} . قد بَينا من قبل، وَيُقَال: غرس الشّجر أَرْبَعِينَ سنة، وجففه أَرْبَعِينَ سنة. وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور} المُرَاد من الْأَمر هَاهُنَا: وَقت إغراقهم، والتنور تنور الخابزة، وَقد بَينا غير هَذَا. وَقَوله: {فاسلك فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: من كل صنف

{بأعيننا ووحينا فَإِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور فاسلك فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل مِنْهُم وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون (27) فَإِذا استويت أَنْت وَمن مَعَك على الْفلك فَقل الْحَمد لله الَّذِي نجانا من الْقَوْم الظَّالِمين (28) وَقل رب أنزلني منزلا مُبَارَكًا وَأَنت خير المنزلين (29) إِن فِي} اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. وَقَوله: {وَأهْلك إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل مِنْهُم} أَي: سبق عَلَيْهِ الحكم بإهلاكه، وَهُوَ ابْن نوح. قَالَ الْحسن: كَانُوا سَبْعَة وثامنهم نوح، وَقيل: سِتَّة وسابعهم نوح. وَقَوله: {وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون} قد بَينا.

28

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا استويت أَنْت وَمن مَعَك على الْفلك} أَي: استقررت وَجَلَست، وَقد يكون الاسْتوَاء بِمَعْنى الِارْتفَاع، قَالَ الْخَلِيل: دَخَلنَا على أبي ربيعَة الْأَعرَابِي، (فَقَالَ لنا: اسْتَووا) أَي: ارتفعوا. وَقَوله: {فَقل الْحَمد لله الَّذِي نجانا من الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مثل أهل بَيْتِي كَمثل سفينة نوح من ركبهَا سلم، وَمن لم يركبهَا (هلك) ".

29

قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب أنزلني منزلا مُبَارَكًا} وقرىء: " منزلا "، فالمنزل مَوضِع النُّزُول، والمنزل بِمَعْنى الْإِنْزَال، وَفِي مَوضِع النُّزُول قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه السَّفِينَة بعد الرّكُوب، وَالْآخر: أَنه الأَرْض بعد النُّزُول من السَّفِينَة، وَالْبركَة بعد النُّزُول هُوَ كَثْرَة النَّسْل من أَوْلَاده الثَّلَاثَة، وَالْبركَة قبل النُّزُول هُوَ النجَاة. وَفِي بعض أَخْبَار النَّبِي: " من نزل منزلا فَقَالَ: رب أنزلني منزلا مُبَارَكًا وَأَنت خير المنزلين، كَانَ ضمانا على الله أَن يحفظه من كل شَيْء يهوله، وَإِن توفّي فِي ذَلِك الْمنزل دخل الْجنَّة ". ذكره ابْن فَارس

{ذَلِك لآيَات وَإِن كُنَّا لمبتلين (30) ثمَّ أنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين (31) فَأَرْسَلنَا فيهم رَسُولا مِنْهُم أَن اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون (32) وَقَالَ الْمَلأ} فِي تَفْسِيره بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَالْخَبَر غَرِيب.

30

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَات وَإِن كُنَّا لمبتلين} قَالَ ابْن عَبَّاس: مبتلين من أطَاع وَمن عصى، وَعَن غَيره قَالَ مَعْنَاهُ: مَا من أمة إِلَّا وَنحن قد ابتليناها.

31

قَوْله: {ثمَّ أنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين} (أَي: قوما آخَرين) .

32

قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا فيهم رَسُولا مِنْهُم} فِي التَّفْسِير: أَن الْقرن هم قوم هود، وهم عَاد، وَالرَّسُول هُوَ هود، وَيُقَال: قوم صَالح وَصَالح، وَالْأول أصح وَأظْهر. وَقَوله: {أَن اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره أَفلا تَتَّقُون} قد ذكرنَا.

{من قومه الَّذين كفرُوا وكذبوا بلقاء الْآخِرَة وأترفناهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ يَأْكُل مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيشْرب مِمَّا تشربون (33) وَلَئِن أطعتم بشرا مثلكُمْ إِنَّكُم إِذا لخاسرون (34) أيعدكم أَنكُمْ إِذا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ}

33

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلأ من قومه الَّذين كفرُوا وكذبوا بلقاء الْآخِرَة} . أَي: بالمصير إِلَى الْآخِرَة. وَقَوله: {وأترفناهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: وأغنياهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَيُقَال: وسعنا عَلَيْهِم الْمَعيشَة فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا حَتَّى أترفوا، والإتراف هُوَ التنعم بملاذ الْعَيْش. قَالَ القتيبي: والترفة كالتحفة. وَقَوله: {مَا هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ يَأْكُل مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيشْرب مِمَّا تشربون} يَعْنِي: مِنْهُ.

34

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَئِن أطعتم بشرا مثلكُمْ} أَي: من لحم وَدم مثلكُمْ. وَقَوله: {إِنَّكُم إِذا لخاسرون} أَي: المغبونون، وَيُقَال: تاركون طَريقَة الْعُقَلَاء، فتكونون بِمَنْزِلَة من خسر عقله.

35

قَوْله تَعَالَى: {أيعدكم أَنكُمْ إِذا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ مخروجون} تَحْصِيل الْمَعْنى: أيعدكم أَنكُمْ إِذا متم وقبرتم ثمَّ خَرجْتُمْ من قبوركم، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " أيعدكم إِذا متم وكنتم تُرَابا وعظاما أَنكُمْ مخروجون " وَأما على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فنصب الأول بِتَقْدِير الْبَاء أَي: بأنكم، وَأما إِنَّكُم الثَّانِيَة للتَّأْكِيد، قَالَ الزّجاج: وَنَظِير هَذَا فِي الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى: {ألم يعلمُوا أَنه من يحادد الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم} .

36

قَوْله تَعَالَى: {هَيْهَات هَيْهَات لما توعدون} قَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: بعيد بعيد مَا توعدون أَي: لَا يكون ذَلِك أبدا، هَيْهَات وأيهات بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر: (أيهات أيهات العقيق وَأَهله ... أيهات خل بالعقيق نواصله)

{مخرجون (35) هَيْهَات هَيْهَات لما توعدون (36) إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا نَحن بمبعوثين (37) إِن هُوَ إِلَّا رجل افترى على الله كذبا وَمَا نَحن لَهُ بمؤمنين (38) قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون (39) قَالَ عَمَّا قَلِيل ليصبحن نادمين (40) فَأَخَذتهم الصَّيْحَة بِالْحَقِّ فجعلناهم غثاء فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين (41) ثمَّ}

37

قَوْله تَعَالَى: {إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {ونحيا} وَلم يَكُونُوا مقرين بِالْبَعْثِ؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَنه على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير يَعْنِي: نحيا وَنَمُوت، وَالْآخر: يَمُوت الْآبَاء، ويحيا الْأَبْنَاء، وَالثَّالِث: يَمُوت قوم، ويحيا قوم. قَوْله: {وَمَا نَحن بمبعوثين} أَي: بمنشرين.

38

وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا رجل افترى على الله كذبا وَمَا نَحن لَهُ بمؤمنين} أَي: بمصدقين.

39

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب انصرني بِمَا كذبون} قد بَينا.

40

قَوْله: {قَالَ عَمَّا قَلِيل ليصبحن نادمين} أَي: ليصبحون نادمين، وَمعنى يُصْبِحُونَ: يصيرون.

41

قَوْله تَعَالَى: {فَأَخَذتهم الصَّيْحَة بِالْحَقِّ} فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - صَاح بهم صَيْحَة فتصدعت قُلُوبهم. وَيُقَال: إِن المُرَاد من الصَّيْحَة الْهَلَاك. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فدع عَنْك نهيا صِيحَ فِي حجراته ... وَلَكِن حَدِيث مَا حَدِيث الرَّوَاحِل) وتمثل بِهَذَا الْبَيْت عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي بعض حروبه. وَقَوله: {بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ، وَيُقَال: بِمَا استحقوا. وَقَوله: {فجعلناهم غثاء} . الغثاء: مَا يبس من الشّجر والحشيش، وَعلا فَوق السَّيْل، وَيُقَال: الغثاء هُوَ الزّبد، فالزبد لَا ينْتَفع بِهِ، وَيذْهب بَاطِلا، فشبههم بعد الْهَلَاك بِهِ. وَقَوله: {فبعدا للْقَوْم الظَّالِمين} أَي: هَلَاكًا للْقَوْم الظَّالِمين.

{أنشأنا من بعدهمْ قرونا آخَرين (42) مَا تسبق من أمة أجلهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترا كل مَا جَاءَ أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بَعضهم بَعْضًا وجعلناهم أَحَادِيث فبعدا لقوم لَا يُؤمنُونَ (44) ثمَّ أرسلنَا مُوسَى وأخاه هَارُون بِآيَاتِنَا وسلطان}

42

قَوْله: {ثمَّ أنشأنا من بعدهمْ قرونا آخَرين} أَي: قوما آخَرين.

43

قَوْله: {مَا تسبق من أمة أجلهَا} أَي: وَقت هلاكهم. وَقَوله: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أَي: يتأخرون عَن وَقت هلاكها.

44

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترى} وَقُرِئَ: " تترى " بِالتَّنْوِينِ، وَالْمعْنَى: متواترين بَعضهم على إِثْر بعض، وَيُقَال: بَين كل نبيين قِطْعَة من الزَّمَان، وَالْأَصْل فِي {تترى} وَترى إِلَّا أَن الْوَاو قلبت تَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بعثنَا الرُّسُل وترا وترا. وَقَوله: {كلما جَاءَ أمة رسولها كذبوه} أَي: جحدوه وأنكروه. وَقَوله: {فأتبعنا بَعضهم بَعْضًا} أَي: فِي الْهَلَاك. وَقَوله: {وجعلناهم أَحَادِيث} أَي: سمرا وقصصا، قَالَ بَعضهم شعرًا. (فَكُن حَدِيثا حسنا ذكره ... فَإِنَّمَا النَّاس أَحَادِيث) وَقَوله: {فبعدا لقوم لَا يُؤمنُونَ} قد بَينا.

45

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أرسلنَا مُوسَى وأخاه هَارُون بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين} أَي: بِحجَّة بَيِّنَة، وَهِي الْآيَات التسع.

46

قَوْله تَعَالَى: {إِلَى فِرْعَوْن وملئه فاستكبروا وَكَانُوا قوما عالين} أَي: طَالِبين للعلو بِغَيْر الْحق، والاستكبار طلب التكبر، وَيُقَال: {عالين} قاهرين (لمن) تَحْتهم بالظلم.

47

وَقَوله تَعَالَى: {فَقَالُوا أنؤمن لبشرين مثلنَا} أَي: لمُوسَى وَهَارُون. وَقَوله: {وقومهما لنا عَابِدُونَ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: تَقول الْعَرَب لكل من أطَاع إنْسَانا قد عَبده.

{مُبين (45) إِلَى فِرْعَوْن وملئه فاستكبروا وَكَانُوا قوما عالين (46) فَقَالُوا أنؤمن لبشرين مثلنَا وقومهما لنا عَابِدُونَ (47) فكذبوهما فَكَانُوا من المهلكين (48) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلنَا ابْن مَرْيَم وَأمه آيَة وآويناهما إِلَى ربوة ذَات قَرَار ومعين (50) } وَفِي بعض التفاسير: أَن القبط كَانُوا يعْبدُونَ فِرْعَوْن، وَفرْعَوْن كَانَ يعبد الصَّنَم.

48

قَوْله تَعَالَى: {فكذبوهما فَكَانُوا من المهلكين} أَي: بِالْغَرَقِ.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ} أَي: التَّوْرَاة.

50

قَوْله: {وَجَعَلنَا ابْن مَرْيَم وَأمه آيَة} قد بَينا. وَقَوله: {وآويناهما إِلَى ربوة} وقرىء: " ربوة "، وَقَرَأَ أَبُو الْأَشْهب الْعقيلِيّ: " رباوة ". وَأما الربوة فِيهَا أَقْوَال: عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: هِيَ رَملَة فلسطين، وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: هِيَ غوطة دمشق، (وَيُقَال: أنزه الْمَوَاضِع فِي الدُّنْيَا [أَرْبَعَة] مَوَاضِع: غوطة دمشق) فِي الشَّام، والإيلة بالعراق، وَشعب بران بِفَارِس، وَسعد سَمَرْقَنْد، وَعَن كَعْب قَالَ: {ربوة} هِيَ بَيت الْمُقَدّس، وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: هِيَ مصر، وَفِي اللُّغَة: الربوة هُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع. وَقَوله: {ذَات قَرَار} أَي: أَرض مستوية يستقرون فِيهَا، وَقيل: مستوية مُرْتَفعَة منبسطة. وَقَوله: {ومعين} أَي: ذَات مَاء جَار، وَيُقَال: ذَات عُيُون تجْرِي فِيهَا، يُقَال: (عانت) الْبركَة إِذا جرى فِيهَا المَاء، وأنشدوا فِي الْمعِين شعرًا: (إِن الَّذين غدوا بلبك غادروا ... وسلا بِعَيْنِك لَا يزَال معينا)

51

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} قَالَ مُجَاهِد

{يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم (51) } وَقَتَادَة والسدى وَجَمَاعَة: إِن المُرَاد من قَوْله: {يَا أَيهَا الرُّسُل} هُوَ مُحَمَّد، وَالْعرب تذكر الْجمع، وتريد بِهِ الْوَاحِد، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ للرجل: أَيهَا الْقَوْم، كف عَنَّا أذاك وَمِنْهُم من قَالَ: إِن المُرَاد مِنْهُ جَمِيع الرُّسُل. وَقَالَ بَعضهم المُرَاد: عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - كَأَنَّهُ قَالَ: وَقُلْنَا لعيسى: يَا أَيهَا الرُّسُل، وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله لَا يقبل إِلَّا الطّيب، وَإِن الله تَعَالَى أَمر الْمُسلمين بِمَا أَمر بِهِ الْمُرْسلين فَقَالَ: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} وَقَالَ للْمُؤْمِنين: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات من رزقناكم واشكروا لله} ثمَّ ذكر الرجل أَشْعَث أغبر يمد يَده إِلَى السَّمَاء، فَيَقُول: يَا رب، مطعمه حرَام، وملبسه حرَام، وغذى بالحرام، فَأنى يُسْتَجَاب لَهُ "؟ ! وَفِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى كَانَ يَأْكُل من غزل أمه، وَالْأكل هُوَ أَخذ الشَّيْء بالفم؛ ليوصله إِلَى الْبَطن بالمضغ، وَأما قَوْله: {من الطَّيِّبَات} أَي: من الْحَلَال. وَقَوله: {وَاعْمَلُوا صَالحا} الصّلاح هُوَ الاسْتقَامَة على مَا توجبه الشَّرِيعَة. وَقَوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} هَذَا حث على فعل الطَّاعَة، يَعْنِي: اعْمَلُوا الصَّالِحَات، فَإِنِّي مجازيكم على عَمَلكُمْ.

52

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة} أَي: دينكُمْ دين وَاحِد، وَقيل: شريعتكم شَرِيعَة وَاحِدَة، وَيُقَال: أَمرتكُم بِمَا أمرت بِهِ من قبلكُمْ من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ، فأمركم وَاحِد. وَقَوله: {وَأَنا ربكُم فاتقون} فاحذروني.

53

قَوْله تَعَالَى: {فتقطعوا أَمرهم بَينهم} أَي: تفَرقُوا هودا ونصارى وصابئين ومجوسا. {زبرا} أَي: قطعا. قَالَ مُجَاهِد: {زبرا} كتبا أَي: جعلُوا كتبهمْ قطعا وَمَعْنَاهُ: آمنُوا بِالْبَعْضِ، وَكَفرُوا بِالْبَعْضِ، وحرفوا الْبَعْض، وَلم يحرفوا الْبَعْض. وَقَوله: {كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} أَي: مسرورون.

{وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون (52) فتقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ (53) فذرهم فِي غمرتهم حَتَّى حِين (54) أيحسبون أَنما نمدهم بِهِ من مَال وبنين (55) نسارع لَهُم فِي الْخيرَات بل لَا يَشْعُرُونَ (56) } وَيَعْنِي أَن كل فريق مسرورون بِمَا عِنْدهم: فَأهل الْإِيمَان مسرورون بِالْإِيمَان وبمتابعة النَّبِي، وَالْكفَّار مسرورون بكفرهم وبمخالفة النَّبِي.

54

قَوْله تَعَالَى: {فذرهم فِي غمرتهم} أَي: فِي ضلالتهم، وَقيل: فِي عمايتهم. وَقَوله: {حَتَّى حِين} مَعْنَاهُ: إِلَى أَن يموتوا، وَالْآيَة للتهديد.

55

قَوْله تَعَالَى: {أيحسبون أَنما نمدهم بِهِ من مَال} الْآيَة. مَعْنَاهُ: أيحسبون أَن الَّذِي نجعله مدَدا لَهُم من المَال والبنين

56

{نسارع لَهُم فِي الْخيرَات} أَي: نعجل لَهُم فِي الْخيرَات، ونقدمها ثَوابًا لَهُم رضَا بأعمالهم، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَن: لَيْسَ الْأَمر على مَا يظنون أَن المَال والبنين خير لَهُم، بل هُوَ اسْتِدْرَاج لَهُم، ومكر بهم، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {بل لَا يَشْعُرُونَ} .

57

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون} . الخشية: انزعاج النَّفس لما يتَوَقَّع من الْمضرَّة، والإشفاق هَاهُنَا هُوَ الْخَوْف من الْعَذَاب، فَمَعْنَى الْآيَة: أَن الْمُؤمنِينَ من خشيَة رَبهم لَا يأمنون عَذَابه. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْمُؤمن جمع إحسانا وخشية، وَالْمُنَافِق إساءة وَأمنا.

58

قَوْله: {وَالَّذين هم بآيَات رَبهم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون.

59

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين هم برَبهمْ لَا يشركُونَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.

60

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا} رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَرَأَ: " وَالَّذين يأْتونَ مَا أَتَوا بِهِ "، وَهُوَ قِرَاءَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا. (وَقَوله: {يُؤْتونَ مَا آتوا} أَي: يُعْطون مَا أعْطوا. وَقَوله: " يأْتونَ مَا آتوا " أَي:

{إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون (57) وَالَّذين هم بآيَات رَبهم يُؤمنُونَ (58) وَالَّذين هم برَبهمْ لَا يشركُونَ (59) وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة} يَفْعَلُونَ مَا فعلوا) . وَقَوله: {وَقُلُوبهمْ وَجلة} أَي: خائفة. وَقَوله: {أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون} . أَي: لأَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون، وَمَعْنَاهُ: خَافُوا لأَنهم علمُوا أَن رجوعهم إِلَى رَبهم، وروى عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن وهب عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت للنَّبِي: يَا رَسُول الله، قَول الله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْتونَ مَا آتوا وَقُلُوبهمْ وَجلة} أهم الَّذين يسرقون، وَيَشْرَبُونَ الْخمر، وَقُلُوبهمْ وَجلة؟ قَالَ: لَا يَا ابْنة الصّديق، بل هم الَّذين (يصلونَ، وَيَصُومُونَ) ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَقُلُوبهمْ وَجلة أَنَّهَا لَا تقبل مِنْهُم " وَفِي رِوَايَة: " ويخشون أَن لَا تقبل مِنْهُم ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي قَالَ: أَبُو الْحسن ابْن [فراس] : أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله المقرىء، أخبرنَا جدي مُحَمَّد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، أخبرنَا مَالك بن مغول، عَن عبد الرَّحْمَن بن سعيد بن وهب ... الْخَبَر. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: عمِلُوا وَالله بالطاعات، واجتهدوا فِيهَا، وخافوا أَن ترد عَلَيْهِم. هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة،

{أَنهم إِلَى رَبهم رَاجِعُون (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا ولدينا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ (62) بل قُلُوبهم فِي غمرة من هَذَا وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة أَنهم عمِلُوا بِالْمَعَاصِي، وخافوا من الله.

61

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات وهم لَهَا سَابِقُونَ} أَي: إِلَيْهَا سَابِقُونَ. قَالَ الشَّاعِر: (تجانف عَن جو الْيَمَامَة نَاقَتي ... وَمَا قصدت من أَهلهَا لسوائكا) أَي: إِلَى سوائكا. وَيُقَال: " لَهَا سَابِقُونَ " أَي: من أجلهَا سَابِقُونَ، يَقُول الْإِنْسَان لغيره: قصدت هَذِه الْبَلدة لَك أَي: لِأَجلِك، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: {وهم لَهَا سَابِقُونَ} أَي: سبقت لَهُم السَّعَادَة من الله.

62

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} قد بَينا الْمَعْنى، وَيُقَال: لم نكلف الْمَرِيض الصَّلَاة قَائِما، وَلَا الْفَقِير الزَّكَاة وَالْحج، وَلَا الْمُسَافِر الصَّوْم، وَأَشْبَاه هَذَا. وَقَوله: {ولدينا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ} أَي: عندنَا كتاب ينْطق بِالْحَقِّ، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذِهِ الْآيَة أَن من كتب إِلَى إِنْسَان كتابا فقد كَلمه. وَقَوله: {ينْطق بِالْحَقِّ} أَي: يخبر بِالصّدقِ. وَقَوله: {وهم لَا يظْلمُونَ} أَي: لَا ينقص حَقهم.

63

قَوْله تَعَالَى: {بل قُلُوبهم فِي غمرة من هَذَا} أَي: فِي غطاء، يُقَال: فلَان غمره المَاء، أَي: غطاه. وَقَوله: {وَلَهُم أَعمال من دون ذَلِك هم لَهَا عاملون} (فِيهِ قَولَانِ: أَن للْكفَّار أعمالا خبيثة محكومة عَلَيْهِم سوى مَا عمِلُوا {هم لَهَا عاملون} ) هَذَا قَول مُجَاهِد وَجَمَاعَة، وَقَالَ قَتَادَة: الْآيَة تَنْصَرِف إِلَى أَصْحَاب الطَّاعَات، وَمَعْنَاهُ: أَن الْمُؤمنِينَ لَهُم أَعمال سوى مَا عمِلُوا من الْخَيْر {هم لَهَا عاملون} ، وَالْقَوْل الأول أظهر.

( {63) حَتَّى إِذا أَخذنَا مترفيهم بِالْعَذَابِ إِذا هم يجأرون (64) لَا تجأروا الْيَوْم إِنَّكُم منا لَا تنْصرُونَ (65) قد كَانَت آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم على أعقابكم تنكصون (66) مستكبرين بِهِ سامرا تهجرون (67) }

64

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا أَخذنَا مترفيهم بِالْعَذَابِ} قد بَينا معنى المترف. وَقَوله: {بِالْعَذَابِ} وَهُوَ السَّيْف يَوْم بدر، وَيُقَال: هُوَ الْقَحْط الَّذِي أَصَابَهُم بِدُعَاء الني. وَقَوله: {إِذا هم يجأرون} أَي: يصيحون ويستغيثون.

65

قَوْله تَعَالَى: {لَا تجأروا الْيَوْم} لَا تصيحوا الْيَوْم، والجؤار هُوَ رفع الصَّوْت. وَقَوله: {إِنَّكُم منا لَا تنْصرُونَ} أَي: لَيْسَ أحد يمنعنا من عذابكم، وَقيل: {لَا تنْصرُونَ} لَا ترزقون، يُقَال: أَرض منصورة أَي: ممطورة.

66

قَوْله تَعَالَى: {قد كَانَت آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم على أعقابكم تنكصون} أَي: ترجعون قهقري على أعقابكم، وَيُقَال: أقبح الْمَشْي هُوَ الرُّجُوع على عَقِبَيْهِ قهقري.

67

قَوْله تَعَالَى: {مستكبرين بِهِ} اخْتلف القَوْل فِي قَوْله، فأظهر الْأَقَاوِيل: أَن المُرَاد مِنْهُ الْحرم، وَيُقَال: الْبَيْت أَي: متعظمين بِالْبَيْتِ الْحَرَام، وتعظيمهم أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أهل الله وجيران بَيته، وَكَانَ سَائِر الْعَرَب فِي خوف، وهم فِي أَمن، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَجَمَاعَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: {مستكبرين بِهِ} أَي: بِالْقُرْآنِ، على معنى أَنهم استكبروا فَلم يُؤمنُوا بِهِ، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه الرَّسُول على الْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا فِي الْقُرْآن. وَقَوله: {سامرا} وقرىء فِي الشاذ: " سمارا "، والسامر والسمار فِي اللُّغَة بِمَعْنى وَاحِد. وَالْآيَة فِي أَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ بِاللَّيْلِ حول الْبَيْت يسمرون. قَالَ الثَّوْريّ: السمر ظلّ الْقَمَر تَقول الْعَرَب: لَا أُكَلِّمك السمر وَالْقَمَر، أَي: اللَّيْل وَالنَّهَار. وَقَوله: {تهجرون} أَي: تعرضون عَن النَّبِي وَالْإِيمَان بِهِ وَالْقُرْآن وَالْإِيمَان،

{أفلم يدبروا القَوْل أم جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ آبَاءَهُم الْأَوَّلين (68) أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون (69) أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرهم للحق كَارِهُون (70) وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ بل أتيناهم} وَقيل: {تهجرون} أَي: تهذون. وقرىء: " تهجرون " من الهجر فِي الْكَلَام وَهُوَ الْقَبِيح، وَفِي الرِّوَايَات: أَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ عِنْد الْبَيْت فِي ظلّ الْقَمَر ويسبون النَّبِي.

68

قَوْله تَعَالَى: {أفلم يدبروا القَوْل} يَعْنِي: مَا جَاءَهُم من القَوْل، وَهُوَ الْقُرْآن. وَقَوله: {أم جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ آبَاءَهُم الْأَوَّلين} (يَعْنِي: أيظنون أَنه جَاءَهُم مَا لم يَأْتِ من قبلهم، وَمَعْنَاهُ: أَنا بعثنَا إِلَيْهِم رَسُولا كَمَا بعثنَا إِلَى الْأَوَّلين) .

69

قَوْله تَعَالَى: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون} . يَعْنِي: أَنهم عرفوه صَغِيرا وكبيرا، وَعرفُوا نسبه، وَعرفُوا وفاءه بالعهد، وأداءه للأمانات، وَصدقه فِي الْأَقْوَال، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب، على مَا ذكرنَا من قبل.

70

قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ بِهِ جنَّة} أَي: جُنُون. وَقَوله: {بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ} أَي: بِالصّدقِ. وَقَوله: {وَأَكْثَرهم للحق كَارِهُون} أَي: ساخطون.

71

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو اتبع الْحق أهواءهم} أَي: لَو اتبع مَا نزل من الْقُرْآن أهواءهم. {لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ} وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا يودون أَن ينزل الله تَعَالَى ذكر أصنامهم على مَا يعتقدونها، وَلِأَنَّهُ هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فِيهِنَّ وَمن خلق ". وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن المُرَاد من {الْحق} هُوَ الله تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: لَو اتبع (الله) أهواءهم لسمى لنَفسِهِ شَرِيكا وَولدا، ولفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن

{بذكرهم فهم عَن ذكرهم معرضون (71) أم تَسْأَلهُمْ خرجا فخراج رَبك خير وَهُوَ خير الرازقين (72) وَإنَّك لتدعوهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (73) وَإِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَن الصِّرَاط لناكبون (74) } فِيهِنَّ. وَقَوله: {بل أتيناهم بذكرهم} أَي: بِمَا يذكرهم، وَيُقَال: بشرفهم، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} أَي: شرف لَك ولقومك. وَقَوله: {فهم عَن ذكرهم معرضون} أَي: عَن شرفهم وَعَما يذكرهم معرضون.

72

قَوْله تَعَالَى: {أم تَسْأَلهُمْ خرجا} وقرىء: (" خراجا ") ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى الْجعل وَالْأَجْر، وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ: الْخراج فِي الأَرْض، والخرج فِي الرّقاب. وَقَوله: {فخراج رَبك} أَي: ثَوَابه ( {خير} أَي: أجر رَبك) خير. وَقَوله: {وَهُوَ خير الرازقين} أَي: المعطين.

73

قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّك لتدعوهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: إِلَى دين الْحق.

74

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة عَن الصِّرَاط لناكبون} . أَي: عَن طَرِيق الْحق لعادلون.

75

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ} رُوِيَ أَن النَّبِي دَعَا على قُرَيْش فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَل عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف؛ فَأَصَابَهُمْ الجدب والقحط حَتَّى أكلُوا العلهز، وَهُوَ الدَّم بالوبر، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَلَو

{وَلَو رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ للجوا فِي طغيانهم يعمهون (75) وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) } رحمناهم وكشفنا مَا بهم من ضرّ) " أَي: الْجُوع والقحط. وَقَوله: {للجوا فِي طغيانهم يعمهون} أَي: مضوا فِي طغيانهم يعمهون، وَلم ينزعوا عَنهُ.

76

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه السَّيْف يَوْم بدر، وَالْآخر: أَنه الْجُوع والقحط، وَرُوِيَ " أَن النَّبِي لما دَعَا على قومه قدم أَبُو سُفْيَان عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَلَسْت تزْعم أَنَّك بعثت رَحْمَة للْعَالمين؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ لَهُ: قتلت الْآبَاء بِالسَّيْفِ، وأهلكت الْأَبْنَاء بِالْجُوعِ، فَادع لنا يكْشف عَنَّا هَذَا الْقَحْط، فَدَعَا فكشف عَنْهُم ". وَقَوله: {فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَي: مَا خضعوا وَمَا ذلوا لرَبهم، والاستكانة طلب السّكُون. وَقَوله: {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أَي: لم يتضرعوا إِلَى رَبهم، بل مضوا إِلَى عتوهم وتمردهم.

{حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد إِذا هم فِيهِ مبلسون (77) وَهُوَ الَّذِي أنشأ لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (78) وَهُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون (79) وَهُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت وَله اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار أَفلا تعقلون (80) بل قَالُوا مثل مَا قَالَ الْأَولونَ (81) قَالُوا أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا}

77

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد} يُقَال: بِالْمَوْتِ، وَيُقَال: بِقِيَام السَّاعَة. وَقَوله: {إِذا هم فِيهِ مبلسون} . أَي: متحيرون آيسون، وَعَن السّديّ قَالَ: {حَتَّى إِذا فتحنا عَلَيْهِم بَابا ذَا عَذَاب شَدِيد} هُوَ فتح مَكَّة. وَيُقَال: الْعَذَاب الشَّديد هُوَ الْأَمْرَاض والشدائد، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: هُوَ الْقَتْل يَوْم بدر.

78

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أنشأ لكم السّمع} أَي: الأسماع لتسمعوا، وَهَذَا وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: {والأبصار} أَي: لتبصروا. وَقَوله: {والأفئدة} لتعقلوا. وَقَوله: {قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: لم تشكروا هَذِه النعم.

79

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون} أَي: خَلقكُم وأنشركم وكثركم فِي الأَرْض. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ تحشرون} أَي: تبعثون.

80

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت وَله اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: تَدْبِير اللَّيْل وَالنَّهَار فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان، وَيُقَال: وَمِنْه اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار. وَقَوله {أَفلا تعقلون} . مَعْنَاهُ: أَفلا تعقلون الْآيَات الَّتِي وَضَعتهَا فِيهَا.

81

قَوْله تَعَالَى: {بل قَالُوا مثل مَا قَالَ الْأَولونَ} مَعْنَاهُ: كذبُوا كَمَا كذب الْأَولونَ.

82

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون} أَي: مَحْشُورُونَ، وَقَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار والتعجب.

83

قَوْله تَعَالَى: {لقد وعدنا نَحن وآباؤنا هَذَا من قبل إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين} أَي: أكاذيب الْأَوَّلين، وَيُقَال: أسمار الْأَوَّلين وأقاصيصهم، وَقيل: مَا سطره الْأَولونَ فِي

{وعظاما أئنا لمبعوثون (82) لقد وعدنا نَحن وآباؤنا هَذَا من قبل إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين (83) قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ (84) سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ (85) قل من رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم (86) سيقولون لله قل أَفلا تَتَّقُون (87) قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير} كتبهمْ وَلَا حَقِيقَة لَهُ.

84

قَوْله تَعَالَى: {قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

85

قَوْله تَعَالَى: {سيقولون لله} يَعْنِي: هُوَ ملك لله وَملكه. وَقَوله: {أَفلا تذكرُونَ} أَي: تتعظون.

86

قَوْله تَعَالَى: {قل من رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم} أَي: السرير الضخم.

87

قَوْله تَعَالَى: {سيقولون لله} وَقُرِئَ: " سيقولون الله ". أما قَوْله تَعَالَى: " سيقولون الله " هَذَا رَاجع إِلَى اللَّفْظ، فَالْمَعْنى كَالرّجلِ يَقُول لغيره: من مَالك هَذَا الدَّار؟ فَيَقُول: زيد. وَأما قَوْله: {سيقولون لله} يرجع إِلَى الْمَعْنى دون اللَّفْظ، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: من مَالك هَذِه الدَّار؟ فَيَقُول: هِيَ لزيد. وَقَوله: {قل أَفلا تعقلون} أَي: أَفلا تحذرون.

88

قَوْله تَعَالَى: {قل من بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء} . أَي: مَالك كل شَيْء، وَالتَّاء للْمُبَالَغَة، وَكَذَلِكَ فعلوت تذكر للْمُبَالَغَة مثل قَوْلهم: جبروت ورهبوت، من كَلَامهم: رهبوت خير من رحموت، وَمَعْنَاهُ: أَن ترهب خير من أَن ترحم. وَقَوله: {وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ} أَن يُؤمن على كل النَّاس، وَلَا يُؤمن عَلَيْهِ أحد، وَمَعْنَاهُ: أَن من أَمنه الله لَا يقدر عَلَيْهِ أحد، وَمن لم يُؤمنهُ الله لم يُؤمنهُ أحد، وَقيل: من أَرَادَ الله عَذَابه لَا يقدر أحد على منع الْعَذَاب عَنهُ، وَمن أَرَادَ أَن يعذب غَيره من الْخلق قدر الله على مَنعه مِنْهُ. وَقَوله: {إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

{وَلَا يجار عَلَيْهِ إِن كُنْتُم تعلمُونَ (88) سيقولون لله قل فَأنى تسحرون (89) بل أتيناهم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق ولعلا بَعضهم على بعض سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ (91) عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فتعالى عَمَّا يشركُونَ (92) قل رب إِمَّا تريني مَا يوعدون}

89

قَوْله تَعَالَى: {سيقولون لله قل فَأنى تسحرون} أَي: تخدعون، وَقيل: تصرفون عَن الْحق، قَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ: أَيْن ذهبت (عقولكم) ؟ ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: {فَأنى تسحرون} أَي: تعمهون.

90

قَوْله تَعَالَى: {بل أتيناهم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أَي: بِالصّدقِ، إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ فِيمَا يدعونَ لله من الشَّرِيك وَالْولد.

91

قَوْله تَعَالَى: {مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه} أَي: من شريك. وَقَوله: {إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق} أَي: تفرد بِمَا خلقه، فَلم يرض أَن يُضَاف خلقه وَنعمته إِلَى غَيره. وَقَوله: {ولعلا بَعضهم على بعض} . أَي: طلب بَعضهم الْغَلَبَة على الْبَعْض، كَمَا يفعل مُلُوك الدُّنْيَا فِيمَا بَينهم، ثمَّ نزه نَفسه فَقَالَ: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ} .

92

قَوْله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: السِّرّ وَالْعَلَانِيَة. وَقَوله: {فتعالى عَمَّا يشركُونَ} أَي: تعظم عَمَّا يشركُونَ، وَمَعْنَاهُ: أَنه أعظم أَن يُوصف بِهَذَا الْوَصْف.

93

قَوْله تَعَالَى: {قل رب إِمَّا تريني مَا يوعدون} يَعْنِي: إِن أريتني مَا وعدتهم من الْعَذَاب

94

{رب فَلَا تجعلني فِي الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: اجْعَلنِي خَارِجا مِنْهُم، وَلَا تعذبني مَعَهم، هَكَذَا ذكره الزّجاج. قَالَ أهل التَّفْسِير: وَهَذَا دَلِيل على أَنه يجوز للْعَبد أَن يسْأَل الله تَعَالَى مَا هُوَ كَائِن لَا محَالة.

95

قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا على أَن نريك مَا نعدهم لقادرون} أَي: مَا نعدهم من الْعَذَاب.

( {93) رب فَلَا تجعلني فِي الْقَوْم الظَّالِمين (94) وَإِنَّا على أَن نريك مَا نعدهم لقادرون (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن السَّيئَة نَحن أعلم بِمَا يصفونَ (96) وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين (97) وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون (98) حَتَّى إِذا جَاءَ أحدهم الْمَوْت قَالَ رب ارْجِعُونِ (99) }

96

قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن السَّيئَة} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ الدّفع بِالصبرِ، وَاحْتِمَال الْأَذَى، والكف عَن الْمُقَاتلَة، وَهَذَا قبل آيَة السَّيْف، وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: هُوَ أَن يسلم على من يُؤْذِيه، فالدفع هُوَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَعَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ دفع الشّرك بِلَا إِلَه إِلَّا الله، وَعَن بَعضهم: هُوَ دفع الْمُنكر بِالْمَوْعِظَةِ. قَوْله تَعَالَى: {نَحن أعلم بِمَا يصفونَ} أَي: بوصفهم وكذبهم.

97

قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين} وساوسهم، والهمز فِي اللُّغَة مَأْخُوذ من الدّفع، وَدفع الشَّيَاطِين غَيره إِلَى الْمعْصِيَة يكون بوسوسته، فَعرف أَن الهمزات هِيَ الوساوس، وَقيل: همز الشَّيْطَان إغراؤه على الْمعْصِيَة.

98

وَقَوله: {وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون} أَي: يحضروا أَمْرِي، وَإِنَّمَا ذكر الْحُضُور؛ لِأَنَّهُ يغريه على الْمعْصِيَة، ويوسوسه إِذا حضر.

99

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءَ أحدهم الْمَوْت} أَي: حضر أحدهم الْمَوْت. وَقَوله: {قَالَ رب ارْجِعُونِ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه خطاب للْمَلَائكَة، وهم الْمَلَائِكَة الَّذين يحْضرُون بِقَبض الرّوح، وَهَذَا قَول ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ: {رب} . وَأما القَوْل الثَّانِي - وَهَذَا الْمَعْرُوف - أَن الْخطاب مَعَ الله، وَكَأن الْكَافِر يسْأَل ربه عِنْد الْمَوْت أَن يردهُ إِلَى الدُّنْيَا، فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَقد قَالَ: {ارْجِعُونِ} ، وَالْوَاحد لَا يخطاب بخطاب الْجمع، وَلَا يَسْتَقِيم أَن يَقُول الْقَائِل: اللَّهُمَّ اغفروا لي؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه إِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الْجمع على طَرِيق التفخيم والتعظيم، فَإِن الله تَعَالَى أخبر عَن نَفسه بِلَفْظ الْجمع فَقَالَ: {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وَمثل هَذَا كثير فِي الْقُرْآن، فَذكر قَوْله: {ارْجِعُونِ} على مُوَافقَة هَذَا كَمَا يُخَاطب الْجمع،

{لعَلي أعمل صَالحا فِيمَا تركت كلا إِنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا وَمن ورائهم برزخ إِلَى يَوْم يبعثون (100) فَإِذا نفخ فِي الصُّور} وَعَن الْخَلِيل أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة - وَكَانَ شَدِيد التوقي فِي كَلَام الْقُرْآن - وَقَالَ: {رب ارْجِعُونِ} مَعْنَاهُ: اجْعَلنِي مرجوعا.

100

وَقَوله تَعَالَى: {لعَلي أعمل صَالحا فِيمَا تركت} أَي: أَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقيل: هُوَ الْعَمَل بِالطَّاعَةِ، قَالَ قَتَادَة: طلب الرُّجُوع ليعْمَل صَالحا، لَا ليجمع الدُّنْيَا، وَيَقْضِي الشَّهَوَات، فرحم الله امْرَءًا عمل فِيمَا يتمناه الْكَافِر إِذا رأى الْعَذَاب. قَوْله تَعَالَى: {كلا إِنَّهَا كلمة هُوَ قَائِلهَا} يَعْنِي: سُؤال الرّجْعَة، وَقد قَالَ أهل الْعلم من السّلف: لَا يسْأَل الرّجْعَة عبد لَهُ عِنْد الله ذرة من خير؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ لَهُ خير عِنْد الله فَهُوَ يحب الْقدوم عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا أَن سُؤال الرّجْعَة يكون للْكَافِرِ لَا لِلْمُؤمنِ. وَقَوله: {وَمن وَرَاءَهُمْ برزخ} أَي: حاجز، وَهُوَ الْقَبْر. وَقَوله: {إِلَى يَوْم يبعثون} فالبرزخ هُوَ مَا بَين الْمَوْت إِلَى الْبَعْث، وَيُقَال: مَا بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

101

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا نفخ فِي الصُّور} حُكيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: أَي: فِي الصُّور. وَهَذَا قَول ضَعِيف، وَالصَّحِيح أَن الصُّور قرن ينْفخ فِيهِ إسْرَافيل، وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " كَيفَ أنعم، وَقد الْتَقم صَاحب الْقرن الْقرن، وحنى جَبهته، وأصغى بأذنه مَتى يُؤمر فينفخ ". فَمن الْعلمَاء من يَقُول: ينْفخ ثَلَاث نفخات: نفخة للصعق، ونفخة للْمَوْت،

{فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون (101) } ونفخة للبعث. وَالْأَكْثَرُونَ أَنه ينْفخ نفختين: نفخة للْمَوْت، ونفخة للبعث، والصعق هُوَ الْمَوْت، وَيكون بَين النفختين أَرْبَعُونَ سنة. قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ} أَي: لَا أَنْسَاب يتفاخرون ويتواصلون بهَا، وَأما أصل الْأَنْسَاب فباقية. وَأما قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " كل سَبَب وَنسب يَنْقَطِع إِلَّا سببي ونسبي " أَي: لَا ينفع سَبَب وَلَا نسب يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا سببي ونسبي، وَيُقَال: سَببه الْقُرْآن، وَنسبه الْإِيمَان. وَقَوله: {وَلَا يتساءلون} أَي: لَا يسْأَل بَعضهم بَعْضًا سُؤال تواصل، فَإِن قيل: أَلَيْسَ أَن الله تَعَالَى قَالَ: {فَأقبل بَعضهم على بعض يتساءلون} ؟ الْجَواب: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: يَوْم الْقِيَامَة مَوَاطِن وتارات، فَفِي موطن يشْتَد عَلَيْهِم الْخَوْف (فتذهل) عُقُولهمْ، فَلَا يتساءلون، وَفِي مَوضِع يفيقون إفاقة فيتساءلون.

102

قَوْله تَعَالَى: {فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون} أَي: الفائزون والناجون.

103

قَوْله تَعَالَى: {وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم} أَي: غبنوا

{فَمن ثقلت مَوَازِينه فَأُولَئِك هم المفلحون (102) وَمن خفت مَوَازِينه فَأُولَئِك الَّذين خسروا أنفسهم فِي جَهَنَّم خَالدُونَ (103) تلفح وُجُوههم النَّار وهم فِيهَا كَالِحُونَ (104) ألم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم بهَا تكذبون (105) } أنفسهم بِهَلَاك (الْآيَة) . وَقَوله: {فِي جَهَنَّم خَالدُونَ} أَي: مقيمون.

104

قَوْله تَعَالَى: {تلفح وُجُوههم النَّار} . اللفح أكبر من النفح، وَمَعْنَاهُ: يُصِيب وُجُوههم حر النَّار، وَقيل: تحرق وُجُوههم النَّار وتنضجها. وَقَوله: {وهم فِيهَا كَالِحُونَ} الكالح فِي اللُّغَة: هُوَ العابس، وَأما الْمَرْوِيّ فِي التَّفْسِير: هُوَ الَّذِي تقلصت شفتاه، وَظَهَرت أَسْنَانه. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: كالرأس النضيج قد بَدَت أَسْنَانه، وتقلصت شفتاه. وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: " هُوَ أَن تتقلص شفته الْعليا حَتَّى تبلغ وسط رَأسه وَتَسْتَرْخِي شفته السُّفْلى حَتَّى تضرب سرته ". وَفِي بعض التفاسير: وَتخرج أَسْنَانه عَن شَفَتَيْه [أَرْبَعِينَ] ذِرَاعا. وَعَن بعض التَّابِعين من الْخَائِفِينَ: أَنه مر على شواء، فَرَأى رُءُوس الْغنم وَقد أبرزت، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا غشي عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يذكر هَذِه الْآيَة.

105

وَقَوله تَعَالَى: {ألم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم فكنتم بهَا تكذبون} أَي: تجحدون وتنكرون.

106

وَقَوله: {قَالُوا رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا} وقرىء: " شقاوتنا " وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَالْمرَاد مِنْهُ: إِنَّمَا أدخلنا النَّار بِمَا غلب علينا من حكمك وقضائك بشقاوتنا. وَقَوله:

{قَالُوا رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ (106) رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَإِن عدنا فَإنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون (108) إِنَّه كَانَ فريق من عبَادي يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ (109) فاتخذتموهم سخريا} {وَكُنَّا قوما ضَالِّينَ} أَي: عَن الْحق.

107

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَإِن عدنا فَإنَّا ظَالِمُونَ} فيتركهم مِقْدَار عمر الدُّنْيَا، وَفِي رِوَايَة: مثلي عمر الدُّنْيَا.

108

ثمَّ يَقُول: { [قَالَ] اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} قَالَ: فَيَنْقَطِع رجاؤهم حِينَئِذٍ، وَلَا يسمع بعد ذَلِك مِنْهُم إِلَّا الزَّفِير والشهيق، وَأما قَوْله: {اخْسَئُوا} أَي: ابعدوا، وَهُوَ مثل قَوْلهم: خسأت الْكَلْب أَي: أبعدته.

109

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه كَانَ فريق من عبَادي يَقُولُونَ رَبنَا آمنا فَاغْفِر لنا وارحمنا وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ} . قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا فِي بِلَال وسلمان وعمار وصهيب والفقراء من أَصْحَاب الرَّسُول.

110

وَقَوله: {فاتخذتموهم سخريا} وقرىء: " سخريا " فَقَوله: {سخريا} من الِاسْتِهْزَاء، وَقَوله: " سخريا " من التسخير. وَقَوله: {حَتَّى أنسوكم ذكري} أَي: اشتغلتم بالاستهزاء والسخرية عَلَيْهِم، وتركتم ذكري، وَكَانَ الْوَاجِب عَلَيْكُم أَن تذكروني بدل استهزائكم بهم. وَقَوله: {وكنتم مِنْهُم تضحكون} وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الِاسْتِهْزَاء بِالنَّاسِ كَبِيرَة، وَهُوَ مَوْعُود عَلَيْهِ، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: من ضحك ضحكة مج مجة من الْعلم لَا يعود إِلَيْهِ أبدا.

111

قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جزيتهم الْيَوْم بِمَا صَبَرُوا أَنهم هم الفائزون} أَي: بصبرهم {أَنهم هم الفائزون} أَي: الناجون.

{حَتَّى أنسوكم ذكري وكنتم مِنْهُم تضحكون (110) إِنِّي جزيتهم الْيَوْم بِمَا صَبَرُوا أَنهم هم الفائزون (111) قَالَ كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين (112) قَالُوا لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم فاسأل العادين (113) قَالَ إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا لَو أَنكُمْ كُنْتُم تعلمُونَ (114) أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون (115) }

112

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين} . يَعْنِي: قَالَ الله تَعَالَى للْكفَّار: {كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين} (أَي: فِي الدُّنْيَا، وَيُقَال: فِي الْقُبُور، وقرىء: " قل كم لبثتم فِي الأَرْض عدد سِنِين ") وَمَعْنَاهُ: قل يَا أَيهَا الْكَافِر.

113

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم} إِنَّمَا ذكرُوا يَوْمًا أَو بعض يَوْم؛ لأَنهم نسوا عدد مَا لَبِثُوا من هول مَا يلقاهم يَوْم الْقِيَامَة، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذِه الْآيَة تدل على أَن عَذَاب الْقَبْر لَيْسَ بِثَابِت للْكفَّار؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ ثَابتا لم يَقُولُوا: لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه ذهب عَن قُلُوبهم عَذَاب الْقَبْر من هول مَا يلقاهم يَوْم الْقِيَامَة، وَالثَّانِي: أَن الله تَعَالَى يرفع الْعَذَاب عَن أهل الْقُبُور بَين النفختين، فينسون عَذَاب الْقَبْر، ويستريحون، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ لبثنا يَوْمًا أَو بعض يَوْم لهَذَا. وَقَوله: {فاسأل العادين} أَي: الْمَلَائِكَة الَّذين يعْرفُونَ عدد مَا لَبِثُوا.

114

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن لبثتم إِلَّا قَلِيلا} يَعْنِي: مَا لبثتم إِلَّا قَلِيلا {لَو أَنكُمْ كُنْتُم تعلمُونَ} أَي: لَو تعلمُونَ عدد مَا لبثتم، وَإِنَّمَا ذكر قَلِيلا؛ لِأَن الْوَاحِد من أهل الدُّنْيَا وَإِن لبث فِي الدُّنْيَا سِنِين كَثِيرَة، فَإِنَّهُ يكون قَلِيلا فِي جنب مَا يلبث فِي الْآخِرَة.

115

قَوْله تَعَالَى: {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} أَي: لتلعبوا أَو تعبثوا، وَقد سمى الله تَعَالَى جَمِيع الدُّنْيَا لعبا ولهوا فَقَالَ: {اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو} فالآية تدل على أَن الْآدَمِيّ لم يخلق لطلب الدُّنْيَا والاشتغال بهَا، وَإِنَّمَا خلق ليعبد الله وَيقوم بأوامره، وَعَن بَعضهم قَالَ: {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} هُوَ فِي معنى قَوْله

{فتعالى الله الْملك الْحق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْكَرِيم (116) وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ (117) وَقل رب} تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يهمل أمره وَقَالَ بَعضهم: خلق (لهلاك) الْأَبَد أَو لملك الْأَبَد. وَقَوله: {وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى.

116

قَوْله تَعَالَى: {فتعالى الله الْملك الْحق لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْكَرِيم} أَي: الْمُرْتَفع، وَقيل: الْحسن، وَقد بَينا معنى {تَعَالَى} من قبل.

117

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ} أَي: لَا بَيِّنَة وَلَا حجَّة لَهُ بِهِ، قَالَ أهل الْعلم: لَا حجَّة لأحد فِي دَعْوَى الشّرك، وَإِنَّمَا الْحجَّة عَلَيْهِم. وَقَوله: {فَإِنَّمَا حسابه عِنْد ربه} هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِن علينا حسابهم} ، وَرُوِيَ " أَن أَعْرَابِيًا أَتَى النَّبِي وَقَالَ: وَمن يحاسبنا يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: الله. قَالَ: نجونا وَرب الْكَعْبَة، إِن الْكَرِيم إِذا قدر غفر " وَالْخَبَر غَرِيب. وَقَوله: {إِنَّه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} أَي: لَا يسْعد وَلَا يفوز.

118

قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب اغْفِر وَارْحَمْ وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ} {اغْفِر} اسْتُرْ {وَارْحَمْ} اعطف، والغفور: الستور، والرحيم هُوَ العطوف.

{اغْفِر وَارْحَمْ وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ (118) } قَوْله: {وَأَنت خير الرَّاحِمِينَ} . أَي: خير من رحم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {سُورَة أنزلناها وفرضناها} تَفْسِير سُورَة النُّور وَهِي مَدَنِيَّة، وروى الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِيمَا خرجه من الزِّيَادَة على الصَّحِيحَيْنِ بِرِوَايَة شُعَيْب بن إِسْحَق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ فِي النِّسَاء: " لَا تسكنوهن الغرف، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَة، وعلموهن الْغَزل وَسورَة النُّور ".

النور

قَوْله تَعَالَى: {سُورَة أنزلناها} وَقِرَاءَة الْأَعْرَج وَمُجاهد " سُورَة أنزلناها "، وَالسورَة: مَجْمُوع آيَات مِمَّا أنزل الله تَعَالَى مَعْلُوم الِابْتِدَاء والانتهاء، وَإِنَّمَا رفع سُورَة؛ لِأَن مَعْنَاهَا: هَذِه سُورَة، وَقَوله: " سُورَة " بِالنّصب فتقديره أنزلنَا سُورَة. وَقَوله: {وفرضناها} قرىء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، أما بِالتَّخْفِيفِ فَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَان: أَحدهمَا: ألزمناكم الْعَمَل بِمَا فرض فِيهَا، وَالْآخر: فرضناها أَي: قَدرنَا مَا فِيهَا من الْحُدُود، وَالْفَرْض هُوَ التَّقْدِير، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم} أَي: مَا قدرتم، وَأما بِالتَّشْدِيدِ فَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَان: أَحدهمَا: فَرضنَا فرائضها، وشدد لما فِيهَا من الْكَثْرَة. وَالْوَجْه الثَّانِي: فرضناها أَي: بيناها وفصلناها. قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْأَمر بالحلال وَالنَّهْي عَن الْحَرَام.

{وأنزلنا فِيهَا آيَات بَيِّنَات لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (1) الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} وَقَوله: {وأنزلنا فِيهَا آيَات بَيِّنَات} أَي: دلالات واضحات. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} أَي: تتعظون.

2

قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} قَالَ أهل الْعلم: إِنَّمَا بَدَأَ بِالْمَرْأَةِ، لِأَن رقة الْقلب عَلَيْهِنَّ أَكثر، فَبَدَأَ بِهن لِئَلَّا يتْرك إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا، وَيكون أمرهَا لَهُم، وَمِنْهُم من قَالَ: لِأَن الشَّهْوَة فِيهِنَّ أَكثر، وَالزِّنَا نتيجة الشَّهْوَة، وَبَدَأَ فِي حد السّرقَة بِالرجلِ؛ لِأَن الْقُوَّة والجراءة فِي الرِّجَال أَكثر، وَالسَّرِقَة نتيجة الْقُوَّة والجراءة، وَهَذَا قَول حسن. وَقَوله: {فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} الْجلد: ضرب الْجلد، يُقَال: جلدته إِذا ضربت جلده، وبطنته إِذا ضربت بَطْنه، وظهرته إِذا ضربت ظَهره، وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْآيَة عَامَّة فِي الْأَبْكَار وَالثَّيِّب، فتجلد الثّيّب مَعَ الرَّجْم. رُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " أَنه جلد شراحة الهمدانية يَوْم الْخَمِيس مائَة، ورجمها يَوْم الْجُمُعَة، وَقَالَ: جلدتها بِكِتَاب الله، ورجمتها بِسنة رَسُول الله ". وَأما قَول عَامَّة الْعلمَاء فَهُوَ: أَن الْآيَة مَخْصُوصَة للأبكار، وَأَن الثّيّب يرْجم وَلَا يجلد، وَاتفقَ أهل الْعلم أَن هَذِه الْآيَة ناسخة؛ لِأَن الْمَذْكُورَة فِي الْإِمْسَاك فِي سُورَة النِّسَاء. وَقد رُوِيَ عَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي نزل عَلَيْهِ الْوَحْي وَنحن عِنْده، وَكَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي تغير وَجهه، وصرفنا أبصارنا عَنهُ، فَلَمَّا سرى عَنهُ قَالَ: " لِتَأْخُذُوا عني فَقُلْنَا: نعم يَا رَسُول الله، فَقَالَ: قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا، الثّيّب بِالثَّيِّبِ الرَّجْم، وَالْبكْر بالبكر جلد مائَة وتغريب عَام ".

{وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ (2) } وَذكر النقاش أَن فِي حرف أبي بن كَعْب فِي سُورَة الْأَحْزَاب، " الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم ". وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - قد هم أَن يكْتب هَذَا على حَاشِيَة الْمُصحف ثمَّ ترك لِئَلَّا يلْحق بِالْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. وَقَوله: {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} وقرىء: " رافة " بِغَيْر همز، وقرىء فِي الشاذ: " رآفة " يَعْنِي: رَحْمَة. وَاعْلَم أَن الرَّحْمَة والرأفة معنى فِي الْقلب لَا ينْهَى عَنهُ؛ لِأَنَّهُ يُوجد فِي الْقلب من غير اخْتِيَار إِنْسَان، وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: اسْتِعْمَال الرَّحْمَة فِي (تَعْطِيل الْحَد) وتخفيفه. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمر أَنه ضرب أمة لَهُ الْحَد، وَكَانَت قد زنت، فَجعل يضْرب رجلهَا وظهرها، فَقَالَ لَهُ سَالم ابْنه: {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} فَقَالَ: يَا بني: إِن الله لم يَأْمُرنِي بقتلها، وَلَا بِضَرْب رَأسهَا، وَقد ضربت فأوجعت. وَقد قَالَ أهل الْعلم: يجْتَهد فِي جلدَة الزَّانِي مَا لَا يجْتَهد فِي جلدَة شَارِب الْخمر لنَصّ الْكتاب. (وَقَوله: {فِي دين الله} أَي: فِي حكم الله) . وَقَوله: {إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} ظَاهر الْمَعْنى. وَحَقِيقَة مَعْنَاهُ: أَن الْمُؤمن لَا تَأْخُذهُ رَحْمَة ورقة إِذا جَاءَ أَمر الرب. وَقَوله: {وليشهد عَذَابهَا طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَاحِد فَمَا فَوْقه. وَعَن عَطاء: رجل إِلَى ألف رجل. وَعَن سعيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة: رجلَانِ. وَعَن الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة: ثَلَاثَة نفر. وَقَالَ مَالك: أَرْبَعَة نفر، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَجَمَاعَة من أهل الْعلم.

3

قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَن

{الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان أَو مُشْرك وَحرم} الْآيَة نزلت فِي امْرَأَة تسمى أم مهزول، وَكَانَت بغية، وَإِذا تزوجت بِرَجُل شرطت عَلَيْهِ أَن تنْفق عَلَيْهِ، فَأَرَادَ رجل من أَصْحَاب رَسُول الله أَن يتَزَوَّج بهَا، فَسَأَلَ النَّبِي [] ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة} وَيُقَال: إِن اسْم الْمَرْأَة كَانَ عنَاق. وَهَذَا قَول عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا: " كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَغَايَا على أبوابهن رايات يعرفن بهَا، وَكن مخاصيب الرِّجَال، فَلَمَّا هَاجر أَصْحَاب رَسُول الله إِلَى الْمَدِينَة أَرَادَ نَاس من فُقَرَاء الْمُهَاجِرين أَن يتزوجوا بِهن لينفقن عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالْقَوْل الثَّالِث: رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: معنى الْآيَة: " الزَّانِي المجلود لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة مجلودة، والزانية المجلودة لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان مجلود وَفِي بعض المسانيد: روى هَذَا القَوْل عَن النَّبِي بطرِيق أبي هُرَيْرَة.

وَالْقَوْل الرَّابِع: رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي، عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى الْآيَة: الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بزانية، وَمعنى النِّكَاح [هُوَ الْوَطْء] ، قَالَ الزّجاج: وَهَذَا القَوْل ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لم يرد فِي الْقُرْآن ذكر النِّكَاح بِمَعْنى الْوَطْء. وَالْقَوْل الْخَامِس - وَهُوَ أحسن الْأَقَاوِيل - قَول سعيد بن الْمسيب: أَن الْآيَة مَنْسُوخَة، وَقد كَانَ فِي حكم الْإِسْلَام لَا يجوز أَن يتَزَوَّج الزَّانِي بالمزني بهَا. قَالَ عبد الله بن مَسْعُود. إِذا تزوج الزَّانِي بالزانية فهما زانيان أبدا. قَالَ سعيد بن الْمسيب: ثمَّ نسخ هَذَا بقوله تَعَالَى: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} والزانية أيم، فَيجوز التَّزَوُّج بهَا للزاني وَغَيره، وَالدَّلِيل على أَن الحكم الْآن هَذَا، مَا رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ جَالِسا فِي الْمَسْجِد وَعِنْده عمر، فجَاء رجل وَقد دهش، وَكَانَ بِهِ لوث، فَقَالَ أَبُو بكر: قد جَاءَ هَذَا لأمر، سَله يَا عمر، فَقَالَ لَهُ عمر: مَا شَأْنك؟ فَذكر أَنه جَاءَهُ ضيف، وَأَن الضَّيْف زنى بابنته، فَقَالَ لَهُ عمر: قبحك الله، ودق على صَدره، وَقَالَ: هلا سترت على ابْنَتك، ثمَّ دَعَا بِالرجلِ وَالْمَرْأَة، فَأمر أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَن يجلد الْجلد، (ثمَّ زوج الْمَرْأَة من الرجل) وَذكر أَبُو عبيد - رَحمَه الله - أَنه يكره للرجل أَن يتَزَوَّج بالفاجرة، وَإِن فجرت امْرَأَته اسْتحبَّ لَهُ طَلاقهَا، قَالَ: وَأما الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي " أَن رجلا أَتَاهُ وَقَالَ: إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس، فَقَالَ: طَلقهَا فَقَالَ: إِنِّي أحبها. قَالَ: استمتع بهَا. قَالَ أَبُو [عبيد] هَذَا الْخَبَر نقل

{ذَلِك على الْمُؤمنِينَ (3) وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم} بروايتين كل وَاحِد مِنْهُمَا مُرْسل، فَلَيْسَ يثبت هَذَا عَن النَّبِي وَلَئِن يثبت فَيحْتَمل أَن قَوْله: " إِن امْرَأَتي لَا ترد يَد لامس " تنْفق مَا وَقع بِيَدِهَا وَتُعْطِي، وَكَأَنَّهُ شكا مِنْهَا الْخرق وتضييع مَاله، وَلَيْسَ المُرَاد هُوَ أَنَّهَا تَزني، فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يذكر ذَلِك عِنْد النَّبِي، ثمَّ يَأْمُرهُ بإمساكها. وَقَوله: {وَحرم ذَلِك على الْمُؤمنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا أَن ذَلِك مَنْسُوخ.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} وَالْمُحصنَات هن اللواتي أحصن أَنْفسهنَّ. وَقَوله: {ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} أَي: على زناهن، وَالْمرَاد من الرَّمْي الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ الْقَذْف بِالزِّنَا. وَقَوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة} أَي: اضربوهم ثَمَانِينَ سَوْطًا. وَقَوله: {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} اخْتلف السّلف فِي هَذَا، فَروِيَ عَن شُرَيْح وَالْحسن وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَجَمَاعَة أَنهم قَالُوا: شَهَادَة الْقَاذِف لَا تقبل أبدا إِذا حد وَإِن تَابَ، وَهَذَا قَول أهل الْعرَاق. وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَجَمَاعَة: أَنه إِذا تَابَ قبلت شَهَادَته، وَهَذَا قَول أهل الْحجاز. وَقَالَ الشّعبِيّ: يقبل الله تَوْبَته، وَلَا تقبلون شَهَادَته؟ ! وَحكى سعيد بن الْمسيب أَن عمر قَالَ لأبي بكرَة: تب تقبل شهادتك، فَلم يتب، وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} فَمن قَالَ: إِن شَهَادَة الْقَاذِف

{الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذين تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (5) وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا أنفسهم فشهادة أحدهم أَربع شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الصَّادِقين (6) } تقبل بعد التَّوْبَة ذهب إِلَى أَن

5

قَوْله: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} ينْصَرف إِلَى الْكل سوى الْحَد، وَعَن الشّعبِيّ: أَن الْحَد يسْقط أَيْضا بِالتَّوْبَةِ، وَأما من ذهب إِلَى أَن شَهَادَة الْقَاذِف لَا تقبل بعد التَّوْبَة قَالَ: إِن قَوْله: {إِلَّا الَّذين تَابُوا} ينْصَرف إِلَى قَوْله: {وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} فَإِن قيل: إِذا قبلتم شَهَادَة الْقَاذِف بعد التَّوْبَة، فَمَا معنى قَوْله تَعَالَى: {أبدا} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ الزّجاج فِي كِتَابه: أَبَد كل إِنْسَان مدَّته على مَا يَلِيق بِقِصَّتِهِ، فَإِذا قيل: لَا تقبل شَهَادَة الْكَافِر أبدا يُرَاد بِهِ مادام كَافِرًا، وَإِذا قيل: لَا تقبل شَهَادَة الْقَاذِف أبدا يُرَاد بِهِ مادام قَاذِفا، وَأما تَوْبَة الْقَاذِف فبإكذابه نَفسه، وَيُقَال: بندامته على مَا وجد مِنْهُ. قَوْله: {وَأَصْلحُوا} أَي: استقاموا على التَّوْبَة. وَقَوله: {فَإِن الله غَفُور رَحِيم} قد بَينا من قبل.

6

قَوْله: {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم} . يَعْنِي: يقذفون نِسَاءَهُمْ بِالزِّنَا. وَقَوله: {وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء إِلَّا أنفسهم} أَي: غير أنفسهم. وَقَوله: {فشهادة أحدهم أَربع} بِالرَّفْع، وقرىء بِالنّصب " أَربع "، فَأَما بِالرَّفْع فتقديره: فشهادة أحدهم الَّتِي تدرأ الْحَد أَربع، فَيكون رفعا على خبر الِابْتِدَاء، وَأما بِالنّصب فتقديره: فشهادة أحدهم أَن يشْهد أَربع. وَقَوله: {شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الصَّادِقين} يَعْنِي: فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَامِسَة أَن لعنة الله عَلَيْهِ} وقرىء: " أَن لعنة الله عَلَيْهِ " بِسُكُون

{وَالْخَامِسَة أَن لعنت الله عَلَيْهِ إِن كَانَ من الْكَاذِبين (7) ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الْكَاذِبين (8) وَالْخَامِسَة أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين (9) } النُّون، وَمَعْنَاهُ: أَنه لعنة الله عَلَيْهِ، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ شعرًا: (فِي فتية كسيوف الْهِنْد قد علمُوا ... أَن هَالك كل من يخفى وينتعل) يَعْنِي: أَنه هَالك. وَقَوله: {إِن كَانَ من الْكَاذِبين} يَعْنِي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا.

8

قَوْله تَعَالَى: {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب} فِي الْعَذَاب قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْحَد، وَالْآخر: أَنه الْحَبْس، وَتَأْويل الْحَد أظهر؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وليشهد عذابهما طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ} أَي: الْحَد. وَقَوله: {أَن تشهد أَربع شَهَادَات بِاللَّه إِنَّه لمن الْكَاذِبين} يَعْنِي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَامِسَة أَن غضب الله عَلَيْهَا إِن كَانَ من الصَّادِقين} وقرىء: " أَن غضب الله عَلَيْهَا "، وقرىء: " أَن غضب الله عَلَيْهَا " بِكَسْر الضَّاد فَقَوله: {أَن غضب الله عَلَيْهَا} هَذَا فعل، وَقَوله: {أَن غضب الله عَلَيْهَا} اسْم، وَقَوله: {أَن

غضب الله) هُوَ (فعل) أَيْضا، يَعْنِي: أَنه غضب الله. وَقَوله: {إِن كَانَ من الصَّادِقين} أَي: فِيمَا رَمَاهَا بِهِ من الزِّنَا، وَسبب نزُول الْآيَة، مَا روى ابْن عَبَّاس " أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته بِشريك بن سَحْمَاء عِنْد النَّبِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: الْبَيِّنَة، (وَإِلَّا) فحد فِي ظهرك فَقَالَ هِلَال: يَا رَسُول الله، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِنِّي لصَادِق، وسينزل الله مَا يبرىء ظَهْري من الْحَد، فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَدَعَا رَسُول الله هلالا وَامْرَأَته، ولاعن بَينهمَا، فَبَدَأَ هِلَال، والتعن أَربع مَرَّات، فَلَمَّا بلغ الْخَامِسَة قَالَ لَهُ النَّبِي: أمسك فَإِنَّهَا مُوجبَة. فَقَالَ هِلَال إِن الله يعلم أَنِّي صَادِق وَشهد بالخامسة، ثمَّ قَامَت الْمَرْأَة فالتعنت أَربع مَرَّات، فَلَمَّا بلغت الْخَامِسَة قَالَ لَهَا النَّبِي: أمسكي فَإِنَّهَا مُوجبَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: فتلكت تلكؤا سَاعَة، حَتَّى ظننا أَنَّهَا سترجع ثمَّ قَالَت: لَا أفضح قومِي الْيَوْم، وَشهِدت بالخامسة، فَقَالَ النَّبِي: " إِن جَاءَت بِالْوَلَدِ أكحل الْعَينَيْنِ سابغ الأليتين خَدلج السَّاقَيْن، فَهُوَ لِشَرِيك بن سَحْمَاء، فَجَاءَت بِهِ على هَذَا النَّعْت، فَقَالَ النَّبِي: " لَوْلَا الْأَيْمَان لَكَانَ لي وَلها شَأْن ". وَالْخَبَر صَحِيح. وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِد لَيْلَة جُمُعَة، ومعنا رجل فَخرج منا وَدخل بَيته، فَوجدَ مَعَ امْرَأَته رجلا، فجَاء إِلَى النَّبِي، وشكا إِلَيْهِ فَقَالَ: عَلَيْك بالشهود فَقَالَ: وأنى لي بالشهود؟ فَقَالَ: قد حرت فِي هَذَا الْأَمر، فَإِن الرجل إِن قتل قَتَلْتُمُوهُ، وَإِن تكلم حددتموه، وَإِن سكت سكت على

{وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وَأَن الله تواب حَكِيم (10) إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم} غيظ، اللَّهُمَّ فاحكم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَات ". وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: أَنه لما أنزل الله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَع شُهَدَاء ... الْآيَة} قَالَ [سعد] بن عبَادَة: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت أَنِّي وجدت لكاعا (يتفخذ) رجل، فَلَا أهيجه وَلَا أحركه حَتَّى آتِي بأَرْبعَة شُهَدَاء؟ فَإلَى أَن آتِي بِالشُّهَدَاءِ قد قضى الرجل حَاجته، فَقَالَ النَّبِي: " انْظُرُوا يَا معشر الْأَنْصَار مَا يَقُول سيدكم "، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، إِنَّه لرجل غيور، وَإنَّهُ مَا تزوج امْرَأَة قطّ إِلَّا عذراء، وَمَا طلق امْرَأَة فَأحب أحد منا أَن يَتَزَوَّجهَا، فَقَالَ سعد: إِنِّي أعلم أَن مَا أنزل الله حق، وَلَكِنِّي تعجبت، فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة اللّعان " على مَا بَينا. وَفِي الْبَاب أَخْبَار كَثِيرَة، وَفِيه حَدِيث عَاصِم بن عدي [وعويمر] الْعجْلَاني وَغَيرهمَا، وَذَلِكَ مَذْكُور فِي كتب الحَدِيث.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وَأَن الله تواب رَحِيم} . جَوَاب الْآيَة مَحْذُوف، وَمثله قَول الرجل إِذا شَتمه إِنْسَان: أَيهَا الرجل لَوْلَا كَذَا أَي: لَوْلَا كَذَا لشتمتك، فعلى هَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم

وَرَحمته) لنال الْكَاذِب مِنْكُمَا الْعَذَاب فِي الْحَال، وَمِنْهُم من قَالَ: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته} بِتَأْخِير الْعَذَاب وإمهاله لعجل عَذَابه.

11

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم} هَذِه الْآيَات فِي قصَّة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - وَكَانَ سَبَب نُزُولهَا مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة وَسَعِيد بن الْمسيب وعلقمة بن وَقاص وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة كلهم عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: " كَانَ رَسُول الله إِذا خرج إِلَى سفر أَقرع بَين نِسَائِهِ، فَخرج إِلَى غَزْوَة غَزَاهَا، وأقرع بَين نِسَائِهِ، فَخرجت قرعتي " وَفِي رِوَايَة: أَن الْغَزْوَة كَانَت غَزْوَة مريسيع، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن الْغَزْوَة كَانَت غَزْوَة بني المصطلق، وَقَالَت: فَلَمَّا رَجعْنَا قبل الْمَدِينَة عرس رَسُول الله لَيْلَة، ثمَّ إِنَّهُم آذنوا بالرحيل، فَخرجت لحاجتي فَلَمَّا قضيت شأني رجعت فَالْتمست صَدْرِي، فَوجدت عقدا لي من جزع ظفار سقط، فَرَجَعت، وَجَاء الْقَوْم الَّذين يرحلون هودجي، وَوَضَعُوا الهودج على الْبَعِير، وظنوا أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاء إِذْ ذَاك خفافا، فَإِنَّمَا يأكلن الْعلقَة من الطَّعَام، فَرَجَعت وَقد مر الْجَيْش، فَلَا دَاع وَلَا مُجيب، وَكَانَ صَفْوَان بن الْمُعَطل السّلمِيّ كَانَ تَأَخّر عَن الْجَيْش، وَفِي رِوَايَة: أَنه كَانَ يعْتَاد التَّأَخُّر، حَتَّى إِن كَانَ سقط من أحد شَيْء، أَو ترك إِنْسَان شَيْئا يَأْخُذهُ، وَيَردهُ عَلَيْهِ، فجَاء ورائي، فَاسْتَرْجع وَمَا كلمني بِكَلِمَة وَقد استدلت جلبابي، فَأَنَاخَ بعيره ووطأه لي حَتَّى ركبته، وَجَاء يقودني حَتَّى لحقنا بالجيش، وَقد نزلُوا موغرين فِي حر الظهيرة، قَالَت: فَلَمَّا وصلنا إِلَى الْجَيْش تكلم النَّاس، وَهلك من هلك " الْخَبَر بِطُولِهِ. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني، أخبرنَا

جدي أَبُو الْهَيْثَم بن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفربرِي [أخبرنَا] مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ أخبرنَا أَبُو الرّبيع الزهْرَانِي عَن فليح بن سُلَيْمَان، عَن الزُّهْرِيّ ... الْخَبَر. ويروى أَنه ... تلبث الْوَحْي [سَبْعَة] وَثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن عَائِشَة اشتكت واستأذنت رَسُول الله، وَرجعت إِلَى بَيت أَبِيهَا، وَكَانَ رَسُول الله يدْخل قبل رُجُوعهَا إِلَى بَيت أَبِيهَا، وَهِي مشتكية، فَيَقُول: " كَيفَ تيكم؟ " ثمَّ لما رجعت إِلَى بَيت أَبِيهَا عرفت الْخَبَر من قبل أم مسطح فازدادت وبقا، وَجعلت تبْكي، وَلَا يرقأ لَهَا دمع، حَتَّى كَاد الْبكاء يصدع قَلبهَا، وَذكرت لذَلِك لأمها، فَقَالَت لَهَا أمهَا: هوني عَلَيْك فقلما تكون امْرَأَة وضيئة عِنْد رجل، وَلها ضرائر إِلَّا تكلمُوا فِيهَا. وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي دَعَا عليا وَأُسَامَة بن زيد، واستشارهما، فَأَما عَليّ فَقَالَ يَا رَسُول الله، إِن فِي النِّسَاء كَثْرَة، وَأما أُسَامَة فَقَالَ: لَا أعلم مِنْهَا إِلَّا خيرا، وسل الْجَارِيَة - يَعْنِي: بَرِيرَة - فَسَأَلَ بَرِيرَة فَقَالَت: لَا أعلم مِنْهَا إِلَّا أَنَّهَا جَارِيَة حَدِيثَة السن تعجن، فَتدخل الدَّاجِن فتأكل عَجِينهَا. وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي جَاءَ إِلَى بَيت أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - بعد أَن مَضَت الْمدَّة الَّتِي ذَكرنَاهَا، فَقَالَ: " يَا عَائِشَة، إِن كنت أَلممْت بذنب فتوبي إِلَى الله، فَإِن الله يقبل التَّوْبَة: قَالَت: فقلص دمعي حَتَّى مَا أجد مِنْهُ قَطْرَة، ثمَّ قلت: إِن قلت أَنِّي فعلت، وَالله يعلم أَنِّي مَا فعلت ليصدقنني، وَإِن قلت: لم أفعل، وَالله يعلم أَنِّي لم أفعل ليكذبنني، وَمَا أعرف مثلي ومثلكم إِلَّا مَا قَالَ أَبُو يُوسُف، ونسيت اسْمه {فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} ثمَّ تنحيت، فَأخذ رَسُول الله [] الْوَحْي، قَالَت: وَكنت أَحْقَر فِي نَفسِي أَن أَظن أَن الله ينزل فِي قُرْآنًا يُتْلَى،

{لَا تحسبوه شرا لكم بل هُوَ خير لكم لكل امرىء مِنْهُم مَا اكْتسب من الْإِثْم وَالَّذِي تولى كبره مِنْهُم لَهُ عَذَاب عَظِيم (11) } وَلَكِنِّي كنت أَظن أَنه يرى رُؤْيا، فَلَمَّا تغشاه الْوَحْي لم أفزع لما علمت أَنِّي بريئة، وَالله يعلم ذَلِك ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن أَبَوي كَادَت نفسهما تخرج خوفًا، فَلَمَّا سرى عَن رَسُول الله قَالَ: " أَبْشِرِي يَا عَائِشَة قد أنزل الله تَعَالَى براءتك، وتلا الْآيَات: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم} فَقَالَ لي أبي: قومِي إِلَى رَسُول الله، وَقَالَت أُمِّي: قومِي إِلَى رَسُول الله، فَقلت: لَا أقوم وَلَا أَحْمد إِلَّا الله، فَإِن الله تَعَالَى أنزل براءتي ". قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين جَاءُوا بالإفك عصبَة مِنْكُم} الْإِفْك هُوَ أَشد الْكَذِب، وَإِنَّمَا سمي إفكا لِأَنَّهُ مَصْرُوف عَن الْحق. وَقَوله: {عصبَة مِنْكُم هَؤُلَاءِ الْعصبَة هم: عبد الله بن أبي بن سلول، ومسطح بن أَثَاثَة ابْن خَالَة أبي بكر، وَحسان بن ثَابت، وَحمْنَة بنت جحش زَوْجَة طَلْحَة بن عبد الله أُخْت زَيْنَب، وَنَفر آخَرُونَ، والعصبة الْعشْرَة فَمَا فَوْقهَا. وَقَوله: {لَا تحسبوه شرا لكم بل هُوَ خير لكم} هَذَا خطاب لعَائِشَة وَصَفوَان بن معطل فَإِنَّهُم قذفوهما جَمِيعًا، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ خطاب لعَائِشَة ولأبويها وَالنَّبِيّ وَصَفوَان، وَمعنى الْآيَة: لَا تحسبوه شرا لكم، يَعْنِي: هَذَا الْإِفْك هُوَ خير لكم لأجل الثَّوَاب، وَمَا ادخر الله لَهُم من ذَلِك. وَقَوله: {لكل امرىء مِنْهُم مَا اكْتسب من الْإِثْم} أَي: من الْإِثْم بِقدر مَا اكْتسب. وَقَوله: {وَالَّذِي تولى كبره} . وقرىء: " كبره "، وَقَرَأَ الْأَعْرَج: " كُبره ". فَقَوله: {كبره} أَي: إثمه. وَقَوله: " كُبره ". أَي: معظمه، قَالَ الشَّاعِر:

{لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا وَقَالُوا هَذَا إفْك مُبين (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بأَرْبعَة شُهَدَاء فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} (تنام عَن كبر شَأْنهَا فَإِذا ... قَامَت [رويدا] تكَاد تنغرف) وَأما الَّذِي تولى كبره فالأكثرون أَنه عبد الله بن أبي بن سلول، وَأما الْعَذَاب الْعَظِيم فَهُوَ النَّار فِي الْآخِرَة. وَقد روى مَسْرُوق أَن حسان بن ثَابت اسْتَأْذن على عَائِشَة فَأَذنت لَهُ، فَقَالَ مَسْرُوق: أَتَأْذَنِينَ لَهُ، وَقد قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَت: قد أَصَابَهُ الْعَذَاب الْعَظِيم، وَكَانَ قد عمى، وَقد تَابَ حسان من تِلْكَ الْمقَالة ومدح عَائِشَة فَقَالَ: (حصان رزان مَا تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لُحُوم الغوافل) ( [فَإِن كَانَ مَا بلغت أَنِّي قلته] ... فَلَا رفعت سَوْطِي إِلَى أناملي) وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَنه أنكر الْكبر وَقَالَ: إِنَّمَا الْكبر فِي الْوَلَاء وَالنّسب. وَقد ذكر غَيره أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا صَحِيح، وَقد بَينا.

12

قَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا} أَي: بِمن هُوَ مثل أنفسهم، وَهُوَ مثل قَول النَّبِي: " الْمُؤْمِنُونَ كَنَفس وَاحِدَة "، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} أَي: لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا، وَيُقَال: إِن معنى ظن هَاهُنَا أَيقَن. وَقَوله: {وَقَالُوا هَذَا إفْك مُبين} أَي: كذب ظَاهر.

{لمسكم فِي مَا أَفَضْتُم فِيهِ عَذَاب عَظِيم (14) إِذْ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هينا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم (15) وَلَوْلَا إِذْ سمعتموه قُلْتُمْ مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم (16) }

13

قَوْله: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بأَرْبعَة شُهَدَاء} أَي: على مَا زَعَمُوا. وَقَوله: {فَإذْ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِك عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يصيرون عِنْد الله كاذبين إِذا لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ، (وَمن كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَاذِب عِنْد الله سَوَاء أَتَى بِالشُّهَدَاءِ) ، أَو لم يَأْتِ بهم؟ الْجَواب: قُلْنَا: قَالَ بَعضهم: {عِنْد الله} أَي: فِي حكم الله، وَقَالَ بَعضهم: {عِنْد الله هم الْكَاذِبُونَ} أَي: كذبوهم بِمَا أَمركُم الله، وَالْجَوَاب الثَّالِث: أَن هَذَا فِي حق عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فَمَعْنَاه: أُولَئِكَ هم الْكَاذِبُونَ فِي غيبي وَعلمِي.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لمسكم فِيمَا أَفَضْتُم فِيهِ عَذَاب عَظِيم} أَفَضْتُم أَي: خضتم، وَقَوله: {عَذَاب عَظِيم} أَي: عَذَاب لَا انْقِطَاع لَهُ، هَكَذَا قَالَه ابْن عَبَّاس، وَفسّر بِهَذَا لِأَن الله تَعَالَى قد ذكر أَنه أصَاب الَّذِي تولى كبره عَذَاب عَظِيم، وَكَذَلِكَ الْعَذَاب الْعَظِيم هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَقد أَصَابَهُ، فَإِنَّهُ قد جلد وحد، وَأما الْعَذَاب الَّذِي لَا انْقِطَاع لَهُ لم يصبهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُصِيبهُ فِي الْآخِرَة. وروت عمْرَة عَن عَائِشَة: " أَن النَّبِي لما نزلت هَذِه الْآيَات حد أَرْبَعَة نفر: عبد الله بن أبي، وَحسان بن ثَابت، ومسطح بن أَثَاثَة، وَحمْنَة بنت جحش ".

15

قَوْله تَعَالَى: {إِذا تلقونه بألسنتكم} أَي: يلقيه بَعْضكُم، وَيَرْوِيه بَعْضكُم عَن بعض، وَعَن عَائِشَة أَنَّهَا قَرَأت: " إِذْ تلقونه بألسنتكم الْكَذِب " وَيُقَال: هُوَ الْإِسْرَاع فِي

{يعظكم الله أَن تعودوا لمثله أبدا إِن كُنْتُم مُؤمنين (17) وَيبين الله لكم الْآيَات وَالله عليم حَكِيم (18) إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة فِي الَّذين آمنُوا لَهُم عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ (19) وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وَأَن الله رءوف رَحِيم (20) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا} الْكَذِب. وَقَوله: {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هينا} أَي: خَفِيفا. {وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} أَي: كَبِير.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا إِذْ سمعتموه} وَمَعْنَاهُ: هلا إِذْ سمعتموه. {قُلْتُمْ مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم} الْبُهْتَان هُوَ الْكَذِب على المكابرة، يُقَال: بَهته إِذا أخْبرته بكذبه، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أم أَيُّوب الْأنْصَارِيّ قَالَت لأبي أَيُّوب: أما بلغك كَذَا، وَهُوَ مَا نسب إِلَى عَائِشَة؟ فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: مَا كَانَ لنا أَن نتكلم بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم، قَالَ هَذَا قبل أَن تنزل الْآيَة، ثمَّ نزلت الْآيَة على وفْق قَوْله.

17

قَوْله: {يعظكم الله أَن تعودوا لمثله أبدا} قَالَ مُجَاهِد: يَنْهَاكُم الله أَن تعودا لمثله أبدا. {إِن كُنْتُم مُؤمنين وَيبين لكم الْآيَات} : أَي: الدلالات. {وَالله عليم حَكِيم} عليم بخلقه، حَكِيم فِي فعله.

19

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة} يَعْنِي: أَن تذيع وتشتهر. {فِي الَّذين آمنُوا} أَي: عَائِشَة وَصَفوَان وَآل أبي بكر، وَكَانَت إشاعتهم أَن بَعضهم كَانَ يلقى بَعْضًا فَيَقُول لَهُ: أما بلغك كَذَا وَكَذَا من خبر عَائِشَة. وَقَوله: {لَهُم عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا هُوَ الْحَد، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة هُوَ النَّار. وَقَوله: {وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ} يَعْنِي: بَرَاءَة عَائِشَة وَأَنه خلقهَا طيبَة طَاهِرَة

{تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان وَمن يتبع خطوَات الشَّيْطَان فَإِنَّهُ يَأْمر بالفحشاء وَالْمُنكر وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء وَالله سميع عليم (21) وَلَا يَأْتَلِ أولُوا الْفضل مِنْكُم وَالسعَة} من الْفَوَاحِش.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وَأَن الله رءوف رَحِيم} مَحْذُوف الْجَواب، وَجَوَابه: لنالكم الْعَذَاب الشَّديد فِي الْحَال.

21

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان} أَي: خَطَايَا الشَّيْطَان، وَقيل: آثاره، وَيُقَال: تخطيه من الْحَلَال إِلَى الْحَرَام، وَمن الطَّاعَة إِلَى الْمعْصِيَة. وَقَوله: {وَمن يتبع خطوَات الشَّيْطَان فَإِنَّهُ يَأْمر بالفحشاء} أَي: القبائح من الْأَفْعَال. {وَالْمُنكر} أَي: كل مَا يكرههُ الله. وَقَوله: {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا} أَي: مَا صلح مِنْكُم من أحد أبدا. {وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} أَي: يصلح من يَشَاء. قَالَ الشَّاعِر: (إِنَّمَا نَحن كشيء فَاسد ... فَإِذا أصلحه الله صلح) وَقَوله: {وَالله سميع عليم} ظَاهر الْمَعْنى.

22

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أولو الْفضل مِنْكُم وَالسعَة} هُوَ مَأْخُوذ من الألية، والألية الْيَمين. قَالَ الشَّاعِر: (قَلِيل الألايا حَافظ ليمينه ... وَإِن بدرت مِنْهُ الألية برت) نزلت الْآيَة فِي شَأْن أبي بكر ومسطح، وَكَانَ ابْن خَالَة أبي بكر وَفِي نَفَقَته، وَهُوَ

{أَن يؤتوا أولي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين والمهاجرين فِي سَبِيل الله وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم وَالله غَفُور رَحِيم (22) إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَهُم عَذَاب} رجل من أهل بدر من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين، فَلَمَّا ذكر فِي عَائِشَة مَا ذكر أنزل الله تَعَالَى براءتها من السَّمَاء، حلف أَبُو بكر أَلا ينْفق عَلَيْهِ، وَكَانَ مِسْكينا لَا شَيْء لَهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وقرىء: " وَلَا يتأل " (قَرَأَهُ أَبُو جَعْفَر) ، فالأكثرون أَن معنى قَوْله: {وَلَا يَأْتَلِ} مَا بَينا، وَمِنْهُم من قَالَ مَعْنَاهُ: لَا يقصر من قَول الْقَائِل: لَا آلوا فِي أَمركُم كَذَا أَي: لَا أقصر، وَقَوله: {أولو الْفضل مِنْكُم وَالسعَة} أَي: الْغنى وَالسعَة. وَقَوله: {أَن يؤتوا أولي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين والمهاجرين} هُوَ مسطح، فَإِنَّهُ كَانَ قريب أبي بكر، وَكَانَ مِسْكينا وَمن الْمُهَاجِرين، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع؟ قُلْنَا: يجوز مثل هَذَا فِي اللُّغَة، وَيجوز أَنه أَرَادَهُ وَأَرَادَ غَيره. وَقَوله: {وليعفوا وليصفحوا} أَي: ليعفوا عَن أفعالهم، وليصفحوا عَن أَقْوَالهم. وَقَوله: {أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم} هَذَا خطاب لأبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَرُوِيَ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، وقرئت عَلَيْهِ قَالَ: بلَى وَالله نحب أَن يغْفر لنا. وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} أَي: ستور صفوح.

23

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات} أَي: الْغَافِلَات عَن الْفَوَاحِش، والغافلة عَن الْفَاحِشَة أَن لَا يَقع فِي قَلبهَا فعل الْفَاحِشَة، وَكَانَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - هَكَذَا.

{عَظِيم (23) يَوْم تشهد عَلَيْهِم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (24) يَوْمئِذٍ يوفيهم الله دينهم الْحق ويعلمون أَن الله هُوَ الْحق الْمُبين (25) الخبيثات للخبيثين} وَقَوله: {لعنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} رُوِيَ عَن خصيف قَالَ: قلت لمجاهد: من قذف مُؤمنَة لَعنه الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ فَقَالَ: ذَاك لعَائِشَة. وَيُقَال: هَذَا فِي جَمِيع أَزوَاج النَّبِي. وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} قد بَينا.

24

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تشهد عَلَيْهِم ألسنتهم} شَهَادَة الْأَلْسِنَة يَوْم الْقِيَامَة بنطقها من غير اخْتِيَار الْإِنْسَان. وَقَوله: {وأيديهم وأرجلهم} يُقَال: تختم الأفواه ثمَّ تَتَكَلَّم الْأَيْدِي والأرجل. {بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} ظَاهر.

25

قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ يوفيهم الله دينهم الْحق} أَي: حسابهم الْعدْل. وَقَوله: {ويعلمون أَن الله هُوَ الْحق الْمُبين} أَي: الْعَادِل الْمظهر لعدله.

26

قَوْله تَعَالَى: {الخبيثات للخبيثين} فِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أَحدهمَا: الخبيثات من الْكَلَام للخبيثين من الرِّجَال، والخبيثون من الرِّجَال للخبيثات من الْكَلَام، والطيبون والطيبات هَكَذَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: الخبيثات من النِّسَاء للخبيثين من الرِّجَال، والخبيثون من الرِّجَال للخبيثات من النِّسَاء، وَهَكَذَا الطَّيِّبَات والطيبون، والخبيث من الرِّجَال عبد الله بن أبي بن سلول ودونه، والخبيثات من النِّسَاء أهل بَيته، وَيُقَال: كَلَامه فِي عَائِشَة، والطيبات هِيَ عَائِشَة من النِّسَاء وأمثالها، والطيبون للنَّبِي وَقَومه. وَاعْلَم أَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - كَانَت تفتخر بأَشْيَاء مِنْهَا: " أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ

{والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أُولَئِكَ مبرءون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (26) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا وتسلموا على أَهلهَا ذَلِك خير لكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} السَّلَام - أَتَى بصورتها فِي سَرقَة (من) حَرِير أَي: قِطْعَة، وَقَالَ: هَذِه زَوجك، (وَذَلِكَ) بعد وَفَاة خَدِيجَة، وَيُقَال: أَتَى بصورتها فِي كَفه، وَمِنْهَا أَن النَّبِي لم يتَزَوَّج بعذراء إِلَّا بهَا، وَمِنْهَا أَن النَّبِي قبض وَرَأسه فِي حجرها، وَدفن فِي بَيتهَا، وَمِنْهَا أَنه نزل براءتها من السَّمَاء، وَمِنْهَا أَنَّهَا بنت خَليفَة رَسُول الله، وَأَنَّهَا صديقَة ". وَكَانَ مَسْرُوق إِذا روى عَن عَائِشَة يَقُول: حَدَّثتنِي الصديقة بنت الصّديق حَبِيبَة رَسُول الله المبرأة من السَّمَاء. وَقَوله: {أُولَئِكَ مبرءون مِمَّا يَقُولُونَ} أَي: مطهرون بِمَا يَقُولُونَ. وَقَوله: {لَهُم مغْفرَة ورزق كريم} الْمَغْفِرَة هُوَ الْعَفو عَن الذُّنُوب، والرزق الْكَرِيم هُوَ الْجنَّة.

27

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا} . قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " حَتَّى تستأذنوا " قَالَ: تستأنسوا غلط من الْكَاتِب، وَالْمَعْرُوف تستأنسوا، وَفِيه ثَلَاثَة أَقْوَال: أشهرها: " تستأذنوا " فالاستئناس بِمَعْنى الاسْتِئْذَان، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ " التنحنح " قَالَه مُجَاهِد، وَالْقَوْل الثَّالِث: " حَتَّى تستأنسوا " هُوَ التعرف والاستعلام حَتَّى يُؤذن لَهُ أَو لَا يُؤذن.

( {27) فَإِن لم تَجدوا فِيهَا أحدا فَلَا تدخلوها حَتَّى يُؤذن لكم وَإِن قيل لكم} وَقَوله: {وتسلموا على أَهلهَا} . السّنة إِذا بلغ الْإِنْسَان بَاب دَار يَقُول: أَدخل؟ وَقَالَ بَعضهم: إِذا وَقع الْعين على الْعين يقدم السَّلَام، وَإِذا لم تقع الْعين على الْعين قدم الاسْتِئْذَان. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَليرْجع " فَروِيَ أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَتَى بَاب عمر، وَاسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَرجع، فَقَالَ عمر: أَلَيْسَ قد سَمِعت صَوت عبد الله بن قيس؟ قَالُوا: اسْتَأْذن ثَلَاثًا وَرجع، فَدَعَاهُ وَقَالَ: لم رجعت؟ فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله يَقُول كَذَا، فَقَالَ: لتَأْتِيني بِمن يشْهد لَك، وَإِلَّا لأعلونك بِالدرةِ، فجَاء أبي بن كَعْب وَذكر لَهُ ذَلِك، فجَاء وَشهد لَهُ، وَقيل: غَيره شهد لَهُ. قَالَ الْحسن: الأول إِعْلَام، وَالثَّانِي (مُؤَامَرَة) ، وَالثَّالِث اسْتِئْذَان بِالرُّجُوعِ. وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِذا لم يُؤذن لَهُ لَا يقْعد على الْبَاب، فَإِن للنَّاس حاجات. وَقَالَ بَعضهم: إِن كَانَ طَرِيقا يجوز أَن يقف وَيقْعد، وَإِن كَانَ فنَاء بَيته لَا يقْعد إِلَّا بِإِذْنِهِ. قَالُوا: وَإِن كَانَ الْبَاب مردودا فَلَا ينظر إِلَى الدَّار من شقّ الْبَاب، وَإِن كَانَ الْبَاب مَفْتُوحًا فَلَا بَأْس أَن ينظر؛ لِأَنَّهُ لما فتح الْبَاب فقد أذن.

{ارْجعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أزكى لكم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم (28) لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تدْخلُوا بُيُوتًا غير مسكونة فِيهَا مَتَاع لكم وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون}

28

وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن لم تَجدوا فِيهَا أحدا فَلَا تدخلوها حَتَّى يُؤذن لكم} أَي: لَا تدخلوها بِغَيْر إِذن الْمَالِك. وَقَوله: {وَإِن قيل لكم ارْجعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أزكى لكم} يَعْنِي: إِذا كَانَ فِي الْبَيْت قوم وَقَالُوا: ارْجع، فَليرْجع، وَالسّنة أَن لَا يتَغَيَّر أذن أَو رد لِأَنَّهُ رُبمَا يكون للْقَوْم معاذير، وَكَانَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنهُ - يَأْتِي بَاب الْأنْصَارِيّ لطلب الحَدِيث، فيقعد على الْبَاب حَتَّى يخرج وَلَا يسْتَأْذن، فَيخرج ذَلِك الرجل وَيَقُول: يَا ابْن عَم رَسُول الله، لَو أَخْبَرتنِي؟ فَيَقُول: هَكَذَا أمرنَا أَن نطلب الْعلم. وَقَوله: {هُوَ أزكى لكم} يَعْنِي: هُوَ أصلح لكم. وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} ظَاهر الْمَعْنى.

29

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تدْخلُوا بُيُوتًا غير مسكونة} . فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْمنَازل فِي طَرِيق الْمُسَافِرين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا حوانيت التُّجَّار، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْمنَازل الخربة، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا الْخَانَات والمنازل فِي الطّرق، فَهُوَ الدُّخُول فِيهَا وَالنُّزُول، وَأما فِي حوانيت التُّجَّار فالمنفعة هُوَ البيع وَالشِّرَاء، وَأما فِي الخرابات فالبول وَالْغَائِط. وَقَوله: {وَالله يعلم مَا تبدون وَمَا تكتمون} ظَاهر الْمَعْنى. وَرُوِيَ عَن شُعَيْب بن الحبحاب قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَالِيَة يأتيني وَأَنا فِي دكانتي، فيستأذن ثمَّ يدْخل، فَأَقُول لَهُ: إِنَّمَا هُوَ الْحَانُوت، فَيَقُول لي: الْإِنْسَان يَخْلُو فِي حانوته بِحِسَابِهِ ودراهمه، وَأما الاسْتِئْذَان على الْمَحَارِم فَإِن كَانُوا فِي دَار مُنْفَرِدَة يسْتَأْذن، وَإِن كَانُوا فِي دَار وَاحِدَة فَإِذا دخل عَلَيْهَا يَتَنَحْنَح، ويتحرك أدنى حَرَكَة، وَقيل لِقَتَادَة: لَا

( {29) قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم ذَلِك أزكى لَهُم إِن الله خَبِير بِمَا يصنعون (30) } أَسْتَأْذن على أُمِّي؟ فَقَالَ: أَتُحِبُّ أَن ترى عورتها؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اسْتَأْذن. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: لَيْسَ على حوانيت السُّوق إِذن. وَعَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ إِذا جَاءَ إِلَى حَانُوت السُّوق يَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم أَدخل؟ ثمَّ يلج. وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَحُذَيْفَة أَنه يسْتَأْذن على ذَوَات الْمَحَارِم، وَمثله عَن الْحسن الْبَصْرِيّ.

30

قَوْله تَعَالَى: {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم} الْآيَة. من صلَة وَمَعْنَاهُ: يغضوا أَبْصَارهم، حُكيَ هَذَا عَن سعيد بن جُبَير، وَقَالَ بَعضهم: من هَا هُنَا للتَّبْعِيض، وَإِنَّمَا ذكر من هَا هُنَا؛ لِأَن غض الْبَصَر إِنَّمَا يجب عَن الْحَرَام، وَلَا يجب عَن الْحَلَال. وَقَوله: {ويحفظوا فروجهم} هَذَا أَمر بالتعفف. قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: حفظ الْفرج فِي كل الْقُرْآن بِمَعْنى الِامْتِنَاع من الْحَرَام، وَأما هَا هُنَا فَإِنَّهُ بِمَعْنى السّتْر. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعَلي - رَضِي الله عَنهُ - " إِن لَك فِي الْجنَّة كنزا، وَإنَّك ذُو قرنيها، فَلَا تتبع النظرة النظرة؛ فَإِن الأولى لَك، وَالثَّانيَِة عَلَيْك " رَوَاهُ على نَفسه، وَعَن بعض السّلف قَالَ: إِن النّظر يزرع الشَّهْوَة فِي الْقلب، وَرب شَهْوَة أورثت حزنا طَويلا. وَعَن خَالِد بن أبي عمرَان أَنه قَالَ: إِن الرجل لينْظر نظرة فينغل قلبه، كَمَا ينغل الْأَدِيم، فَيفْسد قلبه حَتَّى لَا ينْتَفع بِهِ. وروى أَبُو أُمَامَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من نظر إِلَى محَاسِن امْرَأَة وغض بَصَره

{وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} عَنْهَا أعطَاهُ الله عبَادَة يجد حلاوتها ". وَقَوله: {ذَلِك أزكى لَهُم} أَي: أطهر لَهُم. وَقَوله: {إِن الله خَبِير بِمَا يصنعون} أَي: عليم بِمَا يصنعون.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} وَرُوِيَ أَن ابْن أم مَكْتُوم أقبل إِلَى النَّبِي وَعِنْده أم سَلمَة ومَيْمُونَة فَقَالَ لَهما رَسُول الله: " احتجبا. فَقَالَتَا: إِنَّه أعمى، فَقَالَ: أعمياوان أَنْتُمَا ". وَقَوله: {وَلَا يبدين زينتهن} الزِّينَة: كل مَا تتزين [بِهِ] الْمَرْأَة من الْحلِيّ وَالثيَاب. وَقَوله: {إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا: قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ الثِّيَاب وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبيد. وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْكحل. وَحكى الْكَلْبِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: الْكحل والخاتم والخضاب، وَعنهُ أَنه قَالَ: الْوَجْه والكفان. وَاعْلَم أَن المُرَاد بالزينة

{وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا لبعولتهن أَو آبائهن أَو آبَاء بعولتهن أَو أبنائهن أَو أَبنَاء بعولتهن أَو إخوانهن أَو بني إخوانهن أَو بني} مَوضِع الزِّينَة هَا هُنَا فعلى هَذَا يجوز النّظر إِلَى وَجه الْمَرْأَة وكفيها من غير شَهْوَة، وَإِن خَافَ الشَّهْوَة غض الْبَصَر، وَاعْلَم أَن الزِّينَة زينتان: زِينَة ظَاهِرَة، زِينَة باطنة، فالزينة الظَّاهِرَة هِيَ الْكحل والفتخة والخضاب إِذا كَانَ فِي الْكَفّ، وَأما الخضاب فِي الْقدَم فَهُوَ الزِّينَة الباطنية، وَأما السوار فِي الْيَد، فَعَن عَائِشَة أَنه من الزِّينَة الظَّاهِرَة، وَالأَصَح أَنه من الزِّينَة الْبَاطِنَة، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَأما الدملج [والمخنقة] والقلادة، وَمَا أشبه ذَلِك فَهُوَ من الزِّينَة الْبَاطِنَة، فَمَا كَانَ من الزِّينَة الظَّاهِرَة يجوز للْأَجْنَبِيّ النّظر إِلَيْهِ من غير شَهْوَة، وَمَا كَانَ من الزِّينَة الْبَاطِنَة لَا يجوز للْأَجْنَبِيّ النّظر إِلَيْهَا، وَأما الزَّوْج ينظر ويتلذذ، وَأما الْمَحَارِم ينظرُونَ من غير تلذذ. وَقَوله: {وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ} يَعْنِي: بمقانعهن على جُيُوبهنَّ، وَكَانَ النِّسَاء فِي ذَلِك الْوَقْت يسدلن خمرهن من ورائهن فتبدوا صدورهن ونحورهن، فَأمر الله تَعَالَى أَن يضربن بالمقانع على جُيُوبهنَّ؛ لِئَلَّا تظهر صدورهن وَلَا نحورهن، وروت صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة عمد نسَاء الْأَنْصَار إِلَى حجور مناطقهن، فقطعن مِنْهَا قِطْعَة، وتخمرن، فَأَصْبَحْنَ وَكَأن على رُؤْسهنَّ الْغرْبَان. وَقَوله: {وَلَا يبدين زينتهن} المُرَاد من هَذِه الزِّينَة الباطنية. وَقَوله: {إِلَّا لبعولتهن} أَي: أَزوَاجهنَّ. وَقَوله: {أَو آبائهن أَو آبَاء بعولتهن أَو أبنائهن أَو أَبنَاء بعولتهن أَو إخْوَانهمْ أَو بني إخْوَانهمْ أَو بني أخواتهن} . فَيجوز لهَؤُلَاء أَن ينْظرُوا إِلَى الزِّينَة الْبَاطِنَة، إِلَّا أَنهم لَا ينظرُونَ إِلَى مَا بَين السُّرَّة إِلَى (الرّكْبَة) ، وَيحل للزَّوْج النّظر إِلَيْهِ، وَأما نفس الْفرج

{أخواتهن أَو نسائهن أَو مَا ملكت أيمانهن أَو التَّابِعين غير أولي الإربة من} فِيهِ وَجْهَان على مَا عرف فِي الْفِقْه، وَقد ورد عَن عَائِشَة مَا يدل على أَنه يكره النّظر إِلَى الْفرج، وَقيل: إِنَّه يُورث الْعَمى. وَقَوله: {أَو نسائهن} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهن النِّسَاء المسلمات، فعلى هَذَا لَا يجوز للمسلمة أَن تبدي محاسنها عِنْد الْيَهُودِيَّة وَلَا النَّصْرَانِيَّة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {نسائهن} عَام فِي جَمِيع النِّسَاء، فَيجوز للْمَرْأَة أَن تنظر إِلَى الْمَرْأَة إِلَّا مَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة. وَقَوله: {أَو مَا ملكت أيمانهن} . اخْتلف القَوْل فِي هَذَا، فَروِيَ عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة أَنَّهُمَا قَالَت: المُرَاد مِنْهُ العبيد، فَيجوز للْعَبد أَن ينظر إِلَى مولاته مَا ينظر ذُو الرَّحِم المرحم من غير شَهْوَة، وَهَذَا إِذا كَانَ العَبْد عفيفا، وَالْقَوْل الثَّانِي قَول سعيد بن الْمسيب وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: لَا يجوز للْعَبد أَن ينظر إِلَى مولاته إِلَّا مَا ينظر الْأَجْنَبِيّ إِلَى الْأَجْنَبِيّ، فعلى هَذَا تحمل الْآيَة على الْإِمَاء، وَالْقَوْل الأول أظهر فِي معنى الْآيَة، لِأَنَّهُ قد سبق قَوْله: {أَو نسائهن} فَدخل فِيهِ الْحَرَائِر وَالْإِمَاء، وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَنه يجوز [أَن ينظر] العَبْد إِلَى مولاته مَا يظْهر عِنْد البذلة والمهنة، مثل الساعدين والقدمين والعنق وَلَا ينظر إِلَى مَا سوى ذَلِك، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ يشق ستر هَذَا مَعَ العبيد، وَأما مَعَ الْأَجَانِب لَا يشق، وَعَن أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا كاتبت عبدا لَهَا يُقَال لَهُ نَبهَان، فَكَانَت لَا تحتجب عَنهُ، ثمَّ قَالَت لَهُ يَوْمًا: يَا نَبهَان، مَا بَقِي من كتابتك، فَقَالَ ألفا دِرْهَم، فَقَالَت: أدها إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله بن أبي أُميَّة وَالسَّلَام عَلَيْك، وَأرْسلت حجابها. وَقَوله: {أَو التَّابِعين غير أولي الإربة} اخْتلف القَوْل فِيهِ: قَالَ مُجَاهِد: هُوَ

{الرِّجَال أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء وَلَا يضربن بأرجلهن ليعلم مَا يخفين من زينتهن} الصَّغِير، وَقَالَ عِكْرِمَة: هُوَ الْعنين، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الشَّيْخ الْهَرم، وَعَن بَعضهم: أَنه الْمَجْبُوب، وَمن الْمَعْرُوف فِي التفاسير: أَنهم الَّذين يتبعُون الرِّجَال، وَلَيْسَ لَهُم همة إِلَّا بطونهم، وَلَا يعْرفُونَ أَمر النِّسَاء، وَيُقَال: إِنَّه المخنث الَّذِي لَيْسَ لَهُ حَاجَة إِلَى النِّسَاء، وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن مخنثا يُقَال لَهُ: هيت كَانَ يدْخل على أَزوَاج النَّبِي قَالَت: وَكُنَّا نظن أَنه من غير أولي الإربة، يَعْنِي: أَنه لَا يعرف أَمر النِّسَاء شَيْئا فوصف يَوْمًا امْرَأَة فَقَالَ: إِنَّهَا تقبل بِأَرْبَع، وتدبر بثمان، فَسمع النَّبِي ذَلِك، فَقَالَ: " مَا ظَنَنْت أَنه يعرف هَذَا، وَأمر بِإِخْرَاجِهِ ". وَأما الإربة هِيَ الْحَاجة، مَأْخُوذ من الإرب، وَمن هَذَا حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - " أَن النَّبِي كَانَ يقبل وَهُوَ صَائِم، وَكَانَ أملككم لإربه " وَمن قَالَ: لَا، فقد أَخطَأ. وَقَوله: {أَو الطِّفْل الَّذين لم يظهروا} أَي: الْأَطْفَال الَّذين لم يظهروا، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. وَقَوله: {لم يظهروا على عورات النِّسَاء} أَي: لم يطيقوا أَمر النِّسَاء، وَيُقَال: " لم يظهروا على عورات النِّسَاء " أَي: لم يعرفوا الْعَوْرَة من غير الْعَوْرَة فَلم يميزوا، وَقيل: لم يبلغُوا حد الشَّهْوَة.

{وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تفلحون (31) وَأنْكحُوا الْأَيَامَى} وَقَوله: {وَلَا يضربن بأرجلهن ليعلم مَا يخفين من زينتهن} رُوِيَ أَن الْمَرْأَة كَانَت تمر على الرِّجَال، وَفِي رجلهَا الخلخال، وَكَانَت تضرب برجلها؛ لتسمعهم صَوت خلْخَالهَا، فنهين عَن ذَلِك، فَإِن قَالَ قَائِل: أيش فِي ضرب الخلخال مَا يُوجب النَّهْي؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِيهِ استدعاء الْميل وتحريك الشَّهْوَة. وَقَوله: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ التَّوْبَة من الصَّغَائِر؛ لِأَنَّهُ لمَم جَمِيع الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّمَا الصَّغَائِر تُوجد من جَمِيع الْمُؤمنِينَ، فَأَما الْكَبَائِر فَلَا، وَمِنْهُم من قَالَ: لَا بل الْآيَة عَامَّة فِي الصَّغَائِر والكبائر، وَالتَّوْبَة هِيَ النَّدَم على [مَا] سلف، والإقلاع فِي الْحَال، والعزيمة على ترك الْعود، وَهَذَا هُوَ معنى النصوح المقرون بِالتَّوْبَةِ الْمَذْكُور فِي غير هَذَا الْموضع، وَذكر بَعضهم أَن الله تَعَالَى أَمر الْمُشْركين بِنَفس التَّوْبَة مُطلقًا فَقَالَ: {قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} ، وَأمر الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِالتَّوْبَةِ والإصلاح وَالْبَيَان؛ وَهُوَ بَيَان صفة النَّبِي فَقَالَ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا وبينوا} ، وَأمر الْمُنَافِقين بِالتَّوْبَةِ والإصلاح والاعتصام وَالْإِخْلَاص فَقَالَ: {إِلَّا الَّذين تَابُوا وَأَصْلحُوا واعتصموا بِاللَّه وَأَخْلصُوا دينهم لله} ، وَقد بَينا معنى ذَلِك من قبل، وَأمر جَمِيع الْمُؤمنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذِه الْآيَة، وَلَا بُد لكل إِنْسَان أَن يَتُوب إِمَّا من صَغِيرَة أَو كَبِيرَة، وَقد ثَبت بِرِوَايَة الْأَغَر الْمُزنِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " أَيهَا النَّاس، تُوبُوا إِلَى الله فَإِنِّي أَتُوب كل يَوْم مائَة مرّة " خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.

{مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله} وَقَوله تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تفلحون} أَي: تسعدون وتفوزون.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم} . أَي: زوجوا الْأَيَامَى مِنْكُم، والأيم اسْم لكل امْرَأَة لَا زوج لَهَا ثَيِّبًا كَانَت أَو بكرا، قَالَ الشَّاعِر: (فَإِن تنكحي أنكح وَإِن تتأيمي ... مدى الدَّهْر مَا لم تنكحي أتأيم) وَقد ذهب دَاوُد وَأَصْحَاب الظَّاهِر أَن النِّكَاح وَاجِب وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَة، وَأما عندنَا هُوَ مُبَاح فِي وَقت، سنة فِي وَقت، مُبَاح إِذا كَانَت نَفسه لَا تتوق إِلَى النِّسَاء، سنة إِذا تاقت نَفسه إِلَى النِّسَاء، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أحب فِطْرَتِي فَليَسْتَنَّ بِسنتي، وَمن سنتي النِّكَاح ". وَثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج، فَإِنَّهُ أَغضّ لِلْبَصَرِ، وَأحْصن لِلْفَرجِ، وَمن لم يسْتَطع فليصم، فَإِن الصَّوْم لَهُ وَجَاء ". وَعَن بعض السّلف أَنه قَالَ: من غلبت عَلَيْهِ الشَّهْوَة وَعِنْده مَال فليتزوج، وَإِن لم يكن عِنْده مَال فليدم النّظر إِلَى السَّمَاء، فَإِن شَهْوَته تذْهب. وَقَوله: {وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ} . قرئَ فِي الشاذ: " من عبيدكم وَإِمَائِكُمْ " زوجوا الْأَيَامَى من الْحَرَائِر، وزوجوا الصَّالِحين من العبيد وَالْإِمَاء، وَالْمرَاد من الْعباد: العبيد. وَقَوله: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يغنيهم الله من فَضله} رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ: عجبت

{وَالله وَاسع عليم (32) وليستعفف الَّذين لَا يَجدونَ نِكَاحا حَتَّى يغنيهم الله من فَضله وَالَّذين يَبْتَغُونَ الْكتاب مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم} لمن يطْلب الْغنى بِغَيْر النِّكَاح، وَالله تَعَالَى يَقُول: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله} . وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى وعد الْغنى بِالنِّكَاحِ، ووعد الْغنى بالتفرق، فَقَالَ فِي النِّكَاح: {يُغْنِهِم الله من فَضله} أَي: من الله، وَقَالَ فِي الْفِرَاق: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغني الله كلا من سعته} وَيُقَال: إِن الْغنى هَا هُنَا هُوَ الْغنى بالقناعة، وَقيل: باجتماع الرزقين، وَقيل فِي قَوْله: {ووجدك عائلا فأغنى} أَي: بِمَال خَدِيجَة. وَقَوله: {وَالله وَاسع عليم} أَي: وَاسع الْغنى، عليم بأحوال الْعباد، وَعَن الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه كَانَ ينْكح وَيُطلق كثيرا، وَيَقُول: إِنَّمَا أَبْتَغِي الْغنى من النِّكَاح وَالطَّلَاق، وَيَتْلُو هَاتين الْآيَتَيْنِ، وَقد ذكر بَعضهم: أَن الأيم كَمَا ينْطَلق على الْمَرْأَة ينْطَلق على الرجل، يُقَال: رجل أيم إِذا لم يكن لَهُ زَوْجَة، وَامْرَأَة أيم إِذا لم يكن لَهَا زوج، وَالشعر الَّذِي أنشدنا دَلِيل عَلَيْهِ، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي نهى عَن الأيمة " أَي: الْعزبَة. وَعَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: أمرنَا بقتل الأيم أَي: الْحَيَّة. وَقَالَ بَعضهم: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ} أَي: بالصالحين. وَقَوله: {من عبادكُمْ} أَي: من رجالكم، ثمَّ أَمر من بعد بتزويج الْإِمَاء، وَالْقَوْل الأول الَّذِي سبق أظهر.

33

قَوْله: {وليستعفف الَّذين لَا يَجدونَ نِكَاحا} أَي: ليطلب الْعِفَّة الَّذين لَا يَجدونَ مَا لَا ينْكحُونَ بِهِ. وَقَوله: {حَتَّى يغنيهم الله من فَضله} فِيهِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن يَجدوا مَالا يقدرُونَ بِهِ على النِّكَاح، وَالْآخر: أَن يوفقهم الله للصبر عَن النِّكَاح، وَعَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: إِذا رأى الرجل امْرَأَة واشتهاها فَإِن كَانَ لَهُ امْرَأَة فليصبها، وَإِن لم يكن لَهُ امْرَأَة فَلْينْظر فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض.

{فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} وَقَوله: {وَالَّذين يَبْتَغُونَ الْكتاب مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم} أَي: يطْلبُونَ الْكِتَابَة مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم، أَي: من العبيد وَالْإِمَاء، وَالْكِتَابَة هِيَ أَن يعْقد مَعَ عَبده عقدا على مَال بِشَرْط أَنه إِذا أدّى عتق، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة: أَنه كَانَ لحويطب بن عبد الْعُزَّى غُلَام، وَطلب مِنْهُ أَن يكاتبه، فَأبى فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {فكاتبوهم} أَكثر أهل الْعلم على أَنه أَمر ندب لَا حتم، وَذهب جمَاعَة إِلَى أَنه أَمر حتم إِذا كَانَ للْعَبد مَال يُؤدى، فروى (أَبُو مُحَمَّد بن سِيرِين) : كَانَ عبدا لأنس بن مَالك، وَطلب من أنس أَن يكاتبه، فَأبى فَذكر ذَلِك سِيرِين لعمر، فَقَالَ لأنس: كَاتبه، فَأبى، فعلاه الدرة حَتَّى كَاتبه. وَعَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء: أيجب على الْمولى أَن يُكَاتب عَبده إِذا طلب؟ قَالَ: نعم، وَمثله عَن الضَّحَّاك قَالَا: وَهَذَا إِذا كَانَ عِنْد (العقد) مَال، فَإِن لم يكن عِنْده مَال لم يجب، وَرُوِيَ أَن عبدا لسلمان قَالَ لَهُ: كاتبني، قَالَ: عنْدك مَال؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَتُرِيدُ أَن تطعمني أوساخ النَّاس؟ وَلم يكاتبه. وَقَوله: {إِن علمْتُم فيهم خيرا} أَي: مَالا، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَمثله قَوْله: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} أَي: لحب المَال. قَالَ الشَّاعِر: (مَاذَا ترجى النُّفُوس من طلب ... الْخَيْر وَحب الْحَيَاة كاربها) أَي: المَال، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: {إِن علمْتُم فيهم خيرا} أَي: دينا

{وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا} وَأَمَانَة، وَقَالَ النَّخعِيّ: وَفَاء وصدقا، وَعَن بَعضهم: قدرَة على كسب المَال. وَقَالَ الزّجاج: لَو أَرَادَ بِالْخَيرِ المَال لقَالَ: إِن علمْتُم لَهُم خيرا، فَلَمَّا قَالَ: {فيهم خيرا} دلّ أَنه أَرَادَ بِهِ الْوَفَاء والصدق. وَقَوله: {وَآتُوهُمْ من مَال الله الَّذِي آتَاكُم} فِيهِ أَقْوَال: روى عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه أَنه قَالَ: هُوَ حث النَّاس على مَعُونَة الْكَاتِبين. فعلى هَذَا تتَنَاوَل الْآيَة الْمولى وَغير الْمولى. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ سهم الرّقاب، وَقد جعل الله تَعَالَى للمكاتبين سَهْما فِي الصَّدقَات، وَالْقَوْل الثَّالِث: هُوَ أَن قَوْله: {وَآتُوهُمْ} خطاب للموالي خَاصَّة. وَقَوله: {من مَال الله الَّذِي آتَاكُم} هُوَ بدل الْكِتَابَة، رُوِيَ هَذَا عَن عُثْمَان وَعلي وَالزُّبَيْر، ثمَّ اخْتلفُوا فَقَالَ بَعضهم: يُعينهُ بِمَال الْكِتَابَة، وَقَالَ بَعضهم: يحط عَنهُ من مَال الْكِتَابَة، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه يحط عَنهُ الرّبع، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه يحط عَنهُ الثُّلُث، وَعَن بَعضهم: أَنه يحط شَيْئا من غير تَحْدِيد، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي، وَاخْتلفُوا أَنه على طَرِيق النّدب أم على طَرِيق الْإِيجَاب؟ فَعِنْدَ بعض الصَّحَابَة الَّذِي ذكرنَا أَنه ندب، وَعند بَعضهم: أَنه وَاجِب، وَالْوُجُوب أظهر. وَقَوله: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} يَعْنِي: على الزِّنَا. نزلت الْآيَة فِي عبد الله بن أبي بن سلول وَقوم من الْمُنَافِقين، كَانُوا يكْرهُونَ إماءهم على الزِّنَا طلبا للأجعال، فَروِيَ أَن عبد الله بن أبي بن سلول كَانَ لَهُ أمة يُقَال لَهَا: مثلَة، فَأمرهَا بِالزِّنَا فَجَاءَت بِبرد، ثمَّ أمرهَا بِالزِّنَا فَأَبت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} أَي: تعففا، فَإِن قيل: الْآيَة تَقْتَضِي أَنَّهَا إِذا لم ترد التحصن يجوز إكراهها على الزِّنَا؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا ذكر قَوْله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} لِأَن الْإِكْرَاه إِنَّمَا يُوجد فِي هَذِه الْحَالة، فَإِذا لم ترد التحصن بَغت بالطوع.

{وَمن يكرههن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم (33) وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْكُم آيَات مبينات ومثلا من الَّذين خلوا من قبلكُمْ وموعظة لِلْمُتقين (34) الله نور} وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن قَوْله: {إِن أردن تَحَصُّنًا} منصرف إِلَى الْآيَة السَّابِقَة، وَهُوَ قَوْله: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ} إِن أردن تَحَصُّنًا. وَقَوله: {لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: لتطلبوا من أَمْوَال الدُّنْيَا، وَفِي بعض الْآثَار: الدُّنْيَا عرض حَاضر، يَأْكُل مِنْهَا الْبر والفاجر، وَالْآخِرَة وعد صَادِق، يحكم فِيهَا ملك قَادر، فكونوا من أَبنَاء الْآخِرَة، وَلَا تَكُونُوا من أَبنَاء الدُّنْيَا ". وَقَوله: {وَمن يكرههن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} أَي: لَهُنَّ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي قِرَاءَة ابْن عَبَّاس: " فَإِن الله من بعد إكراههن لَهُنَّ غَفُور رَحِيم ".

34

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أنزلنَا إِلَيْكُم آيَات مبينات} أَي: للْحَلَال وَالْحرَام، وَقَوله: {مبينات} أَي: واضحات لَا لبس فِيهَا. وَقَوله: {ومثلا من الَّذين خلوا من قبلكُمْ} مَعْنَاهُ: تَشْبِيها لحالكم بحالهم، حَتَّى لَا تَفعلُوا مثل مَا فعلوا، فيصيبكم مثل مَا أَصَابَهُم. وَقَوله: {وموعظة لِلْمُتقين} أَي: تذكيرا وتخويفا.

35

قَوْله تَعَالَى: {الله نور السَّمَوَات وَالْأَرْض} قَالَ ابْن عَبَّاس: هادي أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض، (وَعنهُ أَنه قَالَ: ضِيَاء السَّمَوَات وَالْأَرْض) وَعَن قَتَادَة وَغَيره: منور السَّمَوَات وَالْأَرْض. فليقال: نور السَّمَوَات بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَرْض بالأنبياء. وَيُقَال: نور السَّمَوَات بالنجوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَنور الأَرْض بالنبات والزهر. وَقَوله تَعَالَى: {مثل نوره} قَرَأَ أبي بن كَعْب: " مثل نور الْمُؤمن "، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ: " مثل نوره فِي قلب الْمُؤمن " (وَمن الْمَعْرُوف {مثل نوره} وَفِيه أَقْوَال:

{السَّمَوَات وَالْأَرْض مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري} أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: مثل نور الله فِي قلب الْمُؤمن) وَهُوَ النُّور الَّذِي يهتدى بِهِ، وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَهُوَ على نور من ربه} ، وَالْقَوْل الثَّانِي: {مثل نوره} أَي: نور قلب الْمُؤمن بِالْإِيمَان، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه نور مُحَمَّد، وَمِنْهُم من أول على الْقُرْآن. وَقَوله: {كمشكاة} الْمشكاة هِيَ الكوة الَّتِي لَيْسَ لَهُ منفذ، وَمِنْهُم من قَالَ: الْمشكاة هِيَ الحديدة الَّتِي يعلق بهَا الْقنْدِيل، وَهِي السلسلة، وَقيل: الْموضع الَّذِي تُوضَع فِيهِ الفتيلة، وَهُوَ كالأنبوب. وَالْأول أظهر الْأَقَاوِيل وَأولى، وَمعنى الْمشكاة هَاهُنَا: الصَّدْر، قَالَه أبي بن كَعْب. وَقَوله: {فِيهَا مِصْبَاح} أَي: شعلة نَار. وَقَوله: {الْمِصْبَاح فِي زجاجة} الزجاجة شَيْء مَعْلُوم، وَهُوَ جَوْهَر لَهُ ضِيَاء، فَإِن قيل: لم خص الزجاجة بِالذكر؟ قُلْنَا: قَالَ أبي بن كَعْب: الْمشكاة الصَّدْر، والزجاجة الْقلب، والمصباح الْإِيمَان، فَإِنَّمَا ذكر الزجاجة؛ لِأَن الْمِصْبَاح فِيهَا أضواء، وَقَالَ بَعضهم: ذكر الزجاجة؛ لِأَنَّهَا إِذا انْكَسَرت لَا ينْتَفع مِنْهَا بِشَيْء، كَذَلِك الْقلب إِذا فسد لَا ينْتَفع مِنْهُ بِشَيْء. وَقَوله: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري} شبه الزجاجة بالكوكب، قَالَ بَعضهم: هَذَا الْكَوْكَب هُوَ الزهرة فَإِنَّهَا أضوء كَوْكَب فِي السَّمَاء، وَقَالَ بَعضهم: الْكَوَاكِب الْخَمْسَة زحل ومشتري والمريخ وَعُطَارِد وزهرة، فَإِن قيل: لم لم يشبه بالشمس وَالْقَمَر؟ قُلْنَا: لِأَن الشَّمْس وَالْقَمَر يلحقهما الْكُسُوف، والنجوم لَا يلْحقهَا الْكُسُوف، وَأما قَوْله: {كَوْكَب دري} مَنْسُوب إِلَى الدّرّ، وَنسبه إِلَى الدّرّ لصفائه ولونه، وقرىء: " درىء " بِكَسْر الدَّال والهمز وَالْمدّ، وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَأْخُوذ من الدراء،

{يُوقد من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية} والدراء هُوَ الدّفع، والكوكب يدْفع الشَّيَاطِين عَن السَّمَاء، فَإِن قيل: لم شبه بِهِ فِي حَالَة الدّفع؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالة يكون أصفى، وَالْقَوْل الثَّانِي: " درىء ". أَي طالع، يُقَال: دَرأ علينا فلَان أَي: طلع وَظهر، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: وَهَذَا قَول حسن، وقرىء: " درىء " بِرَفْع الدَّال مهموزا، قَرَأَهُ حَمْزَة وَأَبُو بكر، وَأهل النَّحْو يخطؤنه فِي هَذِه الْقِرَاءَة، وَقَالُوا: لَا يُوجد فعيل فِي اللُّغَة، والشاذ: " دري " بِفَتْح الدَّال. وَقَوله: {يُوقد} أَي: الزجاجة، وَمَعْنَاهُ: نَار الزجاجة، فَحذف النَّار، وقرىء: " يُوقد " بِالْيَاءِ أَي: الْمِصْبَاح، وقرىء: " توقد " أَي: تتوقد، وَفِي الشاذ: " يُوقد " أَي: يُوقد الله تَعَالَى. وَقَوله: {من شَجَرَة مباركة} أَي: من زَيْت شَجَرَة مباركة، والشجرة الْمُبَارَكَة هَاهُنَا هِيَ الزَّيْتُون، وفيهَا من الْخَيْر مَا لَيْسَ فِي سَائِر الْأَشْجَار، فَإِنَّهُ دهن وإدام وَفَاكِهَة تُؤْكَل ويستصبح بِهِ، وبفضله يغسل بِهِ الثِّيَاب وَهِي شَجَرَة تورق من رَأسهَا إِلَى أَسْفَلهَا، واستخراج الدّهن مِنْهُ لَا يحْتَاج إِلَى عصار كَغَيْرِهِ، بل يَسْتَخْرِجهُ من شَاءَ من غير عسر، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " ائتدموا بالزيت، وادهنوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ من شَجَرَة مباركة " رَوَاهُ معمر، عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، عَن عمر الْخَبَر. وَقَوله: {لَا شرقية وَلَا غربية} قَالَ الْحسن: لَيْسَ هَذَا من أَشجَار الدُّنْيَا، وَلَو كَانَت

{يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس وَالله بِكُل شَيْء عليم (35) } من أَشجَار الدُّنْيَا لكَانَتْ شرقية أَو عَرَبِيَّة، وَقَالَ غَيره: بل هُوَ وصف الزَّيْتُون - وَهُوَ الْأَصَح - وَفِيه أَقْوَال: أَحدهَا أَن مَعْنَاهُ: لَا شرقية أَي: لَيست مِمَّا تشرق عَلَيْهَا الشَّمْس، وَلَا تغرب عَلَيْهَا الشَّمْس، فَتكون لَا شرقية وَلَا غربية. وَقَوله: {وَلَا غربية} أَي: لَيست مِمَّا تغرب عَلَيْهَا الشَّمْس وَلَا تشرق عَلَيْهَا الشَّمْس، فَتكون لَا غربية وَلَا شرقية فَمَعْنَى الْآيَة. أَنَّهَا لَيست بخالصة للشرق، وَلَا خَالِصَة للغرب، بل هِيَ شرقية غربية، يَعْنِي: بَين الشرق والغرب، لَا خَالِصا للشرق، وَلَا خَالِصا للغرب، وَالشَّمْس مشرقة عَلَيْهَا فِي جَمِيع أَوْقَاتهَا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيكون زيتها أَضْوَأ قَالُوا: وَهَذَا كَمَا يُقَال: فلَان لَيْسَ بأسود وَلَا أَبيض أَي لَيْسَ بأسود خَالص وَلَا أَبيض خَالص أَي: قد اجْتمع فِيهِ الْبيَاض والسواد، وَيُقَال: هَذَا الرُّمَّان لَيْسَ بحلو وَلَا حامض أَي: اجْتمع فِيهِ الْحَلَاوَة والحموضة وَلم يخلص لوَاحِد مِنْهُمَا، وَهَذَا قَول الْفراء والزجاج وَأكْثر أهل الْمعَانِي، وَزعم ابْن قُتَيْبَة أَن معنى قَوْله: {لَا شرقية وَلَا غربية} أَي: لَيست فِي مضحاة، وَلَا فِي مقتاة، وَمَعْنَاهُ: لَيست فِي مضحاة فَتكون الشَّمْس عَلَيْهَا أبدا، وَلَا فِي الظل فَتكون فِي الظل أبدا، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا شَجَرَة بَين الْأَشْجَار لَا هِيَ بارزة للشمس عِنْد شروقها، وَلَا هِيَ بارزة عِنْد غُرُوبهَا. وَقَوله: {يكَاد زيتها يضيء} أَي: من صفائه ولونه. وَقَوله: {وَلَو لم تمسسه نَار} أَي: وَإِن لم تمسسه نَار. وَقَوله: {نور على نور} أَي: نور الْمِصْبَاح على نور الزجاجة. وَقَوله: {يهدي الله لنوره من يَشَاء} أَي: نور البصيرة والعقيدة. وَقَوله: {وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس} أَي: يبين الله الْأَمْثَال للنَّاس.

وَقَوله: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} مَعْلُوم. وَاعْلَم أَنه اخْتلف القَوْل فِي معنى التَّمْثِيل: مِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع للنور الَّذِي فِي قلب الْمُؤمن، وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع لنُور مُحَمَّد، وَمِنْهُم من قَالَ: التَّمْثِيل وَقع لنُور الْقُرْآن، وَأما إِذا قُلْنَا: إِن التَّمْثِيل وَقع للنور الَّذِي فِي قلب الْمُؤمن فَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى كَمَا بَينا. وَقَوله: {يكَاد زيتها يضيء} أَي: يكَاد قلب الْمُؤمن يعرف الْحق قبل أَن يبين لَهُ لموافقته إِيَّاه. وَقَوله: {نور على نور} أَي: نور الْعَمَل على نور الِاعْتِقَاد، وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: الْمُؤمن بَين خَمْسَة أنوار، وَقَوله نور، وَعَمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلَى النُّور. وَعَن غَيره أَنه قَالَ: الْمُؤمن بَين أَرْبَعَة أَحْوَال: إِن أعطي شكر، وَإِن ابْتُلِيَ صَبر، وَإِن قَالَ صدق، وَإِن حكم عدل. وَإِذا قُلْنَا: التَّمْثِيل وَقع لنُور مُحَمَّد، فالمشكاة صَدره، والزجاجة قلبه، والمصباح هُوَ نورة النُّبُوَّة. وَقَوله: {توقد من شَجَرَة مباركة} الشَّجَرَة الْمُبَارَكَة هُوَ إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَذكر زيتونة، لِأَنَّهَا أبرك الْأَشْجَار على مَا بَينا؛ وَلِأَن إِبْرَاهِيم نزل الشَّام، وَفِي زيتون الشَّام من الْبركَة مَا لَيْسَ لغيره من الْبِلَاد. وَقَوله: {لَا شرقية وَلَا غربية} مَعْنَاهُ: أَن إِبْرَاهِيم لم يكن يُصَلِّي إِلَى الْمشرق وَلَا إِلَى الْمغرب، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا} وَالْيَهُود يصلونَ إِلَى الْمغرب، وَالنَّصَارَى إِلَى الْمشرق. وَقَوله: {يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار} مَعْنَاهُ: لَو لم يكن إِبْرَاهِيم نَبيا لألحقه الله بِالْعَمَلِ الصَّالح بالأنبياء فِي درجاتهم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن مُحَمَّدًا لَو لم تأته معْجزَة لدلت أَحْوَاله على صدقه وعَلى نبوته. وَقَوله: {نور على نور} أَي: نور مُحَمَّد على نور إِبْرَاهِيم، وَقَوله: {يهدي

{فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه يسبح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال (36) رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة} الله لنوره من يَشَاء) يَعْنِي: يهدي الله للْإيمَان بِمُحَمد من يَشَاء، وَهَذَا كُله معنى مَا رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي الْآيَة كَلَام كثير ذكره أَصْحَاب الخواطر لَا يشْتَغل بِهِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ هما المعروفان.

36

قَوْله تَعَالَى: {فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع} مَعْنَاهُ: توقد فِي بيُوت، وَيُقَال: المصابيح فِي بيُوت، والبيوت هَاهُنَا هِيَ الْمَسَاجِد. وَقَوله: {أذن الله أَن ترفع} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ مُجَاهِد: تبنى، وَقَالَ الْحسن: تعظم. يَعْنِي: أَنه لَا يذكر فِيهَا الْخَنَا من القَوْل، وَعَن بَعضهم: تطهر. وَقَوله: {وَيذكر فِيهَا اسْمه} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {يسبح} وقرىء: " يسبح " بِكَسْر الْبَاء، فَقَوله بِكَسْر الْبَاء أَي: يسبح رجال، وَقَوله: " يسبح " على مَال لم يسم فَاعله، وَمعنى يسبح: يُصَلِّي. وَقَوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} أَي: بالبكر والعشايا. قَالَ الشَّاعِر: (وقفت فِيهَا أصيلا لَا أسائلها ... أعيت جَوَابا وَمَا بِالربعِ من أحد) وَإِنَّمَا خص البكرة وَالْعصر؛ لِأَن صَلَاة الْغَدَاة وَصَلَاة الْعَصْر أول مَا فرض على الْمُسلمين، وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: صَلَاة الضُّحَى فِي الْقُرْآن وَلَا يغوص عَلَيْهَا الأغواص، ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة وَهُوَ قَوْله: ( {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} وَزعم أَن المُرَاد بالتسبيح بِالْغُدُوِّ وَهُوَ صَلَاة الضُّحَى، وَالْمَعْرُوف مَا بَينا، وَهُوَ أَن المُرَاد مِنْهُ صَلَاة الصُّبْح وَصَلَاة الْعَصْر) .

37

قَوْله تَعَالَى: {رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله} وَعَن عبيد بن عُمَيْر أَنه

{يخَافُونَ يَوْمًا تتقلب فِيهِ الْقُلُوب والأبصار (37) لِيَجْزِيَهُم الله أحسن مَا عمِلُوا ويزيدهم من فَضله وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب (38) وَالَّذين كفرُوا أَعْمَالهم كسراب} قَالَ: يضع الله يَوْم الْقِيَامَة مَنَابِر من نور، وَيَقُول: أَيْن الَّذين لم تلههم تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله؟ فَيقومُونَ فيجلسهم عَلَيْهَا. وَقَالَ الْفراء: التِّجَارَة مَا بيع من الجلب، وَالْبيع مَا بِعْت على يدك. وَقَوله: {وإقام الصَّلَاة} فَإِن قيل: إِذا حملتم ذكر الله على الصَّلَوَات الْخمس فَمَا معنى قَوْله: {وإقام الصَّلَاة} ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ حفظ الْمَوَاقِيت، وَمن لم يحفظ الْمَوَاقِيت فَلم يقم الصَّلَاة. وَقَوله: {وإقام الصَّلَاة} أَي: وَإِقَامَة الصَّلَاة، فحذفت الْهَاء بِحكم الْإِضَافَة. قَالَ الشَّاعِر: (إِن الخليط أجدوا الْبَين فانجردوا ... وأخلفوك عدي الْأَمر الَّذِي وعدوا) أَي: عدَّة الْأُمُور. وَقَوله: {وإيتاء الزَّكَاة} مِنْهُم من قَالَ: هِيَ الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَمِنْهُم من قَالَ: الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وَقَوله: {يخَافُونَ يَوْمًا تتقلب فِيهِ الْقُلُوب والأبصار} أَي: تتقلب الْقُلُوب عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا من الشَّك وَالْكفْر، وتنفتح فِيهِ الْأَبْصَار من الأغطية، وَيُقَال: يتقلب الْقلب [بَين الْخَوْف] والرجاء، فَإِنَّهُ يخَاف الْهَلَاك، ويطمع النجَاة، وَأما تقلب الْبَصَر حَتَّى من أَيْن يُؤْتى كِتَابه؛ من شِمَاله أَو من يَمِينه، وَقَالَ: تتقلب الْقُلُوب فِي الْجوف، وترتفع إِلَى الحنجرة فَلَا تَزُول وَلَا تخرج، وَأما تقلب الْبَصَر شخوصه من هول الْأَمر وشدته.

38

وَقَوله: {لِيَجْزِيَهُم الله أحسن مَا عمِلُوا} يَعْنِي: لِيَجْزِيَهُم بِمَا عمِلُوا من الْأَعْمَال الْحَسَنَة.

{بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده فوفاه حسابه وَالله سريع الْحساب (39) أَو كظلمات فِي بَحر لجي يَغْشَاهُ موج من} وَقَوله: {ويزيدهم من فَضله} أَي: زِيَادَة على مَا يسْتَحقُّونَ. وَقَوله: {وَالله يرْزق من يَشَاء بِغَيْر حِسَاب} قد بَينا.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا أَعْمَالهم} اعْلَم أَن الله تَعَالَى لما ذكر الْمثل فِي حق الْمُؤمنِينَ أعقبه بِالْمثلِ فِي حق الْكفَّار. وَقَوله: {كسراب} السراب: مَا يرى نصف النَّهَار شبه المَاء الْجَارِي على الأَرْض، وَأكْثر مَا يرَاهُ العطشان. قَالَ الْفراء: السراب مَا لزم الأَرْض، والآل مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَهُوَ شُعَاع بَين السَّمَاء وَالْأَرْض شبه الملاة، يرى فِيهِ الصَّغِير كَبِيرا، والقصير طَويلا. وَقَالَ غَيره: السراب نصف النَّهَار، والآل بالغدوات، والرقراق بالعشايا، قَالَ الشَّاعِر: (فَلَمَّا كففنا الْحَرْب كَانَت عهودهم ... كَلمعِ سراب بالفلا متألق) وَقَوله: {بقيعة} القاع: هُوَ الأَرْض المنبسطة. وَقَوله: {إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا} أَي: لم يجده شَيْئا مِمَّا أمل وَحسب. وَقَوله: {وَوجد الله عِنْده} أَي: عِنْد علمه، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَقِي الله فِي الْآخِرَة. {فوفاه حسابه} أَي: جَزَاء عمله، قَالَ الشَّاعِر: (فولى مُدبرا هوى حثيثا ... وأيقن أَنه لَاقَى الحسابا) وَقَوله: {وَالله سريع الْحساب} ظَاهر الْمَعْنى. وَاعْلَم أَن فِي نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي شيبَة بن ربيعَة - وَكَانَ يطْلب الدّين قبل أَن يبْعَث النَّبِي - فَكَانَ يلبس الصُّوف، وَيَأْكُل الشّعير، ثمَّ لما بعث النَّبِي كفر بِهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي جَمِيع الْكفَّار، وَالْمرَاد من الْآيَة: تَشْبِيه أَعْمَالهم بِالسَّرَابِ، وأعمالهم هِيَ مَا اعتقدوها خيرا، من الْحَج وصلَة الْأَرْحَام، وَحسن الْجوَار،

{فَوْقه موج من فَوْقه سَحَاب ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور (40) ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه} وقرى الضَّيْف، وَالْوَفَاء بالعهد، وَمَا أشبه ذَلِك، فَذكر الله تَعَالَى أَن هَذِه الْأَعْمَال كسراب حِين لم يصدر عَن مُؤمن، فَهُوَ يَرْجُو مِنْهَا الْخَيْر وَالثَّوَاب، وَإِذا وصل إِلَيْهَا أخلفه ظَنّه، وَلم يحصل على شَيْء.

40

قَوْله تَعَالَى: {أَو كظلمات فِي بَحر لجي} قَالَ أهل الْمعَانِي: المُرَاد من الْآيَة أَنَّك إِن شبهت أَعْمَالهم لما يُوجد، فَهُوَ كَمَا بَينا من السراب بالقيعة، وَإِن شبهت أَعْمَالهم لما يرى، فَهُوَ كالظلمات فِي الْبَحْر اللجي، وَالْبَحْر اللجي هُوَ العميق الَّذِي بعد عمقه، وَفِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " من ركب الْبَحْر حِين يلج، فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة ". مَعْنَاهُ: حِين يتوسط الْبَحْر فَيصير إِلَى أعمق مَوضِع، وَأما الظُّلُمَات: فَهِيَ ظلمَة الْبَحْر، وظلمة اللَّيْل، وظلمة السَّحَاب، وظلمة الموج أَيْضا. وَقَوله: {يَغْشَاهُ موج من فَوْقه موج من فَوْقه سَحَاب} هَذَا هُوَ الظُّلُمَات الَّتِي ذَكرنَاهَا. وَقَوله: {ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض} مَعْنَاهُ: ظلمَة الموج على ظلمَة الْبَحْر، وظلمة السَّحَاب على ظلمَة الموج. وَقَوله: {إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا} أَي: لم يرهَا، وَقيل: لم يُقَارب رؤيتها، وَيُقَال: يكد هَاهُنَا صلَة. قَالَ الشَّاعِر: (وَمَا كَادَت إِذا رفعت سناها ... ليبصر ضوءها إِلَّا الْبَصِير) وَقَوله: {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} . قَالَ ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: من لم

{وَالله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِلَى الله الْمصير (42) ألم تَرَ أَن الله يزجي سحابا ثمَّ يؤلف بَينه ثمَّ يَجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وَينزل من السَّمَاء من جبال فِيهَا من برد فَيُصِيب بِهِ من يَشَاء} يَجْعَل الله لَهُ دينا فَمَا لَهُ من دين " وَيُقَال مَعْنَاهُ: من لم يهده الله فَلَا يهده أحد.

41

وَقَوله: {ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} قد بَينا. وَقَوله: {وَالطير صافات} أَي: صِفَات أجنحتهن. وَقَوله: {كل قد علم صلَاته وتسبيحه} قَالَ مُجَاهِد: الصَّلَاة للآدميين، وَالتَّسْبِيح لسَائِر الْخلق، وَيُقَال: إِن ضرب الأجنحة صَلَاة الطير، وصوته تسبيحه. وَقَوله: {وَالله عليم بِمَا يَفْعَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى. وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِلَى الله الْمصير} .

43

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يزجي سحابا} أَي: يَسُوق سحابا. قَالَ الشَّاعِر: (إِنِّي أَتَيْتُك من أرضي وَمن وطني ... أزجي حشاشة نفس مَا بهَا رَمق) وَقَوله: {ثمَّ يؤلف بَينه} أَي: يجمع بَينه. وَقَوله: {ثمَّ يَجعله ركاما} أَي: متراكما بعضه على بعض. وَقَوله: {فترى الودق يخرج من خلاله} أَي: الْمَطَر يخرج من خلاله، والخلال جمع الْخلَل كالجبال جمع الْجَبَل، قَالَ الشَّاعِر فِي الودق: (فَلَا مزنة ودقت ودقها ... وَلَا أَرض أبقل إبقالها) وَقَوله: {وَينزل من السَّمَاء من جبال فِيهَا من برد} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: فِي السَّمَاء جبال من برد فَينزل مِنْهَا الْبرد. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَإِنَّمَا خَاطب الْقَوْم بِمَا يعْرفُونَ، وَإِلَّا مَا الثَّلج أَكثر من الْبرد، وَالْعرب مَا رَأَوْا الثَّلج قطّ. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الثَّلج شَيْء أَبيض ينزل من السَّمَاء مَا رَأَيْته قطّ. وَقَالَ غَيره: قَوْله: {وَينزل من السَّمَاء من جبال} أَي: مِقْدَار الْجبَال فِي الْكَثْرَة، وَيُقَال: فلَان لَهُ جبال مَال، شبه بالجبال للكثرة.

{ويصرفه عَن من يَشَاء يكَاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43) يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار} وَقَوله: {من} صلَة مَعْنَاهُ: ينزل من السَّمَاء جبالا {من برد} . وَقَوله: {فَيُصِيب بِهِ من يَشَاء} يَعْنِي: بالبرد من يَشَاء. {ويصرفه عَن من يَشَاء} . وَقَوله: {يكَاد سنا برقه} أَي: ضوء برقه، وَقد ذكرنَا شعرًا فِي هَذَا. وَقَوله: {يذهب بالأبصار} يَعْنِي: من شدَّة الضَّوْء.

44

وَقَوله: {يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: يصرف اللَّيْل وَالنَّهَار، وتقليب اللَّيْل وَالنَّهَار اخْتِلَافهمَا، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل} وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْن آدم يسب الدَّهْر، وَإِنَّمَا أَنا الدَّهْر، بيَدي اللَّيْل وَالنَّهَار (و) أقلبهما ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا الْحميدِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب الْخَبَر. وَيُقَال: يقلب الله اللَّيْل وَالنَّهَار أَي: يدبر أَمر اللَّيْل وَالنَّهَار. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار} أَي: آيَة وعظة لأولي الْأَبْصَار فِي الْقُلُوب، وَزعم أهل النَّحْو أَن الله تَعَالَى ذكر " من " ثَلَاث مَرَّات فِي الْآيَة الأولى، وَلكُل وَاحِد مِنْهَا معنى، فَقَوله: {من السَّمَاء} لابتداء الْغَايَة، وَقَوله: {من جبال} للتَّبْعِيض، وَقَوله: {من برد} للتجنيس، وَقد قَالَ بَعضهم فِي الْآيَة الثَّانِيَة: إِن معنى التقليب هُوَ أَنه يذهب بِاللَّيْلِ وَيَأْتِي بِالنَّهَارِ، وَيذْهب بِالنَّهَارِ وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ.

{وَالله خلق كل دَابَّة من مَاء فَمنهمْ من يمشي على بَطْنه وَمِنْهُم من يمشي على رجلَيْنِ وَمِنْهُم من يمشي على أَربع}

45

قَوْله تَعَالَى: {وَالله خلق كل دَابَّة من مَاء} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {خلق كل دَابَّة من مَاء} وَقد خلق كثيرا من الْحَيَوَانَات من غير المَاء كالجن وَالْمَلَائِكَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الله تَعَالَى خلق جَمِيع الْحَيَوَانَات من المَاء، وَزعم أهل التَّفْسِير أَن الله تَعَالَى خلق مَاء ثمَّ جعله نَارا، فخلق مِنْهَا الْجِنّ، ثمَّ جعله ريحًا، فخلق مِنْهَا الْمَلَائِكَة، ثمَّ جعله طينا، فخلق مِنْهُ بني آدم. وَقَوله: {فَمنهمْ من يمشي على بَطْنه} يَعْنِي: مثل الْحَيَّات وَالْحِيتَان وَمَا أشبههما، فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر المشيء على الْبَطن؟ وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد مِنْهُ السّير، وَالسير عَام فِي القوائم وعَلى الْبَطن، وَقَالَ بَعضهم: الْمَشْي صَحِيح فِي الْمَشْي على الْبَطن، يُقَال: مَشى أَمر كَذَا. وَقَوله: {وَمِنْهُم من يمشي على رجلَيْنِ} يَعْنِي: مثل بني آدم وَالطير، فَإِن قيل: أيسمى الطير دَابَّة؟ قُلْنَا: بلَى؛ لِأَن كل مَا يدب على الأَرْض فَهُوَ دَابَّة. وَقَوله: {وَمِنْهُم من يمشي على أَربع} يَعْنِي: الْبَهَائِم، فَإِن قيل: قد نرى مَا يمشي على أَكثر من الْأَرْبَع، قُلْنَا: قد ذكر السّديّ أَن فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَمِنْهُم من يمشي على أَكثر من الْأَرْبَع " فَيكون تَفْسِير للْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَيصير كَأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَمِنْهُم من يمشي على أَربع} وعَلى أَكثر من الْأَرْبَع، وَأما على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة فَإِنَّمَا لم يزدْ على الْأَرْبَع؛ لِأَن القوائم وَإِن زَادَت فاعتماد الْحَيَوَان على جهاته الْأَرْبَعَة، فَكَأَنَّهَا تمشي على أَرْبَعَة، وَيُقَال: إِنَّهَا وَإِن مشيت على أَكثر من الْأَرْبَع فَهِيَ فِي الصُّورَة كَأَنَّهَا تمشي على أَربع، فَإِن قيل: قَالَ: {وَمِنْهُم من يمشي} وَكلمَة " من " لمن يعقل لَيْسَ لما لَا يعقل، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه إِنَّمَا ذكر بِكَلِمَة " من " لِأَن الْكَلَام إِذا جمع من يعقل، وَمن لَا يعقل غلب من يعقل على مَا لَا يعقل.

{يخلق الله مَا يَشَاء إِن الله على كل شَيْء قدير (45) لقد أنزلنَا آيَات مبينات وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (46) وَيَقُولُونَ آمنا بِاللَّه وبالرسول وأطعنا ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم من بعد ذَلِك وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا} وَقَوله: {يخلق الله مَا يَشَاء} يَعْنِي: يخلق الله مَا يَشَاء سوى مَا ذكر. وَقَوله: {وَالله على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.

46

قَوْله تَعَالَى: {لقد أنزلنَا آيَات مبينات} قد بَينا. وَقَوله: {وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: دين الْحق، وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ آمنا بِاللَّه وبالرسول وأطعنا} ذكر النقاش أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي رجل من الْمُنَافِقين يُسمى بشرا وَرجل من الْيَهُود، كَانَت بَينهمَا خصوصة، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: نَتَحَاكَم إِلَى مُحَمَّد، وَقَالَ الْمُنَافِق: نَتَحَاكَم إِلَى كَعْب بن الْأَشْرَف، فَأنْزل الله تَعَالَى فِي هَذَا الْمُنَافِق وأشباهه هَذِه الْآيَة، وَأورد أَبُو بكر الْفَارِسِي فِي " أَحْكَام الْقُرْآن " أَن النَّبِي لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، ترك الْأَنْصَار لَهُ وللمهاجرين كل أَرض لَا يصل إِلَيْهَا المَاء، فَأعْطى رَسُول الله عُثْمَان وعليا من ذَلِك، فَبَاعَ عَليّ نصِيبه من عُثْمَان، فَوجدَ عُثْمَان الأَرْض كلهَا أَحْجَار لَا يُمكن أَن تزرع، فَطلب من عَليّ الثّمن الَّذِي أعطَاهُ، فَقَالَ عَليّ: وَمَا علمي بالأحجار، وَلَو وجدت كنزا هَل كَانَ لي مِنْهُ شَيْء؟ فَأَرَادَ أَن يتحاكما إِلَى النَّبِي، فَقَالَ الحكم بن أبي الْعَاصِ لعُثْمَان: لَا تحاكمه إِلَى مُحَمَّد، فَإِنَّهُ يقْضِي لِابْنِ عَمه، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِي الحكم بن أبي الْعَاصِ. وَقَوله: {ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم من بعد ذَلِك} أَي: من بعد مَا قَالُوا آمنا بِاللَّه وبالرسول. وَقَوله: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أَي: بالمصدقين.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم} الحكم فصل الْخُصُومَة بِمَا توجبه الشَّرِيعَة.

{دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم إِذا فريق مِنْهُم معرضون (48) وَإِن يكن لَهُم الْحق يَأْتُوا إِلَيْهِ مذعنين (49) أَفِي قُلُوبهم مرض أم ارْتَابُوا أم يخَافُونَ أَن يَحِيف الله عَلَيْهِم وَرَسُوله بل أُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا} قَوْله: {إِذا فريق مِنْهُم معرضون} أَي: عَن الْحق، وَقيل: عَن الْإِجَابَة، وَالْآيَة تدل على أَن القَاضِي إِذا دَعَا إِنْسَان ليحكم بَينه وَبَين خَصمه، وَجَبت عَلَيْهِ الْإِجَابَة.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يكن لَهُم الْحق يَأْتُوا إِلَيْهِ مذعنين} أَي: مسارعين منقادين خاضعين.

50

وَقَوله: {أَفِي قُلُوبهم مرض} اسْتِفْهَام بِمَعْنى التوبيخ والذم، وَمَعْنَاهُ: عِلّة تمنع من قبُول الْحق. وَقَوله: {أم ارْتَابُوا} أَي: شكوا. وَقَوله: {أم يخَافُونَ أَن يَحِيف الله عَلَيْهِم وَرَسُوله} الحيف هُوَ الْميل بِغَيْر حق، وَيجوز أَن يعبر بِهِ عَن الظُّلم. وَقَوله: {بل أُولَئِكَ هم الظَّالِمُونَ} قد بَينا.

51

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم} . هَذَا لَيْسَ على طَرِيق الْخَبَر، وَلكنه تَعْلِيم أدب من الشَّرْع، على معنى أَن الْمُؤمنِينَ كَذَا يَنْبَغِي أَن يَكُونُوا. وَقَوله: {أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا} أَي: سمعنَا الدُّعَاء، وأطعنا بالإجابة. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم المفلحون} أَي: الفائزون.

52

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يطع الله وَرَسُوله} أَي: من يطع الله فِيمَا أَمر، ويطع رَسُوله فِيمَا سنّ. وَقَوله: {ويخش الله} أَي: فِيمَا مضى. وَقَوله: {ويتقه} أَي: يحذرهُ فِيمَا يسْتَقْبل.

{وَأُولَئِكَ هم المفلحون (51) وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون (52) وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن أَمرتهم ليخرجن قل لَا تقسموا طَاعَة مَعْرُوفَة إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قل أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حمل وَعَلَيْكُم مَا حملتم وَإِن تطيعوه تهتدوا وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين (54) } وَقَوله: {فَأُولَئِك هم الفائزون} أَي: الناجون.

53

قَوْله تَعَالَى: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} جهد الْيَمين هُوَ أَن يحلف بِاللَّه، قَالَ أهل الْعلم: وَلَا حلف فَوق الْحلف بِاللَّه. وَقَوله: {لَئِن أَمرتهم ليخرجن} أَي: لَئِن أَمرتهم بِالْخرُوجِ إِلَى الْجِهَاد ليخرجن. وَقَوله: {قل لَا تقسموا} أَي: لَا تحلفُوا. وَقَوله: {طَاعَة مَعْرُوفَة} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: ليكن مِنْكُم طَاعَة مَعْرُوفَة، وَالْآخر: طَاعَة مَعْرُوفَة أمثل من يَمِين بالْقَوْل لَا يُوَافِقهَا الِاعْتِقَاد، وَالثَّالِث: هَذِه طَاعَة مَعْرُوفَة مِنْكُم أَن تحلفُوا كاذبين، وَأَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ، وَمَعْنَاهُ: هَذَا أَمر مَعْرُوف مِنْكُم. وَقَوله: {إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

54

قَوْله تَعَالَى: {قل أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توَلّوا} أَي: فَإِن تَتَوَلَّوْا، وَقيل: فَإِن يتولوا، بِصَرْف خطابه المواجهة إِلَى المغايبة. وَقَوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حمل} أَي: على الرَّسُول مَا حمل من التَّبْلِيغ. {وَعَلَيْكُم مَا حملتم} من الْإِجَابَة أَي: إِن أجبتم فلكم الثَّوَاب، وَإِن أَبَيْتُم فَعَلَيْكُم الْعقَاب. وَقَوله: {وَإِن تطيعوه} يَعْنِي الرَّسُول {تهتدوا} . وَقَوله: {وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} أَي: التَّبْلِيغ الْبَين.

55

قَوْله تَعَالَى: {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة الريَاحي: بعث الله مُحَمَّدًا، فَمَكثَ هُوَ وَأَصْحَابه بِمَكَّة عشر سِنِين، وَأمرُوا

{وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا لصالحات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم} بِالصبرِ على أَذَى الْكفَّار، فَكَانُوا يُصْبِحُونَ خَائِفين وَيُمْسُونَ خَائِفين، ثمَّ إِنَّه هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَأمرُوا بِالْقِتَالِ وهم على خوفهم، فَكَانَ لَا يُفَارق أحد مِنْهُم سلاحه، فَقَالَ رجل من الْمُسلمين: أما نَأْمَن يَوْمًا من الدَّهْر؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر بعض أهل التَّفْسِير: أَن أَصْحَاب رَسُول الله تمنوا أَن يظهروا على مَكَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم} قَالَ قَتَادَة: كَمَا اسْتخْلف دَاوُد وَسليمَان وَغَيرهمَا من الْأَنْبِيَاء الَّذين ملكوا. وَاسْتدلَّ أهل الْعلم بِهَذِهِ الْآيَة على صِحَة خلَافَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وهم: أَبُو بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَعلي - رَضِي الله عَنْهُم - وَمن الْمَشْهُور الْمَعْرُوف بِرِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة، عَن سعيد بن جمْهَان، عَن سفينة أَن النَّبِي قَالَ: " الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور بِبَغْدَاد، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا ابْن بنت منيع عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ، عَن هدبة [بن] خَالِد، عَن حَمَّاد بن سَلمَة ... الْخَبَر. خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وَقَوله: {وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم} أَي: لَيظْهرَن دينهم على جَمِيع الْأَدْيَان، قَالَ أهل الْعلم: يعين: فَارس وَالروم وَمن أشبههم، وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من بَيت مدر وَلَا وبر فِي الأَرْض إِلَّا ويدخله الله

{وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} الْإِسْلَام كرها ". وَقَوله: {ارتضى لَهُم} اخْتَار لَهُم. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعدي بن حَاتِم: " لَيظْهرَن الله هَذَا الدّين، حَتَّى تخرج الظعينة من الْحيرَة تؤم بَيت الله، لَا تخَاف إِلَّا الله وَالذِّئْب على غنمها ". قَالَ عدي بن حَاتِم: فَقلت فِي نَفسِي: فَأَيْنَ اللُّصُوص؟ قَالَ عدي: وَلَقَد رَأَيْت مَا قَالَه رَسُول الله. وَقَوله: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} . هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَقد رُوِيَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله حِين كَانُوا بِمَكَّة لم يَكُونُوا يصلونَ إِلَّا مختفين، وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يحفظ صَاحبه حَتَّى يُصَلِّي، وَصَاحبه يحفظه حَتَّى يُصَلِّي، ثمَّ إِنَّهُم لما هَاجرُوا أمنُوا وعبدوا الله جَهرا، ومازال يزْدَاد الْأَمْن إِلَى زَمَاننَا هَذَا ... الحَدِيث. وَقَوله: {يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا} يَعْنِي: يعبدونني آمِنين وَلَا يشركُونَ. وَقَوله: {وَمن كفر بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَنه لَيْسَ الْكفْر هَاهُنَا هُوَ الْكفْر بِاللَّه، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ كفران النِّعْمَة بترك الطَّاعَة، فَلهَذَا قَالَ: {فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ الْكفْر بِاللَّه، وَالأَصَح هُوَ الأول.

56

قَوْله تَعَالَى: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأَطيعُوا الرَّسُول لَعَلَّكُمْ ترحمون}

{يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا وَمن كفر بعد ذَلِك فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ (55) وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأَطيعُوا الرَّسُول لَعَلَّكُمْ ترحمون (56) لَا تحسبن الَّذين كفرُوا معجزين فِي الأَرْض ومأواهم النَّار ولبئس الْمصير (57) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم} أَي: افعلوا مَا تَفعلُوا على رَجَاء الرَّحْمَة.

57

قَوْله تَعَالَى: {لَا تحسبن الَّذين كفرُوا معجزين فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: لَا تَظنن الَّذين كفرُوا يفوتون عَنَّا فَوَات من نعجز عَنهُ، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنا لَا نعجز عَن أحدهم، (وَلَيْسَ مَعَهم مَا يَقُولُونَ بِهِ غنى، فَيَكُونُوا بِمَنْزِلَة من عجزوا غَيرهم عَنْهُم) . وَقَوله تَعَالَى: {ومأواهم النَّار ولبئس الْمصير} أَي: ولبئس الْمرجع.

58

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ مُجَاهِد: الَّذين ملكت أَيْمَانكُم هم العبيد، وَعَن بَعضهم: أَنهم الْإِمَاء، رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عمر، وَالأَصَح أَنه فِي العبيد وَالْإِمَاء. قَوْله: {وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم} لَيْسَ هَؤُلَاءِ هم الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء، فَإِن الَّذين لم يظهروا على عورات النِّسَاء لَا حشمة لأحد مِنْهُم؛ لأَنا بَينا أَنهم الَّذين لَا يميزون، وَلَكِن هَؤُلَاءِ هم الَّذين ميزوا، وَعرفُوا أَمر النِّسَاء، وَلَكِن لم يبلغُوا. قَوْله: {ثَلَاث مَرَّات} أَي: اسْتَأْذنُوا ثَلَاث مَرَّات. وَقَوله: {من قبل صَلَاة الْفجْر وَحين تضعون ثيابكم من الظهيرة وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء} خص هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة بِالْأَمر بالاستئذان؛ لِأَنَّهَا أَوْقَات ينْكَشف فِيهَا النَّاس ويبدوا مِنْهُم مَا لَا يحبونَ أَن يرَاهُ أحد، فَإِن قبل الْفجْر ينتبهون من النّوم فينكشفون، وَعند الظهيرة يلقون ثِيَابهمْ ليقيلوا، وَبعد الْعشَاء (الْأَخير) ينكشفون للنوم، فَأمر الله تَعَالَى بالاستئذان فِي هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة لهَذَا الْمَعْنى، وَالْمرَاد من الْآيَة: اسْتِئْذَان الخدم وَالصبيان، فَأَما غَيرهم يستأذنون فِي جَمِيع الْأَحْوَال،

{مِنْكُم ثَلَاث مَرَّات من قبل صَلَاة الْفجْر وَحين تضعون ثيابكم من الظهيرة وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء ثَلَاث عورات لكم لَيْسَ عَلَيْكُم وَلَا عَلَيْهِم جنَاح بعدهن} وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لم يكن للْقَوْم ستور وَلَا [حجاب] ، وَكَانَ الخدم والولائد يدْخلُونَ عَلَيْهِم، فيرون مِنْهُم مَا لَا يحبونَ أَن يرى مِنْهُم، فَأمر الله تَعَالَى بالاستئذان، ثمَّ إِن الله تَعَالَى بسط رزفه، وَاتخذ النَّاس ستورا و [حِجَابا] ، فَرَأَوْا أَن ذَلِك قد أغْنى من الاسْتِئْذَان، قَالَ الشّعبِيّ وَسَعِيد بن جُبَير: هَذِه الْآيَة غير مَنْسُوخَة لَكِن تهاون النَّاس. وَحكى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: ثَلَاث آيَات من الْقُرْآن لَا يعْمل النَّاس بهَا، وَذكر هَذِه الْآيَة وَذكر قَوْله تَعَالَى: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} فَلَا يزَال النَّاس يَقُولُونَ: أَنا ابْن فلَان، وَأكْرم من فلَان، وَأحسن من فلَان، قَالَ عَطاء: ونسيت الثَّالِثَة. وَقَوله: {ثَلَاث عورات لكم} قرئَ بِرَفْع الثَّاء ونصبه، فَقَوله: {ثَلَاث} بِالرَّفْع، أَي: هِيَ ثَلَاث عورات لكم، وَقَوله: {ثَلَاث عورات لكم} بِالنّصب بدل من قَوْله: " ثَلَاث مَرَّات " فَيكون نصبا على الْبَدَل. وَقَوله: {لَيْسَ عَلَيْكُم وَلَا عَلَيْهِم جنَاح} أَي: إِثْم فِي ترك الاسْتِئْذَان فِيمَا سوى هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاثَة. وَقَوله: {بعدهن} إِشَارَة إِلَى هَذَا الْمَعْنى. وَقَوله: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضكُم على بعض} ابْتِدَاء أَي: هَؤُلَاءِ الخدم والولائد طَوَّافُونَ عَلَيْكُم، يطوفون عَلَيْكُم ليخدموكم، وَمن هَذَا قَوْله فِي الْهِرَّة: " إِنَّهَا من الطوافين عَلَيْكُم والطوافات ".

{طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضكُم على بعض كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات وَالله عليم حَكِيم (58) وَإِذا بلغ الْأَطْفَال مِنْكُم الْحلم فليستأذنوا كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلهم كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته وَالله عليم حَكِيم (59) وَالْقَوَاعِد من النِّسَاء} وَقَوله: {بَعْضكُم على بعض} أَي: يطوف بَعْضكُم على بعض. وَقَوله: {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات} أَي: الدلالات، وَقيل: الْأَحْكَام. وَقَوله: {وَالله عليم حَكِيم} أَي: عليم بِأُمُور خلقه، حَكِيم فِيمَا دبر لَهُم.

59

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا بلغ الْأَطْفَال مِنْكُم الْحلم فليستأذنوا} قَوْله: {الْحلم} أَي: الِاحْتِلَام، وَقَوله: {فليستأذنوا} (كَمَا اسْتَأْذن الرِّجَال البالغون، وَيُقَال) : {كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلهم} يَعْنِي: كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلهم، (مَعَ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى) . وَقَوله: {كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته} أَي: أَحْكَامه. وَقَوله: {وَالله عليم حَكِيم} قد بَينا.

60

قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِد من النِّسَاء} . الْقَوَاعِد جمع قَاعد، يُقَال: امْرَأَة قَاعد إِذا قعدت عَن الْأزْوَاج، إِذا قعدت عَن الْحيض بِالْكبرِ، وَأما الْقَاعِدَة فَهِيَ الْجَالِسَةُ. وَقَوله: {اللَّاتِي لَا يرجون نِكَاحا} يَعْنِي: لَا يردن نِكَاحا، وَقيل: لَا يردن الرِّجَال لكبرهن، وَقيل: قعدن عَن التَّصَرُّف بِالْكبرِ، وَإِنَّمَا قيل: امْرَأَة قَاعِدَة إِذا كَبرت؛ لِأَنَّهَا تكْثر الْقعُود، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. وَعَن ربيعَة الرَّأْي قَالَ: هن الْعَجَائِز اللواتي إِذا رآهن الرِّجَال استقذروهن، فَأَما من كَانَ فِيهِ بَقِيَّة من جمال، وَهِي مَحل الشَّهْوَة، فَلَا تدخل فِي هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جنَاح} أَي: إِثْم. وَقَوله: {أَن يَضعن ثيابهن} فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " أَن يَضعن من ثيابهن "، قَالَ

{اللَّاتِي لَا يرجون نِكَاحا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جنَاح أَن يَضعن ثيابهن غير متبرجات} ابْن مَسْعُود: وثيابهن هَا هُنَا الرِّدَاء والجلباب. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: الجلباب، وَأما الْخمار لَا يجوز لَهَا أَن تضعه، وَأما الثَّوْب الَّذِي يكون فَوق الْخمار يجوز أَن تضعه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن للزَّوْج مَا تَحت الدرْع، وَلِذِي الْمحرم مَا فَوق الدرْع، ولغير الْمحرم مَا فَوق الدرْع والرداء والجلباب والخمار. وَقَوله: {غير متبرجات بزينة} أَي: لَا يردن بإلقاء الرِّدَاء والجلباب إِظْهَار زينتهن ومحاسنهن، وأصل التبرج من الظُّهُور، قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى} أَي: لَا تنكشفن تكشف الْجَاهِلِيَّة الأولى، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْمَرْأَة إِذا مشت بَين يَدي الرِّجَال، فقد تبرجت تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا تركت بعدِي فتْنَة أضرّ على الرِّجَال من النِّسَاء " رَوَاهُ أُسَامَة. وَقيل لبَعض الْحُكَمَاء: مَا أحن السبَاع؟ قَالَ: الْمَرْأَة. وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ لآخر: لم يدْخل بَاب دَاري شَرّ قطّ، قَالَ: من أَيْن تدخل امْرَأَتك؟ . [وَعَن] بَعضهم أَنه رأى امْرَأَة مصلوبة، فَقَالَ: لَو أَن كل شَجَرَة تثمر مثل هَذِه، لنجى النَّاس من شَرّ كَبِير. وَقَوله: {وَأَن يستعففن} يَعْنِي: أَلا يلقين الرِّدَاء والجلباب خير لَهُنَّ، وَعَن عَاصِم الْأَحول قَالَ: كُنَّا ندخل على حَفْصَة، وَهِي متجلببة متردية مُتَقَنعَة، فَقُلْنَا لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، أَلَسْت من الْقَوَاعِد؟ فَقَرَأت قَوْله تَعَالَى: {وَأَن يستعففن خير لَهُنَّ} . وَقَوله: {وَالله سميع عليم} ظَاهر الْمَعْنى.

61

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض

{بزينة وَأَن يستعففن خير لَهُنَّ وَالله سميع عليم (60) لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج وَلَا على أَنفسكُم أَن تَأْكُلُوا من} حرج) اخْتلف القَوْل فِي هَذِه الْآيَة، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْآيَة نزلت فِي رخصَة هَؤُلَاءِ للتخلف عَن الْجِهَاد، وَالَّذِي ذكره بعده من الْأكل عطف رخصَة على رخصَة. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: نزلت الْآيَة فِي رخصَة الْأكل من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وَسبب ذَلِك أَن النَّاس كَانُوا يتحرجون من الْأكل مَعَ العميان وَالْعَرج والمرضى، وَيَقُولُونَ: إِن الْأَعْمَى لَا يَسْتَوْفِي الْأكل، والأعرج من الْجُلُوس، وَالْمَرِيض يضعف عَن التَّنَاوُل، وَكَانَ هَؤُلَاءِ أَيْضا يتحرجون من الْأكل مَعَ الأصحاء، فَيَقُول الْأَعْمَى: لَا آكل مَعَ بَصِير، فَرُبمَا آكل أَكثر مِمَّا يَأْكُل، والأعرج يَقُول: رُبمَا آخذ مَكَان نفسين، وَالْمَرِيض يَقُول: يتقذرني النَّاس، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَرفع الْحَرج. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن النَّاس كَانُوا يخرجُون إِلَى الْغَزْو، ويخلفون هَؤُلَاءِ فِي بُيُوتهم، فَكَانُوا يتحرجون من الْأكل، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَرفع الْحَرج، وَهَذَا قَول عَائِشَة، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَؤُلَاءِ كَانُوا يدْخلُونَ على الرجل لطلب الطَّعَام فَلَا يَجدونَ شَيْئا، فَيذْهب ذَلِك الرجل إِلَى بَيت آخر، ويحملهم مَعَ نَفسه ليصيبوا من طَعَام ذَلِك الرجل، وَهَذَا قَول مُجَاهِد، وَعَن عبد الْكَرِيم الْجَزرِي قَالَ: المُرَاد من الْآيَة هُوَ الْأَعْمَى الَّذِي مَعَه قَائِد، فَيحمل مَعَه قائده ليَأْكُل مَعَه، وَكَذَلِكَ الْأَعْرَج وَالْمَرِيض يحْملَانِ إنْسَانا مَعَ أَنفسهمَا. وَقَوله: {وَلَا على أَنفسكُم أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ} أَي: وَلَا حرج على أَنفسكُم أَن تَأْكُلُوا من بُيُوتكُمْ، وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه بيُوت الْأَوْلَاد، رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَنْت وَمَالك لأَبِيك ".

{بُيُوتكُمْ أَو بيُوت آبائكم أَو بيُوت أُمَّهَاتكُم أَو بيُوت إخْوَانكُمْ أَو بيُوت أخواتكم أَو بيُوت أعمامكم أَو بيُوت عماتكم أَو بيُوت أخوالكم أَو بيُوت} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بيُوت الْأزْوَاج، وَيُقَال: بَيت كل إِنْسَان فِي نَفسه، وَالْأَوْلَاد أظهر. وَقَوله: {أَو بيُوت آبائكم} الْآيَة إِلَى آخرهَا ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {أَو مَا ملكتم مفاتحه} قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا وَكيل الرجل وقيمه فِي ضيعته وغنمه، يَأْكُل من الثَّمر، وَيشْرب من اللَّبن، وَلَا يحمل وَلَا يدّخر، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة بيُوت العبيد، والمفاتح: الخزائن، قَالَ الله تَعَالَى: {وَعِنْده مفاتح الْغَيْب} أَي: خَزَائِن الْغَيْب. وَقَوله: {أَو صديقكم} الصّديق هُوَ الَّذِي صدقك فِي الْمَوَدَّة، وَيُقَال: الصّديق هُوَ الَّذِي ظَاهره مثل ظاهرك، وباطنه مثل باطنك، وَالصديق هَا هُنَا وَاحِد بِمَعْنى الْجمع. قَالَ الشَّاعِر: ( [دعون] الْهوى [ثمَّ ارتمين] قُلُوبنَا ... بأسهم أَعدَاء وَهن صديق) وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى رفع أَمر الصّديق على أَمر الْأَبَوَيْنِ، قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن أَمر جَهَنَّم: {فمالنا من شافعين وَلَا صديق حميم} ، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق أَنه قَالَ: مثل صديقك مثل نَفسك. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة قَالَا: كَانُوا يستحبون أَن يدخلُوا دور إخْوَانهمْ فيتناولون من غير اسْتِئْذَان، وَكَانَ يَقع ذَلِك بِطيب من نُفُوسهم، ومودة فِي قُلُوبهم. وَعَن ابْن عمر قَالَ: وَمَا كَانَ أَحَدنَا بِأَحَق بدرهمه وديناره عَن صَاحبه. وَعَن بَعضهم: أَنه ذكر صديقا لَهُ فَقَالَ: أيأخذ من كيسك

{خالاتكم أَو مَا ملكتم مفاتحه أَو صديقكم لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا} ودراهمك مَا تحب فَلَا تكرههُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لَيْسَ لَك هُوَ بصديق. وَقَوله: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَو أشتاتا} رُوِيَ أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض} توقى النَّاس غَايَة التوقي، وَقَالُوا: لَا نَأْكُل مَعَ أحد حَتَّى لَا نَأْكُل بَاطِلا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَرُوِيَ أَن الْآيَة نزلت فِي مَالك بن زيد مَعَ الْحَارِث بن عَمْرو، وَكَانَ الْحَارِث خلف مَالك بن زيد فِي دَاره، وَخرج غازيا، وأباح لَهُ الْأكل، فَلم يَأْكُل شَيْئا. وَمن الْمَعْرُوف فِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي بني بكر من كنَانَة، وَكَانَ لَا يَأْكُل أحد مِنْهُم وَحده حَتَّى يجد ضيفا يَأْكُل مَعَه، وَإِذا لم يجد وأجهده الْجُوع نصب خَشَبَة ولف عَلَيْهَا ثوبا وَأكل عِنْدهَا؛ ليظن النَّاس أَنه إِنْسَان يَأْكُل مَعَه، وَرُوِيَ أَن وَاحِدًا مِنْهُم نزل بلقاحه وَاديا، فجاع فَحلبَ لقحة مِنْهَا، ونادى فِي الْوَادي: من كَانَ هَا هُنَا فليحضر ليَأْكُل، وَكَانَ فِي الْوَادي رجل فاختفى وَلم يجب، وأجهده الْجُوع، فَجَلَسَ يَأْكُل وَحده، فَخرج الرجل، وَقَالَ لَهُ: يَا رَضِيع، أتأكل وَحدك، فَأخذ الرجل سَيْفه وعدى عَلَيْهِ وَقَتله مَخَافَة أَن ينشر فِي النَّاس ذَلِك الْفِعْل مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وأباح للْقَوْم أَن يَأْكُلُوا منفردين وَجَمَاعَة، فَإِن قيل: مَا قَوْلكُم فِي هَذِه الْآيَة، وَإِذا دخل بَيت وَاحِد مِمَّن سبق ذكره، هَل يجوز لَهُ أَن يَأْكُل بِغَيْر إِذْنه؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ أَبُو بكر الْفَارِسِي: إِن كَانَ سبق مِنْهُ إِذن على الْإِجْمَال - وَإِن لم يكن على التَّعْيِين - فَإِنَّهُ يجوز لَهُ أَن يَأْكُل، وَفِي غير هَؤُلَاءِ لَا يجوز إِلَّا أَن يعين. وَقَالَ بَعضهم: إِذا كَانَ الطَّعَام مبذولا غير مُحرز، جَازَ لَهُ أَن يَأْكُل وَإِن كَانَ محرزا فِي حرز لَا يجوز لَهُ أَن يَأْكُل، وَأما حمل الزَّاد ومباذلة الْغَيْر فَهُوَ حرَام مَا لم يُؤذن على التَّعْيِين، وَقد قيل: إِذا كَانَ يَسِيرا فَلَا بَأْس بِهِ للعبيد والخدم. وَقَوله: {فَإِذا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلمُوا على أَنفسكُم} أَي: ليسلم بَعْضكُم على بعض، وَهَذَا كَقَوْلِه: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} أَي: وَلَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا،

{أَو أشتاتا فَإِذا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلمُوا على أَنفسكُم تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة كَذَلِك يبن الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تعقلون (61) } وَيُقَال معنى الْآيَة: إِذا دخل بَيته يسلم على أَهله، وَهِي سنة قد هجرت، قَالَ قَتَادَة " أهلك أَحَق أَن تسلم عَلَيْهِم. وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ إِذا دخل بَيته وَنسي السَّلَام خرج ثمَّ رَجَعَ وَسلم. وَأما إِذا دخل بَيْتا خَالِيا، فَيَقُول: السَّلَام علينا من رَبنَا، وَإِذا دخل مَسْجِدا لَيْسَ فِيهِ أحد يَقُول: السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين، وَقد بَينا أَن السّنة إفشاء السَّلَام على من تعرف وَمن لَا تعرف، وَكَانَ ابْن عمر يسلم على النسوان كَمَا يسلم على الرِّجَال، وَقَالُوا: إِن كَانَت عجوزا فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن كَانَت شَابة فَلَا يسلم. وَقَوله: {تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة} أَي: حَسَنَة جميلَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَيُقَال: ذكر الْبركَة وَالطّيب هَا هُنَا لما فِيهِ من الثَّوَاب، وَمن أهْدى سَلاما إِلَى إِنْسَان، فَهِيَ هَدِيَّة خَفِيفَة الْمحمل، طيبَة الرّيح، مباركة الْعَاقِبَة. وَقَوله: {كَذَلِك يبين الله لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تعقلون} ظَاهر الْمَعْنى.

62

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَإِذا كَانُوا مَعَه على أَمر جَامع لم يذهبوا حَتَّى يستأذنوه} . هَذَا تَعْلِيم أدب من آدَاب الْإِسْلَام، وَالْأَمر الْجَامِع كل مَا يجمعوا الْمُسلمين، وَقد قيل: إِنَّه الْجِهَاد، وَيُقَال: هُوَ الْجُمُعَة العيدان، وَيُقَال: كل طَاعَة يجْتَمع عَلَيْهَا المسملون مَعَ الإِمَام. وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الرجل من الْمُسلمين كَانَ إِذا كَانَ مَعَ النَّبِي فِي أَمر، وَأَرَادَ الاسْتِئْذَان لحَاجَة لَهُ، قَامَ وَأَشَارَ إِلَى النَّبِي كَأَنَّهُ يسْتَأْذن، فيشير إِلَيْهِ النَّبِي أَذِنت لَك ". وَقد قَالُوا: إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان إِذا لم يكن هُنَاكَ سَبَب يمنعهُ من الْمقَام، فَأَما إِذا عرض سَبَب يمنعهُ من الْمقَام مثل امْرَأَة تكون فِي الْمَسْجِد فتحيض، أَو رجل يجنب، أَو عرض لَهُ مرض وَمَا أشبه، فَلَا يحْتَاج إِلَى الاسْتِئْذَان.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وَإِذا كَانُوا مَعَه على أَمر جَامع لم يذهبوا حَتَّى يستأذنوه إِن الَّذين يَسْتَأْذِنُونَك أُولَئِكَ الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله فَإِذا استأذنوك لبَعض شَأْنهمْ فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم واستغفر لَهُم الله إِن الله غَفُور رَحِيم (62) لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم} وَقَوله: {إِن الَّذين يستأذنوك أُولَئِكَ الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله} رُوِيَ أَن عمر اسْتَأْذن رَسُول الله فِي غَزْوَة تَبُوك أَن يرجع إِلَى أَهله فَقَالَ: " ارْجع فلست بمنافق وَلَا مرتاب " يعرضه بالمنافقين، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة ناسخة لقَوْله تَعَالَى فِي سُورَة التوية: {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت لَهُم} . وَقَوله: {فَإِذا استأذنوك لبَعض شَأْنهمْ} أَي: أَمرهم. وَقَوله: {فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم} مَعْنَاهُ: إِن شِئْت فَأذن، وَإِن شِئْت فَلَا تَأذن. {واستغفر لَهُم الله إِن الله غَفُور رَحِيم} أَي: ادْع لَهُم إِذا طلبُوا الدُّعَاء مِنْك.

63

قَوْله تَعَالَى: {لَا تجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُم كدعاء بَعْضكُم بَعْضًا} أَي: لَا تَقولُوا: يَا مُحَمَّد، يَا أَبَا الْقَاسِم، يَا ابْن عبد الله، وَلَكِن قُولُوا: يَا أَيهَا الرَّسُول، يَا أَيهَا النَّبِي، يَا رَسُول الله، وادعوه على التفخيم والتعظيم. وَقَوله: {قد يعلم الله الَّذين يَتَسَلَّلُونَ} التسلل هُوَ الْخُرُوج على خُفْيَة، وَكَانَ المُنَافِقُونَ يَفْعَلُونَ هَكَذَا، وَكَانَ يشق عَلَيْهِم حُضُور الْمَسْجِد والمكث فِيهِ، وَسَمَاع خطْبَة النَّبِي، فَكَانَ [يسير] بَعضهم بِبَعْض وَيخرج من الْمَسْجِد. وَقَوله: {لِوَاذًا} أَي: يلوذ بَعضهم بِبَعْض، وَقيل: (رحلا) . وَقَوله: {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي: أمره. وَقَوله: {أَن تصيبهم فتْنَة} مَعْنَاهُ: لِئَلَّا تصيبهم فتْنَة أَي: بلية. وَقَوله: {أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} يُقَال: الْعَذَاب الْأَلِيم فِي الدُّنْيَا، وَيُقَال: فِي الْآخِرَة.

{بَعْضًا قد يعلم الله الَّذين يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم لِوَاذًا فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم (63) أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قد يعلم مَا أَنْتُم عَلَيْهِ وَيَوْم يرجعُونَ إِلَيْهِ فينبئهم بِمَا عمِلُوا وَالله بِكُل شَيْء عليم (64) }

64

قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قد يعلم مَا أَنْتُم عَلَيْهِ} أَي: يعلم، و " قد " صلَة. وَقَوله: {وَيَوْم يرجعُونَ إِلَيْهِ} يَعْنِي: فِي الْآخِرَة. وَقَوله: {فينبئهم بِمَا عمِلُوا} أَي: يُخْبِرهُمْ الله بِمَا عمِلُوا. وَقَوله: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم. تمّ بِحَمْد الله تَعَالَى المجلد الثَّالِث من تَفْسِير أبي المظفر السَّمْعَانِيّ ويتلوه المجلد الرَّابِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى وأوله تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {تبَارك الَّذِي نزل الْفرْقَان على عَبده ليَكُون للْعَالمين نذيرا الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلم يتَّخذ ولدا وَلم يكن لَهُ شريك فِي الْملك وَخلق كل شَيْء فقدره تَقْديرا} . تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان وَهِي مَكِّيَّة، قَالَ الضَّحَّاك: هى مَدَنِيَّة.

الفرقان

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {تبَارك الَّذِي نزل الْفرْقَان على عَبده} وَقَرَأَ عبد الله بن الزبير: " على عباده " على الْجمع. قَوْله: {تبَارك} تفَاعل من الْبركَة , وَقيل: تبَارك أَي: جلّ بِمَا لم يزل وَلَا يزَال، وَقَالَ الْحسن: تبَارك صفة من صِفَات الله تَعَالَى؛ لِأَن كل بركَة تجئ مِنْهُ، وَقَالَ غَيره: لِأَنَّهُ يتبرك باسمه، وَأما الْبركَة فهى الْخَيْر وَالزِّيَادَة، وَقيل: فعل كل طَاعَة من الْعباد بركَة، والبروك هُوَ الثُّبُوت، وَيُقَال: فلَان مبارك أَي: ينزل الْخَيْر حَيْثُ ينزل. وَقَوله: {الذى نزل الْفرْقَان} أَي: الْقُرْآن , وسمى الْقُرْآن فرقانا لمعنيين: احدهما: لِأَنَّهُ يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل، والأخر: أَن فِيهِ بَيَان الْحَلَال وَالْحرَام. وَقَوله تَعَالَى: {على عَبده} أَي: مُحَمَّد. وَقَوله: {ليَكُون للْعَالمين نذيرا} أَي: الْجِنّ والأنس، قَالَ أهل الْعلم: وَلم يبْعَث نَبِي إِلَى جَمِيع الْعَالمين غير نوح وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام.

2

قَوْله تَعَالَى: {الذى لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلم يتَّخذ ولدا} يعْنى: كَمَا قَالَه النَّصَارَى. وَقَوله: {وَلم يكن لَهُ شريك فِي الْملك} أَي: كَمَا قَالَه عَبدة الْأَصْنَام وَغَيرهم. وَقَوله: {وَخلق كل شَيْء} أَي: مِمَّا يصلح أَن يكون مخلوقا. قَوْله: (فقدره تَقْديرا) أَي: سواهُ تَسْوِيَة على مايصلح لِلْأَمْرِ الذى أُرِيد لَهُ، وَيُقَال: بَين مقادير الْأَشْيَاء ومنافعها، وَمِقْدَار لبثها وَوقت فنائها.

{وَاتَّخذُوا من دونه آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضرا وَلَا نفعا وَلَا يملكُونَ موتا وَلَا حَيَاة وَلَا نشورا وَقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا إفْك افتراه وأعانه عَلَيْهِ قوم آخَرُونَ فقد جَاءُوا ظلما وزورا وَقَالُوا أساطير الْأَوَّلين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بكرَة} .

3

قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة} يعْنى: الْأَصْنَام. وَقَوله: {لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَلَا يملكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضرا وَلَا نفعا} أَي: دفع ضرا وجلب نفع، وَهَذَا يَقع فِي الْأَصْنَام الَّتِى عَبدهَا الْمُشْركُونَ. وَقَوله: {وَلَا يملكُونَ موتا وَلَا حَيَاة} أَي: إماتة (وَلَا إحْيَاء) . وَقَوله: {وَلَا نشورا} أَي: بعثا بعد الْمَوْت.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا إفْك افتراه} أَي: كذب اختلقه. وَقَوله: {وأعانه عَلَيْهِ قوم آخَرُونَ} يعْنى: جبر، ويسار، وعداس، و (أَبُو) فكيهة، وَهَؤُلَاء عبيد كَانُوا بِمَكَّة من أهل الْكتاب، وَكَانُوا يَجْلِسُونَ إِلَى النَّبِي يسمعُونَ مِنْهُ، فَزعم الْمُشْركُونَ أَن مُحَمَّدًا يَأْخُذ مِنْهُم. وَقَوله: {فقد جَاءُوا ظلما وزورا} أَي: بظُلْم وزور، فَلَمَّا حذف الْبَاء انتصب.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أساطير الْأَوَّلين} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّضر بن الْحَارِث من شياطين أهل الشّرك، وَكَانَ قد قدم الْحيرَة، وَقَرَأَ أَخْبَار مُلُوك الْفرس، (وَكَانَ يَقُول للْمُشْرِكين: (إِن الدّين يَقُول) مُحَمَّد أساطير الْأَوَّلين، وَأَنا أحدثكُم بِمثلِهِ، يعْنى من أَحَادِيث الْفرس) وَحَدِيث رستم واسفنديار، فالآية نزلت فِيهِ وفيمن قَالَ بقوله، مثل: عبد الله بن أَبى أُمِّيّه المخزومى وَغَيره.

{وَأَصِيلا قل أنزلهُ الَّذِي يعلم السِّرّ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّه كَانَ غَفُورًا رحِيما وَقَالُوا مالهذا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق لَوْلَا أنزل إِلَيْهِ ملك فَيكون مَعَه نذيرا} . وَقَوله: {اكتتبها} أَي: طلب أَن تكْتب لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يكْتب. وَقَوله: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} أَي: تقْرَأ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ لَا يكْتب حَتَّى تملى عَلَيْهِ ليكتب. وَقَوله: {بكرَة وَأَصِيلا} أَي: غدْوَة وعشيا.

6

{قل أنزلهُ الَّذِي يعلم السِّرّ} أَي: الْغَيْب فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض (إِنَّه كَانَ غَفُورًا رحِيما) أَي: متجاوزا محسنا.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام ويمشى فِي الْأَسْوَاق} قَالُوا هَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار، وَزَعَمُوا أَنه إِذا كَانَ مثلهم يَأْكُل الطَّعَام ويمشى فِي الْأَسْوَاق، فَلَا يجوز أَن يمتاز عَنْهُم بِالنُّبُوَّةِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: أَنْت لست بِملك وَلَا ملك؛ فلست بِملك لِأَنَّك تَأْكُل الطَّعَام، وَلست بِملك لِأَنَّك تتسوق وتتبذل، والملوك لَا يتسوقون وَلَا يتبذلون، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ كُله فَاسد؛ وَذَلِكَ لِأَن أكله الطَّعَام لَا ينافى النُّبُوَّة، وَلَا مَشْيه فِي الْأَسْوَاق، فَإِن أكله الطَّعَام يدل على أَنه آدمى مُحْتَاج، ومشيه فِي الْأَسْوَاق يدل على أَنه متواضع غير متكبر، وَأما اخْتِصَاصه بفضلة النُّبُوَّة من بَين النَّاس فَجَائِز؛ لِأَن الله تَعَالَى لم يسو بَين النَّاس، بل فَاضل بَينهم. وَقَوله: {لَوْلَا أنزل إِلَيْهِ ملك} قَالُوا هَذَا لأَنهم زَعَمُوا أَن الرَّسُول إِن لم يكن ملكا، فَيَنْبَغِي أَن يكون لَهُ شريك من الْمَلَائِكَة، هَذَا أَيْضا فَاسد؛ لِأَنَّهُ مُجَرّد تحكم، وَيجوز أَن يتفرد الْآدَمِيّ بِالنُّبُوَّةِ وَلَا يكون مَعَه ملك، وَلِأَن يكون النَّبِي آدَمِيًّا أولى من أَن يكون ملكا؛ ليفهموا عَنهُ، ويستأنسوا بِهِ. وَقَوله: {فَيكون مَعَه نذيرا} أَي: شَرِيكا.

8

وَقَوله: {أَو يلقى إِلَيْهِ كنز} يعْنى: ينزل عَلَيْهِ كنز من السَّمَاء، أَو يظْهر لَهُ كنز

{أَو يلقى إِلَيْهِ كنز أَو تكون لَهُ جنَّة يَأْكُل مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحورا (8) أنظر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال فضلوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تبَارك الَّذِي إِن شَاءَ جعل لَك خيرا من ذَلِك جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَيجْعَل لَك قصورا (10) بل} فِي الأَرْض. وَقَوله: {أَو تكون لَهُ جنَّة يَأْكُل مِنْهَا} قَالُوا: هلا جعل الله لَك بستانا تعيش بِهِ، أوكنزا يَدْفَعهُ إِلَيْك،: فتستغني بِهِ عَن التعيش والتكسب والتبذل فِي الْأُمُور، وَهَذَا أَيْضا فَاسد؛ لِأَن كَسبه وتعيشه لم يكن منافيا نبوته. وَقَوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تتبعون إِلَّا رجلا مسحورا} أَي: مخدوعا، وَقيل مصروفا عَن الْحق، وَقيل: مُعَللا بِالطَّعَامِ وَالشرَاب.

9

قَوْله تَعَالَى: {انْظُر كَيفَ ضربوا لَك الْأَمْثَال} أَي: شبهوا لَك الْأَشْبَاه، والأشباه الَّتِي ذكروها، قَوْلهم: إِنَّه مخدوع، وَقَوْلهمْ: إِنَّه مُحْتَاج مَتْرُوك فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلهمْ: إِنَّه نَاقص فِي التَّدْبِير وَالْقِيَام بأَمْره. وَقَوله: {فضلوا} أَي: أخطئوا وَيُقَال: تناقضوا، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ مرّة: هُوَ مفتر أَي: قَالَه من قبل نَفسه، وَمرَّة يَقُولُونَ: إِنَّه تعلمه من غَيره. وَقَوله: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} أَي: طَرِيق الْحق، وَقيل: طَاعَة الله.

10

وَقَوله تَعَالَى: {تبَارك الَّذِي إِن شَاءَ جعل لَك خيرا من ذَلِك} أَي: خيرا مِمَّا طلبوه لَك. وَقَوله: {جنَّات تجرى من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: بساتين تجرى من تَحت أشجارها الْأَنْهَار. وَقَوله: {وَيجْعَل لَك قصورا} أَي: بُيُوتًا مشيدة، وَالْعرب تسمى كل بَيت مشيد

{كذبُوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إِذا رأتهم من مَكَان بعيد سمعُوا لَهَا} . قصرا، وروى حبيب بن أَبى ثَابت عَن خَيْثَمَة " أَن الله تَعَالَى عرض مَفَاتِيح خَزَائِن الأَرْض على مُحَمَّد فَلم يخترها "، وفى بعض الْأَخْبَار: " عرض على بطحاء مَكَّة ذَهَبا فاخترت أَن أكون عبدا نَبيا ".

11

قَوْله تَعَالَى: {بل كذبُوا بالساعة} أَي: بالقيامة. وَقَوله: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا} أَي: نَارا مستعرة، والمستعرة المتوقدة.

12

قَوْله تَعَالَى: {إِذا رأتهم من مَكَان بعيد} الْآيَة. روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من تَقول على مَا لم أقل فَإِنَّهُ يَوْم الْقِيَامَة بَين عَيْني جَهَنَّم، فَقيل لَهُ: ولجهنم عينان؟ قَالَ: نعم، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِذا رأتهم من مَكَان بعيد} . وَقَالَ بَعضهم: إِذا رأتهم أَي: رَأَتْ زبانيتها إيَّاهُم.

{تغيظا وزفيرا (12) وَإِذا ألقوا مِنْهَا مَكَانا ضيقا مُقرنين دعوا هُنَالك ثبورا (13) لَا تدعوا} وَقَوله: {سمعُوا لَهَا تغيظا} فَإِن قيل: كَيفَ يسمع التغيظ، إِنَّمَا يعلم التغيظ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قُلْنَا مَعْنَاهُ: سمعُوا غليان التغيظ، (وَقَبله) : سمعُوا لَهَا زفيرا أَي: علمُوا لَهَا تغيظا، قَالَ الشَّاعِر: (رَأَيْت زَوجك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا) أَي: مُتَقَلِّدًا سَيْفا وحاملا رمحا، وَقَالَ آخر: (علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا ... ) أَي: علفتها تبنا وسقيتها مَاء بَارِدًا. وَقد ذكرنَا معنى الزَّفِير، وَعَن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: تزفر جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة زفرَة، فَلَا يبْقى ملك وَلَا نَبِي مُرْسل إِلَّا خر بِوَجْهِهِ، حَتَّى إِن إِبْرَاهِيم يجثو على رُكْبَتَيْهِ، وَيَقُول: نَفسِي نَفسِي، وَلَا أُرِيد غَيرهَا. وَقَوله: {من مَكَان بعيد} قيل فِي بعض التفاسير: من مسيرَة مائَة سنة.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا ألقوا مِنْهَا مَكَانا ضيقا مُقرنين} يُقَال: تضيق الزج فِي الرمْح. وَقَوله: {مُقرنين} أَي: مصفدين، وَقيل: مغللين، كَأَنَّهُ غلل أَيْديهم إِلَى أَعْنَاقهم، وقرنوا مَعَ الشَّيَاطِين، وَقد بَينا أَن كل كَافِر يقرن مَعَ شَيْطَان فِي سلسلة. وَقَوله: {دعوا هُنَالك ثبورا} أَي: هَلَاكًا، وَهُوَ قَوْلهم: وأهلاكاه، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أول من يكسى حلَّة من نَار إِبْلِيس، فيسحبها إِلَى جَهَنَّم، ويتبعه ذُريَّته.

14

وَقَوله: {لَا تدعوا الْيَوْم ثبورا وَاحِدًا وَادعوا ثبورا كثيرا} أَي: لَيْسَ هَذَا مَوضِع دُعَاء وَاحِد بِالْهَلَاكِ، بل هُوَ مَوضِع أدعية كَثِيرَة، قَالَ الشَّاعِر: (إِذْ أجارى الشَّيْطَان فِي سنَن الغي ... وَمن مَال ميله مثبور) أَي: هَالك.

15

قَوْله: {قل أذلك خير أم جنَّة الْخلد الَّتِي وعد المتقون} فَإِن قيل: لَيْسَ فِي: جَهَنَّم

{الْيَوْم ثبورا وَاحِدًا وَادعوا ثبورا كثيرا (14) قل أذلك خيرا أم جنَّة الْخلد الَّتِي وعد المتقون كَانَت لَهُم جَزَاء ومصيرا (15) لَهُم فِيهَا مَا يشاءون خَالِدين كَانَ على رَبك وَعدا مسئولا (16) وَيَوْم يحشرهم وَمَا يعْبدُونَ من دون الله فَيَقُول أأنتم أضللتم عبَادي هَؤُلَاءِ أم هم ضلوا} . خير، أصلا، فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله: {أذلك خير أم جنَّة الْخلد} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قُلْنَا: الْعَرَب قد تذكر مثل هَذَا، وَإِن لم يكن فِي أَحدهمَا خير أصلا، يُقَال: الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: إِنَّمَا ذكر لفظ " الْخَيْر " هَاهُنَا لِاسْتِوَاء المكانين فِي الْمنزل، على معنى أَنَّهُمَا منزلان ينزل فيهمَا الْخلق، فاستقام أَن يُقَال: هَذَا الْمنزل خير من ذَلِك الْمنزل لوُجُود الاسْتوَاء فِي صفة. وَقَوله: {كَانَت لَهُم جَزَاء ومصيرا} أَي: مجازاة ومرجعا.

16

قَوْله تَعَالَى: {لَهُم فِيهَا مَا يشاءون خَالِدين} أَي: مقيمين. وَقَوله: {كَانَ على رَبك وَعدا مسئولا} أَي: مَطْلُوبا، وَهُوَ طلب الْمُؤمنِينَ فِي قَوْله: {رَبنَا وآتنا مَا وعدتنا على رسلك} أَي: على أَلْسِنَة رسلك، وَيُقَال: الطّلب من الْمَلَائِكَة للْمُؤْمِنين، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم} الْآيَة.

17

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَوْم يحشرهم وَمَا يعْبدُونَ من دون الله} أَي: الْمَلَائِكَة، وَقيل: عِيسَى وعزيزا عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَقَوله: {فَيَقُول} أَي: يَقُول الله: {أأنتم أضللتم عبَادي هَؤُلَاءِ أم هم ضلوا السَّبِيل} أَي: هم أخطأوا الطَّرِيق.

18

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نتَّخذ من دُونك من أَوْلِيَاء} أَي: مَا كَانَ لنا أَن نأمرهم بعبادتنا وَنحن نعبدك، وَيُقَال: من اتخذ عَدو غَيره وليا فقد اتخذ من دونه وليا.

{السَّبِيل (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لنا أَن نتَّخذ من دُونك من أَوْلِيَاء وَلَكِن متعتهم وآباءهم حَتَّى نسوا الذّكر وَكَانُوا قوما بورا (18) فقد كذبوكم بِمَا تَقولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} وَقَوله: {وَلَكِن متعتهم وآباءهم} أَي: بِكَثْرَة الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد، وَيُقَال: بطول الْعُمر، وَيُقَال: بنيل المُرَاد. وَقَوله: {حَتَّى نسوا الذّكر} أَي: نسوا ذكرك وغفلوا عَنْك، وَيُقَال: تركُوا الْحق الَّذِي أنزلت. وَقَوله: {وَكَانُوا قوما بورا} أَي: هلكى، يُقَال: رجل بائر أَي: هَالك، وسلعة بائرة أَي: كاسدة، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ يتَعَوَّذ من بوار [الأيم] قَالَ الشَّاعِر وَهُوَ ابْن الزِّبَعْرَى: (يَا رَسُول المليك إِن لساني ... راتق مَا فتقت إِذْ أَنا بور) أَي: هَالك

19

قَوْله تَعَالَى: {فقد كذبوكم بِمَا تَقولُونَ} هَذَا خطاب مَعَ الْمُشْركين، فَإِنَّهُم كَانُوا يَزْعمُونَ أَن الْمَلَائِكَة وَعِيسَى وعزيزا دعوهم إِلَى عِبَادَتهم. وَقَوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صرفا وَلَا نصرا} أَي: صرف الْعَذَاب عَن أنفسهم، وَقيل: صرفك عَن الْحق. وَقَوله: {وَلَا نصرا} أَي: لَا يستطعيون منع الْعَذَاب عَن أنفسهم. وَقَوله: {وَمن يظلم مِنْكُم نذقه عذَابا كَبِيرا} أَي: عَظِيما.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا قبلك من الْمُرْسلين إِلَّا إِنَّهُم ليأكلون الطَّعَام ويمشون فِي الْأَسْوَاق} . فِي الْآيَة جَوَاب عَن قَوْلهم: مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام ويمشى فِي

{صرفا وَلَا نصرا وَمن يظلم مِنْكُم نذقه عذَابا كَبِيرا (19) وَمَا أرسلنَا قبلك من الْمُرْسلين إِلَّا إِنَّهُم ليأكلون الطَّعَام ويمشون فِي الْأَسْوَاق وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبك} . الْأَسْوَاق؟ وَهَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل} إِن أَنا [إِلَّا] رَسُول مثل سَائِر الرُّسُل، فَإِذا جَازَ أَن يكون سَائِر الرُّسُل آدميين، فَيجوز أَن أكون آدَمِيًّا رَسُولا. وَقَوله: {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة} . فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معنى {فتْنَة} للْفَقِير، فَيَقُول الْفَقِير: مَالِي لم أكن غَنِيا مثله؟ وَالصَّحِيح فتْنَة للْمَرِيض، فَيَقُول: مَالِي لم أكن صَحِيحا؟ وَمثل الشريف فتْنَة للوضيع، فَيَقُول: مَالِي لم أكن شريفا مثله؟ . وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي رُءُوس الْمُشْركين مَعَ فُقَرَاء الْمُؤمنِينَ، وفقراء الْمُؤمنِينَ مثل: عمار، وَابْن مَسْعُود، وبلال، وصهيب، وخباب، وسلمان وَغَيرهم، وَكَانَ الْمُشرك إِذا أَرَادَ أَن يسلم، فكر فِي نَفسه، فَيَقُول: هَذَا دين سبقني إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ الأرذال، فَلَا أكون تبعا لَهُم، فَيمْتَنع من الْإِسْلَام. وَقَوله: {أَتَصْبِرُونَ} أَي: فَاصْبِرُوا. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " فَإِن فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرا كثيرا "، وَهُوَ خبر طَوِيل. وَيُقَال إِن معنى الْآيَة: أَتَصْبِرُونَ أَو لَا تصبرون؟ وَعَن بَعضهم أَنه رأى بعض الْأَغْنِيَاء وَقد مر عَلَيْهِ فِي موكبه، فَوقف وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ} ثمَّ قَالَ: بلَى نصبر رَبنَا، بلَى نصبر رَبنَا، بلَى نصبر رَبنَا، ثَلَاث مَرَّات. وَأورد بَعضهم هَذِه الْحِكَايَة للمزني مَعَ الرّبيع بن سُلَيْمَان الْمرَادِي، وَعَن دَاوُد الطَّائِي أَنه

{بَصيرًا وَقَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا لقد استكبروا فِي أنفسهم وعتوا عتوا كَبِيرا} مر عَلَيْهِ حميد الطوسي فِي موكبه، وَدَاوُد فِي أطمار لَهُ، فَقَالَ لنَفسِهِ: أتطلبين دنيا سَبَقَك بهَا حميد؟ . وروى أَن رجلا مر على الْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ فِي هَيْئَة حَسَنَة، وسيادة عَظِيمَة من الدُّنْيَا، فَسَأَلَ من هَذَا؟ فَقيل: هَذَا صِرَاط الْحجَّاج، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَخذ الدُّنْيَا بِحَقِّهَا. وَقَوله: {وَكَانَ رَبك بَصيرًا} أَي: بَصيرًا بأعمالكم.

21

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا} أَي: لَا يخَافُونَ لقاءنا، قَالَ الْفراء: والرجاء بِمَعْنى الْخَوْف لُغَة تهامية، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مالكم لَا ترجون لله وقارا} أَي: لاتخافون لله عَظمَة. قَالَ الشَّاعِر: (لَا ترتجي حِين تلاقى الذائذا ... أسبعة لاقت مَعًا أم وَاحِدًا) أَي: لَا تخَاف. وَقَوله: {لَوْلَا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا} " مَعْنَاهُ: هلا أنزل علينا الْمَلَائِكَة أَو نرى رَبنَا ". وَقَوله: {لقد استكبروا فِي أنفسهم} أَي: تعظموا فِي أنفسهم، واستكبارهم هُوَ أَنهم امْتَنعُوا عَن الْإِيمَان، وطلبوا آيَة لم تطلبها أمة قبلهم. وَقَوله: {وعتوا عتوا كَبِيرا} . أَي: علو علوا عَظِيما، والعتو هُوَ الْمُجَاوزَة فِي الظُّلم إِلَى أبلغ حَده، وعتوهم هَاهُنَا طَلَبهمْ رُؤْيَة الله حَتَّى يُؤمنُوا.

22

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة} وَيَوْم رُؤْيَة الْمَلَائِكَة هُوَ يَوْم الْقِيَامَة. {يَوْم يرَوْنَ الْمَلَائِكَة لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين وَيَقُولُونَ حجرا مَحْجُورا (22) وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (23) أَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا وَأحسن مقيلا}

وَقَوله: {لَا بشرى يَوْمئِذٍ للمجرمين} إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن الْمَلَائِكَة يبشرون الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة، فيطلب ظنا مِنْهُم أَنهم كَانُوا على الْحق، فَيَقُولُونَ: لَا بشرى لكم هَكَذَا قَالَ عَطِيَّة، وَقَالَ بَعضهم: معنى الْآيَة: أَنه لَا بشرى للمجرمين حِين تُوجد الْبُشْرَى للْمُؤْمِنين. وَقَوله: {وَيَقُولُونَ حجرا مَحْجُورا} أَي: حَرَامًا محرما، قَالَ ابْن عَبَّاس: حرَام محرم الْجنَّة على من لم يقل لَا إِلَه إِلَّا الله، قَالَ الشَّاعِر: (حنت إِلَى النَّخْلَة القصوى فَقلت لَهَا ... حجر حرَام أَلا إِلَى تِلْكَ الدهاريس) وَيُقَال معنى الْآيَة: يحرم دُخُول الْجنَّة على الْكَافِر حِين يُطلق دُخُولهَا للْمُؤْمِنين.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل} . أَي: عمدنا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل. وَقَوله: {فجعلناه هباء منثورا} قَالَ على - رضى الله عَنهُ -: الهباء المنثور هُوَ مَا يرى فِي الكوة إِذا وَقع شُعَاع الشَّمْس فِيهَا. وَقَالَ غَيره: الهباء المنثور هُوَ مَا يسطع من سنابك الْخَيل عِنْد شدَّة السّير. وَعَن يعلى بن عبيد قَالَ: هُوَ الرماد، وَفرق بَعضهم بَين الهباء المنثور وَبَين الهباء المنبث، فَقَالَ: الهباء المنثور مَا يرى فِي الكوة، والهباء المنبث مَا يطيره الرِّيَاح من سنابك الْخَيل.

24

قَوْله تَعَالَى: {أَصْحَاب الْجنَّة يَوْمئِذٍ خير مُسْتَقرًّا وَأحسن مقيلا} فَإِن قيل: كَيفَ يكون فِي الْجنَّة مقيل، وَفِي النَّار مقيل وليسا بِموضع النّوم؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ الْأَزْهَرِي: المقيل مَوضِع الاسْتِرَاحَة نَام أَو لم ينم، وَفِي الْمَأْثُور عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لَا ينتصف يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يقيل أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة، وَأهل النَّار فِي النَّار. فَذكر القيلولة لِأَن نصف النَّهَار وَقت القيلولة، وَمَعْنَاهُ: النُّزُول هَاهُنَا، وَهُوَ أَنه ينزل كلا الْفَرِيقَيْنِ فِي مَنَازِلهمْ، وَقد روى أَن الله تَعَالَى يقصر الْيَوْم على الْمُؤمنِينَ حَتَّى يردهُ كَأَنَّهُ من صَلَاة إِلَى صَلَاة.

{وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام وَنزل الْمَلَائِكَة تَنْزِيلا (25) الْملك يَوْمئِذٍ الْحق للرحمن وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا (26) }

25

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} قَالَ قَتَادَة: على الْغَمَام، يُقَال: جَاءَ فلَان بدابته أَي: على دَابَّته. وَالْأَكْثَرُونَ على أَن السَّمَاء تَنْشَق على غمام أَبيض ينزل فِيهِ الْمَلَائِكَة، وروى أَن السَّمَاء الدُّنْيَا تَنْشَق، فَينزل من الْخلق عَنْهَا أَكثر من عدد الْجِنّ وَالْإِنْس، ثمَّ تَنْشَق السَّمَاء الثَّانِيَة، فَينزل من الْخلق عَنْهَا أَكثر من خلق سَمَاء الدُّنْيَا وَمن الْجِنّ وَالْإِنْس، وَهَكَذَا فِي السَّمَاء الثَّالِثَة، وَالرَّابِعَة إِلَى السَّابِعَة، ثمَّ ينزل الكروبيون، ثمَّ ينزل حَملَة الْعَرْش، وَقد بَينا من قبل قَوْله: {فَهَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} . وَقَوله: {وَنزل الْمَلَائِكَة تَنْزِيلا} أَي: وَأنزل الْمَلَائِكَة تَنْزِيلا.

26

قَوْله تَعَالَى: {الْملك يَوْمئِذٍ الْحق للرحمن} مَعْنَاهُ: الْملك الْحق يَوْمئِذٍ للرحمن. {وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا} أى: شَدِيدا، وَمن شدته أَن الله يطول عَلَيْهِم ذَلِك الْيَوْم كَمَا يقصره على الْمُؤمنِينَ على مَا بَينا. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن جَهَنَّم تَفُور يَوْم الْقِيَامَة، فيتبدد النَّاس ويتفرقون، فَكلما وصلوا إِلَى قطر من الأقطار، وجدوا سَبْعَة من صُفُوف الْمَلَائِكَة أدخلُوا أجنحتهم بَعضهم فِي بعض، ثمَّ قَرَأَ: {وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا} .

27

وَقَوله: {وَيَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ} . الظَّالِم هَاهُنَا هُوَ عقبَة بن أبي معيطكان قد هم بِإِجْمَاع أهل التَّفْسِير، وَسبب نزُول الْآيَة: {أَن عقبَة بن أَبى معيط كَانَ قد هم بِالْإِسْلَامِ، وروى أَنه اتخذ دَعْوَة ودعا النَّبِي، فَقَالَ: لَا آكل حَتَّى تشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَشهد عقبَة، وَكَانَ عقبَة صديقا لأمية بن خلف، فَقَالَ لَهُ

{وَيَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ يَقُول يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سيبلا (27) يَا ويلتى لَيْتَني لم أَتَّخِذ فلَانا خَلِيلًا (28) لقد أضلني عَن الذّكر بعد إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَان للْإنْسَان خذولاً أُميَّة: أَصَبَوْت يَا عقبَة؟ وَجْهي من وَجهك حرَام إِن لم ترجع، فَقَالَ: إِنَّمَا قلت مَا قلت ليَأْكُل من طَعَامي، وَأَنا على ديني الأول. وروى أَنه قَالَ: لَا أُكَلِّمك أبدا حَتَّى تَجِيء فتتفل فِي وَجه مُحَمَّد، فجَاء فَفعل، وروى أَن التفلة رجعت إِلَى وَجهه - لعنة - الله ? (وَفِي رِوَايَة قَالَ: " لَو كنت خَارج الْحرم لضَرَبْت عُنُقك " فَضَحِك الْكَافِر، وَأسر يَوْم بدر} أورد النقاش ذَلِك، فَفِيهِ نزلت هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ} أَي: يَأْكُل يَدَيْهِ ندما، وَفِي بعض التفاسير: أَنه يَأْكُل يَدَيْهِ حَتَّى يبلغ مرفقيه، ثمَّ تنْبت ثمَّ يَأْكُل، ثمَّ تنْبت هَكَذَا. فَقَوله: {يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سَبِيلا} أَي: أخذت طَرِيقه.

28

وَقَوله: {يَا ويلتي لَيْتَني لم أَتَّخِذ فلَانا خَلِيلًا} . أَي: أُميَّة بن خلف، وَقيل: الشَّيْطَان، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.

29

قَول تَعَالَى: {لقد أضلني عَن الذّكر بعد إِذْ جَاءَنِي} أَي: عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَنِي، وَقيل: عَن الْقُرْآن. وَقَوله: {وَكَانَ الشَّيْطَان للْإنْسَان خذولا} أَي: تَارِكًا، وَمن الْمَعْرُوف فِي الْمَغَازِي أَن عقبَة بن أبي معيط أسر يَوْم بدر، فَقتله النَّبِي صبرا، فَقَالَ: أأقتل من بَين هَؤُلَاءِ يَا مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: من للصبية؟ قَالَ: النَّار ". وَاخْتلفُوا فِي قَاتله، فَقَالَ بَعضهم: تولى قَتله عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالَ بَعضهم: عَاصِم بن أبي الْأَفْلَح حمى الدبر، وَلم يقتل من الأسراء يَوْم بدر غير عقبَة وَالنضْر بن الْحَارِث.

( {29) وَقَالَ الرَّسُول يَا رب إِن قومِي اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا من الْمُجْرمين وَكفى بِرَبِّك هاديا ونصيرا (31) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ

30

قَول تَعَالَى: {وَقَالَ الرَّسُول يَا رب إِن قومِي اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا} أَي: متروكا، وَيُقَال: جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَة الهجر أَي: الهذيان.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جعلنَا} هَذِه الْآيَة أنزلت تَعْزِيَة للنَّبِي وَتَسْمِيَة لَهُ. وَقَوله: {لكل نَبِي عدوا من الْمُجْرمين} أَي: أَعدَاء من الْمُجْرمين، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَنه أَبُو جهل خَاصَّة، وَهُوَ أَبُو الحكم عَمْرو بن هِشَام بن الْمُغيرَة عَلَيْهِ لعنة الله. وَقَوله: {وَكفى بِرَبِّك هاديا ونصيرا} ظَاهر الْمَعْنى.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة} أَي: كَمَا أنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل على مُوسَى وَعِيسَى. وَقَوله: {كَذَلِك لنثبت بِهِ فُؤَادك} أَي: أَنزَلْنَاهُ مفرقا كَالَّذي أنزلنَا لنثبت بِهِ فُؤَادك أَي: لنقوي بِهِ فُؤَادك، وَقيل: لتزداد بَصِيرَة فِي فُؤَادك، كَأَنَّهُ كلما نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي ازْدَادَ هُوَ بَصِيرَة وَقُوَّة، وَقد أنزل الله تَعَالَى الْقُرْآن فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة، فحين أكمل الله تَعَالَى مَا أَرَادَ إنزاله عَلَيْهِ من الْوَحْي أَدْرَكته الْوَفَاة. وَقَوله: {ورتلناه ترتيلا} . أَي: فصلناه تَفْصِيلًا، وَقيل: بَيناهُ تبيينا. والقرآءة على الترتيل سنة، وَيكرهُ أَن يقْرَأ كحدو الشّعْر ونثر الدقل.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يأتونك بِمثل} أَي: بِمَعْنى يدْفَعُونَ مَا أَنْت عَلَيْهِ بعثناك بِهِ، إِلَّا جئْنَاك بِالْحَقِّ أَي: جئْنَاك بِمَا يَدْفَعهُ ويبطله، فَسمى مَا يوردون من الشّبَه مثلا، وَسمي مَا يدْفع الشّبَه حَقًا أعطَاهُ إِيَّاه. وَقَوله: {وَأحسن تَفْسِيرا} التَّفْسِير تفعيل من الفسر، والفسر: كشف مَا قد غطى.

{الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة كَذَلِك لنثبت بِهِ فُؤَادك ورتلناه ترتيلا (32) وَلَا يأتونك بِمثل إِلَّا جئْنَاك بِالْحَقِّ وَأحسن تَفْسِيرا (33) الَّذين يحشرون على وُجُوههم إِلَى جَهَنَّم أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا

34

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يحشرون على وُجُوههم إِلَى جَهَنَّم} فِي الْأَخْبَار: أَن النَّاس يحشرون ثَلَاثَة أَصْنَاف: صنف ركبانا، وصنف مشَاة، وصنف على وُجُوههم ". وَقد ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي بِرِوَايَة شَيبَان، عَن قَتَادَة، عَن أنس أَن رَسُول الله قيل لَهُ: كَيفَ يحْشر النَّاس على وُجُوههم؟ فَقَالَ: " إِن الَّذِي أَمْشَاهُم على أَرجُلهم قَادِرًا على أَن يُمشيهمْ على وُجُوههم ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا جدي، أخبرنَا الفربرى، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد المسندي، عَن يُونُس بن مُحَمَّد، عَن شَيبَان ... الْخَبَر. وَقَوله: {أُولَئِكَ شَرّ مَكَانا} أَي: شَرّ مكانة ومنزلة. وَقَوله: {وأضل سَبِيلا} أَي: أَخطَأ طَرِيقا.

35

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وَجَعَلنَا مَعَه أَخَاهُ هَارُون وزيرا} أَي: ناصرا ومعينا.

36

قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} وَهُوَ القبط. وَقَوله: {فدمرناهم تدميرا} أَي: أهلكناهم إهلاكا.

{وأضل سَبِيلا (34) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وَجَعَلنَا مَعَه أَخَاهُ هَارُون وزيرا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فدمرناهم تدميرا (36) وَقوم نوح لما كذبُوا الرُّسُل أغرقناهم وجعلناهم للنَّاس آيَة وأعتدنا للظالمين عذَابا أَلِيمًا (37) وعادا وَثَمُود وَأَصْحَاب الرس وقرونا

37

قَوْله تَعَالَى: {وَقوم نوح لما كذبُوا الرُّسُل} أَي: الرَّسُول، جمع بِمَعْنى الْوَاحِد، وَيُقَال: من كذب رَسُولا وَاحِدًا فقد كذب جَمِيع الرُّسُل؛ فَلهَذَا قَالَ: {كذبُوا الرُّسُل} . وَقَوله: {أغرقناهم وجعلناهم للنَّاس آيَة} . نزل المَاء من السَّمَاء أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ونبع من الأَرْض أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتَّى صَارَت الدُّنْيَا كلهَا بحرا. وَقَوله: (وأعتدنا للظالمين عذَابا أَلِيمًا) أَي: مؤلما.

38

قَوْله تَعَالَى: {وعاداً وَثَمُود} أى: وأهلكنا عاداً وَثَمُود. وَقَوله: {وَأَصْحَاب الرس} . الْأَكْثَرُونَ على أَن الرس بِئْر، فروى أَنه لما جَاءَهُم نَبِيّهم جَعَلُوهُ فِي الْبِئْر، وألقوا عَلَيْهِ مَا أهلكه. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: بعث الله إِلَيْهِم نَبيا فطبخوه وأكلوه. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: أَن أَصْحَاب الرس هم قوم حبيب النجار، ألقوه فِي الْبِئْر حَتَّى هلك، وَهُوَ بأنطاكية. وَقَوله: {وقرونا بَين ذَلِك كثيرا} قد بَينا معنى الْقُرُون من قبل، وروى عَن الرّبيع ابْن خثيم أَنه مرض، فَقيل لَهُ: أَلا ندعوا لَك طَبِيبا؟ فَقَالَ: أنظروني، ثمَّ تفكر فِي نَفسه، ثمَّ قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: {وعادا وَثَمُود وَأَصْحَاب الرس وقرونا بَين ذَلِك كثيرا} قد كَانَ فيهم مرضى وأطباء، فَمَا بقى المداوي وَلَا المداوي، وَلَا الْمَرِيض وَلَا الطَّبِيب، وَلَا أُرِيد أَن تدعوا لي طَبِيبا.

39

قَوْله تَعَالَى: {وكلا ضربنا لَهُ الْأَمْثَال} أَي: الْأَشْبَاه. {وكلا تبرنا تتبيرا} أَي: دمرنا تدميرا، وَقيل: أهلكنا إهلاكا.

40

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أَتَوا على الْقرْيَة الَّتِي أمْطرت مطر السوء} يُقَال: هَؤُلَاءِ قريات

{بَين ذَلِك كثيرا (38) وكلا ضربنا لَهُ الْأَمْثَال وكلا تبرنا تتبيرا (39) وَلَقَد أَتَوا على الْقرْيَة الَّتِي أمْطرت مطر السوء أفلم يَكُونُوا يرونها بل كَانُوا لَا يرجون نشورا (40) وَإِذا رأوك إِن يتخذونك إِلَّا هزوا أَهَذا الَّذِي بعث الله رَسُولا (41) إِن كَاد ليضلنا عَن آلِهَتنَا لَوْلَا أَن صَبرنَا عَلَيْهَا وسوف يعلمُونَ حِين يرَوْنَ الْعَذَاب من أضلّ سَبِيلا (42) أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا (43) } لوط، وَيُقَال: كَانَ الْحجر ينزل على قدر قامة الْإِنْسَان فَيَقَع عَلَيْهِ، فيدمغه ويهلكه. وَقَوله: {أفلم يَكُونُوا يرونها} ذكر هَذَا لِأَن مَدَائِن لوط كَانَت على طريقهم عِنْد ممرهم إِلَى الشَّام ورجوعهم مِنْهَا. وَقَوله: {بل كَانُوا لَا يرجون نشورا} أَي: لَا يخَافُونَ نشورا، وَيُقَال: يرجون على حَقِيقَته أَي: لَا يرجون الْمصير إِلَى الله تَعَالَى.

41

{وَإِذا رأوك إِن يتخذونك} أَي: مَا يتخذونك) {إِلَّا هزوا} . وَقَوله: {أَهَذا الَّذِي بعث الله رَسُولا} قَالُوا هَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء.

42

قَوْله: {إِن كَاد ليضلنا عَن آلِهَتنَا} أَي: قد قَارب أَن يضلنا عَن آلِهَتنَا. قَالَ الشَّاعِر: (هَمَمْت وَلم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عُثْمَان تبْكي حلائله) وَقَوله: {لَوْلَا أَن صَبرنَا عَلَيْهَا} أَي: لَو لم نصبر عَلَيْهَا لأضلنا عَنْهَا. وَقَوله: {فَسَوف يعلمُونَ حِين يرَوْنَ الْعَذَاب من أضلّ سَبِيلا} أَي: أَخطَأ سَبِيلا.

43

قَالَه تَعَالَى: {أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ من اتخاذهم أهواءهم آلِهَتهم أَن الْوَاحِد مِنْهُم كَانَ يعبد الْحجر، فَإِذا رأى حجرا أحسن مِنْهُ طرح الأول، وَأخذ الثَّانِي وَعَبده. وَقَوله: {أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا} . أَي: حَافِظًا، وَقيل: كَفِيلا. وَفِي بعض الْآثَار: مَا من معبود فِي السَّمَاء وَالْأَرْض أعظم من الْهوى، وَعَن بَعضهم قَالَ: هُوَ الطاغوت الْأَكْبَر.

{أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا (44) ألم تَرَ إِلَى رَبك كَيفَ مد الظل وَلَو شَاءَ لجعله سَاكِنا ثمَّ جعلنَا الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلا (45) }

44

قَوْله تَعَالَى: {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ} . أَي: أتحسب. وَقَوله: {إِن هم إِلَّا كالأنعام} . أَي: مَا هم إِلَّا كالأنعام، جعلهم كالأنعام؛ لأَنهم لم يدركوا طَرِيق الْحق، وَلم ينتفعوا بِمَا ميزهم الله بِهِ عَن الْبَهَائِم من عُقُولهمْ وأسماعهم وأبصارهم. وَقَوله: {بل هم أضلّ سَبِيلا} أَي: أَخطَأ طَرِيقا، وَجعل الْكفَّار أضلّ من الْأَنْعَام؛ لِأَن الْأَنْعَام تسْجد وتسبح لله تَعَالَى، وَالْكفَّار لَا يَسْجُدُونَ وَلَا يسبحون؛ وَلِأَن الْبَهَائِم لم يعرفوا، وَلم يَكُونُوا أعْطوا آله الْمعرفَة. وَأما الْكفَّار لم يعرفوا وَقد أعْطوا آله الْمعرفَة، فهم أضلّ؛ وَلِأَن الْبَهَائِم لم تفْسد مَا لَهَا من المعارف؛ فَإِن الله تَعَالَى أَعْطَاهَا قدرا من المعارف وهم يستعملونها، وَأما الْكفَّار فقد أفسدوا مَا لَهُم من المعارف، فهم أضلّ وَأَقل من الْبَهَائِم.

45

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى رَبك} مِنْهُم من قَالَ: هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: ألم تَرَ إِلَى الظل كَيفَ مده رَبك؟ وَقيل: هُوَ على ظَاهره، وَمعنى الرُّؤْيَة هُوَ الْعلم، قَالَ الشَّاعِر: (أريني جوادا مَاتَ هزلا لعلني ... أرى مَا تَرين أَو بَخِيلًا مخلدا) وَاخْتلفُوا فِي هَذَا الظل، فالأكثرون على أَنه الظل من وَقت طُلُوع الصُّبْح إِلَى وَقت طُلُوع الشَّمْس، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه من وَقت غرُوب الشَّمْس إِلَى وَقت طُلُوعهَا. والظل هُوَ ظلّ الأَرْض يقبل عِنْد غرُوب الشَّمْس، وَيُدبر عِنْد طُلُوعهَا. وَقَوله: {وَلَو شَاءَ لجعله سَاكِنا} أَي: دَائِما. وَقَوله: {ثمَّ جَعَلْنَاهُ الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلا} أَي: ثمَّ جعلنَا الشَّمْس دَلِيلا على الظل، فَإِن الظل يعرف بالشمس، والنور يعرف بالظلمة، وَاللَّيْل بِالنَّهَارِ، وَكَذَلِكَ كل الْأَشْيَاء تعرف بأضدادها.

{ثمَّ قبضناه إِلَيْنَا قبضا يَسِيرا (46) وَهُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لباسا وَالنَّوْم سباتا وَجعل النَّهَار نشورا (47) وَهُوَ الَّذِي أرسل الرِّيَاح بشرا} وَقيل: جعلنَا الشَّمْس عَلَيْهِ دَلِيلا أَي: تتلوه وتتبعه فتنسخه.

46

وَقَوله: {ثمَّ قبضناه إِلَيْنَا قبضا يَسِيرا} الْقَبْض: جمع المنبسط من الشَّيْء، وَمَعْنَاهُ: أَن الظل يعم الأَرْض مثل طُلُوع الشَّمْس، فَإِذا طلعت الشَّمْس قبض الظل بالشمس جُزْءا فجزءا، فَيُقَال: وَقت قبض الظل عِنْد الاسْتوَاء، حَتَّى لَا يبْقى ظلّ فِي الْعَالم إِلَّا على مَوضِع لَا تكون الشَّمْس مستوية عَلَيْهِ. وَقَوله: {يَسِيرا} أَي: هينا. وَقَالَ مُجَاهِد: خفِيا، وَهُوَ أصح الْقَوْلَيْنِ. .

47

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لباسا} أَي: يلْبِسكُمْ بظلمة اللَّيْل عِنْد غشيانه، فَكَأَن اللَّيْل لِبَاس النَّاس، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ} وَمَوْضِع السكن كاللباس للْإنْسَان. وَقَوله: {وَالنَّوْم سباتا} أَي: رَاحَة، والسبت: الْقطع، والنائم مسبوت؛ لِأَنَّهُ انْقَطع عمله مَعَ بَقَاء الرّوح فِيهِ. وَقَوله: {وَجعل النَّهَار نشورا} أَي: زَمَانا ينشرون فِيهِ.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أرسل الرِّيَاح بشرا} وَقُرِئَ: " نشرا " بِضَم النُّون والشين، وَقُرِئَ بِالْبَاء المضمومة، فَقَوله: " نشرا " بِنصب النُّون أَي: لإنشار النَّبَات، وإنشار النَّبَات إحياؤه، وَأما " نشرا " بِضَم النُّون جمع " نشر " كالرسل جمع رَسُول، وَأما {بشرا} بِالْبَاء من الْبشَارَة، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِي الرِّيَاح.

{بَين يَدي رَحمته وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا (48) لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا ونسقيه مِمَّا خلقنَا أنعاما وأناسي كثيرا (49) } وروى عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول إِذا هبت الرّيح: " اللَّهُمَّ أجعلها رياحا، وَلَا تجعلها ريحًا ". قَالُوا: وَإِنَّمَا ذكر هَكَذَا؛ لِأَن الْبشَارَة فِي ثَلَاث من الرِّيَاح: الصِّبَا، وَالشمَال، والجنوب، وَأما الدبور فَلَيْسَ فِيهَا بِشَارَة؛ لِأَنَّهَا الرّيح الْعَقِيم. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: إِن الرّيح لَهُ جَنَاحَانِ وذنب. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الرّيح وَالْمَاء جند الله الْأَعْظَم. وَقَوله: {بَين يَدي رَحمته} أَي: الْمَطَر. وَقَوله: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء طهُورا} قَالَ ثَعْلَب: الطّهُور هُوَ الطَّاهِر فِي نَفسه المطهر لغيره، فالماء طهُور؛ لِأَنَّهُ يطهر النَّاس من الْأَحْدَاث، ويطهر الأَرْض من الجدوبة والقحط.

49

وَقَوله تَعَالَى: {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا} أَي: بَلَدا مَيتا، وإحياؤه بإنبات النَّبَات، وَإِخْرَاج الْأَشْجَار وَالثِّمَار. {ونسقيه مِمَّا خلقنَا أنعاما وأناسي كثيرا} أَي: نسقى بِالْمَاءِ أنعاما وأناسي كثيرا. والأناسي جمع إنسي وَقيل: جمع إِنْسَان، وَكَانَ أَصله أناسين، مثل بُسْتَان وبساتين، ثمَّ حذفت النُّون، وشددت الْيَاء. وَمعنى الْآيَة: أَنا نسقى بِالْمَاءِ الْحَيَوَان وَغير الْحَيَوَان، ننمي بِهِ كل مَا يقبل النَّمَاء.

{وَلَقَد صرفناه بَينهم لِيذكرُوا فَأبى أَكثر النَّاس إِلَّا كفوراً (50) }

50

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صرفناه بَينهم} اكثر أهل التَّفْسِير على أَنَّهَا الْهَاء رَاجِعَة إِلَى الْمَطَر، وَمعنى التصريف أَنه يسقى أَرضًا وَيمْنَع أَرضًا. قَالَ ابْن عَبَّاس: " مَا عَام بِأَمْطَر من عَام، وَلَكِن الله يقسمهُ بَين عباده على مَا يَشَاء. وَمثله عَن ابْن مَسْعُود. وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من سَاعَة تمْضِي إِلَّا والسحاب يمطر فِيهَا، إِلَّا أَن الله تَعَالَى يصرفهُ عَن قوم، وَيُعْطِيه قوما " وَالْخَبَر غَرِيب. وَقَوله: {لِيذكرُوا} أَي: ليتذكروا، وَيُقَال: إِن الْهَاء فِي قَوْله: {صرفناه} تَنْصَرِف إِلَى الْفرْقَان الْمَذْكُور فِي أول السُّورَة، وَهُوَ قَول بعيد. وَقَوله: {فَأبى اكثر النَّاس إِلَّا كفورا} أَي: كفرانا، وكفرانهم هُوَ أَنهم إِذا أمطروا، يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْوَاقِعَة: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} . وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ يَوْمًا، وَقد مُطِرُوا فِي ليلته: " يَقُول الله تَعَالَى: أصبح النَّاس فريقين، مُؤمن بِي وَكَافِر بالكوكب، وَمُؤمن بالكوكب وَكَافِر بِي، فَمن قَالَ: مُطِرْنَا برحمة الله تَعَالَى وفضله، فَهُوَ مُؤمن بِي كَافِر بالكوكب، وَمن قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا، فَهُوَ كَافِر بِي مُؤمن بالكوكب ".

{وَلَو شِئْنَا لبعثنا فِي كل قَرْيَة نذيرا (51) فَلَا تُطِع الْكَافرين وجاهدهم بِهِ جهادا كَبِيرا (52) وَهُوَ الَّذِي مرج الْبَحْرين هَذَا عذب فرات وَهَذَا ملح أجاج وَجعل بَينهمَا بزرخا وحجرا مَحْجُورا (53) وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا فَجعله نسبا وصهرا وَكَانَ رَبك

51

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لبعثنا فِي كل قَرْيَة نذيرا} ظَاهر الْمَعْنى.

52

وَقَوله: {فَلَا تُطِع الْكَافرين} أَي: فِيمَا يدعونك إِلَيْهِ. وَقَوله: {وجاهدهم بِهِ جهادا كَبِيرا} أَي: بِالْحَقِّ، وَقيل: بِالْقُرْآنِ. وَقَوله: {كَبِيرا} مَعْنَاهُ: شَدِيدا.

53

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مرج الْبَحْرين} أَي: خلط الْبَحْرين، وَقيل: أرسل الْبَحْرين. وَأما البحران فَيُقَال: إِنَّه بَحر فَارس وَالروم، وَيُقَال: بَحر السَّمَاء وَالْأَرْض، وَيُقَال: البحران هُوَ الْملح والعذب. وَقَوله: {هَذَا عَذَاب فرات} العذب يُسمى كل مَاء عذب فراتا، وَيُسمى كل مَاء ملح بحرا. وَقَوله: {وَهَذَا ملح أجاج} أَي: شَدِيد الملوحة، وَقيل: مر. وَقَوله: {وَجعل بَينهمَا برزخا} يُقَال: باليبس بَين الْبَحْرين، وَقيل: بالهواء بَين بَحر السَّمَاء وبحر الأَرْض، وَقيل: بِالْقُدْرَةِ بَين الْملح والعذب، فَلَا يخْتَلط الْملح بالعذب، وَلَا العذب بالملح، وَهَذَا فِي مَوضِع مَخْصُوص بخليج مصر، والبرزخ هُوَ الحاجز. وَقَوله: {وحجرا مَحْجُورا} أَي: مَانِعا مَمْنُوعًا، قَالَ الشَّاعِر: (فَرب ذِي سرادق مَحْجُور ... سرت إِلَيْهِ من أعالي السُّور)

54

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا فَجعله نسبا وصهرا} . النّسَب نِسْبَة من قرَابَة، والصهر خلْطَة من غير النّسَب، وَقد ذكرنَا أَن الله تَعَالَى حرم سبعا بِالنّسَبِ، وَسبعا بِالسَّبَبِ، وعددناها فِي سُورَة النِّسَاء، وَيُقَال: النّسَب مَا يُوجب الْحُرْمَة، والصهر مَالا يُوجب الْحُرْمَة.

{قَدِيرًا (54) ويعبدون من دون الله مَا لَا يَنْفَعهُمْ وَلَا يضرهم وَكَانَ الْكَافِر على ربه ظهيرا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا مبشرا وَنَذِيرا (56) قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من اجْرِ إِلَّا من شَاءَ أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا (57) وتوكل على الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت وَسبح بِحَمْدِهِ وَكفى بِهِ بذنوب عباده خَبِيرا (58) الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة وَقَوله: {وَكَانَ رَبك قَدِيرًا} أَي: قَادِرًا.

55

قَوْله تَعَالَى: {ويعبدون من دون الله مَا لَا ينفهم وَلَا يضرهم} قد ذكرنَا. وَقَوله: {وَكَانَ الْكَافِر على ربه ظهيرا} أَي: عونا للشَّيْطَان على الْمعاصِي، وَيُقَال: ظهيرا أَي: هينا كَمَا يَقُول الرجل: جَعَلتني بِظهْر أَي: جَعَلتني هينا. قَالَ الشَّاعِر: (تَمِيم بن [زيد] لَا تكونن حَاجَتي ... بِظهْر فَلَا يعيا على جوابها)

56

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا مبشرا وَنَذِيرا} أَي: مبشرا ومنذرا.

57

وَقَوله: (قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر) أَي: من جعل. وَقَوله: {إِلَّا من شَاءَ أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا} مَعْنَاهُ: لَكِن من شَاءَ أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا سلك طَرِيق الْإِيمَان، وَأخذ بِهِ.

58

قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت} الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت هُوَ الله تَعَالَى. وَقَوله: {وَسبح بِحَمْدِهِ} أَي: صل بأَمْره. وَقَوله: {وَكفى بِهِ بذنوب عباده خَبِيرا} أَي: كفى بِاللَّه بذنوب عباده عَالما، وَهَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد.

59

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام} قد بَينا. وَقَوله {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش الرَّحْمَن} قد بَينا. وَقَوله: {فاسأل بِهِ خَبِيرا} يُقَال مَعْنَاهُ: فاسأل عَنهُ خَبِيرا أَي: عَالما، وَهُوَ الله تَعَالَى. قَالَ الشَّاعِر:

{أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش الرَّحْمَن فاسئل بِهِ خَبِيرا (59) وَإِذا قيل لَهُم اسجدوا للرحمن قَالُوا وَمَا الرَّحْمَن أنسجد لما تَأْمُرنَا وَزَادَهُمْ نفورا (60) تبَارك الَّذِي جعل فِي (هلا سَأَلت الْخَيل يَا ابْنة مَالك ... إِن كنت سَائِلَة بِمَا لم تعلمي} أَي: عَمَّا لم يعلم. وَيُقَال: فاسأل سؤالك إِيَّاه للخبير يَعْنِي: سلني وَلَا تسْأَل غَيْرِي، وَيُقَال: إِن الْخطاب للرسول، وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة، فَإِنَّهُ كَانَ عَالما بِهَذَا، ومصدقا بِهِ. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنَّك أَيهَا الْإِنْسَان لَا ترجع فِي طلب الْعلم بِهَذَا إِلَى غَيْرِي، قَالَه الزّجاج.

60

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم اسجدوا للرحمن قَالُوا وَمَا للرحمن} . قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا قَالُوا هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ اسْم الرَّحْمَن فِي كَلَامهم، فسألوا عَن " الرَّحْمَن " لهَذَا. وروى أَن رَسُول الله لما دعاهم إِلَى " الرَّحْمَن "، وَيُقَال: إِن أَبَا جهل قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد، من يعلمك الْقُرْآن؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن} قَالَ أَبُو جهل وَغَيره: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا مُسَيْلمَة بِالْيَمَامَةِ، وَكَانَ يُسمى: رحمان الْيَمَامَة. وَقَوله: {أنسجد لما تَأْمُرنَا} يَعْنِي: الرَّحْمَن الَّذِي تَأْمُرنَا بِالسُّجُود لَهُ. وَقَوله: {وَزَادَهُمْ نفورا} أَي: تباعدا.

61

قَوْله: {تبَارك الَّذِي جعل فِي السَّمَاء بروجا} هِيَ النُّجُوم الْعِظَام، وَقيل: هِيَ البروج الاثنا عشر. وَقَوله: {وَجعل فِيهَا سِرَاجًا} أَي: الشَّمْس، وَقُرِئَ: " سرجا " على الْجمع، وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة قد دخل الْقَمَر فِي السرج، إِلَّا أَنه خصّه بِالذكر لنَوْع فَضِيلَة لَهُ، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا فَاكِهَة ونخل ورمان} .

{وَالسَّمَاء بروجا وَجعل فِيهَا سِرَاجًا وقمرا منيرا (61) وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة لمن أَرَادَ أَن يذكر أَو أَرَادَ شكُورًا (62) وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا وَقَوله: {منيرا} أَي: مضيئا.

62

قَوْله: {وَهُوَ الَّذِي جعل اللَّيْل وَالنَّهَار خلفة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مُخْتَلفين، هَذَا أسود وَهَذَا أَبيض. وَالثَّانِي: خَلفه أَي: يخلف أَحدهمَا صَاحبه. وَيُقَال: مَا فَاتَ من الذّكر بِاللَّيْلِ، فالنهار يخلفه فِيهِ، وَمَا فَاتَ من الذّكر بِالنَّهَارِ، فالليل يخلفه فِيهِ. قَالَ قَتَادَة: وَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاة، وَالْقَوْل الثَّالِث: خَلفه أَي: يزْدَاد فِي هَذَا مَا ينقص من الآخر، ويزداد فِي الآخر مَا ينقص من هَذَا، وَأنْشد الشَّاعِر فِي الخلفة: (بهَا الْعين والآرام يَمْشين خلفة ... واطلاؤها ينهضن من كل مجثم) فعلى هَذَا خلفة أَي: كل وَاحِد مِنْهُمَا خلف صَاحبه. وَقَوله: {لمن أَرَادَ أَن يذكر} أَي: يتَذَكَّر. {أَو أَرَادَ شكُورًا} أَي: شكرا. وَمَعْنَاهُ: من أَرَادَ ذكرا أَو شكرا، فالليل وَالنَّهَار زَمَانا الذّكر وَالشُّكْر.

63

وَقَوله تَعَالَى: {وَعباد الرَّحْمَن} . فَإِن قَالَ قَائِل: كل النَّاس عباد الرَّحْمَن، مؤمنهم وكافرهم؟ قُلْنَا: إِن هَذَا كَمَا يَقُول الْقَائِل: ابْني فلَان، ويخص بذلك الْوَاحِد من بَينه، وَكَذَلِكَ يَقُول: صديقي فلَان، ويخص بذلك الْوَاحِد من أصدقائه، وَمَعْنَاهُ: أَن من يكون ابْني يَنْبَغِي أَن يكون كفلان، وَمن يكون صديقي يَنْبَغِي أَن يكون كفلان. وَقَوله: {الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا} . أَي: بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار. قَالَ الْحسن: عُلَمَاء حكماء، لَا يجهلون إِذا جهل عَلَيْهِم. وَقَالَ ثَعْلَب: هونا رفقا. وَعَن بَعضهم: متواضعين لَا يتكبرون. وَقَوله: {وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما} قَالَ الضَّحَّاك: إِذا أوذوا صفحوا، وَقَالَ بَعضهم: قَالُوا قولا يسلمُونَ مِنْهُ، وَعَن بَعضهم: قَالُوا سَلاما أَي: متاركة لَا خير

{وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما (63) وَالَّذين يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياما (64) وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا اصرف عَنَّا عَذَاب جَهَنَّم إِن عَذَابهَا كَانَ غراما (65) وَلَا شَرّ، وَلَيْسَ المُرَاد من السَّلَام هُوَ السَّلَام الْمَعْرُوف، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا بَينا. وَالْآيَة مَكِّيَّة، وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد أمروا قبل الْهِجْرَة بالصفح والإعراض، وَألا يقابلوا أَذَى الْمُشْركين بالمجازاة، ثمَّ نسخ حِين هَاجرُوا بِآيَة السَّيْف.

64

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يبيتُونَ لرَبهم} يُقَال: بَات فلَان سَوَاء نَام أَو لم ينم. قَالَ الشَّاعِر: (فبتنا قيَاما عِنْد رَأس جوادنا ... يزاولنا عَن نَفسه ونزاوله) قَوْله: {سجدا وقياما} . أَي: سجدا على وُجُوههم، وقياما على أَرجُلهم. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: من صلى بعد الْعشَاء الْآخِرَة رَكْعَتَيْنِ أَو أَكثر من ذَلِك، فَهُوَ من الَّذين يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياما.

65

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا اصرف عَنَّا عَذَاب جَهَنَّم} أَي: اعْدِلْ عَنَّا عَذَاب جَهَنَّم. وَقَوله: {إِن عَذَابهَا كَانَ غراما} . أَي: ملحا دَائِما، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هَلَاكًا، وَيُقَال: فلَان مغرم بِالنسَاء أَي: لَا صَبر لَهُ عَنْهُن، وَمِنْه الْغَرِيم لِأَنَّهُ يلازم. وَقيل غراما أَي: شَدِيدا، قَالَ الْأَعْشَى: (إِن يُعَاقب يكن غراما وَإِن يُعْط ... جزيلا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي) وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: طَالب الله الْكفَّار بِثمن النِّعْمَة، فَلَمَّا عجزوا غرمهم النِّعْمَة فبقوا فِي النَّار. وَعَن الْحسن قَالَ: كل غَرِيم يُفَارق غَرِيمه غير جَهَنَّم، فَإِنَّهَا لَا تفارق غرماءها أبدا.

{إِنَّهَا ساءت مُسْتَقرًّا ومقاما (66) وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا لم يقترُوا وَكَانَ بَين ذَلِك قواما (67)

66

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهَا ساءت مُسْتَقرًّا ومقاما} أَي: بئس مَوضِع الْقَرار، وَمَوْضِع الْمقَام جَهَنَّم، وَقد بَينا الْفرق بَين الْمقَام وَالْمقَام.

67

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا} قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحلِيّ: كل إِنْفَاق فِي غير طَاعَة الله فَهُوَ إِسْرَاف، وكل منع عَن طَاعَة الله فَهُوَ إقتار. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: لم يُسْرِفُوا أَي: لم يجاوزوا الْحَد فِي الْإِنْفَاق، وَذَلِكَ بالإكثار فِي النَّفَقَة على وَجه التبذير. وَقَوله: {وَلم يقترُوا} أَي: لم يقلوا فِي الْإِنْفَاق حَتَّى يعروا أَو يجيعوا من يجب عَلَيْهِم الْإِنْفَاق عَلَيْهِم. وَقَالَ بَعضهم: لم يُسْرِفُوا أَي: لم ينفقوا فِي غير الْحق، وَلم يقترُوا أَي: لم يمنعوا من الْحق، وَهَذَا القَوْل قريب من القَوْل الأول. قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: وَكَانَ بَين ذَلِك قواما: حَسَنَة بَين سيئتين، وَحكى ثَعْلَب أَن عبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ لعمر بن عبد الْعَزِيز - وَكَانَ قد زوج ابْنَته فَاطِمَة مِنْهُ -: كَيفَ نَفَقَتك يَا عمر؟ فَقَالَ: حَسَنَة بَين سيئتين. وَعَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: إِذا أخذت بِوَاحِد من طرفِي الْعود مَال، فَإِذا أخذت بوسطه اعتدل. وَقَوله: {قواما} . أَي: عدلا، وَهُوَ معنى مَا قُلْنَاهُ، والقوام بِالْفَتْح من الاسْتقَامَة، والقوام بِالْكَسْرِ مَا يُقيم الْأَمر بِهِ، كَأَنَّهُ ملاكه.

68

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} . الْحق هُوَ مَا ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث ... " وَقد بَينا.

{وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما (68) يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة ويخلد فِيهِ مهانا (69) وَقَوله: {وَلَا يزنون} الزِّنَا فعل مَعْلُوم، وَأما اللواط: هَل هُوَ زنا أَو لَيْسَ بزنا؟ فَالْأَمْر فِيهِ على مَا عرف فِي الْفِقْه، وَكَذَلِكَ إتْيَان الْبَهِيمَة. وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَمْرو بن شُرَحْبِيل، عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، أَي الذَّنب أعظم؟ فَقَالَ: " أَن تجْعَل لله ندا وَهُوَ خلقك. قلت: يارسول الله، ثمَّ أَي؟ قَالَ: أَن تقتل ولدك خشيَة أَن يَأْكُل مَعَك. قلت: ثمَّ أَي يَا رَسُول الله؟ قَالَ: أَن تزنى بحلية جَارك، ثمَّ قَرَأَ قَوْله: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} الْآيَة ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْعَبَّاس الْأَزْهَرِي، [أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن] أَحْمد بن مُحَمَّد الْخفاف، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس السراج، أخبرنَا إِسْحَاق الْحَنْظَلِي، أخبرنَا جرير، عَن مَنْصُور، عَن أبي وَائِل، عَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل. . الْخَبَر. وَذكر الْكَلْبِيّ: " أَن وحشيا أرسل إِلَى النَّبِي يطْلب مِنْهُ تَوْبَة لنَفسِهِ، فَبعث إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَة، فَقَالَ وَحشِي: إِنِّي قد أشركت، وَقتلت وزنيت، وَلَا أَدْرِي كَيفَ تَوْبَتِي؟ فَأُرِيد آيَة أوسع من هَذِه، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الله لَا يفغر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} فَبعث بِالْآيَةِ إِلَى وَحشِي، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، أَأدْخل فِي الْمَشِيئَة أَولا؟ أُرِيد آيَة أوسع من هَذِه الْآيَة، فَأنْزل الله تَعَالَى {يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله} فَبعث إِلَيْهِ بِالْآيَةِ، فَأسلم ".

{إِلَّا من تَابَ قَالَ أهل الْعلم: وَهَذَا مستبعد جدا؛ لِأَن هَذِه الْآيَة مَكِّيَّة، وَوَحْشِي إِنَّمَا أسلم بعد غَزْوَة حنين والطائف فِي آخر عهد النَّبِي، وكل هَذِه الْآيَات إِنَّمَا نزلت (من اسلامه عدَّة} . وَفِي بعض التفاسير: إِن هَذِه الْآيَة نزلت بِمَكَّة إِلَى قَوْله: {إِلَّا من تَابَ} وَمكث النَّاس سنتَيْن، ثمَّ نزل قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من تَابَ} . إِلَى آخر الْآيَة بعد ذَلِك. وَعَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {إِلَّا من تَابَ} ينْصَرف إِلَى الشّرك وَالزِّنَا، فَأَما قتل النَّفس فقد أنزل الله تَعَالَى فِيهِ: {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا. .} الْآيَة قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهَذِه الْآيَة مَدَنِيَّة، وَقَوله: {إِلَّا من تَابَ} مَكِّيَّة، فَالْحكم فِي الْقَتْل على هَذِه الْآيَة، وَلَا تَوْبَة لقَاتل النَّفس. وَأما عِنْد غَيره من أهل الْعلم: فالتوبة من الْكل مَقْبُولَة، وَقد بَينا هَذَا من قبل، وَظَاهر هَذِه الْآيَة وَهُوَ قَوْله: {إِلَّا من تَابَ} يدل على هَذَا؛ لِأَنَّهُ قد سبق قتل النَّفس. وَقَوله: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما} أَي: جَزَاء الْإِثْم، وَيُقَال: أثاما وَاد فِي جَهَنَّم، قَالَ الشَّاعِر: {جزى الله ابْن عُرْوَة حَيْثُ أَمْسَى ... عقوقا والعقوق لَهُ أثام} أَي: جَزَاء الأثم. وَقَالَ أخر: (لقِيت المهالك فِي حربنا ... وَبعد المهالك تلقى أثاما)

69

قَوْله تَعَالَى: {يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} أَي: يستدام لَهُ الْعَذَاب، وَيُقَال: يُضَاعف الله الْعَذَاب، يجمع عَلَيْهِ عَذَاب الْكَبَائِر الَّتِي ارتكبها.

{وآمن وَعمل عملا صَالحا فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات وَقَوله: {ويخلد فِيهِ مهانا} أَي: يخلد فِيهِ وَقد أصَاب الهوان والذلة، وَقُرِئَ: " يُضَاعف " و " يخلد " بِالرَّفْع، وَرَفعه بالاستئناف، وَقُرِئَ: يُضَاعف " و " يخلد " بِالْجَزْمِ، وجزمه على جَوَاب الشَّرْط.

70

قَوْله: {إِلَّا من تَابَ وآمن وَعمل عملا صَالحا} مَعْنَاهُ: إِلَّا من نَدم وآمن بربه، وَعمل عملا صَالحا فِي الْمُسْتَقْبل. وَقَوله: {فَأُولَئِك يُبدل الله سيئاتهم حَسَنَات} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُجاهد وَجَمَاعَة: هَذَا فِي الدُّنْيَا. وَمَعْنَاهُ: تَبْدِيل الْكفْر بِالْإِيمَان، والشرك بالإخلاص، وَالْمَعْصِيَة بِالطَّاعَةِ. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَجَمَاعَة: هَذَا فِي الْآخِرَة، وَالله تَعَالَى يُبدل سيئات التائب بِالْحَسَنَاتِ فِي صَحِيفَته. وَقد ورد فِي القَوْل الثَّانِي خبر صَحِيح عَن النَّبِي، رَوَاهُ وَكِيع، عَن الْأَعْمَش، عَن الْمَعْرُور بن سُوَيْد، عَن أبي ذَر، أَن النَّبِي قَالَ: " يُؤْتى بِالْمُؤمنِ يَوْم الْقِيَامَة فَيعرض عَلَيْهِ صغَار ذنُوبه، ويخبأ عَنهُ كِبَارهَا، فَيسْأَل ويعترف، وَهُوَ مُشفق من الْكَبَائِر، فَيَقُول الله تَعَالَى: أَعْطوهُ مَكَان كل سَيِّئَة حَسَنَة، فَيَقُول: يَا رب، إِن لي ذنوبا وَلَا أَرَاهَا هَاهُنَا؟ فَضَحِك رَسُول الله حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه ". أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: يُعْطي الْمُؤمن صَحِيفَته يَوْم الْقِيَامَة فَيقْرَأ بَعْضهَا، وَإِذا هِيَ سيئات، فَإِذا وصل إِلَى الْحَسَنَات ينظر نظرة فِيمَا قبلهَا، فَإِذا هِيَ كلهَا صَارَت حَسَنَات. وَقد أنكر جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين أَن تنْقَلب السَّيئَة حَسَنَة؛ مِنْهُم الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره، وَإِذا ثَبت الْخَبَر عَن النَّبِي لم يبْق لأحد كَلَام.

{وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (70) وَمن تَابَ وَعمل صَالحا فَإِنَّهُ يَتُوب إِلَى الله متابا (71) وَالَّذين لَا يشْهدُونَ الزُّور وَقد قَالَ بَعضهم: إِن الله يمحو بالندم جَمِيع السَّيِّئَات، ثمَّ يثبت مَكَان كل سَيِّئَة حَسَنَة. وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} قد بَينا.

71

قَوْله تَعَالَى: {وَمن تَابَ وَعمل صَالحا} قَالَ بعض أهل الْعلم: هَذَا فِي التَّوْبَة عَن غير مَا سبق ذكره، وَأما التَّوْبَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة الأولى، فَهِيَ عَمَّا سبق ذكره من الْكَبَائِر. وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الْآيَة وَارِدَة أَيْضا فِي التَّوْبَة عَن جَمِيع السَّيِّئَات، وَمَعْنَاهَا على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى الْآيَة: وَمن أَرَادَ التَّوْبَة وعزم عَلَيْهَا فليتب لوجه الله تَعَالَى، وَلَا يَنْبَغِي أَن يُرِيد غَيره، كَالرّجلِ يَقُول: من اتّجر فليتجر فِي الْبر، وَمن نَاظر فليناظر فِي الْفِقْه، فَيكون قَوْله: {فَإِنَّهُ يَتُوب إِلَى الله متابا} على هَذَا القَوْل خَبرا بِمَعْنى الْأَمر، أَي: تب إِلَى الله تَوْبَة، وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: من تَابَ فَليعلم أَن تَوْبَته إِلَى الله ومصيره إِلَيْهِ وثوابه مِنْهُ، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: إِذا كلمت الْأَمِير فَاعْلَم أَنه أَمِير، وَإِذا كلمت أَبَاك فَاعْلَم أَنه أَبوك.

72

قَوْله: {وَالَّذين لَا يشْهدُونَ الزُّور} أَي: الشّرك، وَمَعْنَاهُ: لَا يشْهدُونَ شَهَادَة الشّرك، وَيُقَال: الْكَذِب. وَعَن مُحَمَّد بن الحنيفة: الْغناء، [و] هُوَ قَول مُجَاهِد. (وَعَن بَعضهم) : الْغناء رقية الزِّنَا. وَقَالَ بعض أهل السّلف: الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب. وَقيل: لَا يشْهدُونَ الزُّور أَي: أعياد الْكفَّار، وَقيل: النوح. وَقَوله: {وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما} أَي: مروا معرضين كَمَا يمر الْكِرَام، وَقيل: أكْرمُوا أنفسهم عَن الدُّخُول فِيهِ. قَالَ الْحسن: اللَّغْو هُوَ الْمعاصِي كلهَا. وَقَالَ عَمْرو بن قيس: مجْلِس الْخَنَا. واللغو فِي اللُّغَة كل مَا هُوَ بَاطِل، وَلَا يُفِيد فَائِدَة.

{وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما (72) وَالَّذين إِذا ذكرُوا بآيَات رَبهم لم يخروا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا (73) وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا ويلقون فِيهَا تَحِيَّة وَسلَامًا (75)

73

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا ذكرُوا بآيَات رَبهم لم يخروا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا} . قَالَ القتيبي مَعْنَاهُ: لم يتغافلوا عَنْهَا كَأَنَّهُمْ صم لم يسمعوها، وَكَأَنَّهُم عمى لم يروها. وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: لم يسقطوا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا، بل سمعُوا وأبصروا.

74

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة أعين} أَي: أَوْلَادًا، بررة أتقياء، وقرة الْعين تذكر عِنْد السرُور، وسخنة الْعين عِنْد الْحزن، وَيُقَال: دمع الْعين عِنْد السرُور بَارِد، وَعند الْحزن حَار. وَذكر الْأَزْهَرِي أَبُو مَنْصُور: أَن معنى قُرَّة الْعين أَن يُصَادف قلبه مَا يرضاه قلبه، فتقر عينه عَن النّظر إِلَى غَيره، يَعْنِي: لَا تنظر إِلَى غَيره. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: لَيْسَ شَيْء أقرّ لعين الْمُؤمن من أَن يرى أَهله وَولده أتقياء بررة. وَقَوله: {واجعلنا لِلْمُتقين إِمَام} قَالَ الْحسن: نقتدي بالمتقين، ويقتدي بِنَا المتقون. وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا على أَنه لَا بَأْس بِطَلَب الْإِمَامَة فِي الدّين، وَينْدب إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم: لَا يطْلب للرئاسة، وَلَكِن يطْلب للدّين، ثمَّ حِينَئِذٍ يَقْتَدِي بِهِ المتقون، فَيصير إِمَامًا لَهُم على مَا قَالَ الله تَعَالَى.

75

قَوْله: {أُولَئِكَ يجزون الغرفة بِمَا صَبَرُوا} قَالَ عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس: الغرفة من الدّرّ والزبرجد والياقوت. وَيُقَال: هِيَ أَعلَى منَازِل الْجنَّة. وَقَوله: {بِمَا صَبَرُوا} عَن الشَّهَوَات، وَقيل: صَبَرُوا عَن الدُّنْيَا، وَقيل: صَبَرُوا على الطَّاعَة. وَقَوله: {ويلقون فِيهَا} وَقُرِئَ: " ويلقون " مخففا، وَالْمعْنَى وَالْمعْنَى وَاحِد. وَقَوله: {تَحِيَّة} أَي: ملكا، وَقيل: بَقَاء [دَائِما] .

{خَالِدين فِيهَا حسنت مُسْتَقرًّا ومقاما (76) قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم فقد كَذبْتُمْ فَسَوف يكون إلزاما (77) وَقَوله: {وَسلَامًا} أى: يسلم بَعضهم على بعض، وَقَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: يسلم الله عَلَيْهِم. وَقيل: سَلامَة من الْآفَات.

76

قَوْله تَعَالَى: {خَالِدين فِيهَا حسنت مُسْتَقرًّا ومقاما} أَي: مَكَانا يستقرون فِيهِ. وَقَوله: {ومقاما} أَي: يُقِيمُونَ إِقَامَة.

77

قَوْله تَعَالَى: {قل مَا يعبأ بكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم} أحسن الْأَقَاوِيل فِيهِ أَن مَعْنَاهُ: مَا يصنع بكم رَبِّي لَوْلَا دعائكم أَي: لَوْلَا دعاؤه إيَّاكُمْ إِلَى التَّوْحِيد، وَهِي فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {مَا يفعل الله بعذابكم إِن شكرتم وآمنتم} . قَالَ القتيبي مَعْنَاهُ: مَا يعبأ بعذابكم رَبِّي لَوْلَا دعاؤكم أَي: لَوْلَا إيمَانكُمْ، يَعْنِي: إِذا آمنتم لَا يعذبكم. وَقَالَ بَعضهم: أَي قدر لكم عِنْد رَبِّي لَوْلَا أَنه دعَاكُمْ إِلَى الْإِيمَان فتؤمنون، فَالْآن يظْهر لكم قدر وخطر. وَقَوله: {فقد كَذبْتُمْ} قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فقد كذب الْكَافِرُونَ "، وَأما الْمَعْرُوف: {فقد كَذبْتُمْ} أَي: كَذبْتُمْ أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَمَعْنَاهُ: قد دعوتكم إِلَى الْإِيمَان فَلم تؤمنوا. وَقَوله: {فَسَوف يكون إلزاما} وَعِيد مَعْنَاهُ: سَوف يكون الْعَذَاب لزاما. قَالَ ابْن مَسْعُود: معنى اللزام وَهُوَ يَوْم بدر. وَقَالَ بَعضهم: اللزام: الْمَوْت. قَالَ الشَّاعِر: (تولى عِنْد حاجتنا أنيس ... وَلم اجزع من الْمَوْت اللزام) وَقُرِئَ فِي الشاذ " " لزاما " بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ فِي معنى الأول.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {طسم (1) تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين (2) لَعَلَّك باخع نَفسك أَلا يَكُونُوا مُؤمنين (3) إِن نَشأ ننزل عَلَيْهِم من السَّمَاء آيَة فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين تَفْسِير سُورَة الشُّعَرَاء وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا أَربع آيَات فِي آخر السُّورَة.

الشعراء

قَوْله تَعَالَى: {طسم} قَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن. وَقَالَ مُجَاهِد: اسْم السُّورَة. وَعَن بَعضهم: أَن الطَّاء من الطول، وَالسِّين من السناء، وَالْمِيم من الْملك. وَقَالَ بَعضهم: الطَّاء شَجَرَة طُوبَى، وَالسِّين سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَالْمِيم مُحَمَّد. وَيُقَال: الطَّاء من اسْمه الطَّاهِر، وَالسِّين من اسْمه السَّلَام، وَالْمِيم من اسْمه الْمجِيد.

2

وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين} قد بَينا من قبل.

3

قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّك باخع نَفسك} أَي: قَاتل نَفسك، وَقيل: مهلك نَفسك حزنا. وَقَوله تَعَالَى: {أَلا يَكُونُوا مُؤمنين} يَعْنِي: إِن لم يُؤمنُوا.

4

قَوْله: {إِن نَشأ ننزل عَلَيْهِم من السَّمَاء آيَة} قَالَ ابْن جريج مَعْنَاهُ: نريهم أمرا من أمرنَا، فَلَا يعْص أحد، وَقيل: إِن نَشأ ننزل من السَّمَاء آيَة فاضطروا إِلَى الْإِيمَان. وَقَوله: {فظلت أَعْنَاقهم لَهَا خاضعين} فيع أَقْوَال: أَحدهَا: خاضعين بِمَعْنى خاضعة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من أَعْنَاق أَشْرَاف النَّاس وكبراؤهم، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: فظل كبراؤهم وأشرافهم لِلْآيَةِ خاضعين، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه ذكر الْأَعْنَاق، وَالْمرَاد مِنْهُ أَصْحَاب الْأَعْنَاق، فَانْصَرف قَوْله: {خاضعين} إِلَى الْمُضمر فِي الْكَلَام. قَالَ الشَّاعِر: {رَأَتْ مرَّ السنين أخذن منى ... كَمَا أَخذ السرَار من الْهلَال}

( {4) وَمَا يَأْتِيهم من ذكر من الرَّحْمَن مُحدث إِلَّا كَانُوا عَنهُ معرضين (5) فقد كذبُوا فسيأتيهم أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (6) أَو لم يرو إِلَى الأَرْض كَمَا أنبتنا فِيهَا من كل زوج كريم (7) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (8) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (8) وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى أَن ائْتِ الْقَوْم الظَّالِمين فَرجع قَوْله: أخذن إِلَى السنين، لَا إِلَى قَوْله: مر السنين.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَأْتِيهم من ذكر من الرَّحْمَن مُحدث} أَي: مُحدث إنزاله إِلَى النَّبِي، وَقد بَينا هَذَا من قبل. وَقَوله: {إِلَّا كَانُوا عَنهُ معرضين} أَي: عَن الْإِيمَان.

6

قَوْله تَعَالَى: {فقد كذبُوا فسيأتيهم} أَي: سَوف يَأْتِيهم. وَقَوله: {أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون} أَي: عَاقِبَة مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون، أَي: عَاقِبَة مَا كَانُوا يستهزءون، وَهَذَا يدل على أَن كل مكذب مستهزئ.

7

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرو إِلَى الأَرْض كم أنبتنا فِيهَا من كل زوج كريم} أَي: من كل صنف حسن، وَالزَّوْج مثل: الحامض والحلو، والأبيض وَالْأسود، وَمَا أشبهه. وَقَالَ الشّعبِيّ: الْخلق نَبَات الأَرْض، فَمن دخل الْجنَّة فَهُوَ كريم، وَمن دخل النَّار فَهُوَ لئيم، وَالْعرب تَقول: نَخْلَة كَرِيمَة إِذا طَابَ ثَمَرهَا، وَرجل كريم إِذا حسن فعله.

8

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} أَي: مُصدقين.

9

وَقَوله: {وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} قد بَينا من قبل.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى} أَي: من جَانب الطّور الْأَيْمن، على مَا ورد بِهِ الْقُرْآن، وَقَالَ ابْن جُبَير: من السَّمَاء. وَقَوله: {أَن ائْتِ الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين.

11

وَقَوله: {قوم فِرْعَوْن أَلا يَتَّقُونَ} مَعْنَاهُ: أَلا يخَافُونَ.

12

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون ويضيق صَدْرِي} وَقُرِئَ: " ويضيق صَدْرِي " بِنصب الْقَاف أَي: أَخَاف أَن يضيق صَدْرِي.

( {10) قوم فِرْعَوْن أَلا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رب إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون (12) ويضيق صَدْرِي وَلَا ينْطَلق لساني فَأرْسل إِلَى هرون (13) وَلَهُم عَليّ ذَنْب فَأَخَاف أَن يقتلُون (14) قَالَ كلا فاذهبا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعكُمْ مستمعون (15) فَأتيَا فِرْعَوْن فقولا إِنَّا رَسُول رب الْعَالمين (16) وَقَوله: {وَلَا ينْطَلق لساني} قَالَ هَذِه للعقدة الَّتِي كَانَت على لِسَانه. وَقَوله: {فَأرْسل إِلَى هَارُون} مَعْنَاهُ: فَأرْسل إِلَى هَارُون مَعَ إرسالي.

14

وَقَوله: {وَلَهُم عَليّ ذَنْب} أَي: دَعْوَى ذَنْب، وَذَلِكَ الذَّنب هُوَ قتلة القبطي. وَقَوله: {فَأَخَاف أَن يقتلُون} بذلك الرجل وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن كَانَ يَطْلُبهُ طول هَذِه الْمدَّة ليَقْتُلهُ بالقبطي.

15

قَوْله تَعَالَى: {كلا} أَي: لَا تخف. وَقَوله تَعَالَى: {فاذهبا بِآيَاتِنَا} قد بَينا تَفْسِير الْآيَات من قبل. وَقَوله: {إِنَّا مَعكُمْ مستمعون} ذكر بِلَفْظ الْجمع، وَالْمرَاد مِنْهُ اثْنَان، وَقيل: إِنَّا مَعَكُمَا وَمَعَ بني إِسْرَائِيل نسْمع مَا يجيبكم فِرْعَوْن، وَأما قَوْله: {مستمعون} قد بَينا مثل هَذَا فِيمَا سبق، وَذكرنَا أَنه قد ذكر نَفسه بِلَفْظ الْجَمَاعَة فِي مَوَاضِع على طَرِيق التفخيم والتعظيم.

16

وَقَوله تَعَالَى: {فَأتيَا فِرْعَوْن فقولا إِنَّا رَسُول رب الْعَالمين} فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: إِنَّا رَسُولا رب الْعَالمين؟ وَالْجَوَاب: أَن معنى الرَّسُول هَاهُنَا هُوَ الرسَالَة. قَالَ الشَّاعِر: (لقد كذب الواشون مَا فهمت عِنْدهم ... بِسوء وَلَا أرسلتهم برَسُول) أَي: برسالة، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: فقولا إِنَّا ذُو رِسَالَة رب الْعَالمين، وَيُقَال: إِن قَوْله: {رَسُول رب الْعَالمين} رَسُولا رب الْعَالمين، وَاحِد بِمَعْنى الِاثْنَيْنِ.

17

وَقَوله: {أَن أرسل مَعنا بني إِسْرَائِيل} أَي: أرسلهم مَعنا إِلَى الشَّام، وَكَانَ قد استعبدهم، واستسخرهم فِي أَنْوَاع الْأَعْمَال، وَقد بَينا.

18

وَقَوله: {قَالَ ألم نربك فِينَا وليدا} فِي الْآيَة حذف؛ وَهُوَ أَنه ذهب وَجَاء إِلَى

{أَن أرسل مَعنا بني إِسْرَائِيل (17) قَالَ ألم نربك فِينَا وليدا وَلَبِثت فِينَا من عمرك سِنِين (18) وَفعلت فعلتك الَّتِي فعلت وَأَنت من الْكَافرين (19) قَالَ فعلتها إِذا فِرْعَوْن، وَدعَاهُ إِلَى الله، فَأَجَابَهُ بِهَذَا، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى رَجَعَ إِلَى مصر وَعَلِيهِ جُبَّة صوف، وَفِي يَده عَصَاهُ، والمكتل مُعَلّق بِرَأْس الْعَصَا فِيهِ زَاده، فروى أَنه جَاءَ وَدخل دَار نَفسه، وَطلب هَارُون، وَقَالَ لَهُ: إِن الله أَرْسلنِي إِلَى فِرْعَوْن، وأرسلك أَيْضا إِلَيْهِ حَتَّى نَدْعُو فِرْعَوْن إِلَى الله تَعَالَى. فَخرجت أمهما وصاحت، وَقَالَت: إِن فِرْعَوْن يطلبك ليقتلك، فَلَو ذهبتما إِلَيْهِ قتلكما، فَلم يلْتَفت مُوسَى إِلَى قَوْلهَا، وذهبا إِلَى بَاب فِرْعَوْن لَيْلًا، ودقا الْبَاب، فَفَزعَ البوابون، وَقَالُوا: من بِالْبَابِ؟ وروى أَنه اطلع البواب عَلَيْهِمَا، فَقَالَ لَهما: من أَنْتُمَا؟ فَقَالَ مُوسَى: أَنا رَسُول رب الْعَالمين، فَذهب البواب إِلَى فِرْعَوْن، وَقَالَ: إِن مَجْنُونا بِالْبَابِ يزْعم أَنه رَسُول رب الْعَالمين، فَترك حَتَّى أصبح ثمَّ دَعَاهُ. وَفِي بعض الْقَصَص: أَنَّهُمَا مكثا سنة لَا يصلان إِلَيْهِ، ثمَّ وصلا. وَقَوله: {قَالَ ألم نربك فِينَا وليد} فِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما دخل عَلَيْهِ، وَنظر إِلَيْهِ فِرْعَوْن عَرَفَة، فَقَالَ: ألم نربك فِينَا وليدا أَي: صَغِيرا. وَقَوله: {وَلَبِثت فِينَا من عمرك سِنِين} أَي: ثَمَان عشرَة سنة، وَقَالَ بَعضهم: ثَلَاثِينَ سنة.

19

وَقَوله: {وَفعلت فعلتك الَّتِي فعلت} أَي: قتلت الرجل، وَهُوَ الَّذِي كَانَ وكزه فَقتله، وقرىء فِي الشاذ: " فعلتك " بِكَسْر الْفَاء، وَقَوله: {وَأَنت من الْكَافرين} أَي: الْكَافرين لنعمتي، قَالَ الشَّاعِر: (وَالْكفْر (مخبثة) لنَفس الْمُنعم ... )

20

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فعلتها إِذا} أَي: فعلت مَا فعلت حِينَئِذٍ {وَأَنا من الضَّالّين} أَي: من الْجَاهِلين. وَقيل: من الناسين.

21

قَوْله تَعَالَى: {ففررت مِنْكُم لما خفتكم فوهب لي رَبِّي حكما} أَي: النُّبُوَّة وَالْعلم.

{وَأَنا من الضَّالّين (20) ففررت مِنْكُم لما خفتكم فوهب لي رَبِّي حكما وَجَعَلَنِي من الْمُرْسلين (21) وَتلك نعْمَة تمنها عَليّ أَن عبدت بني إِسْرَائِيل (22) } وَقَوله: {وَجَعَلَنِي من الْمُرْسلين} ظَاهر الْمَعْنى.

22

وَقَوله تَعَالَى: {وَتلك نعْمَة تمنها عَليّ أَن عبدت بني إِسْرَائِيل} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن ألف الِاسْتِفْهَام محذوفة، وَمَعْنَاهُ: أَو تِلْكَ نعْمَة تمنها على؟ قَالَ الشَّاعِر: (تروح من الْحَيّ أم تبتكر ... وماذا يضيرك لَو تنْتَظر) أَي: أتروح من الْحَيّ أم تبتكر. وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: وَتلك نعْمَة أَي: التربية نعْمَة تمنها على أَن تَعْتَد بهَا على، وَقَوله: {أَن عبدت بني إِسْرَائِيل} أَي: استعبدت بني إِسْرَائِيل، وعاملتهم من الْمُعَامَلَات القبيحة. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَتلك نعْمَة تمنها على بالتربية، وَقَوله: {أَن عبدت بني إِسْرَائِيل} يَعْنِي: باستعبادك بني إِسْرَائِيل ربيتني وكفلتني، وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَنَّك استعبدت بني إِسْرَائِيل مَا وَقعت إِلَيْك، (وَمَا) ربيتني؛ فَإِنَّهُ قد كَانَ لي من يربيني، وَحَقِيقَة الْمَعْنى دفع مَتنه.

23

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْن وَمَا رب الْعَالمين} وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: " كنت وَاقِفًا عِنْد رَبِّي حِين قَالَ فِرْعَوْن هَذَا، فنشرت جناحي وتهيأت لعذابه إِذا أَمرنِي الرب، فَقَالَ: يَا جِبْرِيل، إِنَّمَا يعجل من يخَاف الْفَوْت ". وَالْخَبَر غَرِيب. وَاعْلَم أَن سُؤال المائية - وَلَا يجوز على الله - وَإِنَّمَا هَذَا من أَوْصَاف المخلوقين؛ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن مُوسَى لم يجب سُؤال المائية، فَلم يقل: رَبِّي لَونه كَذَا، وَهُوَ

{قَالَ فِرْعَوْن وَمَا رب الْعَالمين (23) قَالَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين (24) قَالَ لمن حوله أَلا تَسْمَعُونَ (25) قَالَ ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين (26) قَالَ إِن رَسُولكُم الَّذِي أرسل إِلَيْكُم لمَجْنُون (27) قَالَ رب الْمشرق من كَذَا، وريحه كَذَا، وَلَكِن أجَاب بِذكر أَفعاله الدَّالَّة عَلَيْهِ، فَقَالَ: {رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين} . وَاعْلَم أَن سُؤال المائية سُؤال عَن جنس الشَّيْء، وَالله تَعَالَى منزه عَن الجنسية، وَيُقَال: إِن جَوَاب مُوسَى عَن معنى السُّؤَال، لَا عَن عين السُّؤَال؛ كَانَ معنى السُّؤَال: وَمن رب الْعَالمين؟ قَالَ: رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين. وَمعنى قَوْله: {إِن كُنْتُم موقنين} هَاهُنَا أَنكُمْ كَمَا توقنون الْأَشْيَاء الَّتِي [تعاينونها] ، فَأَيْقنُوا أَن إِلَه الْخلق هُوَ الله تَعَالَى.

25

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لمن حوله أَلا تَسْمَعُونَ} يعْنى: لَا تستمعون، وَقَالَ فِرْعَوْن هَذَا على استبعاد جَوَاب مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقد كَانَ أُولَئِكَ الْقَوْم يَعْتَقِدُونَ أَن آلِهَتهم مُلُوكهمْ، فَزَاد مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي الْبَيَان فَقَالَ: {ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين} .

27

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن رَسُولكُم الَّذِي أرسل إِلَيْكُم لمَجْنُون} وَقد كَانَ عِنْدهم أَن من لَا يعْتَقد مَا يَعْتَقِدُونَ فَلَيْسَ بعاقل، فَزَاد مُوسَى فِي الْبَيَان فَقَالَ: {رب الْمشرق وَالْمغْرب وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم تعقلون} فَأجَاب فِرْعَوْن، وَقَالَ: {لَئِن اتَّخذت إِلَهًا غَيْرِي لأجعلنك من المسجونين} وَفِي الْقِصَّة: أَن سجنه كَانَ أَشد من الْقَتْل، فَإِنَّهُ كَانَ يحبس الرجل وَحده فِي مَوضِع لَا يسمع شَيْئا وَلَا يبصر شَيْئا، ويهوى فِي الأَرْض، فَأجَاب مُوسَى، وَقَالَ: {أَو لَو جِئتُكُمْ بِشَيْء مُبين} أَي: تحبسني وَإِن جئْتُك بِشَيْء مُبين أَي: بِآيَة بَيِّنَة.

31

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فأت بِهِ أَن كنت من الصَّادِقين فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} والثعبان الذّكر من الْحَيَّات الْعَظِيم مِنْهَا، فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد قَالَ فِي مَوضِع آخر:

{وَالْمغْرب وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم تعقلون (28) قَالَ لَئِن اتَّخذت إِلَهًا غَيْرِي لأجعلنك من المسجونين (29) قَالَ أَو لَو جئْتُك بِشَيْء مُبين (30) قَالَ فأت بِهِ إِن كنت من الصَّادِقين (31) فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين (32) وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء {كَأَنَّهَا جَان} والجان الْحَيَّة الصَّغِيرَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى الجان أَنَّهَا كالحية الصَّغِيرَة فِي اهتزازها وَصفَة حركتها، وَهِي فِي نَفسهَا حَيَّة عَظِيمَة. وَذكر السّديّ وَغَيره: أَن الْعَصَا صَارَت حَيَّة صفراء سعراء كأعظم مَا يكون من الْحَيَّات. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا ارْتَفَعت من الأَرْض بِقدر ميل، فغرت فاها، وَقَامَت على ذنبها، وَجعلت تتملظ فِي وَجه فِرْعَوْن. وروى أَنَّهَا أخذت قبَّة فِرْعَوْن بَين نابها، وَصَاح فِرْعَوْن، قَول: يَا مُوسَى، أنْشدك بِالَّذِي أرسلك. وَقَوله: (مُبين) أَي: يبين الثعبان أَنه حجَّة عَظِيمَة.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَنزع يَده فَإِذا هِيَ بَيْضَاء للناظرين} قد بَينا.

34

وَقَوله: {قَالَ للملأ حوله إِن هَذَا لساحر عليم} أَي: عَالم حاذق.

35

قَوْله: {يُرِيد أَن يخرجكم من أَرْضكُم بسحره} فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا أَرَادَ مُوسَى أَن يخرج بني إِسْرَائِيل [لَا] أَن يخرج فِرْعَوْن وَقَومه، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنهم كَانُوا قد اتَّخذُوا بني إِسْرَائِيل عبيدا وخولا، فَلَمَّا أَرَادَ مُوسَى إِخْرَاج بني إِسْرَائِيل، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ إخراجهم. وَقَوله: {فَمَاذَا تأمرون} أَي: مَاذَا تشيرون.

36

قَوْله تَعَالَى: (أرجه وأخاه) أَي: أخر أمره وَأمر أَخِيه، وَمَعْنَاهُ: لَا يتم فصل الْأَمر حَتَّى تظهر لَك الْحجَّة عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَابعث فِي الْمَدَائِن حاشرين} قد بَينا.

{للناظرين (33) قَالَ للملأ حوله إِن هَذَا لساحر عليم (34) يُرِيد أَن يخرجكم من أَرْضكُم بسحره فَمَاذَا تأمرون (35) قَالُوا أرجه وأخاه وَابعث فِي الْمَدَائِن حاشرين (36) يأتوك بِكُل سحار عليم (37) فَجمع السَّحَرَة لميقات يَوْم مَعْلُوم (38) وَقيل للنَّاس هَل أَنْتُم مجتمعون (39) لَعَلَّنَا نتبع السَّحَرَة إِن كَانُوا هم الغالبين (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالُوا لفرعون أئن لنا لأجراً إِن كُنَّا نَحن الغالبين}

37

وَقَوله: {يأتوك بِكُل سحار عليم} أَي: سَاحر حاذق، وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ يجْرِي الرزق للسحرة، وَقد جمع من السَّحَرَة سِتَّة آلَاف سَاحر، وَقيل: اثْنَي عشر ألفا.

38

وَقَوله: {فَجمع السَّحَرَة لميقات يَوْم مَعْلُوم} وَهُوَ يَوْم الزِّينَة على مَا بَينا من قبل.

39

وَقَوله: {وَقيل للنَّاس هَل أَنْتُم مجتمعون لَعَلَّنَا نتبع السَّحَرَة إِن كَانُوا هم الغالبين} مَعْلُوم الْمَعْنى.

41

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة} يَعْنِي لمُوسَى {قَالُوا لفرعون أئن لنا الْأجر أَن كُنَّا نَحن الغالبين} .

42

قَوْله: {قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ إِذا لمن المقربين} أَي: فِي الْمنزلَة، وَفِي الْقِصَّة أَن مُوسَى قَالَ لكبير السَّحَرَة: أتؤمن بِي إِن غلبتكم؟ قَالَ لَهُ كَبِير السَّحَرَة: إِن كنت ساحرا، فلأغلبنك، وَإِن غلبتني لأؤمنن بك.

43

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون} . وَقَوله: {فَألْقوا حبالهم وعصيهم وَقَالُوا بعزة فِرْعَوْن} أَي: بعز فِرْعَوْن وَملكه {إِنَّا لنَحْنُ الغالبون} .

45

وَقَوله: {فَألْقى مُوسَى عَصَاهُ} فِي الْقِصَّة: أَن جَمِيع الأَرْض ميلًا فِي ميل صَارَت حيات وأفاعي فِي رُؤْيَة النَّاس، فَلَمَّا ألْقى مُوسَى الْعَصَا صَارَت ثعبانا، وَجعلت تعظم على قدر حبالهم وعصيهم، ثمَّ جعل يلتقط ويلتقم (وَاحِدًا وَاحِدًا) حَتَّى أكل الْكل، ثمَّ أَن مُوسَى أَخذ بِذَنبِهِ فَصَارَ عَصا كَمَا كَانَ، فتحيرت السَّحَرَة عِنْد ذَلِك،

{قَالَ نعم وَإِنَّكُمْ إِذا لمن المقربين (42) قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا مَا أَنْتُم ملقون (43) فَألْقوا حبالهم وعصيهم وَقَالُوا بعزة فِرْعَوْن إِنَّا لنَحْنُ الغالبون (44) فَألْقى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ تلقف مَا يأفكون (45) فألقي السَّحَرَة ساجدين (46) قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين (47) رب مُوسَى وَهَارُون (48) قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذن لكم أَنه فَقَالُوا: إِن كَانَ هَذَا سحر فَأَيْنَ ذهبت عصينا وحبالنا؟ ! وتيقنوا أَن الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى أَمر من عِنْد الله، فوقعوا سجدا وآمنوا، فَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَألْقى السَّحَرَة ساجدين} .

46

وَقَوله: {فَألْقى السَّحَرَة ساجدين} يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: وَقَعُوا ساجدين، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: ألقاهم الْحق الَّذِي رَأَوْهُ (ساجدين.

47

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين} فِي الْقِصَّة: أَنهم) لما قَالُوا هَكَذَا، قَالَ فِرْعَوْن: أَنا رب الْعَالمين، فَقَالَ السَّحَرَة: {رب مُوسَى وَهَارُون} .

49

وَقَوله: {قَالَ آمنتم لَهُ قبل أَن آذان لكم إِنَّه لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر فلسوف تعلمُونَ} يَعْنِي: سَوف تعلمُونَ عَاقِبَة أَمركُم. وَقَوله: {لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أَجْمَعِينَ} قد بَينا مَعْنَاهُ.

50

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَا ضير} أَي: لَا ضَرَر وَلَا مَكْرُوه. قَالَ الشَّاعِر: (وَإنَّك لَا يضورك بعد حول ... أظبي كَانَ أمك أم حمَار) وَقَوله: {إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون} أَي: رَاجِعُون.

51

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نطمع أَن يغْفر لنا رَبنَا خطايانا} أَي: ذنوبنا. {أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ} قَالَ الْفراء: أول الْمُؤمنِينَ من أهل زَمَاننَا، وَقَالَ الزّجاج: هَذَا ضَعِيف؛ لِأَن بني إِسْرَائِيل كَانُوا قد آمنُوا بمُوسَى قبلهم، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ عِنْد ظُهُور هَذِه الْحجَّة، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ من قوم فِرْعَوْن.

{لكبيركم الَّذِي علمكُم السحر فلسوف تعلمُونَ لأقطعن أَيْدِيكُم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضير إِنَّا إِلَى رَبنَا منقلبون (50) إِنَّا نطمع أَن يغْفر لنا رَبنَا خطايانا أَن كُنَّا أول الْمُؤمنِينَ (51) وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن أسر بعبادي

52

قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى مُوسَى أَن أسر بعبادي} ذكر " أسر "؛ لأَنهم سَارُوا لَيْلًا. وَقَوله: {إِنَّكُم متبعون} يَعْنِي: يتبعكم فِرْعَوْن وَقَومه، وَعَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ: لما بلغ فِرْعَوْن أَن مُوسَى وَقَومه قد سَارُوا، قَالَ لِقَوْمِهِ: إِذا صَاح الديك فاركبوا، فَلم يَصح ديك فِي تِلْكَ اللَّيْلَة، حَتَّى بعد مُوسَى وَقَومه، فَلَمَّا أصبح دَعَا بِشَاة، وَأمر بذبحها، ثمَّ قَالَ: لَا تسلخ هَذِه الشَّاة إِلَّا وَقد اجْتمع خَمْسمِائَة ألف مقَاتل، قَالَ: فَلم يفرغ السلاخ عَن السلخ إِلَّا وَقد كَانَ اجْتمع خَمْسمِائَة ألف مقَاتل عددا. وَذكر غَيره: أَن الْمَلَائِكَة دخلُوا بيُوت القبط وَقتلُوا أبكارهم، فاشتغلوا صَبِيحَة ذَلِك الْيَوْم بدفن الْأَبْكَار.

53

قَوْله تَعَالَى: {فَأرْسل فِرْعَوْن فِي الْمَدَائِن حاشرين} يَعْنِي: أرسل الشَّرْط الْمَدَائِن حَتَّى حشروا النَّاس. وَفِي التفاسير: أَنه كَانَ ألف مَدِينَة وَاثنا عشر ألف قَرْيَة.

54

وَقَوله: {إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ} أَي: لجَماعَة قَليلَة، وأنشدوا فِي الشرذمة: (جَاءَ الشتَاء وقميصي أَخْلَاق ... شراذم يضْحك مني النواق) وأنشدوا فِي قَوْله: {قَلِيلُونَ} : {فَرد قواصي الْأَحْيَاء مِنْهُم ... فقد رجعُوا كحى واحدينا} أَي: كحى وَاحِد. وَعَن عبد الله بن مَسْعُود: أَن مُوسَى كَانَ فِي سِتّمائَة ألف وَسبعين ألفا، فسماهم فِرْعَوْن شرذمة لِكَثْرَة قومه. وروى أَن هامان كَانَ على مقدمته فِي ألف ألف، وروى أَن فِرْعَوْن كَانَ فِي سَبْعَة آلَاف ألف وروى أَنه كَانَ بَين يَدَيْهِ مائَة ألف ناشب وَمِائَة ألف أَصْحَاب الحراب، وَمِائَة

{إِنَّكُم متبعون (52) فَأرْسل فِرْعَوْن فِي الْمَدَائِن حاشرين (53) إِن هَؤُلَاءِ لشرذمة قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُم لنا لغائظون (55) وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون (56) ألف أَصْحَاب الأعمدة.

55

وَقَوله: {وَإِنَّهُم لنا لغائظون} يَعْنِي: أَنهم غاظونا وأغضبونا، وَكَانَ غيظه مِنْهُم بخروجهم من غير أمره، واستعارتهم الْحلِيّ من قومه ومضيهم بهَا.

56

وَقَوله: {وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون} وَقُرِئَ: " حذرون " فالحذر هُوَ المتيقظ، والحاذر المستعد. قَالَ الشَّاعِر: (وَكتب عَلَيْهِ احذر الْمَوْت ... وَحده فَلم يبْق حاذر) وَقَرَأَ ابْن أبي عَامر: " وَإِنَّا لجَمِيع حاذرون) بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة. وَيُقَال: بعير حادر إِذا كَانَ ممتلئا من اللَّحْم، عَظِيم الجثة، وَقيل: {إِنَّا لجَمِيع حاذرون} أَي: مؤدون، وَمعنى مؤدون أَي: مَعْنَاهُ الأداة وَالسِّلَاح.

57

قَوْله تَعَالَى: {فأخرجناهم من جنَّات وعيون} فِي الْقِصَّة: أَن الْبَسَاتِين كَانَت ممتدة على حافتي النّيل من أَعْلَاهُ إِلَى آخِره، وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: سيد الْأَنْهَار هُوَ النّيل، فَإِذا أجراه الله تَعَالَى أمده من جَمِيع الْأَنْهَار، وفجر لَهُ ينابيع الأَرْض، فَإِذا تمّ إجراؤه رَجَعَ كل مَاء إِلَى عنصره.

58

وَقَوله: {وكنوز} أَي: كنوز الْأَمْوَال، وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه كَانَ لفرعون ثَمَانمِائَة ألف غُلَام، كل غُلَام على فرس من عَتيق، فِي عنق كل فرس طوق من ذهب. وَقَوله: {ومقام كريم} أَي: منَازِل حسان، وَقد قيل: إِن الْمقَام الْكَرِيم هُوَ المنابر، وَكَانَ بِمصْر ألف مِنْبَر فِي ذَلِك الْوَقْت، وَقيل: {ومقام كريم} أَي: مجْلِس الْأَشْرَاف، وَذكر بَعضهم: أَنه كَانَ إِذا قعد على سَرِيره وضع بَين يَدَيْهِ ثَلَاثمِائَة كرْسِي من ذهب يجلس عَلَيْهَا الْأَشْرَاف، عَلَيْهِم أقبية الديباج مخوصة بِالذَّهَب.

59

وَقَوله: {كَذَلِك وأورثناها بني إِسْرَائِيل} . وروى أَن بني إِسْرَائِيل عَادوا إِلَى مصر

{فأخرجناهم من جنَّات وعيون (57) وكنوز ومقام كريم (58) وَأَقَامُوا فِيهَا، فَهُوَ معنى قَوْله: {وأورثناها بني إِسْرَائِيل} .

60

وَقَوله: (فأتبعوهم مشرقين) أَي: عِنْد شروق الشَّمْس، وشروقها طُلُوعهَا، وروى أَبُو بردة [عَن] أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ " أَن النَّبِي نزل على أَعْرَابِي فِي سفر، فَأحْسن الْأَعرَابِي ضيافته، فَلَمَّا ارتحل من عِنْده، قَالَ للأعرابي: لَو أَتَيْتنَا أكرمناك، فَجَاءَهُ الْأَعرَابِي بعد ذَلِك، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ: نَاقَة برحلها وَأُخْرَى أحتلبها، فَأمر لَهُ النَّبِي بذلك، ثمَّ قَالَ: أَيعْجزُ أحدكُم أَن يكون كعجوز بني إِسْرَائِيل؟ فَسئلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ: لما خرج مُوسَى ببني إِسْرَائِيل من مصر ضلوا الطَّرِيق، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الْقَمَر خسف، وَالشَّمْس كسفت، وَوَقع النَّاس فِي ظلمَة عَظِيمَة، وتحير مُوسَى، فَقَالَ لَهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل: إِن يُوسُف - عَلَيْهِ السَّلَام - أوصى أَن بني إِسْرَائِيل إِذا خَرجُوا من مصر فلينقلوا عِظَامه مَعَهم، فَعلم مُوسَى انهم ضلوا الطَّرِيق لذَلِك، فَقَالَ لَهُم: وَمن يعرف مَوضِع عِظَامه؟ فَقَالُوا: لَا يعرفهُ سوى عَجُوز من بني إِسْرَائِيل، فَدَعَا بالعجوز وسألها عَن مَوضِع الْعِظَام، فَقَالَت: لَا حَتَّى تقضي حَاجَتي، فَقَالَ: مَا حَاجَتك؟ قَالَت: حَاجَتي أَن أكون مَعَك فِي الْجنَّة أَي: فِي درجتك، فكره مُوسَى ذَلِك، فَنزل الْوَحْي أَن أعْطهَا ذَلِك، فَأَعْطَاهَا، ثمَّ إِنَّهَا دلّت على قبر يُوسُف، فَحمل مُوسَى عِظَام يُوسُف وانجلت الظلمَة ".

{كَذَلِك وأورثناها بني إِسْرَائِيل (59) فأتبعوهم مشرقين (60) فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون (61)

61

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا ترَاءى الْجَمْعَانِ} أَي: التقى الْجَمْعَانِ، وَمعنى التلاقي هُوَ أَنه رأى هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاء هَؤُلَاءِ. وَقَوله: {قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون} بِالتَّشْدِيدِ، وَالْمعْنَى مَا بَينا.

62

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ كلا} أَي: ارتدعوا عَن هَذَا القَوْل وَلَا تقولوه، فَإِنَّهُم لَا يدركونكم. وَقَوله: {إِن معي رَبِّي سيهدين} مَعْنَاهُ: إِن معي رَبِّي بِالْحِفْظِ والنصرة. وَقَوله: {سيهدين} أَي: يدلني على طَرِيق النجَاة، وَالْهِدَايَة هِيَ الدّلَالَة على طَرِيق النجَاة.

63

قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا إِلَى مُوسَى أَن أضْرب بعصاك الْبَحْر} فِي الْقِصَّة: أَن مُؤمن آل فِرْعَوْن كَانَ قُدَّام بني إِسْرَائِيل، فَقَالَ لمُوسَى: يَا نَبِي الله، أَيْن أَمرك رَبك؟ فَقَالَ: أمامك. قَالَ: يَا نَبِي الله، أَمَامِي الْبَحْر؟ {} قَالَ مُوسَى: وَالله مَا كذبت وَلَا كذبت. وروى أَن يُوشَع بن نون قَالَ لمُوسَى: يَا نَبِي الله، أَيْن أَمرك رَبك؟ قَالَ: الْبَحْر. قَالَ: أقتحمه؟ قَالَ: نعم، فاقتحم الْبَحْر وَمر، فَلَمَّا جَاءَ بَنو إِسْرَائِيل واقتحموا انغمسوا فِي الْبَحْر، وَأوحى الله إِلَى مُوسَى أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر. وروى أَن مُوسَى اقتحم الْبَحْر فَرده التيار، فَقَالَ للبحر: انفرق، فَلم ينفرق، فَأمر الله تَعَالَى أَن يضْربهُ بالعصا فَضَربهُ للمرة الأولى، فأط الْبَحْر، ثمَّ ضربه الثَّانِيَة فأط، ثمَّ ضربه الثَّالِثَة فانفرق، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فانفلق} . وَقَوله: {فَكَانَ كل فرق} أَي: فلق، وَالْفرق والفلق وَاحِد. وَقَوله: {كالطود الْعَظِيم} أَي: الْجَبَل الْعَظِيم، قَالَ الشَّاعِر: (حلوا بأبقرة تسيل عَلَيْهِم ... مَاء الْفُرَات يَجِيء من أطواد) وَالرِّوَايَة أَن مَاء الْبَحْر (تراكب) بعضه على بعض حَتَّى صَار كالجبل، وَظهر اثْنَا عشر طَرِيقا، وضربتها الرّيح حَتَّى جَفتْ، وَمر كل سبط فِي طَرِيق، فَقَالُوا: لَا نرى

{قَالَ كلا إِن معي رَبِّي سيهيدين (62) فأوحينا إِلَى مُوسَى أَن أضْرب بعصاك الْبَحْر فانفلق فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم (63) وأزلفنا ثمَّ الآخرين (64) إِخْوَاننَا، وَلَعَلَّ إِخْوَاننَا قد غرقوا، فَضرب الله لَهُم كوى - جمع كوَّة - على المَاء حَتَّى نظر بَعضهم إِلَى بعض، وَجعلُوا يتحدثون.

64

قَوْله تَعَالَى: {وأزلفنا ثمَّ الآخرين} أزلفنا أَي: قربنا، قَالَ الشَّاعِر: (فَكل يَوْم مضى أَو لَيْلَة سلفت ... فِيهَا النُّفُوس إِلَى الْآجَال تزدلف) وَقَالَ آخر: (طي اللَّيَالِي زلفا فزلفا ... سماوة الْهلَال حَتَّى احقوقفا) . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أزلفنا أَي: جَمعنَا، وَمِنْه لَيْلَة الْمزْدَلِفَة أَي: لَيْلَة الْجمع، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " وأزلفناهم الآخرين " أَي: أوقعناهم فِي موقع زلف، وَفِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل كَانَ بَين بني إِسْرَائِيل وَبَين فِرْعَوْن وَقَومه، وَكَانَ يَسُوق بني إِسْرَائِيل، فَيَقُولُونَ: مَا رَأينَا سائقا أحسن سِيَاقَة من هَذَا الرجل، وَكَانَ يزرع قوم فِرْعَوْن، فَكَانُوا يَقُولُونَ: مَا رَأينَا وازعاً أحسن زعة من هَذَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لابد للنَّاس من وزعة أَي: سُلْطَان يَكفهمْ حصان. وَقد بَينا أَن جِبْرِيل كَانَ على فرس أُنْثَى وديق وَفرْعَوْن على حصان، فَدخل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام الْبَحْر، وَأتبعهُ فِرْعَوْن لَا يملك نَفسه، فَلَمَّا دخل جمعيهم الْبَحْر، وَأَرَادَ أَوَّلهمْ أَن يخرج، وَكَانَ بَين طرفِي الْبَحْر [أَرْبَعَة] فراسخ، وَهَذَا هُوَ بَحر القلزم، طرف من بَحر فَارس، فَلَمَّا اجْتَمعُوا فِي الْبَحْر جَمِيعًا، وَدخل آخِرهم، وَأَرَادَ أَوَّلهمْ أَن يخرج، أطبق الْبَحْر عَلَيْهِم. وَعَن سعيد بن جُبَير: أَن الْبَحْر كَانَ سَاكِنا قبل ذَلِك، فَلَمَّا ضربه مُوسَى بالعصا اضْطربَ، فَجعل يمد ويجزر.

65

قَوْله تَعَالَى: {وأنجينا مُوسَى وَمن مَعَه اجمعين ثمَّ أغرقنا الآخرين} ظَاهر الْمَعْنى،

{وأنجينا مُوسَى وَمن مَعَه أَجْمَعِينَ (65) والإغراق إهلاك بغمر المَاء.

67

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَة} أَي: لعبرة. وَقَوله: (وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين) أَي: بمصدقين، والمارد بِهِ قوم فِرْعَوْن، وروى أَنه لم يُؤمن [من] قوم فِرْعَوْن إِلَّا [أسية] امْرَأَته [وحزقيل] ، وماشطة بنت فِرْعَوْن، والعجوز الَّتِي دلّت على عِظَام يُوسُف.

68

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} الْعَزِيز هُوَ الْقَادِر الَّذِي لَا يُمكنهُ معازته أَي: مغالبته، وَالله تَعَالَى عَزِيز، وَهُوَ فِي وصف عزته رَحِيم.

69

قَوْله تَعَالَى: {واتل عَلَيْهِم نبأ إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَا تَعْبدُونَ} مَعْنَاهُ: أَي شَيْء تَعْبدُونَ؟ ! .

71

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا نعْبد أصناما فنظل لَهَا عاكفين} أَي: فنقيم على عبادتها، يُقَال: ظلّ فلَان يفعل كَذَا أَي: أَقَامَ عَلَيْهِ يَفْعَله بِالنَّهَارِ.

72

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ هَل يسمعونكم} مَعْنَاهُ: هَل يسمعُونَ صوتكم ودعاءكم؟ وَقُرِئَ فِي الشاذ: " هَل يسمعونكم " بِرَفْع الْيَاء.

73

وَقَوله: {أَو ينفعوكم} أَي: بالرزق. وَقَوله: {أَو يضرون} أَي: يضرونكم إِن تركْتُم عبادتها.

74

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بل وجدنَا آبَاءَنَا كَذَلِك يَفْعَلُونَ} مَعْنَاهُ: أَنَّهَا لَا تسمع أقوالنا، وَلَا تجلب إِلَيْنَا نفعا، وَلَا تدفع عَنَّا ضرا، لَكِن اقتدينا بِآبَائِنَا، وَاسْتدلَّ أهل الْعلم بِهَذَا على أَن التَّقْلِيد لَا يجوز.

75

قَوْله: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ أَنْتُم وآبائكم الأقدمون} أَي: الْأَولونَ.

77

وَقَوله: {فَإِنَّهُم عَدو لي} أَي: أَعدَاء لي.

{ثمَّ أغرقنا الآخرين (66) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (67) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (68) واتل عَلَيْهِم نبأ إِبْرَاهِيم (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَا تَعْبدُونَ (70) قَالُوا نعْبد أصناما فنظل لَهَا عاكفين (71) قَالَ هَل يسمعونكم إِذْ تدعون (72) أَو ينفعوكم أَو يضرون (73) قَالُوا بل وجدنَا آبَاءَنَا كَذَلِك يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ (75) أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون (76) فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين (77) الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين (78) وَالَّذِي هُوَ يطمعني قَوْله: {إِلَّا رب الْعَالمين} اخْتلف القَوْل فِيهِ: فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنهم كَانُوا يعْبدُونَ الْأَصْنَام مَعَ الله تَعَالَى، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: كل من تَعْبدُونَ أَعدَاء لي إِلَّا رب الْعَالمين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنَّهُم عَدو لي، لَكِن رب الْعَالمين وليي، فَإِن قيل: كَيفَ تكون الْأَصْنَام أَعدَاء لَهُ وَهِي جمادات، والعداوة لَا تُوجد إِلَّا من حَيّ عَاقل؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالُوا: إِن هَذَا من المقلوب وَمَعْنَاهُ: فَإِنِّي عَدو لَهُم، وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: فَإِنَّهُم عَدو لي أَي: لَا أتوهم، وَلَا اطلب من جهتهم نفعا، كَمَا لَا يتَوَلَّى الْعَدو وَلَا يطْلب من جِهَته النَّفْع.

78

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلقني فَهُوَ يهدين} أَي: يرشدني إِلَى طَرِيق النجَاة.

79

وَقَوله: {وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين} أَي: يغدى لي بِالطَّعَامِ وَالشرَاب، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن طَعَامي وشرابي من جِهَته، ورزقي من قبله، وَقد قَالَ بعض أَصْحَاب الخواطر: يطعمني طَعَام الْمَوَدَّة، ويسقني بكأس الْمحبَّة، وَقيل: يطعمني ذوق الْإِيمَان، ويسقيني بِقبُول الطَّاعَة.

80

وَقَوله: {وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين} ذكر إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا يرَوْنَ الْمَرَض من الأغذية، والشفاء من الْأَدْوِيَة، وَقَوله: {وَإِذا مَرضت} هُوَ اسْتِعْمَال أدب، وَإِلَّا فالممرض والشافي هُوَ الله تَعَالَى بِإِجْمَاع أهل الدّين، وَقَالَ بعض أَصْحَاب الخواطر: وَإِذا مَرضت بالخوف؛ يشفيني بالرجاء، وَقيل: إِذا مَرضت بالطمع؛ يشفيني بالقناعة.

{ويسقين (79) وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين (80) وَالَّذِي يميتني ثمَّ يحيين (81) وَالَّذِي أطمع أَن يفغر لي خطيئتي يَوْم الدّين (82) رب هَب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين (84) واجعلني من وَرَثَة جنَّة النَّعيم (85)

81

وَقَوله: {وَالَّذِي يميتني} يَعْنِي: يميتني فِي الدُّنْيَا، [و] يحييني فِي الْآخِرَة. وَقَالَ بعض أَصْحَاب الخواطر: يميتني بِرُؤْيَة الْخلق، ويحييني بِشَهَادَة الْحق، وَقيل: يميتني بالمعصية ويحييني بِالطَّاعَةِ.

82

وَقَوله: {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي خطيئتي يَوْم الدّين} أَي: أَرْجُو أَن يغْفر لي خطاياي، وخطاياه مَا ذكرنَا من كذباته الثَّلَاث، وَاعْلَم أَن الْأَنْبِيَاء معصومون من الْكَبَائِر، فَأَما الْخَطَايَا والصغائر تجوز عَلَيْهِم. وَقَوله: {يَوْم الدّين} أَي: يَوْم الْحساب، وَذكر مُسلم فِي الصَّحِيح براوية عَائِشَة " أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن عبد الله بن جدعَان كَانَ يقري الضَّيْف، وَيحمل الْكل، وَذكرت أَشْيَاء من أَعمال الْخَيْر، أهوَ فِي الْجنَّة أم فِي النَّار؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " هُوَ فِي النَّار، إِنَّه لم يقل يَوْمًا: رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين ".

83

قَوْله تَعَالَى: {رب هَب لي حكما} أَي: الْعلم والفهم، وَقيل: إِصَابَة الْحق. وَقَوله: {وألحقني بالصالحين} أَي: من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ.

84

وَقَوله: {وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين} أَي: ثَنَاء حسنا إِلَى قيام السَّاعَة، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ تولي جَمِيع أهل الْأَدْيَان لَهُ، وَقبُول كل النَّاس إِيَّاه، وَيُقَال: إِن مَعْنَاهُ: اجْعَل فِي ذريتي من يقوم بِالْحَقِّ إِلَى قيام السَّاعَة.

85

وَقَوله: {واجعلني من وَرَثَة جنَّة النَّعيم} أَي: مِمَّن تعطيه جنَّة النَّعيم.

{واغفر لأبي إِنَّه كَانَ من الضَّالّين (86) وَلَا تخزني يَوْم يبعثون (87) يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون (88) إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم (89) وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين (90) وبرزت الْجَحِيم للغاوين (91) وَقيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ (92) من دون الله هَل ينصرونكم أَو ينتصرون (93) فكبكبوا فِيهَا هُوَ والغاوون (94) وجنود إِبْلِيس

86

وَقَوله: {واغفر لأبي إِنَّه كَانَ من الضَّالّين} قَالَ أهل الْعلم: هَذَا قبل أَن يتبرأ مِنْهُ، ويستقين أَنه عَدو لله، على مَا ذَكرْنَاهُ فِي سُورَة التَّوْبَة، وَقَالَ بَعضهم: واغفر لأبي أَي: جِنَايَته على، كَأَنَّهُ أسقط حَقه وَعَفا عَنهُ. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - يتَعَلَّق بِأَبِيهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَيَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، وأنجز لي مَا وَعَدتنِي، فيحول الله صُورَة أَبِيه إِلَى صُورَة ذبح، هُوَ ضبيع قَبِيح، فَإِذا رَآهُ إِبْرَاهِيم تَركه، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بِأبي.

87

وَقَوله: {وَلَا تخزني يَوْم يبعثون} أَي: لَا تفضحني، وَذَلِكَ بِأَن لَا يغْفر خطيئته، وكل من لم يغْفر لَهُ الله فقد أَخْزَاهُ.

88

وَقَوله {يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم} قَالَ أَكثر أهل الْعلم: سليم من الشّرك، فَإِن الْآدَمِيّ لَا يَخْلُو من ذَنْب، وَقيل: مخلص، وَقيل: نَاصح، وَقيل: قلب فِيهِ لَا إِلَه إِلَّا الله.

90

وَقَوله: {وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين} أَي: قربت، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْجنَّة أقرب إِلَى أحدكُم من شِرَاك نَعله، وَالنَّار مثل ذَلِك ".

91

وَقَوله: {وبرزت الْجَحِيم} أَي: أظهرت الْجَحِيم. {للغاوين} أَي: للْكَافِرِينَ، والغاوي من وَقع فِي خيبة لَا رَجَاء فِيهَا.

92

قَوْله تَعَالَى: {وَقيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ من دون الله هَل ينصرونكم} أَي: يمْنَعُونَ الْعَذَاب عَنْكُم.

{أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وهم فِيهَا يختصمون (96) تالله إِن كُنَّا لفي ضلال مُبين (97) إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين (98) وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون (99) فَمَا لنا من شافعين (100) وَلَا صديق حميم (101) فَلَو أَن لنا كرة فنكون من الْمُؤمنِينَ (102) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا وَقَوله: {أَو ينْصرُونَ} أَي: يمتنعون.

94

وَقَوله: {فكبكبوا فِيهَا هم} قَالَ القتيبي: طرح بَعضهم على بعض. وَقيل: دهوروا، ودهدهوا، ودهدوا، وَقيل: نكسوا فِيهَا، وَيُقَال: كَانَ فِي الأَصْل كببوا، فأدخلت الْكَاف فِيهِ فَصَارَ كبكبوا. وَقَوله: {هُوَ الْغَاوُونَ} أَي: الشَّيَاطِين مَعَهم، وَيُقَال: من اتَّبَعُوهُمْ فِي الشّرك.

95

وَقَوله: {وجنود إِبْلِيس أَجْمَعُونَ} أَي: ذُريَّته.

96

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا وهم فِيهَا يختصمون} أَي: يُجَادِل بَعضهم بَعْضًا.

97

وَقَوله: {تالله إِن كُنَّا لفي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ بَين.

98

وَقَوله: {إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين} هَذَا قَوْلهم للأصنام وَمَعْنَاهُ: نعدلكم بِرَبّ الْعَالمين.

99

وَقَوله: {وَمَا أضلنا إِلَّا المجرمون} أَي: القادة، وَيُقَال: إِبْلِيس وَابْن آدم الْكَافِر، وَهُوَ قابيل.

100

وَقَوله: {فَمَا لنا من شافعين} فِي الْأَخْبَار: أَن الْمُؤمنِينَ يشفعون للمذنبين، وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَة والأنبياء.

101

وَقَوله: {وَلَا صديق حميم} أَي: صديق خَاص، وَقيل: صديق قريب، وسمى حميما؛ لِأَنَّهُ يحمٌ لَك ويغضب لِأَجلِك، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: استكثروا من الأصدقاء الْمُؤمنِينَ، فَإِن لَهُم شَفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة. وَالصديق هُوَ الصَّادِق فِي الْمَوَدَّة على شَرط الدّين، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي بِرِوَايَة جَابر: " أَن الْمُؤمن يدْخل الْجنَّة وَيَقُول: أَيْن صديقي فلَان؟ فَيُقَال: هُوَ فِي النَّار بِذَنبِهِ، فَيشفع لَهُ فيخرجه الله من النَّار

{كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (103) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (104) كذبت قوم نوح الْمُرْسلين (105) إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح إِلَّا تَتَّقُون (106) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (107) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (108) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من اجْرِ إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين بِشَفَاعَتِهِ ".

102

وَقَوله: {فَلَو أَن لنا كرة} أَي: رَجْعَة. وَقَوله: {فنكون من الْمُؤمنِينَ} وَإِذا كُنَّا مُؤمنين فَيكون لنا شُفَعَاء أَيْضا كَمَا للْمُؤْمِنين شُفَعَاء.

103

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} قد بَينا معنى الْكل.

105

قَوْله تَعَالَى: {كذبت قوم نوح الْمُرْسلين} قَالَ ابْن عَبَّاس: نوح أول رَسُول أرسل الله تَعَالَى وَهَذَا مَحْمُول على أَنه أول رَسُول أرْسلهُ الله تَعَالَى بعد آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَهُوَ صَاحب شَرِيعَة، وَإِنَّمَا ذكر الْمُرْسلين؛ لِأَن من كذب رَسُولا فقد كذب جَمِيع الرُّسُل.

106

وَقَوله: {إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم نوح} يَعْنِيك أَنه أخوهم فِي النّسَب. وَقَوله: {أَلا تَتَّقُون} أَي: أَلا تتقوا الله.

107

وَقَوله: {إِنِّي لكم رَسُول أَمِين} أَي: أَمِين فِيمَا بَيْنكُم وَبَين الله تَعَالَى، وَفِي بعض التفاسير: أَن نوحًا كَانَ يُسمى الْأمين قبل أَن يَبْعَثهُ الله.

108

وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} أَي: اتَّقوا الله بترك الشّرك، وأطيعون فِيمَا آمركُم [بِهِ] .

109

وَقَوله: {وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر} أَي: من جعل. وَقَوله: {إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين} أَي: ثوابي، قَالَ أهل الْعلم: وَلَا يجوز

( {109) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (110) قَالُوا نؤمن لَك واتبعك الأرذلون (111) قَالَ وَمَا علمي بِمَا كَانُوا يعلمُونَ (112) إِن حسابهم إِلَّا على رَبِّي لَو تشعرون (113) وَمَا أَنا بطارد الْمُؤمنِينَ (114) إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين (115) قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا نوح لتكونن من المرجومين (116) قَالَ رب إِن قومِي كذبون (117) فافتح بيني وَبينهمْ فتحا ونجني وَمن معي من الْمُؤمنِينَ (118) فأنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك المشحون (119) ثمَّ أغرقنا للنَّبِي أَن يَأْخُذ جعلا على النُّبُوَّة؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تنفير النَّاس عَن قبُول الْإِيمَان، وَيجوز أَن يَأْخُذ الْهَدِيَّة؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى التنفير.

110

وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} أَعَادَهُ تَأْكِيدًا.

111

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أنؤمن لَك واتبعك الأرذلون} فِي التَّفْسِير: أَنهم الحاكة، والحجامون، والأساكفة وَمن أشبههم، وَقيل: إِنَّهُم أسافل النَّاس.

112

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمي بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} قَالَ الزّجاج: الصناعات لَا تُؤثر فِي الديانَات، وَمعنى قَول نوح أَنه لَا علم لي بصناعتهم، وَإِنَّمَا أمرت أَن أدعوهم إِلَى الله، فَمن أجَاب قبلته فَهَذَا معنى

113

قَوْله: {إِن حسابهم إِلَّا على رَبِّي لَو تشعرون وَمَا أَنا بطارد الْمُؤمنِينَ إِن أَنا إِلَّا نَذِير مُبين} . وَقَوله: {إِن حسابهم} أَي: أَعْمَالهم {إِلَّا على رَبِّي لَو تشعرون} أَي: لَو تعلمُونَ.

116

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا نوح لتكونن منم المرجومين} أَي: المقتولين بِالْحِجَارَةِ، وَقَالَ السّديّ وَغَيره: من المشتومين.

117

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِن قومِي كذبون فافتح بيني وَبينهمْ فتحا} . أَي: اقْضِ بيني وَبينهمْ بِقَضَائِك. تَقول الْعَرَب: أحاكمك إِلَى الفتاح أَي: إِلَى القَاضِي، قَالَ الشَّاعِر: (أَلا أبلغ بني حكم رَسُولا ... بِأَنِّي عَن فتاحتهم غَنِي)

{بعد البَاقِينَ (120) إِن فِي ذَلِك لِلْآيَةِ وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (121) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (122) كذبت عَاد الْمُرْسلين (123) إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم هود أَلا تَتَّقُون (124) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (125) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (126) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين (127) أتبنون بِكُل ريع آيَة تعبثون (128) وتتخذون مصانع وَقَوله: {ونجني وَمن معي من الْمُؤمنِينَ} قد بَينا عدد من كَانَ مَعَه من الْمُؤمنِينَ.

119

قَوْله تَعَالَى: {فأنجيناه وَمن مَعَه فِي الْفلك المشحون} أَي: الموفر المملوء، وَقد بَينا صفة الْفلك وَمن كَانَ فِيهِ.

120

وَقَوله: {ثمَّ أغرقنا بعد البَاقِينَ} أَي: بعد إنجائه أغرقنا البَاقِينَ أَي: من بَقِي من قومه.

121

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} ظَاهر الْمَعْنى إِلَى قَوْله: {كذبت عَاد الْمُرْسلين} .

124

وَقَوله: {إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم هود} أَي: أخوهم فِي النّسَب. وَقَوله: {أَلا تَتَّقُون} قد بَينا إِلَى قَوْله: {إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين} .

128

قَوْله تَعَالَى: {أتبنون بِكُل ريع} فِي الرّيع قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْمَكَان الْمُرْتَفع، وَالْآخر: أَنه الطَّرِيق الْوَاسِع بَين الجبلين. وَقَوله: {آيَة} أَي: عَلامَة، وَقيل: بنيانا. وَفِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا يبنون على الْمَوَاضِع المرتفعة ليظهروا قوتهم ويتفاخروا بِهِ عَن النَّاس، وَعَن مُجَاهِد: أَن معنى الْآيَة: برج الْحمام، وَفِي الْقِصَّة: أَن قوم فِرْعَوْن كَانُوا يَلْعَبُونَ بالحمام، وَكَذَلِكَ قوم عَاد. وَقَوله: {تعبثون} أَي: تلعبون.

129

قَوْله تَعَالَى: {وتتخذون مصانع} المصانع: جمع مصنعة؛ وَهِي الْحَوْض وَمَوْضِع المَاء، وَيُقَال: المصانع هَاهُنَا هِيَ الْحُصُون المشيدة، قَالَ الشَّاعِر:

{لَعَلَّكُمْ تخلدون (129) وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (131) وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تعلمُونَ (132) أمدكم بأنعام وبنين (133) وجنات وعيون (134) إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم (135) قَالُوا سَوَاء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين (136) إِن هَذَا إِلَّا خلق الْأَوَّلين (137) وَمَا نَحن بمعذبين (138) فَكَذبُوهُ (تركنَا (دِيَارهمْ مِنْهُم قفارا ... وهدمنا المصانع والبروجا} وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تخلدون} أَي: كأنكم تخلدون، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " كأنكم خَالدُونَ "، وَيُقَال: طامعين فِي الخلود.

130

قَوْله تَعَالَى: وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين الْبَطْش هُوَ العسف (بِالْقَتْلِ) بِالسَّيْفِ وَالضَّرْب بِالسَّوْطِ، والجبار هُوَ العاتي على غَيره بِعظم سُلْطَانه، وَهُوَ فِي وَوصف الله مدح، وَفِي وصف الْخلق ذمّ، وَيُقَال: الْجَبَّار من يقتل على الْغَضَب.

131

وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} قد بَينا.

132

قَوْله: {وَاتَّقوا الَّذِي أمدكم بِمَا تعلمُونَ أمدكم بأنعام وبنين} هَذَا تَفْسِير مَا ذكره أَولا من قَوْله: (أمدكم بِمَا تعلمُونَ) .

134

وَقَوله: (وجنات وعيون) أَي: بساتين وأنهار.

135

وَقَوله: {إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم} أَي: شَدِيد.

136

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سَوَاء علينا} أَي: مستو عندنَا. {أوعظت أم لم تكن من الواعظين} الْوَعْظ كَلَام يلين الْقلب بِذكر الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد.

137

وَقَوله: {إِن هَذَا} أَي: مَا هَذَا. {إِلَّا خلق الْأَوَّلين} أَي: اخْتِلَاق الْأَوَّلين وكذبهم.

{فأهلكناهم إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (139) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (140) كذبت ثَمُود الْمُرْسلين (141) إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم صَالح أَلا تَتَّقُون (142) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (143) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (144) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين (145) أتتركون فِي مَا هَاهُنَا آمِنين (146) فِي جنَّات وعيون (147) وقرى: " إِن هَذَا إِلَّا خلق الْأَوَّلين " بِضَم الْخَاء وَاللَّام أَي: عَادَتهم ودأبهم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أمرنَا كأمر الْأَوَّلين؛ نَعِيش وَنَمُوت.

138

وَقَوله: {وَمَا نَحن بمعذبين} قَالُوا هَذَا إِنْكَار لما وعدهم هود من الْعَذَاب.

139

وَقَوله: {فَكَذبُوهُ فأهلكناهم} ظَاهر الْمَعْنى إِلَى قَوْله: {إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين} .

146

قَوْله تَعَالَى: {أتتركون فِيمَا هَاهُنَا آمِنين} يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا آمِنين من الْعَذَاب.

147

وَقَوله: {فِي جنَّات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم} قَالَ الْأَزْهَرِي: الهضيم هُوَ الدَّاخِل بعضه فِي بعض من النضج والنعامة، وَيُقَال: هُوَ اللين الرطب، وَيُقَال: هُوَ الرخو الَّذِي إِذا مَسّه الْإِنْسَان تفتت، وَقيل: هُوَ المذنب، وَهُوَ الَّذِي نضج بعضه من قبل الذَّنب، وَيُقَال هضيم أَي: الهاضم كَأَنَّهُ يهضم الطَّعَام. وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول: فِي وعظه: ابْن آدم، تَأْكُل كَذَا وَكَذَا ثمَّ تَقول: يَا جَارِيَة، هَاتِي الهاضوم، إِنَّه يهضم دينك لَا طَعَامك.

149

قَوْله تَعَالَى: {وتنحتون من الْجبَال بُيُوتًا فارهين} أَي: حاذقين، وَيُقَال: معجبين بِمَا نلتم، وَقُرِئَ: " فرهين " أَي: فرحين، وَقيل: شرهين، قَالَ الشَّاعِر: (لَا أستكين إِذا مَا أزمة أزمت ... وَلنْ تراني بِخَير فاره الطّلب) وَيُقَال: الفاره والفره بِمَعْنى وَاحِد.

150

وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} إِلَى قَوْله: {لَا يصلحون} ظَاهر الْمَعْنى، وَالْمرَاد مِنْهُ: لَا تتبعوا قادتكم فِي الشّرك.

وزروع ونخل طلعها هضيم (148) وتنحتون من الْجبَال بُيُوتًا فارهين (149) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (150) وَلَا تطيعوا أَمر المسرفين (151) الَّذين يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين (153) مَا أَنْت إِلَّا بشر مثلنَا فأت بِآيَة إِن كنت من الصَّادِقين (154) قَالَ هَذِه نَاقَة لَهَا شرب وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم (155) وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب يَوْم عَظِيم (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبحُوا نادمين (157)

153

{قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين} أَي: سحرت مرّة بعد مرّة، وَيُقَال: {من المسحرين} أَي: من الْبشر وَهُوَ الَّذِي لَهُ سحر وَهُوَ الرئة، وَيُقَال: فلَان مسحر أَي: مُعَلل بِالطَّعَامِ وَالشرَاب، قَالَ الشَّاعِر: (أرانا موضِعين لحتم غيب ... ونسحر بِالطَّعَامِ (وَالشرَاب)) وَقَالَ آخر: (فَإِن تسألينا فيمَ نَحن فإننا ... عصافير من هَذَا الْأَنَام المسحر) أَي: الْمُعَلل بِالطَّعَامِ وَالشرَاب.

154

قَوْله تَعَالَى: {مَا أَنْت إِلَّا بشر مثلنَا فأت بِآيَة إِن كنت من الصَّادِقين} قد ذكرنَا أَنهم طلبُوا نَاقَة حَمْرَاء عشراء، تخرج من صَخْرَة وتلد سقيا فِي الْحَال.

155

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَذِه نَاقَة لَهَا شرب وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم} فِي الْقِصَّة: أَن النَّاقة كَانَت تشرب مَاء الْبِئْر يَوْمًا فِي أول النَّهَار، وتسقيهم لَبَنًا فِي آخر النَّهَار، وَكَانَ عظم النَّاقة [ميلًا] فِي ميل، وَكَانَت إِذا شربت تُؤثر أضلاع جنبها فِي الْجَبَل.

156

وَقَوله: {وَلَا تمسوها بِسوء فيأخذكم عَذَاب يَوْم عَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

157

قَوْله تَعَالَى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبحُوا نادمين} وسنبين من عقرهَا فِي سُورَة النَّمْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

158

وَقَوله: {فَأَخذهُم الْعَذَاب} ظَاهر إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن أجري إِلَّا على رب

{فَأَخذهُم الْعَذَاب إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (158) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (159) كذبت قوم لوط الْمُرْسلين (160) إِذْ قَالَ لَهُم أخوهم لوط أَلا تَتَّقُون (161) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (162) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (163) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين (164) أتأتون الذكران من الْعَالمين (165) وتذرون مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم بل أَنْتُم قوم عادون (166) قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا لوط لتكونن من المخرجين (167) قَالَ إِنِّي لعملكم من القالين (168) رب نجني وَأَهلي مِمَّا يعْملُونَ (169) فنجيناه وَأَهله أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوز فِي الغابرين (171) ثمَّ دمرنا الْعَالمين} فِي قصَّة لوط صلوَات الله عَلَيْهِ.

165

قَوْله تَعَالَى: {أتأتون الذكران من الْعَالمين} فِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا يعْملُونَ هَذَا الْعَمَل الْقَبِيح مَعَ النِّسَاء قبل الرِّجَال أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ عدلوا إِلَى الرِّجَال.

166

وَقَوله: {وتذرون مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " مَا أصلح لكم ربكُم من أزواجكم " وَفِي التَّفْسِير: أَن مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم مَعْنَاهُ: الْقبل وَهُوَ فرج النِّسَاء. قَوْله: {بل أَنْتُم قوم عادون} أَي: ظَالِمُونَ مجاوزون الْحَد.

167

قَوْله: {قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا لوط لتكونن من المخرجين} أَي: من الْقرْيَة.

168

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ إِنِّي لعملكم من القالين} أَي: من المبغضين، وَقَالَ بَعضهم: (بقيت مَالِي وانحرفت عَن الْمَعَالِي ... وَلَقِيت أضيافي بِوَجْه قالي) قَالَ الصاحب تَرْجَمَة لقَوْل الأشتر النَّخعِيّ: بقيت، وَقُرِئَ: وانحرفت عَن الْعلَا، وَلَقِيت أضيافي بِوَجْه عبوس أَي: لم أشن على أبي هِنْد غَارة لم تخل يَوْمًا من نهاب نفوس.

169

قَوْله تَعَالَى: (رب نجني وَأَهلي مِمَّا يعْملُونَ) أَي: من الْعَمَل الْخَبيث.

170

قَوْله تَعَالَى: {فنجيناه وَأَهله أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوز فِي الغابرين فِيهِ قَولَانِ:

{الآخرين (172) وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فسَاء مطر الْمُنْذرين (173) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (174) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (175) كذب أَصْحَاب الأيكة الْمُرْسلين (176) إِذْ قَالَ لَهُم شُعَيْب أَلا تَتَّقُون (177) إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (178) فَاتَّقُوا الله وأطيعون (179) وَمَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين أَحدهمَا: أَنَّهَا كَانَت عَجُوز غابراً، على معنى أَن الزَّمَان مضى عَلَيْهَا وهرمت، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الغابرين بِمَعْنى البَاقِينَ يَعْنِي: أَن الْعَجُوز من أهل لوط بقيت فِي الْعَذَاب وَلم تنج.

172

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ دمرنا الآخرين} أَي: أهلكنا الآخرين.

173

وَقَوله: {وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فسَاء مطر الْمُنْذرين} قد بَينا أَن الله تَعَالَى أمطر عَلَيْهِم الْحِجَارَة بعد إهلاكهم.

174

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة} ظَاهر الْمَعْنى إِلَى قَوْله: {وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم} .

176

قَوْله تَعَالَى: {كذب أَصْحَاب الأيكة الْمُرْسلين} وَقُرِئَ: " ليكة الْمُرْسلين " بِفَتْح الْهَاء؛ فَمن قَرَأَ: " ليكة " جعلهَا اسْم بلد، وَهُوَ لَا ينْصَرف، وَمن قَرَأَ: " الأيكة " فَصَرفهُ؛ لِأَن مَا لَا ينْصَرف إِذا أَدخل عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام انْصَرف. والأيكة: الغيظة، وَيُقَال: الشّجر الملتف، وَفِي الْقِصَّة: أَن شجرهم كَانَ هُوَ الدوم، وَيُقَال: شجر الْمقل.

177

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لَهُم شُعَيْب أَلا تَتَّقُون} وَلم يذكر أخوهم هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ لم يكن أَخا لَهُم، وَلَا فِي النّسَب وَلَا فِي الدّين.

178

وَقَوله: (إِنِّي لكم رَسُول أَمِين) قد بَينا إِلَى قَوْله: {إِن أجري إِلَّا على رب الْعَالمين}

181

قَوْله تَعَالَى: (أَوْفوا الْكَيْل وَلَا تَكُونُوا من المخسرين) أَي: الناقصين لحقوق النَّاس، وَقَالَ يزِيد بن ميسرَة: كل ذَنْب يَرْجُو لَهُ الْمَغْفِرَة إِلَّا لحقوق النَّاس، فالرجاء فِيهِ أقل. وَقد بَينا فِي سُورَة هود أَن قوم شُعَيْب كَانُوا يخسرون فِي المكاييل، وَالْمرَاد من

( {180) أَوْفوا الْكَيْل وَلَا تَكُونُوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم (182) وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (183) وَاتَّقوا الَّذِي خَلقكُم والجبلة الْأَوَّلين (148) قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين (158) وَمَا أَنْت إِلَّا بشر مثلنَا وَإِن نظنك لمن الْكَاذِبين (186) فأسقط علينا كسفا من السَّمَاء إِن كنت من الصَّادِقين (187) قَالَ رَبِّي أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذبُوهُ فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلة إِنَّه

182

قَوْله تَعَالَى: {وزنوا بالقسطاس الْمُسْتَقيم} قَالَ الْحسن: القسطاس القبان. وَقيل: كل ميزَان يكون، وَيُقَال: هُوَ الْعدْل.

183

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تبخسوا النَّاس أشياءهم} يَعْنِي: لَا تنقصوا النَّاس حُقُوقهم. وَقَوله: {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} أى: لَا تبالغوا فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ.

184

وَقَوله تَعَالَى: {وَاتَّقوا الَّذِي خَلقكُم والجبلة الْأَوَّلين} أَي: خَلقكُم وَخلق الجبلة الْأَوَّلين، والجبلة: الْخَلِيفَة، قَالَ الشَّاعِر: (وَالْمَوْت أعظم حَادث ... فِيمَا يمر على الجبله) وَيُقَال: الجبلة بِضَم الْجِيم وَالْبَاء، وَفِي لُغَة بِغَيْر الْهَاء.

185

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْت من المسحرين} قد بَينا.

186

وَقَوله: {وَمَا أَنْت إِلَّا بشر مثلنَا وَإِن نظنك لمن الْكَاذِبين} ظَاهر الْمَعْنى.

187

قَوْله تَعَالَى: {فأسقط علينا كسفا من السَّمَاء، إِن كنت من الصَّادِقين} وَقُرِئَ: " كسفا " بِفَتْح السِّين، فَأَما قَوْله: " كسفا " بِسُكُون السِّين أَي: جانبا من السَّمَاء، وَأما قَوْله: كسفا أَي: قطعا، وَمَعْنَاهُ: قِطْعَة. قَالَ السّديّ: عذَابا من السَّمَاء.

188

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رَبِّي أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: هُوَ عَالم بأعمالكم، فَإِن أَرَادَ أَن يبقيكم، وَإِن أَرَادَ أَن يهلككم أهلككم.

189

قَوْله تَعَالَى: {فَكَذبُوهُ فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلة} فِي الْقِصَّة: أَنه أَخذهم حر عَظِيم، فَدَخَلُوا الأسراب تَحت الأَرْض، فَدخل الْحر فِي الأسراب وَأخذ بِأَنْفَاسِهِمْ.

{كَانَ عَذَاب يَوْم عَظِيم (189) إِن فِي ذَلِك لآيَة وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين (190) وَإِن رَبك لَهو الْعَزِيز الرَّحِيم (191) وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين (192) نزل بِهِ الرّوح الْأمين (193) على قَلْبك لتَكون من الْمُنْذرين (194) بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين (195) وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين (196) أَو لم يكن لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل (197) فَخَرجُوا إِلَى الصَّحرَاء، فَجَاءَت سَحَابَة حَمْرَاء، فَاجْتمعُوا تحتهَا مستغيثين ليستظلوا بهَا، فأمطرت السحابة عَلَيْهِم نَارا، فاضطرم الْوَادي عَلَيْهِم، فَكَانَ أَشد عَذَاب يُوجد فِي الدُّنْيَا.

190

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة} قد بَينا إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ.

192

قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لتنزيل رب الْعَالمين} أَي: الْقُرْآن.

193

وَقَوله: {نزل بِهِ الرّوح الْأمين} وَقُرِئَ: " نزل بِهِ الرّوح الْأمين " بِدُونِ التَّشْدِيد، وَالروح الْأمين هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَسمي [جِبْرِيل] أَمينا؛ لِأَنَّهُ أَمِين الله على وحيه، وَفِي بعض الْآثَار: أَنه يرفع سبعين ألف حجاب، وَيدخل بِغَيْر اسْتِئْذَان، فَهُوَ معنى الْأمين.

194

وَقَوله: {على قَلْبك} ذكر الْقلب هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِذا قرئَ عَلَيْهِ وعاه قلبه. وَقَوله: {لتَكون من الْمُنْذرين} أَي: المخوفين.

195

وَقَوله: {بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين} قَالَ ابْن عَبَّاس: بِلِسَان قُرَيْش، وَعَن بَعضهم: بِلِسَان جرهم، وَمِنْهُم أَخذ إِسْمَاعِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - الْعَرَبيَّة.

196

وَقَوله: {وَإنَّهُ لفي زبر الْأَوَّلين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن ذكر مُحَمَّد فِي زبر الْأَوَّلين أَي: فِي كتب الْأَوَّلين. وَالْقَوْل الآخر: ذكر إِنْزَال الْقُرْآن فِي (زبر) الْأَوَّلين، وَقد قَالُوا: إِن كليهمَا مارد.

197

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يكن لَهُم آيَة} قرئَ: آيَة بِالنّصب وَالرَّفْع، فَمن قَرَأَ بِالنّصب جعل آيَة خبر يكن، وَمَعْنَاهُ: أَو لم يكن لَهُم علم عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل آيَة أَي: عَلامَة، وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَجعل آيَة اسْم يكن، وَأما خَبره فَقَوله: {أَن يُعلمهُ} وَأما

{وَلَو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عَلَيْهِم مَا كَانُوا بِهِ مُؤمنين (199) كَذَلِك سلكناه فِي قُلُوب الْمُجْرمين (200) لَا يُؤمنُونَ بِهِ حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم (201) فيأتيهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (202) فيقولوا هَل نَحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204) عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل فِي هَذَا الْموضع فهم خَمْسَة نفر: عبد الله بن سَلام، وَابْن يَامِين، وثعلبة، وَأسد، وَأسيد. وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود: " أَو لَيْسَ لَهُم آيَة أَن يُعلمهُ عُلَمَاء بني إِسْرَائِيل ".

198

وَقَوله: {وَلَو نزلناه على بعض الأعجمين} الْفرق بَين العجمي والأعجمي، أَن العجمي هُوَ الَّذِي ينْسب إِلَى الْعَجم وَإِن كَانَ فصيحا، والأعجمي هُوَ الَّذِي لَا يفصح بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِن كَانَ عَرَبيا، وَقَالَ عبد الله بن مُطِيع فِي قَوْله: {على بعض الأعجمين} قَالَ: على دَابَّتي، وَمَعْنَاهُ أَن الدَّابَّة لَو تَكَلَّمت لما آمنُوا، وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد مِنْهُ بعض الْعَجم أَي: نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن بِغَيْر الْعَرَبيَّة.

199

وَقَوله: {فقرأه عَلَيْهِم مَا كَانُوا بِهِ مُؤمنين} أَي: لم يُؤمنُوا.

200

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك سلكناه} قَالَ الْحسن وَمُجاهد: أدخلنا الشّرك فِي قُلُوبهم. وَيُقَال: أدخلنا التَّكْذِيب فِي قُلُوبهم.

201

وَقَوله: {لَا يُؤمنُونَ بِهِ} أَي: بِالْقُرْآنِ. وَقَوله: {حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} أَي: عِنْد نزُول الْبَأْس.

202

وَقَوله: {فيأتيهم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة. وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ.

203

وَقَوله: {فيقولوا هَل نَحن منظرون} أَي: مؤخرون.

204

وَقَوله تَعَالَى: {أفبعذابنا يستعجلون} روى أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَات قَالُوا: مَتى هَذَا الْعَذَاب؟ أَو آتنا بِهَذَا الْعَذَاب، فَأنْزل الله تَعَالَى: {أفبعذابنا يستعجلون}

{أَفَرَأَيْت إِن متعناهم سِنِين (205) ثمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يوعدون (206) مَا أُغني عَنْهُم مَا كَانُوا يمتعون (207) وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إِلَّا لَهَا منذرون (208) ذكرى وَمَا كُنَّا ظالمين (209) وَمَا تنزلت بِهِ الشَّيَاطِين (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُم وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) أَنهم عَن السّمع لمعزولون (212)

205

وَقَوله تَعَالَى: (أَفَرَأَيْت إِن متعانهم سِنِين) قَالَ عِكْرِمَة: عمر الدُّنْيَا: وَعَن شريك ابْن عبد الله النَّخعِيّ قَالَ: هُوَ أَرْبَعُونَ سنة. وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنه لَيْسَ فِيهِ تَقْدِير، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ سِنِين كَثِيرَة، والامتاع هُوَ الْعَيْش بِمَا يلذ ويشتهي.

206

وَقَوله: {ثمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يوعدون} أَي: من الْعَذَاب.

207

وَقَوله: {مَا أُغني عَنْهُم مَا كَانُوا يمتعون} أَي: دفع عيشهم وتمتعهم بالدنيا من الْعَذَاب عَنْهُم.

208

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أهلكنا من قَرْيَة إِلَّا وَلها منذرون} هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} .

209

وَقَوله: {ذكرى} أَي: بعثنَا (الْمُنْذرين) تذكرة لَهُم. وَقَوله: {وَمَا كُنَّا ظالمين} مَعْلُوم الْمَعْنى.

210

قَوْله تَعَالَى: (وَمَا تنزلت بِهِ الشَّيَاطِين) كَانَ الْمُشْركُونَ يَقُولُونَ: إِن شَيْطَانا ينزل على مُحَمَّد فيلقنه الْقُرْآن، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.

211

وَقَوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُم} أَي: وَلَا يصلح لَهُم أَن ينزلُوا بِالْقُرْآنِ؛ لأَنهم لَيْسُوا بِأَهْل ذَلِك. وَقَوله: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أَي: لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْزَال الْوَحْي.

212

وَقَوله: {إِنَّهُم عَن السّمع لمعزولون} أَي: [لمحجوبون] ? فَإِنَّهُم حجبوا من

{فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين (213) وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين (214) } السَّمَاء وَمنعُوا بِالشُّهُبِ على مَا ذكرنَا من قبل.

213

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين} روى أَن الْمُشْركين قَالُوا لَهُ: ارْجع إِلَى دين آبَائِك، فَإِن أردْت المَال جَمعنَا لَك المَال، وَإِن أردْت الرِّئَاسَة قلدناك الرِّئَاسَة علينا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين} أَي: فِي النَّار.

214

وَقَوله تَعَالَى: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} روى الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب [وأبى] سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، عَن أبي هُرَيْرَة أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} قَالَ النَّبِي: " يَا معشر قُرَيْش، اشْتَروا انفسكم من الله تَعَالَى، وَلَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا بني عبد منَاف لَا أغْنى عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب، لَا أغْنى عَنْكُم من الله شَيْئا، يَا صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب، لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، يَا فَاطِمَة بنت مُحَمَّد، سليني من مَالِي مَا شِئْت، لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا جدى، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا أَبُو الْيَمَان، أخبرنَا شُعَيْب، عَن الزُّهْرِيّ ... الْخَبَر. وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة صعد رَسُول الله الصَّفَا ثمَّ قَالَ: يَا صَبَاحَاه فَاجْتمع عِنْده قُرَيْش، فَقَالُوا لَهُ: مَالك؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُم لَو قلت: إِن الْعَدو مصبحكم أَو ممسيكم، أَكُنْتُم تصدقونني؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: إِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد، قَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك، أَلِهَذَا دَعوتنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى:

{واخفض جناحك لمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ (215) فَإِن عصوك فَقل إِنِّي بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وتوكل على الْعَزِيز الرَّحِيم (217) الَّذِي يراك حِين تقوم (218) {تبت يدا أبي لَهب وَتب} ". وَالْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " اجْمَعْ لي بني عيد منَاف، فَجَمعهُمْ على فَخذ شَاة وَقَعْب من لبن، فَلَمَّا أكلُوا وَشَرِبُوا، قَالَ لَهُم رَسُول الله مَا قَالَ، ودعاهم إِلَى الله، فَقَامَ أَبُو لَهب وَقَالَ مَا ذكرنَا وَخَرجُوا ". وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن النَّبِي خص بني هَاشم وَبني عبد الْمطلب بِالدُّعَاءِ، وَقَالَ: " أَنْتُم خاصتي ".

215

وَقَوله: {واخفص جناحك لمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} أَي: ألن جَانِبك وَحسن خلقك.

216

وَقَوله: {فَإِن عصوك فَقل إِنِّي بَرِيء مِمَّا تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

217

قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الْعَزِيز الرَّحِيم} وَفِي مصحف الْمَدَنِيين والشاميين " فتوكل " بِالْفَاءِ، وَالْفَاء فِيهَا بِمَعْنى الْجَزَاء، وَمعنى ذَلِك: أَنهم إِذا عصوا فقابل عصيانهم بالتوكل عَليّ.

218

قَوْله: {الَّذِي يراك حِين تقوم} أَي: تقوم لدعائهم، وَقِرَاءَة الْقُرْآن عَلَيْهِم، وَيُقَال: تقوم من نومك للصَّلَاة، وَقيل: إِذا صليت وَحدك.

{وتقلبك فِي الساجدين (219) إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (220) هَل أنبئكم على من تنزل الشَّيَاطِين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السّمع وَأَكْثَرهم كاذبون (223) .

219

وَقَوله: {وتقلبك فِي الساجدين} [أَي:] إِذا صليت جمَاعَة، وَعَن ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ قَالَ: أخرجه من صلب نَبِي إِلَى صلب نَبِي إِلَى صلب نَبِي هَكَذَا إِلَى أَن جعله نَبيا، فَهَذَا معنى التقلب. والساجدون هم الْأَنْبِيَاء - صلوَات اللَّهُمَّ عَلَيْهِم - وَعَن مُجَاهِد قَالَ: معنى قَوْله: {وتقلبك فِي الساجدين} هُوَ تقلب الطّرف، وَقد كَانَ يرى من خَلفه مَا كَانَ يرى من قدامه.

220

وَقَوله: {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

221

قَوْله تَعَالَى: {هَل أنبئكم على من تنزل الشَّيَاطِين} أَي: هَل أخْبركُم، وَهِي جَوَاب لقَولهم: إِن شَيْطَانا ينزل عَلَيْهِ.

222

وَقَوله: {تنزل على كل أفاك أثيم} أَي: تتنزل، والأفاك هُوَ الشَّديد الْكَذِب، والأثيم هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِمَا يَأْثَم بِهِ ويقبح فعله.

223

قَوْله تَعَالَى: {يلقون السّمع} قَالَ أهل التَّفْسِير: المُرَاد مِنْهُ الكهنة، وَمعنى {يلقون السّمع} أَي: يَسْتَمِعُون إِلَى الشَّيَاطِين. وَقَوله: {وَأَكْثَرهم كاذبون} أَي: كلهم، وروى عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَت: قلت يَا رَسُول الله، إِن الْكُهَّان يخبرون بأَشْيَاء وَتَكون حَقًا؟ ! قَالَ: " تِلْكَ الْخَطفَة يَخْطفهَا الجنى، فيلقيها فِي سمع الكاهن، فيكذب مَعهَا مائَة كذب ". وَقد ذكرنَا انهم يسْتَرقونَ من الْمَلَائِكَة، ويعلوا بَعضهم بَعْضًا ثمَّ يرْمونَ بِالشُّهُبِ.

{وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ (224) ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) . وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور الْمَعْرُوف: أَن النَّبِي قَالَ: " من أَتَى كَاهِنًا أَو عرافا فَصدقهُ بِمَا يَقُولُونَ، فقد كفر بِمَا أنزل على مُحَمَّد ".

224

قَوْله تَعَالَى: {وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: المُرَاد من الشُّعَرَاء هم الشُّعَرَاء الَّذين كَانُوا يَهْجُونَ الْمُسلمين من الْكفَّار، ويسبون النَّبِي، وهم مثل: عبد الله بن الزِّبَعْرَى، وَأبي عزة الجُمَحِي، وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، وهبيرة بن وهب، وَمن أشبههم. وَقَوله تَعَالَى: {يتبعهُم الْغَاوُونَ} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الروَاة. وروى الضَّحَّاك عَنهُ: أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ الشَّاعِر أَن يتهاجيان فَيتبع هَذَا قوم، وَيتبع ذَاك قوم. وَعَن مُجَاهِد: الْغَاوُونَ هم الشَّيَاطِين، وَعَن بَعضهم: هم السُّفَهَاء من النَّاس. وَفِي الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " من مَشى سَبْعَة أَقْدَام إِلَى شَاعِر فَهُوَ من الغاوين " وَالْخَبَر غَرِيب.

225

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون} أى: فِي كل مرّة يفتنون، وَذكر الْوَادي على طَرِيق التَّمْثِيل، يُقَال: أَنا فِي وَاد، وَأَنت فِي وَاد، وَعَن قَتَادَة قَالَ: فِي وَاد يهيمون: أَن يمدحون بِالْبَاطِلِ ويذمون بِالْبَاطِلِ. قَالَ بَعضهم: إِن الشَّاعِر يمدح بالصلة، ويهجو بالحمية، ويتشبب بِالنسَاء، ويثير خاطره العشيق، وَقَالَ بَعضهم: فِي

{إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} كل وَاد يهيمون أَي: على حرف من حُرُوف الهجاء يصوغون القوافي، والهائم هُوَ الَّذِي ترك الْقَصْد فِي الْأَشْيَاء؛ يُقَال: هام فلَان على وَجهه إِذا لم يكن لَهُ مقصد صَحِيح يَقْصِدهُ وَيذْهب إِلَيْهِ.

226

قَوْله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} أَي: يكذبُون فِي شعرهم، وَيَقُولُونَ: فعلنَا كَذَا وَكَذَا وَلم يَفْعَلُوا، وَفِي بعض الْآثَار: أَن أَبَا محجن الثَّقَفِيّ قَالَ شعرًا وَأقر فِيهِ بِشرب الْخمر، فَأَرَادَ عمر أَن يحده، فَقَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - إِن كتاب الله يدْرَأ عَنهُ الْحَد، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: {وَأَنَّهُمْ يَقُولَن مَا لَا يَفْعَلُونَ} فَترك عمر حَده.

227

وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَؤُلَاءِ شعراء الْمُسلمين الَّذين كَانُوا يجتنبون شعراء الْجَاهِلِيَّة ويهجونهم، ويذبون عَن النَّبِي وَأَصْحَابه، وينافحون عَنْهُم، وهم مثل: حسان بن ثَابت، وَعبد الله بن رَوَاحَة، وَكَعب ابْن مَالك، وَمن أشبههم. وروى عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله، مَا تَقول فِي الشّعْر؟ فَقَالَ: " إِن الْمُسلم ليجاهد بِيَدِهِ وَلسَانه، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لكَأَنَّمَا ترمونهم بالنبال ". وروى شُعْبَة، عَن عدي بن ثَابت، عَن الْبَراء بن عَازِب أَن النَّبِي قَالَ لحسان بن ثَابت: " أهجم - أَو هاجهم - وروح الْقُدس مَعَك ". ذكره البُخَارِيّ فِي

{وَذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد مَا ظلمُوا الصَّحِيح. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، حَدثنِي جدي، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة ... الْخَبَر. وَعَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنهُ - أَنَّهَا قَالَت: الشّعْر كَلَام، فَمِنْهُ الْحسن وَمِنْه الْقَبِيح، فَخذ الْحسن ودع الْقَبِيح. وروى أبي بن كَعْب عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن من الشّعْر لحكمة ". وَعَن بَعضهم قَالَ: الشّعْر أدنى دَرَجَات الرفيع، وَأَرْفَع دَرَجَات الدنيء. وَعَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ " كَانَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول الشّعْر، وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول الشّعْر، وَكَانَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أشعر الثَّلَاثَة. وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} هم أَبُو بكر وَعمر - رَضِي الله عَنْهُم - وَهُوَ قَول غَرِيب. وَعَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِذا أَرَأَيْت الشَّيْخ ينشد الشّعْر فِي الْمَسْجِد، فاقرع رَأسه بالعصا. وَأما عبد الله بن عَبَّاس كَانَ ينشد الشّعْر فِي الْمَسْجِد ويستنشد، فروى أَنه دَعَا عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي واستنشده القصيدة الَّتِي أنشدها، فِي أَوله. (أَمن آل نعمى أَنْت غاد فمبكر ... غَدَاة غَد أَو رائح فمهجر) فأنشده ابْن أبي ربيعَة القصيدة إِلَى آخرهَا، وَهِي قريب من سبعين بَيْتا، ثمَّ إِن ابْن عَبَّاس أعَاد القصيدة جمعيها، وَكَانَ حفظهَا لمرة وَاحِدَة ثمَّ قَالَ: مَا رَأَيْت أروى من عمر، وَلَا أعلم من عَليّ. هَذِه الْحِكَايَة أوردهَا الْمبرد فِي مُشكل الْقُرْآن. قَوْله: {وَذكروا الله كثيرا} ظَاهر الْمَعْنى.

{وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون (227) وَقَوله: {وانتصروا من بعد مَا ظلمُوا} يَعْنِي: بِجَوَاب الْكفَّار عَن أشعارهم الَّتِي هجوا بهَا الْمُسلمين، قَالَ حسان بن ثَابت: (هجوت مُحَمَّدًا فأجبت عَنهُ ... وَعند الله فِي ذَاك الْجَزَاء) فَإِن أَبى ووالدتي وعرضي ... لعرض مُحَمَّد مِنْكُم وقاء) وَقَوله: {وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا} أَي: الْكفَّار الَّذين هجوا الْمُسلمين. وَقَوله: {أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون} أَي: أَي مرجع يرجعُونَ، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " أَي منفلت ينفلتون بِالْفَاءِ من الإنفلات والوقوع فِي الشَّيْء وَقد ذكر أَبُو بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - هَذِه الْآيَة فِي وَصِيَّة لعمر - رَضِي الله عَنهُ - حِين اسْتَخْلَفَهُ، فروى أَنه قَالَ لعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - أكتب: هَذَا مَا عهد أَبُو بكر عِنْد آخر عَهده بالدنيا وَأول عَهده بِالآخِرَة، حِين يُؤمن الْفَاجِر وَيصدق الْكَاذِب، إِنِّي اسْتخْلف عَلَيْكُم عمر بن الْخطاب، فَإِن بر وَصدق فَذَلِك ظَنِّي بِهِ، وَإِن غير وَبدل فالخير أردْت، وَلَا يعلم الْغَيْب إِلَّا الله، وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {طس تِلْكَ آيَات الْقُرْآن وَكتاب مُبين (1) هدى وبشرى للْمُؤْمِنين (2) الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَهُوَ بِالآخِرَة هُوَ يوقنون (3) إِن الَّذين لَا تَفْسِير سُورَة النَّمْل وَهِي مَكِّيَّة

النمل

قَوْله تَعَالَى: {طس} قد بَينا مَعْنَاهُ فِي السُّورَة الْمُتَقَدّمَة. وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْقُرْآن} أَي: هَذِه آيَات الْقُرْآن. {وَكتاب} أَي: وآيات كتاب مُبين، وَأما اشتقاق الْقُرْآن وَالْكتاب قد بَينا، قَالَ أهل الْمعَانِي: أظهر الْآيَات بِالْقِرَاءَةِ تَارَة، وبالكتبة تَارَة أُخْرَى، فالآيات مظهرة بِكَوْنِهَا كتابا، وبكونها قُرْآنًا.

2

قَوْله تَعَالَى: {هدى وبشرى للْمُؤْمِنين} أَي: هدى من الضَّلَالَة، وبشرى بالثواب وَهُوَ الْجنَّة، وَيُقَال: الْآيَات هادية مبشرة. وَقَوله: {للْمُؤْمِنين} أَي: للمصدقين.

3

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة} إِقَامَة الصَّلَاة أَدَاؤُهَا بفرائضها وسننها، وَقيل: إِقَامَة الصَّلَاة حفظ مواقيتها. وَقَوله: (وَيُؤْتونَ الزَّكَاة) أَي: يُعْطون الزَّكَاة، وَالزَّكَاة هِيَ زَكَاة المَال، وَقيل: زَكَاة الْفطر. وَقَوله: (وَهُوَ بِالآخِرَة هُوَ يوقنون) أَي: يصدقون.

4

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة زينا لَهُم أَعْمَالهم} الْأَكْثَرُونَ على أَنَّهَا أَعمال الْمعْصِيَة، وَقيل: أَعمال الطَّاعَات وَذَلِكَ بِإِقَامَة الدَّلِيل على حسنها. وَقَوله: {فهم يعمهون} أَي: يتحيرون ويترددون، وَيُقَال: يعمون.

{يُؤمنُونَ بِالآخِرَة زينا لَهُم أَعْمَالهم فهم يعمهون (4) أُولَئِكَ الَّذين لَهُم سوء الْعَذَاب وَهُوَ فِي الْآخِرَة هم الأخسرون (5) وَإنَّك لتلقي الْقُرْآن من لدن حَكِيم عليم (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهله إِنِّي آنست نَارا سآتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو آتيكم

5

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين لَهُم سوء الْعَذَاب} أَي: أشده. وَقَوله: {وهم فِي الْآخِرَة هم الأخسرون} أَي: حظا ونصيبا.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّك لتلقي الْقُرْآن من لدن حَكِيم عليم} أَي: تؤتي الْقُرْآن، وَقيل: تَأْخُذ الْقُرْآن، وَقيل: تلقن. وَقَوله: {من لدن حَكِيم عليم} أَي: من عِنْده.

7

قَوْله تَعَالَى: {إِذا قَالَ مُوسَى لأَهله إِنِّي آنست نَارا} أَي: أَبْصرت نَارا، وَمِنْه الْإِنْس سموا إنسا؛ لأَنهم مرئيون مبصرون، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى كَانَ أَخطَأ الطَّرِيق، وَذكر بَعضهم أَن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - كَانَ يرْعَى أغنامه على شَفير الْوَادي، فرأت الأغنام النَّار فَفَزِعت، وَتَفَرَّقَتْ وَلم يكن مُوسَى راءها، فصاح بهَا مُوسَى بالأغنام حَتَّى اجْتمعت ثمَّ تَفَرَّقت ثَانِيًا، فصاح بهَا حَتَّى اجْتمعت ثمَّ تَفَرَّقت ثَالِثا، فَنظر مُوسَى فَرَأى النَّار فَذهب مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فِي طلبَهَا. قَوْله تَعَالَى: {سآتيكم مِنْهَا بِخَبَر} أَي: بِخَبَر عَن الطَّرِيق. وَقَوله: {أَو آتيكم بشهاب قبس} قرئَ بِالتَّنْوِينِ، وَقُرِئَ على الْإِضَافَة: " بشهاب قبس " والشهاب والقبس مَعْنَاهُمَا متقاربان، فالعود إِذا كَانَ فِي أحد طَرفَيْهِ نَار، وَلَيْسَ فِي الطّرف الآخر نَار سمي: شهابا، وَيُسمى: قبسا، وَقَالَ بَعضهم: الشهَاب هُوَ شَيْء ذُو نور مثل العمود، وَالْعرب تسمي كل أَبيض ذِي نور: شهابا، والقبس هُوَ الْقطعَة من النَّار، قَالَ الشَّاعِر: (فِي كَفه صعدة مثقفة (لَهَا) سِنَان كشعلة القبس) وَأما قِرَاءَة التَّنْوِين فقد جعل القبس نعتا لِلشِّهَابِ، وَأما قِرَاءَة الْإِضَافَة هُوَ إِضَافَة

{بشهاب قبس لَعَلَّكُمْ تصطلون (7) فَلَمَّا جاءها نُودي أَن بورك من فِي النَّار وَمن لشَيْء إِلَى نَفسه، مثل قَوْله تَعَالَى: {ولدار الْآخِرَة} وَمثل قَوْلهم: يَوْم الْجُمُعَة، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تصطلون} فِيهِ دَلِيل على أَنهم كَانُوا شَاتين، وَإنَّهُ أَصَابَهُ الْبرد وَالْعرب تَقول: هَلُمَّ إِلَى الصلى والقرى.

8

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جاءها نُودي أَن بورك من فِي النَّار} قَالَ أهل التَّفْسِير: لم يكن مَا رَآهُ نَارا، بل كَانَ نورا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نَارا؛ لِأَن النَّار لَا تَخْلُو من النُّور؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي ظن مُوسَى أَنه نَار. وَقَوله: {من فِي النَّار} فِيهِ أَقْوَال: أَكثر الْمُفَسّرين على أَنه نور الرب، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير وَغَيرهم، وَذكر أَبُو بكر الْهُذلِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه الله تَعَالَى، وَذكر الْفراء أَن من فِي النَّار هُوَ الْمَلَائِكَة، وَمن حولهَا الْمَلَائِكَة أَيْضا (على القَوْل الأول، وَمن حولهَا الْمَلَائِكَة أَيْضا) . وَفِي الْآيَة قَوْله رَابِع: وَهُوَ أَن من فِي النَّار مُوسَى، فَإِن قيل: لم يكن مُوسَى فِي النَّار. قُلْنَا: قد كَانَ قَرِيبا من النَّار، وَالْعرب تسمي من قرب من الشَّيْء فِي الشَّيْء يَقُولُونَ: إِذا بلغت ذَات عرق فَأَنت فِي مَكَّة، قَالُوا هَذَا لأجل الْقرب من مَكَّة، ومُوسَى قد كَانَ قرب من النَّار فَجعله كَأَنَّهُ فِي النَّار. وَفِي الْآيَة قَول خَامِس: وَهُوَ أَن " من " بِمَعْنى " مَا " وَمعنى الْآيَة: أَن بوركت النَّار وَمَا حولهَا، وَذكر بَعضهم، أَن فِي قِرَاءَة أبي: " بوركت النَّار وَمن حولهَا " وَالْعرب تَقول: بَارك الله، وَبَارك الله عَلَيْك، وبورك فِيك بِمَعْنى وَاحِد. وَقَوله: {وَسُبْحَان الله رب الْعَالمين} نزه الله نَفسه، وَهُوَ المنزه عَن كل سوء

{حولهَا وَسُبْحَان الله رب الْعَالمين (8) يَا مُوسَى إِنَّه أَنا الله الْعَزِيز الْحَكِيم (9) وألق عصاك فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان ولى مُدبرا وَلم يعقب يَا مُوسَى لَا تخف إِنِّي وعيب.

9

قَوْله تَعَالَى: {يَا مُوسَى إِنَّه أَنا الله الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: إِنِّي أَنا الله الْعَزِيز الْحَكِيم. قَالَ الْفراء: الْهَاء عماد فِي هَذَا الْموضع.

10

قَوْله تَعَالَى: {وألق عصاك فَلَمَّا رَآهَا تهتز} أَي: تتحرك. وَقَوله: {كَأَنَّهَا جآن} الجآن هِيَ الْحَيَّة الصَّغِيرَة الَّتِي يكثر اضطرا بهَا، وَقد بَينا التَّوْفِيق بَين هَذِه الْآيَة وَبَين قَوْله: {فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} . وَقَوله: {ولى مُدبرا} : أَي: هرب، وَيُقَال: رَجَعَ إِلَى الطَّرِيق الَّتِي جَاءَ مِنْهَا. وَقَوله: {وَلم يعقب} أَي: لم يلْتَفت. وَقَوله: {يَا مُوسَى لَا تخف} (فِي بعض التفاسير: أَن مُوسَى لما فزع وهرب قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: {أقبل} فَلم يرجع، فَقَالَ: {لَا تخف} إِنَّك من الْآمنينَ) فَلم يرجع، فَقَالَ: {سنعيدها سيرتها الأولى} فَلم يرجع حَتَّى جعلهَا عَصا كَمَا كَانَت، ثمَّ رَجَعَ وَأَخذهَا، وَالله أعلم. قَوْله: {إِنِّي لَا يخَاف لَدَى المُرْسَلُونَ} يَعْنِي: إِذا أمنتهم، وَقيل: لَا يخَافُونَ من عقوبتي، فَإِنِّي لَا أعاقبهم. فَإِن قيل: أَلَيْسَ أَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء خَافُوا الله، وَقد كَانَ النَّبِي يخْشَى الله، وَقد قَالَ: " أَنا أخشاكم "؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْخَوْف الَّذِي هُوَ شَرط الْإِيمَان لَا يجوز

{لَا يخَاف لدي المُرْسَلُونَ (10) إِلَّا من ظلم ثمَّ بدل حسنا بعد سوء فَإِنِّي غَفُور رَحِيم (11) وَأدْخل يدك فِي جيبك تخرج بَيْضَاء من غير سوء فِي تسع آيَات إِلَى أَن يَخْلُو أحد مِنْهُ، فَأَما هَذَا الْخَوْف من الْعقُوبَة على الْكفْر والكبائر، وَالله تَعَالَى قد عصم الْأَنْبِيَاء من الْكفْر والكبائر.

11

وَقَوله: {إِلَّا من ظلم} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: وَلَا من ظلم {ثمَّ بدل حسنا بعد سوء} أَي: تَابَ وَنَدم، وَهَذَا القَوْل ضَعِيف عِنْد أهل النَّحْو، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة: إِنِّي لَا يخَاف لَدَى المُرْسَلُونَ وَإِنَّمَا يخَاف غير الْمُرْسلين، إِلَّا من ظلم ثمَّ بدل حسنا بعد سوء فَإِنَّهُ لَا يخَاف، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الِاسْتِثْنَاء هَا هُنَا مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن من ظلم فخاف فَإِن بدل حسنا بعد سوء فَإِنَّهُ لَا يخَاف. وَفِي بعض التفاسير: أَن المُرَاد بقوله: {إِلَّا من ظلم} هُوَ مُوسَى بقتْله القبطي، وَأما تبديله الْحسن بعد السوء تَوْبَته وندامته، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي} .

12

قَوْله تَعَالَى: {وَأدْخل يَديك فِي جيبك تخرج بَيْضَاء من غير سوء} قد بَينا، وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت تلألأ مثل الْبَرْق. وَقَوله: {فِي تسع آيَات} أَي: مَعَ تسع آيَات، وَقيل: من تسع آيَات، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: [وَهل] ينعمن من كَانَ آخر عَهده ... [ثَلَاثِينَ] شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال أَي: من ثَلَاثَة أَحْوَال. وَقَوله: {إِلَى فِرْعَوْن وَقَومه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين} أَي: خَارِجين من الطَّاعَة.

{فِرْعَوْن وَقَومه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُم آيَاتنَا مبصرة قَالُوا هَذَا سحر مُبين (13) وجحدوا بهَا واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين (14) وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد وَسليمَان علما وَقَالا الْحَمد لله الَّذِي

13

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُم آيَاتنَا مبصرة} أَي: بنية وَاضِحَة. قَوْله: {قَالُوا هَذَا سحر مُبين} أى: سحر ظَاهر.

14

قَوْله تَعَالَى: {وجحدوا بهَا} أَي: جحدوها، وَالْبَاء صلَة، وَقيل: جَحَدُوا بِالدّلَالَةِ الَّتِي ظَهرت مِنْهُمَا. وَقَوله: {واستيقنتها أنفسهم} يَعْنِي: وَقد علمُوا أَنَّهَا من قبل الله تَعَالَى. وَقَوله: {ظلما وعلوا} أَي: شركا وتكبرا. وَقَوله: {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المفسدين} ظَاهر الْمَعْنى.

15

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد وَسليمَان علما} أَي: علم الْقَضَاء وَعلم منطق الطير ومنطق الدَّوَابّ، وَعَن بَعضهم: علم الكيمياء، وَهُوَ قَول شَاذ. وَقَوله: {وَقَالا الْحَمد لله الَّذِي فضلنَا على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} قَالَ أهل التَّفْسِير: لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ وراثة المَال، وَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ إِرْث الْملك والنبوة، وَكَانَ دَاوُد ملكا نَبيا، [وَكَذَلِكَ] سُلَيْمَان ملكا نَبيا، وَأعْطى سُلَيْمَان مَا أعْطى دَاوُد من الْملك، وَزيد لَهُ تسخير الرّيح، وَلم يكن هَذَا لِأَبِيهِ، وَكَذَلِكَ تسخير الشَّيَاطِين. قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ لداود تِسْعَة عشر ولدا ذكرا، وَورث ملكه ونبوته سُلَيْمَان من بَينهم. وَفِي بعض المسانيد: عَن أبي هُرَيْرَة أَن الله تَعَالَى أَمر دَاوُد أَن يسْأَل سُلَيْمَان عَن عشر مسَائِل: فَإِن أجَاب فَهُوَ خَلِيفَته. وروى أَن الله تَعَالَى بعث إِلَى دَاوُد

{فضلنَا على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ (15) وَورث سُلَيْمَان دَاوُد وَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس بِصَحِيفَة مختومة فِيهَا جَوَاب الْمسَائِل فَجمع دَاوُد الْأَحْبَار والرهبان، وأحضر سُلَيْمَان وَسَأَلَهُ عَن الْمسَائِل، وَكَانَت الْمسَائِل الْعشْر أَن دَاوُد سَأَلَ سُلَيْمَان - صلوَات الله عَلَيْهِمَا - فَقَالَ: مَا أقرب الْأَشْيَاء؟ وَمَا أبعد الْأَشْيَاء؟ وَمَا آنس الْأَشْيَاء؟ وَمَا أوحش الْأَشْيَاء؟ وَمَا الشيئان القائمان؟ وَمَا الشيئان المختلفان؟ وَمَا الشيئان المتباغضان؟ [وَمَا الَّذِي إِذا اسْتعْمل فِي أول الشَّيْء حمد فِي آخِره؟] وَمَا الَّذِي إِذا اسْتعْمل فِي أول الشَّيْء ذمّ فِي آخِره؟ فَقَالَ: أما أقرب الْأَشْيَاء فالآخرة، وَأما أبعد الْأَشْيَاء فَالَّذِي فاتك من الدُّنْيَا، وَأما آنس الْأَشْيَاء فجسد فِيهِ روحه، وَأما أوحش الْأَشْيَاء فجسد لَا روح فِيهِ، وَأما الشيئان القائمان فالسماء وَالْأَرْض، وَأما الشيئان المختلفان فالليل وَالنَّهَار، وَأما الشيئان المتباغضان فالحياة وَالْمَوْت، وَأما الَّذِي إِذا اسْتعْمل فِي أول الشَّيْء حمد فِي آخِره، فالحلم عِنْد الْغَضَب، وَأما الَّذِي إِذا اسْتعْمل فِي أول الشَّيْء ذمّ فِي آخِره فالحدة عِنْد الْغَضَب، فَلَمَّا أجَاب سُلَيْمَان بِهَذِهِ الْأَجْوِبَة، فك الْخَتْم عَن الصَّحِيفَة الَّتِي بعثها الله تَعَالَى، فَإِذا الْأَجْوِبَة على وفْق مَا قَالَ سُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي هَذَا الْخَبَر: أَن سُلَيْمَان لما أجَاب بِهَذِهِ الْأَجْوِبَة سَأَلته الْأَحْبَار عَن مَسْأَلَة أُخْرَى فَقَالُوا: مَا الشَّيْء الَّذِي إِذا صلح صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فسد فسد الْجَسَد كُله؟ فَقَالَ: هُوَ الْقلب. فَقَالَت الْأَحْبَار لَهُ: حق لَك الْخلَافَة يَا سُلَيْمَان، فَحِينَئِذٍ اسْتَخْلَفَهُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام. فَإِن قيل: إِذا كَانَ دَاوُد اسْتَخْلَفَهُ، فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله تَعَالَى: {وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} ؟ قُلْنَا: المُرَاد من الْإِرْث هَاهُنَا هُوَ قِيَامه مقَام دَاوُد فِي الْملك والنبوة وَالْعلم، وَلَيْسَ المُرَاد من الْإِرْث الَّذِي يعلم فِي الْأَمْوَال، وَهَذَا مثل قَوْلهم: الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء، وَالْمرَاد مِنْهُ مَا بَينا.

{علمنَا منطق الطير وَقَوله: {وَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس علمنَا منطق الطير} سمى صَوته منطقا لحُصُول الْفَهم بِمَعْنَاهُ، كَمَا يفهم معنى كَلَام النَّاس، إِلَّا أَن صَوت الطير على صِيغَة وَاحِدَة، وأصوات النَّاس على صِيغ مُخْتَلفَة، وَيحْتَمل أَن ذَلِك فِي زمَان سُلَيْمَان خَاصَّة معْجزَة لَهُ أَنه جعل لأصواتهم مَعَاني مفهومة كَمَا يفهم النَّاس بَعضهم من بعض. وَقد روى نَافِع، عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: " الديك الْأَبْيَض صديقي، وصديق صديقي وعدو عدوى، فَقيل: يَا رَسُول الله، وماذا يَقُول؟ قَالَ: يَقُول اذْكروا الله يَا غافلين ". وَهَذَا خبر غَرِيب. وَفِي بعض المسانيد: أَن جمَاعَة من الْيَهُود أَتَوا عبد الله بن عَبَّاس: فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا سائلوك عَن أَشْيَاء فَإِن أجبتنا أسلمنَا، فَقَالَ: سلوا تفقها، وَلَا تسألوا تعنتا، فَقَالُوا: مَاذَا يَقُول القس فِي صفيره؟ والديك فِي صقيعه؟ والضفدع فِي نقيقه؟ وَالْحمار فِي نهيقه؟ وَالْفرس فِي صهيله؟ وماذا يَقُول الزرزور أَو الدراج؟ فَقَالَ: أما القس يَقُول: اللَّهُمَّ الْعَن مبغضي مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد، وَأما الديك يَقُول: اذْكروا الله يَا غافلين، وَأما الضفدع يَقُول: سُبْحَانَ المعبود فِي لجج الْبحار، وَأما الْحمار فَيَقُول: اللَّهُمَّ الْعَن العشارين، وَأما الْفرس إِذا حمحم عِنْد التقاء الصفين فَإِنَّهُ يَقُول: سبوح قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح، وَأما الزرزور فَإِنَّهُ يَقُول: اللَّهُمَّ أَسأَلك قوت يَوْم بِيَوْم يارزاق، وَأما

{وأوتينا من كل شَيْء إِن هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين (16) وَحشر لِسُلَيْمَان جُنُوده من الْجِنّ وَالْإِنْس وَالطير فهم يُوزعُونَ (17) الدراج فَيَقُول: الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى، قَالَ: فَأسلم الْيَهُود. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي الْحمار: " إِذا نهق فَإِنَّهُ قد رأى شَيْطَانا ". وَقَوله: {وأوتينا من كل شَيْء} أَي: من كل شَيْء يُؤْتى الْأَنْبِيَاء والملوك، وَقيل: إِنَّه قَالَ هَذَا على طَرِيق الْكَثْرَة وَالْمُبَالغَة، مثل قَول الْقَائِل: كلمت كل أحد فِي حَاجَتك. وَقَوله: {إِن هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين} أَي: الزِّيَادَة الظَّاهِرَة على جَمِيع الْخلق.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَحشر لِسُلَيْمَان جُنُوده} قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: كَانَ مُعَسْكَره مائَة فَرسَخ: خَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخا للإنس، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخا للجن، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخا للوحوش، وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ فرسخا للطيور. وَعَن سعيد بن جُبَير: كَانَ يوضع لِسُلَيْمَان سِتّمائَة ألف كرْسِي، يجلس الْإِنْس فِيمَا يَلِيهِ، ثمَّ يليهن الْجِنّ، ثمَّ تظلهم الطير ثمَّ تقلهم الرّيح. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا الديبلي، أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن سَلام، عَن سعيد بن جُبَير ... الْأَثر. وَقَوله: {فهم يُوزعُونَ} أَي: يساقون، وَقيل: يجمعُونَ، وَالْقَوْل الْمَعْرُوف: يكفون، وَمَعْنَاهُ: يكف أَوَّلهمْ حَتَّى يلْحق آخِرهم، قَالَ الشَّاعِر: (على حِين عاتبت المشيب على الصِّبَا ... فَقلت ألما أصح والشيب وازع) وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لابد للنَّاس من وزعة. قَالَ هَذَا حِين ولى الْقَضَاء، وازدحم عَلَيْهِ النَّاس. وَعَن عُثْمَان قَالَ: مَا يَزع السُّلْطَان أَكثر مِمَّا يَزع الْقُرْآن. وَمَعْنَاهُ: مَا يمْتَنع النَّاس مِنْهُ خوفًا من السُّلْطَان أَكثر مِمَّا يمْتَنع النَّاس مِنْهُ خوفًا من الْقُرْآن.

{حَتَّى إِذا أَتَوا على وَاد النَّمْل قَالَت نملة يَا أَيهَا النَّمْل أدخلُوا مَسَاكِنكُمْ وَعَن بَعضهم فِي الْفرق بَين عمر وَعُثْمَان: أَن عمر أَسَاءَ الظَّن فَشدد فِي الْأَمر فصلحت رَعيته، وَعُثْمَان أحسن الظَّن فساهل الْأَمر ففسدت رَعيته. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ على كل صنف من الْإِنْس وَالْجِنّ وَالطير وَالدَّوَاب لِسُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ، وزعة.

18

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا أَتَوا على وَاد النَّمْل} يُقَال: هُوَ وَاد بِالشَّام، وَقَالَ كَعْب: وَاد بِالطَّائِف. وَقَالَ بَعضهم: وَاد كَانَ سكنه الْجِنّ، وَأُولَئِكَ النَّمْل مراكبهم وَهِي كالذئاب. وَقيل: كالبخاتي، وَالْمَشْهُور أَنه النَّمْل الصَّغِير، وَسميت نملا لتنملها أَي: لِكَثْرَة حركتها. وَعَن عدي بن حَاتِم انه كَانَ يفت الْخبز للنمل. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهِ أَبُو على الشَّافِعِي بذلك الْإِسْنَاد، وَالَّذِي بَينا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مَسْعُود، عَن رجل، عَن عدي بن حَاتِم. وَقَوله: {قَالَت نملة} يحْتَمل أَن الله تَعَالَى خلق للنمل فِي ذَلِك الْوَقْت كلَاما مفهوما، والنمل عِنْد الْعَرَب من الحكل، والحكل مَالا صَوت لَهُ، قَالَ الشَّاعِر: (علم سُلَيْمَان الحكل) وَقَوله: {يَا أَيهَا النَّمْل ادخُلُوا مَسَاكِنكُمْ} وَلم يقل: ادخلي، وَحقّ اللُّغَة أَن يَقُول: ادخلي، وَإِنَّمَا يُقَال: ادخُلُوا لبني آدم، لكِنهمْ لما تكلمُوا بِمثل كَلَام الْآدَمِيّين خوطبوا مثل خطاب الْآدَمِيّين. وَقَوله: {لَا يحطمنكم} أَي: لَا يسكرنكم كسر الْهَلَاك , {سُلَيْمَان وَجُنُوده} (وَقيل: لَا يطأنكم، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَإِنَّمَا الرّيح كَانَت تحمل سُلَيْمَان

{لَا يحطمنكم سُلَيْمَان وَجُنُوده وهم لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا من قَوْلهَا وَجُنُوده} ? فَإِنَّهُ روى أَن سُلَيْمَان وَجُنُوده كَانُوا يَجْتَمعُونَ على بِسَاط، وَالرِّيح تحمل الْبسَاط؛ وَالْجَوَاب: يحْتَمل أَنه كَانَ فيهم مشَاة، وَكَانَت الأَرْض تطوى لَهُم، وَيحْتَمل أَن هَذَا كَانَ قبل تسخير الرّيح لِسُلَيْمَان وَالله أعلم. فَإِن قيل: لم يكن النَّمْل من الطير، وَهُوَ كَانَ تعلم منطق الطير؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قَالَ الشّعبِيّ: كَانَت نملا لَهَا أَجْنِحَة فَيكون طيراً. وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: علم النَّمْل أَن سُلَيْمَان ملك لَيْسَ لَهُ جبرية وظلم، وَمعنى الْآيَة: أَنكُمْ لَو لم تدْخلُوا المساكن وطئوكم، وَلم يشعروا بكم، وَلَو عرفُوا لم يطئوا، وَفِي الْقِصَّة [أَيْضا] : أَن سُلَيْمَان لما بلغ وَادي النَّمْل حبس جنده حَتَّى دخل النَّمْل بُيُوتهم، وَفِي الْقِصَّة أَيْضا: أَن سُلَيْمَان سمع كَلَام النَّمْل على ثَلَاثَة أَمْيَال، وَكَانَ الله تَعَالَى أَمر الرّيح أَن تَأتيه بِكُل خبر وكل كَلَام، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن النَّمْل يكره قَتلهَا، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ فِي قَوْله: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} قَالَ: هم الَّذين لَا يؤدون الذَّر، وَهُوَ صغَار النَّمْل. فَإِن قيل: كَيفَ يَصح أَن يثبت للنمل مثل هَذَا الْعلم؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: يجوز أَن يخلق الله تَعَالَى فِيهِ هَذَا النَّوْع من الْفَهم وَالْعلم، وَيُقَال: إِنَّه أسْرع جسة إدراكا، وَهُوَ إِذا أَخذ الْحبَّة من الْحِنْطَة قطعهَا بنصفين لِئَلَّا تنْبت، وَإِذا أَخذ الكزبرة قطعهَا أَربع قطع؛ لِأَن الكزبرة إِذا قطعت قطعتين تنْبت، فَإِذا قطعت أَربع قطع لم تنْبت.

19

قَوْله تَعَالَى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا من قَوْلهَا} قَالَ الزّجاج: ضحك الْأَنْبِيَاء التبسم. وَقَوله: {ضَاحِكا} أَي: مُتَبَسِّمًا، وَيُقَال: كَانَ أَوله التبسم وَآخره الضحك، فَإِن قيل: لم ضحك؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: فَرحا بثناء النملة عَلَيْهِ، وَالْآخر: سمع عجبا، وَمن سمع عجبا يضْحك، وَرُبمَا يغلب فِي ذَلِك.

{وَقَالَ رب أوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ وعَلى وَالِدي وَأَن أعمل صَالحا ترضاه وأدخلني بِرَحْمَتك فِي عِبَادك الصَّالِحين (19) وتفقد الطير فَقَالَ مَا وَقَوله: {وَقَالَ رب أوزعني} أَي: ألهمني. وَقَوله: {أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت على} يُقَال: الشُّكْر انفتاح الْقلب لرؤية الْمِنَّة، وَيُقَال: هُوَ الثَّنَاء على الله تَعَالَى بإنعامه. قَوْله: {وعَلى وَالِدي} أَي: أَبَاهُ دَاوُد وَأمه آيسا. وَقَوله: {وَأَن أعمل صَالحا ترضاه} أَي: من طَاعَتك. وَقَوله: {وأدخلني بِرَحْمَتك فِي عِبَادك الصَّالِحين} أَي: مَعَ عِبَادك الصَّالِحين الْجنَّة.

20

قَوْله تَعَالَى: {وتفقد الطير} التفقد هُوَ طلب مَا قد فقد. وَقَوله: {مَا لي لَا أرى الهدهد} الهدهد طير مَعْرُوف، فَإِن قيل: لم طلبه؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الطير كَانَت تظل سُلَيْمَان وجنده من الشَّمْس، فَنظر فَرَأى مَوضِع الهدهد خَالِيا تصبيه الشَّمْس مِنْهُ، فَطلب لهَذَا، وَالثَّانِي: مَا روى عَن ابْن عَبَّاس أَن الهدهد كَانَ يعرف مَوضِع المَاء فِي الأَرْض، وَكَانَ يبصر المَاء فِيهَا كَمَا يبصر فِي الزجاجة، وَكَانَ يذكر قدر قرب المَاء وَبعده، فَاحْتَاجَ سُلَيْمَان إِلَى المَاء فِي مسيره، فَطلب الهدهد لذَلِك. فروى أَن نَافِع بن الْأَزْرَق كَانَ عِنْد ابْن عَبَّاس وَهُوَ يذكر هَذَا فَقَالَ: يَا وصاف انْظُر مَا تَقول، فَإِن الصَّبِي منا يضع الفخ ويحثو عَلَيْهِ التُّرَاب، فيجئ الهدهد فَيَقَع فِي الفخ. فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: إِن الْقدر يحول دون الْبَصَر، وروى أَنه قَالَ: إِذا جَاءَ الْقَضَاء وَالْقدر ذهب اللب وَالْبَصَر. وَقَوله: {أم كَانَ من الغائبين} يَعْنِي: أَكَانَ من الغائبين؟ وَالْمِيم فِيهِ صلَة، كَأَنَّهُ أعرض عَن الْكَلَام الأول، وَذكر هَذَا على طَرِيق الِاسْتِفْهَام، وَيُقَال: إِنَّه لما قَالَ: {مَالِي لَا أرى الهدهد} دخله شكّ، فَقَالَ: أحاضر هُوَ أم غَائِب؟ .

{لي لَا أرى الهدهد أم كَانَ من الغائبين (20) لأعذبنه عذَابا شَدِيدا أَو لأذبحنه أَو ليأتيني بسُلْطَان مُبين (21) فَمَكثَ غير بعيد فَقَالَ أحطت بِمَا لم تحط بِهِ وجئتك

21

قَوْله تَعَالَى: {لأعذبنه عذَابا شَدِيدا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا - وَهُوَ الْأَشْهر - أَنه نتف ريشه وإلقاؤه فِي الشَّمْس فيأكله النَّمْل، وَيُقَال: هُوَ حَبسه مَعَ الضِّدّ، وَيُقَال: إِخْرَاجه من جنسه إِلَى غير جنسه، فَهُوَ الْعَذَاب الشَّديد. وَقَوله: {أَو لأذبحنه} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {أَو ليأتيني بسُلْطَان مُبين} أَي: بِعُذْر ظَاهر، وَيُقَال: بِحجَّة بَيِّنَة، وَفِي الْقِصَّة: أَن أَمِير الطير كَانَ هُوَ الكركر، فَسَأَلَهُ سُلَيْمَان عِنْد الهدهد أَنه حَاضر أم غَائِب؟ .

22

قَوْله تَعَالَى: {فَمَكثَ غير بعيد} أَي: غير طَوِيل. وَقَوله: {فَقَالَ أحطت بِمَا لم تحط بِهِ} فِيهِ حذف، وَمَعْنَاهُ: أَن الهدهد جَاءَ وَسَأَلَهُ سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - عَن غيبته فَقَالَ: {أحطت بِمَا لم تحط بِهِ} . وَفِي الْقِصَّة: أَن الهدهد قَالَ لما أخبر بمقالة سُلَيْمَان: {لأعذبنه عذَابا شَدِيدا أَو لأذبحنه} قَالَ الهدهد: هَل اسْتثْنى نَبِي الله؟ قَالُوا: نعم، قد قَالَ: (أَو ليأتيني بسُلْطَان مُبين) قَالَ: فنجوت إِذا. فَإِن قَالَ قَائِل: التعذيب إِنَّمَا يكون بعد التَّكْلِيف، والهدهد لم يكن مُكَلّفا، وَإِذا لم يكن مُكَلّفا لم يكن عَاصِيا بالغيبة، وَإِذا لم يكن عصيا لَا يسْتَحق الْعَذَاب؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: يحْتَمل أَن الطير أَعْطَاهَا الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْوَقْت مَا يعْقلُونَ بِهِ الْأَمر، فصح نهيهم عَن الْغَيْبَة والإخلال بمركز الْخدمَة، فَإِذا غبن استحققن الْعَذَاب. وَأما قَوْله: {أحطت بِمَا لم تحط بِهِ} الْإِحَاطَة هُوَ الْعلم بالشَّيْء من جَمِيع جهاته. وَقَوله: {وجئتك من سبأ} وَقُرِئَ: " سبأ " بِغَيْر صرف، فَمن صرف سبأ صرفه على أَنه اسْم رجل، وَفِي بعض التفاسير: عَن النَّبِي أَنه سُئِلَ عَن سبأ فَقَالَ: " هُوَ

{من سبأ بِنَبَأٍ يَقِين (22) إِنِّي وجدت امْرَأَة تملكهم رجل ولد عشرَة من الْبَنِينَ تيامن مِنْهُم سِتَّة وتشاءم مِنْهُم أَرْبَعَة، فَأَما الَّذِي تيامنوا فهم كِنْدَة، والأشعر، والأزد، وحمير، ومذحج، وأنمار، وَأما الَّذين تشاءموا فهم: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان ". وَمن لم يصرفهُ جعله اسْما للبقعة، وَاعْلَم أَن الْعَرَب قد صرفت سبأ مرّة وَلم تصرفه مرّة، قَالَ الشَّاعِر فِي صرف سبأ: (الواردون وتيم فِي ذرى سبأ ... قد عض أَعْنَاقهم جلد الجواميس} وَقَالَ آخر: فِي ترك صرفه: (من سبأ الْحَاضِرين مأرب إِذْ ... يبنون من دون سيله العرما) وَقَوله: {بِنَبَأٍ يَقِين} أَي: بِخَبَر حق.

23

وَقَوله تَعَالَى: {إِنِّي وجدت امْرَأَة تملكهم} هَذِه الْمَرْأَة هِيَ بلقيس بنت شرَاحِيل. قَالَ مُجَاهِد: وَلَدهَا أَرْبَعُونَ ملكا، آخِرهم أَبوهَا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: كَانَ أحد أَبَوَيْهَا من الْجِنّ. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: ولوا أَمرهم علجة يضطرب ثدياها. وَقد ثَبت عَنهُ بِرِوَايَة أبي بكرَة حِين بلغه أَن الْعَجم ولوا عَلَيْهِم بنت كسْرَى،

{وَأُوتِيت من كل شَيْء وَلها عرش عَظِيم (23) وَجدتهَا وقومها يَسْجُدُونَ للشمس من دون الله وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل فهم لَا يَهْتَدُونَ فَقَالَ: " لَا يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة ".} ) . وَعَن خَالِد بن صَفْوَان فِي ذمّ الْيمن: هم من بَين دابغ جلد , وسايس قرد , وحائك برد , ملكتهم امْرَأَة , وَدلّ عليم هدهد وغرقتهم فَأْرَة. وَاعْلَم أَن أهل الْيمن ممدوحون على لِسَان النَّبِي، وَإِنَّمَا الذَّم الَّذِي ذكرنَا لأهل الشّرك مِنْهُم. وَقَوله: {وَأُوتِيت من كل شَيْء} أَي: من كل شَيْء يُؤْتى مثلهَا. وَقَوله: {وَلها عرش عَظِيم} أَي: سَرِير ضخم، وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ طول السرير [ثَمَانِينَ] ذِرَاعا فِي عرض ثَمَانِينَ، وَقيل: أقل من ذَلِك، وَالله أعلم. قَالُوا: وَكَانَ مكللا بالجواهر واليواقيت والزبرجد، وَمَا أشبه ذَلِك.

24

وَقَوله: {وَجدتهَا وقومها يَسْجُدُونَ للشمس من دون الله وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل} أَي: عَن سَبِيل الْإِسْلَام. وَقَوله: {فهم لَا يَهْتَدُونَ} أَي: الطَّرِيق الْحق.

25

قَوْله تَعَالَى: {أَلا يسجدوا لله} وَقُرِئَ: " أَلا يسجدوا " مخففا، فَأَما من قَرَأَ: {إِلَّا} مشددا فَمَعْنَاه: فصدهم عَن السَّبِيل أَلا يسجدوا يَعْنِي: لِئَلَّا يسجدوا، وَقيل مَعْنَاهُ: وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم أَلا يسجدوا، وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة لَا سُجُود عِنْد تِلَاوَته، هَكَذَا ذكره أهل التَّفْسِير، وَأما قِرَاءَة التَّخْفِيف فَمَعْنَى قَوْله: " أَلا يسجدوا "

( {24) أَلا يسجدوا لله الَّذِي يخرج الخبء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيعلم مَا تخفون وَمَا تعلنون (25) لله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم (26) قَالَ سننظر أصدقت أم كنت من الْكَاذِبين (27) اذْهَبْ بكتابي هَذَا فألقه إِلَيْهِم ثمَّ تول عَنْهُم أَي: أَلا يَا هَؤُلَاءِ اسجدوا. (أَلا يسلمى يادارمي على البلى ... وَلَا زَالَ منهلا بجرعائك الْقطر} وَمَعْنَاهُ: أَلا يَا اسلمى يَا دَار. وَقَالَ آخر: (أَلا يسلمى يَا هِنْد هِنْد بنى ... بدر وَإِن كَانَ حيانا غَدا آخر الدَّهْر) وَمَعْنَاهُ: أَلا يَا اسلمى هِنْد، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا من قَول الهدهد، وَيحْتَمل أَن يكون من قَول الله تَعَالَى ابْتِدَاء، قَالَ أهل التَّفْسِير: وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة يسن السَّجْدَة؛ لِأَنَّهُ أَمر بِالسُّجُود وَقَالَ بَعضهم: على الْقِرَاءَة الأولى يسْجد أَيْضا مُخَالفَة للْمُشْرِكين. وَقَوله: {الله الَّذِي يخرج الخبء} أَي: مَا غَابَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَالَّذِي غَابَ فِي السَّمَاء هُوَ الْمَطَر، وَالَّذِي غَابَ فِي الأَرْض هُوَ النَّبَات، وَقيل: [كل] مَا غَابَ. وَقَوله: {وَيعلم مَا تخفون وَمَا تعلنون} ظَاهر الْمَعْنى.

26

قَوْله تَعَالَى: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم} ذكر الْعَرْش هَا هُنَا، لِأَنَّهُ أخبر أَنه كَانَ لَهَا عرش عَظِيم، وَفَائِدَة الذّكر [أَن] عرشها صَغِير حقير فِي جنب عرش الله تَعَالَى.

27

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ سننظر أصدقت أم كنت من الْكَاذِبين} فِيهِ دَلِيل على أَن الْمُلُوك يجب عَلَيْهِم التثبت فِيمَا يخبرون. وَقَوله: {أم كنت من الْكَاذِبين} أَي: أم أَنْت من الْكَاذِبين.

28

قَوْله تَعَالَى: {اذْهَبْ بكتابي هَذَا فألقه إِلَيْهِم ثمَّ تول عَنْهُم}

{فَانْظُر مَاذَا يرجعُونَ (28) قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ إِنِّي ألقِي إِلَيّ كتاب كريم (29) إِنَّه من سُلَيْمَان قَالُوا: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ: ألقه إِلَيْهِم فَانْظُر مَاذَا يرجعُونَ ثمَّ تول عَنْهُم، وَقيل مَعْنَاهُ: تول عَنْهُم أَي: تَنَح عَنْهُم ثمَّ أنظر مَاذَا يرجعُونَ. قَالَ بَعضهم: علم الهدهد أدب الدُّخُول على الْمُلُوك يَعْنِي: إِذا دخل الدَّاخِل على الْملك يَنْبَغِي أَن لَا يقف، بل يذهب فِي الْحَال ثمَّ يرجع وَيطْلب الْجَواب.

29

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ} فِي الْآيَة حذف، وَهُوَ أَن الهدهد ذهب وَحمل الْكتاب، وَفِي الْقِصَّة: أَنه دخل عَلَيْهَا من جِهَة الكوة، وَكَانَت هِيَ فِي خلْوَة مستلقية على سريرها، فَطرح الْكتاب على صدرها، وَقيل: كَانَت نَائِمَة فَوَضعه بجنبها، وَيُقَال: ذهب بِالْكتاب وَطَرحه على حجرها، فِي مَلأ من النَّاس، وَأما الْمَلأ فهم أَشْرَاف الْقَوْم وكبراؤهم. وَيُقَال: كَانَ لَهَا ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر قائدا، كل قَائِد على اثْنَي عشر ألفا، وَيُقَال: كَانَ لَهَا اثْنَا عشر ألف قَائِد، كل قَائِد على ألف رجل. وَقَوله: {إِنِّي ألقِي إِلَيّ كتاب كريم} أَي: حسن، وَيُقَال: مختوم. وَفِي الْأَخْبَار عَن النَّبِي بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس: " من كَرَامَة الْكتاب خَتمه "، وَالْقَوْل الثَّالِث: كتاب كريم أَي: كريم كَاتبه ومرسله.

30

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه من سُلَيْمَان} فِي التَّفْسِير: أَن سُلَيْمَان كَانَ قد كتب: من عبد الله سُلَيْمَان بن دَاوُد إِلَى بلقيس بنت شرَاحِيل {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

{وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم (30) } أَلا تعلوا على وأتوني مُسلمين) . قَالَ أهل الْعلم: وَهَذَا الْكتاب أوجز مَا يكون من الْكتب، فَإِنَّهُ جمع العنوان وَالْكتاب وَالْمَقْصُود فِي سطرين، وَكتب الْأَنْبِيَاء على غَايَة الإيجاز. وَعَن الشّعبِيّ: " كَانَ رَسُول يكْتب أَولا بِاسْمِك اللَّهُمَّ، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى قَوْله: {بِسم الله مجريها وَمرْسَاهَا} كتب بِسم الله، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى: {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن} كتب بِسم الله الرَّحْمَن، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى فِي سُورَة النَّمْل: {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} كتب بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ". قَالَ عَاصِم: قلت لِلشَّعْبِيِّ: رَأَيْت كتابا للنَّبِي فِي ابْتِدَائه بِسم الله الرَّحْمَن، فَقَالَ: ذَلِك هُوَ الْكتاب الثَّالِث. وَعَن بُرَيْدَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن رَسُول الله قَالَ لَهُ: " إِنِّي أعلم آيَة أنزلت عَليّ لم تنزل على نَبِي بعد سُلَيْمَان بن دَاوُد، وَالله لَا أخرج من الْمَسْجِد حَتَّى أخْبرك بهَا. قَالَ: فَقَامَ وَأخرج إِحْدَى رجلَيْهِ من الْمَسْجِد، فَقلت فِي نَفسِي: إِنَّه قد حلف، فَالْتَفت إِلَيّ، وَقَالَ لي: بِمَ تفتتح صَلَاتك ? يَعْنِي قراءتك؟ قلت: بِسم الله الرَّحْمَن

{أَلا تعلوا عَليّ وأتوني مُسلمين (31) قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ أفتوني فِي أَمْرِي مَا كنت قَاطِعَة أمرا حَتَّى تَشْهَدُون (32) قَالُوا نَحن أولُوا قُوَّة وَأولُوا بَأْس شَدِيد لرحيم قَالَ: هِيَ هِيَ، ثمَّ خرج ".

31

قَوْله تَعَالَى: {أَلا تعلوا عَليّ} أَي: لَا تتعظموا على، وَقيل: لَا تتكبروا على، وَمَعْنَاهُ: لَا تمتنعوا وتتركوا الْإِجَابَة، فَإِن الِامْتِنَاع وَترك الْإِجَابَة من الْعُلُوّ والتكبر. وَقَوله: {وأتوني مُسلمين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: هُوَ من الْإِسْلَام، وَالْآخر: من الاستسلام.

32

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ أفتوني فِي أَمْرِي} قَالَت هَذَا على طَرِيق الاستشارة؛ لِأَنَّهَا علمت أَن ملك سُلَيْمَان أعظم من ملكهَا، وَقَوله: {أفتوني فِي أَمْرِي} . أَي: أجيبوني فِي أَمْرِي. وَقَوله: {مَا كنت قَاطِعَة أمرا} أَي: قاضية ومبرمة أمرا {حَتَّى تَشْهَدُون} أَي: تحضرون، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " مَا كنت قاضية أمرا ".

33

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا نَحن أولو قُوَّة وأولو بَأْس شَدِيد} أخبروا بكثرتهم وشجاعتهم. وَقَوله: {وَالْأَمر إِلَيْك} ثمَّ ردوا الْأَمر إِلَيْهَا لتقاتل أَو تتْرك الْقِتَال، فَهُوَ معنى قَوْله: {فانظري مَاذَا تأمرين} .

{وَالْأَمر إِلَيْك فانظري مَاذَا تأمرين (33) قَالَت أَن الْمُلُوك إِذا دخلُوا قَرْيَة أفسدوها وَجعلُوا أعزة أَهلهَا أَذِلَّة وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسلَة إِلَيْهِم بهدية فناظرة

34

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَت إِن الْمُلُوك إِذا دخلُوا قَرْيَة أفسدوها} أَي: خربوها. وَقَوله: {وَجعلُوا أعزة أَهلهَا أَذِلَّة} الأعزة هُوَ الْقَوْم الَّذين يمتنعون من قبُول الذل بقوتهم وقدرتهم، فجعلهم أَذِلَّة فِي هَذَا الْموضع إِنَّمَا هُوَ بالاستعباد والاستسخار. وَقَوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذَا من قَول الله تَعَالَى على طَرِيق التَّصْدِيق لَهَا، لَا على طَرِيق الْحِكَايَة عَنْهَا.

35

قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِّي مُرْسلَة إِلَيْهِم بهدية} الْهَدِيَّة هِيَ الْعَطِيَّة على طَرِيق المثامنة، والهدايا بَين الإخوان مُسْتَحبَّة، وَقد روى عَن النَّبِي: " تهادوا تحَابوا ". وَقد ثَبت عَن النَّبِي: " كَانَ يقبل الْهَدِيَّة، وَيرد الصَّدَقَة ". وروى عَنهُ أَنه قَالَ: " هَدَايَا الْأُمَرَاء غلُول ". وروى أَن رجلا أهْدى إِلَى عمر - رَضِي الله عَنهُ - رجل جزور، وَكَانَ بَينه وَبَين

{إبم يرجع المُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَان قَالَ أتمدونن بِمَال فَمَا آتَانِي الله خير مِمَّا آتَاكُم نسان خُصُومَة، فَلَمَّا ارتفعا إِلَيْهِ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، افصل بيني وَبَينه كَمَا يفصل من الْجَزُور رجله، فَقَالَ: أَنْت ذَاك، ثمَّ إِنَّه رد عَلَيْهِ رجل الْجَزُور، وَقضى عَلَيْهِ. وَقَوله: {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} روى أَنَّهَا قَالَت: إِن كَانَ سُلَيْمَان ملكا فأرضيه بِالْمَالِ، وَإِن كَانَ نَبيا فَلَا يرضى بِالْمَالِ. وَأما الْهَدِيَّة الَّتِي بعثتها إِلَى سُلَيْمَان، فَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كَانَت مائَة وصيف وَمِائَة وصيفة. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: مِائَتَا غُلَام وَمِائَتَا جَارِيَة. وَكَانَ بَعضهم يشبه الْبَعْض فِي الصُّورَة وَالصَّوْت والهيئة، وَقَالَت للرسول: قل لَهُ: ليميز بَين الغلمان [والجواري] . وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: أَهْدَت إِلَيْهِ لبنة من ذهب ملفوفة فِي الدبياج. وروى أَنَّهَا أَهْدَت إِلَيْهِ من الْحَرِير والكافور والمسك وَالطّيب شَيْئا كثيرا. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا بعثت إِلَيْهِ بخرزتين، أَحدهمَا لَا ثقب لَهَا، وَالْأُخْرَى لَهَا ثقب معوج، وَطلبت أَن يدْخل الْخَيط فِي الثقب المعوج من غير علاج إنس وَلَا جن، وَأَن يثقب الخرزة الْأُخْرَى من غير علاج إنس وَلَا جن، وَبعثت إِلَيْهِ بقدح، وَطلبت مِنْهُ أَن يملأه من مَاء لم ينزل من السَّمَاء وَلَا نبع من الأَرْض.

36

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَان قَالَ أتمدونن بِمَال} الْإِمْدَاد إِلْحَاق الثواني بالأوائل، وَقيل: أَن يلْحق الثَّانِي بِالْأولِ، وَالثَّالِث بِالثَّانِي، وَالرَّابِع بالثالث إِلَى أَن يَنْتَهِي. وَقَوله: {فَمَا آتَانِي الله خير مِمَّا آتَاكُم} مَا أَعْطَانِي الله من النُّبُوَّة وَالْملك وَالْمَال أفضل مِمَّا آتَاكُم.

{بل أَنْتُم بهديتكم تفرحون (36) وَقَوله: {بل أَنْتُم بهديتكم تفرحون} مَعْنَاهُ: أَن بَعْضكُم يفرح بالإهداء إِلَى بعض، فَأَما أَنا فَلَا أفرح بهداياكم. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمَرْأَة كَانَت قَالَت للرسل: إِن كَانَ سُلَيْمَان ملكا فَلَا يجلسكم، وَإِن كَانَ نَبيا فيجلسكم، فروى أَن (الرَّسُول) لما جَاءُوا وقربوا من سُلَيْمَان، جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأخْبرهُ بمجيئهم وَمَا مَعَهم، فَأمر سُلَيْمَان بلبنات من ذهب وَفِضة، حَتَّى جعلت تَحت أرجل الدَّوَابّ، وَجعلت الدَّوَابّ تروث وتبول عَلَيْهَا؟ ، فَلَمَّا رأى الرُّسُل ذَلِك استحقروا مَا عِنْدهم. وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لما دخلُوا قَامُوا قيَاما، فَقَالَ لَهُم سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: إِن الله تَعَالَى رفع السَّمَاء وَبسط الأَرْض، فَمن شَاءَ جلس وَمن شَاءَ قَامَ. وروى أَنه أَمرهم بِالْجُلُوسِ ودعا بالغلمان والجواري بِأَن يتوضئوا، فَمن صب المَاء على بطن ساعده قَالَ: هِيَ جَارِيَة، وَمن صب المَاء على ظهر ساعده قَالَ: هُوَ غُلَام. وروى انه جعل من بَدَأَ بالمرفق فِي الْغسْل غُلَاما، وَمن بَدَأَ بالزند فِي الْغسْل جَارِيَة، وروى أَنه جعل من أغرف الأناء غُلَاما، وَمن صب على يَده جَارِيَة. ودعا بالخرزتين فَجَاءَت دودة تكون فِي الرّطبَة، وَقيل: فِي الصفصاف، فَقَالَت: أَنا أَدخل الْخَيط فِي هَذَا الثقب على أَن يكون رِزْقِي فِي الصفصاف، فَجعل لَهَا ذَلِك فَربط الْخَيط عَلَيْهَا، وَقيل: أخذت الْخَيط بفيها وَدخلت فِي الثقب [فَخرجت] من الْجَانِب الآخر. وَأما الخرزة الْأُخْرَى فَجَاءَت دودة تكون فِي الْفَوَاكِه، وثقبت الخرزة على أَن يكون رزقها فِي الْفَوَاكِه، فَجعل لَهَا ذَلِك، ثمَّ دَعَا بالقدح وَأمر بإجراء الْخَيل، وملأ الْقدح من عرقها، ثمَّ رد الْهَدَايَا على الرُّسُل حَتَّى ردوهَا على الْمَرْأَة.

{ارْجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا ولنخرجهم مِنْهَا أَذِلَّة وَهُوَ صاغرون (37) قَالَ يَا أَيهَا الْمَلأ أَيّكُم يأتني بِعَرْشِهَا قبل أَن يأتوني مُسلمين (38) قَالَ عفريت من الْجِنّ أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك وَإِنِّي عَلَيْهِ لقوي أَمِين (39) قَالَ أهل الْعلم: وَقد كَانَ الْأَنْبِيَاء لَا يقبلُونَ هَدَايَا الْمُشْركين.

37

قَوْله تَعَالَى: {ارْجع إِلَيْهِم فلنأتينهم بِجُنُود لَا قبل لَهُم بهَا} . أَي: لَا طَاقَة لَهُم بهَا. وَقَوله: {ولنخرجهم مِنْهَا أَذِلَّة} أَي: من بِلَادهمْ. وَقَوله: {وهم صاغرون} أَي: نخرجهم على وَجه الذلة وَالصغَار، وَذَلِكَ يكون بالأسر والاستعباد، وَمَا أشبه ذَلِك.

38

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يأيها الْمَلأ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن سُلَيْمَان قَالَ هَذَا بعد أَن أرجع الرَّسُول ورد الْهَدَايَا، فَإِن قَالَ قَائِل: لما رد الْهَدَايَا كَيفَ طلب عرشها وسريرها؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: أَنه أحب أَن يكون ذَلِك السرير لَهُ، وَكَانَ قد وصف. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه أحب أَن يرَاهُ فَإِنَّهُ كَانَ قيل لَهُ: إِنَّه من ذهب وقوائمه من جَوْهَر وَهُوَ مكلل بِاللُّؤْلُؤِ. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنه أَرَادَ أَن يريها معْجزَة عَظِيمَة، فَإِنَّهُ روى أَنَّهَا جعلت ذَلِك الْعَرْش فِي سَبْعَة أَبْيَات بَعْضهَا دَاخل فِي الْبَعْض، وغلقت الْأَبْوَاب واستوثقت مِنْهَا، فَأَرَادَ أَن يريها عرشها عِنْده حَتَّى إِذا رَأَتْ هَذِه المعجزة الْعَظِيمَة آمَنت. وَقَوله: {أَيّكُم يأتيني بِعَرْشِهَا} قد بَينا. وَقَوله: {قبل أَن يأتوني مُسلمين} أَي: مستسلمين، وَقيل: هُوَ من الْإِسْلَام. وَفِي الْقِصَّة: أَن بلقيس أَقبلت فِي جنودها إِلَى سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - طلبا للصلح ودخولا فِي طَاعَته.

39

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ عفريت من الْجِنّ} قرئَ فِي الشاذ: " قَالَ عفرية من الْجِنّ " والعفريت والعفريت هُوَ الشَّديد الْقوي، وَفِي بعض التفاسير: أَنه كَانَ صَخْر الجني، وروى أَنه كَانَ بِمَنْزِلَة جبل، وَكَانَ يضع قدمه عِنْد مُنْتَهى طرفه. وَقَوله: {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك} يَعْنِي: قبل أَن تقوم من مجلسك

{قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن يرْتَد إِلَيْك طرفك لذى جلسته للْقَضَاء بَين النَّاس، وَقد كَانَ مَجْلِسه غدْوَة إِلَى قريب من نصف النَّهَار، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمَرْأَة كَانَت قد وصلت إِلَى قريب من فَرسَخ، فَلَمَّا سمع سُلَيْمَان ذَلِك قَالَ فِي طلب الْعَرْش. وَقَوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لقوي أَمِين} على حمل الْعَرْش، أَمِين على مَا عَلَيْهِ من الْجَوَاهِر.

40

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب} روى أَن هَذَا العفريت لما قَالَ هَكَذَا قَالَ سُلَيْمَان: أُرِيد أسْرع من ذَلِك، فَحِينَئِذٍ قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب: {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن يرْتَد إِلَيْك طرفك} . وَاخْتلف القَوْل فِي الَّذِي كَانَ عِنْده علم من الْكتاب، فأشهر الْأَقَاوِيل: أَنه آصف ابْن برخيا بن سمعيا، وَكَانَ رجلا صديقا فِي بني إِسْرَائِيل، وَكَانَ يعلم اسْم الله الْأَعْظَم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْخضر، ذكره ابْن لَهِيعَة، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه ملك من الْمَلَائِكَة، أوردهُ ابْن بخر، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول. وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه بِمَاذَا دَعَا الله؟ فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه قَالَ: يَا إلهي وإله الْخلق إِلَهًا وَاحِدًا، لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، ائْتِ بِهِ، وروى أَنه قَالَ: يَا حَيّ يَا قيوم، وروى أَنه قَالَ: يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام، وَالله أعلم. وَقَوله: {قبل أَن يرْتَد إِلَيْك طرفك} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن يرفع بَصَره إِلَى السَّمَاء، فَقبل أَن يردهُ إِلَى الأَرْض يرى الْعَرْش عِنْده، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن يطرف طرفَة، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن ينظر إِلَى رجل يَأْتِي، فَقبل أَن يصل إِلَيْهِ ذَلِك الرجل، يكون قد وصل الْعَرْش إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن ينظر إِلَى رجل يذهب، فَقبل أَن

{فَلَمَّا رَآهُ مسقرا عِنْده قَالَ هَذَا من فضل رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أم أكفر وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر فَإِن رَبِّي غَنِي كريم (40) قَالَ نكروا لَهَا عرشها نَنْظُر أتهتدي أم تكون من الَّذين لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَت قيل أهكذا عرشك قَالَت يرْتَد طرفه من ذَلِك الذَّاهِب، يكون قد وصل إِلَيْهِ. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما دَعَا الله خرق الله الأَرْض عِنْد عرشها، فساخ الْعَرْش فِي الأَرْض، وَظهر عِنْد سَرِير سُلَيْمَان، وَكَانَت الْمسَافَة مِقْدَار شَهْرَيْن، وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تَعَالَى أعدم ذَلِك الْعَرْش، وأوجد مثله على هَيئته عِنْد سُلَيْمَان، وَالْقَوْل الأول أولى. وَقَوله: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقرًّا عِنْده} قَالَ السّديّ: جزع سُلَيْمَان حِين رأى ذَلِك، وَكَانَ جزعه أَنه كَيفَ قدر ذَلِك الرجل على مَا لم يقدر هُوَ عَلَيْهِ؟ ثمَّ إِنَّه رَجَعَ إِلَى نَفسه، فَقَالَ: {هَذَا من فضل رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أم أكفر} . وَقَوله: {وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر فَإِن رَبِّي غَنِي كريم} أَي: غنى عَن شكره، كريم فِي قبُول شكره وإثابته عَلَيْهِ.

41

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ نكروا لَهَا عرشها} مَعْنَاهُ: غيروا لَهَا عرشها. وَقَوله: {نَنْظُر أتهتدي أم تكون من الَّذين لَا يَهْتَدُونَ} فِي التَّفْسِير: أَن الْجِنّ كَانُوا قَالُوا لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: إِن فِي عقلهَا شَيْئا، وَقَالُوا لَهُ أَيْضا: إِن قدمهَا كحافر الْحمار، وعَلى سَاقهَا شعر كثير. وَإِنَّمَا غير عرشها ليعرف بذلك عقلهَا، وروى أَنه جعل أَعْلَاهُ أَسْفَله، وأسفله أَعْلَاهُ، وروى أَنه جعل مَكَان الْجَوَاهِر الْأَحْمَر أَخْضَر، وَمَكَان الْأَخْضَر أَحْمَر، وروى أَنه زَاد فِيهِ وَنقص مِنْهُ. وَقَوله تَعَالَى: {نَنْظُر أتهتدي أم تكون من الَّذين لَا يَهْتَدُونَ} يَعْنِي: أتعرف عرشها أم لَا تعرف؟

42

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَت قيل أهكذا عرشك قَالَت كَأَنَّهُ هُوَ} لم تقل: لَا خوفًا من الْكَذِب، وَلم تقل: نعم خوفًا من الْكَذِب، وَلكنهَا قَالَت: كَأَنَّهُ هُوَ. وَقَالَ مقَاتل: شبهوا عَلَيْهَا فشبهت عَلَيْهِم، وَقد كَانَت عَرفته. وروى أَنه إِنَّمَا أشبه عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَت خلفت الْعَرْش فِي بيوتها، فرأته أمامها عِنْد سُلَيْمَان، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهَا الْأَمر، وَقَالَت

{كَأَنَّهُ هُوَ وأوتينا الْعلم من قبلهَا وَكُنَّا مُسلمين (42) وصدها مَا كَانَت تعبد من دون الله إِنَّهَا كَانَت من قوم كَافِرين (43) قيل هلا أدخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته مَا قَالَت. وَقَوله: {وأوتينا الْعلم من قبلهَا} هَذَا من قَول سُلَيْمَان أَي: علمنَا حَالهَا وأمرها وَحَال عرشها قبل أَن تعلم. قَوْله: {وَكُنَّا مُسلمين} أَي: مُسلمين لله طائعين لَهُ.

43

قَوْله تَعَالَى: {وصدها مَا كَانَت تعبد من دون الله} (أَي: صدها عَن عبَادَة الله مَا كَانَت تعبد من دون الله) . وَقَوله: {إِنَّهَا كَانَت من قوم كَافِرين} ظَاهر الْمَعْنى. وَقد كَانَت عَرَبِيَّة من مُلُوك الْيمن. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: (أَنَّهَا كَانَت من قوم كَافِرين) قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّهَا كَانَت من قوم مجوس يعْبدُونَ الشَّمْس. وَعَن بَعضهم: قَالَ معنى قَوْله: {وصدها مَا كَانَت تعبد من وَدون الله} أَي: صدها عَن عبَادَة الله نُقْصَان عقلهَا، بل مَا كَانَت تعبد من دون الله، لِأَن الْجِنّ كَانُوا قَالُوا لِسُلَيْمَان: إِن فِي عقلهَا [شَيْئا] .

44

قَوْله تَعَالَى: {قيل لَهَا ادخلي الصرح} الصرح فِي أصل اللُّغَة هُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع، ذكره أَبُو عبيد فِي غَرِيب المُصَنّف وَغَيره. وَأما الصرح هَاهُنَا فَفِيهِ أَقْوَال: قَالَ مُجَاهِد: هُوَ بركَة من المَاء ألبس قَوَارِير. وَقَالَ الزّجاج: الصرح والصرحة والساحة والباحة بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الصحن. وَعَن بَعضهم: أَن الصرح هُوَ الْقصر، وَقيل: هُوَ الْبَيْت. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْجِنّ قَالُوا لِسُلَيْمَان: إِن مُؤخر رجلهَا كحافر الْحمار، وَهِي هلباء شعراء، وَكَانُوا خَشوا أَن يَتَزَوَّجهَا سُلَيْمَان فتطلعه على أسرار الْجِنّ، وَكَانَت أمهَا جنية، فَأَرَادَ سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن يرى رجلهَا، فَأمر باتخاذ بركَة عَظِيمَة، وَجعل فِيهَا من الْحيتَان والضفادع

{لجة وكشفت عَن سَاقيهَا قَالَ أَنه صرح ممرد من قَوَارِير قَالَت رب إِنِّي ظلمت نَفسِي وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين (44) وَمَا أشبههَا شَيْئا كثيرا، ثمَّ أَمر أَن يلبس المَاء غشاء من قَوَارِير. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه اتخذ صحنا من قَوَارِير، وَجعل تَحْتَهُ تماثيل من الْحيتَان والضفادع، وَكَانَ الْوَاحِد إِذا رَآهُ ظَنّه مَاء. وروى أَن سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - أَمر بسريره حَتَّى وضع فِي وسط الصرح، ثمَّ دَعَاهَا إِلَى مَجْلِسه، فَلَمَّا وصلت إِلَى الصرح وَنظرت ظنت أَنه مَاء، فَكشفت عَن سَاقيهَا لتدخل فِي المَاء، فصاح سُلَيْمَان: {إِنَّه صرح ممرد من قَوَارِير} وَرَأى سَاقيهَا، وَكَانَ عَلَيْهَا شعر كثير. وَذكر بَعضهم: أَنه رأى قدما لطيفا وساقا حسنا وَعَلِيهِ شعر. فَإِن قَالَ قَائِل: لم طلب سُلَيْمَان هَذِه الرُّؤْيَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن يعرف صدق الْجِنّ وكذبهم، وَالْآخر: أَنه أَرَادَ أَن يتَزَوَّج بهَا، فقصد أَن ينظر إِلَى سَاقيهَا، وَقد كَانُوا قَالُوا: إِن عَلَيْهِ شعرًا. وَقد ذكر أهل التَّفْسِير: أَن سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ للشياطين: مَا الَّذِي يذهب الشّعْر؟ فاتخذوا النورة، وَهُوَ أول من اتخذ الْحمام والنورة. [وَقَوله: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حسبته لجة وكشفت عَن سَاقيهَا قَالَ إِنَّه صرح] ممرد} . أَي: مملس، وَقيل: الممرد هُوَ الْوَاسِع طولا وعرضا، قَالَ الشَّاعِر: (غَدَوْت صباحا باكرا فوجدتهم ... قبيل الضحا والبابلي الممرد) أَي: وَقَوله: { [من قَوَارِير] . قَالَت رب إِنِّي ظلمت نَفسِي} أَي: بالشرك، وَيُقَال: إِنَّهَا لما بلغت الصرح وظنته لجة، وَهُوَ مَاء لَهُ عمق، قَالَت فِي نَفسهَا: إِن سُلَيْمَان يُرِيد أَن يغرقني، وَقد كَانَ الْقِتَال أَهْون من هَذَا. وَقَوله: {ظلمت نَفسِي} يَعْنِي، بِذَاكَ الظَّن. وَقَوله: {وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى. وكل من أسلم

{وَلَقَد أرسلنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا أَن اعبدوا الله فَإِذا هم فريقان يختصمون (45) قَالَ يَا قوم لم تَسْتَعْجِلُون بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة لَوْلَا تستغفرون الله لَعَلَّكُمْ ترحمون (46) قَالُوا اطيرنا بك وبمن مَعَك} بِنَبِي فَهُوَ مَعَ ذَلِك النَّبِي فِي الْإِسْلَام بِاللَّه. وَقد ذكر بَعضهم: أَنه تزوج بهَا. وروى أَن عبد الله بن عتبَة سُئِلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ: انْتهى إِلَى قَوْله: {وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين} يَعْنِي: أَنه لَا علم وَرَاء ذَلِك. وَأما مُدَّة ملك سُلَيْمَان: اخْتلفُوا فِيهِ، فروى أَن الْملك وصل إِلَيْهِ وَهُوَ ابْن ثَلَاث [عشرَة] سنة، وَمَات وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَخمسين، وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن أبي جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ: أَنه ملك سَبْعمِائة سنة، وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا إِلَى ثَمُود أَخَاهُم صَالحا أَن اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله. وَقَوله: {فَإِذا هم فريقان يختصمون} أَي: مُؤمن وَكَافِر، وَعَن قَتَادَة: مُصدق ومكذب.

46

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم لم تَسْتَعْجِلُون بِالسَّيِّئَةِ قبل الْحَسَنَة} أَي: بِالْعَذَابِ قبل الرَّحْمَة، وَقد كَانُوا قَالُوا لصالح: إِن كنت صَادِقا فأتنا بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {لَوْلَا تستغفرون لله} أَي: هلا تستغفرون الله، وَالِاسْتِغْفَار هَاهُنَا بِمَعْنى التَّوْبَة. قَوْله: {لَعَلَّكُمْ ترحمون} ظَاهر [الْمَعْنى] .

47

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا طيرنا بك وبمن مَعَك} أَي: تشاءمنا بك وبمن مَعَك، وَفِي سَبَب قَوْلهم هَذَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم قَالُوا ذَلِك؛ لتفرق كلمتهم، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم قَالُوا ذَلِك؛ لأَنهم أَصَابَهُم الجدب والقحط، فَقَالُوا فَقَالُوا لصالح: هَذَا من شؤمك. وَاعْلَم أَن الطَّيرَة مَنْهِيّ عَنْهَا، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " لَا عدوى

وَلَا طيرة ". وَعنهُ: " أَنه كَانَ يحب الفأل وَيكرهُ الطَّيرَة ". ووفي بعض المسانيد عَن النَّبِي قَالَ: " لَا ينج ابْن آدم من ثَلَاث: من الظَّن، والحسد، والطيرة، فَإِذا ظَنَنْت فَلَا تحقق، وَإِذا حسدت فَلَا تَبْغِ، وَإِذا تطيرت فامضه ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: {لَا ينجو من الطَّيرَة أحد، ويذهبها التَّوَكُّل على الله ". وَقد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة، يَتَطَيَّرُونَ، وَكَانَ الرجل مِنْهُم إِذا خرج لحَاجَة فطار طَائِر، أَو لَقِي شَيْئا، أَو سمع كلَاما يتطير بِذَاكَ، إِمَّا فِي الِامْتِنَاع من ذَلِك الْفِعْل، أَو فِي الدُّخُول فِي ذَلِك الْفِعْل، وَقد قَالَ بعض الشُّعَرَاء شعرًا: (لعمرك مَا تدرى الطوارق بالحصى ... وَلَا زاجرات الطير مَا الله صانع}

{قَالَ طائركم عِنْد الله بل أَنْتُم قوم تفتنون (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَة رَهْط يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون (48) قَالُوا تقاسموا بِاللَّه لنبيتنه وَأَهله ثمَّ لنقولن لوَلِيِّه مَا شَهِدنَا مهلك أَهله وَإِنَّا لصادقون (49) } وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد فِي النُّجُوم: (أبلغوا عني المنجم أَنِّي ... كَافِر بِالَّذِي قضته الْكَوَاكِب) (عَالم أَن مَا يكون وَمَا كَانَ ... حتم من الْمُهَيْمِن وَاجِب) وَقَوله: {قَالَ طائركم عِنْد الله} أَي: مَا يُصِيبكُم من الْخَيْر وَالشَّر من الله، وَيُسمى ذَلِك طائرا؛ لسرعة نُزُوله بالإنسان، فَإِنَّهُ لَا شَيْء أسْرع نزولا من قَضَاء محتوم، وَقيل: {طائركم عِنْد الله} أَي: عَمَلكُمْ عِنْد الله، وَسمي ذَلِك طائرا، لسرعة صُعُوده إِلَى السَّمَاء. وَقَوله: {بل أَنْتُم قوم تفتنون} أَي: تبتلون وتختبرون، وَقيل: تعذبون.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَة رَهْط} هَؤُلَاءِ التِّسْعَة هم الَّذين اتَّفقُوا على عقر النَّاقة، وَكَانَ رَأْسهمْ فِي ذَلِك قدار بن سالف وَهُوَ الَّذِي تولى عقرهَا. وَقَوله: {يفسدون فِي الأَرْض وَلَا يصلحون} قَالَ سعيد بن الْمسيب: بِكَسْر الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير. وَعَن قَتَادَة: بتتبع عورات النَّاس. وَقيل: بِالْمَعَاصِي وَفعل الْمَنَاكِير.

49

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا تقاسموا بِاللَّه} أَي: احلفوا بِاللَّه. وَقَوله: {لنبيتنه} أَي: لنقتلته بياتا أَي: لَيْلًا، قَالُوا ذَلِك لصالح. وَقَوله: {وَأَهله} أَي: وَقَومه الَّذين أَسْلمُوا مَعَه. وَقَوله: {ثمَّ لنقولن لوَلِيِّه مَا شَهِدنَا مهلك أَهله} وَقُرِئَ: " مهلك " بِنصب الْمِيم: فَيجوز أَن يكون بِمَعْنى الإهلاك، وَيجوز أَن المُرَاد مِنْهُ مَوضِع الْهَلَاك. وَقَوله: {وَإِنَّا لصادقون} أَي: ننكر قتل صَالح، وَقَالُوا ذَلِك؛ لأَنهم خَافُوا من عشيرته.

{ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة مَكْرهمْ أَنا دمرناهم وقومهم أَجْمَعِينَ (51) فَتلك بُيُوتهم خاوية بِمَا ظلمُوا إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعلمُونَ (52) وأنجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أتأتون الْفَاحِشَة وَأَنْتُم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من}

50

قَوْله تَعَالَى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا} أَي: دبروا تدبيرا ودبرنا تدبيرا، فَروِيَ أَن الله تَعَالَى بعث بِالْمَلَائِكَةِ حَتَّى شدخوا رُءُوسهم بالأحجار. وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ صَالح يدْخل كهفا فِي الْجَبَل يعبد الله، فدبروا أَن يدخلُوا إِلَيْهِ ويقتلوه غيلَة، فَذَهَبُوا وَجعلُوا يترصدون ذَلِك، فأهوت حِجَارَة من أَعلَى الْجَبَل، فَهَرَبُوا ودخلوا، فَوَقع الْحجر على بَاب الْغَار وأطبق عَلَيْهِم، فَهَذَا معنى قَوْله: {ومكرنا مكرا} . وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ كَيفَ مكرنا بهم.

51

قَوْله تَعَالَى: {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة مَكْرهمْ} أَي: مَا آل إِلَيْهِ مَكْرهمْ. وَقَوله: {أَنا دمرناهم وقومهم أَجْمَعِينَ} أَي: أهلكنام وقومهم أَجْمَعِينَ.

52

قَوْله تَعَالَى: {فَتلك بُيُوتهم خاوية بِمَا ظلمُوا} أَي: خَالِيَة بِمَا كفرُوا. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لقوم يعلمُونَ} أَي: يعلمُونَ تدبيرنا ومكرنا بالكفار.

53

وَقَوله تَعَالَى: {وأنجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} قد بَينا. وَفِي الْقِصَّة: أَن قوم صَالح لما أهلكهم الله تَعَالَى جَاءَ صَالح إِلَى مَكَّة وَتُوفِّي بهَا، وَكَذَلِكَ هود عَلَيْهِ السَّلَام.

54

قَوْله تَعَالَى: {ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أتأتون الْفَاحِشَة وَأَنْتُم تبصرون} أَي: تعلمُونَ أَنَّهَا فَاحِشَة. وَقيل معنى قَوْله: {وَأَنْتُم تبصرون} أَي: يَرَاهَا بَعْضكُم من بعض فَلَا تستترون عَنْهَا.

55

وَقَوله: {أئنكم لتأتون الرِّجَال شَهْوَة من دون النِّسَاء بل أَنْتُم قوم تجهلون} قد بَينا.

56

قَوْله تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أخرجُوا آل لوط من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون} قد بَينا.

{دون النِّسَاء بل أَنْتُم قوم تجهلون (55) فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا ان قَالُوا أخرجُوا آل لوط من قريتكم إِنَّهُم أنَاس يتطهرون (56) فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته قدرناها من الغابرين (57) وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فسَاء مطر الْمُنْذرين (58) قل الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى الله خير أما يشركُونَ (59) أَمن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل لكم من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا بِهِ حدائق ذَات بهجة مَا كَانَ لكم أَن}

57

قَوْله تَعَالَى: {فأنجيناه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته قدرناها من الغابرين} أَي: جعلناها من البَاقِينَ فِي الْعَذَاب.

58

قَوْله تَعَالَى: {فأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فسَاء مطر الْمُنْذرين} فِي الْقِصَّة: أَن قوم لوط خسف بهم، وتتبع الْحجر الشذاذ مِنْهُم فأهلكهم. وَقَوله: {فسَاء مطر الْمُنْذرين} أَي: بئس مطر الْمُنْذرين، والمنذرون هم الَّذين خوفوا بِالْهَلَاكِ.

59

قَوْله تَعَالَى: {قل الْحَمد لله وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى} قَوْله: {عباده الَّذين اصْطفى} . فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هم أَصْحَاب رَسُول الله، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: هم أمة مُحَمَّد، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: كل الْمُؤمنِينَ من السَّابِقين والخالفين. وَقَوله: {آللَّهُ خير أما يشركُونَ} أَي: عبَادَة الله خير أم عبَادَة مَا يشركُونَ؟ فَإِن قيل: لَيْسَ فِي عبَادَة غير الله خير أصلا، فَكيف يَسْتَقِيم معنى الْآيَة؟ وَالْجَوَاب: أَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن فِي ذَلِك خيرا، فَخرجت الْآيَة على ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن الْأَصْنَام آلِهَة، وَلَوْلَا اعْتِقَادهم لم يستقم قَوْله: {آللَّهُ خير أما يشركُونَ} . وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ أَن الْعَرَب تَقول: أَيهَا الرجل، الشقاوة خير أم السَّعَادَة؟ وَهُوَ يعلم أَن لَا خير فِي الشقاوة، وَأَن كل الْخَيْر فِي السَّعَادَة. وَقَالَ حسان بن ثَابت: (أتهجوه وَلست لَهُ بند ... فشركما لخيركما الْفِدَاء) وَقَالَ بَعضهم: آللَّهُ خير أما يشركُونَ مَعْنَاهُ: الْخَيْر فِي هَذَا أم فِي هَذَا الَّذِي تشركون بِهِ مَعَ الله؟ وَيجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: ثَوَاب الله خير أَو ثَوَاب مَا تشركون بِهِ؟ .

60

قَوْله: {أَمن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَأنزل لكم من السَّمَاء مَاء} مَعْنَاهُ: الْخَيْر

{تنبتوا شَجَرهَا أإله مَعَ الله بل هم قوم يعدلُونَ (60) أَمن جعل الأَرْض قرارا وَجعل خلالها أَنهَارًا وَجعل لَهَا رواسي وَجعل بَين الْبَحْرين حاجزا أإله مَعَ الله بل أَكْثَرهم} فِيمَا تَقولُونَ وتدعون من الْآلهَة، أم فِيمَن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ أَي: أنشأهما وَقَوله: {وَأنزل لكم من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا بِهِ حدائق ذَات بهجة} كل بُسْتَان محوط عَلَيْهِ فَهُوَ حديقة. وَقَوله: {ذَات بهجة} أَي: ذَات منظر حسن، وَقيل: الْبَهْجَة مَا يبتهج بِهِ. وَقَوله: {مَا كَانَ لكم أَن تنبتوا شَجَرهَا} أَي: مَا يَنْبَغِي لكم أَن تَفعلُوا ذَلِك؛ لأنكم لَا تقدرون عَلَيْهِ. وَقَوله: {أإله مَعَ الله} اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار أَي: لَا إِلَه مَعَ الله. وَقَوله: {بل هم قوم يعدلُونَ} أَي: عَن الْحق، وَقيل: يشركُونَ مَعَه غَيره، ويجعلونه عدلا لَهُ أَي: مثلا

61

قَوْله تَعَالَى: {أَمن جعل الأَرْض قرارا} أَي: موضعا يستقرون عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَجعل خلالها أَنهَارًا} أَي: خلال الأَرْض. وَقَوله: {وَجعل لَهَا رواسي} أَي: جبالا ثوابت. وَقَوله: {وَجعل بَين الْبَحْرين حاجزا} اخْتلف القَوْل فِي الْبَحْرين، (مِنْهُم من قَالَ: بَحر السَّمَاء وَالْأَرْض) ، وَمِنْهُم من قَالَ: بَحر فَارس وَالروم، وَمِنْهُم من قَالَ: الْبَحْر المالح والعذب. وَقَوله: {حاجزا} قد بَينا معنى الحاجز، وَيُقَال: يكف الْملح عَن العذب، والعذب عَن المالح بقدرته، وَهَذَا دَلِيل على أَنه يجوز أَن يكف النَّار عَن الإحراق، وَالسيف عَن الْقطع. وَقَوله: {أإله مَعَ الله} قد بَينا. وَقَوله: {بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ مَالهم وَعَلَيْهِم.

62

قَوْله تَعَالَى: {أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ} إِنَّمَا ذكر الْمُضْطَر، وَإِن كَانَ يُجيب

{لَا يعلمُونَ (61) أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأَرْض أإله مَعَ الله قَلِيلا مَا تذكرُونَ (62) أَمن يهديكم فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر وَمن يُرْسل الرِّيَاح بشرا بَين يَدي رَحمته أإله مَعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يشركُونَ (63) أَمن يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ثمَّ وَمن يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض أإله مَعَ الله قل} دُعَاء الْمُضْطَر وَغير الْمُضْطَر؛ لِأَن رَغْبَة الْمُضْطَر أقوى، ودعاؤه أخضع. وَقَوله: {ويكشف السوء} أَي: الضّر. وَقَوله: {ويجعلكم خلفاء الأَرْض} أَي: يَجْعَل بَعْضكُم خلفاء بعض، وَقيل: يَجْعَل أَوْلَادكُم خلفاءكم، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: يجعلكم خلفاء الْجِنّ فِي الأَرْض. وَقَوله: {أإله مَعَ الله قَلِيلا مَا تذكرُونَ} وَقُرِئَ: " يذكرُونَ) فَقَوله: {تذكرُونَ} ، على المخاطبة. وَقَوله: " يذكرُونَ " على المغايبة.

63

قَوْله تَعَالَى: {أَمن يهديكم فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر} أَي: يرشدكم. وَقَوله: {وَمن يُرْسل الرِّيَاح بشرا بَين يَدي رَحمته} أَي: مبشرة، قرئَ: " نشرا " أَي: نَاشِزَة. وَقَوله: {بَين يَدي رَحمته} أَي: الْمَطَر. وَقَوله: {أإله مَعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يشركُونَ} أَي: تقدس وارتفع عَمَّا يشركُونَ.

64

قَوْله تَعَالَى: {أَمن يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} فَقَوله: {ثمَّ يُعِيدهُ} أَي: يعيدهم أَحيَاء بعد مَوْتهمْ. وَقَوله: {وَمن يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: من السَّمَاء بالمطر، وَمن الأَرْض بالنبات. وَقَوله: {أإله مَعَ الله قل هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: مَعَ الله إِلَهًا آخر؟ .

65

قَوْله تَعَالَى: {قل لَا يعلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله وَمَا يَشْعُرُونَ

{هاتوا برهانكم إِن كُنْتُم صَادِقين (64) قل لَا يعلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض الْغَيْب إِلَّا الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يبعثون (65) بل ادارك علمهمْ فِي الْآخِرَة بل هم فِي شكّ مِنْهَا بل هم مِنْهَا عمون (66) } أَيَّانَ يبعثون) أَي مَتى يبعثون؟ .

66

قَوْله تَعَالَى: {بل ادارك} وَقُرِئَ: " بل أدْرك "، فَمنهمْ من قَالَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَمِنْهُم من قَالَ: " ادارك " أَي: تتَابع وتلاحق، وَقَوله ((أدْرك)) أى: فصل وَلحق، وَأما معنى الْآيَة: قَالَ السدى: أى صَارُوا عُلَمَاء فِي الْآخِرَة بِمَا لم يعلمُوا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {أسمع بهم وَأبْصر} وَعَن (ابْن) سعيد الضَّرِير قَالَ: " بل أدْرك " أَي: علمُوا فِي الْآخِرَة أَن الَّذِي كَانُوا يوعدون حق. وَهَذَا قريب من الأول، وأنشدوا (للأخطل) : (وَأدْركَ علمي فِي سواءة أَنَّهَا ... تقيم على الأوتار وَالْمشْرَب الكدر) أَي: أحَاط علمي بهَا أَنَّهَا هَكَذَا. وَذكر عَليّ بن عِيسَى: أَن معنى بل هَاهُنَا هُوَ: لَو أدركوا فِي الدُّنْيَا مَا أدركوا فِي الْآخِرَة لم يشكوا. وَقَالَ الْفراء: قَوْله: {بل أدْرك علمهمْ فِي الْآخِرَة} أَي: غَابَ علمهمْ وَسقط فِي الدُّنْيَا، على معنى أَنهم لم يعلمُوا. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " بلَى ادارك " على طَرِيق الِاسْتِفْهَام: أَي لم يتدارك، وَهَذَا يُؤَيّد قَول الْفراء. وَقَوله: {بل هم فِي شكّ مِنْهَا} أَي: هم فِي شكّ مِنْهَا الْيَوْم. وَقَوله: {بل هم مِنْهَا عمون} أَي: لَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، وَيُقَال: بل الأولى بِمَعْنى لَو على مَا بَينا، وبل الثَّانِيَة على معنى أم، وبل الثَّالِثَة على حَقِيقَتهَا. وَذكر بعض أهل الْعلم أَن قَوْله: {بل ادارك علمهمْ} أَي: تدارك ظنهم فِي الْآخِرَة (وتتابع) بالْقَوْل بِالظَّنِّ والحدس. وَقَوله: {بل هم مِنْهَا عمون} أَي: هم جهلة بِالآخِرَة.

{وَقَالَ الَّذين كفرُوا أئذا كُنَّا تُرَابا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هَذَا نَحن وآباؤنا من قبل إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين (68) قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين (69) وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تكن فِي ضيق مِمَّا يمكرون (70) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (71) قل عَسى أَن}

67

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا أئذا كُنَّا تُرَابا وآباؤنا أئنا لمخرجون} قد بَينا.

68

وَقَوله: {لقد وعدنا} إِلَى آخر الْآيَة قد سبق.

69

قَوْله: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين} أَي: من قوم صَالح، وَقوم لوط، وَأَصْحَاب الْحجر، وَغَيرهم.

70

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تكن فِي ضيق} أَي: لَا يضيق قَلْبك مِمَّا يمكرون، ومكرهم وحيلتم بِالْبَاطِلِ.

71

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: الْقِيَامَة.

72

وَقَوله: {قل عَسى أَن يكون ردف لكم} وردفكم بِمَعْنى وَاحِد، وَيُقَال: ردف لكم، وردفكم أَي: دنا لكم. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جَاءَ بعدكم، وَقَالَ القتيبي: تبعكم، وَمِنْه ردف الْمَرْأَة الرجل، قَالَ الشَّاعِر: (عَاد السوَاد بَيَاضًا فِي مفارقه ... لَا مرْحَبًا ببياض الشيب إِذْ ردفا) وَقَوله: {بعض الَّذِي تَسْتَعْجِلُون} يُقَال: هُوَ الْقَتْل يَوْم بدر، وَيُقَال: إِنَّه عَذَاب الْآخِرَة.

73

قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك لذُو فضل على النَّاس} أَي: أفضال على النَّاس، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " يحْشر الْخلق يَوْم الْقِيَامَة فَيُؤتى بِقوم فَيُقَال لَهُم: لم عَبدْتُمْ ربكُم؟ فَيَقُولُونَ: يَا رب، وعدتنا بِالْجنَّةِ فعبدناك طَمَعا فِيهَا وشوقا إِلَيْهَا، فيدخلهم الْجنَّة، ثمَّ يُؤْتى بِقوم فَيُقَال لَهُم: لم عَبدْتُمْ ربكُم؟ فَيَقُولُونَ: يَا رب، خوفتنا من النَّار فعبدناك خوفًا مِنْهَا، فينجيكم الله من النَّار ويدخلهم الْجنَّة، ثمَّ يُؤْتى بِقوم فَيُقَال لَهُم: لم عَبدْتُمْ ربكُم؟ فَيَقُولُونَ محبَّة لَك، فيتجلى لَهُم الرب تَعَالَى فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَذَلِك قَوْله: {وَإِن رَبك لذُو فضل على النَّاس} . وَالْخَبَر غَرِيب جدا.

{يكون ردف لكم بعض الَّذِي تَسْتَعْجِلُون (72) وَإِن رَبك لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون (73) وَإِن رَبك ليعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون (74) وَمَا من غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالْأَرْض إِلَّا فِي كتاب مُبين (75) إِن هَذَا الْقُرْآن يقص على بني إِسْرَائِيل أَكثر الَّذين هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإنَّهُ لهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين (77) إِن رَبك يقْضِي بَينهم بِحكمِهِ وَهُوَ الْعَزِيز الْعَلِيم (78) فتوكل وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يشكرون} أَي: نعم الله.

74

قَوْله تَعَالَى) : {وَإِن رَبك ليعلم مَا تكن صُدُورهمْ} أَي: تخفى صُدُورهمْ. وَقَوله: {وَمَا يعلنون} ظَاهر الْمَعْنى.

75

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا من غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالْأَرْض} أَي: جملَة غَائِبَة من جَمِيع الغائبات، وَقيل: وَمَا من خبر غَائِب. وَقَوله: {إِلَّا فِي كتاب مُبين} هُوَ: اللَّوْح الْمَحْفُوظ.

76

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا الْقُرْآن يقص على بني إِسْرَائِيل أَكثر الَّذِي هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَي: يبين لبني إِسْرَائِيل أَكثر الَّذِي هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

77

قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الرَّسُول، وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن.

78

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن رَبك يقْضِي بَينهم بِحكمِهِ} أَي: يفصل بَينهم بِحكمِهِ الْحق. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: المنيع فِي ملكه، الْعَلِيم بِأَمْر خلقه.

79

قَوْله تَعَالَى: {فتوكل على الله} أَي: ثق بِاللَّه. {إِنَّك على الْحق الْمُبين} أَي: الْحق الْمُبين.

80

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} المُرَاد من الْمَوْتَى هَاهُنَا: هم الْكفَّار، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {أموات غير أَحيَاء} فسماهم موتى؛ لأَنهم ميتوا الْقلب؛ وَلِأَنَّهُم لم ينتفعوا صَارُوا كالموتى.

{على الله إِنَّك على الْحق الْمُبين (79) إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدَّاء إِذا ولوا مُدبرين (80) وَمَا أَنْت بهادي الْعمي عَن ضلالتهم إِن تسمع إِلَّا} وَأنْشد بَعضهم: (لقد أسمعت لَو ناديت حَيا ... وَلَكِن لَا حَيَاة لمن (أنادي)) وَقَوله: {وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء} وَقُرِئَ: " لَا يسمع الصم الدُّعَاء " فَقَوله: {لَا تسمع} على مُخَاطبَة النَّبِي، وَقَوله: " لَا يسمع الصم الدُّعَاء " على الْخَبَر. وَقَوله: {إِذا ولوا مُدبرين} أَي: معرضين، فَإِن قيل: إِذا كَانُوا صمًّا، فَمَا معنى قَوْله: {إِذا ولوا مُدبرين} فَإِذا كَانُوا صمًّا فهم لَا يسمعُونَ، سَوَاء ولوا مُدبرين أَو لم يولوا؟ قُلْنَا: الْأَصَم إِذا كَانَ حَاضرا فقد يسمع إِذا شدد فِي الصَّوْت، وَقد يعلم بِنَوْع إِشَارَة؛ فَإِذا ولى مُدبرا لم يسمع أصلا، وَيجوز ن يكون ذكره على طَرِيق التَّأْكِيد وَالْمُبَالغَة.

81

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بهادي لعمى عَن ضلالتهم إِن تسمع إِلَّا من يُؤمن بِآيَاتِنَا} أَي: جَاءَ قَاصِدا للْإيمَان بِآيَاتِنَا، وَقيل: لَا تسمع إِلَّا الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {فهم مُسلمُونَ} أَي: لله.

82

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا وَقع القَوْل عَلَيْهِم} أَي: حق الْعَذَاب عَلَيْهِم، وَقَالَ قَتَادَة: إِذا غضب الله عَلَيْهِم. وَعَن ابْن عمر: إِذا لم يأمروا بِمَعْرُوف، وَلم ينهوا عَن مُنكر. وَقَوله: {أخرجنَا لَهُم دَابَّة من الأَرْض} رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَيست بِدَابَّة لَهَا ذَنْب، وَلَكِن لَهَا لحية. كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَنه رجل وَلَيْسَت بِدَابَّة، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهَا دَابَّة، (وَهِي) تخرج فِي آخر الزَّمَان. وَيُقَال: إِن أول أَشْرَاط السَّاعَة طُلُوع لشمس من مغْرِبهَا وَخُرُوج دَابَّة الأَرْض. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَهَا زغب وَرِيش وَأَرْبع قَوَائِم.

{من يُؤمن بِآيَاتِنَا فهم مُسلمُونَ (81) وَإِذا وَقع القَوْل عَلَيْهِم أخرجنَا لَهُم دَابَّة من الأَرْض} وَعَن ابْن الزبير قَالَ: هِيَ دَابَّة رَأسهَا من رَأس ثَوْر، وعينها عين خِنْزِير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إبل، وعنقها عنق نعَامَة، وصدرها صدر أَسد، وجلدها جلد نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وقوائمها قَوَائِم بعير، بَين كل مفصلين مِنْهَا اثْنَا عشر ذِرَاعا. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: تخرج من الصَّفَا تجْرِي كجري الْفرس ثَلَاثَة أَيَّام لَا يخرج إِلَّا ثلثهَا، ويبلغ رَأسهَا السَّمَاء. وَفِي بعض المسانيد: عَن النَّبِي أَنه قَالَ: (" بئس الشّعب شعب جِيَاد، قيل: وَلم يَا رَسُول الله؟ قَالَ) : تخرج مِنْهُ الدَّابَّة، وتصرخ ثَلَاث صرخات يسْمعهَا من بَين الْخَافِقين ". وَعَن حُذَيْفَة بن أسيد قَالَ: تخرج الدَّابَّة ثَلَاثًا، تخرج الخرجة الأولى بِبَعْض الأودية، ثمَّ تكمن، ثمَّ تخرج فِي قبائل الْعَرَب، ثمَّ تخرج فِي جَوف، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهَا تخرج فِي الْمَسْجِد الْحَرَام. وَعَن عبد الله بن عَبَّاس أَنه صعد الصَّفَا وقرع بعصاه الْحجر وَقَالَ: إِن الدَّابَّة لتسمع قرع عصاي هَذِه. وروى قَرِيبا من هَذَا عَن عبد الله بن عَمْرو. وَقد روى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن عَليّ بن زيد، عَن خَالِد بن أَوْس، عَن أبي هُرَيْرَة

أَن النَّبِي قَالَ: " تخرج الدَّابَّة وَمَعَهَا عَصا مُوسَى وَخَاتم سُلَيْمَان، فتجلو وَجه الْمُؤمن، وتحطم وَجه الْكَافِر، حَتَّى إِن الْقَوْم يَجْتَمعُونَ على الخوان فَتَقول: هَذَا لهَذَا يَا كَافِر، وَتقول: هَذَا لهَذَا يَا مُؤمن ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْخَبَر أَبُو عبد الله عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب، أخبرنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ، أخبرنَا عبد بن حميد، عَن روح بن عبَادَة، عَن حَمَّاد بن سَلمَة، الحَدِيث. وَفِي التَّفْسِير: أَن دَابَّة الأَرْض تسم وَجه الْمُؤمن بنكتة بَيْضَاء، فيبيض بهَا وَجهه، وَتَسِم وَجه الْكَافِر بنكتة سَوْدَاء، فيسود بهَا وَجهه. وَعَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا وَقع لقَوْل عَلَيْهِم} ثمَّ قَالَ: طوفوا بِالْبَيْتِ قبل أَن يرفع، واقرءوا الْقُرْآن قبل أَن يرفع، وَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله قبل أَن تنسى، ثمَّ ذكر أَنه يَأْتِي زمَان ينسى النَّاس فِيهِ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَتَقَع النَّاس فِي أشعار الْجَاهِلِيَّة. وَقَوله: {تكلمهم} وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَعَاصِم الجحدري: " تكلمهم " أَي: تجرحهم، والكلم هُوَ الْجراحَة، وَيُقَال: تسمهم، قَالَ الشَّاعِر: ((فِي الْكَلم مطرقا يكذب عَن إعرابه ... بِنَقص الْآيَة الْكَلم إِذا الْكَلم التَّام)) وَالْقِرَاءَة لمعروفة: {تكلمهم} وَقَالَ بعض أهل لعلم: ظُهُور الْآيَة مِنْهَا كَلَام، ونطق على وَجه الْمجَاز لَا أَنَّهَا تَتَكَلَّم، وَالأَصَح أَنَّهَا تَتَكَلَّم، وَاخْتلف القَوْل أَنَّهَا بِمَاذَا تَتَكَلَّم؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن كَلَامهَا أَن هَذَا مُؤمن وَهَذَا كَافِر، وَالْقَوْل الآخر: أَنَّهَا تَتَكَلَّم بِمَا قَالَ الله تَعَالَى: {أَن النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يوقنون} . وَقُرِئَ: " أَن " و " إِن " بِنصب الْألف وكسره، فَمن قَرَأَ " أَن " بِنصب الْألف فَمَعْنَاه: بِأَن، وَمن قَرَأَ: " إِن " فعلى الِاسْتِئْنَاف، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب: " دَابَّة تنبئهم "، وَفِي بعض

{تكلمهم أَن النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يوقنون (82) وَيَوْم نحْشر من كل أمة فوجا مِمَّن يكذب بِآيَاتِنَا فهم يُوزعُونَ (83) حَتَّى إِذا جَاءُوا قَالَ أكذبتم بآياتي وَلم تحيطوا} الْقِرَاءَة: " تحدثهم " وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " تكلمهم بِأَن النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يوقنون ".

83

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم نحْشر من كل أمة فوجا} لَهُ من كل قرن فوجا. وَقَوله: {مِمَّن يكذب بِآيَاتِنَا} . أَي: من المكذبين، وَلَيْسَ " من " هَاهُنَا للتعبيض؛ لِأَن جَمِيع المكذبين يحشرون. وَقَوله: {فهم يُوزعُونَ} أَي: يساقون إِلَى النَّار، فَإِن قيل: وَغير المكذبين أَيْضا يحشرون؟ قُلْنَا: الْحَشْر الَّذِي يساق فِيهِ إِلَى النَّار إِنَّمَا يكون للمكذبين.

84

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءُوا قَالَ أكذبتم بآياتي وَلم تحيطوا بهَا علما} أَي: جاهلين بِالْأَمر، وَقيل: بعاقبة لتكذيب. وَقَوله: {أماذا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} اسْتِفْهَام على طَرِيق الْإِنْكَار.

85

قَوْله تَعَالَى: {وَوَقع القَوْل عَلَيْهِم بِمَا ظلمُوا} أَي: وَجب الْعَذَاب عَلَيْهِم بِمَا أشركوا. وَقَوله: {فهم لَا ينطقون} قَالَ قَتَادَة: كَيفَ ينطقون وَلَا حجَّة لَهُم؟

86

قَوْله تَعَالَى: {ألم يرَوا أَنا جعلنَا اللَّيْل ليسكنوا فِيهِ} قد بَينا. وَقَوله: {وَالنَّهَار مبصرا} أَي: ذَا إبصار، قَالَ الشَّاعِر: (كلينى لَهُم [يَا أُمَيْمَة] ناصب ... ) أَي: ذَا نصب، وَقيل: مبصرا أَي: تبصر فِيهِ، كَمَا يُقَال: ليل نَائِم أَي: ينَام فِيهِ قَالَ الشَّاعِر:

{بهَا علما أماذا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (84) وَوَقع القَوْل عَلَيْهِم بِمَا ظلمُوا فهم لَا ينطقون (85) ألم يرَوا أَنا جعلنَا اللَّيْل ليسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (86) وَيَوْم ينْفخ فِي الصُّور فَفَزعَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من} (تَقول سليمى لَا تعرض ببلغة ... وليلك عَن ليل الصعاليك نَائِم) أَي: تنام فِيهِ. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

87

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم ينْفخ فِي الصُّور} قد بَينا. وَقَوله: {فَفَزعَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض} أَي: فَصعِقَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض، وَإِنَّمَا ذكر الْفَزع يؤد بهم إِلَى الصعقة، وَيُقَال: ينْفخ إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث نفخات: نفخة الْفَزع، ونفخة الصَّعق، ونفخة الْقيام لرب الْعَالمين، وَقد ذكر أَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: الصُّور هُوَ الصُّور، وَأول بَعضهم كَلَامه، وَقَالَ: إِن الْأَرْوَاح تجْعَل فِي [الْقرن] ثمَّ ينْفخ فِيهِ، فتذهب الْأَرْوَاح إِلَى الأجساد، وتحيا الأجساد. وَقَوله: {إِلَّا من شَاءَ الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من ذَلِك جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت صلوَات الله عَلَيْهِم، وَالْقَوْل الآخر: أَن المُرَاد مِنْهُ الشُّهَدَاء. وَفِي بعض الْآثَار: الشُّهَدَاء ثنية الله أَي: الَّذين استثناهم الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاء فيهم؛ لأَنهم أَحيَاء كَمَا قَالَ الله تَعَالَى. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " هم أَحيَاء متقلدوا السيوف يدورون حول الْعَرْش. وَقَوله: {وكل آتوه داخرين} أَي: صاغرين وَقُرِئَ: " وكل أَتَوْهُ " على الْمَاضِي، وَالْمعْنَى مُتَقَارب.

88

قَوْله تَعَالَى: {وَترى الْجبَال تحسبها جامدة} أَي: واقفة. وَقَوله: {وَهِي تمر مر السَّحَاب} أَي: تسير سير السَّحَاب، وَهَذَا كَمَا أَن سير السَّحَاب لَا يرى لعظمه، كَذَلِك سير الْجبَال يَوْم الْقِيَامَة لَا يرى لكثرتها، قَالَ الشَّاعِر:

{شَاءَ الله وكل أَتَوْهُ داخرين (87) وَترى الْجبَال تحسبها جامدة وَهِي تمر مر السَّحَاب صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء إِنَّه خَبِير بِمَا تَفْعَلُونَ (88) من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا وهم من فزع يَوْمئِذٍ آمنون (89) } (بأرعن مثل الطود تحسب أَنهم ... وقُوف لحاج والركاب تهملج) أَي: تتهملج. وَقَوله: {صنع الله الَّذِي أتقن كل شَيْء} أَي: أحكم كل شَيْء. وَقَوله: {إِنَّه لخبير بِمَا تَفْعَلُونَ} أَي: بِمَا تَصْنَعُونَ.

89

قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا} أَي: لَهُ مِنْهَا خير، وَقَالَ بَعضهم: لَهُ خير يصل إِلَيْهِ مِنْهَا، وَمِنْهُم من قَالَ: خير مِنْهَا أَي: أَنْفَع مِنْهَا، وَأما الْحَسَنَة فَفِي قَول عَامَّة الْمُفَسّرين هِيَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقيل: هِيَ كل طَاعَة، وَعَن أبي ذَر أَنه سُئِلَ وَقيل لَهُ: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله حَسَنَة؟ فَقَالَ: هِيَ أحسن الْحَسَنَات. وَقَوله: {وهم فِي فزع يَوْمئِذٍ آمنون} قد بَينا معنى الْفَزع من قبل، وَقُرِئَ: " فزع يَوْمئِذٍ " على الْإِضَافَة، وَقُرِئَ: " فزع يَوْمئِذٍ " على التَّنْوِين، قَالَ أَبُو على الفارسى: ((فزع يَوْمئِذٍ)) على التَّنْوِين، يدل على التكثير، و: " فزع يَوْمئِذٍ " على الْإِضَافَة لَا يدل على التكثير.

90

قَوْله تَعَالَى: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار} وَقَوله: {هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَالَ بَعضهم فِي قَوْله: {خير مِنْهَا} : إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن جَزَاء الْحَسَنَات مضاعف أَي: أَن يبلغ الْعشْر وَزِيَادَة فَقَوله: {خير مِنْهَا} أَي: أَكثر مِنْهَا.

91

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة الَّذِي حرمهَا} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: " الَّتِي حرمهَا " فَقَوله: {الَّتِي حرمهَا} ينْصَرف إِلَى الْبَلدة، (وَقَوله: {الَّذِي} ينْصَرف إِلَى الله، وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَأما التَّحْرِيم فَهُوَ تَحْرِيم الصَّيْد، وَكَانَ مَا ذَكرْنَاهُ من قبل) .

{وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فكبت وُجُوههم فِي النَّار هَل تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة الَّذِي حرمهَا وَله كل شَيْء وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين (91) وَأَن أتلو الْقُرْآن فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ وَمن ضل فَقل إِنَّمَا أَنا من الْمُنْذرين (92) وَقل الْحَمد لله سيريكم آيَاته فتعرفونها وَمَا رَبك بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) } وَقَوله: {وَله كل شَيْء} أَي: وَللَّه كل شَيْء. وَقَوله: {وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين} . أَي: من الْمُسلمين لله.

92

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن أتلو الْقُرْآن} أَي: وَأمرت أَن أتلو الْقُرْآن، قَالَ أهل الْعلم: نتلوا ونعمل بِهِ، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: أَمر النَّاس أَن يعملوا بِالْقُرْآنِ، فاتخذوا تِلَاوَته عملا. وَقَوله: {فَمن اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لنَفسِهِ} أَي: نفع اهتدائه رَاجع إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَمن ضل فَقل إِنَّمَا أَنا من الْمُنْذرين} أَي: المخوفين.

93

قَوْله تَعَالَى: {وَقل الْحَمد لله} هُوَ خطاب للنَّبِي وَسَائِر الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {سيريكم آيَاته} أَي: دلالاته. وَقَوله: {فتعرفونها} أَي: تعرفُون الدلالات. وَقَوله: {وَمَا رَبك بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى. وَقد ورد خبر فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة} ، فَإِن أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد من الْحَسَنَة الْإِيمَان، وَمن السَّيئَة الشّرك، وَقد روى صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي، أَن النَّبِي قَالَ: " يَأْتِي الْإِيمَان والشرك يَوْم الْقِيَامَة (فيجثوان بَين يَدي الرَّحْمَن، وَيطْلب كل وَاحِد مِنْهُمَا أَهله) ، فَيَقُول الله تَعَالَى للْإيمَان: انْطلق بأهلك إِلَى الْجنَّة، وَيَقُول الله تَعَالَى للشرك: انْطلق بأهلك إِلَى النَّار، وتلا قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا} الْآيَة ". وَالْخَبَر غَرِيب، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {طسم (1) تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين (2) نتلو عَلَيْك من نبأ مُوسَى وَفرْعَوْن بِالْحَقِّ لقوم يُؤمنُونَ (3) إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض وَجعل أَهلهَا شيعًا يستضعف طَائِفَة مِنْهُم} تَفْسِير سُورَة الْقَصَص وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا نبتغي الْجَاهِلين} . وَفِي هَذِه السُّورَة آيَة لَيست بمكية وَلَا مَدَنِيَّة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} نزلت هَذِه الْآيَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَرَسُول الله بِالْجُحْفَةِ، وَهُوَ منزل من الْمنَازل، وَذَلِكَ حِين هَاجر النَّبِي من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.

القصص

قَوْله تَعَالَى: {طسم} قَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ اسْم من أَسمَاء السُّورَة، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة قَالَ: هُوَ اسْم الله الْأَعْظَم، وَقد بَينا غير هَذَا.

2

وَقَوله: {تِلْكَ آيَات الْكتاب الْمُبين} يُقَال: بَان وَأَبَان بِمَعْنى وَاحِد، وَكَذَلِكَ قَوْلهم: بيّنت الشَّيْء وأبينه. وَقَالَ الزّجاج: الْمُبين للْحَلَال من الْحَرَام، وَالْحق من الْبَاطِل.

3

قَوْله تَعَالَى: {نتلو عَلَيْك من نبأ مُوسَى وَفرْعَوْن بِالْحَقِّ} أَي: بِالصّدقِ. وَقَوله: {لقوم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون، والنبأ اسْم للْخَبَر.

4

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض} أَي: تكبر وتجبر، وَيُقَال: طَغى وقهر، وَالْأَرْض هِيَ أَرض مصر. {وَجعل أَهلهَا شيعًا} أَي: فرقا. وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يستضعف طَائِفَة مِنْهُم} المُرَاد من الطَّائِفَة: بَنو

{يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ إِنَّه كَانَ من المفسدين (4) ونريد أَن نمن على} إِسْرَائِيل، وَتَفْسِير الاستضعاف: مَا يذكر من بعد، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحيي نِسَاءَهُمْ} وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يذبح أَبْنَاءَهُم " بِغَيْر التَّشْدِيد، وَسمي هَذَا استضعافا؛ لأَنهم عجزوا وضعفوا عَن دفع هَذَا عَن أنفسهم، وَذكر وهب بن مُنَبّه وَغَيره: أَن فِرْعَوْن رأى فِي مَنَامه كَأَن نَارا خرجت من جَانب الشَّام حَتَّى أحاطت بِمصْر، وأحرقت القبط، وَتركت بني إِسْرَائِيل، فَلَمَّا أصبح دَعَا الكهنة، وَأخْبرهمْ برؤياه، فَقَالُوا: يخرج رجل من بني إِسْرَائِيل يكون هلاكك وهلاك القبط على يَده. وَبَعْضهمْ روى أَنهم قَالُوا: يُولد مَوْلُود؛ فَحِينَئِذٍ أَمر فِرْعَوْن بِذبح الذُّكُور من أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل واستبقاء إناثهم. قَالَ الزّجاج: وَهَذَا من حمقه؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَت الكهنة صَادِقين فَمَا يُغني الْقَتْل، وَإِن كَانُوا كاذبين فَلَا معنى للْقَتْل أَيْضا. قَالَ وهب: فَلَمَّا فعلوا ذَلِك فِي ولدان بني إِسْرَائِيل، وتسارع الْمَوْت إِلَى شيوخهم، فَاجْتمع الْأَشْرَاف من القبط إِلَى فِرْعَوْن، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّك تقتل أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل، وَقد تسارع الْمَوْت إِلَى شيوخهم، فَعَن قريب لَا يبْقى مِنْهُم [أحد] ، وَترجع الْأَعْمَال إِلَيْنَا، وَقد كَانُوا يستعملون بني إِسْرَائِيل فِي الْأَعْمَال الشاقة. قَالَ السّديّ فِي قَوْله: {وَجعل أَهلهَا شيعًا} كَانُوا جعلُوا بني إِسْرَائِيل فرقا، ففرقة يبنون، وَفرْقَة يحرثون ويزرعون، وَفرْقَة يغرسون، وَفرْقَة يرعون الدَّوَابّ، إِلَى مثل هَذَا من الْأَعْمَال، وَمن لم يُمكنهُ أَن يعْمل عملا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُ الْجِزْيَة، فَلَمَّا سمع فِرْعَوْن قَوْلهم أَمر أَن يقتلُوا الْأَوْلَاد سنة وَلَا يقتلُون سنة، فولد هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام فِي السّنة الَّتِي لَا يقتل فِيهَا الْأَوْلَاد، وَولد مُوسَى فِي السّنة الَّتِي يقتل فِيهَا الْأَوْلَاد. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ من المفسدين} أَي: فِي الأَرْض.

5

قَوْله تَعَالَى: {ونريد أَن نمن} أَي: ننعم.

{الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض ونجعلهم أَئِمَّة ونجعلهم الْوَارِثين (5) ونمكن لَهُم فِي الأَرْض ونري فِرْعَوْن وهامان وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون (6) وأوحينا إِلَى أم مُوسَى أَن أرضعيه فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني إِنَّا رادوه إِلَيْك} وَقَوله: {على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض} أَي: بني إِسْرَائِيل. وَقَوله: {ونجعلهم أَئِمَّة} أَي: وُلَاة. وَقَوله: {ونجعلهم الْوَارِثين} أَي: الْوَارِثين لملك فِرْعَوْن والقبط، وَقد رُوِيَ أَن فِرْعَوْن لما أغرقه الله، رَجَعَ بَنو إِسْرَائِيل إِلَى مصر، واستعبدوا من بَقِي من القبط.

6

قَوْله تَعَالَى: {ونمكن لَهُم فِي الأَرْض} أَي: نجْعَل لَهُم مصرا مَكَانا يستقرون فِيهِ. وَقَوله: {ونرى فِرْعَوْن وهامان وجنودهما مِنْهُم مَا كَانُوا يحذرون} الحذر هُوَ التوقي من الضَّرَر.

7

قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى} فِي الْقِصَّة: أَن أم مُوسَى لما حبلت بمُوسَى لم يظْهر عَلَيْهَا الْحمل كَمَا يظْهر على النِّسَاء، وَولدت وَلم يعلم بولادتها أحد، وَجعلت ترْضِعه فِي خُفْيَة، ثمَّ إِنَّهَا خشيت أَن يطلع عَلَيْهِ النَّاس ويذبح، فَألْقى الله تَعَالَى فِي قَلبهَا مَا ذكره فِي هَذِه الْآيَة. وَالْوَحي هُوَ الْإِعْلَام فِي خُفْيَة، فَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن معنى قَوْله: {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى} هُوَ إلهامها، وَألقى هَذَا الْمَعْنى فِي قَلبهَا، وَقَالَ بَعضهم: رَأَتْ ذَلِك رُؤْيا، [وَقَالَ] بَعضهم: هُوَ الْوَحْي حَقِيقَة، وأتاها الْملك بِهَذَا من الله، إِلَّا أَنَّهَا لم تكن نبية. وَقَوله: {أَن أرضعيه} اخْتلف القَوْل فِي مُدَّة الرَّضَاع، مِنْهُم من قَالَ: ثَمَانِيَة أشهر، وَمِنْهُم من قَالَ: أَرْبَعَة أشهر، وَمِنْهُم من قَالَ: ثَلَاثَة أشهر. وَقَوله: {فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم} الْخَوْف عَلَيْهِ هُوَ لخوف من الذّبْح.

{وجاعلوه من الْمُرْسلين (7) فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا إِن فِرْعَوْن} وَقَوله: {فألقيه فِي اليم} اليم: الْبَحْر، وَالْمرَاد مِنْهُ هَاهُنَا على قَول جَمِيع الْمُفَسّرين هُوَ النّيل، قَالَ ابْن عَبَّاس: دعت بنجار واتخذت تابوتا، فَذهب ذَلِك النجار وَأخْبر فِرْعَوْن، وَجَاء بالأعوان، فطمس الله على عينه حَتَّى لم يهتد إِلَى شَيْء، فعاهد مَعَ الله إِن رد عَلَيْهِ بَصَره ليصرفن الأعوان عَنهُ، فَرد الله بَصَره عَلَيْهِ، فصرف الأعوان، ثمَّ إِنَّه آمن بمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من بعد، وَهُوَ مُؤمن آل فِرْعَوْن، واسْمه حزقيل. وَقَوله: {وَلَا تخافي وَلَا تحزني} أَي: لَا تخافي عَلَيْهِ من الْغَرق، وَقيل: من الضَّيْعَة، وَقَوله: {وَلَا تحزني} أَي: وَلَا تحزني على فِرَاقه. وَقَوله: {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد اشْتَمَلت الْآيَة على أَمريْن ونهيين وخبرين وبشارتين، أما الْأَمْرَانِ: فَقَوله: {أَن أرضعيه} ، وَقَوله: {فألقيه فِي اليم} ، وَأما النهيان: فَقَوله: {وَلَا تخافي وَلَا تحزني} ، وَأما الخبران: فَقَوله: {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى} وَكَذَلِكَ قَوْله: {فَإِذا خفت عَلَيْهِ} وَأما البشارتان: فَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا رادوه إِلَيْك وجاعلوه من الْمُرْسلين} ، الْآيَة تعد من فصيح الْقُرْآن.

8

قَوْله تَعَالَى: {فالتقطه آل فِرْعَوْن} الِالْتِقَاط هُوَ وجود الشَّيْء من غير طلب. وَفِي الْقِصَّة: أَن أم مُوسَى وضعت مُوسَى فِي التابوت، وَجَاءَت بِهِ وألقته فِي النّيل، فَمر بِهِ المَاء إِلَى جَانب دَار فِرْعَوْن، وَقد كَانَت الْجَوَارِي خرجن لاستقاء المَاء، فَرد المَاء التابوت فِي المشرعة الَّتِي يستقون مِنْهَا، وَيُقَال: تعلق التابوت بِالشَّجَرِ الَّتِي كَانَت ثمَّ، ومُوسَى هُوَ بالعبرية موشى، و " مو " هُوَ المَاء، و " شى " هُوَ الشّجر، وَسمي موشى؛ لِأَنَّهُ وجد بَين المَاء وَالشَّجر، فَأخذت الْجَوَارِي التابوت، وذهبن بِهِ إِلَى امْرَأَة فِرْعَوْن، وَهِي آسِيَة بنت مُزَاحم، وَيُقَال: إِنَّهَا كَانَت من بني إِسْرَائِيل، وَكَانَ فِرْعَوْن نكح مِنْهُم هَذِه الْمَرْأَة. وَقَوله: {ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} (هَذِه اللَّام لَام الْعَاقِبَة، وَقيل: لَام الصيرورة، فَإِنَّهُم مَا التقطوه ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا) ، وَلَكِن صَار أَمرهم إِلَى هَذَا، فَذكر

{وهامان وجنودهما كَانُوا خاطئين (8) وَقَالَت امراة فِرْعَوْن قرت عين لي وَلَك لَا تقتلوه عَسى أَن ينفعنا أَو نتخذه ولدا وهم لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى} اللَّام على معنى الصيرورة، وَهَذَا كَقَوْل الشَّاعِر: (أَمْوَالنَا لِذَوي الْمِيرَاث نجمعها ... ودورنا لخراب الدَّهْر نبنيها) وَقَوله: {إِن فِرْعَوْن وهامان وجنودهما كَانُوا خاطئين} أَي: تاركين طَرِيق الْحق.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت امْرَأَة فِرْعَوْن قُرَّة عين لي وَلَك} فِي الْخَبَر: أَن امْرَأَة فِرْعَوْن حملت الصَّبِي إِلَى فِرْعَوْن، وَقَالَت: قُرَّة عين لي وَلَك، فَقَالَ فِرْعَوْن: قُرَّة عين لَك، فَأَما لي فَلَا. وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " لَو قَالَ فِرْعَوْن قُرَّة عين لي، لهداه الله تَعَالَى كَمَا هدى امْرَأَته " وَالْخَبَر غَرِيب. وَفِي بعض التفاسير: أَن فِرْعَوْن قصد قَتله، وَقَالَ: لَعَلَّه من الْأَعْدَاء، فاستوهبته امْرَأَته فوهبه لَهَا. وَقَوله: {لَا تقتلوه عَسى أَن ينفعنا أَو نتخذه ولدا} رُوِيَ أَن آسِيَة لم يكن لَهَا ولد، وَقيل: كَانَ يَمُوت أَوْلَادهَا، فَقَالَت: أَو نتخذه ولدا لهَذَا. وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ حَقِيقَة الْأَمر.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح} قيل: وَأصْبح أَي: صَار، وَيُقَال: هُوَ على حَقِيقَته، واستعماله فِي هَذَا الْموضع على طَرِيق الْمجَاز، وَمَعْنَاهُ: أَصبَحت أم مُوسَى وفؤادها فَارغًا، وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله {فَارغًا} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِهِ فَارغًا من كل شَيْء إِلَّا من ذكر مُوسَى والوجد عَلَيْهِ، هَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد

{فَارغًا إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا لتَكون من الْمُؤمنِينَ (10) وَقَالَت لأخته قصيه فبصرت بِهِ عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ (11) وحرمنا عَلَيْهِ المراضع من} وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {فَارغًا} أَي: فَارغًا من الْحزن عَلَيْهِ لعلمها بِصدق وعد الله تَعَالَى، وَهَذَا قَول أبي عُبَيْدَة، وَأنكر القتيبي وَغَيره هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: كَيفَ يَصح هَذَا وَالله تَعَالَى يَقُول: {إِن كَادَت لتبدي بِهِ لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا} ؟ وَالْقَوْل الثَّالِث: " فَارغًا " أَي: نَاسِيا للوحي الَّذِي أنزل عَلَيْهَا، والعهد الَّذِي أَخذ عَلَيْهَا بألا تحزني من شدَّة البلية عَلَيْهِ، وَهَذَا معنى قَول الْحسن، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فَزعًا "، وَقد بَينا أَن معنى قَوْله: {فَأصْبح} أَي: صَار، وأنشدوا فِي هَذَا شعرًا: (مضى الْخُلَفَاء بِالْأَمر الرشيد ... وأصبحت المذمة للوليد) وَقَوله: {إِن كَادَت لتبدي بِهِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَادَت تَقول: يَا إبناه. وَقَوله: {لَوْلَا أَن ربطنا على قَلبهَا} أَي: بِالصبرِ، وَقيل: بِالْإِيمَان بالوعد، وَقيل: بالعصمة. وَقَوله: {لتَكون من الْمُؤمنِينَ} أَي: من المصدقين،

11

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَت لأخته قصيه} فِي الْقِصَّة: أَن اسْم [أُخْته] كَانَت مَرْيَم، وَقَوله: {قصيه} أَي: اتبعي أَثَره، وَمِنْه الْقَصَص؛ لِأَنَّهَا رِوَايَة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا. وَقَوله: {فبصرت بِهِ عَن جنب} أَي: [عَن بعد] ، وَقيل: عَن جَانب، وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت تمشي جانبا، وَتنظر مختلسة وتري النَّاس أَنَّهَا لَا تنظر. وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يَشْعُرُونَ أَن هلاكهم على يَد مُوسَى، وَقيل: وهم لَا يعلمُونَ أَن الصَّبِي مُوسَى، وَأَن طَالبه أمه وَأُخْته، وأنشدوا قَول الشَّاعِر عَن جنب بِمَعْنى بعد:

{قبل فَقَالَت هَل أدلكم على أهل بَيت يكفلونه لكم وهم لَهُ ناصحون (12) فرددناه إِلَى أمه كي تقر عينهَا وَلَا تحزن ولتعلم أَن وعد الله حق وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (13) } (فَلَا تَسْأَلنِي نائلا عَن جَنَابَة ... فَإِن امْرُؤ وسط القباب غَرِيب)

12

قَوْله تَعَالَى: {وحرمنا عَلَيْهِ المراضع من قبل} أَي: منعناه من قبُول الرَّضَاع، وَلَيْسَ المُرَاد من التَّحْرِيم هُوَ التَّحْرِيم الشَّرْعِيّ؛ وَإِنَّمَا المُرَاد من التَّحْرِيم هُوَ الْمَنْع، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس شعرًا: (جالت لتصرعني فَقلت لَهَا اقصري ... إِنِّي امْرُؤ صرعى عَلَيْك حرَام) أَي: مُمْتَنع، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى مكث ثَمَان لَيَال لَا يقبل ثديا، ويصيح وهم فِي طلب مُرْضِعَة لَهُ. وَقَوله: {فَقَالَت هَل أدلكم} يَعْنِي: قَالَت أُخْت مُوسَى: هَل أدلكم {على أهل بَيت يكفلونه لكم} ؟ . وَقَوله: {وهم لَهُ ناصحون} أَي: عَلَيْهِ مشفقون، والنصح ضد الْغِشّ، وَقيل: النصح تصفية الْعَمَل من شوائب الْفساد، وَمِنْه قَوْله: " إِلَّا إِن الدّين النَّصِيحَة. قيل: لمن؟ قَالَ: لله وَلِرَسُولِهِ وَكتابه وَالْمُؤمنِينَ " وَالْخَبَر ثَابت، رَوَاهُ تَمِيم الدَّارِيّ. وَفِي لقصة: أَن قوم فِرْعَوْن استرابوا بقول أُخْت مُوسَى فَقَالُوا: [إِنَّك] تعرفينه، وَإِلَّا فَمَا معنى نصحك لَهُ؟ فألهمها الله تَعَالَى حَتَّى قَالَت: قلت هَذَا رَغْبَة فِي سرُور الْملك واتصالنا بِهِ، وَرُوِيَ أَن أم مُوسَى لما أُتِي بهَا، وَوجد مُوسَى رِيحهَا، (نزا) إِلَى ثديها فَجعل يمصه حَتَّى امْتَلَأَ جنباه ريا، وَقَالَ السّديّ: كَانُوا يعطونها كل يَوْم دِينَارا.

{وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا فَوجدَ فِيهَا رجلَيْنِ يقتتلان هَذَا من شيعته وَهَذَا من}

13

وَقَوله: {فرددناه إِلَى أمه كي تقر عينهَا} أَي: تقر عينهَا برد مُوسَى إِلَيْهَا {وَلَا تحزن} أَي: وَلِئَلَّا تحزن. وَقَوله: {ولتعلم أَن وعد الله حق} لِأَنَّهُ كَانَ قد وعدها أَنه يردهُ إِلَيْهَا. وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن وعد الله حق.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَلما بلغ أشده} قَالَ ابْن عَبَّاس: الأشد: ثَلَاثُونَ سنة، وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ: أَربع وَثَلَاثُونَ سنة، وَقيل: ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سنة، وَقيل خمس وَعِشْرُونَ سنة، وَقيل: عشرُون سنة، وَقيل: [ثَمَانِي عشرَة] سنة. وَقَوله: {واستوى} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَرْبَعُونَ سنة، وَعَن غَيره: {اسْتَوَى} أَي: انْتهى شبابه. وَقَوله: {آتيناه حكما وعلما} أَي: الْفِقْه وَالْعقل وَالْعلم. وَقَوله: {وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَدخل الْمَدِينَة} فِي التَّفْسِير: أَن الْمَدِينَة كَانَت مَدِينَة عين شمس، وَقيل: مَدِينَة منف، وَعَن السّديّ قَالَ: كَانَ مُوسَى يركب من مراكب فِرْعَوْن، ويلبس من ملابسه، وَكَانَ يُسمى ابْن فِرْعَوْن، فَركب فِرْعَوْن مرّة فِي حشمه إِلَى بعض الْمَدَائِن، وَكَانَ مُوسَى غَائِبا فَرجع وَقد ركب فِرْعَوْن، فَركب فِي أَثَره، فوصل إِلَى الْمَدِينَة وَقت القائلة، وَقد اشْتغل النَّاس بالقيلولة، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا} أَي: غفلوا عَن ذكر مُوسَى. وَقَوله: {فَوجدَ فِيهَا رجلَيْنِ يقتتلان} فِي الْقِصَّة: أَنه وجد قبطيا يسخر إِسْرَائِيلِيًّا فِي حمل الْحَطب إِلَى مطبخ فِرْعَوْن، وَقَوله: {يقتتلان} أَي: يختصمان ويتنازعان، وَقَوله: {هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه} أى: الإسرائيلي من شيعته، والقبطي من

{عدوه فاستغاثه الَّذِي من شيعته على الَّذِي من عدوه فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان إِنَّه عَدو مضل مُبين (15) قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي فغفر لَهُ إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم (16) قَالَ رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} عدوه، وَكَانَت بَنو إِسْرَائِيل قد عزوا بمَكَان مُوسَى؛ لأَنهم كَانُوا يعلمُونَ أَنه مِنْهُم، وَيُقَال: {هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه} أَي: هَذَا مُؤمن وَهَذَا كَافِر. وَقَوله: {فاستغاثه الَّذِي من شيعته} الاستغاثة: طلب المعونة، وَقَوله: {فوكزه مُوسَى} قَرَأَ (ابْن مَسْعُود) : " فلكزه مُوسَى " واللكز والوكز (وَاحِد، وَهُوَ الضَّرْب بِجمع الْكَفّ، وَقيل الوكز هُوَ الضَّرْب فِي الصَّدْر، واللكز) هُوَ الضَّرْب فِي الظّهْر. وَفِي بعض التفاسير: (أَن مُوسَى) عقد ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ وضربه ضَرْبَة بِهِ فِي صَدره، وَكَانَ شَدِيد الْبَطْش، فَقتل الرجل، فَهُوَ معنى قَوْله: {فَقضى عَلَيْهِ} أَي: قَتله، يُقَال: قضى فلَان أَي: مَاتَ. فَإِن قيل: كَيفَ يجوز هَذَا على مُوسَى؟ قُلْنَا: وَهُوَ لم يقْصد الْقَتْل، وَإِنَّمَا وَقع الْقَتْل خطأ، وَكَانَ قَصده استنقاذ الإسرائيلي من ظلمه. وَقَوله: {قَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان} أَي: من تزيينه، وَقَوله: {إِنَّه عَدو مضل مُبين} أَي: مضل بَين الضَّلَالَة،

16

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي ظلمت نَفسِي} يَعْنِي: بقتل القبطي من غير أمره {فَاغْفِر لي} أَي: فَاغْفِر لي بِمَا عملت. وَقَوله: {فغفر لَهُ إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم} أَي: غفر الله لَهُ، إِن الله غَفُور رَحِيم.

17

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ} مننت عَليّ بالمغفرة. وَقَوله: {فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} أَي: معاونا للمجرمين، وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} كَانَت زلَّة من مُوسَى حِين لم يقرن بِهِ مَشِيئَة الله أَو الاستغاثة من الله، وقلما يَقُول الْإِنْسَان هَذَا القَوْل، وَيُطلق هَذَا الْإِطْلَاق إِلَّا ابتلى، فَابْتلى مُوسَى فِي الْيَوْم الثَّانِي مَا ذكره الله تَعَالَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:

( {17) فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب فَإِذا الَّذِي استنصره بالْأَمْس يستصرخه قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّك لغَوِيّ مُبين (18) فَلَمَّا أَن أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني كَمَا قتلت نفسا بالْأَمْس إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تكون جبارا فِي الأَرْض وَمَا تُرِيدُ}

18

{فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب} . قَالَ سعيد بن جُبَير: يلْتَفت وَيُقَال: ينْتَظر الطّلب، وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى حِين قتل ذَلِك الرجل لم يره أحد، وَدفن لرجل فِي الرمل. وَرُوِيَ أَن قومه وجدوه قَتِيلا، فَجَاءُوا إِلَى فِرْعَوْن وَذكروا لَهُ ذَلِك. فَقَالَ: اطْلُبُوا قَاتله لأقيده بِهِ، فَجعلُوا يطلبونه ومُوسَى يخَاف. وَقَوله: {فَإِذا الَّذِي استنصره بالْأَمْس يستصرخه} أَي: يستغيث بِهِ ويصيح بِهِ من بعد، وَكَانَ ذَلِك الإسرائيلي سَخَّرَهُ قبْطِي آخر، فَبَصر بِهِ مُوسَى فَطلب مِنْهُ المعونة. وَقَوله: {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّك لغوى مُبين} الْأَكْثَرُونَ أَن هَذَا قَالَه مُوسَى للإسرائيلي، فَإِنَّهُ كَانَ أغواه أمس أَي: أوقعه فِي الغواية، فَمَعْنَى قَوْله: {غوى} : موقع فِي الغواية. وَقَوله: {مُبين} أَي: بَين، وَيُقَال: إِن هَذَا قَالَه للقبطي، وَالأَصَح هُوَ الأول.

19

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَن أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما} فِي التَّفْسِير: إِن مُوسَى أَدْرَكته الرقة وَالرَّحْمَة للإسرائيلي، فقصد أَن يبطش بالقبطي، فَظن الإسرائيلي أَنه يُرِيد أَن يبطش بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَالَ لَهُ: " إِنَّك لغوى مُبين ". وَقَوله: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تقتلني} يَعْنِي: قَالَ الإسرائيلي: {كَمَا قتلت نفسا بالْأَمْس إِن تُرِيدُ} أَي: مَا تُرِيدُ {إِلَّا أَن تكون جبارا فِي الأَرْض} ، أَي: تقتل على الْغَضَب، وكل من قتل على الْغَضَب فَهُوَ جَبَّار، وَيُقَال: من قتل نفسين بِغَيْر حق فَهُوَ من جبابرة الأَرْض. وَقَوله: {وَمَا تُرِيدُ أَن تكون من المصلحين} أَي: الرافقين بِالنَّاسِ، وَفِي الْقِصَّة: أَن الإسرائيلي لما قَالَ هَذَا وسَمعه القبطي، عرف أَن الَّذِي قتل بالْأَمْس إِنَّمَا قَتله مُوسَى، فَمر إِلَى فِرْعَوْن وَذكر لَهُ ذَلِك، فَبعث فِي طلب مُوسَى ليَقْتُلهُ بِهِ.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء رجل من أقْصَى الْمَدِينَة يسْعَى} يُقَال: كَانَ اسْمه شَمْعُون، وَيُقَال: شمعان، وَقيل: هُوَ (حزقيل) مُؤمن [من] آل فِرْعَوْن.

{أَن تكون من المصلحين (19) وَجَاء رجل من أقصا الْمَدِينَة يسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك فَاخْرُج إِنِّي لَك من الناصحين (20) فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب قَالَ رب نجني من الْقَوْم الظَّالِمين (21) وَلما توجه تِلْقَاء مَدين قَالَ عَسى رَبِّي أَن} وَقَوله: {قَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك} أَي: يتشاورون فِي قَتلك، وَقيل: يَأْمر بَعضهم بَعْضًا بقتلك، وَقيل: إِن فِرْعَوْن قَالَ: أَيْن وجدتموه فَاقْتُلُوهُ. وَقَوله: {فَاخْرُج إِنِّي لَك من الناصحين} أَي: من الناصحين لَك فِي الْأَمر بِالْخرُوجِ، والنصح للْإنْسَان هُوَ الْإِشَارَة عَلَيْهِ بِمَا يصلح أمره، وَقد كَانَ السّلف يطْلب هَذَا بَعضهم من بعض. قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ حِين خطب: إِن أَحْسَنت فَأَعِينُونِي، وَإِن زِغْت فقوموني. وَرُوِيَ أَن رجلا قَالَ لعمر: اتَّقِ الله يَا عمر، فَأنْكر عَلَيْهِ بَعضهم، فَقَالَ عمر: دَعه، فَمَا نزال بِخَير مَا قيل لنا هَذَا. وَعَن بَعضهم أَنه قيل لَهُ: أَتُرِيدُ أَن تنصح؟ قَالَ: أما سرا فَنعم، وَأما جَهرا فَلَا.

21

قَوْله: {فَخرج مِنْهَا خَائفًا يترقب} أَي: ينْتَظر الطّلب، وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن بعث لطلبه حِين أخبر بهربه، وَقَالَ: اركبوا ثنيات الطَّرِيق، فَإِنَّهُ لَا يعرف كَيفَ الطَّرِيق. وَرُوِيَ أَنه خرج متوهجا لَا يدْرِي أَيْن ذهب، فَبعث الله تَعَالَى ملكا حَتَّى هداه إِلَى الطَّرِيق، وَفِي بعض التفاسير: أَنه خرج حافيا يعدو ثَمَان لَيَال لَيْسَ مَعَه زَاد، قَالَ ابْن عَبَّاس: وَهُوَ أول ابتلاء من الله لمُوسَى يسْقط خف قدمه، وَجعل يَأْكُل البقل حَتَّى كَانَ يرى خضرته فِي بَطْنه. وَقَوله: {قَالَ رب نجني من الْقَوْم الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَلما توجه تِلْقَاء مَدين} أَي: قبل مَدين. وَقَوله: {قَالَ عَسى رَبِّي أَن يهديني} أَي: يرشدني رَبِّي {سَوَاء السَّبِيل} أَي: وسط الطَّرِيق، ووسط الطَّرِيق هُوَ السَّبِيل الَّذِي يُوصل إِلَى الْمَقْصُود، ومدين اسْم رجل نسبت الْبَلدة إِلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر فِي الْمَدَائِن:

{يهديني سَوَاء السَّبِيل (22) وَلما ورد مَاء مَدين وجد عَلَيْهِ أمة من النَّاس يسقون وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ تذودان قَالَ مَا خطبكما قَالَتَا لَا نسقي حَتَّى يصدر الرعاء وأبونا شيخ} (رُهْبَان مَدين لَو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف الْعُقُول الفادر) وَقَالَ أهل الْمعَانِي: التَّوَجُّه إِلَى جِهَة من الْجِهَات. وَقَوله: {تِلْقَاء مَدين} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: نَحْو مَدين. وَقَوله: {عَسى رَبِّي أَن يهديني سَوَاء السَّبِيل} قَالَ مُجَاهِد: طَرِيق مَدين.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَلما ورد مَاء مَدين} يَعْنِي: لما ورد مُوسَى مَاء مَدين، وَهُوَ بِئْر كَانُوا يسقون مِنْهَا أغنامهم ومواشيهم. وَقَوله: {وجد عَلَيْهِ أمة من النَّاس يسقون} أَي: جمَاعَة. وَقَوله: {وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ} أَي: سوى الْجَمَاعَة امْرَأتَيْنِ، وَقيل: بَعيدا من الْجَمَاعَة امْرَأتَيْنِ. وَقَوله: {تذودان} أَي: تحبسان وتكفان أغنامهما من مُخَالطَة أَغْنَام النَّاس. وَقَالَ قَتَادَة: تزودان أَي: تكفان النَّاس عَن أغنامهما، قَالَ الشَّاعِر: (فقد سلبت عصاك بَنو تَمِيم ... فَلَا أَدْرِي بِأَيّ عَصا تذود) وَأنْشد قطرب شعرًا: (أَبيت على بَاب القوافي كَأَنَّمَا ... أذود بهَا سربا من الْوَحْش نزعا) وَقَوله: {مَا خطبكما} أَي: قَالَ مُوسَى للمرأتين: مَا خطبكما؟ أَي: مَا شأنكما؟ والخطب: الْأَمر المهم، وَإِنَّمَا سَأَلَ هَذَا عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا تسقيان الْغنم مَعَ النَّاس. وَقَوله: {قَالَتَا لَا نسقي} يَعْنِي: لَا نسقي غنمنا، وَقَوله: {حَتَّى يصدر الرعاء} (وَقُرِئَ: " حَتَّى يصدر الرعاء " فَقَوله: {حَتَّى يصدر الرعاء} أَي: يرجع الرعاء بأغنامهم، وَقَوله: {حَتَّى يصدر الرعاء} ) . أَي: يصدر الرعاء أغنامهم، قَالَ

(كَبِير (23) فسقى لَهما ثمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رب إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهمَا تمشي على استحياء قَالَت إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك أجر مَا) قَتَادَة. كَانَتَا تسقيان أغنامهما مَا تفضل من مياه الْقَوْم. وَقَالَ بَعضهم: لم تسقيا أغنامهما كَرَاهَة مزاحمة الرِّجَال. وَقَوله: {وأبونا شيخ كَبِير} لَا يقدر على سقِِي الْغنم، كَأَنَّهُمَا جعلتا ذَلِك عذرا لَهما، وَقيل: إِنَّمَا قَالَتَا ذَلِك استعطافا لقلب مُوسَى حَتَّى يسقيهما، قَالَ ابْن عَبَّاس: وصل مُوسَى أَي: مَاء مَدين وخضرة البقل يرى فِي أمعائه من الهزال.

24

وَقَوله: {فسقى لَهما} فِي الْقِصَّة: أَن الْقَوْم رجعُوا بأغنامهم، وغطوا رَأس الْبِئْر بِحجر، لَا يرفعهُ إِلَّا عشرَة نفر، فجَاء مُوسَى وَرفع الْحجر وَحده، وَسَقَى غنم الْمَرْأَتَيْنِ. وَيُقَال: إِنَّه نزع ذنوبا ودعا فِيهِ بِالْبركَةِ، فروى مِنْهُ جَمِيع الْغنم. وَذكر ابْن إِسْحَاق: أَن مُوسَى زاحم الْقَوْم وأخرهم، ونحاهم عَن رَأس الْبِئْر وَسَقَى غنم الْمَرْأَتَيْنِ. وَقَوله: {ثمَّ تولى إِلَى الظل} يُقَال: كَانَ ظلّ شَجَرَة، وَيُقَال: كَانَ ظلّ حَائِط بِلَا سقف. وَقَوله: {فَقَالَ رب إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير} أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَنه طلب من الله الطَّعَام لجوعه، قَالَ ابْن عَبَّاس فلقَة خبز، أَو قَبْضَة تمر. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: لم يكن على وَجه الأَرْض أكْرم مِنْهُ، وَكَانَ مُحْتَاجا إِلَى شقّ تَمْرَة. وَقَالَ مُجَاهِد: طلب الْخبز. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى أخرج للخبز بَرَكَات السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَعَن بَعضهم: لَوْلَا الْخبز مَا عبد الله. وَالْعرب تسمي الْخبز جَابِرا، قَالَ بَعضهم شعرًا: (لَا تلوموني ولوموا جَابِرا ... فجابر كلفني الهواجرا) يَعْنِي: الْعَمَل بالهاجرة.

25

قَوْله تَعَالَى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهمَا} فِي الْآيَة حذف، وَهُوَ أَن الْمَرْأَتَيْنِ رجعتا إِلَى أَبِيهِمَا، وَأكْثر أهل التَّفْسِير أَن أباهما كَانَ هُوَ: شُعَيْب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ رجل مِمَّن آمن بشعيب، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن أخي شُعَيْب، فَلَمَّا

{سقيت لنا فَلَمَّا جَاءَهُ وقص عَلَيْهِ الْقَصَص قَالَ لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين (25) قَالَت إِحْدَاهمَا يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين (26) قَالَ إِنِّي أُرِيد} رجعتا إِلَى أَبِيهِمَا بِسُرْعَة أنكر رجوعهما، فذكرتا لَهُ قصَّة الرجل، فَبعث إِحْدَاهمَا فِي طلبه. وَقَوله: {تمشي على استحياء} روى عَمْرو بن مَيْمُون، عَن عمر أَنه قَالَ: ليبست بسلفع من النِّسَاء، وَلَا خراجة وَلَا ولاجة، وَلَكِن وضعت كمها على وَجههَا استحياء. وَقَوله: {قَالَت إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك أجر مَا سقيت لنا} أَي: ليطعمك ويثيبك أجر مَا سقيت لنا أَي: عوض مَا سقيت لنا. قَالَ أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار: لما سمع مُوسَى هَذَا أَرَادَ أَلا يذهب وَلَكِن كَانَ جائعا، فَلم يجد بدا من الذّهاب، فمشت الْمَرْأَة وَمَشى مُوسَى خلفهَا، فَجعلت الرّيح تضرب ثوبها، وتصف عجيزتها، فكره مُوسَى ذَلِك، فَقَالَ: يَا أمة الله، امشي خَلْفي وصفي لي الطَّرِيق، فَفعلت كَذَلِك، فَلَمَّا وصل مُوسَى إِلَى دَار شُعَيْب، فَإِذا الْعشَاء تهَيَّأ، فَقَالَ: يَا شَاب، اجْلِسْ، فَكل، فَقَالَ: معَاذ الله، إِنَّا أهل بَيت لَا نطلب على عمل من أَعمال الْآخِرَة عوضا من الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهُ شُعَيْب: إِن هَذَا عاداتي وعادات آبَائِي، نقري الضَّيْف ونطعم الطَّعَام، فَجَلَسَ وَأكل. هَذَا كُله قَول أبي حَازِم. وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُ وقص عَلَيْهِ الْقَصَص} يَعْنِي: مَا لَقِي من فِرْعَوْن وَأمره من أَوله إِلَى آخِره. وَقَوله: {لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين} إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لم يكن لفرعون سُلْطَان على مَدين، والظالمين: فِرْعَوْن وَقَومه.

26

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت إِحْدَاهمَا يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ} أَي: اسْتَأْجرهُ لرعي الْغنم. وَفِي الْقِصَّة: أَن شعيبا قَالَ لابنته: وَمَا علمك بقوته وأمانته؟ فَقَالَت: أما قوته فَلِأَنَّهُ حمل حجرا لَا يحملهُ إِلَّا عشرَة من الرِّجَال، وَأما أَمَانَته فَإِنَّهُ قَالَ لي: امش خَلْفي لِئَلَّا تصف

{أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين على أَن تَأْجُرنِي ثَمَانِي حجج فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك وَمَا أُرِيد أَن أشق عَلَيْك ستجدني إِن شَاءَ الله من الصَّالِحين (27) قَالَ ذَلِك بيني} الرّيح بدنك، وَيُقَال: القوى فِيمَا مَا يَلِي، والأمين فِيمَا يستودع.

27

قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين} أَكثر أهل التَّفْسِير: أَنه زوجه الصُّغْرَى مِنْهُمَا، وَاسْمهَا صفوراء، وَهِي الَّتِي ذهبت لطلب مُوسَى. وَقَوله: {على أَن تَأْجُرنِي} أَي: تكون أجيري، وَقيل: على أَن تثيبني. {ثَمَانِي حجج} أَي: ثَمَان سِنِين. قَوْله: {فَإِن أتممت عشرا فَمن عنْدك} يَعْنِي: هُوَ تبرع من عنْدك. وَقَوله: {وَمَا أُرِيد أَن أشق عَلَيْك} أَي: مَا ألزمك تَمام الْعشْرَة إِلَّا أَن تتبرع. وَقَوله: {ستجدني إِن شَاءَ الله من الصَّالِحين} أَي: الرافقين بك، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {قَالَ اخلفني فِي قومِي وَأصْلح} أَي: ارْفُقْ.

28

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ ذَلِك بيني وَبَيْنك} أَي: هَذَا الشَّرْط بيني وَبَيْنك. {أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت} أَي: أَي الْأَجَليْنِ قضيت، و " مَا " صلَة. وَقَوله: {فَلَا عدوان عَليّ} أَي: لَا أطلب بِالزِّيَادَةِ، وَقَوله: {وَالله على مَا نقُول وَكيل} أَي: شَاهد، وَقيل: حفيظ. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أجر مُوسَى نَفسه بطعمة بَطْنه وعفة فُرْجَة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي سُئِلَ: أَي

{وَبَيْنك أَيّمَا الْأَجَليْنِ قضيت فَلَا عدوان عَليّ وَالله على مَا نقُول وَكيل (28) فَلَمَّا قضى} الْأَجَليْنِ وفى مُوسَى؟ قَالَ: " أكملهما وأتمهما ". وروى شَدَّاد بن أَوْس عَن النَّبِي: " أَن شعيبا بَكَى حَتَّى عمي فَرد الله عَلَيْهِ بَصَره، (ثمَّ بَكَى حَتَّى عمي، فَرد الله عَلَيْهِ بَصَره) ، ثمَّ بَكَى حَتَّى عمي، فَقَالَ الله تَعَالَى: لم تبك يَا شُعَيْب؟ أخوفاً من النَّار أَو طَمَعا فِي الْجنَّة؟ فَقَالَ: لَا يَا رب، وَلَكِن أحبك وَقَالَ بَعضهم: شوقا إِلَى لقائك قَالَ: يَا شُعَيْب، وَلذَلِك أخدمتك مُوسَى كليمي " وَالْخَبَر غَرِيب. وَأما قصَّة الْعَصَا: إِن شعيبا قَالَ لابنته: أعطي مُوسَى عَصا ليتقوى بهَا على رعي الْغنم، وَكَانَ عِنْده عَصا أودعها ملك مِنْهُ، فَدخلت بنت شُعَيْب، وَوَقعت هَذِه الْعَصَا بِيَدِهَا وَخرجت بهَا، فَقَالَ شُعَيْب: ردي هَذِه الْعَصَا، وخذي عَصا أُخْرَى، فَردَّتهَا، وأرادت أَن تَأْخُذ عَصا أُخْرَى فَوَقَعت بِيَدِهَا هَذِه الْعَصَا، هَكَذَا ثَلَاث مَرَّات، فَسلم

{مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله آنس من جَانب الطّور نَارا قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا} شُعَيْب الْعَصَا إِلَى مُوسَى، وَخرج مُوسَى بالعصا، ثمَّ إِن الشَّيْخ نَدم فَذهب فِي أَثَره، وَطلب مِنْهُ أَن يرد الْعَصَا إِلَيْهِ، وأبى مُوسَى، فَقَالَا: نَتَحَاكَم إِلَى أول من يَلْقَانَا، فلقيهما ملك فِي صُورَة رجل، (فَحكم بِأَن يطْرَح) الْعَصَا، فَمن أطَاق حملهَا فَهِيَ لَهُ، فَطرح مُوسَى الْعَصَا، فجَاء شُعَيْب ليأخذها فَلم يطق حملهَا، وَجَاء مُوسَى فَأَخذهَا وَذهب بالعصا. أورد هَذَا وهب وَابْن إِسْحَاق وَغَيرهمَا.

29

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله} فِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما أتم الْأَجَل وَسلم شُعَيْب ابْنَته إِلَيْهِ، قَالَ مُوسَى للْمَرْأَة: اطلبي من أَبِيك ليجعل بعض الْغنم لنا، فطلبت من أَبِيهَا ذَلِك، فَقَالَ شُعَيْب: كل مَا ولدت هَذَا الْعَام على غير شيتها، وَقيل: كلما ولدت بلقاء فَهِيَ لَكمَا، فجَاء مُوسَى إِلَى المَاء الَّذِي تشرب مِنْهُ الْغنم، وَوضع الْعَصَا فِي المَاء، وَرُوِيَ أَنه كلما شربت شَاة من الْغنم فَجعل يضْرب جنبها بالعصا، فَولدت ذَلِك الْعَام كلهَا على غير شيتها، وَقَالَ: ولدت بلقاء، ثمَّ إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَأْذن من شُعَيْب ليرْجع إِلَى مصر، يزور والدته وأخاه، فَأذن لَهُ، فَسَار بأَهْله إِلَى جَانب مصر. وَقَوله: {آنس من جَانب الطّور نَارا} رُوِيَ أَن مُوسَى كَانَ رجلا غيورا، وَكَانَ يصحب الرّفْقَة بِاللَّيْلِ، ويفارقهم بِالنَّهَارِ، فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي أَرَادَ الله كرامته فِيهَا، أَخطَأ الطَّرِيق؛ لِأَن الظلمَة اشتدت وَاشْتَدَّ الْبرد، وَانْقطع عَن الرّفْقَة فَجعل يقْدَح الزند فَلَا يورى، ثمَّ إِنَّه أبْصر نَارا من قبل الطّور، وَكَانَ نورا وَلم تكن نَارا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {آنس من جَانب الطّور نَارا} أَي: أبْصر. وَقَوله: {قَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا} أَي: أَبْصرت نَارا.

{لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر أَو جذوة من النَّار لَعَلَّكُمْ تصطلون (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الواد الْأَيْمن فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} قَوْله تَعَالَى: {لعَلي آتيكم مِنْهَا بِخَبَر} أَي: بِخَبَر عَن الطَّرِيق؛ لِأَنَّهُ قد أَخطَأ الطَّرِيق، وَقَوله: {أَو جذوة من النَّار} أَي: قِطْعَة من النَّار، وَقيل: عود فِي رَأسه نَار. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تصطلون} أَي: (تصطلون) بهَا فتذهب عَنْكُم الْبرد، وَيُقَال: أحسن من الصلى فِي لشتاء.

30

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن} أَي: يَمِين مُوسَى، والشاطئ هُوَ الْجَانِب. وَقَوله: {فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة} سمى الْبقْعَة الْمُبَارَكَة لِأَن الله تَعَالَى كلم مُوسَى فِيهَا، فَإِن قيل: فَلم لم يسم الشَّجَرَة مباركة وَقد قَالَ: {من الشَّجَرَة} ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ إِذا ذكرت الْبركَة فِي الْبقْعَة، فقد ذكرت فِي الشَّجَرَة، فَذكر الْبقْعَة؛ لِأَنَّهَا أَعم. وَقَوله: {من الشَّجَرَة} قَالُوا: كَانَت شَجَرَة العوسج هِيَ أول شَجَرَة غرست فِي الأَرْض، وَقيل: شجر العليق. وَقَوله: {أَن ياموسى إِنِّي انا الله رب الْعَالمين} أى: رب الْجِنّ وَالْإِنْس وَالْمَلَائِكَة وَالْخَلَائِق أَجْمَعِينَ. وَقَوله: {من الشَّجَرَة} قَالَ الزّجاج والنحاس وَغَيرهمَا: كلم الله مُوسَى من الشَّجَرَة بِلَا كَيفَ. وَعَن الضَّحَّاك: من نَحْو الشَّجَرَة. وَعند الْمُعْتَزلَة: أَن الله تَعَالَى خلق كلَاما فِي الشَّجَرَة، فَسمع مُوسَى ذَلِك الْكَلَام، وَهَذَا عندنَا بَاطِل، وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي كلم مُوسَى على مَا ورد بِهِ النَّص، وَإِذا كَانَ على هَذَا الْوَجْه الَّذِي قَالُوا فَيكون الله خَالِقًا لَا مكلما؛ لِأَنَّهُ يُقَال: خلق فَهُوَ خَالق، وَلَا يُقَال: خلق فَهُوَ مُكَلم. وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما رأى النَّار، ترك أَهله وَولده، وَتوجه نَحْو النَّار، فَبَقيَ أَهله

((30} وَأَن ألق عصاك فَلَمَّا رَآهَا تهتز كَأَنَّهَا جَان ولى مُدبرا وَلم يعقب يَا مُوسَى أقبل وَلَا تخف إِنَّك من الْآمنينَ (31) اسلك يدك فِي جيبك تخرج بَيْضَاء من غير سوء) فِي ذَلِك الْمَكَان ثَلَاثِينَ سنة، حَتَّى مر بهَا رَاع فرآها حزينة باكية، فَردهَا إِلَى أَبِيهَا، ذكره النقاش فِي تَفْسِيره. وَقَوله: {إِنِّي أَنا الله رب الْعَالمين} قد بَينا من قبل،

31

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن ألق عصاك} وَفِي الْقِصَّة: أَن الْعَصَا كَانَ من آس الْجنَّة، وَقعت إِلَى آدم، ثمَّ من آدم إِلَى نوح، ثمَّ من نوح إِلَى إِبْرَاهِيم، ثمَّ من إِبْرَاهِيم إِلَى شُعَيْب، وَكَانَ لَا يَأْخُذهَا غير نَبِي إِلَّا أَكلته، وَكَانَ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا بالسُّرْيَانيَّة أَنا الأول أَنا الآخر أَنا الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت أبدا. وَقَوله: {فَلَمَّا رَآهَا تهتز} أَي: تتحرك {كَأَنَّهَا جَان} الجان: الْحَيَّة الصَّغِيرَة، والثعبان: الْحَيَّة الْعَظِيمَة. وَقد ذكرنَا التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ، قد قَالَ بَعضهم: كَانَ فِي ابْتِدَاء الْأَمر حَيَّة صَغِيرَة، ثمَّ صَارَت تعظم حَتَّى صَارَت ثعبانا. وَقَوله: {ولى مُدبرا} أَي: من الْخَوْف، فَإِن قيل: لم خَافَ مُوسَى وَهُوَ فِي مثل ذَلِك الْمقَام؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ رأى شَيْئا بِخِلَاف الْعَادة، وَمن رأى شَيْئا بِخِلَاف الْعَادة فخاف عذر، وَقد رُوِيَ أَنَّهَا لما صَارَت حَيَّة ابتلعت مَا حولهَا من لصخور وَالْأَشْجَار، وَسمع مُوسَى لأسنانها صريفا عَظِيما، فهرب. وَقَوله: {وَلم يعقب} أَي: لم يلْتَفت، وَقَوله: {يَا مُوسَى أقبل وَلَا تخف إِنَّك من الْآمنينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

32

قَوْله تَعَالَى: {اسلك يدك فِي جيبك} أَي: أَدخل يدك فِي جيبك، وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَت عَلَيْهِ مدرعة مصرية من صوف. وَقَوله: {تخرج بَيْضَاء من غير سوء} يُقَال: خرجت وَلها شُعَاع كضوء الشَّمْس. وَقَوله: {واضمم إِلَيْك جناحك من الرهب} حكى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن

3 - {واضمم إِلَيْك جناحك من الرهب فذانك برهانان من رَبك إِلَى فِرْعَوْن وملئه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (32) قَالَ رب إِنِّي قتلت مِنْهُم نفسا فَأَخَاف أَن يقتلُون (33) وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ معي ردْءًا يصدقني إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون (34) } مَعْنَاهُ: ضع يدك على صدرك. والجناح: الْيَد، قَالَ: وَمَا من خَائِف بعد مُوسَى إِلَّا إِذا وضع يَده على صَدره زَالَ خَوفه. وَذكر الْفراء فِي كِتَابه: أَن الْجنَاح هَاهُنَا هُوَ لعصا، وَمَعْنَاهُ: اضمم إِلَيْك عصاك. وَمن الْمَعْرُوف أَن الْجنَاح هُوَ الْعَضُد، وَقيل: جَمِيع الْيَد، وَقيل: مَا تَحت الْإِبِط، والخائف إِذا ضم إِلَيْهِ يَده خف خَوفه. وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء أَن الرهب هُوَ الْكمّ بِهِ، فَيكون معنى الْآيَة على هَذَا: واضمم إِلَيْك عصاك ويدك الَّتِي فِي كمك فقد جعلناها آيَتَيْنِ لَك، وَيقْرَأ: " من الرهب " وَقيل: الرهب والرهب بِمَعْنى وَاحِد كالرشد والرشد، وَالْمعْنَى الظَّاهِر فِيهِ أَنه الْخَوْف. وَقَوله: {فذاناك برهانان من رَبك} أَي: آيتان وحجتان من رَبك. وَقَوله: {إِلَى فِرْعَوْن وملئه} يَعْنِي: وَأَتْبَاعه. وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين} أَي: خَارِجين عَن الطَّاعَة.

33

وَقَوله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي قتلت مِنْهُم نفسا فَأَخَاف أَن يقتلُون} يَعْنِي: القبطي.

34

وَقَوله: {وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ فِي لِسَان مُوسَى عقدَة من الْوَقْت الَّذِي أَخذ بلحية فِرْعَوْن، وَأخذ الْجَمْرَة بعد ذَلِك وألقاه فِي فِيهِ على مَا ذكرنَا من قبل. وَقَوله: {فَأرْسلهُ معي ردْءًا} أَي: عونا. {يصدقني} أَي مُصدقا لي، وَقُرِئَ: " يصدقني " بِسُكُون الْقَاف أَي: إِن كَذَّبُونِي هُوَ يصدقني. وَقَوله: {إِنِّي أَخَاف أَن يكذبُون} يَعْنِي: فِرْعَوْن وَقَومه.

{قَالَ سنشد عضدك بأخيك ونجعل لَكمَا سُلْطَانا فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون (35) فَلَمَّا جَاءَهُم مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سحر مفترى وَمَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أعلم بِمن جَاءَ بِالْهدى من}

35

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ سنشد عضدك بأخيك} وَهَذَا على طَرِيق التَّمْثِيل؛ لِأَن قُوَّة الْيَد بالعضد. وَفِي الْكَلَام الْمَنْقُول من الْعَرَب أَن رجلا قيل لَهُ: مَاتَ أَبوك، قَالَ: ملكت نَفسِي، قيل لَهُ: مَاتَ ولدك، قَالَ: تفرغ قلبِي، قيل: مَاتَت زَوجتك، قَالَ: تجدّد فِرَاشِي، قيل: مَاتَ أَخُوك، قَالَ: وانفصام ظهراه، وَقَالَ الشَّاعِر: (أَخَاك أَخَاك إِن من لَا أَخا لَهُ ... كساع إِلَى لهيجا بِغَيْر سلَاح) (وَإِن ابْن عَم الْمَرْء فَاعْلَم جنَاحه ... وَهل ينْهض الْبَازِي بِغَيْر جنَاح؟ !) وَقدم الله الْأَخ على سَائِر الْأَقَارِب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه} لِأَن الْإِنْسَان إِلَى أَخِيه أميل، وَبِه آنس، وَإِلَيْهِ أسكن. وَقَوله: {ونجعل لكم سُلْطَانا} أَي: حجَّة. وَقَوله: {فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} أَي: لَا يصلونَ إلَيْكُمَا لمَكَان آيَاتنَا، وَيُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: ونجعل لَكمَا سُلْطَانا بِآيَاتِنَا فَلَا يصلونَ إلَيْكُمَا. وَقَوله: {أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون} الغالبون لفرعون وَقَومه.

36

وَقَوله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُم مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَات} أَي: واضحات. وَقَوله: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سحر مفترى} أَي: مختلق. وَقَوله: {مَا سمعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلين} أَي: الَّذين مضوا.

37

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أعلم بِمن جَاءَ بِالْهدى من عِنْده} يَعْنِي: أعلم

{عِنْده وَمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْن يَا أَيهَا الْمَلأ مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي فَأوقد لي يَا هامان على الطين فَاجْعَلْ لي صرحا لعَلي أطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه من الْكَاذِبين (38) واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} بِمن جَاءَ بِالْهدى، فَأَنا الَّذِي جِئْت بِالْهدى من عِنْده. وَقَوله: {وَمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار} أَي: وَأعلم بِمن تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار، وَهِي الْجنَّة. وَقَوله: {إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ} أَي: لَا يسْعد من أشرك بِاللَّه.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا أَيهَا الْمَلأ مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي} يُقَال: إِنَّه كَانَ بَين قَول هَذَا وَبَين قَوْله: {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} أَرْبَعُونَ سنة. وَقَوله: {فَأوقد لي يَا هامان على الطين} أَي: اطبخ لي الطين حَتَّى يصير آجرا، وَيُقَال: إِنَّه أول من اتخذ الْآجر. وَقَوله: {فَاجْعَلْ لي صرحا} أَي: قصرا عَالِيا، وَقيل: مَنَارَة. وَقَوله تَعَالَى: {لعَلي أطلع إِلَى إِلَه مُوسَى} أَي: أناله وأصيبه. وَفِي الْقِصَّة: أَن طول الصرح كَانَ شَيْئا كَبِيرا. ذكر فِي بعض التفاسير: أَن صرح فِرْعَوْن كَانَ طوله خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَخمسين ذِرَاعا، وَعرضه ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع ونيف. وَكَانَ فِرْعَوْن لَا يقدر أَن يقوم على أَعْلَاهُ؛ مَخَافَة أَن تنسفه الرّيح، وَذكر السّديّ أَن فِرْعَوْن علا ذَلِك الصرح، وَرمى بنشابة إِلَى السَّمَاء، فَرَجَعت إِلَيْهِ متلطخة بِالدَّمِ، فَقَالَ: قد قتلت إِلَه مُوسَى. وَقَوله: {وَإِنِّي لأظنه من الْكَاذِبين} أَي: لأظنه من الْكَاذِبين فِي زَعمه أَن للْأَرْض والخلق إِلَهًا غَيْرِي.

{وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ (39) فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين (40) وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ (41) وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين (42) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب من بعد مَا أهلكنا الْقُرُون الأولى بصائر للنَّاس وَهدى وَرَحْمَة لَعَلَّهُم يتذكرون}

39

قَوْله تَعَالَى: {واستكبر هُوَ وَجُنُوده فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وظنوا أَنهم إِلَيْنَا لَا يرجعُونَ} أَي: لَا يَنْقَلِبُون.

40

قَوْله تَعَالَى: {فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم} أَي: طرحناهم فِي الْبَحْر. وَقَوله: {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الظَّالِمين} يَعْنِي: فِرْعَوْن وَقَومه.

41

قَوْله تَعَالَى: {وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار} أَي: قادة. وَقَوله: {وَيَوْم الْقِيَامَة لَا ينْصرُونَ} أَي: لَا يمْنَعُونَ من الْعَذَاب.

42

وَقَوله تَعَالَى: {وأتبعناهم فِي هَذِه الدُّنْيَا لعنة} أَي: أتبعنا الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا لعنة. وَقَوله: {وَيَوْم الْقِيَامَة هم من المقبوحين} أَي: الْمُعَذَّبين، وَيُقَال من المشبوهين أَي: بسواد الْوَجْه وزرقة الْعين.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} أَي: التَّوْرَاة، وَقَوله: {من بعد مَا أهلكنا الْقُرُون الأولى} وهم قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم لوط وَقوم شُعَيْب وَغَيرهم. وَقَوله: {بصائر للنَّاس} أَي: دلالات للآخرين. وَقَوله: {وَهدى وَرَحْمَة لَعَلَّهُم يتذكرون} أَي: يتعظون بالدلالات. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كنت بِجَانِب الغربي} أَي: مَا كنت بِنَاحِيَة الْجَبَل مِمَّا يَلِي الغرب، وَقَوله: {إِذا قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر} أَي: أحكمنا مَعَ مُوسَى الْأَمر، وَذَلِكَ بإرساله إِلَى فِرْعَوْن وَقَومه.

( {43) وَمَا كنت بِجَانِب الغربي إِذْ قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر وَمَا كنت من الشَّاهِدين (44) وَلَكنَّا أنشأنا قرونا فتطاول عَلَيْهِم الْعُمر وَمَا كنت ثاويا فِي أهل مَدين تتلو عَلَيْهِم آيَاتنَا وَلَكنَّا كُنَّا مرسلين (45) وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا وَلَكِن رَحْمَة من رَبك}

44

وَقَوله: {وَمَا كنت من الشَّاهِدين} أَي: الْحَاضِرين ذَلِك الْمقَام، وَمعنى هَذَا: أَنَّك لم تكن تكن شَاهدا وَلَا حَاضرا ذَلِك الْمقَام، وَهَذَا الْعلم لَك من قبلنَا.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَلَكنَّا أنشأنا قرونا فتطاول عَلَيْهِم الْعُمر} رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ: مَا اهلك الله تَعَالَى أمة من الْأُمَم بعد إنزاله التَّوْرَاة على مُوسَى غير الْقرْيَة الَّتِي اعْتدت فِي السبت، فمسخوا، يَعْنِي: أهل الْقرْيَة. وَقَوله: {وَمَا كنت ثاويا} أَي: مُقيما {فِي أهل مَدين} . وَقَوله: {تتلوا عَلَيْهِم آيَاتنَا} وَقَالَ هَذَا لِأَن شعيبا كَانَ يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَات الله، وَقيل: هَذَا كَانَ مُوسَى، وَالْأول أظهر، وَقَوله: {وَلَكنَّا كُنَّا مرسلين} أَي: نَحن الَّذين أرسلناهم.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كنت بِجَانِب الطّور إِذْ نادينا} رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي معنى هَذِه الْآيَة: إِن الله تَعَالَى قَالَ: يَا أمة مُحَمَّد، أَعطيتكُم قبل أَن تَسْأَلُونِي، وأجبتكم قبل أَن تَدعُونِي، وغفرت لكم قبل أَن تستغفروني. فَهَذَا هُوَ معنى النداء، وَنقل بَعضهم هَذَا مُسْندًا إِلَى النَّبِي. وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: معنى قَوْله: {نادينا} هُوَ أَنه قَالَ لهَذِهِ الْأمة، وهم فِي

{لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير من قبلك لَعَلَّهُم يتذكرون (46) وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم فيقولوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك ونكون من الْمُؤمنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا قَالُوا لَوْلَا مثل أُوتِيَ مُوسَى أَو لم يكفروا بِمَا} أصلاب آبَائِهِم: آمنُوا بِمُحَمد إِذا بعثته. وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما سمع هَذَا من الله تَعَالَى: قَالَ: يَا رب، إِنَّمَا جِئْت لوفادة أمة مُحَمَّد. وَقَوله: {وَلَكِن رَحْمَة من رَبك} قد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى كتب كتابا قبل أَن يخلق آدم بألفي عَام، وَهُوَ عِنْده فَوق عَرْشه: سبقت رَحْمَتي غَضَبي ". وَقَوله تَعَالَى: {لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير من قبلك لَعَلَّهُم يتذكرون} ظَاهر الْمَعْنى.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن تصيبهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم فيقولوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك ونكون من الْمُؤمنِينَ} معنى الْآيَة: أَنهم لَوْلَا قَوْلهم هَذَا، واحتجاجهم بترك إرْسَال الرُّسُل، وَإِلَّا لعاجلناهم بالعقوبة، وَمِنْهُم من قَالَ: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِير الْآيَة: وَلَوْلَا أَنهم يَقُولُونَ: لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك، ونكون من الْمُؤمنِينَ، لأصابتهم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم، والمصيبة: الْعقُوبَة.

48

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق من عندنَا} فِي الْحق قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مُحَمَّد، وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن.

{أُوتِيَ مُوسَى من قبل قَالُوا سحران تظاهرا وَقَالُوا إِنَّا بِكُل كافرون (48) قل فَأتوا بِكِتَاب من عِنْد الله هُوَ أهْدى مِنْهُمَا أتبعه إِن كُنْتُم صَادِقين (49) فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك} وَقَوله: {قَالُوا} يَعْنِي: قَالَ الْمُشْركُونَ {لَوْلَا أُوتِيَ} أَي: هلا أُوتِيَ {مثل مَا أُوتِيَ مُوسَى} أَي: من الْعَصَا، وَالْيَد الْبَيْضَاء. وَقَوله: {أَو لم يكفروا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى من قبل} يَعْنِي: أَن الْمُشْركين كفرُوا بمُوسَى. وَقَوله: {قَالُوا ساحران تظاهرا} يَعْنِي: مُوسَى ومحمدا، وَقَالَ مُجَاهِد: مُوسَى وَهَارُون. وَقُرِئَ: " سحران تظاهرا " وَاخْتلف القَوْل فِي لسحرين، أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا التَّوْرَاة وَالْقُرْآن، وَالْآخر: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. وَقَوله: {تظاهرا} أَي: تعاونا، وَهَذَا فِي الساحرين حَقِيقَة، وَفِي السحرين على طَرِيق التَّوَسُّع، وَقَوله: {قَالُوا إِنَّا بِكُل كافرون} أَي: جاحدون.

49

وَقَوله تَعَالَى: {قل فَأتوا بِكِتَاب من عِنْد الله هُوَ أهْدى مِنْهُمَا} يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْقُرْآن. وَقَوله: {أتبعه} يَعْنِي: اتبع (الْكتاب) الَّذِي جئْتُمْ بِهِ من عِنْد الله. وَقَوله: {إِن كُنْتُم صَادِقين} مَعْنَاهُ: أَن الْحق مَعكُمْ.

50

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك} أَي: لم يَأْتُوا بِمَا طلبت، وَقَوله: {فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم} وَاتفقَ أهل الْمعرفَة أَن الْهوى مرد مهلك. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم شحا مُطَاعًا، وَهوى مُتبعا، وَإِعْجَاب كل ذِي رَأْي بِرَأْيهِ ".

{فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (50) (وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل لَعَلَّهُم يتذكرون (51) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ (52) وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا إِنَّا} وَقَوله: {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} أَي: بِغَيْر بَيَان من الله، وَفِي الْآيَة دلَالَة على أَنه يجوز أَن يكون الْهوى مُوَافقا للحق، وَإِن كَانَ نَادرا. وَرُوِيَ أَن بعض الْمَشَايِخ سُئِلَ عَن هوى وَافق حَقًا، فَقَالَ: هُوَ الزّبد بالنرسيان، والنرسيان نوع من التَّمْر بِالْبَصْرَةِ أَجود مَا يكون. وَقَوله: {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: الْمُشْركين، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن النَّبِي طلب مِنْهُم أَن يَأْتُوا بِكِتَاب مثل كِتَابه، وتحداهم بذلك مرَارًا، وَلم يَأْتُوا بِهِ، وَلَو قدرُوا لأتوا بِهِ، وَلَو ببذل النُّفُوس وَالْأَمْوَال، وَلَو أَتَوا بِهِ لعرف ذَلِك، وسارت بِهِ الركْبَان.

51

قَوْله: {وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل} أَي: ذكرنَا لَهُم إهلاك الْأُمَم الْمَاضِيَة، فاتصل بَعضهم بِبَعْض من الْكفْر، واتصل عَذَاب بَعضهم بِبَعْض. وَقَوله تَعَالَى: {لَعَلَّهُم يتذكرون} أَي: [يتعظون] .

52

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله} قَالَ سعيد بن جُبَير: هَؤُلَاءِ قوم من مؤمني الْحَبَشَة، آمنُوا بِالنَّبِيِّ، وَقدمُوا الْمَدِينَة، وَجَاهدُوا مَعَه. وَعَن [ابْن] عَبَّاس قَالَ: نزلت الْآيَة فِي ثَمَانِينَ من أهل الْكتاب، وَأَرْبَعُونَ من نَجْرَان، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ من الْحَبَشَة، وَثَمَانِية من الشَّام. وَقَالَ بَعضهم: نزلت الْآيَة فِي قوم كَانُوا يطْلبُونَ الدّين قبل لنَبِيّ، فَلَمَّا بعث آمنُوا بِهِ، وَقَالُوا: كَانَ فيهم عبد الله بن سَلام، وسلمان، والجارود الْعَبدَرِي وَغَيرهم. وَقَوله: {هم بِهِ يُؤمنُونَ} بِالْكتاب، وَقيل: بِمُحَمد.

53

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم} يَعْنِي: الْقُرْآن {قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا إِنَّا

{كُنَّا من قبله مُسلمين (53) أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (54) وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ وَقَالُوا لنا أَعمالنَا} كُنَّا من قبله مُسلمين) أَي: مُوَحِّدين.

54

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} يَعْنِي: أجر الْإِيمَان بِالْكتاب الأول، وَأجر الْإِيمَان بِالْكتاب الثَّانِي. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: ((ثَلَاثَة يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ: رجل آمن بِالْكتاب الأول، وَالثَّانِي عبد أدّى حق الله وَحقّ موَالِيه، وَرجل لَهُ جَارِيَة فأدبها وَأحسن تأديبها،، وَعلمهَا وَأحسن تعليمها، ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا ". وَفِي التَّفْسِير: أَن أهل الْكتاب الَّذين آمنُوا فاخروا أَصْحَاب النَّبِي بِهَذِهِ الْآيَة، وَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى يُؤْتِي أجرنا مرَّتَيْنِ، ويؤتيكم الْأجر مرّة، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته} الْآيَة. وَقَوله: {بِمَا صَبَرُوا} أَي: صَبَرُوا على الْحق، وَلم يزيغوا عَنهُ، وَقَوله: {ويدرءون بِالْحَسَنَة السَّيئَة} أَي: بقول لَا إِلَه إِلَّا الله الشّرك، وَيُقَال: بِالْمَعْرُوفِ الْمُنكر، وبالخير الشَّرّ، وَيُقَال: وبالحلم جهل الْجَاهِل. وَقَوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} أَي: يُنْفقُونَ فِي طَاعَة الله. وَرُوِيَ أَن الْقَوْم الَّذين آمنُوا من الْحَبَشَة لما قدمُوا الْمَدِينَة، وَجَاهدُوا، واستئذنوا من النَّبِي أَن يرجِعوا إِلَى الْحَبَشَة، ويحملوا أَمْوَالهم، فَأذن لَهُم، فَذَهَبُوا وحملوا الْأَمْوَال، وأنفقوا.

55

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا سمعُوا اللَّغْو أَعرضُوا عَنهُ} أَي: الْكَلَام الْبَاطِل، وَقيل: إِن

{وَلكم أَعمالكُم سَلام عَلَيْكُم لَا نبتغي الْجَاهِلين (55) إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن} الْمُشْركين كَانُوا يسبون مؤمني أهل الْكتاب، وَيَقُولُونَ: تَبًّا لكم، تركْتُم دينكُمْ واتبعتم غُلَاما منا. فَهُوَ معنى اللَّغْو الْمَذْكُور فِي الْآيَة. وَقَوله: {وَقَالُوا لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم} أَي: لنا ديننَا، وَلكم دينكُمْ، وَقيل: لكم سفهكم، وَلنَا حلمنا. وَقَوله: {سَلام عَلَيْكُم} لَيْسَ المُرَاد من السَّلَام هَاهُنَا هُوَ التَّحِيَّة، وَلَكِن هَذَا السَّلَام هُوَ سَلام المتاركة، وَيُقَال مَعْنَاهُ: سلمتم من معارضتنا لكم بِالْجَهْلِ والسفه. وَعَن بعض السّلف أَنه كَانَ يسب فَيَقُول: سَلام سَلام، وَعَن بَعضهم: أَي قَالُوا قولا يسلمُونَ مِنْهُ. وَقَوله: {لَا نبتغي الْجَاهِلين} أَي: لَا ندخل فِي جهل الْجَاهِلين.

56

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن الْآيَة فِي أبي طَالب، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَن أَبَا طَالب لما حَضَره الْمَوْت، دخل النَّبِي وَعِنْده أَبُو جهل وَعبد الله بن أبي أُميَّة وَغَيرهمَا، فَقَالَ رَسُول الله: " يَا عَم، قل لَا إِلَه إِلَّا الله، كلمة أُحَاج لَك بهَا عِنْد الله، فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل وَعبد الله بن [أبي] أُميَّة: أزغت عَن مِلَّة الْأَشْيَاخ؟ فَمَا زَالَ رَسُول الله يَقُول ذَلِك، وهم يَقُولُونَ، حَتَّى كَانَ كلمة قَالَهَا: أَنا على مِلَّة الْأَشْيَاخ)) . وَالْمعْنَى بالأشياخ: عبد الْمطلب، وهَاشِم، وَعبد منَاف. وَهَذَا الْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ، [وروى] مُسلم فِي صَحِيحه: أَن النَّبِي دخل على أبي طَالب وَقد حَضَره الْمَوْت، فَقَالَ: " يَا عَم، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله؛ أشفع لَك يَوْم الْقِيَامَة ". فَقَالَ: لَوْلَا أَن

{الله يهدي من يَشَاء وَهُوَ أعلم بالمهتدين (56) وَقَالُوا إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من أَرْضنَا أَو لم نمكن لَهُم حرما يجبي آمنا إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء رزقا من لدنا وَلَكِن} تعيرني نسَاء قُرَيْش، فيقلن: جزع عِنْد الْمَوْت، لأقررت بهَا عَيْنَيْك ". وَفِي رِوَايَة: " لَوْلَا أَن تعيرك نسَاء قُرَيْش، وَيكون سبه عَلَيْك، لأقررت بهَا عَيْنَيْك ". وَالْأول فِي الصَّحِيح، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} أَي: من أَحْبَبْت أَن يَهْتَدِي، وَقيل: من أحببته لِقَرَابَتِهِ {وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} أَي: يهدي لدينِهِ من يَشَاء. وَعَن [سعيد بن أبي رَاشد] : أَن هِرقل بعث رَسُولا من تنوخ إِلَى رَسُول الله: فجَاء إِلَيْهِ وَهُوَ بتبوك يحمل كتاب هِرقل، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " يَا أَخا تنوخ، أسلم. فَقَالَ: إِنِّي رَسُول ملك جِئْت من عِنْده؛ فأكره أَن أرجع إِلَيْهِ بِخِلَاف مَا جِئْت، فَضَحِك النَّبِي، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء} ". وَقَوله: {وَهُوَ أعلم بالمهتدين} وَهُوَ أعلم بِمن قدر لَهُ الْهِدَايَة.

57

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالُوا إِن نتبع الْهدى مَعَك نتخطف من أَرْضنَا} الاختطاف هُوَ الاستلاب بِسُرْعَة. وَيُقَال: إِن الْقَائِل لهَذَا القَوْل هُوَ الْحَارِث بن نَوْفَل بن عبد منَاف، قَالَ للنَّبِي: إِنَّا نعلم مَا جِئْت بِهِ حق، وَلَكنَّا إِن أسلمنَا مَعَك لم نطق الْعَرَب؛ فَإنَّا أَكلَة رَأس، ويقصدنا الْعَرَب من كل نَاحيَة، فَلَا نطيقهم. وَقَوله: {أَو لم نمكن لَهُم حرما أمنا} أَي: ذَا أَمن، وَمن الْمَعْرُوف أَنه يَأْمَن فِيهِ الظباء من الذئاب، وَالْحمام من الحدأة.

{أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (57) وَكم أهلكنا من قَرْيَة بطرت معيشتها فَتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهمْ إِلَّا قَلِيلا وَكُنَّا نَحن الْوَارِثين (58) وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاتنَا وَمَا كُنَّا مهلكي الْقرى إِلَّا وَأَهْلهَا ظَالِمُونَ (59) } وَقَوله: {يجبي إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شئ} أَي: يجمع إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شئ؛ يُقَال: جبيت المَاء فِي الْحَوْض أَي: جمعته. وَقَوله: {رزقا من لدنا} أَي: رَزَقْنَاهُمْ رزقا من لدنا. وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَي: مَا أقوله حق. وَمعنى الْآيَة: أَنا مَعَ كفركم أمناكم فِي الْحرم، فَكيف نخوفكم إِذا أسلمتم؟ . وَقَالَ مُجَاهِد: وجد عِنْد الْمقَام كتاب فِيهِ: أَنا الله ذُو بكة، صغتها يَوْم خلقت الشَّمْس وَالْقَمَر، وحرمتها يَوْم خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْض، حففتها بسبعة أَمْلَاك حنفَاء، يَأْتِيهَا رزقها من ثَلَاثَة سبل، مبارك لَهَا فِي اللَّحْم وَالْمَاء، أول من يحلهَا أَهلهَا. وَقد بَينا من قبل، أَن الرجل كَانَ من أهل الْحرم يخرج فَلَا يتَعَرَّض لَهُ، وَيُقَال: هَؤُلَاءِ أهل الله.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَكم أهلكنا من قَرْيَة} أَي: من أهل قَرْيَة {بطرت معيشتها} أَي: بطرت فِي معيشتها. وَقَالَ الْفراء: أبطرتها معيشتها. وَقَوله: {فَتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهمْ إِلَّا قَلِيلا} أَي: خربنا أَكْثَرهَا. وَيُقَال: معنى الْقَلِيل هَاهُنَا أَن الْمُسَافِر ينزل مسكنا خرابا، فيمكث فِيهِ يَوْمًا أَو بعض يَوْم. وَقَوله: {وَكُنَّا نَحن الْوَارِثين} قد بَينا.

59

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا} أَي: مَكَّة، وَيُقَال: فِي أمهَا رَسُولا أَي: فِي أَكْثَرهَا من سَائِر الدُّنْيَا رَسُولا. وَقَوله: {يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاتنَا} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {وَمَا كُنَّا مهلكي الْقرى إِلَّا وَأَهْلهَا ظَالِمُونَ} أَي: لم نهلك أهل قَرْيَة إِلَّا بعد أَن أذنبوا.

{وَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى أَفلا تعقلون (60) أَفَمَن وعدناه وَعدا حسنا فَهُوَ لاقيه كمن متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة من المحضرين (61) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغوينا أغويناهم كَمَا غوينا تبرأنا}

60

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ من شئ فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} الْمَتَاع على مَعْنيين: أحد الْمَعْنيين: هُوَ الْمُتْعَة وَالْمعْنَى الآخر: مَا يتأثث بِهِ. وَقَوله: {وَزينتهَا} أَي: وزينة الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى أَفلا يعْقلُونَ} أَي: أَفلا ينظرُونَ، ليعقلوا أَن الْبَاقِي خير من الفاني.

61

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن وعدناه وَعدا حسنا فَهُوَ لاقيه} قَالَ السّديّ: هَذَا ورد فِي حَمْزَة وَأبي جهل، وَقَالَ غَيره: فِي النَّبِي وَأبي جهل. وَقَوله: {فَهُوَ لاقيه} أَي: ملاقيه وصائر إِلَيْهِ، والوعد الْحسن هُوَ الْجنَّة. وَقَوله: {كمن متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: متعناه مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا، ثمَّ مرجعه إِلَى النَّار؛ فَهُوَ معنى قَوْله: {ثمَّ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة من المحضرين} أَي: من المحضرين النَّار.

62

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ} يَعْنِي: أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ أَنهم شركائي؟ .

63

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل} أَي: وَجَبت عَلَيْهِم كلمة الْعَذَاب. وَقَوله: {رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغوينا} أَي: دعوناهم إِلَى الغي. وَقَوله: {أغويناهم كَمَا غوينا} أَي: أضللناهم كَمَا ضللنا. وَقَوله: {تبرأنا إِلَيْك مَا كَانُوا إيانا يعْبدُونَ} يَعْنِي: أَنهم لم يعبدونا، وَلَكِن دعوناهم فَأَجَابُوا.

{إِلَيْك مَا كَانُوا إيانا يعْبدُونَ (63) وَقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فَلم يَسْتَجِيبُوا لَهُم وَرَأَوا الْعَذَاب لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين (65) فعميت عَلَيْهِم الأنباء يَوْمئِذٍ فهم لَا يتساءلون (66) فَأَما من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَعَسَى أَن يكون من المفلحين (67) وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار مَا كَانَ لَهُم}

64

قَوْله تَعَالَى: {وَقيل ادعوا شركاءكم} يَعْنِي قيل للْكفَّار: ادعوا شركاءكم أَي: الْأَصْنَام، وَمعنى قَوْله: {شركاءكم} أَي: شركائي فِي زعمكم. وَقَوله: {فدعوهم فَلم يَسْتَجِيبُوا لَهُم} أَي: لم يجيبوا لَهُم. وَقَوله: {وَرَأَوا الْعَذَاب لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ} مَعْنَاهُ: لَو أَنهم كَانُوا يَهْتَدُونَ مَا رَأَوْا الْعَذَاب.

65

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول مَاذَا أجبتم الْمُرْسلين} أَي: يُنَادى الْكفَّار.

66

وَقَوله: {فعميت عَلَيْهِم الأنباء يَوْمئِذٍ} أَي: الْحجَج؛ فكأنهم لما لم يَجدوا حجَّة فقد عجزوا عَنْهَا. وَقَوله: {فهم لَا يتساءلون} قد بَينا أَن هَذَا فِي بعض المواطن، وَيُقَال: لَا يتساءلون سُؤال التواصل والعطف، وَيُقَال: لَا يسْأَل بَعضهم بَعْضًا أَي: لَا يحمل غَيره ذَنبه؛ لِأَنَّهُ لَا يجد.

67

وَقَوله: {فَأَما من تَابَ وآمن وَعمل صَالحا فَعَسَى أَن يكون من المفلحين} أَي: من السُّعَدَاء الناجحين، وَفِي بعض التفاسير: أَن عَسى وَاجِب فِي جَمِيع الْقُرْآن، إِلَّا فِي قَوْله: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن} .

68

قَوْله تَعَالَى: {وَرَبك يخلق مَا يَشَاء ويختار} أَي: يخلق مَا يَشَاء من الْخلق، ويختار من يَشَاء للنبوة. وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة حَيْثُ قَالَ لَوْلَا أنزل الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم، فَأَرَادَ بِهِ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة نَفسه وَعُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، والقريتين: مَكَّة والطائف، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.

{الْخيرَة سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (68) وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون (69) وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة وَله الحكم وَإِلَيْهِ ترجعون (70) قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من إِلَه غير} قَوْله: {مَا كَانَ لَهُم الْخيرَة} يَعْنِي: أَن الِاخْتِيَار إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُم اخْتِيَار على الله، وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي ذَبَائِحهم للأصنام، وَكَانُوا يجْعَلُونَ الأسمن للأصنام، ويجعلون مَا هُوَ شَرّ لله. وَقَوله: {سُبْحَانَ الله وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} نزه نَفسه عَمَّا ينْسبهُ إِلَيْهِ الْمُشْركُونَ.

69

قَوْله تَعَالَى: {وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ} أَي: مَا تخفى صُدُورهمْ {وَمَا يعلنون} أَي: يظهرون.

70

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة} أَي: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَيُقَال: فِي الأولى وَالْآخِرَة أَي: فِي الأَرْض وَالسَّمَاء. وَقَوله: {وَله الحكم} أَي: فصل الْقَضَاء بَين العبيد. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ ترجعون} قد بَينا.

71

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} أَي: دَائِما. وَقَوله: {من إِلَه غير الله يأتيكم بضياء} أَي: بنهار. وَقَوله: {أَفلا تَسْمَعُونَ} أَي: أَفلا تعقلون، وَيُقَال: أَفلا تَسْمَعُونَ سمع تفهم.

72

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم النَّهَار سرمدا} أَي: دَائِما، وَقَوله: {من إِلَه غير الله يأتيكم بلَيْل تسكنون فِيهِ أَفلا تبصرون} مَعْنَاهُ: أَفلا تعلمُونَ، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه مصلحَة اللَّيْل فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ فِي الْجنَّة ليل؟ وَالْجَوَاب عَنهُ أَن الدُّنْيَا لَا تَخْلُو عَن تَعب التكاليف والتكليفات، فَلَا بُد لَهُ من وَقت يفضى فِيهِ إِلَى الرَّاحَة (من التَّعَب وَأما الْجنَّة فَهُوَ مَوضِع التَّصَرُّف فِي الملاذ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعب أصلا،

{الله يأتيكم بضياء أَفلا تَسْمَعُونَ (71) قل أَرَأَيْتُم إِن جعل الله عَلَيْكُم النَّهَار سرمدا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة من إِلَه غير الله يأتيكم بلَيْل تسكنون فِيهِ أَفلا تبصرون (72) وَمن رَحمته جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (73) وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا من كل أمة شَهِيدا فَقُلْنَا هاتوا برهانكم فَعَلمُوا أَن الْحق لله وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (75) إِن قَارون كَانَ} فَلَا يحْتَاج إِلَى وَقت يفضى فِيهِ إِلَى الرَّاحَة) أصلا.

73

قَوْله تَعَالَى: {وَمن رَحمته جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ} أَي: لتسكنوا فِي اللَّيْل، وَقَوله: {ولتبتغوا من فَضله} أَي: بِالنَّهَارِ. وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} أَي: تشكرون نعم الله.

74

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يناديهم فَيَقُول أَيْن شركائي الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ} قد بَينا الْمَعْنى، وَيجوز أَن يُوجد نِدَاء بعد نِدَاء لزِيَادَة التقريع والتوبيخ.

75

قَوْله تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا من كل أمة شَهِيدا} أَي: استخرجنا من كل أمة شَاهدا يشْهد عَلَيْهِم، وَالْأَظْهَر أَن الشَّهِيد على كل أمة نَبِيّهم. وَقَوله: {فَقُلْنَا هاتوا برهانكم} أَي: حجتكم وبينتكم. وَقَوله: {فَعَلمُوا أَن الْحق لله} أَي: عجزوا عَن إِظْهَار الْحجَّة، وَعَلمُوا أَن الْحق لله. وَقَوله: {وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون} أَي: ضل عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة مَا كَانُوا يفترون فِي الدُّنْيَا، وَمعنى ضل: فَاتَ وَذهب.

76

قَوْله تَعَالَى: {إِن قَارون} قَالَ قَتَادَة وَابْن جريح: كَانَ ابْن عَم مُوسَى لحا. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: كَانَ ابْن أخي مُوسَى غير هَارُون. وَقَوله: {فبغى عَلَيْهِم} قَالَ الضَّحَّاك: أَي: بالشرك. وَقَالَ شهر بن حَوْشَب: بغى عَلَيْهِم: زَاد فِي ثِيَابه شبْرًا على ثِيَاب النَّاس. وَقَالَ بَعضهم: بغى عَلَيْهِم بالتكبر

{من قوم مُوسَى فبغى عَلَيْهِم وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي الْقُوَّة إِذْ} والعلو. وَمن الْمَعْرُوف فِي التفاسير: أَن قَارون كَانَ أَقرَأ رجل من بني إِسْرَائِيل للتوراة، وَكَانَ حسن الصَّوْت، ثمَّ إِنَّه نَافق؛ فروى أَنه قَالَ لمُوسَى: أَنْت أخذت النُّبُوَّة، وَهَارُون أَخذ المذبح والحبورة، فأيش لي؟ وَفِي الْقِصَّة: أَنه أعْطى امْرَأَة بغيا من بني إِسْرَائِيل ألفي دِرْهَم، وَطلب مِنْهَا أَن تَأتي نَادِي بني إِسْرَائِيل، ومُوسَى فيهم، فتدعي عَلَيْهِ أَنه زنا بهَا، وَمِنْهُم من قَالَ: تَدعِي عَلَيْهِ أَنه دَعَاهَا إِلَى نَفسه، فَجَاءَت وَادعت عَلَيْهِ ذَلِك. وروى أَنَّهَا خَافت، وأخبرت أَن قَارون أَعْطَاهَا مَالا لتدعي ذَلِك. وَفِي الرِّوَايَة الأولى: أَنَّهَا لما ادَّعَت على مُوسَى ذَلِك تغير مُوسَى تغيرا شَدِيدا، وَقَالَ لَهَا: بِالَّذِي أنزل التَّوْرَاة وفلق الْبَحْر اصدقي، فَحِينَئِذٍ خَافت، وَذكرت الْأَمر على وَجهه، فَدَعَا الله تَعَالَى مُوسَى على قَارون، فَسَلَّطَهُ الله تَعَالَى عَلَيْهِ، وَجعل الأَرْض طَوْعًا لَهُ على مَا سَنذكرُهُ. وَقَوله: {وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: خزائنه، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْده مفاتح الْغَيْب} أَي: خَزَائِن الْغَيْب، وَالثَّانِي: أَن المفاتح هُوَ مقاليد الخزائن. وَعَن بَعضهم: أَن كل مِفْتَاح كَانَ على قدر أصْبع، وَكَانَ يحملهَا سِتُّونَ بغلة، وَقيل: أَرْبَعُونَ بغلة، وَيُقَال: أَرْبَعُونَ رجلا، وَقَوله {لتنوء} أَي: تثقل الْعصبَة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هَذَا من المقلوب، وَتَقْدِيره: مَا إِن الْعصبَة لتنوء بهَا. يُقَال: ناء فلَان بِكَذَا أَي: نَهَضَ بِهِ مُثقلًا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: لتنوء بالعصبة. وَأما الْعصبَة فَفِيهَا أقاويل: أَحدهَا: أَنهم سَبْعُونَ رجلا، وَالْآخر: أَرْبَعُونَ رجلا، وَقَالَ بَعضهم: من الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين، وَقَالَ بَعضهم: سِتَّة أَو سَبْعَة، وَقَالَ بَعضهم: عشرَة؛ لِأَن إخْوَة يُوسُف قَالُوا: وَنحن عصبَة، وَقد كَانُوا عشرَة. والعصبة فِي اللُّغَة هم الْقَوْم الَّذين يتعصب بَعضهم بِبَعْض. وَقَوله: {بالعصبة أولى الْقُوَّة} أَي: أولى الشدَّة.

{قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين (76) وابتغ فِيمَا آتاك الله الدَّار الْآخِرَة وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض إِن الله لَا يحب المفسدين (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي أَو لم يعلم أَن الله قد} وَقَوله: {إِذْ قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح} أَي: لَا تبطر وَلَا تأشر، والفرح هَاهُنَا هُوَ السرُور بِغَيْر حق. وَقَوله: {إِن الله لَا يحب الفرحين} ظَاهر.

77

قَوْله: {وابتغ فِيمَا آتاك الله الدَّار الْآخِرَة} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: بِطَلَب الْحَلَال. وَقَالَ السّديّ: بِالصَّدَقَةِ وصلَة الرَّحِم. وَعَن بَعضهم قَالَ: بالتقرب إِلَى الله بِكُل وُجُوه التَّقَرُّب. وَقَوله: {وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا} أَي: طلب الْآخِرَة بِالَّذِي تعْمل فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: اعْمَلْ فِي الدُّنْيَا لآخرتك، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا أَي: بالاستغناء بِمَا أحل الله عَمَّا حرم الله. وَفِي بعض أدعية الصَّالِحين: اللَّهُمَّ أغنني بحلالك عَن حرامك، وبفضلك عَمَّن سواك. وَقَوله: {وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك} أَي: وَأحسن بِطَاعَة الله كَمَا أحسن الله إِلَيْك بنعمه، وَيُقَال: وَأحسن بِطَلَب الْحَلَال كَمَا أحسن الله إِلَيْك بالحلال. وَقَوله: {وَلَا تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض} أَي: بالمعصية، وكل من عصى الله فقد طلب الْفساد فِي الأَرْض. وَقَوله: {إِن الله لَا يحب المفسدين} ظَاهر الْمَعْنى.

78

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: إِن الله تَعَالَى أَعْطَانِي هَذَا المَال لفضل علمه عِنْدِي، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه علم الكيمياء.

{أهلك من قبله من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُ قُوَّة وَأكْثر جمعا وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون (78) فَخرج على قومه فِي زينته قَالَ الَّذين يُرِيدُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا يَا لَيْت لنا} وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - علم يُوشَع بن نون ثلث الكيمياء، وَعلم قَارون ثلث الكيمياء؛ وَعلم هَارُون ثلث الكيمياء؛ فَكثر بذلك مَاله. وَالْقَوْل الثَّالِث: على علم عِنْدِي بِوُجُوه المكاسب والتصرفات. وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح أَن قَارون وجد كنزا ليوسف، فَكَانَ مَاله من هَذَا الْوَجْه. وَقَوله: {أَو لم يعلم أَن الله قد أهلك من قبله من الْقُرُون من هُوَ أَشد مِنْهُ قُوَّة وَأكْثر جمعا} أَي: لِلْمَالِ. وَقَوله: {وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون} أَي: يَوْم الْقِيَامَة، فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ تَعَالَى: {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ} وأمثال هَذَا من الْآيَات، وَهَاهُنَا قَالَ: (وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون) فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب إِنَّا بَينا أَن فِي الْقِيَامَة مَوَاقِف؛ فَفِي موقف يسْأَلُون، وَفِي موقف لَا يسْأَلُون، وَيُقَال: لَا يسْأَلُون سُؤال استعلام، وَإِنَّمَا يسْأَلُون سُؤال تقريع وتوبيخ، وَيُقَال: لَا يسْأَلُون سُؤال من لَهُ عذر فِي الْجَواب، وَإِنَّمَا يسْأَلُون على معنى إِظْهَار قبائحهم ليفتضحوا على رُءُوس الْجمع. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْكَافِر لَا يُحَاسب، بل يُؤمر بِهِ إِلَى النَّار من غير حِسَاب وَلَا سُؤال. وَقَالَ بَعضهم: وَلَا يسْأَل عَن ذنوبهم المجرمون؛ لأَنهم يعْرفُونَ بِسِيمَاهُمْ، قَالَ الله تَعَالَى، {يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ} .

79

قَوْله تَعَالَى: {فَخرج على قومه فِي زينته} الزِّينَة بهجة الدُّنْيَا ونضارتها، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: خرج قَارون وَقَومه فِي ثِيَاب حمر وصفر. وَعَن مقَاتل قَالَ: خرج على بغلة شهباء، عَلَيْهَا سرج من ذهب، وللسرج مثبرة من أَرْجُو، وَمَعَهُ أَرْبَعَة آلَاف من الْخَيل عَلَيْهَا الفرسان، قد تزينوا بالأرجوانات، وَمَعَهُ ثلثمِائة جَارِيَة بيض على

{مثل مَا أُوتِيَ قَارون إِنَّه لذُو حَظّ عَظِيم (79) وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير لمن آمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} البغال الشهب، عَلَيْهِنَّ من الحلى. وَعَن بَعضهم قَالَ: خرج مَعَ سبعين ألفا، عَلَيْهِم المعصفرات. وَفِي بعض المسانيد عَن النَّبِي قَالَ: " أَرْبَعَة أَشْيَاء من خِصَال قوم قَارون: جو نعال السيوف، وَلبس الْخفاف المتلونة، وَالثيَاب الأرجوان، وَكَانَ أحدهم لَا ينظر إِلَى وَجه خادمه تكبرا " وَعَن عَطاء قَالَ: كَانَ مُوسَى يقص لبني إِسْرَائِيل ويعظهم، فَخرج قَارون وَمَعَهُ أَرْبَعَة آلَاف على البغال فِي الأرجوانات، وَمر على مُوسَى، فَالْتَفت بَنو إِسْرَائِيل إِلَيْهِ، وشغلوا عَن مُوسَى، فشق ذَلِك على مُوسَى، فَأرْسل إِلَيْهِ: لم فعلت ذَلِك؟ فَقَالَ: فضلت بِالنُّبُوَّةِ، وفضلت بِالْمَالِ، وَإِن شِئْت دَعَوْت ودعوت. ثمَّ إِن مُوسَى دَعَا الله تَعَالَى على قَارون، فَجعل الأَرْض فِي طَاعَته. وَقَوله: {قَالَ الَّذين يُرِيدُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا يَا لَيْت لنا مثل مَا أُوتِيَ قَارون إِنَّه لذُو حَظّ عَظِيم} أَي: نصيب عَظِيم من الدُّنْيَا.

80

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير} أَي: ثَوَاب الله فِي الْآخِرَة {خير لمن آمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها} أَي: وَلَا يُؤْتى الْعَمَل الصَّالح إِلَّا الصَّابِرُونَ، وَقيل: لَا يُؤْتى هَذِه الْكَلِمَة، والكلمة قَوْله: {وَيْلكُمْ ثَوَاب الله خير لمن أَمن وَعمل صَالحا وَلَا يلقاها إِلَّا الصَّابِرُونَ} . وَيُقَال: الصَّابِرُونَ هم الَّذين صَبَرُوا عَمَّا أُوتِيَ أَعدَاء الله من زِينَة، وَلم يتأسفوا عَلَيْهَا، وَلَا تمنوها.

81

قَوْله تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} وَفِي بعض التفاسير: أَن قَارون قَالَ لمُوسَى: سلمنَا لَك النُّبُوَّة، فَمَا بَال الحبورة ولهارون؟ وَإِذا كَانَ لَك النُّبُوَّة، ولهارون الحبورة فَمَالِي؟ فَقَالَ مُوسَى: إِنِّي لم أعْطه الحبورة، وَلَكِن الله تَعَالَى أعطَاهُ الحبورة، فَقَالَ: لَا أصدقك على ذَلِك حَتَّى تريني آيَة، فَأمر مُوسَى حَتَّى جمعُوا عصيهم، وَقَالَ: من اخضرت عَصَاهُ فالحبورة لَهُ، فاخضرت عَصا هَارُون، وَجعلت تهتز من بَين العصى، فَقَالَ قَارون: هَذَا من سحرك، وَلَيْسَ هَذَا بِأول سحر أتيت بِهِ، فَحِينَئِذٍ دَعَا الله مُوسَى على قَارون. وروى أَنه لما وَاضع الْمَرْأَة الْبَغي حَتَّى ادَّعَت على مُوسَى أَنه زنا بهَا، أَو دَعَاهَا إِلَى الْفَاحِشَة، غضب مُوسَى ودعا الله تَعَالَى. وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه كَانَ مَعَ قَارون قوم كثير من بني لاوى، فجَاء مُوسَى إِلَيْهِم، وَقَالَ: إِن الله بَعَثَنِي إِلَى قَارون كَمَا بَعَثَنِي إِلَى فِرْعَوْن، فَمن أرادني فليعتزله، فاعتزل مِنْهُ جَمِيع قومه إِلَّا [رجلَيْنِ] بقيا مَعَه من بني أَعْمَامه، ثمَّ إِن مُوسَى خَاطب الأَرْض، وَقَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت الأَرْض بأقدامهم، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت إِلَى ركبهمْ، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ: فَأخذت إِلَى حقوهم، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فَأخذت إِلَى أَعْنَاقهم. وَفِي التَّفْسِير: أَن قَارون فِي كل ذَلِك يستغيث بمُوسَى وينشده وَالرحم، وَيَقُول: ارْحَمْنِي، ثمَّ قَالَ: خُذِيهِمْ، فأطبقت الأَرْض عَلَيْهِم. قَالَ قَتَادَة: فهم يذهبون فِي الأَرْض كل يَوْم قامة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى قَالَ لمُوسَى: مَا أقسى قَلْبك؛ اسْتَغَاثَ بك عَبدِي، فَلم تغثه، وَلَو اسْتَغَاثَ بِي مرّة لأغثته. وَفِي بعض الْآثَار: لَا أجعَل الأَرْض بعْدك طَوْعًا لأحد. وَذكر أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَن الأَرْض لما أخذت قَارون إِلَى عُنُقه نزع مُوسَى نَعْلَيْه، وَضرب بهما وَجهه، وَقَالَ: اذْهَبُوا بني لاوى، وأطبقت بهم الأَرْض.

{فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَة ينصرونه من دون الله وَمَا كَانَ من المنتصرين (81) وَأصْبح الَّذين تمنوا مَكَانَهُ بالْأَمْس يَقُولُونَ ويكأن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَوْلَا أَن} وَذكر أَيْضا أَن يُونُس بن مَتى لقِيه فِي ظلمات الأَرْض حِين يطوف بِهِ الْحُوت، فَقَالَ لَهُ قَارون: يَا يُونُس، تب إِلَى الله تَجِد الله تَعَالَى فِي أول قدم ترجع إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يُونُس: فَأَنت لم لَا تتوب؟ فَقَالَ: جعلت تَوْبَتِي إِلَى ابْن عمي. وَقَوله: {وَبِدَارِهِ الأَرْض} روى أَن بني إِسْرَائِيل قَالُوا: إِنَّمَا أهلك مُوسَى قَارون ليَأْخُذ أَمْوَاله، وَكَانَت أَرَاضِي دوره من فضَّة، وأثاث الْحِيطَان من ذهب، فَأمر مُوسَى الأَرْض حَتَّى أحضرت دوره، ثمَّ أمرهَا حَتَّى خسفت بهَا، فَانْقَطع الْكَلَام. وَقَوله: {فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَة} أَي: من جمَاعَة {ينصرونه} أَي: يمنعونه {من دون الله} . وَقَوله: {وَمَا كَانَ من المنتصرين} أَي: من الممتنعين، وَمَعْنَاهُ: لم يكن يمْنَع نَفسه، وَلَا يمنعهُ أحد من عَذَاب الله.

82

قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح الَّذين تمنوا مَكَانَهُ بالْأَمْس} يَعْنِي: أَن يَكُونُوا مَكَانَهُ، وَفِي مَنْزِلَته. وَقَوله: {يَقُولُونَ ويكأن الله} وَقَوله: {ويكأن} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ الْفراء: ويكأن عِنْد الْعَرَب تَقْرِير، وَمَعْنَاهُ: ألم تَرَ أَنه؛ وَحكى الْفراء أَن أعرابية قَالَت لزَوجهَا: أَيْن ابْنك؟ فَقَالَ لَهَا: ويكأنه وَرَاء الْبَيْت، وَمَعْنَاهُ: أما ترينه وَرَاء الْبَيْت. وَقَالَ بَعضهم ويكأنه: معنى " ويك " أَي: وَيلك، وحذفت اللَّام، وَقَوله: {أَنه} كلمة تندم، كَأَن الْقَوْم لما رَأَوْا تِلْكَ الْحَالة تندموا على مَا تمنوا، ثمَّ قَالُوا: كَانَ الله يبسط الرزق لمن يَشَاء أَي: أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر أَي: يُوسع ويضيق. وأنشدوا فِيمَا قُلْنَا من الْمعَانِي: (سالتان الطَّلَاق أَن رأتاني ... قل مَالِي قد جئتماني بنكر)

{من الله علينا لخسف بِنَا ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين (83) من جَاءَ بِالْحَسَنَة} (وى كَأَن من يكن لَهُ نشب يحبب ... وَمن يفْتَقر يعِيش عَيْش ضرّ) وأنشدوا أَيْضا قَول عنترة فِي أَن ويك بِمَعْنى وَيلك: (وَلَقَد شفى نَفسِي وَأَبْرَأ سقمها ... قَول الفوارس ويك عنتر أقدم) وَمن الْمَعْرُوف فِي التفاسير عَن الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين: ويكأن الله: ألم تَرَ أَن الله، وَحكى مثل هَذَا عَن أبي عُبَيْدَة. وَقَوله: {لَوْلَا أَن من الله علينا لخسف بِنَا} أَي: لَوْلَا أَن أنعم الله علينا لخسف بِنَا مثل مَا خسف بقارون. وَقَوله: {ويكأنه لَا يفلح الْكَافِرُونَ} قد بَينا.

83

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض} أَي: استكبارا، وأصل التكبر هُوَ الشّرك بِاللَّه، قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} وَمن التكبر الاستطالة على النَّاس واستحقارهم، والتهاون بهم، وَيُقَال إِرَادَة الْعُلُوّ هُوَ ترك التَّوَاضُع. وَقيل: {لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: لَا يجزعون من ذلها، وَلَا ينافسون فِي عزها. وَقَوله: {وَلَا فَسَادًا} أَي: الْعَمَل بِالْمَعَاصِي، وَقَالَ عِكْرِمَة: هُوَ أَخذ مَال النَّاس بِغَيْر حق. وَقَوله: {وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} أَي: الْجنَّة لِلْمُتقين، وَقيل: الْعَاقِبَة الْحَسَنَة لِلْمُتقين، وروى زَاذَان عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ يمشي ويدور فِي الْأَسْوَاق، يعين الضَّعِيف، وينصر الْمَظْلُوم، ويمر بالبقال والبياع فَيفتح عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَيقْرَأ: {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض. .} الْآيَة. وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: من أعجبه شسع نَعله على شسع أَخِيه، فَهُوَ مِمَّن يُرِيد الْعُلُوّ فِي

{فَلهُ خير مِنْهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى الَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ (84) إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد قل رَبِّي أعلم من جَاءَ بِالْهدى وَمن} الأَرْض.

84

قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ خير مِنْهَا} ظَاهر الْمَعْنى. {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى الَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات} أَي: الْمعاصِي {إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ} وَعَن عبد الله بن عبيد بن عُمَيْر أَنه قَالَ: مَا أحسن الْحَسَنَات عقيب السَّيِّئَات، وَمَا أقبح السَّيِّئَات عقيب الْحَسَنَات، وَأحسن الْحَسَنَات الْحَسَنَات عقيب الْحَسَنَات، وأقبح السَّيِّئَات السَّيِّئَات عقيب السَّيِّئَات) . وَمن الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه أوصى معَاذًا - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: " اتَّقِ الله حَيْثُمَا كنت، وأتبع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحها، وخالق النَّاس بِخلق حسن ".

85

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن} وَيُقَال: فرض عَلَيْك أَي: أوجب عَلَيْك الْعَمَل بِهِ. وَقَوله: {لرادك إِلَى معاد} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد مِنْهُ: إِلَى مَكَّة، وَقَالُوا: هَذِه الْآيَة نزلت على رَسُول الله وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، والجحفة منزل من الْمنَازل بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. فالآية لَيست بمكية وَلَا مَدَنِيَّة، وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي لما هَاجر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة سَار فِي غير الطَّرِيق خوفًا من الطّلب، ثمَّ إِنَّه لما أَمن عَاد إِلَى الطَّرِيق، فوصل إِلَى الْجحْفَة، وَرَأى الطَّرِيق الشَّارِع إِلَى مَكَّة فاشتاق إِلَيْهَا، فجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِن رَبك يَقُول: وتشتاق إِلَى مَكَّة وتحن إِلَيْهَا؟ فال: نعم، إِنَّهَا أرضي ومولدي، فَقَالَ: إِن رَبك يَقُول: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْكُم الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} يَعْنِي: رادك إِلَى مَكَّة ظَاهرا على أَهلهَا ".

{هُوَ فِي ضلال مُبين (85) وَمَا كنت ترجو أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب إِلَّا رَحْمَة من رَبك فَلَا تكونن ظهيرا للْكَافِرِينَ (86) وَلَا يصدنك عَن آيَات الله بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك وادع إِلَى رَبك وَلَا تكونن من الْمُشْركين (87) وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ كل شئ} وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {لرادك إِلَى معاد} أَي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: إِلَى الْجنَّة. وروى عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ يمدح جَابر بن عبد الله ويذكره بِالْخَيرِ، فَسئلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِنَّه يحْشر معي. قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} وَقَوله: {قل رَبِّي أعلم من جَاءَ بِالْهدى} يَعْنِي: يعلم من جَاءَ بِالْهدى، وَأَنا الَّذِي جِئْت بِالْهدى. وَقَوله: {وَمن هُوَ فِي ضلال مُبين} أَي: وَيعلم من هُوَ فِي ضلال مُبين أَي: الْكفَّار.

86

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كنت ترجو} أَي: تَأمل {أَن يلقى إِلَيْك الْكتاب} أَي: يوحي إِلَيْك الْقُرْآن. وَقَوله: {إِلَّا رَحْمَة من رَبك} هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن رَبك رَحِمك فأعطاك الْقُرْآن. وَقَوله: {فَلَا تكونن ظهيرا} أَي: معينا {للْكَافِرِينَ} .

87

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يصدنك عَن آيَات الله} يَعْنِي: لَا يمنعك الْكفَّار عَن اتِّبَاع سَبِيل الله، وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: اشْدُد على الْكفَّار، وَاغْلُظْ عَلَيْهِم، وَلَا تتساهل حَتَّى يطمعوا فِي صدك عَن سَبِيل الله. وَقَوله: {بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك} أَي: بعد إِذْ أنزلت إِلَيْك الْآيَات المبينة للسبيل. وَقَوله: {وادع إِلَى رَبك} أَي: إِلَى دين رَبك. وَقَوله: {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} أَي: اثْبتْ على التَّوْحِيد.

88

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} أَي: لَا إِلَه غَيره.

{هَالك إِلَّا وَجهه لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ ترجعون (88) } وَقَوله: {كل شئ هَالك إِلَّا وَجهه} قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: إِلَّا مَا أُرِيد بِهِ وَجهه وَرضَاهُ من الْعَمَل. وَيُقَال: {إِلَّا وَجهه} أَي: إِلَّا هُوَ. وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: كل مَا وصف الله بِهِ نَفسه فِي الْكتاب فتفسيره قِرَاءَته، لَا تَفْسِير لَهُ غَيره. وَقد ذكر الله تَعَالَى (الْوَجْه فِي أحد عشر موضعا من الْقُرْآن، قد بَينا أَنه صفة من صِفَات الله، يُؤمن بِهِ على مَا ذكره الله تَعَالَى) . وأنشدوا فِي الْوَجْه بِمَعْنى التَّوَجُّه وَطلب رِضَاهُ قَول الشَّاعِر: (اسْتغْفر الله ذَنبا لست محصيه ... رب الْعباد إِلَيْهِ الْوَجْه وَالْعَمَل) أَي: التَّوَجُّه. وَقَوله: {وَله الحكم} أَي: فصل الْقَضَاء. وَحكمه أَن يبْعَث قوما إِلَى الْجنَّة، وقوما إِلَى النَّار، وَمن حكمه أَيْضا أَن يبيض وُجُوه قوم، ويسود وُجُوه قوم، ويثقل مَوَازِين قوم، ويخفف مَوَازِين قوم، وأمثال هَذَا، وَهَذَا فِي الْآخِرَة، وَأما فِي الدُّنْيَا فتنفيذ القضايا وَالْأَحْكَام على مَا علم وَأَرَادَ. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ ترجعون} يَعْنِي: فِي الْآخِرَة.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الم (1) أَحسب النَّاس أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون (2) وَلَقَد فتنا} تَفْسِير سُورَة العنكبوت وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول عَطاء وَالْحسن، ومدنية فِي أحد قولى ابْن عَبَّاس، وَعنهُ فِي رِوَايَة أُخْرَى أَنَّهَا مَكِّيَّة، فبعضها نزل بِالْمَدِينَةِ وَبَعضهَا نزل بِمَكَّة، وَعَن الشّعبِيّ أَنَّهَا مَكِّيَّة إِلَّا عشر آيَات من أَولهَا مَدَنِيَّة. وَعَن عَليّ أَنه قَالَ: نزلت بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة.

العنكبوت

قَوْله تَعَالَى: {الم} قد بَينا مَعْنَاهُ.

2

وَقَوله: {أَحسب النَّاس} الحسبان وَالظَّن قريبان، وَهُوَ تَغْلِيب أحد النقيضين على الآخر، وَالشَّكّ وقف بَين نقيضين، وَالْعلم قطع بِوُجُود أَحدهمَا. وَقَوله: {أَن يتْركُوا أَن يَقُولُوا آمنا} مَعْنَاهُ: أظنوا أَن يقنع مِنْهُم بِأَن يَقُولُوا آمنا، وَقَوله: {وهم لَا يفتنون} أَي: لَا يبتلون. قَالَ مُجَاهِد: لَا يبتلون فِي أَمْوَالهم وأنفسهم. وَيُقَال مَعْنَاهُ: لَا يؤمرون وَلَا ينهون، وابتلاء الله عباده بِالْأَمر وَالنَّهْي. وَقَالَ بَعضهم: إِن الله تَعَالَى أَمر النَّاس أَولا بِمُجَرَّد الْإِيمَان، ثمَّ إِنَّه فرض عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَسَائِر الشَّرَائِع فشق عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَعَن الشّعبِيّ وَغَيره أَنه قَالَ: لما هَاجر أَصْحَاب رَسُول الله بَقِي قوم بِمَكَّة مِمَّن آمنُوا وَلم يهاجروا؛ فَكتب (إِلَيْهِم) من هَاجر أَن الله الله تَعَالَى لَا يقبل أَيْمَانكُم حَتَّى تهاجروا، فَهَاجرُوا، فَتَبِعهُمْ قوم من الْمُشْركين وآذوهم، (فَقتل من) قتل، وتخلص، من تخلص فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن بَعضهم: أَن الْآيَة نزلت فِي عَيَّاش بن أبي ربيعَة، وَكَانَ قد هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، فجَاء أَخَوَاهُ لأمه أَبُو جهل والْحَارث ابْنا هِشَام، وَقَالا لَهُ: إِن أمنا قد عَاهَدت إِن لم ترجع لَا تَأْكُل وَلَا تشرب، وَلَا يَأْوِيهَا سقف بَيت؛ وَإِن مُحَمَّدًا يَأْمر بِالْبرِّ، فَارْجِع مَعنا فَرجع مَعَهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق غدراه وأوثقاه وحملاه إِلَى

{الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين (3) أم حسب الَّذين} مَكَّة، وَجلده كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة سَوط، ثمَّ لما وصل إِلَى أمه جعلت تضربه بالسياط حَتَّى رَجَعَ عَن دينه، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَقد حسن إِسْلَامه بعد ذَلِك. وَمن الْمَشْهُور الثَّابِت: " أَن النَّبِي كَانَ يَدْعُو فِي الْقُنُوت فَيَقُول: " اللَّهُمَّ، انج سَلمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة والوليد بن الْوَلِيد وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وَاشْدُدْ وطأتك على مُضر، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كسنين يُوسُف. فَدَعَا (هَكَذَا) شهرا ثمَّ ترك، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: أَلا تراهم قد قدمُوا ".

3

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم} أَي: ابتلينا الَّذين من قبلهم، يَعْنِي الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤمنِينَ، وَيُقَال: ابتلينا بني إِسْرَائِيل بفرعون، وَكَذَلِكَ ابتلينا كل نَبِي بعدو لَهُ. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: حِين شكا إِلَيْهِ أَصْحَابه مَا يلقون من الْكفَّار: " إِنَّكُم تعجلون، وَقد كَانَ فِيمَن قبلكُمْ ينشر بالمناشير فَمَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه، وليتمن الله أمره ". وَقَوله: { [فليعلمن] الله الَّذين صدقُوا} يَعْنِي: نبتليهم ابتلاء من يستعلم حَالهم، وَيُقَال: وليعلمن الله الَّذين صدقُوا أَي: علم الشَّيْء وَاقعا، وَهُوَ الَّذِي يجازي عَلَيْهِ، وَقيل: فليعلمن الله الَّذين صدقُوا أَي: فليظهرن الله الصَّادِقين من الْكَاذِبين. وَقَوله: { [وليعلمن] الْكَاذِبين} قد ذكرنَا.

4

قَوْله تَعَالَى: {أم حسب الَّذين يعْملُونَ السَّيِّئَات} والسيئة: كل خصْلَة تسوء عَاقبَتهَا، والحسنة: كل خصْلَة تسر عَاقبَتهَا.

{يعْملُونَ السَّيِّئَات أَن يسبقونا سَاءَ مَا يحكمون (4) من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله فَإِن أجل الله لآت وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (5) وَمن جَاهد فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ إِن الله لَغَنِيّ عَن الْعَالمين (6) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنكفرن عَنْهُم سيئاتهم ولنجزينهم} وَقَوله: {أَن يسبقونا} أَن يفوتونا، وَمن سبق شَيْئا فقد فَاتَهُ، وَقَوله: {سَاءَ مَا يحكمون} أَي: بئس الحكم حكمهم) .

5

قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله} قَالَ الزّجاج: يخْشَى لِقَاء الله. وَقَالَ غَيره: يأمل لِقَاء الله، وَقيل: لِقَاء الله هُوَ لِقَاء جَزَائِهِ، وَيُقَال: لِقَاء الله هُوَ الرُّجُوع إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {فَإِن أجل الله لآت} مَعْنَاهُ: إِن وعد الله لآت، وَالْأَجَل هُوَ الْوَعْد الْمَضْرُوب، وَمعنى الْآيَة: أَن من يخْشَى أَو يأمل فليستعد. وَقد روى مَكْحُول: " أَن النَّبِي قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة لعَلي وَفَاطِمَة: يَا عَليّ، وَيَا فَاطِمَة، قد أنزل الله تَعَالَى قَوْله: {من كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله فَإِن أجل الله لآت} فَاسْتَعدوا ". وَالْخَبَر غَرِيب. وَقَوله: {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَمن جَاهد فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ} الْجِهَاد هُوَ الصَّبْر على الشدَّة، ثمَّ قد يكون الصَّبْر على الشدَّة فِي الْحَرْب على مَا أَمر بِهِ الشَّرْع، وَقد يكون الصَّبْر على الشدَّة فِي مُخَالفَة النَّفس بِأَيّ معنى كَانَ. وَقَوله: {فَإِنَّمَا يُجَاهد لنَفسِهِ} أَي: مَنْفَعَة ذَلِك رَاجِعَة إِلَيْهِ. وَقَوله: {إِن الله لَغَنِيّ عَن الْعَالمين} أَي: لَا يعود إِلَيْهِ ضرّ وَلَا نفع فِي طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنكفرون عَنْهُم سيئاتهم} التَّكْفِير إذهاب السَّيئَة بِالْحَسَنَة، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات}

{أحسن الَّذين كَانُوا يعلمُونَ (7) وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا وَإِن جَاهَدَاك لتشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (8) } والإحباط هُوَ إذهاب الْحَسَنَة بِالسَّيِّئَةِ. وَقَوله: {ولنجزينهم أحسن الَّذِي كَانُوا يعلمُونَ} هَذَا هُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} وَمَعْنَاهُ: ويعطيهم أَكثر مِمَّا عمِلُوا وَأحسن.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا} مَعْنَاهُ: يفعل حسنا، وَقُرِئَ: " إحساناً " أَي: يحسن إحساناً. وَقَوله: {وَإِن جَاهَدَاك لتشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما} أَي: فَلَا تطعهما فِي معصيتي، وَمن الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه قَالَ " لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق ". وَقَوله: {مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن الشّرك كُله عَن جهل، فَإِن الْعَالم لَا يُشْرك بِاللَّه. وَقَوله: {إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى. أَكثر الْمُفَسّرين (أَن) الْآيَة نزلت فِي سعد بن أبي وَقاص، وَهُوَ سعد بن مَالك أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ، وَأمه حمْنَة من بني أُميَّة. فروى أَنه لما أسلم - وَقد كَانَ من السَّابِقين

{وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لندخلنهم فِي الصَّالِحين (9) وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه فَإِذا أوذي فِي الله جعل فتْنَة النَّاس كعذاب الله وَلَئِن جَاءَ نصر من رَبك ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ أَو لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا فِي صُدُور الْعَالمين (10) وليعلمن الله الَّذين آمنُوا} الْأَوَّلين فِي الْإِسْلَام - فَكَانَ بارا بِأُمِّهِ، فَلَمَّا سَمِعت أمه بذلك دَعَتْهُ، وَقَالَت لَهُ: مَا هَذَا الدّين الَّذِي أحدثته؟ وَالله لَا آكل وَلَا أشْرب حَتَّى ترجع عَن دينك أَو أَمُوت، فتعير بذلك أَبَد الدَّهْر، ثمَّ إِنَّهَا مكثت يَوْمًا وَلَيْلَة لم تَأْكُل، فجهدت جهدا شَدِيدا، ثمَّ مكثت يَوْمًا وليله أُخْرَى لم تَأْكُل وَلم تشرب، فجَاء سعد إِلَيْهَا، وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، لَو كَانَ لَك مائَة نفس فَخرجت، لم أرجع عَن ديني، فَلَمَّا أَيِست مِنْهُ أكلت وشربت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمره بِالْبرِّ بِوَالِديهِ، وَنَهَاهُ أَن يُشْرك طَاعَة لَهما. وَقيل: الْآيَة عَامَّة.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لندخلنهم فِي الصَّالِحين} أَي: فِي زمرة الصَّالِحين.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه فَإِذا أوذي فِي الله جعل فتْنَة النَّاس كعذاب الله} أَي: جزع من عَذَاب النَّاس كَمَا (يجزع] من عَذَاب الله. وَقَوله: {وَلَئِن جَاءَ نصر من رَبك ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ} الْآيَة فِي الْقَوْم الَّذين تخلفوا بِمَكَّة مِمَّن أَسْلمُوا، فَلَمَّا آذاهم الْمُشْركُونَ لم يصبروا، وأعطوهم مَا طلبُوا. وَقَوله: {نصر من رَبك} أَي: فتح من رَبك ودولة للْمُؤْمِنين. وَقَوله: {ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ} يَعْنِي: كُنَّا مُسلمين، وَإِنَّمَا أكرهنا حَتَّى قُلْنَا مَا قُلْنَا. وَقَوله: {أَو لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا فِي صُدُور الْعَالمين} أَي: يعلم مَا فِي صُدُورهمْ، فيميز صدقهم من كذبهمْ.

11

قَوْله تَعَالَى: {وليعلمن الله الَّذين آمنُوا وليعلمن الْمُنَافِقين} قد بَينا، وَيُقَال:

{وليعلمن الْمُنَافِقين (11) وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا اتبعُوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شئ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مَعَ أثقالهم وليسألن يَوْم الْقِيَامَة عَمَّا كَانُوا يفترون (13) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} آمنُوا أَي: وفوا بِمَا عهدوا، وحققوا أَقْوَالهم بأفعالهم، وَأما المُنَافِقُونَ خالفوا أَقْوَالهم بأفعالهم.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا} روى أَن أَبَا سُفْيَان وَذَوِيهِ قَالُوا للَّذين أَسْلمُوا: اتبعُوا سبيلنا أَي: الطَّرِيق الَّذِي نَحن عَلَيْهِ. وَقَوله: {ولنحمل خطاياكم} أَي: وَنحن نحمل خطاياكم إِن خِفْتُمْ من عُقُوبَته، فَنحْن كفلا بكم، ونتحمل عَنْكُم الْعقُوبَة. وَقَوله: {وَمَا هم بحاملين من خطاياهم من شئ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} يَعْنِي: فِي ضَمَان تحمل الْخَطَايَا.

13

قَوْله تَعَالَى: {وليحملن أثقالهم} أَي: أوزارهم، والأوزار: الذُّنُوب. وَقَوله: {وأثقالا مَعَ أثقالهم} أَي: أوزارا مَعَ أوزارهم. فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَالله تَعَالَى قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {وأثقالا مَعَ أثقالهم} أَي: إِثْم دُعَائِهِمْ إِلَى ترك الْإِيمَان، وَيُقَال: إِن الْأَشْرَاف فيهم [يحملون] ذنُوب الأتباع؛ لأَنهم سنوا لَهُم الضَّلَالَة ودعوهم إِلَيْهَا. وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من دَعَا إِلَى ضَلَالَة فَاتبع عَلَيْهَا، فَعَلَيهِ وزر من اتبعهُ من غير أَن ينقص من أوزارهم شئ ". وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يُؤْتى بِعَبْد يَوْم الْقِيَامَة وَقد ظلم هَذَا، وَشتم هَذَا، وَأخذ مَال هَذَا، فتؤخذ حَسَنَاته ويعطون، فَيُقَال: يَا رب، قد بَقِي

{فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما فَأَخذهُم الطوفان وهم ظَالِمُونَ (14) فأنجيناه} عَلَيْهِ سيئات، وَلم تبْق لَهُ حَسَنَات، فَيَقُول الله تَعَالَى: احملوا ذنوبهم عَلَيْهِ، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {وليحملن أثقالهم} الْآيَة. وَقَوله تَعَالَى: {وليسألن يَوْم الْقِيَامَة عَمَّا كَانُوا يفترون} أَي: يكذبُون.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} روى أنس أَن النَّبِي قَالَ: " إِن نوحًا أول نَبِي بعث إِلَى أهل الأَرْض ". وَقَوله: {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: بعث نوح وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، وَمكث بعد خُرُوجه من السَّفِينَة سِتِّينَ سنة، [وتوفاه] الله تَعَالَى وَهُوَ ابْن ألف وَخمسين سنة، وَفِي رِوَايَة: أَن عمر نوح كَانَ ألف وَأَرْبَعمِائَة [وَخمسين] [سنة] ، بعث وَهُوَ ابْن مِائَتي وَخمسين سنة، وَقد قيل غير هَذَا، وَالله أعلم. وروى أَن ملك الْمَوْت لما جَاءَ إِلَى نوح ليقْبض روحه قَالَ: يَا أطول الْأَنْبِيَاء عمرا، كَيفَ وجدت الدُّنْيَا؟ وَكَانَ لَهُ دَار لَهَا بَابَانِ، فَدخل من أَحدهمَا وَخرج من الآخر، وَقَالَ: هَكَذَا وجدت.

{وَأَصْحَاب السَّفِينَة وجعلناها آيَة للْعَالمين (15) وَإِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله} وروى أَنه كَانَ لَهُ بَيت من شعر، وَكَانَ [يُقَال] لَهُ: لَو بنيت بَيْتا من طين، فَكَانَ يَقُول: أَمُوت غَدا، أَو أَمُوت بعد غَد. فَخرج من الدُّنْيَا على ذَلِك، وَلم يبن بَيْتا. فَإِن قيل: قَوْله: {فَلبث فيهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما} أيش فَائِدَة الِاسْتِثْنَاء فِي هَذِه الْآيَة؟ . وهلا قَالَ: فَلبث فيهم تِسْعمائَة وَخمسين عَاما؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فَائِدَة الِاسْتِثْنَاء هُوَ التَّأْكِيد؛ فَإِن الْعَرَب إِذا قَالَت: جَاءَنِي اخوتك، يجوز أَن تُرِيدُ بِهِ جَمِيع الاخوة، وَيجوز أَن تُرِيدُ بِهِ الْأَكْثَر، فَإِذا قَالَ: جَاءَنِي اخوتك إِلَّا زيدا فتعلم قطعا أَنه جَاءَ كل الاخوة إِلَّا زيدا، فقد أَفَادَ الِاسْتِثْنَاء التَّأْكِيد من هَذَا الْوَجْه، وَقد قَالَ بَعضهم: قد كَانَ الله تَعَالَى جعل عمر نوح ألف سنة، فاستوهب بعض بنيه مِنْهُ خمسين عَاما فَوَهَبَهَا لَهُ، ثمَّ لما لما بلغ الْأَجَل طلب تَمام الْألف فَلم يُعْط، فَذكر الله تَعَالَى بِلَفْظ الِاسْتِثْنَاء ليدل على أَن النَّقْص كَانَ من قبله، وَهَذَا قَول غَرِيب. وَقَوله: {فَأَخذهُم الطوفان} الطوفان: كل شئ كثير يطِيف بِالْجَمَاعَة مثل: غرق، أَو موت، أَو غير ذَلِك. قَالَ الراجز: (أفناهم طوفان موت جارف ... ) وَقَوله: {وهم ظَالِمُونَ} أَي: مشركون.

15

قَوْله تَعَالَى: {فأنجيناه وَأَصْحَاب السَّفِينَة} قد بَينا عدد من كَانَ فِي السَّفِينَة. وَقَوله: {وجعلناها آيَة للْعَالمين} أَي: جعلنَا عقوبتنا إِيَّاهَا بِالْغَرَقِ آيَة للْعَالمين، وَيُقَال: جعلنَا السَّفِينَة آيَة للْعَالمين، فَإِنَّهَا كَانَت ملقاه على الجودى مُدَّة (مديدة) .

16

قَوْله تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيم} مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيم {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه} أَي: أطِيعُوا الله واحذروا مَعْصِيَته.

{واتقوه ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إِن الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله لَا يملكُونَ لكم رزقا فابتغوا عِنْد الله الرزق واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون (17) وَإِن تكذبون فقد كذب أُمَم من قبلكُمْ} وَقَوله: {ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} أَي: عبَادَة الله وتقواه خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ، وَقد قيل: إِن قَوْله: {اعبدوا الله} أَي: وحدوا الله، وكل عبَادَة فِي الْقُرْآن بِمَعْنى التَّوْحِيد.

17

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا} أَي: أصناما. وَقَوله: {وتخلقون إفكا} أَي: وتصنعون كذبا، وَقَالَ قَتَادَة: تخلقون إفكا؛ أَي: أصناما. وسمى الْأَصْنَام إفكا لأَنهم سَموهَا آلِهَة. فَإِن قيل: قد قَالَ: {وتخلقون} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {هَل من خَالق غير الله} أَي: لَا خَالق غير الله، فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْخلق بِمَعْنى التَّقْدِير هَاهُنَا، قَالَ الشَّاعِر: (ولأنت تفرى مَا خلقت ... وَبَعض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفرى.) وَيُقَال: وتخلقون إفكا أَي: تنحتون الْأَصْنَام بِأَيْدِيكُمْ وتعبدونها. وَحكى أَن بنى حنيفَة اتَّخذُوا صنما من الخيس - وَهُوَ التَّمْر مَعَ السّمن - ثمَّ إِنَّه أَصَابَتْهُم مجاعَة فأكلوه، قَالَ الشَّاعِر: (أكلت حنيفَة رَبهَا ... زمن التفحم والمجاعة) (لم يحذروا من رَبهم ... سوء العواقب والتباعة) قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين تَعْبدُونَ من دون الله لَا يملكُونَ لكم رزقا فابتغوا عِنْد الله الرزق} أَي: فَاطْلُبُوا عِنْد الله الرزق. وَقَوله: {واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تكذبوا فقد كذب أُمَم من قبلكُمْ} وهم مثل، عَاد، وَثَمُود،

{وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين (18) أَو لم يرَوا كَيفَ يُبْدِي الله الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ إِن ذَلِك على الله يسير (19) قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ بَدَأَ الْخلق ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة إِن الله على كل شَيْء قدير (20) يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء وَإِلَيْهِ} وَقوم لوط، وَغَيرهم. وَقَوله: {وَمَا على الرَّسُول إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} مَعْنَاهُ: إِلَّا الإبلاغ الْوَاضِح.

19

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا كَيفَ يُبْدِي الله الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ} فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله: {أَو لم يرَوا} وهم لم يرَوا إِعَادَة الْخلق؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: {أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق} قد تمّ الْكَلَام، وَقد كَانُوا يقرونَ بِهَذَا، (وَقَوله) : {ثمَّ يُعِيدهُ} ابْتِدَاء كَلَام. وَمِنْهُم من قَالَ: أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق بإنشاء النَّهَار، ثمَّ يُعِيد بِإِدْخَال اللَّيْل وإعادة النَّهَار بعده. حكوه عَن الرّبيع بن أنس. وَمِنْهُم من قَالَ: أَو لم يرَوا كَيفَ يبدئ الله الْخلق بِالْإِحْيَاءِ ثمَّ يعيدهم بالإماتة وجعلهم تُرَابا كَمَا كَانُوا. وَقَوله: {إِن ذَلِك على الله يسير} أَي: هَين.

20

قَوْله تَعَالَى: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ بَدَأَ الْخلق} أَي: خلق الْخلق. وَقَوله: {ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة} وَقُرِئَ: " النشاءة الْآخِرَة "، وهما بِمَعْنى وَاحِد كَقَوْلِهِم: رأفة ورآفة. وَقَوله: {إِن الله على كل شئ قدير} أَي: على النشأة الأولى والنشأة الْآخِرَة.

21

قَوْله تَعَالَى: {يعذب من يَشَاء وَيرْحَم من يَشَاء} ظَاهر الْمَعْنى. وَعَن بَعضهم: يعذب من يَشَاء بالحرص، وَيرْحَم من يَشَاء بالقناعة. وَقيل: يعذب من يَشَاء بِسوء الْخلق، وَيرْحَم من يَشَاء بِحسن الْخلق، وَيُقَال: يعذب من يَشَاء بِبَعْض النَّاس لَهُ، وَيرْحَم من يَشَاء بمحبة النَّاس لَهُ.

{تقلبون (21) وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير (22) وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله ولقائه أُولَئِكَ يئسوا من رَحْمَتي وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم (23) فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَو حرقوه فأنجاه الله من} وَيُقَال: يعذب من يَشَاء بِقبُول الْبِدْعَة، وَيرْحَم من يَشَاء بملازمة السّنة. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ تقلبون} أَي: تردون.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء} (أَي: بمعجز الله عَن عذابكم، وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ لَا تفوتونه كَمَا يفوت عَن الْإِنْسَان مَا يعجز، فَإِن قيل: قد قَالَ: {وَلَا فِي السَّمَاء} وَالْخطاب مَعَ الْآدَمِيّين، وَلَيْسوا فِي السَّمَاء، فَكيف يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: وَمَا أَنْتُم بمعجزين فِي الأَرْض، وَلَا فِي السَّمَاء معجز. قَالَ الْفراء: وَهَذَا من غامض الْعَرَبيَّة. قَالَ حسان بن ثَابت شعرًا: (وَمن يهجو رَسُول الله مِنْكُم ... ويمدحه وينصره سَوَاء) أَي: وَمن يمدحه وينصره مِنْكُم سَوَاء، وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {وَلَا فِي السَّمَاء} أَي: لَو كُنْتُم فِي السَّمَاء لم تعجزوه أَيْضا كَالرّجلِ يَقُول: مَا أَنْت هَاهُنَا بمعجزي وَلَا بِالْبَصْرَةِ أَي: وَلَو كنت بِالْبَصْرَةِ لم تعجزني أَيْضا. وَقَوله: {وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير} أَي: من وَال وَلَا مَانع.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله ولقائه} قَالَ قَتَادَة: ذمّ الله أَقْوَامًا هانوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: {أُولَئِكَ يئسوا من رَحْمَتي وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: موجع مؤلم.

24

قَوْله تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا} اعْلَم أَن الْآيَات الَّتِي تقدّمت مُعْتَرضَة من قصَّة إِبْرَاهِيم ودعائه قومه إِلَى الله وجوابهم لَهُ، وَتلك الْآيَات فِي النَّبِي وحجاجه مَعَ الْمُشْركين، ثمَّ وَقع الْعود فِي هَذِه الْآيَة إِلَى جَوَاب قوم إِبْرَاهِيم لَهُ.

{النَّار إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم من دون الله أوثانا مَوَدَّة بَيْنكُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعْضكُم بِبَعْض ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين (25) فآين لَهُ لوط وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب} وَقَوله: {إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَو حرقوه فأنجاه الله من لنار} قَالَ مُجَاهِد: حرقت النَّار وثَاقه وَلم تحرقه. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم من دون الله أوثانا} أَي: أصناما، وَقَوله: {مَوَدَّة بَيْنكُم} أَي: هِيَ مَوَدَّة (بَيْنكُم) ، أَو تِلْكَ مَوَدَّة بَيْنكُم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: أَن تواخيكم وتوادكم فِي الدُّنْيَا خَاصَّة، وَيَنْقَطِع إِذا جَاءَت الْآخِرَة، وَقيل: إِن كل خلة تَنْقَطِع يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا خلة الْمُتَّقِينَ. وَقُرِئَ: " مَوَدَّة بَيْنكُم " بِالنّصب بإيقاع الْفِعْل عَلَيْهِ أَي: اتخذتموها للمودة، وَقُرِئَ على غير هَذَا، والمعاني مُتَقَارِبَة. وَقَوله: {ثمَّ يَوْم الْقِيَامَة يكفر بَعضهم بِبَعْض ويلعن بَعْضكُم بَعْضًا} وَمعنى الْجمع: هُوَ وُقُوع التبرؤ بَين القادة والأتباع. وَقَوله: {ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين} ظَاهر الْمَعْنى.

26

قَوْله تَعَالَى: {فَآمن لَهُ لوط} وَقد تُقَام اللَّام مقَام الْبَاء. وَقَوله: {وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي} أَي: مُتَوَجّه إِلَى رَبِّي أطلب رِضَاهُ. وَقد بَينا أَن هجرته كَانَت من كوثى إِلَى الشَّام، وكوثى قَرْيَة من سَواد الْكُوفَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه هَاجر بعد أَن مَضَت [خمس] وَسَبْعُونَ سنة من عمره؛ وَهَاجَر مَعَه لوط وَسَارة. وَقَوله: {إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب فِي أمره {الْحَكِيم} فِي تَدْبيره.

{وَآتَيْنَاهُ أجره فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين (27) ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُم لتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين (28) أئنكم لتأتون الرِّجَال وتقطعون السَّبِيل وتأتون فِي ناديكم الْمُنكر فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا أئتنا}

27

قَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب} يُقَال: إِن الله تَعَالَى لم يبْعَث نَبيا بعد إِبْرَاهِيم إِلَّا من نَسْله، فَإِن قيل: كَيفَ لم يذكر إِسْمَاعِيل، وَذكر إِسْحَاق وَيَعْقُوب، وَقد كَانَ إِسْمَاعِيل نَبيا مثل إِسْحَاق؟ قُلْنَا: قد دخل إِسْمَاعِيل فِي قَوْله: {وَجَعَلنَا فِي ذُريَّته النُّبُوَّة وَالْكتاب} وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى يذكر الْبَعْض، وَيتْرك الْبَعْض اختصارا وإيجازا، وَإِن كَانَ الْمَعْنى فِي الْكل وَاحِد. وَقَوله: {وآتينا أجره فِي الدُّنْيَا} أَي: الثَّنَاء الْحسن. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ قبُول كل أهل الْأَدْيَان لَهُ ورضاهم بِهِ. وَقَالَ السدى: هُوَ الْوَلَد الصَّالح. وَقيل: هُوَ أَنه أرِي مَكَانَهُ فِي الْجنَّة، وَقيل: إِنَّه جعل الْأَنْبِيَاء من أَوْلَاده. وَقَوله: {وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين} أَي: فِي زمرة الصَّالِحين.

28

قَوْله تَعَالَى: {ولوطا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُم لتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين} فِي التَّفْسِير: أَنه لم ينز ذكر على ذكر قبل قوم لوط،

29

قَوْله تَعَالَى: {أئنكم لتأتون الرِّجَال وتقطعون السَّبِيل} أَي: لتأتون الرِّجَال بالفاحشة، وتقطعون السَّبِيل: فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: تقطعون سَبِيل النَّسْل بإيثار الرِّجَال على النِّسَاء. وَالْقَوْل الثَّانِي: وتقطعون السَّبِيل أَي: الطَّرِيق، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ الغرباء والمسافرين ويرتكبون مِنْهُم الْفَاحِشَة. وَقَوله: {وتأتون فِي ناديكم الْمُنكر} النادي هُوَ الْمجْلس، وَأما الْمُنكر الَّذِي أَتَوا بِهِ فَفِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: هُوَ ارْتِكَاب الْفَاحِشَة من الرِّجَال فِي مجَالِسهمْ، قَالَه مُجَاهِد. وَعَن عَائِشَة قَالَت: كَانُوا يتضارطون فِيمَا بَينهم. وَعَن عبد الله بن سَلام: كَانَ بَعضهم يبزق على بعض. وَفِي بعض الْأَخْبَار مُسْندًا إِلَى النَّبِي: " أَنهم كَانُوا

{بِعَذَاب الله إِن كنت من الصَّادِقين (29) قَالَ رب انصرني على الْقَوْم المفسدين (30) وَلما جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى قَالُوا إِنَّا مهلكوا أهل هَذِه الْقرْيَة إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين (31) قَالَ إِن فِيهَا لوطا قَالُوا نَحن أعلم بِمن فِيهَا لننجينه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته} يَجْلِسُونَ على الطَّرِيق، ويخذفون النَّاس ويسخرون مِنْهُم ". وَعَن بَعضهم هُوَ لصفير وَالرَّمْي بالجلاهق، واللعب بالحمام، وبالشرك فِي الطَّرِيق، وَحل الْإِزَار. وَقَوله: {فَمَا كَانَ جَوَاب قومه إِلَّا أَن قَالُوا ائتنا بِعَذَاب الله إِن كنت من لصادقين} أَي: فِيمَا تَقوله

30

قَوْله: {قَالَ رب انصرني على الْقَوْم المفسدين} وفسادهم كَمَا بَينا.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَت رسلنَا إِبْرَاهِيم بالبشرى} قد بَينا معنى الْبُشْرَى فِي سُورَة هود. وَقَوله: {إِنَّا مهلكوا أهل هَذِه الْقرى} أَي: سدوم، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ وَبَين يَدي كل وَاحِد مِنْهُم قَعْب فِيهِ حَصى فَإِذا مر بهم إِنْسَان خذفه كل وَاحِد مِنْهُم بحصاة، فَمن أَصَابَهُ كَانَ أولى بِهِ، فَكَانَ يَأْخُذ مَا مَعَه وينكحه ويغرمه ثَلَاث دَرَاهِم، وَلَهُم قَاض يقْضِي بذلك. وَقَوله: {إِن أَهلهَا كَانُوا ظالمين} قد بَينا ظلمهم.

32

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِن فِيهَا لوطا قَالُوا نَحن أعلم بِمن فِيهَا} أَي: قَالَت الْمَلَائِكَة نَحن أعلم بِمن فِيهَا. وَقَوله: {لننجينه وَأَهله إِلَّا امْرَأَته كَانَت من الغابرين} أَي: البَاقِينَ فِي الْعَذَاب.

{كَانَت من الغابرين (32) وَلما أَن جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وَقَالُوا لَا تخف وَلَا تحزن إِنَّا منجوك وَأهْلك إِلَّا امْرَأَتك كَانَت من الغابرين (33) إِنَّا منزلون على أهل هَذِه الْقرْيَة رجزا من السَّمَاء بِمَا كَانُوا يفسقون (34) وَلَقَد تركنَا مِنْهَا آيَة بَيِّنَة}

33

قَوْله تَعَالَى: {وَلما أَن جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم} أَي: سيء بِالْمَلَائِكَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَنه سَاءَهُ مَجِيء الْمَلَائِكَة أضيافا لما علم من خبث قومه. وَقَوله: {وضاق بهم ذرعا} أَي: ضَاقَ ذرعا بمجيئهم. يُقَال: ضَاقَ فلَان ذرعا بِكَذَا إِذا كرهه. وَقَوله: {قَالُوا لَا تخف وَلَا تحزن} لَا تخف من قَوْمك علينا، وَلَا تحزن بإهلاكنا إيَّاهُم. وَقَوله: {إِنَّا منجوك وَأهْلك إِلَّا امْرَأَتك كَانَت من الغابرين} أَي: البَاقِينَ فِي الْعَذَاب.

34

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا منزلون على أهل هَذِه الْقرْيَة} أَي: سدوم. وَقَوله: {رجزا من السَّمَاء} أَي: عذَابا من السَّمَاء. وَقَوله: {بِمَا كَانَ يفسقون} أَي: يعصون.

35

قَوْله: {وَلَقَد تركنَا مِنْهَا آيَة بَيِّنَة} أَي: من قريات قوم لوط. قَالَ قَتَادَة: الْآيَة الْبَيِّنَة (هِيَ [الْأَحْجَار] الَّتِي أهلكوا بهَا، وَقد كَانَ قد بَقِي بَعْضهَا حَتَّى أَدْرَكته أَوَائِل هَذِه الْأمة. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة الْبَيِّنَة) : ظُهُور المَاء الْأسود من قراهم. وَقَوله: {لقوم يعْقلُونَ} أَي: يتدبرون الْآيَات تدبر ذَوي الْعُقُول.

{لقوم يعْقلُونَ (35) وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله وارجوا الْيَوْم الآخر وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين (36) فَكَذبُوهُ فَأَخَذتهم الرجفة فَأَصْبحُوا فِي دَارهم جاثمين (37) وعادا وَثَمُود وَقد تبين لكم من مساكنهم وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل وَكَانُوا مستبصرين (38) وَقَارُون وَفرْعَوْن وهامان وَلَقَد جَاءَهُم}

36

قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا} مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا. وَقَوله: {فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله وارجوا الْيَوْم الآخر} أَي: وخشوا الْيَوْم الآخر، وَيُقَال: الرَّجَاء على حَقِيقَته، وَهُوَ الأمل. وَقَوله: {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين} أَي: لَا تفسدوا فِي الأَرْض. [والعيث] أَشد الْفساد.

37

وَقَوله تَعَالَى: {فَكَذبُوهُ فَأَخَذتهم الرجفة} الرجفة: زعزعة تُؤدِّي إِلَى الْهَلَاك. وَقَوله: {فَأَصْبحُوا فِي دِيَارهمْ جاثمين} أَي: ميتين، وَقيل: خامدين.

38

قَوْله تَعَالَى: {وعادا وَثَمُود} أَي: وأهلكنا عادا وَثَمُود. وَقَوله: {وَقد تبين لكم من مساكنهم} أَي: الْمنَازل الَّتِي سكنوها. وَقَوله: {وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل} أَي: صدهم عَن سَبِيل الْحق. وَقَوله: {وَكَانُوا مستبصرين} أَي: ارتكبوا مَا ارتكبوا وَقد علمُوا أَن عَاقِبَة أَمرهم بوار.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَقَارُون وَفرْعَوْن وهامان} أَي: وأهلكنا قَارون وَفرْعَوْن وهامان. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن فِرْعَوْن كَانَ يَبِيع الْبِطِّيخ فِي ابْتِدَاء أمره، وهامان كَانَ طيانا.

{مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فاستكبروا فِي الأَرْض وَمَا كَانُوا سابقين (39) فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض وَمِنْهُم من أغرقنا وَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (40) مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء كَمثل العنكبوت اتَّخذت بَيْتا وَإِن أوهن الْبيُوت لبيت العنكبوت لَو} وَقَوله: {وَلَقَد جَاءَهُم مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات. قَوْله: {فاستكبروا فِي الأَرْض وَمَا كَانُوا سابقين} أَي: فائتين عَن عذابنا، كالسابق على الشَّيْء فَيكون قد فَاتَهُ.

40

قَوْله تَعَالَى: {فكلا أَخذنَا بِذَنبِهِ} أَي: أَخذنَا كل هَؤُلَاءِ بذنبهم. وَقَوله: {فَمنهمْ من أرسلنَا عَلَيْهِ حاصبا} الحاصب هِيَ الرّيح الَّتِي تحمل الْحَصْبَاء، والحصباء: الْحَصَى (الصغار) ، وَالَّذين أهلكوا بالحصباء قوم لوط. وَقَوله: {وَمِنْهُم من أَخَذته الصَّيْحَة} يَعْنِي: قوم صَالح، وهم ثَمُود. وَقَوله: {وَمِنْهُم من خسفنا بِهِ الأَرْض} أَي: قَارون. وَقَوله: {وَمِنْهُم من أغرقنا} أَي: قوم نوح وَقوم فِرْعَوْن. وَقَوله: { [وَمَا] كَانَ الله ليظلمهم} أَي: مَا ظلمهم الله {وَلَكِن هم اللَّذين ظلمُوا أنفسهم} .

41

قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله} الْمثل: كَلَام سَائِر يتَضَمَّن تَشْبِيه حَال الآخر بِالْأولِ. وَقَوله: {أَوْلِيَاء} أَي: الْأَصْنَام. وَقَوله: {كَمثل العنكبوت} العنكبوت: دَابَّة [أَعْطَاهَا] الله تَعَالَى آلَة تنسج

{كَانُوا يعلمُونَ (41) إِن الله يعلم مَا يدعونَ من دونه من شَيْء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (42) وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ (43) خلق الله السَّمَوَات} بهَا بَيْتا تأوي إِلَيْهِ، (وبيته) فِي غَايَة الضعْف والوهاء، وَإِنَّمَا مثل عبَادَة الْأَصْنَام بِبَيْت العنكبوت؛ لِأَن بَيت العنكبوت لَا يقي حرا وَلَا بردا، وَكَذَلِكَ عبَادَة الْأَصْنَام لَا تجلب نفعا، وَلَا تدفع ضرا. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي أَنه قَالَ: " العنكبوت شَيْطَان مسخ فَاقْتُلُوهُ " وَالْخَبَر غَرِيب. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه أَمر أَلا يتْرك نَسِيج العنكبوت فِي الْبَيْت، وَقَالَ: تَركه يُورث الْفقر. وَقد بَينا أَن الله تَعَالَى جعل العنكبوت جند النَّبِي فِي الْغَار. وَقَوله: {وَإِن أوهن الْبيُوت لبيت العنكبوت لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: لَو كَانُوا يعلمُونَ أَن عبَادَة الْأَصْنَام لَا تغني شَيْئا، كَمَا علمُوا أَن بَيت العنكبوت لَا يدْفع شَيْئا.

42

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يعلم مَا يدعونَ من دونه من شَيْء} أَي: يعلم مَا يدعونَ من دونه من الْأَصْنَام وَغَيرهَا. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْعَزِيز بالانتقام من أعدائه، الْحَكِيم فِي تَدْبِير خلقه.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس} أَي: الْأَشْبَاه الَّتِي يَقع بهَا التَّمْثِيل. وَقَوله: {وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ} (أَي: الْعَالمُونَ بمعاني كَلَامي، وَعَن بعض السّلف قَالَ: يسْتَحبّ أَن يقف عِنْد كل مثل فِي الْقُرْآن، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ} .

{وَالْأَرْض بِالْحَقِّ إِن فِي ذَلِك لآيَة للْمُؤْمِنين (44) اتل مَا أُوحِي إِلَيْك من الْكتاب وأقم الصَّلَاة إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَلذكر الله أكبر وَالله يعلم مَا تَصْنَعُونَ}

44

قَوْله تَعَالَى: {خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَي: بالحكمة. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك (لآيَة} للْمُؤْمِنين) أَي: لعبرة للْمُؤْمِنين.

45

قَوْله تَعَالَى: {اتل مَا أوحى إِلَيْك من الْكتاب} أَي: الْقُرْآن. وَقَوله: {وأقم الصَّلَاة إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} الْفَحْشَاء كل قَبِيح من الْأَفْعَال، وَالْمُنكر كل مَا يُنكره الشَّرْع، (فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} وَقد رَأينَا من يُصَلِّي وَلَا يَنْتَهِي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر؟ قُلْنَا: رُوِيَ عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ: تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر مَا دَامَ فِي الصَّلَاة، وَعَن غَيره: تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر) فِيهَا وَبعدهَا. وَمعنى النَّهْي على هَذَا القَوْل أَنه يقْرَأ الْقُرْآن وَالْقِرَاءَة، تنهاه عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر. وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَا صَلَاة لمن لم يطع الصَّلَاة. وَفِي هَذَا اللَّفْظ إِشَارَة إِلَى مَا بَينا. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من لم تَنْهَهُ صلَاته عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر لم يَزْدَدْ من الله إِلَّا بعدا ".

( {45) وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم وَقُولُوا آمنا} وَعَن الْحسن وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: من صلى وَلم ينْتَه عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر، فَصلَاته وبال عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَلذكر الله أكبر} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلذكر الله أفضل من كل الطَّاعَات، وَرُوِيَ عَن ثَابت الْبنانِيّ أَن رجلا أعتق أَربع رِقَاب، وَجعل آخر يذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل، ثمَّ سُئِلَ عَن ذَلِك جمَاعَة من أهل الْعلم، فَقَالُوا: ذكر الله تَعَالَى أفضل؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَلذكر الله أكبر} . وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: وَلذكر الله إيَّاكُمْ أكبر من ذكركُمْ إِيَّاه، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ إِن رجلا قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: إِن فلَانا (يَقُول) فِي قَوْله: {وَلذكر الله أكبر} : إِن مَعْنَاهُ: إِذا ذكره وانْتهى عَن مَعَاصيه، فَقَالَ: هَذَا كَلَام حسن. وَلَيْسَ بِمَعْنى الْآيَة؛ وَإِنَّمَا معنى الْآيَة مَا ذكرنَا عَنهُ، وَهُوَ قَوْله: وَلذكر الله إيَّاكُمْ أكبر من ذكركُمْ إِيَّاه. وَمِنْهُم من قَالَ: وَلذكر الله فِي الثَّوَاب أكبر من ذكركُمْ فِي الطَّاعَة. وَقَوله: {وَالله يعلم مَا تَصْنَعُونَ} أَي: تَفْعَلُونَ.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب الَّذين قبلوا الْجِزْيَة إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن، وَقَوله: {إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} المُرَاد بهم على هَذَا القَوْل أهل الْحَرْب. وَالْقَوْل الثَّانِي: {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ مِنْهُم، وَمعنى النَّهْي عَن المجادلة مَعَهم بعد إِيمَانهم، هُوَ أَنهم كَانُوا يخبرون عَن أَشْيَاء فِي كتبهمْ لم يعلمهَا الْمُؤْمِنُونَ، [فَنهى] عَن مجادلتهم فِيهَا، فلعلها صَحِيحَة. وَقَوله: {إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} هم الَّذين لم يُؤمنُوا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْآيَة

@ {بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم وإلهنا وإلهكم وَاحِد وَنحن لَهُ مُسلمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكتاب يُؤمنُونَ بِهِ وَمن هَؤُلَاءِ من يُؤمن بِهِ وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب وَلَا تخطه بيمينك} مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف. وَقَوله: {وَقُولُوا آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم} (رُوِيَ عَن النَّبِي هم أَنه قَالَ: " إِذا أخْبركُم أهل الْكتاب بِشَيْء لم تعرفوه فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم، وَلَكِن قُولُوا: {آمنا بِالَّذِي أنزل إِلَيْنَا وَأنزل إِلَيْكُم} وإلهنا وإلهكم وَاحِد وَنحن لَهُ مُسلمُونَ ") ".

47

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب} أَي: كَمَا بعثناك بِالْحَقِّ أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب. وَقَوله: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكتاب يُؤمنُونَ بِهِ} أَي: يصدقون بِهِ، وَقَوله: {وَمن هَؤُلَاءِ من يُؤمن بِهِ} أَي: وَمن الْمُشْركين من يصدق بِهِ، فَقَوله: {هَؤُلَاءِ} إِشَارَة إِلَى الْمُشْركين الَّذين كَانُوا بِمَكَّة. قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب} أَي: من قبل بعثنَا إياك، وإنزال الْقُرْآن عَلَيْك. وَقَوله: {وَلَا تخطه بيمينك} أَي: لم تكن تقْرَأ وَلَا تكْتب. وَقَوله: {إِذا لارتاب المبطلون} أَي: إِذا لشك الْكَافِرُونَ لَو قَرَأت وكتبت، أما أهل الشّرك وَكَانُوا يَزْعمُونَ أَنه قَرَأَ من كتب الْأَوَّلين وانتسخ مِنْهَا، وَأما أهل الْكتاب فقد

{إِذا لارتاب المبطلون (48) بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَات من ربه قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله} كَانَ من نَعته فِي كتبهمْ أَنه أُمِّي لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب، فَلَو قَرَأَ وَكتب وَقع لَهُم الشَّك. وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: لم يخرج النَّبِي من الدُّنْيَا حَتَّى كتب وَقَرَأَ. وَهُوَ قَول ضَعِيف لَا يعْتَمد عَلَيْهِ، [وأظن] أَنه لَا يَصح عَن الشّعبِيّ هَذَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَالما كَبِيرا.

49

قَوْله تَعَالَى: {بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم} أَي: الْقُرْآن آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن مُحَمَّدًا ذُو آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " (إِن الله تَعَالَى) قَالَ لي: بَعَثْتُك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عَلَيْك كتابا لَا يغسلهُ المَاء، تَقْرَأهُ نَائِما ويقظانا " وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مَا بَينا أَن الْقُرْآن فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ لَا ينسخه وَلَا يغسلهُ شَيْء. وَقَوله: {وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} أَي: الْكَافِرُونَ.

50

قَوْله: {وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ آيَة من ربه} يَعْنِي: مثل مَا أنزل على عِيسَى من الْمَائِدَة، وَأعْطِي صَالح من النَّاقة، ومُوسَى من الْيَد والعصا {قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله} يَعْنِي: إِن الْآيَات عِنْد الله يُعْطِيهَا بمشيئته وإرادته. وَقَوله: {وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين} قد بَينا. وَاعْلَم أَن الله تَعَالَى قد أعْطى رَسُوله مُحَمَّدًا المعجزات الْكَثِيرَة، وَلكنه لم يُعْطه على مَا اقترحوا، وَقد كَانُوا يطْلبُونَ أَن تكون الْآيَات على وفْق إقتراحاتهم.

{وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين (50) أَو لم يَكفهمْ أَنا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب يُتْلَى عَلَيْهِم إِن فِي ذَلِك لرحمة وذكرى لقوم يُؤمنُونَ (51) قل كفى بِاللَّه بيني وَبَيْنكُم شَهِيدا يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفرُوا بِاللَّه أُولَئِكَ هم الخاسرون (52) }

51

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَكفهمْ} الْكِفَايَة: بُلُوغ (غَايَة) تنَافِي الْحَاجة. وَقَوله: {إِنَّا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب} أَي: الْقُرْآن. وَقَوله: {يُتْلَى عَلَيْهِم} أَي: يقْرَأ عَلَيْهِم. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لرحمة} أَي: لنعمة لمن آمن بِهِ. وَقَوله: {وذكرى} أَي: موعظة وتذكيرا، وَقد بَينا وَجه الإعجاز فِي الْقُرْآن من حَيْثُ النّظم وَالْمعْنَى والإخبار عَن الغيوب وَغَيره.

52

قَوْله تَعَالَى: {قل كفى بِاللَّه بيني وَبَيْنكُم شَهِيدا} الشَّهَادَة: خبر عَن مُشَاهدَة يَبْنِي عَلَيْهِ حكم شَرْعِي، وَالله تَعَالَى شَهِيد على أَفعَال الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار جَمِيعًا. وَقَوله: {يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا بِالْبَاطِلِ} أَي: بِغَيْر الله. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أصدق كلمة قَالَت الْعَرَب قَول لبيد: (أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل ... وكل نعيم لَا محَالة زائل) ثمَّ قَالَ: إِلَّا نعيم الْجنَّة ". وَاعْلَم أَن الْإِيمَان إِذا أطلق يُرَاد بِهِ الْإِيمَان بِاللَّه، وَإِذا قيد يجوز أَن يُقَال: آمن بإبليس، وآمن بالطاغوت، وَمَا أشبه ذَلِك، وَهَذَا كَمَا إِذا قيل: فلَان قَائِم، وَأطلق يُرَاد

{ويستعجلونك بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أجل مُسَمّى لجاءهم الْعَذَاب وليأتينهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (53) يستعجلونك بِالْعَذَابِ وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين (54) يَوْم} بِهِ المتصف، فَإِذا قيل: يجوز أَن يُقَال: قَائِم بِالتَّدْبِيرِ قَائِم بِالْملكِ. وَقَالَ يحيى بن سَلام: الْبَاطِل هَاهُنَا: إِبْلِيس. وَقَوله: {وَكَفرُوا بِاللَّه} أَي: جَحَدُوا بِاللَّه. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم الخاسرون} الخاسرون: من خسر رَأس المَال، فالكفار لما فعلوا فعلا عرضوا أنفسهم للهلاك سماهم الله خاسرين.

53

قَوْله تَعَالَى: {ويستعجلونك بِالْعَذَابِ} قد بَينا أَن النَّضر بن الْحَارِث قَالَ: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} الْآيَة فَهَذَا هُوَ الاستعجال بِالْعَذَابِ. وَقَوله: {وَلَوْلَا أجل مُسَمّى} أَي: وعد الْقِيَامَة، وَقيل: النفخة فِي الصُّور وَيُقَال: الْوَقْت الَّذِي عين لعذابهم. وَقَوله: {لجاءهم الْعَذَاب وليأتينهم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ بمجيئها. وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الرجل ليرْفَع لقمته فَلَا يَضَعهَا فِي فِيهِ حَتَّى تقوم السَّاعَة ".

54

وَقَوله تَعَالَى: {يستعجلونك بِالْعَذَابِ} يُقَال: المُرَاد بِهِ هُوَ المُرَاد بِالْآيَةِ الأولى، أَعَادَهُ للتَّأْكِيد، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة نزلت على قوم من جهال هَذِه الْأمة، وَالْقَوْل الأول أولى. وَقَوله: {وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين} أَي: جَامِعَة لعذابهم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: لَا بُد أَن يدخلوها.

55

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَغْشَاهُم الْعَذَاب من فَوْقهم} يَعْنِي: يصيبهم الْعَذَاب من

{يَغْشَاهُم الْعَذَاب من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (55) يَا عبَادي الَّذين آمنُوا إِن أرضي وَاسِعَة فإياي فاعبدون (56) كل نفس ذائقة الْمَوْت ثمَّ} فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى: {لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار وَمن تَحْتهم ظلل} وَقَوله: {وَيَقُول ذوقوا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} قد بَينا معنى الذَّوْق من قبل. وَقَوله: {مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: جَزَاء بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ.

56

قَوْله تَعَالَى: {يَا عبَادي الَّذين آمنُوا إِن أرضي وَاسِعَة} قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِي هَذِه الْآيَة: كَانُوا إِذا ظَهرت الْمعْصِيَة بِأَرْض خَرجُوا مِنْهَا. وَعَن سعيد بن جُبَير وَعَطَاء أَنَّهُمَا قَالَا: إِذا أمرت بالمعصية فِي (بَلْدَة) فَأخْرج مِنْهَا (وَفِي رِوَايَة: " إِذا ظَهرت الْمعْصِيَة فِي بَلْدَة فَأخْرج مِنْهَا) . وَذكر أهل الْعلم أَنه إِذا لم يُمكنهُ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر خرج أَيْضا، وَالْآيَة نزلت فِي قوم تخلفوا عَن الْهِجْرَة بِمَكَّة، وَقَالُوا: نخشى إِن هاجرنا من الْجُوع وضيق الْمَعيشَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَلم يعذرهم فِي ترك الْخُرُوج، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {إِن أرضي وَاسِعَة} أَي: رِزْقِي وَاسع، ذكره مطرف ابْن عبد الله ابْن الشخير. وَقَوله: {فإياي فاعبدون} أَي: وحدوني وأطيعوني.

57

قَوْله: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} مَعْنَاهُ: أَن تخلفهم (عَن) الْهِجْرَة لَا ينجيهم من الْمَوْت، وَقد روى جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ " أَن النَّبِي

{إِلَيْنَا ترجعون (57) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم من الْجنَّة غرفا تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نعم أجر العاملين (58) الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} لما توفى سمعُوا حس شخص وَلم يروه، وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم أهل الْبَيْت وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته {كل نفس ذائقة الْمَوْت} الْآيَة، إِن فِي الله عزاء من كل مُصِيبَة، وخلفا من كل هَالك، ودرجا من كل فَائت، أَلا بِاللَّه فثقوا، وإياه فارجوا، والمصاب من حرم الثَّوَاب ". وَقَوله: {ثمَّ إِلَيْنَا ترجعون} أَي: تردون.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لنبوئنهم من الْجنَّة غرفا} أَي: لنسكننهم من الْجنَّة غرفا، أَي: علالي، وروى أَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " إِن لله غرفا فِي الْجنَّة، يرى ظُهُورهَا من بطونها، وبطونها من ظُهُورهَا، قيل: لمن هِيَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لما أطاب الْكَلَام، وَأطْعم الطَّعَام، وَصلى بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام ". وَقُرِئَ: " لنثوينهم " والثوى هُوَ الْإِقَامَة، والتبوؤ هُوَ النُّزُول فِي الْموضع الَّذِي يسكن فِيهِ، وَفِي أَخْبَار الْجَاهِلِيَّة: أَن المهلهل لما قتل ابْن الْحَارِث بن عباد فِي حَرْب بكر وتغلب قَالَ: تبوء بشسع نعل كُلَيْب. وَمن الْمَعْرُوف عَن الْحُسَيْن أَنه قَالَ لِلْحسنِ فِي قتل أبي ملجم: لَا تَجْعَلهُ ثوى بأبينا أَي: لَا ننزله منزلَة أَبينَا. وَقَوله: {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا نعم أجر العاملين} أَي: العاملين بِالطَّاعَةِ.

59

قَوْله تَعَالَى: { [الَّذين] صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} أَي: صَبَرُوا على

( {59) وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها الله يرزقها وَإِيَّاكُم وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} الشدائد، وَقَوله: {وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} أَي: يعتمدون.

60

قَوْله تَعَالَى: {وكأين من دَابَّة} أَي: وَكم من حَيَوَان يدب على الأَرْض. وَقَوله: {لَا تحمل رزقها} أَي: لَا تحمل رزقها مَعهَا، وَقيل: لَا تدخر رزقها للغد. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَالْمَعْرُوف أَنه عَن سُفْيَان الثَّوْريّ: " لَيْسَ من الْحَيَوَان مَا يدّخر شَيْئا للغد سوى ابْن آدم والفأرة والنملة والعقعق. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن المُرَاد من قَوْله: {وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها} أَي: مُحَمَّد: وَكَانَ لَا يدّخر شَيْئا للغد، وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس: " أَن النَّبِي كَانَ لَا يدّخر شَيْئا لغد ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مَنْصُور بكر بن مُحَمَّد بن حميد النَّيْسَابُورِي بِبَغْدَاد من لَفظه، أخبرنَا أَبُو الْحسن الْخفاف، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس السراج، عَن قُتَيْبَة، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان الضبعِي، عَن ثَابت، عَن أنس ... الْخَبَر. وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة ابْن عمر أَنه قَالَ: " دخلت مَعَ رَسُول الله يلتقط التَّمْر ويأكله، فكدت لَا آكله، فَقَالَ لي: أَلا تَأْكُله يَا ابْن عمر؟ فَقلت: لَا أشتهيه. فَقَالَ: لكني أشتهيه، وَهَذَا صبح رَابِع أربعو أَيَّام وَلم أذق طَعَاما، وَلَو طلبت من الله لأعطاني مثل ملك كسْرَى وَقَيْصَر، ثمَّ قَالَ: كَيفَ بك يَا ابْن عمر إِذا بقيت فِي قوم يدخرون الرزق لسنتهم، ويضعف الْيَقِين؟ ! قَالَ: فَلم نَبْرَح من ذَلِك الْموضع حَتَّى أنزل الله تَعَالَى: {وكأين من دَابَّة لَا تحمل رزقها} . " وَالْخَبَر غَرِيب.

( {60) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ إِن الله بِكُل شَيْء عليم (62) وَلَئِن سَأَلتهمْ من نزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض من بعد مَوتهَا ليَقُولن الله} وَقَوله: {الله يرزقها وَإِيَّاكُم} يَعْنِي: يرْزق تِلْكَ الدَّابَّة وَإِيَّاكُم. وَقَوله: {وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى، وَمن الْمَشْهُور عَن النَّبِي قَالَ: " لَو توكلتم على الله حق توكله، لرزقتم كَمَا ترزق الطير، تَغْدُو خماصا، وَتَروح بطانا ". وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " إِن روح الْقُدس نفث فِي روعي، أَن لن تَمُوت نفس حَتَّى تستكمل رزقها، فَاتَّقُوا الله وأجملوا فِي الطّلب ".

61

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر} أَي: وذلل الشَّمْس وَالْقَمَر. وَقَوله: {ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون} أَي: يصرفون عَن الْحق.

62

قَوْله تَعَالَى: {الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ} أَي: يُوسع على من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء. وَقَوله: {إِن الله بِكُل شَيْء عليم} ظَاهر الْمَعْنى.

63

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من نزل من السَّمَاء مَاء فأحيا بِهِ الأَرْض من بعد مَوتهَا ليَقُولن الله قل الْحَمد لله} يَعْنِي: على أَن الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء هُوَ الله.

{قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ (63) وَمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَهو وَلعب وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان لَو كَانُوا يعلمُونَ (64) فَإِذا ركبُوا فِي الْفلك دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر إِذا هم يشركُونَ (56) ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ (66) أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا وينخطف النَّاس من} وَقَوله: {بل أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء هُوَ الله تَعَالَى.

64

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَهو وَلعب} اللَّهْو هُوَ الِاسْتِمْتَاع بلذات الدُّنْيَا، وَسمي لهوا؛ لِأَنَّهَا فانية بِخِلَاف لذات الْآخِرَة. وَقَوله: {وَلعب} أَي: وعبث، وَيُقَال: إِنَّمَا سمي ذَلِك لهوا وَلَعِبًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يسْتَعْمل بهَا من لَا يتفكر فِي العواقب. وَقَوله: {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان} أَي: لهي الْحَيَاة الدائمة. وَقَالَ أهل اللُّغَة: الْحَيَوَان والحياة بِمَعْنى وَاحِد، يحْكى هَذَا عَن أبي عُبَيْدَة وَأبي. وَمعنى الْآيَة: أَن فِي الْآخِرَة الْحَيَاة الدائمة. وَقَوله: {لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: لَو كَانُوا يعلمُونَ أَن الدُّنْيَا تفنى، وَالْآخِرَة تبقى.

65

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا ركبُوا فِي الْفلك دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} أَي: دعوا الله وَتركُوا دُعَاء الْأَصْنَام، وَحكي عَن عِكْرِمَة قَالَ: لَو كَانُوا يركبون الْبَحْر ويحملون أصنامهم مَعَهم، فَإِذا هَاجَتْ الْبَحْر وخافوا الْغَرق، طرحوا أصنامهم فِي الْبَحْر، وقواول: يَا رب، يَا رب. وَقَوله: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر إِذا هم يشركُونَ} أَي: عَادوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ.

66

وَقَوله: {ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ} على طَرِيق التهديد.

67

وَقَوله: {أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا} أَي: ذَا أَمن، وَقَوله: {وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} الاختطاف هُوَ الاستلاب بِسُرْعَة، وَقد بَينا هَذَا الْمَعْنى من قبل.

{حَولهمْ أفبالباطل يُؤمنُونَ وبنعمة الله يكفرون (67) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ (68) وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ (69) } وَقَوله: {أفبالباطل يُؤمنُونَ} يَعْنِي: أفغير الله يُؤمنُونَ؟ وَهُوَ لفظ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار. وَقَوله: {وبنعمة الله يكفرون} أَي: يجحدون.

68

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا} أَي: كذب على الله، وَادّعى أَنه أنزل مَا لم ينزله. وَقَوله: {أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ} يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: مُحَمَّدًا. وَقَوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ} أَي: مقَام ومستقر للْكَافِرِينَ.

69

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين جاهدوا فِينَا} رُوِيَ عَن الْحسن أَنه قَالَ: أفضل الْجِهَاد مُخَالفَة الْهوى. وَيُقَال: الْجِهَاد هَاهُنَا هُوَ الْعَمَل بِمَا علمه، وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ لإِبْرَاهِيم بن أدهم: أَلا تَأْتِينَا فَتَتَعَلَّمُ منا؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعت حديثين فَإِذا فرغت مِنْهُمَا تعلمت الثَّالِث، ثمَّ رُوِيَ بِإِسْنَاد أَن النَّبِي قَالَ: " من زهد فِي الدُّنْيَا نور الله قلبه ". وَيُقَال: المجاهدة: هُوَ الصَّبْر على الطَّاعَات وَاجْتنَاب الْمعاصِي، وَيُقَال: قتال الْكفَّار، وَيُقَال: تَحْقِيق الْإِخْلَاص فِي الْأَعْمَال، وَهُوَ حَقِيقَة قَوْله تَعَالَى: {فِينَا} . وَقَوله: {لنهدينهم سبلنا} لنزيدنهم هدى، وَيُقَال: لنرشدهم إِلَى (الطّرق) المستقيمة، والطرق المستقيمة هِيَ الَّتِي توصل إِلَى رضى الله تَعَالَى. وَعَن ابْن الْمُبَارك أَنه قَالَ: قَالَ لي سُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِذا اخْتلف النَّاس فَعَلَيْك بِمَا قَالَه لأهل الْجِهَاد والثغور، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا} . وَقَوله: {وَإِن الله لمع الْمُحْسِنِينَ} أَي: بالنصرة والمعونة.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الم (1) غلبت الرّوم (2) فِي أدنى الأَرْض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) فِي} تَفْسِير سُورَة الرّوم وَهِي مَكِّيَّة

الروم

قَوْله تَعَالَى: {الم} قد بَينا، ولأصح أَن مَعْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ الْقسم.

2

وَقَوله: {غلبت الرّوم} أَي: قد غلبت الرّوم، فَوَقع الْقسم على هَذَا، وَقد تحذف قد عِنْد أهل اللُّغَة فِي الْكَلَام، قَالَ الشَّاعِر: (أكلفتني ذَنْب امْرِئ وَتركته ... كذى العر [يكوي] غَيره وَهُوَ راتع) أَي: لقد كلفتني.

3

وَقَوله: {فِي أدنى الأَرْض} الْأَدْنَى بِمَعْنى الْأَقْرَب، وَمَعْنَاهُ: الْأَدْنَى إِلَى أَرض فَارس من أَرض الرّوم، قَالَ مُجَاهِد. هِيَ لجزيرة، وَهِي بِلَاد بَين دجلة والفرات تسمى الجزيرة مِنْهَا حران، ورحبة مَالك بن طوق، والرقة، والرهى، وَغير ذَلِك. وَقَوله: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} مَعْنَاهُ: أَن الرّوم من بعد غَلَبَة فَارس عَلَيْهِم سيغلبون. فَإِن قيل: قَالَ: {من بعد غلبهم} وهم غلبوا وَلم يغلبوا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: ذكر غلبتهم، وَالْمرَاد مِنْهُ غَلَبَة غَيرهم عَلَيْهِم، وَإِنَّمَا أضَاف الْغَلَبَة إِلَيْهِم لاتصال تِلْكَ الْغَلَبَة بهم، واتصال الْغَلَبَة بهم وُقُوع الْغَلَبَة عَلَيْهِم، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {ويطعمون الطَّعَام على حبه} وَالطَّعَام لَا يكون صَاحب الْحبّ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَان هُوَ صَاحب الْحبّ، وَلَكِن إِضَافَة إِلَى الطَّعَام لاتصال الْحبّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَذَلِكَ لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد} وَالْمقَام للْعَبد إِلَّا أَنه [أَضَافَهُ] إِلَى الله؛

{بضع سِنِين لله الْأَمر من قبل وَمن بعد ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ (4) بنصر الله ينصر} لِأَنَّهُ يقوم بَين يَدي الله، فيتصل بِاللَّه من هَذَا الْوَجْه.

4

وَقَوله: {فِي بضع سِنِين} فِي الْبضْع قَولَانِ: أَحدهمَا: من الْوَاحِد إِلَى الْعشْر، وَالْقَوْل الثَّانِي: من الثَّلَاث إِلَى السَّبع. وَكَذَلِكَ اخْتلف القَوْل فِي النيف، فَمنهمْ من قَالَ: من الْوَاحِد إِلَى الثَّلَاث، وَمِنْهُم من قَالَ: من الْوَاحِد إِلَى الْعَاشِر. وَأما سَبَب نزُول الْآيَة فروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: " أَنه كَانَ بَين فَارس وَالروم قتال قَائِم، فَكَانَ الْمُشْركُونَ يُؤْذونَ أَن تغلب فَارس الرّوم، والمسلمون يودون أَن تغلب الرّوم فَارس، لأَنهم كَانُوا أهل الْكتاب، قَالَ: فغلب فَارس الرّوم مرّة، فشمت الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين، وَقَالُوا: إِنَّا سنغلبكم كَمَا غلبت فَارس الرّوم، فجَاء الْمُسلمُونَ إِلَى النَّبِي وَذكروا لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: أما إِن الرّوم سيغلبون فَارس. فَقَالَ أَصْحَاب النَّبِي: مَتى ذَلِك؟ فَقَالَ: إِلَى بضع سِنِين، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَالَ: فجَاء أَبُو بكر إِلَى أبي بن خلف، وَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: وَالله لَا تغلب الرّوم فَارس أبدا، ثمَّ قَالَ لأبي بكر: أخاطرك؟ قَالَ: نعم فخاطره على قَلَائِص من الْإِبِل. وَاخْتلفُوا فِي عدد القلائص مِنْهُم من قَالَ: كَانَ سِتا، وَقيل: كَانَ سبعا. وَقيل: غير ذَلِك، ووضعا الْمدَّة إِلَى خمس سِنِين. قَالَ قَتَادَة: وَكَانَ ذَلِك فِي وَقت لم يكن حوم الْقمَار بعد. فجَاء أَبُو بكر إِلَى النَّبِي، وَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: يَا أَبَا بكر، زد

{من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم (5) وعد الله لَا يخلف الله وعده وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا} فِي الْخطر، وَأبْعد فِي الْأَجَل " فَزَاد فِي عدد القلائص، وَجعل الْمدَّة إِلَى سبع سِنِين ". ثمَّ إِن الرّوم ظَهرت على فَارس، واسترجعوا ديار الجزيرة وَالشَّام وَغير ذَلِك من فَارس، وَكَانَ فَارس قد استولوا على الْكل، وَأخذُوا صليبهم الْأَعْظَم، فاستردوا هَذِه الديار، واستردوا صليبهم، وهزموا فَارس. وَاخْتلفُوا فِي وَقت ذَلِك، مِنْهُم من قَالَ: كَانَ يَوْم بدر، وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ عَام الْحُدَيْبِيَة. وَفِي بعض التفاسير: أَن أَبَا بكر لما قصد الْهِجْرَة جَاءَ إِلَى أبي بن خلف، وَطلب مِنْهُ كَفِيلا بالقلائص، فكفل بهَا ابْنه عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، ثمَّ لما خرج أبي بن خلف إِلَى أحد طلب عبد الرَّحْمَن مِنْهُ كَفِيلا، فكفل بالقلائص ابْنه، ثمَّ انه لما ظَهرت الرّوم على فَارس أَخذ أَبُو بكر القلائص. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن الْمدَّة كَانَت إِلَى خمس سِنِين لَا زِيَادَة، وَمَضَت الْخمس وَلم تغلب الرّوم على فَارس، واخذ أبي بن خلف القلائص، ثمَّ بعد ذَلِك ظَهرت الرّوم على فَارس. وَهَذِه الْآيَة من معجزات النَّبِي؛ لِأَنَّهُ أخبر عَن غيب لَا يُعلمهُ إِلَّا الله، وَكَانَ الْأَمر على مَا أخبر. وَقَوله: {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} أَي: من قبل غلبهم، وَمن بعد غلبهم. وَقَوله: {ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ بنصر الله} أَي: ينصر الله أهل الْكتاب على غير أهل الْكتاب، وَإِنَّمَا فرحوا بذلك لصدق وعد الله تَعَالَى؛ وَلِأَنَّهُم قَالُوا: كَمَا نصر الله أهل الْكتاب على غير أهل الْكتاب، وَكَذَلِكَ ينصرنا عَلَيْكُم.

5

وَقَوله: {ينصر من يَشَاء} أَي: من يَشَاء من عباده. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب على أمره، الْمُنعم على عباده.

{يعلمُونَ (6) يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون (7) أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأجل مُسَمّى وَإِن كثيرا من النَّاس بلقاء رَبهم لكافرون (8) أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ}

6

قَوْله تَعَالَى: {وعد الله لَا يخلف الله وعده} أَي: هَذِه النُّصْرَة من وعد الله، وَلَا يخلف الله وعده {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَن وعد الله حق.

7

قَوْله تَعَالَى: {يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: أَمر مَعَايشهمْ ومعالجهم فِي الدُّنْيَا يَعْنِي: مَتى يزرعون وَمَتى يحصدون، وَمَتى يغرسون، وَمَتى يبنون. وَقَالَ الضَّحَّاك: بُنيان الدّور، وغرس الْأَشْجَار، وتشقيق الْأَنْهَار، وَعمل التِّجَارَات. وروى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن أحدهم لينقد الدَّرَاهِم بِطرف ظفره، وَيذكر وَزنه فَلَا يُخطئ، وَهُوَ لَا يحسن أَن يُصَلِّي. وَقَوله: {وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون} فهم الأول ابْتِدَاء، وهم الثَّانِي ابْتِدَاء آخر، وَمَعْنَاهُ: أَنهم غافلون ساهون عَن الْآخِرَة.

8

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يتفكروا فِي أنفسهم مَا خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} أَي: للعدل، وَيُقَال: لإِقَامَة الْحق، وَقيل: للحق. وَقد رُوِيَ فِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي مر على قوم وهم يتفكرون، فَقَالَ: تَفَكَّرُوا فِي خلق الله، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الله ". وَهَذَا خبر غَرِيب. وَقَوله: {وَأجل مُسَمّى} أَي: وَمُدَّة مُسَمَّاهُ، وَاخْتلفُوا فِي الْمدَّة المسماه، فَقَالَ بَعضهم: هِيَ السَّاعَة، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْوَقْت الَّذِي قدر هلاكهم فِيهِ. وَقَوله: {وَإِن كثيرا من النَّاس بلقاء رَبهم لكافرون} أَي: جاحدون، ولقاء رَبهم هُوَ الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة.

9

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم} يَعْنِي: الْأُمَم الَّذين مضوا.

{كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وأثاروا الأَرْض وعمروها أَكثر مِمَّا عمروها وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله ليظلمهم وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ (9) ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الَّذين أساؤوا السوأى أَن كذبُوا بآيَات الله وَكَانُوا بهَا يستهزءون} وَقَوله: {كَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة} أَي: أَكثر مِنْهُم قُوَّة. وَقَوله: {وأثاروا الأَرْض} أَي: حرثوا الأَرْض. وَقَوله: {وعمروها أَكثر مِمَّا عمروها} أَي: عمروا الأَرْض أَكثر مِمَّا عمرها أهل مَكَّة، فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لم يكن لأهل مَكَّة حرث. وَقَوله: {وجاءتهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات. وَقَوله: {فَمَا كَانَ الله ليظلمهم} أَي: لينقص حُقُوقهم، وَلَكنهُمْ نَقَصُوا وبخسوا حُقُوقهم. [وَقَوله تَعَالَى: {وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} ] .

10

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الَّذين أساءوا} أَي: كفرُوا، وَقَوله: {السوأى} هِيَ جَهَنَّم، ونعوذ بِاللَّه، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " ثمَّ كَانَ عَاقِبَة الَّذين أساءوا السوء ". وَقيل: السوأى: قبح الْعَاقِبَة. وَمِنْه قَوْله: " سَوَاء ولود خير من حسناء عقيم ". يَعْنِي: قبيحة ولود خير من حسناء عقيم.

( {10) الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون (11) وَيَوْم تقوم السَّاعَة يبلس المجرمون (12) وَلم يكن لَهُم من شركائهم شُفَعَاء وَكَانُوا بشركائهم كَافِرين (13) وَيَوْم تقوم السَّاعَة يَوْمئِذٍ يتفرقون (14) فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فهم فِي} وَقَوله: {أَن كذبُوا بآيَات الله} أَي: لِأَن كذبُوا بآيَات الله. وَقَوله: {وَكَانُوا بهَا يستهزئون} أَي: بآيَات الله يستهزئون.

11

قَوْله تَعَالَى: {الله يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة يبلس المجرمون} أَي: ييأس المجرمون، وَيُقَال: (يسكتون) وتنقطع حجتهم، قَالَ الشَّاعِر: (يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا ... قَالَ نعم أعرفهُ وأبلسا) وَقَالَ مُجَاهِد: يبلس المجرمون: يفتضحون. وَقيل: يتحيرون.

13

وَقَوله: {وَلم يكن لَهُم من شركائهم شُفَعَاء} أَي: الْأَصْنَام الَّتِي اتَّخَذُوهَا شُرَكَاء لله. وَقَوله: {وَكَانُوا بشركائهم كَافِرين} أَي: كفرُوا بالأصنام، وتبرءوا مِنْهَا يَوْم الْقِيَامَة، وَمعنى كَانُوا: صَارُوا.

14

قَوْله: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة يَوْمئِذٍ يتفرقون} يَعْنِي: يتَمَيَّز أهل الْجنَّة من أهل النَّار، وَقيل مَعْنَاهُ: أَنه يفرق بَين أهل الْمعْصِيَة و [أهل] الطَّاعَة؛ فيعاقب أهل الْمعاصِي، وينعم على المطيعين، وَعَن قَتَادَة قَالَ: هُوَ افْتِرَاق لَا اجْتِمَاع بعده.

15

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فهم فِي رَوْضَة يحبرون} الرَّوْضَة: هِيَ لبستان الَّذِي هُوَ فِي غَايَة النضارة وَالْحسن. قَالَ الطَّائِي:

{رَوْضَة يحبرون (15) وَأما الَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا ولقاء الْآخِرَة فَأُولَئِك فِي الْعَذَاب محضرون (16) فسبحان الله حِين تمسون وَحين تُصبحُونَ (17) وَله الْحَمد} ((إِنَّمَا الْبشر رَوْضَة فَإِذا ... كَانَ [ربوة] فروضة وغدير)) قَوْله: {يحبرون} أَي: يكرمون وينعمون، وَمِنْه ثوب الْخِبْرَة لحسنة، وَعَن يحيى ابْن كثير قَالَ: يحبرون: هُوَ السماع فِي الْجنَّة. وَذكر ابْن قُتَيْبَة معنى قَوْله: {يحبرون} أَي: يسرون.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا ولقاء لآخرة} أَي: الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {فَأُولَئِك فِي الْعَذَاب محضرون} أَي: معذبون.

17

قَوْله: {فسبحان الله} بَينا أَن سُبْحَانَ الله: تَنْزِيه الله، وتبرئته عَن كل سوء. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: هُوَ اسْم مُمْتَنع لَا يَنْتَحِلهُ مَخْلُوق. وَقَوله: {سُبْحَانَ الله} أَي: سبحوا الله، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كل سبْحَة فِي الْقُرْآن فَهِيَ فِي معنى الصَّلَاة. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن لنَبِيّ سُئِلَ عَن أفضل الْكَلَام فَقَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " كلمتان خفيفتان على اللِّسَان، ثقيلتان فِي الْمِيزَان، حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله الْعَظِيم ". وَهَذَا آخر خبر ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: حَدثنَا

{فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وعشيا وَحين تظْهرُونَ (18) يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج} بِهَذَا الحَدِيث من لَفظهَا كَرِيمَة بنت أَحْمد بِمَكَّة، قَالَت: أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة. . الْخَبَر. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ صَلَاة أهل السَّمَوَات وَصَلَاة الْخلق كلهم ". وَقَوله: {حِين تمسون} أَي: تدخلون فِي الْمسَاء. وَقَوله: {وَحين تُصبحُونَ} أَي: تدخلون فِي الصَّباح.

18

وَقَوله: {وَله الْحَمد فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} قَالَ الضَّحَّاك: الْحَمد لله رِدَاء الرَّحْمَن. وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي لما رفع رَأسه من الرُّكُوع قَالَ: " سمع الله لمن حَمده، رَبنَا لَك الْحَمد، ملْء السَّمَوَات وملء الأَرْض، وملء مَا بَينهمَا، وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد، أهل الثَّنَاء وَالْمجد، أَحَق مَا قَالَ العَبْد، وكلنَا لَك عبد، لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ". وَقَوله: {وعشيا} أَي: صلوا لله عشيا.

{الْمَيِّت من الْحَيّ ويحيي الأَرْض بعد مَوتهَا وَكَذَلِكَ تخرجُونَ (19) وَمن آيَاته أَن} وَقَوله: {وَحين تظْهرُونَ} أَي: تدخلون فِي الظّهْر، وَفِي الْآيَة إِشَارَة إِلَى أَوْقَات الصَّلَاة الْخمس، فَقَوله: {حِين تمسون} إِشَارَة إِلَى صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء، وَقَوله: {حِين تُصبحُونَ} إِشَارَة إِلَى صَلَاة الصُّبْح، وَقَوله: {وعشيا} إِشَارَة إِلَى صَلَاة الْعَصْر. وَقَوله: {وَحين تظْهرُونَ} إِشَارَة إِلَى صَلَاة الظّهْر.

19

قَوْله تَعَالَى: {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} قد بَينا مَعْنَاهُ من قبل؛ وَهُوَ إِخْرَاج الْبَيْضَة من الدَّجَاجَة، وَإِخْرَاج الدَّجَاجَة من الْبيض، وَإِخْرَاج الْكَافِر من الْمُؤمن، وَالْمُؤمن من الْكَافِر، وَغير ذَلِك. وَقَوله: {ويحيي الأَرْض بعد مَوتهَا} أَي: كَمَا أَحْيَا الأَرْض بعد مَوتهَا كَذَلِك يُحْيِيكُمْ بعد موتكم، وَهُوَ معنى قَوْله: {وَكَذَلِكَ تخرجُونَ} . وَقَالَ بَعضهم: يخرج البليد من الفطن، والفطن من البليد. وروى الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عدي بن الْخِيَار: " أَن النَّبِي دخل على بعض نِسَائِهِ وَعِنْدهَا خالدة بنت الْأسود بن عبد يَغُوث: فَقَالَ: من هَذِه؟ قَالُوا: هِيَ خالدة بنت الْأسود بن يَغُوث. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله! يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت، وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ "، وَكَانَت الْمَرْأَة صَالِحَة، وأبوها كَانَ كَافِرًا.

{خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ إِذا أَنْتُم بشر تنتشرون (20) من آيَاته أَن خلق لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا لتسكنوا إِلَيْهَا وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (21) وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم وألوانكم إِن فِي ذَلِك}

20

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن خَلقكُم من تُرَاب} أَي: خلق أصلكم من تُرَاب؛ وَهُوَ آدم صلوَات الله عَلَيْهِ. وَقَوله: {ثمَّ إِذا أَنْتُم بشر تنتشرون} أَي: تجيئون وَتَذْهَبُونَ، وَيُقَال: (تنتشطون) .

21

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن خلق لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: خلق حَوَّاء من ضلع آدم، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: خلق من أمثالكم أَزْوَاجًا لكم، وَالنِّسَاء من جنس الرِّجَال؛ لأَنهم جَمِيعًا من بني آدم. وَقَوله: {لتسكنوا إِلَيْهَا} هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَخلق مِنْهَا زَوجهَا ليسكن إِلَيْهَا} أَي: ليأنس بهَا. وَقَوله: {وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة} الْمَوَدَّة: الْحبّ والعطف، وَقد يتَّفق بَين الزَّوْجَيْنِ من الْعَطف والمودة مَا لَا يتَّفق بَين الْأَقَارِب. وَعَن مُجَاهِد وَالْحسن وَعِكْرِمَة أَنهم قَالُوا: الْمَوَدَّة: الوطئ، وَالرَّحْمَة: الْوَلَد. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} التفكر: هُوَ طلب الْمَعْنى من الْأَشْيَاء فِيمَا يتَعَلَّق بِالْقَلْبِ.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم وألوانكم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن اخْتِلَاف الْأَلْسِنَة هُوَ اخْتِلَاف اللُّغَات؛ فللفرس لُغَة، وللروم لُغَة، وللترك لُغَة، وللعرب لُغَة، وَمَا أشبه هَذَا. وَذكر كَعْب الْأَحْبَار أَن الله تَعَالَى قسم اثْنَتَيْنِ وَسبعين لُغَة بَين النَّاس، فلولد سَام [تسع عشرَة] لُغَة ولولد حام [سبع

{لآيَات للْعَالمين (22) وَمن آيَاته منامكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وابتغاؤكم من فَضله إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ (23) وَمن آيَاته يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا وَينزل من السَّمَاء مَاء} عشرَة] لُغَة، وَالْبَاقِي لولد يافث. وَأما اخْتِلَاف الألوان فَهُوَ أَن هَذَا أَحْمَر، وَهَذَا أسود، وَهَذَا أَبيض، مَا أشبه هَذَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن اخْتِلَاف الْأَلْسِنَة هُوَ اخْتِلَاف النغمات، فَلَا يتَّفق لاثْنَيْنِ نَغمَة وَاحِدَة، وَاخْتِلَاف الألوان مَعْلُوم بَين النَّاس، وَإِن كَانَ كلهم بيضًا أَو سُودًا، فَلَا يتَّفق لونان من جَمِيع الْوُجُوه. وَفِيه حِكْمَة عَظِيمَة، وَهُوَ أَنه لَو اتّفقت الألوان والأسنة [لبطل] التَّمْيِيز، فَلم يعرف الْأَب ابْنه، وَالِابْن أَبَاهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْأُخوة والأزواج وَجَمِيع النَّاس. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات للْعَالمين} قَرَأَ حَفْص بن عَاصِم: " للْعَالمين " هُوَ جمع عَالم، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: " للْعَالمين " يَعْنِي: الْجِنّ وَالْإِنْس وَجَمِيع الْخلق.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته منامكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وابتغاؤكم من فَضله} أَي: منامكم بِاللَّيْلِ، وابتغاؤكم من فَضله بِالنَّهَارِ. وَيُقَال مَعْنَاهُ: وَمن آيَاته منامكم [واشتغالكم] من فضل الله بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يسمعُونَ} أَي: يسمعُونَ مَا يذكر لَهُم من هَذِه الْآيَات.

24

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته يريكم الْبَرْق} مَعْنَاهُ: من آيَاته أَنه يريكم الْبَرْق، وَقد بَينا وَجه القَوْل فِي الْبَرْق. وَعَن بَعضهم قَالَ: إِذا أبرقت السَّمَاء أَرْبَعِينَ برقة فَلَا يخلفه أَي: لَا يتَأَخَّر الْمَطَر، قَالَ الشَّاعِر: (لَا يكن (برقا كبرق) خلبا ... إِن خير الْبَرْق [مَا] الْغَيْث مَعَه)

{فيحيي بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ (24) وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره ثمَّ إِذا دعَاكُمْ دَعْوَة من الأَرْض إِذا انتم تخرجُونَ (25) وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون (26) وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْون} وَقَوله: {خوفًا وَطَمَعًا} أَي: خوفًا للْمُسَافِر، وَطَمَعًا للحاضر، وَيُقَال: خوفًا من الصَّوَاعِق، وَطَمَعًا فِي الْغَيْث. وَقَوله: {وَينزل من السَّمَاء مَاء فيحيي بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: تَكُونَا بأَمْره، وَالْقَوْل الثَّانِي: يَدُوم قيامهما بأَمْره) . وَقد أَقَامَ السَّمَاء بِغَيْر عمد ودام ذَلِك إِلَى وقته الْمُسَمّى، وَهُوَ بأَمْره. وَقَوله: {ثمَّ إِذا دعَاكُمْ دَعْوَة من الأَرْض} قيل: إِن الدعْوَة من صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس، وَيُقَال: هِيَ من السَّمَاء. والدعوة: هِيَ دَعْوَة إسْرَافيل. وَقَوله: {من الأَرْض} أَي: يدعوكم أَن تخْرجُوا من الأَرْض، وَهَذَا على القَوْل الَّذِي يَقُول إِن الدعْوَة من السَّمَاء. وَقَوله: {إِذا أَنْتُم تخرجُونَ} قد ذكرنَا.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل لَهُ قانتون} أَي: مطيعون، وَيُقَال: مقربون بالعبودية. وَقَوله: {وَله} أَي: وَله ملكا وخلقا. فَإِن قيل: إِذا حملنَا الْقُنُوت على الطَّاعَة فَلَيْسَ كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يطيعونه! وَالْجَوَاب: أَنه لَيست الطَّاعَة هَاهُنَا بِمَعْنى طَاعَة الْعِبَادَة، إِنَّمَا الطَّاعَة هَاهُنَا بِمَعْنى الانقياد بذل كل شَيْء لما خلق لَهُ.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق} أَي: ينشئ الْخلق {ثمَّ يُعِيدهُ} أَي:

{عَلَيْهِ وَله الْمثل الْأَعْلَى فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (27) ضرب لكم} يُحْيِيكُمْ بعد مَا يميتهم. وَقَوله: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} وَالله لَا يشْتَد عَلَيْهِ شَيْء؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} أَي: هُوَ هَين عَلَيْهِ. وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وَهُوَ عَلَيْهِ هَين ". قَالَ الفرزدق شعرًا: (إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا ... بَيْتا دعائمه أعز وأطول) ((بَيت) زُرَارَة محتب بفنائه ... ومجاشع وَأَبُو الفوارس نهشل) وَقَوله: أعز وأطول أَي عزيزة طَوِيلَة، وَقَالَ آخر: (لعمرك لَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل ... على أَيّنَا تعدو الْمنية أول) أَي: (لوجل) . وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن مَعْنَاهُ: وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ على مَا يَقع فِي عُقُولهمْ؛ فَإِن الَّذِي يَقع فِي عقول الْخلق أَن الْإِعَادَة أَهْون من الْإِنْشَاء، وَيُقَال مَعْنَاهُ: هُوَ أَهْون على الْخلق؛ لِأَن من ابْتَدَأَ شَيْئا مِمَّا يشق عَلَيْهِ، فَإِذا (أعَاد) ثَانِيًا يكون أسهل وأهون. وَقَوله: {وَله الْمثل الْأَعْلَى} أَي: الصّفة الْأَعْلَى، وَالصّفة الْأَعْلَى أَنه لَا شريك لَهُ وَلَيْسَ كمثله شَيْء، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ قَتَادَة: الصّفة الْأَعْلَى أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَوله: {فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي: هَذِه صفة لَهُ عِنْد أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْعَزِيز من حَيْثُ الانتقام، الْحَكِيم من حَيْثُ التَّدْبِير.

{مثلا من أَنفسكُم هَل لكم من مَا ملكت أَيْمَانكُم من شُرَكَاء فِي مَا رزقناكم فَأنْتم فِيهِ سَوَاء تخافونهم كخيفتكم أَنفسكُم كَذَلِك نفصل الْآيَات لقم يعْقلُونَ (28) بل اتبع الَّذين ظلمُوا أهواءهم بِغَيْر علم فَمن يهدي من أضلّ الله وَمَا لَهُم من ناصرين (29) }

28

قَوْله تَعَالَى: {ضرب لكم مثلا من أَنفسكُم} أَي: شبها من مثالكم، ثمَّ ذكر الشّبَه فَقَالَ: {هَل لكم من مَا ملكت أَيْمَانكُم من شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم} وَمَعْنَاهُ: هَل لكم فِي أَمْوَالكُم شُرَكَاء من عبيدكم يساونكم فِيهَا؟ فَإِذا لم ترضوا بِهَذَا لأنفسكم فَكيف ترضونه لي وتصفونني بِهِ؟ . وَقَوله: {فِيمَا رزقناكم} أَي: فِيمَا أعطيناكم من الرزق وَالْمَال. وَقَوله: {فَأنْتم فِيهِ سَوَاء} إِشَارَة إِلَى مَا قُلْنَا. وَقَوله: {تخافونهم كخيفتكم أَنفسكُم} أَي: تخافون من مشاركتهم لكم فِي أَمْوَالكُم كَمَا تخافون من أمثالكم، وَهُوَ الشَّرِيك الْحر من الشَّرِيك الْحر، وَأَنْفُسكُمْ هُنَا بِمَعْنى أمثالكم، وَفِيه قَول آخر قَالَه سعيد بن جُبَير، وَهُوَ أَن الْآيَة نزلت فِي تَلْبِيَة الْمُشْركين، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لبيْك، لَا شريك لَك إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك، تملكه وَمَا ملك. وَقَوله: {تخافونهم كخيفتكم أَنفسكُم} أَي: تخافونهم فِي اللائمة كَمَا تخافون لائمة أمثالكم. وَقَوله: {كَذَلِك نفصل الْآيَات لقوم يعْقلُونَ} أَي: ينظرُونَ إِلَى هَذِه الدَّلَائِل بعقولهم.

29

قَوْله تَعَالَى: {بل اتبع الَّذين ظلمُوا أهواءهم} الْأَهْوَاء جمع الْهوى، والهوى مَا يهواه الْإِنْسَان، وَعَن بَعضهم: الْهوى أعظم معبود. وَقَوله: {بِغَيْر علم} أَي: اتبعُوا أهواءهم جهلا بِمَا لَا [يجب] عَلَيْهِم. وَقَوله: {فَمن يهدي من أضلّ الله} أَي: أضلّهُ الله.

{فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطرت الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل} وَقَوله: {وَمَا لَهُم من ناصرين} أَي: يمنعهُم من عذابنا.

30

قَوْله تَعَالَى: {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا} أَي: أخْلص دينك لله، وَإِقَامَة الْوَجْه هُوَ إِقَامَة الدّين، وَقد بَينا معنى الحنيف. وَقَوله: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} أما نصب الْفطْرَة على الإغراء أَي: الزم فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا، وَاخْتلفُوا فِي هَذِه الْفطْرَة، فَمنهمْ من قَالَ: إِن الْفطْرَة هَاهُنَا بِمَعْنى الدّين. وَقَوله: {فطر النَّاس عَلَيْهَا} أَي: خلق النَّاس عَلَيْهَا، وَيُقَال هَذَا القَوْل عَن ابْن عَبَّاس والكلبي وَمُقَاتِل وَغَيرهم. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ". وَثَبت أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِيمَا يحْكى عَن ربه أَنه قَالَ: " خلقت عبَادي حنفَاء فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِين عَن دينهم ". فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا على أصولكم، وعندكم أَن الله تَعَالَى خلق النَّاس صنفين: مُؤمنين، وكافرين؟ هَذِه الْآيَة وَالْأَخْبَار تدل على أَن الله تَعَالَى خلق عباده مُؤمنين؛ وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن الله تَعَالَى أخرج ذُرِّيَّة آدم من صلبه، وخاطبهم بقوله: {أَلَسْت بربكم} فأقروا بالعبودية وَالْإِيمَان، فَالنَّاس يولدون على ذَلِك، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن أهل الْعلم اخْتلفُوا فِي هَذَا، فَحكى النّحاس فِي تَفْسِيره عَن ابْن الْمُبَارك: أَن الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ خَاصَّة، وَحكى أَبُو (عبيد) فِي غَرِيب الحَدِيث عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه قَالَ: هَذَا قبل نزُول الْأَحْكَام وَالْأَمر بِالْجِهَادِ، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن الْآيَة مَنْسُوخَة، ثمَّ ذكر النّحاس أَن كلا الْمَعْنيين ضَعِيف.

أما [مَا] ذكره ابْن الْمُبَارك فَهُوَ مُجَرّد تَخْصِيص، وَلَيْسَ عَلَيْهِم دَلِيل، وَأما مَا ذكره مُحَمَّد بن الْحسن فَهُوَ إِثْبَات النّسخ فِي الْأَخْبَار، وَالْأَخْبَار لَا يرد عَلَيْهَا النّسخ، وَالصَّحِيح فِي معنى الْآيَة وَالْخَبَر أَن معنى الْفطْرَة هُوَ أَن كل إِنْسَان يُولد على أَنه مَتى سُئِلَ: من خلقك؟ فَيَقُول: الله خلقني، هُوَ الْمعرفَة الَّتِي تقع فِي أصل الْخلقَة. قَالَ أَبُو (عبيد) الْهَرَوِيّ: وَهُوَ معرفَة الغريزة والطبيعة، وَإِلَى هَذَا وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خَلقكُم ليقولون الله} وَبِهَذَا الْقدر لَا يحصل الْإِيمَان الْمَأْمُور بِهِ، فَالنَّاس خلقُوا على هَذِه الْفطْرَة، وَأما حَقِيقَة الْإِيمَان وَحَقِيقَة الْكفْر فَالنَّاس من ذَلِك على قسمَيْنِ على مَا ورد بِهِ الْكتاب وَالسّنة. قَالَ الزّجاج والنحاس: وَهَذَا قَول أهل السّنة. وَهَذَا القَوْل اخْتِيَار ابْن قُتَيْبَة أَيْضا. وَقَوله: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} على هَذَا القَوْل أَي: لَا أحد يرجع إِلَى نَفسه إِلَّا وَيعلم أَن لَهُ إِلَهًا وخالقا. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: هُوَ أَن فطْرَة الله هَاهُنَا بِمَعْنى دين الله، فالخلق يولدون على الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِم يَوْم لميثاق، وَهُوَ فطْرَة الله، وَهَذَا القَوْل حُكيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ وَحَمَّاد بن سَلمَة. وَقد ورد فِي الْخَبَر الَّذِي روينَا، وَهُوَ قَوْله: " كل مَوْلُود يُولد على افطرة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء "؟ ! قَالَ: اقْرَءُوا إِن شِئْتُم: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} . قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث على الْفظ مُحَمَّد بن. عبد الله بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد، قَالَ: أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن الْبَزَّار، أخبرنَا الغدافري، أخبرنَا الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن سعيد بن الْمسيب، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي. . الحَدِيث.

{لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (30) منيبين إِلَيْهِ واتقوه} وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ مَا روى أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ فِي الغريبين عَن ابْن الْمُبَارك قَالَ: قَوْله: " على الْفطْرَة " أَي: على ابْتِدَاء الْخلقَة الَّتِي فطر عَلَيْهَا الْإِنْسَان فِي الرَّحِم من سَعَادَة أَو شقاوة، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ يَعْنِي: فِي حكم الدُّنْيَا. وَقد صحّح كثير من أهل الْمعَانِي مَا ذَكرْنَاهُ من قبل، وَهُوَ أَن الْآيَة فِي الْمُسلمين خَاصَّة، وَهُوَ عُمُوم بِمَعْنى الْخُصُوص. وَقَوله: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: مَا بَينا من قبل، وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا تَبْدِيل لخلق الله أَي: لَا يَنْقَلِب السعيد شقيا، وَلَا الشقي سعيدا إِذا خلق على أَحدهمَا. وَالْقَوْل الثَّالِث: لَا تَبْدِيل لخلق الله أَي: لَا أحد يَثِق مثل خلق الله، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا خَالق غَيره. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: لَا تَبْدِيل لخلق الله: هُوَ تَحْرِيم الإخصاء. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، مِنْهُم من حرم فِي الْكل، وَمِنْهُم من أَبَاحَ فِي جَمِيع الْبَهَائِم سوى الْآدَمِيّ، وَمِنْهُم من أَبَاحَ فِي جَمِيع الْبَهَائِم سوى الْفرس؛ لِأَن فِيهِ قطع النَّسْل، والنسل يقْصد فِي الْخَيل مَا لَا يقْصد فِي غَيره. وروى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " خير المَال سكَّة مأبورة، وَفرس مأمورة ". وَالسِّكَّة الْمَأْبُورَة هِيَ النّخل المصطفة الَّتِي قد أبرت، وَالْفرس الْمَأْمُورَة كَثِيرَة النِّتَاج. وَأما إِذا حملنَا الْفطْرَة على الدّين فَقَوله: {لَا تَبْدِيل لخلق الله} خبر بِمَعْنى الْأَمر، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تبدلوا دين الله. وَقد ورد فِي الْخَيْر: الْفطْرَة بِمَعْنى كلمة الْإِسْلَام. روى الْبَراء بن عَازِب أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا أَخذ أحدكُم مضجعه ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أسلمت نَفسِي إِلَيْك، وفوضت امري إِلَيْك، وألجأت ظَهْري إِلَيْك، لَا ملْجأ وَلَا منجا مِنْك إِلَّا إِلَيْك، آمَنت بكتابك الَّذِي أنزلت، وبنبيك الَّذِي أرْسلت، قَالَ: فَإِن مَاتَ مَاتَ على الْفطْرَة ". وَقد وَردت الْفطْرَة بِمَعْنى السّنة، وَذَلِكَ فِي الْخَبَر الْمَعْرُوف عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عشر من الْفطْرَة " أَي: من السّنة الْخَبَر. وَقَوله: {ذَلِك الدّين الْقيم} أَي: الدّين الْمُسْتَقيم، وَيُقَال: الْحساب الْمُسْتَقيم. وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى، وأنشدوا فِي الْفطْرَة قَول كَعْب بن مَالك شعرًا: (إِن تقتلونا فدين الله فطرتنا ... وَالْقَتْل فِي الْحق عِنْد الله تَفْضِيل)

31

قَوْله تَعَالَى: {منيبين إِلَيْهِ أَي: اتبعُوا دين الله {منيبين إِلَيْهِ} أَي: رَاجِعين [إِلَيْهِ] . قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: رَاجِعين إِلَى الله بصلاتكم وَأَعْمَالكُمْ. وَعَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ أَنه قَالَ: الْمُنِيب هُوَ الَّذِي يمشي على الأَرْض وَقَلبه عِنْد الله. فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {منيبين} وَقد خَاطب غب الِابْتِدَاء وَاحِدًا، وَهُوَ الرَّسُول بقوله: {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ، أَن قَوْله: {فأقم وَجهك} أَي: فأقم وَجهك وَأمتك مَعَك منيبين إِلَى الله، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: اتبعُوا الدّين الْقيم منيبين إِلَى الله.

{وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين (31) من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ (32) وَإِذا مس النَّاس ضرّ دعوا رَبهم منيبين إِلَيْهِ ثمَّ إِذا} وَقَوله: {واتقوه وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين} أَي: الجاحدين.

32

قَوْله تَعَالَى: {من الَّذين فارقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا} أَي: تركُوا دينهم، وَقُرِئَ: " فرقوا دينهم " أَي: تفَرقُوا فِي دينهم. وَفِي الْآيَة أَقُول، أظهر الْأَقَاوِيل: أَن المُرَاد مِنْهُم الْيَهُود وَالنَّصَارَى. وَقد روى فِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الْيَهُود افْتَرَقُوا على إِحْدَى وَسبعين فرقة، وَالنَّصَارَى افْتَرَقُوا على اثْنَتَيْنِ وَسبعين فرقة، وَسَتَفْتَرِقُ أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة، كلهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة ". وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة هم الْخَوَارِج، حكى هَذَا عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد من الْآيَة أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَقد روى هَذَا فِي خبر مُسْند عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ لَهَا: " إِن الَّذين فارقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا هم أهل الْأَهْوَاء والبدع من هَذِه الْأمة، يَا عَائِشَة، إِن لكل قوم تَوْبَة إِلَّا أهل الْأَهْوَاء والبدع فَلَيْسَ لَهُم تَوْبَة، أَنا مِنْهُم برِئ، وهم مني برَاء ". وَقَوله: {كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} أَي: راضون بِمَا عِنْدهم. وَقَالَ بعض أهل

{أذاقهم مِنْهُ رَحْمَة إِذا فريق مِنْهُم برَبهمْ يشركُونَ (33) ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم فتمتعوا فَسَوف تعلمُونَ (34) أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا فَهُوَ يتَكَلَّم بِمَا كَانُوا يشركُونَ (35) وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة فرحوا بهَا وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم إِذا هم يقنطون} اللُّغَة: الحزب بِمَعْنى النَّاصِر، قَالَ الشَّاعِر: (أم كَيفَ أخنوا وبلال حزبي ... ) أَي: ناصري

33

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا مس النَّاس ضرّ} أَي: شدَّة. وَقَوله: {دعوا رَبهم منيبين إِلَيْهِ} أَي: منقلبين إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ، وَمَعْنَاهُ: أَنهم إِذا وَقَعُوا فِي الشدَّة تركُوا دُعَاء الْأَصْنَام، ودعوا الله وَحده. وَقَوله: {ثمَّ إِذا أذاقهم مِنْهُ رَحْمَة} أَي: كشف الشدَّة عَنْهُم برحمته. وَقَوله: {إِذا فريق مِنْهُم برَبهمْ يشركُونَ} أَي: عَادوا إِلَى رَأس شركهم.

34

قَوْله تَعَالَى: {ليكفروا بِمَا آتَيْنَاهُم} قد بَينا من قبل. وَقَوله: {فتمتعوا فَسَوف تعلمُونَ} صُورَة أَمر بِمَعْنى التهديد، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وليتمتعوا فَسَوف يعلمُونَ ".

35

قَوْله تَعَالَى: {أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا} أَي: حجَّة وعذرا، وَيُقَال: أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا أَي: كتابا ينْطق بشركهم، وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {فَهُوَ يتَكَلَّم بِمَا كَانُوا بِهِ يشركُونَ} .

36

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أذقنا النَّاس رَحْمَة} أَي: الخصب وَكَثْرَة الْمَطَر، وَيُقَال: الْأَمْن والعافية. وَقَوله: {فرحوا بهَا} الْفَرح هَاهُنَا فَرح البطر وَترك الشُّكْر. وَقَوله: {إِن تصبهم سَيِّئَة} أَي: الجدب وَقلة الْمَطَر، وَيُقَال: الْخَوْف وَالْبَلَاء.

( {36) أَو لم يرَوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (37) فَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه والمسكين وَابْن السَّبِيل ذَلِك خير للَّذين يُرِيدُونَ وَجه الله وَأُولَئِكَ هم المفلحون (38) وَمَا آتيتم من رَبًّا ليربو فِي أَمْوَال النَّاس فَلَا يَرْبُو عِنْد الله} وَقَوله: {بِمَا قدمت أَيْديهم} يَعْنِي: من الذُّنُوب. وَقَوله: {إِذا هم يقنطون} أَي: ييأسون، وَهَذَا عَلامَة غير الْمُؤمنِينَ، فَأَما عَلامَة الْمُؤمنِينَ فَهُوَ شكر الله عِنْد النِّعْمَة، ورجاء الْكَشْف عِنْد الشدَّة.

37

وَقَوله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء} . وَقَوله: {وَيقدر} أَي: يضيق. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون.

38

قَوْله تَعَالَى: {فَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد من إيتَاء ذِي الْقُرْبَى هَاهُنَا صلَة الرَّحِم بِالْعَطِيَّةِ والهدية، وَقَالَ قَتَادَة: من لم يُعْط قرَابَته، وَيَمْشي إِلَيْهِ برجليه فقد قطع رَحمَه. وَقد حمل بَعضهم الْآيَة على إِعْطَاء ذَوي قربى الرَّسُول. قَوْله: {والمسكين} أَي: الطّواف. وَقَوله: {وَابْن السَّبِيل} أَي: الْمُسَافِر، وَقيل: الضَّيْف. وَقد صَحَّ أَن النَّبِي قَالَ: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه ". وروى عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام، وجائزته يَوْم وَلَيْلَة ". قَالَ مَالك: وَمعنى الْجَائِزَة أَنه يتَكَلَّف لَهُ فِي يَوْم وَلَيْلَة، وَأما مَا سوى ذَلِك فَيقدم إِلَيْهِ مَا حضر. وَقَوله: {ذَلِك خير للَّذين يُرِيدُونَ وَجه الله} أَي: يطْلبُونَ رضَا الله عَنهُ. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم المفلحون} أَي: الفائزون.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتيتم من رَبًّا ليربوا فِي أَمْوَال النَّاس} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن

{وَمَا آتيتم من زَكَاة تُرِيدُونَ وَجه الله فَأُولَئِك هم المضعفون (39) الله الَّذِي خَلقكُم ثمَّ} المُرَاد من الْآيَة هُوَ أَن يُعْطي الرجل غَيره عَطِيَّة ليعطيه أَكثر مِنْهَا، وَهَذَا جَائِز للنَّاس أَن يَفْعَلُوا غير أَنه فِي الْقِيَامَة لَا يُثَاب عَلَيْهِ، فَهُوَ معنى قَوْله: {فَلَا يربوا عِنْد الله} وَقد كَانَ هَذَا الْفِعْل حَرَامًا على النَّبِي، قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: {وَلَا تمنن تستكثر} أَي: لَا تعط وتطلب أَن تُعْطى أَكثر مِمَّا أَعْطَيْت. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: كَانَ الرجل يعْطى صديقه مَالا ليكْثر مَال الصّديق، وَلَا (يرد) بِهِ وَجه الله، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة. وَقُرِئَ " لتربوا فِي أَمْوَال النَّاس " من أَمْوَال النَّاس " فَلَا يربوا عِنْد الله " أَي: لَا يكثر عِنْد الله. وَقَوله: {وَمَا آتيتم من زَكَاة} أَي: صَدَقَة. وَقَوله: {تُرِيدُونَ وَجه الله} قد بَينا. وَقَوله: {فَأُولَئِك هم المضعفون} أَي: ذُو الْأَضْعَاف. تَقول الْعَرَب: الْقَوْم مسمنون ومهزلون وملبنون، وَالْمعْنَى مَا بَينا. قَالَ الشَّاعِر: ((يُخْبِرهُمْ على حذر وَقَالَت ... بنى (معلكم) بِظِل مسيف) أَي: ذُو سيف.

40

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خَلقكُم ثمَّ رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ} الْآيَة ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {هَل من شركائكم من يفعل من ذَلِكُم من شئ} أَي: مثل ذَلِكُم من شئ. وَقَوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} قد بَينا من قبل.

{رزقكم ثمَّ يميتكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ هَل من شركائكم من يفعل من ذَلِكُم من شَيْء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (40) ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر بِمَا كسبت أَيدي النَّاس ليذيقهم بعض الَّذِي عمِلُوا لَعَلَّهُم يرجعُونَ (41) قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ}

41

قَوْله تَعَالَى: {ظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر} فِي الْآيَة أَقُول: أَحدهَا: مَا روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْفساد فِي الْبر هُوَ قتل أحد ابْني آدم أَخَاهُ، وَالْفساد فِي الْبَحْر هُوَ غصب الْملك السَّفِينَة، فكلاهما فِي الْقُرْآن. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: كَانَت الأَرْض خضرَة زهرَة نَضرة مؤنقة، وَكَانَ لَا يَأْتِي ابْن آدم شَجَرَة إِلَّا وجد عَلَيْهَا ثَمَرَة، وَكَانَ مَاء الْبَحْر عذبا، وَكَانَ لَا يقْصد الْأسد الْبَقر وَالْغنم، وَلَا السنور الْفَأْرَة، وَمَا أشبه ذَلِك، فَلَمَّا قتل أحد بني آدم أَخَاهُ اقشعرت الأَرْض وشاكت الْأَشْجَار، وَصَارَ مَاء الْبَحْر ملحا زعاقا، وَقصد الْحَيَوَانَات بَعْضهَا بَعْضًا. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن المُرَاد من الْفساد فِي الْبر هُوَ الجدوبة والقحط، وَالْفساد فِي الْبَحْر قلَّة الْمَطَر، فَإِن قيل: وَأي فَسَاد بقلة الْمَطَر فِي الْبَحْر وَالْبر؟ قُلْنَا: أما فِي الْبر فظهور الشدَّة والقحط، وَأما فِي الْبَحْر فقد قَالُوا: إِنَّه إِذا لم يَأْتِ الْمَطَر فِي الْبَحْر عميت دَوَاب الْبَحْر، وَيُقَال: إِذا لم يَأْتِ الْمَطَر فِي الْبَحْر خلت أَجْوَاف الأصداف من اللُّؤْلُؤ، فَإِن الصدف إِذا جَاءَ الْمَطَر يرْتَفع إِلَى وَجه الْبَحْر، وَيفتح فَاه، فَمَا يَقع فِيهِ يصير لؤلؤا. وَالْقَوْل الثَّالِث فِي الْآيَة - وَهُوَ الْأَظْهر - أَن الْبر هُوَ الْبَوَادِي والمفازة، وَالْبَحْر هُوَ الْقرى والأمصار، وَالْعرب تسمى كل قَرْيَة أَو مصر على مَاء جَار بحرا. وَقَوله: {بِمَا كسبت أَيدي النَّاس} أَي: بِمَا أذنبوا، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء} . وَقَوله: {ليذيقهم بعض الَّذِي عمِلُوا لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: يرجعُونَ إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ.

42

قَوْله تَعَالَى: {قل سِيرُوا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبل} أَي: آخر أَمر الَّذين كَانُوا من قبل.

{كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبل كَانَ أَكْثَرهم مُشْرِكين (42) فأقم وَجهك للدّين الْقيم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله يَوْمئِذٍ يصدعون (43) من كفر فَعَلَيهِ كفره وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من فَضله إِنَّه} وَقَوله: {كَانَ أَكْثَرهم مُشْرِكين} أَي: بِاللَّه.

43

قَوْله تَعَالَى: {فأقم وَجهك للدّين الْقيم} أَي: اقصد جِهَة الدّين الْقيم، وَقيل: سدد عَمَلك للدّين الْقيم، وَيُقَال: اسْتَقِم على الدّين الْقيم. وَقَوله: {من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا مرد لَهُ} أَي: الْقِيَامَة لَا يقدر أحد على رده من الله. وَقَوله: {يَوْمئِذٍ يصدعون} أَي: يتفرقون فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير. قَالَ الشَّاعِر: (وَكُنَّا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدَّهْر حَتَّى قيل لن يتصدعا) أَي: لن يَتَفَرَّقَا.

44

وَقَوله تَعَالَى: {من كفر فَعَلَيهِ كفره} أَي: وبال كفره. وَقَوله: {وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} أَي: موطئون الْمضَاجِع، وَيُقَال: يبسطون الْفرش، قَالَ الشَّاعِر: (أمهد لنَفسك حَان السقم والتلف ... وَلَا تضيعن نفسا مَا لَهَا خلف)

45

وَقَوله: {ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من فَضله إِنَّه لَا يحب الْكَافرين} ظَاهر الْمَعْنى.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَن يُرْسل الرِّيَاح مُبَشِّرَات} الرّيح: جسم رَقِيق يجْرِي فِي الجو يَمِينا وَشمَالًا على مَا دبر من حركاته فِي جهاته مُمْتَنع الْقَبْض عَلَيْهِ للطفه. وَعَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ: الرِّيَاح أَرْبَعَة للرحمة، وَأَرْبَعَة للعذاب، وجملتها ثَمَانِيَة: فالتي للرحمة: الْمُبَشِّرَات، والناشرات، والذاريات، والمرسلات، وَالَّتِي للعذاب: الْعَقِيم، والصرصر فِي الْبر، والعاصف، والقاصف فِي الْبَحْر.

{لَا يحب الْكَافرين (45) وَمن آيَاته أَن يُرْسل الرِّيَاح مُبَشِّرَات وليذيقكم من رَحمته ولتجري الْفلك بأَمْره ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (46) وَلَقَد أرسلنَا من قبلك رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ فانتقمنا من الَّذين أجرموا وَكَانَ حَقًا علينا نصر} وَقَوله: {وليذيقكم من رَحمته} أَي: الْمَطَر، وَيُقَال: طيب الرّيح ولذتها. وَقَوله: {ولتجري الْفلك بأَمْره} أَي: لتجري الْفلك فِي الْبَحْر بِهَذِهِ الرِّيَاح بأَمْره. وَقَوله: {ولتبتغوا من فَضله} أَي: لتطلبوا من فضل الله تَعَالَى بالتجارات فِي الْبَحْر. وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} يَعْنِي: تشكرون الله تَعَالَى.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا من قبلك رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاءوهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات. وَقَوله: {فانتقمنا من الَّذين أجرموا} أَي: أجرموا بالتكذيب. وَقَوله: {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} أَي: نصْرَة الْمُؤمنِينَ بإنجائهم، وَقيل: نصْرَة الْمُؤمنِينَ بالذب عَنْهُم، وَدفع الْعَذَاب [عَنْهُم] . وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أم الدَّرْدَاء أَن النَّبِي قَالَ: " من ذب عَن غَرَض أَخِيه الْمُسلم كَانَ حَقًا على الله أَن يرد عَنهُ النَّار يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ حَقًا علينا نصر الْمُؤمنِينَ} ".

48

وَقَوله تَعَالَى: {الله الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح فتثير سحابا} أَي: ينشر السَّحَاب، وَفِي بعض التفاسير أَن الله تَعَالَى يُرْسل ريحًا فتقم الأَرْض قما، ثمَّ يُرْسل ريحًا فتدر

{الْمُؤمنِينَ (47) الله الَّذِي يُرْسل الرِّيَاح فتثير سحابا فيبسطه فِي السَّمَاء كَيفَ يَشَاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فَإِذا أصَاب بِهِ من يَشَاء من عباده إِذا هم يستبشرون (48) وَإِن كَانُوا من قبل أَن ينزل عَلَيْهِم من قبله لمبلسين (49) فَانْظُر إِلَى} السَّحَاب بالمطر، فَهَذَا معنى الْآيَة. وَقَوله تَعَالَى: {فيبسطه فِي السَّمَاء كَيفَ يَشَاء} أَي: مسيرَة يَوْم ومسيرة يَوْمَيْنِ وَأكْثر على مَا يَشَاء. وَقَوله: {ويجعله كسفا} أَي: قطعا. وَقَوله: {فترى الودق يخرج من خلاله} قَرَأَ الضَّحَّاك " " من خلله "، والودق: الْمَطَر، قَالَ الشَّاعِر: (فَلَا مزنة ودقت ودقها ... وَلَا أَرض أبقل إبقالها) وَقيل: الودق: هُوَ الْبَرْق، وَالْأول أظهر. وَقَوله: {فَإِذا أصَاب بِهِ من يَشَاء من عباده إِذا هم يستبشرون} أَي: يبشر بَعضهم بَعْضًا.

49

وَقَوله: {وَإِن كَانُوا من قبل أَن ينزل عَلَيْهِم من قبله لمبلسين} أَي: آيسين. وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " وَإِن كَانُوا من قبل أَن ننزل عَلَيْهِم من قبله لمبلسين ". فَإِن قيل: فَمَا معنى تكْرَار قَوْله: {من قبل} هَاهُنَا، وَأي فَائِدَة فِيهِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه على طَرِيق التَّأْكِيد وَهُوَ قَول أَكثر أهل النَّحْو، وَالْعرب تفعل كثيرا مثل هَذَا. وَالثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: من قبل: السَّحَاب، " وَمن قبل، إِنْزَال الْمَطَر؛ فأحدهما يرجع إِلَى إِنْزَال الْمَطَر، والأخر يرجع إِلَى إنْشَاء السَّحَاب.

50

قَوْله تَعَالَى: {فَانْظُر إِلَى آثَار رَحْمَة الله} وَقُرِئَ: " أثر رَحْمَة الله " والْآثَار جمع

{آثَار رحمت الله كَيفَ يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا إِن ذَلِك لمحيي الْمَوْتَى وَهُوَ على كل شَيْء قدير (50) وَلَئِن أرسلنَا ريحًا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (51) فَإنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء إِذا ولوا مُدبرين (52) وَمَا أَنْت بهاد الْعمي عَن} الْأَثر، والأثر بِمَعْنى الْآثَار. وَقَوله: {كَيفَ يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا} أَي: كَيفَ يحيي الله الأَرْض بالمطر بعد مَوتهَا؟ فَهُوَ يحيي الْمَوْتَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقد قَالَ بَعضهم: يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا أَي: الْقُلُوب الغافلة بِنور الْعلم وَالْيَقِين وَالتَّفْسِير. وَقَوله: {وَهُوَ على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أرسلنَا ريحًا فرأوه مصفرا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: رَأَوْا الرّيح مصفرا، وَإِذا كَانَ الرّيح على هَذَا الْوَجْه لم ينفع. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ الْمَعْرُوف فرأوه مصفرا أَي: رَأَوْا الزَّرْع مصفرا. وَقَوله: {لظلوا من بعده يكفرون} يُقَال: ظلّ فلَان يفعل كَذَا أَي: جعل يفعل كَذَا وَهُوَ مثل قَوْلهم: أضحى فلَان يفعل كَذَا، إِلَّا أَن قَوْله ظلّ يفعل فِي الْعَادة تسْتَعْمل فِي جَمِيع النَّهَار، وَقَوله أضحى تسْتَعْمل فِي أول النَّهَار. وَقَوله: {يكفرون} أَي: يجحدون، وَقيل: يكفرون النِّعْمَة.

52

قَوْله تَعَالَى: {فَإنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} أَي: الْكفَّار، وجعلهم بِمَنْزِلَة الْمَيِّت؛ لأَنهم لم ينتفعوا بحياتهم. وَقَوله: {وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء} جعلهم بِمَنْزِلَة الصم؛ لأَنهم لم ينتفعوا بأسماعهم. وَقَوله: {إِذا ولوا مُدبرين} أَي: معرضين، فَإِن قيل: الْأَصَم لَا يسمع سَوَاء أقبل أَو أدبر، فأيش معنى هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: إِذا كَانَ مُقبلا إِن لم يسمع يفهم بِالْإِشَارَةِ، وَإِذا كَانَ مُدبرا لم يسمع وَلَا يفهم بِالْإِشَارَةِ.

{ضلالتهم إِن تسمع إِلَّا من يُؤمن بِآيَاتِنَا فهم مُسلمُونَ (53) الله الَّذِي خَلقكُم من ضعف ثمَّ جعل من بعد ضعف قُوَّة ثمَّ جعل من بعد قُوَّة ضعفا وَشَيْبَة يخلق مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيم}

53

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْت بهاد الْعمي عَن ضلالتهم} أَي: بصارف الْعمي عَن ضلالتهم، والعمي هم الْكفَّار. وَيُقَال: بمرشد الْعَمى من ضلالتهم. وَقَوله: {إِن تسمع إِلَّا من يُؤمن بِآيَاتِنَا} أَي: مَا تسمع إِلَّا من يُؤمن بِآيَاتِنَا. وَقَوله: {فهم مُسلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

54

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خَلقكُم من ضعف} وَقُرِئَ: " من ضعف " بِالْفَتْح وَالضَّم جَمِيعًا، وهما بِمَعْنى وَاحِد. وَالْأولَى " من ضعف " بِالضَّمِّ لما رُوِيَ عَن عَطِيَّة أَنه قَالَ: " قَرَأت على عبد الله بن عمر هَذِه الْآيَة، فقرات: " من ضعف " بِالنّصب، فَقَالَ: " من ضعف " بِالضَّمِّ، وَقَالَ: أَخذ على رَسُول الله كَمَا أَخَذته عَلَيْك ". وَقَوله: {من ضعف} أَي: من مَاء مهين، وَقيل: من ذِي ضعف. وَقَوله: {ثمَّ جعل من بعد ضعف قُوَّة} أَي: شبَابًا، وَهُوَ وَقت الْقُوَّة. وَقَوله: {ثمَّ جعل من بعد قُوَّة ضعفا وَشَيْبَة} وَهُوَ الْهَرم والشيب، [والشيب] : نَذِير الْمَوْت، قَالَ الشَّاعِر: (رَأَيْت الشيب من نذر المنايا ... لصَاحبه وحسبك من نَذِير) وَقَوله: {يخلق مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيم الْقَدِير} ظَاهر الْمَعْنى.

55

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة يقسم المجرمون} أَي: يحلف المجرمون.

{الْقَدِير (54) وَيَوْم تقوم السَّاعَة يقسم المجرمون مَا لَبِثُوا غير سَاعَة كَذَلِك كَانُوا يؤفكون (55) وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَالْإِيمَان لقد لبثتم فِي كتاب الله إِلَى يَوْم الْبَعْث فَهَذَا يَوْم الْبَعْث وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لَا تعلمُونَ (56) فَيَوْمئِذٍ لَا ينفع الَّذين ظلمُوا معذرتهم وَلَا هم يستعتبون (57) وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل وَلَئِن جئتهم بِآيَة} وَقَوله: {مَا لَبِثُوا غير سَاعَة} أَي: فِي قُبُورهم، وَقيل: فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك من هول مَا رَأَوْا من الْقِيَامَة؛ فنسوا مَا كَانَ قبل ذَلِك. وَقَوله: {كَذَلِك كَانُوا يؤفكون} أَي: يصرفون عَن الْحق.

56

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم وَالْإِيمَان لقد لبثتم فِي كتاب الله} أَي: فِي حكم الله وَعلمه، قَالَ الشَّاعِر: (وَمَال لولاء بالبلاء فملتم ... وَمَا ذَاك قَالَ الله [إِذْ] هُوَ يكْتب) أَي: يحكم، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ: وَقَالَ الَّذين أُوتُوا الْعلم فِي كتاب الله وَالْإِيمَان لقد لبثتم إِلَى يَوْم الْبَعْث. وَقَوله: {فَهَذَا يَوْم الْبَعْث} أَي: الْقِيَامَة. وَقَوله: {وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لَا تعلمُونَ} أَي: لَا تعلمُونَ أَن الْقِيَامَة حق.

57

قَوْله تَعَالَى: {فَيَوْمئِذٍ لَا ينفع الَّذين ظلمُوا معذرتهم} أَي: عذرهمْ، والمعذرة: إِظْهَار مَا يسْقط اللائمة. وَقَوله: {وَلَا هم يستعتبون} أَي: لَا يستبانون. وَقيل: لَا يطْلب مِنْهُم العتبى.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل} أَي: من كل شبه. وَقَوله: {وَلَئِن جئتهم بِآيَة ليَقُولن الَّذين كفرُوا إِن أَنْتُم إِلَّا مبطلون} ظَاهر الْمَعْنى.

59

وَقَوله تَعَالَى: {كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الَّذين لَا يعلمُونَ} الطَّبْع والختم بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الَّذِي يمْنَع الْقلب من الْبَصَر. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ:

ً {ليَقُولن الَّذين كفرُوا إِن أَنْتُم إِلَّا مبطلون (58) كَذَلِك يطبع الله على قُلُوب الَّذين لَا يعلمُونَ (59) فاصبر إِن وعد الله حق وَلَا يستخفنك الَّذين لَا يوقنون (60) } " أعوذ بِاللَّه من طمع يدني إِلَى طبع "، قَالَ الأعشي: (لَهُ أكاليل بالياقوت فَضلهَا) صواعها لَا ترى عَيْبا وَلَا طبعا)

60

قَوْله تَعَالَى: {فاصبر إِن وعد الله حق} يَعْنِي: وعد الْقِيَامَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يستخفنك الَّذين لَا يوقنون} أَي: لَا يستهجلنك؛ فَإِن الخفة تُؤدِّي إِلَى الْجَهْل، وَمَعْنَاهُ: لَا يحملنك الَّذين لَا يوقنون وأتباعهم فِي الغي، فَأمره الله تَعَالَى بِالصبرِ على الْحق وَترك أتباعهم فِي الضلالات، وَأَن لَا يصغي إِلَى أَقْوَالهم. وَقد رُوِيَ أَن عليا رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُصَلِّي مرّة فناداه رجل، وَقَالَ: لَا حكم إِلَّا لله، وَكَانَ الرجل من الْخَوَارِج؛ فَقَرَأَ عَليّ فِي صلَاته: {فاصبر إِن وعد الله حق وَلَا يستخفنك الَّذين لَا يوقنون} .

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الم (1) تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم (2) هدى وَرَحْمَة للمحسنين (3) الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم بِالآخِرَة هم يوقنون (4) أُولَئِكَ على هذى من رَبهم وَأُولَئِكَ هم المفلحون (5) وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث ليضل عَن} تَفْسِير سُورَة لُقْمَان كلهَا مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات نبينها إِذا وصلنا إِلَيْهَا، وَالله أعلم.

لقمان

قَوْله تَعَالَى: {الم تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم} أَي: الْمُحكم بالحلال وَالْحرَام وَذكر الْأَحْكَام، وَيُقَال: بالوعد والوعيد، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَقَالَ بَعضهم: الْحَكِيم الَّذِي يبين الْحِكْمَة، كالحكيم الَّذين ينْطق بالحكمة.

3

وَقَوله: {هدى وَرَحْمَة} الْأَكْثَرُونَ قرءوا بِالنّصب، قَالَ الزّجاج: هُوَ نصب على الْحَال. وقرا حَمْزَة: " هدى وَرَحْمَة " أَي: هُوَ هدى وَرَحْمَة، وَمَعْنَاهُ: بَيَان من الضَّلَالَة، وَرَحْمَة من الْعَذَاب. وَقَوله: {للمحسنين} أَي: للْمُسلمين، وَالْمُسلم محسن إِلَى نَفسه، وَقد صَحَّ الْخَبَر أَن النَّبِي سُئِلَ عَن الْإِحْسَان فَقَالَ: " أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك ". وَيُقَال: المحسن هُوَ الَّذِي يحب للنَّاس مَا يحب لنَفسِهِ.

4

وَقَوله: {الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم بِالآخِرَة هم يوقنون} قد بَينا.

5

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ على هدى من رَبهم} وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم المفلحون} أَي: السُّعَدَاء، وَيُقَال: الناجون، وَقيل: هم الَّذين أدركوا مَا أملوا، ونجوا مِمَّا عَنهُ هربوا.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث} ذكر الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل أَن الْآيَة

نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ يَأْتِي الْحيرَة فيشتري أَحَادِيث الْعَجم، وَكَانَ النَّبِي إِذا قَرَأَ الْقُرْآن، قَامَ وَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِن مُحَمَّدًا يحدث عَن عَاد وَثَمُود، وَأَنا أحدثكُم عَن رستم واسفنديار والعجم، فَأَنا أحسن حَدِيثا مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ هَذِه الْآيَة. وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ عَن لنَبِيّ أَنه قَالَ: " حرَام تَعْلِيم الْمُغَنِّيَات وبيعهن وشرائهن وَأَثْمَانُهُنَّ حرَام، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث} وَقَالَ: مَا من رجل رفع عقيرته بِالْغنَاءِ إِلَّا وَيَأْتِي شيطانان، فيقعد أَحدهمَا على كتفه الْأَيْمن، وَالْآخر على كتفه الْأَيْسَر، ويضربان برجلهما على ظَهره وصدره حَتَّى يكون هُوَ يسكت ". وَعَن عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَمُجاهد وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَأكْثر الْمُفَسّرين أَن الْآيَة نزلت فِي الْغناء، وَكَانَ عبد الله بن مَسْعُود يحلف على ذَلِك. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانُوا يسدون أَفْوَاه السكَك ويخرقون الدفوف. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: {وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث} هِيَ الشّرك بِاللَّه. وَعَن ابْن جريج: هُوَ الطبل. وَفِي الْأَخْبَار المسندة أَن النَّبِي قَالَ: " هُوَ المعازف والقيان ". وَعَن سهل بن عبد الله التسترِي قَالَ: لَهو الحَدِيث هُوَ الْجِدَال فِي الدّين، والخوض فِي الْبَاطِل. وَقَوله: {ليضل عَن سَبِيل الله} أَي: دين الله، وَقُرِئَ " ليضل عَن سَبِيل الله ".

{سَبِيل الله بِغَيْر علم ويتخذها هزوا أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين (6) وَإِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا فبشره بِعَذَاب أَلِيم (7) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات النَّعيم (8) خَالِدين فِيهَا وعد الله حَقًا وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (9) خلق السَّمَوَات بِغَيْر عمد ترونها وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن} بِفَتْح الْيَاء، فَقَوله: {ليضل} أَي: ليضل غَيره. وَقَوله: {ليضل} أَي: ليصير إِلَى الضلال. وَقَوله: {بِغَيْر علم ويتخذها هزوا} أَي: يتَّخذ آيَات الله هزوا، وَيُقَال: يتَّخذ سَبِيل الله هزوا، والسبيل يذكر وَيُؤَنث، قَالَ الشَّاعِر: (تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت ... فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد) وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا من قبل.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا} أَي: كَأَن لم يسمع الْآيَات. وَقَوله: {كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا} أَي: صمما، وَإِنَّمَا جعله كَذَلِك؛ لِأَنَّهُ لم ينْتَفع بِمَا يسمع، فَصَارَ بِمَنْزِلَة الْأَصَم، والوقر هُوَ الثّقل فِي الْأذن. وَقَوله: {فبشرناه بِعَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم، وَمعنى المؤلم: هُوَ الموجع.

8

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا لصالحات لَهُم جنَّات النَّعيم خَالِدين فِيهَا وعد الله حَقًا} وَمَعْنَاهُ: مقيمين فِي الْجنَّة كَمَا وعد الله. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} والعزيز هُوَ المنتقم من أعدائه، والحكيم هُوَ الْمُصِيب فِي تَدْبِير خلقه.

10

قَوْله تَعَالَى: {خلق السَّمَوَات بِغَيْر عمد} أَي: بِغَيْر عمد كَمَا، ترونها، والمعنمى الثَّانِي: أَي بِغَيْر عمد تَرَوْنَهُ، وَثمّ عمد لَا ترونها، وَذَلِكَ الْعمد هُوَ قدرَة الله تَعَالَى، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} . وَقَوله: {وَألقى فِي الأَرْض رواسي} أَي: جبالا ثوابت، وَذكر السّديّ أَن الله

{تميد بكم وَبث فِيهَا من كل دَابَّة وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا من كل زوج كريم (10) هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه بل الظَّالِمُونَ فِي ضلال مُبين} تَعَالَى خلق الأَرْض فَجعلت تميل؛ فَقَالَت الْمَلَائِكَة: يَا رَبنَا، هَذِه الأَرْض لَا يسْتَقرّ على ظهرهَا أحد، فَأَصْبحُوا وَقد أرسى الله تَعَالَى بالجبال. فَقَالُوا: يَا رَبنَا، هَل خلقت شَيْئا أَشد من الْجبَال؟ قَالَ: نعم؛ الْحَدِيد. قَالُوا: يَا رَبنَا، وَهل خلقت شَيْئا أَشد من الْحَدِيد؟ قَالَ: نعم؛ النَّار. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من النَّار؟ قَالَ: نعم؛ المَاء. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من المَاء؟ قَالَ: نعم؛ الرّيح. قَالُوا: وَهل خلقت شَيْئا أَشد من الرّيح؟ قَالَ: نعم؛ الْآدَمِيّ. وَقد أسْند هَذَا بَعضهم إِلَى رَسُول الله، وَفِي آخر الْخَبَر: " الْآدَمِيّ يتَصَدَّق فيخفي صدقته حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تَصَدَّقت يَمِينه، فَهُوَ أقوى من الْجَمِيع ". وَقَوله: {أَن تميد بكم} أَي: لِئَلَّا تميد بكم، وَيُقَال: كَرَاهَة أَن تميد بكم، والميد: هُوَ الْميل. وَقَوله: {وَبث فِيهَا من كل دَابَّة} أَي: فرق فِيهَا من كل دَابَّة، وَالدَّابَّة كل حَيَوَان يدب على الأَرْض. وَقَوله: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا من كل زوج كريم} أَي: صنف حسن.

11

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا خلق الله فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه} أَي: الَّذين يعْبدُونَ من دونه، وهم الْأَصْنَام، وَقد رُوِيَ عَن بعض السّلف قَالَ: مَا رَأَيْت شَيْئا إِلَّا وَرَأَيْت الله فِيهِ. وَذكر بَعضهم هَذَا عَن عَامر بن عبد قيس وَهُوَ عَامر بن عبد الله، وَهُوَ تلو أويس الْقَرنِي فِي زهاد التَّابِعين رَضِي الله عَنْهُم ورءوس الزهاد من التَّابِعين

( {11) وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة أَن اشكر لله وَمن يشْكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر} ثَمَانِيَة نفر: أَوَّلهمْ أويس، ثمَّ عَامر بن عبد قيس، ثمَّ هرم بن حَيَّان، ثمَّ أَبُو مُسلم الْخَولَانِيّ، ثمَّ الْأسود، ثمَّ مَسْرُوق بن الأجدع، ثمَّ الرّبيع بن خثيم، ثمَّ الْحسن. وَقَوله: {بل لظالمون فِي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ بَين.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة} اخْتلفُوا فِي لُقْمَان. هَل كَانَ نَبيا أَو لم يكن نَبيا؟ فَذهب أَكثر أهل الْعلم أَنه لم يكن نَبيا. وَقَالَ الشّعبِيّ وَعِكْرِمَة: إِنَّه كَانَ نَبيا. وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى خَيره بَين النُّبُوَّة وَالْحكمَة، فَاخْتَارَ الْحِكْمَة؛ نَام نومَة فذريت الْحِكْمَة على لِسَانه، فانتبه ينْطق بالحكمة. وَذكر بَعضهم أَنه سُئِلَ: لم اخْتَرْت الْحِكْمَة على النُّبُوَّة؟ فَقَالَ: خشيت أَن أَضْعَف عَنْهَا، وَلَو كَانَ الله أعطانيها ابْتِدَاء وَلم يُخْبِرنِي أعانني عَلَيْهَا، فَلَمَّا خيرني خشيت الضعْف. وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: كَانَ لُقْمَان عبدا أسود من سودان مصر. وَعَن غَيره قَالَ: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا غليظ الشفتين متشقق الْقَدَمَيْنِ، وَحكي أَن عبدا أسود سَأَلَ سعيد بن الْمسيب عَن مَسْأَلَة فَأجَاب، ثمَّ قَالَ لَهُ: لَا يحزنك سوادك، فقد كَانَ قبلك ثَلَاثَة من السودَان هم من خير النَّاس، ثمَّ ذكر لُقْمَان الْحَكِيم، وبلالا مُؤذن رَسُول الله، وَمهجع مولى عمر بن الْخطاب، وَهُوَ أول شَهِيد فِي الْإِسْلَام، اسْتشْهد يَوْم بدر. وَاخْتلفُوا فِي صناعَة لُقْمَان؛ فَقَالَ بَعضهم: كَانَ خياطا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ نجارا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ راعي غنم. فَروِيَ أَن بَعضهم لقِيه وَهُوَ يتَكَلَّم بالحكمة فَقَالَ: أَلَسْت فلَانا الرَّاعِي! فَبِمَ بلغت مَا بلغت؟ فَقَالَ: بِصدق الحَدِيث، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وتركي مَا لَا يعنيني. وَمن (حكمه) المنقولة: أَن مَوْلَاهُ دفع إِلَيْهِ شَاة وَقَالَ: اذْبَحْهَا وائتني بأطيب مضغتين مِنْهَا، فَجَاءَهُ بلسانها وقلبها، فَسَأَلَهُ مَوْلَاهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: لَا شَيْء أطيب

{فَإِن الله غَنِي حميد (12) وَإِذا قا لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم (13) وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حَملته أمه وَهنا على وَهن وفصاله فِي عَاميْنِ أَن اشكر لي ولوالديك إِلَيّ الْمصير (14) وَإِن جَاهَدَاك على أَن تشرك بِي مَا} مِنْهُمَا إِذا طابا، وَلَا أَخبث مِنْهُمَا إِذا خبثا. وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: تكلم لُقْمَان بِاثْنَيْ عشر ألف بَاب من الْحِكْمَة، أدخلها النَّاس فِي كَلَامهم ووصاياهم. وَمعنى الْحِكْمَة الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَة هُوَ الْفِقْه والإصابة فِي القَوْل. وَيُقَال: الْعقل الْكَامِل. وَقَوله: {أَن اشكر لله} أَي: على نعمه. وَقَوله: {وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ} أَي: مَنْفَعَة الشُّكْر تعود إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَمن كفر فَإِن الله غَنِي حميد} أَي: غَنِي عَن خلقه، مَحْمُود فِي فعله.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه} يُقَال: كَانَ اسْم ابْنه مشْكم، وَيُقَال: أنعم، وَقيل: غَيره. وَقَوله: {يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم} أَي: لَا تعدل بِاللَّه أحدا فِي الربوبية. وَقَوله: {إِن الشّرك لظلم عَظِيم} الظُّلم هُوَ وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، من أشرك مَعَ الله غَيره فقد وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حَملته أمه وَهنا على وَهن} أَي: ضعفا على ضعف، وَيُقَال: مشقة على مشقة. قَالَ الزّجاج: الْمَرْأَة اذا حملت توالى عَلَيْهَا الضعْف وَالْمَشَقَّة. وَيُقَال: الْحمل ضعف، والطلق ضعف، والوضع ضعف. وَقَوله: {وفصاله فِي عَاميْنِ} أَي: فطامه فِي عَاميْنِ، والحولان نِهَايَة مُدَّة الْفِطَام. وَقَوله: {أَن اشكر لي ولوالديك} قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: من صلى الصَّلَوَات الْخمس فِي مواقيتها فقد شكر الله تَعَالَى، وَمن اسْتغْفر لِأَبَوَيْهِ فِي كل صَلَاة فقد شكر

{لَيْسَ لَك بِهِ علم فَلَا تطعهما وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (15) يَا بني إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل} أَبَوَيْهِ. وَقَوله: {إِلَى الْمصير} أَي: إِلَى الْمرجع.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جَاهَدَاك على أَن تشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} قد بَينا معنى هَذِه الْآيَة، وَذكرنَا أَنَّهَا نزلت فِي سعد بن أبي وَقاص، وَقَالَ بَعضهم: الْآيَة عَامَّة فِي الْجَمِيع. وَقَوله: {فَلَا تطعهما} أَي: فَلَا تطعهما فِي الشّرك ومعصيتي. وَقَوله: {وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} أَي: صَاحبهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبرِّ والصلة، وَهُوَ الْمَعْرُوف من غير أَن تطيعهما فِي معصيتي. وَقَوله: {وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ} الْأَكْثَرُونَ أَنه مُحَمَّد. وَقَوله: {ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى. وَرُوِيَ [عَن] عَطاء عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ} أَن المُرَاد مِنْهُ أَبُو بكرالصديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ ابْن عَبَّاس: لما أسلم أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ جَاءَ عُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم فَقَالُوا: يَا أَبَا بكر، قد صدقت هَذَا لرجل، وَآمَنت بِهِ؟ قَالَ: نعم، هُوَ صَادِق فآمنوا بِهِ، [و] حملهمْ إِلَى النَّبِي حَتَّى أَسْلمُوا، فَهَؤُلَاءِ الْقَوْم لَهُم سَابِقَة الْإِسْلَام، وَأَسْلمُوا بإرشاد أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم وَأنزل الله تَعَالَى فِي أبي بكر، {وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ} . وَقَوله: {أناب} أَي: رَجَعَ إِلَيّ، وعَلى هَذَا القَوْل هُوَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ.

16

قَوْله تَعَالَى: {يَا بني إِنَّهَا إِن تَكُ} فَإِن قيل: قَوْله: {إِنَّهَا} هَذِه كِنَايَة، وَالْكِنَايَة لَا بُد لَهَا من مكنى، فأيش المكنى؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه رُوِيَ أَن ابْن لُقْمَان قَالَ: يَا

{فتكن فِي صَخْرَة أَو فِي السَّمَوَات أَو فِي الأَرْض يَأْتِ بهَا الله إِن الله لطيف خَبِير (16) يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من} (أبه) ، أَرَأَيْت لَو وَقع شَيْء فِي مقل الْبَحْر ومقل الْبَحْر مغاصيه أَي: وَسطه أيعلم الله تَعَالَى مَوْضِعه؟ فَقَالَ: يَا بني، إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل، يَعْنِي: إِن وَقعت حَبَّة على هَذَا الْوَزْن على [هَذَا] الْبَحْر فَالله تَعَالَى يعلم موضعهَا. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن لُقْمَان ألْقى خردلة فِي عرض نهر اليرموك، وَقعد على شطه وَبسط يَده، فغاصت ذُبَابَة وحملت الخردلة فَوَضَعتهَا على كَفه. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَوْله تَعَالَى: (إِنَّهَا إِن تَكُ) يرجع إِلَى الْخَطِيئَة، يَعْنِي: إِن تكن الْخَطِيئَة كمثقال حَبَّة من خَرْدَل يَأْتِ بهَا الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة أَي: يجازك بهَا. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: معنى الْآيَة: هُوَ الْإِحَاطَة بالأشياء صغيرها وكبيرها. وَقَوله: {فتكن فِي صَخْرَة} أَي: فِي جبل، وَقَالَ السّديّ: هِيَ الصَّخْرَة الَّتِي عَلَيْهَا الأرضون السَّبع، وَهِي صَخْرَة خضراء، خضرَة السَّمَاء مِنْهَا. وَقَوله: {أَو فِي السَّمَوَات أَو فِي الأَرْض يَأْتِ بهَا الله} . وَقَوله: {إِن الله لطيف خَبِير} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: لطيف باستخراج الخردلة، خَبِير بمكانها، وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذِه الْحِكْمَة آخر حِكْمَة تكلم بهَا لُقْمَان، فَلَمَّا تكلم بهَا انشقت مرارته من هيبتها فتوفى.

17

قَوْله: {يَا بني أقِم الصَّلَاة وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر} قد بَينا معنى الْمَعْرُوف وَمعنى الْمُنكر من قبل. وَقَوله: {واصبر على مَا أَصَابَك} أَي: من الْأَذَى. وَقَوله: {إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} أَي: من الْأُمُور الَّتِي يُؤمر بهَا ويعزم عَلَيْهَا، وَقد روى حُذَيْفَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَيْسَ لِلْمُؤمنِ أَن يذل نَفسه، فَقيل: وَكَيف يذل

{عزم الْأُمُور (17) وَلَا تصعر خدك للنَّاس وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا إِن الله لَا يحب} نَفسه؟ قَالَ: يتَحَمَّل من الْبلَاء مَا لَا يُطيق ". وَفِي هَذَا الْخَبَر رخصَة فِي ترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ على السلاطين والظلمة إِذا خشِي الْهَلَاك، وَإِن أَمر بِالْمَعْرُوفِ فَقتل فَهُوَ شَهِيد. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر ". وَرُوِيَ عَن الني أَنه قَالَ: " سيد الشُّهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة حَمْزَة بن عبد الْمطلب، ثمَّ رجل قَامَ إِلَى سُلْطَان يخَاف مِنْهُ ويرجو، فَأمره بِمَعْرُوف أَو نَهَاهُ عَن مُنكر، فَقتله على ذَلِك ".

18

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصعر خدك للنَّاس} أيك لَا تعرض عَنْهُم تكبرا. والصعر هُوَ الْميل. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " يَأْتِي عل النَّاس زمَان لَا يبْقى إِلَّا من هُوَ أصعر ". يَعْنِي: مَا يَدعِي الدّين ". وَيُقَال: إِن قَوْله: {وَلَا تصعر خدك للنَّاس} نهى عَن التشدق فِي الْكَلَام، وَعَن الرّبيع بن أنس قَالَ: ليكن الْغَنِيّ وَالْفَقِير عنْدك سَوَاء. وَقَوله: {وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا} أَي: لَا تمشي فِي الأَرْض مختالا. وَقَوله: {إِن الله لَا يحب كل مختال فخور} أَي: مختال على الأَرْض، فخور

{كل مختال فخور (18) واقصد فِي مشيك واغضض من صَوْتك إِن أنكر الْأَصْوَات} بالدنيا.

19

قَوْله تَعَالَى: {واقصد فِي مشيك} يَعْنِي: أسْرع فِي مشيك، وَيُقَال مَعْنَاهُ: واقصد فِي مشيك أَي: لَا تسرع فِي مشيتك، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " سرعَة الْمَشْي تذْهب بهَا الْوَجْه ". وَقَوله: {واغضض من صَوْتك} أَي: لَا تجْهر، وَمعنى اغضض أَي: انقص. يُقَال: غض فلَان من فلَان أَي: نقص من حَقه. وَقَوله: {إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير} أَي: أقبح الْأَصْوَات لصوت الْحمير. يُقَال: جَاءَنِي فلَان بِوَجْه مُنكر أَي: قَبِيح، فَإِن قَالَ قَائِل: لم جعل صَوت الْحمار أقبح الْأَصْوَات؟ وَالْجَوَاب عَنهُ إِنَّمَا جعله أقبح الْأَصْوَات، لِأَن أَوله زفير، وَآخره شهيق، والزفير والشهيق: صَوت أهل النَّار. وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ: كل شَيْء يسبح إِلَّا الْحمار؛ فَلهَذَا جعل صَوته أقبح الْأَصْوَات. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يتنافسون فِي شدَّة الصَّوْت، وَكَانُوا يَقُولُونَ: من كَانَ أَجْهَر صَوتا فَهُوَ أعز عِنْد الله. وَكَانُوا يجهرون بأصواتهم ويرفعونها بغاية الْإِمْكَان، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيست الْعِزَّة فِي شدَّة الصَّوْت، وَلَو كَانَ من هُوَ أَشد أعز، لَكَانَ الْحمار أعز من الْكل. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الصَّادِق أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير} : هِيَ العطسة القبيحة الْمُنكرَة.

{لصوت الْحمير (19) ألم تروا أَن الله سخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} وَمن حكم لُقْمَان سوى مَا ذكرنَا مَا رُوِيَ أَنه قَالَ: لَا مَال كصحة الْبدن، وَلَا نعيم كطيب النَّفس. وَمن حكمه أَيْضا أَنه قَالَ: أدب الْوَالِد لوَلَده كالسماد للزَّرْع. وَحكى عِكْرِمَة أَن لُقْمَان دخل على دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ يصنع درعا، فَلم يدر مَا يصنع؛ فَأَرَادَ أَن يسْأَله، وَكَانَ (حكمه) تَمنعهُ مِنْهُ، فَلَمَّا أتم دَاوُد الدرْع لبسهَا، وَقَالَ: نعم جُبَّة الْحَرْب هِيَ. فَقَالَ لُقْمَان: الصمت حكم وَقَلِيل فَاعله. وَحكى أَيْضا عِكْرِمَة أَن مَوْلَاهُ خاطر قوما على شرب مَاء الْبَحْر فِي حَال سكره، فَدَعَا لُقْمَان وَقَالَ: لمثل هَذَا الْيَوْم كنت أعدك، وَذكر لَهُ الْقِصَّة. فَقَالَ: اجْمَعْ الْقَوْم الَّذين خاطرتهم؛ فَجَمعهُمْ، فَقَالَ لَهُم: احْبِسُوا مواد الْبَحْر حَتَّى يشرب مَاء الْبَحْر. فَقَالُوا: كَيفَ نحبس مواد الْبَحْر؟ فَقَالَ: كَيفَ يشرب مَاء الْبَحْر ومواده غير مُنْقَطِعَة؟ فخلص مَوْلَاهُ. وَحكى أَيْضا عِكْرِمَة أَنه كَانَ لمولى لُقْمَان عبيد سواهُ، وَلم يكن فيهم أخس مِنْهُ عِنْده، فبعثهم إِلَى بُسْتَان لَهُ ليحملوا لَهُ فَاكِهَة، فَذَهَبُوا وأكلوا الْفَاكِهَة؛ فَلَمَّا رجعُوا أحالوا على لُقْمَان أَنه هُوَ الَّذِي أكل، وَصدقهمْ مَوْلَاهُ لخسة لُقْمَان عِنْده، وَأَرَادَ أَن يُؤْذِيه، فَقَالَ لُقْمَان لمَوْلَاهُ: إِن ذَا اللسانين وَذَا الْوَجْهَيْنِ لَا يكون وجيها عِنْد الله، فاسقني مَاء حميما، واسق هَؤُلَاءِ العبيد مَاء حميما؛ فسقاهم، فقاء سَائِر العبيد مَا أكلُوا من الْفَاكِهَة، وقاء هُوَ مَاء بحتا، فَعرف صدقه وكذبهم.

20

قَوْله تَعَالَى: {ألم تروا أَن الله سخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} أَي: ذلل. وَقَوله: {وأسبغ عَلَيْهِم نعْمَة} أَي: أتم عَلَيْكُم وأكمل نعمه ظَاهِرَة وباطنة، قَالَ ابْن عَبَّاس: النِّعْمَة الظَّاهِرَة هِيَ الْإِسْلَام وَحسن الْخلق، وَالنعْمَة الْبَاطِنَة هِيَ مَا يستر من الْعُيُوب. وَقَالَ بَعضهم: النِّعْمَة الظَّاهِرَة هِيَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، والباطنة هِيَ الِاعْتِقَاد {وأسبع عَلَيْكُم نعمه ظَاهِرَة وباطنة وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب منيروإذا قيل لَهُم إتبعوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير وَمن يسلم وَجهه إِلَى اللهوهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور وَمن كفر فَلَا} بِالْقَلْبِ. وَيُقَال النِّعْمَة الظَّاهِرَة: نعْمَة الدُّنْيَا، والباطنة: نعْمَة العقبى. وَقيل النِّعْمَة الظَّاهِرَة: نعْمَة الْأَبدَان، والباطنة: نعْمَة الْأَدْيَان. وَيُقَال: النِّعْمَة الظَّاهِرَة: تَمام الرزق، وَالنعْمَة الْبَاطِنَة: حسن الْخلق، وَيُقَال النِّعْمَة الظَّاهِرَة: الزى والرياش الْحسن. وَالنعْمَة الْبَاطِنَة: مَا أخْفى من الْمعْصِيَة وسترها. وَقَالَ بَعضهم: النِّعْمَة الظَّاهِرَة: الْوَلَد، والباطنة: الْوَطْء. وَقَوله: {وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير} نزلت هَذِه الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف وَأبي بن خلف وَأبي جهل بن هِشَام وَالنضْر بن الْحَارِث وأشباههم؛ كَانُوا يجادلون النَّبِي بِالْبَاطِلِ فِي الله وَفِي صِفَاته.

21

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {أَو لَو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم} هَذَا جَوَاب عَن مَحْذُوف , والمحذوف: أيتبعون الشَّيْطَان، وَإِن كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير.

22

وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يسلم وَجهه إِلَى الله} أى: وَمن يخلص دينه لله، وَقيل: يسلم نَفسه وَعَمله إِلَى الله. وَقَرَأَ أَبُو عبد الحمن السلمى: ((يسلم)) بِالتَّشْدِيدِ، وَقَوله: {يسلم} من التَّسْلِيم , وَقَوله: ((يسلم)) من الإنقياد. وَقَوله: { [وَهُوَ محسن] فقد استمسك بالعروة الوثقى} : قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقيل العروة الوثقى: السَّبَب الَّذِي يُوصل إِلَى رضَا الله تَعَالَى. والوثقى تَأْنِيث الأوثق. والعهد الوثيق، هوالعهد الْمُحكم الشَّديد، والأوثق الأشد. وَقَوله: {وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور} أى: خَاتِمَة الْأُمُور. {يحزنك كفره إِلَيْنَا مرجعهم فننبئهم بِمَا عمِلُوا إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور نمتعهم قَلِيلا ثمَّ نطرهم إِلَى عَذَاب غليظ وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعد سَبْعَة أبحر مَا نفدت كلما ت الله إِن الله عَزِيز حَكِيم مَا خَلقكُم}

23

قَوْله تَعَالَى: {وَمن كفر فَلَا يحزنك كفره} أى: لَا تحزن بِكُفْرِهِ. وَقَوله: {إِلَيْنَا مرجعهم} أى: مصيرهم. وَقَوله: {فننبئهم بِمَا عمِلُوا} أى: نخبرهم بِمَا عمِلُوا. وَقَوله: {إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور} أى: عَالم بِمَا فِي الصُّدُور.

24

قَوْله تَعَالَى: {نمتعهم قَلِيلا} الإمتاع هُوَ التَّمَتُّع بِمَا فِي الدُّنْيَا من نعيمها. وَقَوله: {ثمَّ نضطرهم إِلَى عَذَاب غليظ} أى: نلجئهم إِلَى عَذَاب غليظ.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} قد بَينا.

26

قَوْله تَعَالَى: {لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِن الله هُوَ الْغنى الحميد} أى: الْغنى عَن خلقه، الْمَحْمُود فِي فعله.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام} روى أَن الْمُشْركين قَالُوا: إِن مَا أَتَى بِهِ مُحَمَّد من الْكَلَام يَنْقَطِع ويفنى، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، بِمَعْنى: أَن جَمِيع أَشجَار الْعَالم ونباتها لَو بريت أقلاما، وَصَارَت البحور مدادا مَا نفدت كَلِمَات الله أى: كَلَام الله وَعلمه. وَقَوله: {إِن الله عَزِيز حَكِيم} قد بَينا.

28

قَوْله تَعَالَى: {مَا خَلقكُم وَلَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة} مَعْنَاهُ: مَا خَلقكُم إِلَّا

{وَلَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة إِن الله سميع بَصِير (28) ألم تَرَ أَن الله يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي إِلَى أجل مُسَمّى وَأَن الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (29) ذَلِك بِأَن الله هُوَ الْحق وَأَن مَا يدعونَ من دونه الْبَاطِل وَأَن الله هُوَ الْعلي الْكَبِير (30) ألم تَرَ أَن الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بنعمت الله ليريكم من آيَاته إِن} كخلق نفس وَاحِدَة، وَلَا بعثكم إِلَّا كبعث نفس وَاحِدَة، يَعْنِي: فِي قدرته. وَقَوله: {إِن الله سميع بَصِير} سميع لأقوال الْعباد، بَصِير بأفعالهم. وَالْآيَة الَّتِي تلِي هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا قد بَينا مَعْنَاهَا، وَأما الْآيَات الثَّلَاث الَّتِي نزلت بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ من قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام} إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث. قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بِنِعْمَة الله} أَي: بإنعام الله.

31

وَقَوله: {ليريكم من آيَاته} أَي: من عجائب صنعه وَقدرته. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الصَّبْر نصف الْإِيمَان، وَالشُّكْر نصف الْإِيمَان، وَالْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أحب الْعباد إِلَى الله من يصبر عِنْد الْبلَاء، ويشكر عِنْد النعماء، ويرضى بِالْقضَاءِ.

{فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (31) وَإِذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر فَمنهمْ مقتصد وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا كل ختار كفور (32) يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن}

32

قَوْله: {وَإِذا غشيهم موج كالظلل} الظلل: جمع الظلة، والظلة: هِيَ الْجَبَل. وَقَوله: {دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} أَي: أَخْلصُوا فِي الدُّعَاء، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي عِكْرِمَة بن أبي جهل حِين هرب من مَكَّة يَوْم فتحهَا رَسُول الله، وَكَانَ رَسُول الله أَمن جَمِيع النَّاس إِلَّا نَفرا مِنْهُم عِكْرِمَة بن أبي جهل، فهرب عِكْرِمَة إِلَى الْبَحْر، فَجَاءَهُمْ ريح عاصف، فَقَالَ صَاحب السَّفِينَة: أَخْلصُوا، فَإِنَّهُ لَا ينجيكم إِلَّا الْإِخْلَاص. وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُم: لَا تدعوا آلِهَتكُم؛ فَإِن آلِهَتكُم لَا تغني عَنْكُم شَيْئا، وَادعوا الله وَحده. فَقَالَ عِكْرِمَة: إِنَّمَا هربت من هَذَا، وَلَئِن نجاني الله من هَذَا لأرجعن إِلَى مُحَمَّد، ولأضعن يَدي فِي يَده. ثمَّ سكن الرّيح، وَخرج عِكْرِمَة وَرجع إِلَى مَكَّة، وَأسلم وَحسن إِسْلَامه، وَاسْتشْهدَ يَوْم اليرموك بِالشَّام. وَقَوله: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر فَمنهمْ مقتصد} أَي: عدل فِي فعله على معنى الْوَفَاء بِمَا وعده، وَمِنْهُم من قَالَ: مقتصد أَي: مقتصد فِي القَوْل لَا يسرف، وَمِنْهُم من يسرف. وَقَوله: {وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا كل ختار كفور} الختر: هُوَ أَشد الْغدر. قَالَ الشَّاعِر: (فَإنَّك لَو رَأَيْت أَبَا عُمَيْر ... مَلَأت يَديك من ختر وغد)

33

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده} أَي:

{وَالِده شَيْئا إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور (33) إِن الله عِنْده علم السَّاعَة وَينزل الْغَيْث وَيعلم مَا فِي لأرحام وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت إِن الله عليم خَبِير (34) } لَا يُغني وَالِد عَن وَلَده، قَالَ ابْن عَبَّاس: كل امرء تهمه نَفسه. وَقَوله: {وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن وَالِده شَيْئا} أَي: مُغنِي عَن وَالِده شَيْئا. وَقَوله: {إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} يَعْنِي: الشَّيْطَان، وتغريره للْإنْسَان هُوَ تزيينه للمعاصي وتمنيه الْمَغْفِرَة من الله، وَعبر عَنهُ بتزيينه لَهُ الْمعاصِي وتمنيه الْمَغْفِرَة. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " الْكيس من دَان نَفسه، وَعمل لما بعد الْمَوْت (أَي حاسب نَفسه) والفاجر من أتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله (الْمَغْفِرَة) ".

34

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة وَينزل الْغَيْث} الْآيَة. فِي التَّفْسِير: أَن رجلا من بني محَارب بن خصفة أَتَى النَّبِي وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِن أَرْضنَا أجدبت، فَمَتَى ينزل الْغَيْث؟ وَإِنِّي تركت امْرَأَتي حُبْلَى، فَمَاذَا تَلد؟ وَقد علمت مَا أعمل الْيَوْم، فَمَاذَا أعمل غَدا؟ وَأَخْبرنِي أَنى بِأَيّ أَرض أَمُوت؟ وَأَخْبرنِي مَتى السَّاعَة؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا. وَقد روينَا بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " مَفَاتِيح الْغَيْب خَمْسَة، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا ". وَهُوَ خبر مَشْهُور. وَقَوله: { [وَيعلم مَا فِي الْأَرْحَام وَمَا تَدْرِي نفس مَاذَا تكسب غَدا] وَمَا تَدْرِي نفس بِأَيّ أَرض تَمُوت} يُقَال مَعْنَاهُ: على أَي قدم تَمُوت. فَإِنَّهُ مَا من قدم يرفعها ويضعها إِلَّا وَيجوز أَن تَمُوت قبل ذَلِك {بِأَيّ أَرض تَمُوت} أَي: على أَي صفة تَمُوت من الشقاوة والسعادة. وَقَوله: {إِن الله عليم خَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الم (1) تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين (2) أم يَقُولُونَ افتراه بل هُوَ} تَفْسِير سُورَة السَّجْدَة وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا ثَلَاث آيَات نزلت فِي عَليّ رَضِي الله عَنهُ سنذكرها. وَقد روى جَابر أَن النَّبِي كَانَ لَا ينَام كل لَيْلَة حَتَّى يقْرَأ. " الم تَنْزِيل " السَّجْدَة، و " تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك ". وَقد ثَبت أَن النَّبِي كَانَ يقْرَأ فِي صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْجُمُعَة سُورَة السَّجْدَة، وَسورَة " هَل أَتَى ".

السجدة

قَوْله تَعَالَى: {الم تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين} أَي: لَا شكّ فِيهِ، والريب: هُوَ الشَّك، وَقد بَينا من قبل

3

قَوْله: {أم يَقُولُونَ افتراه} مَعْنَاهُ: بل يَقُولُونَ افتراه، قَالَ الشَّاعِر فِي أم بِمَعْنى: بل: (كذبتك عَيْنك أم رَأَيْت بواسط ... غلس الظلام على الربَاب جبالا)

{الْحق من رَبك لتنذر قوما مَا أَتَاهُم من نَذِير من قبلك لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ (3) الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش مَا لكم من دونه من ولي وَلَا شَفِيع أَفلا تتذكرون (4) يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض ثمَّ يعرج إِلَيْهِ} مَعْنَاهُ: بل رَأَيْت. وَقَوله: {بل هُوَ الْحق من رَبك لتنذر قوما مَا أَتَاهُم [من نَذِير من قبلك] } مَا هَا هُنَا بِمَعْنى النَّفْي، وَمَعْنَاهُ: لتنذر قوما لم [يشاهدوا] وآباؤهم قبلك نَبيا، فَإِن قيل: إِذا لم يشاهدوا نَبيا وَلم ينذروا، كَيفَ يستجوبوا النَّار بترك الْإِيمَان؟ وَالْجَوَاب: أَنه لَزِمَهُم الْإِيمَان بِاللَّه بإرسال الرُّسُل الَّذين كَانُوا من قبل، وَقد سمعُوا ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: إِن إِسْمَاعِيل كَانَ نَبيا إِلَى الْعَرَب، وَقد تركُوا دينه، وَيُقَال: إِنَّهُم تركُوا دين إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ} أَي: يرشدون.

4

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام} قد بَينا، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا. فَإِن قَالَ قَائِل: حِين خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض لم يكن نَهَارا وَلَا لَيْلًا، فَكيف يَسْتَقِيم هَذَا الْكَلَام؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ: بِقدر سِتَّة أَيَّام من أَيَّام الدُّنْيَا. وَقَوله: {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} قد بَينا. وَقَوله: {مَا لكم من دونه ولي وَلَا شَفِيع أَفلا تتذكرون} مَعْنَاهُ: أَفلا تتعظون.

5

قَوْله تَعَالَى: {يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض} أَي: يحكم وَيَقْضِي الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض.

{فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ (5) ذَلِك عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز} وَقَوله: {ثمَّ يعرج إِلَيْهِ} ثمَّ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: ثمَّ يعرج الْملك إِلَيْهِ بعد نُزُوله بِالْأَمر. وَالْقَوْل الثَّانِي: ثمَّ يعرج إِلَيْهِ أَي: يعرج الْأَمر إِلَيْهِ، وَمعنى عروج الْأَمر إِلَيْهِ: صيرورة الْأَمر كُله إِلَيْهِ، وَسُقُوط أَمر الْخلق كلهم. وَقَوله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ} هَذِه الْآيَة تعد مشكلة، وَوجه الْإِشْكَال: أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} قَالَ مُجَاهِد: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة} مَعْنَاهُ: أَن من السَّمَاء إِلَى الأَرْض إِذا نزل الْملك خَمْسمِائَة سنة، وَإِذا صعد خَمْسمِائَة سنة فَيكون ألف سنة. وَأما قَوْله: {خمسين ألف سنة} هُوَ من قَرَار الأَرْض إِلَى الْعَرْش. وَقَالَ بَعضهم: خمسين ألف سنة، وَألف سنة كلهَا فِي الْقِيَامَة، فَيكون يَوْم الْقِيَامَة على بَعضهم ألف سنة، وعَلى بَعضهم خمسين ألف سنة، وَالْيَوْم وَاحِد. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يقصره على الْمُؤمن حَتَّى يكون كَمَا بَين صَلَاتَيْنِ ". وَقَالَ بَعضهم: يعرج بعض الْأَمْلَاك فِي مِقْدَار ألف سنة، ويعرج بعض الْأَمْلَاك فِي مِقْدَار خمسين ألف سنة، وَالله أعلم.

6

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: مَا غَابَ عَن الْعباد، وَمَا لم يغب

{الرَّحِيم (6) الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه وَبَدَأَ خلق الْإِنْسَان من طين (7) ثمَّ جعل نَسْله من سلاسة من مَاء مهين (8) ثمَّ سواهُ وَنفخ فِيهِ من روحه وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (9) وَقَالُوا أئذا ضللنا فِي الأَرْض أئنا لفي خلق} عَنْهُم، وَيُقَال: الْغَيْب مَا فِي الْآخِرَة، وَالشَّهَادَة مَا فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: {الْعَزِيز الرَّحِيم} أَي: المنيع فِي ملكه، الرَّحِيم بخلقه.

7

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه} وَقُرِئَ: " خلقه " بِفَتْح اللَّام، فَمن قَرَأَ: " خلقه " أَي: أحسن خلق كل شَيْء، وَمن قَرَأَ: " خلقه " مَعْنَاهُ: حسن كل شَيْء خلقه. قَالَ ابْن عَبَّاس: {أحسن كل شَيْء خلقه} أَي: أتقن وَأحكم. وَقيل: أما إِن است القرد لَيْسَ بِحسن، وَلكنه مُحكم، وَقيل: خلق الْبَهَائِم على صُورَة الْبَهَائِم، والآدميين على صُورَة الْآدَمِيّين، وَلم يخلق الْآدَمِيّين على صُورَة الْبَهَائِم، وَلَا الْبَهَائِم على صُورَة الْآدَمِيّين، فَكل حَيَوَان كَامِل حسن فِي خلقته، وَهَذَا معنى قَول الْحُكَمَاء الَّذين مضوا: كل حَيَوَان كَامِل فِي نقصانه؛ يَعْنِي: أَنه لَو قوبل بِغَيْرِهِ كَانَ نَاقِصا، وَهُوَ فِي نَفسه وأداته كَامِل. وَذكر بَعضهم فِي معنى الْآيَة: طول رجل الْبَهِيمَة، وَطول عنق الطَّائِر؛ ليصل كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى معاشه. وَقَوله: {وبدا خلق الْإِنْسَان من طين} أَي: آدم وَذريته.

8

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جعل نَسْله من سلالة من مَاء مهين} قد بَينا معنى السلالة. وَقَوله: {من مَاء مهين} أَي: ضَعِيف.

9

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ سواهُ وَنفخ فِيهِ من روحه} قد ذكرنَا. وَقَوله: {وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة} أَي: الأسماع والأبصار والأفئدة. وَقَوله: {قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: قَلِيلا تشكرون.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أئذا ضللنا فِي الأَرْض} أَي: هلكنا فِي الأَرْض، يُقَال: ضل

{جَدِيد بل هم بلقاء رَبهم كافرون (10) قل يتوفاكم ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم ثمَّ} اللَّبن فِي المَاء أَي: هلك، وَيُقَال: بلينا وصرنا تُرَابا، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " صللنا " بالصَّاد غير مُعْجمَة. أَي: تغيرنا، يُقَال: صل اللَّحْم إِذا أنتن. وَقَوله: {أئنا لفي خلق جَدِيد} أَي: نرْجِع أَحيَاء بعد مَا متْنا، وَقَالُوا هَذَا على طَرِيق الْجحْد وَالْإِنْكَار. وَقَوله: {بل هم بلقاء رَبهم كافرون} أَي: بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت جاحدون.

11

قَوْله تَعَالَى: {قل يتوفاكم ملك الْمَوْت الَّذِي وكل بكم} ملك الْمَوْت هُوَ عزرائيل، وَقيل: يتوفاكم بِنَفسِهِ، وَيُقَال: بأعوانه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن ملك الْمَوْت على مِعْرَاج بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فينزع أعوانه روح الْإِنْسَان فَإِذا بلغ ثغرة نَحره قَبضه ملك الْمَوْت. وروى أَن الدُّنْيَا عِنْد ملك الْمَوْت كطست بَين رجْلي إِنْسَان. وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لَقِي جِبْرِيل ملك الْمَوْت ببحر فَارس، فَقَالَ: يَا ملك الْمَوْت، كَيفَ تقبض أَرْوَاح النَّاس إِذا وَقع الوباء، فَيَمُوت من هَذَا الْجَانِب عشرَة آلَاف، وَمن هَذَا الْجَانِب عشرَة آلَاف؟ فَقَالَ: تزوي الأَرْض بَين عَيْني فألتقطهم التقاطا. وروى جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه: " أَن النَّبِي دخل على رجل من الْأَنْصَار يعودهُ، فَرَأى ملك الْمَوْت عِنْد رَأسه، فقتال لَهُ: ارْفُقْ بِهَذَا الرجل من أَصْحَابِي، فَقَالَ: طب نفسا وقر عينا، فَإِنِّي بِكُل مُؤمن رَفِيق، ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أردْت قبض روح بعوضة مَا قدرت عَلَيْهِ حَتَّى يَأْمر الله بِقَبْضِهِ، وَإِنِّي أتصفح وُجُوه النَّاس كل يَوْم خمس مَرَّات " وَالْخَبَر غَرِيب.

{إِلَى ربكُم ترجعون (11) وَلَو ترى إِذْ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عِنْد رَبهم رَبنَا أبصرنا وَسَمعنَا فارجعنا نعمل صَالحا إِنَّا موقنون (12) وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نسيتم} وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أنس أَن النَّبِي قَالَ: " الْأَمْرَاض والأوجاع رسل الْمَوْت، فَإِذا قبض ملك الْمَوْت روح عبد، فتصارخوا عَلَيْهِ قَالَ: مَاذَا تصرخون؟ وَالله مَا نقصت لَهُ رزقا، وَلَا قدمت لَهُ أَََجَلًا، وَلَا ظلمت مِنْكُم أحدا، وَإِنَّمَا دَعَاهُ الله فَأَجَابَهُ، فليبك كل امْرِئ على نَفسه، وَإِن لي إِلَيْكُم عودات ثمَّ عودات حَتَّى لَا أبقى مِنْكُم أحدا " وَالْخَبَر من الغرائب أَيْضا. وَأما التوفي فَهُوَ اسْتِيفَاء الْعدَد، وَمَعْنَاهُ: أَنه يقبض أَرْوَاحهم حَتَّى لَا يبْقى أحد من الْعدَد الَّذِي كتب مَوْتهمْ، قَالَ الشَّاعِر: (إِن بنى الأدرم لَيْسُوا من أحد ... وَلَا توفيهم قُرَيْش من عدد) يَعْنِي: مَا استوفاهم قُرَيْش من عَددهمْ. وَقَوله: {ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون} أَي: تصيرون.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ المجرمون ناكسوا رُءُوسهم} مَعْنَاهُ: وَلَو ترى الْمُجْرمين ناكسين رُءُوسهم من فرط النَّدَم وَشدَّة الوجل، وَفِي الْآيَة حذف، والمحذوف هُوَ: أَنَّك لَو ترى الْمُجْرمين ناكسين رُءُوسهم عِنْد رَبهم لرأيت مَا يعْتَبر بِهِ. وَقَوله: {رَبنَا أبصرنا وَسَمعنَا} أَي: قائلين رَبنَا أبصرنا وَسَمعنَا أَي: أبصرنا صدق وعيدك، وَسَمعنَا مِنْك تَصْدِيق رسلك. قَالَ قَتَادَة: أبصروا حِين لم يَنْفَعهُمْ الْبَصَر. وسمعوا حِين لم يَنْفَعهُمْ السّمع. وَيُقَال: أبصرنا معاصينا، وَسَمعنَا مَا قيل فِينَا. وَقَوله: {فارجعنا نعمل صَالحا} أَي: ردنا نعمل صَالحا. وَقَوله: {إِنَّا موقنون} أَي: مصدقون بِالْبَعْثِ.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها} أَي: هدايتها، وَمَعْنَاهُ: لَو شِئْنَا

{لِقَاء يومكم هَذَا إِنَّا نسيناكم وذوقوا عَذَاب الْخلد بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤمن} لأدخلناهم فِي الْإِيمَان. وَقَوله: {وَلَكِن حق القَوْل مني} أَي: وَجب القَوْل مني، وَيُقَال: سبق القَوْل مني. قَالَ الشَّاعِر: (فَإِن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقت لَك العتبى لدينا وَقلت) وَقَوله: {لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} ، وَقَوله: {الْجنَّة} هم الْجِنّ، والجآن: أَب الْجِنّ، كآدم أَب (الْإِنْس) . وَرفع خَارِجَة خَبرا إِلَى النَّبِي " أَنه سُئِلَ هَل يدْخل مؤمنو الْجِنّ الْجنَّة؟ فَقَالَ: نعم. قيل: هَل يصيبون من نعيمها؟ قَالَ: يلهمهم الله تَسْبِيحَة وَذكره، فيصيبون من لَدنه مَا يُصِيبهُ بَنو آدم من نعيم الْجنَّة " حَكَاهُ النقاش فِي تَفْسِيره. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " تَحَاجَّتْ الْجنَّة وَالنَّار؛ فَقَالَت النَّار: أُوثِرت بالجبابرة والمتكبرين، وَقَالَت الْجنَّة: مَا بالي يدخلني سفلَة النَّاس وَسَقَطهمْ وَفِي رِوَايَة: ضعفاء النَّاس ومساكينهم، وَهُوَ الْأَشْهر فَقَالَ الله تَعَالَى للجنة: أَنْت رَحْمَتي، أرْحم بك من شِئْت، وَقَالَ للنار: أَنْت عَذَابي، أعذب بك من شِئْت، وَلكُل وَاحِدَة مِنْكُمَا ملؤُهَا ".

14

قَوْله تَعَالَى: {فَذُوقُوا بِمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا} أَي: بِمَا تركْتُم من التَّصْدِيق بلقاء يومكم هَذَا. وَقَوله: {إِنَّا نسيناكم} أَي تركناكم من الْخَيْر وَالرَّحْمَة، وَقيل: تركناكم فِي الْعَذَاب. وَقَوله: {وذوقوا عَذَاب الْخلد بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: الْعَذَاب الدَّائِم جَزَاء على

{بِآيَاتِنَا الَّذين إِذا ذكرُوا بهَا خروا سجدا وسبحوا بِحَمْد رَبهم وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع يدعونَ رَبهم خوفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ (16) } عَمَلكُمْ. وَحكى عَن قَتَادَة أَنه قَالَ فِي قَوْله: {وَلَكِن حق القَوْل مني لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} أَي: بِذُنُوبِهِمْ. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَهُوَ كَمَا قَالَ.

15

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُؤمن بِآيَاتِنَا الَّذين إِذا ذكرُوا بهَا} أَي: إِذا دعوا إِلَى الصَّلَوَات الْخمس أجابوا إِلَيْهَا، حَكَاهُ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ، وَيُقَال: إِذا وعظوا بآيَات الله اتعظوا. وَقَوله: {خروا سجدا} أَي: وَقَعُوا سجدا، والخرور فِي اللُّغَة: هُوَ السُّقُوط، وَعَن حَكِيم بن حزَام قَالَ: " بَايَعت رَسُول الله أَن لَا أخر إِلَّا قَائِما " أَي: لَا أَمُوت إِلَّا وَأَنا ثَابت على الْإِسْلَام، وَقَوله: {وسبحوا بِحَمْد رَبهم} أَي: وصلوا بِأَمْر رَبهم. وَيُقَال: سبحوا [الله] وحمدوه. وَقَوله: {وهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ} أَي: لَا يتكبرون، وَيُقَال: من سجد لله فقد طرح التكبر عَن رَأسه، وَفِي بعض الْأَخْبَار: من سجد لله سَجْدَة رَفعه الله بهَا دَرَجَة.

16

قَوْله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جنُوبهم} أَي: تنبوا وترتفعوا، وَمَعْنَاهُ: أَنهم يتركون الْمضَاجِع ويقومون إِلَى الصَّلَاة، قَالَ حسان بن ثَابت: (يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه ... إِذا استثقلت بالمشركين الْمضَاجِع) وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الْآيَة، فروى عَن عَطاء أَنه قَالَ: كَانُوا لَا ينامون حَتَّى يصلوا الْعَتَمَة، فَانْزِل الله هَذِه الْآيَة. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة قَالَا: هُوَ الصَّلَاة بَين الْمغرب وَالْعشَاء. وَقَالَ الضَّحَّاك: إِذا استيقظوا ذكرُوا الله وسبحوه. وَعَن أبي الدَّرْدَاء وَأبي ذَر وَعبادَة بن الصَّامِت رَضِي الله عَنْهُم أَنهم قَالُوا: هُوَ

{فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (17) أَفَمَن كَانَ} صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة وَالْفَجْر فِي جمَاعَة. وَأشهر الْأَقَاوِيل: أَن المُرَاد مِنْهُ صَلَاة اللَّيْل، قَالَه مُجَاهِد وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَجَمَاعَة. وَعَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عَلَيْكُم بِصَلَاة اللَّيْل، فَإِنَّهَا دأب الصَّالِحين قبلكُمْ ". وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي عبد الله بن عمر: نعم الرجل عبد الله لَو كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَلم يتْرك بعد ذَلِك صَلَاة اللَّيْل حَتَّى توفاه الله تَعَالَى ". وَفِي حَدِيث معَاذ بن جبل أَن النَّبِي قَالَ: " الصَّوْم جنَّة، وَالصَّدَََقَة تكفر الْخَطِيئَة، وَالصَّلَاة جَوف اللَّيْل، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: (تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع) ". وَقَوله: {يدعونَ رَبهم خوفًا وَطَمَعًا} أَي: خوفًا من النَّار، وَطَمَعًا فِي الْجنَّة. وَقَوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} يُقَال: إِن المُرَاد مِنْهَا الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَيُقَال: الصَّدَقَة والتطوع.

{مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا لَا يستوون (18) أما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم جنَّات}

17

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} وَقُرِئَ: " قرات أعين ". وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن ابي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت، وَلَا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إِن شِئْتُم قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا بِالْحَدِيثِ أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن [فراس] أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُقْرِئ، أخبرنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي الزِّنَاد. . الْخَبَر. وَقَوله: {من قُرَّة أعين} أَي: مَا تقر بِهِ أَعينهم، وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن مُوسَى بن يسَار قَالَ: يمْكث الْمُؤمن فِي الْجنَّة مَعَ زَوجته حينا، فَتَطلع عَلَيْهِ أُخْرَى، فَتَقول لَهُ: أما آن يكون لنا مِنْك دولة؟ فَيَقُول لَهَا: من أَنْت؟ فَتَقول: أَنا من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا اخفي لَهُم من قُرَّة أعين} فَينْتَقل إِلَيْهَا وَيمْكث مَعهَا حينا، فتشرف عَلَيْهِ أُخْرَى، وَتقول مثل مَا قَالَت الأولى، فَيَقُول لَهَا: من أَنْت؟ فَتَقول: أَنا من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى: {ولدينا مزِيد} . وَعَن ابْن سِيرِين قَالَ: مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين: هُوَ النّظر إِلَى الله تَعَالَى. (وَعَن بَعضهم) قَالَ: أخفوا أَعْمَالهم فأخفى الله ثوابهم. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْخفية بالخفية، وَالْعَلَانِيَة بالعلانية. وَقَوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

{المأوى نزلا بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (19) وَأما الَّذين فسقوا فمأواهم النَّار كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا أعيدوا فِيهَا وَقيل لَهُم ذوقوا عَذَاب النَّار الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون (20) ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُم يرجعُونَ (21) وَمن أظلم}

18

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ مُؤمنا كمن كَانَ فَاسِقًا} أَكثر الْمُفَسّرين أَن الْآيَة نزلت فِي عَليّ بن أبي طَالب والوليد بن عقبَة بن أبي معيط، وَذكر بَعضهم: عقبَة، وَالأَصَح هُوَ الأول. قَالَ الْوَلِيد: أَنا أحد مِنْك سِنَانًا، وأبسط مِنْك لِسَانا، وَأَمْلَأُ مِنْك للكتيبة. فَقَالَ لَهُ عَليّ: اسْكُتْ، إِنَّمَا انت فَاسق، فَانْزِل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقد بَينا أَن ثَلَاث آيَات من هَذِه السُّورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَهِي من هَذِه الْآيَة إِلَى آخر الثَّلَاث، وَاسْتدلَّ أهل الاعتزال بِهَذِهِ الاية فِي القَوْل بالمنزلة بَين المنزلتين، وَأَن الْفَاسِق لَا يكون مُؤمنا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِم ظَاهر. وَأما الْفَاسِق هَا هُنَا بِمَعْنى الْكَافِر. وَقَالَ بَعضهم: سَمَّاهُ فَاسِقًا على مُوَافقَة قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقيل: إِن الْآيَة على الْعُمُوم. قَوْله تَعَالَى: {لَا يستوون} أَي: لَا يستوون فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

19

قَوْله تَعَالَى: {أما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم جنَّات المأوى نزلا بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: عَطاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ، وجنات المأوى هِيَ الجنات الَّتِي يأوي الْمُؤْمِنُونَ إِلَيْهَا.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين فسقوا فمأواهم النَّار} أَي: [يأوون] إِلَى النَّار، ويأوون: يَنْقَلِبُون. وَقَوله: {كلما أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا أعيدوا فِيهَا} فِي بعض التفاسير: أَن لِجَهَنَّم ساحلا كساحل الْبَحْر، فَيخرج الْكفَّار إِلَيْهِ فَتحمل عَلَيْهِم حيات لَهَا أَنْيَاب كالنخيل، فيرجعون إِلَى النَّار ويستغيثون بهَا. وَقَوله: {وَقيل لَهُم ذوقوا عَذَاب النَّار الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون} والأثر الَّذِي ذَكرْنَاهُ أوردهُ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره.

{مِمَّن ذكر بآيَات ربه ثمَّ أعرض عَنْهَا إِنَّا من الْمُجْرمين منتقمون (22) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل (23) وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة}

21

قَوْله تَعَالَى: {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى} قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ الْجُوع الَّذِي أصَاب الْكفَّار حَتَّى أكلُوا الميتات والجيف، وَذَلِكَ بِمَا دَعَا عَلَيْهِم رَسُول الله من السنين، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ الْقَتْل ببدر، وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين أَنهم قَالُوا: هُوَ المصائب. وَعَن بَعضهم: هُوَ الْحُدُود، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد: الْعَذَاب الْأَدْنَى هُوَ غلاء السّعر، وَالْعَذَاب الْأَكْبَر هُوَ خُرُوج الْمهْدي بِالسَّيْفِ. وعَلى أَقْوَال من ذكرنَا من قبل الْعَذَاب الْأَكْبَر: يَوْم الْقِيَامَة، ونعوذ بِاللَّه مِنْهَا. وَقَوله: {دون الْعَذَاب الْكبر} أَي: سوى الْعَذَاب الْأَكْبَر. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: يرجعُونَ عَن الْكفْر.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن ذكر بآيَات ربه} أَي: وعظ بآيَات ربه، وآيات ربه هُوَ الْقُرْآن. وَقَوله: {ثمَّ أعرض عَنْهَا إِنَّا من لمجرمين منتقمون} روى معَاذ أَن النَّبِي قَالَ: " ثَلَاث من فعلهن فَهُوَ مجرم، من عقد لِوَاء بِغَيْر حق فَهُوَ مجرم وَمن مَشى مَعَ ظَالِم لِيَنْصُرهُ فَهُوَ مجرم، وَمن عق وَالِديهِ فَهُوَ مجرم، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا من الْمُجْرمين منتقمون} ".

23

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} أَي: التَّوْرَاة. وَقَوله: {فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه} أَي: فِي شكّ فِي لِقَائِه، وَفِي مَعْنَاهُ أقاويل:

{يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون (24) إِن رَبك هُوَ يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَو لم يهد لَهُم كم أهلكنا من قبلهم من الْقُرُون} أَحدهَا: مَا روى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَن مَعْنَاهُ: فَلَا تكن فِي شكّ من لقائك مُوسَى، وَقد كَانَ لقِيه لَيْلَة الْإِسْرَاء. وَفِي الْخَبَر ان النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت مُوسَى آدم طوَالًا جعد الشّعْر كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة، وَرَأَيْت عِيسَى رجلا ربعَة إِلَى الْحمرَة سبط الشّعْر ... " وَالْخَبَر طَوِيل. وَالْقَوْل الثَّانِي: فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه أَي: من لِقَاء مُوسَى الْكتاب، ولقاء مُوسَى الْكتاب: تلقيه بِالْقبُولِ، ذكره الزّجاج وَغَيره، وَالْقَوْل الثَّالِث: فَلَا تكن فِي مرية من لِقَاء مُوسَى ربه، حَكَاهُ النقاش، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل. وَقَوله: {فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه} رَاجع إِلَى مَا سبق من قَوْله تَعَالَى: {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر} وَمَعْنَاهُ: فَلَا تكن فِي مرية من لِقَاء يَوْم الْعَذَاب، وَالله أعلم. {وجعلناه هدى لبني إِسْرَائِيل} يُقَال: إِنَّه رَاجع إِلَى مُوسَى، وَيُقَال: رَاجع إِلَى الْكتاب.

24

وَقَوله: {وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة} أَي: قادة إِلَى الْخَيْر، وَقَالَ بَعضهم: هم الْأَنْبِيَاء، وَقَالَ بَعضهم: أَتبَاع الْأَنْبِيَاء. وَقَوله: {يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا} أَي: يرشدون بوحينا لما صَبَرُوا، وَقُرِئَ " لما صَبَرُوا " أَي: عَن الْمعاصِي، وَقيل: عَن شهوات الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون} أَي: يصدقون.

25

قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك هُوَ يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة} أَي: يحكم بَينهم حكم الْفَصْل. وَقَوله: {فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

{يَمْشُونَ فِي مساكنهم إِن فِي ذَلِك لآيَات أَفلا يسمعُونَ (26) أَو لم يرَوا أَنا نسوق المَاء إِلَى الأَرْض الجرز فنخرج بِهِ زرعا تَأْكُل مِنْهُ أنعامهم وأنفسهم أَفلا يبصرون (27) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْح إِن كُنْتُم صَادِقين (28) قل يَوْم الْفَتْح لَا ينفع الَّذين كفرُوا}

26

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يهد لَهُم} مَعْنَاهُ: أَو لم يبين لَهُم مُحَمَّد؟ وَقيل: الْكتاب، وَقُرِئَ: " أَو لم نهد لَهُم " أَي: نبين لَهُم. وَقَوله: {كَمَا أهلكنا من قبلهم من الْقُرُون يَمْشُونَ فِي مساكنهم} أَي: يمشي أهل مَكَّة فِي مساكنهم. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات أَفلا يسمعُونَ} أَي: سَماع قبُول.

27

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَنا نسوق المَاء إِلَى الأَرْض الجرز} أَي: الْيَابِس الَّذِي لَا ينْبت شَيْئا، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ ارْض بِالْيمن، وَقَالَ مُجَاهِد: بأندلس، وَيُقَال: الأَرْض الجرز هُوَ الَّذِي أكل زَرعهَا وَلم يبْق فِيهَا شَيْء. وَقَوله: {فنخرج بِهِ زرعا تَأْكُل مِنْهُ أنعامهم} يَعْنِي: من العشب والتبن. وَقَوله: {وأنفسهم} من الْحِنْطَة وَالشعِير وَسَائِر الأقوات. وَقَوله: {أَفلا يبصرون} ظَاهر الْمَعْنى.

28

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْفَتْح عَن كُنْتُم صَادِقين} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: أَن الْفَتْح هُوَ فتح مَكَّة. وَالْآخر: أَنه الْقَتْل بِالسَّيْفِ. وَالثَّالِث: هُوَ يَوْم الْقِيَامَة. وَالرَّابِع: هُوَ قَضَاء الله بَين الْعباد.

29

قَوْله تَعَالَى: {قل يَوْم الْفَتْح لَا ينفع الَّذين كفرُوا إِيمَانهم} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. وَمن حمل الْفَتْح على فتح مَكَّة أَو الْقَتْل بِالسَّيْفِ يَوْم بدر، فَقَالَ: معنى قَوْله: {لَا ينفع الَّذين كفرُوا إِيمَانهم} ، أَي: بعد الْمَوْت. وَقَوله: {وَلَا هم ينظرُونَ} أَي: يمهلون ليتوبوا أَو يعتذروا، وَقد كَانُوا يمهلون فِي

{إِيمَانهم وَلَا هم ينظرُونَ (29) فاعرض عَنْهُم وانتظر إِنَّهُم منتظرون (30) . الدُّنْيَا ليتوبوا أَو يعتذروا.

30

قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْرض عَنْهُم} هَذِه الْآيَة قبل آيَة السَّيْف، وَقد نسختها آيَة السَّيْف، وَيُقَال: فَأَعْرض عَن أذاهم وَإِن أذوك. وَقَوله: {وانتظر إِنَّهُم منتظرون} أَي: وانتظر عَذَابهمْ ووعيدنا فيهم فَإِنَّهُم منتظرون. كَذَلِك فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {إِنَّهُم منتظرون} الْعَذَاب، وَمَا كَانُوا آمنُوا بِالْعَذَابِ؟ وَالْجَوَاب: لما كَانَ الله تَعَالَى وعدهم بِالْعَذَابِ، وَكَانَ ذَلِك واصلا إِلَيْهِم لَا محَالة؛ سماهم: منتظرين على مجَاز الْكَلَام، وَيُقَال: فَإِنَّهُم منتظرون: أَي موتك وحوادث الدَّهْر لَك؛ ليستريحوا مِنْك.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ إِن الله كَانَ عليما حكيما (1) وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك من رَبك إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا (2) وتوكل على الله} تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع

الأحزاب

{يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: (أَي) دم على التَّقْوَى، كَالرّجلِ يَقُول لغيره وَهُوَ قَائِم قُم هَا هُنَا أَي: اثْبتْ قَائِما، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد أمته. وَقيل أَيْضا فِي الْآيَة: {اتَّقِ الله} أَي: استكثر من أَسبَاب التَّقْوَى، وَالتَّقوى: هِيَ الْعَمَل بِطَاعَة الله رَجَاء رَحْمَة الله على نور من الله، وَترك مَعْصِيّة الله خوف عَذَاب الله على نور من الله، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَأَبا الْأَعْوَر السّلمِيّ قدمُوا الْمَدِينَة فِي مُدَّة الْهُدْنَة، وطلبوا من رَسُول الله أَشْيَاء كريهة؛ فهم رَسُول الله والمسلمون أَن يقتلوهم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله} يَعْنِي: لَا تنقض الْعَهْد الَّذِي بَيْنك وَبينهمْ، ذكره الضَّحَّاك. وَقَوله: {وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ} أى: الْكَافرين من أهل مَكَّة، وَالْمُنَافِقِينَ من أهل الْمَدِينَة. وَقَوله: {إِن الله كَانَ عليما حكيما} أَي: عليما بخلقه قبل أَن يخلقهم، حكيما فِيمَا دبره لَهُم.

2

وَقَوله تَعَالَى: {وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك من رَبك} أَي: من الْقُرْآن. وَقَوله: {إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} أَي: خَبِيرا بأعمالكم.

3

قَوْله تَعَالَى: {وتوكل على الله} أَي: ثق بِاللَّه.

{وَكفى بِاللَّه وَكيلا (3) مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه وَمَا جعل أزواجكم اللائي تظاهرون مِنْهُنَّ أُمَّهَاتكُم وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم} وَقَوله: {وَكفى بِاللَّه وَكيلا} أَي: وَكفى بِاللَّه حَافِظًا لَك، وَيُقَال: وَكفى بِاللَّه كَفِيلا يرزقك.

4

قَوْله تَعَالَى: {مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا ذكر السّديّ وَغَيره: أَن رجلا كَانَ يُقَال لَهُ: جميل بن معمر وَالأَصَح أَبُو معمر جميل ابْن أَسد، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يسمونه ذَا القلبين لشدَّة ذكائه وفطنته، فَلَمَّا هزم الله تَعَالَى الْمُشْركين يَوْم بدر فَكَانَ هُوَ مَعَهم انهزم أَيْضا؛ فَلَقِيَهُ أَبُو سُفْيَان وَإِحْدَى نَعْلَيْه فِي رجله وَالْأُخْرَى قد علق بِيَدِهِ. فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْن النَّاس؟ قَالَ: هزموا. فَقَالَ: مَا شَأْن نعلك بِيَدِك؟ فَقَالَ: مَا علمت إِلَّا أَنَّهَا فِي رجْلي؛ فَعَلمُوا أَنه لَيْسَ لَهُ إِلَّا قلب وَاحِد، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمُنَافِقين كَانُوا يَقُولُونَ: لمُحَمد قلبان؛ قلب مَعكُمْ، وقلب مَعَ أَصْحَابه؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَأخْبر أَنه لَيْسَ لَهُ إِلَّا قلب وَاحِد. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَقُول: إِن لي نفسا تَأْمُرنِي بِالْخَيرِ، ونفسا تَأْمُرنِي بِالشَّرِّ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأخْبر أَنه لَيْسَ لأحد إِلَّا نفس وَاحِدَة وقلب وَاحِد، وَإِنَّمَا الْأَمر بِالْخَيرِ بإلهام الله، وَالْأَمر بِالشَّرِّ بإلهام الشَّيْطَان. وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا جعل الله لرجل من قلبين فِي جَوْفه أَي: مَا جعل لرجل أبوين، وَقد احْتج بِهِ الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة القائفة، وَقَالَ هَذَا: لِأَن زيد بن حَارِثَة كَانَ ينْسب إِلَى النَّبِي بِالنُّبُوَّةِ، فَقَالَ الله تَعَالَى: {مَا جعل الله لرجل} أبوين أَي: هُوَ ابْن حَارِثَة، وَلَيْسَ بِابْن النَّبِي. وَقَوله: {وَمَا جعل أزواجكم اللائي تظاهرون مِنْهُنَّ أُمَّهَاتكُم} وَالظِّهَار هُوَ أَن يَقُول الرجل لزوجته: أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي، وَقد كَانُوا يعدونه طَلَاقا، فَإِن قيل: كَيفَ

{وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل (4) ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أقسط عِنْد الله فَإِن لم تعلمُوا آبَاءَهُم فإخوانكم فِي الدّين ومواليكم وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ وَلَكِن} وَجه الْجمع بَين هَذَا وَبَين مَا سبق؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمتم من اجْتِمَاع قلبين لرجل أَو أبوين، وَلَا كَمَا زعمتم من أَن الْمَرْأَة تصير كالأم بالظهار. وَأما معنى الظِّهَار وَحكمه فسنذكر فِي سُورَة المجادلة. وَقَوله: {وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم} فِي الْآيَة نسخ التبني، وَقد كَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يتبنى الرجل ويجعله ابْنا لَهُ مثل الابْن الْمَوْلُود، وعَلى ذَلِك تبنى رَسُول الله زيد بن حَارِثَة، فنسخ الله تَعَالَى ذَلِك. وَقَوله: {ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم} أَي: هُوَ قَول لَا حَقِيقَة لَهُ. وَقَوله: {وَالله يَقُول الْحق} أَي: قَوْله الْحق بِمَا نهى من التبني. وَقَوله: {وَهُوَ يهدي السَّبِيل} أَي: يرشد إِلَى طَرِيق الْحق.

5

قَوْله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} قد ثَبت بِرِوَايَة مُوسَى بن عقبَة، عَن سَالم، عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: " مَا كُنَّا نَدْعُو زيد بن حَارِثَة إِلَّا زيد بن مُحَمَّد حَتَّى أنزل الله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بذلك مكي بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ أخبرنَا مُعلى بن أَسد، عَن عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار عَن مُوسَى ابْن عقبَة. . الحَدِيث. وَقَوله: {هُوَ أقسط عِنْد الله} أَي: أعدل عِنْد الله. وَقَوله: {فَإِن لم تعلمُوا آبَاءَهُم فإخوانكم فِي الدّين} أَي: سموهم بأسماء إخْوَانكُمْ فِي الدّين، وَذَلِكَ مثل، عبد الله، وَعبد الْكَرِيم، وَعبد الرَّحْمَن، وَعبد الْعَزِيز، وَأَشْبَاه ذَلِك.

{مَا تَعَمّدت قُلُوبكُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (5) النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله من الْمُؤمنِينَ} وَقَوله: {ومواليكم} هَذَا قَول الرجل للرجل: أَنا أَخُوك ومولاك، أَو يَقُول: أَنا أَخُوك ووليك، وَيُقَال: إخْوَانكُمْ فِي الدّين من كَانُوا فِي الأَصْل أحرارا ومواليكم من أعتقوا، وَيُقَال: مواليكم من أسلم على أَيْدِيكُم. وَقَوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ} الْخَطَأ فِي هَذَا أَن يَقُول لغيره: يَا بن فلَان، وَهُوَ يظنّ أَنه ابْنه، ثمَّ يتَبَيَّن أَنه لَيْسَ بِابْنِهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: الْخَطَأ هَا هُنَا هُوَ مَا فعلوا قبل النَّهْي، والتعمد مَا فَعَلُوهُ بعد النَّهْي. وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} أَي: ستورا عطوفا.

6

قَوْله تَعَالَى: {النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم} أَي: من بَعضهم بِبَعْض. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أَنا أولى بِكُل مُؤمن ومؤمنة من نَفسه، فَمن ترك مَالا فلورثته وَمن ترك دينا أَو ضيَاعًا فَإِلَيَّ ". وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: أَن الرَّسُول إِذا دَعَاهُ إِلَى شَيْء، وَنَفسه دَعَتْهُ إِلَى شَيْء، فَيتبع الرَّسُول وَلَا يتبع النَّفس، وَالْقَوْل الثَّالِث: هُوَ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي كَانَ يخرج إِلَى الْجِهَاد، فَيَقُول قوم: يَا رَسُول الله، نَذْهَب فنستأذن من آبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {وأزواجه أمهاتهم} أَي: فِي الْحُرْمَة خَاصَّة دون النّظر إلَيْهِنَّ وَالدُّخُول عَلَيْهِنَّ، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود وَأبي: " وأزواجه امهاتهم وَهُوَ أَب لَهُم ".

{والمهاجرين إِلَّا أَن تَفعلُوا إِلَى أوليائكم مَعْرُوفا كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا (6) } وَاخْتلفُوا فِي الْمَرْأَة الَّتِي فَارقهَا النَّبِي قبل الْوَفَاة على ثَلَاثَة أوجه: فأحد الْوُجُوه: أَنَّهَا مُحرمَة أَيْضا، وَالْوَجْه الآخر: أَنَّهَا لَيست بمحرمة، وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنَّهَا إِن كَانَ دخل بهَا فَهِيَ مُحرمَة، وَإِن لم يكن دخل بهَا فَلَيْسَتْ بمحرمة. وَاخْتلف الْوَجْه أَيْضا فِي أَنَّهُنَّ هَل يكن أُمَّهَات الْمُؤْمِنَات، فأحد الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤْمِنَات كَمَا أَنَّهُنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، وَالْوَجْه الآخر: انهن أُمَّهَات الرِّجَال دون النِّسَاء، وروى أَن امْرَأَة قَالَت لعَائِشَة: يَا أُمَّاهُ، فَقَالَت: أَنا أم رجالكم دون نِسَائِك. وَأما أخوة أَزوَاج النَّبِي فليسوا بأخوال الْمُؤمنِينَ، وَكَذَلِكَ أَخَوَات أَزوَاج النَّبِي لستن خالات الْمُؤمنِينَ. وَقد روى أَنه كَانَت عِنْد الزبير أَسمَاء بنت أبي بكر، فَقَالَت الصَّحَابَة: عِنْد الزبير أُخْت أم الْمُؤمنِينَ، وَلم يَقُولُوا: عِنْده خَالَة الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {وأولو الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله} أَي: أولى بَعضهم بِبَعْض مِيرَاثا فِي حكم الله، وَقد كَانُوا يتوارثون بِالْهِجْرَةِ، فنسخ الله تَعَالَى ذَلِك إِلَى التَّوَارُث بِالْقَرَابَةِ. وروى أَن النَّبِي آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَكَانَ يَرث بَعضهم بَعْضًا "، ثمَّ نسخ ذَلِك. وَقَوله: {من الْمُؤمنِينَ والمهاجرين} دَلِيل على أَن الْمُؤمنِينَ لَا يَرث الْكَافِر، وَالْكَافِر لَا يَرث الْمُؤمن. وَقَوله: {والمهاجرين} دَلِيل على أَن المُهَاجر لَا يَرث من غير الْمُهَاجِرين، وَلَا غير المُهَاجر من المُهَاجر. وَقَوله: {إِلَّا أَن تَفعلُوا إِلَى أوليائكم مَعْرُوفا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِلَّا أَن توصوا وَصِيَّة لغير الأقرباء الَّذين هم أهل دينكُمْ، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه نسخ ميراثهم، وَأبقى جَوَاز الْوَصِيَّة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ الْوَصِيَّة للْكفَّار، فَالْمَعْنى على

{وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم ومنك وَمن نوح وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى ابْن مَرْيَم وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا (7) ليسأل الصَّادِقين عَن صدقهم وَأعد للْكَافِرِينَ عذَابا} هَذَا: أَن الْكفَّار لَا يَرِثُونَ الْمُسلمين، وَلَو أوصى لَهُم جَازَ. وَقَوله: {كَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا} أَي: فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَيُقَال: فِي الْقُرْآن وَسَائِر كتب الله.

7

وَقَوله: {وَإِذ أَخذنَا من النَّبِيين ميثاقهم} الْمِيثَاق: الْعَهْد الغليظ، وَأَشد الْعَهْد هُوَ التَّحْلِيف بِاللَّه. وَقَوله: {ومنك وَمن نوح} اخْتلف القَوْل فِي تَقْدِيم النَّبِي، فأحد الْقَوْلَيْنِ: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَنا أول النَّبِيين خلقا وَآخرهمْ بعثا ". وَعَن قَتَادَة قَالَ: بَدَأَ بِهِ فِي الْخلق، وَختم بِهِ فِي الْبَعْث، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْوَاو توجب الْجمع، وَلَا توجب تَقْدِيمًا وَلَا تَأْخِيرا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخذنَا من هَؤُلَاءِ النَّبِيين ميثاقهم، وَخص هَؤُلَاءِ لأَنهم كَانُوا أَصْحَاب الشَّرَائِع وهم: نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى [ابْن مَرْيَم] ، وَمُحَمّد. وَأما معنى الْمِيثَاق: قَالَ أهل التَّفْسِير: أَخذ عَلَيْهِم أَن يعبدوا الله ويدعوا إِلَى عبَادَة الله، وَيصدق بَعضهم بَعْضًا، وينصحوا النَّاس، وَيُقَال: أَخذ على نوح أَن يبشر بإبراهيم، وعَلى إِبْرَاهِيم أَن يبشر بمُوسَى، [وعَلى مُوسَى أَن يبشر بِعِيسَى] ، وَهَكَذَا إِلَى مُحَمَّد. وَقَوله: {وأخذنا مِنْهُم ميثاقا غليظا} قد بَينا من قبل. وروى عَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: أَخذ ذُرِّيَّة آدم من ظهر آدم، والنبيون فيهم،

{أَلِيمًا (8) يَا أَيهَا وَا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جاءتكم جنود فارسلنا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم} كَأَنَّهُمْ سرج تزهو، وَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق. وَعَن بَعضهم: خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد، وَأخذ الْمِيثَاق على الْأَرْوَاح.

8

قَوْله تَعَالَى: {ليسأل الصَّادِقين عَن صدقهم} أَي: ليسأل النَّبِيين عَن تبليغهم الرسَالَة، فَإِن قَالَ قَائِل: وَأي حِكْمَة فِي سُؤَالهمْ عَن تَبْلِيغ الرسَالَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: الْحِكْمَة فِي ذَلِك تبكيت الَّذين أرْسلُوا إِلَيْهِم، وعَلى هَذَا الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} . وَيُقَال: ليسأل الصَّادِقين عَن عَمَلهم لله، وَقيل: ليسأل الصَّادِقين بأفواههم عَن صدقهم فِي قُلُوبهم. وَقَوله: {وَأعد للْكَافِرِينَ عذَابا أَلِيمًا} قد تمّ الْكَلَام الأول، وَهَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَمَعْنَاهُ مَعْلُوم.

9

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم} أى: منَّة الله عَلَيْكُم. وَقَوله: {إِذْ جاءتكم جنود} المُرَاد من الْجنُود هم الْأَحْزَاب الَّذين تحزبوا على رَسُول الله وهم: قُرَيْش عَلَيْهِم أَبُو سُفْيَان، وَأسد عَلَيْهِم طليحة بن (خويلد) ، وغَطَفَان عَلَيْهِم عُيَيْنَة بن حصن، وَكَانَت عدتهمْ بلغت اثْنَي عشر ألفا، (وَرَئِيس الْجَمَاعَة) أَبُو سُفْيَان، وقصدوا استئصال النَّبِي وَأَصْحَابه، وَدخل يهود قُرَيْظَة مَعَهم وَأمرهمْ مَعَهم، وَنَقَضُوا الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَينهم وَبَين النَّبِي فِي قصَّة طَوِيلَة؛ فَلَمَّا بلغ النَّبِي أَمرهم حفر الخَنْدَق حول الْمَدِينَة، [وَهَذِه هِيَ] غَزْوَة الخَنْدَق وَجمع الْأَحْزَاب.

{تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا (9) إِذْ جاءوكم من فَوْقكُم وَمن أَسْفَل مِنْكُم وَإِذ زاغت الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر وتظنون بِاللَّه الظنونا (10) هُنَالك ابْتُلِيَ} وَقَوله: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا} فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أرسل عَلَيْهِم ريح الصِّبَا حَتَّى هزمتهم، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد، بالدبور ". وَكَانَت الرّيح تقلع فساطيطهم، وتقلب قدورهم، وتسف التُّرَاب فِي وُجُوههم، وجالت خيلهم بَعْضًا فِي بعض؛ فَانْهَزَمُوا ومروا، وَكفى الله أَمرهم. وَقَوله: {وجنودا لم تَرَوْهَا} أَي: الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} ظَاهر الْمَعْنى.

10

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ جاءوكم من فَوْقكُم} فِي التَّفْسِير: أَن الَّذين جَاءُوا من فَوْقهم هم أَسد وغَطَفَان. وَقَوله: {وَمن أَسْفَل مِنْكُم} هم قُرَيْش وكنانة. وَيُقَال: الَّذين جَاءُوا من فَوْقهم قُرَيْظَة، وَمن أَسْفَل مِنْكُم قُرَيْش وغَطَفَان. وَقَوله: {وَإِذ زاغت الْأَبْصَار} أَي: شخصت الْأَبْصَار، وَفِي الْعَرَبيَّة معنى زاغت: مَالَتْ، فَكَأَنَّهَا مَالَتْ شاخصة، فَهَذَا من الرعب وَالْخَوْف. وَقَوله: {وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر} أَي: بنت عَن أماكنها وَارْتَفَعت، قَالَ قَتَادَة: لَو وجدت مسلكها لَخَرَجت من الْحَنَاجِر، وَلكنهَا ضَاقَتْ عَلَيْهَا. وَالأَصَح من الْمَعْنى أَن هَذَا على طَرِيق التَّمْثِيل، وَالْعرب تَقول: بلغ قلب فلَان حنجرته، أَي: من الرعب وَالْخَوْف والحنجرة حرف الْحُلْقُوم وَهُوَ كلمة عبارَة عَن شدَّة الْفَزع. وَقَوله: {وتظنون بِاللَّه الظنونا} أَي: وَدخلت الْألف لموافقة (أَوَاخِر) الْآيَات فِي السُّورَة.

{الْمُؤْمِنُونَ وزلزلوا زلزالا شَدِيدا (11) وَإِذ يَقُول المُنَافِقُونَ الَّذين فِي قُلُوبهم مرض مَا وعدنا الله وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا (12) وَإِذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب لَا مقَام لكم} قَالَ الشَّاعِر: (أقلى اللوم عاذل والعتابا ... وَقَوْلِي إِن أصبت لقد أصابا) أَي: أقلى يَا عاذلي اللوم والعتاب.

11

قَوْله تَعَالَى: {هُنَالك ابتلى الْمُؤْمِنُونَ} هُنَالك فِي اللُّغَة للبعيد، وَهنا للقريب، وَهُنَاكَ للوسط، وَمعنى هُنَالك هَا هُنَا أَي: عِنْد ذَلِك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَوله: {وزلزلوا زلزالا شَدِيدا} أَي: حركوا حَرَكَة شَدِيدَة، وَقُرِئَ: " زلزالا " بِفَتْح الزَّاي، وَالْأَشْهر بِكَسْر الزَّاي " زلزالا "، وَهُوَ الْأَصَح فِي الْعَرَبيَّة. وَمن الْأَخْبَار الْمَشْهُورَة: أَن رجلا قَالَ لِحُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ: رَأَيْت رَسُول الله وصحبته، وَالله لَو رَأَيْنَاهُ حملناه على أعناقنا. فَقَالَ حُذَيْفَة: أخْبرك أَيهَا الرجل أَنا كُنَّا مَعَ رَسُول الله فِي غَزْوَة الخَنْدَق، فَبلغ بِنَا الْجهد والجوع وَالْخَوْف مَا الله بِهِ أعلم، فَقَالَ رَسُول الله من مِنْكُم يذهب فَيَأْتِي بِخَبَر الْقَوْم، وَالله يَجعله رفيقي فِي الْجنَّة؟ فَمَا أَجَابَهُ منا أحد من شدَّة الْأَمر، ثمَّ قَالَ ثَانِيًا، فَمَا أَجَابَهُ منا أحد، ثمَّ قَالَ ثَالِثا، فَمَا أَجَابَهُ منا أحد فَقَالَ: يَا حُذَيْفَة، فَلم أستطع أَن لَا أُجِيب فَجِئْته، فَقَالَ: اذْهَبْ وأتنى بِخَبَر الْقَوْم، وَلَا تحدثن أمرا حَتَّى تَأتِينِي، وَدَعَانِي فَذَهَبت، وأتيته بِخَبَر الْقَوْم فِي قصَّة. . ". وَإِنَّمَا أَرَادَ حُذَيْفَة بِهَذِهِ الرِّوَايَة أَن لَا يتَمَنَّى ذَلِك الرجل مَا لم يُدْرِكهُ، فَلَعَلَّهُ لَا يصبر على الْبلوى إِن أَدْرَكته.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض مَا وعدنا الله وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا} اخْتلفُوا فِي الْقَائِل لهَذَا القَوْل، قَالَ بَعضهم: هُوَ أَوْس بن قيظي، وَقَالَ

بَعضهم: عبد الله بن أبي، وَقَالَ بَعضهم: معتب بن قُشَيْر، وَأما الْوَعْد الَّذِي سموهُ غرُورًا فَهُوَ مَا رُوِيَ " أَن النَّبِي لما أَمر بِحَفر الخَنْدَق قسم الْحفر على أَصْحَابه، فَوَقع سلمَان مَعَ بني هَاشم، فَجعل يحْفر فَبلغ صَخْرَة لَا يَسْتَطِيع حفرهَا، فَأخذ رَسُول الله الْمعول من يَده، وَضرب على الصَّخْرَة ضَرْبَة فاضاءت كالشهاب، ثمَّ كَذَلِك فِي الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة، فَقَالَ سلمَان: يَا رَسُول الله، لقد رَأَيْت عجبا! فَقَالَ رَسُول الله: وَلَقَد رَأَيْتهَا؟ قَالَ نعم، رَأَيْت فِي الضَّرْبَة الأولى قُصُور الْيمن، وَفِي الضَّرْبَة الثَّانِيَة الْمَدَائِن الْبيض أَي: قصر كسْرَى، وَفِي الضَّرْبَة الثَّالِثَة رَأَيْت قُصُور الشَّام، فَقَالَ:: ليفتحنها الله على أمتِي، فانتشر ذَلِك فِي النَّاس؛ فَلَمَّا بلغ بهم الْأَمر مَا بلغ، قَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم: إِن مُحَمَّدًا يعدنا ملك كسْرَى وَقَيْصَر، وَإِن أَحَدنَا لَا يَسْتَطِيع أَن يُفَارق رَحْله (وَيذْهب) إِلَى الْخَلَاء، مَا هَذَا إِلَّا الْغرُور، فَأنْزل الله تَعَالَى مَا ذكرنَا من الْآيَة ".

13

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب} هُوَ الْمَدِينَة، وَيُقَال: يثرب مَوضِع وَالْمَدينَة مِنْهُ، قَالَ حسان بن ثَابت شعرًا: (سأهدي لَهَا فِي كل عَام قصيدة ... وأقعد مكفيا بِيَثْرِب مكرما) . وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي نهى أَن تسمى الْمَدِينَة يثرب، وَقَالَ: هِيَ طابة " كَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كره هَذِه اللَّفْظَة؛ لِأَنَّهُ من التثريب. وَقَوله: {لَا مقَام لكم} وَقُرِئَ " لَا مقَام لكم " بِرَفْع الْمِيم، فَقَوله: {لَا مقَام لكم} أَي: لَا إِقَامَة لكم، وَقَوله: {لَا مقَام لكم} بِفَتْح الْمِيم أَي: لَا منزل لكم.

{فَارْجِعُوا ويستأذن فريق مِنْهُم النَّبِي يَقُولُونَ إِن بُيُوتنَا عَورَة وَمَا هِيَ بِعَوْرَة إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَو دخلت عَلَيْهِم من أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها وَمَا تلبثوا بهَا إِلَّا يَسِيرا (14) وَلَقَد كَانُوا عَاهَدُوا الله من قبل لَا يولون الأدبار وَكَانَ عهد الله مسئولا} وَقَوله: {فَارْجِعُوا} أَي: ارْجعُوا عَن أَتبَاع مُحَمَّد، وخذوا أمانكم من الْمُشْركين. وَقَوله: {ويستأذن فريق مِنْهُم النَّبِي} هَؤُلَاءِ بَنو سَلمَة وَبَنُو حَارِثَة، وَقيل: غَيرهم. وَقَوله: {يَقُولُونَ إِن بُيُوتنَا عَورَة} أَي: ذَات عَورَة، وَقيل: معورة يسهل عَلَيْهَا دُخُول السراق، وَيُقَال: إِن بُيُوتنَا عَورَة أَي: ضائقة، وَقَالَ الْفراء: عَورَة ذليلة الْحِيطَان، وَلَيْسَت بحريزة، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " عَورَة " بِفَتْح الْعين وَكسر الْوَاو، وَالْمعْنَى يرجع إِلَى مَا بَينا. وَقَوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَة} يَعْنِي: إِنَّهُم كاذبون فِي قَوْلهم، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْفِرَار، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} وأنشدوا فِي الْعَوْرَة: (حَتَّى إِذا أَلْقَت يدا فِي كَافِر ... وأجن عورات الثغور ظلامها)

14

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو دخلت عَلَيْهِم من أقطارها} أَي: من نَوَاحِيهَا. وَقَوله: {ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة} أَي: الشّرك، وَيُقَال: الْقِتَال فِي العصبية. وَقَوله: {لآتوها} بِالْمدِّ، وَقُرِئَ: " لأتوها "، فَقَوله " لآتوها " بِالْمدِّ أَي: لأعطوها، وَقَوله: " لآتوها ". أَي: [لقصدوها] . وَقَوله: {وَمَا تلبثوا بهَا إِلَّا يَسِيرا} أَي: مَا احتسبوا إِلَّا يَسِيرا، وأعطوا مَا طلب مِنْهُم طيبَة بهَا أنفسهم.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كَانُوا عَاهَدُوا الله من قبل لَا يولون الأدبار} الأدبار: جمع

( {15) قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا (16) قل من ذَا الَّذِي يعصمكم من الله إِن أَرَادَ بكم سوءا أَو أَرَادَ بكم رَحْمَة وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا (17) قد يعلم الله المعوقين مِنْكُن والقائلين} الدبر، أَي: لَا ينهزمون. وَذكر مقَاتل وَغَيره أَن هَذَا فِي الَّذين بَايعُوا مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْعقبَة، وَقَالُوا: يَا رسوا الله، اشْترط لِرَبِّك، فَقَالَ: أَن تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، فَقَالُوا: اشْترط لنَفسك. فَقَالَ: أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم وَأَوْلَادكُمْ " وَكَانَ الَّذين بَايعُوا لَيْلَة الْعقبَة [سبعين] نَفرا، وَأول من بَايع أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان، وَهَذَا القَوْل لَيْسَ بِمَرَض؛ لِأَن أَصْحَاب الْعقبَة لم يكن فيهم شَاك، وَلَا من يَقُول مثل هَذَا القَوْل، وَإِنَّمَا الْآيَة فِي قوم عَاهَدُوا أَن يقاتلوا وَلَا يَفروا حَتَّى يقتلُوا وَنَقَضُوا الْعَهْد. وَقَوله: {وَكَانَ عهد الله مسئولا} أَي: مسئولا عَنهُ.

16

قَوْله تَعَالَى: {قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت الْمَوْت أَو الْقَتْل} يَعْنِي: أَن الْأَجَل يدرككم فِي وقته. وَقَوله: {وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا} مَعْنَاهُ: إِلَى مُنْتَهى آجالكم، وَفِي بعض الحكايات: أَن رجلا انهزم [فِي] بعض الحروب، فَكَانَ يلام على ذَلِك، وَيقْرَأ عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة {قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل إِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا} فَقَالَ: ذَلِك الْقَلِيل أطلب.

17

قَوْله تَعَالَى: {قل من ذَا الَّذِي يعصمكم من الله} أَي: يجيركم ويمنعكم. وَقَوله: {إِن أَرَادَ بكم سوءا} أَي: الْهَزِيمَة وظفر عَدوكُمْ بكم. وَقَوله: {أَو أَرَادَ بكم رَحْمَة} أَي: خيرا ونصرة. وَقَوله: {وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا} أَي: قَرِيبا يَنْفَعهُمْ، وناصرا يمنعهُم.

18

قَوْله تَعَالَى: {قد يعلم الله المعوقين مِنْكُم} يُقَال: عاقه واعتاقه وعوقه إِذا صرفه

{لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يأْتونَ الْبَأْس إِلَّا قَلِيلا (18) أشحة عَلَيْكُم فَإِذا جَاءَ الْخَوْف رَأَيْتهمْ ينظرُونَ إِلَيْك تَدور أَعينهم كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ من الْمَوْت فَإِذا ذهب الْخَوْف عَمَّا يُريدهُ. وَيُقَال: المعوقين مِنْكُم أَي: المثبطين مِنْكُم. وَقَوله: {والقائلين لإخوانكم هَلُمَّ إِلَيْنَا} أَي: ارْجعُوا إِلَيْنَا وَقَوله: {وَلَا يأْتونَ الْبَأْس إِلَّا قَلِيلا} أَي: لَا يُقَاتلُون إِلَّا قَلِيلا رِيَاء وَسُمْعَة من غير حسبَة، وَالْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُنَافِقين قَالُوا حِين أحَاط الْجنُود بِالْمُسْلِمين: إِن مُحَمَّدًا وَقَومه أكله رَأس، وَالله لَو كَانَ مُحَمَّد وَأَصْحَابه لَحْمًا لالتهمهم أَبُو سُفْيَان وَحزبه أَي: ابتلعهم، وَكَانُوا يَقُولُونَ لأَصْحَاب مُحَمَّد من الْأَنْصَار: دعوا مُحَمَّد، فَإِن مُحَمَّدًا يُرِيد أَن يقتلكم جَمِيعًا. وَقَالَ الْكَلْبِيّ فِي قَوْله: {إِلَّا قَلِيلا} يَعْنِي: إِلَّا رميا بِالْحِجَارَةِ.

19

قَوْله تَعَالَى: {أشحة عَلَيْكُم} أَي: بخلا بالنصرة والموافقة فِي الْقِتَال، وَقَالَ قَتَادَة: بخلاء عِنْد الْغَنِيمَة، فَكَأَن الله تَعَالَى قَالَ: هم احسن قوم عِنْد الْقِتَال، وأشح قوم عِنْد الْغَنِيمَة. وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ الْخَوْف رَأَيْتهمْ ينظرُونَ إِلَيْك تَدور أَعينهم كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ من الْمَوْت} والمغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت قد ذهب عقله، وشخص بَصَره، وَهُوَ المحتضر الَّذِي قرب من الْمَوْت. وَقَوله: {فَإِذا ذهب الْخَوْف سلقوكم} قَالَ الْفراء: وَقَعُوا فِيكُم بألسنة سليطة ذُرِّيَّة. وَعَن بَعضهم: سلقوكم بألسنة حداد يَعْنِي: عِنْد طلب الْغَنَائِم، وَعند المجادلات بِالْبَاطِلِ، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْبذاء (وَالْبَيَان) شعبتان من النِّفَاق، وَالْحيَاء والعي شعبتان من الْإِيمَان ".

{سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الْخَيْر أُولَئِكَ لم يُؤمنُوا فأحبط الله أَعْمَالهم وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا (19) يحسبون الْأَحْزَاب لم يذهبوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَاب يودوا لَو أَنهم بادون فِي الْأَعْرَاب يسْأَلُون عَن أنبائكم وَلَو كَانُوا فِيكُم مَا قَاتلُوا إِلَّا قَلِيلا (20) وَتقول الْعَرَب: خطيب مسلاق وسلاق إِذا كَانَ بليغا فِي الخطابة، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: سلقوكم أَي: عضهوكم وتناولوكم بِالنَّقْصِ والغيبة، قَالَ الْأَعْشَى: (فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطب السلاق} وَقَوله: {أشحة على الْخَيْر} قد بَينا أَنَّهَا عِنْد الْغَنِيمَة. وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ للْأَنْصَار: إِنَّكُم لتكثرون عِنْد الْفَزع، وتقلون عِنْد الطمع " أَي: تجمعون عِنْد الْقِتَال، وتتفرقون عِنْد أَخذ المَال، وَأما وصف الْمُنَافِقين على الضِّدّ من هَذَا، فَإِنَّهُم كَانُوا جبناء عِنْد الْقِتَال، بخلاء عِنْد المَال. وَقَوله: {أُولَئِكَ لم يُؤمنُوا فأحبط الله أَعْمَالهم} أَي: أبطل الله أَعْمَالهم. وَقَوله: {وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا} أَي: سهلا.

20

قَوْله تَعَالَى: {يحسبون الْأَحْزَاب لم يذهبوا} أَي: من الْجُبْن وَالْخَوْف. وَقَوله: {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَاب} أَي: يرجِعوا بعد الذّهاب. وَقَوله: {يودوا لَو أَنهم بادون فِي الْأَعْرَاب} البادون: خلاف الْحَاضِرين، وهم الَّذين يسكنون الْبَادِيَة، وقولة: {فِي الْأَعْرَاب} أَي: مَعَ الْأَعْرَاب. وَقَوله: {يسْأَلُون عَن أنبأكم} أَي: [عَن] أخباركم، وَمعنى سُؤَالهمْ عَن الْأَخْبَار هُوَ أَن الظفر كَانَ للْمُشْرِكين، أَو لمُحَمد وَأَصْحَابه. وَقَوله: {وَلَو كَانُوا فِيكُم مَا قَاتلُوا إِلَّا قَلِيلا} أَي: تعذيرا، وَمعنى تعذيرا أَي:

{لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا (21) وَلما رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب قَالُوا هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله} يُقَاتلُون شَيْئا يَسِيرا يُقِيمُونَ بِهِ عذرهمْ، فَيَقُولُونَ قد قاتلنا.

21

قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} أَي: قدوة حَسَنَة، والتأسي: هُوَ الإقتداء، وَإِنَّمَا ذكر الأسوة هَا هُنَا حَتَّى ينصرُوا (ويقومون) ويصبروا على مَا يصيبهم، كَمَا فعل رَسُول الله فَإِنَّهُ كسرت رباعيته يَوْم أحد، وشج فِي جَبهته، وَكسرت الْبَيْضَة على رَأسه، وَقتل عَمه فَلم يفتر فِي أَمر الله، وصبر على جَمِيع ذَلِك. وَقَوله: {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} أَي: يَرْجُو ثَوَاب الله، وَقيل: لمن كَانَ يخْشَى الله وَالْيَوْم الآخر، والرجاء يكون بِمَعْنى الخشية، وَقد يكون بِمَعْنى الطمع. وَقَوله: {وَذكر الله كثيرا} أَي: فِي جَمِيع المواطن على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَلما رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب قَالُوا هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله وَرَسُوله} قَالَ قَتَادَة: معنى هَذِه الْآيَة رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة: {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله} وَالْآيَة تَتَضَمَّن أَن الْمُؤمنِينَ يلقاهم ويستقبلهم مثل هَذَا الْبلَاء، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك يَوْم الخَنْدَق قَالُوا: هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله. وَعَن بَعضهم أَن النَّبِي قَالَ لأَصْحَابه: " إِن الْمُشْركين سائرون إِلَيْكُم فنازلون بكم عشرا " أَو كَمَا قَالَ فَلَمَّا رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب [قَالُوا: هَذَا مَا وعدنا الله

3 - {وَرَسُوله وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما (22) من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله وَرَسُوله] وَقد سَارُوا إِلَيْهِم {وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما} أَي: تَصْدِيقًا بِاللَّه، وتسليما لأمر الله.

23

قَوْله تَعَالَى: {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} أَي: قَامُوا بِمَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ، وَيُقَال: قَامُوا بِالْأَمر على الْوَفَاء والصدق. وَقَوله: {فَمنهمْ من قضى نحبه} النحب يرد بمعاني كَثِيرَة، وَأولى الْمعَانِي أَنه بِمَعْنى الْعَهْد، فَمَعْنَى الْآيَة: اتم الْعَهْد وَقَامَ بِهِ، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أَي أَقَامَ بِالْوَفَاءِ والصدق. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: النحب هُوَ النّذر، وَمعنى قضى نحبه هَا هُنَا أَي: قتل فِي سَبِيل الله، كَأَن الْقَوْم بقبولهم الْإِيمَان نذروا أَن يموتوا على مَا يرضاه الله، فَمن قتل فِي سَبِيل الله فقد قضى نَذره. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: الْآيَة فِي الَّذين اسْتشْهدُوا يَوْم أحد، وهم حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ وَمن اسْتشْهد مَعَه. وَقد ثَبت بِرِوَايَة يزِيد بن هَارُون، عَن حميد، عَن انس رَضِي الله عَنهُ أَن عَمه النَّضر بن أنس كَانَ تخلف عَن بدر فَقَالَ: تخلفت عَن أول غَزْوَة غَزَاهَا رَسُول الله، لَئِن أَرَانِي الله قتالا مَعَ الْمُشْركين ليرين الله مَا أصنع، فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد وَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ، وَرَأى ذَلِك النَّضر بن أنس قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعْتَذر إِلَيْك مَا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُسلمين وابرأ إِلَيْك مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْركين ثمَّ مضى بِوُجُوه الْكفَّار، فلقي سعد بن معَاذ دون أحد، فَقَالَ لَهُ سعد: أَنا مَعَك، قَالَ سعد: فَلم أستطع أَن أصنع مَا صنع، فَوجدَ بِهِ بضع وَثَمَانُونَ من ضَرْبَة سيف، وطعنة بِرُمْح، ورمية بِسَهْم. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: فَلم تعرفه إِلَّا أُخْته بثناياه. قَالَ أنس: فَفِيهِ وفيمن اسْتشْهد نزل قَوْله: {فَمنهمْ من قضى نحبه وَمِنْهُم من ينْتَظر} .

{عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه وَمِنْهُم من ينْتَظر وَمَا بدلُوا تبديلا (23) ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما (24) ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم لم ينالوا خيرا وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ} يَعْنِي: من الْمُؤمنِينَ من بَقِي بعد هَؤُلَاءِ الَّذين اسْتشْهدُوا، وهم ينتظرون أحد الْأَمريْنِ إِمَّا الشَّهَادَة فِي سَبِيل الله وَإِمَّا الظفر، وأنشدوا فِي النحب شعرًا: (قضى نحب الْحَيَاة وكل حَيّ ... إِذا يَدعِي لميتته أجابا) وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَن النحب هُوَ الْخطر الْعَظِيم. قَالَ جرير فِي النحب: (بطخفة جالدنا الْمُلُوك وخلينا ... عَشِيَّة بسطَام جرين على نحب) أَي: على الْخطر الْعَظِيم وَقَوله: {وَمَا بدلُوا تبديلا} أَي: لم يتْركُوا مَا قبلوه وعاهدوا عَلَيْهِ.

24

قَوْله تَعَالَى: {ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم} أَي: جَزَاء صدقهم، وَصدقهمْ هُوَ وفاؤهم بالعهد. وَقَوله: {ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم} فيهديهم للْإيمَان. وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} أَي: ستورا عطوفا.

25

قَوْله تَعَالَى: {ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم} أَي: ردهم وَلم يشتفوا من مُحَمَّد وَأَصْحَابه، وَقد كَانُوا قصدُوا قصد الإستئصال. وَقَوله: {لم ينالوا} أَي: لم يظفروا بِمَا أَرَادوا. وَقَوله: { [خيرا] وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال} أَي: بِمَا أرسل من الرّيح عَلَيْهِم، وَفِي بعض الرِّوَايَات الغريبة عَن ابْن عَبَّاس: وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال أَي: لعَلي بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَقد كَانَ قتل عَمْرو بن عبدود فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَانَ رَأْسا من رُءُوس الْكفَّار كَبِيرا فيهم، وضربه عَمْرو بن عبدود فِي ذَلِك الْيَوْم على رَأسه

{الله قَوِيا عَزِيزًا (25) وَانْزِلْ الَّذين ظاهروهم من أهل الْكتاب من صياصيهم وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26) وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} ضَرْبَة فَلَمَّا ضربه، ابْن ملجم وَقعت ضَرْبَة ابْن ملجم على مَوضِع ضَرْبَة عَمْرو بن عبدود، فَهَلَك فِي ذَلِك رَضِي الله عَنهُ. وَقَوله: {وَكَانَ الله قَوِيا عَزِيزًا} أَي: قَوِيا فِي ملكه، عَزِيزًا فِي انتقامه.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَأنزل الَّذين ظاهروهم من أهل الْكتاب} أَي: عاونوهم من أهل الْكتاب، وهم قُرَيْظَة، وَقد كَانُوا فِي عهد النَّبِي، وسيدهم كَعْب بن أَسد، وَأما بَنو النَّضِير فسيدهم حييّ بن أَخطب، فَلَمَّا أجلى رَسُول الله بني النَّضِير إِلَى الشَّام، ذهب حييّ بن أَخطب، إِلَى قُرَيْش و (استنصرهم) ، وَجمع الْأَحْزَاب وَجَاء بهم لقِتَال النَّبِي، ثمَّ جَاءَ إِلَى قُرَيْظَة وَحَملهمْ على نقض الْعَهْد فِي قصَّة طَوِيلَة، وَعَاهد مَعَهم أَن الْمُشْركين لَو رجعُوا وَلم يظفروا دخل مَعَهم فِي حصنهمْ ليصيبه مَا يصيبهم، فَلَمَّا هزم الْمُشْركُونَ دخل مَعَهم فِي حصنهمْ، وَأما قُرَيْظَة فنقضوا الْعَهْد، وقصدوا حَرْب النَّبِي مَعَ الْأَحْزَاب فِي قصَّة مَذْكُورَة فِي الْمَغَازِي. وَقَوله: {من صياصيهم} أَي: من حصونهم، وَمِنْه صياصي الْبَقر أَي: قُرُونهَا لِأَنَّهَا تمْتَنع بهَا. وَقَوله: {وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب} أَي: الْخَوْف. وَقَوله: {فريقا تقتلون} قتل رَسُول الله من قُرَيْظَة أَرْبَعمِائَة وَخمسين، وَفِي رِوَايَة سِتّمائَة، وَفِيهِمْ حييّ بن أَخطب وسادتهم، وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا ذبح كتبه الله على بني إِسْرَائِيل. وَقَوله: {وتأسرون فريقا} أسر مِنْهُم سَبْعمِائة وَخمسين، وَفِي رِوَايَة سَبْعمِائة

{وأرضا لم تطئووها وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا (27) يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن}

27

{وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} أَي: أغنمكم. وَقَوله: {وأرضا لم تطئوها} أظهر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا خَيْبَر، وَقَالَ عِكْرِمَة: جَمِيع مَا فتح الله تَعَالَى ويفتحه من أَرَاضِي الْمُشْركين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن بَعضهم فَارس وَالروم. وَقَوله: {وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا} أَي: قَادِرًا. وَأما قصَّة قتل قُرَيْظَة [فَهُوَ على] مَا روى " أَن النَّبِي لما رَجَعَ من الخَنْدَق إِلَى بَيته وَوضع لامته أَي: درعه واغتسل جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على فرس وَدعَاهُ، فَلَمَّا خرج من بَيته قَالَ: أتضع سِلَاحك وَلم تضع الْمَلَائِكَة أسلحتكم! وَكَانَ الْغُبَار على وَجهه وَوجه فرسه، وَقَالَ: يَا جِبْرِيل، إِلَى أَيْن؟ قَالَ: إِلَى قُرَيْظَة "، " فَخرج النَّبِي وَخرج أَصْحَابه إِلَى قُرَيْظَة، ونادى فِي أَصْحَابه: لَا يصلين أحد مِنْكُم الْعَصْر إِلَّا فِي [بني] قُرَيْظَة، فَلم يصلوا حَتَّى غربت الشَّمْس، فبعضهم صلى الْعَصْر، وَبَعْضهمْ لم يصل حَتَّى وصل، فَلم يعنف وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ " وحاصرهم إِحْدَى وَعشْرين لَيْلَة، ونزلوا على حكم سعد بن معَاذ، وَكَانُوا حلفاءه فِي الْجَاهِلِيَّة وَسعد بن معَاذ سيد الْأَوْس، وَسعد بن عبَادَة سيد الْخَزْرَج فَلَمَّا نزلُوا على حكمه، وَكَانَ سعد مَرِيضا بِالْمَدِينَةِ فِي بَيته برمية أَصَابَت أكحله يَوْم الخَنْدَق، وَكَانَ الدَّم لَا يرقأ، فَدَعَا الله تَعَالَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ أبقني حَتَّى تريني مَا يقر عَيْني فِي قُرَيْظَة، فرقأ الدَّم.

{كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا فتعالين أمتعتكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وَإِن} فَلَمَّا نزلُوا على حكمه استحضره رَسُول الله، فجَاء على حمَار موكف وَقد حف بِهِ قومه، وَجعلُوا يَقُولُونَ لَهُ: حلفاؤك ومواليك، فَقَالَ سعد: قد آن لسعد أَن لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام للْأَنْصَار: قومُوا إِلَى سيدكم، ثمَّ إِنَّه حكم بِأَن يقتل الْمُقَاتلَة، وتسبى الذُّرِّيَّة، وَيقسم المَال، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: حكمت بِحكم الْملك. وروى أَنه قَالَ: حكمت بِحكم الله من فَوق عَرْشه، ثمَّ إِنَّه فعل بهم مَا حكم، ثمَّ إِن سَعْدا قَالَ لما قتلوا: اللَّهُمَّ إِن كنت أبقيت حَربًا بَين رَسُولك وَبَين قُرَيْش فأبقني لَهَا، وَإِن كنت قد وضعت الْحَرْب بَين رَسُولك وَبَين قُرَيْش فاقبضني إِلَيْك، فانفجر كَلمه فِي الْحَال، فَلم يرعهم إِلَّا وَالدَّم يسيل إِلَيْهِم، وَتوفى فِي ذَلِك رَضِي الله عَنهُ.

28

قَوْله تَعَالَى: {يأيها النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا} الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَبَب نزُول الْآيَة أَن نسَاء النَّبِي سألنه شَيْئا من الدُّنْيَا، وَلم يكن عِنْده، وطلبن مِنْهُ زِيَادَة فِي النَّفَقَة، وآذينه بِغَيْرِهِ بَعضهنَّ على بعض؛ فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير. وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن الضَّحَّاك: أَن زينت بنت جحش سَأَلته ثوبا ممصرا، وَهُوَ الْبرد المخطط، ومَيْمُونَة سَأَلته حلَّة يَمَانِية، وَأم حَبِيبَة سَأَلته ثوبا من ثِيَاب خضر، وَجُوَيْرِية سَأَلته معجرا، وَعَن بَعضهنَّ: أَنَّهَا سَأَلته قطيفة، وَلم يكن عِنْده شَيْء من ذَلِك. وَحكى أَنَّهُنَّ قُلْنَ: لَو كُنَّا عِنْد غَيره كَانَ لنا حليا وثيابا، فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير. وَقد ثَبت أَن النَّبِي آلى مِنْهُنَّ شهرا وَاعْتَزل فِي غرفَة فِي قصَّة

{كنتن تردن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَإِن الله أعد للمحسنات مِنْكُن أجرا عَظِيما (29) يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين وَكَانَ} طَوِيلَة. وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي كَانَ فِي بَيت حَفْصَة فتشاجرا، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله: أجعَل بيني وَبَيْنك رجلا، أَتُرِيدِينَ أَبَاك؟ قَالَت: نعم، فَدَعَا عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا دخل قَالَ النَّبِي لحفصة: تكلمي. فَقَالَت حَفْصَة: يَا رَسُول الله، تكلم وَلَا تقل إِلَّا حَقًا. فَرفع عمر يَده وَضرب وَجههَا، وَقَالَ: يَا عدوة نَفسهَا، أتقولين هَذَا لرَسُول الله؟ ثمَّ إِن رَسُول الله آلى مِنْهُنَّ شهرا وَاعْتَزل، وَأنزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير، فَلَمَّا أنزل الله آيَة التَّخْيِير بَدَأَ بعائشة رَضِي الله عَنْهَا. وَقد ثَبت هَذَا بِرِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة أَن النَّبِي بَدَأَ بهَا لما أنزل الله تَعَالَى آيَة التَّخْيِير، قَالَت عَائِشَة: فَدخل عَليّ وَقَالَ: " يَا عَائِشَة، إِنِّي ذَاكر لَك أمرا فَلَا عَلَيْك أَن تعجلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك، وَقد علم أَن أَبَوي لَا يأمرانني بِفِرَاقِهِ، ثمَّ تَلا على الْآيَة، فَقلت: أَفِي هَذَا أَستَأْمر أبواي؟ لقد اخْتَرْت الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة، ثمَّ عرض ذَلِك على سَائِر نِسَائِهِ؛ فَقُلْنَ مثل ذَلِك ". وروى هَذَا الْخَبَر البُخَارِيّ عَن أبي الْيَمَان، عَن شُعَيْب، عَن الزُّهْرِيّ، والإسناد كَمَا بَينا من قبل، وَأما أَزوَاجه اللَّاتِي خيرهن فَكُن تسعا، خَمْسَة قرشيات هن: عَائِشَة بنت أبي بكر، وَحَفْصَة بنت عمر، وَأم سَلمَة بنت أُميَّة، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وَأما غير الْقُرَشِيَّات: فزينب بنت جحش الأَسدِية، وَصفِيَّة بنت حييّ الْخَيْبَرِية، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة.

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَلَمَّا اخترنه شكر الله تَعَالَى لَهُنَّ ذَلِك، فَنهى النَّبِي أَن يتَزَوَّج بسواهن أَو يتبدل بِهن، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل بِهن من أَزوَاج وَلَو أعْجبك حسنهنَّ} وَسَنذكر حكم ذَلِك من بعد وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْخِيَار، أَكَانَ طَلَاقا؟ وَإِنَّمَا خيرهن على إِن اخْترْنَ الدُّنْيَا فارقهن بِلَا طَلَاق، وَإِن اخترنه أمسكهن، وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن هَذَا الْخِيَار كَانَ طَلَاقا فَكَأَنَّهُ خيرهن، وَلَو اخْترْنَ أَنْفسهنَّ كَانَ طَلَاقا. وَاخْتلف الصَّحَابَة فِي الرجل يَقُول لإمرأته: اخْتَارِي. فَتَقول: اخْتَرْت نَفسِي، فَذهب عمر إِلَى أَنَّهَا لَو اخْتَارَتْ زَوجهَا لَا تكون شَيْئا، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فطلقة وَاحِدَة، وَالزَّوْج أَحَق برجعتها. وَقَالَ عَليّ: إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فطلقة وَاحِدَة، وَالزَّوْج أَحَق برجعتها، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة، وَلَا يملك الزَّوْج رَجعتهَا، وَذهب إِلَى أَنَّهَا إِن اخْتَارَتْ زَوجهَا فَوَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَثَلَاث، وَقد قيل غير هَذَا. وَهَذِه الْأَقْوَال الثَّلَاثَة هِيَ الْمَعْرُوفَة، وَقد ذهب إِلَى كل قَول من هَذِه الْأَقْوَال جمَاعَة من الْعلمَاء، وَالدَّلِيل على أَنَّهَا إِذا اخْتَارَتْ زَوجهَا لَا تكون طَلَاقا أَن عَائِشَة قَالَت: خيرنا رَسُول الله فاخترناه، أَفَكَانَ طَلَاقا؟ ! وَقَوله: {فتعالين أمتعكن} أَي: مُتْعَة الطَّلَاق، وَقد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة. وَقَوله تَعَالَى: {وأسرحكن سراحا جميلا} السراح الْجَمِيل هُوَ الْمُفَارقَة الجميلة، وَذَلِكَ من غير تعنيف وَلَا أَذَى.

29

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كنتن تردن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَإِن الله أعد للمحسنات} والمحسنات هِيَ اللَّاتِي اخْترْنَ الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة، وَجَمِيع نسَاء النَّبِي قد اخْترْنَ ذَلِك، فجميعهن محسنات. وَيجوز أَن تذكر " من " وَلَا تكون للتَّبْعِيض، فَلَا يدل ذَلِك على أَن مِنْهُنَّ من لَيست بمحسنة.

{ذَلِك على الله يَسِيرا (30) وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا} وَقَوله: {أجرا عَظِيما} وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى خيرهن بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَبَين الْجنَّة وَالنَّار، فاخترن الْآخِرَة على الدُّنْيَا، وَالْجنَّة على النَّار.

30

قَوْله تَعَالَى: {يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة} فَإِن قيل: أيدل هَذَا الْخطاب على أَن مِنْهُنَّ من أَتَت بِفَاحِشَة أَو تَأتي بِفَاحِشَة؟ قُلْنَا: لَا، كَمَا أَن الله تَعَالَى قَالَ للنَّبِي: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} وَهَذَا لَا يدل على أَنه قد أَتَى بشرك أَو يَأْتِي. جَوَاب آخر: أَنه قد حكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْفَاحِشَة هَا هُنَا بِمَعْنى النُّشُوز وَسُوء الْخلق. وَقَوله: {يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب ضعفين} وَقُرِئَ: " يضعف " من التَّضْعِيف، وَقُرِئَ: " نضعف " بالنُّون، فَقَوله {نضعف} بالنُّون ظَاهر الْمَعْنى، وَهُوَ نِسْبَة الْفِعْل إِلَى نَفسه، وَقَوله: " يضعف " و " يُضَاعف " خبر. وَقَوله: {ضعفين من الْعَذَاب} أَي: مثلي عَذَاب غَيرهَا، فَإِن قيل: وَلم تسْتَحقّ مثلي عَذَاب غَيرهَا؟ قُلْنَا: لشرف حَالهَا بِصُحْبَة النَّبِي، وَهَذَا كَمَا أَن الْحرَّة تحد مثلي حد الْأمة لشرف حَالهَا. وَقد اسْتدلَّ أَبُو بكر الْفَارِسِي فِي أَحْكَام الْقُرْآن بِهَذِهِ الْآيَة على أَنَّهُنَّ أشرف نسَاء الْعَالم. وَقَوله: {وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا} أَي: هينا، وَقد ذكر بَعضهم أَن قَوْله: {يُضَاعف لَهَا الْعَذَاب} يقتضى ثَلَاثَة أعذبة؛ لِأَن ضعف الْوَاحِد مثلاه، وَالأَصَح هُوَ الأول.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يقنت مِنْكُن لله وَرَسُوله} الْقُنُوت هُوَ المداومة على الطَّاعَة، وَمِنْه الْقُنُوت فِي الصَّلَاة، وَهُوَ المداومة على الدُّعَاء. وَقَوله: {وتعمل صَالحا نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} أَي: مثلي أجر غَيرهَا، وَهَذَا على

{مرَّتَيْنِ وأعتدنا لَهَا رزقا كَرِيمًا (31) يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء إِن اتقيتن فَلَا تخضعن بالْقَوْل فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض وقلن قولا مَعْرُوفا (32) وَقرن فِي بيوتكن وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى وأقمن الصَّلَاة وآتين الزَّكَاة وأطعن الله وَرَسُوله إِنَّمَا} طَرِيق مُقَابلَة الثَّوَاب بالعقاب. وَقَوله: {وأعتدنا لَهَا رزقا كَرِيمًا} أَي: الْجنَّة.

32

قَوْله تَعَالَى: {يَا نسَاء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء} فَإِن قيل: هلا قَالَ كواحدة من النِّسَاء؟ وَالْجَوَاب، أَنه قَالَ: {كَأحد من النِّسَاء} ليَكُون أَعم فِي الْكل. وَقَوله: {إِن اتقيتن} التَّقْوَى هِيَ الِاحْتِرَاز عَن الْمعاصِي، والحذر عَمَّا نهى الله عَنهُ. وَقَوله: {فَلَا تخضعن بالْقَوْل} أَي: لَا تلن فِي القَوْل، وَلَا ترققن فِيهِ. وَيُقَال: الخضوع فِي القَوْل أَن تَتَكَلَّم على وَجه يَقع بِشَهْوَة الْمُرِيب. وَقَوله: {فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض} قَالَ قَتَادَة: أَي النِّفَاق، وَقَالَ عِكْرِمَة: شَهْوَة الزِّنَا. وَقَوله: {وقلن قولا مَعْرُوفا} أَي: قولا يُوجِبهُ الدّين وَالْإِسْلَام بِصَرِيح وَبَيَان.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَقرن فِي بيوتكن} وَقُرِئَ بِكَسْر الْقَاف؛ فَقَوله بِالْكَسْرِ من السّكُون والهدوء وَترك الْخُرُوج. وَالْقِرَاءَة بِالنّصب تحْتَمل هَذَا، وتحتمل الْأَمر بالوقار. وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: مَا تعبدت الله امْرَأَة بِمثل تقوى الله وجلوسها فِي بَيتهَا. وَفِي بعض الْآثَار، أَنه قيل لسودة: أَلا تخرجين كَمَا تخرج أخواتك؟ قَالَت: قد حججْت واعتمرت، وَقد أَمرنِي الله تَعَالَى أَن أقرّ فِي بَيْتِي، فَلَا أُرِيد أَن أعصي الله تَعَالَى، فَلم تخرج من بَيتهَا حَتَّى أخرجت على جنازتها. وَقَوله: {وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى} قَالَ الْمبرد: التبرج هُوَ أَن تظهر من

{يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا (33) واذكرن مَا يُتْلَى} نَفسهَا مَا أمرت بستره. وَعَن ابْن أبي نجيح قَالَ: هُوَ التَّبَخْتُر. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الْمَشْي بالتغنج والتكسر. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: هُوَ الْمَشْي بَين يَدي الرِّجَال. وَأما الْجَاهِلِيَّة الأولى فَقيل: هِيَ زمَان نمروذ، وَقد كَانَت الْمَرْأَة تخرج وَعَلَيْهَا قَمِيص من لُؤْلُؤ ثمَّ تخيط جانباه، وَعَن بَعضهم: مَا بَين نوح وَإِدْرِيس، وَعَن الشّعبِيّ: مل بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَيُقَال: إِن أول مَا ظهر من الْفَاحِشَة فِي بني آدم أَنه كَانَ بطْنَان من بني آدم أَحدهمَا يسكنون الْجَبَل، وَالْآخر يسكنون السهل، وَكَانَ رجال الْجَبَل صباحا، وَفِي النِّسَاء دمامة، وَنسَاء السهل صبيحات، وَفِي الرِّجَال دمامة، فاحتال إِبْلِيس حِيلَة حَتَّى أَتَّخِذ عيدا، وَجمع بَينهم فارتكب بَعضهم من بعض الْفَاحِشَة. وَذكر بَعضهم أَن فِي الْجَاهِلِيَّة الأولى [كَانَت الْمَرْأَة تكون] بَين رجلَيْنِ، فنصفها الْأَسْفَل لأَحَدهمَا والأعلى للْآخر، فيجتمع على الْمَرْأَة زَوجهَا وحبها، وَقَالَ فِي ذَلِك بَعضهم شعرًا: (أترغب فِي البدال أَبَا جُبَير ... وأرضى بالكواعب والعجوز) وَأما الْجَاهِلِيَّة الْأُخْرَى فقوم يَفْعَلُونَ مثل فعلهن وَذَلِكَ فِي آخر الزَّمَان، وَقَالَ بَعضهم: يجوز أَن يذكر الأولى وَإِن لم يكن لَهَا أُخْرَى، أَلا ترى أَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَأَنه أهلك عادا الأولى} وَلم يكن لَهَا أُخْرَى. وَقَوله: {وأقمن الصَّلَاة وآتين الزَّكَاة وأطعن الله وَرَسُوله} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} فِي الْآيَة أَقْوَال: روى سعيد بن جُبَير عَن أبن عَبَّاس: أَنَّهَا نزلت فِي نسَاء النَّبِي، وَقد [قَالَه] عِكْرِمَة وَجَمَاعَة.

وَذهب أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَأم سَلمَة وَجَمَاعَة كَثِيرَة من التَّابِعين مِنْهُم مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا أَن الْآيَة فِي أهل بَيت النَّبِي، وهم عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن. وروت أم سَلمَة " أَن النَّبِي كَانَ فِي بَيتهَا وَعِنْده عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فجللهم بكساء وَقَالَ: اللَّهُمَّ؛ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي. قَالَت أم سَلمَة: فَقلت: يَا رَسُول الله، وَأَنا من أهل بَيْتك، فَقَالَ: إِنَّك إِلَى خير ". ذكره أَبُو عِيسَى فِي جَامعه. وروى أَيْضا بطرِيق أنس " أَن النَّبِي كَانَ يمر بعد نزُول هَذِه الْآيَة على بَيت فَاطِمَة بِسِتَّة أشهر، وَيَقُول: إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا ". وَاسْتدلَّ من قَالَ بِهَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس} وَلم يقل: " عنكن "، وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ نسَاء النَّبِي لقَالَ: " عنكن " أَلا ترى أَنه فِي الإبتداء والإنتهاء لما كَانَ الْخطاب مَعَ نسَاء النَّبِي خاطبهن بخطاب الْإِنَاث. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة عَامَّة فِي الْكل، وَهَذَا أحسن الْأَقَاوِيل، فآله قد دخلُوا فِي الْآيَة، ونساؤه قد دخلن فِي الْآيَة. وَاسْتدلَّ من قَالَ: إِن نِسَاءَهُ قد دخلن فِي الْآيَة؛ أَنه قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} وَأهل بَيت الرَّسُول هن نِسَاءَهُ؛ (وَلِأَنَّهُ تقدم ذكر نِسَائِهِ) ، وَالْأَحْسَن مَا بَينا من التَّعْمِيم.

{فِي بيوتكن من آيَات الله وَالْحكمَة إِن الله كَانَ لطيفا خَبِيرا (34) إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات} وَقد روى أَن زيد بن أَرقم سُئِلَ: من آل النَّبِي. فَقَالَ: هم الَّذين حرم عَلَيْهِم الصَّدَقَة. وَأما الرجس فَمَعْنَاه: مَا يَدْعُو إِلَى الْمعْصِيَة. وَقَالَ بَعضهم: عمل الشَّيْطَان. والرجس فِي اللُّغَة هُوَ كل مستقذر مستخبث. وَقَوله: {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} أَي: من الْمعاصِي بتقوى الله تَعَالَى، وَذهب بعض (أَصْحَاب) الخواطر إِلَى أَن معنى قَوْله: {وَيذْهب عَنْكُم الرجس} أَي: الْأَهْوَاء والبدع {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} بِالسنةِ، وَقَالَ بَعضهم: يذهب عَنْكُم الرجس أَي: الغل والحسد (وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا) بالتوفيق وَالْهِدَايَة، وَقَالَ بَعضهم: يذهب عَنْكُم الرجس: الْبُخْل والطمع {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} بالقناعة والإيثار، وَالتَّفْسِير مَا بَينا من قبل.

34

قَوْله تَعَالَى: {واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن من آيَات الله وَالْحكمَة} أَي: الْقُرْآن وَالسّنة. وَقَوله: {إِن الله كَانَ لطيفا خَبِيرا} أَي: رحِيما بهم، خَبِيرا بأعمالهم.

35

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات} سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى أَن أم سَلمَة قَالَت: " يَا رَسُول الله، مَا بَال الرّحال يذكرُونَ فِي الْقُرْآن، وَلَا يذكر النِّسَاء، ونخشى أَلا يكون فِيهِنَّ خير ". وَفِي رِوَايَة أَسمَاء بنت عُمَيْس: قدمت من الْحَبَشَة فَدخلت على نسَاء النَّبِي: وَقَالَت لَهُنَّ: هَل ذكر الله تَعَالَى النِّسَاء بِخَير فِي الْقُرْآن؟ قُلْنَ: لَا. قَالَت: هَذَا هُوَ

ً {وَالصَّابِرِينَ والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين} الخيبة والخسار، أخْشَى أَلا يكون لله فِيهِنَّ حَاجَة، ثمَّ أَتَت النَّبِي وَذكرت ذَلِك لَهُ ". وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: " أَن الَّتِي قَالَت ذَلِك أم عمَارَة الْأَنْصَارِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر النِّسَاء بِخَير كَمَا ذكر الرِّجَال ". قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} قد بَينا معنى الْإِسْلَام وَمعنى الْإِيمَان، وَقد فرق بعض أهل السّنة بَين الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، وَلم يفرق بَعضهم. وَالْمَسْأَلَة فِيهَا كَلَام كثير. وَقَوله: {والقانتين والقانتات} المطيعين والمطيعات. وَقَوله: {والصادقين والصادقات} أَي الصَّادِقين فِي إِيمَانهم، والصادقات فِي إيمانهن. يُقَال: إِن المُرَاد بِالصّدقِ هُوَ صدق القَوْل فِي جَمِيع الْأَشْيَاء. وَقَوله: {وَالصَّابِرِينَ والصابرات} أَي: الصابرين على الطَّاعَة، وَالصَّابِرِينَ عَن الْمعْصِيَة، وَكَذَلِكَ معنى الصابرات. وَقَالَ قَتَادَة: الصَّبْر عَن الْمعْصِيَة أفضل من الصَّبْر على الطَّاعَة، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ. وَقَوله: {والخاشعين والخاشعات} أَي: المتواضعين والمتواضعات. وَيُقَال: إِن المُرَاد بالخشوع هُوَ الْخُشُوع فِي الصَّلَاة. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: الْخُشُوع فِي الصَّلَاة أَلا يعلم من على يَمِينه وَلَا من على

{والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات أعد الله} يسَاره. وَقَالَ غَيره: من الْخُشُوع أَن لَا تلْتَفت. وَقَوله: {والمتصدقين والمتصدقات} أَي: المتصدقين على الْفُقَرَاء والمتصدقات عَلَيْهِم. وَقَوله: {والصائمين والصائمات} مَعْلُوم. وروى عَن بَعضهم: من صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام فِي كل شهر فَهُوَ من الصائمين والصائمات، وَمن تصدق فِي كل أُسْبُوع بدرهم فَهُوَ من المتصدقين، وَمن لم يلْتَفت فِي صلَاته فَهُوَ من الخاشعين، أوردهُ النقاش فِي تَفْسِيره. وَقَوله: {والحافظين فروجهم والحافظات} أَي: من ارْتِكَاب الْفَوَاحِش. وَحكى النقاش: أَن من لم يزن فَهُوَ من الحافظين لفروجهم. وَقَوله: {والحافظات} أَي: والحافظاتها. وَقَوله: {والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} أَي: والذاكراته، قَالَ الشَّاعِر: (فكمتا مدماة كَأَن متونها ... جرى فَوْقهَا واستشعرت لون مَذْهَب) يَعْنِي: جرى فَوْقهَا لون مَذْهَب واستشعرته. وَأما الذّكر الْكثير، فروى عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: لَا يكون العَبْد من الذَّاكِرِينَ الله كثيرا حَتَّى يذكرهُ قَائِما وَقَاعِدا ومضطجعا. وروى الضَّحَّاك بن مُزَاحم، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " من قَالَ سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، كتب من الذَّاكِرِينَ الله كثيرا، وتحات عَنهُ خطاياه كَمَا يتحات الْوَرق عَن الشّجر، وَنظر الله إِلَيْهِ، وَمن نظر إِلَيْهِ (لم) يعذبه ". وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " أَيّمَا رجل أيقظ

{لَهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما (35) وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا} امْرَأَته من اللَّيْل، فقاما وتوضيا وصليا رَكْعَتَيْنِ، كتبا من الذَّاكِرِينَ الله كثيرا وَالذَّاكِرَات ". وَقَوله: {أعد لَهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما} أَي: مغْفرَة للذنوب، وَأَجرا عَظِيما: هُوَ الْجنَّة.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة} الْآيَة نزلت فِي شَأْن زَيْنَب بنت جحش وأخيها عبد الله بن جحش، وَكَانَا وَلَدي عمَّة رَسُول الله، وَهِي أُمَيْمَة بنت عبد الْمطلب، فَكَانَا من قبل الْأَب من بني أَسد من أَوْلَاد غنم بن دودان، فروى " أَن النَّبِي خطب زَيْنَب لزيد بن حَارِثَة مَوْلَاهُ، فَكرِهت ذَلِك، وَقَالَت: أَنا بنت عَمَّتك، أتزوجني من مَوْلَاك؟ ! وَكَذَلِكَ كره أَخُوهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن} أَي: عبد الله بن جحش {وَلَا مُؤمنَة} أَي: زَيْنَب ". وَقَوله: {إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا} أَي: أَرَادَ الله وَرَسُوله أمرا، وَذَلِكَ هُوَ نِكَاح زيد لِزَيْنَب.

{أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا (36) وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت أمسك عَلَيْك عَلَيْهِ زَوجك وَاتَّقِ الله وتخفي فِي} وَقَوله: {أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم} أَي: يكون لَهُم الِاخْتِيَار، وَالْمعْنَى: أَن يُرِيد غير مَا أَرَادَ الله، أَو يمْتَنع مِمَّا أَمر الله وَرَسُوله بِهِ. وَقَوله: {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد ضل ضلالا مُبينًا} أَي: أَخطَأ خطأ ظَاهرا؛ فَلَمَّا سمعا ذَلِك سلما الْأَمر، وَزوجهَا رَسُول الله من زيد بن حَارِثَة.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ} أَي: أنعم الله عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ. وَقَوله: {وأنعمت عَلَيْهِ} أَي: بِالْعِتْقِ، وَهُوَ زيد بن حَارِثَة، وَقد كَانَ جرى عَلَيْهِ سبي فِي الْجَاهِلِيَّة، فَاشْتَرَاهُ رَسُول الله وَأعْتقهُ وتبناه على عَادَة الْعَرَب. وَقَوله: {أمسك عَلَيْك زَوجك} أَي: امْرَأَتك، وَأما سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة: " أَن النَّبِي لما زوج زَيْنَب من زيد وَمَضَت على ذَلِك مُدَّة، دخل عَلَيْهَا رَسُول الله يَوْمًا فرآها قَائِمَة، وَكَانَت بَيْضَاء جميلَة ذَات خلق، وَهِي فِي درع وخمار، فَلَمَّا رَآهَا وَقعت فِي قلبه وَأَعْجَبهُ حسنها، وَقَالَ: سُبْحَانَ مُقَلِّب الْقُلُوب. وَسمعت ذَلِك زَيْنَب، وَخرج رَسُول الله وَفِي قلبه مَا شَاءَ الله، فَلَمَّا دخل عَلَيْهَا زيد ذكرت ذَلِك لَهُ ". وَفِي بعض التفاسير: " أَن زيدا جَاءَ يشكو زَيْنَب، وَكَانَت امْرَأَة لسنة، فَذهب رَسُول الله ليعظها، فَكَانَ الْأَمر على مَا ذكرنَا، ثمَّ إِن زيدا أَتَى رَسُول الله وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك سوء خلق زَيْنَب، وَإِن فِيهَا كبرا، وَإِنِّي أُرِيد أَن أطلقها، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: أمسك عَلَيْك زَوجك أَي امْرَأَتك وَاتَّقِ الله فِي أمرهَا ".

{نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا} وَقَوله: {وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه} قَالَ قَتَادَة: هُوَ محبته لَهَا. وَقَالَ الْحسن: ود النَّبِي طَلاقهَا وَلم يظهره. وَذكر عَليّ بن الْحُسَيْن أَن معنى الْآيَة: هُوَ أَن الله تَعَالَى كَانَ أخبرهُ أَن زيدا يطلقهَا وَهُوَ يتَزَوَّج بهَا، فَالَّذِي أخفاه هُوَ هَذَا، وَهَذَا القَوْل هُوَ الأولى وأليق بعصمة الْأَنْبِيَاء. وَمِنْهُم من قَالَ: الَّذِي أُخْفِي فِي نَفسه هُوَ أَنه لَو طَلقهَا زيد تزوج بهَا، وَهَذَا أَيْضا قَول حسن. وَقَوله: {وتخشى النَّاس} أَي: تَسْتَحي من النَّاس، وَيُقَال: تخشى مقَالَة النَّاس ولائمتهم، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّه تزوج بِامْرَأَة ابْنه. وَقَوله: {وَالله أَحَق أَن تخشاه} فَإِن قيل: هَذَا يدل على أَنه لم يخْش الله فِيمَا سبق مِنْهُ فِي هَذِه الْقِصَّة. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {وَالله أَحَق أَن تخشاه} ابْتِدَاء كَلَام فِي جَمِيع الْأَشْيَاء، وَقد أَمر الله تَعَالَى جَمِيع عباده بالخشية فِي عُمُوم الْأَحْوَال. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنَّك أضمرت شَيْئا وَلم تظهره، فَإِن خشيت الله تَعَالَى فِي إِظْهَاره فاخشه فِي إضماره. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه لَا خشيَة إِلَّا من الله فِيمَا تظهر و [إِلَّا] فِيمَا تضمر، فَلَا تراقب النَّاس. فَإِن قيل: إِذا كَانَ قد ود أَن يطلقهَا كَيفَ قَالَ أمسك عَلَيْك زَوجك؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَاك الود ود طبع وميل نفس، والبشر لَا يَخْلُو عَنهُ. وَأما قَوْله: {أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله} أَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِثْم فِيمَا يَقع فِي قلبه من غير اخْتِيَاره، وعَلى أَنا قد ذكرنَا سوى هَذَا من الْأَقْوَال، وَقد ثَبت بِرِوَايَة مَسْرُوق عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: " لَو كتم النَّبِي شَيْئا من الْوَحْي لكَتم هَذِه الْآيَة "، وروى أَنه لم تكن آيَة أَشد عَلَيْهِ من هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {فَلَمَّا قضي زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} فِي التَّفْسِير: أَن زيدا لما أخبر

بِالْأَمر طَلقهَا، وَقد ذكر بَعضهم: أَن النَّبِي تَركهَا حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا ثمَّ تزَوجهَا ". وَلَيْسَ فِي أَكثر التفاسير ذكر عدَّة، وَلَا ذكر تَزْوِيج من ولي، وَإِنَّمَا الْمَنْقُول أَن زيدا طَلقهَا، وَأَن الله زَوجهَا مِنْهُ، وَهُوَ ظَاهر. قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} وَقَوله: {وطرا} أَي: حَاجَة، وَهُوَ بُلُوغ مُنْتَهى مَا فِي النَّفس، قَالَ الشَّاعِر: (أَيهَا الرايح الْمجد ابتكارا ... قد قضى من تهَامَة الأوطار) وَقَالَ جرير: (وَبَان الخليط غَدَاة الجناب ... وَلم تقض نَفسك أوطارها) وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَن زَيْنَب كَانَت تفتخر على سَائِر زَوْجَات النَّبِي وَتقول: زوجكن أهلوكن، وزوجني الله من فَوق سبع سموات ". وروى " أَن النَّبِي لما أَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا بعث زيدا يخطبها، فَدخل عَلَيْهَا زيد وخطبها لرَسُول الله، فَقَالَت: حَتَّى أوآمر رَبِّي، وَقَامَت إِلَى مَسْجِدهَا، وَأنزل الله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} " وَهَذَا خبر مَعْرُوف، قَالَ أهل التَّفْسِير: " وَلما نزلت هَذِه الْآيَة جَاءَ رَسُول الله وَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر إِذن، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بالخبز وَاللَّحم ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس " أَن النَّبِي مَا أولم على أحد من نِسَائِهِ مَا أولم على زَيْنَب بنت جحش، أشْبع النَّاس من الْخبز وَاللَّحم ". وَمن فَضَائِل زَيْنَب " أَن النَّبِي قَالَ لنسائه عِنْد الْوَفَاة: " أَسْرَعكُنَّ بِي لُحُوقا أَطْوَلكُنَّ،

{زَوَّجْنَاكهَا لكَي لَا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم إِذا قضوا مِنْهُنَّ وطرا وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا (37) مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله لَهُ سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا (38) الَّذين يبلغون رسالات الله} يدا " فَكَانَت زَيْنَب أول من توفيت من أَزوَاج النَّبِي بعده، وَكَانَت امْرَأَة صناعًا، تكْثر الصَّدَقَة بكسب يَدهَا، فعرفوا أَن معنى طول الْيَد هُوَ كَثْرَة الصَّدَقَة ". وَهِي أَيْضا أول من اتخذ عَلَيْهَا النعش، فَإِنَّهُ روى أَنَّهَا لما مَاتَت فِي زمن عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَت امْرَأَة خَلِيقَة، كره عمر أَن تخرج كَمَا يخرج الرِّجَال؛ فَبعثت أَسمَاء بنت عُمَيْس النعش فَأمر عمر حَتَّى (اتخذ) ذَلِك، وأخرجت فِي النعش، وَقَالَ عمر: نعم خباء الظعينة هَذَا، فجرت السّنة على ذَلِك إِلَى يَوْمنَا هَذَا. قَالُوا: وَقد كَانَت أَسمَاء رَأَتْ ذَلِك بِالْحَبَشَةِ. وَقَوله: {لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج} أَي: إِثْم. وَقَوله: {فِي أَزوَاج أدعيائهم} أَي: فِي نسَاء يتبنونهم، وَقد كَانَت الْعَرَب تعد ذَلِك حَرَامًا، فنسخ الله التبني، وَأحل امْرَأَة (المتبنين) . وَقَوله: {إِذا قضوا مِنْهُنَّ وطرا} قد ذكرنَا. وَقَوله: {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا} أَي: كَانَ حكم الله نَافِذا لَا يرد.

38

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ على النَّبِي من حرج فِيمَا فرض الله} أَي: فِيمَا أحل الله. وَقَوله: { [لَهُ] سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل} أَي: كَسنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل، فَلَمَّا نزع (الْخَافِض انتصب) ، وَقيل: إِنَّه نصب على الإغراء كَأَنَّهُ قَالَ: الزموا سنة الله. أما قَوْله: {فِي الَّذين خلوا من قبل} أَي: دَاوُد وَسليمَان، فقد بَينا عدد مَا كَانَ

{ويخشونه وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله وَكفى بِاللَّه حسيبا (39) مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من} لداود وَسليمَان من النِّسَاء. وَذكر (بَعضهم) ، أَن المُرَاد من الْآيَة تَشْبِيه حَال النَّبِي بِحَال دَاوُد؛ فَإِن دَاوُد هوى امْرَأَة فَجمع الله بَينهمَا على وَجه الْحَلَال، وَكَذَلِكَ الرَّسُول هوى امْرَأَة فَجمع الله بَينهمَا على وَجه الْحَلَال. قَوْله: {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} أَي: قَضَاء مقضيا.

39

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يبلغون رسالات الله ويخشونه وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله} أَي: [خشيَة] تحول بَينهم وَبَين مَعْصِيَته، وَهَذَا هُوَ الخشية حَقِيقَة. وَقَوله: {وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله} أَي: غير الله، وَمَعْنَاهُ: أَنهم لَا يراقبون أحدا فِيمَا أحل لَهُم. وَفِي بعض (الْآثَار) : من لم يستح مِمَّا أحل الله لَهُ خفت مُؤْنَته. وَقَوله: {وَكفى بِاللَّه حسيبا} أَي: حَافِظًا، وَيُقَال: محاسبا، تَقول الْعَرَب: (أحسبني) الشَّيْء أَي: كفاني.

40

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من رجالكم} أَكثر الْمُفَسّرين أَن المُرَاد مِنْهُ زيد بن حَارِثَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ بِأبي زيد بن حَارِثَة، فَإِن قيل: أَلَيْسَ انه قد كَانَ لَهُ أَوْلَاد ذُكُور وإناث، وَكَذَلِكَ الْحسن وَالْحُسَيْن كَانَا ولديه. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ لِلْحسنِ بن عَليّ: " إِن ابْني هَذَا سيد يصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين ". وَفِيه إِشَارَة إِلَى الصُّلْح الَّذِي وَقع بَين أهل الْعرَاق وَأهل الشَّام حِين بَايع الْحسن مُعَاوِيَة وَسلم إِلَيْهِ الْأَمر، والقصة مَعْرُوفَة. وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن {رجالكم وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما (40) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرَة وَأَصِيلا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي} معنى قَوْله: {مَا كَانَ مُحَمَّد أَبَا أحد من رجالكم} أَي: أَبَا رجل لم يلده، وَلم يكن ولد زيد بن حَارِثَة؛ فَلم يكن أَبَاهُ، وَقد كَانَ لَهُ أَوْلَاد ذُكُور ولدهم وهم: الْقَاسِم، وَالطّيب، والطاهر، وَإِبْرَاهِيم رَضِي الله عَنْهُم وَجعل بَعضهم بدل الطَّاهِر المطهر. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنه قَالَ: {من رجالكم} وَهَؤُلَاء كَانُوا صغَارًا، وَالرِّجَال اسْم يتَنَاوَل الْبَالِغين. وروى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى لما حكم أَنه لَا نَبِي بعده لم يُعْطه ولدا ذكرا يصير رجلا، وَلَو أعطَاهُ ولدا ذكرا يصير رجلا لجعله نَبيا. وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء: لَيْسَ هَذَا بمستنكر، وَيجوز أَن يكون لَهُ ولد رجل وَلَا يكون نَبيا، وَمَا ذَكرْنَاهُ محكى عَن ابْن عَبَّاس، وَالله أعلم. وَقَوله: {وَلَكِن رَسُول الله وَخَاتم النَّبِيين} وَقُرِئَ: " خَاتم " بِنصب التَّاء، فَأَما قَوْله: {وَخَاتم النَّبِيين} بِالْفَتْح أَي: آخر النَّبِيين، وَأما بِالْكَسْرِ أَي: ختم بِهِ النَّبِيين. وَقَوله: {وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما} أَي: عَالما، وَقد ثَبت بِرِوَايَة جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي قَالَ: " مثلي وَمثل الْأَنْبِيَاء قبلي كَمثل رجل بنى دَارا فأكملها وأحسنها إِلَّا مَوضِع لبنة مِنْهَا، فَجعل كل من يدْخل الدَّار يَقُول: مَا أحْسنهَا وأكملها لَوْلَا مَوضِع اللبنة، فَأَنا اللبنة، وَلَا نَبِي بعدِي ". وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يبْعَث دجالون كذابون قَرِيبا من ثَلَاثِينَ، كلهم يزْعم أَنه نَبِي، وَلَا نَبِي بعدِي ".

41

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا الله ذكرا كثيرا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا:

{عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيما (43) } أَن المُرَاد بِالذكر الْكثير هُوَ الصَّلَوَات الْخمس، وَالثَّانِي: أَن المُرَاد بِالذكر الْكثير هُوَ التَّسْبِيح والتحميد والتهليل وَالتَّكْبِير وأشباهها، وَهَذِه الْأَذْكَار هِيَ الَّتِي لَا يمْنَع مِنْهَا مُسلم بجنابة وَلَا حدث وَلَا بِغَيْر ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: الذّكر الْكثير يكون بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الذّكر الَّذِي يستديم بِهِ طَاعَة الله، وَيَنْتَهِي بِهِ عَن مَعْصِيَته.

42

وَقَوله: {وسبحوه بكرَة وَأَصِيلا} أَي: صلوا لله بكرَة وَأَصِيلا، والأصيل: مَا بَين الْعَصْر وَالْمغْرب، وَيُقَال: صَلَاة الْأَصِيل هِيَ الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء الْآخِرَة.

43

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته} اخْتلفُوا فِي معنى (الصَّلَوَات) من الله تَعَالَى؛ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: هُوَ الثَّنَاء من الله على عباده، (وَعَن) بَعضهم: إِشَاعَة الذّكر الْجَمِيل لَهُم، وَأشهر الْأَقْوَال: ان الصَّلَاة من الله تَعَالَى بِمَعْنى الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة، وَأما صَلَاة الْمَلَائِكَة بِمَعْنى الاسْتِغْفَار للْمُؤْمِنين. وَذكر الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن بني إِسْرَائِيل قَالُوا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: أيصلي رَبك؟ فَذكر مُوسَى ذَلِك لله تَعَالَى؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: إِنِّي أُصَلِّي، وصلواتي أَن رَحْمَتي سبقت غَضَبي ". وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} قَالَت الصَّحَابَة: يَا رَسُول الله، هَذَا لَك! فَمَا لنا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلَائِكَته} . وَقَوله: {ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} أَي: من ظلمَة الضَّلَالَة إِلَى نور الْهِدَايَة، وَمن ظلمَة الْكفْر إِلَى نور الْإِيمَان، وَقيل: من ظلمَة النَّار إِلَى نور الْجنَّة. وَقَوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيما} يَعْنِي: لما حكم لَهُم من السَّعَادَة.

{تحيتهم يَوْم يلقونه سَلام وَأعد لَهُم أجرا كَرِيمًا (44) يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا (45) وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا (46) وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن}

44

قَوْله تَعَالَى: {تحيتهم يَوْم يلقونه سَلام} وَفِيه أَقْوَال: أَحدهَا: أَن معنى " يلقونه " أَي: يلقون الله تَعَالَى، وَالسَّلَام من الله تَعَالَى لَهُم إِثْبَات السَّلامَة الأبدية والأمن من الْآفَات. وَقيل: يسلم الله عَلَيْهِم تَسْلِيمًا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: " يلقونه " أَي: ملك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد وَردت الْكِنَايَة عَن غير مَذْكُور فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من الْقُرْآن. قَالَ الْبَراء بن عَازِب: مَا من مُؤمن إِلَّا وَيسلم عَلَيْهِ ملك الْمَوْت إِذا أَرَادَ قبض روحه. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد مِنْهُ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة، وَمَعْنَاهُ: أَنهم إِذا بعثوا سلم عَلَيْهِم مَلَائِكَة الله وبشروهم بِالْجنَّةِ. وَقَوله: {وَأعد لَهُم أجرا كَرِيمًا} أَي: الْجنَّة، وَاعْلَم أَنه قد ورد أَخْبَار فِي الْحَث على ذكر الله تَعَالَى؛ مِنْهَا مَا ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي، وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي ". وَقد ثَبت أَيْضا عَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: إِذا ذَكرنِي العَبْد فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي، وَإِن ذَكرنِي فِي مَلأ ذكرته فِي مَلأ خير مِنْهُم. . " الْخَبَر. وَفِي بعض المسانيد أَن النَّبِي قَالَ: " من عجز عَن اللَّيْل أَن يكابده، وَجبن عَن الْعَدو أَن يجاهده، وبخل بِالْمَالِ أَن يُنْفِقهُ، فَعَلَيهِ بِذكر الله تَعَالَى ".

45

{يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا} أَي: شَاهدا على إبلاغ الرُّسُل رِسَالَة رَبهم. وَقَوله: {وَمُبشرا} أَي: بِالْجنَّةِ، وَقَوله: {وَنَذِيرا} أَي: من النَّار.

{لَهُم من الله فضلا كَبِيرا (47) وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ ودع أذاهم وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا (48) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن من}

46

وَقَوله: {وداعيا إِلَى الله} أَي: إِلَى الْإِسْلَام. وَقيل: إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَوله: {بِإِذْنِهِ} أَي: بأَمْره. وَقَوله: {وسراجا منيرا} أَي: ذَا سراج مُنِير، والسراج الْمُنِير هُوَ الْقُرْآن. وَقيل: وسراجا هُوَ الرَّسُول؛ سَمَّاهُ سِرَاجًا لِأَنَّهُ يَهْتَدِي بِهِ كالسراج يستضاء بِهِ، قَالَ الشَّاعِر: (إِن الرَّسُول لنُور يستضاء بِهِ ... مهند من سيوف الله مسلول)

47

وَقَوله: {وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن لَهُم من الله فضلا كَبِيرا} روى أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} قَالَت الصَّحَابَة: يَا رَسُول الله، هَذَا لَك فَمَا لنا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن لَهُم من الله فضلا كَبِيرا} .

48

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ} الْكَافرين: أَبُو سُفْيَان، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَقد أَسْلمُوا من بعد وَأَبُو الْأَعْوَر السّلمِيّ، وَالْمُنَافِقِينَ: عبد الله بن أبي، وطعمة بن أُبَيْرِق، وَابْن (سفنة) ، وأشباههم. وَقَوله: {ودع أذاهم} قَالَ مُجَاهِد: اصبر على أذاهم، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نسختها آيَة السَّيْف. وَقَوله: {وتوكل على الله} أَي: ثق بِاللَّه. وَقَوله: {وفكى بِاللَّه وَكيلا} أَي: حَافِظًا.

49

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن الطَّلَاق لَا يجوز قبل النِّكَاح؛ لِأَنَّهُ رتب الطَّلَاق على النِّكَاح فَدلَّ [على] أَنه لَا يتقدمه، وَقد حكى هَذَا الْمَعْنى عَن ابْن عَبَّاس.

{قبل أَن تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49) يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك اللَّاتِي آتيت أُجُورهنَّ وَمَا ملكت يَمِينك مِمَّا} وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا طَلَاق قبل النِّكَاح " وَهَذَا يُقَوي مَا ذَكرْنَاهُ من الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ. وَقَوله: {من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها} فِي الْآيَة دَلِيل على أَنه لَو طلق قبل الدُّخُول لَا تجب الْعدة، وَأما إِذا خلا بِالْمَرْأَةِ ثمَّ طَلقهَا هَل تجب الْعدة؟ فِي الْمَسْأَلَة خلاف مَعْرُوف على مَا عرف. وَقَوله: {تعتدونها} أَي: تستوفون عدتهَا. وَقَوله: {فمتعوهن} قد بَينا الْمُتْعَة فِي سُورَة الْبَقَرَة. وَعَن بَعضهم: أَن هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرضتم} وَلِهَذَا وَجب نصف الْمَفْرُوض قبل الدُّخُول وَلم تجب الْمُتْعَة، وَإِنَّمَا تجب الْمُتْعَة للمطلقة الَّتِي لَا تجب لَهَا نصف الْمَفْرُوض. وَقَوله: {وسرحوهن سراحا جميلا} والتسريح الْجَمِيل هُوَ الطَّلَاق مَعَ قَضَاء الْحُقُوق.

50

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك اللَّاتِي آتيت أُجُورهنَّ} أَي: مهورهن. قَوْله: {وَمَا ملكت يَمِينك مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْك} أَي: أغنمك الله. وَيُقَال: رد الله عَلَيْك من الْكفَّار، وَمِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ صَفِيَّة بنت حييّ بن أَخطب وَجُوَيْرِية بنت أبي ضرار الْمُصْطَلِقِيَّة، وَقد كَانَت مَارِيَة مِمَّا ملكت يَمِينه، وَولد لَهُ مِنْهَا إِبْرَاهِيم ابْنه. وَقَوله: {وَبَنَات عمك} أَي: أَوْلَاد عبد الْمطلب.

{أَفَاء الله عَلَيْك وَبَنَات عمك وَبَنَات عَمَّاتك وَبَنَات خَالك وَبَنَات خَالَاتك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك من} وَقَوله: {وَبَنَات عَمَّاتك} أَي: من أَوْلَاد بَنَات عبد الْمطلب. وَقَوله: {وَبَنَات خَالك وَبَنَات خَالَاتك} أَي: من أَوْلَاد عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب. وَقَوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أسلمت مَعَك، فيقتضى أَن غير الْمسلمَة لَا تحل لَهُ وَإِن كَانَت يَهُودِيَّة أَو نَصْرَانِيَّة، وَهِي حَلَال لأمته. وَالْقَوْل الثَّانِي: هَاجَرْنَ مَعَك إِلَى الْمَدِينَة، فاقتضت الْآيَة أَن غير المهاجرة لَا تحل لَهُ؛ وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن غير المهاجرة لَا تحل لَهُ من الأجنبيات والقرابات. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن غير المهاجرة لَا تحل من الْقرَابَات واللاتي ذكرهن، فَأَما من الأجنبيات فحلال. وروى أَبُو صَالح عَن أم هَانِئ أَن رَسُول الله لما فتح مَكَّة خطبني، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فَلم أحل لَهُ لِأَنِّي لم أكن من الْمُهَاجِرَات، وَكنت من الطُّلَقَاء. وَأم هَانِئ أُخْت عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ. وَقَوله: {وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي} وَقُرِئَ: " إِن وهبت " بِالْفَتْح إِذْ بِالْكَسْرِ على الْعُمُوم، وبالفتح على امْرَأَة بِعَينهَا. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لم يكن مِمَّن أمْسكهَا النَّبِي من النِّسَاء أحد وهبت نَفسهَا. وَعَن غَيره أَن مَيْمُونَة بنت الْحَارِث كَانَت مِمَّن وهبت، وَمِمَّنْ وهبت نَفسهَا أم شريك، وَكَانَت امْرَأَة صَالِحَة. وروى أَنَّهَا عطشت فِي سفر، فَأنْزل الله تَعَالَى عَلَيْهَا دلوا من السَّمَاء، وعلقت عكة فارغة فَأصَاب فِيهَا سمنا، فَيُقَال: من آيَات الله عكة أم

{دون الْمُؤمنِينَ قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم وَمَا ملكت أَيْمَانهم لكيلا يكون} شريك، " وَقد كَانَ رَسُول الله عهدها جميلَة، فَسَأَلَ عَنْهَا يَوْم فتح مَكَّة فبلغها ذَلِك، فَجَاءَت ووهبت نَفسهَا للنَّبِي، فَلم يرهَا كَمَا عهدها فَتَركهَا ". وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن خَوْلَة بنت حَكِيم مِمَّن وهبت نَفسهَا للنَّبِي. وَعَن الشّعبِيّ: أَن الَّتِي وهبت نَفسهَا للنَّبِي زَيْنَب بنت خُزَيْمَة الْأَنْصَارِيَّة أم الْمَسَاكِين. وَقَوله: {إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها} أَي: يطْلب نِكَاحهَا. وَقَوله: {خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معني خَالِصَة: أَنَّهَا حَلَال لَك بِغَيْر صدَاق، وَلَا تحل لغيرك بِغَيْر صدَاق، وَهَذَا قَول عِكْرِمَة وَجَمَاعَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {خَالِصَة لَك} يَعْنِي: أَن جَوَاز النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة [خَالص] لَك، نسب هَذَا إِلَى الشَّافِعِي رَحمَه الله. وَقَوله: {قد علمنَا مَا فَرضنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم} أَي: أَوجَبْنَا عَلَيْهِم فِي أَزوَاجهم من الْأَحْكَام؛ وَالْأَحْكَام أَن النِّكَاح لَا يجوز إِلَّا بِشُهُود وَولي وصداق وفراغ عَن الْعدة وَأَشْبَاه ذَلِك. وَقَوله: {وَمَا ملكت أَيْمَانهم} أَي: وَمَا أَوجَبْنَا من الْأَحْكَام فِيمَا ملكت أَيْمَانهم. وَقَوله: ( {عَلَيْهِم و} أَيْمَانهم) ينْصَرف إِلَى الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {لكيلا يكون عَلَيْك حرج} أَي: ضيق. مَعْنَاهُ: وسعنا عَلَيْك الْأَمر لكَي لَا يكون عَلَيْك حرج.

{عَلَيْك حرج وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (50) ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء وَمن ابْتَغَيْت مِمَّن عزلت فَلَا جنَاح عَلَيْك ذَلِك أدنى أَن تقر أعينهن وَلَا يحزن ويرضين} وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} قد بَينا.

51

قَوْله تَعَالَى: {ترجى من تشَاء مِنْهُنَّ} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: تطلق من تشَاء مِنْهُنَّ، وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء أَي: تمسك من تشَاء مِنْهُنَّ، حُكيَ هَذَا عَن ابْن عَبَّاس. وَالْقَوْل الثَّانِي: ترجى من تشَاء مِنْهُنَّ: لَا تتزوجهن. وَقَوله: {وتؤوى إِلَيْك من تشَاء} أى: من تشَاء نِكَاحهنَّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: ترجى من تشَاء مِنْهُنَّ أَي: تؤخرهن فيخرجن من الْقسم. وَقَوله: {وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء} أَي: تدخلهن فِي الْقسم، وَهَذَا أشهر الْأَقَاوِيل، فَكَأَن الله تَعَالَى جوز أَن يقسم لمن شَاءَ، وَيتْرك من شَاءَ مِنْهُنَّ. ثمَّ اخْتلف القَوْل فِي أَنه هَل أخرج احدا مِنْهُنَّ عَن الْقسم؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه لم يخرج أحدا مِنْهُنَّ عَن الْقسم. وَالْقَوْل الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو رزين أَنه أخرج خَمْسَة وَقسم لأربعة، فالخمسة الَّتِي أخرجهن: سَوْدَة، وَأم حَبِيبَة، وَصفِيَّة، وَجُوَيْرِية، ومَيْمُونَة، وَأما اللَّاتِي قسم لَهُنَّ: فعائشة، وَحَفْصَة، وَأم سَلمَة، وَزَيْنَب، وَالْأَظْهَر هُوَ القَوْل الأول. وَقد روى " أَنه كَانَ فِي مرض مَوته يَدُور على نِسَائِهِ حَتَّى رضين بِأَن يمرض فِي بَيت عَائِشَة ". وَقَوله: {وَمن ابْتَغَيْت مِمَّن عزلت} أَي: مِمَّن رَأَيْت مِنْهُنَّ وَقد أخرتها {فَلَا جنَاح عَلَيْك} أَي: لَا إِثْم عَلَيْك. وَقَوله: {ذَلِك أدنى أَن تقر أعينهن وَلَا يحزن ويرضين بِمَا آتيتهن كُلهنَّ} مَعْنَاهُ: أَنَّهُنَّ إِذا علِمْنَ أَن هَذَا مِمَّا أنزل الله تَعَالَى كَانَ أطيب لأنفسهن، وَأَقل لحزنهن، وَأقرب إِلَى رضاهن. وَيُقَال: إِذا علِمْنَ أَن لَك أَن تؤوي من شِئْت، فَمن عزلت كَانَ أقرب إِلَى

{بِمَا آتيتهن كُلهنَّ وَالله يعلم مَا فِي قُلُوبكُمْ وَكَانَ الله عليما حَلِيمًا (51) لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا من أَن تبدل بِهن من أَزوَاج وَلَو أعْجبك حسنهنَّ إِلَّا مَا ملكت يَمِينك} مَا ذكرنَا. وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي أَرَادَ أَن يُطلق جمَاعَة من نِسَائِهِ، فَقُلْنَ لَهُ: اتركنا على حَالنَا، واقسم كَمَا شِئْت ". وَقَوله: {وَالله يعلم مَا فِي قُلُوبكُمْ وَكَانَ الله عليما حَلِيمًا} أَي: عليما بِأَمْر خلقه، حَلِيمًا عَن فعل خلقه.

52

قَوْله تَعَالَى: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} قد بَينا أَن الله تَعَالَى لما أَمر رَسُوله أَن يُخَيّر أَزوَاجه فاخترن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة؛ شكر لَهُنَّ اختيارهن وَحرم عَلَيْهِ مَا سواهن من النِّسَاء، وَنَهَاهُ عَن الِاسْتِبْدَال بِهن، ثمَّ اخْتلف القَوْل أَنه هَل أحل لَهُ النِّسَاء من بعد أَولا؟ فَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: " مَا توفّي رَسُول الله حَتَّى أحل لَهُ النِّسَاء ". وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْحُرْمَة بقيت إِلَى أَن توفّي النَّبِي. وَقَوله: {وَلَو أعْجبك حسنهنَّ} ظَاهر الْمَعْنى، وَفِي الْآيَة قَول آخر. وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل بِهن من أَزوَاج} أَي: لَيْسَ لَك أَن تخْتَار غير المسلمات على المسلمات، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج يَهُودِيَّة وَلَا نَصْرَانِيَّة. وَفِي بعض التفاسير: أَن الَّتِي أَعْجَبته هِيَ أَسمَاء بنت عُمَيْس الخثعمية، وَكَانَت عِنْد جَعْفَر بن أبي طَالب، فَلَمَّا اسْتشْهد عَنْهَا أَرَادَ النَّبِي أَن يخطبها، فَنهى عَن ذَلِك. وَقَوله: {إِلَّا مَا ملكت يَمِينك} يَعْنِي: سوى مَا ملكت يَمِينك، وَقَوله {وَكَانَ الله على كل شَيْء وقيبا} أَي: حفيظا.

{وَكَانَ الله على كل شَيْء رقيبا (52) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم إِلَى طَعَام غير ناظرين إناه وَلَكِن إِذا دعيتم فادخلوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا وَلَا}

53

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي} سَبَب نزُول الْآيَة: مَا روى أَن الصَّحَابَة كَانُوا يدْخلُونَ بيُوت النَّبِي بِغَيْر إِذن، وينتظرون إِدْرَاك الطَّعَام، فَإِذا فرغوا من الطَّعَام جَلَسُوا يتحدثون وأطالوا الْجُلُوس، وَكَانَ النَّبِي يتَأَذَّى بهم ويستحي مِنْهُم؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وعلمهم هَذَا الْأَدَب بَينهم وَبَين النَّبِي. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس " أَن النَّبِي أَو لم على زَيْنَب بنت جحش ودعا أَصْحَابه، فَلَمَّا فرغوا وَخَرجُوا، جلس رجلَانِ يتحدثان، وَأحب النَّبِي أَن يخرجَا فيخلوا بأَهْله فَلم يخرجَا ". وَفِي رِوَايَة: أَنه خرج مَرَّات ليتبعاه فَلم يخرجَا أَيْضا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَن نسَاء النَّبِي لم يكن يحتجبن عَن الرِّجَال على عَادَة الْعَرَب، وَكَانَ عمر يَقُول: يَا رَسُول الله، احجب نِسَاءَك؛ فَإِنَّهُ يدْخل عَلَيْك الْبر والفاجر؛ وَكَانَ النِّسَاء يتزرن بِاللَّيْلِ، ويخرجن إِلَى المناصع لحاجتهن، فَخرجت سَوْدَة لَيْلَة وَكَانَت امْرَأَة طَوِيلَة، فَقَالَ عمر: قد عرفناك يَا سَوْدَة، وَرفع صَوته حرصا على أَن ينزل الْحجاب، فَأنْزل الله تَعَالَى آيَة الْحجاب ". وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا " أَن النَّبِي كَانَ يَأْكُل مَعَ عَائِشَة حَيْسًا، فَمر عمر فَدَعَاهُ فَجعل يَأْكُل مَعَهُمَا، فَوَقع أُصْبُعه على أصْبع عَائِشَة، فَقَالَ عمر: حس لَو أطَاع فيكُن [مَا رَأَتْكُنَّ] عين، فأنزلت آيَة الْحجاب ".

{مستئنسين لحَدِيث إِن ذَلِكُم كَانَ يُؤْذِي النَّبِي فيستحي مِنْكُم وَالله لَا يستحي من الْحق وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وَمَا كَانَ} وَقَوله: {غير ناظرين إناه} أَي: إِدْرَاكه ونضجه، قَالَ الشَّاعِر: (تمخضت الْمنون لَهُ بِيَوْم ... أَنى وَلكُل حاملة تَمام) وَقَوله: {وَلَكِن إِذا دعيتم فادخلوا} وَقَوله: {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره: نزلت الْآيَة فِي الثُّقَلَاء. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: من عرف أَنه ثقيل فَلَيْسَ بثقيل. وَقَوله: {وَلَا مستأنسين لحَدِيث} أَي: لَا يقعدوا فِي بَيت النَّبِي بعد الْفَرَاغ من الطَّعَام يتحدثون مستأنسين بِالْحَدِيثِ. وَقَوله: {إِن ذَلِكُم كَانَ يُؤْذِي النَّبِي فيستحي مِنْكُم} أَي: يستحي من إخراجكم. وَقَوله: {وَالله لَا يستحي من الْحق} أَي: لَا يتْرك بَيَان الْحق [وَذكره] حَيَاء. وَقَوله: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعا} أَي: حَاجَة. وَقَوله: {فَاسْأَلُوهُنَّ من وَرَاء حجاب} أَي: من وَرَاء ستر. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يكن يحل بعد آيَة الْحجاب لأحد أَن ينظر إِلَى امْرَأَة من نسَاء النَّبِي، منتقبة كَانَت أَو غير منتقبة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {من وَرَاء حجاب} وروى أَن عَائِشَة كَانَت إِذا طافت ستروا وَرَاءَهَا. وَقَوله: {ذَلِكُم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} أَي: أطهر من الريب. وَقَوله: {وَمَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله} قَالَ أهل التَّفْسِير: لما نزلت آيَة الْحجاب وَمنع الرِّجَال من الدُّخُول فِي بيُوت النَّبِي، قَالَ رجل من الصَّحَابَة: مَا بالنا نمْنَع من الدُّخُول على بَنَات أعمامنا، وَالله لَئِن حدث أَمر لأَتَزَوَّجَن عَائِشَة، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْقَائِل لهَذَا طَلْحَة بن عبيد الله، وَكَانَ من رَهْط أبي بكر الصّديق.

{لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا أَن ذَلِكُم كَانَ عِنْد الله عَظِيما (53) إِن تبدوا شَيْئا أَو تُخْفُوهُ فَإِن الله كَانَ بِكُل شَيْء عليما (54) لَا جنَاح} وَكَانَ ذَلِك القَوْل زلَّة مِنْهُ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى [قَوْله هَذَا] : {وَمَا كَانَ لكم أَن تُؤْذُوا رَسُول الله} . وَقَوله: {وَلَا أَن تنْكِحُوا أَزوَاجه من بعده أبدا إِن ذَلِكُم كَانَ عِنْد الله عَظِيما} أَي: ذَنبا عَظِيما.

54

قَوْله تَعَالَى: {إِن تبدوا شَيْئا أَو تُخْفُوهُ} وَالَّذِي أبدى وأظهرهو قَول ذَلِك الْقَائِل: مَا بالنا نمْنَع من الدُّخُول على بَنَات أعمامنا. وَقَوله: {أَو تُخْفُوهُ} وَالَّذِي أُخْفِي هُوَ إضماره نِكَاح عَائِشَة بعد النَّبِي، وروى أَنه لم يقل هَذَا، وَلكنه أضمر. وَقَوله: {فَإِن الله كَانَ بِكُل شَيْء عليما} أَي: عَالما. فِي تَفْسِير النقاش: أَن النَّبِي خطب بعد نزُول هَذِه الْآيَة، وَقَالَ: " أَيهَا النَّاس، إِن الله فضلني على سَائِر الرِّجَال، وَفضل نسَائِي على سَائِر النِّسَاء، وَإِن الله حرمهن عَلَيْكُم وجعلهن كأمهاتكم، فَلَا تَعْتَدوا حُدُوده فسيحتكم بِعَذَاب أَلِيم، أَلا وَإِن صفوتي من نسَائِي عَائِشَة بنت أبي بكر إِلَّا مَا كَانَ من خَدِيجَة بنت خويلد، وَإِن فَاطِمَة سيدة نسَاء الْعَالمين إِلَّا مَا كَانَ من مَرْيَم بنت عمرَان، وَالْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا سيدا شباب أهل الْجنَّة، وَإِن أَبَا بكر وَعمر سيدا كهول أهل الْجنَّة مَا خلا النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ ".

55

قَوْله تَعَالَى: {لَا جنَاح عَلَيْهِنَّ فِي آبائهن} الْآيَة. روى أَن الْآيَة الأولى لما نزلت قَامَ الْآبَاء وَالْأَبْنَاء، فَقَالُوا: مَا حَالنَا يَا رَسُول الله أندخل عَلَيْهِنَّ أم لَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {لَا جنَاح عَلَيْهِنَّ} أَي: لَا إِثْم عَلَيْهِنَّ {فِي آبائهن وَلَا أبنائهن، وَلَا إخوانهن وَلَا أَبنَاء إخوانهن وَلَا أَبنَاء أخواتهن} فَإِن قيل: لم يذكر الْأَعْمَام، وبالإجماع يجوز للأعمام أَن يدخلُوا عَلَيْهِنَّ، إِنَّه قد قَالَ: {فِي آبائهن} وَقد دخل الْأَعْمَام فِي جملَة

{عَلَيْهِنَّ فِي آبائهن وَلَا أبنائهن وَلَا إخوانهن وَلَا أَبنَاء إخوانهن وَلَا أَبنَاء أخواتهن وَلَا نسائهن وَلَا مَا ملكت أيمانهن واتقين الله إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا (55) إِن} الْآبَاء وَقد سمى الله تَعَالَى الْعم أَبَا فِي الْقُرْآن، قَالَ الله تَعَالَى حاكيا عَن الأسباط أَنهم قَالُوا ليعقوب: {نعْبد إلهك وإله آبَائِك إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق} وَقد كَانَ إِسْمَاعِيل عَم يَعْقُوب. وَقَوله: {وَلَا نسائهن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من نسائهن المسلمات، فعلى هَذَا القَوْل لم يكن يجوز لليهوديات والنصرانيات الدُّخُول عَلَيْهِنَّ. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَلَا نسائهن} عَام فِي المسلمات وَغير المسلمات، فعلى هَذَا القَوْل إِنَّمَا قَالَ: {وَلَا نسائهن} لِأَنَّهُنَّ من أجناسهن، وعَلى القَوْل الأول قَالَ: {وَلَا نساءهن} لِأَن نسائهن المسلمات دون غير المسلمات. وَقَوله: {وَلَا مَا ملكت أيمانهن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَا ملكت أيمانهن هن الْإِمَاء، قَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا يَغُرنكُمْ قَوْله: {وَلَا مَا ملكت أيمانهن} فَإِنَّمَا المُرَاد مِنْهُ الْإِمَاء دون العبيد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد مِنْهُ العبيد وَالْإِمَاء. وَاخْتلف القَوْل أَن العبيد إِلَى مَاذَا يحل لَهُم النّظر على هَذَا القَوْل؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه يحل لَهُم النّظر إِلَى مَا يحل للمحارم. وَالْقَوْل الآخر: أَنه يحل [النّظر] إِلَى مَا يَبْدُو فِي الْعَادة من الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ والقدمين، وَلَا يحل النّظر إِلَى مَا سوى ذَلِك، هَذَا هُوَ الْأَحْوَط. وَقَوله: {واتقين الله} هَذَا خطاب لِأَزْوَاج النَّبِي حَتَّى لَا يبرزن وَلَا يكشفن السّتْر عَن أَنْفسهنَّ. وَقَوله: {إِن الله كَانَ على كل شَيْء شَهِيدا} أَي: شَاهدا.

{الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا (56) إِن}

56

وَقَوله تَعَالَى: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} الصَّلَاة من الله بِمَعْنى الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة، وَالْمَلَائِكَة وَالْمُؤمنِينَ بِمَعْنى الدُّعَاء. قَالَ ثَعْلَب: قَول الْقَائِل: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد أى: زده بركَة وَرَحْمَة، وأصل الصَّلَاة فِي اللُّغَة الدُّعَاء، وَقد بَينا من قبل. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: ((صلى على مرّة صلى الله عَلَيْهِ عشرا)) . وَفِي بعض الْأَخْبَار: ((أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لما نزل بِهَذَا سجد الرَّسُول الله شكرا)) . وَقد ثَبت بِرِوَايَة كَعْب بن عجْرَة أَنه قَالَ: يارسول الله، قد عرفنَا السَّلَام عَلَيْك، فَكيف نصلي عَلَيْك؟ فَقَالَ: ((قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم إِنَّك حميد مجيد)) . وَعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِذا صليتم على رَسُول الله فَأحْسنُوا الصَّلَاة عَلَيْهِ؛ فلعلها تعرض عَلَيْهِ؛ قَالُوا لَهُ: فَعلمنَا. قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد عَبدك وَنَبِيك، سيد الْمُرْسلين، وَإِمَام الْمُتَّقِينَ، وَخَاتم النَّبِيين، إِمَام الْخَيْر، وقائد الْخَيْر، وَرَسُول الرَّحْمَة، اللَّهُمَّ ابعثه الْمقَام الْمَحْمُود الَّذِي يغبطه بِهِ الْأَولونَ {الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأعد لَهُم عذَابا مهينا} وَالْآخرُونَ. وروى الْأَصْمَعِي قَالَ: سَمِعت الْمهْدي وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن جَعْفَر المنصوري على مِنْبَر الْبَصْرَة يَقُول: إِن الله تَعَالَى أَمركُم بِأَمْر بَدَأَ فِيهِ بِنَفسِهِ، وثنى بملائكته، فَقَالَ: {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} . وَأما السَّلَام على الرَّسُول فَهُوَ أَن تَقول: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، هَذَا فِي حق أَصْحَاب رَسُول الله، وَكَانَت السّنة لَهُم أَن يواجهوا الرَّسُول على هَذَا الْوَجْه، فَأَما فِي حق سَائِر الْمُؤمنِينَ فَفِي التَّشَهُّد يَقُول على مَا هُوَ الْمَعْرُوف. وَقد ذكر بعض الْعلمَاء أَنه يَقُول فِي التَّشَهُّد: السَّلَام على النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. وَلَا يَقُول: عَلَيْك. وَالصَّحِيح مَا بَينا، وَإِنَّمَا خَارج الْمصلى، فَإِنَّهُ يَقُول: السَّلَام على النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. ويستدل بِهَذِهِ الْآيَة فِي وجوب الصَّلَاة على النَّبِي إِذا صلى، على مَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله وَوجه الِاسْتِدْلَال: أَن الله تَعَالَى أمرنَا بِالصَّلَاةِ على النَّبِي، وَأولى مَوضِع بِوُجُوب الصَّلَاة فِيهِ هُوَ الصَّلَاة. فَوَجَبَ فِي الصَّلَاة، أَن يُصَلِّي على رَسُول الله.

57

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} قد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: يَشْتمنِي عَبدِي، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يَشْتمنِي، ويكذبني عَبدِي، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يكذبنِي. أما شَتمه إيَّايَ هُوَ أَن يزْعم أَنِّي اتَّخذت ولدا. وَأما تَكْذِيبه إيَّايَ هُوَ أَنه يزْعم أَنِّي لن أُعِيد خلقي، وَأَنا المبدئ المعيد ".

{وَالَّذين يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْر مَا اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مُبينًا (58) يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} وَقَالَ بَعضهم: {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} أَي: أَوْلِيَاء الله. وَأَصَح الْقَوْلَيْنِ أَن قَوْله: {يُؤْذونَ الله} على طَرِيق الْمجَاز، وَأما على الْحَقِيقَة فَلَا يلْحقهُ أَذَى من قبل أحد. وَقَوله: {لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} أَي: طردهم وأبعدهم من رَحمته. وَقَوله: {وَأعد لَهُم عذَابا مهينا} أَي: يهينهم ويخزيهم.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْر مَا اكتسبوا} أَي: يقعون فيهم، ويعيبونهم بِغَيْر جرم وجد من قبلهم. وَذكر [هُنَا] مقَاتل أَن الْآيَة نزلت فِي قوم كَانُوا يُؤْذونَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَذكر الْكَلْبِيّ أَن الْآيَة نزلت فِي قوم من الْمُنَافِقين كَانُوا يَمْشُونَ فِي الطَّرِيق ويغمزون النِّسَاء. وَقَوله: {فقد احتملوا بهتانا وإثما مُبينًا} ظَاهر الْمَعْنى.

59

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك وبناتك وَنسَاء الْمُؤمنِينَ يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} ذكر الْمُفَسِّرُونَ أَن الْمَدِينَة كَانَت ضيقَة الْمنَازل، وَكَانَ النِّسَاء يخْرجن إِلَى الْبَوَار بالليالي لقَضَاء الْحَاجَات، وَكَانَ قوم من الْمُنَافِقين والفاسقين يرصدونهن ويتعرضون لَهُنَّ، فَمن كَانَت عفيفة مِنْهُنَّ صاحت وتركوها، وَمن كَانَت غير عفيفة أعطوها شَيْئا وواقعوها. وَفِي رِوَايَة: أَنهم كَانُوا يتعرضون للإماء، وَلَا يتعرضون للحرائر، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله تَعَالَى: {يدنين عَلَيْهِنَّ من جلابيبهن} أَي: يشتملن بالجلابيب، والجلباب

{ذَلِك أدنى أَن يعرفن فَلَا يؤذين وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (59) لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة لنغرينك بهم ثمَّ لَا يجاورونك فِيهَا إِلَّا} هُوَ الرِّدَاء، وَهُوَ الملاءة الَّتِي تشْتَمل بهَا الْمَرْأَة فَوق الدرْع والخمار. قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: تتغطى الْمَرْأَة بجلبابها فتستر رَأسهَا ووجهها وَجَمِيع بدنهَا إِلَّا إِحْدَى عينيها. وروى أَن الله تَعَالَى لما أنزل هَذِه الْآيَة اتخذ نسَاء الْأَنْصَار أكيسة سَوْدَاء واشتملن بهَا فخرجن كَأَن رءوسهن الْغرْبَان. وَقَوله: {ذَلِك أدنى أَن يعرفن فَلَا يؤذين} أَي: يعرفن أَنَّهُنَّ حرائر {فَلَا يؤذين} أَي: لَا يتَعَرَّض لَهُنَّ. وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} قد بَينا من قبل. وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا رأى أمة قد تقنعت وتجلببت علاها بِالدرةِ، وَيَقُول: أتتشبهين بالحرائر.

60

قَوْله تَعَالَى: {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض} أَي: شَهْوَة الزِّنَا. وَقَوله: {والمرجفون فِي الْمَدِينَة} قد كَانَ قوم من الْمُنَافِقين يكثرون الأراجيف، وَكَانَ إِذا خرجت سَرِيَّة أَو غَازِيَة، قَالُوا: قد هزموا وَقتلُوا، ويوقعون بَين الْمُسلمين أَمْثَال هَذِه الْأَشْيَاء؛ لتضعف قُلُوبهم ويحزنوا. وَقَوله: {لنغرينك بهم} أَي: نسلطنك عَلَيْهِم، ونحملنك على قَتلهمْ. وَفِي بعض التفاسير: أَن قوما منن الْمُنَافِقين هموا بِإِظْهَار الْكفْر، فَأمر الله تَعَالَى رَسُوله أَن يقتلهُمْ إِذا أظهرُوا. وَقَالَ السّديّ: من تتبع امْرَأَة فِي طَرِيق وكابرها قتل مُحصنا كَانَ أَو غير مُحصن لهَذِهِ الْآيَة.

(قَلِيلا (60) ملعونين أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا (61) سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا (62) يَسْأَلك النَّاس عَن السَّاعَة قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا (63) إِن الله لعن الْكَافرين وَأعد لَهُم سعيرا) وَقَوله: {ثمَّ لَا يجاورونك فِيهَا} أَي: فِي الْمَدِينَة. وَقَوله: {إِلَّا قَلِيلا} أَي: إِلَّا وقتا قَلِيلا.

61

قَوْله تَعَالَى: {ملعونين} وَهُوَ نصب على الْحَال. وَقَوله: {أَيْنَمَا ثقففوا} مَعْنَاهُ: أَيْنَمَا صدفوا ووجدوا. وَقَوله: {أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا} فَقَوله: قتلوا تقتيلا، قَالَ السّديّ: (مَا قَالَ)

62

قَوْله تَعَالَى: {سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل} وفعلوا مثل هَذَا الْفِعْل. وَقَوله: {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} أَي: تغييرا.

63

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلك النَّاس عَن السَّاعَة} أَي: مَتى قِيَامهَا. وَقَوله: {قل إِنَّمَا علمهَا عِنْد الله} أَي: علم قِيَامهَا عِنْد الله. وَقَوله: {وَمَا يدْريك} أَي: وَمَا يعلمك؟ أَي: لَا تعلم وَقت قِيَامهَا. وَقَوله: {لَعَلَّ السَّاعَة تكون قَرِيبا} أَي: قريبَة.

64

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لعن الْكَافرين} أَي: أبعدهم عَن الرَّحْمَة، وطردهم من الْخيرَات. وَقَوله: {وَأعد لَهُم سعيرا} أَي: نَارا مسعرة.

65

وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا أبدا} قد بَينا. قَوْله تَعَالَى: { [لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا]

66

يَوْم تقلب وُجُوههم فِي النَّار) أَي:

( {64) خَالِدين فِيهَا أبدا لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْم تقلب وُجُوههم فِي النَّار يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرسولا (66) وَقَالُوا رَبنَا إِنَّا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا فأضلوا السبيلا (67) رَبنَا آتهم ضعفين من الْعَذَاب والعنهم لعنا كَبِيرا (68) يَا أَيهَا} يسْحَبُونَ على وُجُوههم فِي النَّار. وَقَوله: {يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرسولا} أَي: الرَّسُول، وَذكر الرسولا على مُوَافقَة رُءُوس الْآي على مَا بَينا من قبل.

67

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبنَا إِنَّا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا} وَقُرِئَ: " سَادَاتنَا "، وَقَوله: {وكبراءنا} هم الْأَشْرَاف ورءوس النَّاس. قَوْله: {فأضلونا السبيلا} أَي: السَّبِيل، وَمَعْنَاهُ: صدونا عَن طَرِيق الْحق.

68

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا آتهم ضعفين من الْعَذَاب} أَي: عذبهم ضعْفي عَذَاب غَيرهم. وَقيل: عذبهم عَذَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالْأول أولى. وَقَوله: {والعنهم لعنا كَبِيرا} أَي: مرّة بعد مرّة، وَقُرِئَ: " كثيرا " بالثاء، وَالْمعْنَى وَاحِد.

69

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} مَعْنَاهُ: لَا تُؤْذُوا مُحَمَّدًا فتكونوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى، وَفِيمَا أوذي بِهِ الرَّسُول قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم آذوه فِي أَمر زيد بن حَارِثَة ونكاحه زَيْنَب. وَالثَّانِي: مَا روى أَنه قسم غنيمَة فَقَامَ رجل وَقَالَ: اعْدِلْ، فَإنَّك لم تعدل، فَقَالَ النَّبِي: " رحم الله مُوسَى؛ لقد أوذي بِأَكْثَرَ من هَذَا فَصَبر ". وَأما الَّذِي أوذي بِهِ مُوسَى فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير مَا روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " كَانَ مُوسَى رجلا حييا، وَكَانَ لَا يغْتَسل إِلَّا وَحده، وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل يغتسلون عُرَاة ينظر بَعضهم إِلَى (عَورَة

{الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى فبرأه الله مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْد الله وجيها (69) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أَعمالكُم} الْبَعْض) ، فَقَالُوا: إِن مُوسَى لَا يغْتَسل إِلَّا وَحده؛ لِأَن بِهِ آفَة، وَقَالُوا: إِنَّه آدر، فاغتسل مُوسَى مرّة وَوضع ثَوْبه على حجر، فَعدا الْحجر بِثَوْبِهِ، فَأخذ مُوسَى الْعَصَا وَجعل يَقُول: ثوبي يَا حجر، ثوبي يَا حجر، حَتَّى مر على مَلأ من بني إِسْرَائِيل فنظروا إِلَيْهِ وَلم يرَوا بِهِ بَأْسا، وَقَامَ الْحجر فَطَفِقَ يضْربهُ بالعصا ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله: " وَكَأَنِّي بِالْحجرِ ندبا من أثر ضربه أَرْبعا أَو خمْسا ". وَالْخَبَر فِي الصَّحِيحَيْنِ ". وَفِي الْخَبَر: " أَن الله تَعَالَى أنزل فِي هَذَا قَوْله [تَعَالَى] : {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} الْآيَة. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن الْحجر قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى، لم تضربني، إِنَّمَا أَنا عبد مَأْمُور. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: مَا روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: صعد هَارُون ومُوسَى الْجَبَل، فَمَاتَ هَارُون وَنزل مُوسَى وَحده، فَقَالَت لَهُ بَنو إِسْرَائِيل: أَنْت قتلت هَارُون، وَقد كَانَ أَلين جانبا مِنْك وَأحب إِلَيْنَا، فَبعث الله الْمَلَائِكَة حَتَّى حملُوا هَارُون مَيتا إِلَيْهِم، وَتَكَلَّمُوا بِمَوْتِهِ حَتَّى سمعُوا بني إِسْرَائِيل ذَلِك، ثمَّ إِن الْمَلَائِكَة حملُوا هَارُون ودفنوه فَلم يعرف أحد مَوضِع قَبره إِلَّا الرخم، فَجعله الله تَعَالَى أَصمّ أبكم. وَقَوله: {فبرأه الله مِمَّا قَالُوا} أَي: طهره الله مِمَّا قَالُوا. وَقَوله: {وَكَانَ عِنْد الله وجيها} أَي: بتكليمه إِيَّاه، والوجيه فِي اللُّغَة هُوَ ذُو الجاه.

70

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا} أَي: صَوَابا،

{وَيغْفر لكم ذنوبكم وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما (71) إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة} وَيُقَال: صدقا. وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَالَ بَعضهم: سديدا، أَي: مُسْتَقِيمًا، يُقَال: سدد أَي: اسْتَقِم، قَالَ زُهَيْر: (فَقلت لَهُ سدد وَأبْصر طَرِيقه ... وَمَا هُوَ فِيهِ عَن وصاتي شاغله) أَي: عَن وصيتي، وَقَالَ بَعضهم: قولا سديدا أَي: قولا يُوَافق بَاطِنه ظَاهره.

71

وَقَوله: {يصلح لكم أَعمالكُم} أَي: يزك لكم أَعمالكُم. وَقيل: يصلح لكم أَعمالكُم: يتَقَبَّل مِنْكُم الْحَسَنَات. وَقَوله: {وَيغْفر لكم ذنوبكم} أَي: يَسْتُرهَا ويعف عَنْهَا. وَقَوله: {وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما} أَي: ظفر بِالْخَيرِ كُله.

72

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَمَانَة الْفَرَائِض. وَقَالَ الضَّحَّاك: الطَّاعَة. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي: مَا أَمر بِهِ وَنهى عَنهُ. وَقَالَ أبي بن كَعْب: الْأَمَانَة هَا هُنَا حفظ الْفرج. وَأولى الْأَقَاوِيل مَا ذكرنَا عَن ابْن عَبَّاس، وَقَول الضَّحَّاك وَأبي الْعَالِيَة قريب من ذَلِك. وَفِي بعض التفاسير: أَن أول مَا خلق الله تَعَالَى من ابْن آدم فرجه وأتمنه عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِن حفظته حفظتك. وَعَن أبي حَمْزَة السكرِي أَنه قَالَ: إِنِّي أعلم من نَفسِي أَنِّي أؤدي الْأَمَانَة فِي مائَة ألف دِينَار، وَمِائَة ألف دِينَار، وَمِائَة ألف دِينَار إِلَى أَن يَنْقَطِع النَّفس، وَلَو باتت عِنْدِي امْرَأَة وأتمنت عَلَيْهَا خفت أَلا أسلم مِنْهَا. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: من الْأَمَانَة أَدَاء الصَّلَاة، وإيتاء الزَّكَاة، وَصَوْم رَمَضَان، وَحج الْبَيْت، والصدق فِي الحَدِيث، وَقَضَاء الدّين، وَالْعدْل فِي المكاييل والموازين، قَالَ: وَأَشد من هَذَا كُله الودائع. وَهَذَا القَوْل قريب من قَول ابْن عَبَّاس.

{على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه} وَقَالَ أهل الْعلم: الْأَمَانَة قطب الْإِيمَان، قَالَ النَّبِي: " لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ ". وَمن الْأَمَانَة أَن يكون الْبَاطِن مُوَافقا للظَّاهِر، فَكل من عمل عملا يُخَالف عقيدته فقد خَان الله وَرَسُوله. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تخونوا الله وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم} نزلت فِي أبي لبَابَة بن عبد الْمُنْذر، وَقد كَانَ وضع أُصْبُعه على حلقه، يُشِير إِلَى بني النَّضِير إِنَّكُم إِن نزلتم فَهُوَ الذّبْح، وَقد بَينا. وَقَوله: {على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال} فِيهِ أَقْوَال: الأول: وَهُوَ قَول أَكثر السّلف، وَهُوَ المحكي عَن ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة التَّابِعين: هُوَ أَن الله تَعَالَى عرض أوامره على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال عرض تَخْيِير لَا عرض إِلْزَام، وَقَالَ لَهُنَّ: أتحملن هَذِه الْأَمَانَة بِمَا فِيهَا؟ قُلْنَ: وَمَا فِيهَا؟ ! فَقَالَ: إِن أحسنتن جوزيتن، وَإِن عصيتن عوقبتن، فَقُلْنَ: لَا نتحمل الْأَمَانَة، وَلَا نُرِيد ثَوابًا وَلَا عقَابا، وعرضها على آدم فتحملها بِمَا فِيهَا. وَفِي بعض التفاسير: أَنه قَالَ: بَين أُذُنِي وعاتقي. قَالَ ابْن جريج: عرض على السَّمَاء، فَقَالَت: يَا رب، خلقتني وجعلتني سقفا مَحْفُوظًا، وأجريت فِي الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم، وَمَالِي قُوَّة لحمل الْأَمَانَة، ثمَّ عرضهَا على الأَرْض، فَقَالَت: يَا رب، خلقتني وجعلتني بساطا ممدودا، وأجريت فِي الْأَنْهَار، وَأنْبت فِي الْأَشْجَار، وَمَا لي قُوَّة لحمل الْأَمَانَة، وَذكر عَن الْجبَال قَرِيبا من هَذَا، وجملها آدم وَأَوْلَاده. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: أَبَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال أَن يحملوا الْأَمَانَة، وجملها آدم فَمَا كَانَ بَين أَن حملهَا وخان فِيهَا وَأخرج من الْجنَّة إِلَّا مَا بَين الظّهْر وَالْعصر. وَحكى النقاش بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: مثلت الْأَمَانَة كصخرة ملقاة،

{كَانَ ظلوما جهولا (72) ليعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات} ودعيت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال إِلَيْهَا فَلم يقربُوا مِنْهَا، وَقَالُوا: لَا نطيق حملهَا، وَجَاء آدم من غير أَن يَدعِي وحرك الصَّخْرَة، وَقَالَ: لَو أمرت بحملها. فَقُلْنَ لَهُ: احْمِلْ، فحملها إِلَى رُكْبَتَيْهِ ثمَّ وَضعهَا وَقَالَ: وَالله لَو أردْت أَن أزداد لزدت فَقُلْنَ: احْمِلْ، فحملها حَتَّى بلغ حقوه ثمَّ وَضعهَا وَقَالَ: وَالله لَو أردْت أَن أزداد لزدت، فَقُلْنَ: احْمِلْ، فحملها حَتَّى وضع على عَاتِقه، وَأَرَادَ أَن يَضَعهَا، فَقَالَ الله تَعَالَى: مَكَانك، فَهِيَ فِي عُنُقك وعنق ذريتك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عرضهَا على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال، وَهِي لَا تعقل شَيْئا؟ قُلْنَا: قد بَينا الْجَواب عَن أَمْثَال هَذَا من قبل. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: يحْتَمل أَن الله تَعَالَى خلق فِيهَا عقلا وتمييزا حِين عرض الْأَمَانَة عَلَيْهِنَّ حَتَّى أعقلت الْخطاب، وأجابت بِمَا أجابت. وَأما قَوْله: {فأبين أَن يحملنها وأشفقن مِنْهَا} أَي: لم يقبلُوا حمل الْأَمَانَة وخافوا مِنْهَا. وَقَوله: {وَحملهَا الْإِنْسَان} يَعْنِي: آدم عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: ظلوما لنَفسِهِ، جهولا بربه، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس. وَالْقَوْل الثَّانِي: ظلوما لنَفسِهِ بِأَكْل الشَّجَرَة، جهولا بعاقبة أمره. وَعَن جمَاعَة من الْعلمَاء: أَن المُرَاد بالظلوم الجهول هُوَ الْمُنَافِق والمشرك. وَقد حكى هَذَا عَن الْحسن فِي رِوَايَة. وَالْقَوْل الثَّانِي، فِي أصل الْآيَة أَن المُرَاد من الْعرض على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال هُوَ الْعرض على أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض وَأهل الْجبَال وَهُوَ مثل قَوْله: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة.

{وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (73) .} وَالْقَوْل الثَّالِث ذكره الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي قَالُوا: إِن الله تَعَالَى ائْتمن آدم وَأَوْلَاده على شَيْء، وأتمن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال على شَيْء، فَأَما الْأَمَانَة فِي حق بني آدم مَعْلُومَة، وَأما الْأَمَانَة فِي حق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فَهُوَ بِمَعْنى الخضوع وَالطَّاعَة. قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أوكرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} . وَحكى السُّجُود عَن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب، وَذكر فِي الْحِجَارَة قَوْله: {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} . وَقَوله: {فأبين أَن يحملنها} أَي: أدين الْأَمَانَة فِيهَا، يُقَال: فلَان لم يتَحَمَّل الْأَمَانَة أَي: لم يخن فِيهَا. وَقَوله: {وأشفقن مِنْهَا} أَي: أدين الْأَمَانَة خوفًا مِنْهَا. وَقَوله: {وَحملهَا الْإِنْسَان} أَي: خَان فِيهَا وأثم، يُقَال: فلَان حمل الْأَمَانَة أَي: أَثم فِيهَا بالخيانة، قَالَ الله تَعَالَى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مَعَ أثقالهم} وَقَوله: {إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} قد بَينا، قَالَ الْأَزْهَرِي: وَقد أحسن وأجاد أَبُو إِسْحَاق الزّجاج فِي هَذَا القَوْل وَأثْنى عَلَيْهِ، وَقَول السّلف مَا بَينا من قبل.

73

قَوْله تَعَالَى: {ليعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات} اللَّام هَا هُنَا لَام كي، وَمَعْنَاهُ: كي يعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات يَعْنِي إِذا خانوا. وَقَوله: {وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} أَي: يهْدِيهم ويرحمهم إِذا أَدّوا الْأَمَانَة. وَعَن ابْن قُتَيْبَة قَالَ مَعْنَاهُ: ليظْهر الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات، ويعذبهم على الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَيظْهر الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بأَدَاء الْأَمَانَة. وَقَوله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} ظَاهر الْمَعْنى.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (1) يعلم مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج مِنْهَا وَمَا ينزل من السَّمَاء وَمَا يعرج} تَفْسِير سُورَة سبأ وَهِي مَكِّيَّة.

سبأ

{الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السموت وَمَا فِي الأَرْض} أَي: لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَيُقَال: خلق مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض. وَقَوله: {وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ لَهُ الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر. وَفِي الأولى وَالْآخِرَة وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالْآخر: أَنَّهُمَا السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة} وَهُوَ مَا جَاءَ من ذكر الْحَمد عَن أهل الْجنَّة، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} ، وَفِي قَوْله: {الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن} ، وَفِي قَوْله: {الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده} . وَقَوله: {وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير} أَي: الْحَكِيم فِي ملكه، الْخَبِير بخلقه.

2

وَقَوله تَعَالَى: {يعلم مَا يلج فِي الأَرْض} أَي: يدْخل فِيهَا من الْمَطَر. وَقَوله: {وَمَا يخرج مِنْهَا} أَي: من الزَّرْع، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الْأَمْوَات يدْخلُونَ إِذا قبروا، وَيخرجُونَ إِذا حشروا. وَقَوله: {وَمَا ينزل من السَّمَاء} أَي: من الْمَطَر وَالْمَلَائِكَة وَالْأَحْكَام والأقضية. وَقَوله: {وَمَا يعرج فِيهَا} أَي: يصعد إِلَيْهَا من الْمَلَائِكَة والأعمال والأدعية

{فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيم الغفور (2) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَة قل بلَى وربي لتأتينكم عَالم الْغَيْب لَا يعزب عَنهُ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر إِلَّا فِي كتاب مُبين (3) ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ} المقبولة. وَقَوله: {وَهُوَ الرَّحِيم الغفور} قد بَينا.

3

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَة} قَالُوا هَذَا تَكْذِيبًا بِالْبَعْثِ. وَقَوله: {قل بلَى وربي لتأتينكم عَالم الْغَيْب} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: قل بلَى وربي عَالم الْغَيْب لتأتينكم السَّاعَة، وَقَرَأَ حَمْزَة: " علام الْغَيْب ". وَقَوله: {لَا يعزب عَنهُ} أَي: لَا يغيب عَنهُ، وَقَرَأَ يحيى بن وثاب: " لَا يغرب عَنهُ " بالغين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء. وَقَوله: {مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي وَالْأَرْض} أَي: وزن ذرة {وَلَا أَصْغَر من ذَلِك وَلَا أكبر} أَي: أَصْغَر من الذّرة إِلَى أَن لَا يُحِيط بِهِ الْعقل، وأكبر إِلَى أَلا يُحِيط بِهِ الْعقل، وَالْمعْنَى أَن كل ذَلِك فِي علمه. وَقَوله: {إِلَّا فِي كتاب مُبين} أَي: بَين.

4

قَوْله تَعَالَى: {ليجزي الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: ليثيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات. وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة ورزق كريم} أَي: الْعَيْش الهنيء.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين} مَعْنَاهُ: اضْطَرَبُوا وَعمِلُوا فِي التَّكْذِيب بِآيَاتِنَا. وَقَوله: {معاجزين} أَي: مشاقين، وَيُقَال: مسابقين، وَيُقَال: فائتين، وَقُرِئَ: " معجزين " أَي: مثبطين، وَقيل: ظانين أَنا نعجز عَنْهُم، فَيكون معنى معجزين أَنهم نسبوا الْعَجز إِلَيْنَا.

{لَهُم مغْفرَة ورزق كريم (4) وَالَّذين سعوا فِي آيَاتنَا معاجزين أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم (5) وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد (6) وَقَالَ الَّذين كفرُوا هَل ندلكم على رجل ينبئكم إِذا مزقتم كل ممزق إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد (7) أفترى على الله كذبا أم بِهِ جنَّة بل الَّذين} وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَيرى الَّذين أُوتُوا الْعلم} قَالَ بَعضهم: هَذَا فِي مؤمني أهل الْكتاب مثل عبد الله بن سَلام وَغَيره، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي الَّذين آمنُوا بِالنَّبِيِّ من أهل مَكَّة وَغَيرهم، وَهُوَ بِمَكَّة؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وَعبد الله بن سَلام وأشباهه إِنَّمَا آمنُوا بِالْمَدِينَةِ. وَقَوله: {الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك هُوَ الْحق} يَعْنِي: أَنه من الله تَعَالَى. وَقَوله: {وَيهْدِي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد} يَعْنِي: أَن الْقُرْآن الَّذِي أنزلهُ الله يهدي إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد، وَهُوَ الله تَعَالَى.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا هَل ندلكم على رجل ينبئكم} أَي: يُخْبِركُمْ. وَقَوله: {إِذا مزقتم كل ممزق} أَي: إِذا فرقتم كل تَفْرِيق، وقطعتم كل تقطيع، وَالْمعْنَى: إِذا أكلْتُم الأَرْض، وصرتم رفاقا وترابا ينبئكم مُحَمَّد إِنَّكُم لفي خلق جَدِيد، قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْجحْد والتكذيب.

8

وَقَوله: {أفترى على الله كذبا} وَقُرِئَ بِنصب الْألف وَكسرهَا، أما من قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ رَاجع إِلَى الْحِكَايَة عَن الْكفَّار، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: افترى مُحَمَّد على الله كذبا. وَقَوله: {أم بِهِ جنَّة} مَعْنَاهُ: أَو بِهِ جُنُون لَا يدْرِي مَا يَقُول. وَأما من قَرَأَ بِالنّصب فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: أفترى على الله كذبا يَعْنِي: لم يفتر، وَيكون ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى. قَالَ الشَّاعِر:

{لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد (8) أفلم يرَوا إِلَى مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم من السَّمَاء وَالْأَرْض إِن نَشأ نخسف بهم الأَرْض أَو نسقط عَلَيْهِم كسفا من السَّمَاء إِن فِي ذَلِك لآيَة لكل عبد منيب (9) وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُود منا فضلا يَا جبال أوبي} (استحدث الْقلب من أشياعهم خَبرا ... أم رَاجع الْقلب من أطرابهم طرب) وَمَعْنَاهُ: استحدث. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {أفترى على الله كذبا} أَي أفترونه افتراء على الله كذبا. وَقَوله: {بل الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد} فعلى الْقِرَاءَة الأولى وَهُوَ بِالْكَسْرِ هَذَا ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى ردا عَلَيْهِم، وعَلى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة هُوَ مسوق على مَا تقدم. وَقَوله: {فِي الْعَذَاب والضلال الْبعيد} أَي: الشَّقَاء الطَّوِيل؛ ذكره السّديّ، وَقَالَ: فِي الْخَطَأ الْبعيد من الْحق.

9

قَوْله تَعَالَى: {أفلم يرَوا إِلَى مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم من السَّمَاء وَالْأَرْض} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا ذكر هَذَا؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا خرج من دَاره لَا يرى إِلَّا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا فيهمَا. وَيُقَال: إِنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَن السَّمَاء وَالْأَرْض محيطتان بالخلق، فَكَأَن أَحدهمَا بَين أَيْديهم، وَالْأُخْرَى خَلفهم بِمَعْنى الْإِحَاطَة. وَقَوله: {إِن نَشأ نخسف بهم الأَرْض} أَي: يغيبهم فِي الأَرْض. وَقَوله: {أَو نسقط عَلَيْهِم كسفا من السَّمَاء} أَي: جانبا من السَّمَاء. وَقيل: قِطْعَة من السَّمَاء. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَة لكل عبد منيب} أَي: رَاجع إِلَى الله تَعَالَى بِقَلْبِه. وَقيل: منيب: أَي: مُجيب. قَالَ الشَّاعِر: (أناب إِلَى قولي فَأَصْبَحت مرْصدًا ... لَهُ بالمكافأة المنيبة وَالشُّكْر)

{مَعَه وَالطير وألنا لَهُ الْحَدِيد (10) أَن اعْمَلْ سابغات وَقدر فِي السرد وَاعْمَلُوا صَالحا}

10

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُد منا فضلا} اخْتلف القَوْل فِي الْفضل الَّذِي أُوتِيَ دَاوُد؛ فَقَالَ بَعضهم: هُوَ النُّبُوَّة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْملك. وَيُقَال: الْقَضَاء بِالْعَدْلِ. وَقيل: حسن الصَّوْت. وَقيل: تليين الْحَدِيد لَهُ، وَجَمِيع مَا أعطي وَخص بِهِ. وَقَوله: {يَا جبال أوبي مَعَه} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن مَعْنَاهُ: سبحي مَعَه؛ وَهُوَ عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره، وَيُقَال: رَجْعِيّ مَعَه. وَقَرَأَ الْحسن: " أوبي مَعَه " بِضَم الْألف وَسُكُون الْوَاو، وَهُوَ فِي معنى الأول. وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا لحقه فتور أسمعهُ الله تَعَالَى تَسْبِيح الْجبَال منشطا لَهُ. وَقَوله: {وَالطير} أَي: وأمرنا الطير أَن تسبح مَعَه. وَقَوله: {وألنا لَهُ الْحَدِيد} قَالَ قَتَادَة: كَأَن الْحَدِيد جعل لَهُ كالعجين، فَيعْمل الدرْع من غير نَار وَلَا مطرقة.

11

وَقَوله: {أَن اعْمَلْ سابغات} أَي: الدروع الكوامل. وَيُقَال: الطوَال الَّتِي تسحب فِي الأَرْض. قَالَ الشَّاعِر: (وَأَكْثَرهم دروعا سابغات ... وأمضاهم إِذا طعنوا سِنَانًا) وَقَوله: {وَقدر فِي السرد} أَي: عدل فِي السرد، وَمَعْنَاهُ: قدر المسامير فِي حلق الدروع حَتَّى يكون بِمِقْدَار لَا يغلظ المسمار ويضيق الْخلق فتفصم الْحلقَة، وَلَا توسع الْحلقَة وتدقق المسمار فيسلس ويقلق وَهَذَا قَول مُجَاهِد، وَقَالَ: قدر فِي السرد أَي: احكم نسج الدرْع. وَقَالَ قَتَادَة: السرد: المسامير فِي الْحلق. وَهُوَ قريب من قَول مُجَاهِد، وأنشدوا: (أَجَاد المسدي سردها وأذا لَهَا)

{إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (11) ولسليمان الرّيح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا لَهُ عين الْقطر وَمن الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب} يَقُول: وسعهَا وأجاد حلقها يُقَال: درع مسرودة إِذا كَانَت مسمورة الْحلق، وَيُقَال: قدر فِي السرد أَي: اجْعَلْهُ على الْقَصْد وَقدر الْحَاجة. وَقَوله: {وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي الْقِصَّة: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعْمل كل يَوْم درعا، ويبيعه بِسِتَّة آلَاف دِرْهَم، فينفق أَلفَيْنِ مِنْهَا على نَفسه وَعِيَاله، وَيتَصَدَّق بأَرْبعَة آلَاف على فُقَرَاء بني إِسْرَائِيل. وَفِي بعض التفاسير: أَنه عمل ألف درع.

12

قَوْله تَعَالَى: {ولسليمان الرّيح غدوها شهر} أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح. وَقَوله: {غدوها شهر ورواحها شهر} أَي: مسيرَة غدوها شهر، ومسيرة رواحها شهر، وَمَعْنَاهُ: أَنه كَانَ يسير مسيرَة شَهْرَيْن فِي يَوْم وَاحِد. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ يسير من بَيت الْمُقَدّس إِلَى اصطخر مسيرَة شهر للراكب المسرع غدْوَة، ويقيل بهَا ثمَّ يروح مسيرَة شهر إِلَى بابل مسيرَة شهر للركب المسرع. وَقيل: كَانَ يتغدى بِالريِّ، ويتعشى بسمرقند. وَقيل: كَانَ يتغدى بِصَنْعَاء، ويتعشى بِبَابِل وَهُوَ الْعرَاق وَالله أعلم. وَفِي التَّفْسِير: أَن الرّيح كَانَت تحمله وَجُنُوده وَلَا تثير تُرَابا وَلَا تقلب ورقة على الأَرْض، وَلَا تؤذي طائرا فِي السَّمَاء. وَقَوله: {وأسلنا لَهُ عين الْقطر} أى: أسلنا لَهُ عين النّحاس. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أذاب لَهُ النّحاس، وَجعل يسيل ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر مثل المَاء. وَقَوله: {وَمن الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه} أَي: بِأَمْر ربه. وَقَوله: {وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا} أَي: يعدل مِنْهُم عَن أمرنَا فَلَا يعْمل لِسُلَيْمَان. وَقَوله: {نذقه من عَذَاب السعير} أَي: فِي الْآخِرَة، هَذَا أحد الْقَوْلَيْنِ، وَالْقَوْل

{السعير (12) يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور} الآخر: أَنه كَانَ (يكون) عِنْد سُلَيْمَان ملك قَائِم بِيَدِهِ سَوط من نَار، فَإِذا عصى أحد من الشَّيَاطِين ضربه فيحرقه، فَهُوَ معنى قَوْله: {نذقه من عَذَاب السعير} .

13

قَوْله تَعَالَى: {يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب} أَي: الْمَسَاجِد، وَيُقَال: الْأَبْنِيَة المرتفعة. وَفِي الْقِصَّة: أَنه أَمرهم بِبِنَاء الْحُصُون بالصخر، فبنوا بِالْيمن حصونا كَثِيرَة عَجِيبَة، وَهِي صرواح ومرواح وفلتون وهندة وهنيدة وغمدان وَغير ذَلِك. وَقَوله: {وتماثيل} أَي: الصُّور. فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن عمل الصُّور مَكْرُوه؟ قُلْنَا: هُوَ فِي هَذِه الشَّرِيعَة، وَيحْتَمل أَنَّهَا كَانَت مُبَاحَة فِي شَرِيعَته، وَقد كَانَ عِيسَى يصور من الطين وينفخ فِيهِ فَيَجْعَلهُ الله طيرا. وَاخْتلف القَوْل فِي الصُّور الَّتِي اتخذتها الشَّيَاطِين؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا صُورَة السبَاع والطيور من العقبان والنسور، وَمَا أشبه ذَلِك. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أَمرهم باتخاذ صُورَة الْأَنْبِيَاء والزهاد والعباد، حَتَّى إِذا نظرت بَنو إِسْرَائِيل إِلَيْهِم ازدادوا عبَادَة. وَقَوله: {وجفان كالجواب} أَي: كالحياض، والجفان جمع جَفْنَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن كل جَفْنَة كَانَ يقْعد عَلَيْهَا ألف إِنْسَان. وَأنْشد حسان فِي الْجَفْنَة شعرًا: (لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا من نجدة تقطر الدما) وأنشدوا فِي الْجَابِيَة: (كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ تفهق) أَي: تمتلئ. وَحكى عُثْمَان بن عَطاء عَن أَبِيه أَنه رأى مرّة من هَذِه القصاع الصغار فَقَالَ: وَالله لقد ذهبت الْبركَة من كل شَيْء، وَقَرَأَ قَوْله: {وجفان كالجواب} . وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام سماط يسع أَرْبَعمِائَة ألف إِنْسَان،

{راسيات اعْمَلُوا آل دَاوُود شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور (13) فَلَمَّا قضينا عَلَيْهِ الْمَوْت مَا دلهم على مَوته إِلَّا دَابَّة الأَرْض تَأْكُل منسأته فَلَمَّا خر تبينت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا} وَكَانَ يَأْكُل خبز الشّعير، وَيطْعم أَهله وحاشيته خبز الخشكار وَيطْعم الْفُقَرَاء الدَّرْمَك، وَهُوَ الْخبز النقي. وَقَوله: {وقدور راسيات} أَي: ثابتات مرتفعات، وَمِنْه الْجبَال الرواسِي. وَفِي الْقِصَّة، أَنه كَانَ يصعد إِلَيْهَا بالسلاليم. وَقَوله: {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا} قَالَ: تقدر اشكروا الله شكرا، وَيُقَال: إِن الشُّكْر هُوَ تقوى الله وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ. وَقيل: إِن آل دَاوُد هُوَ دَاوُد نَفسه، وَيُقَال: دَاوُد وَسليمَان وَأهل بَيته. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما نزل هَذَا على دَاوُد قَالَ: وَالله لَا يزَال منا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار قَائِم وصائم، فَكَانَ لَا يَأْتِي يَوْم إِلَّا وَمن آل دَاوُد فِيهِ صَائِم، وَلَا تَأتي سَاعَة من اللَّيْل إِلَّا وَمن آل دَاوُد فِيهَا قَائِم. وروى أَنه ناوب سَاعَات اللَّيْل وَكَانَ يقوم مَا شَاءَ الله، فَإِذا أَرَادَ أَن يرقد أيقظ بعض أَهله. وروى أَنه قَالَ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام يَا بني، اكْفِنِي أَمر النَّهَار يَعْنِي: فِي الْعِبَادَة أكفك أَمر اللَّيْل، فَقَالَ سُلَيْمَان: لَا أقدر، فَقَالَ: اكْفِنِي أول النَّهَار وأكفك الْبَاقِي. وروى أَنه قَالَ: يَا رب، كَيفَ أشكرك وشكري لَك نعْمَة مِنْك عَليّ؟ فَقَالَ: الْآن شكرتني. وَقَوله: {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} ظَاهر الْمَعْنى. وَالْفرق بَين الشاكر والشكور: أَن الشكُور هُوَ الَّذِي يتَكَرَّر مِنْهُ الشُّكْر، والشاكر الَّذِي يشْكر مرّة. وَقيل: هما وَاحِد.

14

قَوْله تَعَالَى: {قَلما قضينا عَلَيْهِ الْمَوْت} أَي: على سُلَيْمَان الْمَوْت. وَقَوله: {مَا دلهم على مَوته إِلَّا دَابَّة الأَرْض} قَالَ بعض الْمُفَسّرين: كَانَت الْجِنّ تعْمل لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي بِنَاء مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس؛ فَقرب موت سُلَيْمَان وَقد بَقِي من الْعَمَل بَقِيَّة، فَقبض الله روح سُلَيْمَان وَهُوَ متكئ على عَصا، وَكَانُوا يظنون أَنه حَيّ، ويجتهدون فِي الْعَمَل، فَأكلت الأرضة الْعَصَا فَخر سُلَيْمَان عَلَيْهِ

السَّلَام مَيتا بعد حول، وَقد فرغوا من الْعَمَل؛ فَلَمَّا عرفُوا مَوته تفَرقُوا بعد أَن بقوا فِي الْعَمَل سنة بعد مَوته. قَالَ ابْن عَبَّاس: فَشَكَرت الْجِنّ ذَلِك للأرضة، فهم يأتونه بالطين وَالْمَاء فِي جَوف الْخشب. وَذكر بَعضهم: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا رأى شَجَرَة نابتة سَأَلَهَا: مَا اسْمك؟ فتخبره إِن كَانَت للغرس غرست، وَإِن كَانَت للدواء كتب اسْمهَا، فصلى مرّة فَرَأى شَجَرَة نَبتَت فِي مصلاة، فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمك؟ قَالَت: الخروب، فَقَالَ: لم نبت؟ قَالَت: لخراب هَذِه الأَرْض، فَعلم أَن مَوته قد قرب، فَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يعمي على الْجِنّ مَوته. فَقَالَ أهل التَّفْسِير: وَكَانَت الْجِنّ تزْعم أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب، فَأمر الله تَعَالَى سُلَيْمَان أَن يتَّخذ عَصا ويتوكأ عَلَيْهَا. وَقيل: اتخذها من تِلْكَ الشَّجَرَة فَقبض الله تَعَالَى روحه وَهُوَ قَائِم متوكئ على الْعَصَا، فَكَانَت الْجِنّ ينظرُونَ إِلَيْهِ ويظنون أَنه حَيّ، ويعملون إِلَى أَن سقط بعد حول. وَأَرَادَ الله تَعَالَى بذلك أَن يعلم الْجِنّ أَنهم لَا يعلمُونَ الْغَيْب، وَقيل: ليعلم الْإِنْس أَن الْجِنّ لَا يعلمُونَ الْغَيْب وَكَانُوا قد شبهوا على الْإِنْس ذَلِك، فَإِن قيل على التَّأْوِيل الأول: كَيفَ يشْتَبه على أحد أَنه يعلم الْغَيْب أَو لَا يعلم الْغَيْب؟ وَإِن خَفِي عَلَيْهِ أَمر غَيره لَا يخفى عَلَيْهِ أَمر نَفسه؟ وَالْجَوَاب: أَن مَرَدَة الْجِنّ كَانُوا صوروا لِضُعَفَاء الْجِنّ أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب، وَكَانَ يَقع بعض الاتفاقات، فَكَانُوا يظنون أَنهم يعلمُونَ الْغَيْب لغَلَبَة الْجَهْل، وَعند بَعضهم: أَن عَمَلهم لم يكن فِي بِنَاء مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس، فَإِنَّهُ قد كَانَ وَقع الْفَرَاغ عَن فعل ذَلِك بسنين، وَإِنَّمَا كَانُوا يعْملُونَ غير ذَلِك من الْأَعْمَال. وَقَوله: {تَأْكُل منسأته} أَي: عصاته، والمنسأة: الْعَصَا بلغَة الْحَبَشَة، وَقُرِئَ: " منسأته " بِسُكُون الْهمزَة، وَهِي مَا بَينا. قَالَ الشَّاعِر: (إِذا ادببت على المنساة من كبر ... فقد تبَاعد عَنْك اللَّهْو والغزل) وَيُقَال كِلَاهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ. وَيُقَال: نسأت الْغنم إِذا زجرتها وسقتها وَيُقَال: نسأ الله فِي أَجلك أَي: أَخّرهُ. وَقَوله: {فَلَمَّا خر تبينت الْجِنّ} أَي: تبينت الْجِنّ للإنس أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ

{يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين (14) لقد كَانَ لسبأ فِي مسكنهم آيَة جنتان} الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين أَي: التَّعَب والشقاء الطَّوِيل، ذكره الْأَزْهَرِي على هَذَا التَّقْرِير. وَأما المتقدمون قَالُوا مَعْنَاهُ: تبينت الْإِنْس أَن الْجِنّ لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين، وَالْقِرَاءَة هَكَذَا فِي مصحف ابْن مَسْعُود، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن عَبَّاس أَيْضا. والتأويل الثَّالِث: أَن، معنى الْآيَة: {تبينت الْجِنّ} أَي: عرفت الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَاب المهين. وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن سُلَيْمَان لم يكن متوكئا على الْعَصَا، وَإِنَّمَا كَانَ فِي بَيت مغلق وتوفاه الله تَعَالَى، وأكلت الأرضة عتبَة الْبَاب، فَسقط الْبَاب بعد حول، وَظهر للجن مَوته. وَأشهر الْقَوْلَيْنِ هُوَ الأول، وَفِي الْقِصَّة: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لما فرغ من بِنَاء الْمَسْجِد ذبح [اثْنَتَيْ عشرَة] ألف بقرة وَمِائَة وَعشْرين ألف شَاة تقربا إِلَى الله تَعَالَى وأطعمها النَّاس، وَكَانَ بناه بالصخر والقار، وزخرف الْحِيطَان، وزين الْمِحْرَاب بالجواهر واليواقيت، وَعمِلُوا شَيْئا عجيبا، ثمَّ إِنَّه قَامَ على الصَّخْرَة وَقَالَ: اللَّهُمَّ، أَنْت أَعْطَيْتنِي هَذَا السُّلْطَان الْعَظِيم، وسخرت لي مَا سخرت، فأوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ، وَلَا تزغ قلبِي بعد إِذْ هديتني وتوفني مُسلما، وألحقني بالصالحين، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك لمن دخل هَذَا الْمَسْجِد ليُصَلِّي فِيهِ خمس خِصَال: إِن كَانَ مذنبا تغْفر لَهُ ذَنبه، وَإِن كَانَ فَقِيرا أغنيته، وَإِن كَانَ سقيما شفيته، وَإِن كَانَ خَائفًا أمنته، وَأَسْأَلك أَلا تصرف بَصرك عَمَّن دخله حَتَّى يخرج مِنْهُ، إِلَّا من دخله بإلحاد أَو ظلم.

15

قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لسبأ} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن سبأ اسْم رجل، ونسبت الْقَبِيلَة إِلَيْهِ، كَمَا أَن تميما اسْم رجل، ونسبت الْقَبِيلَة إِلَيْهِ. وروى فَرْوَة بن (مسيك الغطيفي) أَن رَسُول الله قَالَ: سبأ اسْم رجل ولد عشرَة من الذُّكُور

{عَن يَمِين وشمال من رزق ربكُم واشكروا لَهُ بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور (15) فأعرضوا فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل} فتيامن مِنْهُم سِتَّة، وتشام أَرْبَعَة، وَأما السِّتَّة الَّذين تيامنوا: فحيمر، وَكِنْدَة، ومذحج، والأزد، والأشعر، وأنمار، وَأما الْأَرْبَعَة الَّذين تشاموا: فعاملة، وغسان، ولخم، وجذام ". وَأما سبأ فَهُوَ ابْن يشخب بن يعرب بن قحطان. وَقد قيل: إِن سبأ اسْم بلد، وَالأَصَح هُوَ الأول. وَقَوله: {فِي مساكنهم آيَة} وَقُرِئَ: " فِي مسكنهم " وَالْآيَة هِيَ الْعَلامَة، وَمَعْنَاهَا: أَنا جعلنَا لَهُم آيَة تدلهم على أَن النعم الَّتِي لَهُم من الله تَعَالَى. وَقَوله: {جنتان عَن يَمِين وشمال} فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ لَهُم وَاد يسيل، وعَلى يَمِين الْوَادي جنَّات مصطفة أَي: الْبَسَاتِين وَكَذَلِكَ على يسَار الْوَادي. وَقَوله: {كلوا من رزق ربكُم} أَي: قُلْنَا لَهُم كلوا من رزق ربكُم. وَقَوله: {واشكروا لَهُ} أَي: واشكروا الله على نعمه. وَقَوله: {بَلْدَة طيبَة} أَي: طيبَة الْهَوَاء، عذبة المَاء، كَثِيرَة الْفَوَاكِه، وَذكر ابْن زيد: أَنه لم يكن بهَا بعوض وَلَا بق وَلَا ذُبَاب وَلَا عقرب وَلَا حَيَّة وَلَا شَيْء من أَمْثَال هَذَا، وَكَانَ الرجل الْغَرِيب يدخلهَا وَفِي ثِيَابه الْقمل، فَيَمُوت الْقمل فِي ثِيَابه من صِحَة الْهَوَاء وطيبه. وَقَوله: {وَرب غَفُور} أَي: وَرب غَفُور للذنوب إِن شكرتم نعمه. فَإِن قيل: أَي فَائِدَة لتخصيصهم بِهَذَا، وَالله غَفُور لكل الْعباد؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن مغْفرَة الرب مَعَ طيب الْبَلدة على تِلْكَ الْغَايَة لم تكن إِلَّا لَهُم.

16

قَوْله تَعَالَى: {فأعرضوا} أَي: فأعرضوا عَن شكر النعم. وَقَوله: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم سيل العرم} اخْتلفُوا فِي العرم على أَرْبَعَة أقاويل: أَولهَا:

أَنه اسْم الْوَادي، وَالْآخر: أَنه اسْم المسنأة، وَقد كَانُوا بنوا المسناة بالصخر والقار بَينه وَبَين المَاء، وَجعلُوا على المسناة أبوابا تفتح وتسد، فَإِذا احتاجوا إِلَى المَاء فتحُوا، وَإِذا استغنوا سدوا. وَذكر النقاش: أَنه كَانَ ذَلِك من عمل بلقيس، وَكَانَت جعلت على المسناة اثْنَي عشرَة مخرجا، يخرج مِنْهَا اثْنَا عشر نَهرا، وَكَانَت المسناة سدا بَين جبلين، والمياه وَرَاء السد تَجْتَمِع من السُّيُول. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن العرم هُوَ السَّيْل الشَّديد أَي: أرسلنَا عَلَيْهِم السَّيْل الشَّديد. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن العرم هُوَ اسْم الجرذ، وَهُوَ الْفَأْرَة، وَقيل: كَانَ اسْم الْخلد، وسلطه الله تَعَالَى على المسناة حَتَّى نقبها، وَدخل المَاء وغرق الْبَلَد والبساتين. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: العرم وَالْبر من أَسمَاء الْفَأْرَة، وَمِنْه قَوْلهم: فلَان لَا يعرف هرا من برا أَي: السنور من الْفَأْرَة، وَذكر أَبُو (الْحُسَيْن) بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَن الْقَوْم كَانُوا قد سمعُوا أَن هَلَاك بلدهم بالفأر من كهانهم، فَجَاءُوا بالسنانير وربطوها عِنْد كل جرف (فِي المسناة) ، فَجَاءَت فَأْرَة حَمْرَاء كَبِيرَة وساورت السنور وهزمته وَدخلت فِي الجرف، وتغلغلت المسناة حَتَّى نقبتها وخرقتها. وَقَوله: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي} أَي: بَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم اللَّتَيْنِ كَانَتَا ذواتي فَاكِهَة بجنتين ذواتي {أكل خمط} بتنوين اللَّام، وَقُرِئَ: " أكل خمط " بِغَيْر التَّنْوِين على الْإِضَافَة، وَالْقِرَاءَة على الْإِضَافَة أظهر القرائتين فِي الْمَعْنى لِأَن الخمط اسْم لشجر لَهُ شوك. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل شجر لَهُ شوك فَهُوَ خمط إِذا لم يكن لَهُ ثَمَر. وَعَن بَعضهم: أَن الخمط شجر لَهُ ثَمَر يُسمى فسوة الضبع، لَا ينْتَفع بِهِ ويتفرك إِذا أدْرك من غير أَن ينفع أحدا، وَالْمَعْرُوف فِي التَّفْسِير أَن ثَمَر الخمط هُوَ البربر، والبربر ثَمَر الْأَرَاك، فالخمط هُوَ الْأَرَاك، فَهُوَ معنى قَوْله: {أكل خمط} . وَالْأكل هُوَ الثَّمر.

{وَشَيْء من سدر قَلِيل (16) ذَلِك جريناهم بِمَا كفرُوا وَهل نجازي إِلَّا الكفور (17) وَجَعَلنَا بَينهم وَبَين الْقرى الَّتِي باركنا فِيهَا قرى ظَاهِرَة وقدرنا فِيهَا السّير سِيرُوا فِيهَا} وَأما قِرَاءَة التَّنْوِين: قَالَ الْفراء والزجاج: كل نبت لَهُ مرَارَة وعصوفة فَهُوَ خمط، فعلى هَذَا قَوْله: {خمط} صفة الْأكل، وَمَعْنَاهُ: ذواتي ثَمَر على هَذَا الْوَصْف، وَهُوَ المرارة والعفوصة. وَقَوله: { [وأثل] وَشَيْء من سدر قَلِيل} السدر: شجر مَعْرُوف، وَهُوَ شجر النبق. وَقيل: إِن هَذَا السدر كَانَ بريا لَا ينْتَفع بِهِ، وَأما السدر الَّذِي ينْتَفع بِهِ لغسل الْيَد وَغَيره، فَهُوَ الَّذِي كُنَّا نَعْرِف فِي الْبَسَاتِين، وَلم يكن لَهُم ذَلِك.

17

وَقَوله: {ذَلِك جزيناهم بِمَا كفرُوا} النِّعْمَة. وَقَوله: {وَهل نجازي إِلَّا الكفور} يُقَال فِي الْعقُوبَة: نجازي، وَفِي المثوبة: نجزي، يَعْنِي: وَهل نجازى مثل هَذِه المجازاة إِلَّا من كفر النعم؟ وَيُقَال: وَهل نجازى إِلَّا الكفور؟ أى: هَل نحاسب إِلَّا الكفور؟ وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي قَالَ: " من نُوقِشَ الْحساب عذب ". قَالَت عَائِشَة: فَقلت يَا رَسُول الله: أَلَيْسَ قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} فَقَالَ: ذَلِك الْعرض، وَمن نُوقِشَ [الْحساب] عذب ". فَإِن قيل: قد قَالَ: {بَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم جنتين} وَالْأَرْض الَّتِي فِيهَا أَشجَار الأثل والخمط لَا تسمى جنَّة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: إِنَّمَا سمي ذَلِك على طَرِيق الْمُقَابلَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} وَقَوله: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} .

18

قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا بَينهم وَبَين الْقرى الَّتِي باركنا فِيهَا قرى ظَاهِرَة} الْقرى الَّتِي

{ليَالِي وأياما آمِنين (18) فَقَالُوا رَبنَا باعد بَين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم} باركنا فِيهَا (هِيَ) الشَّام، وَمعنى الْقرى الظَّاهِرَة أَي: الْمُتَّصِلَة، وَقيل: ظَاهِرَة يَعْنِي: [للرائي] ، على معنى أَنهم كَانُوا إِذا نزلُوا بقرية رَأَوْا قَرْيَة أُخْرَى. وَقَوله: {وقدرنا فِيهَا السّير} أَي: السّير أَي: قَدرنَا سيرهم بَين هَذِه الْقرى، وَالْمعْنَى: أَنهم كَانُوا إِذا غدوا يقيلون بقرية، وَإِذا رجعُوا يبيتُونَ بقرية. وَقيل: تَقْدِير السّير أَن سيرهم كَانَ فِي الرواح والغدو على قدر نصف يَوْم، فَكَانُوا إِذا (جازوا) نصف يَوْم وصلوا إِلَى قَرْيَة ذَات مياه وأشجار. قَالَ قَتَادَة: كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ أَن يحملوا زادا. وَقَالَ أَيْضا: كَانَت الْمَرْأَة تضع مكتلها على رَأسهَا، وتمر تَحت الْأَشْجَار فيمتلئ المكتل من الثِّمَار من غير اجتناء. وَقَوله: {سِيرُوا فِيهَا ليَالِي وأياما آمِنين} أَي: قُلْنَا لَهُم سِيرُوا فِيهَا بالليالي وَالْأَيَّام آمِنين من الْخَوْف والجوع والظمأ، وَمعنى قَوْله: {سِيرُوا} أَي: مكناهم من السّير. وَيُقَال: إِن معنى قَوْله: {سِيرُوا} أَي: يَسِيرُونَ، أَمر بِمَعْنى الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: يَسِيرُونَ فِيهَا ليَالِي وأياما آمِنين، وعَلى مَا ذكرنَا.

19

قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا رَبنَا باعد بَين أسفارنا} وَقُرِئَ: " بعد بَين أسفارنا " بِغَيْر ألف، وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " رَبنَا باعد بَين أسفارنا " بِنصب الْعين وَالدَّال، فعلى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة معنى الْآيَة سُؤال، وعَلى الْقِرَاءَة الشاذة معنى الْآيَة على وَجه الْخَبَر. قَالَ مُجَاهِد: بطروا النِّعْمَة وسأموا الرَّاحَة. وَمثله عَن ابْن عَبَّاس فَقَالُوا: [رَبنَا] بعد بَين الْقرى لنركب الرَّوَاحِل، ونحمل الأزواد فِي الفلوات، وَهَذَا مثل قَول بني إِسْرَائِيل: {وَإِذ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لن نصبر على طَعَام وَاحِد} الْآيَة. وَأما الْقِرَاءَة الشاذة فكأنهم استبعدوا الْقَرِيب على مَا يَفْعَله الجهلة. وَقَوله: {وظلموا أنفسهم} أَي: بترك الشُّكْر.

{أَحَادِيث ومزقناهم كل ممزق إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (19) وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه فَاتَّبعُوهُ إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم من سُلْطَان إِلَّا} وَقَوله: {فجعلناهم أَحَادِيث ومزقناهم كل ممزق} أَي: أَحَادِيث فِي الْقُرُون الَّتِي تَأتي، وفرقناهم وبددناهم كل مفرق ومبدد. قَالَ الشّعبِيّ: تفَرقُوا فِي الْبِلَاد لما غرقت قراهم وَهَلَكت جناتهم، فَمر الأزد إِلَى عمان، وخزاعة إِلَى تهَامَة، وغسان إِلَى الشَّام، وَآل (خُزَيْمَة) إِلَى الْعرَاق، والأوس والخزرج إِلَى يثرب. وَكَانَ الَّذِي قدم الْمَدِينَة مِنْهُم عَمْرو بن عَامر وَهُوَ جد الْأَوْس والخزرج. وَفِي بعض التفاسير: أَن قراهم كَانَت [أَربع] آلَاف وَسَبْعمائة قَرْيَة، وَكَانَت مُتَّصِلَة من سبأ إِلَى الشَّام قَرْيَة قَرْيَة. وَعَن بَعضهم فِي معنى قَوْله: {فجعلناهم أَحَادِيث} أَن النَّاس يضْربُونَ بهم الْمثل فِي التمزق والتفرق، وَالْعرب تَقول: صَارَت بَنو فلَان أَيدي سبأ وأيادي سبأ إِذا تفَرقُوا وتبددوا. وَأنْشد الْأَزْهَرِي: (غيبا نرى النَّاس إِلَيْهِ تنسبا ... من صادر أَو وَارِد أَيدي سبا) وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} أَي: صبار على الْبلَاء، شكور للنعمة.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صدق عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنّه} وَقُرِئَ: " صدق " بِالتَّخْفِيفِ أما بِالتَّشْدِيدِ فَمَعْنَاه: أَنه ظن ظنا وَصدقه، وظنه فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم} إِلَى قَوْله: {وَلَا تَجِد أَكْثَرهم شاكرين} وَيُقَال: إِنَّه ظن أَنه إِذا أغواهم اتَّبعُوهُ، وَكَانَ كَذَلِك. وَفِي التَّفْسِير أَن إِبْلِيس قَالَ: لقد أخرجت آدم من الْجنَّة مَعَ كَثْرَة علمه وأغويته، فَأَنا على ذُريَّته أقدر.

{لنعلم من يُؤمن بِالآخِرَة مِمَّن هُوَ مِنْهَا فِي شكّ وَرَبك على كل شَيْء حفيظ (21) قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله لَا يملكُونَ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض وَمَا} وَأما قِرَاءَة التَّخْفِيف فَمَعْنَاه: صدق عَلَيْهِم فِي ظَنّه. وَقَوله: {فَاتَّبعُوهُ إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ} يَعْنِي: إِلَّا كل الْمُؤمنِينَ، هَكَذَا قَالَه أَكثر أهل التَّفْسِير؛ لِأَن الْمُؤمنِينَ لم يتبعوه فِي أصل الدّين، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ وَعَن بَعضهم: إِلَّا فريقا من الْمُؤمنِينَ: خَواص الْمُؤمنِينَ؛ وهم الَّذين يطيعون الله وَلَا يعصونه. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَالله إِنَّه لم يسل عَلَيْهِم سَيْفا وَلَا ضَربهمْ بِسَوْط، وَإِنَّمَا وعدهم ومناهم فاغتروا.

21

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم من سُلْطَان} أَي: من سُلْطَان على الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {إِلَّا لنعلم} مَعْنَاهُ: لكَي نعلم {من يُؤمن بِالآخِرَة مِمَّن هُوَ مِنْهَا فِي شكّ} أَي: لنعلم الْمُؤمن من الْكَافِر علم وُقُوع، وَقد علم علم الْغَيْب، وَقد بَينا هَذَا من قبل. قَالَ ابْن فَارس: هَذَا على عَادَة كَلَام الْعَرَب مَعَ الجهلة، فَإنَّك لَو قلت: السكين تقطع اللَّحْم، أَو اللَّحْم يقطع السكين، وَقد علم قطعا أَن السكين هُوَ الَّذِي يقطع اللَّحْم، وَلَكِن يخرج الْكَلَام على خطاب الْجَاهِل، وَتَقْرِير الْأَمر لَهُ. وَقَوله: {وَرَبك على كل شَيْء حفيظ} أَي: رَقِيب.

22

قَوْله تَعَالَى: {قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله} أَي: الَّذين زعمتم [أَنهم] آلِهَة من دون الله. وَفِي الْآيَة حذف، والمحذوف ادعوهُمْ ليكشفوا عَنْكُم الضّر الَّذِي نزل بكم، وَذَلِكَ فِي سني الْجُوع، وَكَانَ الله تَعَالَى ضَربهمْ بِالْجُوعِ حَتَّى أكلُوا الميتات يَعْنِي قُرَيْش ثمَّ قَالَ: {لَا يملكُونَ مِثْقَال ذرة} أَي: الْأَصْنَام لَا تملك مِثْقَال ذرة أَي: وزن ذرة من النَّفْع والضر، والذرة هِيَ النملة الْحَمْرَاء.

{لَهُم فيهمَا من شرك وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير (22) وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالُوا الْحق وَهُوَ الْعلي الْكَبِير (23) قل} وَقَوله: {فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض} ظَاهر. وَقَوله: {وَمَا لَهُم فيهمَا من شرك} أَي: مَا للآلهة الَّتِي تدعون من دون الله شركَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير} أَي: معِين.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده إِلَّا لمن أذن لَهُ} أَي: أذن الله لَهُ، وَقُرِئَ: " إِلَّا لمن أذن لَهُ " أَي: إِلَّا لمن أذن لَهُ فِي شَفَاعَته. وَقَوله: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم} لَا بُد أَن يكون هَا هُنَا مَحْذُوف؛ لِأَن حَتَّى من ضَرُورَته أَن يتَّصل بِمَا تقدم، وَلم يُوجد شَيْء يتَّصل بِهِ، فَيجوز أَن يكون الْمَحْذُوف إِثْبَات فزع وَالْمَلَائِكَة وخوفهم إِذا قضى الله تَعَالَى بِأَمْر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض. وَقَوله: {فزع عَن قُلُوبهم} أَي: كشف الْفَزع عَن قُلُوبهم. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فزع عَن قُلُوبهم " أَي: فرغت قُلُوبهم عَن الْخَوْف. وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة: " أَن الْمَلَائِكَة تسمع صَوت الْوَحْي شبه السلسلة على الصفوان فيصعقون، ويضربون بأجنحتهم خضعانا لله تَعَالَى ". وَفِي رِوَايَة: " يخرون على جباههم، فَإِذا كشف الْفَزع عَنْهُم {قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم} " أَي: قَالَ بَعضهم لبَعض: مَاذَا قَالَ ربكُم؟ وَقَوله: {قَالُوا الْحق} أَي: قَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى الْحق أَي: الْوَحْي وَذكر السّديّ وَغَيره: أَنه لما كَانَ زمَان الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَت بِمِقْدَار سِتّمائَة سنة، فَلم تسمع الْمَلَائِكَة وَحيا فِي هَذِه الْمدَّة، فَلَمَّا بعث مُحَمَّد

{من يرزقكم من السَّمَوَات وَالْأَرْض قل الله وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين} نزل جِبْرِيل بِالْوَحْي، ففزعوا لذَلِك خوفًا من قيام السَّاعَة، فَلَمَّا كشف الْفَزع عَن قُلُوبهم سَأَلُوا عَمَّا قَضَاهُ الله من أمره، فَذكر لَهُم أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى مُحَمَّد. وَقَوله: {وَهُوَ الْعلي الْكَبِير} أَي: المتعالي الْعَظِيم فِي صِفَاته.

24

قَوْله تَعَالَى: {قل من يرزقكم من السَّمَوَات وَالْأَرْض} فالرزق من السَّمَوَات هُوَ الْمَطَر، وَمن الأَرْض هُوَ النَّبَات. وَقَوله: {قل الله} يَعْنِي: إِن لم يَقُولُوا: إِن رازقنا هُوَ الله تَعَالَى، فَقل أَنْت إِن رازقكم هُوَ الله تَعَالَى. وَقَوله: {وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين} فَإِن قيل: " أَو " فِي كَلَام الْعَرَب للشَّكّ، فَكيف تستقيم كلمة أَو فِي هَذَا الْموضع؟ وَلَا يجوز لأحد أَن يشك أَنه على الْهدى أَو على الضلال، وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: مَا ذكره الْفراء وَهُوَ: أَو هَا هُنَا بِمَعْنى الْوَاو، وَالْألف صلَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " وَإِنَّا وَإِيَّاكُم لعلى هدى أَو فِي ضلال مُبين " يَعْنِي: نَحن على الْهدى وَأَنْتُم فِي الضلال. قَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي شعرًا: (يَقُول الأرذلون بَنو قُشَيْر ... طوال الدَّهْر لَا تنسى عليا؟) (أحب مُحَمَّدًا حبا شَدِيدا ... وعباسا وَحَمْزَة والوصيا) (فَإِن يَك حبهم رشدا أصبه ... وَفِيهِمْ أُسْوَة إِن كَانَ غيا) فَقيل: مَا شَككت، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ لعلى هذى أَو فِي ضلال مُبين} . وروى معنى هَذَا القَوْل عَن عِكْرِمَة. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَإِنَّا أَو إيَّاكُمْ} خرج على شدَّة الاستبصار، وعَلى طَرِيق المناصفة فِي الْكَلَام، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: أَحَدنَا كَاذِب، فَهَل من سامع؟ وَهُوَ مُتَيَقن أَن الصَّادِق هُوَ، والكاذب صَاحبه. وَكَذَلِكَ يَقُول الْمولى لعَبْدِهِ عِنْد شدَّة الْغَضَب: تعال نَنْظُر أَيّنَا يضْرب صَاحبه، وَهُوَ يعلم أَنه هُوَ الَّذِي يضْرب غُلَامه. وَالثَّالِث: مَا رُوِيَ عَن قَتَادَة أَنه فال معنى الْآيَة: مَا نَحن وَأَنْتُم على طَريقَة وَاحِدَة،

( {24) قل لَا تسْأَلُون عَمَّا أجرمنا وَلَا نسْأَل عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قل يجمع بَيْننَا رَبنَا ثمَّ يفتح بَيْننَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم (26) قل أروني الَّذين ألحقتم بِهِ شُرَكَاء كلا بل هُوَ الله الْعَزِيز الْحَكِيم (27) وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس بشيرا وَنَذِيرا وَلَكِن أَكثر النَّاس} بل أَحَدنَا على الْهدى، وَالْآخر على الضَّلَالَة، ثمَّ المهتدى من الْفَرِيقَيْنِ مَعْلُوم، والضال من الْفَرِيقَيْنِ مَعْلُوم، وَهَذَا القَوْل قريب من الأول، وَهُوَ حسن.

25

قَوْله تَعَالَى: {قل لَا تسْأَلُون عَمَّا أجرمنا} أَي: عَن جرمنا. وَقَوله: {وَلَا نسْأَل عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَي: عَن عَمَلكُمْ من الْكفْر والمعاصي.

26

قَوْله تَعَالَى: {قل يجمع بَيْننَا رَبنَا} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {ثمَّ يفتح بَيْننَا} أَي: يحكم بَيْننَا، وَالْعرب تسمي الْحَاكِم فتاحا، وَقد ذكرنَا. وَقَوله: {وَهُوَ الفتاح الْعَلِيم} ظَاهر. وَيُقَال: هُوَ الْحَاكِم الْعَالم بِوُجُوه الْمصلحَة.

27

قَوْله تَعَالَى: {قل أروني الَّذين ألحقتهم بِهِ شُرَكَاء} أَي: ألحقتموهم بِاللَّه شُرَكَاء. وَقَوله: {أروني} أَي: أعلموني مَاذَا خلقُوا؟ وماذا صَنَعُوا؟ وَقَوله: {كلا} يَعْنِي: فَإِن لم تجيبوا بِالْحَقِّ، فَقل: كلا أَي: لَيْسَ الْأَمر على مَا زعمتم. وَقَوله: {بل هُوَ الله الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب على أمره، الْحَكِيم فِي تَدْبيره.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} أَي: جَامعا بالإنذار والإبلاغ. وَقيل: وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا للنَّاس كَافَّة، على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " بعثت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود ". وَعَن ابْن زيد: كَافَّة للنَّاس أَي: كافا للنَّاس عَن الْكفْر، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة. وَقَوله: {بشيرا وَنَذِيرا} أى: مبشرا ومنذرا. وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَنَّك نَبِي. وَفِي بعض التفاسير: أَن أجل فَائِدَة للعباد من الله هُوَ الْعلم وَالْقُدْرَة؛ لِأَن بهما يكْتَسب الْإِنْسَان

{لَا يعلمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (29) قل لكم ميعاد يَوْمًا لَا تستأخرون عَنهُ سَاعَة وَلَا تستقدمون (30) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لن نؤمن بِهَذَا الْقُرْآن وَلَا بِالَّذِي بَين يَدَيْهِ وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم يرجع بَعضهم إِلَى بعض القَوْل يَقُول الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا لَوْلَا أَنْتُم لَكنا مُؤمنين (31) قَالَ الَّذين استكبروا للَّذين استضعفوا أَنَحْنُ صددناكم عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَكُم بل كُنْتُم مجرمين} مَا يوصله إِلَى رضَا الله تَعَالَى، قَالَ: وَالْعلم أَكثر فَائِدَة من الْقُدْرَة؛ لِأَن الْعلم يتمخض نفعا، وَالْقُدْرَة قد يكْتَسب بهَا الْمعْصِيَة.

29

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} يَعْنِي: الْقِيَامَة.

30

وَقَوله: {قل لكم ميعاد يَوْم لَا تستأخرون عَنهُ سَاعَة وَلَا تستقدمون} قد فسر هَذَا بِيَوْم الْبَعْث، وَقد فسر بِيَوْم الْمَوْت، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لن نؤمن بِهَذَا الْقُرْآن} إِي: أشركوا. وَقَوله: {وَلَا بِالَّذِي بَين يَدَيْهِ} يَعْنِي: من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. وَقَوله: {وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ موقوفون عِنْد رَبهم} أَي: محبوسون عِنْد رَبهم. وَقَوله: {يرجع بَعضهم إِلَى بعض القَوْل} أَي: يُجَادِل بَعضهم بَعْضًا. وَقَوله: {يَقُول الَّذين استضعفوا} أَي: استحقروا، وهم الأتباع. وَقَوله: {للَّذين استكبروا} أَي: تجبروا، وهم القادة والأشراف. وَقَوله: {لَوْلَا أَنْتُم لَكنا مُؤمنين} أَي: لَوْلَا أَنكُمْ كُنْتُم قادتنا ورؤساءنا لآمَنَّا بِاللَّه وبرسوله.

32

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين استكبروا} أَي: تكبروا. وَقَوله: {للَّذين استضعفوا} أَي: الأتباع. وَقَوله: {أَنَحْنُ صددناكم عَن الْهدى بعد إِذْ جَاءَكُم} أَي: منعناكم.

( {32) وَقَالَ الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه ونجعل لَهُ أندادا وأسروا الندامة لما رَأَوْا الْعَذَاب وَجَعَلنَا الأغلال فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ (33) وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون (34) وَقَالُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا وَمَا نَحن} وَقَوله: {بل كُنْتُم مجرمين} أَي: الجرم كَانَ لكم فِي اتباعكم أهواءكم.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين استضعفوا للَّذين استكبروا بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: مكركم بِنَا فِي اللَّيْل وَالنَّهَار. وَالْعرب قد تضيف الْفِعْل إِلَى اللَّيْل وَالنَّهَار على توسع الْكَلَام، قَالَ الشَّاعِر: (لقد لمتنا يَا أم غيلَان فِي السرى ... ونمت وَمَا ليل الْمطِي بنائم) وَقيل: بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار مَعْنَاهُ: طول الأمل، وَطول الأمل هُوَ مكر اللَّيْل وَالنَّهَار على طَرِيق الْمجَاز، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار " أَي: كرور اللَّيْل وَالنَّهَار. وَقَوله: {إِذْ تأمروننا أَن نكفر بِاللَّه ونجعل لَهُ أندادا} أَي: أشباها. وَقَوله: {وأسروا الندامة} قد بَينا أَن قَوْله: {وأسروا} قد يكون بِمَعْنى أخفوا، وَقد يكون بِمَعْنى أظهرُوا. قَوْله: {لما رَأَوْا العاب} أَي: عاينوه. وَقَوله: {وَجَعَلنَا الأغلال فِي أَعْنَاق الَّذين كفرُوا} هُوَ فرع من عَذَاب أهل النَّار. وَقَوله: {هَل يجزون إِلَّا مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: يعْملُونَ من الْكفْر والمعاصي.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها} أَي: منعموها وأغنياؤها، والترفة: النِّعْمَة. وَقَوله: {إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون} أَي: جاحدون.

35

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا} يَعْنِي: قَالَ المترفون للْفُقَرَاء الَّذين آمنُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا.

{بمعذبين (35) قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا} وَقَوله: {وَمَا نَحن بمعذبين} الْعَذَاب الَّذِي يُعَذبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْفقر. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ أظهر الْقَوْلَيْنِ أَن الَّذِي خولنا وأعطانا الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد فِي الدُّنْيَا لَا يعذبنا فِي الْآخِرَة.

36

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} الْآيَة. وَردت لرد قَوْلهم، وَمَعْنَاهُ: يبسط الرزق امتحانا وابتلاء، ويضيق الرزق (نظرا) . وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} ظَاهر.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ بِالَّتِي تقربكم عندنَا زلفى} أَي: قربى. وروى عَن طَاوس الْيَمَانِيّ أَنه كَانَ يَدْعُو، وَيَقُول: اللَّهُمَّ جنبني المَال وَالْولد، وارزقني الْإِيمَان وَالْعَمَل. وَفِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " اللَّهُمَّ من أَحبَّنِي فارزقه العفاف والكفاف، وَمن أبغضني فَأكْثر مَاله وَولده ". وَقَوله: {إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن [من] آمن وَعمل صَالحا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة {إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا} فَأُولَئِك تقربهم أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِلَى طَاعَة الله، وَهَذَا أظهر الْقَوْلَيْنِ.

{فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف بِمَا عمِلُوا وهم فِي الغرفات آمنون (37) وَالَّذين يسعون فِي آيَاتنَا معاجزين أُولَئِكَ فِي الْعَذَاب محضرون (38) قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء} وَقَوله: {فَأُولَئِك لَهُم جَزَاء الضعْف} أَي: التَّضْعِيف، وَيُقَال: جَزَاء المضاعفة. والمضاعفة هُوَ أَنه يَجْزِي بِالْوَاحِدِ عشرا إِلَى سَبْعمِائة. وَقَوله: {وهم فِي الغرفات آمنون} أَي: (فِي) غرفات الْجنَّة آمنون من الْعَذَاب، وَقيل: من الْمَوْت، وَقيل: من الأحزان.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يسعون فِي آيَاتنَا معاجزين} قد بَينا معنى قَوْله: {معاجزين} و {معجزين} . وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي الْعَذَاب محضرون} أَي: مدخلون.

39

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَهُ} فَإِن قيل: هَذَا تكْرَار لِلْآيَةِ الأولى فَلَا يكون فِيهِ فَائِدَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِيهِ فَائِدَة، وَهُوَ أَن الْآيَة الأولى فِيمَن لَا يعلم؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} وَالْآيَة الثَّانِيَة فِيمَن يعلم حِكْمَة الله تَعَالَى (فِي) الْبسط وَالتَّقْدِير. وَقَوله: {وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه} أَي: يُعْطي خَلفه. وَاخْتلف القَوْل فِي مَوضِع إِعْطَاء الْخلف فالأكثرون أَن (ذَلِك) فِي الْآخِرَة أَو الدُّنْيَا. روى أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من صباح إِلَّا وينادي ملكان، يَقُول أَحدهمَا: اللَّهُمَّ أعْط منفقا خلفا، وَيَقُول الآخر: اللَّهُمَّ أعْط ممسكا تلفا ". وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا خَاصَّة، وَلَو لم يكن يخلف فِي الدُّنْيَا لبقي العَبْد بِلَا رزق. وَالْقَوْل الأول أحسن.

{من عباده وَيقدر لَهُ وَمَا أنفقتم من شَيْء فَهُوَ يخلفه وَهُوَ خير الرازقين (39) وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا ثمَّ يَقُول للْمَلَائكَة أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يعْبدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْت ولينا من دونهم بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ أَكْثَرهم بهم مُؤمنُونَ (41) فاليوم لَا يملك بَعْضكُم لبَعض نفعا أَو ضرا ونقول للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا} وَقَوله: {وَهُوَ خير الرازقين} أَي: خير من يرْزق وَيُعْطِي.

40

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا ثمَّ يَقُول للْمَلَائكَة أَهَؤُلَاءِ إيَّاكُمْ كَانُوا يعْبدُونَ} يَقُول الله تَعَالَى ذَلِك للْمَلَائكَة توبيخا لمن عبدهم، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله} وَالْمعْنَى على مَا بَينا.

41

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} تَسْبِيح الله: تَعْظِيم لَهُ على وَجه يَنْفِي عَنهُ كل سوء. وَقَوله: {أَنْت ولينا من دونهم} أَي: نَحن نتولاك وَلَا نتولاهم. وَقَوله: {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} (فَإِن قيل: كَيفَ يَصح قَوْله: {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} ) وهم عبدُوا الْمَلَائِكَة؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قَالَ: {بل كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ} لِأَن الْجِنّ هم الَّذين زَينُوا لَهُم عبَادَة الْمَلَائِكَة، (وَالْمرَاد من الْجِنّ الشَّيَاطِين، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم صوروا صور الْجِنّ، وَقَالُوا: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة) فاعبدوهم. وَقَوله: {أَكْثَرهم بهم مُؤمنُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

42

قَوْله تَعَالَى: {فاليوم لَا يملك بَعْضكُم لبَعض نفعا وَلَا ضرا} أَي: جلب نفع وَدفع ضرّ. وَقَوله: {ونقول للَّذين ظلمُوا ذوقوا عَذَاب النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا تكذبون} أَي:

{تكذبون (42) وَإِذ تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رجل يُرِيد أَن يصدكم عَمَّا كَانَ يعبد آباؤكم وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إفْك مفترى وَقَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (43) وَمَا آتَيْنَاهُم من كتب يدرسونها وَمَا أرسلنَا إِلَيْهِم قبلك من نَذِير (44) وَكذب الَّذين من قبلهم وَمَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَاهُم فكذبوا رُسُلِي فَكيف} تجحدون.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات} أَي: واضحات. وَقَوله: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رجل يُرِيد أَن يصدكم} أَي: يمنعكم {غما كَانَ يعبد آباؤكم} أَي: من الْأَصْنَام. وَقَوله: {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إفْك مفترى} يَعْنِي: الْقُرْآن كذب مختلق. وَقَوله: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} أَي: بَين.

44

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَيْنَاهُم من كتب يدرسونها} أَي: يقرءونها. وَقَوله: {وَمَا أرسلنَا إِلَيْهِم قبلك من نَذِير} أَي: لم يَأْتِ الْعَرَب قبلك نَبِي، وَلَا ينزل عَلَيْهِم كتاب، وَالْمرَاد مِنْهُ قُرَيْش.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَكذب الَّذين من قبلهم} مَعْنَاهُ: الَّذين مضوا من قبلهم، وهم عَاد وَثَمُود وَقوم مُوسَى وَقوم إِبْرَاهِيم وَقوم لوط وَغَيرهم. وَقَوله: {وَمَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَاهُم} أَكثر أهل التَّفْسِير أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ أَن هَؤُلَاءِ الْكفَّار وهم قُرَيْش مَا بلغُوا معشار مَا آتَيْنَا الَّذين من قبلهم فِي الْقُوَّة وَالْمَال والآلة. وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: وَمَا بلغ الَّذين من قبلهم معشار مَا آتَيْنَا هَؤُلَاءِ يَعْنِي: أَن كتاب هَؤُلَاءِ أبين كتاب، ورسولهم أفضل رَسُول، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَأما المعشار فَهُوَ الْعشْر، وَقيل: عشر الْعشْر، وَذَلِكَ جُزْء من مائَة (جُزْء) ، وَقيل: هُوَ عشر عشر الْعشْر، وَهُوَ جُزْء من ألف جُزْء.

{كَانَ نَكِير (45) قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة أَن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بصاحبكم من جنَّة إِن هُوَ إِلَّا نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد (46) قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري إِلَّا على الله وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد (47) قل إِن رَبِّي يقذف} وَقَوله: {فكذبوا رُسُلِي فَكيف كَانَ نَكِير} أَي: إنكاري وتغييري.

46

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أعظكم بِوَاحِدَة} وَقَالَ مُجَاهِد: بِطَاعَة الله. وَقيل: بتوحيد الله، وَهُوَ قَوْله لَا إِلَه إِلَّا الله. وَذكر أهل الْمعَانِي مثل الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا أَن معنى قَوْله: {أعظكم بِوَاحِدَة} أَي: آمركُم بخصلة وَاحِدَة، ثمَّ بَين الْخصْلَة (فَقَالَ) : {أَن تقوموا لله مثنى وفرادى} أَي: تجتمعون فتنظرون وتحاورون وتنفردون، وتخلون فتتفكرون وَالْمعْنَى: انْظُرُوا فِي حَال مُحَمَّد عِنْد الِاجْتِمَاع وَعند الْخلْوَة فتعرفوا أَنه لَيْسَ بساحر، وَلَا بكاهن، وَلَا بِهِ جُنُون، وَلَا الَّذِي أَتَى بِهِ شعرًا. وَقَوله: {تقوموا لله} قَالَ أهل التَّفْسِير: لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الْقيام الَّذِي هُوَ ضد الْجُلُوس، وَإِنَّمَا هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَأَن تقوموا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} . وَقَوله: {ثمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بصاحبكم من جنَّة} أَي: جُنُون. وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد} أَي: عَظِيم.

47

قَوْله تَعَالَى: {قل مَا سألتكم من أجر} أَي: من جعل فَهُوَ لكم أَي: تركته لكم. وَالْمعْنَى: أَنِّي مَا سألتكم من جعل، لَا أَنه سَأَلَ وَترك. وَقَوله: {إِن أجري إِلَّا على الله} أَي: مَا ثوابي إِلَّا على الله. وَقَوله: {وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد} أَي: شَاهد.

48

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن رَبِّي يقذف بِالْحَقِّ} أَي: يَأْتِي بِالْحَقِّ. وَقَوله: {علام الغيوب} مَنْصُوب بِأَن، وَقُرِئَ: " علام الغيوب " بِالرَّفْع أَي: هُوَ علام الغيوب.

{بِالْحَقِّ علام الغيوب (48) قل جَاءَ الْحق وَمَا يبدئ الْبَاطِل وَمَا يُعِيد (49) قل إِن ضللت فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي وَإِن اهتديت فبمَا يوحي إِلَيّ رَبِّي إِنَّه سميع قريب}

49

قَوْله تَعَالَى: {قل جَاءَ الْحق} أَي: الْقُرْآن، وَقيل: الرَّسُول. وَقَوله: {وَمَا يبدئ الْبَاطِل} قَالَ قَتَادَة: الْبَاطِل هُوَ الشَّيْطَان هَا هُنَا أَي: مَا يبدئ الشَّيْطَان شَيْئا [ {وَمَا يُعِيد} ] . وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل، فَيذْهب الْبَاطِل وَلَا يبْقى مِنْهُ بَقِيَّة تبدئ شَيْئا أَو تعيده. وَقيل: الْبَاطِل هُوَ الْأَصْنَام.

50

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن ضللت فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما بعث رَسُول الله وَجعل يعيب الْأَصْنَام، قَالَ لَهُ الْمُشْركُونَ: إِنَّك قد ضللت بتركك دين آبَائِك؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {فَإِنَّمَا أضلّ على نَفسِي} أَي: إِثْم ضلالتي عَليّ. وَقَوله: {وَإِن اهتديت فبمَا يوحي إِلَيّ رَبِّي} أَي: من الْقُرْآن والحجج. وَقَوله: {إِنَّه سميع قريب} ظَاهر الْمَعْنى.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو ترى إِذْ فزعوا} مَعْنَاهُ: وَلَو ترى إِذْ فزعوا حِين يبعثون، وَفِي الْآيَة جَوَاب مَحْذُوف، والمحذوف: وَلَو ترى إِذا فزعوا حِين يبعثون لرأيت عِبْرَة يعتير بهَا، وَيُقَال: وَلَو ترى إِذْ فزعوا أَرَادَ بِهِ وَقت الْمَوْت. وَقَوله: {فَلَا فَوت} أى: لَا يفوتون من الله، كَمَا قَالَ الله فِي مَوضِع آخر: {ولات حِين مناص} . وَقَوله: {وَأخذُوا من مَكَان قريب} فِي التَّفْسِير: أخذُوا من تَحت أَقْدَامهم. وَيُقَال: أخذُوا من بطن الأَرْض (إِلَى ظهرهَا) .

( {50) وَلَو ترى إِذْ فزعوا فَلَا فَوت وَأخذُوا من مَكَان قريب (51) وَقُولُوا آمنا بِهِ وأنى لَهُم التناوش من مَكَان بعيد (52) وَقد كفرُوا بِهِ من قبل ويقذفون بِالْغَيْبِ من مَكَان}

52

قَوْله: {وَقَالُوا آمنا بِهِ} يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، وَقيل: عِنْد الْمَوْت، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده} . وَقَوله: {وأنى لَهُم التناوش} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَكثير من الْمُفَسّرين: التناوش هُوَ التَّنَاوُل قَالَ الشَّاعِر: (وَهِي تنوش الْحَوْض نوشا من علا (نوشا بِهِ تقطع) أجواز الفلا) وَمعنى الْآيَة على هَذَا أَنهم يُرِيدُونَ أَن يتناولوا الْإِيمَان، وَقد بعد عَنْهُم ذَلِك وفاتهم، فَأنى لَهُم ذَلِك. وَقُرِئَ " وأنى لَهُم التناوش " بِالْهَمْز، وَذكر أهل اللُّغَة أَن النئيش هُوَ الْحَرَكَة فِي إبطاء، فَالْمَعْنى على هَذَا أَنه من أَنى لَهُم حركتهم فِيمَا لَا حِيلَة لَهُم فِيهِ. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: معنى قَوْله: {وأنى لَهُم التناوش} أَنهم يسْأَلُون الرَّد إِلَى الدُّنْيَا، وأنى لَهُم الرَّد. وَقَوله: {من مَكَان بعيد} أى: من الْآخِرَة إِلَى الدُّنْيَا.

53

وَقَوله تَعَالَى: {وَقد كفرُوا بِهِ من قبل} أَي: بِالْقُرْآنِ، وَقيل: بِمُحَمد. وَقَوله: {من قبل} أَي: فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: {ويقذفون بِالْغَيْبِ} أَي: يظنون ظن الْغَيْب، وَمعنى ظن الْغَيْب: أَنهم يَقُولُونَ مَا لَا يعلمُونَ؛ وَقَوْلهمْ فِيمَا لَا يعلمُونَ هُوَ أَنهم قَالُوا: مُحَمَّد سَاحر، وكاذب، وكاهن، وشاعر، وَيُقَال: قَوْلهم فِيمَا لَا يعلمُونَ أَنهم يَقُولُونَ: (لَا بعث وَلَا جنَّة) وَلَا نَار.

{بعيد (53) وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون كَمَا فعل بأشياعهم من قبل إِنَّهُم كَانُوا فِي شكّ مريب (54) . وَقَوله: {من مَكَان بعيد} أَنهم يَقُولُونَ: مَا أبعد هَذَا، (وَيُقَال) : من مَكَان بعيد أَي: بعيد من (علمهمْ) . وَالْقَذْف هُوَ الرَّجْم وَالرَّمْي، وَجُمْلَة الْمَعْنى أَنهم يَخُوضُونَ فِيمَا لَا علم لَهُم بِهِ.

54

قَوْله تَعَالَى: {وحيل بَينهم وَبَين مَا يشتهون} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْإِيمَان وَقبُول التَّوْبَة. وَيُقَال: المَال وَالْولد. (وَقيل) : نعْمَة الدُّنْيَا وزهوتها. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: مَا تَلَوت هَذِه الْآيَة إِلَّا وَذكرت المَاء الْبَارِد. وَقَوله: {كَمَا فعل بأشياعهم من قبل} أَي: الْأُمَم الْمَاضِيَة. وَقيل: بأصحاب الْفِيل. والأشياع: جمع شيعَة، وهم الْفرق. وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا فِي شكّ مريب} أَي: فِي شكّ مرتابين، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الشاك كَافِر بِخِلَاف مَا قَالَه بعض النَّاس، وَهُوَ غلط عَظِيم فِي الدّين، وَقد دلّت هَذِه الْآيَة على أَن الشاك كَافِر وَهُوَ فِي النَّار، وَكَذَلِكَ دلّ على هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا فويل للَّذين كفرُوا من النَّار} فقد أوجب لَهُم الْكفْر وَالنَّار بِالظَّنِّ. وَقد رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا آمنا بِهِ وأنى لَهُم التناوش} قَالَ: هَذِه الْآيَة نزلت فِي جَيش السفياني، وَهُوَ رجل [يخرج] فِي أَخْوَاله من كلب، فَخسفَ الله بهم بِالْبَيْدَاءِ إِلَّا رجلا وَاحِدًا يخبر النَّاس مَا صنع الله بهم، وَفِيه قصَّة.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الْحَمد لله فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولي أَجْنِحَة مثنى وَثَلَاث} تَفْسِير سُورَة فاطر وَهِي مَكِّيَّة

فاطر

{الْحَمد لله فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} قد بَينا معنى الْحَمد، قَوْله: {فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: مبدعهما ومنشئهما بِلَا مِثَال. (وَقَوله) : {جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولى أَجْنِحَة} أَي: ذَوي أَجْنِحَة. وَقَوله: {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} أَي: مثنى مثنى، وَثَلَاث وَثَلَاث، وَربَاع وَربَاع أَي: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثَة ثَلَاثَة، وَأَرْبَعَة أَرْبَعَة. شعر فِي الْمثنى: (أحم الله ذَلِك من لِقَاء ... أحاد أحاد فِي شهرحلال) قَالَ الضَّحَّاك: مثنى جِبْرِيل، وَثَلَاث مِيكَائِيل، وَربَاع إسْرَافيل، وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت جِبْرِيل (عَلَيْهِ السَّلَام) وَله سِتّمائَة جنَاح قد سد الْأُفق ". وَرُوِيَ أَنه لما رَآهُ على هَذِه الصُّورَة صعق ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يغْتَسل كل يَوْم فِي نهر ثمَّ ينتقضن فَمَا تقع قَطْرَة إِلَّا خلق الله تَعَالَى مِنْهَا ملكا ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا أَن الله تَعَالَى خلق ملكا فِي

{وَربَاع يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء إِن الله على كل شَيْء قدير (1) مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (2) يَا} السَّمَاء شرفه وَرَفعه، وَذَلِكَ فِي الْخَبَر مَا شَاءَ الله من عظمه، فَهُوَ يسبح الله تَعَالَى، فَمَا ينْطق بتسبيحه إِلَّا خلق الله تَعَالَى مِنْهَا ملكا. وَقَوله: {يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء} أظهر الْأَقَاوِيل: أَن الله تَعَالَى يزِيد فِي خلق الْمَلَائِكَة وأجنحتهم مَا يَشَاء على مَا ذكرنَا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء: هُوَ الملاحة فِي الْعَيْش. وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ: هُوَ حسن الصَّوْت. وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره: أَنه الشّعْر الْجَعْد. وَعَن بعض التفاسير: أَنه زِيَادَة الْعقل والتمييز. وَعَن بَعضهم: هُوَ الْعلم بالصناعات. وَقَوله: {إِن الله على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

2

قَوْله تَعَالَى: {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا} أَي: من رزق وغيث. وَقيل: من عَافِيَة {فَلَا مُمْسك لَهَا} أَي: لَا حَابِس لَهَا. وَقَوله: {وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده} أَي: مَا يمْنَع فَلَا مُرْسل لَهُ من بعد الله أَي: سوى الله وَقد ثَبت أَن النَّبِي كَانَ يَقُول عقيب صَلَاة الْفَرِيضَة: " لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ على كل شَيْء قدير، اللَّهُمَّ لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ". وَثَبت هَذِه اللَّفْظَة عَنهُ أَنه قَالَهَا فِي الْقيام بَين الرُّكُوع وَالسُّجُود. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب فِي ملكة (الْجَحِيم فِي تَدْبِير خلقه) .

3

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم} أَي: منَّة الله عَلَيْكُم.

{أَيهَا النَّاس اذْكروا نعمت الله عَلَيْكُم هَل من خَالق غير الله يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون (3) وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت رسل من قبلك وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (4) يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد الله حق فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور (5) إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا إِنَّمَا يَدْعُو حزبه ليكونوا من} وَقَوله: {هَل من خَالق غير الله} اسْتِفْهَام على وَجه التَّقْرِير، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا خَالق غير الله. وَقَوله: {يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض} أَي: من السَّمَاء الْمَطَر، وَمن الأَرْض النَّبَات. وَقَوله: {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون} أَي: تصرفون عَن الْحق.

4

وَقَوله: {وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذبت رسل من قبلك وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} أَي: ترد الْأُمُور.

5

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس إِن وعد الله حق} يَعْنِي: وعد الْقِيَامَة حق. وَقَوله: {فَلَا [تغرنكم] الْحَيَاة الدُّنْيَا} وَفِي الْأَثر: أَن الله تَعَالَى مَا أعطي أحدا شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا اغْتِرَارًا، وَمَا زوى من أحد شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا اختبارا. وَقَوله: {وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} أَي: لَا يَغُرنكُمْ الْغرُور، وَهُوَ الشَّيْطَان. قَالَ الْحسن: من الْغرُور أَن تعْمل الْمعْصِيَة، وتتنمى على الله الْمَغْفِرَة.

6

قَوْله تَعَالَى: {إِن الشَّيْطَان لكم عَدو فاتخذوه عدوا} أَي: عادوه بِطَاعَة الله. وَقَوله: {إِنَّمَا يَدْعُو حزبه} أَي: أَتْبَاعه. وَقَوله: {ليكونوا من أَصْحَاب السعير} أَي: ليكونوا فِي السعير، والسعير هُوَ النَّار المتوقدة.

{أَصْحَاب السعير (6) الَّذين كفرُوا لَهُم عَذَاب شَدِيد وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم مغْفرَة وَأجر كريم (7) أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا فَإِن الله}

7

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كفرُوا لَهُم عَذَاب شَدِيد وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصلحات لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير} أَي: عَظِيم.

8

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله} نزلت الْآيَة فِي أبي جهل وَأبي بن خلف وَعتبَة وَشَيْبَة وَالْعَاص بن وَائِل وَالْأسود بن عبد يَغُوث وَعقبَة بن أبي معيط وأشباههم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْكفَّار؛ لِأَن عَلَيْهِ أَكثر أهل التَّفْسِير. وَعَن قَتَادَة: أَنه قَالَ: مِنْهُم الْخَوَارِج الَّذين يسْتَحلُّونَ الدِّمَاء وَالْأَمْوَال، قَالَ: وَأما أهل الْكَبَائِر فَلَيْسَ مِنْهُم؛ لأَنهم لَا يسْتَحلُّونَ الْكَبَائِر. وَكَذَلِكَ الْعمَّال الظلمَة، لأَنهم يظْلمُونَ، ويعلمون أَنَّهَا لَيست بحلال لَهُم. وَقَوله: {فَرَآهُ حسنا} (وَفِي الْآيَة حذف على طريقتين أَحدهمَا: أَن معنى الْآيَة أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا) كمن هداه الله {فَإِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} وَالطَّرِيق الثَّانِي، أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا ذهبت نَفسك عَلَيْهِ حسرة، فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات، فَإِن الله يضل من يَشَاء، وَيهْدِي من يَشَاء، وَالْحَسْرَة هُوَ النَّدَم الشَّديد على مَا فَاتَ. وَقَوله: {إِن الله عليم بِمَا يصنعون} ظَاهر الْمَعْنى.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتشير سحابا فسقناه إِلَى بلد ميت} أى: لَا ينْبت فِيهَا. وَقَوله: {فأحيينا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا [كَذَلِك] النشور} أَي: كَذَلِك النشور

{يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات إِن الله عليم بِمَا يصنعون (8) وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتثير سحابا فسقناه إِلَى بلد ميت فأحيينا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا كَذَلِك النشور (9) من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا إِلَيْهِ يصعد} فِي الْآخِرَة. وروى وَكِيع بن عدس عَن أبي رزين الْعقيلِيّ أَنه قَالَ: " يَا رَسُول الله، كَيفَ يحيي الله الْمَوْتَى؟ قَالَ لَهُ: هَل مَرَرْت قطّ بِأَرْض قحل أَي: يَابِس ثمَّ مَرَرْت بهَا وَهِي تهتز خضرًا قَالَ: نعم. قَالَ: كَذَلِك يحيي الله الْمَوْتَى ".

10

قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة} الْعِزَّة: هِيَ المنعة. وَقَوله: {فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا} قَالَ الْفراء: معنى الْآيَة: من كَانَ يُرِيد أَن يعلم لمن الْعِزَّة، فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا. وَقَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فليتعزز بِطَاعَة الله. قَالَ أهل النَّحْو: هَذَا مثل مَا يَقُول الْإِنْسَان: من كَانَ يُرِيد المَال فَالْمَال لفُلَان أَي: ليطلب المَال عِنْد فلَان، كَذَلِك معنى قَوْله: {من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا} أَي: فليطلب الْعِزَّة من عِنْده. وَقَالَ بعض أهل التَّفْسِير: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يعْبدُونَ الْأَصْنَام، ويتقربون بذلك إِلَى الله تَعَالَى، وَيطْلبُونَ الْعِزّ من عِنْد الْأَصْنَام، قَالَ الله تَعَالَى {وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة ليكونوا لَهُم عزا} فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمرهمْ أَن يطلبوا الْعِزّ من الله لَا من الْأَصْنَام. وَقَوله: {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} فِي الْكَلم الطّيب أَقْوَال أَحدهَا: أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله. وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن، ذكره شهر بن حَوْشَب، وَالثَّالِث: أَنه ذكر الله. وَعَن قَتَادَة

{الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات لَهُم عَذَاب شَدِيد ومكر} قَالَ: إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب [أَي] : يقبل الله الْكَلم الطّيب. وَعَن (ابْن مَسْعُود) قَالَ: مَا نحدثكم بِحَدِيث إِلَّا أَتَيْنَاكُم تَصْدِيق ذَلِك من كتاب الله تَعَالَى، ثمَّ قَالَ: مَا من عبد يَقُول سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر وتبارك الله، إِلَّا قبض عَلَيْهِنَّ (ملك) وضمهن تَحت جنَاحه، ثمَّ يصعد بهَا إِلَى السَّمَاء، ثمَّ [لَا] يمر بِجمع من الْمَلَائِكَة إِلَّا اسْتَغْفرُوا لِقَائِلِهِنَّ حَتَّى يَجِيء بِهن وَجه الرَّحْمَن ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} وَقيل: الْكَلم الطّيب هُوَ الدُّعَاء من الْعباد. وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى كل يَوْم: أَنا الْعَزِيز، فَمن أَرَادَ عز الدَّاريْنِ فليطع الْعَزِيز ". وَقَوله: {وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا رُوِيَ عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهم أَنهم قَالُوا: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ أَي: الْعَمَل الصَّالح يرفع الْكَلم الطيبِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول قَتَادَة؛ قَالَ: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ أَي: يرفعهُ الله. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ الْكَلم الطّيب. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول،

{أُولَئِكَ هُوَ يبور (10) وَالله خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ جعلكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره إِلَّا فِي كتاب إِن} وَقد رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: يعرض القَوْل على الْعَمَل، فَإِن وَافقه رفع القَوْل مَعَ الْعَمَل، وَإِن خَالفه كَانَ الْعَمَل أولى بِهِ. وَفِي بعض الْآثَار: أَن العَبْد إِذا قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله بنية صَادِقَة رفع إِلَى الله تَعَالَى وَله دوى كدوى النَّحْل، حَتَّى يلقى بَين يَدَيْهِ فَينْظر الله تَعَالَى [لَهُ] نظرة لَا ييأس بعْدهَا أبدا؛ هَذَا إِذا وَافقه عمله، وَإِن خَالفه وقف قَوْله حَتَّى يَتُوب من عمله. (وَإِن خَالفه وقف) . قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات} أَي: يعْملُونَ السَّيِّئَات، وَيُقَال: نزلت فِي مكر الْكفَّار برَسُول الله حَتَّى خرج من مَكَّة مُهَاجرا إِلَى الْمَدِينَة على مَا ذكرنَا. وَقَوله: {لَهُم عَذَاب شَدِيد ومكر أُولَئِكَ هُوَ يبور} أَي: يهْلك وَيبْطل.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَالله خَلقكُم من تُرَاب} التُّرَاب (جسم) مدقق من جنس الطين. وَقَوله: {ثمَّ من نُطْفَة} ذكر السّديّ أَن النُّطْفَة إِذا وَقعت فِي الرَّحِم طارت فِي كل عظم وَشعر و (عصب) فَإِذا مَضَت أَرْبَعُونَ يَوْمًا نزلت إِلَى الرَّحِم، وَخلق الله مِنْهَا الْعلقَة. وَقَوله: {ثمَّ جعلكُمْ أَزْوَاجًا} أَي: أصنافا. وَفِي تَفْسِير ابْن فَارس: {جعلكُمْ أَزْوَاجًا} أَي: زوج بَعْضكُم من بعض. وَقَوله: {وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ} أَي: لَا يغيب عَنهُ شَيْء من ذَلِك. وَقَوله: {وَمَا يعمر من معمر} يَعْنِي: مَا يطول عمر معمر حَتَّى يُدْرِكهُ الْهَرم. وَقَوله: {وَلَا ينقص من عمره} فَيرجع إِلَى الأول، وَالْجَوَاب: أَنه يجوز أَن يذكر على

{ذَلِك على الله يسير (11) وَمَا يَسْتَوِي البحران هَذَا عذب فرات سَائِغ شرابه وَهَذَا ملح أجاج وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وَترى الْفلك فِيهِ} هَذَا الْوَجْه، وَيُرَاد بِهِ غير الأول، وَهَذَا كَمَا أَن الرجل يَقُول: عِنْدِي دِرْهَم وَنصفه أَي: نصف دِرْهَم آخر، أوردهُ الزّجاج وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي: {وَمَا يعمر من معمر وَلَا ينقص من عمره} هُوَ منصرف إِلَى الأول. قَالَ كَعْب الْأَحْبَار حِين حضرا [عمر] الْوَفَاة: وَالله لَو دَعَا عمر ربه أَن يُؤَخر أَجله لأخره، فَقَالُوا لَهُ: إِن الله يَقُول: {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} . فَقَالَ: هَذَا إِذا حَضَره الْأَجَل، فَأَما قبل ذَلِك فَيجوز أَن يُزَاد وَينْقص، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة. وَذكر بَعضهم: أَن مِثَال هَذَا أَن الله تَعَالَى يكْتب أَن عمر فلَان مائَة سنة إِن أَطَاعَنِي، وعمره خَمْسُونَ أَو سِتُّونَ إِن عَصَانِي، وَهَذَا جَائِز. وَقَوله: {إِلَّا فِي كتاب} مَعْنَاهُ: إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوب فِي كتاب. وَفِي التَّفْسِير أَن الله تَعَالَى يكْتب أجل العَبْد فِي كتاب، ثمَّ يكْتب فِي كتاب (آخر) : قد انْتقصَ من عمره يَوْم، شهر، سنة، إِلَى أَن يسْتَوْفى أَجله. وَذكر بَعضهم أَنه يكْتب تَحت ذَلِك الْكتاب الأول. وَقَوله: {إِن ذَلِك على الله يسير} أَي: هَين.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هَذَا عذب فرات} أَي: شَدِيد العذوبة. وَقَوله: {سَائِغ شرابه} أَي: سهل الْمدْخل. وَقَوله: {وَهَذَا ملح أجاج} أَي: ملح شَدِيد الملوحة. وَفِي الْآيَة بَيَان الْقُدْرَة فِي خلق المَاء العذب والأجاج. وَقَوله: {وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا} أَي: الْحيتَان. وَقَوله: {وتستخرجون حلية تلبسونها} الدّرّ والمرجان والجواهر. قَالَ عِكْرِمَة: مَا

{مواخر لتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (12) يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي لأجل مُسَمّى ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك وَالَّذين تدعون من دونه مَا يملكُونَ من قطمير (13) إِن تدعوهم لَا يسمعوا دعاءكم وَلَو} قطرت من السَّمَاء قَطْرَة إِلَى الأَرْض إِلَّا أنبتت عشبة، وَمَا قطرت فِي الْبَحْر قَطْرَة إِلَّا صَارَت درة، فَإِن قيل: قد قَالَ: {وتستخرجون حلية تلبسونها} والدر والمرجان والجواهر لَا تخرج من الأجاج، وَإِنَّمَا تخرج من العذب؟ وَقد قَالَ: {وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا وتستخرجون [حلية] } الْجَواب عَنهُ: يجوز أَن ينْسب إِلَيْهِمَا وَإِن كَانَ يسْتَخْرج من أَحدهمَا، وَمثل هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب كثير. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَن فِي الْبَحْر الأجاج تكون عيُونا عذبة، فتمتزج بالملح، وَتَكون من بَين ذَلِك الْجَوَاهِر. وَقَوله: {وَترى الْفلك فِيهِ مواخر} قَالَ الْحسن: مواقير أَي: ممتلئة. وَعَن بَعضهم: مُعْتَرضَة تَجِيء وَتذهب. وَقيل: جواري. والمخر: هُوَ الشق، فَكَأَن الْفلك يشق المَاء بصدره، فَذكر مواخر على هَذَا الْمَعْنى. وَقَوله: {ولتبتغوا من فَضله} أَي: لتطلبوا من فَضله، وفضله هُوَ التِّجَارَات فِي الْبَحْر. وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} أَي: تشكرون نعم الله.

13

قَوْله تَعَالَى: {يولج اللَّيْل فِي النَّهَار} قد بَينا هَذَا من قبل. وَقَوله: { [ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل] وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر} قَالَ قَتَادَة: طول الشَّمْس ثَمَانُون فرسخا، وعرضها سِتُّونَ فرسخا. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: جرم الشَّمْس كسعة الدُّنْيَا (وَزِيَادَة ثلث، وجرم الْقَمَر كسعة الدني) بِلَا زِيَادَة. وَقَوله: {كل يجْرِي لأجل مُسَمّى} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك وَالَّذين تدعون من دونه} أَي: من الْأَصْنَام.

{سمعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكم وَيَوْم الْقِيَامَة يكفرون بشرككم وَلَا ينبئك مثل خَبِير (14) يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد (15) إِن يَشَأْ} وَقَوله: {مَا يملكُونَ من قمطير} قَالَ مُجَاهِد: القطمير: لفافة النواة، وَهُوَ كسحل البصلة، وَعَن بَعضهم: القمطير وسط النواة، وَالْمعْنَى أَنه يملك شَيْئا قَلِيلا وَلَا كثيرا.

14

قَوْله تَعَالَى: {إِن تدعوهم لَا يسمعوا دعاءكم} يَعْنِي: إِن تدعوا الْأَصْنَام لَا يسمعوا دعاءكم. وَقَوله: {وَلَو سمعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكم} أَي: مَا أجابوكم. وَقَوله: {وَيَوْم الْقِيَامَة يكفرون بشرككم} أَي: يجحدون بشرككم وموالاتكم إيَّاهُم. وَقَوله: {وَلَا ينبئك مثل خَبِير} أَي: وَلَا ينبئك بِهَذَا أحد مثلي، والخبير هُوَ الله تَعَالَى، وَالْمعْنَى أَن الَّذِي أَنْبَأَك بِهَذَا خَبِير بالأمور، عَالم بهَا.

15

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله} أَي: إِلَى فضل الله، وَالْفَقِير هُوَ الْمُحْتَاج. وَقَوله: {وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} أَي: الْغَنِيّ عَن خلقه، الْمَحْمُود فِي إحسانه بخلقه.

16

قَوْله تَعَالَى: {إِن يَشَأْ يذهبكم} أَي: يهلككم حَتَّى لَا يبْقى مِنْكُم عين تطرف. وَقَوله: {وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد} أَي: خلق لم يَكُونُوا أنشأهم وابتدأهم.

17

وَقَوله: {وَمَا ذَلِك على الله بعزيز} أَي: بشديد.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} أَي: لَا يُؤَاخذ أحد بذنب غَيره. وَقَوله: {وَإِن تدع مثقلة} أَي: مثقلة بِالذنُوبِ {إِلَى حملهَا} أَي: إِن دَعَوْت أحدا أَن يحمل ذنُوبه عَنهُ.

{يذهبكم وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد (16) وَمَا ذَلِك على الله بعزيز (17) وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى وَإِن تدع مثقلة إِلَى حملهَا لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى إِنَّمَا تنذر الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَمن تزكّى فَإِنَّمَا يتزكى لنَفسِهِ وَإِلَى الله الْمصير (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير (19) وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور (20) وَلَا الظل وَلَا} وَقَوله: {لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى} أَي: لَا يجد من يحمل عَنهُ، وَإِن كَانَ الْمَدْعُو قَرِيبا أَبَا أَو أَبنَاء. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الرجل (يلقِي) يَوْم الْقِيَامَة أَبَاهُ أَو ابْنه، فَيَقُول: احْمِلْ عني بعض ذُنُوبِي، فَيَقُول: لَا أَسْتَطِيع، حسبي مَا عَليّ. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي قَالَ لمن اسْلَمْ من بني مَخْزُوم: ارْجعُوا عَن الْإِسْلَام، وَأَنا أحمل ذنوبكم يَوْم الْقِيَامَة إِن خِفْتُمْ من الذُّنُوب؛ فَانْزِل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {إِنَّمَا تنذر الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} قد بَينا الخشية بِالْغَيْبِ. وَقَوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَمن تزكّى فَإِنَّمَا يتزكى لنَفسِهِ} معنى التزكي هَا هُنَا هُوَ الْعَمَل الصَّالح. وَقَوله: {وَإِلَى الله الْمصير} أَي: الْمرجع.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} معنى الْأَعْمَى: عَن الْهدى، والبصير بِالْهدى. وَعَن بَعضهم: الْأَعْمَى عَن الْحق، والبصير بِالْحَقِّ.

20

وَقَوله: {وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور} والظلمات هِيَ الضلالات {وَلَا النُّور} هُوَ الْهِدَايَة وَالْبَيَان من الله تَعَالَى. وَقيل: هَذَا تَمْثِيل الْكفْر وَالْإِيمَان.

21

وَقَوله: {وَلَا الظل وَلَا الحرور} أَي: الْجنَّة وَالنَّار. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الحرور يكون بِالنَّهَارِ مَعَ الشَّمْس. وَعَن غَيره: السمُوم بِالنَّهَارِ، والحرور بِاللَّيْلِ. وَعَن بَعضهم: الحرور هُوَ الْحر الدَّائِم لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا، قَالَ الشَّاعِر:

{الحرور (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات إِن الله يسمع من يَشَاء وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور (22) إِن أَنْت إِلَّا نَذِير (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير (24) وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذب الَّذين من قبلهم جَاءَتْهُم} (وهاجرة يشوي الْوُجُوه حرورها ... )

22

وَقَوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات} أَي: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكفَّار. وَعَن [ابْن] قُتَيْبَة قَالَ: الْعلمَاء والجهال. وَقَوله: {إِن الله يسمع من يَشَاء} أَي: من يَشَاء إسماعه. وَقَوله: {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} أَي: لَا تسمع الْكفَّار، وشبههم بالأموات فِي الْقُبُور.

23

وَقَوله: {إِن أَنْت إِلَّا نَذِير} أَي: مُنْذر.

24

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا} أَي مبشرا ومنذرا. وَقَوله: {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} أَي: مُنْذر. وَفِي بعض التفاسير: إِلَّا الْعَرَب لم يكن لَهُم نَبِي سوى النَّبِي. وَفِي بعض الحكايات: أَن بهْلُول الْمَجْنُون لَقِي أَبَا يُوسُف القَاضِي، فَقَالَ لَهُ: إِن الله تَعَالَى يَقُول: {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} وَقَالَ النَّبِي: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها "، فَمَا نَذِير الْكلاب؟ ! فتحير أَبُو يُوسُف؛ فَأخْرج حجرا من كمه وَقَالَ: هَذَا نَذِير الْكلاب.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُكذِّبُوك فقد كذب الَّذين من قبلهم جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب الْمُنِير} أَي: الْكتاب الْوَاضِح، وَذكر الْكتاب بعد الزبر على طَرِيق

{رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ وبالزبر وبالكتاب الْمُنِير (25) ثمَّ أخذت الَّذين كفرُوا فَكيف كَانَ نَكِير (26) ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ ثَمَرَات مُخْتَلفا ألوانها وَمن الْجبَال جدد بيض وحمر مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود (27) وَمن النَّاس وَالدَّوَاب والأنعام مُخْتَلف ألوانه كَذَلِك إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء إِن الله عَزِيز غَفُور} التَّأْكِيد.

26

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أخذت الَّذين كفرُوا فَكيف كَانَ نَكِير} أَي: إنكاري وتغييري.

27

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء} (قَوْله) : {فأخرجنا بِهِ ثَمَرَات مُخْتَلفا ألوانها} أَي: أَبيض وأحمر وأصفر، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {وَمن الْجبَال جدد} أَي: طرائق (وخطط) {بيض} ، والجدد: جمع جدة، وَهُوَ الطَّرِيق. وَقَوله: ( {وحمر} ) أَي: طرائق حمرَة. قَوْله: {مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود} أَي: سود غرابيب على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، يُقَال: أسود غربيب أَي: شَدِيد السوَاد، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله يكره الشَّيْخ الغربيب " أَي الَّذِي يسود لحيته، والخضاب بالحمرة سنة، أما بِالسَّوَادِ مَكْرُوه. وَمعنى الْآيَة أى: طرائق سود.

28

وَقَوله: {وَمن النَّاس وَالدَّوَاب والأنعاممختلف ألوانه كَذَلِك} أى: مُخْتَلف ألوان هَذِه الْأَشْيَاء، كَمَا اخْتلفت ألوان مَا سبق ذكره.

( {28) إِن الَّذين يَتلون كتاب الله وَأَقَامُوا الصَّلَاة وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة يرجون تِجَارَة لن تبور (29) ليوفيهم أُجُورهم ويزيدهم من فَضله إِنَّه غَفُور شكور (30) وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك من الْكتاب هُوَ الْحق مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ إِن الله بعباده} وَقَوله: {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} وَمن الْمَعْرُوف فِي الْآثَار: " رَأس الْعلم خشيَة الله ". وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا: كفى بخشية الله علما، وبالاغترار بِهِ جهلا. وَيُقَال: أول كلمة فِي الزبُور رَأس الْحِكْمَة خشيَة الله. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء أَي: من يعلم ملكي وعزي وسلطاني. وَعَن بَعضهم: إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء الَّذين يعلمُونَ أَن الله على كل شَيْء قدير، وَعَن بعض التَّابِعين قَالَ: من لم يخْش الله فَلَيْسَ بعالم. وَيُقَال: خف الله بِقدر قدرته عَلَيْك، واستح من الله بِقدر قربه مِنْك. وَقَوله: {إِن الله عَزِيز غَفُور} أَي: عَزِيز فِي ملكه، غَفُور (لذنوب عباده) .

29

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَتلون كتاب الله وَأَقَامُوا الصَّلَاة وأنفقوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سرا وَعَلَانِيَة يرجون تِجَارَة لن تبور} أَي: لن تهْلك وَلنْ تفْسد، وَالْمرَاد من التِّجَارَة مَا وعده الله من الثَّوَاب.

30

قَوْله تَعَالَى: {ليوفيهم أُجُورهم} أَي: ثَوَاب أَعْمَالهم. وَقَوله: {ويزيدهم من فَضله} هُوَ تَضْعِيف الْحَسَنَات، قَالَ بَعضهم: هُوَ الشَّفَاعَة لمن أحسن إِلَيْهِم، فعلى هَذَا يشفع الْفَقِير للغنى الَّذِي تصدق عَلَيْهِ. وَقَوله: {إِنَّه غَفُور شكور} يُقَال: يغْفر الْكثير من الذُّنُوب، ويشكر الْيَسِير من الطَّاعَات.

{لخبير بَصِير (31) ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات بِإِذن الله ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير (32) جنَّات}

31

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك من الْكتاب هُوَ الْحق مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ} أَي: من الْكتب الْمُتَقَدّمَة. وَقَوله: {إِن الله بعباده لخبير بَصِير} أَي خَبِير بِمَا فِي ضمائرهم، بَصِير [بأفعالهم] .

32

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد من قَوْله: {الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} هَذِه الْأمة، وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ الْأَنْبِيَاء، وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ بَنو إِسْرَائِيل، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور. وَقَوله: {وأورثنا الْكتاب} المُرَاد من الْكتاب: هُوَ الْقُرْآن. وَمعنى الْآيَة: أى انْتهى إِلَيْهِم الْأَمر بإنزالنا عَلَيْهِم الْقُرْآن، وبإرسالنا مُحَمَّدًا إِلَيْهِم. وَقَوله: {فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ} اخْتلف القَوْل فِي المُرَاد بالظالم، فَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالظالم هُوَ الْكَافِر، ذكره الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ الْمُنَافِق، فعلى هَذَا لَا يدْخل الظَّالِم فِي قَوْله: {جنَّات عدن يدْخلُونَهَا} وَقد رُوِيَ هَذَا القَوْل أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَنه حمل الظَّالِم على الْكَافِر. وَالْقَوْل الْمَشْهُور أَن الظَّالِم لنَفسِهِ من الْمُؤمنِينَ، وعَلى هَذَا يَسْتَقِيم نسق الْآيَة، وعَلى القَوْل الأول يحمل قَوْله: {الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا} على الاصطفاء فِي الْخلقَة وإرسال الرَّسُول وإنزال الْكتاب، وعَلى القَوْل الثَّانِي يحمل الأصطفاء على الزِّيَادَة الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة من بَين سَائِر الْأُمَم. وَقد روى شهر بن جوشب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَابِقنَا سَابق، وَمُقْتَصِدنَا نَاجٍ، وَظَالِمنَا مغْفُور. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: السَّابِق هم الَّذين مضوا على عهد النَّبِي، والمقتصد هم الَّذين اتَّبَعُوهُمْ، والظالم مثلي وَمثلك، تَقول ذَلِك للمخاطب.

{عدن يدْخلُونَهَا يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فِيهَا حَرِير (33) وَعَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: السَّابِق هُوَ الَّذِي لَا يُحَاسب أصلا يَوْم الْقِيَامَة، والمقتصد هُوَ الَّذِي يُحَاسب حسابا يَسِيرا وَيدخل الْجنَّة، والظالم هُوَ الَّذِي يُحَاسب حسابا شَدِيدا وَيدخل النَّار ثمَّ ينجو. وَعَن بَعضهم: أَن الظَّالِم لنَفسِهِ هم أَصْحَاب المشأمة، والمقتصد هم أَصْحَاب الميمنة، وَالسَّابِقُونَ هم المقربون، ذكره السّديّ، فعلى هَذَا الظَّالِم لنَفسِهِ كَافِر. وَعَن بَعضهم: أَن الظَّالِم لنَفسِهِ هم أَصْحَاب الْكَبَائِر، والمقتصد هم أَصْحَاب الصَّغَائِر، وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي لم يرتكب صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة، وَعبر بَعضهم عَن هَذَا؛ قَالَ: المقتصد هم أَصْحَاب التَّوَسُّط فِي الطَّاعَات، فعلى هَذَا من غلبت سيئاته على حَسَنَاته فَهُوَ ظَالِم، وَمن اسْتَوَت سيئاته وحسناته فَهُوَ مقتصد، وَمن غلبت حَسَنَاته على سيئاته فَهُوَ سَابق، وَهَذَا قَول مَعْرُوف مأثور [عَن رَسُول الله] . وَعَن بَعضهم قَالَ: الظَّالِم آدم، والمقتصد إِبْرَاهِيم، وَالسَّابِق هُوَ مُحَمَّد. وَقَالَ بَعضهم: الظَّالِم هُوَ المريد، والمقتصد هُوَ الْمُحب، وَالسَّابِق هُوَ الواله. وَقَالَ بَعضهم: الظَّالِم هُوَ الَّذِي همه نَفسه وَالدُّنْيَا، والمقتصد هُوَ الَّذِي همه الْجنَّة، وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي همه ربه. وَعَن بَعضهم قَالَ: الظَّالِم هُوَ الْوَاقِف، والمقتصد هُوَ السائر، وَالسَّابِق هُوَ الْوَاصِل. وَفِي الْآيَة كَلَام كثير. وَقَوله: { [وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق] بالخيرات بِإِذن الله} أَي: بالطاعات: بِعلم الله. وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير} أَي: الْفضل الْعَظِيم.

33

قَوْله تَعَالَى: {جنَّات عدن يدْخلُونَهَا} رُوِيَ عَن جَعْفَر الصَّادِق رَضِي الله عَنهُ

{وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن إِن رَبنَا لغَفُور شكور (34) الَّذِي أحلنا دَار المقامة من فَضله لَا يمسنا فِيهَا نصب وَلَا يمسنا فِيهَا لغوب (35) وَالَّذين كفرُوا لَهُم} أَنه قَالَ: أَرْجَى آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة؛ لِأَنَّهُ جمع بَين الظَّالِم والمقتصد وَالسَّابِق، ثمَّ قَالَ: {جنَّات عدن يدخلوها} وَعَن بَعضهم قَالَ: إِن الْوَاو فِي قَوْله: {يدْخلُونَهَا} أحب إِلَيّ من كَذَا وَكَذَا. وَعَن كثير من السّلف أَنهم قَالُوا: كل هَؤُلَاءِ من هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب} ظَاهر الْمَعْنى. والأساور: جمع السوار. وَقَوله: {ولؤلؤ} أَي: من ذهب ولؤلؤ، وَقُرِئَ: " ولؤلؤا " بِالنّصب أَي: يحلونَ لؤلؤا. وَقَوله: {ولباسهم فِيهَا حَرِير} أَي: الديباج. وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة "، وَقَالَ: " هُوَ لَهُم فِي الدُّنْيَا، وَلنَا فِي الْآخِرَة ".

34

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن} قَالَ ابْن عَبَّاس: حزن النَّار. وَعَن قَتَادَة: حزن الْمَوْت. وَعَن بَعضهم: هم الْمَعيشَة. وَقَالَ مُجَاهِد: هم الْخبز. وَالْأولَى أَن يحمل على جَمِيع الأحزان، فهم ينجون عَن كلهَا، وَمن الْمَعْرُوف أَن الْحزن: هُوَ حزن أهوال الْقِيَامَة. وَقَوله: {إِن رَبنَا لغَفُور شكور} قد بَينا.

35

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي أحلنا دَار المقامة من فَضله} قد بَينا معنى المقامة والمقامة. وَقَوله تَعَالَى: {لَا يمسنا فِيهَا نصب وَلَا يمسنا فِيهَا لغوب} أَي: تَعب وإعياء.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا لَهُم نَار جَهَنَّم لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا} أَي: لَا يقْضِي عَلَيْهِم الْمَوْت فيموتوا. وَقَوله: {وَلَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا} أَي: من عَذَاب النَّار.

{نَار جَهَنَّم لَا يقْضى عَلَيْهِم فيموتوا وَلَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا كَذَلِك نجزي كل كفور (36) وهم يصطرخون فِيهَا رَبنَا أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل أَو لم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر وَجَاءَكُم النذير فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير (37) } وَقَوله: {كَذَلِك نجزي كل كفور} أَي: كفور للنعمة.

37

قَوْله تَعَالَى: {وهم يصطرخون فِيهَا} يصطرخون يفتعلون من الصُّرَاخ، وَهُوَ الصياح. وَقَوله: {رَبنَا أخرجنَا} أَي: يصطرخون وَيَقُولُونَ: {رَبنَا أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل} أَي: نعمل من الصَّالِحَات بدل مَا كُنَّا نعمل من السَّيِّئَات. وَقَوله: {أَو لم نُعَمِّركُمْ} أَي: يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: {أَو لم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر} مَعْنَاهُ: أَو لم نُعَمِّركُمْ الْعُمر الَّذِي يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر. وَاخْتلف القَوْل فِي ذَلِك الْعُمر؛ فالأكثرون على أَنه سِتُّونَ سنة، (وَهَذَا) مَرْوِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من عمره الله سِتِّينَ سنة فقد أعذر إِلَيْهِ فِي الْعُمر ". وَعَن بَعضهم: أَنه أَرْبَعُونَ سنة. وَعَن بَعضهم: ثَمَانِيَة عشر سنة. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْبلُوغ. وَعَن بَعضهم: هُوَ سَبْعُونَ سنة؛ لِأَنَّهُ، عِنْد ذَلِك يدْخل فِي الْهَرم. وَقَوله: {وَجَاءَكُم النذير} أَي: مُحَمَّد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الشيب، حكى ذَلِك عَن وهب بن مُنَبّه وَغَيره. وَفِي الْأَثر: مَا من شَعْرَة تبيض إِلَّا قَالَت لأختها: يَا أُخْتِي، استعدي فقد قرب الْمَوْت. وَقَالَ بَعضهم: الشيب (حطام) الْمنية. وَسَماهُ بَعضهم بريد الْمَوْت.

{إِن الله عَالم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (38) هُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الأَرْض فَمن كفر فَعَلَيهِ كفره وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم عِنْد رَبهم إِلَّا مقتا وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم إِلَّا خسارا (39) قل أَرَأَيْتُم شركاءكم الَّذين تدعون من دون} وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَوْله: {وَجَاءَكُم النذير} كل مَا ينذر ويخوف بهَا. وَفِي غَرِيب التَّفْسِير: أَنه الْحمى. وَقيل أَيْضا: هُوَ الْعقل. وَقَوله: {فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير} أَي: نَاصِر.

38

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله عَالم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض} (الْآيَة) ظَاهر الْمَعْنى.

39

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الأَرْض} أَي: يخلف بَعْضكُم بَعْضًا، وكل من تَلا إنْسَانا، وَقَامَ بعده فَهُوَ خَلِيفَته، وَلِهَذَا سمي أَبُو بكر خَليفَة رَسُول الله؛ لِأَنَّهُ قَامَ بِالْأَمر بعده، وَإِلَّا فَعِنْدَ أهل الْعلم أَن الرَّسُول توفّي، وَلم يسْتَخْلف أحدا. وَمن هَذَا قَول عمر رَضِي الله عَنهُ حِين حَضرته الْوَفَاة. وَقيل لَهُ: اسْتخْلف. فَقَالَ: إِن لم أستخلف فَلم يسْتَخْلف رَسُول الله، وَإِن اسْتخْلف فقد أستخلف أَبُو بكر، وَهَذَا قو ل ثَابت عَن عمر. وَقَوله: {فَمن كفر فَعَلَيهِ كفره} أَي: فَعَلَيهِ وبال كفره. وَقَوله: {وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم عِنْد رَبهم إِلَّا مقتا} أَي: بغضا. وَقيل: مَا يُوجب لَهُم المقت. وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم إِلَّا خسارا} أَي: خسرانا.

40

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم شركاءكم الَّذين تدعون من دون الله} أَي: الَّذين جعلتموهم شركائي على زعمكم من الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة. وَقَوله: {اروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض} أَي: أعلموني. وَقَوله: {أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات} أَي: شركَة.

{الله أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات أم آتَيْنَاهُم كتابا فهم على بَيِّنَة مِنْهُ بل إِن يعد الظَّالِمُونَ بَعضهم بَعْضًا إِلَّا غرُورًا (40) إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) } وَقَوله: {أم آتَيْنَاهُم كتابا فهم على بَيِّنَة مِنْهُ} أَي: على دَلَائِل وَاضِحَة مِنْهُ. وَقَوله: {بل إِن يعد الظَّالِمُونَ} أَي: مَا يعد الظَّالِمُونَ بَعضهم بَعْضًا إِلَّا غرُورًا، والغرور كل مَا يغر الْإِنْسَان مِمَّا لَا أصل لَهُ.

41

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يمسك السَّمَوَات وَالْأَرْض أَن تَزُولَا} مَعْنَاهُ: لِئَلَّا تَزُولَا، وَقيل: كَرَاهَة أَن تَزُولَا. وَقَوله: {وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده} أَي: لَا يمسكهما أحد سواهُ، فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {وَلَئِن زالتا} وَهِي لَا تَزُول؟ وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى قد قَالَ: {تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا} وَالله تَعَالَى يمسكهما عَن هَذِه الْأَشْيَاء. وَفِي بعض الْآثَار: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: يَا رب، كَيفَ أعلم [أَنَّك] لَا تنام؟ فَوضع فِي يَدَيْهِ قَارُورَتَيْنِ على مَا ذكرنَا. وَفِي بعض التفاسير: أَن الأَرْض ثَقيلَة متسلفة، وَالسَّمَاء خَفِيفَة مستطيرة، وَقد ألصق الله تَعَالَى أَطْرَاف السَّمَوَات بأطراف الْأَرْضين، فالسماء تمنع الأَرْض بتصعدها عَن التسفل، وَالْأَرْض تمنع السَّمَاء بثقلها عَن الصعُود، حَكَاهُ النقاش، وَالله أعلم. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فَإِن قيل: مَا معنى ذكر الْحلم هَا هُنَا؟ قُلْنَا: لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء هَمت بِمَا هَمت عُقُوبَة للْكفَّار، فَأَمْسكهَا الله تَعَالَى، وَلم يَدعهَا أَن تَزُول تركا للمعالجة فِي الْعقُوبَة، وَكَانَ ذَلِك حلما مِنْهُ جلّ جَلَاله.

{وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانكُم لَئِن جَاءَهُم نَذِير لَيَكُونن أهْدى من إِحْدَى الْأُمَم فَلَمَّا جَاءَهُم نَذِير مَا زادهم إِلَّا نفورا (42) استكبارا فِي الأَرْض ومكر السَّيئ وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله فَهَل ينظرُونَ إِلَّا سنت الْأَوَّلين فَلَنْ تَجِد لسنت الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنت الله تحويلا (43) أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين}

42

قَوْله تَعَالَى: {وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم} هَذَا فِي مُشْركي مَكَّة، فَإِنَّهُم كَانُوا قَالُوا: لَو جَاءَنَا نَذِير لَكنا أهْدى أَي: أقبل للْكتاب، وألزم لَهُ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَلم يفوا بِمَا قَالُوا حِين جَاءَهُم الرَّسُول، فَأنْزل الله تَعَالَى فِي شَأْنهمْ، فَهُوَ معنى قَوْله: {لَئِن جَاءَهُم نَذِير لَيَكُونن أهْدى من إِحْدَى الْأُمَم} أَي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى. وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم نَذِير} أَي: مُحَمَّد {مَا زادهم إِلَّا نفورا} أَي: مَا زادهم الْمَجِيء إِلَّا نفورا.

43

قَوْله تَعَالَى: {استكبارا فِي الأَرْض} يَعْنِي: أَنهم ردوا مَا ردوا استكبارا فِي الأَرْض. وَقَوله: {ومكر السَّيئ} أَي: وَفعل الْمَكْر السَّيئ، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " ومكرا سَيِّئًا ". وَفِي الْمَكْر السَّيئ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشّرك، وَالْآخر: أَنه الْمَكْر برَسُول الله. وَقَوله: {وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله} أَي: لَا تنزل عُقُوبَة الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن وبال الْمَكْر رَاجع إِلَيْهِم. وَقَوله: {فَهَل ينظرُونَ إِلَّا سنة الْأَوَّلين} (أَي: طَريقَة الْأَوَّلين) فِي الإهلاك ونزول الْعَذَاب لَهُم. وَقَوله: {فَلَنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا} ظَاهر الْمَعْنى، وَالْمرَاد من التّكْرَار هُوَ التَّأْكِيد.

44

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم وَكَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وَمَا كَانَ الله ليعجزه} أَي: ليفوت عَنهُ.

{من قبلهم وَكَانُوا أَشد مِنْهُم قُوَّة وَمَا كَانَ الله ليعجزه من شَيْء فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض إِنَّه كَانَ عليما قَدِيرًا (44) وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى فَإِذا جَاءَ أَجلهم فَإِن الله كَانَ بعباده بَصيرًا (45) } . وَقَوله: {من شَيْء فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض إِنَّه كَانَ عليما قَدِيرًا} ظَاهر الْمَعْنى.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو يُؤَاخذ الله النَّاس بِمَا كسبوا} من القبائح والمعاصي. وَقَوله: {مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة} أَي: على ظهر الأَرْض بِمَا كسب النَّاس من الذُّنُوب. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: إِن الْجعل تعذب فِي حجرها بذنب ابْن آدم. وَقَوله: {وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى} أَي: إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة. وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ أَجلهم فَإِن الله كَانَ بعباده بَصيرًا} أَي: بَصيرًا بأعمالهم يجازيهم عَلَيْهَا، الْحَسَنَة بِالْحَسَنَة، والسيئة بِالسَّيِّئَةِ. بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يس (1) وَالْقُرْآن الْكَرِيم (2) إِنَّك لمن الْمُرْسلين (3) على صِرَاط مُسْتَقِيم} تَفْسِير سُورَة يس وَهِي مَكِّيَّة، وروى مقَاتل بن حَيَّان، عَن قَتَادَة، عَن أنس، عَن النَّبِي قَالَ: " إِن لكل شَيْء قلبا، وَإِن قلب الْقُرْآن سُورَة يس، وَمن قَرَأَ سُورَة يس أعطَاهُ الله ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن عشر مَرَّات. وَالْخَبَر غَرِيب أوردهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه، وَالله أعلم.

يس

قَوْله تَعَالَى: {يس} قَالَ ابْن عَبَّاس: قسم أقسم الله بِهِ، وَقَالَ قَتَادَة: اسْم للسورة، وَقَالَ مُجَاهِد: يس من فواتح الْقُرْآن، وَقَالَ (الْحسن) وَسَعِيد بن جُبَير وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة معنى قَوْله: {يس} يَا إِنْسَان، وَهَذَا هُوَ أشهر الْأَقَاوِيل، قَالَ ثَعْلَب: هُوَ يَا إِنْسَان بلغَة طي، وَقَالَ غَيره: بلغَة كلب، وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر: " يسن " بِالنّصب، وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَا مُحَمَّد.

2

وَقَوله: {وَالْقُرْآن الْحَكِيم} يَعْنِي: وَالْقُرْآن الَّذِي أحكم بِالْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب،

3

وَقَوله، {إِنَّك لمن الْمُرْسلين} على هَذَا وَقع الْقسم؛ فَكَأَن الله تَعَالَى أقسم بِالْقُرْآنِ أَن مُحَمَّدًا من الْمُرْسلين. وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: سمى الله رَسُوله مُحَمَّدًا فِي

( {4) تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم (5) لتنذر قوما مَا أنذر آباؤهم فهم غافلون (6) لقد حق القَوْل على أَكْثَرهم فهم لَا يُؤمنُونَ (7) إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم أغلالا فَهِيَ إِلَى} الْقُرْآن بسبعة أَسمَاء: مُحَمَّد، وَأحمد، وطه، وَيس، والمدثر، والمزمل، وَعبد الله.

4

وَقَوله: {على صِرَاط مُسْتَقِيم} فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه خبر بعد خبر، وَالْآخر أَن مَعْنَاهُ: إِنَّك لمن الْمُرْسلين الَّذين هم على صِرَاط مُسْتَقِيم.

5

وَقَوله: {تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم} أَي: هُوَ تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم، وَقُرِئَ: " تَنْزِيل " بِنصب اللَّام أَي: أنزلهُ الله تَنْزِيل الْعَزِيز الرَّحِيم.

6

قَوْله تَعَالَى: {لتنذر قوما مَا أنذر آباؤهم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن " مَا " للنَّفْي، وَالْمعْنَى. لم ينذر آباؤهم أصلا؛ فَإِن الله تَعَالَى مَا بعث إِلَى قُرَيْش سوى النَّبِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " مَا " هَا هُنَا بِمَعْنى الَّذِي، فَمَعْنَى الْآيَة على هَذَا لتنذر قوما بِالَّذِي أنذر آباؤهم. وَقَوله: {فهم غافلون} أَي: عَن الْإِنْذَار، وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي " أَن مُضر كَانَ قد أسلم ". وَحكى أَبُو عُبَيْدَة أَن تميما كَانَ يكنى أَبَا زيد، وَكَانَ لَهُ صنم يعبده، فَأسلم وَدفن صنمه، ثمَّ إِن ابْنه زيدا استخرج الصَّنَم من ذَلِك الْمَكَان، وَعَبده فَسمى زيد مَنَاة.

7

قَوْله تَعَالَى: {لقد حق القَوْل} أَي: وَجب القَوْل على أَكْثَرهم، وَمعنى وجوب القَوْل هُوَ وجوب الحكم بِالْعَذَابِ، وَقَوله: { [على أَكْثَرهم] فهم لَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يصدقون.

8

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم أغلالا} فَإِن قيل: الغل إِنَّمَا يكون على الْيَد! وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَادة أَن الْيَد تغل إِلَى الْعُنُق، فَذكر الْأَعْنَاق لهَذَا الْمَعْنى، وَاكْتفى

{الأذقان فهم مقحمون (8) وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا وَمن خَلفهم سدا فأغشيناهم} بذكرها عَن ذكر الْأَيْدِي، قَالَ الْأَزْهَرِي: معنى الْآيَة: إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم وأيديهم أغلالا، فَهِيَ كِنَايَة عَن الْأَيْدِي. فَإِن قيل: فَكيف يكنى عَن الْأَيْدِي وَلم يجر لَهَا ذكر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْعَرَب تكني عَن الشَّيْء وَإِن لم تجر لَهُ ذكرا، إِذا كَانَ مَعْلُوما. قَالَ الشَّاعِر: (وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ... أُرِيد الْخَيْر أَيهمَا يليني) (أألخير الَّذِي أَنا أبتغيه ... أم الشَّرّ الَّذِي هُوَ يبتغيني) فقد كنى بقوله: أَيهمَا عَن الشَّرّ وَالْخَيْر، وَالشَّر غير مَذْكُور. وَقَوله: {إِلَى الأذقان} مَعْنَاهُ: إِلَى الْأَعْنَاق إِلَّا أَنه ذكر الأذقان لقرب الْأَعْنَاق من الأذقان، وَقَوله: {فهم مقحمون} المقمح: هُوَ الَّذِي رفع رَأسه وغض طرفه، وَالْعرب تسمى الكانونين شَهْري القماح؛ لِأَن الْإِبِل ترد المَاء وتشرب، فَترفع رَأسهَا من شدَّة الْبرد، قَالَ الشَّاعِر: (وَنحن على جوانبه قعُود ... نغض الطّرف كَالْإِبِلِ القماح) وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " إِنَّا جعلنَا فِي أَيْمَانهم أغلالا "، وَهِي قِرَاءَة مَعْرُوفَة عَنهُ.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا} وَقُرِئَ: " سدا " بِرَفْع السِّين. قَالَ عِكْرِمَة: مَا كَانَ من صنع الله فَهُوَ سد، وَمَا كَانَ من صنع المخلوقين فَهُوَ سد، وَقَالَ غَيره: السد مَا يرى، والسد مَا لَا يرى، وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا، وَقَالَ هما بِمَعْنى وَاحِد. قَالَ أهل التَّفْسِير: ذكر السد هَا هُنَا على طَرِيق ضرب الْمثل، وَكَذَلِكَ ذكر الأغلال فِي الْآيَة الأولى على قَول بَعضهم، وَالْمعْنَى من ذكر الأغلال مَنعهم عَن الْإِنْفَاق فِي

{فهم لَا يبصرون (9) وَسَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ (10) إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر وخشي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فبشره بمغفرة وَأجر كريم (11) إِنَّا نَحن} سَبِيل الله. وَالْمعْنَى من السد هُوَ الْمَنْع من الْهِدَايَة. وَذكر بَعضهم: أَن الْآيَة نزلت على سَبَب، وَهُوَ أَن قوما من بني مَخْزُوم تشاوروا فِي قتل النَّبِي، فجَاء أحدهم ليَقْتُلهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة؛ فَجعل يسمع صَوته وَلَا يرى شخصه، وَجَاء آخر فَرَأى شَيْئا عَظِيما يَقْصِدهُ بِالْهَلَاكِ، فخاف وَرجع، وَيُقَال: إِن الثَّانِي كَانَ أَبُو جهل عَلَيْهِ لعنة الله، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِي هَذَا، وَهُوَ قَوْله " {وَجَعَلنَا من بَين أَيْديهم سدا} . وَقَوله: {فأغشيناهم} من التغشية والتغطية، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَعمر بن عبد الْعَزِيز " فأغشيناهم " بِالْعينِ غير الْمُعْجَمَة، من قَوْله تَعَالَى: {وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا [فَهُوَ لَهُ قرين] } أَي: تعمى، فَمَعْنَى قَوْله: [ {أغشيناهم} ] أَي: أعميناهم. وَقَوله: {فهم لَا يبصرون} أى: طَرِيق الْحق.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَسَوَاء عَلَيْهِم أانذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ} هَذَا فِي أَقوام بأعيانهم، وَقد مضوا وَلم يُؤمنُوا على مَا قَالَ الله تَعَالَى.

11

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا تنذر من اتبع الذّكر} أَي: اسْتمع الذّكر، وَهُوَ الْقُرْآن، وَاتبع مَا فِيهِ، وَقَوله: {وخشي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} أَي: خَافَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ. وَقَوله تَعَالَى: {فبشره بمغفرة وَأجر كريم} أَي: الْجنَّة.

12

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحن نحيي الْمَوْتَى} أَي: فِي الْآخِرَة، وَيُقَال: يحيي الْقُلُوب الْميتَة بِنور الْإِيمَان، وَقَوله: {ونكتب مَا قدمُوا} أَي: مَا عجلوا. وَقَوله: {وآثارهم} أَي: ونكتب آثَارهم، وَفِي آثَارهم قَولَانِ:

{نحيي الْمَوْتَى ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين (12) وَاضْرِبْ لَهُم مثلا أَصْحَاب الْقرْيَة إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ (13) إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ} أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهَا مَا سنوا من سنة حَسَنَة أَو سَيِّئَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وآثارهم} أَي: الخطا إِلَى الْمَسَاجِد، وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن بني سَلمَة كَانَت مَنَازِلهمْ فِي نَاحيَة من الْمَسْجِد أَي: بعيدَة؛ فأرادوا أَن يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب الْمَسْجِد، وَقَالَ لَهُم النَّبِي: مَنَازِلكُمْ، مَنَازِلكُمْ، تكْتب آثَاركُم، فتركوا الِانْتِقَال ". وَقد ورد فِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا ينقص من أُجُورهم شَيْء، وَمن سنّ سنة سَيِّئَة فَلهُ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا ينقص من أوزارهم شَيْء ". وَقَوله: {وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين} أَي: جمعناه فِي كتاب مُبين، وَالْإِمَام الْمُبين هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُم مثلا} ضرب الْمثل هُوَ تَمْثِيل الْمثل، وَمعنى الْآيَة: وَاذْكُر لَهُم مثل حَالهم من قصَّة أَصْحَاب الْقرْيَة. وَأما الْقرْيَة: فَأكْثر أهل التَّفْسِير أَن الْقرْيَة هِيَ أنطاكية، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ بلد من بِلَاد الرّوم، وَقَوله: {إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ} فِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بعث إِلَيْهِم برجلَيْن من الحواريين، ثمَّ بعث بثالث بعدهمَا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى:

(فكذبوهما فعززنا بثالث فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مرسلون (14) قَالُوا مَا أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا وَمَا أنزل الرَّحْمَن من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا تكذبون (15) قَالُوا رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون (16) وَمَا علينا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين (17) قَالُوا إِنَّا تطيرنا بكم لَئِن لم تنتهوا لنرجمنكم)

14

{إِذا أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث} وَالثَّالِث كَانَ اسْمه شَمْعُون رَأس الحواريين، وَقَوله: {عززنا} أَي: شددنا وقوينا، وَقَرَأَ عَاصِم وَحده: " فعززنا " بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ فِي معنى الأول. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْقَوْم كذبُوا الرسولين الْأَوَّلين وهموا بِقَتْلِهِمَا، فجَاء هَذَا الثَّالِث وتلطف الدُّخُول على الْملك، وَكَانَت قد توفيت ابْنَته ودفنت، فَقَالَ للْملك: اطلب من [هذَيْن] الرجلَيْن أَن يحييا ابْنَتك، فَإِن أحيياها فهما [صادقان] فَطلب مِنْهُمَا الْملك ذَلِك؛ فقاما وصليا [ودعيا] الله تَعَالَى، ودعا شَمْعُون مَعَهُمَا فِي السِّرّ، فأحيا الله تَعَالَى الْمَرْأَة، وَانْشَقَّ الْقرب عَنْهَا وَخرجت، وَقَالَت للْقَوْم: أَسْلمُوا، فَإِنَّهُمَا صادقان، وَلَا أظنكم تسلمون، ثمَّ طلبت من الرسولين أَن يرادها إِلَى مَكَانهَا، فذريا تُرَابا على رَأسهَا، وعادت إِلَى قبرها كَمَا كَانَت، وَلم يُؤمن الْقَوْم.

15

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا مَا أَنْتُم إِلَّا بشر مثلنَا وَمَا أنزل الرَّحْمَن من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا تكذبون} ظَاهر الْمَعْنى.

16

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون} فَإِن قيل: كَيفَ يكون علم الله تَعَالَى أَنهم رسل الله حجَّة عَلَيْهِم؟ الْجَواب عَنهُ: أَن مَعْنَاهُ: رَبنَا يعلم إِنَّا إِلَيْكُم لمرسلون بِمَا أظهر على أَيْدِينَا من الْآيَات والمعجزات؛ فَصَارَت الْحجَّة قَائِمَة بِالْآيَاتِ والمعجزات، لَا بِنَفس الْعلم.

17

وَقَوله: {وَمَا علينا إِلَّا الْبَلَاغ الْمُبين} أَي: الإبلاغ الْبَين.

18

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا تطيرنا بكم} أَي: تشاءمنا بكم، وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ

{وليمسنكم منا عَذَاب أَلِيم (18) قَالُوا طائركم مَعكُمْ أئن ذكرْتُمْ بل أَنْتُم قوم مسرفون (19) وَجَاء من أقصا الْمَدِينَة رجل يسْعَى قَالَ يَا قوم اتبعُوا الْمُرْسلين (20) اتبعُوا من} حبس عَنْهُم الْمَطَر حِين جَاءَهُم هَؤُلَاءِ الرُّسُل. وَاخْتلف القَوْل فِي أَنهم كَانُوا رسل الله أَو رسل عِيسَى، فأحد الْقَوْلَيْنِ: انهم كَانُوا رسل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا بَينا، وَالْقَوْل الآخر: أَنهم كَانُوا رسل الله. قَوْله: {لَئِن لم تنتهوا لنرجمنكم} أَي: [لنقتلنكم] بِالْحِجَارَةِ، وَقيل: نشتمنكم، وَالْأول أولى. وَقَوله: {وليمسنكم منا عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم، والمؤلم هُوَ الموجع.

19

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا طائركم مَعكُمْ} أَي: شؤمكم مَعكُمْ بكفركم وتكذيبكم الرُّسُل. وَقيل: طائركم مَعكُمْ أَي: أقداركم وَأَعْمَالكُمْ تَابِعَة إيَّاكُمْ، تَقول الْعَرَب: طَار بِمَعْنى صَار قَالَ الشَّاعِر: (تطير غدائر الْإِشْرَاك شفعا ... ووترا والزعامة للغلام) وَقيل: طائركم مَعكُمْ أَي: مَا طَار لكم من عمل خير أَو شَرّ فَهُوَ مَعكُمْ ولازم إيَّاكُمْ. وَقَوله: {أئن ذكرْتُمْ} مَعْنَاهُ: أئن ذكرْتُمْ بِاللَّه تطيرتم، وَقُرِئَ " أَن ذكرْتُمْ " أَي: لِأَن ذكرْتُمْ تطيرتم. وَقَوله: {بل أَنْتُم قوم مسرفون} أَي: مجاوزون الْحَد.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة رجل يسْعَى} ذهب أَكثر الْمُفَسّرين أَنه كَانَ رجل يُسمى حبيب النجار، وَقَالَ السّديّ: كَانَ قصارا. وَعَن بَعضهم: أَنه كَانَ إسكافا قَالَ قَتَادَة: كَانَ رجلا يعبد الله فِي غَار؛ فَسمع بِخَبَر الرُّسُل فَجَاءَهُمْ، وَقَالَ: أتطلبون جعلا على رسالتكم؛ قَالُوا: لَا؛ فَأقبل على قومه، وَقَالَ لَهُم مَا قَالَ الله، وَهُوَ قَوْله: {يَا قوم اتبعُوا الْمُرْسلين} وَالْمَدينَة: هِيَ الْقرْيَة الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَهِي الأنطاكية.

21

وَقَوله: {اتبعُوا من لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون} ظَاهر الْمَعْنى. وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: مسكن الْأَشْرَاف الْأَطْرَاف، وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة، وَهُوَ قَوْله:

{لَا يسألكم أجرا وهم مهتدون (21) وَمَا لي لَا أعبد الَّذِي فطرني وَإِلَيْهِ ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلِهَة إِن يردن الرَّحْمَن بضر لَا تغن عني شفاعتهم شَيْئا وَلَا ينقذون (23) إِنِّي إِذا لفي ضلال مُبين (24) إِنِّي آمَنت بربكم فاسمعون (25) قيل ادخل الْجنَّة قَالَ يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ (26) بِمَا غفر لي رَبِّي وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين (27) } {وَجَاء من أقْصَى الْمَدِينَة رجل يسْعَى} أَي: من أبعد مَوضِع بِالْمَدِينَةِ.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لي لَا أعبد الَّذِي فطرني} مَعْنَاهُ: وَلم لَا أعبد الَّذِي فطرني {وَإِلَيْهِ ترجعون} . فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف الْفطْرَة إِلَى نَفسه وَالرُّجُوع إِلَيْهِم؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه أضَاف الْفطْرَة إِلَى نَفسه؛ لِأَن النِّعْمَة كَانَت عَلَيْهِ أظهر، وأضاف الرُّجُوع إِلَيْهِم؛ لِأَن الزّجر كَانَ بهم أَحَق، وَفِي ذكر الرُّجُوع معنى الزّجر.

23

قَوْله تَعَالَى: {أأتخذ من دونه آلِهَة} اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار أَي: لَا أَتَّخِذ، وَقَوله: {إِن يردن الرَّحْمَن بضر} أَي: بِسوء ومكروه، وَقَوله: {لَا تغن عني شفاعتهم شَيْئا} أَي: لَا تغني عني الْأَصْنَام شَيْئا؛ لِأَنَّهُ لَا شَفَاعَة لَهُنَّ، وَقد كَانُوا يَزْعمُونَ الْكفَّار أَنَّهَا تشفع لَهُم يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {وَلَا ينقذون} أَي: لَا ينقذونني من الْعَذَاب لَو عذبني الله.

24

قَوْله: {إِنِّي إِذا لفي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ ظَاهر لَو فعلت هَذَا.

25

قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي آمَنت بربكم فاسمعون} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مجازه فَاسْمَعُوا مني،

26

قَوْله: {قيل ادخل الْجنَّة} فِي التَّفْسِير: أَنه لما قَالَ هَذَا القَوْل وثب الْقَوْم عَلَيْهِ وثبة وَاحِدَة فوطئوه بأرجلهم حَتَّى قَتَلُوهُ، وَحكى هَذَا عَن ابْن مَسْعُود، وَيُقَال: وطئوه حَتَّى خرج قصبه من دبره؛ فَأدْخلهُ الله الْجنَّة، فَهُوَ ثمَّ حَيّ يرْزق، وَهُوَ معنى قَوْله: {قيل ادخل الْجنَّة} . وَقَوله: {يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ بِمَا غفر لي رَبِّي} أَي: بمغفرة رَبِّي لي، قَالَ قَتَادَة:

{وَمَا أنزلنَا على قومه من بعده من جند من السَّمَاء وَمَا كُنَّا منزلين (28) إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم خامدون (29) يَا حسرة على الْعباد مَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا} نصحهمْ حَيا وَمَيتًا، وَقَوله: {وَجَعَلَنِي من الْمُكرمين} أَي: مِمَّن دخل الْجنَّة، وَمن أَدخل الْجنَّة فقد أكْرم، وَمن أَدخل النَّار فقد أهين.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أنزلنَا على قومه من بعده من جند من السَّمَاء} أَي: من مَلَائِكَة، وَقَوله: {وَمَا كُنَّا منزلين} أَي: وَمَا كُنَّا لنفعل هَذَا، بل الْأَمر فِي هلاكهم كَانَ أيسر مِمَّا تظنون.

29

قَوْله تَعَالَى: {إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة} أَي: مَا كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ ووقف على بَاب الْمَدِينَة وَصَاح بهم صَيْحَة فَخَروا ميتين كَأَن لم يَكُونُوا، وصاروا كرماد خامدين هامدين. وَفِي الْأَخْبَار: أَن عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ لما أسلم اسْتَأْذن من رَسُول الله أَن يذهب لى قومه وهم ثَقِيف ويدعوهم إِلَى الْإِسْلَام، فَقَالَ رَسُول الله: " إِنِّي أخْشَى أَن يَقْتُلُوك، فَقَالَ: لَو كنت نَائِما مَا أيقظوني، ثمَّ إِنَّه ذهب إِلَيْهِم ودعاهم إِلَى الْإِسْلَام، فَرَمَاهُ رجل بِسَهْم فَأصَاب أكحله وَمَات، فَبلغ النَّبِي فَقَالَ: هُوَ فِي هَذِه الْأمة مثل صَاحب يس، وَهُوَ حبيب النجار ".

30

قَوْله تَعَالَى: {يَا حسرة على الْعباد} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم نِدَاء الْحَسْرَة، وَالْحَسْرَة لَا تعقل شَيْئا؟ وَأَيْضًا كَيفَ يتحسر الله تَعَالَى على الْعباد الَّذين أهلكهم،

{كَانُوا بِهِ يستهزءون (30) ألم يرَوا كم أهلكنا قبلهم من الْقُرُون أَنهم إِلَيْهِم لَا يرجعُونَ (31) وَإِن كل لما جَمِيع لدينا محضرون (32) وَآيَة لَهُم الأَرْض الْميتَة أحييناها} وَلَا يجوز عَلَيْهِ هَذِه الصّفة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَول الْقَائِل يَا حسرة مثل قَوْله: يَا عجبا، وَكَذَلِكَ قَوْله: يَا حسرتاه، مثل قَوْله: يَا عجباه، وَالْعرب تَقول هَذَا على طَرِيق الْمُبَالغَة، والنداء عِنْدهم بِمَعْنى التَّنْبِيه، فيستقيم فِيمَن يعقل وفيمن لَا يعقل، وَقَوله: يَا عجباه أبلغ من قَوْلهم: أَنا أتعجب من كَذَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَيهَا الْعجب هَذَا وقتك، وأيها الْحَسْرَة هَذَا زَمَانك، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن هَذَا الزَّمَان زمَان الْحَسْرَة والتعجب. وَأما قَوْله: إِن الْحَسْرَة على الله لَا تجوز، قُلْنَا: نعم، وَمعنى الْآيَة: يَا حسرة على الْعباد من أنفسهم؛ وَكَأَنَّهُم يتحسرون على أنفسهم غَايَة الْحَسْرَة، وَالْحَسْرَة هِيَ التلهف على أَمر فَائت بأبلغ وجوهه حَتَّى يبْقى الرجل حسيرا مُنْقَطِعًا من شدته، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَا حسرة الْعباد " وَجَوَاب آخر: أَنه تَعَالَى قَالَ: {يَا حسرة على الْعباد} لأَنهم صَارُوا بِمَنْزِلَة يتحسر عَلَيْهِم، وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَا حسرة الرُّسُل وَالْمَلَائِكَة على الْعباد، وَالْجَوَاب الأول أحسن الْأَجْوِبَة. وَقَوله: {مَا يَأْتِيهم من رَسُول إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزءون} أَي: استهزاء التَّكْذِيب.

31

قَوْله تَعَالَى: {ألم يرَوا كم أهلكنا} قَرَأَ ابْن مَسْعُود " ألم يرَوا من أهلكنا "، وَالْمَعْرُوف كم أهلكنا، وَهُوَ للتكثير. وَقَوله: {قبلهم من الْقُرُون} اخْتلفُوا فِي مُدَّة الْقرن، وَقد بَينا من قبل، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي: أَنه قَالَ لعبد الله بن بسر الْمَازِني: " إِنَّك تعيش قرنا؛ فَعَاشَ مائَة سنة "، وَقَوله: {أَنهم إِلَيْهِم لَا يرجعُونَ} أَي: لَا يرجعُونَ إِلَى الدُّنْيَا.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كل لما} " إِن " هَا هُنَا بِمَعْنى: مَا، و " لما " بِمَعْنى: إِلَّا، فَمَعْنَى الْآيَة: وَمَا كل إِلَّا جَمِيع لدينا محضرون، وَفِي مصحف أبي بن كَعْب على هَذَا الْوَجْه.

{وأخرجنا مِنْهَا حبا فَمِنْهُ يَأْكُلُون (33) وَجَعَلنَا فِيهَا جنَّات من نخيل وأعناب وفجرنا فِيهَا من الْعُيُون (34) ليأكلوا من ثمره وَمَا عملته أَيْديهم أَفلا يشكرون (35) سُبْحَانَ}

33

قَوْله تَعَالَى: {وَآيَة لَهُم الأَرْض الْميتَة} وَقُرِئَ: " الْميتَة " بِالتَّشْدِيدِ. وَقَوله: {أحييناها} أَي: بالمطر. وَقَوله: {وأخرجنا مِنْهَا حبا} أَي: الْحِنْطَة وَالشعِير وَمَا أشبه هَذَا، وَقَوله: {فَمِنْهُ يَأْكُلُون} أَي: من الْحبّ يَأْكُلُون.

34

وَقَوله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا فِيهَا جنَّات من نخيل وأعناب} أَي: فِي الأَرْض جنَّات من نخيل وأعناب. وَقَوله: {وفجرنا فِيهَا من الْعُيُون ليأكلوا من ثمره} أَي: وفجرنا فِيهَا الْمِيَاه من الْعُيُون؛ ليأكلوا من الثَّمر الْحَاصِل بِالْمَاءِ. وَقَوله: {وَمَا عملته أَيْديهم} أَي: وليأكلوا مِمَّا عملته أَيْديهم مِمَّا يحرثون ويزرعون ويغرسون، وَقُرِئَ: " وَمَا عملت أَيْديهم " بِمَعْنى الأول. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن " مَا " للنَّفْي هَا هُنَا، وَمَعْنَاهُ: أَنا رَزَقْنَاهُمْ مِمَّا لم تعمله أَيْديهم. وَقَوله: {أَفلا يشكرون} يَعْنِي: هَذِه النعم.

36

قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الله الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا} أى: الْأَصْنَاف كلهَا. وَقَوله: {سُبْحَانَ الَّذِي} أَي: سبحوا الله الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا. وَقَوله: {مِمَّا تنْبت الأَرْض وَمن أنفسهم وَمِمَّا لَا يعلمُونَ} أَي: من النَّبَات، وَالْحَيَوَان الَّذِي لَا يعلمونه. وَذكر بعض أهل التَّفْسِير: أَن مَا لَا يعلمُونَ هَا هُنَا هُوَ الرّوح، وَالله تَعَالَى خلق الرّوح فِي النَّفس وَلَا يُعلمهُ أحد، وَذكر بَعضهم أَن قَوْله: {وَمَا عملته أَيْديهم} رَاجع إِلَى الْعُيُون، وَمن الْعُيُون والأنهار مَا لم تعلمهَا أَيدي الْخلق مثل: دجلة،

{الَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا مِمَّا تنْبت الأَرْض وَمن أنفسهم وَمِمَّا لَا يعلمُونَ (36) وَآيَة لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار فَإِذا هم مظلمون (37) وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا ذَلِك} والفرات، والنيل، وسيحان، وجيجان.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَآيَة لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار} أَي: نكشط ونزيل، وَمَعْنَاهُ: نَذْهَب بِالنَّهَارِ، وَنَجِيء بِاللَّيْلِ، فَكَأَنَّهُ استخرج مِنْهُ، وَقَوله: {فَإِذا هم مظلمون} أَي: داخلون فِي الظلمَة.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا} قَرَأَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا " وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا " أَي: تسير وتجري أبدا من غير قَرَار وَلَا وقُوف. وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة " لمستقر لَهَا " وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مستقرها هُوَ نِهَايَة دورانها إِذا قَامَت السَّاعَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مستقرها نِهَايَة ارتفاعها فِي السَّمَاء فِي الصَّيف، وَنِهَايَة هبوطها فِي الشتَاء، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، عَن أَبِيه، عَن أبي ذَر أَنه قَالَ: " كنت عِنْد النَّبِي حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَر، أَتَدْرِي أَيْن تذْهب؟ قلت: الله وَرَسُوله أعلم، فَقَالَ: إِنَّهَا تذْهب وتستأذن فِي السُّجُود ". وَفِي رِوَايَة: " تذْهب إِلَى تَحت الْعَرْش وتستأذن فِي السُّجُود؛ فَيُؤذن لَهَا فِي السُّجُود، وَيُقَال لَهَا: اطلعِي من حَيْثُ كنت تطلعين، وَكَأَنَّهَا قد قيل لَهَا يَوْمًا يَا أَبَا ذَر: اطلعِي من حَيْثُ جِئْت؛ فَتَطلع من مغْرِبهَا، ثمَّ قَرَأَ النَّبِي قَوْله تَعَالَى: " وَذَلِكَ مُسْتَقر لَهَا ". قَالَ: وَفِي هَذَا الْخَبَر أَنه كَذَلِك فِي قِرَاءَة عبد الله بن مَسْعُود. قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الْخَبَر عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس الطَّحَّان، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب، أخبرنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ، أخبرنَا

{تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم (38) وَالْقَمَر قدرناه منَازِل حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم (39) لَا} [هناد بن السّري، أخبرنَا] أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، عَن الْأَعْمَش. . الْخَبَر. وَقَوله: {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى، وَذكر البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أبي ذَر أَيْضا: " أَنه سَأَلَ النَّبِي عَن قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس تجْرِي لمستقر لَهَا} قَالَ: مستقرها تَحت الْعَرْش ". وَذكر الْأَزْهَرِي فِي قَوْله: {تجْرِي لمستقر لَهَا} أَي: تجْرِي للأجل الَّذِي أجل لَهَا، وَالتَّقْدِير الَّذِي قدر لَهَا.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَمَر قدرناه منَازِل} قرئَ بِالرَّفْع، وَقُرِئَ بِالنّصب، فَأَما بِالنّصب: وقدرنا الْقَمَر منَازِل، وَأما بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: وَآيَة لَهُم الْقَمَر قدرناه منَازِل. وروى أَن سعيد بن الْمسيب سمع رجلا ينشد: (وَغَابَ قمير كنت أَرْجُو أفوله ... وروح رعيان ونوم سمر) فَقَالَ: قَاتله الله، لقد صغر مَا عظمه الله، قَالَ الله تَعَالَى: {وَالْقَمَر قدرناه منَازِل} . وَقَوله: {حَتَّى عَاد كالعرجون الْقَدِيم} قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد: كعذق النَّخْلَة الْقَدِيمَة، وَالْأَكْثَرُونَ أَن العرجون هُوَ عود الكباسة إِذا دق ويبس وتقوس. وَقَوله: {الْقَدِيم} هُوَ البال، وَيُقَال الْقَدِيم هُوَ الَّذِي مضى عَلَيْهِ حول. وَأما منَازِل الْقَمَر فَهِيَ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة،

{الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار وكل فِي فلك يسبحون (40) } والعواء، والسماك، والغفر، والزبانا، والإكليل، وَالْقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وَسعد الذَّابِح، وَسعد بلع وَسعد السُّعُود، وَسعد الأخبية، وفزع الدَّلْو الْمُقدم وفزع الدَّلْو الْمُؤخر، وبطن الْحُوت. فَهَذِهِ ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا للقمر ينزل كل لَيْلَة منزلا مِنْهَا، وَيكون أَرْبَعَة عشر مِنْهَا أبدا ظَاهِرَة، وَأَرْبَعَة عشر مِنْهَا غَائِبَة، كلما طلع منزل غَابَ منزل، وَيُقَال: الَّذِي يغرب رَقِيب الَّذِي يطلع، وَاثنا عشر مِنْهَا تكون فِي سَواد اللَّيْل من وَقت غرُوب الشَّمْس إِلَى وَقت طُلُوع الصُّبْح، وَاثْنَانِ مِنْهَا من عِنْد طُلُوع الصُّبْح إِلَى طُلُوع الشَّمْس.

40

قَوْله تَعَالَى: {لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر} أَي: لَا يدْخل اللَّيْل على النَّهَار قبل انقضائه، وَلَا يدْخل النَّهَار على اللَّيْل قبل انقضائه. قَوْله: {وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} أَي: يتعاقبان بِحِسَاب مَعْلُوم إِلَى أَن تَنْقَضِي الدُّنْيَا، وَيَقُول: لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر، يَعْنِي: لَا تطلع الشَّمْس بِاللَّيْلِ، وَلَا يطلع الْقَمَر بِالنَّهَارِ، وَيكون لَهُ ضوء، فَلَا يدْخل وَاحِد مِنْهُمَا فِي سُلْطَان الآخر. وَقيل: لَا يذهب وَاحِد مِنْهُمَا بِمَعْنى الآخر، وَذكر يحيى بن سَلام أَن قَوْله تَعَالَى: {لَا الشَّمْس يَنْبَغِي لَهَا أَن تدْرك الْقَمَر} هَذَا لَيْلَة الْبَدْر خَاصَّة؛ فَإِن الشَّمْس لَا تطلع إِلَّا وَقد غَابَ الْقَمَر، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي رُؤْيَة الْعين، وَيُقَال: لَا تُدْرِكهُ أَي: لَا يجْتَمع مَعَه فِي فلك وَاحِد؛ فَإِنَّهُم قَالُوا: إِن الشَّمْس فِي السَّمَاء الرَّابِعَة، وَالْقَمَر فِي السَّمَاء الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَلَا اللَّيْل سَابق النَّهَار} أَي: لَا يتَّصل ليل بلَيْل لَا يكون بَينهمَا نَهَار فاصل. وَقَوله: {وكل فِي فلك يسبحون} أَي: يجرونَ ويدورون.

{وَآيَة لَهُم أَنا حملنَا ذُرِّيتهمْ فِي الْفلك المشحون (41) وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون (42) وَإِن نَشأ نغرقهم فَلَا صريخ لَهُم وَلَا هم ينقذون (43) إِلَّا رَحْمَة منا ومتاعا إِلَى حِين (44) وَإِذا قيل لَهُم اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم وَمَا خلفكم لَعَلَّكُمْ ترحمون (45) وَمَا}

41

قَوْله تَعَالَى: {وَآيَة لَهُم أَنا حملنَا ذُرِّيتهمْ} أَي: آبَاءَهُم، هَكَذَا قَالَه ثَعْلَب وَغَيره، وَاسم الذُّرِّيَّة كَمَا يَقع على الْأَبْنَاء يَقع على الْآبَاء. وَقَوله: {فِي الْفلك المشحون} أَي: الموفر، وَقيل: الممتلئ، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: المُرَاد بِالْآيَةِ أَنا حملناهم فِي بطُون الْأُمَّهَات، وَشبه بطُون الْأُمَّهَات بالسفن المشحونة.

42

قَوْله تَعَالَى: {وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ الزواريق الصغار والسفن الَّتِي تجْرِي فِي الْأَنْهَار، فَهِيَ فِي الْأَنْهَار كالسفن الْكِبَار فِي الْبَحْر، وَهَذَا القَوْل قَول قَتَادَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهمَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى قَوْله: {وخلقنا لَهُم من مثله مَا يركبون} أَي: الْإِبِل، الْإِبِل فِي الْبَوَادِي كالسفن فِي الْبحار.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن نَشأ نغرقهم فَلَا صريخ لَهُم} أى: لَا مغيث لَهُم (وَلَا هم ينقذون) أى: وَلَا هم ينجون،

44

وَقَوله: {إِلَّا رَحْمَة منا} مَعْنَاهُ: أَن إنقاذهم برحمتنا. وَقَوله: {ومتاعا إِلَى حِين} وليمتعوا إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم وَمَا خلفكم} أَي: اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم أَي: الْقِيَامَة فاحذروها {وَمَا خلفكم} أَي: الدُّنْيَا فَلَا تغتروا بهَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {اتَّقوا مَا بَين أَيْدِيكُم} أَي: اتَّقوا مثل عَذَاب الْأُمَم الَّذين كَانُوا بَين أَيْدِيكُم؛ لِئَلَّا يُصِيبكُم مثل مَا أَصَابَهُم. وَقَوله: {وَمَا خلفكم} أَي: اتَّقوا عَذَاب النَّار، وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ ترحمون} أَي: كونُوا على رَجَاء الرَّحْمَة.

{تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين (46) وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال مُبين (47) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (48) مَا ينظرُونَ إِلَّا}

46

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين} أَي: معرضين بالجحد والتكذيب.

47

وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله} أَي: مِمَّا أَعْطَاكُم الله. وَقَوله: {قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ بِمَكَّة زنادقة، فَكَانَ إِذا قيل لَهُم: أَنْفقُوا على الْفُقَرَاء مِمَّا (أَعْطَاكُم) الله؛ قَالُوا هَذَا القَوْل على سَبِيل الِاسْتِهْزَاء، وَعَن الْبَصْرِيّ قَالَ: هَذَا قَول الْيَهُود، وَكَانُوا يَقُولُونَ: كَيفَ نعطيهم وَقد أفقرهم الله تَعَالَى، وَلَو شَاءَ أَن يعطيهم أَعْطَاهُم؟ وَذكر القتيبي فِي كتاب " المعارف ": أَن أَبَا الْأسود الدؤَلِي كَانَ من خلقه أغناهم، فَهَذَا حجَّة البخلاء فِي الْبُخْل، وَهِي حجَّة بَاطِلَة؛ لِأَن الله تَعَالَى منع الدُّنْيَا من الْفُقَرَاء لَا بخلا وَلَكِن ابتلاء، وَأمر الْأَغْنِيَاء بِالْإِنْفَاقِ لَا بِحكم الْحَاجة إِلَى أَمْوَالهم لَكِن ابتلاء شكرهم. وَقَوله: {إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال مُبين} أَي: فِي خطأ بَين.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: وعد الْقِيَامَة.

49

قَوْله تَعَالَى: {مَا ينظرُونَ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة تأخذهم وهم يخصمون} أَي: يختصمون، وَهَكَذَا فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب، وَيُقَال: هم يخصمون أَي: يتقاولون فِي حاجاتهم، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " إِن السَّاعَة تقوم وَالرجل يسْقِي مَاشِيَته، وَتقوم وَالرجل يلط حَوْضه، وَتقوم وَالرجل يعرض سلْعَته على البيع، وَتقوم وَالرجل قد رفع لقمته ليضعها فِي فِيهِ، فتقوم قبل أَن يَضَعهَا فِي فِيهِ ".

{صَيْحَة وَاحِدَة تأخذهم وهم يخصمون (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ توصية وَلَا إِلَى أهلهم يرجعُونَ (50) وَنفخ فِي الصُّور فَإِذا همم من الأجداث إِلَى رَبهم يَنْسلونَ (51) قَالُوا يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا هَذَا مَا وعد الرَّحْمَن وَصدق المُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَت إِلَّا}

50

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ توصية} أَي: إيصاء وَقَوله: {وَلَا إِلَى أهلهم يرجعُونَ} أَي: يَنْقَلِبُون، وَالْمعْنَى: أَن السَّاعَة لَا تمهلهم بِشَيْء.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَنفخ فِي الصُّور} الأول: هِيَ النفخة الأولى، وَالثَّانِي: هِيَ النفخة الْأُخْرَى، وَبَينهمَا أَرْبَعُونَ سنة. وَقَوله: {فَإِذا هم من الأجداث إِلَى رَبهم يَنْسلونَ} أَي: من الْقُبُور. وَقَوله: {إِلَى رَبهم يَنْسلونَ} أَي: يسرعون، قَالَ الشَّاعِر: ((عسلان) الذِّئْب أَمْسَى قاربا ... برد الَّيْلِ عَلَيْهِ فنسل) وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فسلى ثِيَابِي من ثِيَابك تنسل ... ) والنسلان فَوق الْمَشْي وَدون الْعَدو.

52

وَقَوله تَعَالَى: {قَالُوا يَا ويلنا من بعثنَا من مرقدنا} قَالَ ابْن عَبَّاس: يرفع عَنْهُم الْعَذَاب مَا بَين النفختين. وَعَن أبي بن كَعْب قَالَ: ينامون نومَة قبل الْبَعْث. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: يرفع عَنْهُم الْعَذَاب فيهجعون ويرقدون. وَعَن بَعضهم: أَن هَذَا القَوْل من الْمُؤمنِينَ. وَأظْهر الْقَوْلَيْنِ هُوَ القَوْل الأول، وَأَنه قَول الْكَافرين، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " من أهبنا من مرقدنا ". وَقَوله: {هَذَا مَا وعد الرَّحْمَن} هُوَ قَول الْمُؤمنِينَ إِجَابَة للْكفَّار، وعَلى القَوْل الآخر قَول الْمُؤمنِينَ، ويجيبون بِهِ أنفسهم وَقَوله: {وَصدق المُرْسَلُونَ} ظَاهر.

53

وَقَوله: {إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون} أَي:

{صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون (53) فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (54) إِن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم فِي ظلال على الأرائك متكئون (56) لَهُم فِيهَا فَاكِهَة وَلَهُم مَا يدعونَ} حاضرون.

54

قَوْله تَعَالَى: {فاليوم لَا تظلم نفس شَيْئا وَلَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

55

قَوْله تَعَالَى: {إِن أَصْحَاب الْجنَّة الْيَوْم فِي شغل} وَقُرِئَ: " فِي شغل " بِالْجَزْمِ، قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي افتضاض الْأَبْكَار، وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: فِي ضرب الأوتار، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف بَين الْمُفَسّرين. وَالْقَوْل الثَّالِث: فِي شغل عَن عَذَاب أهل النَّار. وَقَوله: {فاكهون} وَقُرِئَ: " فكهون " فَمنهمْ من قَالَ: هما بِمَعْنى وَاحِد مثل الحذر والحاذر، وَمِنْهُم من فرق بَينهمَا، قَالَ: الفكه هُوَ طيب النَّفس معجب بِحَالهِ، والفاكه هُوَ ذُو الْفَاكِهَة. والمزاح يُسمى فكاهة، قَالَ الحطيئة: (وَدَعَوْتنِي وَزَعَمت أَنَّك لِابْنِ بالضيف تامر) أَي: ذُو تمر، وَذُو لبن، وَقَالَ آخر: (فكه إِلَى جنب الخوان إِذا غَدَتْ ... نكبا تقلع ثَابت الْأَطْنَاب)

56

قَوْله تَعَالَى: {هم وأزواجهم فِي ظلال} الظلال: جمع الظل، وَقَوله: {على الأرائك} فِي التَّفْسِير: سرر من الذَّهَب مكللة بالدر والزبرجد والياقوت، عَلَيْهَا حجال. قَالَ ثَعْلَب: لَا تكون الأرائك أريكة حَتَّى تكون تَحت حجلة. وَقَوله: {متكئون} أَي: أَنهم ذَوُو اتكاة، وَذكر الاتكاء فِي الْجنَّة؛ لأَنهم لَا ينامون.

57

قَوْله تَعَالَى: {لَهُم فِيهَا فَاكِهَة وَلَهُم مَا يدعونَ} أَي: مَا يتمنون، تَقول الْعَرَب: ادْع على مَا شِئْت أَي تمن على مَا شِئْت، قَالَ الْأَعْشَى:

( {57) سَلام قولا من رب رَحِيم (58) وامتازوا الْيَوْم أَيهَا المجرمون (59) ألم أَعهد إِلَيْكُم يَا بني آدم أَن لَا تعبدوا الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (60) وَأَن اعبدوني هَذَا} (ركا شهي نشأة الَّذِي ... سَار ملكه لَهُ مَا ادّعى) (رَاح عَتيق مَا ادّعى ... )

58

قَوْله تَعَالَى: {سَلام قولا من رب رَحِيم} أَكثر الْمُفَسّرين أَن مَعْنَاهُ: يسلم الله عَلَيْهِم سَلاما. وَقَوله: {قولا} أَي: يَقُول قولا. وَفِي رِوَايَة جَابر عَن النَّبِي قَالَ: " بَيْنَمَا أهل الْجنَّة فِي نعيمهم إِذْ سَطَعَ لَهُم نور وأشرف عَلَيْهِم رَبهم جلّ وَعلا فَيسلم عَلَيْهِم " الْخَبَر إِلَى آخِره، وَيُقَال: تسلم عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة من رَبهم، وَقيل: يعطيهم الله السَّلامَة، وَيَقُول: اسلموا السَّلامَة الأبدية، وَقَوله: {من رب رَحِيم} أَي: عطوف.

59

قَوْله تَعَالَى: {وامتازوا الْيَوْم أَيهَا المجرمون} أَي: امتازوا من الْمُؤمنِينَ. وَفِي التَّفْسِير: الْيَهُود قوم، وَالنَّصَارَى قوم، وَالْمَجُوس قوم، والصابئون قوم، وَالْمُشْرِكُونَ قوم، والمؤمنون قوم، وَالْمعْنَى أَن الله تَعَالَى يُمَيّز بَين أهل الصّلاح وَأهل الْفساد، وَبَين الْمُشْركين وَبَين الْمُؤمنِينَ، وَبَين الْمُنَافِقين وَبَين المخلصين.

60

قَوْله تَعَالَى: {ألم أَعهد إِلَيْكُم} أَي: ألم آمركُم {يَا بني آدم أَلا تعبدوا الشَّيْطَان} أَي: لَا تطيعوا الشَّيْطَان، وَعبادَة الشَّيْطَان طَاعَته، وَقَوله: {إِنَّه لكم عَدو مُبين} أَي: عَدو بَين الْعَدَاوَة.

61

وَقَوله: {وَأَن اعبدوني هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: طَرِيق مُسْتَقِيم على الْحق.

{صِرَاط مُسْتَقِيم (61) وَلَقَد أضلّ مِنْكُم جبلا كثيرا أفلم تَكُونُوا تعقلون (62) هَذِه جَهَنَّم الَّتِي كُنْتُم توعدون (63) اصلوها الْيَوْم بِمَا كُنْتُم تكفرون (64) الْيَوْم نختم على}

62

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أضلّ مِنْكُم جبلا} وَقُرِئَ: " جبلا كثيرا "، وَقُرِئَ: " جبلا " بِرَفْع الْجِيم وَالْبَاء، وَمَعْنَاهُ: خلقا كثيرا، قَالَ الضَّحَّاك: عشرَة آلَاف فَمَا زَاد، وَعَن بَعضهم: خلقا كثيرا لَا يُحْصى عَددهمْ إِلَّا الله، وَقَوله: {أفلم تَكُونُوا تعقلون} يَعْنِي: أفلم تعقلوا آياتي، وتنظروا فِيهَا نظر من يعقل،

63

قَوْله تَعَالَى: {هَذِه جَهَنَّم الَّتِي كُنْتُم توعدون} أَي: توعدون دُخُولهَا بكفركم.

64

قَوْله تَعَالَى: {اصلوها الْيَوْم} أَي: ادخلوها وقاسوا حرهَا [ {بِمَا كُنْتُم تكفرون} ] ،

65

قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم نختم على أَفْوَاههم} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا حِين يُنكر الْكفَّار كفرهم وتكذيبهم رسل الله، فيختم الله على أَفْوَاههم، وَيَأْذَن للجوارح فِي الشَّهَادَة بِمَا عملت، وَفِي الْمَشْهُور من الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول العَبْد يَوْم الْقِيَامَة: يَا رب، لَا أُجِيز على نَفسِي إِلَّا شَاهدا مني، فيختم الله على فَمه، وَيَقُول لجوارحه: انْطِقِي، فتتكلم الْجَوَارِح بِمَا عملت، ثمَّ يخلي بَينه وَبَين لِسَانه، فَيَقُول لجوارحه: بعدا لَكِن وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ أُنَاضِل ". وَفِي الْخَبَر أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " يجاء بِالنَّاسِ يَوْم الْقِيَامَة مفدمة أَفْوَاههم بالفدام، وَتشهد جوارحهم بِمَا عملت، فَأول مَا يشْهد فَخذ الْإِنْسَان وكفه ".

{أَفْوَاههم وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَو نشَاء لطمسنا على أَعينهم فاستبقوا الصِّرَاط فَأنى يبصرون (66) وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم فَمَا اسْتَطَاعُوا مضيا وَلَا يرجعُونَ (67) وَمن نعمره ننكسه فِي الْخلق أَفلا يعْقلُونَ} وَقَوله: {وتكلمنا أَيْديهم وَتشهد أَرجُلهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} قد بَينا. وَقد أنكر بَعضهم كَلَام الْجَوَارِح، وَقَالَ: معنى الْكَلَام وجود دلَالَة تدل على أَنَّهَا قد عملت مَا عملت، وَالصَّحِيح أَنَّهَا تَتَكَلَّم حَقِيقَة، وَغير مستبعد كَلَام الْجَوَارِح فِي قدرَة الله تَعَالَى.

66

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لطمسنا على أَعينهم} أَي: أعميناهم، وَيُقَال: أضللناهم عَن الْهدى. قَالَ الْمبرد وثعلب: المطموس والطميس هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِي عَيْنَيْهِ شقّ. قَوْله تَعَالَى: {فاستبقوا الصِّرَاط} أى: فتبادروا الطَّرِيق، وَقَوله: {فَأنى يبصرون} مَعْنَاهُ: من أَيْن يبصرون؟ وَقيل: فَكيف يبصرون؟

67

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم} أَي: جعلناهم قردة وَخَنَازِير فِي مَنَازِلهمْ، وَقيل: أقعدناهم من أَرجُلهم، وَقَوله: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مضيا} أَي: ذَاهِبًا، وَقَوله: {وَلَا يرجعُونَ} أَي: لَا يرجعُونَ إِلَى أَهَالِيهمْ.

68

قَوْله تَعَالَى: {وَمن نعمره ننكسه فِي الْخلق} وقرىء: ((ننكسه فِي الْخلق)) أى: وَمن نطل عمره ننكسه فِي الْخلق أَي: نرده إِلَى أرذل الْعُمر، وَيُقَال: التنكيس فِي الْخلق هُوَ ضعف الْجَوَارِح بعد قوتها، وَقَوله: {أَفلا يعْقلُونَ} مَعْنَاهُ: أَفلا يعْقلُونَ آياتي؟ .

69

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قَالُوا: كَانَ الْمُشْركُونَ يَزْعمُونَ أَن مُحَمَّدًا شَاعِر، وَأَن الْقُرْآن شعر؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أَي: لَا يسهل وَلَا يتزن لَهُ شعر، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي أنْشد

( {68) وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين (69) لينذر من كَانَ حَيا ويحق القَوْل على الْكَافرين (70) أَو لم يرَوا أَنا خلقنَا لَهُم مِمَّا عملت أَيْدِينَا أنعاما} يَوْمًا: (كفى الْإِسْلَام والشيب للمرء ناهيا ... ) فَقَالَ أَبُو بكر: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله هُوَ: (كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا ... ) فَقَالَ النَّبِي: " كِلَاهُمَا وَاحِد " فَقَالَ أَبُو بكر: أشهد أَنَّك لَا تَقول الشّعْر، وَلَا يَنْبَغِي لَك ". وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي أنْشد شعر طرفَة: (ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا ... ويأتيك بالأخبار من [لم] تزَود) فَقَالَ النَّبِي: " ويأتيك من لم تزَود بالأخبار ". وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} أَي: تذكرة وَقُرْآن بَين.

70

قَوْله تَعَالَى: {لينذر من كَانَ حَيا} أَي: عَاقِلا، وَقيل: مُؤمنا، وَقَالَ قَتَادَة: حَيّ الْقلب، وَقَوله: {ويحق القَوْل على الْكَافرين} أَي: تجب حجَّة الْعَذَاب على الْكَافرين.

71

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَنا خلقنَا لَهُم مِمَّا عملت أَيْدِينَا} أَي: مِمَّا تولينا خلقه وإبداعه، وَالْأولَى فِي الْأَيْدِي أَن يُؤمن بهَا وَلَا تفسر. وَقَوله: {أنعاما فهم لَهَا مالكون} أَي: ضابطون، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ:

{فهم لَهَا مالكون (71) وذللناها لَهُم فَمِنْهَا ركوبهم وَمِنْهَا يَأْكُلُون (72) وَلَهُم فِيهَا مَنَافِع ومشارب أَفلا يشكرون (73) وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة لَعَلَّهُم ينْصرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم وهم لَهُم جند محضرون (75) فَلَا يحزنك قَوْلهم إِنَّا نعلم مَا} ((لست من أجمل الْأَنَام السَّلَام ... وَلَا أملك رَأس الْبَعِير إِذْ نَفرا)) أَي: أضبط.

72

قَوْله تَعَالَى: {وذللناها لَهُم} أَي: جعلناها ذليلة لَهُم، وَقَوله: {فَمِنْهَا ركوبهم} الرّكُوب: مَا يركب، وَقَوله: {وَمِنْهَا يَأْكُلُون} ظَاهر الْمَعْنى.

73

قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم فِيهَا مَنَافِع ومشارب أَفلا يشكرون} أَي: فِي الْأَنْعَام مَنَافِع من الأصواف والأوبار والأشعار، وَقَوله: {ومشارب} أَي: من الألبان، وَقَوله: {أَفلا يشكرون} يَعْنِي: هَذِه النعم.

74

قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة لَعَلَّهُم ينْصرُونَ} أَي: تدفع عَنْهُم الْعَذَاب،

75

قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصرهم} أَي: لَا تَسْتَطِيع الْأَصْنَام دفع الْعَذَاب عَنْهُم. وَقَوله: {وهم لَهُم جند محضرون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وهم لَهُم جند أَي: الْكفَّار للأصنام جند وَأَتْبَاع. القَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي الْقِيَامَة، وَهُوَ أَنه يدعا بِكُل معبود عبد من دون الله، فيجاء بِهِ وَمَعَهُ أَتْبَاعه، وَالَّذين عبدوه كَأَنَّهُمْ جنده، وَقَوله: {فهم محضرون} أَي: يحْضرُون النَّار، وَمَعْنَاهُ: يدْخلُونَهَا.

76

قَوْله: {فَلَا يحزنك قَوْلهم} أَي: قَوْلهم فِيك إِنَّه سَاحر أَو كَاذِب أَو شَاعِر. وَقَوله: {إِنَّا نعلم} هَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَقَوله: {مَا يسرون} يَعْنِي: من

{يسرون وَمَا يعلنون (76) أَو لم ير الْإِنْسَان أَنا خلقناه من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين (77) وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه قَالَ من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم (78) قل يُحْيِيهَا} التَّكْذِيب، وَقَوله: {وَمَا يعلنون} أَي: من عبَادَة الْأَصْنَام.

77

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم ير الْإِنْسَان أَنا خلقناه من نُطْفَة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين} نزلت الْآيَة فِي شَأْن أبي بن خلف، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنه أَخذ عظما بَالِيًا ففتته بَين أَصَابِعه، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أتزعم أَن هَذَا يحيي وَيبْعَث. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْقَائِل هَذَا كَانَ هُوَ الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي، وَالْأول أشهر؛ فَقَالَ رَسُول الله: " نعم، وَإِن الله تَعَالَى يُمِيتك ثمَّ يَبْعَثك ثمَّ يدْخلك نَار جَهَنَّم ". وَقَوله: {فَإِذا هُوَ خصيم مُبين} أَي: مخاصم بَين الخصمومة. وَأما وَجه الْحجَّة عَلَيْهِم فِي خلق الْإِنْسَان من نُطْفَة، هُوَ أَن إِعَادَة الْخلق أَهْون فِيمَا يعقله النَّاس من إنْشَاء الْخلق.

78

قَوْله تَعَالَى: {وَضرب لنا مثلا وَنسي خلقه} ضربه الْمثل مَا بَينا من قَوْله. وَقَوله: {وَنسي خلقه} أَي: وَترك النّظر فِي إنْشَاء خلقه. وَقَوله: {قَالَ من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم} الرمة: من الْعِظَام هِيَ الَّتِي بليت.

79

قَوْله تَعَالَى: {قل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم} أَي: عَالم.

{الَّذِي أَنْشَأَهَا أول مرّة وَهُوَ بِكُل خلق عليم (79) الَّذِي جعل لكم من الشّجر الْأَخْضَر نَارا فَإِذا أَنْتُم مِنْهُ توقدون (80) }

80

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي جعل لكم من الشّجر الْأَخْضَر نَارا} قَالَ أهل التَّفْسِير: وَالْمرَاد مِنْهُ هُوَ المرح والعفار، وهما خشبتان توري الْعَرَب مِنْهُمَا النَّار كَمَا يوري النَّاس من الْحَدِيد وَالْحجر، وَقَوله: يوري أَي: يقْدَح، تَقول الْعَرَب: فِي كل شجر نَار واستمجد المرح والعفار وَعَن أبي صَالح قَالَ: فِي الْأَشْجَار نَار سوى شَجَرَة العفار. وَقَوله: {فَإِذا أَنْتُم مِنْهُ توقدون} أَي: تقدحون وتورون. وَقَوله: {أَو لَيْسَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِقَادِر على أَن يخلق مثلهم} على أَن ينشىء خلقا مثلهم، وَقيل: على أَن يعيدهم يَوْم الْقِيَامَة؛ فَيَكُونُوا خلقا كَمَا كَانُوا. وَقَوله: {بلَى وَهُوَ الخلاق الْعَلِيم} مَعْنَاهُ: قل: بلَى، وَهُوَ خطاب للرسول، وَقد بَينا [الْفرق] بَين بلَى وَنعم فِيمَا سبق، وَلَا يَسْتَقِيم فِي جَوَاب النَّفْي إِلَّا بِكَلِمَة بلَى، وَقيل: إِن الله تَعَالَى قَالَ مجيبا لنَفسِهِ: بلَى وَهُوَ الخلاق الْعَلِيم، والخلاق هُوَ الَّذِي يخلق مرّة بعد مرّة، والعليم هُوَ (الْعَالم) بخلقه. قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} قد بَينا هَذَا من قبل، قَوْله: {فسبحان الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء} أَي: ملك كل شَيْء. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ ترجعون} أَي: تردون يَوْم الْقِيَامَة.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالصَّافَّات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إِن إِلَهكُم لوَاحِد (4) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَرب الْمَشَارِق (5) إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا} تَفْسِير سُورَة الصافات وَهِي مَكِّيَّة

الصافات

قَوْله تَعَالَى: {وَالصَّافَّات صفا} روى مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود، وَعِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَنهم الْمَلَائِكَة، وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَنهم عباد السَّمَاء. وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ صُفُوف الْمُسلمين فِي الْجَمَاعَات، وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا تصفون كَمَا تصف الْمَلَائِكَة عِنْد رَبهَا) . وَأشهر الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول، وَالْمَلَائِكَة صُفُوف فِي السَّمَاء يذكرُونَ الله تَعَالَى وَيذكرهُمْ، وَيُقَال: إِن معنى الْآيَة أَن الْمَلَائِكَة تصف أَجْنِحَتهَا إِذا نزلت إِلَى الأَرْض.

2

وَقَوله تَعَالَى: {فالزاجرات زجرا} ذهب أَكثر الْمُفَسّرين أَن المُرَاد بهم الْمَلَائِكَة تزجر السَّحَاب لتسوقه إِلَى الْموضع الَّذِي يُريدهُ الله تَعَالَى. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا زواجر الْقُرْآن.

3

فَأَما قَوْله: {فالتاليات ذكرا} ذهب أَكْثَرهم أَن المُرَاد بهَا الْمَلَائِكَة وَهِي تتلوا ذكر الله. وَالْقَوْل الثَّانِي: انهم الْأَنْبِيَاء يَتلون مَا أنزل الله تَعَالَى وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا آيَات الْقُرْآن تتلى لذكر الله تَعَالَى.

4

وَقَوله: {إِن إِلَهكُم لوَاحِد} هَذَا هُوَ مَوضِع الْقسم، فأقسم الله تَعَالَى بِمَا قدم ذكره، وَقَوله: {وَالصَّافَّات} أَي: وَرب الصافات صفا، وَهَكَذَا فِيمَا بعده.

5

وَقَوله: {رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} وَمعنى الْآيَة أَن إِلَهكُم لوَاحِد، وَهُوَ

{بزينة الْكَوَاكِب (6) وحفظا من كل شَيْطَان مارد (7) لَا يسمعُونَ إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى} رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا {وَرب الْمَشَارِق} أَي: وَرب المسارق والمغارب. فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر {رب الْمشرق وَالْمغْرب} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {رب المشرقين وَرب المغربين} وَقَالَ هَا هُنَا: {رب الْمَشَارِق} فَكيف وَجهه التَّوْفِيق بَين هَذِه الْآيَة وَأَخَوَاتهَا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أما قَوْله: {رب الْمشرق وَالْمغْرب} فَالْمُرَاد مِنْهُ الْجِهَة، وللمشرق جِهَة وَاحِدَة، وللمغرب جِهَة وَاحِدَة. وَأما قَوْله: {رب المشرقين وَرب المغربين} فَالْمُرَاد من المشرقين: مشرق الشتَاء، ومشرق الصَّيف، فَأَما قَوْله: {وَرب الْمَشَارِق} فللشمس مَشَارِق تطلع كل يَوْم من مشرق غير الْمشرق الَّذِي طلعت فِيهِ أمس، وَكَذَلِكَ المغارب، فاستقام على هَذَا وُجُوه الْآيَات.

6

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب} أَي: بِحسن الْكَوَاكِب وضيائها، وَقَرَأَ عَاصِم: " بزينة الْكَوَاكِب " أَي: بتزيينا الْكَوَاكِب، وَقَرَأَ حَمْزَة: " بزينة الْكَوَاكِب " بخفض الْبَاء وتنوين الزِّينَة، وَالْكَوَاكِب على هَذِه الرِّوَايَة تدل على الزِّينَة، وَالْمعْنَى: إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بالكواكب.

7

وَقَوله: {وحفظا} أَي: وحفظناها حفظا، وَقَوله: {من كل شَيْطَان مارد} أَي: متمرد، والشيطان: كل متمرد عَاتٍ من إنس أَو جن أَو جنَّة، قَالَ الشَّاعِر: (مَا لَيْلَة القفير إِلَّا شَيْطَان ... ) والقفير: الْبِئْر الْبَعِيدَة القعر،

8

قَوْله {لَا يسمعُونَ} وَقُرِئَ: " لَا يسمعُونَ " بِنصب السِّين، وَقَوله: {لَا يسمعُونَ} أَي: لَا يَسْتَمِعُون، وَقَوله: {لَا يسمعُونَ} أَي: لَا يَسْتَمِعُون.

{ويقذفون من كل جَانب (8) دحورا وَلَهُم عَذَاب واصب (9) إِلَّا من خطف الْخَطفَة فَأتبعهُ شهَاب ثاقب (10) فاستفتهم أهم أَشد خلقا أم من خلقنَا إِنَّا خلقناهم من} وَقَوله: {إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى} أَي: الْمَلَائِكَة، وَمعنى الْآيَة: أَنهم لَا يَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِمَاع إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى. وَقَوله: {ويقذفون} أَي: يرجمون، وَقَوله: {من كل جَانب} من جَوَانِب السَّمَاء،

9

وَقَوله: {دحورا} قَالَ مُجَاهِد: أَي: مطرودين، وَقَالَ قَتَادَة: يرْمونَ رميا، والدحر هُوَ الإبعاد، وَيُقَال: دحره الله أَي: أبعده الله. وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب واصب} أَي: دَائِم،

10

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من خطف الْخَطفَة} قَالَ أهل التَّفْسِير: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن من خطف الْخَطفَة، والخطف هُوَ الاستلاب بِسُرْعَة، واختطافهم واستلابهم كَلَام الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {فَأتبعهُ شهَاب ثاقب} أَي: شهَاب مضيء، وَقيل: محرق، وَعَن يزِيد الرقاشِي قَالَ: ثاقب أَي: يثقبهم فَينفذ من جَانب آخر، والشهاب: هُوَ النَّجْم هَا هُنَا.

11

قَوْله تَعَالَى: {فاستفتهم} أَي: فاسألهم {أهم أَشد خلقا أم من خلقنَا} قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره: المُرَاد مِنْهُ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال، وَزعم أهل الْمعَانِي: أَنه لَا بُد أَن تكون الْمَلَائِكَة وَمَا خلقه الله من الْجِنّ وَالَّذين يعْقلُونَ مرَادا بِالْآيَةِ؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {أم من خلقنَا} وَمن لَا تذكر إِلَّا فِيمَا يعقل. وَقَوله: {إِنَّا خلقناهم من طين لازب} أَي: لاصق، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ لَازم؛ قَالَ الشَّاعِر: {وَلَا تحسبون الْخَيْر لَا شَرّ بعده ... وَلَا تحسبون الشَّرّ ضَرْبَة لازب} أَي: لَازم.

12

وَقَوله: {بل عجبت} وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " بل عجبت " على إِضَافَة التَّعَجُّب إِلَى الله، وَهِي قِرَاءَة عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس.

{طين لازب (11) بل عجبت ويسخرون (12) وَإِذا ذكرُوا لَا يذكرُونَ (13) وَإِذا} وَفِي بعض الْآثَار المسندة عَن شَقِيق بن سَلمَة أَنه قَالَ: كنت عِنْد شُرَيْح؛ فَقَرَأت " بل عجبت ويسخرون " فَقَالَ شُرَيْح: بئس الْقِرَاءَة هَكَذَا، وَالله تَعَالَى لَا يتعجب من شَيْء، وَهُوَ عَالم بالأشياء كلهَا؛ فَقَالَ شَقِيق: قد ذكرت ذَلِك لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِن شريحا رجل معجب بِعِلْمِهِ، وَعبد الله بن مَسْعُود أعلم مِنْهُ. فَأَما الْقِرَاءَة بِالنّصب، فَهُوَ خطاب للنَّبِي وَمَعْنَاهُ: بل عجبت من وحينا إِلَيْك، وَقيل: من تكذيبهم إياك مَعَ وضوح الدَّلَائِل. وَقَوله: {ويسخرون} أَي: يسخرون ويستهزءون بك، وَأما الْقِرَاءَة بِضَم التَّاء فالتعجب من الله لَيْسَ هُوَ مثل التَّعَجُّب من الْآدَمِيّين، وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر: {فيسخرون مِنْهُم سخر الله مِنْهُم} وَقَالَ تَعَالَى: {الله يستهزئ بهم} فَمَعْنَى قَوْله: {عجبت} أَي: عظم حلمي عَن ذنوبهم، والمتعجب هُوَ الَّذِي يرى مَا يعظم عِنْده، وَقيل: {بل عجبت} أَي: حل فعلهم مَحل مَا يتعجب مِنْهُم. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عجب ربكُم من شَاب لَيْسَ لَهُ صبوة)) وروى عَن النَّبِي - أَنه قَالَ: ((عجب ربكُم من إِلِّكُمْ وَقُنُوطِكُمْ وَسُرْعَة

{رَأَوْا آيَة يستسخرون (14) وَقَالُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (15) أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون (16) أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ (17) قل نعم وَأَنْتُم داحرون (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة فَإِذا هم ينظرُونَ (19) وَقَالُوا يَا ويلنا هَذَا يَوْم الدّين (20) هَذَا} إجَابَته [إيَّاكُمْ] ".

13

وَقَوله: {وَإِذا ذكرُوا لَا يذكرُونَ} وَإِذا وعظوا لَا يتعظون.

14

وَقَوله: {وَإِذا رَأَوْا آيَة يستسخرون} أَي: يسخرون، وَيُقَال: يستدعى بَعضهم من بعض سخريا،

15

وَقَوله: {وَقَالُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين} أَي: سحر بَين.

16

وَقَوله: {أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما ائنا لمبعوثون} قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار،

17

وَقَوله: {أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ} أَي: نبعث وَيبْعَث آبَاؤُنَا الْأَولونَ.

18

قَوْله تَعَالَى: {قل نعم} أَي: نعم لتبعثون، وَقَوله: {وَأَنْتُم داخرون} أَي: صاغرون ذليلون، قَالَ الشَّاعِر: ((وَلم يبْق إِلَّا داخر فِي مخيس ... ومنجحر فِي غير أَرْضك فِي جحري))

19

قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة} أَي: صَيْحَة وَاحِدَة. قَوْله: {فَإِذا هم ينظرُونَ} أَي: ينتظرون، وَقيل: ينظر بَعضهم إِلَى بعض.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا ويلنا هَذَا يَوْم الدّين} أَي: يَوْم الْحساب وَيَوْم الْجَزَاء،

21

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا يَوْم الْفَصْل} أَي: يَوْم الْقَضَاء، وَقيل: يَوْم الْفَصْل بَين المحسن والمسيء، وَقَوله: {الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون} أَي: تجحدون.

22

قَوْله تَعَالَى: {احشروا الَّذين ظلمُوا وأزواجهم} الَّذين ظلمُوا هم الْمُشْركُونَ.

{يَوْم الْفَصْل الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون (21) احشروا الَّذين ظلمُوا وأزواجهم وَمَا كَانُوا يعْبدُونَ (22) من دون الله فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم (23) وقفوهم إِنَّهُم مسئولون (24) مَا لكم لَا تناصرون (25) بل هم الْيَوْم مستسلمون (26) وَأَقْبل} وَقَوله: {وأزواجهم} أَي: وأشباههم، وَقيل: وقرناءهم، وَيُقَال: وأتباعهم. وَقَوله: {وَمَا كَانُوا يعْبدُونَ من دون الله} من الْأَصْنَام، وَقَوله تَعَالَى: {فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم} أَي: ارشدوهم إِلَى طَرِيق النَّار.

24

قَوْله تَعَالَى: {وقفوهم} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: (فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم) ثمَّ قَالَ: {وقفوهم} قُلْنَا: لأَنهم يوقفون على الصِّرَاط للمساءلة، وَيُقَال: إِن هَذَا أَشد فِي التعذيب والتوبيخ. وَفِي الْخَيْر عَن النَّبِي قَالَ: " لَا تَزُول قدما بني آدم يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يسْأَل عَن أَربع: عَن شبابه فِيمَا أبلاه، وَعَن عمره فِيمَا أفناه، وَعَن مَاله من أَيْن اكْتَسبهُ وَأَيْنَ وَضعه، وَعَن علمه مَاذَا فعل بِهِ؟ ".

25

قَوْله تَعَالَى: {مَا لكم لَا تناصرون} أَي: لَا تتناصرون؛ فينصر بَعْضكُم بَعْضًا. وَفِي التَّفْسِير: أَن أَبَا جهل هُوَ الْقَائِل: نَحن جَمِيع منتصر، على مَا حكى الله تَعَالَى فَقَالَ الله تَعَالَى ردا لقَوْله: {مَا لكم لَا تناصرون} أَي: لينصر بَعْضكُم الْبَعْض الْيَوْم إِن كُنْتُم صَادِقين.

26

قَوْله تَعَالَى: {بل هم الْيَوْم مستسلمون} يَعْنِي: استسلموا وعضوا بِأَيْدِيهِم، وَعرفُوا أَنه لَا خلاص لَهُم من الْهَلَاك وَالْعَذَاب.

27

وَقَوله: {وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتساءلون} مَعْنَاهُ أَي: ويتلاومون، قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّكُم كُنْتُم تأتوننا عَن الْيَمين} قَالَ الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا من أهل الْمعَانِي: أَي من قبل الَّذين تلبسونه علينا، وَقيل: من قبل الْجنَّة تثبطوننا عَنْهَا، وَذكر بَعضهم: أَن رُؤَسَاء الْكفَّار كَانَ يحلفُونَ [للأتباع] أَنهم على الْحق.

{بَعضهم على بعض يتساءلون (27) قَالُوا إِنَّكُم تأتوننا عَن الْيَمين (28) قَالُوا بل لم تَكُونُوا مُؤمنين (29) وَمَا كَانَ لنا عَلَيْكُم من سُلْطَان بل كُنْتُم قوما طاغين (30) فَحق علينا قَول رَبنَا إِنَّا لذائقون (31) فأغويناكم إِنَّا كُنَّا غاوين (32) فَإِنَّهُم يَوْمئِذٍ فِي الْعَذَاب مشتركون (33) إِنَّا كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين (34) إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أئنا لتاركوا آلِهَتنَا لشاعر مَجْنُون (36) بل جَاءَ}

28

فَقَوله: {إِنَّكُم كُنْتُم تأتوننا عَن الْيَمين} أَي: عَن الْأَيْمَان الَّتِي حلفوا بهَا أَنهم صَادِقُونَ، وَالْيَمِين يذكر وَيُرَاد بِهِ الْقُوَّة، قَالَ الشَّاعِر: (إِذا مَا راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة بِالْيَمِينِ) أَي: بِالْقُوَّةِ.

29

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بل لم تَكُونُوا مُؤمنين} أَي: رُؤَسَاء يَقُولُونَ ذَلِك للأتباع،

30

وَقَوله: {وَمَا كَانَ لنا عَلَيْكُم من سُلْطَان بل كُنْتُم قوما طاغين} يَعْنِي: إِنَّكُم فَعلْتُمْ مَا فَعلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، وَلم نَفْعل بكم شَيْئا.

31

قَوْله تَعَالَى: {فَحق علينا قَول رَبنَا} أَي: وَجب علينا عَذَاب رَبنَا، قَالَ الْحسن: الضال والمضل جَمِيعًا فِي النَّار؛ فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لذائقون} أَي: ذائقون الْعَذَاب.

32

قَوْله تَعَالَى: {فأغويناكم إِنَّا كُنَّا غاوين} أَي: أضللناكم إِنَّا كُنَّا ضَالِّينَ.

33

قَوْله: {فَإِنَّهُم يَوْمئِذٍ فِي الْعَذَاب مشتركون} يَعْنِي: أَنهم جَمِيعًا فِي الْعَذَاب.

34

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين} ظَاهر الْمَعْنى، والجرم هَا هُنَا هُوَ الشّرك.

35

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} عَن كلمة التَّوْحِيد، ويمتنعون مِنْهَا.

36

قَوْله تَعَالَى: {أئنا لتاركوا آلِهَتنَا لشاعر مَجْنُون} قَالُوا ذَلِك للنَّبِي، فَقَالَ الله تَعَالَى ردا عَلَيْهِم:

37

{بل جَاءَ بِالْحَقِّ وَصدق الْمُرْسلين} أَي: الْمُرْسلين الَّذين سبقوا فِي الرسَالَة.

{بِالْحَقِّ وَصدق الْمُرْسلين (37) إِنَّكُم لذائقوا الْعَذَاب الْأَلِيم (38) وَمَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عباد الله المخلصين (40) أُولَئِكَ لَهُم رزق مَعْلُوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) فِي جنَّات النَّعيم (43) على سرر مُتَقَابلين (44) يُطَاف عَلَيْهِم بكأس من معِين (45) بَيْضَاء لَذَّة للشاربين (46) لَا فِيهَا غول وَلَا هم عَنْهَا ينزفون}

38

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم لذائقوا الْعَذَاب الْأَلِيم وَمَا تُجْزونَ إِلَّا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى،

40

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عباد الله المخلصين} أَي: الَّذين أَخْلصُوا فِي التَّوْحِيد.

41

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُم رزق مَعْلُوم} أَي: مُقَدّر، ورزقهم الْمُقدر هُوَ رزقهم بكرَة وعشيا،

42

وَقَوله: {فواكه وهم مكرمون} الْفَوَاكِه جمع الْفَاكِهَة. وَقَوله: {وهم مكرمون} أَي: بإدخالهم الْجنَّة.

43

قَوْله تَعَالَى: {فِي جنَّات النَّعيم} يَعْنِي: إِنَّهُم فِي جنَّات النَّعيم.

44

وَقَوله: {على سرر مُتَقَابلين} قَالَ أهل التَّفْسِير: لَا ينظر بَعضهم فِي قفا الْبَعْض.

45

قَوْله تَعَالَى: {يُطَاف عَلَيْهِم بكأس من معِين} أَي: الْخمر الْجَارِي.

46

وَقَوله: {بَيْضَاء لَذَّة للشاربين} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: خمر الْجنَّة أَبيض من اللَّبن، قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " صفراء لَذَّة للشاربين ".

47

قَوْله تَعَالَى: {لَا فِيهَا غول} أَي: لَا تغتال عُقُولهمْ، قَالَ الشَّاعِر: (فَمَا زَالَت الكأس تغتالنا ... وتصرع بِالْأولِ الأول) وَيُقَال: الْخمر غول الْعقل، وَالْحَرب غول النَّفس، وَيُقَال: الغول هُوَ الغائلة، وَمن الغائلة ذهَاب عقلهم، وَسَائِر الْمَفَاسِد الَّتِي فِي الْخمر، وَيُقَال فِي الْخمر أَرْبَعَة أَشْيَاء: السكر، والصداع، والقيء، و (الْبَوْل) ، وَلَا يُوجد من هَذِه الْأَرْبَع فِي خمر الْجنَّة. وَقَوله: {وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} يُقَال: أنزف الرجل إِذا سكر، قَالَ الشَّاعِر: (لعمري لَئِن أنزفتم أَو صحوتم ... لبئس الندامى كُنْتُم آل أبجرا)

( {47) وَعِنْدهم قاصرات الطّرف عين (48) كأنهن بيض مَكْنُون (49) فَأقبل بَعضهم على بعض يتساءلون (50) قَالَ قَائِل مِنْهُم إِنِّي كَانَ لي قرين (51) يَقُول أئنك لمن}

48

قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْدهم قاصرات الطّرف} أَي: اللَّاتِي قصرن أطرافهن على أَزوَاجهنَّ أَي: عينهن أَي: حبسن فَلَا ينظرن إِلَى غير أَزوَاجهنَّ. وَقَوله: {عين} أَي: حسان الْأَعْين، وَفِي التَّفْسِير: الْبيَاض شَدِيد الْبيَاض، والسواد شَدِيد السوَاد، يَعْنِي فِي الْعين.

49

وَقَوله: {كأنهن بيض مَكْنُون} الْعَرَب تشبه وَجه الْمَرْأَة فِي الْبيَاض بَيْضَة النعامة، وَيَقُولُونَ: أحسن اللَّوْن بَيَاض اللَّوْن مشوب بالصفرة، قَالَ ذُو الرمة: (كحلاء فِي بزخ صفراء فِي دعجٌ ... كَأَنَّهَا فضَّة قد مَسهَا ذهب) وَقَوله: {مَكْنُون} أَي: مَسْتُور مصون من الريش (والخمار) . وَقَالَ بَعضهم: فِي قَوْله {بيض مَكْنُون} شبههن ببياض الْبَيْضَة عِنْد خُرُوجهَا من قشرتها، وَقيل: شبه بالسحاء الَّذِي بَين القشر الْأَعْلَى وَبَين الْبيَاض.

50

قَوْله تَعَالَى: {فَأقبل بَعضهم على بعض يتساءلون} أَي: يسْأَل بَعضهم بَعْضًا عَن حَاله فِي الدُّنْيَا.

51

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قَائِل مِنْهُم إِنِّي كَانَ لي قرين} قَالَ مُجَاهِد: القرين هَا هُنَا: هُوَ الشَّيْطَان (يغويه) ، وَيُقَال: القرين هَا هُنَا: قرينه الَّذِي كَانَ يَدعُوهُ إِلَى الْكفْر. قَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: نزلت الْآيَة فِي رجلَيْنِ كَانَا فِي بني إِسْرَائِيل اكتسبا مَالا عَظِيما، وَيُقَال: ورثا مَالا عَظِيما واقتسماه، فأنفق أَحدهمَا نصِيبه على الْفُقَرَاء، وَأما الآخر فَاشْترى بِهِ عقارا ودورا وأثرى، وهما اللَّذَان ذكرهمَا الله تَعَالَى فِي سُورَة الْكَهْف، وَقَالَ بَعضهم: هما أَخَوان سواهُمَا.

{المصدقين (52) أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمدينون (53) قَالَ هَل أَنْتُم مطلعون (54) فَاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم (55) قَالَ تالله إِن كدت لتردين (56) وَلَوْلَا نعْمَة رَبِّي لَكُنْت من المحضرين (57) أفما نَحن بميتين (58) إِلَّا موتتنا الأولى وَمَا نَحن بمعذبين (59) إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم (60) لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ (61) }

52

وَقَوله: {يَقُول أئنك لمن المصدقين} أَي: المصدقين بِالْبَعْثِ.

53

وَقَوله: {أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمدينون} هَذَا قَول قرينه، وَقَوله: {لمدينون} أَي: محاسبون، وَقيل: مجزيون، يُقَال: كَمَا تدين تدان.

54

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هَل أَنْتُم مطلعون} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا، فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن الله تَعَالَى يَقُول لَهُم: {هَل أَنْتُم مطلعون} . وَالْآخر: أَن هَذَا الْمُؤمن يَقُول لإخوانه من أهل الْجنَّة هَل أَنْتُم مطلعون؟

55

قَوْله تَعَالَى: {فَاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم} أَي: فِي وسط الْجَحِيم، وَإِنَّمَا سمي وسط الشَّيْء سَوَاء لِاسْتِوَاء الجوانب مِنْهُ.

56

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ تالله إِن كدت لتردين} أَي: لتهلكني، يُقَال: كَاد يفعل كَذَا أَي: قَارب، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " إِن كدت لتغويني " من الإغواء.

57

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا نعْمَة رَبِّي لَكُنْت من المحضرين} أَي: وَلَوْلَا رَحْمَة رَبِّي لَكُنْت من المحضرين النَّار أَي: الَّذين دخلُوا النَّار.

58

قَوْله تَعَالَى: {أفما نَحن بميتين إِلَّا موتتنا الأولى وَمَا نَحن بمعذبين} فَيُقَال: أجيبونا فَلَا يجيبون لاستغراقهم فِي الْعَذَاب، يَقُولُونَ: {إِن هَذَا لَهو الْفَوْز الْعَظِيم} وَعَن بَعضهم: " أَنه يجاء بِالْمَوْتِ على صُورَة كَبْش فَيذْبَح على مَا ورد بِهِ الْخَبَر "، فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: أفما نَحن بميتين إِلَّا موتتنا الأولى على طَرِيق الْإِقْرَار والتعجب وَالسُّرُور بذلك.

61

{لمثل هَذَا فليعمل الْعَامِلُونَ} أَي: لمثل هَذَا الْمنزل، ولمثل هَذَا النَّعيم، فليعمل

{أذلك خير نزلا أم شَجَرَة الزقوم (62) إِنَّا جعلناها فتْنَة للظالمين (63) إِنَّهَا شَجَرَة تخرج فِي أصل الْجَحِيم (64) طلعها كَأَنَّهُ رُءُوس الشَّيَاطِين (65) فَإِنَّهُم لآكلون مِنْهَا} الْعَامِلُونَ.

62

قَوْله تَعَالَى: {أذلك خير نزلا} النزل: هُوَ الْعَطاء الدَّار، وَيُقَال: النزل هُوَ إصْلَاح مَا ينزل عَلَيْهِم. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {أذلك خير نزلا أم شَجَرَة الزقوم} وَلَا خير فِي شَجَرَة الزقوم أصلا؟ الْجَواب عَنهُ قد سبق وَعَن مثل هَذَا، وَالْعرب تَقول: تعال نَنْظُر الصُّلْح خير أم الْحَرْب، والفقر خير أم الْغنى، وَالصِّحَّة خير أم السقم، وَإِنَّمَا يُرِيد تَقْرِير الْأَمر للمخاطب أَنه لَا خير إِلَّا فِي أَحدهمَا. وَقَوله: {أم شَجَرَة الزقوم} اخْتلفُوا فِي هَذِه الشَّجَرَة، فالأكثرون أَنَّهَا شَجَرَة لَا يعرف لَهَا مثل فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ قطرب: هِيَ شَجَرَة مرّة خبيثة تكون بتهامة، وَقَالَ بَعضهم: نبت قَاتل. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة؛ قَالَ أَبُو جهل: هَل تعرفُون الزقوم؟ فَقَالَ عبد الله بن الزبعري: نعم نعرفه؛ هُوَ بِلِسَان البربر الزبدة وَالتَّمْر وَأورد بَعضهم: أَنه بلغَة الْيمن فَقَالَ أَبُو جهل لجاريته: ابغي لنا زبدا وَتَمْرًا، فَجَاءَت بذلك، فَقَالَ: هُوَ الزقوم الَّذِي خوفكم بِهِ مُحَمَّد، فتزقموا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى {إِنَّهَا شَجَرَة تخرج فِي أصل الْجَحِيم} أَي: فِي قَعْر الْجَحِيم.

65

وَقَوله: {طلعها كَأَنَّهُ رُءُوس الشَّيَاطِين} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {طلعها كَأَنَّهُ رُءُوس الشَّيَاطِين} ورءوس الشَّيَاطِين لم يرهَا أحد، وَلَا يجوز التَّعْرِيف إِلَّا بِمَا يعرف؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه كَانَ مُسْتَقرًّا فِي النُّفُوس قبح رُءُوس الشَّيَاطِين، وَأَن جَمِيعهم على أقبح صُورَة؛ فَشبه بهَا على مَا اسْتَقر فِي النُّفُوس، قَالَ الشَّاعِر: (يقاتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال)

{فمالئون مِنْهَا الْبُطُون (66) ثمَّ إِن لَهُم عَلَيْهَا لشوبا من حميم (67) ثمَّ إِن مرجعهم لإلى الْجَحِيم (68) إِنَّهُم ألفوا آبَاءَهُم ضَالِّينَ (69) فهم على آثَارهم يهرعون (70) وَلَقَد ضل قبلهم أَكثر الْأَوَّلين (71) وَلَقَد أرسلنَا فيهم منذرين (72) فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين (73) إِلَّا عباد الله المخلصين (74) وَلَقَد نادانا نوح فلنعم المجيبون} فَشبه بأنياب الأغوال، وَلم ير الأغوال، وَلَكِن صَحَّ التَّشْبِيه لما تقرر فِي النُّفُوس قبحها، وَقَالَ بَعضهم: الشَّيْطَان هَا هُنَا حَيَّة قبيحة المنظر، فَمَعْنَاه: كَأَنَّهَا رُءُوس الْحَيَّات، وَالْعرب تسمي كل قَبِيح مَكْرُوه شَيْطَانا، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ اسْم لنبت من الثَّمر خشن اللَّمْس منتن الرّيح. وَقَوله: {إِنَّا جعلناهم فتْنَة للظالمين} فتنتهم بهَا هُوَ مَا قَالَ أَبُو جهل، وَزعم أَنه الزّبد وَالتَّمْر، وَمن فتنتهم أَيْضا بهَا أَنهم قَالُوا كَيفَ تنْبت شَجَرَة فِي النَّار، وَالنَّار تحرق الشّجر؟

66

قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُم لآكلون مِنْهَا فمالئون مِنْهَا الْبُطُون} ظَاهر الْمَعْنى.

67

وَقَوله: {ثمَّ إِن لَهُم عَلَيْهَا لشوبا من حميم} أَي: لخلطا من حميم.

68

وَقَوله: {ثمَّ إِن مرجعهم لإلى الْجَحِيم} أَي: منقلبهم، وَيُقَال: إِن شَجَرَة الزقوم فِي الْبَاب السَّادِس من أَبْوَاب النَّار؛ فَيخْرجُونَ من الْجَحِيم إِلَيْهِ حَتَّى يَأْكُلُون الزقوم ثمَّ يردون إِلَى الْجَحِيم؛ فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {قُم ثمَّ إِن مرجعكم لإلى الْجَحِيم} .

69

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم ألفوا آبَاءَهُم ضَالِّينَ} أَي: وجدوا آبَاءَهُم على الضَّلَالَة،

70

وَقَوله: {فهم على آثَارهم يهرعون} أَي: يسرعون، والإهراع هُوَ الْإِسْرَاع،

71

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد ضل قبلهم أَكثر الْأَوَّلين وَلَقَد أرسلنَا فيهم منذرين فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُنْذرين} مَعْلُوم الْمَعْنى.

74

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا عباد الله المخلصين} وَقُرِئَ: " مُخلصين " بِكَسْر اللَّام، فَقَوله: {مُخلصين} أَي: الَّذين أخلصهم الله واختارهم، وَأما بِالْكَسْرِ أَي: الَّذين أَخْلصُوا الْعَمَل لله تَعَالَى.

( {75) ونجيناه وَأَهله من الكرب الْعَظِيم (76) وجعنا ذُريَّته هم البَاقِينَ (77) وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين (78) سَلام على نوح فِي الْعَالمين (79) إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ (81) ثمَّ أغرقنا الآخرين (82) وَإِن من شيعته لإِبْرَاهِيم (83) إِذْ جَاءَ ربه بقلب سليم (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَاذَا تَعْبدُونَ (85) أئفكا آلِهَة}

75

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد نادانا نوح فلنعم المجيبون} أَي: نعم الْمُجيب نَحن لَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: {المجيبون} على مَا يَقُول الْمُلُوك والعظماء، ويخبرون عَن أنفسهم بِلَفْظ الْجَمَاعَة.

76

وَقَوله تَعَالَى: {ونجيناه وَأَهله من الكرب الْعَظِيم} أَي: الْغم الْعَظِيم،

77

قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا ذُريَّته هم البَاقِينَ} قد بَينا أَن النَّاس من نسل نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يبْق أحد من نسل غَيره.

78

وَقَوله: {وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} أَي: وَتَركنَا عَلَيْهِ الذّكر الْجَمِيل وَالثنَاء الْحسن فِي الآخرين،

79

قَوْله تَعَالَى: {سَلام على نوح فِي الْعَالمين} أَي: السَّلامَة لَهُ منا فِي الْعَالمين، وَيُقَال: السَّلَام منا عَلَيْهِ فِي الْعَالمين،

80

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ} مَعْلُوم الْمَعْنى.

82

وَقَوله: {ثمَّ أغرقنا الآخرين} هم الْكفَّار، وَقد سبق ذكر نوح من قبل.

83

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من شيعته لإِبْرَاهِيم} يُقَال: أَن الْهَاء هَا هُنَا رَاجع إِلَى مُحَمَّد وَالأَصَح انه رَاجع إِلَى نوح، والشيعة هم الأتباع، وَإِنَّمَا قَالَ من شيعته؛ لِأَنَّهُ كَانَ على مسلكه، ومنهاجه.

84

وَقَوله: {إِذْ جَاءَ ربه بقلب سليم} أَي: سليم من الشّرك، قَالَ عُرْوَة بن الزبير: لم يلعن شَيْئا قطّ، فهم معنى قَوْله: {سليم} .

85

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَومه مَاذَا تَعْبدُونَ} مَعْنَاهُ: أَي شَيْء تَعْبدُونَ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَام بطرِيق الْإِنْكَار والتوبيخ.

{دون الله تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظنكم بِرَبّ الْعَالمين (87) فَنظر نظرة إِلَى النُّجُوم (88) فَقَالَ إِنِّي سقيم (89) فتولوا عَنهُ مُدبرين (90) فرَاغ إِلَى آلِهَتهم فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}

86

قَوْله تَعَالَى: {أئفكا آلِهَة} أَي: تطلبون آلِهَة مؤتفكة، وَمعنى تطلبون أَي: تطلبون مِنْهَا مَا يطْلب من الله تَعَالَى، والإفك: الْكَذِب، وَمعنى المؤتفكة: أَي كَذبْتُمْ لأَجلهَا على الله، واخترعتموها من قبل أَنفسكُم. قَوْله تَعَالَى: { [أئفكا آلِهَة دون الله تُرِيدُونَ]

87

فَمَا ظنكم بِرَبّ الْعَالمين) مَعْنَاهُ: فَمَا ظنكم بِرَبّ الْعَالمين إِذا لقيتموه، وَأي شَيْء تتوقعون مِنْهُ، وَقد فَعلْتُمْ مَا فَعلْتُمْ!

88

قَوْله تَعَالَى: {فَنظر نظرة فِي النُّجُوم فَقَالَ إِنِّي سقيم} قَالَ الْخَلِيل والمبرد: تَقول الْعَرَب لكل من نظر فِي أمره وتدبر مَاذَا يفعل قد نظر فِي النُّجُوم، هَذَا قَول، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَانَ نجم يطلع فِي ذَلِك الزَّمَان، وَكَانَ كل من نظر إِلَيْهِ يَزْعمُونَ أَنه يُصِيبهُ الطَّاعُون، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ زحل؛ فَقَوله: {فَنظر نظرة فِي النُّجُوم} أَي: نظر إِلَى النَّجْم: {فَقَالَ إِنِّي سقيم} أَي: أصابني الطَّاعُون على مَا تَزْعُمُونَ، وَكَانُوا يفرون من المطعون فِرَارًا عَظِيما، ويزعمون أَنه يعدي، ذكره السّديّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى قَوْله: {فَنظر نظرة فِي النُّجُوم} أَي: فِيمَا نجم لَهُ من الْأَمر أَي: ظهر. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن قَوْله: {فَنظر نظرة فِي النُّجُوم} أَي: ينظر فِي النُّجُوم على مَا ينظر فِيهِ أهل النُّجُوم، وكايدهم بذلك عَن دينه، وَكَانُوا أهل نُجُوم، ويزعمون أَن الْأَحْكَام تصدر مِنْهَا، والحوادث تكون عَنْهَا؛ فَنظر فِي النُّجُوم، وَقَالَ هَذِه الْمقَالة ليتركوه، ويتوصل بذلك إِلَى كيد أصنامهم. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن علم النُّجُوم كَانَ حَقًا إِلَى أَن حبست الشَّمْس ليوشع بن نون فتشوش الْأَمر عَلَيْهِم، وَالله أعلم. وَقَوله: {إِنِّي سقيم} قد بَينا، سقيم أَي: سأسقم، وَلَا بُد لكل صَحِيح أَن يسقم، وَقيل: يسقم الْقلب لقبح أفعالكم، وَهَذَا هُوَ إِحْدَى الكذبات الثَّلَاث الَّتِي كذبهَا

( {91) مَا لكم لَا تنطقون (92) فرَاغ عَلَيْهِم ضربا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون (94) قَالَ أتعبدون مَا تنحتون (95) وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ} إِبْرَاهِيم فِي الله، وَالْخَبَر فِي ذَلِك مَعْرُوف صَحِيح، وَقد روينَا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ ذَلِك من معاريض الْكَلَام، وَلم يكن كذبا صَرِيحًا.

90

قَوْله تَعَالَى: {فتولوا عَنهُ مُدبرين} أَي: توَلّوا عَنهُ وتركوه. وَقد ذكرنَا أَنهم خَرجُوا إِلَى عيد لَهُم، فَلَمَّا خَرجُوا وَبَقِي إِبْرَاهِيم وَحده عمد إِلَى بَيت أصنافهم ودخله، وَكَانَ الطَّعَام مَوْضُوعا بَين أَيْديهم؛ فَقَالَ: أَلا تَأْكُلُونَ؟ فَهُوَ معنى

91

قَوْله: {فرَاغ إِلَى آلِهَتهم} وَقَوله: " راغ " أَي: مَال. وَقَوله: {أَلا تَأْكُلُونَ} هَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار على الْمُشْركين؛ لأَنهم كَانُوا قدمُوا الطَّعَام إِلَيْهِم ليأكلوا.

92

قَوْله: {مَا لكم لَا تنطقون} أَي: لَا تتكلمون، وَهُوَ أَيْضا مَذْكُور على طَرِيق الْإِنْكَار،

93

قَوْله تَعَالَى: {فرَاغ عَلَيْهِم} أَي: فَمَال عَلَيْهِم يضْرب ضربا بِالْيَمِينِ. وَقَوله: {بِالْيَمِينِ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا أَن مَعْنَاهُ: يَضْرِبهُمْ بِيَمِينِهِ، وَمعنى يَضْرِبهُمْ أَي: يكسرهم، وَيُقَال بِالْيَمِينِ أَي: بِالْقُوَّةِ. وَالْقَوْل الثَّالِث: بِالْيَمِينِ أَي: بِالْيَمِينِ الَّتِي سبقت مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} .

94

قَوْله تَعَالَى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون} أَي: يسرعون،

95

وَقَوله: {قَالَ أتعبدون مَا تنحتون} أَي: تنحتون بِأَيْدِيكُمْ،

96

وَقَوله: {وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} من هَذِه الْأَصْنَام، فَإِذا كَانَ الله خلقهَا فَلَا يصلح أَن تتخذوها آلِهَة، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أهل الاعتزال فِي أَن أَعمال الْعباد مخلوقة لله تَعَالَى وَالدَّلِيل فِي ذَلِك وَاضح، وَهُوَ مَعْلُوم فِي (الْكتب) .

97

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بنيانا} أَي: حَظِيرَة، وَقيل: إيوانا.

{بنيانا فألقوه فِي الْجَحِيم (97) فأرادوا بِهِ كيدا فجعلناهم الأسفلين (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين (99) رب هَب لي من الصَّالِحين (100) فبشرناه بِغُلَام حَلِيم} وَقَالَ ابْن عَبَّاس: بنوا موضعا وَجعلُوا حوائطه من حَدِيد، طوله فِي السَّمَاء ثَلَاثُونَ ذِرَاعا، وَعرضه عشرُون ذِرَاعا. وَقَوله: {فألقوه فِي الْجَحِيم} الْجَحِيم كل مَوضِع عظمت فِيهِ النَّار وَكَثُرت، وَيُقَال: الْجَحِيم نَار على نَار، وجمر على جمر.

98

وَقَوله: {فأرادوا بِهِ كيدا} كيدهم: هُوَ قصدهم إحراقه بالنَّار، وَقَوله: {فجعلناهم الأسفلين} أَي: المهلكين، وَقيل: الأسفلين فِي الْحجَّة، كَانَ حجَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِم، وَظَهَرت عَلَيْهِم.

99

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي سيهدين} . فِي الْقِصَّة: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لما ألقِي فِي النَّار؛ قَالَ حِين ألقِي: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل؛ فَجعل الله النَّار عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، قَالَ كَعْب: لم تحرق شَيْئا مِنْهُ إِلَّا وثَاقه، وَفِي الْقِصَّة: أَن نمروذ اطلع عَلَيْهِ فَرَآهُ فِي رَوْضَة خضراء عَن يَمِينه شخص، وَكَانَ هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن يسَاره فرَاش من حَرِير أنزلهُ الله عَلَيْهِ من الْجنَّة. وَقَوله: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي} فِيهِ قَولَانِ: أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه قَالَ بعد أَن خرج من النَّار، وَأمره الله بِالْهِجْرَةِ إِلَى الشَّام. وَالْقَوْل الآخر: أَنه قَالَ هَذَا قبل أَن [يلقى] فِي النَّار، وَكَانَ عِنْده أَنه إِذا ألقِي فِي النَّار هلك، وَلم يتَخَلَّص مِنْهَا؛ فَقَالَ هَذَا القَوْل إِنِّي ذَاهِب إِلَى رَبِّي. وَقَوله: {سيهدين} على هَذَا القَوْل مَعْنَاهُ: إِلَى طَرِيق الْجنَّة، وعَلى القَوْل الأول سيهدين أَي: سيرشدني إِلَى الْموضع الَّذِي أمرت بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهِ.

100

وَقَوله تَعَالَى: {رب هَب لي من الصَّالِحين} أَي: هَب لي ولدا صَالحا من الصَّالِحين،

101

قَوْله تَعَالَى {فبشرناه بِغُلَام حَلِيم} أَي: غُلَام حَلِيم فِي صغره، عليم فِي

( {101) فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي قَالَ يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك فَانْظُر مَاذَا ترى قَالَ يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر ستجدني إِن شَاءَ الله من الصابرين (102) فَلَمَّا أسلما وتله} كبره، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَنه بشره بِأَنَّهُ يكبر، ويعمر حَتَّى يُوصف (بالحلم) وَالْوَقار. وَاخْتلفُوا أَن هَذَا الْغُلَام كَانَ إِسْمَاعِيل أَو إِسْحَاق. فَذهب قوم إِلَى أَنه إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن مَسْعُود وَكَعب وَقَتَادَة وَجَمَاعَة، وَذهب جمَاعَة إِلَى أَنه إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَغَيرهم.

102

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا بلغ مَعَه السَّعْي} قَالَ ثَعْلَب: السَّعْي مشي بِسُرْعَة، وَاخْتلفُوا فِي السَّعْي هَاهُنَا، قَالَ بَعضهم: هُوَ الْعَمَل مَعَه، كَأَنَّهُ صَار يُعينهُ فِي عمله، وَقيل: السعى إِلَى الْجَبَل، وَيُقَال: بلغ مَعَه السَّعْي أَي: الْعِبَادَة لله تَعَالَى. وَقَوله: {قَالَ يَا بني إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} أَي: أمرت بذبحك، قَالَ ابْن عَبَّاس: رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحي، وَيُقَال: رَأَيْت فِي الْمَنَام مَا يدل على أَنِّي أمرت بذبحك. وَقَوله: {فَانْظُر مَاذَا ترى} وَقَرَأَ حَمْزَة: " مَاذَا ترى " أما قَوْله: {مَاذَا ترى} أَي: مَاذَا ترى فِيمَا أَمر الله بِهِ، فَإِن قيل: كَيفَ يشاوره فِيمَا أمره الله بِهِ، وَهُوَ أَمر حتم لَا يجوز تَركه؟ وَالْجَوَاب عَنهُ على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ إخْبَاره. وَالْآخر: أَنه أَرَادَ امتحانه فِي التَّسْلِيم بِحكم الله. وَأما الْقِرَاءَة الْأُخْرَى، وَهِي قَوْله: {مَاذَا ترى} فِيهِ مَعْنيانِ أَحدهمَا: مَاذَا تُشِير؟ وَالْآخر: مَاذَا ترى من صبرك؟ ذكره الْفراء. وَقَوله: {قَالَ يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر} قَالَ ذَلِك انقيادا لأمر ربه وطواعية، وَقَوله:

{للجبين (103) وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم (104) قد صدقت الرءيا إِنَّا كَذَلِك نجزي} {ستجدني إِن شَاءَ الله من الصابرين} أَي: الصابرين على حكم الله.

103

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أسلما} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " فَلَمَّا سلما ". وَقَوله: {أسلما} أَي: استسلما، وَمَعْنَاهُ: أَن إِبْرَاهِيم سلم ابْنه للذبح، وَالْولد سلم روحه. وَقَوله: {وتله للجبين} أَي: صرعه للجبين، والجبهة بَين الجبينين، قَالَ الشَّاعِر: (شَككت لَهُ بِالرُّمْحِ جَنْبي قَمِيصه ... فَخر تليلا الْيَدَيْنِ للفم) وَقَالَ آخر: (فتله للجبينمنعفرا ... مِنْهُ منَاط الوتين منتصب) وَاخْتلفُوا فِي الْموضع الَّذِي أَرَادَ ذبحه فِيهِ، فَمن قَالَ: إِن الذَّبِيح كَانَ إِسْمَاعِيل قَالَ: كَانَ بمنى، وَمن قَالَ: إِن الذَّبِيح كَانَ إِسْحَاق قَالَ: كَانَ بِالشَّام. وَفِي التَّفْسِير: أَن إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لإِبْرَاهِيم: اقذفني على جبيني؛ لِئَلَّا ترى وَجْهي فترحمني، وَحَتَّى لَا أرى الشَّفْرَة فأجزع مِنْهَا، وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام خرج إِلَى جَانب منى، وَأمر إِسْمَاعِيل أَن يتبعهُ بالشفرة وَالْحَبل، فرفعهما وَاتبعهُ؛ فجَاء إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة وَقَالَ لإسماعيل: هَل تَدْرِي مَا يُرِيد بك أَبوك؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: إِنَّه يُرِيد أَن يذبحك؛ فَقَالَ: وَلم؟ قَالَ: يزْعم أَن الله أمره بِهِ. فَقَالَ: هُوَ أهل أَن يطاع، ثمَّ جَاءَ إِلَى أمه ووسوس كَذَلِك؛ فأجابت كَمَا قُلْنَا، يَعْنِي: كَمَا قَالَ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام. وَفِي التَّفْسِير: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام جعل يحز وَلَا يقطع، وروى أَن الله تَعَالَى ضرب على عنق إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام صفيحة من نُحَاس؛ فَجعل لَا يقطع، وَأورد بَعضهم: أَنه كَانَ يقطع ويلتئم.

104

وَقَوله: {وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم} فَإِن قيل: أَيْن جَوَاب قَوْله: {فَلَمَّا أسلما وتله

{الْمُحْسِنِينَ (105) إِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْمُبين (106) وفديناه بِذبح عَظِيم (107) وَتَركنَا} للجبين) ؟ الْجَواب: أَن جَوَابه قَوْله {وناديناه} وَالْوَاو صلَة، وَجعل بَعضهم الْجَواب محذوفا، وَقَوله: {وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم

105

قد صدقت الرُّؤْيَا) أَي: حققت الرُّؤْيَا بِمَا أمرت بِهِ. وَقَوله: {إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ} أَي: الْمُوَحِّدين، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: صدقت الرُّؤْيَا، وَرَأى أَنه يذبح وَلم يذبح؟ وَالْجَوَاب: أَنه قد أَتَى بِمَا قدر عَلَيْهِ من الذّبْح؛ فَجعله مُصدقا بِهَذَا الْمَعْنى، وَالْآخر: أَن الْمَقْصُود من الْأَمر وَالْمَطْلُوب مِنْهُ كَانَ هُوَ استسلامهما، هَذَا لوَلَده، وَهَذَا لروحه، فَلَمَّا فعلا ذَلِك سماهما مُصدقين. وَاخْتلفُوا فِي سنّ إِسْمَاعِيل فِي ذَلِك الْوَقْت، مِنْهُم من قَالَ: كَانَ سنه [ثَلَاث] عشرَة سنة، وَمِنْهُم من قَالَ: كَانَ سنه سبع سِنِين.

106

{إِن هَذَا لَهو الْبلَاء الْمُبين} أَي: الْبلَاء الْبَين، وَمِنْهُم من قَالَ: النِّعْمَة الْبَيِّنَة، وَالنعْمَة فِي صرف الذّبْح عَنهُ، وَالْفِدَاء الَّذِي أنزل عَلَيْهِ.

107

قَوْله تَعَالَى: {وفديناه بِذبح عَظِيم} قَالَ ابْن عَبَّاس: أنزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ كَبْشًا من الْجنَّة، وَهُوَ الْكَبْش الَّذِي تقبله الله تَعَالَى من هابيل، وَيُقَال: كَبْش رعى فِي الْجنَّة أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أروية من الْجَبَل. وَقَوله: {عَظِيم} مِنْهُم من قَالَ: المُرَاد مِنْهُ الْعَظِيم فِي الشَّخْص، وَقيل: عَظِيم فِي الثَّوَاب، وَقَالَ مُجَاهِد: عَظِيم؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَقْبُولًا من الله. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْكَبْش نزل عَلَيْهِ من جبل منى؛ فَقَالَ لإسماعيل: قُم فَإِن الله تَعَالَى أرسل فدَاك، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْكَبْش هرب؛ فَتَبِعَهُ إِبْرَاهِيم حَتَّى أَخذه، فَلَمَّا

{عَلَيْهِ فِي الآخرين (108) سَلام على إِبْرَاهِيم (109) كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ (111) وبشرناه بِإسْحَاق نَبيا من الصَّالِحين (112) وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَاق وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين (113) وَلَقَد مننا على مُوسَى وَهَارُون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب الْعَظِيم (115) ونصرناهم فَكَانُوا هم} كَانَ بَين الْجَمْرَتَيْن اضْطجع، وَلم يطق إِبْرَاهِيم حمله؛ فذبحه هُنَالك.

108

وَقَوله: {وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} أَي: تركنَا لَهُ فِي الآخرين حسنا وذكرا جميلا،

109

وَقَوله: {سَلام على إِبْرَاهِيم} قد بَينا،

110

وَقَوله: {كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ} قد بَينا.

112

وَقَوله: {وبشرناه بِإسْحَاق نَبيا من الصَّالِحين} اسْتدلَّ من قَالَ إِن إِسْمَاعِيل كَانَ هُوَ الذَّبِيح؛ فَإِنَّهُ ذكر قصَّة الذَّبِيح بِتَمَامِهِ، ثمَّ قَالَ: {وبشرناه بِإسْحَاق نَبيا من الصَّالِحين} دلّ أَنه كَانَ غير إِسْحَاق، وَأما من قَالَ: كَانَ الذَّبِيح إِسْحَاق، فَقَالَ فِي هَذِه الْآيَة: إِن الْبشَارَة وَقعت بِالنُّبُوَّةِ فِي إِسْحَاق، والبشارة الأولى بولادته وإعطائه إِيَّاه.

113

وَقَوله: {وباركنا عَلَيْهِ وعَلى إِسْحَق} أى: باركنا على إِبْرَاهِيم وعَلى إِسْحَق، وَالْبركَة هَاهُنَا: كَثْرَة الْوَلَد، وَيُقَال: الْبركَة كَثْرَة الْأَنْبِيَاء [فى] أولادهما. وَقَوله: {وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين} أَي: موحد ومشرك.

114

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد مننا على مُوسَى وَهَارُون} أَي: أنعمنا.

115

وَقَوله: {ونجيناهما وقومهما من الكرب الْعَظِيم} أَي: من الْغم الْعَظِيم، وَهُوَ الْغَرق والهلاك.

116

وَقَوله تَعَالَى: {ونصرناهم فَكَانُوا هم الغالبين} أَي: ونصرناهما، فَذكر الِاثْنَيْنِ بِلَفْظ الْجمع، وَقد يذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع أَيْضا، وَقد بَينا من قبل.

117

وَقَوله: {وآتيناهما الْكتاب المستبين} أَي: التَّوْرَاة.

{الغالبين (116) وآتيناهما الْكتاب المستبين (117) وهديناهما الصِّرَاط الْمُسْتَقيم (118) وَتَركنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين (119) سَلام على مُوسَى وَهَارُون (120) إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ (121) إنَّهُمَا من عبادنَا الْمُؤمنِينَ (122) وَإِن إلْيَاس لمن الْمُرْسلين (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُون (124) أَتَدعُونَ بعلا وتذرون أحسن الْخَالِقِينَ (125) الله ربكُم}

118

وَقَوله: {وهديناهما الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} أَي: الْإِسْلَام،

119

وَقَوله: {وَتَركنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين} قد بَينا،

120

وَقَوله: {سَلام على مُوسَى وَهَارُون إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ إنَّهُمَا من عبادنَا الْمُؤمنِينَ} قد بَينا.

123

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن إلْيَاس لمن الْمُرْسلين} فِي التَّفْسِير: أَن إلْيَاس كَانَ من ولد هَارُون، وَبَعثه الله إِلَى بني إِسْرَائِيل، وياقل بَعثه الله إِلَى بعلبك، وَهِي بَلْدَة، وَقد كَانَ أَهلهَا يعْبدُونَ صنما يُسمى بعلا.

124

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُون} مَعْنَاهُ: أَلا تخافون الله وتحذرونه.

125

قَوْله سُبْحَانَهُ: {أَتَدعُونَ بعلا} هُوَ الصَّنَم الَّذِي قُلْنَا، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ من ذهب مزين بالجواهر، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: أَتَدعُونَ بعلا أَي: رَبًّا، والبعل هُوَ الرب، وَمَعْنَاهُ: أَتَدعُونَ هَذَا الصَّنَم رَبًّا؟ . وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ جَالِسا، فَسئلَ عَن هَذِه الْآيَة؛ فَسكت؛ فَمر رجل من الأزد وَمَعَهُ بقرة؛ فَقَالَ لَهُ رجل: أتبيعها؟ قَالَ: إِنَّمَا يَبِيعهَا بَعْلهَا أَي: رَبهَا؛ فَعرف ابْن عَبَّاس أَن البعل هُوَ الرب، وَكَانَ الأزد من أفْصح الْيمن، وَسمي الزَّوْج بعلا من هَذَا، قَالَ الشَّاعِر: (وَرَأَيْت بعلك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا) وَقَوله: {وتذرون أحسن الْخَالِقِينَ} أَي: المقدرين، وَهُوَ الله تَعَالَى،

126

قَوْله تَعَالَى: {الله ربكُم} أَي: هُوَ ربكُم، وَقُرِئَ بِالنّصب: " الله ربكُم "، وَهُوَ منصرف إِلَى قَوْله: {وتذرون أحسن الْخَالِقِينَ الله ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين} .

127

قَوْله تَعَالَى: {فَكَذبُوهُ فَإِنَّهُم لمحضرون} أَي: لمحضرون النَّار، وَفِي الْقِصَّة: أَن ذَلِك

{وَرب آبائكم الْأَوَّلين (126) فَكَذبُوهُ فَإِنَّهُم لمحضرون (127) إِلَّا عباد الله المخلصين (128) وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين (129) سَلام على إل ياسين (130) إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّه من عبادنَا الْمُؤمنِينَ (132) وَإِن لوطا لمن الْمُرْسلين (133) إِذْ نجيناه وَأَهله أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عجوزا فِي الغابرين (135) ثمَّ دمرنا الآخرين (136) الْملك كَانَت لَهُ امْرَأَة قتالة للأنبياء، وَكَانَت قد تزوجت سَبْعَة من الْمُلُوك، قَالُوا: هِيَ الَّتِي قتلت يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام فقصدت قتل إلْيَاس؛ فَدَعَا الله تَعَالَى وَسَأَلَهُ أَن يرفعهُ إِلَيْهِ، وَيُؤَخر عَنهُ الْمَوْت؛ فَبعث الله إِلَيْهِ بفرس من نَار، وَقيل: لَونه كلون النَّار، وَأمره أَن يركبه؛ فَرَكبهُ فألبسه الله النُّور، وَذكر بَعضهم: أَن الله تَعَالَى أنبت لَهُ الريش، وَجعله أرضياً سمائيا ملكيا إنسيا، وروى أَنه مُوكل بالفيافي، وَالْخضر مُوكل بالبحار.

128

وَقَوله: {إِلَّا عباد الله المخلصين} وَقد بَينا،

129

وَقَوله: {وَتَركنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} قد بَينا.

130

وَقَوله تَعَالَى: {سَلام على إل ياسين} وَقَرَأَ نَافِع: " آل إلْيَاس ". وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " سَلام على إدراسين " وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة: {وَإِن إِدْرِيس لمن الْمُرْسلين} وَقد رُوِيَ أَن إلْيَاس هُوَ إِدْرِيس. وَأما قَوْله: {إلياسين} أَي: إلْيَاس وَأَتْبَاعه وذووه؛ فَسُمي الْجَمِيع باسم وَاحِد، مثل قَول الرجل: رَأَيْت المحمدين، أَي: مُحَمَّدًا وَأَتْبَاعه وَأَتْبَاعه. وَأما قَوْله: {سَلام على إل ياسين} وَقيل فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الرَّسُول وَآله، وَهَذَا قَول ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ لم يسْبق لَهُم ذكر. وَالثَّانِي: إِن معنى قَوْله: {إل ياسين} هُوَ قَوْله ((إلياسين)) كَأَنَّهُ قَالَ: آل إلْيَاس، فَعبر بياسين عَن إلْيَاس، وَبَاقِي الْآيَتَيْنِ قد بَينا.

133

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن لوطا لمن الْمُرْسلين} أَي: من جملَة الْمُرْسلين، وهم الْأَنْبِيَاء،

134

وَقَوله: {إِذْ نجيناه وَأَهله أَجْمَعِينَ إِلَّا عجوزا فِي الغابرين} أَي: البَاقِينَ فِي الْعَذَاب

{وَإِنَّكُمْ لتمرون عَلَيْهِم مصبحين (137) وبالليل أَفلا تعقلون (138) وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين (139) إِذْ أبق إِلَى الْفلك المشحون (140) فساهم فَكَانَ من المدحضين} والهلاك، وَمعنى الْآيَة: أَنَّهَا لم تنج وَبقيت فِي الْعَذَاب مَعَ قوم لوط.

136

وَقَوله: {ثمَّ دمرنا الآخرين} التدمير: هُوَ الإهلاك بِوَصْف التنكيل.

137

وَقَوله: {وَإِنَّكُمْ لتمرون عَلَيْهِم مصبحين وبالليل} أَي: تمرون عَلَيْهِم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار إِذا ذهبتم إِلَى أسفاركم وَرَجَعْتُمْ.

139

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين} أَي: من جملَة رسل الله.

140

وَقَوله: {إِذْ أبق إِلَى الْفلك المشحون} أَي: السَّفِينَة الموفرة المملوءة.

141

وَقَوله: {فساهم} أَي: قارع. وَقَوله: {فَكَانَ من المدحضين} أَي: من المقروعين، وَقيل: من المغلوبين، يُقَال: دحضت حجَّة فلَان إِذا بطلت، وأدحض الله حجَّته إِذا أبطلها، والدحض الزلق، قَالَ الشَّاعِر: (أَبَا مُنْذر رمت الْوَفَاء فهبته ... وحدت كَمَا حاد الْبَعِير عَن الدحض) وَفِي التَّفْسِير: أَن يُونُس صلوَات الله عَلَيْهِ وعد قومه الْعَذَاب، وَكَانَ الله تَعَالَى أخبرهُ أَنه يُرْسل عَلَيْهِم الْعَذَاب فِي يَوْم كَذَا؛ فَأخْبرهُم يُونُس صلوَات الله عَلَيْهِ بذلك فَلم يصدقوه؛ فَخرج من بَينهم، وَظن أَن الله تَعَالَى إِذا أرسل الْعَذَاب أهلكهم، وَلم يصرفهُ عَنْهُم، وَقد كَانَ الله تَعَالَى أخبرهُ بإرسال الْعَذَاب عَلَيْهِم، وَلم يُخبرهُ بإهلاكهم، ثمَّ إِن الله تَعَالَى أرسل الْعَذَاب، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك، وَلم يكن نزل بهم بعد، خَرجُوا إِلَى الصَّحرَاء، وأخرجوا مَعَهم النِّسَاء وَالصبيان والبهائم، وَفرقُوا بَين الْأُمَّهَات وَالْأَوْلَاد، فضجوا إِلَى الله ضجة وَاحِدَة، واستغاثوا وَبكوا ودعوا؛ فصرف الله عَنْهُم الْعَذَاب، فَلَمَّا بلغ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لم ينزل بهم الْعَذَاب، وَلم يهْلكُوا، خرج من الْموضع الَّذِي كَانَ التجأ إِلَيْهِ كالمنشور الخجل من قومه، وَظن أَنه وعدهم وَعدا من الله تَعَالَى، وَلم يحصل مصداق ذَلِك، فَتوجه إِلَى جَانب الْبَحْر.

( {141) فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم (142) فلولا أَنه كَانَ من المسبحين (143) للبث فِي} وَقَوله تَعَالَى: {أبق} أَي: ذهب وتباعد، وَيُقَال: شبه بآبق، فعتب الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وابتلاه بِبَطن الْحُوت وسجنه فِيهِ. وَفِي الْقِصَّة: أَنه لما وصل إِلَى الْبَحْر كَانَ مَعَه امْرَأَته وابنان لَهُ؛ فجَاء مركب وَأَرَادَ أَن يركب مَعَهم فِي السَّفِينَة، قدم امْرَأَته فِي الْمركب ليركب بعْدهَا؛ فَجَاءَت موجة وحالت بَينه وَبَين الْمركب، وَمر الْمركب، ثمَّ جَاءَت موجة أُخْرَى وَأخذت ابْنه الْأَكْبَر، وَجَاء ذِئْب وَأخذ ابْنه الْأَصْغَر وَبَقِي فريدا وحيدا، فَظهر مركب آخر فلوح لَهُم ليحملوه فجَاء الْمركب وَركب فِيهِ، وَقعد نَاحيَة من الْقَوْم، فَلَمَّا مرت السَّفِينَة فِي الْبَحْر ركدت وَلم تسر، واضطرب الْبَحْر، وخافوا الْغَرق، فَقَالَ صَاحب السَّفِينَة: إِن فِيكُم رجلا مشئوما وَفِي رِوَايَة: مذنبا وَقَالَ: لَا بُد أَن نلقيه فِي الْبَحْر حَتَّى يسكن الْبَحْر وننجو وَفِي رِوَايَة قَالَ: إِن فِيكُم عبدا آبقا؛ فَقَامَ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: أَنا العَبْد المذنب، وَأَنا الْآبِق، فَقَالُوا: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا يُونُس بن متي؛ فعرفوه، وَقَالُوا: لَا نلقيك يَا رَسُول الله، وَلَكِن نتساهم؛ فتساهموا ثَلَاث مَرَّات، وَخرجت الْقرعَة عَلَيْهِ، وروى أَنهم قَالُوا: نكتب اسْم كل وَاحِد منا على خَشَبَة؛ فَمن غرق اسْمه فَهُوَ الْمَطْلُوب؛ فغرق اسْم يُونُس من بَينهم، وَأوحى الله إِلَى حوت عَظِيم حَتَّى قصد السَّفِينَة، قَالُوا: فَلَمَّا رَآهُ أهل السَّفِينَة وَقد فغر فَاه، وَهُوَ مثل الْجَبَل عَظِيما؛ خَافُوا الْهَلَاك، وَجعل الْحُوت ينظر إِلَى من فِي السَّفِينَة، كَأَنَّهُ يطْلب شَيْئا، ثمَّ إِن يُونُس لما رأى ذَلِك زج نَفسه فِي المَاء، وروى أَن الْقَوْم ألقوه بِرِضَاهُ فالتقمه الْحُوت وَمر بِهِ، وَسكن الْبَحْر وسارت السَّفِينَة. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى الْحُوت: إِنِّي لم أجعله لَك رزقا، فإياك أَن تكسر لَهُ عظما أَو تخدش لَهُ لَحْمًا، وَإِنَّمَا جعلت بَطْنك لَهُ حرْزا ومسجدا.

142

قَوْله تَعَالَى: {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} قد بَينا الالتقام. وَقَوله: {وَهُوَ مليم} أَي: أَتَى بِمَا يلام عَلَيْهِ.

{بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون (144) فنبذناه بالعراء وَهُوَ سقيم (145) وأنبتنا عَلَيْهِ شَجَرَة من}

143

قَوْله تَعَالَى: {فلولا أَنه كَانَ من المسبحين} أَي: من الْمُصَلِّين لله تَعَالَى والذاكرين إِيَّاه قبل أَن يلتقمه الْحُوت

144

{للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون} أَي: جعلنَا بطن الْحُوت لَهُ قبرا فيحشر مِنْهُ، وَقيل: فلولا أَنه كَانَ من المسبحين فِي بطن الْحُوت، وتسبيحه مَا ذكرنَا من قبل: {إِنِّي كنت من الظَّالِمين} . قَالَ الضَّحَّاك: شكر الله تَعَالَى لَهُ طَاعَته الْقَدِيم، وَعَن بَعضهم قَالَ: الْعَمَل الصَّالح يرفع صَاحبه إِذا عثر، وَيَأْخُذ بِيَدِهِ إِذا صرع. وَفِي بعض الْآثَار: أَن يُونُس صلوَات الله عَلَيْهِ لما دَعَا الله تَعَالَى فِي بطن الْحُوت، قَالَت الْمَلَائِكَة: صَوت مَعْرُوف من بِلَاد غَرِيبَة؛ فَقَالَت الْمَلَائِكَة: يَا رَبنَا من هُوَ؟ قَالَ: عَبدِي يُونُس عَصَانِي؛ فسجنته فِي بطن الْحُوت. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن يُونُس صلوَات الله عَلَيْهِ دَعَا ربه فِي بطن الْحُوت، وَقَالَ: إلهي من الْبيُوت أخرجتني، وَفِي الْبحار سترتني، وَفِي بطن الْحُوت حبستني، فَإِن كنت عملت لَك عملا صَالحا فَفرج عني. وَذكر أَيْضا: أَنه لَقِي قَارون فِي لجج الْبحار؛ فَسمع قَارون صَوت يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام فَكَانَ فِي عَذَاب شَدِيد؛ فَطلب أَن يمسك عَنهُ الْعَذَاب، حَتَّى يسْأَل يُونُس؛ فَأمر الله تَعَالَى بإمساك الْعَذَاب عَنهُ، فَسَأَلَ قَارون يُونُس عَن ابْن عَمه مُوسَى؛ فَقَالَ: قد توفّي، وَسَأَلَ عَن هَارُون؛ فَقَالَ: قد توفّي قبله؛ فَقَالَ: واحزناه فَأمر الله تَعَالَى أَن يرد عَنهُ الْعَذَاب إِلَى يَوْم القيانة لما سَأَلَ عَن ابْن عَمه. وَذكر أَيْضا: أَن الْحُوت قر بِهِ فِي لجج الْبحار مسيرَة سِتَّة آلَاف سنة، وَذكر أَنه بلغ بِهِ نُجُوم الْأَرْضين السَّابِعَة؛ فَسمع من تَسْبِيح الْحَصَى وَمَا فِي قَعْر الْبَحْر شَيْئا عَظِيما، وَذكر أَن الْبَحْر تكلم مَعَه، وَقَالَ: إِلَى أَيْن كنت تُرِيدُ أَن تهرب من مولَايَ أَيهَا العَبْد الخاطئ؟ {إِلَى الأَرْض، أم إِلَى السَّمَاء، أم إِلَى الْبحار، أم إِلَى الْجبَال} وَإِنَّا نُسَبِّح الله تَعَالَى مُنْذُ خلقنَا ونعبده، ونخاف أَن يعذبنا، وَالله أعلم.

{يَقْطِين (146) وأرسلناه إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ (147) فآمنوا فمتعناهم إِلَى حِين (148)

145

قَوْله تَعَالَى: {فنبذناه بالعراء وَهُوَ سقيم} اخْتلف القَوْل فِي مِقْدَار مكث يُونُس فِي بطن الْحُوت، فَذكر ابْن جريج (وَالسُّديّ) : أَنه مكث أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَذكر مقَاتل: أَنه مكث ثَلَاثَة أَيَّام، وَذكر الضَّحَّاك: أَنه مكث عشْرين يَوْمًا وَذكر عَطاء: أَنه مكث سَبْعَة أَيَّام، وَذكر الشّعبِيّ أَنه مكث دون يَوْم، والتقمه الْحُوت ثمَّ لَفظه بعد سَاعَات يسيرَة. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: أَلْقَاهُ الْحُوت، وَهُوَ مثل الفرخ، وَفِي التَّفْسِير: أَنه أَلْقَاهُ الْحُوت وَقد بلي لَحْمه، ورق عظمه، وَلم يبْق لَهُ قُوَّة. وَقَوله: {بالعراء} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن العراء وَجه الأَرْض، وَالْآخر: أَنه الْموضع الْخَالِي، ذكره أَبُو عُبَيْدَة، قَالَ الشَّاعِر: (وَرفعت رجْلي لَا أَخَاف عثارها ... ونبذت بِالْبَلَدِ العراء ثِيَابِي) قَوْله: {وَهُوَ سقيم} أَي: ضَعِيف، وَقيل: بِمَنْزِلَة السقيم،

146

قَوْله تَعَالَى: {وأنبتنا عَلَيْهِ شَجَرَة من يَقْطِين} هَا هُنَا هُوَ [الدُّبَّاء] فِي قَول جَمِيع الْمُفَسّرين، وَقَالَ ثَعْلَب: كل شَجَرَة لَيْسَ لَهَا سَاق، وَهِي تنبسط على وَجه الأَرْض فَهُوَ يَقْطِين، والقطينة مَعْرُوف، وَجمعه القطاني. وَذكر النقاش: أَن ذَلِك [الدُّبَّاء] كَانَ من بذر الْجنَّة، وَكَانَ عَلَيْهِ ألف ورقة.

147

وَفِي الْقِصَّة: أَن يُونُس استظل بِتِلْكَ الشَّجَرَة، وَجعل يَأْكُل مِنْهَا، وَيشْرب من مَائِهَا حَتَّى قوي، ثمَّ إِن الله تَعَالَى أيبس الشَّجَرَة، وَقد نَام نومَة فَاسْتَيْقَظَ، وَقد يَبِسَتْ الشَّجَرَة؛ فَحزن حزنا شَدِيدا، وأصابه أوار الشَّمْس، وَجعل يبكي؛ فَبعث الله إِلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ: أتحزن على شَجَرَة، وَلَا تحزن على مائَة ألف من أمتك، وَقد أَسْلمُوا وتابوا إِلَيّ، ثمَّ إِن الله تَعَالَى أمره أَن يرجع إِلَى قومه، فَهُوَ معنى قَوْله: {وأرسلناه إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} .

{فاستفهم ألربك الْبَنَات وَلَهُم البنون (149) أم خلقنَا الْمَلَائِكَة إِنَاثًا وهم شاهدون} قَالَ سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس: كَانَت نبوته بعد أَن أخرجه الله تَعَالَى من بطن الْحُوت، وَالأَصَح أَنه كَانَ نَبيا من قبل، وَقد دلّ على هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين إِذْ أبق} . وَقَوله: {إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} قَالَ الْفراء: بل يزِيدُونَ، وَقيل: يزِيدُونَ، وَقَالَ الْمبرد: كلمة " أَو " هَا هُنَا على بَابهَا، وَمَعْنَاهُ: أَو يزِيدُونَ على تقديركم وظنكم، وَهُوَ كَالرّجلِ يرى فوما؛ فَيَقُول: هَؤُلَاءِ ألف ثمَّ يَقُول: ألف أَو يزِيدُونَ؛ فَيكون الشَّك رَاجع إِلَى من رَآهُمْ لَا إِلَى الله تَعَالَى، وَأما قدر الزِّيَادَة فأشهر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا عشرُون ألفا، وَذكره أَبُو عِيسَى فِي جَامعه مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: خَمْسَة وَثَلَاثُونَ ألفا، وَالْقَوْل الثَّالِث: سَبْعُونَ ألفا. وَأما الْبَلَد الَّذِي أرسل إِلَيْهِ فَهُوَ " نينوي) من بِلَاد الْموصل.

148

قَوْله: {فآمنوا فمتعناهم إِلَى حِين} أَي: إِلَى مُنْتَهى آجالهم. فَإِن قيل: قَالَ هَا هُنَا: {فنبذناه بالعراء وَهُوَ سقيم} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء} وَهُوَ يدل على أَنه لم ينْبذ، فَكيف وَجه التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الله تَعَالَى قَالَ فِي تِلْكَ الْآيَة: {لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم} أَي: لَوْلَا رَحْمَتنَا ونعمتنا لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم، وَلَكِن تداركته النِّعْمَة؛ فنبذ وَهُوَ غير مَذْمُوم، وَأنْشد " أَو " بِمَعْنى بل. (بَدَت مثل عين الشَّمْس فِي رونق ... الضُّحَى وَصورتهَا أَو أَنْت فِي الْعين أَمْلَح) أَي: بل أَنْت.

149

قَوْله تَعَالَى: {فاستفتهم} مَعْنَاهُ: سلهم، وَهُوَ سُؤال توبيخ وَتَقْرِير، وَقَوله:

( {150) أَلا أَنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (152) أصطفى الْبَنَات على الْبَنِينَ (153) مَا لكم كَيفَ تحكمون (154) أَفلا تذكرُونَ (155) أم لكم سُلْطَان مُبين (156) فَأتوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنْتُم صَادِقين (157) وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} {ألربك الْبَنَات وَلَهُم البنون} مَعْنَاهُ: جعلُوا لِرَبِّك الْبَنَات، ولأنفسهم الْبَنِينَ، أَي: اخْتَارُوا كَذَلِك.

150

وَقَوله: {أم خلقنَا الْمَلَائِكَة إِنَاثًا} مَعْنَاهُ: أخلقنا الْمَلَائِكَة إِنَاثًا {وهم شاهدون} خلقنَا إِنَاثًا، وَقد كَانُوا يَزْعمُونَ أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله. قَالَ أهل التَّفْسِير: وَلم يكن يزْعم هَذَا جَمِيع قُرَيْش، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا بعض قُرَيْش، وَقوم من بني كنَانَة، وهم بَنو مُدْلِج.

151

قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُم من إفكهم} أَي: من كذبهمْ، وَقَوله: {ليقولون ولد الله وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} وَهُوَ على مَا قَالَ الله تَعَالَى.

153

قَوْله تَعَالَى: {أصطفى الْبَنَات على الْبَنِينَ} مَعْنَاهُ: أصطفى الْبَنَات على الْبَنِينَ، وَهُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى الزّجر والتوبيخ، وَقُرِئَ: " إصطفى " بِكَسْر الْألف (على) الْخَبَر، وَمَعْنَاهُ: إصطفى الْبَنَات على الْبَنِينَ فِي زعمكم وقولكم.

154

وَقَوله: {مَا لكم كَيفَ تحكمون} أَي: كَيفَ تَقولُونَ أَن الله تَعَالَى اخْتَار الْبَنَات على الْبَنِينَ، وَأَنْتُم لَا تختارون إِلَّا الْبَنِينَ.

155

وَقَوله: {أَفلا تذكرُونَ} أَي: أَفلا تتعظون،

156

قَوْله تَعَالَى: {أم لكم سُلْطَان مُبين} أَي: حجَّة بَيِّنَة،

157

وَقَوله: {فَأتوا بِكِتَابِكُمْ} أَي: بِكِتَاب من عنْدكُمْ يدل على مَا قلتموه {إِن كُنْتُم صَادِقين} .

158

وَقَوله تَعَالَى: {وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} الْجنَّة: هَا هُنَا هم الْمَلَائِكَة فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين، وَعَن بَعضهم: أَنهم الْجِنّ، وَقد كَانَ زعم بعض قُرَيْش أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله على مَا ذكرنَا؛ فَقَالَ أَبُو بكر الصّديق لَهُم: فَمن أمهاتهم؟ فَقَالُوا: سروات الْجِنّ؛ فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} .

{وَلَقَد علمت الْجنَّة إِنَّهُم لمحضرون (158) سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ (159) إِلَّا عباد الله المخلصين (160) فَإِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ (161) مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين (162) إِلَّا من هُوَ صال الْجَحِيم (163) وَمَا منا إِلَّا لَهُ مقَام مَعْلُوم (164) وَإِنَّا لنَحْنُ الصافون (165) وَإِنَّا لنَحْنُ} وَقَوله: {وَلَقَد علمت الْجنَّة إِنَّهُم لمحضرون} أَي: محضرون الْحساب، وَقيل: محضرون الْعَذَاب،

159

قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ} نزه نَفسه عَمَّا وصفوه بِهِ من هَذَا القَوْل الشنيع. وَقَوله: {إِلَّا عباد الله المخلصين} قد ذكرنَا من قبل، فَإِن قيل: أَي: اتِّصَال

160

لقَوْله: {إِلَّا عباد الله المخلصين} بقوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ} وَكَيف يَصح الِاسْتِثْنَاء فِي هَذَا الْبَاب، وَكلمَة إِلَّا للاستثناء؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا، فَكَأَن الله تَعَالَى قَالَ: وَلَقَد علمت الْجنَّة إِنَّهُم لمحضرون الْعَذَاب إِلَّا عباد الله المخلصين فَإِنَّهُم لَا يحْضرُون، ثمَّ قَالَ سُبْحَانَ الله عَمَّا يصفونَ؛ فَهَذَا هُوَ التَّقْدِير فِي الْآيَة.

161

قَوْله: {فَإِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ} أَي: من الْأَصْنَام،

162

وَقَوله: {مَا أَنْتُم عَلَيْهِ بفاتنين} أَي: مَا أَنْتُم على الله بمضلين إِلَّا من أضلّهُ الله، قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا يضلون إِلَّا من كتب الله لَهُ الضلال، وروى هَذَا القَوْل عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالضَّحَّاك وَغَيرهم. قَالَ الشَّاعِر: (فَرد بنعمته كَيده ... عَلَيْهِ وَكَانَ لنا فاتنا) أَي: مضلا.

163

وَقَالَ بَعضهم: لَا يضلون إِلَّا من كتب الله أَنه يدْخل الْجَحِيم، وَقيل: إِلَّا من أشقاه الله؛ فَهَذَا معنى قَوْله: {إِلَّا من هُوَ صال الْجَحِيم}

164

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا منا إِلَّا لَهُ مقَام مَعْلُوم} هَذَا خبر عَن الْمَلَائِكَة، وَمَعْنَاهُ: وَمَا منا

{المسبحون (166) وَإِن كَانُوا ليقولون (167) لَو أَن عندنَا ذكرا من الْأَوَّلين (168) لَكنا عباد الله المخلصين (169) فَكَفرُوا بِهِ فَسَوف يعلمُونَ (170) وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين (171) إِنَّهُم لَهُم المنصورون (172) وَإِن جندنا لَهُم الغالبون (173) } ملك إِلَّا وَله مقَام مَعْلُوم، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَيْسَ مَوضِع قدم فِي السَّمَاء إِلَّا وَفِيه ملك قَائِم أَو رَاكِع أَو ساجد ". وَيُقَال: إِن مقَام جِبْرِيل عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى وَلَا مُجَاوزَة لَهُ إِلَى مأواها.

165

قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا لنَحْنُ الصافون} أَي: المصطفون فِي السَّمَاء لِلْعِبَادَةِ

166

{وَإِنَّا لنَحْنُ المسبحون} أَي: الممجدون لله، والمنزهون إِيَّاه عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ.

167

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كَانُوا ليقولون} مَعْنَاهُ: وَقد كَانُوا يَقُولُونَ؛ أَي: قُرَيْش.

168

وَقَوله: {لَو أَن عندنَا ذكرا من الْأَوَّلين} أَي: كتابا ككتاب الْأَوَّلين. أَي: كتابا ككتاب الْأَوَّلين.

169

وَقَوله: {لَكنا عباد الله المخلصين} ظَاهر الْمَعْنى.

170

قَوْله تَعَالَى: {فَكَفرُوا بِهِ} فِيهِ حذف، والمحذوف: أَنه قد جَاءَهُم الْكتاب وَالذكر فَكَفرُوا بِهِ، وَقَوله: {فَسَوف يعلمُونَ} تهديد من الله لَهُم.

171

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد سبقت كلمتنا} أَي: حكمنَا، وَقَوله: {لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون} أَي: النُّصْرَة تكون لَهُم، وَقد قَالَ [الله] فِي مَوضِع آخر: {كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي} .

173

وَقَوله: {وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} أَي: الْغَلَبَة تكون للْمُؤْمِنين، وَهَذَا لقوم دون

{فتول عَنْهُم حَتَّى حِين (174) وأبصرهم فَسَوف يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فَإِذا نزل بِسَاحَتِهِمْ فسَاء صباح الْمُنْذرين (177) وتول عَنْهُم حَتَّى حِين (178) } قوم، وَفِي وَقت دون وَقت؛ لِأَن الْمُسلمين قد يغلبُونَ وينصر عَلَيْهِم غَيرهم، وَقيل: الْعَاقِبَة تكون لَهُم.

174

وَقَوله تَعَالَى: {فتول عَنْهُم حَتَّى حِين} أَي: أعرض عَنْهُم حَتَّى حِين أَي: حِين الْمَوْت، وَقيل: إِلَى أَن يَأْتِيهم عَذَاب الله.

175

وَقَوله: {وأبصرهم فَسَوف يبصرون} قَالَ قَتَادَة: أبصروا حِين لم يَنْفَعهُمْ الْبَصَر،

176

قَوْله تَعَالَى: {أفبعذابنا يستعجلون} قد بَينا أَنهم قَالُوا: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} على مَا قَالَ الله، وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوضِع آخر: {يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا} أَي: يستعجل بالقيامة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا.

177

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا نزل بِسَاحَتِهِمْ} أَي: نزل بِسَاحَتِهِمْ، وَمَعْنَاهُ: أَصَابَهُم الْعَذَاب، وَقَوله: {فسَاء صباح الْمُنْذرين} أَي: فبئس صباح الَّذين أنذروا بِالْعَذَابِ، وَقد ثَبت أَن النَّبِي لما غزا خَيْبَر، وَوصل إِلَيْهَا رأى الْيَهُود وَقد خَرجُوا بمكاتلهم ومساحيهم من حصونهم؛ فَلَمَّا رآوا الْجَيْش، قَالُوا: مُحَمَّد وَالْخَمِيس؛ فَقَالَ النَّبِي: " الله أكبر خربَتْ خَيْبَر، إِنَّا إِذا نزلنَا بِسَاحَة قوم فسَاء صباح الْمُنْذرين ".

178

قَوْله تَعَالَى: {وتول عَنْهُم حَتَّى حِين} هُوَ بِمَعْنى الأول، وَذكره على التَّأْكِيد،

179

وَقَوله: {وَأبْصر فَسَوف يبصرون} أَي: انْتظر حالتهم وَمَا يؤول إِلَيْهِ أَمرهم؛ فينتظرون لحالهم وَمَا ينزل بهم.

{وَأبْصر فَسَوف يبصرون (179) سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ (180) وَسَلام على الْمُرْسلين (181) وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (182) }

180

قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ} أَي: ذُو الْعِزَّة،

181

وَقَوله: {وَسَلام على الْمُرْسلين} أَي: الْأَنْبِيَاء الَّذين أرْسلُوا إِلَى الْخلق.

182

وَقَوله: {وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين} على مَا ذكرنَا، وروى الْأَصْبَغ بن نباتة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يكتال الْأجر يَوْم الْقِيَامَة بالمكيال الأوفى، فَلْيَكُن آخر كَلَامه فِي مَجْلِسه: {سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ} إِلَى آخر السُّورَة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ ((أَن النَّبِي كَانَ إِذا صلى أَو انْصَرف من مَجْلِسه قَالَ {سُبْحَانَ رَبك رب الْعِزَّة عَمَّا يصفونَ} إِلَى ى خر السُّورَة)) (1) .

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {ص وَالْقُرْآن ذِي الذّكر (1) بل الَّذين كفرُوا فِي عزة وشقاق (2) كم أهلكنا من} تَفْسِير سُورَة ص وَهِي مَكِّيَّة

ص

قَوْله تَعَالَى: {ص} قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ: {ص} بالتسكين، وَقَرَأَ الْحسن: {ص} بخفض الدَّال، وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر النَّحْوِيّ: {ص} بِفَتْح الدَّال، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة بالتسكين. وَعلة التسكين أَنه حرف من حُرُوف التهجي، وَعند الْعَرَب أَن هَذَا يكون سَاكِنا، وَأما قِرَاءَة الْحسن فَمَعْنَاه: صَاد الْقُرْآن بعملك أَي: عَارضه بعملك، واما قِرَاءَة الْفَتْح فَمَعْنَاه: إِنَّك صَاد. وَأما معنى " ص ": روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: صدق مُحَمَّد، وَعَن الضَّحَّاك: صدق الله، وَقَالَ مُجَاهِد: هَذَا من فواتح السُّور، وَقَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَهُوَ قسم، وَذكر الْكَلْبِيّ أَن مَعْنَاهُ: والصادق الْمَعْنى على الْقسم. وَقَوله: {وَالْقُرْآن ذِي الذّكر} أَي: ذِي الشّرف، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {لقد أنزلنَا إِلَيْكُم كتابا فِيهِ ذكركُمْ} أَي: شرفكم.

2

وَقَوله: {بل الَّذين كفرُوا فِي عزة وشقاق} وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فِي غرَّة وشقاق " بالغين الْمُعْجَمَة، وَالْمَعْرُوف بِالْعينِ وَالزَّاي. وَقَوله: {فِي عزة} أَي: فِي حمية، قَالَ قَتَادَة: معنى قَوْله: {عزة} أَي: نفروا عَن قبُول الْحق، وتكبروا عَن الانقياد، وَأما الْقِرَاءَة بالغين فَهُوَ من الْغرُور والغفلة، وَقَوله: {وشقاق} أَي: عَدَاوَة وَاخْتِلَاف.

3

قَوْله تَعَالَى: {كم أهلكنا} اعْلَم أَنه اخْتلف قَول أهل التَّفْسِير فِي جَوَاب الْقسم؛ فَقَالَ بَعضهم: جَوَاب الْقسم هُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن ذَلِك لحق تخاصم أهل

{قبلهم من قرن فَنَادوا ولات حِين مناص (3) وعجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحر كَذَّاب (4) أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب} النَّار) وَهَذَا قَول ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ قد تخَلّل بَين الْقسم وَبَين هَذَا الْجَواب أقاصيص وأخبار كَثِيرَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن جَوَاب الْقسم قَوْله: {كم أهلكنا} وَفِيه حذف، وَمَعْنَاهُ: لكم أهلكنا. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن جَوَاب الْقسم مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: صَاد وَالْقُرْآن ذِي الذّكر، لَيْسَ الْأَمر على مَا زَعَمُوا يَعْنِي: الْكفَّار. وَقَوله: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} كم للتكثير، والقرن قد بَينا من قبل. وَقَوله: {فَنَادوا} أَي: اسْتَغَاثُوا عِنْد الْهَلَاك، وَقَوله: {ولات حِين مناص} أَي: لَيْسَ حِين (فرار) ، وَقيل: لَيْسَ حِين (مغاب) ، وَيُقَال: نادوا وَلَيْسَ حِين نِدَاء. " ولات " بِمَعْنى لَيْسَ لُغَة يَمَانِية، وَقيل: ضمت " التَّاء " إِلَى " لَا " للتَّأْكِيد، كَمَا يُقَال: ربت وثمت بِمَعْنى رب وَثمّ، وَقَالَ أهل اللُّغَة: ناص ينوص إِذا تَأَخّر، وباص يبوص إِذا تقدم، قَالَ الشَّاعِر: (أَمن ذكر سلمى إِن نتك تنوص ... فتقصر عَنْهَا خطْوَة حِين وتبوص) وَقَالَ آخر فِي ((لات)) بِمَعْنى لَيْسَ: (طلبُوا صلحنا ولات أَوَان ... فأجبنا أَن لَيْسَ حِين بَقَاء) وَذكر بَعضهم: أَنه كَانَ من عَادَة الْعَرَب إِذا اشتدت الْحَرْب، يَقُول بَعضهم لبَعض: مناص مناص، أَي: احملوا حَملَة وَاحِدَة ينجو فِيهَا من نجا، وَيهْلك [فِيهَا] من

( {5) وَانْطَلق الْمَلأ مِنْهُم أَن امشوا واصبروا على آلِهَتكُم إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد (6) مَا} هلك فَقَالُوا ذَلِك حِين أَصَابَهُم الْعَذَاب من الله تَعَالَى، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: " ولات حِين مناص " أَي: وَلَيْسَ (حِين هَذَا) القَوْل، وَأنْشد بَعضهم شعرًا: (تذكر حب ليلى لات حينا ... ويضحي الشيب قد قطع القرينا)

4

قَوْله تَعَالَى: {وعجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم} أَي: مُحَمَّد، وَقَوله: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحر كَذَّاب} أَي: خَادع كَذَّاب.

5

قَوْله تَعَالَى: {أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب} أَي: عجب، وَعَجِيب وعجاب بِمَعْنى وَاحِد، وَقَرَأَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ: " إِن هَذَا لشَيْء عُجاب " بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَانْطَلق الْمَلأ مِنْهُم} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة هُوَ " أَنه جَاءَ وُجُوه قُرَيْش إِلَى أبي طَالب، وهم أَبُو جهل، والوليد بن الْمُغيرَة، وَعتبَة وَشَيْبَة وَطعيمَة بن عدي، وَعقبَة بن أبي معيط، وَأبي وَأُميَّة ابْنا خلف، وَزَمعَة بن الْأسود، وَغَيرهم، وَشَكوا إِلَيْهِ مُحَمَّدًا، وَقَالُوا: إِنَّه يسب آلِهَتنَا ويسفه أَحْلَامنَا، وَيذكر أَن آبَاءَنَا فِي النَّار؛ فَدَعَا أَبُو طَالب النَّبِي وَقَالَ: يَا بن أَخ، هَؤُلَاءِ قَوْمك جَاءُوا يشكونك، ويذكرون كَذَا وَكَذَا، فَمَاذَا تطلب مِنْهُم؟ قَالَ: أطلب مِنْهُم كلمة وَاحِدَة إِن قالوها دَانَتْ لَهُم الْعَرَب، وَأَدت إِلَيْهِم الْعَجم الْجِزْيَة، فَقَالَ الْقَوْم: نَحن نقُول عشر كَلِمَات، فَمَاذَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله، فنفروا وَقَامُوا، وَقَالُوا: لَا نقولها أبدا، وَجعل بَعضهم يَقُول لبَعض: امشوا واصبروا على آلِهَتكُم أَي: الزموها، وَأقِيمُوا على عبادتها ". وَقَوله: {إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد} أَي: أَمر مُحَمَّد شَيْء، يُرَاد بِالنَّاسِ فِيهِ الشَّرّ

{سمعنَا بِهَذَا فِي الْملَّة الْآخِرَة إِن هَذَا إِلَّا اخْتِلَاق (7) أؤنزل عَلَيْهِ الذّكر من بَيْننَا بل هم فِي شكّ من ذكري بل لما يَذُوقُوا عَذَاب (8) أم عِنْدهم خَزَائِن رَحْمَة رَبك} والهلاك، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ " وَانْطَلق الْمَلأ يَمْشُونَ أَن اصْبِرُوا على آلِهَتكُم "، وَيُقَال: إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد أَي: لشَيْء يُرَاد بِأَهْل الأَرْض فِي إرْسَال مُحَمَّد وَيُقَال: يُرَاد أَي: يُرَاد بِمُحَمد وَيملك علينا ويرأس. وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ أَنَّهَا نزلت فِي إِسْلَام عمر رَضِي الله عَنهُ وَمَا حصل للْمُسلمين من الْقُوَّة بمكانه، فَقَالَ الْكفَّار لما أسلم عمر: إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد أَي: إِن أَمر مُحَمَّد لشَيْء يُرَاد، حَيْثُ قوي بِإِسْلَام عمر.

7

قَوْله تَعَالَى: {مَا سمعنَا بِهَذَا فِي الْملَّة الْآخِرَة} أَي: النَّصْرَانِيَّة، هَكَذَا قَالَه ابْن عَبَّاس وَابْن جريج وَالسُّديّ، وَهِي آخر الْملَل، وَلم يَكُونُوا مُوَحِّدين، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة، وَقَالَ مُجَاهِد: مَا سمعنَا هَذَا فِي الْملَّة الْآخِرَة أَي: فِي مِلَّة قُرَيْش، وَقيل: فِي ملتنا هَذِه، وَعَن مؤرج بن عَمْرو قَالَ: فِي الْملَّة الْآخِرَة أَي: فِي الْملَّة الأولى، وَهُوَ لُغَة لبَعض الْعَرَب. وَقَوله: {إِن هَذَا إِلَّا اخْتِلَاق} أَي: افتعال وَكذب.

8

قَوْله تَعَالَى: {أأنزل عَلَيْهِ الذّكر من بَيْننَا} مَعْنَاهُ: أَن أهل مَكَّة قَالُوا: أأنزل على مُحَمَّد الْقُرْآن من بَيْننَا، وَلَيْسَ بأفضلنا وَلَا أَشْرَفنَا؟ . وَقَوله: {بل هم فِي شكّ من ذكري} أَي: مِمَّا أنزلت. وَقَوله: {بل لما يَذُوقُوا عَذَاب} أَي: لم يَذُوقُوا عَذَابي وسيذقونه.

9

قَوْله تَعَالَى: {أم عِنْدهم خَزَائِن رَحْمَة رَبك} مَعْنَاهُ: أعندهم خَزَائِن رَحْمَة رَبك؟ والخزائن: هِيَ البوت الَّتِي تعد فِيهَا الْأَشْيَاء النفيسة. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه لَيْسَ عِنْدهم خَزَائِن الرَّحْمَة والنبوة، فيعطونها من شَاءُوا، ويمنعونها من شَاءُوا.

(الْعَزِيز الْوَهَّاب (9) أم لَهُم ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فليرتقوا فِي الْأَسْبَاب (10) جند مَا هُنَالك مهزوم من الْأَحْزَاب (11) كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَفرْعَوْن) وَقَوله: {الْعَزِيز الْوَهَّاب} الْعَزِيز: هُوَ المنيع فِي ملكه، الْغَالِب على خلقه، الْوَهَّاب: الْمُعْطِي لخلقه،

10

وَقَوله تَعَالَى: {أم لَهُم ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} أَي: لَيْسَ لَهُم ذَلِك. وَقَوله: {فليرتقوا فِي الْأَسْبَاب} أَي: فليعلوا فِي أَسبَاب الْقُوَّة والمنعة إِن كَانَ لَهُم ذَلِك على مَا زَعَمُوا، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَقيل: فليقعدوا إِلَى أَبْوَاب السَّمَاء. والأسباب هِيَ الموصلاة فِي الغة، وَالْحَبل يُسمى سَببا؛ لأته يُوصل بِهِ إِلَى الشَّيْء، فالارتقاء فِي الْأَسْبَاب هُوَ التَّوَصُّل من شَيْء إِلَى شَيْء حَتَّى يبلغ أَعْلَاهُ، وَالْمرَاد من الْآيَة إِثْبَات عجزهم، وَإِبْطَال زعمهم فِيمَا ادعوهُ من المنعة وَالْقُوَّة.

11

قَوْله تَعَالَى: {جند مَا هُنَالك مهزوم من الْأَحْزَاب} أَي: جند هُنَالك، " وَمَا " صلَة، وَالْمعْنَى أَنهم مهزومون مقموعون، وَاخْتلف القَوْل فِي الْمَعْنى لَهُم، فأحد الْقَوْلَيْنِ: هم الْأَصْنَام، وَالْقَوْل الآخر: أَن الْمَعْنى هم مشركو قُرَيْش، وهم الَّذين قتلوا وأسروا ببدر، وَقيل: إِن هُنَالك إِشَارَة إِلَى مصَارِعهمْ من بدر. وَقَوله: {من الْأَحْزَاب} أَي: من الَّذين تحزبزا وتجمعوا على الْأَنْبِيَاء بالتكذيب،

12

قَوْله تَعَالَى: {كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد} قد بَينا. وَقَوله: {وَفرْعَوْن ذُو الْأَوْتَاد} فِي الْأَوْتَاد أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْبُنيان، قَالَ الشَّاعِر: (وَلَقَد غنوا فِيهَا بأنعم عيشة ... فِي ظلّ ملك ثَابت الْأَوْتَاد) أَي: الْأَبْنِيَة، وَقيل: الْأَوْتَاد جمع الوتد، وَكَانَ إِذا أَرَادَ قتل إِنْسَان وتد فِي يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ أَرْبَعَة أوتاد وَهُوَ مستلقي، وَوَجهه إِلَى السَّمَاء. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْأَوْتَاد هِيَ الملاعب بالأرسان المشدودة بالأوتاد، وَقد كَانَ

{ذُو الْأَوْتَاد (12) وَثَمُود وَقوم لوط وَأَصْحَاب الأيكة أؤلئك الْأَحْزَاب (13) إِن كل إِلَّا كذب الرُّسُل فَحق عِقَاب (14) وَمَا ينظر هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة مَا لَهَا من فوَاق (15) وَقَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا قبل يَوْم الْحساب (16) اصبر على مَا يَقُولُونَ وَاذْكُر} لفرعون ذَلِك.

13

وَقَوله: {وَثَمُود وَقوم لوط} قد بَينا، وَحكى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَنه مَا من نَبِي إِلَّا وَيكون لَهُ أمة يَوْم الْقِيَامَة سوى لوط عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ يَأْتِي وَحده، وَذكر بَعضهم: أَن قوم لوط كَانُوا أَرْبَعمِائَة ألف بَيت، فِي كل بَيت عشرَة نفر، وَلم يسلم أحد مِنْهَا. وَقَوله: {وَأَصْحَاب الأيكة} أَي: الغيضة، وَقَوله: {أُولَئِكَ الْأَحْزَاب} يَعْنِي: الَّذين تحزبوا على الْأَنْبِيَاء.

14

قَوْله تَعَالَى: {إِن كل إِلَّا كذب الرُّسُل} أَي: مَا مِنْهُم قوم إِلَّا وَقد كذب الرُّسُل، وَقَوله: {فَحق عِقَاب} أَي: فَوَجَبَ عَذَابي عَلَيْهِم.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينظر هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة} والصيحة هَا هُنَا هِيَ نفخة فِي الصُّور، وَقَوله: {مَا لَهَا من فوَاق} قرئَ بِالنّصب وَالرَّفْع، وَقَالَ بَعضهم: هما بِمَعْنى وَاحِد. وَقَالَ بَعضهم: هما مُخْتَلِفَانِ؛ فَقَوله بِالنّصب: من الْإِفَاقَة، وَقيل: مثنوية، وَيُقَال: رُجُوع وَتَأْخِير، وَقَوله بِالرَّفْع أَي: من انْتِظَار، والفواق فِي اللُّغَة مَا بَين الحلبتين، وَالْمعْنَى أَن الْعَذَاب لَا يمهلهم، وَلَا يلبثهم بذلك الْقدر.

16

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا} قَالَ سعيد بن جُبَير: أَي: نصيبنا (من) الْجنَّة، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: قطنا أَي: نصيبنا من الْعَذَاب، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك تَكْذِيبًا واستهزاء، والقط هُوَ الْكتاب الَّذِي يكْتب فِيهِ الْجَائِزَة، والقطوط كتب الجوائز. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه

{عَبدنَا دَاوُود ذَا الأيد إِنَّه أواب (17) إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق بِيَمِينِهِ) {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ} فَسمع الْمُشْركُونَ ذَلِك؛ فَقَالُوا: رَبنَا عجل لنا قطنا أَي: صحيفتنا. وَقَوله: {قبل يَوْم الْحساب} ظَاهر، وَإِنَّمَا قَالُوا تَكْذِيبًا واستهزاء.

17

قَوْله تَعَالَى: {واصبر على مَا يَقُولُونَ} أَي: على مَا يَقُول الْكفَّار. وَقَوله: {وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد} هُوَ دَاوُد بن إيشا، وَقد بَينا، قَوْله: {ذَا الأيد} أَي: ذَا الْقُوَّة، فَيُقَال: ذَا الْقُوَّة فِي الْعِبَادَة، وَيُقَال: ذَا الْقُوَّة فِي الْملك. وَأما قَوْله فِي الْعِبَادَة؛ فقد كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا، وَكَانَ يقوم سدس اللَّيْل وينام نصفه، وَيقوم ثلثه، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أحب الصّيام إِلَى الله تَعَالَى صِيَام دَاوُد، وَأحب الْقيام إِلَى الله قيام دَاوُد "، وَقَوله: {إِنَّه أواب} أَي: تواب، وَقيل: رجاع، فَقَالَ: آب يئوب إِذا رَجَعَ، قَالَ الشَّاعِر: (وكل ذِي غيبَة يئوب ... وغائب الْمَوْت لَا يئوب) وَقيل: أواب مَعْنَاهُ: أَنه كَانَ كلما ذكر ذَنبه اسْتغْفر الله تَعَالَى.

18

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي} الْعشي: آخر النَّهَار. وَقَوله: {وَالْإِشْرَاق} هُوَ وَقت الضُّحَى، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا كنت أعرف معنى الْإِشْرَاق حَتَّى أَخْبَرتنِي أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى صَلَاة الضُّحَى

( {18) وَالطير محشورة كل لَهُ أواب (19) وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب (20) وَهل أَتَاك نبأ الْخصم إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب (21) إِذْ دخلُوا على دَاوُود} فِي بَيتهَا، ثمَّ قَالَ: " هَذِه صَلَاة الْإِشْرَاق " وَالْإِشْرَاق: أَنه تشرق الشَّمْس حَتَّى تتناهى فِي ضوئها.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَالطير محشورة} وسخرنا الطير محشورة، وَقَوله: {محشورة} مَجْمُوعَة، وَقَوله: {كل لَهُ أواب} اخْتلف القَوْل فِي معنى قَوْله: {كل لَهُ أواب} فأحد الْقَوْلَيْنِ مَعْنَاهُ: كل لله أواب أَي: مسبح. وَالْقَوْل الثَّانِي: كل لَهُ أواب أَي: لداود يَعْنِي: أواب مَعَه. والأواب هَا هُنَا هُوَ المسبح، وَالتَّسْبِيح هُوَ عبَادَة أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض.

20

قَوْله تَعَالَى: {وشددنا ملكه} أَي: وقوينا ملكه، قَالَ مُجَاهِد: كَانَ لَهُ أَرْبَعمِائَة ألف رجل يحرسونه، وَمن الْمَعْرُوف سِتَّة وَثَلَاثُونَ ألفا يحرسونه. وَعَن بَعضهم: أَرْبَعُونَ ألفا مستلأمة أَي: فِي السِّلَاح، وَقد لبس لأمته أَي: درعه وسلاحه. وَقَوله تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة} أَي: النُّبُوَّة، وَقيل: الْفِقْه فِي الدّين، وَيُقَال: الْفَهم فِي الْقَضَاء. وَقَوله: {وَفصل الْخطاب} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَالْيَمِين على من أنكر، وَهُوَ فصل الْخطاب، وَهَذَا قَول مَشْهُور ومعروف. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن فصل الْخطاب هُوَ الْبَيَان الْفَاصِل بَين الْحق وَالْبَاطِل.

{ففرع مِنْهُم قَالُوا لَا تخف خصمان بغي بَعْضنَا على بعض فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ وَلَا تشطط واهدنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط (22) إِن هَذَا أخي لَهُ تسع وَتسْعُونَ نعجة ولي نعجة وَاحِدَة} وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن مَعْنَاهُ: أما بعد، ذكره الشّعبِيّ، وَإِنَّمَا سمي: أما بعد فصل الْخطاب؛ لِأَن الْإِنْسَان يذكر الله وَيَحْمَدهُ، فَإِذا شرع فِي كَلَام آخر قَالَ: أما بعد، فقد كَانَ كَذَا، وَكَانَ كَذَا. وَقد ورد فِي الْقِصَّة: أَن رجلا أَتَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَادّعى أَن فلَانا اغتصب مِنْهُ بقرًا، فَدَعَا الْمُدَّعِي عَلَيْهِ، فَجحد؛ فَرَأى فِي الْمَنَام أَنه أَمر بقتل الْمُدعى عَلَيْهِ فَلم يفعل فَرَأى ثَانِيًا وثالثا وأنذر بِالْعَذَابِ إِن لم يفعل فَدَعَا الْمُدعى عَلَيْهِ وَأخْبرهُ أَن الله تَعَالَى أمره بقتْله؛ فَقَالَ: أَو حق هُوَ؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: أتقتلني بِغَيْر حجَّة؟ فَقَالَ لَهُ: وَالله لأنفذن أَمر الله فِيك. فَقَالَ: إِنِّي لم أقتل بِهَذَا، وَلَكِنِّي كنت اغتلت أَبَا هَذَا الرجل وقتلته، وَأقر بِهِ، فَقتله دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا رَأَتْ بَنو إِسْرَائِيل ذَلِك هابوه أَشد الهيبة، فَهِيَ معنى قَوْله {وشددنا ملكه} .

21

قَوْله تَعَالَى: {وَهل أَتَاك نبأ الْخصم} أَي: خبر الْخصم، وأنشدوا فِي النبأ بِمَعْنى الْخَبَر: (إِنِّي أرقت فَلم أغمض جاري ... جزعا من النبأ الْعَظِيم السار) والخصم اسْم يَقع على الْوَاحِد والاثنين وَالْجَمَاعَة، وَقيل مَعْنَاهُ: ذُو خصم ذَوا خصم وذوو خصم، فعلى هَذَا يتَنَاوَل الْكل. وَقَوله: {إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب} أَي صعدوا وعلوا، وَالْمعْنَى: أَنهم دخلُوا من جَانب سور الْمِحْرَاب لَا من مدْخل الَّذِي يدْخل النَّاس. واتفقت عَامَّة الْمُفَسّرين على أَن الَّذين دخلُوا كَانُوا ملكَيْنِ، وَقيل: إِنَّه كَانَ أَحدهمَا جِبْرِيل وَالْآخر مِيكَائِيل، وَذكر تسوروا بِلَفْظ الْجمع؛ لِأَن الْجمع يتَنَاوَل الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدا.

22

وَقَوله: {إِذْ دخلُوا على دَاوُد فَفَزعَ مِنْهُم} أَي: خَافَ مِنْهُم وَاخْتلف القَوْل فِي عِلّة الْخَوْف، فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه خَافَ مِنْهُم، لأَنهم دخلُوا فِي غير وَقت الدُّخُول، وَقيل: خَافَ مِنْهُم؛ لأَنهم دخلُوا من أَعلَى السُّور. وَقَوله: {قَالُوا لَا تخف} يَعْنِي: فَلَا تخف {خصمان بغى بَعضهم على بعض} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {خصمان بغى بَعْضنَا على بعض} وَلم يكن من الْملكَيْنِ من بغى أَحدهمَا على الآخر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ أَن مَعْنَاهُ: أَرَأَيْت خصمين بغى أَحدهمَا على الآخر، فَهَذَا من معاريض الْكَلَام، وَلَيْسَ على معنى تَحْقِيق بغي أَحدهمَا على الآخر. وَقيل مَعْنَاهُ: قَالَا: مَا قَوْلك فِي خصمين بغى أَحدهمَا على الآخر؟ وَهَذَا قريب من الأول، وَقَوله: {فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ. وَقَوله: {وَلَا تشطط} يُقَال: أشط يشط إِذا جَار، وشطا يشط إِذا أبعد، قَالَ الشَّاعِر: (شطت مَزَار العاشقين، فَأَصْبَحت ... عسرا عَليّ طلابك ابْنة مخرم) وَقَالَ عمر بن أبي ربيعَة: {تشط غَدا دَار جيراننا ... وللدار بعد غَد أبعد} فَمَعْنَى قَوْله: {وَلَا تشطط} أَي: لَا تجر، وَقُرِئَ بِنصب التَّاء أَي: لَا تبعد عَن الْحق، وَقَوله: {واهدنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط} أَي: إِلَى الطَّرِيق الْمُسْتَقيم الصَّوَاب وَالْعدْل، وَقَوله: {واهدنا} أَي: وأرشدنا. قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا أخي لَهُ تسع وَتسْعُونَ نعجة} ذكر أهل التَّفْسِير أَن سَبَب ابتلاء دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَنه فتن بِامْرَأَة أوريا بن حنان، وَسبب ذَلِك أَن دَاوُد صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ قسم أَيَّامه، فَكَانَ يَخْلُو يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، ويخلو يَوْمًا لنسائه، وَيجْلس للْقَضَاء يَوْمًا مَعَ بني إِسْرَائِيل فيذاكرهم ويذاكرونه، فَجَلَسَ يَوْمًا مَعَ بني إِسْرَائِيل يذاكرهم، فذاكروا فتْنَة النِّسَاء، فأضمر دَاوُد فِي نَفسه أَنه إِن ابْتُلِيَ اعْتصمَ.

وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام رأى قرينيه من الْمَلَائِكَة، فَقَالَ لَهما: مَا بالكما معي، فَقَالَا: نحفظك ونحرسك، فتفكر فِي نَفسه أَنه كَانَ مَا يحْتَرز عَنهُ من الْأَشْيَاء يكون بحفظهما، أَو مَا يفعل من الْعِبَادَة فَيكون بحفظهما، فَهُوَ لَا يحمد فِي ذَلِك؛ فَأمر الله تَعَالَى الْملكَيْنِ أَن يخلياه يَوْمًا. وَفِي بعض الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى حذره يَوْمًا، وَقَالَ: هُوَ يَوْم فتنتك، وَفِي بَعْضهَا: أَنه سمع بني إِسْرَائِيل يَقُولُونَ فِي دعواتهم: يَا إِلَه إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب، فَأحب أَن يذكر مَعَهم، فَذكر ذَلِك لله تَعَالَى فِي مناجاته، فَقَالَ: يَا دَاوُد إِنِّي ابتليتهم فصبروا. فَقَالَ: لَو ابتليتني صبرت، فَقَالَ: يَا دَاوُد إِنِّي مبتليك يَوْم كَذَا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم دخل فِي متعبده، وتخلى لِلْعِبَادَةِ، وَهَذَا الْوَجْه الثَّالِث غَرِيب، وَالْمَشْهُور مَا ذكرنَا من قبل، قَالُوا: وَلما كَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم وتخلى لِلْعِبَادَةِ وَجعل يُصَلِّي وَيقْرَأ التَّوْرَاة وَالزَّبُور ويكب على قراءتهما، فَبَيْنَمَا هُوَ خلال ذَلِك؛ إِذْ سقط طير من ذهب قَرِيبا مِنْهُ، وَيُقَال: إِنَّه إِبْلِيس تصور فِي صُورَة طير، وَكَانَ جناحاه من الدّرّ والزبرجد، فأعجبه حسن الطير، فقصد أَن يَأْخُذهُ فتباعد مِنْهُ، وَجعل هُوَ يتبعهُ إِلَى أَن أسرف فِي اتِّبَاعه إِلَى دَار من دور جِيرَانه، فَرَأى امْرَأَة تَغْتَسِل، فأعجبه حسنها وخلقها، وَفتن بهَا، فَلَمَّا أحست الْمَرْأَة بِمن ينظر إِلَيْهَا؛ حللت شعرهَا، فغشاها شعرهَا؛ فازداد دَاوُد فتْنَة، وَرجع وَسَأَلَ عَن الْمَرْأَة؛ فَقيل: إِنَّهَا امْرَأَة أوريا بن حنان، فَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت توجه غازيا إِلَى بعض الثغور، فَأحب أَن يقتل ويتزوج بامرأته، فَذكر بَعضهم أَن ذَنبه كَانَ هَذَا الْقدر. وَذكر بَعضهم: انه كتب إِلَى أَمِير الْجَيْش أَن يَجْعَل أوريا قُدَّام التابوت، وَكَانَ من جعل قُدَّام التابوت فإمَّا أَن يقتل أَو يفتح الله على يَدَيْهِ، فَلَمَّا جعل قُدَّام التابوت قتل، فَتزَوج دَاوُد الْمَرْأَة بَعْدَمَا انْقَضتْ عدتهَا. وروى مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود، وَسَعِيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ ذَنْب دَاوُد انه التمس من الرجل أَن ينزل عَن امْرَأَته، هَذَا قَول ابْن مَسْعُود، وَأما لفظ ابْن عَبَّاس: التمس أَن يتَحَوَّل لَهُ عَنْهَا.

{فَقَالَ أكفلنيها وعزني فِي الْخطاب (23) قَالَ لقد ظلمك بسؤال نعجتك إِلَى نعاجه وَإِن} قَالَ أهل التَّفْسِير: وَقد كَانَ ذَلِك مُبَاحا لَهُم غير أَن الله تَعَالَى لم يرض لَهُ بذلك، لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِك رَغْبَة فِي الدُّنْيَا، وازدياد من النِّسَاء، وَقد أغناه الله تَعَالَى عَنْهَا بِمَا أعطَاهُ من غَيرهَا. وَذكر بَعضهم: أَن ذَنبه كَانَ هُوَ أَنه خطب امْرَأَة، وَقد خطبهَا غَيره، فَدخل على خطْبَة غَيره، وَكَانَ ذَلِك مَنْهِيّا فِي شريعتهم، كَمَا هُوَ مَنْهِيّ فِي شريعتنا.

23

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا أخي لَهُ تسع وَتسْعُونَ نعجة} النعجة هَا هُنَا كِنَايَة عَن الْمَرْأَة، وَالْعرب تكنى عَن الْمَرْأَة بالنعجة وَالشَّاة، قَالَ الشَّاعِر: (فرميت غَفلَة عينه عَن شاته ... فَأَصَبْت حَبَّة قلبه وطحالها) وَالْمرَاد من الشَّاة هَا هُنَا هِيَ الْمَرْأَة، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " تِسْعَة وَتسْعُونَ نعجة أُنْثَى " قَالَ بَعضهم: ذكر أُنْثَى على طَرِيق التَّأْكِيد. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا أبقت الْفَرَائِض فَلأولى رجل ذكر " فَقَوله: " ذكر " مَذْكُور على وَجه التَّأْكِيد. وَقيل: يجوز أَن يُقَال: تِسْعَة وَتسْعُونَ نعجة، وَإِن كَانَ فِي خلالها ذكر، فَلَمَّا قَالَ: تِسْعَة وَتسْعُونَ نعجة أُنْثَى، عرف قطعا أَنه لَيْسَ فِي خلالها ذكر. وَقَوله: {ولي نعجة وَاحِدَة} فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ لأوريا امْرَأَة وَاحِدَة، ولداود تِسْعَة وَتسْعُونَ امْرَأَة، فَهَذَا هُوَ المعني بالنعاج والنعجة. وَقَوله: {فَقَالَ أكفلنيها} أَي: ضمهَا إِلَيّ: وَقيل: انْزِلْ لي عَنْهَا، وَقيل: اجْعَلنِي قيمها وكفيلا بأمرها. وَقَوله: {وعزني فِي الْخطاب} أَي: غلبني فِي الْخطاب، وقهرني فِي الْخطاب أَي:

{كثيرا من الخلطاء ليبغي بَعضهم على بعض إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم وَظن دَاوُود أَنما فتناه فَاسْتَغْفر ربه وخر رَاكِعا وأناب (24) فغفرنا لَهُ ذَلِك وَإِن لَهُ} فِي القَوْل لقُوَّة ملكه. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن الْغَلَبَة كَانَت لَهُ لضعفي فِي يَده، وَإِن كَانَ الْحق معي، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: تحدث بَنو إِسْرَائِيل عِنْد دَاوُد أَنه لَا يمْضِي على ابْن آدم يَوْمًا إِلَّا ويذنب فِيهِ ذَنبا، واعتقد دَاوُد صلوَات الله عَلَيْهِ أَنه يحفظ نَفسه من الذَّنب، وَعين يَوْمًا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم تخلى فِي متعبده، وَجعل يُصَلِّي ويسبح، وَيقْرَأ التَّوْرَاة وَالزَّبُور، فابتلي بِمَا ابْتُلِيَ بِهِ على مَا ذكرنَا. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من زعم أَن دَاوُد ارْتكب محرما من تِلْكَ الْمَرْأَة جلدته مائَة وَسِتِّينَ جلدَة، يَعْنِي ضعف مَا يجلد الْإِنْسَان فِي غَيره.

24

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لقد ظلمك} مَعْنَاهُ: لقد ظلمك بسؤاله نعجتك إِلَى نعاجه، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: لقد ظلمك بِمُجَرَّد قَوْله، وَلم يكن سمع قولة صَاحبه؟ الْجَواب عَنهُ: أَن يحْتَمل لقد ظلمك بِمُجَرَّد قَوْله، وَلم يكن صَاحبه أقرّ بذلك، وَيحْتَمل أَنه قَالَ: إِن كَانَ الْأَمر على مَا ذكرت فقد ظلمك بسؤاله نعجتك إِلَى نعاجه، وَفِي الْآيَة حذف، والمحذوف بسؤاله أَن تضم نعجتك إِلَى نعاجه، وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ سَأَلَ زوج الْمَرْأَة أَن ينزل لَهُ عَن امْرَأَته، رَوَاهُ سعيد بن جُبَير عَنهُ. وَقَوله: {وَإِن كثيرا من الخلطاء} أَي: من الشُّرَكَاء، يُقَال: هَذَا خليطي أَي: شَرِيكي، وَقَوله: {ليبغي بَعضهم على بعض} أَي: يظلم بَعضهم بَعْضًا. وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} يَعْنِي: أَنهم لَا يظلم بَعضهم بَعْضًا، وَقَوله: {وَقَلِيل مَا هم} أَي: وَقيل هم، و " مَا " صلَة. وَقَوله: {وَظن دَاوُد أَنما فتناه} أَي: وأيقن دَاوُد أَنما فتناه أَي: ابتليناه، وأوقعناه فِي الْفِتْنَة، وَقُرِئَ: " إِنَّمَا فتناه " بِالتَّخْفِيفِ، يَعْنِي: أَن الْملكَيْنِ فتناه.

وَقَوله: {فَاسْتَغْفر ربه} أَي: طلب الْمَغْفِرَة من ربه (وخر رَاكِعا) أَي: سَاجِدا، فَعبر عَن السُّجُود بِالرُّكُوعِ؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا نوع من الانحناء. وَقَوله: {وأناب} أَي: رَجَعَ وَتَابَ، قَالَ مُجَاهِد: مكث دَاوُد سَاجِدا أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يرفع رَأسه. وَيُقَال: مكث فِي السُّجُود وَبكى حَتَّى نبت العشب حول رَأسه. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن الله تَعَالَى بعث إِلَيْهِ ملكا بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَن أرفع رَأسك، فَلم يرفع، فَقَالَ لَهُ الْملك: أَيهَا العَبْد، أول أَمرك ذَنْب وَآخره مَعْصِيّة، ارْفَعْ رَأسك حِين أَمرك رَبك. وَذكر وهب بن مُنَبّه: أَن دَاوُد صلوَات الله عَلَيْهِ لم يشرب بعد ذَلِك مَاء، إِلَّا وَقد مزجه بدموعه، وَلم يَأْكُل طَعَاما إِلَّا وَقد بله بدموعه، وَلم ينم على فرَاش إِلَّا وَقد غرقه بدموعه. وَأم حكم السُّجُود فِي هَذِه الْآيَة، فَذكر بَعضهم: أَنَّهَا سَجْدَة شكر، وَذكر بَعضهم: أَنَّهَا سَجْدَة عَزِيمَة، وَقد روى الشَّافِعِي رَحمَه الله بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ لَا يسْجد فِي " سُورَة ص " وَيَقُول: إِنَّهَا تَوْبَة نَبِي. وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ مَا قَالَ ضحك أحد الْملكَيْنِ إِلَى صَاحبه، ثمَّ ارتفعا إِلَى السَّمَاء، فَعلم دَاوُد أَنَّهُمَا أراداه بذلك القَوْل وأنهما ملكان مبعوثان من قبل الله تَعَالَى فَحِينَئِذٍ وَقع على الأَرْض سَاجِدا.

25

قَوْله تَعَالَى: {فغفرنا لَهُ ذَلِك} فغفرنا لَهُ ذَنبه ذَلِك، وَعَن [أبي] سُلَيْمَان الدَّارَانِي: أَن الله تَعَالَى قَالَ: يَا دَاوُد قد غفرت ذَنْبك، وَأما الْمَوَدَّة الَّتِي كَانَت بيني وَبَيْنك فقد مَضَت. وَفِي الْقِصَّة: أَن الوحوش والطيور كَانَ تستمع إِلَى قراءاته وتصغي إِلَيْهَا، فَلَمَّا فعل مَا فعل، [كَانَ] يقْرَأ الزبُور بعد ذَلِك، وَلَا تصغي الطُّيُور وَلَا الوحوش إِلَى ذَلِك،

{عندنَا لزلفى وَحسن مآب (25) يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب (26) وَمَا خلقنَا} فروى أَنَّهَا قَالَت يَعْنِي الوحوش والطيور: يَا دَاوُد ذهبت خطيئتك بحلاوة صَوْتك. وَقَوله: {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى} أَي: قربى {وَحسن مآب} أَي: حسن مرجع ومنقلب، وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد صلوَات الله عَلَيْهِ يحْشر وخطيئته منقوشة فِي كَفه، فحين يَرَاهَا؛ يَقُول: يَا رب، مَا أرى خطيئتي إِلَّا مهلكي، فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ: إِلَيّ يَا دَاوُد، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب} وأنشدوا فِي الرُّكُوع بِمَعْنى السُّجُود على مَا بَينا شعرًا: (فَخر على وَجهه رَاكِعا ... وَتَابَ إِلَى الله من كل ذَنْب)

26

قَوْله تَعَالَى: {يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض} أَي: خَليفَة عَمَّن سبق، وَيُقَال: خليفتي؛ وَمن هَذَا يجوز أَن يُسمى الْخُلَفَاء خلفاء الله. وَقَوله: {فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ، وَقَوله: {وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله} أَي: يصدك ويردك عَن سَبِيل الله. وَقَوله: {إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب} فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: لَهُم عَذَاب شَدِيد يَوْم الْحساب بِمَا نسوا أَي: تركُوا أَمر الله وغفلوا عَن الْقِيَامَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى كَانَ قد بعث سلسلة من السَّمَاء، وَكَانَ يخْتَصم إِلَى دَاوُد، والخصمان والسلسلة قُدَّام مَجْلِسه، فَكَانَ يَأْمر كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يَأْخُذ السلسلة، وَكَانَ ينالها المحق وَلَا ينالها الْمُبْطل، فاشتدت هيبته فِي بني إِسْرَائِيل لذَلِك، فاختصم رجلَانِ فِي عقد لُؤْلُؤ أودعهُ أَحدهمَا من صَاحبه وجحده الْمُودع، فَعمد الْمُودع إِلَى عَصا وقورها، وَجعل العقد فِيهَا، فَلَمَّا اخْتَصمَا إِلَى دَاوُد أَمرهمَا بالتحاكم إِلَى السلسلة، فَذهب الْمُدَّعِي إِلَى السلسلة، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي أودعت هَذَا

{السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا فويل للَّذين كفرُوا من النَّار (27) أم نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار (28) كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك ليدبروا آيَاته وليتذكر أولُوا الْأَلْبَاب (29) الرجل عقد لُؤْلُؤ، وَلم يردهُ إِلَى، فأنلني السلسلة، ثمَّ رفع يَده ونالها، وَجَاء صَاحبه إِلَى السلسلة، والعصا فِي يَده، فَقَالَ للْمُدَّعِي: أمسك هَذِه الْعَصَا حَتَّى آخذ السلسلة، فَأَخذهَا مِنْهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي قد رَددتهَا إِلَيْهِ فأنلني السلسلة، ثمَّ إِنَّه رفع يَده، ونال السلسلة؛ فتحير دَاوُد وَبَنُو إِسْرَائِيل فِي ذَلِك. وَرفع الله السلسلة، وَأمر دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن يقْضِي بَين النَّاس بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِين؛ فجرت السّنة على ذَلِك إِلَى قيام السَّاعَة.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا} أَي: لعبا، وَقيل: لغير حِكْمَة، وَقَوله: {ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا} وَهَذَا دَلِيل على أَن الله تَعَالَى يعذب الْكفَّار بِالظَّنِّ الْبَاطِل، وَقَوله: {فويل للَّذين كفرُوا من النَّار} أَي: من نَار جَهَنَّم.

28

قَوْله تَعَالَى: {أم نجْعَل الَّذين آمنُوا} مَعْنَاهُ: أنجعل الَّذين آمنُوا (وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض) أَي: لَا نجْعَل. وَقَوله: {أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار} أَي: الْمُؤمنِينَ كالكفار، وَيُقَال: المُرَاد بالمتقين هَا هُنَا أَصْحَاب رَسُول الله، وَقيل: بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، والفجار هم وُجُوه الْمُشْركين وسادتهم.

29

قَوْله تَعَالَى: {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك} أَي: هَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك. وَقَوله: {ليدبروا آيَاته} أَي: ليتدبروا ويتفكروا فِي آيَاته، وَقَوله: {وليتذكروا أولو الْأَلْبَاب} أَي: يتَذَكَّر أولو الْعُقُول، قَالَ الْحسن فِي قَوْله: {أولو الْأَلْبَاب} عَاتَبَهُمْ لِأَنَّهُ أحبهم.

30

قَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان نعم العَبْد إِنَّه أواب} قد بَينا.

{وَوَهَبْنَا لداوود سُلَيْمَان نعم العَبْد إِنَّه أواب (30) إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب (32) }

31

قَوْله: {إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد} أَي: الْخَيل الْجِيَاد، والصافنات: هِيَ الْخَيل الَّتِي قَامَت على ثَلَاث قَوَائِم، وثنى إِحْدَى قوائمه، وَقَامَ على السنبك. وَقيل: والصافن فِي اللُّغَة: هُوَ الْقَائِم، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سره أَن يكون النَّاس لَهُ صُفُونا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " أَي: قيَاما. قَالَ الشَّاعِر: (ألف الصفون فَمَا يزَال كَأَنَّهُ ... مِمَّا يقوم على الثَّلَاث كسيرا) وَقَوله: {الْجِيَاد} أَي: السراع، قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: كَانَت [عشْرين] فرسا لَهَا أَجْنِحَة، وَقَالَ عِكْرِمَة: عشرُون ألف فرس لَهَا أَجْنِحَة، وَقَالَ بَعضهم: كَانَت ألفا من الْخَيل الْعتاق أَي: الْكِرَام، وَيُقَال أَيْضا: إِن الله تَعَالَى كَانَ أخرجهَا لَهُ من الْبَحْر.

32

قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر} أَي: آثرت حب الْخَيْر، وَأما الْخَيْر؛ فَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنَّهَا الْخَيل فِي هَذِه الْآيَة، وَكَذَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود بِاللَّامِ. وروى أَن زيد الْخَيل الطَّائِي وَفد إِلَى النَّبِي فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا زيد الْخَيل. فَقَالَ: أَنْت زيد الْخَيْر ".

{ردوهَا عَليّ فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق (33) وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان وألقينا على كرسيه} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْخَيْر هَا هُنَا هُوَ الدُّنْيَا أَي: آثرت الدُّنْيَا على ذكر رَبِّي أَي: صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: {حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب} أَي: تَوَارَتْ الشَّمْس بالحجاب، فكنى عَن الشَّمْس وَإِن لم يجر لَهَا ذكر، وَقد بَينا مِثَال هَذَا، وَيُقَال: قد سبق مَا يدل على ذكر الشَّمْس، فاستقامت الْكِنَايَة عَنْهَا، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي} والعشي لَا يعرف إِلَّا بالشمس. وَأما الْحجاب، فَيُقَال: إِنَّه جبل قَاف، وَالشَّمْس تغرب من وَرَائه، وَيُقَال: إِنَّه جبل من ياقوت أَخْضَر، وخضرة السَّمَاء مِنْهُ.

33

قَوْله تَعَالَى: {ردوهَا عَليّ} أَي: ردوا الْخَيل عَليّ، وَقَوله: {فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق} ذهب أَكثر الْمُفَسّرين إِلَى أَن المُرَاد مِنْهُ أَنه قطع عراقيبها وأعناقها، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَقَتَادَة، وَأوردهُ الْفراء والزجاج. قَالَ الْحسن: كسف عراقيبها وَضرب أعناقها، قَالَ الزّجاج: وَيجوز أَن يكون الله تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ فِي ذَلِك الْوَقْت وَحرم فِي هَذَا الْوَقْت علينا وَلم يكن ليقدم نَبِي الله تَعَالَى على ذَلِك، وَهُوَ محرم عَلَيْهِ، وَكَيف يسْتَغْفر من ذَنْب بذنب؟ ! . وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام جعل يمسح عراقيبها وأعناقها بِيَدِهِ وثوبه؛ شَفَقَة عَلَيْهَا، وَهَذَا قَول ضَعِيف، وَلَا يَلِيق هَذَا الْفِعْل بِمَا سبق، وَالْمَشْهُور هُوَ القَوْل الأول. وَذكر الْكَلْبِيّ: أَن الْخَيل كَانَت ألفا، فَقتل مِنْهَا تِسْعمائَة وَبقيت مائَة، فَهِيَ أصل الْخَيل الْعتاق الَّتِي بقيت فِي أَيدي النَّاس. وَيُقَال: إِنَّهَا كَانَت خيلا أَخذهَا من العمالقة، وَكَانَت تعرض عَلَيْهِ؛ فَغَفَلَ عَن صَلَاة الْعَصْر حَتَّى غربت الشَّمْس، فَأمر بردهَا عَلَيْهِ، وَقطع عراقيبها، وَضرب أعناقها؛ لِأَنَّهَا ألهته عَن ذكر الله، وَيُقَال: ذَبحهَا ذبحا وَتصدق بِلُحُومِهَا، وَكَانَ الذّبْح حَلَالا فِي شَرِيعَته على ذَلِك الْوَجْه.

{جسدا ثمَّ أناب (34) قَالَ رب اغْفِر لي وهب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي إِنَّك}

34

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان} أَي: اختبرنا سُلَيْمَان فابتليناه، وَيُقَال: فتنا سُلَيْمَان أَي: ألقيناه فِي الْفِتْنَة. وَقَوله: {وألقينا على كرسيه جسدا ثمَّ أناب} ذهب أَكثر الْمُفَسّرين إِلَى أَن الْجَسَد الَّذِي ألقِي على كرْسِي سُلَيْمَان هُوَ صَخْر الجني. قَالَ السّديّ: كَانَ اسْمه حبقيق، وَعَن بَعضهم: ان اسْمه كَانَ آصف، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا. وَأما قصَّته: فزعموا أَن صخرا كَانَ شَيْطَانا ماردا لَا يقوى عَلَيْهِ أحد، فَابْتلى الله تَعَالَى سُلَيْمَان بِهِ، وسلبه ملكه، وَقعد هَذَا الشَّيْطَان على كرسيه يقْضِي بَين النَّاس، وَكَانَ سَبَب ذَلِك فِيمَا زَعَمُوا أَن ملك سُلَيْمَان كَانَ فِي خَاتمه، قَالَ وهب: وَكَانَ ذَلِك الْخَاتم فَمَا ألبسهُ الله تَعَالَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجنَّة، وَكَانَ يضيء كضوء الشَّمْس، فَلَمَّا أكل آدم من الشَّجَرَة، وَعصى الله تَعَالَى سلب الْخَاتم. ثمَّ إِن الله تَعَالَى أنزلهُ على سُلَيْمَان، وَعقد بِهِ ملكه، قَالُوا: وَكَانَ الْخَاتم مربعًا لَهُ أَرْبَعَة أَرْكَان، فِي ركن مِنْهُ مَكْتُوب: أَنا الله لم أزل، وَفِي الرُّكْن الثَّانِي مَكْتُوب: أَنا الله الْحَيّ القيوم، وَفِي الرُّكْن الثَّالِث مَكْتُوب: أَنا الْعَزِيز لَا عَزِيز غَيْرِي، وَفِي الرُّكْن الرَّابِع مَكْتُوب: مُحَمَّد رَسُول الله. وَيُقَال: كَانَ الْمَكْتُوب عَلَيْهِ آيَة الْكُرْسِيّ، قَالُوا: وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِذا دخل مغتسله سلم الْخَاتم إِلَى جَارِيَة لَهُ، فَدخل مرّة وَسلم الْخَاتم إِلَى الْجَارِيَة، فجَاء صَخْر فِي صُورَة سُلَيْمَان فَأخذ الْخَاتم من الْجَارِيَة، وَخرج سُلَيْمَان يطْلب الْخَاتم، فَقَالَت: قد أخذت مني الْخَاتم مرّة، فَعلم [سُلَيْمَان] أَن الله تَعَالَى سلبه ملكه. وَذهب سُلَيْمَان يسيح فِي الأَرْض، وَلم يعرفهُ أحد بصورته، وَكَانَ يستطعم النَّاس

وَيَقُول: أَنا سُلَيْمَان بن دَاوُد، فيكذبونه ويؤذونه ويزعمون أَنه مَجْنُون. حَتَّى روى أَنه استطعم مرّة من قوم وَزعم أَنه سُلَيْمَان بن دَاوُد، فَقَامَ رجل وشج رَأسه بعصا فِي يَده، ثمَّ إِنَّهُم أَعْطوهُ كسرة يابسة، فَحمل الكسرة إِلَى شط نهر ليبليها بِالْمَاءِ، وَكَانَ جائعا لم يصب طَعَاما مُنْذُ أَيَّام، فَذهب المَاء بالكسرة. وَيُقَال: إِنَّه كَانَ على شط الْبَحْر، فَجَاءَت موجة وحملت الكسرة، فَدخل هُوَ الْبَحْر فِي إثْرهَا حَتَّى خَافَ الْغَرق فَرجع وَرجعت الكسرة ثمَّ إِنَّه طمع فِيهَا وَذهب ليأخذها، فَذَهَبت الكسرة، هَكَذَا مَرَّات؛ فَبكى سُلَيْمَان وتضرع إِلَى الله تَعَالَى فرحمه الله تَعَالَى ورد إِلَيْهِ ملكه. وَكَانَ سَبَب رد ملكه إِلَيْهِ أَنه مر على قوم صيادين؛ فَسَأَلَهُمْ شَيْئا ليأكله فَأَعْطوهُ سَمَكَة ميتَة، فشق جوفها، فَوجدَ خَاتِمَة فِيهَا، فَجعله فِي إصبعه، وَعَاد إِلَيْهِ ملكه، وعكفت الطير فِي الْوَقْت على رَأسه، وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْإِنْس وَالْجِنّ وَالشَّيَاطِين. وَأما مُدَّة ذهَاب ملكه كَانَ [أَرْبَعِينَ] يَوْمًا، وَأما حَدِيث صَخْر الجني فَإِنَّهُ لما أَخذ الْخَاتم، وَقد تحول فِي صُورَة سُلَيْمَان، ذهب وَقعد على كرسيه، وَجعل ينفذ مَا كَانَ ينفذهُ سُلَيْمَان إِلَّا أَن الله تَعَالَى مَنعه نسَاء سُلَيْمَان، هَكَذَا رُوِيَ عَن الْحسن. وَقد ذكر غَيره أَنه كَانَ يُصِيب من نسَاء سُلَيْمَان فِي الْحيض، وَذكر أَنه يُصِيب فِي الْحيض وَغير الْحيض، وَالله أعلم. وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه هَل بَقِي مَعَه الْخَاتم أَولا؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه ذهب وَطرح الْخَاتم فِي الْبَحْر. وَالْقَوْل الآخر: أَنه كَانَ مَعَه، وَالْقَوْل الْأَشْهر أولى وَأعرف. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن بني إِسْرَائِيل أَنْكَرُوا أَمر صَخْر الجني؛ لِأَنَّهُ كَانَ يقْضِي بِغَيْر الْحق؛ فَذَهَبُوا إِلَى نسَاء سُلَيْمَان، وَقَالُوا لَهُنَّ: تنكرون من أَمر سُلَيْمَان شَيْئا، فَقُلْنَ: نعم؛ فَحِينَئِذٍ وَقع فِي قلبهم أَن سُلَيْمَان قد ابْتُلِيَ، وَأَن الله تَعَالَى سلبه ملكه، وَأَن الشَّخْص الَّذِي على الْكُرْسِيّ شَيْطَان.

فَأخذُوا التَّوْرَاة وَجَاءُوا إِلَى حول الْكُرْسِيّ وَجعل يقرءونها؛ فطار صَخْر إِلَى أشرف الْقصر، ثمَّ طَار من شرف الْقصر وَمر فَوَقع فِي الْبَحْر. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى لما رد على سُلَيْمَان ملكه، أَمر الشَّيَاطِين يطْلب صَخْر، فوجدوه وَحَمَلُوهُ إِلَى سُلَيْمَان؛ فصفده بالحديد، وَجعله فِي صندوق، وألقاه فِي الْبَحْر، فَهُوَ فِي الْبَحْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَأما السَّبَب [الَّذِي] ابْتُلِيَ الله لأَجله سُلَيْمَان، فَفِيهِ أَقْوَال كَثِيرَة: أَحدهَا: أَن الله تَعَالَى كَانَ أمره أَلا يتَزَوَّج امْرَأَة من غير بني إِسْرَائِيل، فَخَالف وَتزَوج امْرَأَة من غَيرهم، فابتلاه الله تَعَالَى بِمَا ذكرنَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه تزوج بِامْرَأَة؛ فعبدت الْمَرْأَة صنما فِي دَاره من غير أَن يشْعر سُلَيْمَان بذلك، فابتلاه الله تَعَالَى لِغَفْلَتِه، وَهَذَا قَول مَشْهُور. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه كَانَت عِنْده امْرَأَة، وَكَانَ يُحِبهَا حبا شَدِيدا، فخاصم أَخُوهَا إِلَى سُلَيْمَان فِي شَيْء مَعَ إِنْسَان، فطلبت الْمَرْأَة من سُلَيْمَان أَن يقْضِي لأَخِيهَا؛ فَقَالَ لَهَا: نعم، وَلم يفعل ذَلِك، فابتلاه الله تَعَالَى. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه احتجب من النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام، وَلم ياذن لأحد، ذكره شهر بن حَوْشَب، وابتلاه الله تَعَالَى بِمَا ذكرنَا، وَأوحى الله تَعَالَى يَا سُلَيْمَان، إِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُك وأعطيتك هَذَا الْملك؛ لتنصف المظلومين، وَتَكون عونا للضعفاء على الأقوياء، وَلم أعطك لتحتجب عَن النَّاس. وَالْقَوْل الْخَامِس: أَنه قَالَ مرّة: وَالله لأطوفن اللَّيْلَة على نسَائِي، وَكَانَ لَهُ ثلثمِائة امْرَأَة، وَسَبْعمائة سَرِيَّة، ولتحملن كل امْرَأَة مِنْهُنَّ، وتلد غُلَاما يُقَاتل فِي سَبِيل الله، فَقَالَ لَهُ الْملك: قل إِن شَاءَ الله، فَلم يقل، فَلم تحمل امْرَأَة مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَة وَاحِدَة حملت، فَولدت نصف إِنْسَان، وابتلاه الله تَعَالَى.

{أَنْت الْوَهَّاب (35) فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء حَيْثُ أصَاب (36) } وَهَذَا خبر مَرْفُوع إِلَى النَّبِي وعَلى هَذَا القَوْل كَانَ الْجَسَد الَّذِي ألقِي على كرسيه هُوَ وَلَده، وَذكر بَعضهم: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام ولدله ابْن، فخاف عَلَيْهِ من الشَّيَاطِين، فأودعه السَّحَاب لتربيه؛ فَسقط على كرسيه مَيتا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسدا} وَالله أعلم. وَالْقَوْل السَّادِس: مَا رُوِيَ عَن الْحسن قَالَ: إِنَّه كَانَ أصَاب من بعض نِسَائِهِ فِي حَالَة الْحيض، فابتلاه الله تَعَالَى بِمَا ذكرنَا، وَالله أعلم بِمَا كَانَ، وَلَا شكّ أَن الْآيَة تدل على أَن الله تَعَالَى قد أقعد على كرسيه غَيره، وسلبه شَيْئا كَانَ لَهُ. وَقَوله: {ثمَّ أناب} أَي: رَجَعَ إِلَى ملكه.

35

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب اغْفِر لي وهب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي} وَهل كَانَ هَذَا حسدا مِنْهُ لغيره، حَتَّى لَا ينَال غَيره مَا نَالَ هُوَ؟ وَالْجَوَاب: أَن معنى قَوْله: {لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي} أَي: لَا يكون لأحد من بعدِي على معنى انك تسلبه وتعطيه غَيره، كَمَا سلبت من قبل ملكي وَأعْطيت صخرا. . الْخَبَر. وَيُقَال: إِنَّمَا طلب ذَلِك لتظهر كرامته وخصوصيته عِنْد الله تَعَالَى وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عرض لي اللَّيْلَة شَيْطَان، وَأَرَادَ أَن يفْسد عَليّ صَلَاتي؛ فأمكنني الله تَعَالَى مِنْهُ، فَأَخَذته وَأَرَدْت أَن أربطه حَتَّى تصبحوا فتنظروا إِلَيْهِ، ثمَّ ذكرت قَول أخي سُلَيْمَان {رب هَب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي} فتركته، ورده الله خائبا خاسئا ". وَقَوله: {إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب} أَي: الْمُعْطِي.

{وَالشَّيَاطِين كل بِنَاء وغواص (37) وَآخَرين مُقرنين فِي الأصفاد (38) هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب (39) وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب (40) وَاذْكُر}

36

قَوْله تَعَالَى: {فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء} أَي: لينَة، وَقيل: رخاء مطيعة لَيست بعاصية. وَقَوله: {حَيْثُ أصَاب} مَعْنَاهُ: حَيْثُ أَرَادَ، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ يَغْدُو بإيلياء، ويقيل بقزوين، ويبيت بِبَابِل، وَالْعرب تَقول: أصَاب الصَّوَاب فاخطأ الْجَواب أَي: أَرَادَ الصَّوَاب فَأَخْطَأَ الْجَواب وَقَالَ الشَّاعِر: (وَغَيرهَا مَا غير النَّاس قبلهَا ... فناءت وحاجات الْفُؤَاد تصيبها) أَي: تريدها،

37

وَقَوله: {وَالشَّيَاطِين كل بِنَاء وغواص} أَي: وسخرنا الشَّيَاطِين لَهُ كل بِنَاء وغواص مِنْهُم، وتسخير الرّيح وَالشَّيَاطِين لَهُ بعد ابتلائه بِمَا ذكرنَا.

38

وَقَوله: {وَآخَرين مُقرنين فِي الأصفاد} أَي: مغلولين فِي السلَاسِل، وَكَانَ يَأْخُذ [الشَّيْطَان] فيقربه بالشيطان ويصفدها فِي الْحَدِيد ويوبقهما فِي السلَاسِل ثمَّ يجعلهما فِي صندوق من حَدِيد، ويلقي الصندوق فِي قَعْر الْبَحْر.

39

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا عطاؤنا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا وَهُوَ الأولى أَن الْملك عطاؤنا لَك {فَامْنُنْ} أَي: أعْط من شِئْت. وَقَوله: {أَو امسك} أَي: امْنَعْ من شِئْت {بِغَيْر حِسَاب} أَي: بِغَيْر حرج. وَالْقَوْل الثَّانِي: {هَذَا عطاؤنا} أَي: تسخير الشَّيَاطِين. وَقَوله: {فَامْنُنْ أَو أمسك} أَي: أرسل من شِئْت، واحبس من شِئْت. وَالْقَوْل الثَّالِث: {هَذَا عطاؤنا} أَي: النسْوَة عطاؤنا. وَقَوله: {فَامْنُنْ أَو أمسك} أَي: طلق من شِئْت، واحبس من شِئْت {بِغَيْر حِسَاب} أَي: بِغَيْر حرج،

40

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب} أَي: حسن مرجع.

{عَبدنَا أَيُّوب إِذْ نَادَى ربه إِنِّي مسني الشَّيْطَان وَعَذَاب (41) اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم رَحْمَة منا وذكرى لأولي}

41

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر عَبدنَا أَيُّوب إِذْ نَادَى ربه أَنى مسنى الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب} وَقُرِئَ: " بِنصب وَعَذَاب " بِفَتْح النُّون وَالصَّاد، وَالنّصب والنصيب بِمَعْنى وَاحِد كالحزنن والحزن، وَيُقَال: بِنصب فِي الْجَسَد، وَعَذَاب فِي المَال. وَقد بَينا قصَّة أَيُّوب من قبل وَمَا أَصَابَهُ من الْبلَاء، وَذكرنَا مُدَّة بلائه، وَيُقَال: إِنَّه مكث فِي الْبلَاء سبع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام، وَكَانَت الدَّوَابّ تجْرِي فِي جسده، وَقد ألْقى على مزبلة، وتأذى مِنْهُ قومه غَايَة الْأَذَى.

42

قَوْله تَعَالَى: {اركض} أَي: اركض الأَرْض برجلك، فَيُقَال: إِنَّه داس الأَرْض دوسة، فنبعت عين [مَاء] ؛ فَأمره الله تَعَالَى أَن يغْتَسل مِنْهَا، فاغتسل فَذهب كل دَاء كَانَ فِي جسده، وَمَشى أَرْبَعِينَ خطْوَة، فَأمره الله تَعَالَى أَن يدوس الأَرْض بِرجلِهِ دوسة أُخْرَى؛ فَفعل؛ فنبعت عين أعذب مَا تكون وأبرده؛ فَأمره الله تَعَالَى أَن يشرب مِنْهَا؛ فَذهب كل دَاء كَانَ فِي بَاطِنه، وَصَارَ كأصح مَا يكون من الرِّجَال وأكملهم؛ فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {هَذَا مغتسل بَارِد وشراب} .

43

قَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهله} قد بَينا أَن الله تَعَالَى رد عَلَيْهِ أَهله وَأَوْلَاده الَّذين أهلكهم بأعيانهم، وَقد قُلْنَا غير هَذَا، وَالْقَوْل الأول أشبه بِظَاهِر الْقُرْآن، وَيُقَال: إِن الأَرْض انشقت؛ فَرَأى إبِله وبقره وغنمه على هيئتها وَخرجت إِلَيْهِ، وَرَأى أَيْضا أَهله وَأَوْلَاده كَهَيْئَتِهِمْ وَخَرجُوا إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَمثلهمْ مَعَهم} يُقَال: [إِنَّهُم كَانُوا سَبْعَة] بَنِينَ، وَثَلَاث بَنَات فَأعْطَاهُ الله تَعَالَى مثل عَددهمْ، وردهم الله بأعيانهم. وَقَوله: {رَحْمَة منا وذكرى لأولي الْأَلْبَاب} أَي: لأولي الْعُقُول.

{الْأَلْبَاب (43) وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب (44) وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب أولي الْأَيْدِي والأبصار (45) }

44

قَوْله تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا} أَي: فَقُلْنَا لَهُ: وَخذ بِيَدِك ضغثا، والضغث: كل مَا يمْلَأ الْكَفّ من خشب أَو حشيش أَو غَيره. قَوْله: {فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} يَعْنِي: فَاضْرب بِهِ امْرَأَتك، وَلَا تَحنث فِي يَمِينك، وَكَانَ سَبَب يَمِينه أَن الْمَرْأَة أَتَتْهُ بِطَعَام يَوْمًا أَكثر مِمَّا كَانَت تَأتيه كل يَوْم؛ فاتهمها بخيانة فِي نَفسهَا، وَكَانَت بريئة، فَحلف ليضربنها [مائَة] سَوط إِذا برأَ من مَرضه. وَيُقَال: إِن إِبْلِيس قعد على طَرِيق الْمَرْأَة طَبِيبا يداوي النَّاس، فمرت بِهِ الْمَرْأَة، وَقَالَت: إِن لي مَرِيضا وَأحب أَن تداويه، فَقَالَ لَهَا: أَنا أداويه، فَلَا أُرِيد شَيْئا سوى أَن يَقُول إِذا شفيته: أَنْت شفيتني، فَجَاءَت إِلَى أَيُّوب وَذكرت لَهُ ذَلِك، فَعرف أَنه كَانَ إِبْلِيس اللعين، فَغَضب وَحلف على مَا ذكرنَا. وَيُقَال: إِنَّهَا باعت ذؤابتيها بِرَغِيفَيْنِ لطعامه، فَلَمَّا رأى ذَلِك أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام غضب وَحلف، وَهَذَا قَول غَرِيب. وَقَوله: {فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} يَعْنِي: فَاضْرب بالضغث الَّذِي يشْتَمل على مائَة عود صغَار {وَلَا تَحنث} أَي: وَلَا تدع الضَّرْب فتحنث، قَالَ مُجَاهِد: هَذَا لأيوب خَاصَّة، وَقَالَ عَطاء: لَهُ وَلِلنَّاسِ عَامَّة. وَقَوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب} أَي: رجاع إِلَى طَاعَة الله. وَفِي الْقِصَّة: أَن أَيُّوب قيل لَهُ: مَا أَشد مَا مر عَلَيْك فِي بلائك؟ فَقَالَ: شماتة الْأَعْدَاء.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوب أولي الْأَيْدِي والأبصار} إِنَّمَا خص هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة؛ لِأَن الله تَعَالَى ابْتَلَاهُم فصبروا، أما ابتلاء إِبْرَاهِيم فَكَانَ بالنَّار، وابتلاء إِسْحَق كَانَ بِالذبْحِ، وَأما ابتلاء يَعْقُوب بفقد الْوَلَد. وَقَوله: {أولي الْأَيْدِي والأبصار} مَعْنَاهُ: أولي الْقُوَّة فِي الطَّاعَة، وأولي الْأَبْصَار

{إِنَّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدَّار (46) وَإِنَّهُم عندنَا لمن المصطفين الأخيار (47) وَاذْكُر إِسْمَاعِيل وَالْيَسع وَذَا الكفل وكل من الأخيار (48) هَذَا ذكر وَإِن لِلْمُتقين} فِي الْمعرفَة، وَقيل: أولي الْقُوَّة ظَاهرا، وأولي الْأَبْصَار بَاطِنا، فالقوة قُوَّة الْجَوَارِح، والأبصار أبصار الْقُلُوب، قَالَ الله تَعَالَى {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} .

46

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أخلصناكم بخالصة ذكرى الدَّار} وَقُرِئَ: " بخالصة " من غير تَنْوِين، فَأَما بِالتَّنْوِينِ: فَمَعْنَاه: بخلة خَالِصَة، وَهِي ذكرى الدَّار. وَقيل: إِن ذكرى الدَّار بدل عَن قَوْله: {خَالِصَة} على هَذِه الْقِرَاءَة، وَأما الْقِرَاءَة بِالْإِضَافَة، [فمعناها] : أخلصناهم بِأَفْضَل مَا فِي الْآخِرَة، حكى هَذَا عَن أبي زيد، وَقَالَ مُجَاهِد: أخلصناهم مَا ذكرنَا بِالْجنَّةِ لَهُم. وَعَن مَالك بن دِينَار قَالَ ابْن عَبَّاس: أزلنا عَن قُلُوبهم حب الدُّنْيَا وَذكرهَا وأخلصناهم بحب الْآخِرَة وَذكرهَا، وَعَن بَعضهم: وأخلصناهم عَن الْآفَات والعاهات، وجعلناهم يذكرُونَ الدَّار الْآخِرَة، وَالْأولَى فِي قَوْله: {أخلصناهم} أَي: جعلناهم مُخلصين بِمَا أخبرنَا عَنْهُم،

47

وَقَوله: {وَإِنَّهُم عندنَا لمن المصطفين الأخيار} ظَاهر الْمَعْنى.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر إِسْمَاعِيل وَالْيَسع} إِسْمَاعِيل: هُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، وَقَوله: {وَالْيَسع} اليسع: هُوَ نَبِي من الْأَنْبِيَاء، وَيُقَال: اليسع هُوَ تلميذ إلْيَاس النَّبِي _ عَلَيْهِ السَّلَام _ وَلما رفع الله إلْيَاس _ عَلَيْهِ السَّلَام _ خلف اليسع فِي قومه، وَقَوله: {وَذَا الكفل} قد بَينا، وَيُقَال: إِنَّه رجل كفل لملك بِالْجنَّةِ إِن آمن وأطاع الله تَعَالَى وَقَوله: {وكل من الأخيار} ظَاهر الْمَعْنى.

49

[قَوْله تَعَالَى: {هَذَا ذكر وَإِن لِلْمُتقين لحسن مآب} ] .

{لحسن مآب (49) جنَّات عدن مفتحة لَهُم الْأَبْوَاب (50) متكئين فِيهَا يدعونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَة وشراب (51) وَعِنْدهم قاصرات الطّرف أتراب (52) هَذَا مَا توعدون ليَوْم الْحساب (53) إِن هَذَا لرزقنا مَا لَهُ من نفاد (54) هَذَا وَإِن للطاغين لشر مآب (55) جَهَنَّم يصلونها فبئس المهاد (56) هَذَا فليذوقوه حميم وغساق (57) وَآخر}

50

قَوْله تَعَالَى: {جنَّات عدن مفتحة لَهُم الْأَبْوَاب} أَي: أَبْوَابهَا.

51

قَوْله تَعَالَى: {متكئين فِيهَا يدعونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَة وشراب} أَي: بفاكهة الْجنَّة وشرابها، وَذكر كَثِيرَة؛ لِأَن مَا فِي الْجنَّة كثير لعدم انْقِطَاعه، واتساع وجوده.

52

قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْدهم قاصرات الطّرف} أَي: قصرن أطرافهن على أَزوَاجهنَّ، وَقَوله: {أتراب} أَي: أَمْثَال، وَيُقَال: لدات مستويات الْأَسْنَان، وَعَن مُجَاهِد: أتراب متواخيات لَا تتعادين وَلَا تتباغضن، وَقيل: لَا تتغايرن، قَالَ يحيى بن سَلام: بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة، وَعَن بَعضهم: أتراب أَي: خُلِقْنَ على مقادير أَزوَاجهنَّ، وَأنْشد الشَّاعِر فِي القاصرات: (من القاصرات الطّرف لَو دق محول ... من الذَّر فَوق الإتب مِنْهَا لأثرا)

53

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا مَا توعدون ليَوْم الْحساب} أَي: هَذَا الَّذِي أخبرنَا عَنهُ هُوَ مَا توعدون ليَوْم الْحساب.

54

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا لرزقنا مَا لَهُ من نَفاذ} أَي: انْقِطَاع، وَمعنى قَوْله: {لرزقنا} أَي: إعطاؤنا.

55

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا وَإِن للطاغين لشر مآب} أَي: مرجع: وَالْمرَاد من الطاغين هم الْكفَّار.

56

وَقَوله تَعَالَى: {جَهَنَّم يصلونها} أَي: يدْخلُونَهَا، وَقيل: يقاسون حرهَا، وَقَوله: {فبئس المهاد} أَي: فبئس مَا مهدوا لأَنْفُسِهِمْ، وَيُقَال: بئس الْفراش.

57

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا فليذوقوه حميم وغساق} يُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير

{من شكله أَزوَاج (58) هَذَا فَوْج مقتحم مَعكُمْ لَا مرْحَبًا بهم إِنَّهُم صالوا النَّار (59) } وَمَعْنَاهُ: هَذَا حميم وغساق فليذوقوه، وَأما معنى الْحَمِيم فقد بَينا، وَهُوَ المَاء الْحَار الَّذِي انْتهى فِي الْحَرَارَة، وَأما الغساق فَهُوَ الْقَيْح الَّذِي يسيل من جُلُودهمْ، وَعَن السّديّ قَالَ: الدُّمُوع الَّتِي تسيل من أَعينهم، وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس: أَنه الزَّمْهَرِير يحرقهم بِبرْدِهِ، وَحكى النقاش: أَن الغساق هُوَ المنتن بالتركية، فعرب، وَقد قرئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فبعضهم قَالَ: لَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى، وَبَعْضهمْ فرق بَينهمَا بِبَعْض الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَأخر من شكله أَزوَاج} وَقُرِئَ: " وَآخر من شكله "، فَقَوله: {وَأخر} يتَنَاوَل الْعدَد وَقَوله: {وَأخر} بِالْمدِّ يتَنَاوَل الْوَاحِد. وَقَوله: {من شكله} أَي: مثله، وَقَوله: {أَزوَاج} أَي: أَصْنَاف، وَقيل: أَنْوَاع. قَالَ الشَّاعِر: (لما اكتست من ضرب كل شكل ... حمرا وخضرا كاخضرار البقل) وَمعنى الْآيَة: أَن لأهل النَّار أنواعا أخر من الْعَذَاب على شكل مَا سبق ذكره يَعْنِي: فِي الشدَّة.

59

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا فَوْج مقتحم مَعكُمْ} أَي: فَوْج مقتحم مَعكُمْ بعد الفوج الأول، والاقتحام هُوَ الدُّخُول، وَاخْتلف القَوْل فِي الفوج الأول والفوج الثَّانِي. فأحد الْقَوْلَيْنِ: الفوج الأول هم بَنو إِسْرَائِيل، والفوج الثَّانِي هم بَنو آدم، وَيُقَال: الفوج الأول هم الرؤساء والقادة، والفوج الثَّانِي هم الأتباع. وَقَوله: {لَا مرْحَبًا بهم} الرحب هُوَ السعَة، وَقَول الْقَائِل: لَا مرْحَبًا بفلان أَي: لَا رَحبَتْ أَي: لَا اتسعت عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر: (إِذا جِئْت بوابا لَهُ قَالَ مرْحَبًا ... أَلا مرْحَبًا ناديك غير مضيق)

{قَالُوا بل أَنْتُم لَا مرْحَبًا بكم أَنْتُم قدمتموه لنا فبئس الْقَرار (60) قَالُوا رَبنَا من قدم لنا هَذَا فزده عذَابا ضعفا فِي النَّار (61) وَقَالُوا مَا لنا لَا نرى رجَالًا كُنَّا نعدهم من الأشرار (62) أتخذناهم سخريا أم زاغت عَنْهُم الْأَبْصَار (63) إِن ذَلِك لحق تخاصم أهل النَّار} وَقَوله: {إِنَّهُم صالوا النَّار} أَي: داخلوا النَّار مَعكُمْ،

60

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بل أَنْتُم لَا مرْحَبًا بكم} يَعْنِي: قَالَ الأتباع للقادة بل أَنْتُم لَا مرْحَبًا بكم. وَقَوله: {أَنْتُم قدمتموه لنا} أَي: قدمتم هَذَا الْعَذَاب لنا بدعائكم إيانا إِلَى الضَّلَالَة وَالْكفْر، وَقَوله: {فبئس الْقَرار} أَي: فبئس دَار الْقَرار النَّار.

61

وَقَوله تَعَالَى: {قَالُوا رَبنَا من قدم لنا هَذَا} أَي: قَالَ الأتباع: رَبنَا من قدم لنا هَذَا؟ وَقَوله: {فزده عذَابا ضعفا فِي النَّار} أَي: ضاعف عَلَيْهِ الْعَذَاب فِي النَّار.

62

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لنا لَا نرى رجَالًا كُنَّا نعدهم من الأشرار} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَقُول أَبُو جهل وذووه حِين يدْخلُونَ النَّار: أَيْن بِلَال؟ أَيْن عمار؟ أَيْن خباب؟ وَفُلَان وَفُلَان؟ وَعَن بَعضهم قَالَ: أهل النَّار يَقُولُونَ هَذَا حِين يفقدون أهل الْجنَّة. وَقَوله: {كُنَّا نعدهم من الأشرار} قَالَ بَعضهم: من الأرذال، وَقَالَ بَعضهم: كُنَّا نعدهم من شرار قَومنَا؛ لأَنهم قد تركُوا دين آبَائِهِم.

63

قَوْله تَعَالَى: {اتخذناهم سخريا} أَي: كُنَّا سنخر مِنْهُم، وَقُرِئَ: " أتخذناهم سخريا " على الِاسْتِفْهَام، قَالَ أهل الْمعَانِي: وَالْقِرَاءَة الأولى أولى، لأَنهم قد علمُوا حَقِيقَة الْأُمُور فِي الْقِيَامَة، فَلَا يتَصَوَّر مِنْهُم الِاسْتِفْهَام، وَقَالَ الْفراء: الْألف فِي قَوْله: {اتخذناهم} ألف التوبيخ والتعجب، وَالْعرب تذكر مثل هَذِه الْألف على طَرِيق التوبيخ والتعجب. وَقَوله: {أم زاغت عَنْهُم الْأَبْصَار} أَي: مَالَتْ عَنْهُم الْأَبْصَار، وَمَعْنَاهُ: أَنهم مَعنا فِي النَّار وَلَا نراهم.

( {64) قل إِنَّمَا أَنا مُنْذر وَمَا من إِلَه إِلَّا الله الْوَاحِد القهار (65) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الْعَزِيز الْغفار (66) قل هُوَ نبأ عَظِيم (67) أَنْتُم عَنهُ معرضون (68) مَا كَانَ}

64

قَوْله تَعَالَى: {إِن ذَلِك لحق تخاصم أهل النَّار} أَي: مُرَاجعَة بَعضهم بَعْضًا القَوْل بِمَنْزِلَة المتخاصمين.

65

قَوْله تَعَالَى: {قل أَنما أَنا مُنْذر وَمَا من إِلَه إِلَّا الله الْوَاحِد القهار} أَي: أَنا الرَّسُول الْمُنْذر، وَالله الْوَاحِد القهار [القاهر] عباده بِمَا يُرِيد.

66

قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الْعَزِيز الْغفار} أَي: المنيع فِي ملكه، الْغفار لذنوب عباده.

67

قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ نبأ عَظِيم} أَي: الْقُرْآن نبأ عَظِيم، وَقيل: ذُو شَأْن عَظِيم، وَأول بَعضهم النبأ الْعَظِيم بالقيامة،

68

وَقَوله: {انتم عَنهُ معرضون} أَي: عَنهُ لاهون، وَله تاركون.

69

قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لي من علم بالملأ الْأَعْلَى إِذْ يختصون} ذهب أَكثر أهل التَّفْسِير إِلَى أَن المُرَاد بالملأ الْأَعْلَى هم الْمَلَائِكَة، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره. وَقَوله: {إِذْ يختصمون} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ هُوَ قَوْلهم لله تَعَالَى فِي أَمر آدم: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء} الْآيَة إِلَى آخرهَا. وَأما الْمَأْثُور عَن النَّبِي فِي الْآيَة فَهُوَ مَا رَوَاهُ معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ " أَن النَّبِي احْتبسَ عَنَّا ذَات غَدَاة حَتَّى كدنا نتراءى عين الشَّمْس، ثمَّ خرج سَرِيعا، وثوب بِالصَّلَاةِ، وَصلى رَكْعَتَيْنِ تجوز فيهمَا، ثمَّ قَالَ: هَل تَدْرُونَ بِمَا احْتبست عَنْكُم؟ فَقُلْنَا: لَا. فَقَالَ: إِنِّي قُمْت من اللَّيْل وتطهرت وَصليت مَا شَاءَ الله، ثمَّ نَعَست واستثقلت،

{لي من علم بالملأ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون (69) إِن يُوحى إِلَيّ إِلَّا أَنما أَنا نَذِير مُبين} ) فَإِذا رَبِّي فِي أحسن صُورَة. فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، قلت: لبيْك. فَقَالَ: اتدري فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ فَقلت: لَا فَوضع كَفه بَين كَتِفي حَتَّى وجدت برد أنامله فِي ثندوتي؛ فتجلى لي كل شَيْء، وعرفته. ثمَّ قَالَ لي: يَا مُحَمَّد، أَتَدْرِي فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ فَقلت: نعم فِي الْكَفَّارَات، قَالَ: مَا هن؟ قلت: فِي مشي الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات، وإسباغ الْوضُوء على المكروهات، وَالْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد بعد الصَّلَاة. قَالَ: وفيم أَيْضا؟ قلت: فِي إطْعَام الطَّعَام، ولين الْكَلَام، وَالصَّلَاة بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام. فَقَالَ لي: سل يَا مُحَمَّد. فَقلت: أَسأَلك فعل الْخيرَات، وَترك الْمُنْكَرَات، وَحب الْمَسَاكِين، وَأَن تغْفر لي وترحمني، وَأَسْأَلك حبك، وَحب من يجبك وَحب عمل يقربنِي إِلَى حبك. ثمَّ قَالَ النَّبِي: " إنَّهُنَّ حق فادرسوهن وتعلموهن " قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَقد روى هَذَا الْخَبَر بِوُجُوه أخر، وَلم يذكر فِي بَعْضهَا النّوم، وأصحها هَذِه الرِّوَايَة، وَالله أعلم. وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن الْمَلأ الْأَعْلَى هم أَشْرَاف قُرَيْش واختصامهم أَن بَعضهم قَالُوا: الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وَبَعْضهمْ قَالُوا غير ذَلِك، فَهُوَ اختصامهم، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول.

( {70) إِذْ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي خَالق بشرا من طين (71) فَإِذا سويته ونفخت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين (72) فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيس استكبر وَكَانَ من الْكَافرين (74) قَالَ يَا إِبْلِيس مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي أستكبرت أم كنت من العالين (75) قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين} واختصام الْمَلَائِكَة هُوَ كَلَامهم فِي هَذِه الْأَعْمَال، وأقدار المثوبة فِيهَا، وَزِيَادَة بعض الْأَعْمَال على الْبَعْض فِي الثَّوَاب.

70

قَوْله تَعَالَى: {إِن يُوحى إِلَيّ إِلَّا أَنما أَنا نَذِير مُبين} أَي: مَا يُوحى إِلَيّ إِلَّا أَنما أَنا نَذِير مُبين.

71

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي خَالق بشرا من طين} يَعْنِي: آدم صلوَات الله عَلَيْهِ

72

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا سويته} أَي: جمعت خلقه وأتممته. وَقَوله: {ونفخت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين} ظَاهر الْمَعْنى.

73

قَوْله تَعَالَى: {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس استكبر وَكَانَ من الْكَافرين} قد بَينا،

75

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا إِبْلِيس مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي} قد بَينا. وَقَوله: {أستكبرت} أَي: تعظمت، وَقَوله: {أم كنت من العالين} أَي: من الْقَوْم المتكبرين، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ إِبْلِيس من أَشْرَاف الْمَلَائِكَة، وَكَانَ خَازِن الْجنان، وَأمين السَّمَاء الدُّنْيَا، فَأَعْجَبتهُ نَفسه، وَرَأى أَن لَهُ فضلا على غَيره، فَلَمَّا أمره الله تَعَالَى بِالسُّجُود لآدَم امْتنع لذَلِك الَّذِي كَانَ فِي نَفسه.

76

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين} وَإِنَّمَا قَالَ إِبْلِيس هَذَا لِأَنَّهُ [ظن] أَن الدُّنْيَا فضلا على الطين، وَلم يكن على مَا ظن، بل الْفضل لمن أعطَاهُ الله الْفضل.

77

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم} أَي: مرجوم، والمرجوم: هُوَ المبعد

( {76) قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم (77) وَإِن عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدّين (78) قَالَ رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون (79) قَالَ فَإنَّك من المنظرين (80) إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم (81) قَالَ فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين (83) قَالَ فَالْحق وَالْحق أَقُول (84) لأملأن جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تبعك مِنْهُم أَجْمَعِينَ (85) قل} باللعنة،

78

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدّين} أَي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: إِلَى يَوْم الْحساب.

79

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون} أَي: أمهلني،

80

وَقَوله: {قَالَ فَإنَّك من المنظرين إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم} أَي: إِلَى نفخ الصُّور، وَهُوَ النفخة الأولى، وَإِنَّمَا أَرَادَ اللعين أَن يُمْهل إِلَى النفخة الثَّانِيَة فينجو من الْمَوْت، فَعلم الله تَعَالَى مُرَاده، فَلم يجبهُ إِلَى مُرَاده، وأمهله إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور للنفخة الأولى، وَيَمُوت الْخلق فَيَمُوت مَعَهم.

82

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ} أَي: لأضلنهم أَجْمَعِينَ.

83

وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} أَي: الَّذين أخلصتهم لنَفسك.

84

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَالْحق وَالْحق أَقُول} وَقُرِئَ: " فَالْحق وَالْحق أَقُول "، أما الْقِرَاءَة بِالنّصب فيهمَا فعلى معنين: أَحدهمَا: حَقًا حَقًا أَقُول: وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَن الأول نصب على معنى أَقُول الْحق، وَالثَّانِي: نصب على الإغراء كَأَنَّهُ قَالَ: الزموا الْحق، ذكره الْأَزْهَرِي، وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة قَوْله: {فَالْحق} أَي: أَنا الْحق، وَقيل: مني الْحق، وَقَوله: {وَالْحق} أَي: أَقُول الْحق،

85

وَقَوله: {لأملأن جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تبعك مِنْهُم أَجْمَعِينَ} ظَاهر الْمَعْنى.

86

قَوْله: {قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر} أَي: من جعل، وَقَوله: {وَمَا أَنا من المتكفلين} أَي: لم أقل مَا قلته من تِلْقَاء نَفسِي، وكل من قَالَ شَيْئا من تِلْقَاء نَفسه فقد تكلّف لَهُ.

{مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر وَمَا أَنا من المتكلفين (86) إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حِين (88) .}

87

قَوْله تَعَالَى: {إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: مَا هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين أَي: شرف للْعَالمين تذكير لَهُم.

88

قَوْله تَعَالَى: {ولتعلمن نبأه بعد حِين} أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: بعد الْمَوْت، وَقيل: يَوْم بدر، وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول: يَا ابْن آدم، عِنْد الْمَوْت يَأْتِيك الْخَبَر.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم (1) إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ فاعبد الله مخلصا لَهُ الدّين (2) أَلا لله الدّين الْخَالِص وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء مَا} تَفْسِير سُورَة الزمر وَيُقَال: سُورَة الغرف، وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {الله نزل أحسن الحَدِيث} وَإِلَّا قَوْله تَعَالَى: {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} وَعَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: من أحب أَن يعرف قَضَاء الله تَعَالَى بَين خلقه، فليقرأ سُورَة الغرف.

الزمر

قَوْله تَعَالَى: {تَنْزِيل الْكتاب} الْآيَة. مَعْنَاهُ: هَذَا تَنْزِيل الْكتاب، وَيُقَال: تَنْزِيل الْكتاب، مُبْتَدأ، وَخَبره " من الله "، وَقَوله: {الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْعَزِيز فِي ملكه، الْحَكِيم فِي أمره.

2

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ} أَي: بِمَا حق إنزاله لما حكمت بذلك فِي كتب الْمُتَقَدِّمين، وَيُقَال: بِالْحَقِّ أَي: بحقي عَلَيْك وعَلى جَمِيع خلقي. وَقَوله {فاعبد الله مخلصا لَهُ الدّين} الْإِخْلَاص هُوَ التَّوْحِيد، وَيُقَال: الْإِخْلَاص هُوَ تصفية النِّيَّة فِي طَاعَة الله تَعَالَى.

3

وَقَوله: {أَلا لله الدّين الْخَالِص} أَي: الدّين الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شرك هُوَ لله أَي: وَاقع بِرِضَاهُ، وَأما الدّين الَّذِي فِيهِ شرك فَلَيْسَ لله، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا؛ لِأَنَّهُ قد يُوجد دين وَلَا تَوْحِيد وَلَا إخلاص مِنْهُ، وَيُقَال: {أَلا لله الدّين الْخَلَاص} يَعْنِي: هُوَ يَنْبَغِي أَن يوحد، وَلَا يُشْرك بِهِ سواهُ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي لغيره، وَعَن قَتَادَة قَالَ: أَلا لله الدّين الْخَالِص: هُوَ قَول الْقَائِل لَا إِلَه إِلَّا الله. قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء} أَي: من دون الله أَوْلِيَاء { [مَا] نعبدهم} قَرَأَ ابْن عَبَّاس [وَابْن] مَسْعُود وَمُجاهد قَالُوا: {مَا نعبدهم} ، وَفِي

{عبدهم إِلَّا ليقربونا إِلَى الله زلفى إِن الله يحكم بَينهم فِي مَا هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِن إِن الله لَا يهدي من هُوَ كَاذِب كفار (3) لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لأصطفى مِمَّا يخلق مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ الله الْوَاحِد القهار (4) خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ يكور اللَّيْل على النَّهَار ويكور النَّهَار على اللَّيْل وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر كل يجْرِي لأجل مُسَمّى أَلا هُوَ} حرف أبي بن كَعْب: {مَا نعبدكم} ، وَالْمعْنَى على الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة أَي: قَالُوا مَا نعبدهم، أَو يَقُولُونَ: مَا نعبدهم أَي: مَا نعْبد الْمَلَائِكَة {إِلَّا ليقربونا إِلَى الله زلفى} أَي: الْقرْبَة. وَمعنى الْآيَة: انهم يشفعون لنا عِنْد الله. وَقَوله: {إِن الله يحكم بَينهم فِيمَا هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يهدي من هُوَ كَاذِب كفار} أَي: كَاذِب على الله، كفار بنعم الله تَعَالَى.

4

قَوْله تَعَالَى: {لَو أَرَادَ الله أَن يتَّخذ ولدا لاصطفى} أَي لاختار {مِمَّا يخلق} ثمَّ نزه نَفسه، فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ} يَعْنِي: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يفعل، وَلَا يَلِيق بِطَهَارَتِهِ. وَقَوله: {هُوَ الله الْوَاحِد القهار} أَي: الْوَاحِد فِي ذَاته، القهار لِعِبَادِهِ.

6

قَوْله تَعَالَى: {خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} أَي: آدم، وَقَوله: {وَخلق مِنْهَا زَوجهَا} أَي: حَوَّاء، وَقد بَينا أَنه خلقهَا من ضلع من أضلاعه. وَقَوله: {وَأنزل لكم من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج} أَي: وَخلق لكم من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يواري سوءاتكم} أَي: خلقنَا، وَمثل قَوْله: {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} أَي:

{الْعَزِيز الْغفار (5) خَلقكُم من نفس وَاحِدَة ثمَّ جعل مِنْهَا زَوجهَا وَأنزل لكم من الْأَنْعَام ثَمَانِيَة أَزوَاج يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلق فِي ظلمات ثَلَاث ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تصرفون (6) إِن تكفرُوا فَإِن الله غَنِي عَنْكُم وَلَا} خلقنَا، وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى خلق الْأَنْعَام فِي سَمَاء الدُّنْيَا [ثمَّ] . أنزلهَا إِلَى الأَرْض، وَهِي ثَمَانِيَة أَزوَاج: جمل وناقة، وثور وبقرة، وكبش ونعجة، وتيس وعنز. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الله تَعَالَى أنزل على آدم المعلاة والمطرقة والكلبتين، وَكَانَ على جبل، فَرَأى قَضِيبًا ثَابتا من حَدِيد؛ فَأَخذه وَضرب بِهِ الْأَشْجَار، وَكَانَت يابسة، فتكسرت يَعْنِي: الْأَشْجَار ثمَّ أورى نَارا من الْحَدِيد وَالْحجر، وأوقد بالأشجار على الْحَدِيد حَتَّى ذاب، ثمَّ ضرب مِنْهُ مدية، ثمَّ بعد ذَلِك اتخذ مِنْهُ تنورا، وَهُوَ التَّنور الخابزة، وَذَلِكَ أول مَا اتَّخذهُ آدم. وَقَوله: {يخلقكم فِي بطُون أُمَّهَاتكُم خلقا من بعد خلق} أَي: نطفا ثمَّ علقا ثمَّ مضغا ثمَّ عظاما. وَقَوله: {فِي ظلمات ثَلَاث} قَالَ ابْن عَبَّاس: ظلمَة الْبَطن، وظلمة الرَّحِم، وظلمة المشيمة. وَعَن بَعضهم: ظلمَة الصلب، وظلمة الرَّحِم، وظلمة الْبَطن، وَهَذَا لِأَن الْوَلَد يخلق حِين يخلق فِي الرَّحِم، ثمَّ يرْتَفع إِلَى الْبَطن. قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تصرفون} أَي: عَن الْحق،

7

قَوْله تَعَالَى: {إِن تكفرُوا فَإِن الله غَنِي عَنْكُم وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يرضى لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ الْكفْر. وَالْآخر: أَنه لَا يرضى لجَمِيع عباده الْكفْر، وعَلى هَذَا القَوْل فرق بَين الْإِرَادَة وَبَين الرِّضَا، فَقَالَ: إِن الْمعاصِي بِإِرَادَة الله تَعَالَى وَلَيْسَت بِرِضَاهُ ومحبته، وَقد نقل هَذَا

{يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر وَإِن تشكروا يرضه لكم وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (7) وَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ دَعَا ربه منيبا إِلَيْهِ ثمَّ إِذا خوله نعْمَة مِنْهُ نسي مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ من قبل وَجعل لله} عَن قَتَادَة، وكلا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمل. وَالثَّانِي هُوَ الأولى وَالْأَقْرَب بِمذهب السّلف. وَقَوله: {وَإِن تشكروا يرضه لكم} أَي: يخْتَار الشُّكْر لكم، وَقَوله: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} أَي: لَا يحمل على أحد ذَنْب أذنبه غَيره، وَقَوله: {ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} .

8

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ} أَي: بلَاء وَشدَّة {دَعَا ربه منيبا إِلَيْهِ} رَاجعا إِلَيْهِ، وَقَوله: {ثمَّ إِذا خوله} أَي: أعطَاهُ، قَالَ الشَّاعِر: (أعْطى فَلم يبخل وَلم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول) وَقَوله: {نعْمَة مِنْهُ} أَي: عَطِيَّة مِنْهُ، وَقَوله: {نسي مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ من قبل} أَي: نسي دعاءه الَّذِي كَانَ يَدْعُو من قبل، وَيُقَال: نسي الله الَّذِي كَانَ يَدعُوهُ من قبل. وَقَوله: {وَجعل لله أندادا} أَي: وصف الله بِالْأَنْدَادِ والأشباه، وَقَوله: {ليضل عَن سَبيله} أَي: عَن سَبِيل الْحق. وَقَوله: {قل تمتّع بكفرك قَلِيلا إِنَّك من أَصْحَاب النَّار} أَي: يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة بن عبد الله المَخْزُومِي، وَقيل: فِي كل كَافِر.

9

قَوْله تَعَالَى: {أَمن هُوَ قَانِت} وَقُرِئَ: " أَمن هُوَ قَانِت " أَي: مُطِيع، وَقيل: قَائِم، وَقَوله: {آنَاء اللَّيْل} أَي: سَاعَات اللَّيْل، وَقَوله: {سَاجِدا وَقَائِمًا} أَي: سَاجِدا على وَجهه، قَائِما على رجلَيْهِ كمن لَيْسَ حَاله هَذَا، وَهُوَ مَا ذكرنَا من قبل، وَقيل: أَهَذا أفضل أَو هَذَا؟ وَأما الْقِرَاءَة بِالتَّخْفِيفِ فَفِيهِ قَولَانِ:

{أندادا ليضل عَن سَبيله قل تمتّع بكفرك قَلِيلا إِنَّك من أَصْحَاب النَّار (8) أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل سَاجِدا وَقَائِمًا يحذر الْآخِرَة ويرجو رَحْمَة ربه قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ إِنَّمَا يتَذَكَّر أولُوا الْأَلْبَاب (9) قل يَا عباد الَّذين آمنُوا اتَّقوا} أَحدهمَا أَمن هُوَ قَانِت كمن لَيْسَ بقانت، وَالْقَوْل الآخر: مَعْنَاهُ: يَا من هُوَ قَانِت عل النداء، قَالَ الشَّاعِر: (أبني لبينى لَسْتُم بيد ... إِلَّا يدا لَيست لَهَا عضد) أَي: يَا بني لبيني، وَاخْتلف القَوْل فِي أَن الْآيَة فِيمَن نزلت، فَعَن ابْن عمر. أَنَّهَا نزلت فِي عُثْمَان بن عَفَّان، وَعَن الضَّحَّاك: أَنَّهَا نزلت فِي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَحكى الْكَلْبِيّ: أَنَّهَا نزلت فِي ابْن مَسْعُود وعمار وسلمان، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَبُو ذَر وصهيب مَعَهم. وَقَوله: {يحذر الْآخِرَة} أَي: يخَاف الْآخِرَة (ويرجو رَحْمَة ربه) أَي: يطْمع فِي رَحْمَة ربه. وَقَوله: {قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} بِمَعْنى: لَا يستوون، وَيُقَال: الَّذين يعلمُونَ هم الْمُؤْمِنُونَ، وَالَّذين لَا يعلمُونَ هم الْكفَّار، وَيُقَال: الَّذين يعلمُونَ الْعلمَاء، وَالَّذين لَا يعلمُونَ الْجُهَّال. وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقرأنه قَالَ: الَّذين يعلمُونَ محبونا وشيعتنا، وَالَّذين لَا يعلمُونَ أعداؤنا، وَقَوله: {إِنَّمَا يتَذَكَّر أولو الْأَلْبَاب} أَي: أولو الْعُقُول.

10

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا عباد الَّذين آمنُوا اتَّقوا ربكُم} أَي: احْذَرُوا ربكُم وخافوه. وَقَوله: {للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة} أَحْسنُوا أَي: آمنُوا، وَيُقَال: أَحْسنُوا بِطَاعَة الله، وَقَوله: {فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة} أَي: الصِّحَّة والعافية، وَقيل: الرزق الْوَاسِع، وَيُقَال: الْعَيْش فِي طَاعَة الله.

{ربكُم للَّذين أَحْسنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَة وَأَرْض الله وَاسِعَة إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب (10) قل إِنِّي أمرت أَن أعبد الله مخلصا لَهُ الدّين (11) وَأمرت لِأَن أكون أول الْمُسلمين (12) قل إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم (13) قل} وَقَوله: {وَأَرْض الله وَاسِعَة} قَالَ سعيد بن جُبَير: من أَمر بِالْمَعَاصِي فليهرب، وَفِي الْآيَة أَمر بِالْهِجْرَةِ عَن الْبَلَد الَّذِي تظهر فِيهِ الْمعاصِي إِلَى بلد لَا تظهر فِيهِ الْمعاصِي، وَيُقَال فِيهِ: أَرض الله وَاسِعَة أَي: الْمَدِينَة، فَأمر بالمهاجرة من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَيُقَال: نزلت الْآيَة فِي جَعْفَر بن أبي طَالب وَأَصْحَابه، حَيْثُ هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى الْحَبَشَة. وَقَوله: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ} أَي: الغربة وَالْخُرُوج من الوطن فِرَارًا بدينهم {أجرهم بِغَيْر حِسَاب} أَي: بِغَيْر تَقْدِير، وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " لما أنزل الله تَعَالَى: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} رب زد أمتِي، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مثل الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله كَمثل حَبَّة أنبتت سبع سنابل} ثمَّ قَالَ: زد أمتِي؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} . وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كل مُطِيع يُكَال كَيْلا ويوزن وزنا إِلَّا الصَّابِرُونَ؛ فَإِنَّهُم يحثى لَهُم حثيا.

11

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي أمرت أَن أعبد الله مخلصا لَهُ الدّين} أَي: مخلصا لَهُ التَّوْحِيد، وإخلاص التَّوْحِيد: أَن لَا تشرك بِهِ غَيره.

12

وَقَوله: {وَأمرت لِأَن أكون أول الْمُسلمين} أَي: أول الْمُسلمين من قُرَيْش، قَوْله

{الله أعبد مخلصا لَهُ ديني (14) فاعبدوا مَا شِئْتُم من دونه قل إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة أَلا ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين (15) لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار وَمن تَحْتهم ظلل ذَلِك يخوف الله بِهِ عباده يَا عباد فاتقون (16) وَالَّذين اجتنبوا الطاغوت أَن يعبدوها وأنابوا إِلَى الله لَهُم الْبُشْرَى فبشر عباد (17) الَّذين}

13

تَعَالَى {قل إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم} أَي: عصيت رَبِّي بالشرك. وَقيل بالشرك وَغَيره، وَيجوز أَن يكون الْخطاب مَعَه، وَالْمرَاد بِهِ الْأمة.

14

قَوْله تَعَالَى: {قل الله أعبد مخلصا لَهُ ديني} أَي: توحيدي،

15

وَقَوله: {فاعبدوا مَا شِئْتُم من دونه} هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد. وَقَوله: {قل إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة} فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى خسران الأهلين؟ قُلْنَا: الْجَواب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه مَا من أحد إِلَّا وباسمه أهل فِي الْجنَّة، فَإِذا كفر وَأدْخل النَّار خسر أَهله على معنى أَنه يُعْطي الَّذِي كَانَ باسمه غَيره. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن خسران النَّفس بإدخاله النَّار، وخسران الْأَهْل بِأَن يفرق بَينه وَبَين أَهله. وَقَوله: {أَلا ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين} أَي: الْبَين،

16

قَوْله تَعَالَى: {لَهُم من فَوْقهم ظلل من النَّار} والظلل: جمع الظلة، والظلة: الْجَبَل، وَالْمرَاد من قَوْله: " ظلل " كَثْرَة الْعَذَاب، وَقَوله: {وَمن تَحْتهم ظلل} قد بَينا. وَقَوله: {ذَلِك يخوف الله بِهِ عباده} أَي: يُحَذرهُمْ. وَقَوله: {يَا عباد فاتقون} أَي: فاحذروا عَذَابي.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اجتنبوا الطاغوت أَن يعبدوها} أَي: الشَّيْطَان، وَيُقَال: الطاغوت اسْم أعجمي، وَقيل: اسْم عَرَبِيّ مُشْتَقّ من الطغيان. وَقَوله: {وأنابوا إِلَى الله} أَي: رجعُوا إِلَى الله.

{يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب (18) أَفَمَن حق عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب أفأنت تنقذ من فِي النَّار (19) لَكِن الَّذين اتَّقوا رَبهم لَهُم غرف من فَوْقهَا غرف مَبْنِيَّة تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وعد الله لَا يخلف الله} وَقَوله: {لَهُم الْبُشْرَى} أَي: الْبشَارَة بِالْجنَّةِ، وَقَوله: {فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} . فِي الْآيَة أقاويل: أَحدهَا: يَسْتَمِعُون القَوْل أَي: الْقُرْآن، فيتبعون أحْسنه، وَالْأَحْسَن هُوَ الْعَفو، والانتصار على الظَّالِم مَذْكُور فِي الْقُرْآن، وَالْعَفو مَذْكُور، وَالْعَفو أحسن الْأَمريْنِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: يَسْتَمِعُون القَوْل أَي: يَسْتَمِعُون الْقُرْآن وَغير الْقُرْآن. وَقَوله: {فيتبعون أحْسنه} أَي: الْقُرْآن، وَقَالَ بَعضهم: يَسْتَمِعُون الرُّخص والعزائم، فيتبعون أحْسنهَا أَي: العزائم. وَالْقَوْل الرَّابِع: يَسْتَمِعُون القَوْل أَي: الْكَلَام، فيتبعون أحْسنه أَي: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، وَقَوله: {أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله} أَي: أرشدهم الله إِلَى الْحق. وَقَوله: {وَأُولَئِكَ هم أولُوا الْأَلْبَاب} أَي: أولُوا الْعُقُول.

19

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن حق عَلَيْهِ كلمة الْعَذَاب} كلمة الْعَذَاب: قَوْله تَعَالَى: {لأملأن جَهَنَّم من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} وَيُقَال: كلمة الْعَذَاب: قَوْله " هَؤُلَاءِ فِي النَّار وَلَا أُبَالِي ". وَقَوله: {أفأنت تنقذ من فِي النَّار} أَي: لَا تنفذه،

20

قَوْله تَعَالَى: {لَكِن الَّذين اتَّقوا رَبهم لَهُم غرف من فَوْقهَا غرف مَبْنِيَّة تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وعد الله لَا يخلف الله الميعاد} أَي: ميعاده.

21

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فسلكه ينابيع فِي الأَرْض} أَي:

{الميعاد (20) ألم تَرَ أَن الله أنزل من السَّمَاء مَاء فسلكه ينابيع فِي الأَرْض ثمَّ يخرج بِهِ زرعا مُخْتَلفا ألوانه ثمَّ يهيج فتراه مصفرا ثمَّ يَجعله حطاما إِن فِي ذَلِك لذكرى لأولي الْأَلْبَاب (21) أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه فويل للقاسية قُلُوبهم} أجراه أَنهَارًا فِي الأَرْض. وَقَوله: {ثمَّ يخرج بِهِ زرعا مُخْتَلفا ألوانه} أَي: أصفر وأحمر وأخضر. وَقَوله: {ثمَّ يهيج} أَي: ييبس، يُقَال: هاج النَّبَات إِذا يبس. وَقَوله: {فتراه مصفرا} أَي: ترى النَّبَات مصفرا، وَقَوله: {ثمَّ يجعلهه حطاما} أَي: فتاتا، وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لذكرى لأولي الْأَلْبَاب} ظَاهر الْمَعْنى، والذكرى هِيَ: التَّذْكِرَة.

22

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه} أَي: وسع الله صَدره لِلْإِسْلَامِ. وَقَوله: {فَهُوَ على نور من ربه} فِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل النُّور فِي قلب الْمُؤمن انْشَرَحَ وأنفسح، قيل يَا رَسُول الله، وَهل لذَلِك من عَلامَة؟ قَالَ: نعم؛ التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور، والإنابة إِلَى دَار الخلود، والاستعداد للْمَوْت قبل حُلُول الْمَوْت ". وَقَوله: {فَهُوَ على نور من ربه} يحْتَمل أَن يكون النُّور قبل أَن يسلم، وَيحْتَمل أَن يكون بعد الْإِسْلَام، ثَمَرَة إِسْلَامه، وَأما شرح الصَّدْر: هُوَ التوطئة لِلْإِسْلَامِ والتمهيد لَهُ. وَقَوله: {فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله} أَي: الَّذين لَا يذكرُونَ الله، وكل من ترك ذكر الله فقد قسا قلبه، قَوْله: {أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين} أَي: بَين.

{من ذكر الله أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين (22) الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها مثاني تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله ذَلِك هدى}

23

قَوْله تَعَالَى: {الله نزل أحسن الحَدِيث} أَي: الْقُرْآن، وَسَماهُ حَدِيثا؛ لِأَنَّهُ حَدِيث إنزاله، وَقيل: " الله نزل أحسن الحَدِيث " أَي: أحسن الْكَلَام. وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " فضل كَلَام الله على كَلَام خلقه كفضله على خلقه ". وَقَوله: {كتابا متشابها} أَي: يشبه بعضه بَعْضًا فِي الصدْق وَصِحَّة الْمَعْنى، وَيُقَال: متشابها أَي: الْآيَة بعد الْآيَة، وَالسورَة بعد السُّورَة. وَقَوله: {مثاني} أَي: ثنى فِيهِ ذكر الْوَعْد والوعيد، وَذكر الْأَمر وَالنَّهْي، وَيُقَال: مثاني أَي: الْآيَة بعد الْآيَة، وَالسورَة بعد السُّورَة. وَقَوله: {تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم} أَي: قُلُوب الَّذين يَخْشونَ رَبهم؛ فكنى بالجلود عَن الْقُلُوب، وَيُقَال: معنى الْجُلُود هِيَ نفس الْجُلُود، وَفِي بعض الْآثَار: " من أَخَذته قشعريرة من خوف الله تَعَالَى تحاتت عَنهُ خطاياه كَمَا يتحايت ورق الشّجر ". وَقَوله: {ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله} أَي: بِذكر الله، وَحَقِيقَة

{الله يهدي بِهِ من يَشَاء وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (23) أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة وَقيل للظالمين ذوقوا مَا كُنْتُم تكسبون (24) كذب الَّذين من قبلهم فَأَتَاهُم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فأذاقهم الله الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ (26) وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل لَعَلَّهُم يتذكرون (27) قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (28) ضرب الله} الْمَعْنى: أَن قُلُوبهم تقشعر عِنْد الْخَوْف، وتلين عِنْد الرَّجَاء. وَقَوله: {ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء} أَي: من يَشَاء من عباده، وَقَوله: {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} أَي: من مرشد.

24

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه سحب فِي النَّار سحبا على وَجهه. وَالْقَوْل الآخر: أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب؛ لِأَن يَد الْكَافِر تكون مغلولة، فيتقي بِوَجْهِهِ الْعَذَاب، كَمَا يَتَّقِي الرجل بِيَدِهِ. وَقَوله: {وَقيل للظالمين ذوقوا مَا كُنْتُم تكسبون} ظَاهر الْمَعْنى.

25

وَقَوله: {كذب الَّذين من قبلهم} أَي: بالقيامة، وَقَوله: {فَأَتَاهُم الْعَذَاب من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ.

26

قَوْله تَعَالَى: {فأذاقهم الله الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: الْعَذَاب الَّذِي يخزيهم، وَقَوله: {ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: عَذَاب الْآخِرَة وَهُوَ عَذَاب النَّار أكبر من كل عَذَاب.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل} أَي: شبه وَمِثَال، وَقَوله: {لَعَلَّهُم يتذكرون} أَي: يتذكرون مَا فِيهِ من الْأَمْثَال.

28

قَوْله تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج} أَي: أنزلنَا قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج أَي: غير ذِي لبس، قَالَ مُجَاهِد: وَيُقَال: غير مُخْتَلف؛ لِأَن بعضه يصدق الْبَعْض، وروى الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: غير ذِي عوج أَي: غير مَخْلُوق، وَحكى سُفْيَان بن

{مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هَل يستويان مثلا الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (29) إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون (30) ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم} عُيَيْنَة عَن سبعين من التَّابِعين: أَن الْقُرْآن لَيْسَ بخالق وَلَا مَخْلُوق، وَهَذَا اللَّفْظ أَيْضا مَنْقُول عَن عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين، وَقَوله: {لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} أَي: يَتَّقُونَ الله.

29

قَوْله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون} أَي: متعاسرون، وَقَوله: {ورجلا سلما لرجل} أَي: سلما خَالِصا لرجل، وَهَذَا ضرب مثل لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر؛ فَإِن الْكَافِر يعبد أصناما كَثِيرَة، وَالْمُؤمن لَا يعبد إِلَّا الله وَحده. وَقَوله: {هَل يستويان مثلا} أَي: شبها، وَقَوله: {الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} مَعْنَاهُ: الْحَمد لي على مَا بَينته من الْحق، وَقَوله: {بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَي: الْكفَّار.

30

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} أَي: سَتَمُوتُ، وَالْمَيِّت وَالْمَيِّت وَاحِد، وَفرق بَعضهم بَينهمَا؛ فَقَالَ: الْمَيِّت: هُوَ الَّذِي مَاتَ حَقِيقَة، وَالْمَيِّت هُوَ الَّذِي سيموت؛ قَالَ الشَّاعِر: (لَيْسَ من مَاتَ فاستراح بميت ... إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء) وَفَائِدَة الْآيَة أَن الله تَعَالَى بَين أَن مُحَمَّدًا يَمُوت لما علم من اخْتِلَاف أَصْحَابه فِي مَوته.

31

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون} ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة الزبير بن الْعَوام رَضِي الله عَنهُ انه قَالَ لرَسُول الله حِين نزلت هَذِه الْآيَة: {ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون} : " يَا رَسُول الله، أيكرر علينا مَا كَانَ بَيْننَا من خَواص الذُّنُوب؟ قَالَ رَسُول الله: نعم،

{تختصمون (31) فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله وَكذب بِالصّدقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون (33) } فَقَالَ الزبير: إِن الْأَمر إِذا لشديد ". وَعَن عبد الله بن عمر أَنه قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة: {ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون} لم ندر مَا هَذِه الْخُصُومَة حَتَّى وَقع بَين أَصْحَاب رَسُول الله مَا وَقع؛ فَعرفنَا أَنَّهَا هِيَ.

32

قَوْله تَعَالَى: {فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله} قَالَ مُجَاهِد وقتاة: كذبهمْ على الله: زعم الْيَهُود أَن عُزَيْرًا ابْن الله، وَزعم النَّصَارَى أَن الْمَسِيح ابْن الله. وَقَالَ بَعضهم: كذبهمْ على الله: تَكْذِيب أَنْبيَاء الله، وَقَالَ السّديّ: هُوَ الشّرك، وَزعم قُرَيْش أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله. وَقَوله: {وَكذب بِالصّدقِ إِذْ جَاءَهُ} أَي: بِالْقُرْآنِ إِذْ جَاءَهُ، وَيُقَال: بالرسول إِذْ جَاءَهُ. وَقَوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ} اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ} أظهر الْأَقَاوِيل: أَن معنى قَوْله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ} مُحَمَّد {وَصدق بِهِ} هم الْمُؤْمِنُونَ. وَفِي قِرَاءَة عبد الله ابْن مَسْعُود: " وَالَّذين جَاءُوا بِالصّدقِ وَصَدقُوا بِهِ " وَمعنى قَوْله: {وَالَّذين جَاءُوا بِالصّدقِ} هم الْمُؤْمِنُونَ {وَصَدقُوا بِهِ} أَي: صدقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَجَاءُوا بِالصّدقِ فِي الْآخِرَة، وَأول مُجَاهِد الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة على هَذَا. قَالَ أهل اللُّغَة: وَقد يذكر الَّذين وَالَّذِي بِمَعْنى وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر:

{لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (34) ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي} (وَإِن الَّذِي جاثت بفلح دِمَاؤُهُمْ ... هم الْقَوْم كل الْقَوْم يَا أم خَالِد) وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَصدق بِهِ هُوَ مُحَمَّد. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ مُحَمَّد وَصدق بِهِ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَه عَوْف بن عبد الله وَغَيره. وَالْقَوْل الرَّابِع: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ مُحَمَّد، وَصدق بِهِ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - حَكَاهُ لَيْث عَن مُجَاهِد وَقَوله: {أُولَئِكَ هم المتقون} ظَاهر الْمَعْنى.

34

قَوْله تَعَالَى: {لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم} أَي: مَا يختارون. هَذِه الْآيَة تدل على النَّائِم قد خرجت الرّوح من جسده، وَنحن نعلم قطعا أَن الرّوح فِي جسده، أَلا ترى أَنه يتنفس وَيرى الرُّؤْيَا، وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا مَعَ قيام الرّوح؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن النَّفس على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: النَّفس المميزة الَّتِي تكون لَهَا إِدْرَاك الْأَشْيَاء. وَالْآخر: هِيَ النَّفس الَّتِي بهَا الْحَيَاة، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ: " كَمَا تنامون تموتون، وكما تستيقظون تبعثون ". وَيُقَال: للْإنْسَان نفس وروح، فَعِنْدَ النّوم تخرج النَّفس وَتبقى الرّوح، وَهَذَا القَوْل قريب من القَوْل الأول. وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: تخرج الرّوح عِنْد النّوم وَيبقى شعاعه فِي الْجَسَد؛ فبذلك ترى الرُّؤْيَا، وَإِذا نبه من النّوم عَادَتْ الرّوح إِلَى جسده بأسرع من اللحظة، وَالله أعلم. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول عِنْد النّوم: " اللَّهُمَّ إِنَّك تتوفاها؛ فَإِن

{عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ (35) أَلَيْسَ الله بكاف عَبده ويخوفونك بالذين من دونه وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (36) وَمن يهد الله فَمَا لَهُ من مضل أَلَيْسَ الله بعزيز ذِي انتقام (37) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل أَفَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله إِن أرادني الله بضر هَل هن كاشفات ضره أَو أرادني برحمة هَل هن ممسكات رَحمته قل حسبي الله عَلَيْهِ يتوكل المتوكلون (38) قل يَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل فَسَوف تعلمُونَ (39) من يَأْتِيهِ عذاي يجْزِيه وَيحل عَلَيْهِ عَذَاب مُقيم (40) إِنَّا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب للنَّاس بِالْحَقِّ فَمن اهْتَدَى فلنفسه وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل (41) الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها فَيمسك الَّتِي قضى عَلَيْهَا الْمَوْت وَيُرْسل الْأُخْرَى إِلَى أجل مُسَمّى إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (42) أم اتَّخذُوا من دون الله شُفَعَاء قل أَو لَو} أَمْسَكتهَا فَاغْفِر لَهَا وارحمها، وَإِن أرسلتها فاحفظها بِمَا تحفظ بِهِ عِبَادك الصَّالِحين ".

42

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} أَي: لعبرا لقوم يتفكرون فِي آيَاتنَا.

43

قَوْله تَعَالَى: {أم اتَّخذُوا من دون الله شُفَعَاء} أَي: أصناما تشفع لَهُم، وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار والتوبيخ. وَقَوله: {قل أَو لَو كَانُوا لَا يملكُونَ شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ} أَي: طلبُوا الشَّفَاعَة مِمَّن لَا يملك شَيْئا وَلَا يعقل،

44

قَوْله تَعَالَى: {قل لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا} مَعْنَاهُ: أَنه لَا يشفع أحد إِلَّا بِإِذْنِهِ، فالشفاعة من عِنْده؛ لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَوله: {لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون} ظَاهر الْمَعْنى. وَرُوِيَ أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ للنَّبِي: لله خلق السَّمَوَات وَمَا فِيهِنَّ،

{كَانُوا لَا يمكلكون شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ (43) قل لله الشَّفَاعَة جَمِيعًا لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض ثمَّ إِلَيْهِ ترجعون (44) وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وَإِذا ذكر الَّذين من دونه إِذا هم يستبشرون (45) قل اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَنْت تحكم بَين عِبَادك فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) } وَخلق الأَرْض وَمَا فِيهِنَّ، وَخلق مَا بَينهم مِمَّا يعلم وَمِمَّا لَا يعلم.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت} أَي: نفرت وانقبضت، وَقَوله: {قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} أَي: الْكفَّار. وَفِي التَّفْسِير: أَن رَسُول الله كَانَ إِذا قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله نفروا جَمِيعًا (عَن) قَوْله. وَقَوله: {وَإِذا ذكر الَّذين من دونه إِذا هم يستبشرون} أَي: يفرحون، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت حِين ألْقى الشَّيْطَان على لِسَان النَّبِي من ذكر الْأَصْنَام بالشفاعة، وَهُوَ قَوْله: تِلْكَ الغرانيق العلى على مَا ذكرنَا، فَهُوَ معنى قَوْله: {إِذا هم يستبشرون} لأَنهم لما سمعُوا ذَلِك اسْتَبْشَرُوا وفرحوا، وَقَالُوا للنَّبِي: يَا مُحَمَّد، مَا كُنَّا نُرِيد مِنْك إِلَّا هَذَا، وَهُوَ أَلا تعيب آلِهَتنَا، وَلَا تذكرها إِلَّا بِالْخَيرِ، وَإِلَّا فَنحْن نعلم أَن الله خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.

46

قَوْله تَعَالَى: {قل اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: السِّرّ وَالْعَلَانِيَة. وَقَوله: {أَنْت تحكم بَين عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أَي: من أَمر دينهم، وَعَن بَعضهم قَالَ: صَحِبت الرّبيع بن خثيم كَذَا كَذَا سنة، فَلم أسمع مِنْهُ كلَاما إِلَّا ذكر الله تَعَالَى، فَلَمَّا قتل الْحُسَيْن - رَضِي الله عَنهُ - قُلْنَا: الْآن يتَكَلَّم بِشَيْء؛ فَأخْبر بذلك؛ فَلَمَّا سمع قَرَأَ هَذِه الْآيَة: {قل اللَّهُمَّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} الْآيَة.

{وَلَو أَن للَّذين ظلمُوا مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ من سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة وبدا لَهُم من الله مَا لم يَكُونُوا يحتسبون (47) وبدا لَهُم سيئات مَا كسبوا وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (48) فَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ دَعَانَا ثمَّ إِذا خولناه نعْمَة منا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم بل هِيَ فتْنَة وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (49) قد قَالَهَا الَّذين}

47

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن للَّذين ظلمُوا مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لافتدوا بِهِ} قد بَينا هَذَا من قبل، وَقد ثَبت عَن النَّبِي: " أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة للْكَافِرِ: أَرَأَيْت لَو كَانَ لَك ملْء الأَرْض ذَهَبا، أَكنت مفتديا بهَا؟ فَيَقُول: نعم. فَيَقُول الله تَعَالَى: سَأَلتك أَهْون من ذَلِك وَأَنت فِي صلب أَبِيك أَن لَا تشرك بِي شَيْئا؛ فأبيت إِلَّا أَن تشرك بِي ". وَقَوله: {من سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} أَي: من الْعَذَاب الْقَبِيح والشديد يَوْم الْقِيَامَة، وَقَوله: {وبدا لَهُم من الله مَا لم يَكُونُوا يحتسبون} أَي: ظهر لَهُم من الله مَا لم يأملوه، وَلم يكن فِي حسابهم وظنهم، وروى أَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر جزع عِنْد الْمَوْت؛ فَسئلَ عَن ذَلِك؛ فَقَالَ: أخْشَى أَن يَبْدُو لي من الله مَا لم أحتسب.

48

وَقَوله: {وبدا لَهُم سيئات مَا كسبوا} أَي: ظهر لَهُم مساوئ أَعْمَالهم. وَقَوله: {وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: نزل بهم جَزَاء مَا كَانُوا بِهِ يسخرون.

49

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا مس الْإِنْسَان ضرّ} أَي: شدَّة وبلية، وَقَوله: {دَعَانَا} أَي: طلب منا كشفه، وَقَوله: {ثمَّ إِذا خولناه نعْمَة منا} أَي: أعطيناه نعْمَة منا. وَقَوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم} أَي: أَعْطيته على علم أَي: لعلمي وجهدي، وَيُقَال: أَعْطيته على علم الله مِنْهُ - جلّ جَلَاله - أَنِّي أهل لما أعطانيه، وَيُقَال: على شرف مني وكرامة لي. وَقَوله: {بل هِيَ فتْنَة} أَي: اختبار وبلية، وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن مَا نعطي من النِّعْمَة اختبار وبلية.

{من قبلهم فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا كسبوا وَالَّذين ظلمُوا من هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سيئات مَا كسبوا وَمَا هم بمعجزين (51) أَو لم يعلمُوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (52) قل يَا عبَادي}

50

قَوْله تَعَالَى: {قد قَالَهَا الَّذين من قبلهم} أَي: قَالَ هَذِه الْكَلِمَة الَّذين من قبلهم، وَفِي التَّفْسِير: أَن المُرَاد من هَذَا هُوَ قَارون، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا أُوتِيتهُ على علم عِنْدِي. وَقَوله: {فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا يَكْسِبُونَ} أَي: لم يغن عَنْهُم مَا اكتسبوا شَيْئا.

51

قَوْله تَعَالَى: {فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا كسبوا وَالَّذين ظلمُوا من هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سيئات مَا كسبوا} أَي: يُصِيب الْكفَّار من هَذِه الْأمة من الْبلَاء والعقوبة مَا أصَاب الْأُمَم الْمَاضِيَة. وَقَوله: {وَمَا هم بمعجزين} أَي: بفائتين وَلَا سابقين.

52

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يعلمُوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} يبسط أَي: يُوسع، وَيقدر أَي: يقلل. وَفِي بعض الْأَخْبَار ((أَن الله يُخَيّر لعَبْدِهِ، فَإِن كَانَ الْخيرَة لَهُ فِي التَّوَسُّع وسع عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ الْخيرَة لَهُ فِي التضيق ضيق عَلَيْهِ)) (1) . وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون.

53

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم} يُقَال: نزلت الْآيَة فِي

{الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا إِنَّه هُوَ} وَحشِي مولي مطعم بن عدي، وَيُقَال: نزلت فِي قوم من رُؤَسَاء الْكفَّار أَسْلمُوا يَوْم فتح مَكَّة مثل: سُهَيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَغَيرهم. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم قَالُوا: إِن مُحَمَّدًا يَقُول: من أشرك بِاللَّه أَو زنا أَو قتل نفسا فقد هلك، وَنحن قد فعلنَا هَذَا كُله؛ فَكيف يكون حَالنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وروى أَن وحشيا لما أسلم كَانَ النَّبِي لَا يُطيق أَن يرَاهُ؛ فَظن وَحشِي أَن إِسْلَامه لم يقبل؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وروى ثَوْبَان عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا يسرني بِهَذِهِ الْآيَة الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " وَعَن زيد بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة أوسع آيَة فِي الْقُرْآن. وَعَن عبيد بن عُمَيْر: أَن آدم صلوَات الله عَلَيْهِ قَالَ: يَا رب، إِنَّك سلطت إِبْلِيس عَليّ وعَلى وَلَدي، وَإِنِّي لَا أُطِيقهُ إِلَّا بك. فَقَالَ: يَا آدم، إِنَّه لَا يُولد لَك ولد إِلَّا وكلت بِهِ من يحفظه، فَقَالَ: يَا رب، زِدْنِي فَقَالَ: بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح على ولدك لَا يغلق حَتَّى تقوم السَّاعَة. قَالَ: يَا رب، زِدْنِي، قَالَ: الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا والسيئة بِمِثْلِهَا. قَالَ: يَا رب، زِدْنِي، قَالَ: {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله} الْآيَة.

{الغفور الرَّحِيم (53) وأنيبوا إِلَى ربكُم وَأَسْلمُوا لَهُ من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب ثمَّ لَا تنْصرُونَ (54) وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب بَغْتَة} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " لَا تأيسوا من رَحْمَة الله "، وَهُوَ معنى قَوْله: {لَا تقنطوا} . وَقَوله: {إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا إِنَّه هُوَ الغفور الرَّحِيم} ظَاهر الْمَعْنى، قَالَ أهل التَّفْسِير: يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا إِن شَاءَ. وروى انه لما نزلت هَذِه الْآيَة؛ قَالَ رجل: " يَا رَسُول الله، وَمن أشرك؟ فَسكت النَّبِي، ثمَّ قَالَ: وَمن أشرك؟ قَالَ: إِلَّا من أشرك ". وروى أَن عبد الله بن مَسْعُود مر بقاص يقص، ويشدد على الْقَوْم فَقَالَ: أَيهَا الرجل، لَا تفعل كَذَلِك، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: " قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم " الْآيَة. وروى شهر بن حَوْشَب عَن أَسمَاء بنت يزِيد. " أَن النَّبِي قَرَأَ: " قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا وَلَا يُبَالِي " ذكره أَبُو عِيسَى فِي جَامعه.

54

قَوْله تَعَالَى {وأنيبوا إِلَى ربكُم} مَعْنَاهُ: وَارْجِعُوا إِلَى ربكُم، وَقَوله: {وَأَسْلمُوا لَهُ} أَي: وَأَخْلصُوا لَهُ، وَيُقَال: واستسلموا لَهُ، وَقَوله: {من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب ثمَّ لَا تنْصرُونَ} أَي: لَا تمْنَعُونَ.

55

قَوْله تَعَالَى: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} قد بَينا معنى الْأَحْسَن فِيمَا سبق، وَيُقَال: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} أَي: الْحسن الَّذِي أنزل إِلَيْكُم من ربكُم.

(وَأَنْتُم لَا تشعرون (55) أَن تَقول نفس يَا حسرتي على مَا فرطت فِي جنب الله وَإِن كنت لمن الساخرين (56) أَو تَقول لَو أَن الله هَدَانِي لَكُنْت من الْمُتَّقِينَ (57) أَو تَقول حِين ترى الْعَذَاب لَو أَن لي كرة فَأَكُون من الْمُحْسِنِينَ (58) بلَى قد جاءتك آياتي فَكَذبت بهَا واستكبرت وَكنت من الْكَافرين (59) وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على) وَقَوله: {من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب بَغْتَة} أَي: فَجْأَة {وَأَنْتُم لَا تشعرون} أَي: لَا تعلمُونَ.

56

قَوْله تَعَالَى: {أَن تَقول} مَعْنَاهُ: وَاتبعُوا طَاعَة الله حذرا وحذارا من أَن تَقول {نفس يَا حسرتا} أَي: يَا ندامتا، وَيُقَال: معنى قَوْله: {يَا حسرتا} أَي: يَا [أيتها] الْحَسْرَة هَذَا وقتك. وَقَوله: {على مَا فرطت فِي جنب الله} أَي: ضيعت فِي ذَات الله. وَقَالَ مُجَاهِد: فِي أَمر الله، وَقَالَ الْحسن: فِي طَاعَة الله، وَقيل: فِي ذكر الله، وَقَالَ بَعضهم: على مَا فرطت فِي الْجَانِب الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى رضى الله تَعَالَى، وَقيل: " فِي جنب الله " أَي: فِي قرب الله وجواره، حَكَاهُ النقاش وَغَيره. وَقَوله: {وَإِن كنت لمن الساخرين} أَي: من الْمُسْتَهْزِئِينَ.

57

قَوْله تَعَالَى: {أَو تَقول لَو أَن الله هَدَانِي لَكُنْت من الْمُتَّقِينَ} مَعْنَاهُ: على الْوَجْه الَّذِي بَينا من الحذار.

58

قَوْله تَعَالَى: {أَو تَقول حِين ترى الْعَذَاب لَو أَن لي كرة} أَي: رَجْعَة. وَقَوله: {فَأَكُون من الْمُحْسِنِينَ} أَي: الْمُحْسِنِينَ فِي طَاعَة الله.

59

قَوْله تَعَالَى: {بلَى قد جاءتك آياتي فَكَذبت بهَا واستكبرت} أَي: تكبرت، وَقَوله: {وَكنت من الْكَافرين} أَي: الجاحدين لنعمي. وَقَوله: {بلَى} فِي الِابْتِدَاء تَقْدِير تحسراتهم وتأسفهم ونداماتهم على مَا سبق.

{الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين (60) وينجي الله الَّذين اتَّقوا بمفازتهم لَا يمسهم السوء وَلَا هم يَحْزَنُونَ (61) الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل (62) لَهُ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله أُولَئِكَ هم الخاسرون (63)

60

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على وُجُوههم مسودة} وَمعنى كذبُوا على الله أَي: زَعَمُوا أَن الله اتخذ ولدا أَو شَرِيكا، وَيُقَال: هُوَ عَام فِي كل كذب على الله. وَقَوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين} هُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير،

61

قَوْله تَعَالَى: {وينجي الله الَّذين اتَّقوا بمفازاتهم} أَي بالطرق الَّتِي تؤديهم إِلَى الْفَوْز والنجاة. وَقَوله: {لَا يمسهم السوء وَلَا هم يَحْزَنُونَ} ظَاهر.

62

قَوْله تَعَالَى: {الله خَالق كل شَيْء وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل} أَي: حَافظ، وَيُقَال مُدبر الْأُمُور على مَشِيئَته.

63

قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: عِنْده خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَيُقَال: مَفَاتِيح الخزائن، وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ فِي تَفْسِير المقاليد: " سُبْحَانَ الله، وَالله أكبر، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالْحَمْد لله، وَأَسْتَغْفِر الله، وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، هُوَ الأول وَالْآخر، وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم ".

{قل أفغير الله تأمروني أعبد أَيهَا الجاهلون (64) وَلَقَد أُوحِي إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وَكن من الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قدرُوا الله حق قدره وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَوَات} فَهَذَا تَفْسِير المقاليد، وأنشدوا فِي الإقليد: (لم يؤده الديك بِصَوْت يعريك ... وَلم تعالج غلقا بإقليد) قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله أُولَئِكَ هم الخاسرون} أَي: خسروا الثَّوَاب وَحل بهم الْعقَاب.

64

قَوْله تَعَالَى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أَيهَا الجاهلون} روى أَن الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: اسْتَلم بعض آلِهَتنَا وَنحن نؤمن بك، وروى انهم قَالُوا: نعْبد إلهك سنة، وَتعبد آلِهَتنَا سنة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَوْله: {أَيهَا الجاهلون} أَي: الجاهلون بِاللَّه وسلطانه وَقدرته وعظمته.

65

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أُوحِي إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} يُقَال: هَذَا خطاب للرسول، وَالْمرَاد مِنْهُ غَيره، وَيجوز أَن يكون تأديبا للرسول، وتخويفا لَهُ ليتمسك بِمَا عَلَيْهِ. وَقَوله: {ولتكونن من الخاسرين} أَي: الَّذين خسروا جَمِيع مَا يأملون.

66

قَوْله تَعَالَى: {بل الله فاعبد وَكن من الشَّاكِرِينَ} خطاب للرسول. وَقَوله: {وَكن من الشَّاكِرِينَ} أَي: الشَّاكِرِينَ لنعمي.

67

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} مَعْنَاهُ: وَمَا عظموا الله حق عَظمته، وَيُقَال: مَا وصفوا الله حق صفته. وَقَوله: {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة} وَقد ثَبت بِرِوَايَة عبد الله بن مَسْعُود: أَن يَهُودِيّا أَتَى النَّبِي وَقَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يضع الله السَّمَوَات على

{مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ (67) وَنفخ فِي الصُّور فَصعِقَ من فِي} إِصْبَع، وَالْأَرضين على إِصْبَع، وَالْجِبَال على إِصْبَع، وَجَمِيع الْخَلَائق على إِصْبَع؛ فَضَحِك النَّبِي، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} وَفِي رِوَايَة: " فَضَحِك النَّبِي تَعَجبا وَتَصْدِيقًا لَهُ " وَالْخَبَر على الْوَجْه فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَفِي رِوَايَة [ابْن عمر] عَن النَّبِي: " إِن الله يقبض الأَرْض ويطوي السَّمَوَات بِيَمِينِهِ، ثمَّ يَقُول: أَنا الْملك، أَيْن مُلُوك الأَرْض؟ قَالَ ابْن عمر: وَجعل النَّبِي يَتَحَرَّك على منبره؛ حَتَّى قُلْنَا: يكَاد يسْقط ". وَفِي رِوَايَة: " جعل الْمِنْبَر يَتَحَرَّك هَكَذَا وَهَكَذَا ". وَفِي رِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا " أَن النَّبِي قَرَأَ: {وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} قَالَت عَائِشَة: فَأَيْنَ يكون النَّاس؟ قَالَ: على الصِّرَاط ". وروى أَنه قَالَ: " على جسر جَهَنَّم ". وَيُقَال: إِن قَبضته وَيَمِينه لَا بِوَصْف، قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كل مَا ورد فِي الْقُرْآن من هَذَا فتفسيره قِرَاءَته، حَكَاهُ النقاش وَغَيره. وَقيل: قَبضته قدرته، وَالْأول أولى بِمَا بَينا من قبل. وَقَوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ} نزه نَفسه عَمَّا وَصفه بِهِ الْمُشْركُونَ.

68

قَوْله تَعَالَى: {وَنفخ فِي الصُّور} روى عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يُشَاهد يَوْم الْقِيَامَة يَعْنِي: بِقَلْبِه فليقرأ آخر سُورَة الزمر.

{السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذا هم قيام ينظرُونَ (68) وأشرقت الأَرْض بِنور رَبهَا وَوضع الْكتاب وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء وَقضي بَينهم} وَأما الصُّور وَقد بَينا انه قرن ينْفخ فِيهِ، رَوَاهُ عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كَيفَ أنعم، والتقم صَاحب [الْقرن] ، وحنى جَبهته وأصغى سَمعه ينظر حَتَّى يُؤمر فينفخ ". وَقَوله: {فَصعِقَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض إِلَّا من شَاءَ الله} فِي قَوْله: {إِلَّا من شَاءَ الله} قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم الشُّهَدَاء، وَالْآخر: أَنهم جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت. وَفِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ وَغَيره: لَا يبْقى إِلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة بعد مَا ينْفخ فِي الصُّور، ثمَّ إِن الله تَعَالَى يقبض روح مِيكَائِيل، ويقبضه ملك الْمَوْت، ثمَّ روح إسْرَافيل، ثمَّ روح ملك الْمَوْت، ثمَّ يكون آخِرهم موتا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فيسقطون، وَيكون فضل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْهِم كفضل الْجَبَل على الظراب. وَقَوله: {ثمَّ ينْفخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذا هم قيام ينظرُونَ} أَي: ينظرُونَ مَاذَا يُؤمر فِي حَقهم، وَقد ثَبت عَن النَّبِي، بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن يَهُودِيّا قَالَ فِي سوق الْمَدِينَة: لَا وَالَّذِي اصْطفى مُوسَى على الْبشر؛ فَرفع رجل من الْأَنْصَار يَده وصك وَجهه، وَقَالَ: كذبت، فَذكرُوا ذَلِك للنَّبِي، فَقَالَ النَّبِي: " إِن الله تَعَالَى يبْعَث الْخلق فَأَكُون أول من يرفع رَأسه، فَإِذا مُوسَى آخذ بقائمة من قَوَائِم الْعَرْش؛ فَلَا أَدْرِي أبْعث قبلي أَو هُوَ مِمَّن اسْتثْنى الله تَعَالَى؟ ثمَّ قَالَ: من قَالَ أَنا خير من مُوسَى فقد كذب ".

69

قَوْله تَعَالَى: {وأشرقت الأَرْض بِنور رَبهَا} أَي: بِنور خَالِقهَا ومالكها، وَعَن الْحسن: بِعدْل رَبهَا، وَيُقَال: يخلق الله نورا؛ فتشرق بِهِ أَرض الْقِيَامَة.

{بِالْحَقِّ وهم لَا يظْلمُونَ (69) ووفيت كل نفس مَا عملت وَهُوَ أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وسيق الَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا حَتَّى إِذا جاءوها فتحت أَبْوَابهَا وَقَالَ لَهُم خزنتها ألم} وَقَوله: {وَوضع الْكتاب} المُرَاد من الْكتاب: كتاب الْأَعْمَال. وَعَن عَطاء بن السَّائِب أَنه قَالَ: إِن أول من يُحَاسب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ كَانَ أَمِين الله على جَمِيع وحيه، وروى أَن أول من يُحَاسب الْأَنْبِيَاء، وَثَبت فِي بعض الرِّوَايَات أَن النَّبِي قَالَ: " أول مَا يقْضِي الله تَعَالَى فِيهِ بَين الْخلق هُوَ الدِّمَاء ". وَقَوله: {وَجِيء بالنبيين وَالشُّهَدَاء} أَي: الَّذين يشْهدُونَ للأنبياء التَّبْلِيغ، وعَلى الْأُمَم بالتكذيب، وَقد بَينا هَذَا من قبل. وَقَوله: {وَقضى بَينهم بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ، وَقَوله: {وهم لَا يظْلمُونَ} أَي: لَا يُزَاد فِي سيئاتهم، وَلَا ينقص من حسناتهم.

70

قَوْله تَعَالَى: {ووفيت كل نفس مَا عملت وَهُوَ أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ} أَي: يصنعون، وَقد روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي " أَن الله تَعَالَى يَأْمر من يُنَادي يَوْم الْقِيَامَة: يَا أهل الْجنَّة، إِن لكم أَن تحيوا فَلَا تَمُوتُوا، وَأَن تصحوا فَلَا تسقموا، وَأَن تشبوا فَلَا تهرموا، وَأَن تنعموا فَلَا تبأسوا؛ ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {ووفيت كل نفس مَا عملت وَهُوَ أعلم بِمَا يَفْعَلُونَ} ".

71

قَوْله تَعَالَى: {وسيق الَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا} أَي: أَفْوَاجًا زمرة بعد زمرة، وَقَوله: {حَتَّى إِذا جاءوها فتحت أَبْوَابهَا وَقَالَ لَهُم خزنتها ألم يأتكم رسل مِنْكُم يَتلون عَلَيْكُم آيَات ربكُم وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا} أَي: يخوفونكم. وَقَوله: {قَالُوا بلَى وَلَكِن حقت كلمة الْعَذَاب} هُوَ قَوْله تَعَالَى: {لأملأن جَهَنَّم

{يأتكم رسل مِنْكُم يَتلون عَلَيْكُم آيَات ربكُم وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا بلَى وَلَكِن حقت كلمة الْعَذَاب على الْكَافرين (71) قيل ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين (72) وسيق الَّذين اتَّقوا رَبهم إِلَى الْجنَّة زمرا حَتَّى إِذا جاءوها وَفتحت أَبْوَابهَا وَقَالَ لَهُم خزنتها سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين (73) وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده وأورثنا الأَرْض نتبوأ من الْجنَّة حَيْثُ نشَاء فَنعم أجر} من الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ) وَقَوله: {على الْكَافرين} وَمعنى حقت: وَجَبت.

72

قَوْله تَعَالَى: {قيل ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين} أَي: منزل المتكبرين عَن الْإِيمَان بِاللَّه.

73

قَوْله تَعَالَى: {وسيق الَّذين اتَّقوا رَبهم إِلَى الْجنَّة زمرا حَتَّى إِذا جاءوها وَفتحت أَبْوَابهَا} . وَاعْلَم أَن عِنْد الْكُوفِيّين هَذِه الْوَاو محذوفة فِي الْمَعْنى، وَعند الْبَصرِيين لَيست بمحذوفة، وَالتَّقْدِير على قَول الْبَصرِيين: حَتَّى إِذا جاءوها وَفتحت أَبْوَابهَا دخلوها. وَقَوله: {وَقَالَ لَهُم خزنتها سَلام عَلَيْكُم طبتم} أَي: نعمتم، وَيُقَال: صححتم للجنة، وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: يكون [على] بَاب الْجنَّة عينان، يغْتَسل الْمُؤمن من أَحدهمَا؛ فَيظْهر ظَاهره، وَيشْرب من الْأُخْرَى؛ فَيظْهر بَاطِنه، ثمَّ يدْخلهُ الله الْجنَّة، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {طبتم فادخلوها خَالِدين} .

74

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده} أَي: وفى لنا بوعده وأتمه، وَقَوله: {وأورثنا الأَرْض} أَي: أَرض الْجنَّة {نتبوأ مِنْهَا} أَي: ننزل مِنْهَا {حَيْثُ نشَاء فَنعم أجر العاملين} بالطاعات.

75

قَوْله تَعَالَى: {وَترى الْمَلَائِكَة حافين من حول الْعَرْش} أَي: محدقين محيطين

{العاملين (74) وَترى الْمَلَائِكَة حافين من حول الْعَرْش يسبحون بِحَمْد رَبهم وَقضي بَينهم بِالْحَقِّ وَقيل الْحَمد لله رب الْعَالمين (75) } بِهِ، وَقَوله: {يسبحون بِحَمْد رَبهم} أَي: بِأَمْر رَبهم، وَقيل: يسبحون حامدين لرَبهم، وَيُقَال: إِن هَذَا التَّسْبِيح تَسْبِيح تلذذ لَا تعبد. وَقَوله: {وَقضى بَينهم بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ. وَقَوله: {وَقيل الْحَمد لله رب الْعَالمين} يَعْنِي: وَقَالَ أهل الْجنَّة: الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَقد ذكر فِي مَوضِع آخر: {وَآخر دَعوَاهُم أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين} وَقد بَينا هَذَا من قبل.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {حم (1) تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم (2) غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد} تَفْسِير سُورَة الْمُؤمن وَيُقَال: سُورَة الطول، وَهِي مَكِّيَّة وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا وَقعت فِي آل حميم وَقعت فِي روضات أتأنق فِيهِنَّ، وَتسَمى الحواميم ديابيج الْقُرْآن. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن مثل الحواميم فِي الْقُرْآن مثل الحبرات فِي الثِّيَاب ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " من قَامَ بالحواميم فِي لَيْلَة غفر الله لَهُ ".

غافر

قَوْله تَعَالَى: {حم} قَالَ ابْن عَبَّاس: قسم أقسم الله بِهِ. وَقَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن. وَعَن بَعضهم: الْحَاء من (الْحَلِيم) ، وَالْمِيم من الْملك. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " الر " و " حم " و " نون والقلم " بمجموعها هُوَ اسْم الرَّحْمَن. وَيُقَال: " حم " مَعْنَاهُ: حم مَا هُوَ كَائِن أَي: قضى مَا هُوَ كَائِن. وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر: " حم " على نصب الْمِيم على معنى اتل حميم. قَالَ الأشتر النَّخعِيّ شعرًا: (يذكرنِي حميم وَالرمْح شَاجر ... فَهَلا تَلا حميم قبل التَّقَدُّم) وَقَالَ الشَّاعِر فِي حم بِمَعْنى قضى: (فَحم يومي فسر قوم ... كَأَن لَيْسَ للشامتين يَوْم)

2

وَقَوله: {تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم} أَي: المنيع فِي ملكه، الْعَلِيم بخلقه.

3

قَوْله تَعَالَى: {غَافِر الذَّنب} أَي: سَاتِر الذَّنب.

{الْعقَاب ذِي الطول لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمصير (3) مَا يُجَادِل فِي آيَات الله إِلَّا الَّذين كفرُوا فَلَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد (4) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهمْ} وَقَوله: {وقابل التوب} أَي: التَّوْبَة. وَقَوله: {شَدِيد الْعقَاب} أَي: شَدِيد الْعقَاب للْكفَّار. وَقَوله: {ذِي الطول} أَي: الْقُدْرَة. وَقيل: السعَة والغنى. وَيُقَال: هُوَ التَّفْضِيل. وَقَالَ بَعضهم: غَافِر الذَّنب لمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله. وروى حَمَّاد عَن ثَابت قَالَ ثَابت: كنت فِي فسطاط مُصعب بن الزبير أَقرَأ هَذِه الْآيَة {غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد الْعقَاب ذِي الطول} فَمر شيخ على بغلة شهباء، فَقَالَ لي: قل يَا غَافِر الذَّنب اغْفِر لي، وَيَا قَابل التوب اقبل تَوْبَتِي، وَيَا شَدِيد الْعقَاب [اعْفُ] عني، وياذا الطول طل عَليّ بِخَير، ثمَّ لم أر الشَّيْخ بعد. وَقَوله {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمصير} أَي: الْمرجع.

4

قَوْله تَعَالَى: {مَا يُجَادِل فِي آيَات الله} أَي: فِي دفع آيَات الله بالتكذيب. وَقَوله: {إِلَّا الَّذين كفرُوا} أَي: جَحَدُوا. وَقَوله: {فَلَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد} أَي: تقلبهم سَالِمين فِي الْبِلَاد. قَالَ ابْن جريج: لَا يغررك تِجَارَتهمْ من مَكَّة إِلَى الشَّام، وَمن الشَّام إِلَى الْيمن. وَفِي بعض التفاسير: أَن أَصْحَاب رَسُول الله قَالُوا متوجعين: نَحن فُقَرَاء، وَالْكفَّار مياسير ذُو أَمْوَال، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. فعلى هَذَا معنى قَوْله: {لَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد} أَي لَا يغررك يسارتهم وسعتهم.

5

قَوْله: {كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهمْ} وهم الَّذين تحدثُوا على الْأَنْبِيَاء. وَقَوله: {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} أَي: ليقتلوه. وَيُقَال: ليأسروه.

{وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق فَأَخَذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب (5) وَكَذَلِكَ حقت كلمة رَبك على الَّذين كفرُوا أَنهم أَصْحَاب النَّار (6) الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله يسبحون بِحَمْد رَبهم ويؤمنون بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما فَاغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك وقهم} وَالْعرب تسمي الْأَسير أخيذا، قَالَ الْأَزْهَرِي: ليأخذوه فيتمكنوا من قَتله. وَقَوله: {وجادلوا بِالْبَاطِلِ} أَي: بالجدال الْبَاطِل ليدحضوا بِهِ الْحق. والجدال: هُوَ فتل الْخصم عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ بِحَق أَو بَاطِل، وَأما المناظرة لَا تكون إِلَّا بَين محقين، أَو بَين محق ومبطل، والجدال قد يكون بَين المبطلين. وَقَوله: {فَأَخَذتهم} أَي: أخذتهم بالعقوبة. وَقَوله: {فَكيف كَانَ عِقَاب} قَالَ قَتَادَة: شَدِيد وَالله.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ حقت كلمة رَبك على الَّذين كفرُوا} أَي: وَجب حكم رَبك على الَّذين كفرُوا أَنهم {أَصْحَاب النَّار} ظَاهر الْمَعْنى.

7

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله} ذكر النقاش: أَن حَملَة الْعَرْش الكروبيون، وهم سادة الْمَلَائِكَة. وَفِي بعض التفاسير: أَن أَقْدَامهم فِي تخوم الْأَرْضين، والأرضون وَالسَّمَوَات إِلَى حُجَزهمْ، وهم يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزّ والجبروت، سحان ذِي الْملك والملكوت، سُبْحَانَ الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت، سبوح قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح. وَقَوله: {وَمن حوله} أَي: حول الْعَرْش. وَقَوله: {يسبحون بِحَمْد رَبهم} قد بَينا. وَقَوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما} أَي: وسع [علمك] ووسعت رحمتك كل شَيْء. وَقَوله: {فَاغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك} أَي: دينك وطاعتك.

{عَذَاب الْجَحِيم (7) رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم وَمن صلح من آبَائِهِم وأزواجهم وذرياتهم إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (8) وقهم السَّيِّئَات وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فقد رَحمته وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (9) إِن الَّذين كفرُوا ينادون لمقت الله} وَقَوله: {وقهم عَذَاب الْجَحِيم} مَعْنَاهُ: وادفع عَنْهُم عَذَاب الْجَحِيم، والجحيم مُعظم النَّار. وَعَن بعض السّلف: أنصح الْخلق للْمُؤْمِنين هم الْمَلَائِكَة، وأغش الْخلق للْمُؤْمِنين هم الشَّيَاطِين.

8

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم} بَينا أَن جنَّة عدن هِيَ بطْنَان الْجنَّة. وَيُقَال: مصر الْجنَّة. وَقَوله: {وَمن صلح من آبَائِهِم} أَي: وَمن وحد من آبَائِهِم، وَيُقَال: وَمن عمل صَالحا من آبَائِهِم. وَقَوله: {وأزواجهم وذرياتهم} أَي: وأهليهم وَأَوْلَادهمْ، قَالَ سعيد بن جُبَير: يدْخل الْمُؤمن الْجنَّة فَيَقُول: أَيْن أبي؟ أَيْن أُمِّي؟ أَيْن زَوْجَتي؟ فَيُقَال: إِنَّهُم لم يعملوا مثل عَمَلك، فَيَقُول: إِنِّي عملت لنَفْسي وَلَهُم، فيدخلهم الله الْجنَّة ويجمعهم إِلَيْهِ. وَعَن بعض السّلف أَنه قَالَ: إِن الْمُؤمن يحب أَن يجمع شَمله، وَيضم إِلَيْهِ أَهله، فَيجمع الله شَمله، وَيضم إِلَيْهِ أَهله فِي الْآخِرَة.

9

وَقَوله: {وقهم السَّيِّئَات} قد بَينا. وَقَوله: {وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ} أَي: وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ أَي: الْعُقُوبَات، وَيُقَال: جَزَاء السَّيِّئَات. وَقَوله: {فقد رَحمته} أَي: أَنْعَمت عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} يَعْنِي: النجَاة الْعَظِيمَة.

10

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا ينادون} فِي التَّفْسِير: أَن الْكَافِر تعرض إِلَيْهِ أَعماله السَّيئَة فيمقت نَفسه أَشد المقت، فيناديهم الله تَعَالَى: {لمقت الله أكبر من مقتكم

{أكبر من مقتكم أَنفسكُم إِذْ تدعون إِلَى الْإِيمَان فتكفرون (10) قَالُوا رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحيينا اثْنَتَيْنِ فاعترفنا بذنوبنا فَهَل إِلَى خُرُوج فِي سَبِيل (11) ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دعِي الله} أَنفسكُم) أَي: مقت الله إيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا أعظم من مقتكم الْيَوْم أَنفسكُم بِمَا ظهر لكم من أَعمالكُم السَّيئَة. وَقد حكى معنى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ بَعضهم: لمقت الله أياكم فِي الدُّنْيَا أكبر من مقت بَعْضكُم بَعْضًا، وَذَلِكَ حِين يتبرأ بَعضهم من بعض. قَوْله: {إِذْ تدعون إِلَى الْإِيمَان فتكفرون} يَعْنِي: إِن مقت الله إيَّاكُمْ كَانَ لِأَن الله دعَاكُمْ إِلَى الْإِيمَان فكفرتم.

11

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} الإماتة الأولى: هُوَ أَنهم كَانُوا نطفا فِي أصلاب الْآبَاء موتى، ثمَّ أحياهم بالخلق وَإِدْخَال الرّوح، ثمَّ يميتهم الْمَوْت الْمَعْلُوم الَّذِي لَا بُد من ذوقه، ثمَّ يحييهم يَوْم الْقِيَامَة. هَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَجَمَاعَة. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْإِحْيَاء الأول حِين أخرجهم من صلب آدم وَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق، ثمَّ أماتهم بِالرَّدِّ إِلَى الأصلاب، ثمَّ أحياهم بِالْإِخْرَاجِ ثَانِيًا، ثمَّ يميتهم الْمَوْت الْمَعْرُوف. فَإِن قيل: فَأَيْنَ الْحَيَاة فِي الْآخِرَة؟ قُلْنَا: المُرَاد على هَذَا القَوْل حياتان وموتتان فِي الدُّنْيَا سوى الْحَيَاة فِي الْآخِرَة. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الإماتة الأولى هُوَ الْمَوْت الْمَعْرُوف، والإحياء الأول هُوَ الْإِحْيَاء فِي الْقَبْر للمسائلة، والإماتة الثَّانِيَة هِيَ الإماتة بعد الْإِحْيَاء فِي الْقَبْر، والإحياء الثَّانِيَة هِيَ الْإِحْيَاء للبعث، هَكَذَا ذكره السدى. وَقَوله: {فاعترفنا بذنوبنا} أَي خطايانا وَقَوله {فَهَل إِلَى خُرُوج من سَبِيل} أَي: فَهَل إِلَى خُرُوج عَن النَّار من سَبِيل.

12

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دعى الله وَحده كَفرْتُمْ} مَعْنَاهُ: أَن تخليدكم فِي النَّار

{وَحده كَفرْتُمْ وَإِن يُشْرك بِهِ تؤمنوا فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير (12) هُوَ الَّذِي يريكم آيَاته وَينزل لكم من السَّمَاء رزقا وَمَا يتَذَكَّر إِلَّا من ينيب (13) فَادعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين وَلَو كره الْكَافِرُونَ (14) رفيع الدَّرَجَات ذُو الْعَرْش يلقِي الرّوح من أمره على من} ومكثكم فِيهَا كَانَ بِأَنَّهُ إِذا دعى الله وَحده كَفرْتُمْ. {وَإِن يُشْرك بِهِ تؤمنوا} أَي: يُشْرك بِاللَّه تؤمنوا، أَي: تصدقوا بالشرك. وَقَوله: {فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.

13

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يريكم آيَاته} أَي: عبره ودلائله. وَقَوله: {وَينزل لكم من السَّمَاء رزقا} أَي: الْمَطَر؛ لِأَنَّهُ سَبَب الأرزاق. وَقَوله: {وَمَا يتَذَكَّر إِلَّا من ينيب} أَي: وَمَا يتعظ إِلَّا من يرجع إِلَى الله فِي جَمِيع أُمُوره.

14

قَوْله تَعَالَى: {فَادعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} أَي: مُخلصين لَهُ التَّوْحِيد. وَمَعْنَاهُ: وحدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا. وَقَوله: {وَلَو كره الْكَافِرُونَ} أَي: سخط الْكَافِرُونَ، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} وَقد بَينا هَذَا من قبل.

15

قَوْله تَعَالَى: {رفيع الدَّرَجَات ذُو الْعَرْش} قَالَ ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة عَطاء: رَافع السَّمَوَات، سَمَاء فَوق سَمَاء. وَعَن بَعضهم: رَافع دَرَجَات الْأَنْبِيَاء والأولياء. وَقَالَ بَعضهم: رفيع الدَّرَجَات أَي: عَظِيم الصِّفَات، وَهُوَ رَاجع إِلَى الله تَعَالَى، قَالَه مقَاتل. قَالَ: الله فَوق كل شَيْء، وَلَيْسَ فَوْقه شَيْء. وَقَوله: {ذُو الْعَرْش} أَي: لَهُ الْعَرْش خلقا وملكا. وَقَوله: {يلقِي الرّوح من أمره} قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْوَحْي، وَسمي روحا؛ لِأَنَّهُ يحيا بِهِ الْخلق. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ النُّبُوَّة. وَقيل: هُوَ جِبْرِيل يُرْسِلهُ على من يَشَاء من أنبيائه

{يَشَاء من عباده لينذر يَوْم التلاق (15) يَوْم هم بارزون لَا يخفى على الله مِنْهُم شَيْء لمن الْملك الْيَوْم لله الْوَاحِد القهار (16) الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت لَا ظلم} وروح الْإِنْسَان مَا يحيا بِهِ الْإِنْسَان. وَقَوله: {من أمره} أَي: بأَمْره. وَقَوله: {على من يَشَاء من عباده} من النَّبِيين وَالرسل. وَقَوله: {لينذر يَوْم التلاق} الْمَعْرُوف بِالْيَاءِ، وَقُرِئَ بِالتَّاءِ. بِالْيَاءِ أَي: لينذر الله، وَقيل: لينذر الْوَحْي. وَأما بِالتَّاءِ فَالْمُرَاد بِهِ الرَّسُول. وَقَوله: {يَوْم التلاق} قَالَ قَتَادَة: يلتقي فِيهِ أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض، الْأَولونَ وَالْآخرُونَ. وَعَن بَعضهم: يلتقي فِيهِ الْخلق والخالق. وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان: يلتقي فِيهِ الظَّالِم والمظلوم. وَعَن ابْن عَبَّاس: يلتقي فِيهِ آدم وَآخر ولد من أَوْلَاده.

16

وَقَوله: {يَوْم هم بارزون} أَي: بادون ظاهرون وَلَا يتسترون بِشَيْء من جبل وَغَيره. قَوْله تَعَالَى: {لَا يخفى على الله مِنْهُم شَيْء} أَي: من أَعْمَالهم. وَقَوله: {لمن الْملك الْيَوْم} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَقُول الله تَعَالَى هَذَا حِين تفنى الْخَلَائق، وَلَا يكون أحد يجِيبه، فيجيب نَفسه [بِنَفسِهِ] وَيَقُول: لله الْوَاحِد القهار. وعَلى هَذَا عَامَّة الْمُفَسّرين. وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر وَغَيره أَن النَّبِي قَالَ: " يقبض الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِيَمِينِهِ، ثمَّ يَهُزهُنَّ وَيَقُول: أَنا الْملك، أَيْن مُلُوك الأَرْض "؟ وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يبْعَث الْخَلَائق ويحشرهم، ثمَّ يَقُول لَهُم: لمن الْملك الْيَوْم؟ فيجيبون: لله [الْوَاحِد] القهار. وَقيل: إِنَّهُم لَا يقدرُونَ على الْجَواب هَيْبَة، فيجيب الله تَعَالَى نَفسه. وَالْقَوْل الأول

{الْيَوْم إِن الله سريع الْحساب (17) وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة إِذْ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِر} هُوَ الْمَشْهُور.

17

قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت} أَي: المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. قَوْله: {لَا ظلم الْيَوْم} أَي: أَنه تَعَالَى يفعل مَا يفعل بِالْعَدْلِ لَا بالظلم. وَقَوله: {أَن الله سريع الْحساب} فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يحاسبهم فِي مِقْدَار نصف يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا. وَعَن الضَّحَّاك: مَا بَين صَلَاتَيْنِ. وَقيل: بِقدر شربة مَاء. وَقد ثَبت أَن النَّبِي [قَالَ] : " أول مَا يقْضِي الله تَعَالَى بَين الْخلق فِي الدِّمَاء ". وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: " أَنا الْملك الديَّان، لَا يَنْبَغِي لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة، وَلَا لأحد من أهل النَّار أَن يدْخل النَّار، وَعَلِيهِ مظْلمَة لأحد إِلَّا وأقتصه مِنْهُ ".

18

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة} أَي: يَوْم الْقِيَامَة. وَسميت آزفة لقربها، كَأَنَّهَا قريبَة عِنْد الله تَعَالَى، وَإِن كَانَ النَّاس يستبعدونها. وَقيل: هِيَ قريبَة لِأَنَّهَا كائنة لَا محَالة، وكل كَائِن قريب. وَقَوله: {إِذْ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِر} وَعَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: تضيق للنَّاس أَرض الْقِيَامَة، حَتَّى لَا يكون لأحد إِلَّا مَوضِع قدمه، ثمَّ يضيق لَهُم أَيْضا حَتَّى يوضع الْقدَم على الْقدَم، ثمَّ يَبْكُونَ حَتَّى تنفد دموعهم، ثمَّ يَبْكُونَ الدَّم حَتَّى ينْفد، ثمَّ تشخص قُلُوبهم إِلَى حَنَاجِرهمْ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة إِذْ الْقُلُوب لَدَى

{كاظمين مَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع يطاع (18) يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور (19) وَالله يقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذين يدعونَ من دونه لَا يقضون بِشَيْء إِن الله هُوَ} الْحَنَاجِر [كاظمين] ) قَالَ قَتَادَة: ترْتَفع الْقُلُوب من الصُّدُور إِلَى الحلوق، وتلتصق بهَا من الْخَوْف والفزع، فَلَا هِيَ ترجع من أماكنها، وَلَا هِيَ تخرج. وَقَوله: {كاظمين} الكاظم هُوَ الممسك على قلبه بِمَا فِيهِ. وَقيل: مغمومين مكروبين. وَيُقَال: بَاكِينَ. وَمن هَذَا كظم الغيظ إِذا أمْسكهُ (وصبر) عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَمَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع} الْحَمِيم: الْقَرِيب. وَالشَّفِيع: الَّذِي يَدْعُو فيجاب. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: استكثروا من أصدقاء الْمُؤمنِينَ فَإِن لَهُم شَفَاعَة عِنْد الله تَعَالَى. وَقَوله: {يطاع} أَي: يُجَاب.

19

وَقَوله: {يعلم خَائِنَة الْأَعْين. أَي: خِيَانَة الْأَعْين وخيانة الْأَعْين مسارعة النّظر إِلَى مَا لَا يحل. قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الرجل يكون بَين الرِّجَال، فتمر بهم امْرَأَة فَينْظر إِلَيْهَا، فَإِذا نظر إِلَيْهِ أَصْحَابه غض بَصَره. قَالَ السدى: خَائِنَة الْأَعْين هُوَ الرص بِالْعينِ. وَقَوله: {وَمَا تخفي الصُّدُور} هُوَ شَهْوَة الْقلب. وَقيل: هُوَ أَنه لَو قدر عَلَيْهَا هَل يزنى أَو لَا؟ وَعَن السدى قَالَ: هُوَ وَسْوَسَة الْقلب. وَعَن بَعضهم قَالَ (خِيَانَة الْعين) أَن يَقُول: رَأَيْت وَلم ير، وخيانة الْقلب هُوَ أَن يَقُول: علمت وَلم يعلم.

20

وَقَوله: {وَالله يقْضِي بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ. وَقَوله: {وَالَّذين يدعونَ من دونه} أَي: الْأَصْنَام وَمَا أشبههَا.

{السَّمِيع الْبَصِير (20) أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين كَانُوا من قبلهم كَانُوا هم أَشد مِنْهُم قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم من الله من واق (21) ذَلِك بِأَنَّهُم كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفرُوا فَأَخذهُم الله إِنَّه قوي شَدِيد الْعقَاب (22) وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين (23) إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب (24) فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا} وَقَوله: {لَا يقضون بِشَيْء} أَي: لَا يحكمون بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَيْدِيهِم شَيْء. وَقَوله: {إِن الله هُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

21

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا هم أَشد مِنْهُم قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض} الْآثَار فِي الأَرْض: هُوَ الْأَبْنِيَة والمساكن وَسَائِر العمارات. وَقَوله: {فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم من الله من واق} أَي: لم يكن لَهُم من يمنعهُم من الله.

22

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات والمعجزات. وَقَوله: {فَكَفرُوا فَأَخذهُم الله إِنَّه قوي شَدِيد الْعقَاب} ظَاهر الْمَعْنى.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين} أَي: بالمعجزات الْبَيِّنَة وَالْحجّة الظَّاهِرَة.

24

وَقَوله: {إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب} أَي: كثير الْكَذِب. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: لم يكن هامان من بني إِسْرَائِيل، وَلَا من القبط، وَكَانَ من غير الْفَرِيقَيْنِ. وَقد طعن بَعضهم فَقَالَ: إِن هامان رجل مَعْرُوف (بَين) الْفرس، وَلم يكن صَاحب فِرْعَوْن. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون فِي الْفرس رجل يُسمى هامان، وَكَانَ

{اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه واستحيوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال (25) وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى وليدع ربه إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ أَو أَن يظْهر فِي} صَاحب فِرْعَوْن هُوَ هامان، فَكل مَا فِي الْقُرْآن حق وَصدق.

25

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه} فِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن كَانَ رفع الْقَتْل عَن أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل؛ فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى إِلَيْهِ رَسُولا أعَاد الْقَتْل عَلَيْهِم. وَقَوله: {واستحيوا نِسَاءَهُمْ} قد بَينا. وَقَوله: {وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال} أَي: فِي هَلَاك، وَإِنَّمَا جعل كيدهم هَلَاكًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى هلاكهم.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى} فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن الَّذِي كَانَ يمْنَع فِرْعَوْن من قتل مُوسَى حَتَّى يَقُول ذروني أقتل مُوسَى؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: ذروني أقتل مُوسَى أَي: أَشِيرُوا عَليّ بقتل مُوسَى، كَأَنَّهُ طلب المشورة مِنْهُم أَيَقْتُلُهُ أَو لَا يقْتله؟ وَالثَّانِي: كَانَ فِي جملَة قومه من يحذرهُ من قتل مُوسَى خوفًا من هَلَاك فِرْعَوْن، فَقَالَ على هَذَا: ذروني، لَا تَمْنَعُونِي واتركوني أَقتلهُ. وَقَوله: {وليدع ربه} أَي: وليدع ربه لِيَنْصُرهُ. قَالَ هَذَا على طَرِيق الاستبعاد. وَقَوله: {إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ} أَي: يُبدل دينكُمْ الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ. وَقَوله: {أَو أَن يظْهر فِي الأَرْض الْفساد} هَذَا بأَرْبعَة وُجُوه " أَن يظهرا "، و " أَن يظْهر " بِغَيْر ألف، " أَو أَن يظهرا " مَعَ الْألف وَنصب الْيَاء، " وَأَن يظْهر " بِغَيْر الْألف وَنصب الْيَاء، وَمعنى يظْهر أَي: يظْهر مُوسَى الْفساد، وَمعنى يظْهر بِفَتْح الْيَاء أَي: يظْهر الْفساد كَأَنَّهُ جعل الْفِعْل للْفَسَاد بِعَيْنِه. وَقَالَ بَعضهم: معنى الْفساد هَاهُنَا: أَن

{الأَرْض الْفساد (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب (27) وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم} مُوسَى إِذا ظهر يقتل أبناءكم، ويستحي نساءكم كَمَا فَعلْتُمْ أَنْتُم بهم، فَهُوَ إِظْهَار مُوسَى الْفساد فِي الأَرْض.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم} قَالَ أهل التَّفْسِير: لما سمع مُوسَى كَلَام فِرْعَوْن استعاذ بِاللَّه والتجأ إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنِّي عذت بربي وربكم. وَقَوله: {من كل متكبر} أَي: من كل متعظم {لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب} وَيَوْم الْحساب: يَوْم الْقِيَامَة.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن} قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ كَانَ من ولي الْعَهْد لفرعون، وَكَانَ يكون لَهُ من بعده، وَيُقَال: كَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن. وَعَن بَعضهم: كَانَ من بني إِسْرَائِيل، وعَلى هَذَا القَوْل فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، فَمَعْنَاه: وَقَالَ رجل يكتم إيمَانه من آل فِرْعَوْن. وَأما اسْمه قَالَ بَعضهم: اسْمه حزبيل، وَفِي مَعَاني الزّجاج: أَن اسْمه سمْعَان، وَقيل: حبيب. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يُؤمن من القبط إِلَّا ثَلَاثَة نفر: امْرَأَة فِرْعَوْن، وَمُؤمن آل فِرْعَوْن، وَالَّذِي جَاءَ فَقَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك. وَقَوله: {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله} أَي: لِأَن قَالَ رَبِّي الله. وَقَوله: {وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم} أَي: بالدلالات الواضحات. وَقَوله: {وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه} أَي: وبال كذبه. وَقَوله: {وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} هَذِه آيَة مشكلة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {بعض الَّذِي يَعدكُم} وكل مَا وعده الرُّسُل ومُوسَى حق. وَالْجَوَاب عَن هَذَا من وُجُوه: أَحدهَا: أَن معنى قَوْله: {يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} أَي: كل الَّذِي يَعدكُم،

بعض الَّذِي يَعدكُم إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب (28) يَا قوم لكم الْملك الْيَوْم ظَاهِرين فِي الأَرْض فَمن ينصرنا من بَأْس الله إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْن مَا أريكم إِلَّا مَا) فَيكون الْبَعْض بِمَعْنى الْكل، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَأنْشد: (أَو يرتبط بعض النُّفُوس حمامها ... ) أَي: كل النُّفُوس وَأنْشد غَيره: (قد يدْرك المتأني بعض حَاجته ... وَقد يكون مَعَ المستعجل الزلل ... ) وَقَوله: بعض حَاجته أَي: كل حَاجته. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه قَالَ: {بعض الَّذِي يَعدكُم} على طَرِيق الِاسْتِظْهَار، كَأَنَّهُ قَالَ: أقل مَا فِي تكذيبكم إِن كَانَ صَادِقا أَن يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم. وَفِي ذَلِك الْبَعْض هلاككم. وَزعم أهل النَّحْو أَن هَذَا أحسن من الأول؛ لِأَن الْبَعْض بِمَعْنى الْكل لَا يعرف فِي اللُّغَة. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن قَوْله: {يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} أَي: عَذَاب الدُّنْيَا، وَقد كَانَ وعدهم عَذَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن قَوْله: {يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} أَي: من الْعقَاب، وَقد كَانَ وعد الْعقَاب إِن أَنْكَرُوا، وَالثَّوَاب إِن صدقُوا، وَالْعِقَاب بعض الْوَعيد. وَقَوله: {إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب} أَي: مُشْرك كَذَّاب.

29

قَوْله تَعَالَى: {يَا قوم لكم الْملك الْيَوْم ظَاهِرين فِي الأَرْض} أَي: عالين غَالِبين. وَقَوله: {فَمن ينصرنا من بَأْس الله إِن جَاءَنَا} أَي: من يمْنَع منا عَذَاب الله إِن جَاءَنَا. وَقَوله: {قَالَ فِرْعَوْن مَا أريكم إِلَّا مَا أرى} يَعْنِي: مَا أرشدكم إِلَّا إِلَى مَا أَنا عَلَيْهِ،

{أرى وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد (29) وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب (30) مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد (31) وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد} وَمَا رَأَيْت لكم من الْحق. وَقَوله: {وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد} أَي: طَرِيق الرشد وَالْهَدْي. وَعَن معَاذ بن جبل أَنه قَرَأَ: " إِلَّا سَبِيل الرشاد " بتَشْديد الشين أَي: سَبِيل الله، والرشاد هُوَ الله تَعَالَى.

30

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب} الْأَحْزَاب: الْأُمَم الخالية مثل: قوم نوح، وَعَاد، وَثَمُود، وَمعنى يَوْم الْأَحْزَاب أَي: يَوْم عَذَابهمْ.

31

وَقَوله: {مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود} الدأب فِي اللُّغَة بِمَعْنى الْعَادة، وَمعنى قَوْله: {مثل دأب قوم نوح} أَي: مثل حَال قوم نوح وَعَاد وَثَمُود. وَيُقَال: كذب هَؤُلَاءِ وتعودوا التَّكْذِيب مثل عَادَة أُولَئِكَ فِي التَّكْذِيب. وَقَوله: {وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد} مَعْنَاهُ: أَنه لَا يعذب أحدا حَتَّى يُقيم الْحجَّة عَلَيْهِ.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد} يَعْنِي: يَوْم التنادي. وَفِي معنى التنادي وُجُوه: أَحدهَا: أَنه تنادى كل أمة بكتابها وإمامها، قَالَه قَتَادَة. وَالثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: تنادى أهل الْجنَّة أهل النَّار، وَأهل النَّار أهل الْجنَّة، وَذَلِكَ وذكور فِي سُورَة الْأَعْرَاف، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا} الْآيَة، وَقَوله: {ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة} الْآيَة.

{يَوْم تولون مُدبرين مَا لكم من الله من عَاصِم وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (33) وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن} وَالثَّالِث: أَن معنى الْآيَة مناداتهم بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور ودعاؤهم على أنفسهم: واهلاكاه، واويلاه، وَغير ذَلِك. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَوْم التناد " بتَشْديد الدَّال، من ند يند إِذا هرب، وَحكى هَذِه الْقِرَاءَة عَن الضَّحَّاك، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {أَيْن المفر} وَعَن بَعضهم: يظْهر عنق من النَّار فيفر النَّاس، فيحيط بهم ذَلِك الْعُنُق، حِينَئِذٍ يعلمُونَ أَن لَا مفر لَهُم.

33

وَقَوله: {يَوْم تولون مُدبرين} فِي الحَدِيث أَن للنَّاس جَوْلَة يَوْم الْقِيَامَة، فيتبعهم الْمَلَائِكَة ويردونهم. وَقيل: إِنَّهُم إِذا سمعُوا زفير النَّار فروا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تولون مُدبرين} وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {يَوْم تولون مُدبرين} هُوَ انطلاقهم إِلَى النَّار بسوق الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {مَا لكم من الله من عَاصِم} أَي: مَانع، وَقيل: نَاصِر. وَقَوله: {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} ظَاهر الْمَعْنى.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ} هُوَ يُوسُف بن يَعْقُوب نَبِي الله. وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى أرسل إِلَيْهِم يَعْنِي: إِلَى القبط نَبيا من الْجِنّ يُسمى يُوسُف، وَهَذَا قَول ضَعِيف، وَالصَّحِيح هُوَ الأول؛ لِأَنَّهُ أطلق ذكر يُوسُف، فَيَنْصَرِف إِلَى يُوسُف الْمَعْرُوف مثل إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهم. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى بعث يُوسُف بن يَعْقُوب إِلَيْهِم رَسُولا فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى، وَمكث فيهم عشْرين سنة بعد وَفَاة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله: {بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات الواضحات. وَقَوله: {فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا} وَقَرَأَ أبي وَابْن مَسْعُود: " ألن يبْعَث الله من بعده رَسُولا " بِزِيَادَة الْألف.

{يبْعَث الله من بعده رَسُولا كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب (34) الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم كبر مقتا عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار (35) وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي} وَقَوله: {كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب} أَي: مُسْرِف على نَفسه بالْكفْر وَالظُّلم، والمرتاب هُوَ الشاك.

35

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم} فَمَعْنَى المجادلة هُوَ المجادلة بالتكذيب، وَمعنى السُّلْطَان هُوَ الْحجَّة. وَقَوله: {كبر مقتا} أَي: كبر جدالهم مقتا، وَفِي التَّفْسِير: أَنه يمقتهم الله تَعَالَى، ويمقتهم الْمَلَائِكَة والأنبياء، ويمقتهم الْمُؤْمِنُونَ، وَهُوَ معنى قَوْله: {عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا} . وَقَوله: {كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار} فالقراءة الأولى على الْإِضَافَة، والطبع على الْقلب هُوَ الْخَتْم عَلَيْهِ حَتَّى لَا يدْخلهُ الْحق. وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة فَهِيَ على وصف الْقلب بالتكبر، يُقَال: قلب متكبر أَي: صَاحبه متكبر، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " على قلب كل متكبر جَبَّار ".

36

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كَانَ هامان صَاحب شَرط فِرْعَوْن، فَكَانَ من هَمدَان، أوردهُ أَبُو الْحسن بن فَارس فِي تَفْسِيره. وَقَوله: {ابْن لي صرحا} أَي: قصرا عَالِيا، وَيُقَال: إِن أول من طبخ اللَّبن حَتَّى صَار آجرا هُوَ هامان، فعله لفرعون. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن هامان اسْتعْمل خمسين ألف إِنْسَان فِي الْبناء سوى من يطْبخ الْآجر، وَمن يعْمل فِي الْخشب وَغَيره. وَيُقَال: إِنَّه عمل فِي بِنَاء الصرح سبع سِنِين، وَكَانَ فِرْعَوْن يصعد عَلَيْهِ رَاكِبًا، ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعث ريحًا عاصفا فَجعله ثَلَاث قطع، فَألْقى قِطْعَة فِي الْبَحْر، وَقطعَة بِالْهِنْدِ، وَقطعَة بِبِلَاد الْمغرب.

{أبلغ الْأَسْبَاب (36) أَسبَاب السَّمَوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب (37) وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم اتبعون أهدكم سَبِيل الرشاد (38) يَا قوم إِنَّمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع وَإِن الْآخِرَة هِيَ دَار الْقَرار (39) من عمل سَيِّئَة فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وَمن عمل صَالحا} وَقَوله: {لعلى أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَوَات} والأسباب هِيَ الْأَبْوَاب هَاهُنَا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: الْأَسْبَاب الَّتِي تؤديني إِلَى السَّمَاء، وتبلغني إِلَيْهَا. فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا فِي عقل عَاقل أَن يقْصد صعُود السَّمَاء، وَذَلِكَ مُسْتَحِيل بِهَذِهِ الْحِيلَة؟ وَالْجَوَاب: أَن الْجَهْل فِي الْعَالم كثير، وَلَيْسَ هَذَا بأبدع من ادعائه الربوبية، وَهُوَ يعرف حَال نَفسه ويشاهدها. وَقَوله: {فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى} أَي: أنظر إِلَى إِلَه مُوسَى. وَقَوله: {وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا} فِي دَعْوَاهُ أَن لَهُ إِلَهًا. وَقَوله: {وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله} أَي: قَبِيح عمله. وَقَوله: {وَصد عَن السَّبِيل} وَقُرِئَ: " وَصد " بِنصب الصَّاد، فَقَوله بِالرَّفْع أَي: صد فِرْعَوْن عَن السَّبِيل. وَبِالنَّصبِ أَي: وَصد فِرْعَوْن النَّاس عنة سَبِيل الله. وَقَوله: {وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب} أَي: وَمَا حِيلَة فِرْعَوْن ومكره إِلَّا فِي هَلَاك وخسران، وَقَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ أدّى إِلَيْهِ.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم اتبعوني أهدكم سَبِيل الرشاد} أَي: سَبِيل الرشد.

39

وَقَوله: {يَا قوم إِنَّمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع} أَي: سريع فناؤه، والتمتع بِهِ قَلِيل. وَقَوله: {وَإِن الْآخِرَة هِيَ دَار الْقَرار} أَي: المستقر.

40

قَوْله تَعَالَى: {من عمل سَيِّئَة فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وَمن عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب} أَي: بِغَيْر انْقِطَاع،

{من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب (40) وَيَا قوم مَا لي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار (41) تدعونني لأكفر بِاللَّه وأشرك بِهِ مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَأَنا أدعوكم إِلَى الْعَزِيز الْغفار (42) لَا جرم أَنما تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَأَن مردنا إِلَى الله وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار (43) فستذكرون مَا أَقُول لكم وأفوض أَمْرِي إِلَى الله إِن الله بَصِير بالعباد (44) } وَيُقَال: بِغَيْر حِسَاب أَي: لَا يحْسب عَلَيْهِم قدر مكثهم فِي الْجنَّة واستمتاعهم، فَيَقُول: مكثهم كَذَا، وأكلهم كَذَا، وفعلهم كَذَا. وَقيل: بِغَيْر حِسَاب أَي: يزِيد فِي مُدَّة بقائهم فِي الْجنَّة على مُدَّة أَعْمَالهم إِلَى مَا لَا يتناهى من الْمدَّة.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم مَالِي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار تدعونني لأكفر بِاللَّه وأشرك بِهِ مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَأَنا أدعوكم إِلَى الْعَزِيز الْغفار} الْعَزِيز هُوَ المنتقم من أعدائه، والغفار هُوَ السَّاتِر لذنوب عباده.

43

قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم} قد بَينا مَعْنَاهُ فِيمَا سبق، وَعَن الْمفضل الضَّبِّيّ الْكُوفِي أَنه قَالَ: لَا جرم أَي: لابد. وَقَوله: {أَنما تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة} أَي: استجابة دَعْوَة فِي الدُّنْيَا. وَيُقَال: إِيصَال نفع فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة. وَيُقَال: جَوَاب قَوْله: {فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة} . وَقَوله: {وَأَن مردنا إِلَى الله} أَي: مرجعنا إِلَى الله. وَقَوله: {وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار} أَي: الْمُشْركين.

44

قَوْله تَعَالَى: {فستذكرون مَا أَقُول لكم} يَعْنِي: حِين تعاينون الْعَذَاب. وَقَوله: {وأفوض أَمْرِي إِلَى الله} أَي: أسلم أَمْرِي إِلَى الله، وَقَالَ يحيى بن سَلام: أَي: أتوكل على الله. وَقَوله: {أَن الله بَصِير بالعباد} ظَاهر الْمَعْنى.

{فوقاه الله سيئات مَا مكروا وحاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب (45) النَّار يعرضون عَلَيْهَا}

45

قَوْله تَعَالَى: {فوقاه الله سيئات مَا مكروا} اخْتلف القَوْل فِي نجاته، مِنْهُم من قَالَ: نجا حِين نجا مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيل، وَذَلِكَ عِنْد مُجَاوزَة الْبَحْر. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ قُدَّام مُوسَى حِين توجهوا إِلَى الْبَحْر، فَقَالَ: إِلَى أَيْن يَا نَبِي الله؟ قَالَ: أمامك. فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَامِي الْبَحْر. فَقَالَ: وَالله مَا كذبت وَمَا كذبت. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مُؤمن آل فِرْعَوْن لما قَالَ هَذِه الْأَقْوَال، ونصح هَذِه النَّصِيحَة طلبه فِرْعَوْن ليَقْتُلهُ فهرب، فَبعث فِي طلب جمَاعَة، فوجدوه فِي حَبل يُصَلِّي وحواليه السبَاع يحرسونه ففزعوا وَرَجَعُوا. وَقَوله: {وحاق بآل فِرْعَوْن} أَي: نزل بآل فِرْعَوْن، {سوء الْعَذَاب} أَي: الْعَذَاب السيء.

46

قَوْله تَعَالَى: {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذَا فِي الْقَبْر. وَمن الْمَعْرُوف عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: أَرْوَاح آل فِرْعَوْن فِي حواصل طير سود يردون النَّار غدوا وعشيا. وَقد ثَبت بِرِوَايَة مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: " إِن أحدكُم إِذا مَاتَ يعرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشي، إِن كَانَ من أهل فالجنة، وَإِن كَانَ من أهل النَّار النَّار، وَيُقَال: هَذَا مَقْعَدك يَوْم الْقِيَامَة ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني، أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم جدي، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن مَالك ... الحَدِيث. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنه الْعرض على النَّار يَوْم الْقِيَامَة.

{غدوا وعشيا وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب (46) وَإِذ يتحاجون فِي النَّار فَيَقُول الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا نَصِيبا من النَّار} قَالَ الْفراء: وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب، النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا، وَهَذَا قَول فَاسد، وَالصَّحِيح هُوَ الأول. وَقَوله: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} قرئَ: " ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب " على الْأَمر لآل فِرْعَوْن بِالدُّخُولِ. وَقُرِئَ: {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} على الْأَمر لخزنة النَّار. وَالدَّلِيل على أَن الصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول أَنه قَالَ: {يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة، فَهُوَ الإدخال حَقِيقَة لَا الْعرض، وَإِنَّمَا الْعرض فِي الْقَبْر على مَا ورد فِي الحَدِيث. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْكَافِر يحيا فِي الْقَبْر كل غدْوَة وَعَشِيَّة حَتَّى ينظر إِلَى مَقْعَده من النَّار، ثمَّ يميته الله تَعَالَى ثَانِيًا، فَيكون نظره إِلَى مَقْعَده من النَّار أَشد عَلَيْهِ من مَوته، وَهُوَ قَول شَاذ. وَأما آل فِرْعَوْن فَهُوَ فِرْعَوْن وَقَومه، وَقيل: فِرْعَوْن نَفسه. قَالَ الشَّاعِر: (فَلَا تبك مَيتا بعد ميت أحبة ... عَليّ وعباس وَآل أبي بكر) مَعْنَاهُ: وَأبي بكر نَفسه. وروى عَن عبد الله بن أوفى أَنه قَالَ: أتيت رَسُول الله بِصَدقَة بعثها أبي إِلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ صل على آل أبي أوفى ". أَي: أبي أوفى نَفسه.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يتحاجون فِي النَّار} أَي: يتخاصمون فِي النَّار. وَقَوله: {فَيَقُول الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا} أَي: الأتباع قَالُوا للقادة.

{قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا كل فِيهَا إِن الله قد حكم بَين الْعباد (48) وَقَالَ الَّذين فِي النَّار لخزنة جَهَنَّم ادعوا ربكُم يُخَفف عَنَّا يَوْمًا من الْعَذَاب (49) قَالُوا أَو لم تَكُ تَأْتيكُمْ رسلكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بلَى قَالُوا فَادعوا وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال (50) } وَقَوله: {إِنَّا كُنَّا لكم تبعا} أَي: أتباعا. وَقَوله: {فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا نَصِيبا من النَّار} أَي: هَل تتحملون عَنَّا بعض عَذَاب النَّار؟

48

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا كل فِيهَا} أَي: القادة والأتباع جَمِيعًا. وَقَوله: {إِن الله قد حكم بَين الْعباد} أَي: فصل بَين الْعباد فَأدْخل أهل الْجنَّة الْجنَّة، وَأهل النَّار النَّار.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين فِي النَّار لخزنة جَهَنَّم} فِي الْقِصَّة: أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك بعد أَن دعوا الله تَعَالَى ألف عَام، وَلم يرَوا إِجَابَة. وَقَوله: {ادعوا ربكُم يُخَفف عَنَّا يَوْمًا من الْعَذَاب} أَي: يَوْمًا وَاحِدًا من أَيَّام الدُّنْيَا.

50

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أَو لم تَكُ تَأْتيكُمْ رسلكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بلَى فَادعوا وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال} أَي: فِي هَلَاك وَبطلَان، وَمَعْنَاهُ: أَن دعاءهم غير مستجاب.

51

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لننصر رسلنَا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: بإيضاح الْحجَّة. وَقَالَ غَيره: بالانتقام من أعدائهم. وَعَن السدى قَالَ: الْأَنْبِيَاء قد تولى الله نصرتهم، وَإِن قتلوا فِي الدُّنْيَا، فَإِن الله يبْعَث من بعدهمْ من ينْتَقم لَهُم من أعدائهم. وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: وينصر الَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَيَوْم يقوم الأشهاد} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. والأشهاد جمع شَاهد، كالأصحاب جمع صَاحب. وَيُقَال: شَهِيد وأشهاد مثل:

{إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد (51) يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين معذرتهم وَلَهُم اللَّعْنَة وَلَهُم سوء الدَّار (52) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْهدى وأورثنا بني إِسْرَائِيل الْكتاب (53) هدى وذكرى لأولي الْأَلْبَاب (54) فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي والأبكار (55) إِن الَّذين يجادلون فِي} شرِيف وأشراف.

52

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين معذرتهم} أَي: اعتذارهم؛ لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُم {وَلَهُم اللَّعْنَة} أَي: عَلَيْهِم اللَّعْنَة {وَلَهُم سوء الدَّار} أَي: الدَّار السَّيئَة، وَهِي النَّار.

53

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْهدى} أَي: النُّبُوَّة. وَقَوله: {وأورثنا بني إِسْرَائِيل الْكتاب} أَي: التَّوْرَاة.

54

وَقَوله: {هدى وذكرى لأولي الْأَلْبَاب} ظَاهر الْمَعْنى.

55

قَوْله: تَعَالَى: {فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك} تمسك من جوز الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء بِهَذِهِ الْآيَة، فَأَمرهمْ بالاستغفار عَن الصَّغَائِر. وَمن لم يجوز الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء [قَالَ] : إِنَّه أَمر بالاستغفار تعبدا؛ لينال بذلك رضَا الله تَعَالَى، ويقتدي بِهِ من يَأْتِي بعده. وَقَوله: {وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي وَالْإِبْكَار} أَي: صل شاكرا لِرَبِّك بالْعَشي وَالْإِبْكَار، والعشي من وَقت زَوَال الشَّمْس إِلَى الْغُرُوب، وَالْإِبْكَار مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس.

56

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يجادلون فِي آيَات الله} أَي: فِي دفع آيَات الله بالتكذيب. وَقَوله: {بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم} أَي: أَتَاهُم بِغَيْر حجَّة.

{آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر مَا هم ببالغيه فاستعذ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير (56) لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس} وَقَوله: {إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر} أَي: مَا فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر. وَالْكبر الَّذِي فِي صُدُورهمْ هُوَ الاستكبار عَن الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ. وَيُقَال: طلب الْغَلَبَة والعلو علو مُحَمَّد. وَقَوله: {مَا هم ببالغيه} أَي: مَا هم ببالغي إرادتهم، وَكَانَ مُرَادهم أَن يهْلك مُحَمَّد وَيهْلك أَصْحَابه، ويندرس أَثَره ويصيروا حِكَايَة. وَيُقَال: كَانَ مُرَادهم أَن يغلبوا مُحَمَّدًا ويعلو أَمرهم أمره. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث، قَالَه ابْن جريج وَغَيره. (وَهَذَا أَن) الْآيَة نزلت فِي الْيَهُود فَكَانُوا يَقُولُونَ: يخرج منا فِي آخر الزَّمَان من يغلب على جَمِيع الأَرْض، وَيكون الْبَحْر إِلَى رُكْبَتَيْهِ، والسحاب على رَأسه، وَيقتل ويحيي، وَمَعَهُ جبل من جنَّة، وجبل من نَار. قَالُوا: يَعْنِي أهل الْعلم وَهُوَ الدَّجَّال الَّذِي ذكره الرَّسُول، فَلَمَّا قَالُوا هَذَا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَمعنى قَوْله: {مَا هم ببالغيه} على هَذَا القَوْل أَن الْغَلَبَة لَا تكون للدجال على الْمُسلمين، بل تكون للْمُسلمين على الدَّجَّال، فَإِن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ينزل وَيقتل الدَّجَّال نصْرَة للْمُسلمين. وَقَوله: {فاستعذ بِاللَّه} أَي: من شرك الدَّجَّال على هَذَا القَوْل. وَقَوله: {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

57

قَوْله تَعَالَى: {لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس} أَي: رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد، وإجراء الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر فِي مجاريها، وَبسط الأَرْض، وَنصب الْجبَال أهول فِي قُلُوب النَّاس من خلق الْآدَمِيّين. وَيُقَال: لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من قتل الدَّجَّال وَاحِدًا وإحيائه، فَالنَّاس هَاهُنَا: هُوَ الدَّجَّال على هَذَا القَوْل. وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ حَقِيقَة الْأُمُور.

{لَا يعلمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَلَا الْمُسِيء قَلِيلا مَا تتذكرون (58) إِن السَّاعَة لآتية لَا ريب فِيهَا وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ (59) وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم إِن الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبادتي}

58

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} إِلَى قَوْله: {قَلِيلا مَا تتذكرون} بِالتَّاءِ، وَقُرِئَ بِالْيَاءِ، وَالْمعْنَى قريب بعضه من بعض.

59

قَوْله تَعَالَى: {إِن السَّاعَة لآتية لَا ريب فِيهَا} أَي: لَا شكّ فِيهَا. وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يصدقون.

60

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} قد ثَبت بِرِوَايَة نعْمَان بن بشير أَن النَّبِي قَالَ: " الدُّعَاء هُوَ الْعِبَادَة. وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة ". وَعَن ثَابت قَالَ: قلت لأنس: الدُّعَاء نصف الْعِبَادَة، قَالَ: هُوَ كل الْعِبَادَة. وَقَوله: {إِن الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبادتي} أَي: عَن دعائي، وَيُقَال: عَن توحيدي. وَقَوله: {سيدخلون جَهَنَّم داخرين} أَي: صاغرين. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: أَعْطَيْت هَذِه الْأمة (ثَلَاثًا) لم يُعْط أحد من الْأُمَم: قَالَ الله تَعَالَى لكل نَبِي من الْأَنْبِيَاء السالفة: أَنْت شَاهد على أمتك، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة: أَنْتُم شُهَدَاء على الْأُمَم، وَقَالَ الله تَعَالَى لكل نَبِي: مَا عَلَيْك فِي الدّين من حرج، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَقَالَ لكل نَبِي: ادْع أَسْتَجِب لَك، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} .

{سيدخلون جَهَنَّم داخرين (60) الله الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون (61) ذَلِكُم الله ربكُم خَالق كل شَيْء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون (62) كَذَلِك يؤفك الَّذين كَانُوا بآيَات الله يجحدون (63) الله الَّذِي جعل لكم الأَرْض قرارا وَالسَّمَاء بِنَاء وصوركم فَأحْسن صوركُمْ ورزقكم من الطَّيِّبَات ذَلِكُم الله ربكُم فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين (64) هُوَ الْحَيّ}

61

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ} أَي: لتسترخوا فِيهِ من الْأَعْمَال، وَقيل: لتناموا. وَقَوله: {وَالنَّهَار مبصرا} أَي: مبصرا فِيهِ، وَمَعْنَاهُ: أَن النَّاس يبصرون فِيهِ الْأَشْيَاء. وَقَوله: {إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون} ظَاهر الْمَعْنى.

62

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم الله ربكُم خَالق كل شَيْء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون} قد بَينا.

63

وَقَوله: {كَذَلِك يؤفك الَّذين كَانُوا بآيَات الله يجحدون} أَي: يصرف عَن الْحق من كَانَ مُشْركًا بِاللَّه جاحدا لآياته.

64

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي جعل لكم الأَرْض قرارا} أَي: تستقرون فِيهَا، {وَالسَّمَاء بِنَاء} أَي: بناءة فَوْقكُم. وَقَوله: {وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} فِي التَّفْسِير: أَنه لَا يَأْكُل بِيَدِهِ [شَيْء] سوى الْآدَمِيّين، وَلَا صُورَة على هَذِه الصُّورَة أحسن من الْآدَمِيّين. وَقَوله: {ورزقكم من الطَّيِّبَات} أَي: مِمَّا تستلذوها مِمَّا هُوَ حَلَال لكم. وَقَوله: {ذَلِكُم الله ربكُم فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين} وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى وتعظم رب الْعَالمين عَمَّا يَقُول الْكفَّار.

{لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَادعوهُ مُخلصين لَهُ الدّين الْحَمد لله رب الْعَالمين (65) قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله لما جَاءَنِي الْبَينَات من رَبِّي وَأمرت أَن أسلم لرب الْعَالمين (66) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ يخرجكم طفْلا ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أَََجَلًا مُسَمّى ولعلكم تعقلون (67) هُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت فَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون}

65

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الْحَيّ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَادعوهُ مُخلصين لَهُ الدّين} وَالدُّعَاء على الْإِخْلَاص أَلا يدعوا مَعَه سواهُ. وَقَوله: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} روى عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: من السّنة أَن يَقُول العَبْد لَا إِلَه إِلَّا الله، ثمَّ يَقُول عقيبة: الْحَمد لله رب الْعَالمين.

66

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله لما جَاءَنِي الْبَينَات من رَبِّي} أَي: الْحجَج الْوَاضِحَة. وَقَوله: {وَأمرت أَن أسلم لرب الْعَالمين} أَي: أستسلم وأنقاد لحكمه.

67

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ يخرجكم طفْلا} أَي: أطفالا، وَاحِدًا بِمَعْنى الْجمع، وَيُقَال: طفْلا طفْلا. وَقَوله: {ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم} قد بَينا معنى الأشد. وَقَوله: {ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ومنكم من يتوفى من قبل} أَي: من قبل أَن صَار شَيخا. وَقَوله: {ولتبلغوا أَََجَلًا مُسَمّى} أَي: مَا قدر لكم من الْحَيَاة. وَقَوله: {ولعلكم تعقلون} ظَاهر الْمَعْنى.

68

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت فَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} أَي: تكوينه الْأَشْيَاء يكون بِمرَّة وَاحِدَة، لَا بِمرَّة بعد مرّة.

((68} ألم تَرَ إِلَى الَّذين يجادلون فِي آيَات الله أَنى يصرفون (69) الَّذين كذبُوا بِالْكتاب وَبِمَا أرسلنَا بِهِ رسلنَا فَسَوف يعلمُونَ (70) إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل يسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيم ثمَّ فِي النَّار يسجرون (72) ثمَّ قيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تشركون (73) من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا بل لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا كَذَلِك يضل الله الْكَافرين (74) ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تمرحون)

69

وَقَوله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يجادلون فِي آيَات الله} أَي: يجادلون فِي دفع آيَاتنَا بالتكذيب. وَقَوله: {أَنى يصرفون} أَي: كَيفَ يصرفون عَن الْحق.

70

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كذبُوا بِالْكتاب وَبِمَا أرسلنَا بِهِ رسلنَا فَسَوف يعلمُونَ} وَعِيد وتهديد.

71

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل} وَقُرِئَ: " والسلاسل " بِنصب اللَّام، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع، فَمَعْنَاه: الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل، وَمن قَرَأَ بِالنّصب، فَمَعْنَاه: ويسحبون السلَاسِل. وَقَوله: {يسْحَبُونَ فِي الْحَمِيم} أَي: يجرونَ فِي الْحَمِيم. وَقَوله: {ثمَّ فِي النَّار يسجرون} أَي: يوقدون فِي النَّار كَمَا توقد التنانير بالخشب.

73

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ قيل لَهُم أَيْنَمَا كُنْتُم تَعْبدُونَ من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا} يَعْنِي: أَيْن هم لينصروكم؟ فَيَقُولُونَ: قد فاتوا وذهبوا عَنَّا. وَقَوله: {بل لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا} أَي: لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا يدْفع عَنَّا ضرا، أَو يجلب إِلَيْنَا نفعا. وَقَوله: {كَذَلِك يضل الله الْكَافرين} أَي: عَن الْحق.

75

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} هَذَا دَلِيل على أَنه

((75} ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين (76) فاصبر إِن وعد الله حق فإمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فإلينا يرجعُونَ (77) وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك وَمَا كَانَ لرَسُول أَن) قد يكون فَرح بِحَق. وَقَوله: {وَبِمَا كُنْتُم تمرحون} الْفَرح: السرُور. والمرح والبطر والأشر. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى يبغض البذخين الفرحين المرحين، وَيُحب كل قلب حَزِين، وَيبغض الحبر السمين، وَيبغض أهل بَيت اللحمين أَي: الَّذين يكثرون أكل اللَّحْم، وَيُقَال: الَّذين يَأْكُلُون لُحُوم النَّاس بالغيبة. وَالْخَبَر غَرِيب.

76

وَقَوله: {فادخلوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين} ظَاهر الْمَعْنى.

77

قَوْله تَعَالَى: {فاصبر إِن وعد الله حق} إِلَى آخر الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.

78

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك} قَالَ السدى: بعث الله تَعَالَى ثَمَانِيَة آلَاف نَبيا: أَرْبَعَة آلَاف من بني إِسْرَائِيل، وَأَرْبَعَة آلَاف من غير بني إِسْرَائِيل. وَفِي بعض التفاسير: أَن جَمِيع من ذكرهم الله تَعَالَى [فِي] الْقُرْآن من الْأَنْبِيَاء خَمْسَة وَعِشْرُونَ نَبيا، أَوَّلهمْ آدم، وَآخرهمْ مُحَمَّد، ذكر ثَمَانِيَة عشر مِنْهُم فِي سُورَة الْأَنْعَام، والباقين فِي غَيرهَا. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن الله تَعَالَى بعث نَبيا حَبَشِيًّا لم يذكر اسْمه فِي الْقُرْآن. وَأما الَّذِي فِي أَفْوَاه النَّاس أَن الله تَعَالَى بعث مائَة وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألف نَبِي.

{يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله فَإِذا جَاءَ أَمر الله قضي بِالْحَقِّ وخسر هُنَالك المبطلون (78) الله الَّذِي جعل لكم الْأَنْعَام لتركبوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلكم فِيهَا مَنَافِع ولتبلغوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صدوركم وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون (80) ويريكم آيَاته فَأَي آيَات الله تنكرون (81) أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم} وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة ضَعِيفَة. وَقَوله: {وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي إِلَّا بِإِذن الله} هَذَا جَوَاب للْكفَّار، سَأَلُوا النَّبِي معْجزَة بِعَيْنِه، وَقَالُوا: افْعَل كَذَا وَكَذَا، فَرد الله عَلَيْهِم ذَلِك بقوله: {وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله} . وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ أَمر الله قضى بِالْحَقِّ وخسر هُنَالك المبطلون} أَي: هلك عِنْد ذَلِك المبطلون. وَقَوله: {أَمر الله} أَرَادَ بِهِ الْقِيَامَة.

79

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي جعل لكم الْأَنْعَام لتركبوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: الْأَنْعَام هِيَ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم فِي اللُّغَة، إِلَّا أَنَّهَا الْإِبِل خَاصَّة فِي هَذِه الْآيَة.

80

وَقَوله: {وَلكم فِيهَا مَنَافِع} يَعْنِي: سوى الرّكُوب وَالْأكل من الرُّسُل والنسل والوبر وَغير ذَلِك. وَقَوله: {ولتبلغوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صدوركم} قَالَ قَتَادَة: الِانْتِقَال من بلد إِلَى بلد. قَالَ مُجَاهِد: أَي حَاجَة كَانَت. وَقَوله: {وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون} ظَاهر الْمَعْنى، والفلك: السَّفِينَة.

81

قَوْله تَعَالَى: {ويريكم آيَاته فَأَي آيَات الله تنكرون} يَعْنِي: مَعَ ظُهُورهَا ووضوحها.

82

قَوْله تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض} قَالَ مُجَاهِد: قَوْله: {وآثارا فِي

{كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (83) فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين} الأَرْض) مَعْنَاهُ: الْمَشْي فِيهَا بأرجلهم. وَيُقَال: الْآثَار فِي الأَرْض هِيَ العروش والزروع والأبنية. وَقَوله: {فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أَي: لم يدْفع عَنْهُم كسبهم شَيْئا حِين ينزل الْعَذَاب بهم.

83

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَلم يكن عِنْدهم [علم] أصلا؟ قُلْنَا: قد كَانَ فِي ظنهم أَنهم عُلَمَاء، فَسمى مَا عِنْدهم علما على ظنهم، وَكَانَ الَّذِي ظنوه أَن لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار وَلَا حَيَاة بعد الْمَوْت. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن قَوْله: {فرحوا} يرجع إِلَى الرُّسُل، وَمعنى الْآيَة: فَرح الرُّسُل بِمَا عِنْدهم من الْعلم بِهَلَاك أعدائهم. وَيُقَال: فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم أَي: رَضوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم، وَلم يطلبوا الْعلم الَّذِي أنزلهُ الله على الْأَنْبِيَاء وقنعوا بِمَا عِنْدهم، وَهُوَ كَانَ جهلا على الْحَقِيقَة. وَقَوله: {وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: نزل بهم وبال مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون.

84

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده} قد ذكرنَا معنى الْبَأْس. وَقَوله: {وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين} وَهَكَذَا جَمِيع الْكَافرين، يُؤمنُونَ عِنْد الْبَأْس، وَلَا يَنْفَعهُمْ ذَلِك.

((84} فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا سنت الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ (85))

85

وَقَوله: {فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا} وَقد اسْتثْنى مِنْهُم قوم يُونُس فِي سُورَة يُونُس، وَقد ذكرنَا. وَقَوله: {سنة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده} أَي: مَضَت فِي عباده، وَمعنى السّنة: هُوَ إِيمَانهم وَعدم النَّفْع فِي إِيمَانهم. وَقَوله: {وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ} أَي: هلك هُنَالك الْكَافِرُونَ. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ {هُنَالك} وَهَذَا يَقْتَضِي أَلا يَكُونُوا فِي الْحَال خاسرين؟ وَالْجَوَاب: أَن الزّجاج قَالَ: كل كَافِر خاسر، إِلَّا أَنه إِذا رأى الْعَذَاب تبين لَهُ الخسران. فَبِهَذَا الْمَعْنى قَالَ: {هُنَالك} وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {حم (1) تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم (2) كتاب فصلت آيَاته قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعلمُونَ (3) بشيرا وَنَذِيرا فَأَعْرض أَكْثَرهم فهم لَا يسمعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ وَفِي آذاننا وقر} تَفْسِير سُورَة حم السَّجْدَة وَهِي مَكِّيَّة

فصلت

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حم} قد ذكرنَا مَعْنَاهُ.

2

وَقَوله: {تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم} مِنْهُم من قَالَ: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير كَأَنَّهُ: تَنْزِيل كتاب من الرَّحْمَن الرَّحِيم فصلت آيَاته. وَقَالَ بَعضهم: فِي الْآيَة مُضْمر مَحْذُوف، والمحذوف هُوَ الْقُرْآن، وَكَأَنَّهُ قَالَ: تَنْزِيل الْقُرْآن من الرَّحْمَن الرَّحِيم. قَالَ الزّجاج: وَقَوله: {تَنْزِيل} مُبْتَدأ، قَوْله: {كتاب} خَبره.

3

وَقَوله: {فصلت آيَاته} قَالَ مُجَاهِد: فسرت، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فصلت بالوعد والوعيد، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَيُقَال: فصلت بالحلال وَالْحرَام. وَقَوله: {قُرْآنًا عَرَبيا} أَي: بِلِسَان الْعَرَب. وَقَوله: {لقوم يعلمُونَ} أَي: يتدبرون مَا فِيهِ عَن علم.

4

قَوْله: {بشيرا وَنَذِيرا} مَعْنَاهُ: قُرْآنًا بشيرا وَنَذِيرا. فالقرآن بشير للْمُؤْمِنين، نَذِير للْكَافِرِينَ. وَقَوله: {فَأَعْرض أَكْثَرهم فهم لَا يسمعُونَ} أَي: لَا يَسْتَمِعُون إِلَى الْقُرْآن.

5

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ} أَي: فِي أغطية. قَالَ مُجَاهِد: كالجعبة للنبل. وَقَوله: {وَفِي آذاننا وقر} أَي: صمم.

{وَمن بَيْننَا وَبَيْنك حجاب فاعمل إننا عاملون (5) قل إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ أَنما إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه وويل للْمُشْرِكين (6) الَّذين لَا يُؤْتونَ} وَقَوله: {وَمن بَيْننَا وَبَيْنك حجاب} أَي: حاجز. وَقَالَ بَعضهم: (تفرق فِي النحلة حاجز فِي الطَّرِيقَة) . وروى بَعضهم: أَن أَبَا جهل استغشى بِثَوْب ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، بَيْننَا وَبَيْنك حجاب. استهزاء، وَمعنى الْآيَة: أَنهم لما لم يستمعوا إِلَى الْقُرْآن اسْتِمَاع من يقبله كَانُوا كَأَن قُلُوبهم فِي أغطية، وَفِي آذانهم وقر وصمم، وَبَينه وَبينهمْ حجاب. وَقَوله: {فاعمل إننا عاملون} مَعْنَاهُ: [فاعمل] بِمَا [تعلم] من دينك إننا عاملون بِمَا نعلم من ديننَا، قَالَه الْفراء. وَقَالَ بَعضهم: فاعمل فِي هلاكنا فَإنَّا نعمل فِي هلاكك. وَقَالَ بَعضهم: فاعمل لمعبودك فَإنَّا نعمل لمعبودنا.

6

قَوْله: {إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ إِنَّمَا إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فاستقيموا إِلَيْهِ} أَي: توجهوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة. وَقَوله: {واستغفروه} أَي: من الشّرك الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ. وَقَوله: {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} أَي: لَا يرَوْنَ الزَّكَاة وَاجِبَة عَلَيْهِم كَمَا يرَاهُ الْمُسلمُونَ. وَيُقَال: معنى الإيتاء هُوَ على ظَاهره، وَالْكَافِر يُعَاقب فِي الْآخِرَة بترك إيتَاء الزَّكَاة؛ لأَنهم مخاطبون بالشرائع. ذكره جمَاعَة من أهل الْعلم. وَقَالَ بَعضهم: لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة أَي: لَا يَفْعَلُونَ مَا يصيرون بِهِ أزكياء. وَقَالَ بَعضهم: لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة أَي: لَا يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله، قَالَ ابْن عَبَّاس، فِي رِوَايَة عَطاء، فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: لَا يطهرون أنفسهم من الشّرك بِقبُول التَّوْحِيد. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الزَّكَاة فطْرَة الْإِسْلَام؛ فَمن قبلهَا نجا، وَمن ردهَا هلك. وَأما القَوْل الَّذِي قُلْنَاهُ إِنَّهَا الزَّكَاة بِعَينهَا،

{الزَّكَاة وهم بِالآخِرَة هم كافرون (7) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون (8) قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ وتجعلون لَهُ اندادا ذَلِك رب الْعَالمين (9) وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا وَبَارك فِيهَا وَقدر فِيهَا أقواتها فِي} قَالَه الْحسن الْبَصْرِيّ وَجَمَاعَة. وَقَوله: {وهم بِالآخِرَة هم كافرون} ظَاهر الْمَعْنى.

8

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون} أَي: غير مَقْطُوع، وَيُقَال مَعْنَاهُ: غر ممنون عَلَيْهِم.

9

قَوْله تَعَالَى: {قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَوْم الْأَحَد وَيَوْم الِاثْنَيْنِ. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا الْحِكْمَة فِي خلقهَا فِي يَوْمَيْنِ، وَقد كَانَ قَادِرًا على خلقهَا فِي سَاعَة وَأَقل من ذَلِك؟ قُلْنَا: خلق فِي يَوْمَيْنِ ليرشد خلقه إِلَى الإناة فِي الْأَفْعَال؛ وليكون أبعد من توهم اتِّفَاق أَو فعل طبع، وَلِأَنَّهُ لَا سُؤال عَلَيْهِ فِي خلقه فكيفما شَاءَ خلق. وَقَوله: {وتجعلون لَهُ أندادا} أَي: أشباها وأمثالا وشركاء. قَالَ حسان بن ثَابت: (أتهجوه وَلست لَهُ بند ... فشركما لخير كَمَا الْفِدَاء) قَالَ أهل الْمعَانِي: قَوْله {وتجعلون لَهُ أندادا} أَي: تطيعون غَيره فِي مَعَاصيه. وَقَالَ بَعضهم: من ذَلِك أَن يَقُول الرجل: لَوْلَا كلبة فلَان لدخل اللُّصُوص دَاري، وَلَوْلَا إرشاد فلَان لهلكت، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {ذَلِك رب الْعَالمين} أَي: الَّذِي فعل ذَلِك الْفِعْل هُوَ رب الْعَالمين. قَوْله تَعَالَى: {وَجعل فِيهَا رواسي} أَي: جبالا رواسي، وسماها رواسي لثبوتها. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض جعلت تميد وَلَا تَسْتَقِر، فخلق الله الْجبَال عَلَيْهَا فاستقرت، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا} . وَقَوله: {وَبَارك فِيهَا} أَي: أَكثر فِيهَا الْبركَة. وَالْبركَة: الْمَنَافِع، وَمن بركاتها

{أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء للسائلين (10) ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان فَقَالَ لَهَا وللأرض} الْأَشْجَار الَّتِي تنْبت بِغَيْر غرس، والحبوب الَّتِي تنْبت بِغَيْر بذر، وكل مَا لم يعمله بَنو آدم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى جمع فِي (الْخبز) بَرَكَات السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَقدر فِيهَا أقواتها} فِي التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: الْحِنْطَة لقوم، وَالشعِير لقوم، والذرة لقوم، وَالتَّمْر لقوم، والسمك لقوم، وَاللَّحم لقوم. وَيُقَال: الْمصْرِيّ لمصر، والسابري لسابر، والعربي للْعَرَب، وكل طَعَام فِي مَوْضِعه. وَقَوله: {فِي أَرْبَعَة أَيَّام} أَي: (فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام) . فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ هَاهُنَا خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ فَذكر أَنه بَدَأَ بِخلق الأَرْض وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} فَكيف وَجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: أَن معنى قَوْله: {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} أَي: مَعَ ذَلِك، وَهَذَا ضَعِيف فِي اللُّغَة، وَالأَصَح أَن معنى قَوْله: (وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها) أَي: بسطها، وَكَانَ الله تَعَالَى خلق الأَرْض قبل السَّمَوَات فِي يَوْمَيْنِ، وَخلق الأرزاق والأقوات فِيهَا، وأجرى الْأَنْهَار، وَأظْهر الْأَشْجَار، وَخلق الْبحار فِي يَوْمَيْنِ آخَرين، فَذَلِك تَمام أَرْبَعَة أَيَّام، وَلم يكن بسط الأَرْض وَجعلهَا بِحَيْثُ يسكن فِيهَا، فَلَمَّا خلق السَّمَوَات بسط الأَرْض وَجعلهَا بِحَيْثُ يسكنهَا النَّاس. وَقَوله: {سَوَاء للسائلين} أَي: عدلا للسائلين، وَمَعْنَاهُ: من سَأَلَك عَن هَذَا فأجبه بِهَذَا، فَإِنَّهُ الْحق وَالْعدْل. قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان} أَي: قصد إِلَى خلق السَّمَاء وَهِي دُخان، وَفِي الْقِصَّة ان الله تَعَالَى خلق أول مَا خلق مَاء يضطرب، فأزبد المَاء زبدا، وارتفع من الزّبد دُخان، فخلق الأَرْض من الزّبد، وَخلق السَّمَاء من الدُّخان. وَقَوله: {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طوع أَو كرها} قَالَ بَعضهم: معنى قَوْله:

{ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين (11) فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ وَأوحى فِي} {ائتيا} أَي: كونا كَمَا قدرتكما طَوْعًا أَو كرها، وعَلى هَذَا يكون هَذَا القَوْل قبل الْخلق، وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ قَول الْأَكْثَرين أَن هَذَا القَوْل من الله تَعَالَى بعد أَن خلقهما، فعلى هَذَا معنى قَوْله: (ائتيا طَوْعًا أَو كرها) أَي: أعطيا الطَّاعَة فِيمَا خلقهما لَهُ جبرا واختيارا. وَقَوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} مِنْهُم من قَالَ: هَذَا كُله على طَرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَكَأن الله تَعَالَى لما أجْرى أَمرهمَا على مُرَاده وَتَقْدِيره جعل ذَلِك بِمَنْزِلَة قَول مِنْهُ وَإجَابَة مِنْهُمَا بالطواعية، وَالْعرب قد تذكر القَوْل فِي مثل هَذَا الْموضع، قَالَ الشَّاعِر: (امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا رويدا قد مَلَأت بَطْني) وَقَالَ بَعضهم: إِن القَوْل والإجابة على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَركب فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض مَا عقلا بِهِ خطابه وأجاباه بالطواعية، وَهَذَا هُوَ الأولى. وَعَن ابْن السماك فِي موعظه: سل الأَرْض: من غرس أشجارك؟ وأجرى أنهارك؟ وَأخرج ثمارك؟ فَإِن لم تجبك اخْتِيَارا أجابتك اعْتِبَارا. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {طائعين} وَكَانَ من حق اللُّغَة أَن يَقُول: طائعات قُلْنَا: إِنَّمَا قَالَ: {طائعين} لِأَنَّهُ لما جعلهَا بِمَنْزِلَة من يعقل فِي الْخطاب مَعهَا وجوابها ذكر الْكَلَام على نعت الْعُقَلَاء. قَوْله تَعَالَى: {فقضاهن سبع سموات} أَي: خَلقهنَّ سبع سموات {فِي يَوْمَيْنِ} وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس و [يَوْم] الْجُمُعَة. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الله تَعَالَى خلق الأَرْض يَوْم الْأَحَد والاثنين، وَخلق الْمَكْرُوه يَوْم الثُّلَاثَاء، وَخلق الأقوات وَالْأَشْجَار يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَخلق السَّمَوَات يَوْم الْخَمِيس، وَخلق فِيهَا البروج وَالْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر يَوْم الْجُمُعَة، وَخلق آدم فِي آخر سَاعَة من يَوْم الْجُمُعَة على عجل "، وَقد حكيت اللَّفْظَة

{كل سَمَاء أمرهَا وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وحفظا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم (12) } الْأَخِيرَة عَن ابْن عَبَّاس. وَقَوله: {وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} أَي: قدر فِي كل سَمَاء أمرهَا، وَيُقَال: خلق فِي كل سَمَاء مَا أَرَادَ أَن يخلق فِيهَا، وَذَلِكَ من سكانها وَغير ذَلِك. وَقَوله: {وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح} أَي: بالكواكب. وَقَوله: {وحفظا} أَي: حفظنا السَّمَاء بالكواكب من الشَّيْطَان. وَقَوله: {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى، وَيذكر تَفْسِير هَذِه الْآيَة من وَجه آخر على مَا نقل فِي التفاسير. فَقَوله تَعَالَى: {قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} هُوَ يَوْم الْأَحَد والاثنين، والاثنان هُوَ الْعدَد الْعدْل؛ لِأَنَّهُ أَكثر من الْوَاحِد الَّذِي لَيْسَ دونه شَيْء، وَلم يبلغ الثَّلَاث الَّذِي هُوَ جمع. وَقيل: هُوَ خلق فِي يَوْمَيْنِ، ليَكُون اعْتِبَارا للْمَلَائكَة فِي النّظر إِلَى خلقه أَكثر، فَيكون أدل على وحدانيته. وَقَوله: {وتجعلون لَهُ أندادا ذَلِك رب الْعَالمين} قد بَينا. وَقَوله: {وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا} روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: خلق الْجبَال يَوْم الثُّلَاثَاء، وَخلق السَّمَاء وَالْأَشْجَار والبحار والأنهار يَوْم الْأَرْبَعَاء. وَقَوله: {وَبَارك فِيهَا} أَي: أَكثر فِيهَا الْخَيْر. وَقَوله: {وَقدر فِيهَا أقواتها} فِي التَّفْسِير: أَنه جعل فِي كل بلد مَا لَيْسَ فِي غَيره، ليتعايش النَّاس ويتجروا فِيهَا نقلا من بلد إِلَى بلد. يُقَال هُوَ الْيَمَانِيّ بِالْيمن،

والقوهى بقوهستان، والسابري بسابور، والقراطيس بِمصْر، والمروى بمرو، والبغدادي بِبَغْدَاد، والهروى بهراة. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: قَوْله: {قدر فِيهَا أقواتها} هُوَ الْمَطَر. وَقَوله: {فِي أَرْبَعَة أَيَّام} أَي: فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام، فَإِن قيل: قد ذكر يَوْمَيْنِ فِي الْآيَة الأولى، وَأَرْبَعَة فِي هَذِه الْآيَة، ويومين من بعد، فَيكون قد خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي ثَمَانِيَة أَيَّام؟ قُلْنَا: لَا، بل خلقهَا فِي سِتَّة أَيَّام. وَقَوله: {فِي أَرْبَعَة أَيَّام} أَي: فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام مَعَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلين، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول: ذهبت من الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد فِي عشرَة أَيَّام، وَذَهَبت من بَغْدَاد إِلَى الْكُوفَة فِي خَمْسَة عشر يَوْمًا أَي: فِي تَمام خَمْسَة عشر يَوْمًا مَعَ الْعدْل الأول، هَذَا كَلَام الْعَرَب، وَمن طعن فِيهِ فَلم يعرف كَلَام الْعَرَب. وَقَوله: {سَوَاء للسائلين} قد بَينا أحد الْمَعْنيين، وَالْمعْنَى الآخر: وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام للسائلين أَي: المحتاجين إِلَى الْقُوت. وَقَوله: {سَوَاء} ينْصَرف إِلَى الْأَيَّام أَي: مستويات تامات. وَقيل: (ذَوَات) سَوَاء. وَقد قرئَ بالخفض: " سَوَاء للسائلين ". وَيُقَال: اسْتَوَى سَوَاء على الْقِرَاءَة الأولى. قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان} فِي التَّفْسِير: أَن الدُّخان كَانَ من تنفس المَاء، وَيُقَال: إِنَّه خلق سَمَاء وَاحِدَة ثمَّ فتقها فَجَعلهَا سبع سموات، وَقد ذكرنَا من قبل وَقَوله: {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها} قَالَ بَعضهم: هُوَ على طَرِيق الْمجَاز مثل: قَول الشَّاعِر: (وَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة ... وحذرتا كالدر لما تثقب) وَتقول الْعَرَب: قَالَ الْحَائِط فَمَال وَقَوله: {ائتيا طَوْعًا أَو كرها} أَي: أجيبا طَوْعًا وَإِلَّا ألجأتكما إِلَى الْإِجَابَة كرها،

وَإِنَّمَا ذكرُوا هَذَا الْمَعْنى؛ لِأَن الْأَمر لَا يرد إِلَّا بِالْفِعْلِ طَوْعًا. وَذكر بَعضهم: أَن الله تَعَالَى خلق فِي السَّمَوَات تمييزا وعقلا، فخاطبهما وأجابا على الْحَقِيقَة، وَقد ذكرنَا. وَأورد بَعضهم: أَن الْخطاب لمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الْموضع الَّذِي أجَاب من الأَرْض هُوَ الْأُرْدُن، وَفِيه أَيْضا: أَن الله تَعَالَى خلق سَبْعَة عشر نوعا من الأَرْض، هَذَا الَّذِي ترَاهُ أَصْغَر الْكل، وأسكن تِلْكَ الْأَرْضين قوما لَيْسُوا بإنس وَلَا جن وَلَا مَلَائِكَة، وَالله أعلم. وَقَوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَلم يقل: طائعتين، قَالُوا: لِأَن المُرَاد هُوَ السَّمَوَات بِمن فِيهَا، وَالْأَرْض بِمن فِيهَا. وَيُقَال: لِأَن السَّمَوَات سبع والأرضون سبع، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ فِي الأَرْض فَقَالَ: طائعين لأجل هَذَا الْعدَد. قَوْله تَعَالَى: {فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ} أَي: خَلقهنَّ. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى خلق السَّمَوَات يَوْم الْخَمِيس، وَخلق الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب وَالْمَلَائِكَة وآدَم يَوْم الْجُمُعَة، وَسميت الْجُمُعَة جُمُعَة؛ لِأَنَّهُ اجْتمع فِيهَا الْخلق. وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى خلق آدم فِي آخر سَاعَة من سَاعَات الْجُمُعَة، وَتَركه أَرْبَعِينَ سنة ينظر إِلَيْهِ ويثني على نَفسه، وَيَقُول: {تبَارك الله رب الْعَالمين} وَفِي بعض التفاسير أَيْضا: أَن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض قَالَ لَهَا: أَخْرِجِي أشجارك وأنهارك وثمارك فأخرجت، وَلما خلق الله السَّمَاء قَالَ لَهَا: أَخْرِجِي شمسك وقمرك ونجومك فأخرجت. وَقَوله: {وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} أَي: مَا يصلحها، وَيُقَال: جعل فِيهَا سكانها من الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وحفظا} قد بَينا. وَقَوله: {وحفظا} أَي: وحفظناها حفظا من الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ والنجوم. وَقَوله: {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} أَي: تَقْدِير القوى على مَا يُرِيد خلقه، الْعَلِيم بخلقه وَمَا يصلحهم.

{فَإِن أَعرضُوا فَقل أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَة مثل صَاعِقَة عَاد وَثَمُود (13) إِذْ جَاءَتْهُم الرُّسُل من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم أَلا تعبدوا إِلَّا الله قَالُوا لَو شَاءَ رَبنَا لأنزل مَلَائِكَة فَإنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون (14) فَأَما عَاد فاستكبروا فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَقَالُوا من أَشد منا قُوَّة أَو لم يرَوا أَن الله الَّذِي خلقهمْ هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون (15) }

13

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أَعرضُوا} أَي: أَعرضُوا عَن الْإِيمَان بِمَا أنزلت عَلَيْك. وَقَوله: {فَقل أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَة مثل صَاعِقَة عَاد وَثَمُود} الصاعقة نَار تنزل من السَّمَاء إِلَى الأَرْض، وَهِي فِي هَذَا الْموضع كل عُقُوبَة مهلكة.

14

وَقَوله: {إِذْ جَاءَتْهُم الرُّسُل من بَين أَيْديهم} أَي: إِلَى الْآبَاء {وَمن خَلفهم} أَي: الْأَبْنَاء الَّذين كَانُوا خلف الْآبَاء، وَيجوز أَن يرجع قَوْله: {وَمن خَلفهم} إِلَى خلف الرُّسُل الْأَوَّلين. وَقَوله: {أَلا تعبدوا إِلَّا الله} ظَاهر. وَقَوله: {قَالُوا لَو شَاءَ رَبنَا لأنزل مَلَائِكَة فَإنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون} أَي: جاحدون.

15

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما عَاد فاستكبروا فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَقَالُوا من أَشد منا قُوَّة} وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ من قوتهم أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يضْرب رجله على الصَّخْرَة الصماء فتغوص فِيهَا رجله إِلَى ركبته، وَمن قوتهم أَنهم سدوا الْفَج الَّذِي كَانَ يخرج مِنْهُ الرّيح بصدورهم، حَتَّى قويت الرّيح وأهلكتهم وَاحِدًا بعد وَاحِد. وَقَوله: {أَو لم يرَوا أَن الله الَّذِي خلقهمْ هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون} أَي: يُنكرُونَ.

16

قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا} قَالَ مُجَاهِد: شَدِيدَة السمُوم. وَقَالَ قَتَادَة: شَدِيدَة الْبرد من الصر وَهُوَ الْبرد وَيُمكن الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قيل: إِنَّهَا كَانَت ريحًا بَارِدَة تحرق كَمَا يحرق السمُوم، وَيُقَال: صَرْصَرًا أَي: ذَات صَيْحَة، وَمِنْه سمي نهر الصرصر، وَهُوَ نهر يَأْخُذ من الْفُرَات.

{فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّام نحسات لنذيقهم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لَا ينْصرُونَ (16) وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى فَأَخَذتهم صَاعِقَة الْعَذَاب الْهون بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) ونجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْم يحْشر أَعدَاء الله إِلَى النَّار فهم يُوزعُونَ (19) حَتَّى إِذا} وَقَوله: {فِي أَيَّام نحسات} وَقُرِئَ: " نحسات " بجزم الْحَاء أَي: مشئومات، وَكَانَت هَذِه الْأَيَّام مشائيم عَلَيْهِم؛ لأَنهم عذبُوا فِيهَا. وَقَوله: {لنذيقهم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: عذَابا يخزيهم وينكل بهم. وَقَوله: {ولعذاب الْآخِرَة أخزى} أَي: أَشد إخزاء {وهم لَا ينْصرُونَ} أَي: لَا يمْنَعُونَ من عذابنا.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَأما ثَمُود فهديناهم} حكى عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: هديناهم أَي: دللناهم على الْهدى. وَقَالَ مُجَاهِد: بَينا لَهُم طَرِيق الْهدى. وَقيل: طَرِيق الْخَيْر وَالشَّر. وَفِي بعض التفاسير: هديناهم أَي: دعوناهم. وَقَوله: {فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} أَي: آثروا طَرِيق الضلال على طَرِيق الرشد. وَقَوله: {فَأَخَذتهم صَاعِقَة الْعَذَاب الْهون} فصاعقة الْعَذَاب: نَار نزلت من السَّمَاء إِلَى الأَرْض فتصيب من يسْتَحق الْعَذَاب. وَقَوله: {الْهون} أَي: ذِي الْهون، والهون والهوان بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ عَذَاب يهينهم ويهلكهم. وَقَوله: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

18

وَقَوله تَعَالَى: {ونجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أَي: يَتَّقُونَ الشّرك.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يحْشر أَعدَاء الله إِلَى النَّار فهم يُوزعُونَ} أَي: يحتبس أَوَّلهمْ على آخِرهم.

{مَا جاءوها شهد عَلَيْهِم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (20) وَقَالُوا لجلودهم لم شهدتم علينا قَالُوا أنطقنا الله الَّذِي أنطق كل شَيْء وَهُوَ خَلقكُم أول مرّة وَإِلَيْهِ ترجعون (21) وَمَا كُنْتُم تستترون أَن يشْهد عَلَيْكُم سمعكم وَلَا أبصاركم وَلَا}

20

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا مَا جاءوها شهد عَلَيْهِم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} أَكثر الْمُفَسّرين أَن الْجُلُود هَاهُنَا هِيَ الْفروج، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يحْشر الْعباد مقدمين بالفدام، فَأول مَا ينْطق من جوارح الْإِنْسَان فَخذه وكفه " وَقيل: إِن قَوْله: {وجلودهم} هِيَ الْجُلُود الْمَعْرُوفَة. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أنس " أَن النَّبِي ضحك مرّة، فَسئلَ: مِم ضحِكت؟ فَقَالَ: عجبت من مجادلة العَبْد ربه يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول: أَي رب، أَلَيْسَ وَعَدتنِي أَن لَا تظلمني؟ فَيَقُول: نعم. فَيَقُول العَبْد: فَإِنِّي لَا أُجِيز الْيَوْم شَاهدا عَليّ إِلَّا مني، فَحِينَئِذٍ يخْتم الله على فَمه وتنطق جوارحه بِمَا فعله، فَيَقُول العَبْد: بعدا لَكِن وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كنت أُنَاضِل ".

21

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لجلودهم لما شهدتم علينا قَالُوا أنطقنا الله الَّذِي أنطق كل شَيْء} أَي: كل شَيْء ينْطق. وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ خَلقكُم أول مرّة وَإِلَيْهِ ترجعون} أَي: تردون.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُم تستترون أَن يشْهد عَلَيْكُم سمعكم وَلَا أبصاركم وَلَا جلودكم} فِي الْأَخْبَار الْمَعْرُوفَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: كنت مستترا تَحت ستر الْكَعْبَة، فجَاء قرشيان وثقفي، أَو ثقفيان وقرشي، قَلِيل فقه قُلُوبهم، كثير شَحم بطونهم، فَقَالَ بَعضهم لبَعض: أسمع الله مَا نقُول؟ فَقَالَ أحدهم: يسمع إِذا جهرنا، وَلَا يسمع إِذا أخفينا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُم تستترون} أَي: تستخفون. وَقَوله: {أَن يشْهد} مَعْنَاهُ: من أَن يشْهد عَلَيْكُم سمعكم وَلَا أبصاركم وَلَا جلودكم.

{جلودكم وَلَكِن ظننتم أَن الله لَا يعلم كثيرا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23) فَإِن يصبروا فَالنَّار مثوى لَهُم وَإِن يستعتبوا فَمَا هم من المعتبين (24) } وَقَوله: {وَلَكِن ظننتم أَن الله لَا يعلم كثيرا مِمَّا تَعْمَلُونَ} هُوَ قَول من قَالَ: إِن الله يسمع إِذا جهرنا، وَلَا يسمع إِذا أخفينا.

23

قَوْله تَعَالَى: {وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم} هُوَ مَا قُلْنَاهُ. وَقَوله: {أرداكم} أَي: أهلككم. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " ... أَنا عِنْد ظن عَبدِي، وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي ... ". وَفِي بعض الْأَحَادِيث: " أَن الله تَعَالَى يَأْمر بِعَبْد من عبيده إِلَى النَّار، فَيَقُول: أَي رب، مَا كَانَ هَذَا ظَنِّي بك. فَيَقُول: وَمَا كَانَ ظَنك بِي؟ فَيَقُول العَبْد: كَانَ ظَنِّي أَن تغْفر لي وتدخلني الْجنَّة، فَيغْفر الله لَهُ ". وَفِي بعض التفاسير: أَن العَبْد إِذْ ظن الْخَيْر فعل الْخَيْر، وَإِذا ظن الشَّرّ فعل الشَّرّ. وَقَوله: {فأصبحتم من الخاسرين} أَي: الهالكين.

24

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن يصبروا فَالنَّار مثوى لَهُم} المثوى: الْمنزل. وَقَوله: {وَإِن يستعتبوا فَمَا هم من المعتبين} الاستعتاب طلب الإعتاب، والإعتاب أَن يعود الْإِنْسَان إِلَى مَا يُحِبهُ بعد أَن فعل مَا يكرههُ. تَقول الْعَرَب: أستعتب فلَانا فأعتبني، بِمَعْنى مَا قُلْنَا. وَقَوله: {فماهم من المعتبين} أَي: لَا يرجع بهم إِلَى مَا كَانُوا يحبونَ. وَقيل: إِن مَا يحبونَ هُوَ أَن يعيدهم إِلَى الدُّنْيَا فيعبدوا الله ويطيعوه. وَأما قَوْله: {فَإِن يصبروا} مَعْنَاهُ: فَإِن يصبروا أَو لَا يصبروا. وَمَعْنَاهُ: لَا يَنْفَعهُمْ

{وقيضنا لَهُم قرناء فزينوا لَهُم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَحقّ عَلَيْهِم القَوْل فِي أُمَم قد خلت من قبلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس إِنَّهُم كَانُوا خاسرين (25) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن وألغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون (26) فلنذيقن الَّذين كفرُوا عذَابا شَدِيدا} صَبر وَلَا جزع.

25

قَوْله تَعَالَى: {وقيضنا لَهُم} أَي: صيرنا لَهُم، وَيُقَال: سببنا لَهُم. وَقَوله: {قرناء} أَي: الشَّيَاطِين. وَقَوله: {فزينوا لَهُم} أَي: الشَّيَاطِين زَينُوا لَهُم. {مَا بَين أَيْديهم} أَي: زَينُوا لَهُم أَن لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار. وَقَوله: {وَمَا خَلفهم} أَي: زَينُوا لَهُم لذات الدُّنْيَا، وزينوا لَهُم جمع المَال وإمساكه وَترك إِنْفَاقه فِي سَبِيل الْخَيْر. وَقَوله: {وَحقّ عَلَيْهِم القَوْل} أَي: وَجب عَلَيْهِم القَوْل {فِي أُمَم} أَي: مَعَ أُمَم. وَقَوله: {قد خلت من قبلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس إِنَّهُم كَانُوا خاسرين} أَي: هالكين، فَكل من هلك فقد خسر نَفسه.

26

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ} اللَّغْو كل كَلَام لَا وَجه لَهُ وَلَا معنى تَحْتَهُ. وَقيل: كل مَالا يعبأ بِهِ فَهُوَ لَغْو. وَيُقَال: اللَّغْو هَاهُنَا هُوَ الصفير والتصفيق اللَّذَان كَانَ يفعلهما الْمُشْركُونَ عِنْد سَماع الْقُرْآن، وَذَلِكَ المكاء والتصدية. وَقد ذكرنَا من قبل. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " والغوا فِيهِ " بِضَم الْغَيْن، وَهُوَ فِي معنى الأول. وَقيل مَعْنَاهُ: استعلوا عِنْد سَماع الْقُرْآن بِاللَّغْوِ، وَهُوَ الضجيج والصياح لكيلا تسمعوا. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تغلبون} أَي: تغلبون مُحَمَّدًا.

27

قَوْله تَعَالَى: {فلنذيقن الَّذين كفرُوا عذَابا شَدِيدا ولنجزينهم أَسْوَأ الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ} أَي: جَزَاء أَعْمَالهم السَّيئَة.

{ولنجزينهم أَسْوَأ الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ (27) ذَلِك جَزَاء أَعدَاء الله النَّار لَهُم فِيهَا دَار الْخلد جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون (28) وَقَالَ الَّذين كفرُوا رَبنَا أرنا اللَّذين أضلانا من الْجِنّ وَالْإِنْس نجعلهما تَحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين (29) إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا}

28

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك جَزَاء أَعدَاء الله النَّار لَهُم فِيهَا دَار الْخلد} أَي: دَار الخلود. قَوْله تَعَالَى: {جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون} أَي: يُنكرُونَ.

29

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا رَبنَا أرنا اللَّذين أضلانا من الْجِنّ وَالْإِنْس} قَالَ أهل التَّفْسِير: الَّذِي من الْجِنّ هُوَ إِبْلِيس، وَالَّذِي من الْإِنْس قابيل الَّذِي قتل هابيل، وهما أول من سنّ الْمعْصِيَة من الْجِنّ وَالْإِنْس، وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمَشْهُور، وَهُوَ محكي عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ ذكره الْأَزْهَرِي بِإِسْنَادِهِ. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن المُرَاد كل دَاع إِلَى الضَّلَالَة من الْجِنّ وَالْإِنْس. وَفِي بعض الْآثَار: أَنه مَا من أحد من الْجِنّ يعْمل شرا إِلَّا ويلعن إِبْلِيس عِنْد مَوته، وَمَا من أحد من الْإِنْس يعْمل شرا إِلَّا ويلعن ابْن آدم عِنْد مَوته، وَهُوَ قابيل. وَيُقَال: يلعنهما كل عَامل بِالشَّرِّ؛ لِأَنَّهُمَا اللَّذَان سنا الشَّرّ والمعاصي. وَقَوله: {نجعلهما تَحت أقدامنا} أَي: نجعلهما تَحت أقدامنا فِي النَّار، وَهُوَ الدَّرك الْأَسْفَل. وَقَالُوا ذَلِك حقدا عَلَيْهِم وانتقاما مِنْهُم. وَقَوله: {ليكونا من الأسفلين} أَي: أَسْفَل منا فِي النَّار وَأَشد منا فِي الْعَذَاب. وَأما قَوْله: {رَبنَا أرنا} قيل مَعْنَاهُ: أعطنا، وَقيل معنى قَوْله: {أرنا} أَي: دلنا عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الأولى. وَعَن السدى قَالَ: مَا من كَافِر يدْخل النَّار إِلَّا وَهُوَ يلعن إِبْلِيس؛ لِأَنَّهُ أول من سنّ الْكفْر، وَمَا من عَاص يدْخل النَّار إِلَّا ويلعن قابيل؛ لِأَنَّهُ أول من سنّ الْمعْصِيَة.

30

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} وروى عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: استقاموا أَي لم يشركوا بِاللَّه شَيْئا، وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لم يروغوا روغان الثعالب. وَمن الْمَعْرُوف أَن الاسْتقَامَة [هِيَ] طَاعَة الله، وَأَدَاء فَرَائِضه، وَاتِّبَاع سنة نبيه مُحَمَّد.

{الله ثمَّ استقاموا تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة أَلا تخافوا وَلَا تحزنوا وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم} روى ثَابت عَن أنس: " أَن النَّبِي قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} ثمَّ قَالَ: قد قَالَ قوم وَلم يستقيموا عَلَيْهِ، فَمن قَالَ وَمَات عَلَيْهِ فقد استقام ". وَعَن سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ انه قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله، قل لي فِي الْإِسْلَام قولا أثبت عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قل رَبِّي الله ثمَّ اسْتَقِم. فَقلت لَهُ: يَا رَسُول الله، مَا أخوف مَا تخَاف عَليّ؟ قَالَ: هَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه ". وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " اسْتَقِيمُوا وَلنْ تُحْصُوا، وَلَا يحافظ على الْعَصْر إِلَّا مُؤمن ". وَقَوله: {تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة} أَي: عِنْد الْمَوْت، وَيُقَال: عِنْد الْبَعْث. فِي التَّفْسِير: أَنه إِذا بعث العَبْد تَلقاهُ الْملكَانِ اللَّذَان كَانَا يحفظانه ويكتبان عَلَيْهِ، ويقولان لَهُ: لَا تخف وَلَا تحزن وأبشر بِالْجنَّةِ الَّتِي كنت توعد، وَلَا يهولك الَّذِي ترَاهُ، فَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ غَيْرك. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: يبشر الْمُؤمن فِي [ثَلَاثَة] مَوَاطِن: عِنْد دُخُول الْقَبْر، وَعند الْبَعْث، وَعند دُخُوله الْجنَّة. وَقَوله: {أَلا تخافوا} أَي: لَا تخافوا مَا بَين أَيْدِيكُم. وَقَوله: {وَلَا تحزنوا} على مَا خَلفْتُمْ من أهل وَولد وضيعة. وَقَوله: {وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم توعدون} أَي: توعدون فِي كتب الله وعَلى أَلْسِنَة رسله.

{توعدون (30) نَحن أولياؤكم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} وَلكم فِيهَا مَا تشْتَهي أَنفسكُم وَلكم فِيهَا مَا تدعون نزلا من غَفُور رَحِيم وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا

31

قَوْله: {نَحن أولياؤكم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} وَمعنى الْولَايَة: هُوَ الْحِفْظ والنصرة والمعونة. وَقَوله: {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: عِنْد الْمَوْت. {وَفِي الْآخِرَة} أَي: بعد الْبَعْث. وَقَوله: {وَلكم فِيهَا مَا تشْتَهي أَنفسكُم} أَي: تلذه أَنفسكُم. وَيُقَال: مَا يخْطر على قُلُوبكُمْ. وَقَوله: {وَلكم فِيهَا مَا تدعون} أَي: تتمنون، تَقول الْعَرَب: ادْع على مَا شِئْت أى: تمن على مَا شِئْت. وَيُقَال (وَلكم فِيهَا مَا تدعون) أى مَا ادعيت أَنه لَك فَهُوَ لَك.

32

وَقَوله: {نزلا من غَفُور رَحِيم} أَي: عَطاء من غَفُور رَحِيم. وَمِنْه نزل الضَّيْف. أَي: عطاؤه. وَيُقَال: منا. {من غَفُور رَحِيم} والغفور السَّاتِر، والرحيم العطوف.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا} قَالَ ابْن عَبَّاس: من دَعَا إِلَى الله هُوَ الرَّسُول. وَحكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " دَعَا إِلَى الله " عَام فِي كل من يَدْعُو إِلَى الله. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: الْآيَة فِي المؤذنين. وَحكى هَذَا القَوْل عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَقد ضعف بَعضهم هَذَا القَوْل؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وَالْأَذَان كَانَ بعد الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة. وَقَوله: {وَعمل صَالحا} أَي: عمل بَينه وَبَين ربه. وَيُقَال: عمل صَالحا بأَدَاء الْفَرَائِض، وَقيل: عمل صَالحا بإخلاص الدعْوَة وَالْعَمَل.

وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين (33) وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة كَأَنَّهُ ولي حميم (34)) وَقَوله: {وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين} أَي: أقرّ بِالْإِسْلَامِ وَثَبت عَلَيْهِ. وَيُقَال: من المستسلمين لحكم الله. وَمن الْمَعْرُوف عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن المُرَاد من قَوْله: {وَعمل صَالحا} هُوَ رَكْعَتَانِ بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة. وَهَذَا على القَوْل الَّذِي قُلْنَا: إِنَّه ورد فِي المؤذنين.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة} مَعْنَاهُ: وَلَا تستوي الْحَسَنَة والسيئة و " لَا " صلَة. وَأما الْحَسَنَة والسيئة ففيهما أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهُمَا التَّوْحِيد والشرك، وَالْآخر: أَنَّهُمَا الْعَفو والانتصار، وَالثَّالِث: أَنَّهُمَا المداراة والغلظة. وَالرَّابِع: أَنَّهُمَا الصَّبْر والجزع. وَالْخَامِس: أَنَّهُمَا الْحلم عِنْد الْغَضَب والسفه. وَقَوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} أَي: ادْفَعْ السَّيئَة بالخلة الَّتِي هِيَ أحسن، والخلة هِيَ أحسن الْحلم عِنْد الْغَضَب، وَالْعَفو عِنْد الْقُدْرَة، وَالصَّبْر عِنْد الْبلَاء، وَمَا أشبه ذَلِك. وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} أَي: بِالسَّلَامِ، قَالَه مُجَاهِد. وَمَعْنَاهُ: أَنه يسلم على من يُؤْذِيه، وَلَا يُقَابله بالأذى، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن معنى قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} هُوَ أَنه إِذا أذاك إِنْسَان وشتمك ونسبك إِلَى الْقَبِيح تَقول لَهُ: إِن كنت صَادِقا فغفر الله لي، وَإِن كنت كَاذِبًا فغفر الله لَك. وَقَوله: {فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة} هَذَا فِي الْحلم عِنْد الْغَضَب، وَالْعَفو عِنْد الْقُدْرَة. وَقَوله: {كَأَنَّهُ ولي حميم} أَي: صديق قريب، فالولي هُوَ الصّديق، وَالْحَمِيم هُوَ الْقَرِيب.

{وَمَا يلقاها إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَمَا يلقاها إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم (35) وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (36) وَمن آيَاته اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ إِن كُنْتُم}

35

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يلقاها إِلَّا الَّذين صَبَرُوا} أَي: وَمَا يُؤْتى هَذِه الْخصْلَة، وَهِي دفع السَّيئَة بِالْحَسَنَة إِلَّا الَّذين صَبَرُوا أَي: صَبَرُوا على أوَامِر الله. وَقَوله: {وَمَا يلقاها إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم} أَي: ذُو نصيب وافر من الدّين. وَيُقَال: وَمَا يلقاها أَي: وَمَا يُؤْتى الْجنَّة إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم أَي: نصيب وافر. وَقيل: ذُو جد عَظِيم، وَالْجد هُوَ البخت.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} أَي: غضب. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الْغَضَب جَمْرَة فِي الْإِنْسَان يُوقد فِيهَا الشَّيْطَان. وَيُقَال: نَزغ أَي: (وَسْوَسَة) . وَقَوله: {فاستعذ بِاللَّه} أَي: اعْتصمَ بِاللَّه. وَقد روينَا أَن النَّبِي كَانَ يَقُول: " أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان من همزه ونفثه ونفخه ". وَقَوله: {أَنه هُوَ السَّمِيع لعليم} ظَاهر الْمَعْنى.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر} فالآية فِي اللَّيْل وَالنَّهَار فِي زيادتها ونقصانها، وَالْآيَة فِي الشَّمْس وَالْقَمَر فِي دورانهما على حِسَاب مَعْلُوم. وَقَوله: {لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر} قَالَ عِكْرِمَة: الشَّمْس مثل الدُّنْيَا وثلثها، وَالْقَمَر مثل الدُّنْيَا مرّة وَاحِدَة. وَعَن بَعضهم قَالَ: الشَّمْس طولهَا ثَمَانُون فرسخا، وعرضها سِتُّونَ فرسخا، وَالله أعلم. وَقَوله: {واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} أَي: توحدون.

38

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن استكبروا} أَي: تكبروا.

{إِيَّاه تَعْبدُونَ (37) فَإِن استكبروا فَالَّذِينَ عِنْد رَبك يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون (38) وَمن آيَاته أَنَّك ترى الأَرْض خاشعة فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت إِن الَّذِي أَحْيَاهَا لمحيي الْمَوْتَى إِنَّه على كل شَيْء قدير (39) إِن الَّذين يلحدون فِي} وَقَوله: {فَالَّذِينَ عِنْد رَبك} أَي: الْمَلَائِكَة. {يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون} أَي: لَا يملون. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: التَّسْبِيح للْمَلَائكَة كالنفس والطرف لبني آدم، فَكَمَا لَا يلْحق الْآدَمِيّ تَعب فِي الطّرف وَالنَّفس، فَكَذَلِك لَا يلحقهم التَّعَب بالتسبيح.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَنَّك ترى الأَرْض خاشعة} أَي: هامدة متهشمة ميتَة لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْء. وَقَوله: {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت} أَي: تحركت للنبات. وَقَوله: {وربت} أَي: ارْتَفع النَّبَات. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: ربت واهتزت، أَي: ربت الأَرْض بِخُرُوج النَّبَات مِنْهَا، واهتزت أَي: تحركت. وَقَوله: {إِن الذى أَحْيَاهَا} أى: أَحْيَا الأَرْض الْميتَة {المحى الْمَوْتَى} أَي: فِي الْقِيَامَة. وَقَوله: {إِنَّه على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

40

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يلحدون فِي آيَاتنَا} أَي: يميلون إِلَى الحجد و [التَّكْذِيب] فِي آيَاتنَا. وكل من مَال من الْحق إِلَى الْبَاطِل، وَمن التَّوْحِيد إِلَى الشّرك فَهُوَ ملحد. وَقَوله: {لَا يخفون علينا} أَي لَا يخفى كفرهم علينا. قَوْله: {أَفَمَن يلقى فِي النَّار خير أم من يَأْتِي آمنا يَوْم الْقِيَامَة} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الَّذِي يلقى فِي النَّار هُوَ أَبُو جهل، وَالَّذِي يَأْتِي آمنا هُوَ عمار، قَالَ عِكْرِمَة وَغَيره.

{آيَاتنَا لَا يخفون علينا أَفَمَن يلقى فِي النَّار خير أم من يَأْتِي آمنا يَوْم الْقِيَامَة اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (40) إِن الَّذين كفرُوا بِالذكر لما جَاءَهُم وَإنَّهُ لكتاب عَزِيز (41) لَا يأنيه الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد (42) مَا يُقَال} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن من يلقى فِي النَّار هُوَ أَبُو جهل، وَمن يأتى آمنا هُوَ حَمْزَة بن عبد الْمطلب. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن من يلقى فِي النَّار هُوَ كل كَافِر، وَالَّذِي يَأْتِي آمنا هُوَ الرَّسُول. وَيُقَال: كل مُؤمن قد أَمن من الخلود فِي النَّار. وَيُقَال: من يلقى فِي النَّار هم الَّذين يبغضون آل النَّبِي، وَمن يَأْتِي آمنا هم الَّذين يحبونهم، وَقيل: هَذَا فِي الصَّحَابَة. وَالله أعلم. وَقَوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد. وَمَعْنَاهُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فستقدمون عَلَيْهِ. وَقَوله: {إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

41

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا بِالذكر لما جَاءَهُم} أَي: بِالْقُرْآنِ، وَفِيه حذف، والمحذوف، سيجازون على ذَلِك. وَقَوله: {وَأَنه لكتاب عَزِيز} أَي: كريم على الله. وَيُقَال: كتاب أعزه الله.

42

وَقَوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يَأْتِيهِ التَّكْذِيب من الْكتب الْمُتَقَدّمَة، وَلَا يَأْتِيهِ من بعده كتاب ينسخه وَيَرْفَعهُ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْبَاطِل هُوَ إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يَأْتِيهِ بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان أَي: لَا سُلْطَان لَهُ عَلَيْهِ بِوَاحِدَة مِنْهُمَا. وَقَوله: {تَنْزِيل من حَكِيم حميد} أَي: حَكِيم فِي فعله، مَحْمُود فِي قَوْله.

43

قَوْله تَعَالَى: {مَا يُقَال لَك إِلَّا مَا قد قيل للرسل من قبلك} هَذَا على طَرِيق التَّعْزِيَة والتسلية للنَّبِي، فَإِن الْكفَّار كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه كَافِر وساحر وشاعر وَمَجْنُون، فَقَالَ

{لَك إِلَّا مَا قد قيل للرسل من قبلك إِن رَبك لذُو مغْفرَة وَذُو عِقَاب أَلِيم (43) وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجميا لقالوا لَوْلَا فصلت آيَاته أأعجمي وعربي} تَعَالَى معزيا ومسليا لَهُ: {مَا يُقَال لَك إِلَّا ماقد قيل للرسل من قبلك} أَي: لست بِأول من قيل لَهُ هَذَا، فقد نسب الْأَنْبِيَاء من قبلك إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء. وَقد تمّ الْكَلَام على هَذَا ثمَّ قَالَ: {وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة} أَي: لذنوب الْعباد، لمن أَرَادَ أَن يغْفر لَهُ. وَقَوله: {وَذُو عِقَاب أَلِيم} أَي: لمن أَرَادَ أَن لَا يغْفر لَهُ. وَفِي قَوْله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} قَول آخر: وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل قبل تَمام نُزُوله فَهُوَ من بَين يَدَيْهِ. وَقَوله: {من بَين يَدَيْهِ} أَي: قبل النُّزُول، فَإِن الرُّسُل بشرت بِالْقُرْآنِ، فَلَا يَأْتِيهِ مَا يدحضه ويبطله {وَلَا من خَلفه} أَي: بعد النُّزُول، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يَأْتِيهِ كتاب ينسخه.

44

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجميا} أَي: بِلِسَان الْعَجم. وَيُقَال: أعجميا أَي: غير مُبين، قَالَه الْمفضل، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور. وَقَوله: {لقالوا لَوْلَا فصلت آيَاته} أَي: بيّنت آيَاته {أأعجمي وعربي} مَعْنَاهُ: أقرآن أعجمي، وَرَسُول عَرَبِيّ؟ . وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَالْحسن: " لَوْلَا فصلت آيَاته عجمي وعربي " لَا على وَجه الِاسْتِفْهَام أَي: هلا جعل بعض آيَاته عجميا، وَبَعض آيَاته عَرَبيا، وَالْمُخْتَار هِيَ الْقِرَاءَة الأولى على الْمَعْنى الأول. والأعجمي كل من فِي لِسَانه عجمة، وَإِن كَانَ عَرَبيا، وَمِنْه زِيَادَة الأعجمي الشَّاعِر. والعجمي هُوَ الْوَاحِد من الْعَجم، والأعرابي كل من يسكن البدو، والعربي الْوَاحِد من الْعَرَب، قَالَ الشَّاعِر: (وَلم أر مثلي هاجه صَوت مثلهَا ... وَلَا عَرَبيا هاجه صَوت أعجما.) وَيُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي يسَار بن فكيهة غُلَام ابْن الْحَضْرَمِيّ، وَكَانَ يدْخل على رَسُول الله، وَكَانَ يَهُودِيّا قد قَرَأَ الْكتب، فَقَالُوا: علم مُحَمَّدًا يسَار أَبُو فكيهة،

{قل هُوَ للَّذين آمنُوا هدى وشفاء وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر وَهُوَ عَلَيْهِم عمى أُولَئِكَ ينادون من مَكَان بعيد (44) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب فَاخْتلف فِيهِ وَلَوْلَا كلمة} فَقَالَ أَبُو فكيهة: لَا، بل أَنا أتعلم مِنْهُ، وَهُوَ يعلمني. وَقَوله: {قل هُوَ للَّذين آمنُوا} أَي: الْقُرْآن {هدى وشفاء} أَي: هدى للأبصار، وشفاء للقلوب. وَقَوله: {وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر} أَي: ثقل وصمم، كَأَنَّهُ جعلهم بِمَنْزِلَة الصم حِين لم يسمعوا سَماع قَابل. وَقَوله: {وَهُوَ عَلَيْهِم عمى} قَالَ الْفراء: عموا وصموا على الْقُرْآن حَيْثُ لم ينتفعوا بِهِ. وَقيل: عميت أَبْصَارهم عَن الْقُرْآن، فالقرآن عَلَيْهِم بِمَنْزِلَة الْعَمى. وَقَوله: {أُولَئِكَ ينادون من مَكَان بعيد} أَي: بعيد من قُلُوبهم، حكى هَذَا عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَيُقَال: ينادون من مَكَان بعيد أَي: السَّمَاء، قَالَ الْفراء: تَقول الْعَرَب لمن لَا يفهم القَوْل: إِنَّه يَأْخُذهُ من مَكَان بعيد، وَإِذا كَانَ يفهم يَقُولُونَ: إِنَّه يَأْخُذهُ من مَكَان قريب. وَذكر بعض النَّحْوِيين أَن قَوْله: {أُولَئِكَ ينادون من مَكَان بعيد} جَوَاب لقَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا بِالذكر لما جَاءَهُم} وَالَّذِي ذكرنَا أَن الْجَواب مَحْذُوف هُوَ الأولى، وَقد بَينا. أوردهُ النّحاس.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب فَاخْتلف فِيهِ} الْكتاب هُوَ التَّوْرَاة، وَالِاخْتِلَاف فِيهِ أَنه آمن بِهِ بَعضهم وَكفر بَعضهم. وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} أَي: تَأْخِير الْقِيَامَة إِلَى أجل مَعْلُوم عِنْده. وَعَن عَطاء قَالَ: الْكَلِمَة الَّتِي سبقت من ربه هِيَ أَن آدم صلوَات الله عَلَيْهِ لما عطس ألهمه الله تَعَالَى حَتَّى قَالَ: الْحَمد لله، فَقَالَ الله تَعَالَى: يَرْحَمك رَبك. فَهِيَ الْكَلِمَة الَّتِي سبقت من الله.

{سبقت من رَبك لقضي بَينهم وَإِنَّهُم لفي شكّ مِنْهُ مريب (45) من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا وَمَا رَبك بظلام للعبيد (46) إِلَيْهِ يرد علم السَّاعَة وَمَا تخرج من ثَمَرَات من أكمامها وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْم يناديهم أَيْن شركائي} وَقَوله: {لقضي بَينهم} أَي: لعجل لَهُم الْعَذَاب. وَقَوله: {وَإِنَّهُم لفي شكّ مِنْهُ مريب} أَي: مرتاب.

46

وَقَوله: {من عمل صَالحا فلنفسه} أَي: نفع ذَلِك عَائِد إِلَى نَفسه. وَقَوله: {وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا} أَي: وبال ذَلِك رَاجع إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} لِأَن مَا يَفْعَله يكون عدلا، وَلَا يكون ظلما. وَيُقَال: معنى قَوْله: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} أَي: لَا يُعَاقب أحدا من غير جرم.

47

قَوْله تَعَالَى: {إِلَيْهِ يرد علم السَّاعَة} مَعْنَاهُ: إِلَى الله برد علم السَّاعَة، وَهَذَا على الْعُمُوم، فَإِن كل من سُئِلَ عَن السَّاعَة يَقُول: الله أعلم. وَقَوله: {وَمَا تخرج من ثَمَرَة من أكمامها} أَي: من أوعيتها وغلفها، والكم: غلافها، وَيُقَال: هُوَ جف الطّلع. وَقَوله: {وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعَمَلِهِ} أَي: يعلم مُدَّة الْحمل، وَيعلم وَقت وَضعه. وَقَوله: {وَيَوْم يناديهم} يَعْنِي: يُنَادي الْكفَّار {أَيْن شركائ} على زعمكم؟ وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يَقُول: أَيْن الْمُلُوك؟ أَيْن الْجَبَابِرَة؟ أَيْن الْآلهَة؟ أَنا الرب، لَا رب غَيْرِي، أَنا الله، لَا إِلَه غَيْرِي، أَنا الْملك، لَا ملك غَيْرِي. وَقَوله: {قَالُوا آنذاك} أَي: أعلمناك، وَمِنْه أَخذ الْأذن وَالْأَذَان والمؤذن. وَهَذَا من قَول الْآلهَة. قَالَ الْفراء وَغَيره: وَمَعْنَاهُ: أَن الْآلهَة تَقول: آذناك أَي: أعلمناك يَا رب تكذيبهم وكفرهم {مَا منا من شَهِيد} أَي: لَيْسَ منا أحد يشْهد أَن قَوْلهم حق، وزعمهم صَحِيح.

{قَالُوا آذناك مَا منا من شَهِيد (47) وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يدعونَ من قبل وظنوا مَا لَهُم من محيص (48) لَا يسأم الْإِنْسَان من دُعَاء الْخَيْر وَإِن مَسّه الشَّرّ فيئوس قنوط (49) وَلَئِن أذقناه رَحْمَة منا من بعد ضراء مسته ليَقُولن هَذَا لي وَمَا أَظن السَّاعَة قَائِمَة وَلَئِن}

48

وَقَوله: {وضل عَنْهُم} أَي: بَطل عَنْهُم وَفَاتَ عَنْهُم {مَا كَانُوا يدعونَ من قبل} . وَقَوله: {وظنوا مَا لَهُم من محيص} أَي: أيقنوا مَالهم من ملْجأ ومهرب.

49

قَوْله تَعَالَى: {لَا يسأم الْإِنْسَان من دُعَاء لخير} أَي: من دُعَاء المَال. وَيُقَال: هُوَ الْغنى بعد الْفقر، والعافية بعد السقم. وَقيل إِن الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة كَانَ لَا يزَال يَدْعُو بِكَثْرَة المَال، وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى: {وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا وبنين شُهُودًا} . وَقَوله: {وَإِن مَسّه الشَّرّ} أَي: الْبلَاء الْفقر والشدة. وَقَوله: {فيئوس قنوط} أَي: يئوس من الْخَيْر، قنوط من الرَّحْمَة. وَقيل: قنوط: أَي: سيء الظَّن بربه، كَأَنَّهُ يَقُول: لَا يكْشف الله تَعَالَى مَا بِي من الْبلَاء والشدة.

50

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقناه رَحْمَة منا من بعد ضراء مسته} أَي: رخاء بعد شدَّة، وغنى بعد فقر. وَقَوله: {ليَقُولن هَذَا لي} أَي: باجتهادي واستحقاقي. وَقَوله: {وَمَا أَظن السَّاعَة قَائِمَة} أَي: آتِيَة. وَقَوله: {وَلَئِن رجعت إِلَى رَبِّي} أَي: رددت. وَقَوله: {إِن لي عِنْده للحسنى} أَي: للخير الْكثير. قَالَ بعض أهل الْعلم: الْكَافِر بَين منيتين باطلتين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، أما فِي الدُّنْيَا يَقُول: لَئِن رجعت إِلَى رَبِّي إِن لي عِنْده للحسنى، وَأما فِي الْآخِرَة يَقُول حِين رأى مَا

{رجعت إِلَى رَبِّي أَن لي عِنْده للحسنى فلننبئن الَّذين كفرُوا بِمَا عمِلُوا ولنذيقنهم من عَذَاب غليظ (50) وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان أعرض ونأى بجانبه وَإِذا مَسّه الشَّرّ فذو دُعَاء عريض (51) قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ من أضلّ مِمَّن هُوَ فِي} قدمت يَدَاهُ: يَا لَيْتَني كنت تُرَابا. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الْآيَة نزلت فِي شَأْن عقبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة والوليد بن الْمُغيرَة وَأبي بن خلف وَأُميَّة بن خلف وَغَيرهم، وَقد كَانُوا يمنون أنفسهم الأباطيل. وَقَوله: {فلننبئن الَّذين كفرُوا بِمَا عمِلُوا} هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد. وَقَوله: {ولنذيقهم من عَذَاب غليظ} أَي: شَدِيد.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان أعرض ونآى بجانبه} وَقُرِئَ: " وناء بجانبه ": وَمعنى نائ بجانبه تبَاعد بجانبه. وَقَوله: {وَإِذا مَسّه الشَّرّ} أَي: الشدَّة وَالْبَلَاء. وَقَوله: {فذو دُعَاء عريض} أَي: كثير. قَالَ النقاش: وَالْآيَة فِي الَّذين سبق ذكرهم. وَعَن بعض أهل الْعلم أَنه قَالَ: رب عبد يعرف الله فِي الرخَاء، وَلَا يعرفهُ فِي الشدَّة، وَرب عبد يعرف الله فِي الشدَّة وَلَا يعرفهُ فِي الرخَاء. وَالْمُؤمن من يعرفهُ فِي الرخَاء والشدة جَمِيعًا. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تَجدهُ أمامك، تعرف إِلَى الله فِي الرخَاء، يعرفك فِي الشدَّة، إِذا سَأَلت فاسأل الله، وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه ... . ". الْخَبَر إِلَى آخِره.

52

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله} مَعْنَاهُ: قل ياأيها الْكفَّار أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله؟ أَي: الْقُرْآن. وَقَوله: {ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ} أَي: بِالْقُرْآنِ. وَقَوله: {من أضلّ مِمَّن هُوَ فِي شقَاق بعيد} أَي: فِي عناد للحق كَبِير، وَالْمعْنَى: أَنكُمْ أَيهَا الْكَافِرُونَ فِي الشقاق والضلال.

53

قَوْله تَعَالَى: {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم} الْآيَات فِي الْآفَاق آيَات

{شقَاق بعيد (52) سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق أَو لم يكف بِرَبِّك أَنه على كل شَيْء شَهِيد (53) أَلا أَنهم فِي مرية من لِقَاء رَبهم أَلا إِنَّه بِكُل شَيْء مُحِيط (54) } السَّمَوَات وَالْأَرضين، وَذَلِكَ من رفع السَّمَاء، وَخلق الْكَوَاكِب، ودوران الْفلك، وإضاءة الشَّمْس وَالْقَمَر، وَمَا أشبه ذَلِك، وَكَذَلِكَ بسط الأَرْض، وَنصب الْجبَال، وتفجير الْأَنْهَار، وغرس الْأَشْجَار، إِلَى مَا لَا يُحْصى. وَقَوله: {وَفِي أنفسهم} أَي: من السّمع وَالْبَصَر، وَخلق سَائِر الْجَوَارِح وَجَمِيع الْحَواس. وَفِي بعض التفاسير: أَن من الْآيَات فِي النَّفس دُخُول الطَّعَام وَالشرَاب من مَكَان وَاحِد، وَخُرُوجه من مكانين. وَقيل: دُخُول الْأَطْعِمَة على ألوان كَثِيرَة، وخروجها على لون وَاحِد. وَقَالَ السدى: الْآيَات فِي الْآفَاق هِيَ فتح الْأَمْصَار، وَفِي الْأَنْفس فتح الرَّسُول مَكَّة. وَيُقَال: الْآيَات فِي الْآفَاق هِيَ الْفتُوح الَّتِي كَانَت بعد الرَّسُول، وَفِي أنفسهم هِيَ الَّتِي كَانَت فِي زمَان الرَّسُول. وَقيل: الْآيَات فِي الْآفَاق مَا أخبر من الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة وَمَا نزل بهم، والآيات فِي الْأَنْفس هِيَ مَا أَنْذرهُمْ من الْوَعيد وَالْعَذَاب. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَات فِي الْآفَاق هُوَ إمْسَاك الْمَطَر من السَّمَاء. والآيات فِي الْأَنْفس هِيَ البلايا فِي الأجساد. وَقَوله: {حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق} يَعْنِي: أَن الرَّسُول حق. وَقيل: الْقُرْآن حق. وَقَوله: {أولم يكف بِرَبِّك} يَعْنِي: أولم يكفك يَا مُحَمَّد من رَبك [أَنه] على كل شَيْء شَهِيد وَقيل مَعْنَاهُ: أَو لَيْسَ فِي شَهَادَة رَبك كِفَايَة. وَقيل: أَو لَيْسَ فِي الدّلَالَة الَّتِي أَقَامَهَا على التَّوْحِيد كِفَايَة. وَقَوله: {إِنَّه على كل شَيْء شَهِيد} أَي: لِأَنَّهُ على كل شَيْء شَهِيد، أَو بِأَنَّهُ على كل شَيْء شَهِيد.

54

قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُم فِي مرية من لِقَاء رَبهم} أَي: فِي شكّ من الْبَعْث والنشور. وَقَوله: {أَلا إِنَّه بِكُل شَيْء مُحِيط} أَي: مُحِيط علمه بِجَمِيعِ ذَلِك. تمت السُّورَة.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {حم (1) عسق (2) كَذَلِك يوحي إِلَيْك} تَفْسِير سُورَة حم عسق وَهِي مَكِّيَّة (قَالَ مقَاتل) : إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك الَّذِي يبشر الله عباده الَّذين آمنُوا} الْآيَة، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} . بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الشورى

قَوْله تَعَالَى: {حم عسق} حكى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن الر، وحم، وَنون نظم قَوْله الرَّحْمَن، وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: أَنه اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: الْحَاء من الْحَلِيم وَالْمِيم من الْملك، وَالْعين من الْعَالم، وَالسِّين من القدوس، وَالْقَاف من الْقَادِر، وَعَن بَعضهم: أَن هَذَا قسم فَكَأَنَّهُ أقسم بحلمه وَملكه وَعلمه وسنائه وَقدرته، وَحكى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن " حم عسق " اسْم الله الْأَعْظَم، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: " حم سُقْ " بِغَيْر الْعين، وَعَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: مَعْنَاهُ مضى عَذَاب سَيكون وَاقعا. وَقيل: إِن الْحَاء إِشَارَة إِلَى حَرْب سَيكون، وَالْمِيم انْتِقَال ملك من قوم إِلَى قوم، وَالْعين عَدو يغلب الْعَرَب، ثمَّ الدولة تكون للْعَرَب، وَالسِّين هُوَ [سنو] المجاعة، وَالْقَاف قدرَة الله النافذة فِي مُلُوك الأَرْض. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن حُرُوف الهجاء الَّتِي فِي أول هَذِه السُّورَة إِشَارَة إِلَى فتن تكون فِي هَذِه الْأمة، قَالَ: وَبهَا كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يعلمهَا وَيَقْضِي بهَا. وَقَوله: {كَذَلِك} فِي التَّفْسِير: أَن " حم عسق " أوحى إِلَى كل نَبِي من الْأَنْبِيَاء.

3

وَقَوله: {كَذَلِك يُوحى إِلَيْك} أَي: كَمَا أوحى الله نعالى إِلَى الْأَنْبِيَاء هَذِه

{وَإِلَى الَّذين من قبلك الله الْعَزِيز الْحَكِيم (3) لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم (4) تكَاد السَّمَوَات يتفطرن من فوقهن وَالْمَلَائِكَة يسبحون بِحَمْد رَبهم وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن فِي الأَرْض أَلا إِن الله هُوَ الغفور الرَّحِيم (5) الْكَلِمَات، كَذَلِك يوحيها إِلَيْك. وَيُقَال: المُرَاد مِنْهُ الْوَحْي على الْجُمْلَة. وَقَوله: {وَإِلَى الَّذين من قبلك الله الْعَزِيز الْحَكِيم} يَعْنِي: أَن الله تَعَالَى يوحي إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من قبلك وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم أَي: من صفته الْعِزَّة وَالْحكمَة، وَمَعْنَاهُ: عَزِيز فِي نصرته، حَكِيم فِي فعله، وَقُرِئَ: " كَذَلِك نوحي إِلَيْك " بالنُّون، وَمَعْنَاهُ مَعْلُوم.

4

قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

5

قَوْله تَعَالَى: {تكَاد السَّمَوَات يتفطرن} وَقُرِئَ: " ينفطرن " وَمَعْنَاهُ: يتشققن. وَقَوله: {من فوقهن} أَي: من فَوق الْأَرْضين، وانفطارها لعَظيم مَا جَاءَ بِهِ الْكفَّار. وَقيل: خوفًا من الله تَعَالَى. وَيُقَال: هَيْبَة وإجلالا. وَقيل: لِعَظَمَة الله تَعَالَى. وَقَوله: {وَالْمَلَائِكَة يسبحون بِحَمْد رَبهم} أَي: يصلونَ بِحَمْد رَبهم، وَيُقَال: ينزهون رَبهم. وَقَوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ: للْمُؤْمِنين الَّذين فِي الأَرْض، وَهَذَا محكى عَن ابْن عَبَّاس، وَاللَّفْظ عَام أُرِيد بِهِ الْخَاص، وَقيل: إِن الَّذين يَسْتَغْفِرُونَ للْمُؤْمِنين حَملَة الْعَرْش خَاصَّة على مَا ذكر تَعَالَى فِي سُورَة الْمُؤمن. وَقيل: هم جَمِيع الْمَلَائِكَة. وَفِي التَّفْسِير: أَن استغفارهم لمن فِي الأَرْض من الْوَقْت الَّذِي افْتتن هاروت وماروت بِالْمَرْأَةِ الَّتِي تسمى زهرَة، وفعلا مَا فعلا، واختارا عَذَاب الدُّنْيَا، وَقد كَانَت الْمَلَائِكَة من قبل يدعونَ على العصاة، فَمن ذَلِك الْوَقْت كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ للعصاة من الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {أَلا إِن الله هُوَ الغفور الرَّحِيم} أَي: الستور لذنوب عباده.

{وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء الله حفيظ عَلَيْهِم وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك قُرْآنًا عَرَبيا لتنذر أم الْقرى وَمن حولهَا وتنذر يَوْم الْجمع لَا ريب فِيهِ فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير (7) } وَقَوله: {الرَّحِيم} أَي: الرَّحِيم بهم.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء} أَي: من دون الله أَوْلِيَاء. وَقَوله: {الله حفيظ عَلَيْهِم} أَي: شَاهد لأعمالهم، حَافظ لَهَا؛ ليجازيهم بهَا. وَقَوله: {وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل} أَي: بمسلط، وَهَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك} قد بَينا من قبل. وَقَوله: {لتنذر أم الْقرى: أى أهل أم الْقرى. وهى مَكَّة، وَسميت أم الْقرى، لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا. وَقَوله: {وَمن حولهَا} أَي: وتنذر أهل من حولهَا. وَقَوله: {وتنذر يَوْم الْجمع} أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي يجْتَمع فِيهِ أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض، وَقيل: يجْتَمع فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ. وَمَعْنَاهُ: لتنذر بِيَوْم الْجمع. وَقَوله: {لَا ريب فِيهِ} أَي: لَا شكّ فِي مَجِيئه. وَقَوله: {فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير} روى عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن النَّبِي خرج يَوْمًا وَفِي يَده كِتَابَانِ، ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: " هَل تَدْرُونَ مَا فيهمَا؟ قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ للْكتاب الَّذِي فِي يَمِينه: هَذَا كتاب فِيهِ أَسمَاء أهل الْجنَّة وَأَسْمَاء آبَائِهِم، قد أجمل على آخِرهم لَا يزْدَاد فيهم وَلَا ينقص، وَقَالَ للْكتاب الَّذِي فِي شِمَاله: هَذَا كتاب فِيهِ أَسمَاء أهل النَّار وَأَسْمَاء آبَائِهِم، قد أجمل على آخِرهم، لَا يُزَاد فِيهَا وَلَا ينقص، قَالُوا: فَفِيمَ نعمل إِذا؟ قَالَ: اعْمَلُوا، فَمن كَانَ من أهل الْجنَّة يخْتم لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة، وَمن كَانَ من أهل النَّار يخْتم لَهُ بِعَمَل أهل النَّار، وَإِن عمل

{وَلَو شَاءَ الله لجعلهم أمة وَاحِدَة وَلَكِن يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته والظالمون مَا لَهُم من ولي وَلَا نصير (8) أم اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء فَالله هُوَ الْوَلِيّ وَهُوَ يحيي الْمَوْتَى وَهُوَ على كل شَيْء قدير (9) وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله ذَلِكُم الله رَبِّي} أَي عمل، ثمَّ قَالَ: فرغ ربكُم من خلقه، فريق فِي الْجنَّة، وفريق فِي السعير ". وَفِي التَّفْسِير: أَنهم يتفرقون فِي الْجنَّة والسعير فَلَا يَجْتَمعُونَ أبدا.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شَاءَ الله لجعلهم أمة وَاحِدَة} أَي: أهل دين وَاحِد. وَقَوله: {وَلَكِن يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته} أَي: يدْخل من يَشَاء فِي الْإِسْلَام. وَقَوله: {والظالمون مَا لَهُم من ولي وَلَا نصير} أَي: ولي يشفع لَهُم، وَولي ينصرهم من الْعَذَاب.

9

قَوْله تَعَالَى: {أم اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء} أَي: بل اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء. وَقَوله: {فَالله هُوَ الْمولى} أَي: هُوَ الْمُتَوَلِي للأشياء. وَقَوله: {وَهُوَ يحيي الْمَوْتَى وَهُوَ على كل شَيْء قدير} ظَاهر الْمَعْنى.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله} اسْتدلَّ من منع الْقيَاس فِي الْحَوَادِث بِهَذِهِ الْآيَة، قَالَ: الحكم إِلَى الله لَا إِلَى رأى الرِّجَال، وَكَذَلِكَ كَانَ الْخَوَارِج يَقُولُونَ: لَا حكم إِلَّا لله، وأنكروا الْحكمَيْنِ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسد؛ لِأَن عندنَا من قَالَ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد فَهُوَ رُجُوع إِلَى الله فِي حكمه، فَإِن أصُول المقايسات هِيَ: الْكتاب، وَالسّنة.

{عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب (10) فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا وَمن الْأَنْعَام أَزْوَاجًا يذرؤكم فِيهِ لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير (11) لَهُ مقاليد} وَقَوله: {ذَلِكُم الله رَبِّي عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب} أَي: بِهِ وثقت، وَإِلَيْهِ أرجع فِي أموري.

11

قَوْله تَعَالَى: {فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض. قَوْله: {جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا} أَي: النِّسَاء، وَقيل: " من أَنفسكُم أَزْوَاجًا " أَي: أصنافا، ذُكُورا، وإناثا. وَقَوله: {وَمن الْأَنْعَام أَزْوَاجًا} أى: أصنافاً ذُكُورا وإناثاً. وَقَوله: {يذرؤكم فِيهِ} قَالَ الْفراء: أَي: يكثركم بِهِ، وَقَالَ مُجَاهِد: نَسْلًا من بعد نسل من النَّاس والبهائم إِلَى قيام السَّاعَة. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {يذرؤكم فِيهِ} أَي: يخلقكم فِي هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره. وَقَوله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} قَالَ ثَعْلَب: لَيْسَ كَهُوَ شَيْء، وَزعم كثير من النَّحْوِيين أَن الْكَاف هَاهُنَا زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ مثله شَيْء، وَزعم بَعضهم: أَن لُغَة تهَامَة أَنهم يَقُولُونَ: أَنا كمثلك أَو أَنْت كمثلي أَي: أَنْت مثلي وَأَنا مثلك. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: وَلَا يَسْتَقِيم قَول من يَقُول: لَيْسَ كمثله شَيْء أى: لَيْسَ كمثله مثل؛ لِأَن فِي هَذَا (إِثْبَات) الْمثل، وَالله تَعَالَى لَا يُوصف بِالْمثلِ، جلّ وَتَعَالَى عَن ذَلِك. وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ظَاهر الْمَعْنى، وأنشدوا على القَوْل الأول: (سعد بن زيد إِذا أَبْصرت فَضلهمْ ... مَا إِن كمثلهم فِي النَّاس من أحد)

12

قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض} فِي المقاليد قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا فارسية، وَهِي الأكاليد وَاحِدهَا إكليد. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَح أَنَّهَا عَرَبِيَّة، قَالَ الشَّاعِر فِي المقاليد:

{السَّمَوَات وَالْأَرْض يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر إِنَّه بِكُل شَيْء عليم (12) شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى} (فَتى لَو تنادى الشَّمْس أَلْقَت قناعها ... أَو الْقَمَر الساري لألقي المقالد) وَاخْتلف القَوْل فِي معنى المقاليد، قَالَ بَعضهم: مقاليد السَّمَوَات هِيَ الأمطار، ومقاليد الأَرْض هِيَ أَنْوَاع النَّبَات. وَقيل: مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض هِيَ الْعُيُون فِيهَا. وَقيل: مَا يحدثه بمشيئته. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ فِي مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض: " لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر، وَسُبْحَان الله وَبِحَمْدِهِ، واستغفر الله، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، هُوَ الأول وَالْآخر، وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن، بِيَدِهِ الْخَيْر يحيي وَيُمِيت، وَهُوَ على كل شَيْء قدير، فَمن قَالَهَا عصم من إِبْلِيس وَجُنُوده ". وَقَوله: {يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} أَي: يُوسع الرزق على من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء. وَقَوله: {إِنَّه بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم.

13

قَوْله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين} أَي: بَين لكم من الدّين، وَالشَّرْع هُوَ الْبَيَان، وَيُقَال: أظهر لكم وأمركم. وَقَوله: {مَا وصّى بِهِ نوحًا} أَي: أَمر بِهِ نوحًا، وَيُقَال: إِن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام أول من جَاءَ بِتَحْرِيم الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالْبَنَات. وَقَوله: {وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} أَي: وَشرع الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك. وَقَوله: {وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى} أَي: وَمَا أمرنَا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى. وَقَوله: {أَن أقِيمُوا الدّين} أَي: اثبتوا على التَّوْحِيد، وَقيل: أقِيمُوا الدّين أَي: اسْتَقِيمُوا على الدّين. وَيُقَال: أقِيمُوا الدّين هُوَ فعل الطَّاعَات وامتثال الْأَوَامِر.

{أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب (13) وَمَا تفَرقُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك إِلَى أجل مُسَمّى لقضي بَينهم وَإِن الَّذين أورثوا الْكتاب من بعدهمْ لفي شكّ مِنْهُ مريب (14) فَلذَلِك فَادع} وَقَوله: {وَلَا تتفرقوا فِيهِ} أَي: كَمَا تَفَرَّقت الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَي: آمنُوا بِالْبَعْضِ وَكَفرُوا بِالْبَعْضِ. وَقَوله: {كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ} أَي: عظم عِنْد الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ من التَّوْحِيد، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب} . وَقَوله: {الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء} أَي: يستخلص لدينِهِ من يَشَاء. وَقَوله: {وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب} أَي: يرشد إِلَى الرُّجُوع إِلَيْهِ من اخْتَار الرشد والإنابة.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تفَرقُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَقَوله: {بغيا بَينهم} أَي: حسدا بَينهم. وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} قَالَ أهل التَّفْسِير: الْكَلِمَة الَّتِي سبقت من الله قَوْله تَعَالَى: {بل السَّاعَة موعدهم} . وَقَوله: {إِلَى أجل مُسَمّى لقضى بَينهم} أَي: لفصل بَينهم الْأَمر فِي الْحَال {وَإِن الَّذين أورثوا الْكتاب من بعدهمْ} أَي: من الَّذين تقدمُوا، وَقَوله: {أورثوا} أَي: أعْطوا. وَقَوله: {لفي شكّ مِنْهُ مريب} ظَاهر الْمَعْنى.

15

قَوْله تَعَالَى: {فَلذَلِك فَادع} أَي: فَإلَى هَذَا فَادع، وَهُوَ التَّوْحِيد، وَذكر النّحاس: أَن فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا، وَمَعْنَاهُ: كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ فَلذَلِك فَادع [أَي] : إِلَى ذَلِك فَادع، وَقد تذكر اللَّام بِمَعْنى إِلَى، قَالَ الشَّاعِر:

{واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم الله رَبنَا وربكم لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم الله يجمع بَيْننَا وَإِلَيْهِ الْمصير (15) وَالَّذين يحاجون فِي الله} أوحى لَهَا الْقَرار فاستقرت أَي أوحى إِلَيْهَا. وَقَوله: {واستقم كَمَا أمرت} قد بَينا. وَقَوله: {وَلَا تتبع أهواءهم} أَي: أهواء الْكفَّار. وَقَوله: {وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب} أَي: التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَسَائِر الْكتب. وَقَوله: {وَأمرت لأعدل بَيْنكُم} أَي: لأقضي بَيْنكُم بِالْعَدْلِ. وَقَوله: {الله رَبنَا وربكم} أَي: خالقنا وخالقكم. وَقَوله: {لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم} أَي: لنا جَزَاء أَعمالنَا، وَلكم جَزَاء أَعمالكُم. وَقَوله: {لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم} أَي: لَا مُحَاجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم، وَقد كَانَ من حجتهم أَنهم قَالُوا: نَبينَا قبل نَبِيكُم، وَكِتَابنَا قبل كتابكُمْ، وَمعنى قَوْله: {لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم} أَي: لَا (حجَّة) لكم؛ لِأَن الله تَعَالَى قد أدحض حجتكم، وَإِذا أدحض حجتهم لَا تبقى بَينهم وَبَين الْمُؤمنِينَ مُحَاجَّة. وَقَوله: {الله يجمع بَيْننَا} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ الْمصير} أَي: وَإِلَيْهِ الْمرجع.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يحاجون فِي الله} أَي: يُخَاصِمُونَ فِي الله، وَقد بَيْننَا حجتهم الَّتِي تعلقوا بهَا، والمخاصمة فِي الله أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أولى بِاللَّه مِنْكُم، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم} .

{من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حجتهم داحضة عِنْد رَبهم وَعَلَيْهِم غضب وَلَهُم عَذَاب شَدِيد (16) الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة قريب (17) وَقَوله: {من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أَي: من بعد مَا اسْتَجَابَ الْمُؤْمِنُونَ للرسول. وَقَوله: {حجتهم داحضة} أَي: بَاطِلَة. وَقَوله: {عِنْد رَبهم وَعَلَيْهِم غضب وَلَهُم عَذَاب شَدِيد} قد بَينا من قبل. فَإِن قيل: قد قَالَ: من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَأَي معنى لاستجابة النَّاس لَهُ فِي هَذَا الْمحل، وحجتهم داحضة سَوَاء اسْتَجَابَ لَهُ النَّاس أَو لم يَسْتَجِيبُوا لَهُ؟ وَالْجَوَاب: أَن الْكفَّار ظنُّوا أَن أَمر مُحَمَّد سيزول عَن قريب، وَيعود الْأَمر إِلَى مَا هم عَلَيْهِ، وَأَن النَّاس لَا يستجيبون لَهُ وَلَا يدْخلُونَ فِي دينه، فَذكر من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ أَي: قد استجابه النَّاس، وَبَطل ظنكم أَن أمره يَزُول عَن قريب، وَهَذَا أحسن فَائِدَة. وَفِيه قَول آخر: أَن قَوْله: {من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أَي: من بعد مَا اسْتَجَابَ الله بِمَا طلب من إِظْهَار المعجزات علبه. وَعَن بَعضهم: أَن المحاجة بِالْبَاطِلِ هِيَ نصْرَة الِاعْتِقَاد الْفَاسِد، ثمَّ نصْرَة الِاعْتِقَاد الْفَاسِد تكون على وَجْهَيْن: بإيراد شُبْهَة، وبمدافعة حجَّة من غير حجَّة.

17

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ} أَي: أنزل الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَقَوله: {وَالْمِيزَان} أَي: الْعدْل، وَسمي الْعدْل ميزانا؛ لِأَن الْمِيزَان يكون (مناصف) النَّاس فِيمَا بَينهم، وَقيل: هُوَ الْمِيزَان نَفسه، وَمعنى الْإِنْزَال: أَن الله تَعَالَى أنزل الْحَدِيد من السَّمَاء، وَمن الْحَدِيد لِسَان الْمِيزَان وصنجاته. وَقَوله: {وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة قريب} فَإِن قيل: يتم لم يقل قريبَة، والساعة مُؤَنّثَة؟ وَالْجَوَاب: أَن تَأْنِيث السَّاعَة لَيْسَ بحقيقي؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنى الزَّمَان وَالْوَقْت، وَيجوز أَن تكون السَّاعَة بِمَعْنى الْبَعْث والنشور، فَتكون الْكِتَابَة رَاجِعَة إِلَى الْمَعْنى.

{يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا وَالَّذين آمنُوا مشفقين مِنْهَا ويعلمون أَنَّهَا الْحق أَلا إِن الَّذين يمارون فِي السَّاعَة لفي ضلال بعيد (18) الله لطيف بعباده يرْزق من يَشَاء وَهُوَ الْقوي الْعَزِيز (19) من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة}

18

وَقَوله: {يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا} فِي التَّفْسِير: أَن الْكفَّار كَانُوا يأْتونَ النَّبِي ويسألونه عَن السَّاعَة مَتى تكون؟ وَيَقُولُونَ: هلا سَأَلت رَبك أَن يقيمها الْآن؟ وَكَانَ بَعضهم يَقُول: اللَّهُمَّ من كَانَ منا على الْبَاطِل فأقم عَلَيْهِ الْقِيَامَة السَّاعَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا} وَكَانَ استعجالهم بهَا على طَرِيق الاستبعاد لقيامها تَكْذِيبًا بهَا. قَوْله: {وَالَّذين آمنُوا مشفقون مِنْهَا} أَي: خائفون وجلون مِنْهَا، وخوفهم من المحاسبة الموعودة وَالْجَزَاء الْوَاقِع على الْأَعْمَال. وَقَوله: {ويعلمون أَنَّهَا الْحق} أَي: أَنَّهَا قَائِمَة لَا محَالة. وَقَوله: {أَلا إِن الَّذين يمارون فِي السَّاعَة} أَي: يَشكونَ فِيهَا، وَقيل: يَخْتَلِفُونَ فِيهَا اخْتِلَاف الشاكين. وَقَوله: {لفي ضلال بعيد} أَي: فِي خطأ طَوِيل.

19

قَوْله تَعَالَى: {الله لطيف بعباده} أَي: بار حفي رَحِيم بهم، وَيُقَال: معنى اللَّطِيف هَاهُنَا الرَّزَّاق أَي: لَا يُهْلِكهُمْ جوعا بل يرزقهم. وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: إِن المعني بعباده فِي كل مَوضِع ذكره هُوَ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّة، وَالْهَاء للإضافة، وباء التَّخْصِيص توجب هَذَا وتقتضيه. وَقَوله: {ويرزق من يَشَاء وَهُوَ الْقوي الْعَزِيز} أَي: الْقوي فِي نصْرَة الْمُؤمنِينَ، وَقيل: فِي الْقُدْرَة على إِيصَال الرزق إِلَيْهِم، وَقَوله: {الْعَزِيز} أَي: الْغَالِب الَّذِي لَا يغالب.

20

قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة} أَي: الْعَمَل للآخرة، وَمِنْه قَول

{نزد لَهُ فِي حرثه وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب (20) أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله وَلَوْلَا كلمة الْفَصْل لقضي بَينهم وَإِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم (21) ترى الظَّالِمين مشفقين مِمَّا كسبوا وَهُوَ وَاقع} عبد الله بن عَمْرو وَقيل: ابْن مَسْعُود: احرث لدنياك كَأَنَّك تعيش [أبدا] ، واحرث لآخرتك كَأَنَّك تَمُوت غَدا. وَقَوله: {نزد لَهُ فِي حرثه} أَي: نضاعف لَهُ فِي الْحَسَنَات، وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِن الله تَعَالَى يُعْطي الدُّنْيَا بِعَمَل الْآخِرَة، وَلَا يُعْطي الْآخِرَة بِعَمَل الدُّنْيَا. فَهَذَا قَول ثَان فِي معنى الْآيَة، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى الْآيَة: {نزد لَهُ فِي حرثه} أَي: نعنه [ونوفقه] على زِيَادَة الطَّاعَات والاستكثار مِنْهَا. وَقَوله: {وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا} أَي: عمل الدُّنْيَا {نؤته مِنْهَا} أَي: على مَا نشَاء ونريد، على مَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {من كَانَ يُرِيد العاجلة عجلنا لَهُ فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد} وَقيل: نؤته مِنْهَا بِقدر مَا قسم لَهُ. وَقَوله: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب} هَذَا فِيمَن لم يعْمل إِلَّا للدنيا، فَأَما من عمل للدنيا وَالْآخِرَة فَيجوز أَن يؤتيه الله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

21

قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم شُرَكَاء} أَي: بل لَهُم شُرَكَاء. وَقَوله: {شرعوا لَهُم من الدّين} أَي: وضعُوا. وَقَوله: {مَا لم يَأْذَن بِهِ الله} أَي: لم يَأْمر بِهِ الله. وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة الْفَصْل} أَي: مَا أخر لَهُم من الْعَذَاب (لقضي بَينهم) أَي: لفصل الْأَمر بَينهم فِي الْحَال. وَقَوله: {وَإِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: شَدِيد.

22

قَوْله تَعَالَى: {ترى الظَّالِمين مشفقين مِمَّا كسبوا} أَي: خَائِفين وجلين.

{بهم وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي روضات الجنات لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير (22) ذَلِك الَّذِي يبشر الله عباده الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} وَقَوله: {وَهُوَ وَاقع بهم} وَمَعْنَاهُ: أَن الْعَذَاب الَّذِي يخافونه نَازل بهم، وَهَذَا يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي روضات الجنات} أَي: الْبَسَاتِين. وَقَوله: {لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير} أَي: الْعَظِيم.

23

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك الَّذِي يبشر الله عباده الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: هَذَا الَّذِي يبشر الله عباده. وَقَوله: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} فِيهِ أَرْبَعَة أقاويل: أظهرها وأشهرها أَن مَعْنَاهُ: لَا أَسأَلكُم إِلَّا أَن تودوني لقرابتي مِنْكُم. وَقيل: تصلوا الْقَرَابَة الَّتِي بيني وَبَيْنكُم بالاستجابة لي إِلَى مَا أَدْعُو إِلَيْهِ، وتكفوا عني أذاكم، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس أوردهُ البُخَارِيّ عَنهُ فِي الصَّحِيح على لفظ مَعْلُوم مَقْبُول، وَهُوَ قَول طَاوس وَمُجاهد وَقَتَادَة، وَعَامة الْمُفَسّرين. قَالَ قَتَادَة: كَانَت قُرَيْش تصل الْأَرْحَام، فَطلب مِنْهُم النَّبِي أَن يصلوا الْقَرَابَة الَّتِي بَينه وَبينهمْ، وَألا يقطعوها. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا من بطن من بطُون قُرَيْش إِلَّا ولرسول الله فيهم قرَابَة، فَسَأَلَهُمْ أَن يصلوها. وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا حكى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} مَعْنَاهُ: أَن يتوددوا إِلَى الله بِمَا يقربكم إِلَيْهِ من الْعَمَل الصَّالح. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا حكى عَن الضَّحَّاك أَن الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله: {قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري إِلَّا على الله} وَهَذَا القَوْل غير مرضِي عِنْد أهل

{وَمن يقترف حَسَنَة نزد لَهُ فِيهَا حسنا إِن الله غَفُور شكور (23) } الْمعَانِي؛ لِأَن قَوْله: {إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} لَيْسَ باستثناء صَحِيح حَتَّى يكون مُخَالفا لقَوْله: {إِن أجري إِلَّا على الله} بل هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: قل لَا أسالكم عَلَيْهِ أجرا أَي: مَالا، وَتمّ الْكَلَام. وَمعنى قَوْله: {إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} لَكِن صلوا قَرَابَتي بالاستجابة لي أَو تكفوا أذاكم عني. وَفِي بعض التفاسير: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة لما علمُوا جد النَّبِي ظنُّوا انه يطْلب مَالا، فَجمعُوا لَهُ شَيْئا حسنا من أَمْوَالهم، وَقَالُوا: نعطيك هَذَا المَال، وكف عَمَّا أَنْت عَلَيْهِ، فَأنْزل الله الْآيَة على الْمَعْنى الَّذِي قدمنَا. وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا روى فِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى قَوْله: {إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} أَن تودوا أقربائي وتحبوهم. وَحكى بَعضهم: أَن النَّبِي سُئِلَ عَن هَذِه، وَعَن معنى الْقُرْبَى فَقَالَ: " عَليّ وَفَاطِمَة وولدهما "، وَهَذَا أغرب الْأَقَاوِيل وأضعفها. وَقَوله: {وَمن يقترف حَسَنَة} أَي: يكْتَسب حَسَنَة أَي: طَاعَة {نزد لَهُ فِيهَا حسنا} أَي: نضاعف لَهُ الْحَسَنَة. وَقَوله: {إِن الله غَفُور شكور} أَي: غَفُور للكثير من الذُّنُوب، شكور لليسير فِي الطَّاعَات.

{أم يَقُولُونَ افترى على الله كذبا فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك ويمح الله الْبَاطِل ويحق الْحق بكلماته إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (24) وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو}

24

قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افترى على الله كذبا} أَي: يَقُول على الله مَا لم يقلهُ وَلم ينزله. وَقَوله: {فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك} أَي: ينْسك الْقُرْآن حَتَّى لَا تذكر مِنْهُ حرفا، قَالَه قَتَادَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: يخْتم على قَلْبك أَي: يرْبط بِالصبرِ على أذاهم، وَهَذَا قَول مَعْرُوف أوردهُ الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا. وَقَول: {ويمح الله الْبَاطِل} قيل: هَذَا ابْتِدَاء كَلَام، وَمَعْنَاهُ: ويمحو الله الْكفْر ويزيله. وَقَوله: {ويحق الْحق بكلماته} أَي: ينصر دينه بالمعجزات الَّتِي يظهرها، وَقيل: بتحقيق وعده، وَقيل: بنصرة رَسُوله بِإِظْهَار دينه على الدّين كُله. وَقَوله: {إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا فِي الصُّدُور.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات} أَي: الذُّنُوب {وَيعلم مَا تَفْعَلُونَ} أَي: تَعْمَلُونَ، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَن [أبي] سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: قَالَ: " لله أفرح بتوبة عَبده من أحدكُم يضل بعيره بفلاة وَعَلِيهِ مَتَاعه وَطَعَامه فيطلبه وَلَا يجده، ثمَّ ينَام نومَة فينتبه فَإِذا هُوَ عِنْد رَأسه ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله ابْن أَحْمد أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن الرَّازِيّ، أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد ابْن زَكَرِيَّا العذافري، أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ الْخَبَر.

{عَن السَّيِّئَات وَيعلم مَا تَفْعَلُونَ (25) ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ويزيدهم من فَضله والكافرون لَهُم عَذَاب شَدِيد (26) وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ لبغوا فِي الأَرْض وَلَكِن ينزل بِقدر مَا يَشَاء إِنَّه بعباده خَبِير بَصِير (27) وَهُوَ الَّذِي ينزل} وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن رجل زنى بِامْرَأَة ثمَّ تزَوجهَا، هَل يجوز؟ قَالَ: نعم، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده} إِلَى آخر الْآيَة.

26

قَوْله تَعَالَى: {ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: يُجيب دعاءهم. وَقَوله: {ويزيدهم من فَضله} أَي: الثَّنَاء الْحسن فِي الدُّنْيَا، وَقيل: الشَّفَاعَة فِي الْآخِرَة، وَالْمَعْرُوف مضاعفة الْحَسَنَات. وَقَوله: {والكافرون لَهُم عَذَاب شَدِيد} ظَاهر الْمَعْنى.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو بسط الله الرزق لِعِبَادِهِ} أَي: وسع عَلَيْهِم الرزق، وَقيل: أَعْطَاهُم كل مَا يتمنونه. وَقَوله: {لبغوا فِي الأَرْض} أَي: عصوا وطغوا فِي الأَرْض، وَالْبَغي فِي الأَرْض هُوَ الْعَمَل فِيهَا بِغَيْر حق (وَقيل: هُوَ) البطر والأشر. وَقَوله: {وَلَكِن ينزل بِقدر مَا يَشَاء أى بِقدر كَمَا تشَاء. وَقَوله: {إِنَّه بعباده خَبِير بَصِير} أَي: خَبِير بِمَا يصلحهم، بَصِير بِمَا يَفْعَلُونَهُ ويطلبونه.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ينزل الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا} أَي: أيسوا، وَفِي بعض الْأَخْبَار، أَن رجلا اتى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، قد اجدبت الأَرْض، وَقَنطَ النَّاس، فَادع الله ينزل الْغَيْث لنا فَقَالَ [لَهُ] : " ارْجع إِلَى قَوْمك فقد مطرتم ". فَكَانَ

{الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا وينشر رَحمته وَهُوَ الْوَلِيّ الحميد (28) وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة وَهُوَ على جمعهم إِذا يَشَاء قدير (29) وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير (30) } كَمَا قَالَ. {وينشر رَحمته} أَي: بإنزال الْغَيْث. وَقَوله: {وَهُوَ الْوَلِيّ الحميد} أَي: الْمَالِك لما يَفْعَله، الْمُسْتَحق للحمد فِيمَا ينزله من الْغَيْث.

29

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ وَمَا بَث فِي الأَرْض من دَابَّة، فَذكر السَّمَاء وَالْأَرْض، وَالْمرَاد أَحدهمَا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} وَإِنَّمَا يسْتَخْرج من أَحدهمَا، وَهُوَ المالح دون العذب. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة} وَهُوَ على حَقِيقَته، وَالدَّابَّة كل مَا يدب، وَالْمَلَائِكَة مِمَّا يدب، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره. {وَهُوَ على جمعهم إِذا يَشَاء قدير} أَي: قَادر.

30

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} فَإِن قَالَ قَائِل: قد نرى من تصيبه الْمُصِيبَة بِغَيْر ذَنْب سبق مِنْهُ، فَكيف وَجه الْآيَة؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن قَوْله: {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة} هِيَ الْحُدُود تُقَام إِلَّا على العَاصِي وَلَا تُقَام على العاصين، وَهَذَا قَول حسن.

{وَمَا انتم بمعجزين فِي الأَرْض وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير (31) وَمن آيَاته} وَالثَّانِي: أَن قَوْله: {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة} يُرَاد بهَا المعاقبة فِيمَا كسبت أَيْدِيكُم، فعلى هَذَا يجوز أَن يُصِيب الْإِنْسَان مُصِيبَة من غير ذَنْب وَلَا كسب إِذا لم يرد بهَا المعاقبة. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة على الْعُمُوم، وَلَا يُصِيب أحدا بلَاء وَشدَّة إِلَّا بذنب سبق مِنْهُ، أَو تَنْبِيه لِئَلَّا يعْمل ذَنبا، أَو ليعتبر بِهِ ذُو ذَنْب. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي [أَنه] أَنه قَالَ: " مَا من خدش أَو عَثْرَة قدم أَو اخْتِلَاج عرق إِلَّا بذنب، وَمَا يغْفر الله أَكثر ". وَعَن الْعَلَاء بن بدر: مَا يُصِيب أحدا مُصِيبَة إِلَّا بذنب مِنْهُ، فَقيل لَهُ: كَيفَ هَذَا، وَقد عميت صَغِيرا، وَمَا كنت أعمى؟ فَقَالَ: بذنب وَالِدي. تعلق بِهَذِهِ الْآيَة بعض من يَقُول بالتناسخ، وَقَالَ: إِنَّا نرى الْبلَاء يُصِيب الْأَطْفَال وَلم يكن مِنْهُم ذَنْب، فَدلَّ انه سبق مِنْهُم ذنُوب من قبل وعوقبوا بهَا. وَتعلق بِهَذِهِ الْآيَة أَيْضا من يَقُول إِن الْأَطْفَال لَا يألمون أصلا فَكَذَلِك الْبَهَائِم، وَإِنَّمَا صِيَاحهمْ لأَذى قُلُوب الْوَالِدين. وكلا الْقَوْلَيْنِ بَاطِل، وَيجوز عِنْد أهل السّنة أَن يُوجد الله الْأَلَم إِلَى مَا يَشَاء من عباده بِغَيْر ذَنْب سبق مِنْهُ، وَكَذَلِكَ على جَمِيع الْحَيَوَانَات، وَأما وَجه الْآيَة قد بَينا، وَكَذَلِكَ قَول من يَقُول: إِن الْأَطْفَال لَا يألمون بَاطِل؛ لِأَنَّهُ دفع الْحس والعيان.

31

وَقَوله: {وَمَا انتم بمعجزين فِي الأَرْض} أَي: بمعجزين الله فِي الأَرْض، وَقد بَينا مَعْنَاهُ فِيمَا سبق.

{الْجوَار فِي الْبَحْر كالأعلام (32) إِن يَشَأْ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظَهره إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور (33) أَو يوبقهن بِمَا كسبوا ويعف عَن كثير (34) } وَقَوله: {وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير} ظَاهر الْمَعْنى.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته الْجوَار فِي الْبَحْر كالأعلام} أَي: السفن، وَقَوله: {كالأعلام} أَي: كالجبال، قَالَت الخنساء تمدح أخاها صخرا: (وَإِن صخرا لتأتم الهداة ... بِهِ كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه نَار) أَي: جبل.

33

وَقَوله: {إِن يَشَأْ يسكن الرّيح} مَعْنَاهُ: إِن يَشَأْ تسكين الرّيح يسكن الرّيح، قَالَ قَتَادَة: إِن السفن تجْرِي بالرياح؛ فَإِذا هبت سَارَتْ، وَإِذا سكنت وقفت. وَقَوله: {فيظللن رواكد على ظَهره} أَي: ثوابت على ظهر الْبَحْر، وَمَعْنَاهُ: الرّيح إِذا سكنت بقيت السفن ثوابت على ظهر الْبَحْر، لَا تجرى. قَوْله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} أَي: صبار على البلايا، شكور للنعم، وَعَن بَعضهم: إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور أَي: الْمُؤمن؛ لِأَن الْمُؤمن هُوَ الصبار الشكُور، قَالَ مطرف: نعم العَبْد الْمُؤمن إِذا ابْتُلِيَ صَبر، وَإِذا أعطي شكر. وَعَن عون بن عبد الله قَالَ: رب منعم عَلَيْهِ غير شكور، ومبتلى غير صبور.

34

قَوْله تَعَالَى: {أَو يوبقهن بِمَا كسبوا} أَي: يهْلك السفن بِمن فِيهَا، وَقيل: أهل السفن. وَقَوله: {بِمَا كسبوا} أَي: بِمَا كسبوا من الذُّنُوب، وَقَوله: {أَو} مَعْنَاهُ: أَو إِن يَشَأْ يوبقهن. وَقَوله: {ويعف عَن كثير} أَي: يتَجَاوَز عَن كثير من الذُّنُوب، وَحكى أَن شريحا رُؤِيَ وَفِي يَده (قرحَة) فَقيل لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا أُميَّة؟ فَقَالَ: وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير.

{وَيعلم الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا مَا لَهُم من محيص (35) فَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى للَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش وَإِذا مَا غضبوا وهم يغفرون (37) وَالَّذين اسْتَجَابُوا}

35

وَقَوله: {وَيعلم الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا} وَقُرِئَ: " وَيعلم " بِضَم الْمِيم، فَأَما الْقِرَاءَة بِنصب الْمِيم فبتقدير أَن، وَأما بِالرَّفْع فَمَعْنَاه وَسَيعْلَمُ الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا. {مَا لَهُم من محيص} أَي: ملْجأ ومهرب، قَالَه السدى وَغَيره.

36

وَقَوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: مَنْفَعَة الْحَيَاة الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى} أَي: الْجنَّة خير وأدوم. وَقَوله: {للَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم} وَقُرِئَ: " كَبِير الْإِثْم "، وَقد بَينا تَفْسِير الْكَبَائِر من قبل. وَفِي التَّفْسِير: أَن قتل النَّفس، وَقذف الْمُحْصنَات، والإشراك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين والفرار من الزَّحْف، وَأكل مَال الْيَتِيم، والتأفيف، وَالسحر، وَشرب الْخمر؛ من الْكَبَائِر، وَيُقَال: كل مَا أوعد الله عَلَيْهِ فِي النَّار فَهُوَ من الْكَبَائِر. وَأما إِضَافَة الْكَبَائِر إِلَى الْإِثْم فَيُقَال: إِنَّمَا أضافها إِلَيْهِ؛ لِأَن فِي الْإِثْم كَبِيرا وصغيرا. وَيُقَال: إِضَافَة الْكَبَائِر إِلَى الْإِثْم كإضافة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف. وَقَوله: {وَالْفَوَاحِش} الْفَوَاحِش: هِيَ القبائح من الزِّنَا وَغَيره. وَقَوله: {وَإِذا مَا غضبوا هم يغفرون} أَي: يتجاوزون، وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " أَلا أنبئكم بالشديد؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: من ملك نَفسه عِنْد الْغَضَب ".

{لرَبهم وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَأمرهمْ شُورَى بَينهم وَمِمَّا رزقتاهم يُنْفقُونَ (38) وَالَّذين إِذا}

38

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اسْتَجَابُوا لرَبهم} يُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْأَنْصَار، وَيُقَال: إِنَّهَا عَامَّة. وَقَوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاة} إِقَامَة الصَّلَاة إتيانها بشرائطها وحفظها بحدودها. وَقَوله: {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} ذكر النقاش: أَن هَذَا فِي الْأَنْصَار وَكَانُوا يتشاورون فِي الْأَمر بَينهم؛ فمدحهم الله على ذَلِك، وَذَلِكَ دَلِيل على اتِّفَاق الْكَلِمَة، وَترك الاستبداد بِالرَّأْيِ، وَالرُّجُوع إِلَى الرَّأْي عِنْد نزُول الْحَادِثَة. وَقيل: إِن الْأَنْصَار تشاوروا فِيمَا بَينهم حِين دعاهم النَّبِي إِلَى الْإِيمَان، ثمَّ أجابوا إِلَى الْإِيمَان. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: مَا تشَاور قوم إِلَّا هُدُوا إِلَى ارشد أُمُورهم. والشورى مَأْخُوذَة من قَوْلهم: شرت الدَّابَّة أشورها إِذا سيرتها مقبلة، ومدبرة لاستخراج السّير مِنْهَا. وَيُقَال: لذَلِك الْموضع المشوار. وَالْعرب تَقول: إياك والخطب فَإِنَّهَا مشوار كثير العناد. وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة [أبي] عُثْمَان النَّهْدِيّ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَت أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياؤكم وأمركم شُورَى بَيْنكُم، فَظهر الأَرْض خير لكم، من بَطنهَا، وَإِذا كَانَت أمراؤكم شِرَاركُمْ، وأغنياؤكم (بخلاؤكم) ، وأمركم إِلَى نِسَائِكُم؛ فبطن الأَرْض خير لكم من ظهرهَا ". وَاعْلَم أَن هَذِه السُّورَة تسمى سُورَة الشورى. وَقَوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} أَي: يتصدقون.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} أَي: الظُّلم، وَقَوله:

{أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون (39) وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على} {ينتصرون} أَي: يتناصرون، فينتصر بَعضهم بَعْضًا لرفع الْبَغي، وَهُوَ من بَاب الْحِسْبَة، ينتصرون بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. وَقيل: ينتصرون أَي: ينتصرون من الظَّالِم، والانتصار من الظَّالِم هُوَ أَخذ الْحق مِنْهُ. وَفِي التَّفْسِير عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره قَالَ: كَانُوا يكْرهُونَ أَن يذلوا أنفسهم حَتَّى لَا يجترئ عَلَيْهِم الْفُسَّاق. وَذكر الْكَلْبِيّ: أَن الْآيَة نزلت فِي شَأْن ابي بكر الصّديق، فروى أَن رجلا من الْأَنْصَار سبّ أَبَا بكر عِنْد النَّبِي، فَسكت أَبُو بكر وَسكت التبي، ثمَّ إِن أَبَا بكر أَجَابَهُ، فَقَامَ النَّبِي مغضبا، وَذهب فَتَبِعَهُ أَبُو بكر، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن الَّذِي فعلت بِي أَشد مِمَّا فعله الْأنْصَارِيّ، سبني فَسكت، وَلم تنكر عَلَيْهِ، ثمَّ لما أجبْت قُمْت مغضبا، فَقَالَ: كَانَ الْملك يرد عَلَيْهِ حِين سكت؛ فَلَمَّا أجبْت ذهب الْملك؛ فَذَهَبت، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} فَيجوز للمظلوم الِانْتِصَار من ظالمه.

40

قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} سمى الثَّانِي [سَيِّئَة] على ازدواج الْكَلَام، وَعند الْفُقَهَاء أَن الْآيَة فِي الْقَتْل والجراحات؛ فَإِذا قَتله يقْتله وليه، وَإِذا حرجه. يجرحه، وَذهب جمَاعَة من السّلف إِلَى أَن هَذَا فِي غير الْقَتْل والجراحات أَيْضا فَإِذا قَالَ: أخزاك الله، يَقُول: أخزاك الله، وَإِذا قَالَ: لعنك الله، يَقُول: لعنك الله، وَلَا يزِيد عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِذا سبّ سبه، وَهَذَا فِيمَا لَا يدْخلهُ الْكَذِب، فَأَما مَا يدْخلهُ الْكَذِب فَلَا يَنْبَغِي أَن يكذب عَلَيْهِ، وَمَا ذكرنَا مَرْوِيّ عَن مُجَاهِد وَغَيره.

{الله إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين (40) وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل (41) إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم (42) وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور (43) وَمن يضلل الله} قَوْله: {فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله} يَعْنِي: عَفا عَن الظَّالِم وَأصْلح الْأَمر بَينه وَبَينه {فَأَجره على الله} أَي: ثَوَابه على الله، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة:: أَلا ليقمْ من أجره على الله فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا ". وَقَوله: {إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين} أَي: من يتَجَاوَز عَن الْحق إِلَى غير الْحق.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} أَي: من سَبِيل فِي الْقِيَامَة.

42

وَقَوله: {إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} أَي: يطْلبُونَ زِيَادَة لَيست لَهُم، وَقيل: يسعون فِي الأَرْض بِالْمَعَاصِي. وَقَوله: {أولائك لَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم موجع.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَلمن صَبر وَغفر} أَي: صَبر على الْأَذَى، وَغفر للمؤذي، وَيُقَال: صَبر عَن الْمعاصِي وَغفر لمن يَظْلمه. وَيُقَال: صَبر عَن ظلم النَّاس، وَمن ظلمه عَفا عَنهُ. وَقَوله: {إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} أَي: من حق (الْأُمُور) ، وَقيل: من عزائم الله الَّتِي ندب إِلَيْهَا عباده. وَيُقَال: من ثَابت الْأُمُور الَّتِي لَا تنسخ. قَالَ الزّجاج: ندب الله تَعَالَى الْمَظْلُوم أَن (يعْفُو) عَن الظَّالِم، ويصبر عَن الظُّلم؛ لينال الثَّوَاب فِي

{فَمَا لَهُ من ولي من بعده وَترى الظَّالِمين لما رَأَوْا الْعَذَاب يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد من سَبِيل (44) وتراهم يعرضون عَلَيْهَا خاشعين من الذل ينظرُونَ من طرف خَفِي وَقَالَ الَّذين آمنُوا إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة أَلا إِن الظَّالِمين فِي} الْآخِرَة، فَمن كَانَ أَرغب فِي ثَوَاب الْآخِرَة فَهُوَ أتم عزما على الصَّبْر.

44

وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من ولي من بعده} أَي: يضلله الله. وَقَوله: {فَمَا لَهُ من ولي من بعده} أَي: لَا يجد من بعد الله من يهديه. وَقَوله: {وَترى الظَّالِمين لما رَأَوْا الْعَذَاب يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد من سَبِيل} أَي: من رُجُوع إِلَى الدُّنْيَا ليتوب.

45

قَوْله تَعَالَى: {وتراهم يعرضون عَلَيْهَا} أَي: على النَّار، وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي آل فِرْعَوْن، وَيُقَال: فِي آل فِرْعَوْن وَغَيرهم. وَالأَصَح أَن هَذَا فِي الْقِيَامَة، ويعرضون على النَّار ليدخلوا فِيهَا. وَقَوله: {خاشعين من الذل} أَي: خاضعين من الذل، وَمَعْنَاهُ: [الانكسار] وذلة النَّفس حِين يرَوْنَ الْعَذَاب وتنزل بهم الندامة. قَوْله: {ينظرُونَ من طرف خَفِي} أَي: يسارقون النّظر إِلَى النَّار، وَيُقَال: ينظرُونَ بأنصاف عيونهم، وَلَا يفتحون أَعينهم عَلَيْهَا خوفًا مِنْهَا. وَعَن بَعضهم قَالَ: ينظرُونَ بقلوبهم؛ لأَنهم يحشرون عميا، فالطرف الْخَفي هُوَ رُؤْيَة الْقلب. وَقَوله: {وَقَالَ الَّذين آمنُوا إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة} أما خسرانهم أنفسهم فبدخولهم النَّار، وَأما خسرانهم أَهْليهمْ فلأنهم لَو آمنُوا أَصَابُوا أَهلا فِي الْجنَّة، فَلَمَّا كفرُوا ودخلوا النَّار فاتهم أهلوهم فِي الْجنَّة، فَهُوَ خسران الْأَهْل. وَيُقَال: لكل وَاحِد من الْكفَّار أهل مُسَمّى فِي الْجنَّة لَو آمن. وَقَوله: {أَلا إِن الظَّالِمين فِي عَذَاب مُقيم} أَي: دَائِم.

{عَذَاب مُقيم (45) مَا كَانَ لَهُم من أَوْلِيَاء ينصرونهم من دون الله وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من سَبِيل (46) اسْتجِيبُوا لربكم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله مَا لكم من ملْجأ يَوْمئِذٍ وَمَا لكم من نَكِير (47) فَإِن أَعرضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا إِن عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ وَإِنَّا إِذا أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة فَرح بهَا وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم}

46

قَوْله: {وَمَا كَانَ لَهُم من أَوْلِيَاء ينصروهم من دون الله} أَي: يمْنَعُونَ عَنْهُم عَذَاب الله. وَقَوله: {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من سَبِيل} أَي: من طَرِيق إِلَى الْجنَّة.

47

قَوْله تَعَالَى: {اسْتجِيبُوا لربكم} أَي: اسْتجِيبُوا لربكم بقول: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله. وَقَوله: {من قبل أَن ياتي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله} أَي: لَا رد لَهُ. وَقَوله: {مَا لكم من ملْجأ يَوْمئِذٍ} أَي: مهرب وملاذ. وَقَوله: {وَمَا لكم من نَكِير} أَي: إِنْكَار، وَيُقَال: لَيْسَ لكم من أَن تنكروا الْعقُوبَة الَّتِي تنالكم. وَقيل: مَا لكم من نَكِير أَي: تَغْيِير.

48

وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن أَعرضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا} أَي: حَافِظًا. وَقَوله: {إِن عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ} أَي: التَّبْلِيغ. وَقَوله: {وَإِنَّا إِذا أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة} أَي: النِّعْمَة والعافية. وَقَوله: {فَرح بهَا} أَي: سر بهَا. وَقَوله: {وَإِن تصبهم سَيِّئَة} أَي: شدَّة وبلاء، وَقيل: الجدب الَّذِي هُوَ ضد الخصب. وَقَوله: {بِمَا قدمت أَيْديهم} أَي: من الذُّنُوب. وَقَوله: {فَإِن الْإِنْسَان كفور} مَعْنَاهُ: كَافِر لنعم الله لَا يشكرها.

{فَإِن الْإِنْسَان كفور (48) لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يخلق مَا يَشَاء يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور (49) أَو يزوجهم ذكرانا وإناثا وَيجْعَل من يَشَاء عقيما إِنَّه عليم قدير (50) وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل}

49

قَوْله تَعَالَى: {لله ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يخلق مَا يَشَاء يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور} أَي: يُعْطي الْإِنَاث دون الذُّكُور، والذكور دون الْإِنَاث.

50

وَقَوله: {أَو يزوجهم ذكرانا وإناثا} أَي: يجمع الذُّكُور وَالْإِنَاث فِي الْعَطاء، وَمعنى قَوْله: {يزوجهم} أَي: يصنفهم كَأَنَّهُ يَجْعَل الْأَوْلَاد صنفين: صنفا إِنَاثًا، وَصِنْفًا ذُكُورا. وَقَوله: {وَيجْعَل من يَشَاء عقيما} أَي: لَا يُولد لَهُ أصلا، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة فِي الْأَنْبِيَاء، فَقَوله: {يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا} هُوَ لوط النَّبِي كَانَ لَهُ بَنَات، وَلم يكن لَهُ ولد ذكر، وَقَوله: {ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور} هُوَ إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ لَهُ بنُون، وَلم تكن لَهُ أُنْثَى، وَقَوله: {أَو نزوجهم ذكرانا وإناثا} هُوَ الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ ولد لَهُ أَرْبَعَة بَنِينَ، وَأَرْبع بَنَات، فالبنون: الْقَاسِم وَبِه كني رَسُول الله، وَعبد الله، والطاهر، وَكَانَ يُسمى الطّيب أَيْضا وَإِبْرَاهِيم، فالثلاثة الْأَولونَ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَإِبْرَاهِيم بن مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَأما الْبَنَات: فزينب، ورقية، وَأم كُلْثُوم، وَفَاطِمَة، كُلهنَّ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وعنهن، وَقَوله: {وَيجْعَل من يَشَاء عقيما} وَهُوَ يحيى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لم يكن لَهما ولد وَلَا زَوْجَة. وَقَوله: {إِنَّه عليم قدير} ظَاهر الْمَعْنى.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا} ذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن سَبَب نزُول الْآيَة هُوَ ان الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي: هلا كلمك الله وَنظرت إِلَيْهِ كَمَا كَانَ مُوسَى؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {إِلَّا وَحيا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه الإلهام من الله تَعَالَى بالنفث فِي

{رَسُولا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّه عَليّ حَكِيم (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} صَدره، وَالْآخر: أَنه الرُّؤْيَا فِي الْمَنَام. وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس: لم ير جِبْرِيل من الْأَنْبِيَاء غير أَرْبَعَة هم: مُوسَى، وَعِيسَى، وزَكَرِيا، وَمُحَمّد عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأما الْبَاقُونَ فَكَانَ لَهُم وَحي وإلهام، وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة. وَقَوله: {أَو من وَرَاء حجاب} أَي: كَمَا كلم مُوسَى من وَرَاء حجاب، وَقيل: بالحجاب على مَوضِع الْكَلَام لَا على الله. [وَقيل] : إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما سمع كَلَام الله وَلم يره كَانَ بِمَنْزِلَة من يسمع من وَرَاء الْحجاب. وَقَوله: {أَو يُرْسل رَسُولا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} يَعْنِي: يُرْسل جِبْرِيل بِالْوَحْي إِلَى من يَشَاء من الْأَنْبِيَاء، [وَجُمْلَة] الَّذِي وصل إِلَى الْأَنْبِيَاء من الْوَحْي على ثَلَاثَة وُجُوه: وَحي إلهام، ورؤيا فِي الْمَنَام، ووحي بِتَكْلِيم الله تَعَالَى، ووحي بِلِسَان جِبْرِيل عَلَيْهِ لسلام. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: أوحى الله تَعَالَى الزبُور إِلَى دَاوُد فقرأه من قلبه، وَلم يكن على لِسَان جِبْرِيل. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى وكل بِحِفْظ الْوَحْي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَذَلِكَ بإيصاله إِلَى الْأَنْبِيَاء، وَكَذَلِكَ وَكله بنصرة الْأَنْبِيَاء وَعَذَاب الْكفَّار، ووكل مِيكَائِيل بالقطر والنبات، ووكل إسْرَافيل بالصور، وَهُوَ أَيْضا من حَملَة الْعَرْش، ووكل ملك الْمَوْت بِقَبض الْأَرْوَاح؛ فهم موكلون على هَذِه الْأَشْيَاء بِإِذن الله تَعَالَى. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يلقى النَّبِي فِي ثِيَاب بَيَاض ملفوفة بالدر والياقوت وَرجلَاهُ مغموستان فِي خضرَة. وَقد ذكرنَا فِي رِوَايَة عَن النَّبِي " أَن الْمُرْسلين من الْأَنْبِيَاء مائَة [وَخَمْسَة] عشر [جما غفيرا] أَوَّلهمْ آدم

{مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا} وَآخرهمْ مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام ". وَقَوله: {إِنَّه عَليّ حَكِيم} أَي: متعال مِمَّا يصفونه (الْمُشْركُونَ) ، حَكِيم فِي جَمِيع مَا يَفْعَله.

52

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} الرّوح هَاهُنَا هُوَ الْقُرْآن سَمَّاهُ روحا؛ لِأَنَّهُ تحيا بِهِ الْقُلُوب كالروح تحيا بِهِ النُّفُوس، وَقيل: إِنَّه النُّبُوَّة، وَالْأول أشهر. وَقَوله: {من أمرنَا} أَي: بأمرنا. وَقَوله: {وَمَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان} الْكتاب هُوَ الْقُرْآن، وَقيل: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب لَوْلَا أنزلنَا إِيَّاه عَلَيْك. وَقَوله: {وَلَا الْإِيمَان} الْمَعْرُوف أَن المُرَاد بِهِ شرائع الْإِيمَان، وَهَذَا قد حكى عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة وَغَيره من أَئِمَّة السّنة. وَعَن بَعضهم أَن مَعْنَاهُ: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان أَي: قبل الْبلُوغ. وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان أَي: أهل الْإِيمَان، وَهَذَا حكى عَن الْحُسَيْن بن الْفضل البَجلِيّ. وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة النزال بن سُبْرَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " قيل لرَسُول الله: هَل عبدت وثنا قطّ؟ قَالَ: لَا. وَقيل لَهُ: هَل شربت خمرًا قطّ؟ قَالَ: لَا. وَمَا زلت أعرف أَن مَا هم عَلَيْهِ بَاطِل، وَلم يُوح إِلَى كتاب وَلَا إِيمَان " وَالْخَبَر غَرِيب. وَقَوله: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: تَدْعُو، وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَإنَّك لتدعو إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم "

{وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (52) صِرَاط الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض أَلا إِلَى الله تصير الْأُمُور (53) هِيَ تبين معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَقَرَأَ عَاصِم الجحدري: " وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " على مَا لم يسم فَاعله، وَمَعْنَاهُ بَين.

53

قَوْله تَعَالَى: {صِرَاط الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض أَلا إِلَى الله تصير الْأُمُور} أَي: ترجع الْأُمُور، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {حم (1) وَالْكتاب الْمُبين (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون (3) وَإنَّهُ فِي أم الْكتاب لدينا لعَلي حَكِيم (4) أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا أَن كُنْتُم قوما مسرفين (5) } تَفْسِير سُورَة الزخرف وَهِي مَكِّيَّة

الزخرف

{حم} قد ذكرنَا معنى حم.

2

وَقَوله: {وَالْكتاب الْمُبين} هُوَ الْقُرْآن، وَسَماهُ مُبينًا؛ لِأَنَّهُ أبان فِيهِ الْهدى من الضَّلَالَة، وَالْخَيْر من الشَّرّ، وَأَبَان فِيهِ جَمِيع مَا يُؤْتى وَجَمِيع مَا يتقى. وَمعنى الْآيَة هُوَ الْقسم، فَكَأَنَّهُ أقسم بحم وَبِالْقُرْآنِ، وَجَوَاب الْقسم قَوْله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَإنَّهُ فِي ام الْكتاب} جَوَاب الْقسم أَيْضا.

3

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ} قَالَ السدى: أَنزَلْنَاهُ وَقَالَ مُجَاهِد: قُلْنَاهُ. وَعَن بَعضهم: بَيناهُ، قَالَه سُفْيَان الثَّوْريّ. وَاسْتدلَّ بِهَذَا من زعم أَن الْقُرْآن مَخْلُوق، وَذكر أَن الْجعل بِمَعْنى الْخلق بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي جعل لكم الأَرْض مهدا} أَي: خلق لكم، وَعِنْدنَا هَذَا التَّعَلُّق بَاطِل، وَالْقُرْآن كَلَام الله غير ومخلوق، وَعَلِيهِ إِجْمَاع أهل السّنة، وَزَعَمُوا أَن من قَالَ: إِنَّه مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر؛ لِأَن فِيهِ نفي كَلَام الله تَعَالَى، وَقد بَينا وَجه الْآيَة عِنْد السّلف وَمن يعْتَمد فِي تَفْسِيره. وَقد ورد الْجعل فِي الْقُرْآن لَا بِمَعْنى الْخلق، قَالَ الله تَعَالَى: {وَجعلُوا الْمَلَائِكَة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا} وَمَعْنَاهُ: أَنهم وصفوهم بالأنوثة وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنهم خلقوهم. وَقَوله: {قُرْآنًا عَرَبيا} أَي: بِلِسَان الْعَرَب. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تعقلون} أَي: تعقلون مَا فِيهِ.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ فِي أم لكتاب} أَي: الْقُرْآن فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي بعض

((5} وَكم أرسلنَا من نَبِي فِي الْأَوَّلين (6) وَمَا يَأْتِيهم من نَبِي إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون (7) فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا وَمضى مثل الْأَوَّلين (8) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق) التفاسبر: أَن أم الْكتاب مَذْكُور عِنْد الله تَعَالَى، قد بَين فِيهِ جَمِيع الْأَشْيَاء، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة عورض مَا كَانَ من المكاتبات بذلك الذّكر فتوجد على السوَاء. وَقد ثَبت عَن النَّبِي [أَنه] قَالَ: " إِن أول مَا خلق الله تَعَالَى الْقَلَم، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَقَوله: {لدينا} أَي: عندنَا. وَقَوله تَعَالَى: {لعلى} أَي: رفيع لَا يَنَالهُ أحد بتبديل وَلَا تَغْيِير. وَقَوله: {حَكِيم} أَي: أحكمت آيَاته لَا يُزَاد فِيهَا وَلَا ينقص.

5

قَوْله تَعَالَى: {أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا} مَعْنَاهُ: أفنصفح عَنْكُم وَقد كَذبْتُمْ بآياتي وتركتم أوامري. قَالَ القتيبي: وَهَذَا مَأْخُوذ من قَوْلهم: ضرب فلَان دَابَّته وصفحت عَنهُ أَي: مَالَتْ عَنهُ، وَحَقِيقَة المُرَاد: أفنضرب عَنْكُم الذّكر صافحين أَي: نمهلكم ونترككم فَلَا نأمركم وَلَا ننهاكم وَلَا نعرفكم مَا يجب عَلَيْكُم {أَن كُنْتُم قوما مسرفين} أى لَان كُنْتُم قوما مسرفين. وَيُقَال مَعْنَاهُ: نترككم والتكذيب وَلَا نعاقبكم عَلَيْهِ.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَكم أرسلنَا من نَبِي فِي الْأَوَّلين} كم للتكثير. وَقَوله: {من نَبِي فِي الْأَوَّلين} أَي: فِي الْقُرُون الْمَاضِيَة.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ياتيهم من نَبِي إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: يسخرون، وَهَذَا على الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ قد كَانَ فيهم من آمن.

8

وَقَوله: {فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا} أَي: فأهلكنا من هُوَ أَشد من قَوْمك بطشا أَي: قُوَّة. وَقَوله: {وَمضى مثل الْأَوَّلين} أَي: عقوبات الْأَوَّلين، وَذكر بِلَفْظ الْمثل على

{السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن خَلقهنَّ الْعَزِيز الْعَلِيم (9) الَّذِي جعل لكم لأرض مهدا وَجعل لكم فِيهَا سبلا لَعَلَّكُمْ تهتدون (10) وَالَّذِي نزل من السَّمَاء مَاء بِقدر فأنشرنا بِهِ} معنى أَنَّهَا سنة المكذبين من قبل. وَقُرِئَ: " مثل الْأَوَّلين " بِضَم الْمِيم والثاء على الْجمع، وَمَعْنَاهُ مَا بَينا.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: وَلَئِن سَالَتْ الْمُشْركين من خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض {ليَقُولن خَلقهنَّ الْعَزِيز الْعَلِيم} وَهَذَا على طَرِيق التعجيب من حَالهم أَي: كَيفَ يعْبدُونَ الْأَصْنَام ويزعمون أَن لله شَرِيكا، وَقد أقرُّوا أَن الله تَعَالَى خَالق السَّمَوَات والرض؟

10

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي جعل لكم الأَرْض مهدا} هَذَا ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى من غير أَن يكون حِكَايَة عَن الْكفَّار؛ لِأَن كَلَامهم قد تمّ فِي الْآيَة الأولى. وَقَوله: {وَجعل لكم الآرض مهدا} قد بَينا من قبل. وَقَوله: {وَجعل لكم فِيهَا سبلا} أَي: [طرقا] . وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تهتدون} أَي: تهتدون بسلوكها فِي أسفاركم. وَقيل: فِي معايشكم وتصرفاتكم.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي نزل من السَّمَاء مَاء بِقدر} أَي: بِمِقْدَار مَعْلُوم، فَلَا ينقص عَن حاجات النَّاس فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلَا يزِيد فَيكون سيلا مهْلكا، وَهَذَا على أَكثر الْأَحْوَال، وَقد يكو بِخِلَافِهِ. وَقَوله: {فأنشرنا بِهِ بَلْدَة مَيتا} مَعْنَاهُ: أحيينا بِهِ أَرضًا ميتَة. وَقَوله: {كَذَلِك تخرجُونَ} يَعْنِي: تبعثون يَوْم الْقِيَامَة.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا} أَي: الْأَصْنَاف كلهَا، وَيُقَال: لكل شَيْئَيْنِ قرينين زوجان، وكل وَاحِد مِنْهُمَا زوج صَاحبه، وَذَلِكَ السَّمَاء وَالْأَرْض، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَالْجنَّة وَالنَّار، وَمَا أشبه ذَلِك. وَكَذَلِكَ مَا يعود إِلَى

{بَلْدَة مَيتا كَذَلِك تخرجُونَ (11) وَالَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا وَجعل لكم من الْفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ (12) لتستووا على ظُهُوره ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين (13) وَإِنَّا إِلَى رَبنَا لمنقلبون} أَحْوَال الْإِنْسَان من الْمَرَض وَالصِّحَّة، والفقر والغنى، وَالْخَيْر وَالشَّر، وَالنَّوْم واليقظة، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {وَجعل لكم من الْفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} الْفلك: هِيَ السفن، وَاخْتلف القَوْل فِي الْأَنْعَام، فَذهب مقَاتل إِلَى أَنَّهَا الْإِبِل وَالْبَقر، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا الْإِبِل خَاصَّة، وَهُوَ الأولى، قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: وَمَتى ركبت الْبَقَرَة؟ ! وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن رجلا ركب بقرة فتكلمت الْبَقَرَة، وَقَالَت: مَا خلقنَا لهَذَا، وَإِنَّمَا خلقنَا للحرث.

13

وَقَوله: {لتستوا على ظُهُوره} فَإِن قيل: كَيفَ لم يقل: على ظُهُورهَا، وَقد تقدم لفظ الْجمع؟ وَالْجَوَاب: أَن قَوْله: {على ظُهُوره} ينْصَرف إِلَى كلمة " مَا "، وَمَعْنَاهُ: لتستووا على ظُهُور مَا تركبونه. وَقَوله: {ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} أَي: مطيقين، أَي: مَا كُنَّا نطيق تذليله وتسخيره لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذلله وسخره لنا. قَالَ عَمْرو بن معد يكرب: (وَقد علم الْقَبَائِل مَا عقيل ... لنا فِي النائبات بمقرنينا) وَعَن بَعضهم أَنه ركب بعيره وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين، فَسَمعهُ الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: أهكذا أمرت؟ إِنَّمَا أمرت أَن تذكر نعْمَة الله تَعَالَى ثمَّ تَقول هَذَا، فَإِذا ركبت فَقل: الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمن علينا بِمُحَمد، وَالْحَمْد لله الَّذِي جعلنَا من خير أمة أخرجت للنَّاس، ثمَّ قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر أَن النَّبِي كَانَ إِذا اسْتَوَى على بعيره مُتَوَجها فِي سفر،

{وَجعلُوا لَهُ من عباده جُزْءا إِن الْإِنْسَان لكفور مُبين (15) أم اتخذ مِمَّا يخلق} كبر الله ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك فِي سفرنا هَذَا الْبر وَالتَّقوى وَالْعَمَل بِمَا ترْضى، اللَّهُمَّ هون علينا سفرنا، واطو علينا بعده، اللَّهُمَّ أَنْت الصاحب فِي السّفر والخليفة فِي الْأَهْل، اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنظر، وَسُوء المنقلب فِي الْأَهْل وَالْمَال وَالْولد ". وَإِذا رَجَعَ قَالَ: آيبون تائبون عَابِدُونَ لربنا حامدون ". خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح. وَفِي بعض الْكتب عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنه قَالَ: كُنَّا فِي سفر وَكَانَ النَّاس إِذا اسْتَووا على دوابهم قَالُوا: {سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} وَكَانَ أَعْرَابِي على بعير هزيل فَاسْتَوَى على بعيره وَقَالَ: أما إِنِّي لهَذَا مقرن، [فقمص] بِهِ، فَوَقع واندقت عُنُقه وَمَات. وَفِي بعض الْآثَار أَيْضا: أَن رجلا شَابًّا خرج فِي حلَّة لَهُ، قد رجل شعره، فَقيل لَهُ: إِنَّك لحميل الْيَوْم، فَقَالَ: إِن الله يعجب من جمالي؛ فمسخه الله تَعَالَى. وَعَن بَعضهم أَيْضا أَنه كَانَ يكْتب الْقُرْآن فانعقد حبره وَلم يحضرهُ المَاء، فقطر فِيهِ قَطْرَة بَوْل فَكتب، فجفت يَده.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا إِلَى رَبنَا لمنقلبون} أَي: رَاجِعُون.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا لَهُ من عباده جُزْءا} أَي: نَصِيبا، والنصيب الَّذِي جَعَلُوهُ لله تَعَالَى هُوَ أَنهم قَالُوا: الْمَلَائِكَة بَنَات الله تَعَالَى. [يُقَال] : أَجْزَأت الْمَرْأَة، إِذا

{بَنَات وأصفاكم بالبنين (16) وَإِذا بشر أحدهم بِمَا ضرب للرحمن مثلا ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم (17) أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين (18) } ولدت أُنْثَى. وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لكفور مُبين} أَي: كفور للنعم بَين الكفران.

16

قَوْله تَعَالَى: {أم اتخذ مِمَّا يخلق بَنَات} مَعْنَاهُ: أم اتخذ الله مِمَّا يخلق بَنَات {وأصفاكم بالبنين} أَي: اخْتَار لكم الْبَنِينَ، وَهَذَا، [على] طَرِيق الْإِنْكَار لقَولهم. وَفِي التَّفْسِير: أَن هَذَا القَوْل كَانَ يَقُوله بَنو كنَانَة وَبَنُو عَامر وَحي ثَالِث. وَعَن بَعضهم: أَن جَمِيع قُرَيْش كَانَت تَقوله، فَقيل لَهُم: من أَيْن تَقولُونَ هَذَا؟ فَقَالَت: سمعنَا آبَاءَنَا يَقُولُونَ كَذَلِك، وَنحن نشْهد أنم لم يكذبوا.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا بشر أحدكُم بِمَا ضرب للرحمن مثلا} أَي: وصف الله بِهِ. وَقَوله: {ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم} أَي: حَزِين مكروب، وَيُقَال مَمْلُوء غما وهما.

18

قَوْله تَعَالَى: {أَو من ينشأ فِي الْحِلْية} أَي يُربي وينبت. وَقُرِئَ: " أَو من ينشأ أَي: ينْبت وَقَوله: {فِي الْحِلْية} أَي: فِي الْحلِيّ، والحلية: الزِّينَة، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا مَشْغُولَة بزينتها لَيْسَ لَهَا رَأْي فِي الْأُمُور، وَلَا تصرف فِي الْأَشْيَاء. وَقَوله: {وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} أَي: فِي الْجِدَال ضَعِيف القَوْل. وَفِي التَّفْسِير: قَلما تَكَلَّمت امْرَأَة بِحجَّة فأمكنها أَن تبلغ حجتها، وَيُقَال: قَلما تَكَلَّمت امْرَأَة بِحجَّة إِلَّا وتتكلم مَا يكون حجَّة عَلَيْهَا، وَالْآيَة وَردت للإنكار عَلَيْهِم يَعْنِي: أَنكُمْ جعلتم نَصِيبي من عبَادي مثل هَؤُلَاءِ، وجعلتم نصيبكم الْبَنِينَ.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا الْمَلَائِكَة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا} مَعْنَاهُ: وصفوا،

{وَجعلُوا لملائكة الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا أشهدوا خلقهمْ ستكتب شَهَادَتهم ويسألون (19) وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا} وَلَيْسَ الْجعل هَاهُنَا بِمَعْنى الْخلق، إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى الْوَصْف وَالتَّسْمِيَة كَمَا يَقُول الْقَائِل: جعل فلَان زيدا أعلم النَّاس أَي: وَصفه بِهِ، وَحكم لَهُ بذلك، وَقُرِئَ: " عِنْد الرَّحْمَن " وَهُوَ عبارَة عَن الْقرب والرفعة. وَقَوله: {أشهدوا خلقهمْ} مَعْنَاهُ: أحضروا خلقهمْ فعرفوا أَنهم خلقُوا إِنَاثًا، وَقُرِئَ: (اشْهَدُوا خلقهمْ) مَعْنَاهُ: احضروا. وَقَوله: {ستكتب شَهَادَتهم} وَقُرِئَ (سنكتب) بالنُّون يعْنى: [أَنهم] يجازون بِشَهَادَتِهِم الكاذبة. وَقيل سنكتب ليجاوز. وَقَوله: {ويسألون} أَي: يسْأَلُون عَن شَهَادَتهم يَوْم الْقِيَامَة.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم} تعلق بِهَذِهِ الْآيَة الْقَدَرِيَّة، وَقَالُوا: حكى الله تَعَالَى عَن الْكفَّار أَنهم قَالُوا: لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم، ثمَّ عقبه بالإنكار والتهديد فَقَالَ: {مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يخرصون} أَي: يكذبُون، وعندكم أَن الْأَمر على مَا قَالُوا. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {مَا لَهُم بذلك من علم} أى: مَالهم بقَوْلهمْ إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله من علم إِن هم إِلَّا يخرصون يعْنى: فِي هَذَا القَوْل وَقد تمّ الْكَلَام على هَذَا عِنْد قَوْله: {لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم} وَالْإِنْكَار غير رَاجع إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يحْكى من الْكفَّار مَا هُوَ حق مثل قَوْله: {وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله أطْعمهُ} وَهَذَا القَوْل حق وَصدق، فَإِن قيل: أول الْآيَة وَآخِرهَا خرج مخرج الْإِنْكَار عَلَيْهِم فَكيف يحْكى عَنْهُم مَا هُوَ حق؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنهم قَالُوا هَذَا لَا على اعْتِقَاد الْحق وَلَكِن لدفع الْقبُول عَن أنفسهم، وَقد كَانُوا أمروا

{يخرصون (20) أم آتَيْنَاهُم كتابا من قبله فهم بِهِ مستمسكون (21) بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون (22) وَكَذَلِكَ مَا أرسلنَا من قبلك فِي قَرْيَة من} بِالْقبُولِ، فأرادوا أَن يدفعوا الْقبُول من أنفسهم بِهَذَا القَوْل، كَمَا أَن فِي الْآيَة الآخرى أَرَادوا أَن يدفعوا الْأَمر بِالْإِنْفَاقِ عَن أنفسهم بِمَا قَالُوهُ، وَالْقَوْل على هَذَا الْقَصْد غير صَحِيح. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {مَا لَهُم بذلك من علم} أَي: مَا لَهُم فِي هَذَا القَوْل من عذر. وَقَوله: {إِن هم غلا يخرصون} أَي: يطْلبُونَ مَا لَا يكون من طلب الْعذر بِهَذَا الْكَلَام، حَكَاهُ النّحاس، وَالْأول ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا.

21

قَوْله تَعَالَى: {أم أتيناهم كتابا من قبله} أَي: بِمَا زَعَمُوا ان الْمَلَائِكَة خلقُوا إِنَاثًا. وَقَوله: {فهم بِهِ مستمسكون} أَي: مستمسكون، وَهَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار أَيْضا.

22

قَوْله تَعَالَى: {بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة} وَقُرِئَ: " إمة " بِكَسْر الْألف فَقَوله: {على أمة} أَي: على مِلَّة وَدين، قَالَ الشَّاعِر: (حَلَفت فَلم أترك لنَفسك رِيبَة ... وَهل يأثمن ذُو أمة وَهُوَ طائع) أَي: ذُو مِلَّة. وَأما الإمة بِكَسْر الْألف فَهِيَ بِمَعْنى الطَّرِيقَة، قَالَ الشَّاعِر: (ثمَّ بعد الْفَلاح وَالْملك وإلامة ... وارتهم هُنَاكَ الْقُبُور) فَقَوله: والإمة يَعْنِي: الطَّرِيقَة الْحَسَنَة. وَقَوله: {وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} أَي: متبعون.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أرسلنَا من قبلك فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها}

{نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون (23) قَالَ أَو لَو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون (24) فانتقمنا مِنْهُم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (25) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَقَومه إِنَّنِي برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فطرني فَإِنَّهُ سيهدين (27) وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عقبه} أَي: متنعموها. وَوجه الْإِنْكَار أَن الرفه مَنعهم عَن طلب الْحق. وَقَوله: {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون} ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي الْآيَتَيْنِ دَلِيل على ذمّ التَّقْلِيد وَالرُّجُوع إِلَى قَول الْآبَاء من غير حجَّة.

24

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أَو لَو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم} مَعْنَاهُ: أتتبعون مَا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم وَإِن جِئتُكُمْ بأهدى مِنْهُ. وَقَوله: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون} أَي: جاحدون.

25

قَوْله تَعَالَى: {فانتقمنا مِنْهُم} أَي: بالإهلاك والعقوبة. وَقَوله: {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين} أَي: الجاحدين.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَقَومه إِنَّنِي برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ} وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " بَرِيء " فَقَوله: {برَاء} بِمَعْنى قَوْله: " بَرِيء "، وَيُقَال: إِنَّه لُغَة اهل الْحجاز يَعْنِي قَوْله: {برَاء} وَهُوَ مِمَّا لَا يثنى وَلَا يجمع.

27

وَقَوله: {إِلَّا الَّذِي فطرني} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء إِلَّا أَنهم كَانُوا يعْبدُونَ الله وَمَا دونه، فيستقيم الِاسْتِثْنَاء على هَذَا. وَالثَّانِي: أَنه اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن لذِي فطرني أَي: جعلني {فَإِنَّهُ سيهدين} أَي: يرشدني.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة} قَالَ مُجَاهِد: هِيَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ الْإِخْلَاص والتوحيد. وَعَن بَعضهم: أَن الْكَلِمَة هِيَ قَول إِبْرَاهِيم:

{لَعَلَّهُم يرجعُونَ (28) بل متعت هَؤُلَاءِ وآباءهم حَتَّى جَاءَهُم الْحق وَرَسُول مُبين (29) وَلما جَاءَهُم الْحق قَالُوا هَذَا سحر وَإِنَّا بِهِ كافرون (30) وَقَالُوا لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم (31) أهم يقسمون رحمت رَبك نَحن قسمنا بَينهم} {أسلمت لرب الْعَالمين} . وَذَلِكَ عِنْدَمَا قيل لَهُ: {أسلم} . وَأما قَوْله: {فِي عقبَة} أَي: فِي وَلَده. وَفِي التَّفْسِير: لَا يزَال فِي عقب إِبْرَاهِيم من هُوَ مُسْتَقِيم على كلمة التَّوْحِيد. وَقيل: {فِي عقبه} هُوَ رجل وَاحِد، وَذَلِكَ مُحَمَّد. وَقَالَ السدى: فِي عقبه يَعْنِي: فِي آل مُحَمَّد وَرَضي عَنْهُم. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: يرجعُونَ إِلَى الْهدى بعد الضَّلَالَة.

29

قَوْله تَعَالَى: {بل متعت هَؤُلَاءِ وآباءهم} أَي: أمتعتهم بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ وَأَوْلَادهمْ، وأمتعت آبَاءَهُم. وَقَوله: {حَتَّى جَاءَهُم الْحق وَرَسُول مُبين} أَي: جَاءَهُم الْقُرْآن يبين الْهدى من الضَّلَالَة، وَالْحق من الْبَاطِل.

30

وَقَوله: {وَلما جَاءَهُم الْحق قَالُوا هَذَا سحر وَإِنَّا بِهِ كافرون} أَي: جاحدون.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم} وَتَقْدِيره: على رجل من رجْلي القريتين عَظِيم. والقريتان هما مَكَّة والطائف، وَأما الرّجلَانِ اخْتلفُوا فيهمَا، قَالَ ابْن عَبَّاس: الَّذِي من مَكَّة هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَالَّذِي من الطَّائِف هُوَ حبيب بن عَمْرو الثَّقَفِيّ. وَقيل: الَّذِي من مَكَّة هُوَ عتبَة بن ربيعَة، وَالَّذِي من الطَّائِف هُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، قَالَه قَتَادَة. وَقَالَ مُجَاهِد فِي الَّذِي من الطَّائِف: هُوَ ابْن عبد ياليل الثَّقَفِيّ. وَعَن السدى أَيْضا فِيهِ: أَنه كنَانَة بن عدي بن عَمْرو.

32

وَقَوله: {أهم يقسمون رَحْمَة رَبك} أَي: رِسَالَة رَبك فيختارون لَهَا من شَاءُوا. وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ لَهُم هَذَا الِاخْتِيَار.

{معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا ورحمت رَبك خير مِمَّا يجمعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا} وَقَوله: {نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: كَمَا قسمنا معيشة الْحَيَاة الدُّنْيَا فاخترنا للغنى من شِئْنَا، وللفقر من شِئْنَا، فَكَذَلِك اخترنا واصطفينا للرسالة من شِئْنَا. وَقد روى ابْن مَسْعُود أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا قسم بَيْنكُم أرزاقكم، وَإِن الله يُعْطي الدُّنْيَا من يحب وَمن لَا يحب، وَلَا يُعْطي الدّين إِلَّا من يُحِبهُ، وَمن أعطَاهُ الدّين فقد أحبه ". وَعَن قَتَادَة: رب رجل ضَعِيف (الجبلة) عيي اللِّسَان [مَبْسُوط لَهُ] فِي الرزق، وَرب رجل شَدِيد (الجبلة) ، فصيح اللِّسَان مقتر عَلَيْهِ فِي الرزق. وَقَوله: {ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات} أَي: فِي الدُّنْيَا، فغني وفقير، وفاضل ومفضول، وحر وَعبد، وصحيح وَسَقِيم، وَأَشْبَاه ذَلِك. وَقَوله: {ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا} أَي: خولا. وَقيل: بتسخير الْغَنِيّ الْفَقِير بِمَالِه، وَالْقَوِي الضَّعِيف بِفضل قوته. وَيُقَال: تتخذونهم مماليك وعبيدا، وَبِهَذَا الْقيام صَلَاح الْعَالم، وَأنْشد بَعضهم: (سُبْحَانَ من سخر [الْأَنَام] بَعضهم ... للْبَعْض حِين اسْتَوَى التَّدْبِير واطردا) (فَصَارَ يخْدم هَذَا ذَاك من جِهَة ... وَذَاكَ من جِهَة هَذَا وَإِن بعدا) (كل بِمَا عِنْده مُسْتَبْشِرٍ فَرح ... يرى السَّعَادَة فِيمَا نَالَ واعتقدا) وَقَوله: {وَرَحْمَة رَبك خير مِمَّا يجمعُونَ} أَي: النُّبُوَّة خير مِمَّا يجمعُونَ من الدُّنْيَا، وَقيل: الْآخِرَة خير من الدُّنْيَا. وَقُرِئَ: " تجمعون " بِالتَّاءِ، وَالْأول أشهر.

33

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة} مَعْنَاهُ: وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس كلهم كفَّارًا. وَقيل: لَوْلَا أَن الدُّنْيَا تميل بِالنَّاسِ عَن الدّين، لَو فعلنَا هَذَا بالكفار لفعلنَا

{لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون (33) ولبيوتهم أبوابا وسررا عَلَيْهَا يتكئون (34) وزخرفا وَإِن كل ذَلِك لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} هَذَا لهوان الدُّنْيَا عندنَا. وَقَوله: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة} وَقُرِئَ: " سقفا " بِفَتْح السِّين يَعْنِي: جعلنَا جدرها فضَّة. وَقَوله: {ومعارج عَلَيْهَا يظهرون} أَي: جعلنَا لَهُم مراقي من فضَّة يظهرون عَلَيْهَا على السّقف. وَمَعْنَاهُ: يظهرون يصعدون ويعلون. وَفِي الْأَخْبَار: أَن نَابِغَة بن جعدة أنْشد للنَّبِي: (بلغت السَّمَاء عفة وتكرما ... وَإِنَّا لنَرْجُو فَوق ذَلِك مظْهرا) أَي: معلا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " إِلَى أَيْن يَا أَبَا ليلى؟ " قَالَ: إِلَى لجنة. قَالَ: " أجل إِن شَاءَ الله ".

34

وَقَوله: {ولبيوتهم أبوابا وسررا عَلَيْهَا يتكئون} أَي: جعلنَا ذَلِك لَهُم من فضَّة.

35

وَقَوله: {وزخرفا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وذهبا أَي: (جعلنَا) جَمِيع ذَلِك من ذهب. فَإِن قَالَ قَائِل لم أنتصب؟ قُلْنَا: لِأَن الْمَعْنى من فضَّة وَمن ذهب، فنزعت " من " فانتصب. وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وذهبا " وَهَذَا يبين صِحَة هَذَا القَوْل. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وزخرفا} أَي: غنى. وَعَن الْحسن قَالَ: الزخرف هِيَ النقوش. وَقيل: كل مَا هُوَ زِينَة فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَإِن كل ذَلِك لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: تكون مُدَّة ويفنى سَرِيعا.

{عِنْد رَبك لِلْمُتقين (35) وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين (36) وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون (37) } وَقَوله: {وَالْآخِرَة عِنْد رَبك لِلْمُتقين} أَي: لِلْمُتقين من الشّرك والمعاصي.

36

قَوْله تَعَالَى: {وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن} قَالَ قَتَادَة: يعرض. وَمِنْه قَوْلهم: فلَان يعشو أَي: يمشي ببصر ضَعِيف. [يُقَال] : عشا يعشو إِذا ضعف بَصَره، وعشى يعشي إِذا عمى بَصَره، وَمِنْه الْأَعْشَى. وَفِي الحَدِيث أَن سعيد بن الْمسيب ذهبت إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَجعل يعشو بِالْأُخْرَى أَي: يبصر بصرا ضَعِيفا. وَقُرِئَ: " يَعش " بِنصب الشين أَي: يعمى. وَيُقَال فِي معنى قَوْله: {يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن} أَي: يذهب عَن ذكره؛ فيسير فِي ظلمَة وخبط عَن جَهَالَة. وَقَوله: {نقيض لَهُ شَيْطَانا} أَي: نوكل بِهِ شَيْطَانا. وَيُقَال: نلقيه شَيْطَانا. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْكَافِر إِذا خرج من الْقَبْر لقِيه شَيْطَان، فَأدْخل يَده فِي يَده، وَلَا يزَال مَعَه حَتَّى يصير إِلَى النَّار، وَالْمُؤمن إِذا خرج من قَبره يلقاه ملك، فَيدْخل يَده فِي يَده، فَلَا يزَال مَعَه حَتَّى يصير إِلَى الْجنَّة. وَقَوله: {فَهُوَ لَهُ قرين} أَي: مُقَارن. وَيُقَال: يجعلان فِي سلسلة وَاحِدَة.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل} أَي: الشَّيَاطِين يصدونهم عَن طَرِيق الْحق. وَقَوله: {وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} أَي: الْكفَّار يحسبون أَنهم مهتدون بإرشاد الشَّيَاطِين. وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " عَلَيْكُم بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَالِاسْتِغْفَار، فَأَكْثرُوا مِنْهَا فَإِن إِبْلِيس قَالَ: أهلكت بني آدم بِالذنُوبِ،

{حَتَّى إِذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين (38) وَلنْ ينفعكم الْيَوْم إِذا ظلمتم أَنكُمْ فِي الْعَذَاب مشتركون (39) } وأهلكوني بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَالِاسْتِغْفَار، فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك أهلكتهم بالأهواء، ثمَّ قَرَأَ النَّبِي: {وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} ".

38

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءَنَا} وَقُرِئَ: " جاءانا "، فَقَوله: " جَاءَنَا " هُوَ الْكَافِر وَحده، وَقَوله: " جاءانا " هُوَ الْكَافِر وقرينه الشَّيْطَان. وَقَوله: {قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: بعد الْمشرق من الْمغرب، وسماها مشرقين على عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يذكرُونَ [شَيْئَيْنِ] مُخْتَلفين ويسمونهما باسم وَاحِد، قَالَ الشَّاعِر: (أَخذنَا بآفاق السَّمَاء عَلَيْكُم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع) أَي الشَّمْس وَالْقَمَر. وَقَالَ آخر: (وبصرة الأزد لنا وَالْعراق ... والموصلان وَمنا مصر وَالْحرم) وَأَرَادَ بالموصلين الْموصل والجزيرة. وروى أَن أهل الْبَصْرَة قَالُوا لعَلي رَضِي الله عَنهُ حِين حَارَبُوهُ مَعَ عَائِشَة يَوْم الْجمل: إِنَّا نطلب مِنْك سنة العمرين يَعْنِي: أَبَا بكر وَعمر، وَقَالَ جرير: (مَا كَانَ يرضى رَسُول الله فعلهم ... والعمران أَبُو بكر وَلَا عمر) وَالْقَوْل الثَّانِي: بعد المشرقين أَي: مشرق الشتَاء ومشرق الصَّيف. وَقَوله: {فبئس القرين} أَي: بئس الْمُقَارن أَنْت.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ ينفعكم الْيَوْم إِذْ ظلمتم أَنكُمْ فِي الْعَذَاب مشتركون} أَي: لن يسهل عَلَيْكُم عذابكم رؤيتكم غَيْركُمْ مشاركين لكم فِي الْعَذَاب، فَكَأَن الله

{أفأنت تسمع الصم أَو تهدي الْعمي وَمن كَانَ فِي ضلال مُبين (40) فإمَّا نذهبن بك فَإنَّا مِنْهُم منتقمون (41) أَو نرينك الَّذِي وعدناهم فَإنَّا عَلَيْهِم مقتدرون (42) فَاسْتَمْسك} تَعَالَى مَنعهم التأسي بِمَا يسهل على الْإِنْسَان الْمُصِيبَة والعقوبة، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ فِي مُصِيبَة فَرَأى غَيره فِي مثلهَا سهل عَلَيْهِ. والتأسي [التسلي] . قَالَت الخنساء فِي أَخِيهَا صَخْر: (وَلَوْلَا كَثْرَة الباكين حَولي ... على إخْوَانهمْ لقتلت نَفسِي) (وَمَا يَبْكُونَ مثل أخي وَلَكِن ... أعزي النَّفس [عَنهُ] بالتأسي)

40

وَقَوله تَعَالَى: {أفأنت تسمع الصم أَو تهدي الْعمي وَمن كَانَ فِي ضلال مُبين} أَي: لَا تسمع وَلَا تهدي.

41

وَقَوله تَعَالَى: {فإمَّا نذهبن بك فَإنَّا مِنْهُم منتقمون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ: فَإِنَّمَا نخرجنك من مَكَّة، فَإنَّا منتقمون مِنْهُم يَوْم بدر بِالْقَتْلِ والأسر. وَالْقَوْل الثَّانِي: {فإمَّا نذهبن بك} يَعْنِي: بالوفاة، فَإنَّا منتقمون مِنْهُم بعْدك، وَيُقَال: يَوْم الْقِيَامَة.

42

قَوْله تَعَالَى: {أَو نرينك الَّذِي وعدناهم} قَالَ السدى: هَذَا فِي الْمُشْركين. وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: هَذَا فِي أمته. " وروى أَن النَّبِي أرى فِي أمته بعض مَا يصيرون إِلَيْهِ، فَمَا رُؤِيَ ضَاحِكا نشيطا بعد ذَلِك إِلَى أَن فَارق الدُّنْيَا ". وَفِي بعض التفاسير: أَنه مَا من نَبِي إِلَّا وأري النقمَة فِي أمته إِلَّا نَبينَا، فَإِن الله تَعَالَى لم يره النقمَة فِي أمته، وَقد كَانَ فِي أمته من النقمات، وَيكون إِلَى قيام السَّاعَة. وَقَوله: {فَإنَّا عَلَيْهِم مقتدرون} أَي: قادرون.

{بِالَّذِي أُوحِي إِلَيْك إِنَّك على صِرَاط مُسْتَقِيم (43) وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك وسوف تسْأَلُون (44) واسأل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة}

43

قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَمْسك بِالَّذِي أوحى إِلَيْك} أَي: بِالْقُرْآنِ. وَقَوله: {إِنَّك على صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: طَرِيق وَاضح.

44

وَقَوله: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} أَي: الْقُرْآن شرف لَك ولقومك. وَقَوله: {وسوف تسْأَلُون} أَي: تسْأَلُون عَن شكر هَذِه النِّعْمَة. وَعَن قَتَادَة أَو غَيره فِي هَذِه الْآيَة قَالَ: يُقَال للرجل: مِمَّن أَنْت؟ فَيَقُول: من الْعَرَب. فَيُقَال لَهُ: من أَي الْعَرَب؟ فَيَقُول: من قُرَيْش، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} وروى بَعضهم عَن مَالك بن أنس قَالَ: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} هُوَ قَول الْقَائِل: حَدثنِي أبي عَن جدي، وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول، وَمعنى شرف قُرَيْش: أَن الْقُرْآن نزل بلغتهم، وَالرَّسُول كَانَ مِنْهُم.

45

{ [واسأل من أرسلنَا من قبلك] من رسلنَا أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ} الْمَعْرُوف من القَوْل فِي هَذِه الْآيَة أَن مَعْنَاهُ: واسأل أُمَم من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي مَعْنَاهُ: وسل تبَاع من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا. وَقَالَ بَعضهم: واسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب مِمَّن أرسلنَا إِلَيْهِم رسلًا من قبلك. وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود: " واسال الَّذين أرسلنَا إِلَيْهِم رسلًا من قبلك هَل جعلنَا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ " وَهِي تَفْسِير الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: مَا رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى جمع الْمُرْسلين لَيْلَة الْإِسْرَاء فِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس ثمَّ إِن جِبْرِيل أذن، ثمَّ أَقَامَ، ثمَّ قَالَ للنَّبِي: تقدم وصل بهم، فَلَمَّا فرغ من صلَاته، قَالَ لَهُ: " وسل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا

{يعْبدُونَ (45) وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فَقَالَ إِنِّي رَسُول رب الْعَالمين (46) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذا هم مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نريهم من آيَة إِلَّا هِيَ أكبر} وَزعم بَعضهم أَنه سَأَلَهُمْ فَأَجَابُوا وَقَالُوا: مَا أمرنَا الله تَعَالَى إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاص. وَفِي بعض التفاسير: أَن مِيكَائِيل قَالَ لجبريل: هَل سَأَلَ مُحَمَّد الرُّسُل عَمَّا أَمر بِهِ؟ فَقَالَ: لَا، كَانَ أَشد يَقِينا وَأعلم بِاللَّه من أَن يسال عَن ذَلِك. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه السُّؤَال وَالْجَوَاب فِي هَذِه المسالة؟ وَالسُّؤَال عَن هَذَا إِنَّمَا يكون من شَاك فِي الْأَمر أما من مستقين فَلَا، وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ تَقْرِير الرَّسُول على مَا يَعْتَقِدهُ وتوبيخ الْكفَّار وتوقيفهم أَن الْأَمر على مَا يَقُول الرَّسُول. وَقَالَ بَعضهم: الْخطاب للرسول وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة، وَيُقَال: [إِن] الْخطاب للْمُشْرِكين كَأَنَّهُ أَمرهم أَن يسْأَلُوا مؤمني أهل الْكتاب، هَل أَمر الله بِمَا يزعمونه فِي كتاب من كتبهمْ، وَهُوَ عبَادَة الْأَصْنَام وتعظيمها؟ وَقد كَانُوا يرجعُونَ إِلَى قَول أهل الْكتاب فِي بعض الْأَشْيَاء، ويعتمدون عَلَيْهِ، وَالله أعلم.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فَقَالَ إِنِّي رَسُول رب الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.

47

وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا} أَي: بالمعجزات والدلالات. وَقَوله: {إِذا هم مِنْهَا يَضْحَكُونَ} يَعْنِي: ضحك الْمُسْتَهْزِئِينَ المكذبين، وَالْمرَاد من الْآيَة تعجيب الرَّسُول من ضحكهم وتكذيبهم مَعَ وُرُود الْآيَات الظَّاهِرَة مَعَ مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نريهم من آيَة إِلَّا هِيَ أكبر من أُخْتهَا} أَي: أعظم من الْآيَة الْمُتَقَدّمَة. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الْآيَة الأولى من آيَات مُوسَى أَن فِرْعَوْن كَانَ قد جعل على قصره سبع حَوَائِط، بَين كل حائطين سباغ وغياض، والأبواب على الْحِيطَان كَانَت تقفل وَلَا تفتح إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ فَلَمَّا حضر مُوسَى بَاب فِرْعَوْن، انفتحت لَهُ الْأَبْوَاب،

{من أُخْتهَا وأخذناهم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُم يرجعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر ادْع لنا رَبك} وانكسرت الأقفال، وسجدت لَهُ السبَاع حَتَّى وصل إِلَى قصر فِرْعَوْن، فَهَذِهِ الْآيَة الأولى، ثمَّ إِنَّه لما أحضر فِرْعَوْن السَّحَرَة وألقوا الْعَصَا والحبال، وَهِي شبه الْحَيَّات الْكِبَار فِي أعين النَّاس ثمَّ ألْقى مُوسَى الْعَصَا الَّتِي كَانَت مَعَه، وتلقفت جَمِيع الحبال والعصي على مَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي الْقِصَّة، فَهَذِهِ الْآيَة أعظم من الأولى. وَزعم بَعضهم أَن الْآيَات كلهَا سَوَاء فِي الإعجاز وَالدّلَالَة، إِلَّا أَنه سمى الْآيَة الْحَاضِرَة أكبر من الذاهبة لحضور هَذِه الْآيَة وَذَهَاب تِلْكَ. وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول فِي عِلّة تصيبه: مَا مرت بِي عِلّة مثل هَذِه الْعلَّة، وَإِن كَانَ قد مرت عَلَيْهِ علل هِيَ أكبر مِنْهَا أَو مثلهَا، وَلكنه يَقُول هَذَا القَوْل (لحضور) هَذِه الْعلَّة وَذَهَاب تِلْكَ الْعلَّة. وَمِنْهُم من قَالَ: المُرَاد من الْآيَات قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم} وَمَا من آيَة أظهرها بعد آيَة إِلَّا وَهِي أكبر من الأولى، وَمَا ذَكرْنَاهُ من القَوْل الأول هُوَ الْأَحْسَن فِي الْمَعْنى. وَقَوله: {وأخذناهم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: إِلَى الله تَعَالَى.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك إننا لَمُهْتَدُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ قَالُوا: يَا أَيهَا السَّاحر ثمَّ قَالُوا: إننا لَمُهْتَدُونَ بك [وَلَا يَهْتَدِي أحد] بالساحر؟ وَالْجَوَاب: أَن السَّاحر عِنْدهم هُوَ الْعَالم، وَمعنى قَوْله {يَا أَيهَا السَّاحر} أَي: يَا أَيهَا الْعَالم، وَهَذَا قَول الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَقَالَ الزّجاج: قَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر على مَا (كَانُوا) من قَوْلهم لَهُ. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء والسخرية وَلم يَكُونُوا اعتقدوا أَن يُؤمنُوا بِهِ. وَقَوله: {بِمَا عهد عنْدك} إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَن مُوسَى قَالَ لَهُم: إِن آمنتم كشف الله عَنْكُم هَذِه الْعقُوبَة، وَهَذَا مَذْكُور فِي سُورَة الْأَعْرَاف على مَا سبق.

{بِمَا عهد عنْدك إننا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الْعَذَاب إِذْ هم ينكثون (50) ونادى فِرْعَوْن فى قومه قَالَ يَا قوم أَلَيْسَ لي ملك مصر وَهَذِه الْأَنْهَار تجْرِي من تحتي}

50

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الْعَذَاب إِذْ هم ينكثون} أَي: ينقضون الْعَهْد، وَلَا يَقُولُونَ بقَوْلهمْ.

51

قَوْله تَعَالَى: {ونادى فِرْعَوْن فِي قومه قَالَ يَا قوم أَلَيْسَ لي ملك مصر} قَالَ بَعضهم: كَانَ ملكه أَرْبَعِينَ فرسخا فِي أَرْبَعِينَ. وَقَالَ بَعضهم: مسيرَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَوله: {وَهَذِه الْأَنْهَار تجْرِي من تحتي} أَي: من تَحت قصري، وَقَالَ قَتَادَة: بَين يَدي. وَفِي تفسيرالنقاش: أَنه كَانَ فِي زمَان فِرْعَوْن خَمْسَة أَنهَار بِمصْر اندرست من بعد، وَلم يبْق مِنْهَا شَيْء. وَفِي هَذَا التَّفْسِير أَيْضا: أَنه كَانَ بِمصْر سبع خلج الَّتِي وَاحِدهَا خليج، واندرست من بعد، وَكَانَ فِرْعَوْن يركب من فَيوم إِلَى دمياط والإسكندرية فَلَا يسير إِلَّا تَحت الْأَشْجَار ملتفة وأنهار جَارِيَة. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَأَيْت لَيْلَة الْمِعْرَاج سِدْرَة الْمُنْتَهى وَإِذا يخرج من أَصْلهَا أَرْبَعَة أَنهَار: نهران باطنان، ونهران ظاهران قَالَ: فَسَأَلت جِبْرِيل عَن الْأَنْهَار فَقَالَ: أما الباطنان فَفِي الْجنَّة، وَأما الظاهران فالنيل والفرات ". وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قَالَ: إِن الله تَعَالَى يغذي النّيل بِجَمِيعِ الْأَنْهَار من بَين الْمشرق وَالْمغْرب، وَذَلِكَ عِنْد زِيَادَته إِلَى أَن تَنْتَهِي الزِّيَادَة مُنْتَهَاهَا، ثمَّ يرجع إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقَوله: {أَفلا تبصرون} يَعْنِي: أَفلا ترَوْنَ. وَفِي بعض التفاسير: أَن معنى الْأَنْهَار فِي هَذِه الْآيَة هِيَ الْأَمْوَال، وسماها أَنهَار لكثرتها وظهورها. وَقَوله: {تجْرِي من تحتي} أَي: أفرقها على من شِئْت. قَالُوا: وَإِظْهَار التَّرْغِيب

{أَفلا تبصرون (51) أم أَنا خير من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين وَلَا يكَاد يبين (52) فلولا ألقِي عَلَيْهِ أسورة من ذهب أَو جَاءَ مَعَه الْمَلَائِكَة مقترين (53) } وَالْقُدْرَة فِي هَذَا أكبر مِنْهُ فِي الْأَنْهَار، ذكره الْمَاوَرْدِيّ أَبُو الْحسن القَاضِي.

52

قَوْله تَعَالَى: {أم أَنا خير من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين} قَالَ بَعضهم قَوْله: {أم} مُتَّصِل بِمَا قبله، وَمَعْنَاهُ: أَفلا تبصرون أم تبصرون. وَقيل: أم أَنْتُم بصراء وَتمّ الْكَلَام على هَذَا، ثمَّ ابْتِدَاء قَوْله: {أَنا خير} وَهَذَا محكي عَن الْخَلِيل وسيبويه، وَقَالَ بَعضهم: " أم " صلَة زَائِدَة، وَالْكَلَام فِي قَوْله: {أَنا خير من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين} وَفِي بعض الْقرَاءَات: (أَنا خير) على التفخميم. وَقَوله: {من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين} أَي: ضَعِيف حقير. وَقَوله: {وَلَا يكَاد يبين} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا قَالَ هَذَا للثغة الَّتِي كَانَت فِي لِسَانه، وَذَلِكَ بِمَا كَانَ بَقِي فِي لِسَانه من الْعقْدَة بإلقائه الْجَمْرَة فِي فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه كَانَ بِلِسَانِهِ لَا يُمكنهُ تَبْيِين الْكَلَام غَايَة الْبَيَان، وأنشدوا فِيمَا ذكرنَا من قَوْله: {أم} قَول الشَّاعِر: (فيا ظَبْيَة الوغا بَين خلاخل ... وَبَين النقا أَنْت أم سَالم) مَعْنَاهُ: أَنْت أحسن أم سَالم.

53

قَوْله تَعَالَى: {فلولا ألقِي عَلَيْهِ أساورة من ذهب} وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " أساور من ذهب " وَفِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا إِذا سوروا [رجلا] سوروه بِسوار من ذهب فِي يَده، وطوقوه بطوق من ذهب فِي عُنُقه. وَالْمرَاد من الْآيَة أَنهم قَالُوا: وَلَو كَانَ مُوسَى نَبيا فَهَلا سوره الله سوارا، أَو طوقه بطوق، أَو بعث مَعَه لملائكة أعوانا لَهُ على أمره، فَهُوَ معنى قَوْله: {أَو جَاءَ مَعَه الْمَلَائِكَة مقترنين} أَي: مُتَتَابعين يتب بَعضهم بَعْضًا.

{فاستخف قومه فأطاوه إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (54) فَلَمَّا آسفونا انتقمنت مِنْهُم فأغرقناهم أَجْمَعِينَ (55) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (56) وَلما ضرب ابْن مَرْيَم}

54

وَقَوله: {فاستخف قومه فأطاعوه} أَي: حركهم بدعائه إيَّاهُم (إِلَى) باطله، فخفوا مَعَه وأجابوه، وَيُقَال: استفزهم، فأطاعوه بجهلهم. وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين} أَي: خَارِجين عَن الطَّاعَة. وَيُقَال: استخف قومه أَي: حملهمْ على خفَّة الْجَهْل، وَمَعَ الْعقل الْوَقار، وَمَعَ الْجَهْل الخفة.

55

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا آسفونا} أَي: أغضبونا وأسخطونا. فَإِن قيل: الأسف إِنَّمَا يكون على شَيْء فَائت، وَالله تَعَالَى لَا يفوتهُ شَيْء؟ وَالْجَوَاب [عَنهُ] : أَن مَعْنَاهُ الْغَضَب كَمَا بَينا، وَقَالَ بَعضهم: آسفونا أَي: فعلوا فعلا لَو فَعَلُوهُ مَعَ مَخْلُوق لَكَانَ متأسفا حَزينًا. وَفِي بعض الْآثَار: أَن عُرْوَة بن الزبير كَانَ جَالِسا مَعَ وهب بن مُنَبّه، فجَاء قوم فشكوا عاملهم، وَكَانَ الْعَامِل حَاضرا، فَغَضب وهب بن مُنَبّه وَأخذ عَصا وشج رَأس الْعَامِل، فَضَحِك عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا ينْهَى عَن الْغَضَب ويغضب؟ فَقَالَ وهب: لَا، لَا تلمني، فَإِن الله تَعَالَى يغْضب وَهُوَ خَالق الأحلام، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم} وَمعنى قَوْله: {انتقمنا مِنْهُم} أَي: بالإغراق والإهلاك، وَهُوَ معنى قَوْله: {فأغرقناهم أَجْمَعِينَ فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} أَي: سلفا للكبار وَمن بعدهمْ، ومثلا لمن فعل مثل فعلهم. وَمعنى " مثلا " أَي: عظة وعبرة. وَقُرِئَ " سلفا " وَهُوَ جمع سليف، وَقُرِئَ: " سلفا " وَالْمعْنَى فِي الْكل وَاحِد. وَعَن زيد بن أسلم قَالَ: مَا من أحد إِلَّا وَله سلف فِي الخيروالشر.

57

قَوْله تَعَالَى: {وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي مخاصمة عبد الله بن الزبعري رَسُول الله فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا

{مثلا إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون (57) وَقَالُوا أآلهتنا خير أم هُوَ مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل} تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم) ، فَإِنَّهُ لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ} إِلَى قَوْله: {أَنْتُم لَهُ وَارِدُونَ} وَقرأَهَا رَسُول الله على كفار قُرَيْش، قَالَ عبد الله بن الزبعري: هَذَا لنا ولآلهتنا خَاصَّة أم لنا وَلِجَمِيعِ الْأُمَم وآلهتهم؟ . فَقَالَ: بل لكم ولآلهتكم وَلِجَمِيعِ الْأُمَم وآلهتهم، فَقَالَ ابْن الزعبري: خصمتك وَرب الْكَعْبَة، ثمَّ ذكر مَا أوردنا من قبل فِي حق عِيسَى وعزيز وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام، فعلى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا} مَعْنَاهُ: لما جعلُوا ابْن مَرْيَم مثلا لآلهتهم، وَقَالُوا: إِذا كَانَ ابْن مَرْيَم فِي النَّار فرضينا أَن نَكُون نَحن وَآلِهَتنَا فِي النَّار ". وَقَوله: {إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون} بِكَسْر الصَّاد أَي: يضجون ضجاج المجادلين، وَيُقَال: يصدون أَي: يَضْحَكُونَ ويفرحون بقول ابْن الزبعري. وَقُرِئَ " " يصدون " بِضَم الصَّاد، وَمَعْنَاهُ: يعرضون، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن النَّبِي لما ذكر حَدِيث [عِيسَى] لقريش، وَأَنه خلقه الله تَعَالَى من غير أَب كَمَا خلق آدم من غير أَب، وَذكر مَا أظهر الله على يَده من الْآيَات جعلت قُرَيْش يَضْحَكُونَ، وقاوا مَا يُرِيد مُحَمَّد من ذكر عِيسَى إِلَّا أَن نعبده كَمَا عبدت النَّصَارَى عِيسَى، وَهَذَا قَول مُجَاهِد.

58

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أآلهتنا خير أم هُوَ} على القَوْل الأول مَعْنَاهُ: أآلهتنا خير أم عِيسَى؟ بل عِيسَى خير من آلِهَتنَا، فَإِذا كَانَ عِيسَى فِي النَّار فلتكن آلِهَتنَا فِي النَّار. وعَلى القَوْل الثَّانِي: أآلهتنا خير أم هُوَ؟ يَعْنِي: مُحَمَّدًا، فَإِذا كَانَ مُحَمَّد يطْلب أَن نعبده فَنحْن نعْبد آلِهَتنَا. وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " أآلهتنا خير أم هَذَا "؟ وَهَذَا يُؤَيّد القَوْل الثَّانِي. وَقَوله: {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا} يَعْنِي: مَا قَالُوا هَذَا القَوْل إِلَّا مجادلة بِالْبَاطِلِ؛

{هم قوم خصمون (58) إِن هُوَ إِلَّا عبد أنعمنا عَلَيْهِ وجعلناه مثلا لبني إِسْرَائِيل (59) وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون (60) وَإنَّهُ لعلم للساعة فَلَا تمترن} لأَنهم علمُوا أَن ابْن مَرْيَم لَا يدْخل النَّار وَعَلمُوا أَنه غير دَاخل فِي الْآيَة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ} و " مَا " لمن لَا يعقل، لَا لمن يعقل. وَقَوله: {بل هم قوم خصمون} أَي: مخاصمون بِغَيْر الْحق، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون} . وَالْمرَاد بِالْآيَةِ المجادلة بِالْبَاطِلِ لَا المجادلة فِي طلب الْحق أَو لبَيَان الْحق؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} .

59

قَوْله تَعَالَى: {إِن هُوَ إِلَّا عبد} يَعْنِي: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا عِيسَى ابْن مَرْيَم إِلَّا عبد {أنعمنا عَلَيْهِ} أَي: بِالنُّبُوَّةِ والآيات. وَقَوله: {وجعلناه مثلا} أَي: عظة وعبرة لبني إِسْرَائِيل، وَيُقَال: جَعَلْنَاهُ مثلا لَهُم أَي: بشرا مثلهم.

60

وَقَوله: {وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم} أَي: بَدَلا مِنْكُم {مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون} أَي: تخلفكم، وَيُقَال: يخلف بَعْضكُم بَعْضًا.

61

قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لعلم للساعة} مَعْنَاهُ. أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام شَرط من

{بهَا واتبعون هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم (61) وَلَا يصدنكم الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (62) وَلما جَاءَ عِيسَى بلبينات قَالَ قد جِئتُكُمْ بالحكمة ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ} أَشْرَاط السَّاعَة، فَيعلم بنزوله علم السَّاعَة، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لينزلن ابْن مَرْيَم حكما مقسطا يكسر الصَّلِيب، وَيقتل الْخِنْزِير ". الْخَبَر. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَنه " ينزل على ثنية فَوق جبل من جبال بَيت الْمُقَدّس وليه ممصرتان وَبِيَدِهِ حَرْبَة يقتل بهَا الدَّجَّال "، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: {وَإنَّهُ لعلم للساعة} أَي: آيَة من آيَات حُضُورهَا. قَالَ الفرزدق يمدح عَليّ بن الْحُسَيْن: (هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته ... والركن يعرفهُ والحل وَالْحرم) (هَذَا ابْن خير عباد الله كلهم ... هَذَا التقي النقي الطَّاهِر الْعلم) وَقَوله: {فَلَا تمترن بهَا واتبعون هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: لَا تشكن فِيهَا أَي: الْقِيَامَة، وَالْبَاقِي ظَاهر الْمَعْنى.

62

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يصدنكم الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين} قَالَ ابْن عَبَّاس: من عداوته أَنه أخرج أَبَاكُم من الْجنَّة، وَنزع عَنْهُم لِبَاس النُّور.

63

قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قد جِئتُكُمْ بالحكمة ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل الَّذِي تختلفون فِيهِ. وَقَالَ غَيره من أهل اللُّغَة: لَا يَصح الْبَعْض بِمَعْنى الْكل، وَمعنى الْآيَة: ولأبين لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ فِي الْإِنْجِيل، وَبَعض الَّذِي تختلفون فِيهِ فِي غير الْإِنْجِيل. وَيُقَال مَعْنَاهُ: ولأبين لكم مَا اختلفتم فِيهِ من أَمر دينكُمْ لَا من أَمر دنياكم، فَهُوَ بعض مَا اختلفتم فِيهِ، وَالله أعلم.

{فَاتَّقُوا الله وأطيعون (63) إِن الله هُوَ رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم (64) فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم فويل للَّذين ظلمُوا من عَذَاب يَوْم أَلِيم (65) هَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (66) الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إِلَّا} وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} ظَاهر الْمَعْنى.

64

وَقَوله: {إِن الله هُوَ رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} قد بَينا.

65

قَوْله تَعَالَى: {فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم} هَؤُلَاءِ هم الَّذين اخْتلفُوا فِي عِيسَى بعد رَفعه إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن الله، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الله، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة. وَقَوله: {فويل للَّذين ظلمُوا من عَذَاب يَوْم أَلِيم} أَي: موجع.

66

قَوْله تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة، وَقَوله: {وهم لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ بمجيئها، قَالَ أهل الْعلم: وَقد أخْفى الله تَعَالَى أَمر السَّاعَة وزمان قِيَامهَا ليَكُون أبلغ فِي الْإِنْذَار والتخويف.

67

قَوْله تَعَالَى: {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو} فِي التَّفْسِير: أَنهم أُميَّة بن خلف، وَعقبَة بن أبي معيط، والوليد بن الْمُغيرَة، وَالْعَاص بن وَائِل، وَأَبُو جهل بن هِشَام، وَالنضْر بن الْحَارِث، وَحَفْص بن الْمُغيرَة، وَعتبَة بن ربيعَة. وَذكر النقاش: أَن عقبَة بن أبي معيط كَانَ صديقا لأمية بن خلف، وَكَانَ غقبة يَأْتِي النَّبِي وَيجْلس عِنْده وَيسمع كَلَامه، فَقَالَ لَهُ أُميَّة بن خلف: لقد صبوت يَا عقبَة، فَقَالَ: وَالله مَا صبوت. فَقَالَ: وَجْهي من وَجهك حرَام إِن لم تَتْفُل فِي وَجه مُحَمَّد، فَفعل عقبَة ذَلِك، فَقَالَ لَهُ الرَّسُول: " لَئِن قدرت عَلَيْك خَارج الْحرم لأريقن دمك، فَضَحِك عقبَة، وَقَالَ: يَا ابْن أبي كَبْشَة، وَمن أَيْن تقدر عَليّ خَارج الْحرم؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر وَأسر عقبَة أَمر النَّبِي عليا فِي بعض الطَّرِيق أَن يضْرب عُنُقه، فَقَالَ: يَا معشر قُرَيْش، مَالِي أقتل من بَيْنكُم. فَقَالَ النَّبِي: بتكذيبك الله وتكذيبك رَسُوله. فَقَالَ: وَمن للمصبية؟ فَقَالَ: النَّار ".

{الْمُتَّقِينَ (67) يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم الْيَوْم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ (68) الَّذين آمنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلمين (69) ادخُلُوا الْجنَّة أَنْتُم وأزواجكم تحبرون (70) يُطَاف عَلَيْهِم} وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي، وَقيل: هُوَ عَن عَليّ، قَالَ: " الأخلاء أَرْبَعَة: مُؤْمِنَانِ، وَكَافِرَانِ، فيتقدم أحد الْمُؤمنِينَ فَيُقَال لَهُ: مَا تَقول فِي فلَان؟ يَعْنِي: خَلِيله فَيَقُول: لقد عَرفته آمرا بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن الْمُنكر، اللَّهُمَّ بشره كَمَا بشرتني، وَارْضَ عَنهُ كَمَا رضيت عني، ويتقدم أحد الْكَافرين فَيُقَال لَهُ: مَا تَقول فِي فلَان؟ يَعْنِي: خَلِيله، فَيَقُول: عَرفته آمرا بالمنكر ناهيا عَن الْمَعْرُوف، اللَّهُمَّ أدخلهُ النَّار كَمَا أدخلتني، واخزه كمت أخزيتني "؟ وَفِي التَّفْسِير: أَن كل أخوة تكون فِي الدُّنْيَا عَن مَعْصِيّة تصير عَدَاوَة يَوْم الْقِيَامَة، وكل أخوة تكون عَن دين تبقى يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: قَالَ لي ابْن عَبَّاس: أحب لله وَأبْغض لله، ووال فِي الله، وَعَاد فِي الله، فَإِنَّهُ لَا ينَال مَا عِنْد الله إِلَّا بِهَذَا. وَقَوله: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فَقَالَ: إِن هَذَا فِي أَصْحَاب النَّبِي حِين آخى رَسُول الله بَينهم قَالَ: رَسُول الله وعَلى أَخَوان، وَأَبُو بكر وَعمر أَخَوان، وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر أَخَوان، وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَخَوان، إِلَى غير هَذَا.

68

قَوْله تَعَالَى: {يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم الْيَوْم} وروى أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: {يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم الْيَوْم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ} فيرفع جَمِيع الْخَلَائق رُءُوسهم،

69

فَيَقُول: {الَّذين آمنُوا بِآيَاتِنَا} فيرفع جَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى رُءُوسهم فَيَقُول: {وَكَانُوا مُسلمين} فينكس جَمِيع الْخلق رُءُوسهم سوى الْمُسلمين. وَذكر بَعضهم قَوْله: {الَّذين آمنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلمين} مرّة وَاحِدَة فِي النداء.

70

قَوْله تَعَالَى: {ادخُلُوا الْجنَّة أَنْتُم وأزواجكم تحبرون} أَي: تنعمون، وَقيل:

{بصحاف من ذهب وأكواب وفيهَا مَا تشتهه الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين وَأَنْتُم فِيهَا خَالدُونَ (71) وَتلك الْجنَّة الَّتِي أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (72) لكم فِيهَا فَاكِهَة كَثِيرَة مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِن الْمُجْرمين فِي عَذَاب حهنم خَالدُونَ (74) لَا يفتر عَنْهُم وهم فِيهِ} تكرمون. والحبورة فِي اللُّغَة هِيَ السرُور والفرح. يُقَال: مَا من حبرَة إِلَّا وَبعدهَا عِبْرَة، وَعَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: تحبرون هُوَ السماع فِي الْجنَّة.

71

قَوْله تَعَالَى: {يُطَاف عَلَيْهِم بصحاف من ذهب} الصحاف: القصاع، وَاحِدهَا [صَحْفَة] . وَفِي التَّفْسِير: سَبْعُونَ ألف [صَحْفَة] فِيهَا ألوان الْأَطْعِمَة. وَقَوله: {وأكواب} الأكواب وَاحِدهَا كوب، وَهُوَ إِنَاء مستدير لَيْسَ لَهُ عُرْوَة وَلَا خرطوم. وَقَوله: {وفيهَا مَا تشْتَهي الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين} أَي: تشتهيه الْأَنْفس، وَقد قرئَ هَكَذَا فِي بعض الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة. وَقَوله: {وتلذ الْأَعْين} إِنَّمَا نسب اللَّذَّة إِلَى الْأَعْين؛ لِأَن المناظر الْحَسَنَة تلذ النُّفُوس، فنسب اللَّذَّة إِلَى الْأَعْين؛ لِأَن نسبتها كَانَت إِلَيْهَا أليق. وَقَوله: {وَأَنْتُم فِيهَا خَالدُونَ} أَي: مقيمون لَا يخرجُون أبدا.

72

قَوْله تَعَالَى: {وَتلك الْجنَّة أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا من أحد إِلَّا وَله منزل فِي الْجنَّة ومنزل فِي النَّار، فيرث الْمُؤمن منزل الْكَافِر فِي الْجنَّة، وَيَرِث الْكَافِر منزل الْمُؤمن فِي النَّار.

73

قَوْله تَعَالَى: {لكم فِيهَا فَاكِهَة كَثِيرَة مِنْهَا تَأْكُلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

74

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُجْرمين فِي عَذَاب جَهَنَّم خَالدُونَ} أَي: مقيمون.

75

وَقَوله: {لَا يفتر عَنْهُم} أَي: لَا يُخَفف عَنْهُم.

{مبلسون (75) وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين (76) وَنَادَوْا يَا مَالك ليَقْضِ علينا رَبك قَالَ إِنَّكُم مَاكِثُونَ (77) لقد جئناكم بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَكُم للحق كَارِهُون (78) أم أبرموا أمرا فَإنَّا مبرمون (79) أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى} وَقَوله: {وَهُوَ فِيهِ مبلسون} أَي: آيسون من الْخُرُوج، والملبس فِي اللُّغَة هُوَ السَّاكِت الَّذِي سكت تحيرا ويأسا.

76

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن كَانُوا هم الظَّالِمين} مَعْنَاهُ: إِنَّا جازيناهم بعملهم، وَلم نزد عَلَيْهِم شَيْئا.

77

قَوْله تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالك ليَقْضِ علينا رَبك} أَي: ليمتنا رَبك. قَالَ عبد الله ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ: ينادون [مَالِكًا] أَرْبَعِينَ سنة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يُنَادُونَهُ ألف سنة ثمَّ يُجِيبهُمْ فَيَقُول: إِنَّكُم مَاكِثُونَ، ثمَّ ينادون الله تَعَالَى، وَيَقُولُونَ {رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا} فَلَا يُجِيبهُمْ عمر الدُّنْيَا، ثمَّ يَقُول: {اخسأوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} . فَلَا يسمع مِنْهُم بعد ذَلِك إِلَّا شبه صَوت الْحمر من الزَّفِير والشهيق.

78

قَوْله تَعَالَى: {لقد جئناكم بِالْحَقِّ} أَي: بِالْقُرْآنِ. وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم للحق كَارِهُون} أَي: كرهتم مَجِيء الْحق ودعوتكم إِلَيْهِ.

79

قَوْله تَعَالَى: {أم أبرموا أمرا} الإبرام هُوَ إحكام الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: أَنهم عزموا وَأَجْمعُوا على التَّكْذِيب، وَنحن أجمعنا على التعذيب، فَهَذَا معنى قَوْله: {فَإنَّا مبرمون} وَيُقَال: أم أبرموا أَي: كَادُوا كيدا، ومكروا مكرا، وَقَوله: {فَإنَّا مبرمون} ) أَي: نقابل كيدهم ومكرهم بالإبطال، ونجازيهم جَزَاء مَكْرهمْ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين} .

80

قَوْله تَعَالَى: {أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم} روى أَن الْأَخْنَس وَالْأسود بن عبد يَغُوث كَانَا عِنْد الْكَعْبَة، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: أَتَرَى الله يسمع مَا

{وَرُسُلنَا لديهم يَكْتُبُونَ (80) قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين (81) سُبْحَانَ} نقُول: فَقَالَ الآخر: إِن جهرنا يسمع، وَإِن أسررنا لم يسمع؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {بلَى وَرُسُلنَا} يَعْنِي: بلَى نسْمع {وَرُسُلنَا لديهم يَكْتُبُونَ} أَي: يَكْتُبُونَ بِمَا يعْملُونَ وَيَقُولُونَ.

81

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين} الْآيَة مشكلة، وفيهَا أَقْوَال: أَحدهَا: قَول مُجَاهِد، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: قل إِن كَانَ للرحمن ولد على زعمكم فَأَنا أول العابدين أَنه إِلَه لَا ولد لَهُ وَلَا شريك لَهُ، وَأَن مَا قلتموه بَاطِل وَكذب، وَهَذَا أحسن الْأَقَاوِيل. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " إِن " هَاهُنَا بِمَعْنى " مَا "، وَمَعْنَاهُ: قل مَا كَانَ للرحمن ولد وَتمّ الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: فَأَنا أول العابدين، وَأهل النَّحْو يستبعدون هَذَا، وَيَقُولُونَ: لَا يجوز أَن تكون " إِن " بِمَعْنى " مَا " إِلَّا على بعد عَظِيم. وَالْقَوْل الثَّالِث: قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين أَي: الآنفين، يُقَال: عبد إِذا أنف، قَالَ الفرزدق: (أُولَئِكَ آبَائِي فجئني بمثلهم ... وأعبد أَن يهجى كُلَيْب بدارم) أَي: آنف. وَحكى بَعضهم: أَن عليا رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قيل لي: إِنَّك قتلت عُثْمَان فعبدت وَسكت أَي: أنفت. وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الْآيَة على هَذَا القَوْل: أَنى غضب (وَله غضب) أنف أَن ينْسب إِلَيْهِ ولد كَمَا تَزْعُمُونَ.

{رب السَّمَوَات وَالْأَرْض رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ (82) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعون (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم (84) وتبارك الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَعِنْده علم السَّاعَة وَإِلَيْهِ ترجعون (85) وَلَا يملك الَّذين يدعونَ من دونه الشَّفَاعَة إِلَّا من شهد} وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَذَا على النَّفْي من الْجَانِبَيْنِ بِمَعْنى: إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين، وَلَيْسَ لَهُ ولد وَلَا أَنا أول عَابِد، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول لغيره: إِن كنت كَاتبا فَأَنا حاسب يَعْنِي: لست بكاتب وَلَا أَنا حاسب، وَحكى هَذَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة والسدى.

82

قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ} أَي: عَمَّا يصفونه بِالْوَلَدِ.

83

قَوْله تَعَالَى: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون} أَي: يَوْم الْقِيَامَة.

84

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه} أَي: معبود فِي السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم} قد بَينا.

85

قَوْله تَعَالَى: {وتبارك الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَعِنْده علم السَّاعَة} أَي: علم قيام السَّاعَة. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ ترجعون} أَي: تردون.

86

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يملك الَّذين يدعونَ من دونه الشَّفَاعَة} قَالَ مُجَاهِد: أَي: عِيسَى وعزيز وَالْمَلَائِكَة. وَقَالَ قَتَادَة: الْأَصْنَام لِأَن للْمَلَائكَة والنبيين شَفَاعَة. وَقَوله: {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ} مَعْنَاهُ على القَوْل الأول: إِلَّا لمن شهد بِالْحَقِّ، وَهُوَ من شهد بِلَا إِلَه إِلَّا الله. وعَلى القَوْل الثَّانِي: لَكِن من شهد بِالْحَقِّ وَهُوَ يشفع، فعلى

{بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون (87) وقيله يَا رب إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ (88) فاصفح عَنْهُم وَقل سَلام فَسَوف يعلمُونَ (89) } هَذَا الْأَنْبِيَاء يشفعون، والمؤمنون يشفعون. وَقَوله: {وَهُوَ يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى، وَمَعْنَاهُ: يشْهدُونَ عَن علم.

87

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون} أَي: يصرفون.

88

قَوْله تَعَالَى: {وقيله يَا رب} فِيهِ قراءتان معروفتان: " وقيله " بِنصب اللَّام، " وقيله " بِكَسْر اللَّام، وَالْقِرَاءَة الثَّالِثَة: " قيله " بِالضَّمِّ، وَهِي قِرَاءَة الْأَعْرَج، أما بِنصب اللَّام فَمَعْنَاه: وَيسمع قيله، فَهُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى} أَي: بلَى نسْمع سرهم ونجواهم، ونسمع قيله. وَقَالَ الزّجاج: ونعلم قيله، وَهُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {وَعِنْده علم السَّاعَة} وَيعلم قيله. وَعَن بَعضهم: " وقيله " أَي: وَقَالَ: قيله أَي: قَالَ: قَوْله من الشكوى عَن الْكفَّار يَعْنِي: الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ. وَأما الْقِرَاءَة بِكَسْر اللَّام فَمَعْنَاه: وَعِنْده علم قيله، وَهُوَ عطف على قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْده علم السَّاعَة} . وَأما رفع اللَّام فعلى الِابْتِدَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَوله يارب، إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ.

89

قَوْله تَعَالَى: {فاصفح عَنْهُم} أَي: أعرض عَنْهُم، وَهَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف. [فنسخت] بِآيَة السَّيْف. وَقَوله: {وَقل سَلام} أَي: قل مَا تسلم بِهِ عَن شرهم، قَالَ الْحسن: " وَقل سَلام " أَي: احلم عَنْهُم. وَيُقَال: هَذَا سَلام توديع، وَلَيْسَ بِسَلام تَحِيَّة. وَقَوله: {فَسَوف يعلمُونَ} تهديد ووعيد.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {حم (1) وَالْكتاب الْمُبين (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مباركة إِنَّا كُنَّا منذرين (3) فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم (4) } تَفْسِير سُورَة حم الدُّخان وَهِي مَكِّيَّة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

الدخان

قَوْله تَعَالَى: {حم وَالْكتاب الْمُبين} أَي: الْكتاب الَّذِي بَين فِيهِ الْحَلَال وَالْحرَام، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب، والوعد والوعيد.

3

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مباركة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا لَيْلَة الْقدر، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَأكْثر الْمُفَسّرين. وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول عِكْرِمَة، وَهُوَ أَنَّهَا لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، وسماها مباركة لِكَثْرَة الْخَيْر فِيهَا. وَالْبركَة: نَمَاء الْخَيْر، ونقيضة الشؤم: نَمَاء الشَّرّ. وَقيل: مباركة لِأَنَّهُ يُرْجَى فِيهَا إِجَابَة الدُّعَاء. وَقَوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} أَي: الْقُرْآن، وَفِي معنى هَذَا الْإِنْزَال قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أنزل جَمِيع الْقُرْآن فِي لَيْلَة الْقدر إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يَأْتِي بِهِ شَيْئا فَشَيْئًا إِلَى أَن أنزل جَمِيعه. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بالإنزال هَاهُنَا ابْتِدَاء الْإِنْزَال. وَمعنى قَوْله: {أَنزَلْنَاهُ} أَي: ابتدأنا إنزاله فِي لَيْلَة الْقدر. وَقَوله: {إِنَّا كُنَّا منذرين} أَي: مخوفين.

4

قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم} أَي: يقْضِي كل أَمر مُحكم، وَذَلِكَ من الأرزاق والآجال والحياة وَالْمَوْت وَالْخَيْر وَالشَّر. قَالَ مُجَاهِد: إِلَّا السَّعَادَة والشقاوة

{أمرا من عندنَا إِنَّا كُنَّا مرسلين (5) رَحْمَة من رَبك إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (6) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين (7) لَا إِلَه إِلَّا هُوَ يحيي وَيُمِيت ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين (8) بل هم فِي شكّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء} فَإِنَّهُمَا لَا يبدلان وَلَا يغيران، وَعَن بَعضهم: إِلَّا الْمَوْت والحياة أَيْضا، وَفِي التَّفْسِير: أَنه يفرق الْأَحْكَام فِي هَذِه اللَّيْلَة إِلَى السّنة الْقَابِلَة عِنْد هَذِه اللَّيْلَة.

5

وَقَوله: {أمرا من عندنَا} نصب على الْمصدر كَأَنَّهُ قَالَ: يفرق فرقا، ثمَّ وضع أمرا مَكَان قَوْله: فرقا. وَقَوله: {من عندنَا إِنَّا كُنَّا مرسلين} أَي: منزلين هَذِه الْأَشْيَاء.

6

قَوْله تَعَالَى: {رَحْمَة من رَبك} أَي: إِنْزَال الْقُرْآن رَحْمَة من رَبك. وَقَوله: {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

7

قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَوَات وَالْأَرْض} وَقُرِئَ: " رب السَّمَوَات " فَقَوله: " رب " بِضَم الْبَاء عطف على قَوْله: {هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} وَأما بِالْكَسْرِ بدل عَن قَوْله: {من رَبك} . وَقَوله: { [وَمَا بَينهمَا] إِن كُنْتُم موقنين} الْيَقِين ثلج الصَّدْر بِمَا يُعلمهُ.

8

قَوْله تَعَالَى: {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ يحيي وَيُمِيت ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين} أَي: الْمُتَقَدِّمين.

9

قَوْله تَعَالَى: {بل هم فِي شكّ يَلْعَبُونَ} أَي: يسمعُونَ سَماع لاعب، وَيَقُولُونَ قَول لاعب، ويقبلون قبُول لاعب.

10

قَوْله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} قَالَ ابْن مَسْعُود: هَذَا الدُّخان فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَن النَّبِي دَعَا على كفار مُضر، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف " فَأَصَابَتْهُمْ المجاعة والقحط

{بِدُخَان مُبين (10) يغشى النَّاس هَذَا عَذَاب أَلِيم (11) رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ (12) أَنى لَهُم الذكرى وَقد جَاءَهُم رَسُول مُبين (13) } الشَّديد، وأجدبت الأَرْض حَتَّى أكلت الْعِظَام وَالْمَيتَات، وَكَانَ الرجل مِنْهُم ينظر إِلَى السَّمَاء فَيرى بَينه وَبَين السَّمَاء شبه الدُّخان من الْجُوع، فروى " أَن أَبَا سُفْيَان قدم على النَّبِي، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد دَعَوْت على قَوْمك يَعْنِي قُريْشًا وَإِنَّمَا هم إخوانك وأعمامك وأمهاتك وخالاتك فَادع لَهُم فَدَعَا لَهُم حَتَّى سقوا ". وروى أَنه بعث مَعَه بِذَهَب إِلَى فُقَرَاء مَكَّة حَتَّى قسمه فيهم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الدُّخان يكون فِي الْقِيَامَة، وَهَذَا قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَقيل: هُوَ الْأَصَح. وَفِي التَّفْسِير: أَن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة يَأْخُذهُمْ شبه دُخان، فَأَما الْمُؤْمِنُونَ فيصيبهم مثل الزُّكَام، وَأما الْكَافِرُونَ فَيدْخل الدُّخان فِي مسامعهم وأنوفهم، وَتصير رؤوسهم مثل الجنابذ، وَقيل: إِن الدُّخان شَرط من أَشْرَاط السَّاعَة، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " بَادرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتا: طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، وَالدُّخَان، وَالدَّابَّة، والدجال، وخاصة الرجل فِي نَفسه، وَأمر الْعَامَّة " وَمعنى خَاصَّة الرجل هُوَ الْمَوْت، وَمعنى أَمر الْعَامَّة هُوَ الْقِيَامَة. وَكَانَ ابْن مَسْعُود يَقُول: قد مضى خمس: الدُّخان، وَالدَّم، وَالْقَمَر، وَالْبَطْشَة، وَاللزَام.

11

قَوْله تَعَالَى: {يغشى النَّاس هَذَا عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم.

12

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ} أَي: مصدقون بِمُحَمد إِن كشفت، وَهُوَ حِكَايَة عَن الْكَافرين.

13

قَوْله تَعَالَى: {أَنى لَهُم الذكرى وَقد جَاءَهُم رَسُول مُبين} مَعْنَاهُ: التَّذْكِرَة

{ثمَّ توَلّوا عَنهُ وَقَالُوا معلم مَجْنُون (14) إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم ة عائدون (15) يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى إِنَّا منتقمون (16) وَلَقَد فتنا قبلهم قوم فِرْعَوْن وجاءهم رَسُول كريم (17) أَن أَدّوا إِلَى عباد الله إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (18) } والاتعاظ، وَقَوله: {مُبين} أَي: موضح، {أَنى} بِمَعْنى: كَيفَ.

14

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ توَلّوا عَنهُ وَقَالُوا معلم مَجْنُون} وَالْمعْنَى: أَيْن لَهُم الاتعاظ والتذكر، وَقد توَلّوا عَن مثل هَذَا الرَّسُول وأعرضوا عَنهُ، وَزَعَمُوا أَنه معلم مَجْنُون، وَمعنى قَوْله: {معلم} أَي: علمه جبر غُلَام ابْن الحصرمي وعداس، وَقد ذكرنَا من قبل.

15

قَوْله تَعَالَى: (إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا) أَي: بِدُعَاء النَّبِي، وَالْعَذَاب هُوَ الدُّخان والقحط الَّذِي ذكرنَا، وَقَوله: {قَلِيلا} أَي: مُدَّة قَليلَة. وَقَوله: {إِنَّكُم عائدون} أَي: عائدون إِلَى الْكفْر، وَقيل: صائرون إِلَى الْعَذَاب وَهُوَ النَّار.

16

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} فِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا: أَنه يَوْم بدر، وَالْبَطْشَة الْكُبْرَى بالأسر وَالْقَتْل، وَالْقَوْل الآخر: أَنه الْقِيَامَة، وَهُوَ الْأَصَح. وَقَوله: {إِنَّا منتقمون} أَي: منتقمون بالعقوبة من الْكفَّار.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد فتنا قبلهم قوم فِرْعَوْن} أَي: ابتلينا. وَقَوله: {وجاءهم رَسُول كريم} أَي: كريم على الله، وَيُقَال: كريم أَي: حسن الْأَخْلَاق، وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام.

18

قَوْله تَعَالَى: {أَن أَدّوا إِلَى عباد الله} أَي مَعْنَاهُ: أرْسلُوا معي عباد الله، يَعْنِي: بني إِسْرَائِيل، وَقيل مَعْنَاهُ: {أَدّوا إِلَى عباد الله} أَي: ياعباد الله، كَأَنَّهُ قَالَ: أجِيبُوا لي وأطيعون ياعباد الله، فَهُوَ معنى الأول. وَقَوله تَعَالَى: {إِنِّي لكم رَسُول أَمِين} أَي: ذُو أَمَانَة، وَعَن أبي بكر الصّديق

{وَأَن لَا تعلوا على الله إِنِّي آتيكم بسُلْطَان مُبين (19) وَإِنِّي عذت بربي وربكم أَن ترجمون (20) وَإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21) فَدَعَا ربه أَن هَؤُلَاءِ قوم مجرمون (22) فَأسر بعبادي لَيْلًا إِنَّكُم متبعون (23) } رَضِي الله عَنهُ

19

وَألا تعلوا على عباد الله أَي: لَا تتكبروا وَلَا تَبْغُوا بالجحود والتكذيب. وَقَوله: {إِنِّي آتيكم بسُلْطَان مُبين} أَي: بِحجَّة بَيِّنَة.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِّي عذت بربي وربكم} أَي: التجأت إِلَى رَبِّي وربكم واعتصمت بِهِ. وَقَوله: {أَن ترجمون} أَي: تقتلون، وَكَانُوا أوعدوه بِالْقَتْلِ، وَقيل: أَن ترجمون أَي: تسبون، وَالْقَوْل الأول أولى؛ لأَنهم وصلوا إِلَيْهِ بالسب، فَإِن النِّسْبَة إِلَى السحر وَالْكذب أعظم السب، وَلم يصلوا إِلَيْهِ بِالْقَتْلِ.

21

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن لم تؤمنوا لي} أَي: تصدقوني {فاعتزلون} أَي: اعتزلوا منى، وَكُونُوا كفافا، لَا لي وَلَا عَليّ.

22

قَوْله تَعَالَى: {فَدَعَا ربه أَن هَؤُلَاءِ قوم مجرمون} أَي: مشركون.

23

قَوْله تَعَالَى: {فَأسر بعبادي} أَي: أوحى الله تَعَالَى أَن أسر بعبادي {لَيْلًا} أَي: بلَيْل. وَقَوله: {إِنَّكُم متبعون} يَعْنِي: أَن فِرْعَوْن وجنده يتبعونكم. قَوْله تَعَالَى: {واترك الْبَحْر رهوا} فِي قَوْله: {رهوا} أَقْوَال: أَحدهَا: سَاكِنا، وَالْآخر: يبسا، وَالثَّالِث: طَرِيقا، وَالرَّابِع: سهلا دمثا، وَقَالَ الشَّاعِر: (يَمْشين رهوا فَلَا الأعجاز دَاخِلَة ... وَلَا الصُّدُور على الأعجاز تتكل) وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما عبر الْبَحْر عطف على الْبَحْر ليضربه بعصا فَيَعُود إِلَى

{واترك الْبَحْر رهوا إِنَّهُم جند مغرقون (24) كم تركُوا من جنَّات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كَانُوا فِيهَا فاكهين (27) كَذَلِك وأورثناها قوما آخَرين (28) فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض} مَا كَانَ، فَأوحى الله تَعَالَى

24

: {واترك الْبَحْر رهوا} أَي: سَاكِنا. وَقَوله: {إِنَّهُم جند مغرقون} أَي: فِرْعَوْن وَقَومه، وروى أَن جند فِرْعَوْن كَانُوا سَبْعَة آلَاف ألف رجل، وجند مُوسَى سِتّمائَة ألف و (نَيف) ، وَقيل: ألف وسِتمِائَة ألف: وَالله أعلم.

25

قَوْله تَعَالَى: {كم تركُوا من جنَّات} أَي: بساتين، وَقيل: كَانَ من الفيوم إِلَى دمياط والإسكندرية بساتين مُتَّصِلَة. وَقَوله: {وعيون} أَي: أَنهَار.

26

وَقَوله: {وزروع} أَي: حروث. وَقَوله تَعَالَى: {ومقام كريم} أَي: الْمنَازل الْحَسَنَة، وَيُقَال: المنابر، وَقيل: إِن فِرْعَوْن كَانَ قد أَمر باتخاذ مَنَابِر كَثِيرَة بِمصْر ليثني عَلَيْهَا فِيهَا.

27

وَقَوله: {ونعمة كَانُوا فِيهَا فاكهين} أَي: متنعمين، وَقُرِئَ: " فكهين " أَي " معجبين، وَالنعْمَة مَا يتنعم بِهِ.

28

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك وأورثناها قوما آخَرين} أَي: بني إِسْرَائِيل، وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى لما أغرق فِرْعَوْن وَقَومه رجعت بَنو إِسْرَائِيل إِلَى مصر، ونزلوا منَازِل آل فِرْعَوْن وسكنوها.

29

قَوْله تَعَالَى: {فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: مَا روى أنس أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من مُسلم إِلَّا وَله بَابَانِ فِي السَّمَاء بَاب يصعد مِنْهُ عمله، وَبَاب ينزل مِنْهُ رزقه، فَإِذا مَاتَ بكيا عَلَيْهِ، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {فَمَا بَكت عَلَيْهِم

السَّمَاء وَالْأَرْض) ". وَعَن مُجَاهِد قَالَ: إِذا مَاتَ العَبْد الْمُسلم بَكَى عَلَيْهِ مُصَلَّاهُ أَرْبَعِينَ صباحا، وَفِي رِوَايَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه إِذا مَاتَ العَبْد الْمُسلم بَكَى عَلَيْهِ مَوْضِعه الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وبابه الَّذِي كَانَ يصعد [مِنْهُ] عمله. قَالَ أَبُو يحيى: قلت لمجاهد: كَيفَ تبْكي السَّمَاء وَالْأَرْض؟ فَقَالَ: أَلا تبْكي الأَرْض على من يعمرها بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود، وَلَا تبْكي السَّمَاء على مُؤمن يصعد عَلَيْهِ عمله الصَّالح؟ ! وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض أَي: أهل السَّمَاء وَالْأَرْض، مثل قَوْله تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة. وَعَن بَعضهم: أَن بكاء السَّمَاء حمرَة أطرافها، وَعَن بعض التَّابِعين: أَن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا لما قتل احْمَرَّتْ أَطْرَاف السَّمَاء أَرْبَعِينَ صباحا، وَكَانَ ذَلِك لبكائها عَلَيْهِ. وَعَن بَعضهم: أَن معنى بكاء السَّمَاء وَالْأَرْض هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُمَا لَو كَانَا مِمَّن يَبْكِيَانِ لم يبكيا على الْكَافِر لما يعرفان من شدَّة غضب الله عَلَيْهِ. وَالْمَعْرُوف من الْأَقْوَال هُوَ الأول، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن السّلف. وَعَن بَعضهم قَالَ: إِنَّمَا ذكر بكاء السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ لِأَن الْعَرَب تَقول فِي الْمُصِيبَة الْعَظِيمَة مثل هَذَا، فَيَقُولُونَ: كسفت الشَّمْس لمَوْت فلَان، وبكت السَّمَاء عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر: (فالشمس كاسفة لَيْسَ بطالعة تبْكي ... عَلَيْك نُجُوم اللَّيْل والقمرا) وَقَوله: {وَمَا كَانُوا منظرين} أَي: مؤخرين ممهلين.

{وَمَا كَانُوا منظرين (29) وَلَقَد نجينا بني إِسْرَائِيل من الْعَذَاب المهين (30) من فِرْعَوْن إِنَّه كَانَ عَالِيا من المسرفين (31) وَلَقَد اخترناهم على علم على الْعَالمين (32) وآتيناهم من الْآيَات مَا فِيهِ بلَاء مُبين (33) إِن هَؤُلَاءِ ليقولون (34) إِن هِيَ إِلَّا موتتنا}

30

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد نجينا بني إِسْرَائِيل من الْعَذَاب المهين} فِي التَّفْسِير: أَن فِرْعَوْن كَانَ يستحقر بني إِسْرَائِيل ويستذلهم، وَكَانَ لإسرائيل وَأَوْلَاده قدر عَظِيم عِنْد الله تَعَالَى.

31

وَقَوله: {من فِرْعَوْن إِنَّه كَانَ عَالِيا من المسرفين} أَي: جبارا متكبرا من الْمُشْركين.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد اخترناهم على علم على الْعَالمين} مَعْنَاهُ: اخترناهم على علم منا بهم، وَقَوله: {على الْعَالمين} أَي: على عالمي زمانهم، وَيُقَال: على جَمِيع الْعَالمين؛ لِأَنَّهُ خصهم بِكَثْرَة الْأَنْبِيَاء مِنْهُم، فَلهم الْفضل على جَمِيع الْعَالمين بِهَذَا الْمَعْنى، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول.

33

قَوْله تَعَالَى: {وآتيناهم من الْآيَات مَا فِيهِ بلَاء مُبين} الْآيَات مثل: فلق الْبَحْر وإنحراق فِرْعَوْن، وإنجاء مُوسَى وَمن مَعَه، وإنزال الْمَنّ والسلوى، إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات، وَقَوله: {مَا فِيهِ بلَاء مُبين} أَي: نعْمَة حَسَنَة، تَقول الْعَرَب: لفُلَان عِنْدِي بلَاء حسن أَي: نعْمَة حَسَنَة، وَفِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن كَانَ يسْتَعْمل الأقوياء من بني إِسْرَائِيل فِي الْعَمَل حَتَّى دبرت صُدُورهمْ وظهورهم من نقل الْحِجَارَة، ويذبح الْأَبْنَاء، ويستحي النِّسَاء، ويستعلمهن فِي الْغَزل والنسيج، وَمَا أشبه ذَلِك، وَكَانَ قد ضرب على ضعفاء بني إِسْرَائِيل على كل وَاحِد مِنْهُم ضريبة فيؤديها كل يَوْم، وَكَانَ القبطي يَأْتِي إِلَى الإسرائيلي فيسخره فِيمَا شَاءَ من الْعَمَل، فَإِذا كَانَ الظّهْر خلاه، وَقَالَ: اذْهَبْ واكتسب مَا تَأْكُله، وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئا يَأْكُلهُ؛ فنجاهم الله تَعَالَى من هَذِه البلايا.

34

وَقَوله تَعَالَى: {إِن هَؤُلَاءِ ليقولون} يَعْنِي: مُشْركي مَكَّة.

35

وَقَوله: {إِن هِيَ إِلَّا موتتنا الأولى} مَعْنَاهُ: أَنا نموت مرّة وَلَا نبعث بعد ذَلِك. وَقَوله: {وَمَا نَحن بمنشزين} أَي: بمبعوثين، قَالَ الشَّاعِر:

{الأولى وَمَا نَحن بمنشرين (35) فَأتوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُم صَادِقين (36) أهم خير أم قوم تبع وَالَّذين من قبلهم أهلكناهم إِنَّهُم كَانُوا مجرمين (37) وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض} (يَا آل بكر أنشروا لي كليبا ... يَا آل بكر أَيْن أَيْن الْفِرَار)

36

قَوْله تَعَالَى: {فَأتوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُم صَادِقين} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِن أَبَا جهل قَالَ: يَا مُحَمَّد، أنسر لنا بعض آبَائِنَا وَليكن فيهم قصي بن كلاب، فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا صَدُوقًا. وروى أَنهم طلبُوا مِنْهُ أَن يحيي لَهُم لؤَي بن غَالب، وَمرَّة بن كَعْب، وقصي بن كلاب.

37

قَوْله تَعَالَى: {أهم خير أم قوم تبع} يَعْنِي: أهم أَكثر قُوَّة وَأعظم نعْمَة أم قوم تبع. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم ". وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن تبعا كَانَ مُسلما، والتبابعة فِي مُلُوك الْيمن كالقياصرة فِي مُلُوك الرّوم، والأكاسرة فِي مُلُوك الْعَجم. وَفِي الْقِصَّة: أَن تبعا خرج إِلَى الْعرَاق فحير الْحيرَة، وغزا الصين، وَهُوَ الَّذِي هدم حصن سَمَرْقَنْد، وَاسْتدلَّ من قَالَ: إِن تبعا كَانَ قد أسلم، أَن الله تَعَالَى ذمّ قوم تبع، وَلم يذم تبعا، وَفِي الْقِصَّة: أَن إِسْلَامه كَانَ على يَد الْيَهُود، وَكَانَ أُولَئِكَ الْيَهُود على الْحق. وَقَوله: {وَالَّذين من قبلهم أهلكناهم إِنَّهُم كَانُوا مجرمين} أَي: ذُو جرم.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين} أَي: عابثين.

{وَمَا بَينهمَا لاعبين (38) مَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (39) أَن يَوْم الْفَصْل ميقاتهم أَجْمَعِينَ (40) يَوْم لَا يغنى مولى عَن مولى شَيْئا وَلَا هم ينْصرُونَ (41) إِلَّا من رحم الله إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم (42) إِن شَجَرَة الزقوم (43) طَعَام الأثيم}

39

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقناهما إِلَّا بِالْحَقِّ} يَعْنِي: للثَّواب الْعَظِيم، وَالْعَذَاب الْعَظِيم، وَالْمرَاد أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ}

40

قَوْله تَعَالَى: {إِن يَوْم الْفَصْل ميقاتهم أَجْمَعِينَ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة يفصل فِيهِ بَين الْخَلَائق أَي: يقْضِي، وَيُقَال: يقْضِي فِيهِ بَين الْمَرْء وَعَمله.

41

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم لَا يغنى مولى عَن مولى شَيْئا} أَي: قَرِيبا عَن قريب شَيْئا، وَمَعْنَاهُ: أَن الْمُؤمن لَا ينصر قَرِيبه الْكَافِر، وَيُقَال: لَا يتَوَلَّى الْمُؤمن الْكَافِر لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَمِنْه قَول النَّبِي: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ " أَي: من تولينه انا فعلي مَوْلَاهُ من (مُوالَاة) الْمحبَّة والنصرة، وَيُقَال: إِن الْخَبَر ورد على سَبَب، وَهُوَ أَن عليا قَالَ لأسامة رَضِي الله عَنهُ: أَنْت مولَايَ، فَقَالَ أُسَامَة: لست مَوْلَاك، إِنَّمَا أَنا مولى رَسُول الله: فَقَالَ رَسُول الله: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ ". وَقَوله: {لَا يغنى} أَي: لَا يدْفع. وَقَوله: {وَلَا هم ينْصرُونَ} أَي: لَا يمْنَعُونَ من الْعَذَاب.

42

قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من رحم الله} يَعْنِي: أَن الْمُؤمنِينَ يشفع بَعضهم بَعْضًا، ويتولى بَعضهم بَعْضًا، فالشفاعة: هُوَ نفع الْمُوَالَاة. وَقَوله: {إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم} أَي: المنيع فِي ملكه، الرَّحِيم بخلقه.

43

قَوْله تَعَالَى: {إِن شَجَرَة الزقوم طَعَام الأثيم} أَي: الْفَاجِر، وَقيل: الْكَافِر، وَهُوَ أَبُو

((44} كَالْمهْلِ يغلي فِي الْبُطُون (45) كغلي الْحَمِيم (46) خذوه فاعتلوه إِلَى سَوَاء الْجَحِيم (47) ثمَّ صبوا فَوق رَأسه من عَذَاب الْحَمِيم (48) ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم (49) إِن هَذَا مَا كُنْتُم بِهِ تمترون (50)) جهل فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين، وَقد بَينا معنى الزقوم، وروى أَن الْمُشْركين أَتَوا أَبَا جهل وَقَالُوا لَهُ: إِن مُحَمَّدًا توعدنا بالزقوم، فَهَل تَدْرِي مَا الزقوم؟ فَقَالَ: وَالله إِذا أنزلته غارت، هُوَ الصرفان بالزبد، نوع من التَّمْر الْجيد. وَاعْلَم أَن الزقوم فِي اللُّغَة كل طَعَام يتَنَاوَل على كره شَدِيد. وَقَالَ بَعضهم: إِن الزقوم هُوَ الطَّعَام اللين فِي لِسَان البربر لَا فِي لِسَان الْعَرَب.

45

وَقَوله: {كَالْمهْلِ} هُوَ عكر الزَّيْت، وَقيل: عكر القطران، وَقيل: الْفضة المذابة. قَوْله تَعَالَى: {يغلي فِي الْبُطُون كغلي الْحَمِيم} أَي: يغلي الْمهل فِي الْبُطُون، وَقيل: الْقَوْم فِي الْبُطُون، وَهُوَ الْأَصَح.

46

وَقَوله: {كغلى الْحَمِيم} أى: كغلي المَاء الْحَار الَّذِي انْتهى حره.

47

قَوْله تَعَالَى: {خذوه فاعتلوه} أَي: جروه، وَقيل: سوقوه بعنف. وَقَوله: {إِلَى سَوَاء الْجَحِيم} أَي: إِلَى وسط الْجَحِيم.

48

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ صبوا فَوق رَأسه من عَذَاب الْحَمِيم} فِي التَّفْسِير: أَنه يثقب وسط رَأس أبي جهل وَيصب فِيهِ الْحَمِيم، فَتخرج أمعاؤه من أَسْفَله.

49

قَوْله تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} أَي: يُقَال لَهُ: ذُقْ، وَقَوله: {الْعَزِيز الْكَرِيم} أَي: فِي زعمك، وَكَانَ يَقُول: أَنا أعز أهل (الْوَادي) وَأكْرمهمْ. وَيُقَال: إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم أَي: لست بعزيز وَلَا كريم. وَقيل: إِن هَذَا يُقَال على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء بِهِ.

50

قَوْله: {إِن هَذَا مَا كُنْتُم بِهِ تمترون} أَي: تشكون.

{إِن الْمُتَّقِينَ فِي مقَام أَمِين (51) فِي جنَّات وعيون (52) يلبسُونَ من سندس وإستبرق مُتَقَابلين (53) كَذَلِك وزوجناهم بحور عين (54) يدعونَ فِيهَا بِكُل فَاكِهَة آمِنين (55) لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى ووقاهم عَذَاب الْجَحِيم (56) فضلا من رَبك}

51

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي مقَام أَمِين} أَي: فِي منزل يأمنون فِيهِ من الْمَوْت والزوال، قَالَ عَليّ: وأمنوا من الْمَوْت فطاب لَهُم الْعَيْش.

52

وَقَوله: {فِي جنَّات وعيون يلبسُونَ من سندس} أَي: الرَّقِيق من الديباج، وَقيل: الْخَزّ الْمُوشى. وَقَوله: {وإستبرق} أَي: الديباج الغليظ، وَيُقَال: الإستبرق هُوَ الديباج الْمُرْتَفع الَّذِي لَهُ بريق فِي الْأَعْين. وَقَوله: {مُتَقَابلين} أَي: لَا ينظر بَعضهم إِلَى قفا بعض، وَقيل: مُتَقَابلين بالمحبة غير متدابرين بالعداوة.

54

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك وزوجناهم بحور عين} أَي: كَمَا فعلنَا بهم مَا ذكرنَا كَذَلِك نزوجهم بالحور الْعين، والحور الْجَوَارِي الْبيض، وَالْعين: الحسان الْأَعْين، وَقيل: سمين الْحور؛ لِأَن الْأَبْصَار تحار من جمالهن. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " [وعيس] عين " أَي: الْبيض.

55

قَوْله: {يدعونَ فِيهَا بِكُل فَاكِهَة آمِنين} ظَاهر الْمَعْنى.

56

قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} أَي: سوى الموتة الأولى. والموتة الأولى لَا تكون فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا قَالَ على طَرِيق التَّوَسُّع. وَقيل: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن الموتة الأولى قد ذاقوها. وَقَوله: {ووقاهم عَذَاب الْجَحِيم} أَي: عَذَاب النَّار، والجحيم مُعظم النَّار.

57

قَوْله تَعَالَى: {فضلا من رَبك} أَي: تفضلا من رَبك {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم}

{ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (57) فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُم يتذكرون فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مرتقبون} أى النجَاة الْعَظِيمَة.

58

قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك} أَي: يسرنَا الْقُرْآن بلسانك، وَيُقَال: أطلقنا بِهِ لسَانك، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر ... .} الْآيَة. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يتذكرون} أَي: يتعظون.

59

قَوْله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مرتقبون} أَي: ترقب عَذَابهمْ وانتظره إِنَّهُم منتظرون.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {حم (1) تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم (2) إِن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لآيَات للْمُؤْمِنين (3) وَفِي خَلقكُم وَمَا يبث من دَابَّة آيَات لقوم يوقنون (4) } تَفْسِير سُورَة الجاثية وَهِي مَكِّيَّة أَلا آيَة وَاحِدَة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله} فَإِنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَيُقَال: إِن الْجَمِيع مَكِّيَّة.

الجاثية

قَوْله تَعَالَى: {حم تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم} قَوْله: {حم} مُبْتَدأ، و {تَنْزِيل الْكتاب} خَبره، وَقَوله: {من الله الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب على الْأُمُور، الْعدْل فِي الْأَحْكَام.

3

قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لآيَات} أَي: لدلائل وعبرا، وَذَلِكَ فِي رَفعهَا بِغَيْر عمد، وَمَا خلق فِيهَا من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم، وَمن بسط الأَرْض واستقرارها بِمن فِيهَا، وَمَا نصب فِيهَا من الْجبَال وأجرى فِيهَا من الْأَنْهَار، وَخلق من الْأَشْجَار، وَغير ذَلِك، وَقَوله: {للْمُؤْمِنين} أَي: للمصدقين.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَفِي خَلقكُم} أَي: فِي خَلقكُم من التُّرَاب ثمَّ من نُطْفَة. وَقَوله: {وَمَا يبث من دَابَّة} أَي: مَا ينشر فِي الأَرْض من دَابَّة، وَالدَّابَّة كل حَيَوَان يدب على الأَرْض. وَقَوله: {آيَات} وَقُرِئَ: " آيَات " بِالرَّفْع والخفض، فَمن قَرَأَ بالخفض فَمَعْنَاه: إِن فِي السَّمَوَات وَإِن فِي خَلقكُم لآيَات، وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فعلى الِابْتِدَاء والاستئناف. وَقَوله: {لقوم يوقنون} قَالَ ابْن مَسْعُود: الْإِيمَان هُوَ الْيَقِين كُله.

{وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من رزق فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا وتصريف الرِّيَاح آيَات لقوم يعْقلُونَ (5) تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ فَبِأَي حَدِيث بعد الله وآياته يُؤمنُونَ (6) ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيَات الله تتلى}

5

قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} وَمعنى الِاخْتِلَاف وَهُوَ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان والمجيء والذهاب. وَقَوله: {وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من رزق} أَي: الْمَطَر، قَالَ كَعْب الحبر: ينزل الْمَطَر وَفِيه الْبِنْت فَيدْخل فِي الأَرْض ثمَّ يخرج مِنْهَا. وَقَوله: {فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا} قد ذكرنَا. {وتصريف الرِّيَاح} مَعْنَاهُ: مرّة جنوبا، وَمرَّة شمالا، وَمرَّة رَحْمَة، وَمرَّة عذَابا. وَقَوله: {آيَات لقوم يعْقلُونَ} أَي: يعْقلُونَ الْآيَات، وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " الرّيح من روح الله تَأتي مرّة بِالْعَذَابِ وَمرَّة بِالرَّحْمَةِ؛ فَلَا تسبوها وَلَكِن إِذا جَاءَت فَسَلُوا الله خَيرهَا، واستعيذوا بِاللَّه من شَرها ".

6

قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ آيَات الله نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ فَبِأَي حَدِيث بعد الله وآياته يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنهم إِذا لم يُؤمنُوا بِهَذَا الْكتاب فَبِأَي كتاب بعده يُؤمنُونَ، وَلَا كتاب بعد هَذَا الْكتاب.

7

قَوْله تَعَالَى: {ويل لكل أفاك أثيم} فِي التَّفْسِير أَن الويل وَاد فِي جَهَنَّم يهوى الْكَافِر فِيهِ سبعين خَرِيفًا قبل أَن يبلغ قَعْره. وَقَوله: {لكل أفاك أثيم} أَي: كَذَّاب فَاجر.

8

قَوْله تَعَالَى: {يسمع آيَات الله تتلى عَلَيْهِ ثمَّ يصر مستكبرا} أَي: يصر على الْكفْر معرضًا عَن الْحق إِعْرَاض المتكبرين، والإصرار هُوَ العقد على الشَّيْء بالعزم

{عَلَيْهِ ثمَّ يصر مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا فبشره بِعَذَاب أَلِيم (8) وَإِذا علم من آيَاتنَا شَيْئا اتخذها هزوا أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين (9) من ورائهم جَهَنَّم وَلَا يُغني عَنْهُم مَا كسبوا شَيْئا وَلَا مَا اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء وَلَهُم عَذَاب عَظِيم (10) هَذَا هدى وَالَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم (11) } الصَّحِيح. وَقَوله: {كَأَن لم يسْمعهَا} أَي: كَأَن لم يسمع الْآيَات. وَقَوله: {فبشره بِعَذَاب أَلِيم} أَي: موجع.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا علم من آيَاتنَا شَيْئا اتَّخَذُوهَا هزوا} نزلت الْآيَة فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة كَانَ يَقُول فِي الْقُرْآن إِنَّه أساطير الْأَوَّلين، وَهُوَ مثل حَدِيث رستم واسفنديار، وَكَانَ يَقُول ذَلِك على جِهَة الِاسْتِهْزَاء. وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين} قد بَينا.

10

قَوْله تَعَالَى: {من ورائهم جَهَنَّم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: من قدامهم جَهَنَّم. وَقَوله: {وَلَا يُغني عَنْهُم مَا كسبوا شَيْئا} قَالَ بعض أهل التَّفْسِير: الْآيَة فِي عبد الله بن أبي بن سلول، وَكَسبه هُوَ جهاده مَعَ الرَّسُول وصومه وَصلَاته وشفقته على أَصْحَاب النَّبِي. وَقَوله: {وَلَا يُغني} أَي: لَا يدْفع، وَإِنَّمَا لم يدْفع؛ لِأَنَّهُ كَانَ منافقا يظْهر الْإِسْلَام بِلِسَانِهِ ويعتقد الْكفْر، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن هَذِه الْآيَة فِي النَّضر بن الْحَارِث أَيْضا، وَهَذَا هُوَ الأولى؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وَكَسبه مَا فعله من الْخَيْر على زَعمه. وَقَوله: {وَلَا مَا اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء} أَي: الْأَصْنَام. وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

11

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا هدى} أَي: الْقُرْآن هدى لِلْخلقِ. وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم لَهُم عَذَاب من رجز أَلِيم} أَي: عَذَاب من جَهَنَّم موجع.

{الله الَّذِي سخر لكم الْبَحْر لتجري الْفلك فِيهِ بأَمْره ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (13) قل للَّذين آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله}

12

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي سخر لكم الْبَحْر لتجري الْفلك فِيهِ بأَمْره ولتبتغوا من فَضله} أَي: من رزقه. وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} قَالَ ابْن عُيَيْنَة: الشُّكْر وَاجِب على كل مُسلم؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {لتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون} فرزق الْعباد ليشكروه.

13

قَوْله تَعَالَى: {وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} أَي: ذلل، وَمعنى التسخير والتذليل خلقهَا على وَجه ينْتَفع بهَا الْعباد، وَالِانْتِفَاع من السَّمَاء وَالْأَرْض مَعْلُوم. وَقَوله: {جَمِيعًا مِنْهُ} قَالَ الْفراء والزجاج: نعْمَة وَرَحْمَة مِنْهُ، وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: مِنْهُ النُّور وَمِنْه الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن رجلا أَتَى عبد الله بن عمر وَقَالَ: مِم خلق الله الْخلق؟ فَقَالَ: من النُّور والظلمة وَالرِّيح، فَقَالَ: مِم خلق النُّور والظلمة وَالرِّيح فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَأتى ابْن عَبَّاس وَسَأَلَ عَن الأول فَذكر مثل مَا ذكره ابْن عمر، فَسَأَلَهُ عَن الثَّانِي فَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ} أَي: من تكوينه كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: كن فَكَانَت. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " منَّة " أَي: سخر مَا سخر نعْمَة من الله. وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} أَي: يتدبرون. وَفِي الْخَبَر: " تَفَكَّرُوا فِي الْخلق وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِق ".

14

قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله} ذكر الضَّحَّاك وَأَبُو صَالح أَن النَّبِي وَأَصْحَابه نزلُوا على مَاء بالمريسيع، فَبعث عبد الله بن أبي بن سلول غُلَامه ليَأْتِيه بِالْمَاءِ، فَأَبْطَأَ الْغُلَام، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بك؟ قَالَ: جَاءَ غُلَام عمر وَجلسَ على فَم الْبِئْر، وَمنع النَّاس حَتَّى مَلأ قربه النَّبِي وقربة أبي بكرو قربَة

{ليجزي قوما بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون (15) وَلَقَد آتَيْنَا بني إِسْرَائِيل الْكتاب وَالْحكم والنبوة ورزقناهم من الطَّيِّبَات وفضلناهم على الْعَالمين (16) وآتيناهم بَيِّنَات من الْأَمر} مَوْلَاهُ، فَغَضب عبد الله بن أبي لما سمع ذَلِك، وَقَالَ: مَا مثلنَا وَمثل مُحَمَّد إِلَّا كَمَا قيل: سمن كلبك يَأْكُلك. ثمَّ قَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل، فَبلغ ذَلِك عمر فجَاء بِالسَّيْفِ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ ليضْرب بِهِ عبد الله بن أبي، وَاسْتَأْذَنَ النَّبِي فِي ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {قل للَّذين آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله} وَهَذَا على القَوْل الَّذِي قُلْنَا إِن الْآيَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ بَعضهم: شتم رجل من الْكفَّار عمر بِمَكَّة فهم أَن يبطش بِهِ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله} أَي: لَا يسْأَلُون الله نعمه، وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يعترفون بِأَن النعم من عِنْد الله، وَقيل: لَا يرجون أَيَّام الله أَي: لَا يخَافُونَ عقوبات الله ونقمه. وَقيل: لَا يطْعمُون فِي ثَوَاب، وَلَا يخَافُونَ من عُقُوبَة. وَقَوله: {ليجزي قوما بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: ليَكُون الله تَعَالَى هُوَ الْمجَازِي والمنتقم مِنْهُم لَا أَنْتُم.

15

قَوْله تَعَالَى: {من عمل صَالحا فلنفسه} أَي: نفع ذَلِك يعود إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا} أَي: وبال ذَلِك عَلَيْهِ. وَقَوله: {ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون} أَي: تردون.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا بني إِسْرَائِيل الْكتاب} أَي: التَّوْرَاة. وَقَوله: {وَالْحكم والنبوة} أَي: الْعلم والنبوة. وَقَوله: {ورزقناهم من الطَّيِّبَات} أَي: الْحَلَال، وَهِي الْمَنّ والسلوى وَغير ذَلِك. وَقَوله: {وفضلناهم على الْعَالمين} أَي: على عالمي زمانهم.

17

قَوْله تَعَالَى: {وآتيناهم بَيِّنَات من الْأَمر} أَي: دلالات واضحات، وَيُقَال: بَيِّنَات

{فَمَا اخْتلفُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ (18) إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالله ولي الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بصائر للنَّاس وَهدى وَرَحْمَة لقوم يوقنون (20) أم حسب} من الْأَمر مَا يدلهم على أَمر مُحَمَّد. وَقَوله: {فَمَا اخْتلفُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم} أَي: مَا اخْتلفُوا فِي الْحق إِلَّا من بَعْدَمَا جَاءَهُم الْعلم بِالْحَقِّ. وَقَوله: {بغيا بَينهم} أَي: حسدا وظلما وعنادا للحق. وَقَوله: {إِن رَبك يقْضِي بَينهم} ظَاهر مَعْنَاهُ إِلَى آخر الْآيَة.

18

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر} أَي: طَرِيق وَاضح، وَيُقَال: على أَمر بَين، والشرعة هِيَ الْمَذْهَب وَالْملَّة، وَكَذَلِكَ الشَّرِيعَة. وَقَوله: {فاتبعها} أَي: اتبع الشَّرِيعَة الَّتِي جاءتك من الله تَعَالَى. وَقَوله: {وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ} فِي التَّفْسِير: أَن الْمُشْركين كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّد، ارْجع إِلَى دين آبَائِك فَإِنَّهُ أولى من الدّين الَّذِي جِئْت بِهِ.

19

وَقَوله: {إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا} أَي: لن يدفعوا عَنْك شَيْئا يُريدهُ الله بك إِن اتبعت أهواءهم. وَقَوله: {وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} أَي: بَعضهم محبو الْبَعْض. وَقَوله: {وَالله ولي الْمُتَّقِينَ} أَي: محب الْمُتَّقِينَ وحافظهم.

20

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا بصائر للنَّاس} أَي: هَذَا الَّذِي أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك بصائر للنَّاس أَي: دلالات يبصر بهَا النَّاس. وَقَوله: {وَهدى وَرَحْمَة لقوم يوقنون} أَي: يعلمُونَ.

{الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سَاءَ مَا يحكمون (21) وَخلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ ولتجزى كل نفس بِمَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ (22) }

21

قَوْله تَعَالَى: {أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات} أَي: اكتسبوا السَّيِّئَات، والسيئات مَا قبحت شرعا، والحسنات مَا حسنت شرعا. وَقَوله: {أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: فِي دُخُول الْجنَّة، وَمَا يعْطى أهل الْإِيمَان من النَّعيم. وَالظَّاهِر أَن الْآيَة فِي الْكفَّار وَإِن كَانَت عَامَّة. وَقَوله: {سَوَاء محياهم ومماتهم} وَقُرِئَ: " سَوَاء " بِالنّصب، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: أَن الْكَافِر سَوَاء محياه ومماته أَي: يحيا كَافِرًا وَيَمُوت كَافِرًا. وَفِي الْخَبَر " يَمُوت " الْمَرْء على مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَيبْعَث على مَا مَاتَ عَلَيْهِ ". وَأما الْقِرَاءَة بِالنّصب فَهُوَ فِي مَوضِع مستو فانتصب لهَذَا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أم حسبوا أَن نجعلهم وَالْمُؤمنِينَ سَوَاء فِي الْمحيا وَالْمَمَات يَعْنِي: أَنهم لَا يستوون. وَقَوله: {سَاءَ مَا يحكمون} أَي: بئس مَا يحكمون لأَنْفُسِهِمْ. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للْمُؤْمِنين: إِن دَخَلْتُم الْجنَّة فَنحْن مَعكُمْ، وَإِن دَخَلنَا النَّار فَأنْتم مَعنا. وَفِي بعض الْآثَار عَن مَسْرُوق بن الأجدع قَالَ: قدمت مَكَّة وَدخلت الْمَسْجِد الْحَرَام فَقيل لي: هَذَا مقَام أَخِيك تَمِيم الدَّارِيّ، جعل يُصَلِّي لَيْلَة إِلَى الصَّباح يرْكَع وَيسْجد ويبكي وَيقْرَأ هَذِه الْآيَة: {أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات} لَا يجاوزها.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَخلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ ولتجزي كل نفس بِمَا كسبت وهم لَا يظْلمُونَ} أَي: لَا ينقص من حُقُوقهم شَيْء.

{أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ وأضله الله على علم على سَمعه وَقَلبه وَجعل على}

23

قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ} قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يعبد الشَّيْء، فَإِذا رأى شَيْئا أحسن مِنْهُ طرح الأول وَأخذ الثَّانِي فعبده. وَقَالَ قَتَادَة فِي معنى الْآيَة: لَا يهوى شَيْئا إِلَّا رَكبه، فَهُوَ يعبد هَوَاهُ. وَقيل: اتخذ إلهه هَوَاهُ أَي: أطَاع هَوَاهُ وانقاد لَهُ كَمَا ينقاد العَبْد لمعبوده. وَقد ثَبت أَنه قَالَ: " تعس عبد الدِّينَار، تعس عبد الدِّرْهَم، تعس عبد الخميصة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَنه [قَالَ] : " مَا عبد تَحت ظلّ السَّمَاء شَيْء وَهُوَ أبْغض عِنْد الله من هوى ". وَقَوله: {وأضله الله على علم} أَي: على مَا حكم [لَهُ] فِي علمه السَّابِق، وَهُوَ رد على الْقَدَرِيَّة، وَقد أولُوا هَذَا وَقَالُوا: معنى قَوْله: {وأضله الله} أَي: وجده ضَالًّا، أَو سَمَّاهُ ضَالًّا، وَهُوَ تَأْوِيل بَاطِل؛ لِأَن الْعَرَب لَا تَقول: فعل فلَان كَذَا إِذا وجده كَذَلِك. وَقَوله: {وَختم على سَمعه} أَي: ختم على سَمعه فَجعله لَا يسمع الْحق. وَقَوله: {وَقَلبه} أَي: وَختم على قلبه فَجعله لَا يقبل الْحق.

{بَصَره غشاوة فَمن يهديه من بعد الله أَفلا تذكرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} وَقَوله: {وَجعل على بَصَره غشاوة} أَي: غطاء فَلَا يبصر الْحق. وَقَوله: {فَمن يهديه من بعد الله} يَعْنِي: إِذا كَانَ الله لَا يهديه فَمن يهديه من بعد الله؟ ! . وَقَوله: {أَفلا تذكرُونَ} أَي: أَفلا تتعظون.

24

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: نحيا وَنَمُوت، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود. وَالْقَوْل الثَّانِي: نموت ونحيا: أَي: يَمُوت الْبَعْض منا، ويحيا الْبَعْض منا. وَفِيه قَولَانِ آخرَانِ: أَحدهمَا: وَهُوَ القَوْل الثَّالِث: نموت ونحيا أَي: نموت نَحن ويحيا أَوْلَادنَا، وَالْقَوْل الرَّابِع: هُوَ أَنه خلقنَا أَمْوَاتًا ثمَّ أَحْيَانًا. وَقَوله: {وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} قَالَ قَتَادَة: من الْأَيَّام والليالي. وَيُقَال: مَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر أَي: إِلَّا الْمَوْت، قَالَ الشَّاعِر. (أَمن الْمنون وريبها يتوجع ... والدهر لَيْسَ بمعتب من يجزع) أَي: الْمَوْت. وَيُقَال: وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر أَي: طول الْعُمر، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا تسبوا الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو الْحُسَيْن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ هُوَ ابْن بنت منيع واسْمه عبد الله بن مُحَمَّد أَبُو

{وَمَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يظنون (24) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات مَا كَانَ} الْقَاسِم، أخبرنَا هدبة بن خَالِد، أخبرنَا حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أَيُّوب، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة الْخَبَر. وروى الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: استقرضت من ابْن آدم فَلم يقرضني، ويسبني وَهُوَ لَا يعلم، وَيَقُول: يادهراه يادهراه " وَفِي رِوَايَة " يَا خيبة الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر ". وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْن آدم يسب الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر، أدبر الْأَمر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار ". وَفِي معنى الْخَبَر ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: لَا تسبوا الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر أَي: خَالق الدَّهْر. وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا تسبوا الدَّهْر فَإِنِّي فَاعل الْأَشْيَاء. وَكَانُوا يضيفون الْفِعْل إِلَى الدَّهْر ويسبونه، فَإِن الله هُوَ الدَّهْر يَعْنِي: أَن الله فَاعل الْأَشْيَاء لَا الدَّهْر، وَهَذَا قَول مُعْتَمد. وَالْوَجْه الثَّالِث: وَهُوَ أَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاء الدَّهْر، وَأَنه لَا يبْقى شَيْء مَعَ بَقَاء الدَّهْر فَقَالَ: لَا تسبوا الدَّهْر يَعْنِي: لَا تسبوا الَّذين يَعْتَقِدُونَ أَنه الْبَاقِي؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر يَعْنِي: فَإِن الله هُوَ الْبَاقِي بَقَاء الْأَبَد على مَا يَعْتَقِدُونَ فِي الدَّهْر. وَقَوله: {ومالهم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يظنون} أَي: قَالُوا مَا قَالُوهُ على ظن وَشك لَا عَن علم ويقين.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات مَا كَانَ حجتهم إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا

{حجتهم إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُم صَادِقين (25) قل الله يُحْيِيكُمْ ثمَّ يميتكم ثمَّ يجمعكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (26) وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيَوْم تقوم السَّاعَة يَوْمئِذٍ يخسر المبطلون (27) وَترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إِلَى كتابها الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كتَابنَا ينْطق} إِن كُنْتُم صَادِقين) وَقد بَينا قَول أبي جهل فِي هَذَا.

26

قَوْله تَعَالَى: {قل الله يُحْيِيكُمْ ثمَّ يميتكم ثمَّ يجمعكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ الْحق.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَيَوْم تقوم السَّاعَة} أَي: الْقِيَامَة. وَقَوله: {يَوْمئِذٍ يخسر المبطلون} أَي: يهْلك الْكَافِرُونَ.

28

قَوْله تَعَالَى: {وَترى كل أمة جاثية} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: مستوفزين أَي: جُلُوسًا على الركب، قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: المستوفز من لَا تصيب الأَرْض مِنْهُ إِلَّا ركبتاه وأطراف أَصَابِعه. وَالْقَوْل الثَّانِي: جاثية أَي: مجتمعة. وَالْقَوْل الثَّالِث: جاثية أَي: خاضعة ذليلة، وَقيل: هُوَ لُغَة قُرَيْش. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمُخْتَار الْمَعْرُوف، وَمِنْه جثا فلَان بَين يَدي القَاضِي ينْتَظر قَضَاءَهُ، وَعَن سلمَان الْفَارِسِي قَالَ: إِن فِي الْقِيَامَة سَاعَة هِيَ عشر سِنِين من سِنِين الدُّنْيَا يخر فِيهَا النَّاس، ويجثون على الركب حَتَّى إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن، وَيَقُول: نَفسِي لَا أَسَالَك إِلَّا نَفسِي. وَيُقَال: ترى كل أمة رَسُول جاثية أَي: كل أحد جاثيا، وَالْأمة تكون بِمَعْنى الْوَاحِد. وَيُقَال مَعْنَاهُ: كل أمة رَسُول جاثية، وَالله اعْلَم. وَقَوله: {كل أمة تدعى إِلَى كتابها} مَعْنَاهُ: إِلَى قِرَاءَة كتابها. وَقَوله تَعَالَى: {الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

29

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا كتَابنَا ينْطق عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} أَي: يظْهر مَا عملتم بِالْحَقِّ.

{عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (29) فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيدخلهم رَبهم فِي رَحمته ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْمُبين (30) وَأما الَّذين كفرُوا أفلم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) وَإِذا قيل إِن وعد الله حق والساعة لَا ريب فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَة إِن نظن إِلَّا ظنا وَمَا نَحن} وَقَوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: نستكتب مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ أَي: نأمر الكتبة أَن يكتبوا ويحفظوا أَعمالكُم. وَالْقَوْل الثَّانِي: نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ أَي: نَأْخُذ نُسْخَة مِمَّا كتبت الْمَلَائِكَة عَلَيْكُم. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: يَأْمر الله تَعَالَى الْمَلَائِكَة بِأَن يَأْخُذُوا نُسْخَة من اللَّوْح الْمَحْفُوظ على مَا يعمله العَبْد فِي يَوْمه وَلَيْلَته، ثمَّ يَكْتُبُونَ مَا عمله العَبْد، ثمَّ يقابلون مَا كتبُوا على العَبْد بِمَا نسخوا من اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فيكونان سَوَاء لَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان فِيهِ، قَالَ ابْن عَبَّاس: أنظروا هَل يكون الاستنساخ إِلَّا من أصل.

30

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيدخلهم رَبهم فِي رَحمته} أَي: جنته. وَقَوله: (ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْمُبين) أَي: الْبَين.

31

قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين كفرُوا أفلم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم} يَعْنِي يُقَال لَهُم: أفلم تكن آياتي تتلى [عَلَيْكُم] أَي: ألم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم؟ . وَقَوله: (فاستكبرتم) أَي: طلبتم الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة بترك التَّوْحِيد، وكل كَافِر متكبر، وكل مُؤمن متواضع. وَقَوله: (وكنتم مجرمين) أَي: ذوى جرم.

32

قَوْله تَعَالَى: (وَإِذا قيل إِن وعد الله حق والساعة لَا ريب فِيهَا) أَي: لاشك فِيهَا. وَقَوله: (قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَة إِن نظن إِلَّا ظنا) أَي: نظن أَنَّك كَاذِب، ونظن أَنَّك صَادِق، وَلَا دَلِيل مَعنا على صدقك، وَأَن مَا قلته حق.

بمستيقنين (32) وبدا لَهُم سيئات مَا عمِلُوا وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (33) وَقيل الْيَوْم ننساكم كَمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا ومأواكم النَّار وَمَا لكم من ناصرين (34) ذَلِكُم بأنكم اتخذتم آيَات الله هزوا وغرتكم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم لَا يخرجُون مِنْهَا وَلَا هم يستعتبون (35) فَللَّه الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين (36) وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (37)) وَقَوله: {وَمَا نَحن بمستيقنين} أَي: متيقنين.

33

قَوْله تَعَالَى: {وبدا لَهُم سيئات مَا عمِلُوا} أَي: ظهر لَهُم سيئات مَا عمِلُوا. وَقَوله: {وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: نزل بهم وأحاط بهم جَزَاء مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون، وَفِي التَّفْسِير: أَنه إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي وَاحِدًا فَيُقَال: يافلان تعال فَخذ نورك، وينادي آخر فَيُقَال: اذْهَبْ فَلَا نور لَك.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَقيل الْيَوْم ننساكم} أَي: نترككم، وَمَعْنَاهُ: نترككم من الرَّحْمَة وَإِعْطَاء الثَّوَاب. وَقيل مَعْنَاهُ: نترككم فِي الْعَذَاب، فَلَا نخرجكم مِنْهَا كَمَا نخرج الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {كَمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا} أَي: كَمَا تركْتُم الْعَمَل ليومكم هَذَا. وَقَوله: {ومأواكم النَّار ومالكم من ناصرين} أَي: من يمْنَع عذابنا مِنْكُم.

35

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم بأنكم اتخذتم آيَات الله هزوا وغرتكم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم لَا يخرجُون مِنْهَا} أَي: من النَّار. {وَلَا هم يستعتبون} أَي: لَا يرجعُونَ وَلَا يردون إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ من الْعَافِيَة. وَيُقَال: يستقيلون فَلَا يقالون. وَيُقَال: وَلَا هم يستعتبون أَي: لَا يُعْطون العتبى، وَهُوَ طلب رضاهم ومرادهم.

36

قَوْله تَعَالَى: {فَللَّه الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب وَالْأَرْض رب الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: العظمة والعلو، وَقد

روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: الْكِبْرِيَاء رِدَائي، وَالْعَظَمَة إزراري، فَمن نَازَعَنِي وَاحِدَة مِنْهُمَا أَلقيته فِي جَهَنَّم ". وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْعَزِيز فِي انتقامه، الْحَكِيم فِي تَدْبيره، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {حم (1) تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم (2) مَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأجل مُسَمّى وَالَّذين كفرُوا عَمَّا أنذروا معرضون (3) قل أَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات} تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف وَهِي مَكِّيَّة

الأحقاف

قَوْله تَعَالَى: {حم} أَي: حم الْأَمر وَقضى، وَقَالَ قَتَادَة: أسم من أَسمَاء الْقُرْآن. وَقَالَ غَيره: قسم، وَجَوَاب الْقسم قَوْله: {مَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} .

2

وَقَوله: {تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.

3

قَوْله تَعَالَى: {مَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} يَعْنِي: إِلَّا للثَّواب وَالْعِقَاب، وَيُقَال: إِلَّا لإِقَامَة الْحق. وَقَوله: {وَأجل مُسَمّى} أَي: أمد يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى فنَاء السَّمَوَات وَالْأَرْض لمُدَّة مَعْلُومَة. وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا عَمَّا أنذروا معرضون} أَي: معرضون إِعْرَاض المكذبين الجاحدين.

4

قَوْله: {قل أَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله} أَي: الْأَصْنَام. وَقَوله: {أروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات} أَي: فِي خلق السَّمَوَات فتعبدونها لذَلِك، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ لَهُم شرك، لَا فِي خلق الأَرْض، وَلَا فِي خلق السَّمَاء أَي: نصيب، فَكيف تعبد مَعَ الله؟ ! وَقَوله: {ائْتُونِي بِكِتَاب من قبل هَذَا} أى: بِكِتَاب من قبل الْقُرْآن يدل على مَا زعمتموه.

{ائْتُونِي بِكِتَاب من قبل هَذَا أَو أثارة من علم إِن كُنْتُم صَادِقين (4) وَمن أضلّ مِمَّن يَدْعُو من دون الله من لَا يستجيب لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وهم عَن دُعَائِهِمْ غافلون (5) } وَقَوله: {أَو أثارة من علم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: بَقِيَّة من علم. يُقَال: نَاقَة ذَات أثارة أَي: بَقِيَّة من سمن، وَيُقَال: أَو أثارة من علم مأثور، وَمَعْنَاهُ: إِن كَانَ [عنْدكُمْ] كتاب من كتب الْأَوَّلين، أَو علم مأثور [عَنْهُم] تَرَوْنَهُ يدل على صدق مَا قُلْتُمْ فَأتوا بذلك، وأرونيه إِن كُنْتُم صَادِقين. وَيُقَال: " أَو أثارة من علم " هُوَ الْخط، وَهَذَا حُكيَ عَن ابْن عَبَّاس، وروى مَنْصُور عَن (ابْن إِبْرَاهِيم) أَن نَبيا من الْأَنْبِيَاء كَانَ يخط لَهُ، وَكَانَ ذَلِك هُوَ الْوَحْي إِلَيْهِ، وَقد رُوِيَ هَذَا فِي خبر مَرْفُوع. وَفِي بعض التفاسير: أَن من خطّ خطه علم علمه، وَعَن ابْن إِسْحَاق قَالَ: أول من خطّ بالقلم إِدْرِيس النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام. وَعَن (مطرف بن الْوراق) قَالَ: قَوْله: {أَو أثارة من علم} هُوَ الْإِسْنَاد. وَقَوله: {إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: صَادِقين فِيمَا تقولونه.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أضلّ مِمَّن يَدْعُو من دون الله من لَا يستجيب لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} أَي: لَا يستجيب أبدا. وَقَوله: {وهم عَن دُعَائِهِمْ غافلون} أَي: لَا يسمعُونَ دعاءهم وَإِن دعوا، وَالْمرَاد من الْآيَة هُوَ الْأَصْنَام، يَعْنِي: كَيفَ يعْبدُونَ الْأَصْنَام؟ وَلَو دعوهم لم يَسْتَجِيبُوا لَهُم

{وَإِذا حشر النَّاس كَانُوا لَهُم أَعدَاء وَكَانُوا بعبادتهم كَافِرين (6) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم هَذَا سحر مُبين (7) أم يَقُولُونَ افتراه قل إِن افتريته فَلَا تَمْلِكُونَ لي من الله شَيْئا هُوَ أعلم بِمَا تفيضون فِيهِ كفى بِهِ شَهِيدا بيني وَبَيْنكُم وَهُوَ الغفور الرَّحِيم (8) قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي} وَلم يسمعوا كَلَامهم.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حشر النَّاس كَانُوا لَهُم أَعدَاء} أَي: الْأَصْنَام كَانُوا لَهُم أَعدَاء، {وَكَانُوا بعبادتهم كَافِرين} يَعْنِي: أَنهم يَقُولُونَ: مَا دعوناكم إِلَى عبادتنا.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذين كفرُوا للحق لما جَاءَهُم هَذَا سحر مُبين} .

8

قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افتراه قل إِن افتريته فَلَا تَمْلِكُونَ لي من الله شَيْئا} فِي التَّفْسِير: أَن أَبَا جهل قَالَ للنَّبِي: يامحمد، إِنَّك تفتري على الله حَيْثُ تزْعم أَن هَذَا الْقُرْآن من وحيه وَكَلَامه، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام تَقوله من تِلْقَاء نَفسك. وَقَوله: {فَلَا تَمْلِكُونَ لي من الله شَيْئا} أَي: إِن افتريت على الله وعاقبني لَا تملك دفع عُقُوبَته عني. وَقَوله: {هُوَ أعلم بِمَا تفيضون فِيهِ} . وَقَوله: {كفى بِهِ شَهِيدا بيني وَبَيْنكُم} أَي: كفى بِاللَّه شَهِيدا بيني وَبَيْنكُم. وَقَوله: {وَهُوَ الغفور الرَّحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

9

قَوْله تَعَالَى: {قل مَا كنت بدعا من الرُّسُل، وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} مَعْنَاهُ: مَا كنت أول رَسُول أرسل إِلَى بني آدم، وَقَوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هَذَا فِي الدُّنْيَا، فَأَما فِي الْآخِرَة فَلَا، وَمَعْنَاهُ: فِي الدُّنْيَا وَلَا أَدْرِي أترك بَيْنكُم أَو أقتل؟ وَيُقَال: لَا أَدْرِي أخرج كَمَا أخرجت الْأَنْبِيَاء من قبل أَو

{وَلَا بكم إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ وَمَا أَنا إِلَّا نَذِير مُبين (9) قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله فَآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِن الله لَا} أقتل كَمَا قتلت الْأَنْبِيَاء من قبل. وَقَوله: {وَلَا بكم} هَذَا خطاب مَعَ الْكفَّار، وَمَعْنَاهُ: لَا أَدْرِي أتؤخرون فِي الْعَذَاب أَو يعجل لكم الْعَذَاب، وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى لما أنزل هَذِه الْآيَة وجد النَّبِي والمؤمنون وجدا شَدِيدا أَي: اغتموا؛ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} فَقيل لَهُ: يارسول الله، هَذَا لَك خَاصَّة أولنا وَلَك؟ فَقَالَ: هِيَ لي وَلكم إِلَّا مَا فضلت بِهِ من النُّبُوَّة " وَالْخَبَر غَرِيب. وَقَوله: {إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ وَمَا أَنا إِلَّا نَذِير مُبين} أَي: نَذِير بَين النذارة.

10

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وكفرتم بِهِ وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله} قَالَ ابْن سِيرِين وَجَمَاعَة: هُوَ عبد الله بن سَلام، وَقد رُوِيَ هَذَا أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَغَيرهم، وعَلى هَذَا القَوْل هَذِه الْآيَة مَدَنِيَّة من جملَة السُّورَة؛ لِأَن عبد الله بن سَلام أسلم بِالْمَدِينَةِ بالِاتِّفَاقِ. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن جمَاعَة من الْيَهُود أَتَوا النَّبِي وَقد جعل رَسُول الله عبد الله بن سَلام وَرَاء ستر، فَقَالَ لَهُم: كَيفَ ابْن سَلام فِيكُم؟ فَقَالُوا: أعلمنَا وَابْن أعلمنَا، وخيرنا وَابْن خيرنا. فَقَالَ النَّبِي: أَرَأَيْتُم لَو أسلم هَل تسلمون أَنْتُم؟ فَقَالُوا: معَاذ الله أَن يسلم، فَخرج عبد الله بن سَلام وَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَقَالُوا: هُوَ شَرنَا وَابْن شَرنَا، وأجهلنا وَابْن أجهلنا، وَجعلُوا يشتمونه، فَهُوَ قَوْله تَعَالَى " {وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله} ".

{يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (10) وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن المُرَاد بِهِ رجل من بني إِسْرَائِيل على الْجُمْلَة، وعَلى هَذَا فِي الْكتاب الْآيَة مَكِّيَّة مثل سَائِر آيَات السُّورَة. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن الشَّاهِد من بني إِسْرَائِيل هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام شهد بِمثل مَا شهد بِهِ الرَّسُول من وحدانية الله تَعَالَى، وَأَن عبَادَة الْأَصْنَام بَاطِلَة، وَهَذَا قَول مَسْرُوق وَغَيره، وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل} هُوَ يَامِين بن يَامِين، وَكَانَ من عُلَمَاء الْيَهُود أسلم على يَد النَّبِي، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور. وَقَوله تَعَالَى: {فَآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أَي: آمن بِمَا جَاءَ بِهِ من مُحَمَّد، وتعظمتم أَنْتُم عَن الْإِيمَان بِهِ بعد ظُهُور الْحق. وَقَوله: {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي التَّفْسِير: أَن فِي الْآيَة حذفا، وَتَقْدِيره: " قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله فَآمن وَاسْتَكْبَرْتُمْ ألستم قد ظلمتم وأتيتم بالقبيح الَّذِي لَا يجوز " ثمَّ قَالَ: {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} ابْتِدَاء، يَعْنِي: الْكَافرين.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا} الْآيَة. روى أَن أمة يُقَال لَهَا: (زنيرة) أسلمت فَقَالَ مشركو قُرَيْش: لَو كَانَ فِي هَذَا الدّين خير مَا سبقتنا إِلَيْهِ هَذِه الْأمة، وَيُقَال: كَانَت آمة لعمر بن الْخطاب. وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذِه الْأمة عميت بَعْدَمَا أسلمت، فَقَالَ الْكفَّار: إِنَّمَا أَصَابَهَا مَا أَصَابَهَا بإسلامها، فَرد الله عَلَيْهَا بصرها. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن مزينة وجهينة وغفار وَأسلم آمنُوا بِالنَّبِيِّ، وَهِي قبائل حول الْمَدِينَة، فَقَالَ بَنو عَامر وغَطَفَان وَأسد وَأَشْجَع، وَهَؤُلَاء رُءُوس قبائل الْعَرَب: لَو كَانَ فِي الدّين خير مَا سبقتنا إِلَيْهِ مزينة وجهينة وَأسلم وغفار رُعَاة البهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ردا عَلَيْهِم. وَقَوله: {وَإِذا لم يهتدوا بِهِ} أَي: بِالْقُرْآنِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّد.

{وَإِذ لم يهتدوا بِهِ فسيقولون هَذَا إفْك قديم (11) وَمن قبله كتاب مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَة وَهَذَا كتاب مُصدق لِسَانا عَرَبيا لينذر الَّذين ظلمُوا وبشرى للمحسنين (12) إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة خَالِدين فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (14) وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ إحسانا} وَقَوله: {فسيقولون هَذَا إفْك قديم} أَي: حَدِيث مثل حَدِيث الْمُتَقَدِّمين، وَهِي كذب وزور.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَمن قبله كتاب مُوسَى} أَي: كتاب من قبل الْقُرْآن كتاب مُوسَى. وَقَوله: {إِمَامًا} نصب على الْحَال. وَقَوله: {وَرَحْمَة} مَعْطُوف عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَهَذَا كتاب مُصدق} أَي: مُصدق للتوراة. وَقَوله: {لِسَانا عَرَبيا} نصب على الْحَال أَيْضا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: بِلِسَان عَرَبِيّ. وَقَوله: {لينذر الَّذين ظلمُوا} أَي: الْقُرْآن ينذر الَّذين ظلمُوا، وَأما من قَرَأَ بِالتَّاءِ أَي: تنذر يَا مُحَمَّد الَّذين ظلمُوا. وَقَوله: {وبشرى للمحسنين} بإيمَانهمْ وأعمالهم الصَّالِحَة.

13

وَقَوله تَعَالَى: {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} وَقَوله: {فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} قد ذكرنَا أَيْضا.

14

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة ... .} الْآيَة ظَاهر الْمَعْنى.

15

قَوْله تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا حَملته أمه كرها وَوَضَعته كرها} الكره: هُوَ الْإِكْرَاه، والكره هُوَ الْمَشَقَّة فِي الْحمل حِين يثقل الْحمل، وَالْمَشَقَّة فِي الْوَضع عِنْد الطلق، وَمعنى الكره قريب من هَذَا أَي: على كَرَاهَة مِنْهَا، وَفِي تَفْسِير النقاش: حَملته سُرُورًا، وَوَضَعته سُرُورًا، حكى عَن الْفراء: أَن الكره بِالضَّمِّ هُوَ السرُور، والكره بِالْفَتْح هُوَ الْكَرَاهَة، حَكَاهُ النقاش.

{حَملته أمه كرها وَوَضَعته كرها وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا حَتَّى إِذا بلغ أشده وَبلغ أَرْبَعِينَ سنة قَالَ رب أوزعني أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ وعَلى وَالِدي وَأَن أعمل صَالحا ترضاه وَأصْلح لي فِي ذريتي إِنِّي تبت إِلَيْك وَإِنِّي من الْمُسلمين (15) أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا ونتجاوز عَن سيئاتهم فِي أَصْحَاب الْجنَّة وعد} وَقَوله: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} مَعْنَاهُ: أَن أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر، وَمُدَّة الفصال سنتَانِ، فَذَلِك ثَلَاثُونَ شهرا، وروى أَن امْرَأَة أَتَت بِولد لسِتَّة أشهر من وَقت النِّكَاح فِي زمَان عمر رَضِي الله عَنهُ فهم عمر برجمها، فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَا سَبِيل لَك عَلَيْهَا، وتلا قَوْله تَعَالَى: {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} فَقَالَ عمر: لَوْلَا عَليّ لهلك عمر. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْمَرْأَة وضعت لسِتَّة أشهر فمدة الفصال أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ شهرا، وَإِن وضعت لتسعة أشهر فمدة الفصال [أحد] وَعِشْرُونَ شهرا، وَهَذَا خلاف قَول الْفُقَهَاء؛ فَإِن عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء مُدَّة الفصال حولان بِكُل حَال. وَقَوله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا بلغ أشده} قد بَينا معنى الأشد. وَقَوله: {وَبلغ أَرْبَعِينَ سنة} قد بَينا أَيْضا، وَهُوَ مُنْتَهى مُدَّة كَمَال الْعقل. وَقَوله: {قَالَ رب أوزعني} أَي: ألهمني. {أَن أشكر نِعْمَتك الَّتِي أَنْعَمت عَليّ وعَلى وَالِدي وَأَن أعمل صَالحا ترضاه وَأصْلح لي فِي ذريتي إِنِّي تبت إِلَيْك وَإِنِّي من الْمُسلمين} ظَاهر الْمَعْنى، وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِيمَن نزلت هَذِه الْآيَة؟ فَقَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَالضَّحَّاك: إِنَّهَا نزلت فِي أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِنَّهَا عَامَّة فِي جَمِيع الْمُؤمنِينَ. وَمعنى الْآيَة: هُوَ الْإِرْشَاد إِلَى شكر الله وَدُعَاء الْوَالِدين.

16

قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين نتقبل عَنْهُم أحسن مَا عمِلُوا} أَي: الْأَحْسَن من

{الصدْق الَّذِي كَانُوا يوعدون (16) وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ أُفٍّ لَكمَا أتعدانني أَن أخرج وَقد خلت الْقُرُون من قبلي وهما يستغيثان الله وَيلك آمن إِن وعد الله حق فَيَقُول مَا هَذَا} أَعْمَالهم، وَالْأَحْسَن من الْأَعْمَال كل مَا يرضاه الله تَعَالَى. وَقَوله: {ونتجاوز عَن سيئاتهم فِي أَصْحَاب الْجنَّة} أَي: مَعَ أَصْحَاب الْجنَّة. وَقَوله: {وعد الصدْق الَّذِي كَانُوا يوعدون} أَي: يوعدون من الثَّوَاب على الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَيُقَال: إِن الْآيَة الأولى نزلت فِي سعد بن أبي وَقاص، وَكَانَ قد أسلم وَمنعه أَبَوَاهُ من الْإِسْلَام وشددا عَلَيْهِ الْأَمر ليرْجع عَن دينه، وَقد بَينا هَذَا من قبل. وَيُقَال: نزلت فِي أَخِيه عُمَيْر بن أبي وَقاص، وَمعنى الْآيَة على هَذَا: هُوَ الْوَصِيَّة بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا دون الْمُوَافقَة فِي الشّرك.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ أُفٍّ لَكمَا} زعم جمَاعَة من أهل التَّفْسِير أَن الْآيَة نزلت فِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا [ووالديه] أَبُو بكر وَأمه [أم] رُومَان. وَقَوله تَعَالَى: {أُفٍّ لَكمَا} تبرم واستقذار، وَكَانَا يَقُولَانِ: اللَّهُمَّ اهده، اللَّهُمَّ أقبل بِقَلْبِه، وَكَانَ يَقُول: أتعدانني أَن (أبْعث) أَي: أتوعداني بِالْبَعْثِ، وَهَذَا هُوَ معنى قَوْله: {أتعدانني أَن أخرج} . وَقَوله: {وَقد خلت الْقُرُون من قبلي} أَي: مَضَت الْقُرُون: من قبل، أَيْن عبد الله بن جدعَان؟ وَفُلَان وَفُلَان؟ . وَقَوله: {وهما يستغيثان الله} أَي: يستغيثان بِاللَّه. وَقَوله: {وَيلك آمن} أَي: وَيحك، آمن {إِن وعد الله حق} . وَقَوله: {فَيَقُول مَا هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين} أَي: أقاصيص الْأَوَّلين، وَأنكر كثير

{إِلَّا أساطير الْأَوَّلين (17) أُولَئِكَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل فِي أُمَم قد خلت من قبلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس إِنَّهُم كَانُوا خاسرين (18) وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا وليوفيهم أَعْمَالهم وهم لَا يظْلمُونَ (19) وَيَوْم يعرض الَّذين كفرُوا على النَّار أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم} من أهل التَّفْسِير هَذَا القَوْل، وَرُوِيَ عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تنكر أَن المُرَاد بِالْآيَةِ أَخُوهَا، وَكَذَلِكَ ذكر الزّجاج فِي كتاب الْمعَانِي وَغَيره، وَاسْتَدَلُّوا على ضعف هَذَا القَوْل وفساده بِأَن الله تَعَالَى قَالَ عقيب هَذِه الْآيَة

18

: {أُولَئِكَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل فِي أُمَم قد خلت من قبلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس} أَي: وَجب عَلَيْهِم القَوْل بالتعذيب فِي النَّار. وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {مَا يُبدل القَوْل لَدَى} وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر أسلم وَحسن إِسْلَامه، وَهُوَ من أفاضل الْمُسلمين، فَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي غَيره، وَهُوَ الْكَافِر الْعَاق (بِوَالِديهِ) الَّذِي مَاتَ على الْكفْر. وَقَوله تَعَالَى: {فِي أُمَم} أَي: مَعَ أُمَم. وَقَوله: {قد خلت من قبلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس إِنَّهُم كَانُوا خاسرين} أَي: هالكين.

19

قَوْله: {وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا} أَي: لكل الْمُؤمنِينَ دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا. وَفِي التَّفْسِير: أَن الدَّرَجَات من الذَّهَب وَالْفِضَّة والياقوت والزبرجد والزمرد واللؤلؤ وَغَيره من الْجَوَاهِر، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله تَعَالَى يدْخل الْمُؤمنِينَ الْجنَّة وَيَأْمُرهُمْ أَن يقسموها بأعمالهم. وَقَوله: ( {ولنوفينهم} أَعْمَالهم وهم لَا يظْلمُونَ) أَي: لَا يُزَاد فِي إساءة الْمُسِيء، وَلَا ينقص من إِحْسَان المحسن.

20

وَقَوله تَعَالَى: {وَيَوْم يعرض الَّذين كفرُوا على النَّار أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا} أَي: أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي الْآخِرَة من معاصيكم فِي الدُّنْيَا، وَيُقَال: شغلتكم

{الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بهَا فاليوم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تستكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر} الشَّهَوَات عَن الطَّاعَات. وَقيل: أَخَذْتُم نصيبكم فِي الدُّنْيَا فَلَا نصيب لكم فِي الْآخِرَة. وَقَوله: {وَاسْتَمْتَعْتُمْ بهَا} أَي: تلذذتم وانتفعتم بهَا، وَفِي الْمَشْهُور من الْخَبَر " أَن عمر رَضِي الله عَنهُ دخل على النَّبِي فِي خزانته وَهُوَ مُضْطَجع على [خصفة] وَبَعضه على الأَرْض، وَتَحْت رَأسه وسَادَة حشوها لِيف، وَفِي الْبَيْت أهب وَقَلِيل من الْقرظ، فَبكى عمر، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: مَاذَا (يبكيك) ؟ فَقَالَ: ذكرت كسْرَى وَقَيْصَر وَمَا هما فِيهِ من النعم وحالك على مَا أرى، وَأَنت نَبِي الله وصفوته وَخيرته، فَقعدَ رَسُول الله وَقَالَ: أَفِي شكّ أَنْت يَا ابْن الْخطاب! أُولَئِكَ قوم عجلت لَهُم طَيِّبَاتهمْ فِي حياتهم الدُّنْيَا، وأخرت لنا إِلَى الْآخِرَة ". وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: مَا أجمل لذيذ الْعَيْش لَو شِئْت أمرت بصغار المعزى فيمسط لنا، وَأمرت بلباب الْبر فيخبز لنا، وَأمرت بالزبيب فينبذ لنا حَتَّى يصير كعين اليعقوب، فَآكل من هَذَا مرّة، وأشرب من هَذَا مرّة، وَلَكِن سَمِعت الله يَقُول لقوم: {أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا} ، فَأَنا أَخَاف أَن أكون مِنْهُم. وَرُوِيَ أَنه رأى جَابر بن عبد الله وَبِيَدِهِ لحم قد اشْتَرَاهُ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: اشْتَرَيْته بدرهم. فَقَالَ: أَو كلما قَامَ أحدكُم اشْترى بدرهم لَحْمًا. وَفِي رِوَايَة: كلما اشْتهيت اشْتريت، أما سَمِعت الله يَقُول: {أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ فِي حَيَاتكُم الدُّنْيَا} أم تخافون أَن تَكُونُوا مِنْهُم؟ وَقَوله: {الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون} أَي: الهوان، وَهُوَ كَذَلِك فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود. وَقَوله: {بِمَا كُنْتُم تستكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} أَي: تطلبون الْعُلُوّ والرفعة

الْحق وَبِمَا كُنْتُم تفسقون وَاذْكُر أَخا عَاد إِذْ انذر قومه بالأحقاف وَقد خلت النّذر من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه أَلا تعبدوا إِلَّا الله إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم قَالُوا أجئتنا لتأفكنا عَن آلِهَتنَا فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين قَالَ وَالْغَلَبَة بِغَيْر حق وَقَوله: {وَبِمَا كُنْتُم تفسقون} أَي: تخرجُونَ عَن طَاعَة الله.

21

وَقَوله تَعَالَى {وَاذْكُر أَخا عَاد} وَهُوَ هود عَلَيْهِ السَّلَام وَكَانَ أَخَاهُم فِي النّسَب لَا فِي الدّين. وَقَوله: {إِذا أنذر قومه بالأحقاف} أى: قومه عاداً، والأحقاف: جمع حقف، وَهُوَ الرمل المعوج وَفِي الْخَبَر: (مر رَسُول الله بِظَبْيٍ حَاقِف) أَي قد انثنى عُنُقه وَيُقَال الْأَحْقَاف رمال مستطيلة شبه الدكاكين. وَقيل: رمال مشرفة على الْبَحْر بالشحر من الْيمن وَعَن ابْن عَبَّاس أَرض بَين عمان ومهرة وَعَن ابْن إِسْحَاق أَرض بَين عمان وحضرموت كَانَت منَازِل عَاد بهَا وروى أَبُو الطُّفَيْل عَن على رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ شَرّ بِئْر فِي الأَرْض بِئْر وَادي حَضرمَوْت يُقَال لَهُ: برهوت يَجْعَل فِيهَا أَرْوَاح الْكفَّار وَخير بِئْر فِي الأَرْض بِئْر زَمْزَم. وَيُقَال: جبال بِالشَّام وَالأَصَح أَنهم كَانُوا بِالْيمن وَأما منَازِل ثَمُود وَقوم لوط بَين الْمَدِينَة وَالشَّام. وَقَوله {وَقد خلت النّذر من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه} أى خلت النّذر قبل هود وَبعده. وَقَوله: {أَلا تعبدوا إِلَّا الله إِنِّي اخاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم} أَي: كَبِير

22

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أجئتنا لتأفكنا عَن آلِهَتنَا} أى: تصرفنا. وَقَوله: (فأتنا بِمَا تعدنا) أَي: من الْعَذَاب. {إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله وأبلغكم مَا أرْسلت بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوما تجهلون (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارضا مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا بل هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب} وَقَوله: {إِن كنت من الصَّادِقين} يَعْنِي: إِن كنت نَبيا من قبل الله تَعَالَى.

23

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله} أَي: وَقت عذابكم يُعلمهُ الله، وَلَا أعلمهُ أَنا. وَقَوله: {وأبلغكم مَا أرْسلت بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوما تجهلون} وَمَعْنَاهُ: أَن إِلَيّ تَبْلِيغ الرسَالَة، وَلَيْسَ إِلَيّ إِنْزَال الْعَذَاب، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى الله تَعَالَى.

24

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارضا مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ} الْعَارِض: هُوَ السَّحَاب هَاهُنَا قَالَ الشَّاعِر: (إِذا نظرت إِلَى أسرة وَجهه ... برقتْ كبرق الْعَارِض المتهلل) وَقَالَ آخر: (يَا من يرى عارضا قد [بت] أرمقه ... كَأَنَّمَا الْبَرْق فِي حَافَّاته الشعل) وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى حبس عَنْهُم الْقطر ثَلَاث سِنِين، فَجعلُوا يدعونَ ويسألون الله الْمَطَر، وَرُوِيَ أَنهم وفدوا وَفْدًا إِلَى الْحرم يسْأَلُون الْغَيْث، وَكَانَ لَهُم وَاد يُقَال لَهُ: المغيث، وَكَانَ غيثهم يَأْتِي من قبل ذَلِك الْوَادي، فَرَأَوْا سَحَابَة جَاءَت من جَانب ذَلِك الْوَادي، وَكَانَت سَوْدَاء فاستبشروا و {قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا} أَي: سَحَاب يُرْسل علينا الْمَطَر؛ فَقَالَ هود عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ جَالِسا مَعَهم: {بل هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم} . وَقَوله: {بل هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} أَنهم كَانُوا قد قَالُوا: " فأتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين ". وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن أول من رأى الْعَذَاب فِي السَّمَاء امْرَأَة مِنْهُم فَقَالَت: أرى نيرانا أمامها رجال يَقُودُونَهَا.

أَلِيم (24) تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا فَأَصْبحُوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين (25) وَلَقَد مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ وَجَعَلنَا لَهُم سمعا وأبصارا وأفئدة) وَفِي الْقِصَّة: أَن قوم هود قَالُوا لهود: أتوعدنا بِالرِّيحِ، وَأي الرّيح تصرعنا وتهلكنا، فروى أَن الله تَعَالَى أَمر الْملك الَّذِي هُوَ على خزانَة الرّيح أَن يُرْسل الرّيح من الخزانة فَقَالَ: وَكم أرْسلهُ؟ فَقيل لَهُ: على مِقْدَار منخر الثور، فَقَالَ: إِذا تقلب الأَرْض بِمن فِيهَا. فَقيل لَهُ: على قدر حَلقَة الْخَاتم فَأرْسلت على هَذَا الْقدر فَجعلت تطير بالظعن بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وَتحمل الرَّاعِي مَعَ غنمه وَإِبِله وتروحها إِلَى الْهَوَاء، ثمَّ تطرحها على الْجبَال وتشدخها، وَكَذَلِكَ فعلت بِجَمِيعِ عَاد حَتَّى أهلكتهم، وَفِي التَّفْسِير: أَنَّهَا كَانَت تحمل الرِّجَال بَين السَّمَاء وَالْأَرْض حَتَّى يرى كالجراد، وَكَانَ هَذَا الْعَذَاب مسخرا عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما على مَا ذكر الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر. وَفِي الْقِصَّة: أَن هود عَلَيْهِ السَّلَام اعتزل بقَوْمه الَّذين آمنُوا بِهِ وَخط لَهُم خطا، وَكَانَت الرّيح فِي ذَلِك الْخط أَلين ريح وأطيبها، وَهِي تعْمل بقَوْمه الْعَجَائِب. وَرُوِيَ أَنهم لما رَأَوْا الْعَذَاب وَأرْسلت الرّيح عَلَيْهِم دخلُوا بُيُوتهم، وَهِي من صَخْر، وَأَغْلقُوا الْأَبْوَاب، ففتحت الرّيح أَبْوَابهم ونزعتهم من بُيُوتهم، وأهالت الرمال عَلَيْهِم حَتَّى أهلكتهم تَحت الرمال، وَإِن أَنِين بَعضهم يسمع تحتهَا.

25

وَقَوله: {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} أَي: بِإِذن رَبهَا. وَقَوله: {فَأَصْبحُوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم} رُوِيَ أَن الله تَعَالَى لما أهلكهم بعث بطير كثير حَتَّى التقطتهم وألقتهم فِي الْبَحْر، فَأَصْبَحت مساكنهم خَالِيَة عَن جَمِيعهم، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَأَصْبحُوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم} . وَقَوله: {كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين} أَي: ذُو الإجرام.

26

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: فِيمَا لم نمكنكم فِيهِ أَي: جعلنَا تمكينهم ونعمهم فِي الأَرْض أَكثر وأوسع. وَالْقَوْل الثَّانِي: مكناهم فِيمَا مكناكم فِيهِ، " وَإِن " صلَة.

{فَمَا اغنى عَنْهُم وَلَا أَبْصَارهم وَلَا أفئدتهم من شَيْء إِذْ كَانُوا يجحدون بآيَات الله وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (26) وَلَقَد أهلكنا مَا حَوْلكُمْ من الْقرى وصرفنا الْآيَات لَعَلَّهُم يرجعُونَ (27) فلولا نَصرهم الَّذين اتَّخذُوا من دون الله قربانا آلِهَة بل} وَالْقَوْل الثَّالِث: إِن فِي الْآيَة حذفا، وتقديرها: وَلَقَد مكناكم فِيمَا إِن مكناهم فِيهِ كَانَ عنادكم وعتوكم أَكثر، وَهَذَا هُوَ الْمَحْذُوف. وَقَوله: {وَجَعَلنَا لَهُم سمعا} أَي: أسماعا. وَقَوله: {وأبصارا وأفئدة} أَي: (أعينا) يبصرون بهَا، وَقُلُوبًا يعلمُونَ بهَا. وَقَوله: {فَمَا أغْنى عَنْهُم} أَي: مَا دفعت عَنْهُم وسمعهم وَلَا أَبْصَارهم وَلَا أفئدتهم حَتَّى نزل بهم الْعَذَاب. وَقَوله: {من شَيْء إِذا كَانُوا يجحدون بآيَات الله} أَي: يُنكرُونَ آيَات الله. وَقَوله: {وحاق بهم} أَي: نزل بهم. وَقَوله: {مَا كَانُوا يستهزئون} أَي: جَزَاؤُهُ.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أهلكنا مَا حَوْلكُمْ من الْقرى وصرفنا الْآيَات لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: منَازِل عَاد بِالْيمن، ومنازل ثَمُود، و [مَدَائِن] قوم لوط فِيمَا بَين الْمَدِينَة وَالشَّام، وَقَوله: {وصرفنا الْآيَات} أَي: مرّة عاقبناهم، وَمرَّة أنعمنا عَلَيْهِم، وَيُقَال: خوفناهم مرّة، وأطعمناهم مرّة. وَقَوله: {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: عَن الْكفْر الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ.

28

قَوْله تَعَالَى: {فلولا نَصرهم الَّذين اتَّخذُوا} مَعْنَاهُ: فَهَلا نَصرهم {الَّذين اتَّخذُوا من دون الله قربانا آلِهَة} أَي: منع الْأَصْنَام مِنْهُم عذابنا. وَقَوله: {قربانا} إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ إِن عبادتنا لَهَا تقربنا إِلَى الله.

{ضلوا عَنْهُم وَذَلِكَ إفكهم وَمَا كَانُوا يفترون (28) وَإِذ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ يَسْتَمِعُون الْقُرْآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصتُوا فَلَمَّا قضي ولوا إِلَى قَومهمْ منذرين (29) } وَقَوله: {بل ضلوا عَنْهُم} أَي: ضلوا عَن عبَادَة الْأَصْنَام وَلم تنفعهم أبدا. وَقَوله: {وَذَلِكَ إفكهم وَمَا كَانُوا يفترون} أَي: ذَلِك كذبهمْ وفريتهم.

29

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ} الْآيَة مَعْنَاهُ: وجهنا وُجُوههم إِلَيْك، وَأما سَبَب نزُول الْآيَة: وَهُوَ أَن النَّبِي لما دَعَا كفار مَكَّة إِلَى الْإِسْلَام وأبوا أَن يسلمُوا خرج إِلَى الطَّائِف لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَان، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَكَّة وَكَانَ بِبَطن نَخْلَة، مر عَلَيْهِ أَشْرَاف من جن نَصِيبين وَهُوَ يُصَلِّي صَلَاة الصُّبْح، وَيُقَال: إِنَّهُم رَأَوْهُ بِبَطن نَخْلَة وَهُوَ عَامِد إِلَى عكاظ. وأختلفوا فِي عَددهمْ، فَقَالَ بَعضهم: كَانُوا سَبْعَة نفر. وَقَالَ بَعضهم: كَانُوا تِسْعَة نفر. وَيُقَال: كَانَ فيهم زَوْبَعَة. وَقد ذكر فِي أسمائهم حسى ومسى ويسى وشاصر وناصر، وَالله أعلم. فَلَمَّا سمعُوا قِرَاءَة النَّبِي اجْتَمعُوا لسماعه. وَفِي التَّفْسِير أَيْضا: أَن الْجِنّ كَانُوا يَسْتَمِعُون إِلَى السَّمَاء قبل زمَان النَّبِي؛ فَلَمَّا كَانَ زمَان النَّبِي رموا بِالشُّهُبِ، فَاجْتمعُوا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا لأمر حدث فِي الأَرْض، فَضربُوا فِي الأَرْض يَمِينا وَشمَالًا حَتَّى وجدوا النَّبِي بِبَطن نَخْلَة يُصَلِّي وَيقْرَأ الْقُرْآن وَحَوله الْمَلَائِكَة يحرسونه؛ فعرفوا أَن مَا حدث من الْأَمر كَانَ لأَجله ". وَقَوله: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصتُوا} أَي: أسكت بَعضهم بَعْضًا، وَرُوِيَ أَنه قَالَ بَعضهم لبَعض: صه أَي: اسْكُتُوا. وَقَوله: {فَلَمَّا قضى} مَعْنَاهُ: فَلَمَّا فرغ من الْقِرَاءَة. وَقَوله: {ولوا إِلَى قَومهمْ منذرين} أَي: محذرين، وَيُقَال: ولوا دعاة إِلَى التَّوْحِيد. وَقد قيل: إِن الْجِنّ كَانُوا من جن الْموصل، وَهِي نِينَوَى بَلْدَة يُونُس بن مَتى، وَيُقَال: من حران، وَقيل: غير ذَلِك.

30

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا ياقومنا إِنَّا سمعنَا كتابا أنزل من بعد مُوسَى} فَإِن قيل: كَيفَ

{قَالُوا يَا قَومنَا إِنَّا سمعنَا كتابا أنزل من بعد مُوسَى مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ يهدي إِلَى الْحق وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم (30) يَا قَومنَا أجِيبُوا دَاعِي الله وآمنوا بِهِ يغْفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عَذَاب أَلِيم (31) وَمن لَا يجب دَاعِي الله فَلَيْسَ بمعجز فِي الأَرْض وَلَيْسَ} ذكر من بعد مُوسَى وَلم يذكر عِيسَى، وَعِيسَى نَبِي مثل مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقد آتَاهُ الله الْإِنْجِيل أَيْضا وَهُوَ كِتَابه؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: يحْتَمل أَنهم لم يَكُونُوا سمعُوا بِذكر عِيسَى، وَيحْتَمل أَنهم سمعُوا بِذكر مُوسَى وَعِيسَى جَمِيعًا إِلَّا أَنهم ذكرُوا مُوسَى لِأَنَّهُ أقدم؛ وَلِأَنَّهُ عَامَّة مَا فِي الْإِنْجِيل من الْأَحْكَام مُوَافقَة لما فِي التَّوْرَاة إِلَّا فِي أَشْيَاء مَعْدُودَة. وَقَوله: {مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ} أَي: لما بَين يَدَيْهِ من الْكتب. وَقَوله: {يهدي إِلَى الْحق وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم} أَي: مستو.

31

قَوْله تَعَالَى: {ياقومنا أجِيبُوا دَاعِي الله} أَي: مُحَمَّدًا. {وآمنوا بِهِ} أَي: صدقُوا بِهِ {يغْفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عَذَاب أَلِيم} أَي: النَّار.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَمن لَا يجب دَاعِي الله فَلَيْسَ بمعجز فِي الأَرْض} أَي: لَا يفوت الله وَلَا يسْبقهُ. وَقَوله: {وَلَيْسَ لَهُ من دونه أَوْلِيَاء} أَي: أنصار [يمنعونهم] من الْعَذَاب. وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين} أَي: خطأ بَين، وَفِي الْأَخْبَار: أَن وَفد الْجِنّ ذَهَبُوا وأنذروا قَومهمْ، وعادوا إِلَى النَّبِي بعد مَا أسلم طَائِفَة كَثِيرَة مِنْهُم، وَذهب النَّبِي وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآن وعلمهم الْأَحْكَام، وَفِي حمله عبد الله بن مَسْعُود مَعَ نَفسه اخْتِلَاف كثير، فَروِيَ أَنه لما أَرَادَ أَن يذهب إِلَى الْجِنّ قَالَ: " ليقمْ مِنْكُم معي رجل لَيْسَ فِي قلبه مِثْقَال خَرْدَل من كبر، فَقَامَ عبد الله بن مَسْعُود وَحمله مَعَ نَفسه، وَخط لَهُ خطا وَقَالَ لَهُ: إياك أَن تَبْرَح هَذَا الْخط، وَذهب يُخَاطب الْجِنّ، وَكَانَ هَذَا الِاجْتِمَاع بالحجون، وَهُوَ مَوضِع بِأَعْلَى مَكَّة، فَروِيَ انه لما سمع عبد الله بن مَسْعُود

{لَهُ من دونه أَوْلِيَاء أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين (32) أَو لم يرَوا أَن الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلم يعي بخلقهن بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى بلَى إِنَّه على كل شَيْء قدير} لغظهم وأصواتهم ظن بِالنَّبِيِّ الظنون، فَأَرَادَ أَن يخرج من الْخط، ثمَّ إِنَّه ذكر وَصِيَّة النَّبِي فَلم يخرج، وَذكر ذَلِك للنَّبِي من بعد فَقَالَ: لَو خرجت لم تلقني أبدا ". وَرُوِيَ أَنه رأى بَعضهم وَرَأى آثَار نيرانهم. وَفِي هَذَا كَلَام كثير، وَرِوَايَات مُخْتَلفَة، وَفِي رِوَايَة عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: لم يكن مَعَه منا أحد لَيْلَة الْجِنّ، وَالله أعلم فِي ذَلِك. وَقَالَ أهل الْعلم: فِي الْآيَة دَلِيل على أَن النَّبِي كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس.

33

وَقَوله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَن الله الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلم يعي بخلقهن} أَي: لم يعجز عَن خَلقهنَّ، وَقيل: لم يتعب وَلم ينصب بخلقهن، خلاف مَا قالته الْيَهُود: أَنه تَعب من خَلقهنَّ فاستراح يَوْم السبت. وَقَوله: {بِقَادِر} أَي: قَادر {على أَن يحي الْمَوْتَى} . وَقَوله: {بلَى إِنَّه على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

34

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يعرض الَّذين كفرُوا على النَّار أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} مَعْنَاهُ: يُقَال لَهُم: أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ. وَقَوله: {قَالُوا بلَى وربنا} أَي: نعم. وَقَوله: {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون} أَي: تكفرون بِاللَّه.

35

قَوْله تَعَالَى: {فاصبر كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} أَي: فاصبر على مَا يصيبك من أَذَى الْمُشْركين. وَقَوله: {كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} أَكثر الْمُفَسّرين على أَنهم أَرْبَعَة: نوح، وَإِبْرَاهِيم، ومُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِم السَّلَام، وَقَالَ مقَاتل: أولُوا الْعَزْم، نوح صَبر على

((33} وَيَوْم يعرض الَّذين كفرُوا على النَّار أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (34) فاصبر كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل وَلَا تستعجل لَهُم كَأَنَّهُمْ يَوْم يرَوْنَ مَا يوعدون لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار بَلَاغ فَهَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم) أَذَى قومه، وَإِبْرَاهِيم صَبر على النَّار، وَإِسْحَاق صَبر على الذّبْح، وَيَعْقُوب صَبر على فقد الْوَلَد، ويوسف صَبر على السجْن، وَأَيوب صَبر على الضّر. وَقيل: أولُوا الْعَزْم هم: نوح، وَهود، وَإِبْرَاهِيم. وَفِي الْآيَة قَول آخر وَهُوَ مَعْرُوف: أَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء هم المُرَاد بِالْآيَةِ، وَلَيْسَت " من " للتَّبْعِيض وَإِنَّمَا للتبيين، وَقَالَ من ذهب إِلَى هَذَا القَوْل: لَيْسَ فِي الْأَنْبِيَاء أحد لَيْسَ لَهُ عزم وَلَا حزم وَلَا رأى وَلَا عقل، بل كَانُوا جَمِيعًا بِهَذِهِ الْأَوْصَاف. وَمِنْهُم من قَالَ: أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل: هم الَّذين أمروا بِالْقِتَالِ ومنابذة الْمُشْركين فَقَاتلُوا ونابذوا، وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي قَالَ لَهَا: " مَالِي وللدنيا يَا عَائِشَة، وَإِنَّمَا أمرت ان أَصْبِر كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل، صَبَرُوا على مكروهها، وصبروا على محبوبها أَي: مَكْرُوه الدُّنْيَا ومحبوب الدُّنْيَا وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَمَا فعلوا، وأجتهدن حَتَّى أنال رضَا رَبِّي " وَالْخَبَر غَرِيب. وَالْقَوْل الَّذِي ذَكرْنَاهُ أخيرا ذكره الْكَلْبِيّ وَغَيره، وَفِي قَول هَؤُلَاءِ لَيْسَ آدم من أولي الْعَزْم وَلَا يُونُس صلوَات الله عَلَيْهِمَا. وَقَوله: {وَلَا تستعجل لَهُم} فِي التَّفْسِير: أَن النَّبِي استبطأ عَذَاب الْكفَّار [بعض] الاستبطاء؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَلَا تستعجل لَهُم} وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْم يرَوْنَ مَا يوعدون لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار} وَالْيَوْم الَّذِي يوعدون يَوْم الْقِيَامَة، وَقَوله: {بَلَاغ} أَي: هَذَا بَلَاغ، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْقُرْآن، وَقَرَأَ (أَبُو) مجلز لَاحق بن حميد " بلغ " على وَجه الْأَمر.

{الْفَاسِقُونَ (35) } وَقَوله: {فَهَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الْفَاسِقُونَ} أَي: الْكَافِرُونَ، وَالْفَاسِق: [هُوَ] الْخَارِج عَن طَاعَة الله، وَذَلِكَ الْكَافِر، وَيُقَال: إِن هَذِه الْآيَة أَرْجَى آيَة فِي الْقُرْآن. قَالَ قَتَادَة: لَا يهْلك على الله إِلَّا هَالك، ثمَّ فسر الْهَالِك قَالَ: هُوَ كَافِر ولى الْإِسْلَام ظَهره، أَو مُنَافِق يصف الْإِيمَان بِلِسَانِهِ وينكر بِقَلْبِه.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله أضلّ أَعْمَالهم (1) وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وآمنوا بِمَا نزل على مُحَمَّد وَهُوَ الْحق من رَبهم كفر عَنْهُم سيئاتهم وَأصْلح} تَفْسِير سُورَة مُحَمَّد وَهِي مَدَنِيَّة، وَهَذِه السُّورَة تسمى سُورَة الْقِتَال، وَسورَة الْأَنْفَال تسمى سُورَة الْجِهَاد، وَكَانَ أَصْحَاب رَسُول الله إِذا قَاتلُوا الْعَجم وَغَيرهم بعد رَسُول الله قرءوا هَاتين السورتين بَين الصفين؛ ليحرضوا الْمُسلمين على الْقِتَال.

محمد

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله أضلّ أَعْمَالهم} أَي: أحبط أَعْمَالهم. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نزلت الْآيَة فِي المطعمين يَوْم بدر، وَهُوَ اثْنَا عشر نَفرا، كَانَ كل وَاحِد منم ينْحَر كل يَوْم عشرا من الْجَزُور، هَذَا هُوَ القَوْل الْمَشْهُور، و {أَعْمَالهم} إطعامهم، أحبطها الله تَعَالَى وَلم يقبلهَا مِنْهُم. وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي جَمِيع أهل مَكَّة من الْكفَّار.

2

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وآمنوا بِمَا نزل على مُحَمَّد} القَوْل الْمَشْهُور فِي الْآيَة: أَن المُرَاد بهم الْأَنْصَار، وَقيل: إِنَّه فِي جَمِيع من آمن مَعَ النَّبِي. وَقَوله: {وَهُوَ الْحق من رَبهم} أَي: آمنُوا بِمَا هُوَ الْحق من رَبهم. وَقَوله: {كفر عَنْهُم سيئاتهم وَأصْلح بالهم} أَي: حَالهم، [يُقَال] : مَا بالك وَمَا حالك بِمَعْنى وَاحِد.

3

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَن الَّذين كفرُوا اتبعُوا الْبَاطِل} أَي: ذَلِك الَّذِي فَعَلْنَاهُ من إحباط (أَعمال) الْكفَّار، وَقبُول أَعمال الْمُؤمنِينَ وتكفير سيئاتهم وَإِصْلَاح بالهم، كَانَ بِأَن الَّذين كفرُوا اتبعُوا الْبَاطِل، وَأَن الَّذين آمنُوا اتبعُوا الْحق من رَبهم.

{بالهم (2) ذَلِك بِأَن الَّذين كفرُوا اتبعُوا الْبَاطِل وَأَن الَّذين آمنُوا اتبعُوا الْحق من رَبهم كَذَلِك يضْرب الله للنَّاس أمثالهم (3) فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب حَتَّى إِذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا ذَلِك وَلَو} وَقَوله: {كَذَلِك يضْرب الله للنَّاس أمثالهم} أَي: أَمْثَال سيئات الْكفَّار وحسنات الْمُؤمنِينَ، يُقَال: ضربت لفُلَان مثلا أَي: ذكرت لَهُ نوعا من الْكَلَام لِمَعْنى مَعْلُوم.

4

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب} أَي: فاضربوا الرّقاب، وَضرب الرّقاب جزها وقطعها. وَفِي التَّفْسِير: " أَن قوما من الْمُسلمين كَانَ بَعثهمْ النَّبِي لقِتَال قوم من الْكفَّار، فأحرقوا بعض الْكفَّار؛ فَبلغ النَّبِي فَأنكرهُ، وَقَالَ: " إِنِّي مَا بعثت لأعذب بِعَذَاب الله أحدا ". فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وعلمهم كَيْفيَّة الْقَتْل. وَقَوله: {حَتَّى إِذا أثخنتموهم} الْإِثْخَان: بُلُوغ الْغَايَة فِي النكاية، وَيُقَال: الاستكثار من الْقَتْل. وَقَوله: {فشدوا الوثاق} أَي: فأسروهم وشدوهم. وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيّ كَيفَ نَشد الْأَسير؟ قَالَ: بِحَبل، قيل: هَل نَشد بالقد؟ قَالَ: ذَاك عَظِيم، وَقيل لَهُ: نَشد الْمَرْأَة؟ قَالَ: نعم. وَقَوله: {فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا محكمَة، وَهُوَ الْمَعْرُوف. قَالَ مُجَاهِد وَغَيره: وَالْإِمَام بِالْخِيَارِ فِي الأسرى؛ إِن شَاءَ قتل، وَإِن شَاءَ فَادى، وَإِن شَاءَ من، وَإِن شَاءَ اسْترق، وَحكى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ قَول الشَّافِعِي وَكثير من الْأَئِمَّة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} قَالَه قَتَادَة والسدى وَغَيرهمَا.

{يَشَاء الله لانتصر مِنْهُم وَلَكِن ليبلو بَعْضكُم بِبَعْض وَالَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله فَلَنْ يضل} وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة ناسخة لقَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} ذكره الضَّحَّاك، وَلَا يجوز فِي الْأسر الْقَتْل. وَالْأول أولى الْأَقَاوِيل؛ لِأَنَّهُ قد ثَبت بروايات كَثِيرَة " أَن النَّبِي فَادى كثيرا من الْأُسَارَى، وَمن على كثير من الْأُسَارَى " على مَا ذكر فِي الْكتب الصَّحِيحَة. وَقَوله: {حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا} قَالَ قَتَادَة: حَتَّى لَا يبْقى إِلَّا مُسلم أَو مسالم وَقَالَ سعيد بن جُبَير: حَتَّى ينزل عِيسَى [ابْن مَرْيَم] من السَّمَاء، وَيكسر الصَّلِيب، وَيسلم كل كَافِر. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي يُقَاتلُون على الْحق حَتَّى تقوم السَّاعَة ". وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: " حَتَّى يكون آخر من يُقَاتلُون الدَّجَّال ". وَفِي الْجُمْلَة لَا تضع الْحَرْب أَوزَارهَا مَا بَقِي فِي الْعَالم كَافِر حَرْبِيّ. قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك وَلَو يَشَاء الله لانتصر مِنْهُم} أَي: فانتصر مِنْهُم بجند من الْمَلَائِكَة، أَو بِأَيّ جند أَرَادَ، والانتصار هَاهُنَا هُوَ الانتقام، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَو يَشَاء لم يَأْمُركُمْ بِقِتَال الْكفَّار، وانتقم بِنَفسِهِ مِنْهُم {وَلَكِن ليبلو بَعْضكُم بِبَعْض} أَي: ليبلو الْمُسلمين بالكافرين، والكافرين بِالْمُسْلِمين، مرّة تكون النُّصْرَة للْمُؤْمِنين، وَمرَّة تكون النُّصْرَة للْكَافِرِينَ مثل مَا كَانَ ببدر وَأحد، وَهُوَ تبلية الله كَيفَ يَشَاء لمن يَشَاء. وَقَوله: {وَالَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله} أَي: الشُّهَدَاء.

{أَعْمَالهم (4) سيهديهم وَيصْلح بالهم (5) ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم (6) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تنصرُوا الله ينصركم وَيثبت أقدامكم (7) وَالَّذين كفرُوا فتعسا} وَقَوله: {فَلَنْ يضل أَعْمَالهم} أَي: يثيبهم على أَعْمَالهم.

5

وَقَوله: {سيهديهم وَيصْلح بالهم} أَي: حَالهم.

6

وَقَوله: {ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم} القَوْل الْمَشْهُور أَن مَعْنَاهُ: عرفهم مَنَازِلهمْ، وَمعنى قَوْله: {عرفهَا لَهُم} أَي: بَينا لَهُم، فيكونون أهْدى إِلَى مَنَازِلهمْ من الْقَوْم يعودون من الْجُمُعَة إِلَى دُورهمْ. قَالَ سَلمَة بن كهيل: عرفهم (طرق) مَنَازِلهمْ فِي الْجنَّة. وَيُقَال: عرفهَا لَهُم أَي: طيبها لَهُم. وَقيل: عرفهَا لَهُم أَي: رَفعهَا لَهُم، وَالْعرْف: هُوَ الرّيح. وَفِي الْخَبَر " أَن من أعَان على قتل أَخِيه بِشَطْر كلمة لم يجد عرف الْجنَّة، وَأَن رِيحهَا يُوجد من مسيرَة خَمْسمِائَة عَام ". وَهَذَا القَوْل محكي عَن ابْن عَبَّاس. وَعَن مقَاتل أَنه قَالَ: إِذا حشر الْمُؤمن وَأمر بِهِ إِلَى الْجنَّة يقدمهُ الْملك الَّذِي كَانَ يكْتب عمله وَيَطوف بِهِ فِي الْجنَّة، ويريه مَنَازِله حَتَّى إِذا بلغ أقْصَى مَنَازِله وَرَأى جَمِيعهَا انْصَرف الْملك، وَترك الْمُؤمن فِي قصوره يتنعم فِيهَا كَمَا يَشَاء بِمَا شَاءَ. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: لَا يحْتَاج الْمُؤمن إِلَى دَلِيل إِلَى قصوره ومنازله، بل يكون عَارِفًا بهَا كَمَا يكون عَالما بمنزله فِي الدُّنْيَا.

7

قَوْله تَعَالَى: {ياأيها الَّذين آمنُوا إِن تنصرُوا الله ينصركم} مَعْنَاهُ: إِن تنصرُوا نَبِي الله أَو دين الله ينصركم. والنصرة من الله: هُوَ الْحِفْظ وَالْهِدَايَة. وَعَن قَتَادَة قَالَ: من ينصر الله ينصره، وَمن يسْأَله يُعْطه، وَيُقَال: ينصركم بتغليبكم على عَدوكُمْ وإعلائكم عَلَيْهِم. وَقَوله: {وَيثبت أقدامكم} أَي: فِي الْقِتَال. وَيُقَال: يثبت أقدامكم على الصِّرَاط، وَقد حكى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس.

{لَهُم وأضل أَعْمَالهم (8) ذَلِك بِأَنَّهُم كَرهُوا مَا أنزل الله فأحبط أَعْمَالهم (9) أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم دمر الله عَلَيْهِم وللكافرين}

8

وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا فتعسا لَهُم وأضل أَعْمَالهم} أَي: بعدا لَهُم. والتعس فِي اللُّغَة هُوَ العثور والسقوط. وَقَالَ ثَعْلَب: التعس: الْهَلَاك. قَالَ ابْن السّكيت: التعس أَن [يخر] على وَجهه، والنكس أَن يخر على رَأسه. وَيُقَال: فتعسا لَهُم أَي: شرا لَهُم وتبا لَهُم. وَالَّذِي جَاءَ فِي الْخَبَر " تعس وانتكس "، قد بَينا معنى تعس. وَأما معنى قَوْله: انتكس أَي: انْقَلب أمره وَفَسَد، وَهَذَا على معنى الدُّعَاء. وَقَوله: {وأضل أَعْمَالهم} أَي: أضلّ الله أَعْمَالهم بِمَعْنى: أحبطها، فَإِن قيل: وَأي عمل للْكفَّار حَتَّى يحبطه الله تَعَالَى؟ وَالْجَوَاب: أَنهم كَانُوا يعْملُونَ أعمالا على فضل الْخَيْر والتقرب إِلَى الله تَعَالَى مثل: الصَّدَقَة، وصلَة الرَّحِم، وَالْحج، وَالطّواف، وَمَا أشبه ذَلِك، ويظنون أَن الله تَعَالَى يثيبهم عَلَيْهَا، فَأخْبر الله تَعَالَى أَنه يحبطها بكفرهم.

9

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم كَرهُوا مَا أنزل الله فأحبط أَعْمَالهم} أَي: كَرهُوا نبوة مُحَمَّد وماأنزله الله من الْقُرْآن.

10

قَوْله تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم دمر الله عَلَيْهِم} أَي: أهلكهم بكفرهم. وَقَوله: {وللكافرين أَمْثَالهَا} أَي: لهَؤُلَاء الْكَافرين من سوء الْعَاقِبَة مثل مَا لأولئك الْكفَّار. وَقَوله: {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين أمنُوا} أَي: ولي الَّذين آمنُوا، وَهُوَ كَذَا فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود.

{أَمْثَالهَا (10) ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم (11) إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تختها الْأَنْهَار وَالَّذين كفرُوا} وَقَوله: {وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} أَي: لَا يتولاهم الله تَعَالَى، بِمَعْنى: أَنه لَا يهْدِيهم وَلَا ينصرهم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن عليا رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ ابْن الكوا فَقَالَ: من رب الْعَالمين؟ قَالَ: الله. قَالَ: صدقت قَالَ من مولى النَّاس قَالَ الله قَالَ كذبت، وتلا

11

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَن الله مولى الَّذين آمنُوا وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم} وَعَن قَتَادَة قَالَ: " نزلت الْآيَة فِي حَرْب أحد، فَإِنَّهُ لما فَشَا الْقَتْل والجراحات فِي أَصْحَاب رَسُول الله، وَفعل بِالنَّبِيِّ مَا فعل، نَادَى الْمُشْركُونَ: يَوْم بِيَوْم بدر وَالْحَرب سِجَال، ثمَّ قَالُوا: لنا الْعُزَّى، وَلَا عزى لكم، فَقَالَ: قُولُوا: الله مَوْلَانَا وَلَا مولى لكم، وَلَا سَوَاء؛ قَتْلَانَا فِي الْجنَّة وَقَتلَاكُمْ فِي النَّار ".

12

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَالَّذين كفرُوا يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام} يَعْنِي: لَا يخَافُونَ عقَابا، وَلَا يرجون ثَوابًا. وَقيل: لَيْسَ لَهُم هم إِلَّا التَّمَتُّع وَالْأكل كالأنعام. وَقَوله: {وَالنَّار مثوى لَهُم} أَي: منزل لَهُم.

13

قَوْله تَعَالَى: {وكأين من قَرْيَة} " وكائن من قَرْيَة "، بِالتَّخْفِيفِ. وَأنْشد الْأَخْفَش قَول لبيد: (وكائن رَأينَا من مُلُوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل) وَمَعْنَاهُ: وَكم من أهل قَرْيَة هم أَشد قُوَّة من أهل قريتك الَّتِي أخرجتك أَي: أخرجك أَهلهَا.

{يتمتعون ويأكلون كَمَا تَأْكُل الْأَنْعَام وَالنَّار مثوى لَهُم (12) وكأين من قَرْيَة هِيَ أَشد قُوَّة من قريتك الَّتِي أخرجتك أهلكناهم فَلَا نَاصِر لَهُم (13) أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه كمن زين لَهُ سوء عمله وَاتبعُوا أهواءهم (14) مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون فِيهَا أَنهَار} وَقَوله: {أهلكناهم فَلَا نَاصِر لَهُم} أَي: لم يكن لَهُم أحد يمنعهُم من عذابنا.

14

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه} أَي: على يَقِين من أَمر ربه. وَيُقَال: المُرَاد من الْآيَة مُحَمَّد. وَقَوله: {كمن زين لَهُ سوء عمله} هُوَ أَبُو جهل، وَقيل: الْآيَة فِي جَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار. وَمعنى الْآيَة: أَن الْفَرِيقَيْنِ لَا يستويان، فَحذف هَذَا لفهم الْمُخَاطب، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول: من فعل الْخِيَار سعد، وَمن فعل السَّيِّئَات شقي. ثمَّ يَقُول: أَفَمَن سعد كمن [شقي] ، يَعْنِي: لايكون، وَحذف لفهم الْمُخَاطب. وَقيل: الْألف فِي قَوْله: {أَفَمَن} ألف تَوْقِيف وَتَقْرِير لما علم الْمُخَاطب مِنْهُ. وَقَوله: {وَاتبعُوا أهواءهم} أَي: اتبعُوا أهواءهم فِي اتِّبَاع الْكفْر.

15

قَوْله تَعَالَى: {مثل الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون} فِي قِرَاءَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ: " أَمْثَال الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون " وَالْمعْنَى: صفة الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون أَي: صِفَات الْجنَّة الَّتِي وعد المتقون، وَمَعْنَاهُ: وعد المتقون من (الشّرك) . وَقَوله: {فِيهَا أَنهَار من مَاء غير الْخَيْر آسن} أَي: غير متغير. يُقَال: أسن المَاء يأسن إِذا تغير، وأجن يأجن إِذا تغير أَيْضا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن المَاء يتَغَيَّر بطول الْمكْث، وَمَاء الْجنَّة لَا يتَغَيَّر بطول الْمكْث. وَقَوله: {وأنهار من لبن لم يتَغَيَّر طعمه} أَي: يحمض. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن اللَّبن إِذا مر عَلَيْهِ الزَّمَان يتَغَيَّر ويحمض، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أُوتيت بإناءين لَيْلَة الْمِعْرَاج فِي أَحدهمَا خمر، وَفِي الآخر لبن، فَأخذت اللَّبن وشربته، فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أصبت الْفطْرَة ".

{من مَاء غير آسن وأنهار من لبن لم يتَغَيَّر طعمه وأنهار من خمر لَذَّة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى وَلَهُم فِيهَا من كل الثمرات ومغفرة من رَبهم كمن هُوَ خَالِد فِي النَّار وَسقوا مَاء حميما فَقطع أمعائهم (15) وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك حَتَّى إِذا خَرجُوا من عنْدك} وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا " أَن النَّبِي كَانَ إِذا أكل طَعَاما شكر الله تَعَالَى، وَسَأَلَ [الله] أَن يرزقه خيرا مِنْهُ إِلَّا اللَّبن، فَإِنَّهُ كَانَ إِذا شرب اللَّبن شكر الله تَعَالَى وَلم يقل وارزقنا خيرا مِنْهُ ". وَقَوله: {وأنهار من خمر لَذَّة للشاربين} واللذة: طيبَة النَّفس فِي الشّرْب، وَقد بَينا وصف خمر الْجنَّة قبل هَذَا. وَقَوله: {وأنهار من عسل مصفى} أَي: منقى من الكدر والعكر. وَيُقَال: مصفى من الشمع أَلا يكون فِيهِ شمع. وَقَوله: {وَلَهُم فِيهَا من كل الثمرات} أَي: الْفَوَاكِه. وَقَوله: {ومغفرة من رَبهم} أَي: الْعَفو من رَبهم. وَقَوله: {كمن هُوَ خَالِد فِي النَّار} أَي: من يُعْطي مثل هَذِه النعم يكون حَاله كَحال من هُوَ خَالِد فِي النَّار. وَقَوله: {وَسقوا مَاء حميما} الْحَمِيم: هُوَ المَاء الَّذِي تناهى فِي الْحر، وَفِي التَّفْسِير: أَنه مَاء سعرت عَلَيْهِ نيران جَهَنَّم مُنْذُ خلقت، فَإِذا قربه الْكَافِر إِلَى وَجهه للشُّرْب شوى وَجهه، وَسَقَطت جلدَة وَجهه وفروة رَأسه.

{قَالُوا للَّذين أُوتُوا الْعلم مَاذَا قَالَ آنِفا أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وأهواءهم} وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا شرب الْكَافِر الْحَمِيم؛ قطع أمعاءه فَخرجت من دبره، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: {وَسقوا مَاء حميما فَقطع أمعاءهم} . وَفِي بعض الحكايات عَن مُحَمَّد بن عبيد الله الْكَاتِب قَالَ: رجعت من مَكَّة فمررت بطيزناباد وَهُوَ مَوضِع بَين الْكُوفَة وبغداد فَرَأَيْت كرما فِيهِ عِنَب كثير، فَذكرت قَول أبي نواس: (بطيزناباد كرم مَا مَرَرْت بِهِ ... إِلَّا تعجبت (مِمَّن) يشرب المَاء) فَسمِعت قَائِلا يَقُول أسمع صَوته وَلَا أرَاهُ: (وَفِي الْجَحِيم حميم مَا تجرعه ... خلق فأبقى لَهُ فِي الْبَطن أمعاء)

16

قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك} يَعْنِي: وَمن الْكفَّار من يستمع إِلَيْك أَي: يستمع إِلَى قَوْلك. وَقَوله: {حَتَّى إِذا خَرجُوا من عنْدك قَالُوا للَّذين أُوتُوا الْعلم} قَالَ عبد الله بن بُرَيْدَة وَجَمَاعَة: هُوَ عبد الله بن مَسْعُود، وَقيل: إِنَّه أَبُو الدَّرْدَاء. وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَنه جَمِيع أَصْحَاب رَسُول الله. وَقَوله: {مَاذَا قَالَ آنِفا} أَي: مَاذَا قَالَ الْآن صَاحبكُم؟ وآنفا: قَرِيبا، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء يَعْنِي: إِنَّا شغلنا عَن سَماع كَلَامه، فَمَاذَا قَالَ؟ وَقَوله: {أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم} أَي: ختم الله على قُلُوبهم، وَلم يهدهم لقبُول قَول رَسُوله. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْخَتْم على الْقلب (من) فهم القَوْل.

((16} وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17) فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة فقد جَاءَ أشراطها فَأنى لَهُم إِذا جَاءَتْهُم ذكراهم (18) فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا) وَقَوله: {وَاتبعُوا أهوائهم} أَي: هواهم. وَالْمرَاد من الْآيَة وفائدتها: هُوَ منع الْمُسلمين أَن يَكُونُوا مثل هَؤُلَاءِ، وَبَيَان حَالهم للْمُؤْمِنين.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى} أَي: زادهم بَيَانا ورشدا، وَيُقَال: زادهم هدى أَي: الْعَمَل بالناسخ بعد الْعَمَل بالمنسوخ، وَيُقَال: الْأَخْذ بالعزائم بعد الْعَمَل بالرخص. وَقَوله: {وآتاهم تقواهم} أَي: جَزَاء تقواهم.

18

قَوْله تَعَالَى: {فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة} أَي: فَهَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة أَي: تجيئهم فَجْأَة. وَقَوله: {فقد جَاءَ أشراطها} أَي: علاماتها. وَفِي التَّفْسِير: أَن قَوْله: {فقد جَاءَ أشراطها} هُوَ مُحَمَّد. وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: " بعثت والساعة كهاتين، وَأَشَارَ إِلَى السبابَة وَالْوُسْطَى فَسَبَقتهَا كَمَا سبقت هَذِه " وَفِي رِوَايَة: كَادَت تسبقني. وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي أول أَشْرَاط السَّاعَة عَن بعض الْأَخْبَار " أَن أول أَشْرَاط السَّاعَة طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، وَحِينَئِذٍ يغلق بَاب التَّوْبَة، و {لَا ينفع نفسا إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل} على مَا قَالَ الله تَعَالَى ". وَفِي خبر آخر: " أَن

{الله واستغفر لذنبك للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات وَالله يعلم متقلبكم ومثواكم (19) وَيَقُول} أول أَشْرَاط السَّاعَة نَار تخرج من الْمشرق فتسوق النَّاس إِلَى الْمغرب ". وَيُقَال: " أول أشراطها خُرُوج الدَّابَّة "، وَفِي الْأَخْبَار: [أَن] هَذِه الأشراط تكون فِي مُدَّة قريبَة، ويتتابع بَعْضهَا فِي إِثْر بعض ". وَقيل: " كلؤلؤ العقد إِذا انحل نظامه، كَانَ بعضه فِي إِثْر بعض ". وَقَوله: {فَأنى لَهُم إِذا جَاءَتْهُم ذكراهم} مَعْنَاهُ: فَأَيْنَ لَهُم المفر والملجأ إِذا جَاءَهُم مَا يذكرهم؟ يَعْنِي: إِذا عاينوا الْأَمر وَحَضَرت هَذِه الأشراط. وَقَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: " فَأنى لَهُم إِذا جَاءَتْهُم " أَي: السَّاعَة " ذكراهم " أَي: أَنى لَهُم التَّذَكُّر؟ أَي: مَنْفَعَة التَّذَكُّر لَو طلبوه إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة، وَالْمَقْصُود فَوَات مَنْفَعَة التَّذَكُّر عِنْد حُضُور الْأَمر.

19

قَوْله تَعَالَى: {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله وَقد علم؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ الثَّبَات على الْعلم لَا ابْتِدَاء الْعلم. وَالثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: فاذكر أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله، فَعبر عَن الذّكر بِالْعلمِ لحدوثه عِنْده. وَيُقَال: الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة.

وَقَوله: {واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} قد ثَبت بِرِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم سبعين مرّة "، وَفِي رِوَايَة: " مائَة مرّة ". فَإِن قيل: كَيفَ أمره بالاستغفار وَكَانَ مَعْصُوما من الذُّنُوب؟ وَالْجَوَاب: أَنه كَانَ لَا يَخْلُو من الْخَطَأ والزلل وَبَعض الذُّنُوب الَّتِي هِيَ من الصَّغَائِر، فَأمره الله تَعَالَى بالاستغفار مِنْهَا، وَأمره بالاستغفار للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات، وَكَانَ يَدْعُو لَهُم ويستغفر لَهُم. وَفِي الْمَشْهُور من الْخَبَر أَن النَّبِي لما ابْتَدَأَ بِهِ الْمَرَض الَّذِي توفى فِيهِ خرج إِلَى أحد، واستغفر لشهداء أحد، ثمَّ اسْتغْفر للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات " ... وَالْخَبَر فِيهِ طول. وَقَوله: {وَالله يعلم متقلبكم ومثواكم} أَي: منصرفكم وَمَوْضِع مقامكم، وَيُقَال: متقلبكم بِالنَّهَارِ ومثواكم بِاللَّيْلِ. وَقيل: متقلبكم ومثواكم أَي: يعلم جَمِيع مَا أَنْتُم عَلَيْهِ فِي جَمِيع أحوالكم. وَيُقَال: يعلم متقلبكم أَي: منصرفكم فِي الدُّنْيَا، ومثواكم أَي: منقلبكم فِي الْآخِرَة، وَإِمَّا إِلَى الْجنَّة، وَإِمَّا إِلَى النَّار. وَقد ثَبت بِرِوَايَة حمْرَان عَن عُثْمَان أَن رَسُول الله قَالَ: " من مَاتَ وَهُوَ يعلم أَن لاإله إِلَّا الله دخل الْجنَّة

{الَّذين آمنُوا لَوْلَا نزلت سُورَة فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة وَذكر فِيهَا الْقِتَال رَأَيْت الَّذين} وَعَن عبيد بن الْمُغيرَة قَالَ: قَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان: قَوْله: {واستغفر لذنبك وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} ثمَّ قَالَ: كنت رجلا ذرب اللِّسَان على أَهلِي فَقلت: يارسول الله، إِنِّي أَخَاف أَن يدخلني لساني النَّار. فَقَالَ: أَيْن أَنْت [من] الاسْتِغْفَار؟ إِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " خير الْعَمَل لَا إِلَه إِلَّا الله، وَخير الدُّعَاء أسْتَغْفر الله ". وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الرجل إِذا اسْتغْفر للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات رد الله تَعَالَى عَلَيْهِ عَن كل مُؤمن ومؤمنة ".

20

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُول الَّذين آمنُوا لَوْلَا نزلت سُورَة} أَي: هلا أنزلت سُورَة، وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يأنسون بِالْوَحْي إِذا نزل ويستبطئونه إِذا تَأَخّر. وَقَوله: {فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة} وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " محدثة " وَفِي قَوْله: {محكمَة} وَجْهَان: أَحدهمَا: محكمَة أَي: محكمَة بِذكر الْجِهَاد والقتال مَعَ الْكفَّار، وَالْجهَاد والقتال أَشد الْأَوَامِر على النَّفس.

{فِي قُلُوبهم مرض ينظرُونَ إِلَيْك نظر المغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت فَأولى لَهُم (20) طَاعَة وَقَول مَعْرُوف فَإِذا عزم الْأَمر فَلَو صدقُوا الله لَكَانَ خيرا لَهُم (21) فَهَل عسيتم إِن} وَالْوَجْه الثَّانِي: محكمَة بالأوامر والنواهي. وَقَوله: {رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض} أَي: نفاق، فَإِن قيل: كَيفَ أخبر عَن الْمُؤمنِينَ فِي ابْتِدَاء الْآيَة ثمَّ قَالَ: {رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض} وهم المُنَافِقُونَ، وَالْمُنَافِق لَا يكون مُؤمنا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن فِي الْآيَة حذفا، وَمَعْنَاهُ: فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة وَذكر فِيهَا الْقِتَال، فَرح الْمُؤْمِنُونَ واستأنسوا بهَا. و {رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض ينظرُونَ إِلَيْك نظر المغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت} أَي: شخصوا بِأَبْصَارِهِمْ نَحْوك، ونظروا نظرا شَدِيدا، شبه الشاخص بَصَره عِنْد الْمَوْت، وَإِنَّمَا أَصَابَهُم مثل هَذَا؛ لأَنهم إِن قَاتلُوا خَافُوا الْهَلَاك، وَإِن لم يقاتلوا خَافُوا ظُهُور النِّفَاق. وَالْآيَة فِي عبد الله بن أبي سلول، وَرِفَاعَة بن الْحَارِث، وَسَائِر الْمُنَافِقين. وَقَوله: {فَأولى لَهُم} هَذَا وَعِيد وتهديد. قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ لمن كرهها، وَالْعرب تَقول لمن قرب من عطب وَنَجَا: أولى لَك، ويريدون بِهِ تحذيره من مثل ذَلِك. وَعَن مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة أَنه كَانَ إِذا مَاتَ ميت بعقوته أَي: بِقرب مِنْهُ، قَالَ لنَفسِهِ: أولى لَك، كدت تكون السوَاد المخترم.

21

وَقَوله: {طَاعَة وَقَول مَعْرُوف} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: قُولُوا آمنا طَاعَة وَقَول مَعْرُوف. وَالْقَوْل الْمَعْرُوف هُوَ الْإِجَابَة بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {طَاعَة وَقَول مَعْرُوف} أَي: طَاعَة وَقَول مَعْرُوف أحسن وأميل لَهُم. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن هَذِه حِكَايَة مِنْهُم قبل نزُول آيَة الْقِتَال، كَانُوا يَقُولُونَ على هَذَا الْوَجْه فَإِذا نزلت آيَة الْقِتَال كَرهُوا وجزعوا. وَيُقَال: وَقَوله: {طَاعَة وَقَول مَعْرُوف}

{توليتم أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم (22) أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أَبْصَارهم (23) أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها (24) إِن} اعْتِرَاض فِي الْكَلَام المنسوق على الأول. وَقَوله: {فَإِذا عزم الْأَمر فَلَو صدقُوا الله لَكَانَ خيرا لَهُم} وَمعنى قَوْله: {فَإِذا عزم الْأَمر} أَي: جهد الْأَمر وَلزِمَ فرض الْقِتَال. {فَلَو صدقُوا الله} أَي: لَو وفوا بِمَا وعدوه من الْجِهَاد، وَقَابَلُوا أَمر الله بالامتثال لَكَانَ خيرا لَهُم.

22

قَوْله تَعَالَى: {فَهَل عسيتم إِن توليتم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِن توليتم ولَايَة أَي: كَانَت لكم ولَايَة. وَالثَّانِي: إِن توليتم عَن الْإِيمَان بالرسول وَبِالْقُرْآنِ أَي: أعرضتم، فَهَل يكون مِنْكُم سوى أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم؟ وَقيل على القَوْل الأول: أَنه قد كَانَ هَذَا فِي صدر الْإِسْلَام؛ فَإِن قُريْشًا لما توَلّوا الْأَمر أفسدوا فِي الأَرْض وَقَطعُوا الْأَرْحَام، وَذَلِكَ من قتل بني هَاشم قُريْشًا، وَقتل قُرَيْش بني هَاشم.

23

وَقَوله: {أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله} أَي: طردهم الله. وَقَوله: {فأصمهم} أَي: جعلهم بِمَنْزِلَة الصم. وَقَوله: {وأعمى أَبْصَارهم} أَي: بِمَنْزِلَة الْعَمى.

24

قَوْله تَعَالَى: {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها} التَّدْبِير: هُوَ التفكر وَالنَّظَر فِيمَا يؤول إِلَيْهِ عَاقِبَة الْأَمر. وَقَوله: {أم على قُلُوب أقفالها} مَعْنَاهُ: بل على قُلُوب أقفالها، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز، فَذكر القفل بِمَعْنى انغلاق الْقلب عَن فهم الْقُرْآن. وَفِي التَّفْسِير: " أَن النَّبِي كَانَ يقرئ شَابًّا هَذِه الْآيَة، فَقَالَ ذَلِك الشَّاب: بل على قُلُوب أقفالها حَتَّى يفتحها الله، فَقَالَ النَّبِي لَهُ: صدقت ". وَعَن بَعضهم: مثل قفل الْحَدِيد على الْبَاب.

25

وَقَوله: {إِن الَّذين ارْتَدُّوا على أدبارهم من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى} الْهدى هُوَ

{الَّذين ارْتَدُّوا على أدبارهم من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُم وأملى لَهُم (25) ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا للَّذين كَرهُوا مَا نزل الله سنعطيكم فِي بعض الْأَمر وَالله يعلم إسرارهم (26) فَكيف إِذا توفتهم الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم (27) ذَلِك} الْبَيَان الْمُؤَدِّي إِلَى الْحق. وَقَوله: {الشَّيْطَان سَوَّلَ لَهُم} أَي: زين لَهُم. وَقَوله: {وأملى لَهُم} أَي: أمهلهم بِالْمدِّ لَهُم فِي الْعُمر، وَهُوَ رَاجع إِلَى الله تَعَالَى وَمَعْنَاهُ: وأملى لَهُم الله تَعَالَى، وَقُرِئَ: " وأملي لَهُم " على مالم يسم فَاعله، وَقُرِئَ فِي الشاذ " وأملي لَهُم " بتسكين الْيَاء، أَي: وَأَنا أملي لَهُم.

26

وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا للَّذين كَرهُوا مَا أنزل الله} فِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه قَول الْيَهُود لِلْمُنَافِقين، قَالُوا لِلْمُنَافِقين: سنطيعكم فِي بعض الْأَمر أَي: فِي كتمان صفة مُحَمَّد مَعَ علمنَا بِأَنَّهُ رَسُول. وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهر أَنه قَول الْمُنَافِقين للْيَهُود. وَقَوله: {كَرهُوا مَا أنزل الله} هم الْيَهُود، وَإِنَّمَا كَرهُوا حسدا وبغيا. وَقَوله: {سنطيعكم فِي بعض الْأَمر} أَي: فِي بغض مُحَمَّد والعداوة مَعَه. وَقَوله: {وَالله يعلم إسرارهم} أَي: مَا أسر بَعضهم إِلَى بعض، وَهَذَا القَوْل أولى؛ لِأَن الْآيَات الْمُتَقَدّمَة فِي الْمُنَافِقين.

27

قَوْله تَعَالَى: {فَكيف إِذا توفتهم الْمَلَائِكَة يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم} أَي: يضْربُونَ وُجُوههم عِنْد الْمَوْت بصحائف الْكفْر، وَقيل: فِي الْقِيَامَة. وَقَوله: {وأدبارهم} أَي: يضْربُونَ أدبارهم عِنْد سوقهم إِلَى النَّار، وَهَذَا فِي الْقِيَامَة. وَفِي بعض التفاسير: مامن عَاص يَمُوت إِلَّا وتضرب الْمَلَائِكَة وَجهه وَدبره عِنْد إِدْخَاله الْقَبْر.

{بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم أم حسب الَّذين فِي قُلُوبهم مرض أَن لن يخرج الله أضغانهم وَلَو نشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل وَالله يعلم أَعمالكُم ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين}

28

قَوْله تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعمالكُم أَي: أبطلها، وَقد بَينا مَعْنَاهُ من قبل.

29

قَوْله تَعَالَى: {أم احسب الَّذين فِي قُلُوبهم مرض أَن لن يخرج الله أضغانهم} الأضغان: جمع ضغن، وَهُوَ بِمَعْنى: الحقد والغل والغش، وَمعنى الْآيَة: أَي: أَحسب المُنَافِقُونَ وَالْكفَّار أَن لن يظْهر مَا فِي قُلُوبهم لرَسُوله وَلِلْمُؤْمنِينَ. قَالَ الشَّاعِر فِي الضغن: (قل (لأبي) هِنْد مَا أردْت بمنطق ... سَاءَ الصّديق (وسود) الأضغان) أَي: الأحقاد.

30

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ} أَي: لعرفناهم إياك. وَقَوله: {فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ} أَي: جعلنَا لَهُم فِي وُجُوههم سمة تعرفهم بهَا. وَقَوله: {ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل} أَي: فِي فحوى القَوْل ومقصده ومغزاه. وَعَن بَعضهم: قَول الْإِنْسَان وَفعله دَلِيل على نِيَّته. وَيُقَال: لحن فِي القَوْل إِذا ترك الصَّوَاب، واللحن هَاهُنَا: هُوَ قَول يفهم الْمُخَاطب مَعْنَاهُ مَعَ إخفاء الْقَائِل المُرَاد فِيهِ، قَالَ الشَّاعِر: (منطق صائب ويلحن أَحْيَانًا ... وَخير القَوْل مَا كَانَ لحا) وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " إِنَّكُم لتختصمون إِلَيّ، وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَلحن بحجته من بعض " أَي: أفطن. وَعَن بَعضهم: عجبت لمن يعرف لحن الْكَلَام كَيفَ يكذب. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يخف مُنَافِق بعد هَذِه الْآيَة على رَسُول الله، وَكَانَ

{مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ ونبلو أخباركم (31) إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله وشاقوا الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى لن يضروا لله شَيْئا وسيحبط أَعْمَالهم (32) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم (33) إِن الَّذين} يعرفهُمْ فِي لحن كَلَامهم. وَقَوله تَعَالَى: {وَالله يعلم أَعمالكُم} يَعْنِي: الَّتِي تعملونها.

31

قَوْله تَعَالَى: {ولنبلونكم حَتَّى نعلم الْمُجَاهدين مِنْكُم} أَي: نعلم علم الشَّهَادَة، وَهُوَ الْعلم الَّذِي يَقع عَلَيْهِ الْوَعْد والوعيد. وَيُقَال: [لنعاملكم] مُعَاملَة من يُرِيد أَن يعلم أَعمالكُم. وَيُقَال مَعْنَاهُ: حَتَّى تعلمُوا أَنا علمنَا أَعمالكُم. وَقَوله: {وَالصَّابِرِينَ ونبلوا أخباركم} أَي: نعلم الصابرين، ونعلم أخباركم. وَكَانَ مُجَاهِد إِذا بلغ إِلَى هَذِه الْآيَة قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك أَن لَا تبلو أخبارنا فَإنَّا نفتضح.

32

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله} أَي: منعُوا النَّاس عَن الْإِيمَان بِاللَّه. وَقَوله: {وشاقوا الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى} أَي: خالفوا الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُم الْهدى. وَقَوله: {لن يضروا الله شَيْئا} أَي: ينقصوا الله شَيْئا. وَقَوله: {وسيحبط أَعْمَالهم} أَي: يبطل أَعْمَالهم.

33

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} عَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ أَي: الصَّحَابَة لن يضر مَعَ الْإِيمَان شَيْء كَمَا لَا ينفع مَعَ الْكفْر شَيْء، حَتَّى أنزل الله تَعَالَى هَذِه لآيَة: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} بِالشَّكِّ والنفاق، وَيُقَال: بالمكر وَالْخداع، وَالْمَعْرُوف بالكبائر.

{كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ مَاتُوا وهم كفار فَلَنْ يغْفر الله لَهُم (34) فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم وَأَنْتُم الأعلون وَالله مَعكُمْ وَلنْ يتركم أَعمالكُم (35) إِنَّمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو وَإِن تؤمنوا وتتقوا يُؤْتكُم أجوركم وَلَا يسألكم أَمْوَالكُم (36) إِن}

34

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ مَاتُوا وهم كفار فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} ظَاهر الْمَعْنى.

35

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم} أَي: (لَا تضعفوا) . وَقَوله: {وَتَدعُوا إِلَى السّلم} أَي: إِلَى الصُّلْح، نهى الله تَعَالَى الْمُسلمين أَن يطلبوا الصُّلْح مَعَ الْكفَّار إِذا أمكنهم الْقِتَال. وَقَوله: {وَأَنْتُم الأعلون} أَي: الغالبون القاهرون. وَقَوله تَعَالَى: {وَالله مَعكُمْ} أَي: بالنصرة وَالْحِفْظ. وَقَوله تَعَالَى: {وَلنْ يتركم أَعمالكُم} أَي: لن ينقصكم من ثَوَاب أَعمالكُم شَيْئا، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مامن سَاعَة تمر على العَبْد الْمُسلم لَا يذكر الله فِيهَا إِلَّا كَانَت عَلَيْهِ ترة يَوْم الْقِيَامَة " أَي: نقص.

36

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاة لدُنْيَا لعب وَلَهو} أَي: مَا يلهى ويلعب بِهِ. وَقَوله: {وَإِن تؤمنوا وتتقوا يُؤْتكُم أجوركم وَلَا يسألكم أَمْوَالكُم} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: وَلَا يسألكم جَمِيع أَمْوَالكُم، إِنَّمَا يسألكم قدر الزَّكَاة، وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَالْقَوْل الثَّانِي: لَا يسألكم أَمْوَالكُم لنَفسِهِ، إِنَّمَا يسألكم لكم. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَلَا يسألكم أَمْوَالكُم؛ لِأَنَّهَا لَيست لكم فِي الْحَقِيقَة، إِنَّمَا هِيَ لَهُ.

{يسألكموها فيحفكم تبخلوا وَيخرج أضغانكم (37) هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ تدعون لتنفقوا فِي}

37

وَقَوله تَعَالَى: {إِن يسألكموها فيحفكم} أَي: يُبَالغ فِي مسألتكم، وَيُقَال: يلح عَلَيْكُم ويجهدكم. وَفِي بعض أَمْثَال الْعَرَب: لَيْسَ للسَّائِل المحفي مثل منع (الْخَامِس) . وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " إِن الله يحب الْحَيِي الْمُتَعَفِّف، وَيبغض السَّائِل الْمُلْحِف ". قَوْله {تبخلوا} أَي: تمنعوا 1850 وَقَوله: {وَيخرج أضغانكم} أَي: وَيخرج الإحفاء أضغانكم، وَيظْهر مَا فِي بواطنكم من الْبُخْل والإمساك والنفاق وَالشَّكّ. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أخبر تقله " أَي: أخبر الْإِنْسَان ببغضه، وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: " أَقَله بِخَبَر، يَعْنِي: ابغضه، فَهُوَ المختبر. وَفِي بعض الحكايات أَن مخارقا غَنِي لِلْمَأْمُونِ.

{سَبِيل الله فمنكم من يبخل وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه وَالله الْغَنِيّ وَأَنْتُم الْفُقَرَاء وَإِن تنولوا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ ثمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم (38) .} (إِنِّي لمشتاق إِلَى ظلّ صَاحب ... يرق ويصفو إِن كدرت عَلَيْهِ) فَقَالَ الْمَأْمُون: خُذ مني الْخلَافَة وأتني بِهَذَا الصاحب.

38

قَوْله تَعَالَى: {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ} أَي: ياهؤلاء {تدعون لتنفقوا فِي سَبِيل الله} أَي: فِي الْجِهَاد. وَقَوله: {فمنكم من يبخل} أى يمْنَع. وَقَوله {وَمن يبخل فإنماعن نَفسه} أَي: يفوت حَظّ نَفسه. وَقَوله: {وَالله الْغَنِيّ وَأَنْتُم الْفُقَرَاء} أَي: الْغَنِيّ عَنْكُم، وَأَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَيْهِ. وَقَوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ} أَي: إِن تعرضوا. وَقَوله: {قوما غَيْركُمْ} فِيهِ أَقْوَال أَحدهَا: مَلَائِكَة السَّمَاء، وَهَذَا أَشد الْأَقْوَال. وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن تَتَوَلَّوْا يامعشر قُرَيْش يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ أَي: أهل الْيمن، وَقد كَانَ الْأَنْصَار مِنْهُم، فَإِن الْأَوْس والخزرج حَيَّان من الْيمن، وَقد قَالَ الشَّاعِر: (وَللَّه أَوْس آخَرُونَ وخزرج ... ) وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَإِن تَتَوَلَّوْا يَا معشر الْعَرَب يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ أَي: الْعَجم. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: أَن قوما سَأَلُوا النَّبِي عَن معنى هَذِه الْآيَة وَقَالُوا: من الَّذين يستبدلهم بِنَا؟ وَكَانَ سالما جَالِسا بجنبه فَقَالَ: هَذَا وَقَومه ثمَّ قَالَ: " لَو كَانَ الدّين مُعَلّقا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رجال من فَارس ". وَقَوله: {ثمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم} أَي: يَكُونُوا خيرا مِنْكُم وأطوع لي، وَمَعْنَاهُ: لايكونوا أمثالكم فِي مُخَالفَة الْأَوَامِر، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا (1) ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر وَيتم نعْمَته} تَفْسِير سُورَة الْفَتْح وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَوْلهم جَمِيعًا، وَعَن بَعضهم: انها نزلت بَين مَكَّة وَالْمَدينَة عِنْد مُنْصَرفه من الْحُدَيْبِيَة، قَالَه مسور بن مخرمَة ومروان وَغَيرهمَا. وروى مَالك عَن زيد بن أسلم، عَن ابيه، عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله فِي سفر فَقَالَ: " لقد انزلت البارحة عَليّ سُورَة هِيَ أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ثمَّ قَرَأَ: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} أخرجه البُخَارِيّ عَن (القعْنبِي) عَن مَالك. وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لما انصرفنا من مَكَّة وَقد منعنَا من نسكنا، وبنا من الْحزن والكآبة شَيْء عَظِيم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، فَقَالَ النَّبِي: " هِيَ أحب إِلَيّ من جَمِيع الدُّنْيَا ".

الفتح

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} أَي: قضينا لَك قَضَاء بَينا. وَمعنى الْقَضَاء هُوَ الحكم بالنصرة على الْأَعْدَاء، وَالْفَتْح فِي اللُّغَة هُوَ انفتاح المنغلق، وَقيل: هُوَ الْفَرح المزيل الْهم، وَمِنْه انفتاح الْمَسْأَلَة، وَهُوَ انكشاف الْبَيَان الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى البغية، وَأما معنى مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم الْفَتْح، فالأكثرون من الْعلمَاء والمفسرين على أَنه صلح الْحُدَيْبِيَة، فَإِن قيل: كَيفَ يكون الصُّلْح فتحا؟ وَإِن كَانَ فتحا للْمُسلمين فَهُوَ فتح للْكفَّار أَيْضا؛ لِأَن الصُّلْح يشْتَمل على الْجَانِبَيْنِ، وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه قد أشكل هَذَا على عمر، " فَإِنَّهُ لما أنزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، قَالَ عمر: يَا رَسُول الله، أفتح هُوَ؟

قَالَ: نعم ". وَقيل: إِنَّه أعظم فتح كَانَ فِي الْإِسْلَام؛ لِأَنَّهُ لما صَالح مَعَ الْمُشْركين ووداعهم فَكَانَ قد صَالح على وضع الْحَرْب عشر سِنِين، فاختلط الْمُشْركُونَ مَعَ الْمُسلمين بعد ذَلِك، وسمعوا الْقُرْآن، وَرَأَوا مَا عَلَيْهِ رَسُول الله وَأَصْحَابه فرغبوا فِي الْإِسْلَام، وَأسلم فِي مُدَّة الصُّلْح من الْمُشْركين أَكثر مِمَّا كَانَ أسلم فِي مُدَّة الْحَرْب، وَكثر سَواد الْإِسْلَام، وَأسلم فِي هَذِه الْمدَّة: خَالِد بن الْوَلِيد، وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَعُثْمَان بن طَلْحَة الْعَبدَرِي، وَكثير من وُجُوه الْمُشْركين، وَقد كَانَ فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة بيعَة الرضْوَان، ووعد فتح خَيْبَر وَظُهُور الرّوم على الْفرس، وَكَانَ ذَلِك من معجزات الرَّسُول، وَكَانَ ذَلِك مِمَّا سر الْمُسلمين وساء الْمُشْركين؛ لِأَن الْمُسلمين كَانُوا يودون ظُهُور أهل الْكتاب، وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يودون ظُهُور الْفرس والعجم فحقق الله مَا يوده الْمُسلمُونَ وَكَانَ الْمُشْركُونَ قَالُوا حِين ظَهرت الْفرس على الرّوم: كَمَا ظهر الْفرس على الرّوم كَذَلِك نَحن نظهر عَلَيْكُم، فحين أظهر الله الرّوم على الْفرس كَانَ ذَلِك عَلامَة لظُهُور الْمُسلمين على الْمُشْركين. وَقيل فِي الْحُدَيْبِيَة: هُوَ إِبَاحَة الْحلق والنحر قبل بُلُوغ الْهَدْي مَحَله، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن المُرَاد من الْفَتْح هُوَ فتح مَكَّة، وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى وعده فتح مَكَّة فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة.

2

قَوْله تَعَالَى: {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} قَالَ ثَعْلَب مَعْنَاهُ: كي يغْفر الله لَك، فَاللَّام بِمَعْنى كي، قَالَ: وَحَقِيقَة الْمَعْنى هُوَ أَنه يجمع لَك الْمَغْفِرَة مَعَ الْفَتْح، فَيتم عَلَيْك النِّعْمَة بهَا. وَقَالَ أَبُو حَاتِم السجسْتانِي النَّحْوِيّ: معنى قَوْله: {ليغفر لَك الله} أَي: ليغفرن الله لَك، فَلَمَّا أسقط النُّون خفض اللَّام. وَقَوله: {مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} أَي: مَا تقدم من ذَنْبك قبل زمَان النُّبُوَّة، وَمَا تَأَخّر عَن زمَان النُّبُوَّة، وَقيل: مَا تقدم من ذَنْبك قبل الْفَتْح، وَمَا تَأَخّر عَن الْفَتْح. وَعَن الثَّوْريّ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا يكون مالم تَفْعَلهُ، وَأَنت فَاعله، فَكَأَنَّهُ غفر لَهُ قبل الْفِعْل.

{عَلَيْك ويهديك صراطا مُسْتَقِيمًا (2) وينصرك الله نصرا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أنزل} فَإِن قَالَ قَائِل: وَأي ذَنْب كَانَ لَهُ؟ قُلْنَا: الصَّغَائِر، وَقد كَانَ مَعْصُوما من الْكَبَائِر. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَنه كَانَ متعبدا قبل النُّبُوَّة بشريعة إِبْرَاهِيم فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق والعبادات والمعاملات وَغير ذَلِك، وَكَانَ قد تزوج خَدِيجَة وَهِي مُشركَة، وَكَذَلِكَ زوج ابْنَته رقية من عتبَة بن أبي لَهب وَهُوَ مُشْرك، و [كَذَلِك] زوج ابْنَته زَيْنَب من [أبي] الْعَاصِ بن الرّبيع وَكَانَ مُشْركًا فَهَذِهِ ذنُوبه قبل النُّبُوَّة، وَقد غفرها الله تَعَالَى لَهُ، وَكَانَ ذَلِك مِنْهُ لَا على طَرِيق الْقَصْد. وَقد ثَبت عَن النَّبِي " أَنه صلى حَتَّى تورمت قدماه، فَقيل لَهُ: أتفعل هَذَا وَقد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر؟ فَقَالَ: أَفلا أكون عبدا شكُورًا. وَذكر الدمياطي فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس: أَن سبّ نزُول الْآيَة هُوَ أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: {وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} شمت بِهِ الْمُشْركُونَ وَالْيَهُود، وَقَالُوا: هَذَا رجل لَا يدْرِي مَا يفعل بِهِ وَلَا بِأَصْحَابِهِ، فَكيف ندخل فِي دينه؟ وَقَالَ عبد الله بن أبي بن سلول الْأنْصَارِيّ: أتدخلون فِي دين رجل وَهُوَ لَا يدْرِي مَا يفعل بِهِ، فَحزن الْمُسلمُونَ لذَلِك حزنا شَدِيدا، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} الْآيَة، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: هَنِيئًا لَك يَا رَسُول الله، فَكيف أمرنَا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {ليدْخل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} . وَقَوله: {وَيتم نعْمَته عَلَيْك} أَي: (يتم) نعْمَته عَلَيْك بالنصر على الْأَعْدَاء

{السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم وَللَّه جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض} وبالإرشاد إِلَى شرائع الْإِسْلَام، وَقد أول الْفَتْح الْمَذْكُور فِي الْآيَة بالإرشاد إِلَى الْإِسْلَام. وَقَوله: {ويهديك صراطا مُسْتَقِيمًا} أَي: يدلك على الطَّرِيق الْمُسْتَقيم.

3

وَقَوله: {وينصرك الله نصرا عَزِيزًا} أَي: (نصرا) مَعَ عز لَا ذل فِيهِ. وَفِي أصل الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا ليغفر لَك الله} هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة النَّصْر: {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} فَذَلِك الْفَتْح هُوَ هَذَا الْفَتْح. وَقَوله: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ} فَذَلِك الْأَمر بالتسبيح وَالِاسْتِغْفَار مدرج هَاهُنَا، فَكَأَن الله تَعَالَى قَالَ: ( {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ) {ليغفر لَك الله} ذكره أَبُو الْحُسَيْن ابْن فَارس فِي تَفْسِيره، وَجعل هَذَا الْأَمر جَوَابا لسؤال من يسال عَن الْآيَة أَنه. كَيفَ يَجْعَل قَوْله: {ليغفر} جَوَابا لقَوْله: {إِنَّا فتحنا} ؟ وَكِلَاهُمَا من الله تَعَالَى؟ فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْوَجْه.

4

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة} قد بَينا أَن السكينَة فَعَلَيهِ من السّكُون، وحقيقتها هُوَ السّكُون إِلَى وعد الله والثقة. وَيُقَال: السكينَة هُوَ مَا ألهم الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ من الصَّبْر والتوكل عَلَيْهِ فِي لأمور كلهَا. وَقَوله: {فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم} أَي: تَصْدِيقًا مَعَ تصديقهم، وَقيل: يَقِينا مَعَ يقينهم. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى أَمر الْمُؤمنِينَ بِشَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَمَّا قبلوا ذَلِك زادهم الصَّلَوَات الْخمس، فَلَمَّا قبلوا ذَلِك زادهم الزَّكَاة، ثمَّ زادهم الْحَج، ثمَّ زادهم الْجِهَاد، فَلَمَّا أكمل شرائعه أنزل قَوْله: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} .

{وَكَانَ الله عليما حكيما (4) ليدْخل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَيكفر عَنْهُم سيئاتهم وَكَانَ ذَلِك عِنْد الله فوزا عَظِيما (5) ويعذب الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات الظانين بِاللَّه ظن السوء عَلَيْهِم} وَقَوله: {وَللَّه جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: جموع السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَلَو سلط أَصْغَر خلقه على جَمِيع الْعَالم لقهرهم. وَيُقَال: لَهُ جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض أَي: مَا خلق الله فِي السَّمَوَات من الْمَلَائِكَة، وَمَا خلق الله فِي الأَرْض من الْجِنّ وَالْإِنْس وَغَيرهم. وَقَوله: {وَكَانَ الله عليما حكيما} أَي: عليما بخلقه، حكيما فِي تَدْبيره.

5

قَوْله تَعَالَى: {ليدْخل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَيكفر عَنْهُم سيئاتهم وَكَانَ ذَلِك عِنْد الله فوزا عَظِيما} أَي: نجاة [عَظِيمَة] .

6

قَوْله تَعَالَى: {ويعذب الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات الظاني بِاللَّه ظن السوء} وَمعنى ظن السوء هَاهُنَا: هُوَ أَنهم كَانُوا قد ظنُّوا على أَن أَمر مُحَمَّد لَا يتم، ويضمحل عَن قريب. وَيُقَال: إِن الرَّسُول لما توجه إِلَى مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة مَعَ أَصْحَابه معتمرين، وَلم يحمل مَعَه من السِّلَاح إِلَّا السيوف فِي القراب، قَالَ المُنَافِقُونَ وَسَائِر الْكفَّار: إِن مُحَمَّدًا لَا يرجع عَن وَجهه هَذَا أبدا وَأَنه يهْلك هُوَ وَأَصْحَابه، فَهُوَ معنى ظن السوء. وَقَوله: {دَائِرَة السوء} وَقُرِئَ: " دَائِرَة السوء) بِرَفْع السِّين، ومعناهما مُتَقَارب أَي: عَلَيْهِم عَاقِبَة الْهَلَاك وَقيل مَعْنَاهُ: لَهُم سوء الْعَاقِبَة لَا للرسول. وَقَوله: {وَغَضب الله عَلَيْهِم ولعنهم وَأعد لَهُم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا} أَي: بئس المنقلب

{دَائِرَة السوء وَغَضب الله عَلَيْهِم ولعنهم وَأعد لَهُم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا (6) وَللَّه جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا (8) لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرَة وَأَصِيلا (9) }

7

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض} فِي التَّفْسِير: أَن الْمُنَافِقين قَالُوا: وَمَا يُغني عَن مُحَمَّد أَصْحَابه؟ وَلَئِن ظفر بقَوْمه فَكيف يظفر بِجَمِيعِ الْعَرَب وكسرى وَقَيْصَر؟ مَا وعد مُحَمَّد أَصْحَابه إِلَّا الْغرُور، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {وَللَّه جنود السَّمَوَات وَالْأَرْض} وَمَعْنَاهُ: أَن الظفر من قبلي، والجنود كلهَا لي، فَمن شِئْت أَن أنصره لم يعسر ذَلِك عَليّ، قل أعداؤه أَو كثر. وَقَوله: {وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما} منيعا فِي النَّصْر، حكيما فِي التَّدْبِير.

8

وَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا} أَي: شَاهدا على أمتك يَوْم الْقِيَامَة. وَيُقَال: شَاهدا بتبليغ الْأَمر وَالنَّهْي. وَقَوله: {وَمُبشرا} أَي: مبشرا للمطيعين. وَقَوله: {وَنَذِيرا} أَي: مخوفا للعاصين.

9

وَقَوله: {لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله} أَي: لكَي تؤمنوا أَيهَا النَّاس بِاللَّه وَرَسُوله. وَقَوله: {وتعزروه} أَي: تعظموه، وَقُرِئَ فِي الشاذ: " وتعززوه " أَي: تقدمُوا بِمَا يكون عزا لَهُ. وَقَوله: {وتوقروه} أَي: تفخموه وتبجلوه، وَيُقَال: وتعذروه مَعْنَاهُ: [تنصروه] بِالسَّيْفِ، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف، فَإِن قَالَ قَائِل: فَإلَى من ترجع الْهَاء؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن أَحدهمَا: أَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى الرَّسُول، وَالثَّانِي: أَنَّهَا رَاجِعَة إِلَى الله تَعَالَى.

{إِن الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله يَد الله فَوق أَيْديهم فَمن نكث فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه وَمن أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فسيؤتيه أجرا عَظِيما (10) سَيَقُولُ لَك الْمُخَلفُونَ} وَقَوله: {وتسبحوه بكرَة وَأَصِيلا} تَنْصَرِف إِلَى الله قولا وَاحِدًا. وَالتَّسْبِيح بالبكرة وَهُوَ صَلَاة الصُّبْح، وبالأصيل صَلَاة الظّهْر وَالْعصر.

10

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يُبَايعُونَك} هَذَا فِي الْبيعَة يَوْم الْحُدَيْبِيَة. وَقد كَانُوا بَايعُوهُ على أَلا يَفروا، وَفِي رِوَايَة: بَايعُوهُ على الْمَوْت. وَقَوله: {إِنَّمَا يبايعون الله} أَي: من أَخذ الْعَهْد مِنْك فقد أَخذ الْعَهْد مني، وَمن بَايَعَك فقد بايعني. وَعَن بَعضهم: من دخل فِي الْإِسْلَام فقد بَايع الله، وَهُوَ معنى قَوْله: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ} الْآيَة. وَقَوله: {يَد الله فَوق أَيْديهم} أَي: يَد الله فِي النُّصْرَة والْمنَّة عَلَيْهِم فَوق أَيْديهم بِالطَّاعَةِ لَك. وَيُقَال مَعْنَاهُ: يَد الله فِي الْوَفَاء بقوله {فَوق أَيْديهم} فِي الْوَفَاء بعهدهم وَيُقَال: إِحْسَان الله تَعَالَى إِلَيْهِم فَوق إحسانهم إِلَيْك بالنصرة، ومنة الله عَلَيْهِم فَوق منتهم عَلَيْك فِي قبُول مَا جِئْت بِهِ. وَقَوله: {فَمن نكث} أَي: من نقض الْعَهْد. وَقَوله: {فَإِنَّمَا ينْكث على نَفسه} أَي: وبال نقض عَهده عَلَيْهِ. وَيُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْجد بن قيس، وَكَانَ من الْمُنَافِقين، فَلَمَّا بَايع رَسُول الله مَعَ أَصْحَابه بيعَة الرضْوَان اخْتَبَأَ تَحت إبط بعير وَلم يُبَايع. وَمعنى النكث: [هُوَ] التّرْك. وَقَوله: {وَمن أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فسيؤتيه أجرا عَظِيما} أَي: كثيرا.

11

قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ لَك الْمُخَلفُونَ من الْأَعْرَاب} نزلت الْآيَة فِي مزينة وجهينة وَأَشْجَع وَأسلم، وَكَانُوا قد تخلفوا عَن رَسُول الله فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة، وَاعْتَذَرُوا

{من الْأَعْرَاب شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفر لنا يَقُولُونَ بألسنتم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم قل فَمن يملك لكم من الله شَيْئا إِن أَرَادَ بكم ضرا أَو أَرَادَ بكم نفعا بل كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا (11) بل ظننتم أَن لن يَنْقَلِب الرَّسُول والمؤمنون إِلَى أَهْليهمْ أبدا وزين ذَلِك فِي} بِالشغلِ فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله جَاءُوا معتذرين، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم هَذِه الْآيَة. وَقَوله {شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفر لنا} أَي أطلب لنا الْمَغْفِرَة من الله تَعَالَى وَقَوله: {يَقُولُونَ بألسنتهم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} يَعْنِي: أَنهم لَا يبالون استغفرت لَهُم أَو تركت الاسْتِغْفَار لَهُم لنفاقهم، وَإِنَّمَا يظْهر طلب الاسْتِغْفَار تقية وخوفا. وَهَذَا فِي الْمُنَافِقين من هَذِه الْقَبَائِل لَا فِي جَمِيعهم، فَإِنَّهُ قد كَانَ فيهم مُسلمُونَ محققون إسْلَامهمْ. وَقَوله: {قل فَمن يملك لكم من الله شَيْئا} أَي: يدْفع عَنْكُم عَذَاب الله، وَمن يمنعكم من الله إِن أَرَادَ عقوبتكم. وَقَوله: {إِن أَرَادَ بكم ضرا أَو أَرَادَ بكم نفعا} أَي: لَيْسَ الْأَمر فِي جَمِيع هَذَا إِلَّا بِيَدِهِ وَقَوله. بل كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا) أَي: عليما. وَيُقَال فِي قَوْله: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالنَا} أَي: لَيْسَ لنا من يقوم بهَا. وَقَوله: {وَأَهْلُونَا} أَي: لَيْسَ لنا من يخلفنا فِي الْقيام بأمرهم. وَقَوله: {يَقُولُونَ بألسنتهم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم} قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي قُلُوبهم الشَّك. وَقَوله: {قل فَمن يملك لكم من الله شَيْئا إِن أَرَادَ بكم ضرا} أَي: الْهَزِيمَة. وَقَوله: {أَو أَرَادَ بكم نفعا} أَي: النُّصْرَة وَالْغنيمَة.

{قُلُوبكُمْ وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12) وَمن لم يُؤمن بِاللَّه وَرَسُوله فَإنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سعيرا (13) وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما (14) سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ إِذا انطلقتم إِلَى مَغَانِم لتأخذوها}

12

قَوْله تَعَالَى: {بل ظننتم أَن لن يَنْقَلِب الرَّسُول والمؤمنون إِلَى أَهْليهمْ أبدا} قد بَينا ظنهم {وزين ذَلِك فِي قُلُوبكُمْ} أَي: زينه الشَّيْطَان. وَقَوله: {وظننتم ظن السوء} قد بَينا مَعْنَاهُ. وَقَوله: {وكنتم قوما بورا} أَي: هلكى. قَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد بن اسْلَمْ: هُوَ الَّذِي لَا خير فِيهِ. وَيُقَال: إِن فِي لُغَة أَزْد عمان البور: الْفَاسِد، وَيُقَال: رجل بور، ورجلان بوران، وَرِجَال بور، وَيُقَال: أَصبَحت اعمالهم بورا ومساكنهم قبورا. وَقيل: بورا: فَاسِدَة قُلُوبهم، لَا محسنين وَلَا متقين. وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ ظنهم أَن مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه يقتلُون فِي ذَلِك الْوَجْه، وَلَا يرجعُونَ أبدا إِلَى الْمَدِينَة.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَمن لم يُؤمن بِاللَّه وَرَسُوله فَإنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سعيرا} قَالَ ابْن عَبَّاس: السعير هُوَ الطَّبَق السَّادِس من جَهَنَّم.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من يَشَاء وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} ظَاهر الْمَعْنى.

15

قَوْله تَعَالَى: {سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ إِذا انطلقتم إِلَى مَغَانِم لتأخذوها} سَبَب نزُول الْآيَة: هُوَ أَن الله تَعَالَى وعد أهل الْحُدَيْبِيَة غَنَائِم خَيْبَر، وَقد كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَاب الَّذين تخلفوا عَن رَسُول الله وظنوا ظن السوء طمعوا فِي غَنَائِم خَيْبَر وَكَانَ الله قد جعل غَنَائِم خَيْبَر لأهل الْحُدَيْبِيَة خَاصَّة، فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِي وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة، وتوجهوا قبل خَيْبَر جَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَاب، وَاسْتَأْذَنُوا رَسُول الله أَن يَكُونُوا مَعَه فِي هَذِه الْغَزْوَة، وَقَالُوا: ذرونا نتبعكم. وَقَوله: {يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} يَعْنِي: حكم الله الَّذِي حكم فِي غَنَائِم

{ذرونا نتبعكم يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله قل لن تبعونا كذلكم قَالَ الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كَانُوا لَا يفقهُونَ إِلَّا قَلِيلا (15) قل للمخلفين من الْأَعْرَاب} خَيْبَر أَنَّهَا لأهل (الْمَدِينَة) خَاصَّة، حَيْثُ طمعوا أَن يُصِيبُوا مِنْهَا، وَيُقَال معنى قَوْله: {يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} هُوَ قَوْله تَعَالَى: {قل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا} فأرادوا [أَن] يبدلوا هَذَا الْكَلَام الَّذِي قَالَه الله، ويظهروا أَنا خرجنَا وقاتلنا خلاف مَا قَالَه الله. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم لما قَالُوا: ذرونا نتبعكم، قَالَ لَهُم أَصْحَاب رَسُول الله: نَأْذَن لكم فِي الْقِتَال على أَن تَكُونُوا متطوعين فِي الْقِتَال لَا سهم لكم فِي الْغَنِيمَة؛ لِأَن غنيمَة خَيْبَر لأهل الْحُدَيْبِيَة خَاصَّة. وَقَوله: {قل لن تتبعونا كذلكم قَالَ الله من قبل} فعلى القَوْل الأول [لن] تتبعونا أصلا، وعَلى القَوْل الثَّانِي قل لن تتبعونا لأخذ الْغَنِيمَة. وَقَوله: {كذلكم قَالَ الله من قبل} أَي: حكم الله من قبل. وَقَوله: {فسيقولون بل تحسدوننا} أَي: لم تأذنوا لنا فِي اتباعكم [حسدا] مِنْكُم لنا لِئَلَّا نصيب مَا تصيبون. وَقَوله: {بل كَانُوا لَا يفقهُونَ إِلَّا قَلِيلا} أَي: لَا يعلمُونَ مَا لَهُم وَمَا عَلَيْهِم فِي الدّين إِلَّا قَلِيلا.

16

قَوْله تَعَالَى: {قل للمخلفين من الْأَعْرَاب ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد} أصح الْأَقَاوِيل أَنهم بَنو حنيفَة، أولُوا بَأْس شَدِيد حَيْثُ قَاتلُوا الْمُسلمين مَعَ مُسَيْلمَة الْكذَّاب. قَالَ رَافع بن خديج: مَا كُنَّا نعلم معنى قَوْله: {أولي بَأْس شَدِيد} حَتَّى

{ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد تقاتلونهم أَو يسلمُونَ فَإِن تطيعوا يُؤْتكُم الله أجرا} دَعَانَا أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِلَى قتال مُسَيْلمَة، وَكَانَ ذَلِك الْحَرْب حَربًا شَدِيدا على الْمُسلمين، اسْتشْهد فِيهِ كثير من الصَّحَابَة. وَيُقَال: اسْتشْهد فِيهِ سَبْعمِائة نفر من أَصْحَاب رَسُول الله فيهم زيد بن الْخطاب أَخُو عمر بن الْخطاب وعكاشة بن [مُحصن] . وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {أولي بَأْس شَدِيد} هُوَ هوَازن وَثَقِيف، قَالَه الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنهم فَارس، وَكَانَ الْحَرْب مَعَهم أَشد حَرْب على الْمُسلمين فِي زمَان عمر رَضِي الله عَنهُ. وَفِي القَوْل الأول، وَفِي هَذَا القَوْل دَلِيل على خلَافَة ابي بكر وَعمر، لِأَنَّهُمَا دعوا الْمُسلمين إِلَى قتال مُسَيْلمَة وقتال فَارس، وَقد كَانَ مَعَ فَارس وقْعَة الْقَادِسِيَّة، وفيهَا قتل رستم صَاحب جَيش الْعَجم، ووقعة جلولا ووقعة نهاوند، وَهِي تسمى فتح الْفتُوح، وَلم تقم بعْدهَا قَائِمَة، وتمزق ملكهم، وَصدق الله دَعْوَة النَّبِي حَيْثُ قَالَ: " اللَّهُمَّ فمزق ملك فَارس ". وَرُوِيَ أَن أَن كسْرَى لما مزق كتاب النَّبِي وَبلغ ذَلِك رَسُول الله فَقَالَ: " مزق ملكه ". وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ فِي قَوْله: {إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد} قَالَ: هم الرّوم وَمَعَهُمْ الملحمة الْكُبْرَى فِي آخر الزَّمَان.

{حسنا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل يعذبكم عذَابا أَلِيمًا (16) لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج وَمن يطع الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَمن يتول يعذبه عذَابا أَلِيمًا (17) لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ} وَأَصَح الْأَقَاوِيل هُوَ القَوْل الأول؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {تقاتلونهم أَو يسلمُونَ} وَمَعْنَاهُ: أَو يسلمُوا، وَهَذَا إِنَّمَا يكون فِي الْمُرْتَدين الَّذين لَا يجوز أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم، فأنما الْمَجُوس وَالنَّصَارَى فَيجوز أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم. وَأما مُجَاهِد حمل الْآيَة على أهل الْأَوْثَان. وَقَوله: {فَإِن تطيعوا يُؤْتكُم الله أجرا حسنا} أَي: الْجنَّة. وَقَوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا توليتم من قبل} أَي: تعرضوا كَمَا أعرضتم من قبل. وَقَوله: {يعذبكم عذَابا أَلِيمًا} أَي: وجيعا. فَإِن قيل: ذكر فِي هَذِه الْآيَة قَوْله: {ستدعون إِلَى قوم أولي بَأْس شَدِيد} وَقَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {قل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا} وَإِنَّمَا قَاتلُوا مَعَ أبي بكر وَعمر وَلم يقاتلوا مَعَ الرَّسُول.

17

قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج} يَعْنِي: لَا حرج على من تخلف عَنْك بِهَذِهِ الْأَعْذَار عَن غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة. والحرج: الْإِثْم، وَمعنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ غَنَائِم خَيْبَر لقوم تخلفوا عَن غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة بِهَذِهِ الْأَعْذَار. وَقيل: إِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم: أَبُو أَحْمد بن جحش، وَأمه آمِنَة بنت عبد الْمطلب، وَعبد الله بن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، وَغَيرهم. وَقَوله: {وَمن يطع الله وَرَسُوله يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار وَمن يتول يعذبه عذَابا أَلِيمًا} ظَاهر الْمَعْنى.

{إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة}

18

قَوْله تَعَالَى: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} القَوْل الْمَعْرُوف فِي الْآيَة أَنه لما توجه إِلَى مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة مُعْتَمِرًا هُوَ وَأَصْحَابه، وَسَاقُوا الْهَدْي مَعَ أنفسهم، فَلَمَّا بلغُوا الْحُدَيْبِيَة، وَهِي بِئْر بمَكَان مَعْلُوم على طرف الْحرم، وَتلك الْبقْعَة سميت باسم الْبِئْر، وَقد ظَهرت معْجزَة لرَسُول الله فِي هَذَا الْبِئْر؛ " فَإِن أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي [الله] عَنْهُم لما وصلوا إِلَيْهَا نزحوها حَتَّى لم يبْق من المَاء شَيْء فشكوا إِلَى رَسُول الله الْعَطش؛ فجَاء رَسُول الله وَقعد على شَفير الْبِئْر ودعا بِمَاء فَتَمَضْمَض بِهِ وصبه فِي الْبِئْر، فَجَاشَتْ الْبِئْر بالروى، فاستقى النَّاس، وَسقوا الركاب، وَلم ينزف بعد ". رَجعْنَا إِلَى أصل الْقِصَّة: " فَلَمَّا بلغُوا الْحُدَيْبِيَة بَركت نَاقَة النَّبِي وَهِي الْقَصْوَاء، فبعثوها فَلم (تنبعث) ، فَقَالُوا: خلأت الْقَصْوَاء. فَقَالَ رَسُول الله: " مَا خلأت، وَلَا هُوَ لَهَا بِخلق، وَلكنهَا حَبسهَا حَابِس الْفِيل، وَالله لَا يَسْأَلُونِي خطة فِيهَا تَعْظِيم حرم الله إِلَّا أَعطيتهم إِيَّاهَا "، ثمَّ دَعَا عمر وَأَرَادَ أَن يَبْعَثهُ إِلَى أهل مَكَّة يستأذنهم فِي الدُّخُول، ليقضي عمرته، وينحر هَدْيه، فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، مَا لي بهَا من حميم وَلَا عشيرة وَقد عرفُوا شدَّة عَدَاوَتِي لَهُم، وَإِنِّي أَخَافهُم على نَفسِي، وَلَكِن أدلك على من هُوَ أعز مني بهَا عسيرة، قَالَ: " وَمن ذَلِك؟ "، قَالَ: عُثْمَان، فَأرْسلهُ إِلَى مَكَّة. ثمَّ إِنَّه بلغ النَّبِي أَن عُثْمَان قتل، وَعَن بَعضهم أَن إِبْلِيس خرج وَقَالَ: إِن عُثْمَان قتل فَحِينَئِذٍ قَامَ النَّبِي واستند إِلَى الشَّجَرَة وَهِي شَجَرَة سَمُرَة فَبَايع مَعَ أَصْحَابه وَهِي بيعَة الرضْوَان، وَكَانَ بَايع على الْقِتَال إِلَى أَن يموتوا، وَيُقَال: بَايع على أَلا يَفروا " وَاخْتلف القَوْل فِي عدد الْقَوْم، قَالَ ابْن أبي أوفى:

{فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وأثابهم فتحا قَرِيبا (18) } ألف وثلثمائة. وَقَالَ جَابر: ألف وَأَرْبَعمِائَة، وَهُوَ الْأَصَح. وَعَن ابْن عَبَّاس: ألف وَخَمْسمِائة. ثمَّ ظهر أَن عُثْمَان لم يقتل. وَفِي الْآيَة قَول آخر، رَوَاهُ ابْن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ قَالَ: " مُرَاد الله من الْبيعَة الْمَذْكُور فِي الْآيَة بيعَة رَسُول الله مَعَ السّبْعين من الْأَنْصَار لَيْلَة الْعقبَة، والقصة فِي ذَلِك: أَنه قدم سَبْعُونَ نَفرا من أهل الْمَدِينَة ليلقوا النَّبِي فِي أَيَّام الْحَج قبل الْهِجْرَة، ورأسهم أَبُو أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة، فَخرج النَّبِي وَمَعَهُ الْعَبَّاس لَيْلًا حَتَّى أَتَوا الْعقبَة، وَحضر من أهل الْمَدِينَة هَؤُلَاءِ السبعون، فَقَالَ الْعَبَّاس لَهُم: ليَتَكَلَّم متكلمكم وَلَا يطول، فَإِن عَلَيْكُم عينا، وَإِن تعرف قُرَيْش بمكانكم يؤذوكم. فَقَالَ أسعد بن زُرَارَة: يَا رَسُول الله، اشْترط لِرَبِّك، وَاشْترط لنَفسك، وَاذْكُر مالنا إِذا قبلنَا، فَقَالَ النَّبِي: " اشْترط لربى أَن لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وَاشْترط لنَفْسي أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ أَنفسكُم وَأَوْلَادكُمْ. قَالَ: فَمَا لنا إِذا فعلنَا ذَلِك؟ قَالَ: الْجنَّة، قَالَ: رَضِينَا ". رُوِيَ أَن إِبْلِيس صرخَ على الْعقبَة: يَا معشر قُرَيْش، هَؤُلَاءِ الصباة قد اجْتَمعُوا مَعَ مُحَمَّد يبايعون عَلَيْكُم. فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك تفرق النَّبِي وَأُولَئِكَ، فجَاء الْمُشْركُونَ فَلم يَجدوا أحدا، وَالصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول. وَقَوله: {فَعلم مَا فِي قُلُوبهم} أَي: من الصدْق وَالْوَفَاء. وَقيل: هُوَ الْإِخْلَاص. وَقَوله: {فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم} أَي: الطُّمَأْنِينَة. وَيُقَال: الثِّقَة بوعد الله، وَالصَّبْر على أَمر الله، وَيُقَال: اعْتِقَاد الْوَفَاء. وَقَوله: {وأثابهم فتحا قَرِيبا} أَي: فتح خَيْبَر، وَيُقَال: فتح مَكَّة، وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.

{ومغانم كَثِيرَة يأخذونها وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما (19) وَعدكُم الله مَغَانِم كَثِيرَة تأخذذونها فَعجل لكم هَذِه وكف أَيدي النَّاس عَنْكُم}

19

قَوْله تَعَالَى: {ومغانم كَثِيرَة يأخذونها} يَعْنِي: أَمْوَال خَيْبَر، وَكَانَت لَهُم أَمْوَال كَثِيرَة من العقارات والنخيل وَغَيرهَا. وَقَوله: {وَكَانَ الله عَزِيزًا حكيما} قد بَينا.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَعدكُم الله مَغَانِم كَثِيرَة تأخذونها} قَالَ مُجَاهِد مَعْنَاهَا: الْغَنَائِم الَّتِي تُؤْخَذ من الْكفَّار إِلَى قيام السَّاعَة. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: غَنَائِم فَارس وَالروم. وَقيل: فتح مَكَّة. وَقَوله: {فَعجل لكم هَذِه} أَي: غَنَائِم خَيْبَر. وَقَوله: {وكف أَيدي النَّاس عَنْكُم} فِي التَّفْسِير: أَن أَسد وغَطَفَان كَانُوا حلفاء يهود خَيْبَر، فَلَمَّا توجه رَسُول الله إِلَى خَيْبَر أَرَادَ أَسد وغَطَفَان أَن يُغيرُوا على الْمَدِينَة، فَألْقى الله الرعب فِي قُلُوبهم وَتَفَرَّقُوا. وَرُوِيَ أَن رَسُول الله مَال إِلَيْهِم لِيُقَاتل مَعَهم أَولا، فَهَرَبُوا وَتَفَرَّقُوا وخلوا أهل خَيْبَر، فَرجع رَسُول الله إِلَى خَيْبَر وَفتحهَا. وَيُقَال: كف أَيدي النَّاس عَنْكُم: جَمِيع الْمُشْركين، وَلم يكن فِي الْأُمَم أمة أذلّ وَأَقل من الْعَرَب فأعزهم الله بِالْإِسْلَامِ، وأغنمهم كنوز الْعَجم وَالروم، وأورثهم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ وَكَانَ أول مَا دخل الذل على الْعَجم حَرْب ذِي قار، وَهُوَ مَوضِع بعث كسْرَى بجُنُوده إِلَى بني شَيبَان لِيُقَاتِلُوا مَعَهم بِسَبَب قصَّة طَوِيلَة، فَقَاتلُوا بِذِي قار، وَجعل الْعَرَب شعارهم اسْم مُحَمَّد، قَالَ رئيسهم لَهُم: اجعلوا شِعَاركُمْ اسْم هَذَا الْقرشِي الَّذِي خرج يَدْعُو النَّاس إِلَى الله تَعَالَى، فَاقْتَتلُوا وَهزمَ الله الْمُشْركين، وَقتل أَكثر جنود كسْرَى، فَلَمَّا بلغ النَّبِي قَالَ: " الْيَوْم انتصفت الْعَرَب من الْعَجم، وَبِي نصروا، من ذَلِك الْوَقْت دخل الذل على الْعَجم وفني ملكهم.

{ولتكون آيَة للْمُؤْمِنين وَيهْدِيكُمْ صراطا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لم تقدروا عَلَيْهَا قد احاط الله بهَا وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا (21) وَلَو قاتلكم الَّذين كفرُوا لولوا الأدبار ثمَّ لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا (22) سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا (23) وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة من بعد} وَقَوله: {ولتكون آيَة للْمُؤْمِنين} أَي: معْجزَة، وَالْآيَة فِي دَعْوَة رَسُول الله فتح خَيْبَر وَغَنَائِم الْعَجم وَالروم، وَتحقّق ذَلِك عَن قريب. وَقَوله: {وَيهْدِيكُمْ صراطا مُسْتَقِيمًا} يؤديكم إِلَى رضَا الله تَعَالَى.

21

قَوْله تَعَالَى: {وَأُخْرَى لم تقدروا عَلَيْهَا} أَي: أَرض الْعَجم. وَيُقَال: أَرض مَكَّة. وَيُقَال: جَمِيع مَا فتح الله من الْأَرَاضِي، ويفتحها إِلَى قيام السَّاعَة. وَقَوله: {قد أحَاط الله بهَا} أَي: أحَاط علمه بهَا. وَقَوله: {وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا} أَي: قَادِرًا.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو قاتلكم الَّذين كفرُوا لولوا الأدبار} أَي: انْهَزمُوا وَكَانَ الظفر لَهُم. وَقَوله: {ثمَّ لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا} قد بَينا من قبل.

23

قَوْله تَعَالَى: {سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل} أَي: سنّ الله هَذِه السّنة، وَهِي نصْرَة أوليائه وإهلاك أعدائه. وَيُقَال: هِيَ أَن الْعَاقِبَة للْمُؤْمِنين، وَمَعْنَاهُ: أَن هَذِه السّنة الَّتِي سننتها لكم هِيَ سنتي فِيمَن خلا من قبلكُمْ. وَقَوله: {وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} أَي: تغييرا.

24

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم بِبَطن مَكَّة} روى

{أَن أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا (24) هم الَّذين كفرُوا وصدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام وَالْهَدْي معكوفا أَن يبلغ مَحَله وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات لم} عبد الله بن مغقل الْمُزنِيّ " أَن النَّبِي كَانَ جَالِسا تَحت الشَّجَرَة يُبَايع أَصْحَابه وَفِي رِوَايَة: وَعِنْده عَليّ بن أبي طَالب وَسُهيْل بن عَمْرو يكتبا كتاب الصُّلْح فثار فِي وُجُوهنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا من الْمُشْركين قدمُوا من مَكَّة بِقصد رَسُول الله، فَدَعَا رَسُول الله فَأخذ الله بِأَبْصَارِهِمْ فقمنا وَجِئْنَا بهم نقودهم إِلَى رَسُول الله فَقَالَ: " هَل لكم عهد؟ هَل لكم إِيمَان؟ " فَقَالُوا: لَا. فخلى سبيلهم، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {وَهُوَ الَّذِي كف أَيْديهم عَنْكُم وَأَيْدِيكُمْ عَنْهُم} ". وروى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن ثَابت، عَن أنس قَالَ: أهبط ثَمَانُون رجلا متسلحين من جبل التَّنْعِيم، فَأَخذهُم أَصْحَاب رَسُول الله وَجَاءُوا بهم إِلَى النَّبِي، فاستحياهم وخلى سبيلهم، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {بِبَطن مَكَّة} يَعْنِي: الْحُدَيْبِيَة، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بطن مَكَّة لقربها من مَكَّة. وَقَوله {من بعد أَن أطفركم عَلَيْهِم} قد بَينا. وَقَوله: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} أَي: عليما.

25

قَوْله تَعَالَى: {هم الَّذين كفرُوا وصدوكم عَن الْمَسْجِد الْحَرَام وَالْهَدْي معكوفا} أَي: وصدوا الْهَدْي معكوفا، ونصبه على الْحَال، وَمَعْنَاهُ: مَحْبُوسًا. وَقَوله: {أَن يبلغ مَحَله} أَي: منحره، وَكَانَ رَسُول الله قد سَاق سبعين بَدَنَة. وَقَوله: {وَلَوْلَا رجال مُؤمنُونَ وَنسَاء مؤمنات} قَالَ أهل التَّفْسِير: معنى الْآيَة: أَنه

{تعلموهم أَن تطئوهم فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم ليدْخل الله فِي رَحمته من يَشَاء لَو تزيلوا لعذبنا الَّذين كفرُوا مِنْهُم عذَابا أَلِيمًا (25) إِذْ جعل الَّذين كفرُوا فِي قُلُوبهم} كَانَ قد أسلم رجال وَنسَاء (بِمَكَّة) ، وَأَقَامُوا هُنَالك مختلطين بالمشركين، وَلم يكن يعرف مكانهم، فَقَالَ الله تَعَالَى: وَلَوْلَا هم يَعْنِي الْقَوْم الَّذين ذكرنَا {لم تعلموهم أَن تطئوهم} يَعْنِي: توقعوا بهم وتصيبوهم بِغَيْر علم إِن دَخَلْتُم محاربين مقاتلين. وَقَوله: {فتصيبكم مِنْهُم معرة بِغَيْر علم} أَي: سبة، وَيُقَال: عيب وملامة، وَمَعْنَاهُ: أَن الْكفَّار يعيبونكم، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُم يقتلُون أهل دينهم. وَيُقَال فِي المعرة: هِيَ لُزُوم الدِّيَة عِنْد الْقَتْل. وَقَوله: {ليدْخل الله فِي رَحمته من يَشَاء} فِيهِ تَقْدِير مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: حَال بَيْنكُم وَبينهمْ؛ ليدْخل الله فِي رَحمته من يَشَاء أَي: فِي الْإِسْلَام من يَشَاء. وَقَوله: {لَو تزيلوا} أَي: لَو تميزوا أَي: لَو فَارق الْمُسلمُونَ الْكَافرين {لعذبنا الَّذين كفرُوا مِنْهُم عذَابا أَلِيمًا} وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا أَصَابَتْكُم المعرة واختلاط [الْمُسلمين] بالكفار لعذبنا الَّذين كفرُوا أَي: بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ.

26

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ جعل الَّذين كفرُوا فِي قُلُوبهم الحمية حمية الْجَاهِلِيَّة} الحمية: الأنفة والامتناع عَن الشَّيْء غَضبا، وَمن الأنفة مَحْمُود ومذموم. وَيُقَال: فلَان حام حومته أَي: مَانع لحوزته. وَمعنى حمية الْجَاهِلِيَّة هَاهُنَا: هِيَ أَن الْكفَّار لم يتْركُوا النَّبِي أَن يدْخل [هُوَ] وَأَصْحَابه مَكَّة فِي ذَلِك الْعَام، وَقَالُوا: لَا يدْخل علينا مُحَمَّد أبدا على كره منا مَا بَقِي منا أحد، وَكَانَ ذَلِك أَنَفَة مِنْهُم وحمية، ثمَّ إِن الرَّسُول لما صَالح مَعَهم كَانَ فِي الصُّلْح أَن يرجع هَذَا الْعَام، وَيعود فِي الْعَام الْقَابِل فِي ذَلِك الشَّهْر بِعَيْنِه، وَيَقْضِي نُسكه، وَيُقِيم ثَلَاثًا وَيرجع. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن [معنى] حمية الْجَاهِلِيَّة: أَن سُهَيْل بن عَمْرو وَمَعَهُ حويطب بن عبد الْعُزَّى [جَاءُوا] ليعقدوا

{الحمية حمية الْجَاهِلِيَّة فَأنْزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ وألزمهم كلمة} عقد الصُّلْح، فَلَمَّا كَانَ أَوَان (الكتبة) قَالَ النَّبِي لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " اكْتُبْ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، فَقَالَ سُهَيْل: لَا نَعْرِف مَا الرَّحْمَن الرَّحِيم! اكْتُبْ كَمَا نكتب: بِاسْمِك اللَّهُمَّ. فَقَالَ الْمُسلمُونَ: لَا إِلَه إِلَّا الله تَعَجبا من قَوْلهم ورجت بهَا جبال تهَامَة، ثمَّ إِنَّه قَالَ: اكْتُبْ هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله، فَقَالَ سُهَيْل: وَلَو علمنَا أَنَّك رَسُول الله مَا قَاتَلْنَاك؛ اكْتُبْ هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الله، وَكتب عَليّ ذَلِك، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَنا مُحَمَّد رَسُول الله، وَأَنا مُحَمَّد بن عبد الله. وَكَانَ فِي عقد الصُّلْح أَيْضا: أَن من جَاءَ إِلَى النَّبِي من الْمُشْركين مُسلما فِي مُدَّة الصُّلْح يرد إِلَيْهِم، وَمن ذهب من الْمُسلمين إِلَى الْكفَّار مُرْتَدا لم يردوه، وَكَانَ هَذَا كُله من حمية الْجَاهِلِيَّة، وَعند هَذِه الشُّرُوط وَقعت الْفِتْنَة لعمر، وأتى رَسُول الله وَقَالَ: أَلَسْت رَسُول الله؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: أولسنا على الْحق؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: علام نعطي الدنية فِي ديننَا؟ يَعْنِي: نرضى بالخصلة الْأَدْنَى لأنفسنا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَنا رَسُول الله وَلَا يضيعني، وَذهب إِلَى أبي بكر وَذكر لَهُ مثل ذَلِك، فَقَالَ لَهُ: إِنَّه رَسُول الله، وَلنْ يضيعه الزم [الغرز] ، ثمَّ إِن سُهَيْل بن عَمْرو أسلم بعد ذَلِك وَحسن إِسْلَامه، وَقَامَ فِي الْإِسْلَام مقامات مَشْهُودَة. وَقَوله: {فَأنْزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ} قد بَينا معنى السكينَة، وَالْمعْنَى هَاهُنَا: هُوَ الثَّبَات على الدّين مَعَ هَذِه الْأُمُور. وَقَوله: {وألزمهم كلمة التَّقْوَى} روى ابْن الطُّفَيْل عَن أبي بن كَعْب عَن النَّبِي هِيَ: " لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور عَن عمر قَالَ: إِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " أَنا أعلم

{التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما (26) لقد صدق الله رَسُوله الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تخافون فَعلم مَا لم تعلمُوا فَجعل من دون ذَلِك فتحا قَرِيبا (27) } كلمة إِذا قَالَهَا العَبْد مخلصا من نَفسه دخل الْجنَّة، وَلَا أَدْرِي مَا هِيَ، فَقَالَ: أَنا اردري هِيَ الْكَلِمَة الَّتِي ألاص عَلَيْهَا عَمه أَي: ألح على عَمه أَن يَقُولهَا وَهِي لَا إِلَه إِلَّا الله ". وَعَن الزُّهْرِيّ: أَن كلمة التَّقْوَى بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَقَوله: {وَكَانُوا أَحَق بهَا وَأَهْلهَا} أَي: كَانُوا محلا لهَذِهِ الْكَلِمَة وَأهلا لَهَا، وَيُقَال: كَانُوا أَهلهَا فِي علم الله وَحكمه، وَهُوَ الْأَصَح. وَقَوله: {وَكَانَ الله بِكُل شَيْء عليما} أَي: عَالما.

27

قَوْله تَعَالَى: {لقد صدق الله رَسُوله الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ النَّبِي رأى فِي مَنَامه أَنه دخل مَكَّة مَعَ أَصْحَابه مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ، فَقص ذَلِك على أَصْحَابه، وَلم يشكوا أَن ذَلِك حق، وظنوا أَن يكون فِي الْعَام الَّذِي هم فِيهِ، وَاعْتمر النَّبِي وَأَصْحَابه وَخَرجُوا على ذَلِك، فَلَمَّا صدهم الْمُشْركُونَ عَن الْبَيْت وَرَجَعُوا، اغتم الْمُسلمُونَ غما شَدِيدا، وظنوا أَنهم لَا يدْخلُونَ، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة. وَمعنى قَوْله: {لقد صدق الله} أى حقق الله رَسُوله أَي: الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ. وَقَوله {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله آمِنين مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تخافون} وَهَذَا التَّحْقِيق حصل فِي الْعَام الثَّانِي حِين اعتمروا عمْرَة الْقَضَاء. وَقَوله: {فَعلم مَا لم تعلمُوا} أَي: وَقت ظُهُور الرُّؤْيَا. وَقَوله: {فَجعل من دون ذَلِك فتحا قَرِيبا} أَي: فتح خَيْبَر، وَفِي الْآيَة سُؤال

{هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} مَعْرُوف، وَهُوَ على قَوْله: {إِن شَاءَ الله} مَا معنى قَوْله {إِن شَاءَ الله} وَالله تَعَالَى هُوَ الْمخبر، وَمَا يخبر عَنهُ كَائِن لَا محَالة، وَالِاسْتِثْنَاء إِنَّمَا يدْخل على شَيْء يجوز أَن يكون، وَيجوز أَلا يكون؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن معنى قَوْله: {إِن شَاءَ الله} إِذا شَاءَ الله. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْآيَة على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام آمِنين مُحَلِّقِينَ رءوسكم وَمُقَصِّرِينَ لَا تخافون إِن شَاءَ الله. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنه كَانَ مَعَ النَّبِي قوم عِنْد نزُول هَذِه الْآيَة، مِنْهُم من غَابَ، وَمِنْهُم من مَاتَ قبل أَن يحصل الْمَوْعُود، فالاستثناء إِنَّمَا وَقع على هَذَا أَنه يدْخل بَعضهم أَو جَمِيعهم. وَالْوَجْه الرَّابِع وَهُوَ الأولى أَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِن شَاءَ الله} هَاهُنَا على مَا أحب وَرَضي وَأمر بِهِ عباده، فَإِنَّهُ أَمرهم أَن يستثنوا فِيمَا يخبرون بِهِ من الْأُمُور الْمُسْتَقْبلَة، ويعدونه على مَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَهَذَا أَمر لَهُ وَلِجَمِيعِ الْأمة، فَقَالَ تَعَالَى: {إِن شَاءَ الله} وَإِن علم وُقُوع الْفِعْل وَإِن علم وُقُوع الْفِعْل ليقتدي بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا يتركون هَذِه الْكَلِمَة فِيمَا يخبرون بِهِ من الْأُمُور الَّتِي لم يعلمُوا وُقُوعهَا. قَالَ الْأَزْهَرِي: وَكَأَنَّهُ قَالَ: لما قلت إِن شَاءَ الله فِيمَا علمت وُقُوعه، فَلِأَن تَقولُوا إِن شَاءَ الله فِيمَا لم تعلمُوا وُقُوعه أولى.

28

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله} أَي: على الْأَدْيَان كلهَا، وَمن الْمَشْهُور أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ينزل من السَّمَاء، وَيكسر الصَّلِيب، وَيقتل الْخِنْزِير، وَلَا يبْقى يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ إِلَّا أسلم، وَحِينَئِذٍ تضع الْحَرْب أَوزَارهَا، وَيفِيض المَال حَتَّى لَا يقبله أحد. وَقَوله: {وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} أَي: شَاهدا.

((28} مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود ذَلِك مثلهم فِي)

29

قَوْله تَعَالَى: {مُحَمَّد رَسُول الله} هَذِه الْآيَة شَهَادَة من الله تَعَالَى لرَسُوله بِالْحَقِّ وَأَنه رَسُوله حَقِيقَة. وَقَوله: {وَالَّذين مَعَه} يَعْنِي: أَصْحَابه. وَقَوله: {أشداء على الْكفَّار} أَي: غِلَاظ شَدَّاد عَلَيْهِم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: ( {أعزة على الْكَافرين} رحماء بَينهم) أَي: متوادون ومتواصلون بَينهم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ} . وَقَوله: {تراهم ركعا سجدا} أَي: راكعين ساجدين. وَقَوله: {يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا} أَي: الْجنَّة وَالثَّوَاب الْمَوْعُود. وَقَوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ فِي الْقِيَامَة، وَذَلِكَ من آثَار الْوضُوء على مَا قَالَ: " أمتى غر محجلون من آثَار الْوضُوء " فعلى هَذَا يكون (الْمُؤْمِنُونَ) بيض الْوُجُوه من أثر الْوضُوء وَالصَّلَاة. وَقَالَ عِكْرِمَة: من أثر السُّجُود: هُوَ التُّرَاب على الجباه، وَقد كَانُوا يَسْجُدُونَ على التُّرَاب، وَقَالَ الْحسن: هُوَ السمت الْحسن، وَعَن سعيد بن جُبَير: هُوَ الخضوع والتواضع، وَهُوَ رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، وَيُقَال: صفرَة الْوَجْه من سهر اللَّيْل، وَهَذَا قَول مَعْرُوف. وَقَوله: {ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة} أَي: صفتهمْ فِي التَّوْرَاة. وَقَوله: {وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل} مِنْهُم من قَالَ: الْوَقْف على قَوْله: {ذَلِك مثلهم فِي التَّوْرَاة} ، وَقَوله: {وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل} كَلَام مُبْتَدأ بِمَعْنى: صفتهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع، وَمِنْهُم من قَالَ: الْوَقْف على قَوْله: {فِي الْإِنْجِيل} .

{التَّوْرَاة وَمثلهمْ فِي الْإِنْجِيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فَاسْتَوَى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الْكفَّار وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما (29) } وَقَوله: {كزرع} مَعْنَاهُ: هم كزرع. وَقَوله: {أخرج شطأه} أَي: فِرَاخه. يُقَال: أشطأ الفزرع إِذا فرخ، وَمعنى الْفِرَاخ: هُوَ أَنه ينْبت من الْحبَّة الْوَاحِدَة عشر سنابل وَأَقل وَأكْثر. وَقَوله: {فآزره} أَي: قواه، وَقُرِئَ: " فأزره " بِغَيْر مد، وَهُوَ بِمَعْنى الأول. وَقَوله: {فاستغلظ} أَي: استحكم وَاشْتَدَّ وَقَوي. وَقَوله: {فَاسْتَوَى على سوقه} أَي: انتصب على سَاق. وَقَوله: {يعجب الزراع} أَي: الحراث. وَهَذَا كُله ضرب مثل النَّبِي وَأَصْحَابه، وَذكر صفتهمْ وَمَا قوى الله بهم النَّبِي وَنَصره بهم. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق قَالَ: {وَالَّذين مَعَه} أَبُو بكر {أشداء على الْكفَّار} عمر {رحماء بَينهم} عُثْمَان) {تراهم ركعا سجدا} عَليّ رَضِي الله عَنْهُم {يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا} الْعشْرَة. وَقَوله: {كزرع} مُحَمَّد {أخرج شطأه} أَبُو بكر {فآزره} بعمر {فاستغلظ} بعثمان {فَاسْتَوَى على سوقه} بعلي رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَهَذَا قَول غَرِيب ذكره النقاش، وَالْمُخْتَار وَالْمَشْهُور هُوَ القَوْل الأول، أَن الْآيَة فِي جَمِيع أَصْحَاب النَّبِي من غير تعْيين، وَعَلِيهِ الْمُفَسِّرُونَ. وَقَوله: {ليغيظ بهم الْكفَّار} أَي: ليدْخل الغيظ فِي قُلُوبهم. وَقَوله: {وعد الله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات مِنْهُم مغْفرَة وَأَجرا عَظِيما} اخْتلفُوا فِي قَوْله: {مِنْهُم} فَقَالَ قوم: من هَاهُنَا للتجنيس لَا للتَّبْعِيض. قَالَ الزّجاج: هُوَ تَخْلِيص للْجِنْس، وَلَيْسَ المُرَاد بَعضهم؛ لأَنهم كلهم مُؤمنُونَ، وَلَهُم الْمَغْفِرَة وَالْأَجْر الْعَظِيم.

وَعَن ابْن عُرْوَة قَالَ: كُنَّا عِنْد مَالك بن أنس فَذكرُوا رجلا (يتبغض) أَصْحَاب رَسُول الله، فَقَالَ مَالك: من أصبح وَفِي قلبه غيظ على أَصْحَاب رَسُول الله فقد أَصَابَته هَذِه الْآيَة، وَهُوَ قَوْله: {ليغيظ بهم الْكفَّار} . وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {مِنْهُم} أَي: من ثَبت مِنْهُم على الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح فَلهُ الْمَغْفِرَة وَالْأَجْر الْعَظِيم، أوردهُ النّحاس فِي تَفْسِيره.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} تَفْسِير سُورَة الحجرات وَهِي مَدَنِيَّة بِاتِّفَاق الْقُرَّاء، وروى (ثَوْبَان) عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَعْطَيْت السَّبع الطول مَكَان التَّوْرَاة، وَأعْطيت المائين مَكَان الْإِنْجِيل، وَأعْطيت المثاني مَكَان الزبُور، وفضلني رَبِّي بالمفصل ". وَمِنْهُم من قَالَ: الْمفصل من سُورَة مُحَمَّد، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْمفصل من هَذِه السُّورَة، وَالله أعلم.

الحجرات

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} روى عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى قَوْله: {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} أَي: لَا تَقولُوا خلاف الْكتاب وَالسّنة. وَقَالَ مُجَاهِد: لَا تفتاتوا على الله وَرَسُوله حَتَّى يقْضِي الله على لِسَان رَسُوله مَا شَاءَ. قَالَ: وَمعنى " لَا تفتاتوا " أَي: لَا تعارضوا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: لَا تعجلوا بالْقَوْل قبل قَول الرَّسُول، وَلَا بِالْفِعْلِ قبل فعل الرَّسُول، وَهُوَ فِيمَا يُوجد عَنهُ من أَمر الدّين فعلا وقولا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: كَانَ نَاس يَقُولُونَ: لَو أنزل كَذَا، لَو أنزل كَذَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: ذبح النَّاس أضحيتهم قبل صَلَاة النَّبِي يَوْم الْعِيد،

{وَاتَّقوا الله إِن الله سميع عليم (1) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت} فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن نَاسا صَامُوا يَوْم الشَّك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: لَا تَفعلُوا الطَّاعَات قبل وَقت فعلهَا، وَهَذَا فِي جَمِيع الْعِبَادَات إِلَّا مَا قَامَ (على جَوَازه) دَلِيل من السّنة. وروى عبد الله بن الزبير " أَن وَفد بني تَمِيم قدمُوا على النَّبِي، فَقَالَ أَبُو بكر: يَا رَسُول الله، أَمر عَلَيْهِم الْأَقْرَع بن حَابِس، وَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، أَمر عَلَيْهِم فلَانا غير الَّذِي قَالَ أَبُو بكر، وَيُقَال: إِن الرجل الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ عمر هُوَ الْقَعْقَاع بن معبد بن زُرَارَة، فَقَالَ أَبُو بكر لعمر رَضِي الله عَنْهُمَا مَا أردْت [إِلَّا خلافي] ، وَقَالَ عمر: مَا أردْت خِلافك، فتماريا عِنْد النَّبِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". وَقَرَأَ الضَّحَّاك: " لَا تقدمُوا " وَهِي قِرَاءَة يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ، وَمَعْنَاهُ: لَا تتقدموا. وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله سميع عليم} أَي: سميع لقولكم، عليم لما أَنْتُم عَلَيْهِ.

2

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} فِي التَّفْسِير: أَن الْأَعْرَاب الْجُهَّال [كَانُوا يقدمُونَ] على النَّبِي، ويرفعون أَصْوَاتهم

{النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض} فَوق صَوته، ويدعونه باسمه فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّد، يَا أَبَا الْقَاسِم، وَكَانَ ذَلِك نوع تهاون بِحقِّهِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة؛ ليكلموه كَلَام المبجل الْمُعظم لَهُ الدَّال على تَوْفِيَة حَقه فِي الْخطاب. وَرُوِيَ أَن ثَابت بن قيس بن شماس كَانَ بِهِ صمم، وَكَانَ جهير الصَّوْت، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة جلس فِي بَيته غما. وَيُقَال: سمر بَابه بالحديد، وَقَالَ: أَخَاف أَن يكون قد حَبط عَمَلي، فَدَعَاهُ النَّبِي وَقَالَ: " أما ترْضى أَن تعيش حميدا وَتَمُوت شَهِيدا " قَالَ: نعم. قَالَ: " تكون كَذَلِك " وَاسْتشْهدَ يَوْم الْيَمَامَة. وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُ: " أَنْت من أهل الْجنَّة ". وَعَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة: وَالله لَا أكلم رَسُول الله إِلَّا كأخى السرَار. وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ بعد نزُول هَذِه الْآيَة لَا يكلم رَسُول الله إِلَّا خَافِضًا صَوته حَتَّى كَانَ يَسْتَفْهِمهُ رَسُول الله مَا يَقُوله. وَقَوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بالْقَوْل كجهر بَعْضكُم لبَعض} وَهُوَ نهى عَن رفع الصَّوْت فِي حَضرته. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَن تناديه باسمه، وَهُوَ أَن تَقول: يَا مُحَمَّد، يَا أَبَا الْقَاسِم، فَنهى الله تَعَالَى عَن ذَلِك، وَأمر ان يدعى باسم النُّبُوَّة والرسالة. وَحكي عَن مَالك بن أنس أَنه قَالَ: من قَالَ إِن رَسُول الله وسخ يُرِيد بِهِ النَّقْص كفر بِاللَّه

{أَن تحبط أَعمالكُم وَأَنْتُم لَا تشعرون (2) إِن الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتهم عِنْد رَسُول الله أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم (3) إِن الَّذين} تَعَالَى. وَقَوله: {أَن تحبط أَعمالكُم} أَي: فتحبط أَعمالكُم، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْن مَسْعُود، وَيُقَال: لِئَلَّا تحبط أَعمالكُم. وَقَوله: {وَأَنْتُم لَا تشعرون} أَي: لَا تعلمُونَ بحبوط الْأَعْمَال.

3

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتهم عِنْد رَسُول الله} أَي: يخفضونها. وَقَوله: {أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى} أَي: أخْلص الله قُلُوبهم للتقوى. وَيُقَال: امتحن الله قُلُوبهم فَوَجَدَهَا خَالِصَة. وَيُقَال: إِن المُرَاد من الْقُلُوب أَرْبَاب الْقُلُوب يَعْنِي امتحنهم الله تَعَالَى وابتلاهم ليكونوا متقين، وَاللَّام لَام الصيرورة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} . وَقَوله تَعَالَى: {لَهُم مغْفرَة وَأجر عَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

4

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يُنَادُونَك من وَرَاء الحجرات} ذكر الْمُفَسِّرُونَ أَن وَفد تَمِيم قدمُوا على النَّبِي وَجعلُوا يُنَادُونَهُ من وَرَاء الحجرات يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد اخْرُج إِلَيْنَا، وَكَانَ فيهم قيس بن عَاصِم الْمنْقري، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حَابِس، والقعقاع بن معبد، وَغَيرهم. وَرُوِيَ أَن الْأَقْرَع بن حَابِس قَالَ: يَا مُحَمَّد إِن مدحي زين، وذمي شين، فَقَالَ رَسُول الله: " ذَاك هُوَ الله ".

{يُنَادُونَك من وَرَاء الحجرات أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ (4) وَلَو أَنهم صَبَرُوا حَتَّى تخرج إِلَيْهِم لَكَانَ خيرا لَهُم وَالله غَفُور رَحِيم (5) } وَقَوله: {أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} أَي: هم من قوم أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ. وَيُقَال: كَانَ فيهم من إِذا علم يعقل وَيعلم، وَكَانَ فيهم من لَا يعقل وَلَا يعلم وَإِن علم، فَلهَذَا قَالَ: {أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} وَإِن علمُوا وعقلوا.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَنهم صَبَرُوا حَتَّى تخرج إِلَيْهِم لَكَانَ خيرا لَهُم} رُوِيَ أَن النَّبِي بعث سَرِيَّة فَأَصَابُوا سَبَايَا من (بلعمر) بن غنم، فجَاء رِجَالهمْ يطْلبُونَ الْفِدَاء وَجعلُوا ينادون: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد اخْرُج إِلَيْنَا نفاديك فَخرج، وخلى عَن بعض السَّبي وفادى الْبَعْض، وَكَانَ قد أَرَادَ أَن يخلى عَن جَمِيعهم فَلَمَّا أساءوا الْأَدَب خلى عَن بَعضهم وفادى الْبَعْض فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَنهم صَبَرُوا حَتَّى تخرج إِلَيْهِم لَكَانَ خيرا لَهُم} أَي: كَانَ خيرا لَهُم بِأَن يخلي عَن جَمِيع السَّبي. وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى. وَفِي هَذِه الْآيَات بَيَان اسْتِعْمَال الْأَدَب فِي مجْلِس النَّبِي. وَذكر بَعضهم عظم الْجِنَايَة فِي ترك ذَلِك، وَمَا يُؤَدِّي إِلَى حبوط الْعَمَل وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب. وَقد كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله يهابون أَن يتكلموا بِحَضْرَتِهِ، وَكَانُوا يحبونَ أَن يَأْتِي الْأَعرَابِي من الْبَادِيَة فَيسْأَل رَسُول الله عَن الشَّيْء ليسمعوا الْجَواب؛ لأَنهم كَانُوا يهابون السُّؤَال. وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ " أَنه قَالَ لرَسُول الله حِين سلم عَن رَكْعَتَيْنِ: أقصرت الصَّلَاة أم نسيت؟ وَقد كَانَ فِي الْقَوْم أَبُو بكر وَعمر ووجوه أَصْحَاب رَسُول الله فهابوا أَن يكلموه، وَتكلم هَذَا الرجل؛ لِأَنَّهُ لم يكن يعلم من قدره وَعظم حَقه مَا كَانُوا يعلمُونَ ".

{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين (6) وَاعْلَمُوا أَن فِيكُم رَسُول الله لَو يطيعكم فِي كثير من الْأَمر لعنتم}

6

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة فِي الْوَلِيد بن عقبَة بن معيط، بَعثه رَسُول الله إِلَى بني المصطلق من خُزَاعَة ليَأْخُذ صَدَقَاتهمْ، وَكَانَ بَينه وَبينهمْ (إحْنَة) فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا قرب مِنْهُم مَجِيئه وسمعوا بِقُرْبِهِ تلقوهُ ليكرموه، فخافهم وَرجع، وَقَالَ للرسول: يَا رَسُول الله، إِنَّهُم منعُوا الزَّكَاة وَفِي رِوَايَة: إِنَّهُم ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام وَلم يُعْطوا شَيْئا، فَبعث النَّبِي خَالِد بن الْوَلِيد سَرِيَّة إِلَيْهِم، [وَأمره] أَن يتعرف حَالهم، فَإِن كَانَ على مَا قَالَ الْوَلِيد قَاتلهم، فَذهب خَالِد وجاءهم لَيْلًا فَسمع صَوت المؤذنين بَينهم، وَسمع تِلَاوَة الْقُرْآن، فَرجع وَأخْبر النَّبِي، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقد رُوِيَ أَن النَّبِي لما سمع قَول الْوَلِيد غضب، وَبعث من يقاتلهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ذكر هَذَا قَتَادَة وَغَيره. فَحكى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ بعد هَذَا: " التأني من الله، والعجلة من الشَّيْطَان ". وَقَوله: {إِن جَاءَكُم فَاسق} قَالُوا: الْفَاسِق هَاهُنَا هُوَ الْكذَّاب. وَأما اللُّغَة قد بَينا أَنه الْخَارِج عَن طَاعَة الله. وَقَوله: {فَتَبَيَّنُوا} وَقُرِئَ: " فتثبتوا " ومعناهما مُتَقَارب، وَهُوَ ترك العجلة، والتدبر والتأني فِي الْأَمر. وَقَوله: {أَن تصيبوا قوما بِجَهَالَة} مَعْنَاهُ: لِئَلَّا تصيبوا قوما بِجَهَالَة، وَمعنى الْإِصَابَة هَاهُنَا: هُوَ الْإِصَابَة من الدَّم وَالْمَال بِالْقَتْلِ والأسر والاغتنام. وَقَوله: {فتصبحوا على مَا فَعلْتُمْ نادمين} أَي: تصيروا نادمين على فعلكم، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الإصباح للَّذي هُوَ ضد الإمساء.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَن فِيكُم رَسُول الله لَو يطيعكم فِي كثير من الْأَمر لعنتم}

{وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم لراشدون (7) فضلا من الله ونعمة وَالله عليم حَكِيم (8) وَإِن طَائِفَتَانِ} أَي: لهلكتم. وَقيل: غويتم وضللتم. وَيُقَال: نالكم التَّعَب وَالْمَشَقَّة. وَقَوله: {يطيعكم} نوع مجَاز؛ لِأَن الطَّاعَة فِي الْحَقِيقَة فعل من الأدون على مُوَافقَة قَول الْأَعْلَى. وَقد رُوِيَ عَن بعض السّلف أَنه قَالَ: نعم الرب رَبنَا، لَو أطعناه مَا عصانا، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز والتوسع فِي الْكَلَام، قَالَ الشَّاعِر: (رب من أَصبَحت غيظا صَدره ... لَو تمنى فِي موتا لم يطع) أَي: لم يدْرك مَا تمناه، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز. وَقَوله: {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان} يُقَال: حببه بِإِقَامَة الدَّلَائِل على وحدانيته وهدايتهم إِلَيْهَا. وَيُقَال: حببه بِذكر الثَّوَاب والوعد الصَّادِق. وَقَوله: {وزينه فِي قُلُوبكُمْ} حَتَّى قبلوه وآثروه على طَرِيق غَيره، وطبع الْآدَمِيّ مجبول على اخْتِيَار مَا زين فِي قلبه، فَلَمَّا هدى الله الْمُؤمنِينَ إِلَى الْإِيمَان، وأمال قُلُوبهم إِلَيْهِ حَتَّى قبلوه، سمى ذَلِك تزيينا للْإيمَان فِي قُلُوبهم. وَقَوله: {وَكره إِلَيْكُم الْكفْر} يُقَال: كره الْكفْر بِذكر الْوَعيد والتخويف على فعله. وَقَوله: {والفسوق والعصيان} والفسوق: كل مَا يفسق بِهِ الْإِنْسَان أَي: يخرج بِهِ عَن طَاعَة الله. والعصيان: مُخَالفَة الْأَمر. وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الراشدون فضلا من الله ونعمة} أَي: المهتدون تفضلا من الله وإنعاما. وَقَوله: {وَالله عليم حَكِيم} أَي: عليم بخلقه، حَكِيم فِيمَا يدبره لَهُم.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} قَالَ سعيد بن جُبَير وَغَيره: الْآيَة فِي الْأَوْس والخزرج، كَانَ بَينهم قتال بِالْجَرِيدِ وَالنعال وَالْأَيْدِي فِي أَمر تنازعوه بَينهم.

{من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا} وَقَالَ غَيره وَهُوَ قَتَادَة: هُوَ فِي رجلَيْنِ اخْتَصمَا فِي عهد النَّبِي فِي حق بَينهمَا، فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر: لآخذن مِنْك عنْوَة تعززا بِكَثْرَة عشيرته، وَقَالَ الآخر: لَا، بل أحاكمك إِلَى رَسُول الله، فَلم يزل بَينهمَا الْأَمر حَتَّى تواثبا وتضاربا، (وَكَانَ بَينهمَا قتال) بالنعل وَالْيَد، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَالَ مُجَاهِد: الطَّائِفَة اسْم للْوَاحِد إِلَى ألف وَأكْثر. وَرُوِيَ أَن النَّبِي لما قدم الْمَدِينَة قيل لَهُ: لَو أتيت عبد الله بن أبي بن سلول فدعوته إِلَى الْإِيمَان، فَركب حمارا وَتوجه إِلَيْهِ، وَكَانَت الأَرْض أَرضًا سبخَة، وَأَصْحَابه حوله فثار الْغُبَار، فَلَمَّا بلغ الْموضع الَّذِي فِيهِ عبد الله بن أبي بن سلول وَعِنْده جمَاعَة، قَالَ: إِلَيْك عَنَّا يَا مُحَمَّد، فقد أذانا نَتن حِمَارك. فَقَالَ عبد الله بن رَوَاحَة: وَالله إِن حِمَاره أطيب (ريحًا) مِنْك. فَغَضب لعبد الله بن أبي سلول قوم، ولعَبْد الله بن رَوَاحَة قوم، فثار بَينهم الشَّرّ، وتقاتلوا بِالْعِصِيِّ وَالنعال وَمَا أشبه ذَلِك، وَأَرَادَ النَّبِي أَن يسكنهم فَلم يُمكنهُ، ثمَّ إِنَّهُم سكنوا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَذكر البُخَارِيّ خَبرا فِي الصَّحِيح بِرِوَايَة أنس قَرِيبا من هَذَا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، وَإِنَّمَا سمى الله تَعَالَى ذَلِك مقاتلة؛ لِأَن الجري عَلَيْهِ يُؤَدِّي إِلَى الْقَتْل، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ من قصَّة عبد الله بن أبي بن سلول وَعبد الله بن رَوَاحَة ذكره الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَغَيرهمَا. وَقَوله: {فأصلحوا بَينهمَا} أَي: فَاسْعَوْا (لدفع) الْفساد وَإِزَالَة الشَّرّ. وَاعْلَم أَنه إِذا وَقع مثل هَذَا بَين طائفتين يجب على الإِمَام أَن يَنُوب عَن الإِمَام ينظر بَينهمَا ويحملهما على الْحق، فَإِن امْتنعت إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَن قبُول الْحق [ردهَا]

{فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فَإِن فاءت فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ واقسطوا إِن الله يحب المقسطين (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} إِلَى الْحق أَولا بالْكلَام، ثمَّ يترقى دَرَجَة دَرَجَة إِلَى أَن يبلغ الْقِتَال، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} أَي: ترجع إِلَى أَمر الله. وَقَوله: {فَإِن فاءت} أَي: رجعت، وَمَعْنَاهُ: انقادت للحق. وَقَوله: {فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ} أَي: بِالْحَقِّ. وَقَوله: {وأقسطوا} أَي: وأعدلوا. وَقَوله: {إِن الله يحب المقسطين} أَي: العادلين، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " المقسطون يَوْم الْقِيَامَة عَن يَمِين الرَّحْمَن، قيل: وَمن هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الَّذين عدلوا فِي حكمهم لأَنْفُسِهِمْ وأهليهم وَمَا ولوا ".

10

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة} أَي: فِي التوالي والتعاضد والتراحم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} . وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا ". وَرُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ: " الْمُؤْمِنُونَ كَنَفس وَاحِدَة، إِذا اشْتَكَى بعضه تداعى سائره للحمى والسهر ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر أَن النَّبِي قل: " الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، لَا يَظْلمه، وَلَا

{فأصلحوا بَين أخويكم وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ ترحمون (10) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يسخر} يشتمه، وَمن كَانَ فِي حَاجَة أَخِيه الْمُسلم كَانَ الله فِي حَاجته، وَمن ستر على أَخِيه الْمُسلم ستر الله عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَمن فرج عَن أَخِيه الْمُسلم فرج الله عَنهُ كربَة من كرب يَوْم الْقِيَامَة ". خرجه البُخَارِيّ وَمُسلم. وَقَوله: {فأصلحوا بَين أخويكم} ذكر الْأَخَوَيْنِ ليدل بِوُجُوب الْإِصْلَاح بَينهمَا على وجوب الْإِصْلَاح بَين الْجمع الْكثير. وَقَوله: {وَاتَّقوا الله} أَي: اتَّقوا الله من أَن لَا تتركوهم على الْفساد، وَأَن تسعوا فِي طلب الصّلاح. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ ترحمون} أَي: يعْطف الله تَعَالَى عَلَيْكُم، وَيَعْفُو عَنْكُم. وَيُقَال: {فأصلحوا بَين أخويكم} أَي: إخْوَانكُمْ، وروى أَسْبَاط عَن السدى أَن رجلا من الْأَنْصَار كَانَت لَهُ امْرَأَة، فَأَرَادَتْ أَن تزور أَهلهَا فَمنعهَا زَوجهَا، وَجعلهَا فِي علية لَهُ، فجَاء أَهلهَا ليحملوها إِلَيْهِم، واستعان الرجل بقَوْمه فِي منعهَا؛ فَوَقع بَينهم شَرّ وقتال، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.

11

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يسخر قوم من قوم} السخرية: هُوَ الِاسْتِهْزَاء والبطر يَعْنِي: المهانة والاحتقار. وَقَوله: {قوم من قوم} الْقَوْم هَاهُنَا بِمَعْنى الرِّجَال، قَالَ الشَّاعِر: (وَلَا أَدْرِي وَلست أخال أَدْرِي ... أقوم آل حصن أم نسَاء) وَإِنَّمَا سمي الرِّجَال قوما دون النِّسَاء؛ لأَنهم الَّذين يقومُونَ بالأمور. قَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي الِاسْتِهْزَاء؛ الْغَنِيّ بالفقير، وَالْقَوِي بالضعيف. وَيُقَال: استهزاء الدهاة بِأَهْل سَلامَة الْقُلُوب.

{قوم من قوم عَسى أَن يَكُونُوا خيرا مِنْهُم وَلَا نسَاء من نسَاء عَسى أَن يكن خيرا مِنْهُنَّ وَلَا تلمزوا أَنفسكُم وتنابزوا بِالْأَلْقَابِ} وَقَوله: {عَسى أَن يَكُونُوا خيرا مِنْهُم} أَي: عَسى أَن يكون المستهزئ مِنْهُ خيرا من المستهزئ. وَقَوله: {وَلَا نسَاء من نسَاء} أَي: وَلَا يسخر نسَاء من نسَاء عَسى أَن تكون خيرا مِنْهُنَّ، أَي: عَسى أَن تكون المستهزأة مِنْهَا خيرا من المستهزئة، وَالْمرَاد فِي الْآخِرَة. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ لأبي ذَر: " أنظر إِلَى أوضع رجل فِي الْمَسْجِد عنْدك، فَأَشَارَ إِلَى فَقير عَلَيْهِ أطمار. فَقَالَ: انْظُر إِلَى أرفع رجل فِي الْمَسْجِد عنْدك، فَأَشَارَ إِلَى بعض الْأَغْنِيَاء وَعَلِيهِ شارة فَقَالَ: هَذَا يَوْم الْقِيَامَة أفضل من ملْء الأَرْض من هَذَا " وعنى بِهِ الْفَقِير. وَقَوله: {وَلَا تلمزا أَنفسكُم} أَي: (لَا يعيب) بَعْضكُم بَعْضًا [أَي:] مثل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} أَي: لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا. قَالَ الضَّحَّاك: لَا يلعن بَعْضكُم بَعْضًا، وَيُقَال: لَا يطعن بَعْضكُم على بعض. وَقَوله: {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} النبز واللقب بِمَعْنى وَاحِد. وَمعنى النبز هَاهُنَا: هُوَ اللقب الْمَكْرُوه الَّذِي يكره الْإِنْسَان أَن يدعى بِهِ. وَعَن

{بئس الِاسْم الفسوق بعد الْإِيمَان} [أبي] جبيرَة الْأنْصَارِيّ قَالَ: " قدم رَسُول الله علينا الْمَدِينَة ولأحدنا الِاسْم والاسمان وَالثَّلَاثَة، فَكَانَ رَسُول الله يَدْعُو بذلك الِاسْم، فَقيل لَهُ: إِنَّه يغْضب إِذا دعِي بِهَذَا، فَترك ذَلِك، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". قَالَ مُجَاهِد وَالْحسن: هُوَ أَن يَقُول لمن أسلم: يَا يَهُودِيّ، يَا نَصْرَانِيّ تعييرا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ من قبل. وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة: هُوَ أَن يَقُول يَا مُنَافِق، يَا فَاسق. وَفِي بعض التفاسير: أَنه كَانَ بَين كَعْب بن مَالك وَعبد الله بن أبي حَدْرَد الْأَسْلَمِيّ مُنَازعَة فَقَالَ كَعْب بن مَالك لعبد الله: يَا أَعْرَابِي، وَقَالَ عبد الله لكعب: يَا يَهُودِيّ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ونهاهم عَن مثل هَذَا. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من حق الْمُسلم على الْمُسلم أَن يَدعُوهُ بِأحب أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ ". وَقَوله: {بئس الِاسْم الفسوق بعد الْإِيمَان} اسْتدلَّ بِهَذَا من قَالَ إِن الْفَاسِق

{وَمن لم يتب فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اجتنبوا كثيرا من الظَّن إِن} لَا يكون مُؤمنا، قَالَ: لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْفَاسِق مُؤمنا لم يستقم قَوْله: {بعد الْإِيمَان} وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد مِنْهُ النَّهْي عَن قَوْله: يَا فَاسق، يَا مُنَافِق، وَكَأَنَّهُ قَالَ: بئس الْوَصْف بالفسوق بعد الْإِيمَان بِاللَّه. وَقَالَ: إِن " بعد " هَاهُنَا بِمَعْنى: " مَعَ " وَمَعْنَاهُ: بئس اسْم الفسوق مَعَ الْإِيمَان. وَقَوله: {وَمن لم يتب فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} أَي: من لم يتب عَن هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي كَانُوا يفعلونها فِي الْجَاهِلِيَّة؛ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ.

12

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اجتنبوا كثيرا من الظَّن إِن بعض الظَّن إِثْم} قد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إيَّاكُمْ وَالظَّن، فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " إِذا حسدت فَلَا تَبْغِ، وَإِذا نظرت حداء فَامْضِ، وَإِذا ظَنَنْت فَلَا تحقق ". وَعَن أنس أَن النَّبِي قَالَ: " احترسوا من النَّاس بِسوء الظَّن ". وَهُوَ خبر غَرِيب. وَعَن سلمَان الْفَارِسِي قَالَ: " إِنِّي لأعد عراق اللَّحْم فِي الْقدر مَخَافَة سوء الظَّن. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: الْخَتْم خير من (الظَّن) وَعَن السوء [أبي] الْعَالِيَة الريَاحي أَنه ختم على سبع سَكَرَات لِئَلَّا يظنّ ظن السوء.

{بعض الظَّن إِثْم وَلَا تجسسوا} وَاعْلَم أَن الظَّن الْمنْهِي عَنهُ هُوَ ظن السوء بِأَهْل الْخَيْر، فَأَما بِأَهْل الشَّرّ فَجَائِز. وَقَوله: {إِن بعض الظَّن إِثْم} يَعْنِي: هَذَا الظَّن. وَقَوله: {وَلَا تجسسوا} التَّجَسُّس: هُوَ الْبَحْث عَن عورات النَّاس، قَالَه مُجَاهِد وَقَرَأَ ابْن سِيرِين: " وَلَا تحسسوا " بِالْحَاء. وَاخْتلفُوا فِي التَّجَسُّس والتحسس، مِنْهُم من قَالَ: هما وَاحِد، وَمِنْهُم من فرق، وَقَالَ: التَّجَسُّس هُوَ الْبَحْث عَن عورات (النَّاس) كَمَا قُلْنَا. والتحسس هُوَ الِاسْتِمَاع إِلَى حَدِيث الْقَوْم، وَيُقَال: التَّجَسُّس هُوَ الْبَحْث عَن الْأُمُور، والتحسس هُوَ الْإِدْرَاك بِبَعْض الْحَواس، وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أنس أَنه قَالَ: " لَا تقاطعوا وَلَا تدابروا وَلَا تباغضوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تجسسوا وَكُونُوا عباد الله إخْوَانًا " قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله: أخبرنَا [الشَّيْخ] أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد ابْن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد عبد الله بن يزِيد الْمُقْرِئ، عَن جده، عَن مُحَمَّد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن الزُّهْرِيّ، عَن أنس ... الحَدِيث. وَفِي بعض الْآثَار أَن عمر رَضِي الله عَنهُ خرج وَمَعَهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف يعس لَيْلَة، فمرا بدار وَسَمعنَا مِنْهَا لغظا وأصواتا، فَقَالَ عمر: أرى أَنهم يشربون الْخمر {مَاذَا نَفْعل؟} فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف: أرى أَنا أَتَيْنَا مَا نهينَا عَنهُ يَعْنِي: التَّجَسُّس وَرجع. وَفِي هَذَا الْأَثر أَن تِلْكَ الدَّار كَانَت دَار ربيعَة بن أُميَّة بن خلف. وَفِي أثر آخر أَنه قيل لِابْنِ مَسْعُود: هَل لَك فِي الْوَلِيد بن عقبه ولحيته تقطر خمرًا وَكَانَ الْوَلِيد أَمِير الْكُوفَة، وَابْن مسود فقيهها فَقَالَ: إِنَّا نهينَا عَن التَّجَسُّس.

{وَلَا يغتب بَعْضكُم بَعْضًا} وَقَوله: {وَلَا يغتب بَعْضكُم بَعْضًا} الْغَيْبَة: أَن يذكر أَخَاهُ فِي الْغَيْبَة بِمَا يكره ذَلِك إِذا سَمعه. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي سُئِلَ عَن الْغَيْبَة؟ فَقَالَ: " ذكرك أَخَاك بِمَا يكره " فَقيل: يَا رَسُول الله، إِن كَانَ فِي أخي مَا أَقُول؟ فَقَالَ: " إِن كَانَ فِي أَخِيك مَا تَقوله فقد اغْتَبْته، وَإِن لم يكن فِي أَخِيك مَا تَقوله فقد بَهته " وَفِي الْأَخْبَار أَن امْرَأَة دخلت على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَلَمَّا خرجت قَالَت عَائِشَة: مَا أحْسنهَا لَوْلَا بهَا قصرا، فَقَالَ النَّبِي: " لقد اغتبتيها، فاستغفري الله " وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا اغتاب أحدكُم أَخَاهُ فليستغفر لَهُ؛ فَإِن ذَلِك كَفَّارَته ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إيَّاكُمْ والغيبة، فَإِن الْغَيْبَة أَشد من الزِّنَا، وَإِن الزَّانِي يَزْنِي ثمَّ يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ، وَإِن صَاحب الْغَيْبَة لَا يغْفر لَهُ حَتَّى يغْفر لَهُ صَاحبه " يَعْنِي: يعْفُو عَنهُ.

{أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه مَيتا فكرهتموه وَاتَّقوا الله إِن الله تواب رَحِيم (12) يَا أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إِن أكْرمكُم} وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَنه لَيْسَ لفَاسِق غيبَة ". وَقَالَ: " اذْكروا الْفَاجِر بِمَا فِيهِ، يحذرهُ النَّاس " قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ لثَلَاثَة غيبَة: السُّلْطَان الظَّالِم، وَالْفَاسِق الْمُعْلن، وَالَّذِي أحدث فِي الْإِسْلَام حَدثا يَعْنِي: المبتدع. وَكَذَلِكَ قَالَ أهل الْعلم: إِذا سَأَلَ إِنْسَان إنْسَانا لغَرَض لَهُ صَحِيح، فَلَا بَأْس أَن يذكر مَا فِيهِ. والغيبة مَأْخُوذَة من الْغَيْب؛ كَأَنَّهُ لما ذكره بِظهْر الْغَيْب بِمَا يسوءه كَانَ ذكره لَهُ غيبَة. وَقد كَانَ السّلف يحترزون أَشد الِاحْتِرَاز من مثل هَذَا. رُوِيَ أَن طبيبين دخلا على ابْن سِيرِين، فَلَمَّا خرجا قَالَ: لَوْلَا أَن يكون غيبَة لذكرت أَيهمَا أطب. وَعَن مُعَاوِيَة بن قُرَّة قَالَ: لَو دخل عَلَيْك رجل أقطع فَقلت: هَذَا الأقطع يَعْنِي: بعد مَا خرج كنت قد اغْتَبْته، قَالَ أَبُو إِسْحَاق: صدق يَعْنِي: السبيعِي وَقَالَ أهل الْعلم: إِذا قَالَ فلَان الْأَعْمَش أَو فلَان الْأَعْوَر أَو فلَان البطين [يُرِيد] بذلك تَعْرِيفه،

{عِنْد الله أَتْقَاكُم إِن الله عليم خَبِير (13) قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم} وَلَا يعرف إِلَّا بِهِ، لَا بَأْس بِهِ. وَكَانَ بعض أَئِمَّة الحَدِيث إِذا رُوِيَ عَن مُسلم البطين يَقُول: حَدثنَا مُسلم، وَأَشَارَ بيدَيْهِ إِلَى كبر الْبَطن. وَذكر ابْن سِيرِين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَوضع يَده على عينه وَكَانَ إِبْرَاهِيم أَعور فَقَالَ: رَأَيْته تِلْكَ الْمُشَاهدَة، وَمَا خلف بعده مثله. وَقَوله تَعَالَى: {أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه مَيتا فكرهتموه} أَي: كَمَا يكره أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه وَهُوَ ميت، فَكَذَلِك فليكره أَن يذكرهُ بالسوء وَهُوَ غَائِب، فَإِن قَالَ قَائِل: أيش التشابه بَينهمَا فِي الْمَعْنى؟ وَالْجَوَاب: أَنه إِذا أكل لَحْمه وَهُوَ ميت فقد هتك حرمته، وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ، وَإِذا ذكره بالسوء بِظهْر الْغَيْب فقد هتك حرمته، وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ. وَعَن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه مر على حمَار ميت فَقَالَ: لِأَن يمْلَأ أحدكُم جَوْفه من هَذَا اللَّحْم خير لَهُ من أَن يغتاب أَخَاهُ. وَيُقَال للمغتاب فِي اللُّغَة: فلَان يَأْكُل لُحُوم النَّاس: وَأنْشد فِي التَّفْسِير فِي هَذَا الْمَعْنى: (فَإِن أكلُوا لحمي وفرت لحومهم ... وَإِن هدموا مجدي بنيت لَهُم مجدا) وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله تواب رَحِيم} أَي: قَابل التَّوْبَة عَن خلقه عطوف بهم.

13

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى} أَي: آدم وحواء عَلَيْهِمَا السَّلَام {وجعلناكم شعوبا وقبائل} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الشعوب: الْجُمْهُور مثل: مُضر، وَرَبِيعَة، والقبائل: هم الْبُطُون مِنْهُم، كتميم من مُضر، وشيبان من ربيعَة، وَمِنْهُم من قَالَ: الشعوب هم الأبعدون فِي النّسَب، والقبائل هم الأقربون فِي النّسَب. وَعَن بَعضهم: أَن الشعوب فِي الْعَجم، والقبائل فِي الْعَرَب. وَالْوَاحد من الشعوب شعب وَشعب بِفَتْح الشين وَكسرهَا، وَهُوَ من التشعب. وَقَوله: {لتعارفوا} أَي: ليعرف بَعْضكُم بَعْضًا، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " لتتعارفوا " وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " لتعرفوا "، وَقيل على هَذِه الْقِرَاءَة: " لتعرفوا إِن أكْرمكُم عِنْد الله

{شَيْئا إِن الله غَفُور رَحِيم (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون (15) قل أتعلمون الله} أَتْقَاكُم " (بِفَتْح الْألف) . وَالصَّحِيح هُوَ الْقِرَاءَة الأولى، وَالْمرَاد من الْآيَة قطع التفاخر بِالْأَحْسَابِ والأنساب. وَقَوله: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} فِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة: سَيعْلَمُ أهل الْجمع من أولى بِالْكَرمِ؛ أَيْن المتقون؟ ". وَفِي خبر آخر: أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: " أَيهَا النَّاس إِنَّكُم رفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي؛ فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم؛ أَيْن المتقون؟ " وَفِي التَّفْسِير: " أَن ثَابت بن قيس بن شماس كَانَ بِهِ صمم، وَكَانَ يحب الدنو من رَسُول الله يسمع كَلَامه، فجَاء يَوْم وَقد أَخذ النَّاس مجَالِسهمْ، فَجعل يدْخل بَين الْقَوْم ليقرب من رَسُول الله، فَقَالَ لَهُ رجل: اجْلِسْ حَيْثُ انْتهى بك الْمجْلس، فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا فلَان فَقَالَ: ابْن فُلَانَة، وَذكر أما لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ يعير بهَا، فَسمع ذَلِك رَسُول الله، فَقَالَ: " يَا ثَابت انْظُر فِي الْقَوْم "، فَنظر، فَقَالَ: " لَيْسَ لَك مِنْهُم فضل إِلَّا بالتقوى " وَقد ذكر هَذَا فِي سَبَب نزُول قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تلمزوا أَنفسكُم} وَالتَّقوى هُوَ

{بدينكم وَالله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَالله بِكُل شَيْء عليم (16) يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان إِن} الِاحْتِرَاز عَن كل مَا نهى الله عَنهُ. وَقد قَالَ أهل الْعلم: قد يكون للنسيب فضل فِي الدُّنْيَا على معنى أَن غير النسيب لَا يكون كفأ للنسيب، وَإِذا اجْتمع النسيب وَغير النسيب فِي الْإِمَامَة، فالنسيب أولى إِذا اتفقَا فِي الْعلم وَالتَّقوى، فَأَما فِي الْآخِرَة فَلَا فضل للنسيب، إِنَّمَا الْفضل للتقوى. وَقَوله: {إِن الله عليم خَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.

14

قَوْله تَعَالَى: {قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} أَي: استسلمنا وانقدنا. وَالْآيَة نزلت فِي قوم كَانُوا يظهرون الْإِيمَان بلسانهم وَلَا يصدقون بقلوبهم. وَاخْتلف أهل الْعلم فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام، قَالَ بَعضهم: هما وَاحِد، وَفرق بَعضهم بَينهمَا. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " الْإِسْلَام عَلَانيَة، وَالْإِيمَان فِي الْقلب " وَعَن لزهري: الْإِسْلَام هُوَ الْكَلِمَة، وَالْإِيمَان الْعَمَل. وَفِي خبر " جِبْرِيل صلوَات الله عَلَيْهِ حَيْثُ جَاءَ يسْأَل عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، وَفرق الرَّسُول بَينهمَا، فَجعل الْإِسْلَام هُوَ الْأَعْمَال الظَّاهِرَة، وَالْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق الْبَاطِن ". . وَهَذَا خبر صَحِيح. وَثَبت أَيْضا أَن النَّبِي أعْطى قوما، وَلم يُعْط رجلا، فَقَالَ سعد بن أبي وَقاص: إِنَّك أَعْطَيْت فلَانا وَفُلَانًا وَلم تعط فلَانا وَهُوَ مُؤمن؟ فَقَالَ: " أَو مُسلم " وَاسْتدلَّ من

{كُنْتُم صَادِقين (17) إِن الله يعلم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله بَصِير بِمَا تَعْمَلُونَ (18) } قَالَ فِي أَنَّهُمَا وَاحِد بقوله تَعَالَى: {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} . وَأكْثر الْأَخْبَار دَالَّة على التَّفْرِيق، فَيجوز أَن نفرق مَا قُلْنَا وعَلى مَا ورد فِي الْأَخْبَار، وَيجوز أَن يُقَال: هما وَاحِد، فَيكون الْإِسْلَام بِمَعْنى الْإِيمَان، وَالْإِيمَان بِمَعْنى الْإِسْلَام، وَهُوَ الْمُتَعَارف بَين الْمُسلمين أَن يفهم من أَحدهمَا مَا يفهم من الآخر، وَالله أعلم. وَقَوله: {وَلما يدْخل الْإِيمَان فِي قُلُوبكُمْ} هُوَ دَلِيل على أَنهم لم يَكُونُوا مُصدقين فِي الْبَاطِن. وَقَوله: {وَإِن تطيعوا الله وَرَسُوله لَا يلتكم من أَعمالكُم} وَقُرِئَ: " لَا يألتكم " أَي: لَا ينقصكم. وَأما من قَرَأَ: " لَا يألتكم من أَعمالكُم شَيْئا " فَهُوَ بِمَعْنى النَّقْص أَيْضا، قَالَ الشَّاعِر: (وَلَيْلَة ذَات سري سريت ... وَلم يلتني عَن سراها لَيْت) قَوْله تَعَالَى: {إِن الله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

15

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا} أَي: صدقُوا وَلم يشكوا. وَقَوله: {وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} أَي: قدوا أنفسهم وبذلوا أَمْوَالهم فِي طلب رضى الله. وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الصادقون} بِمَعْنى هم الْمُحَقِّقُونَ فِي الْإِيمَان، فَكَأَنَّهُ لما ذكر

الْمُنَافِقين فِي الْآيَة الأولى ذكر صفة الْمُؤمنِينَ الْمُحَقِّقين فِي هَذِه الْآيَة الْكَوْن الرَّغْبَة إِلَيْهِ.

16

قَوْله تَعَالَى: {قل أتعلمون الله بدينكم} علم هَاهُنَا بِمَعْنى أعلم. وَقَوله: {وَالله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَالله بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم، وَقد كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْإِسْلَام كَذَا، وَقد أسلمنَا، وَالْإِيمَان كَذَا، وَقد آمنا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.

17

قَوْله تَعَالَى: {يمنون عَلَيْك أَن أَسْلمُوا} قَالَ سعيد بن جُبَير وَغَيره: نزلت الْآيَة فِي أَعْرَاب من بني أَسد كَانُوا يَقُولُونَ: يَا رَسُول الله، إِنَّا آمنا بك، وَلم نقاتلك كَمَا قَاتلك بَنو فلَان وَبَنُو فلَان، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك منا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن أعرابا قدمُوا الْمَدِينَة وهم (جمع) كثير، فأغلوا الأسعار وتحبسوا الطّرق، فَكَانُوا يَقُولُونَ: يَا رَسُول الله، إِنَّا قد آمنا بك فَأَعْطِنَا كَذَا كَذَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {قل لَا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان} أَي: هُوَ الَّذِي أنعم عَلَيْكُم بإخراجكم من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان. وَقَوله: {إِن كُنْتُم صَادِقين} مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَن الْمِنَّة لله عَلَيْكُم إِن كُنْتُم صَادِقين أَنكُمْ آمنتم بِاللَّه.

18

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يعلم غيب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله بَصِير بِمَا تَعْمَلُونَ} قد ذكرنَا من قبل. وروى عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر أَن النَّبِي خطب يَوْم فتح مَكَّة وَقَالَ: " أَيهَا النَّاس، إِن الله أذهب عَنْكُم عبِّيَّة الْجَاهِلِيَّة وَتَعَاظُمهَا بِالْآبَاءِ؛ فَالنَّاس رجلَانِ: بر تَقِيّ كريم على الله، وَفَاجِر شقي هَين على الله، وَالنَّاس بَنو آدم، وآدَم من

تُرَاب، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {ياأيها النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذكر وَأُنْثَى} الْآيَة. وروى سَمُرَة بن جُنْدُب أَن النَّبِي قَالَ: " الْحسب: المَال، وَالْكَرم: التَّقْوَى ". أورد هذَيْن الْخَبَرَيْنِ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه فِي تَفْسِير هَذِه السُّورَة.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {ق وَالْقُرْآن الْمجِيد (1) بل عجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْء} تَفْسِير سُورَة ق قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: هِيَ مَكِّيَّة.

ق

قَوْله تَعَالَى: {ق} قَالَ قَتَادَة: هُوَ اسْم من أَسمَاء السُّورَة، وَقَالَ مُجَاهِد: {ق} جبل مُحِيط بالدنيا من زمردة خضراء [مِنْهُ] خضرَة السَّمَاء، وَمن خضرَة السَّمَاء خضرَة الْبحار، وَحكي مثل هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة: أَن جبل " ق " من زبرجد أَخْضَر، وَالسَّمَاء مقببة عَلَيْهِ، والجبل مُحِيط بالدنيا، فَإِذا أَرَادَ الله تَعَالَى أَن يزلزل الأَرْض حرك ذَلِك الْجَبَل فتزلزلت الأَرْض، وَهَذَا عِنْد قيام السَّاعَة. وَفِي الْآيَة قَول آخر: قَالَ عِكْرِمَة: إِن " ق " من القاهر. وَفِيه قَول رَابِع: أَن مَعْنَاهُ: قضي مَا كَانَ مثل قَوْله: " حم " أَي: حم مَا كَانَ. وَقَوله: {وَالْقُرْآن الْمجِيد} أَي: عَظِيم الْكَرم، وَيُقَال: الْكَرِيم. يُقَال: تماجد الْقَوْم إِذا تفاخروا بِالْكَرمِ، وأظهروه من أنفسهم، وَقيل: " وَالْقُرْآن الْمجِيد ": أَي: الرفيع، وَمَعْنَاهُ: رفيع الْقدر والمنزلة. فَقَوله: {وَالْقُرْآن الْمجِيد} قسم، فَإِن قيل: أَيْن جَوَاب الْقسم؟ وَالْجَوَاب: أَنهم اخْتلفُوا فِيهِ، مِنْهُم من قَالَ: جَوَاب الْقسم قَوْله: {قد علمنَا مَا تنقص الأَرْض مِنْهُم} أَي: لقد علمنَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن جَوَاب الْقسم مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: {ق وَالْقُرْآن الْمجِيد} لتبعثن. وَالْقَوْل الثَّالِث: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ:

2

{بل عجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم} أَي: مُحَمَّد.

{عَجِيب (2) أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا ذَلِك رَجَعَ بعيد (3) قد علمنَا مَا تنقص الأَرْض مِنْهُم وَعِنْدنَا كتاب حفيظ (4) بل كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فهم ي أَمر مريج (5) وَقَوله: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْء عَجِيب} وتعجبهم كَانَ من الْبَعْث بعد الْمَوْت، وَهُوَ تعجب من غير عجب، والتعجب من غير عجب مستنكر مستقبح.

3

قَوْله تَعَالَى: {أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا} مَعْنَاهُ: أنبعث إِذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا، قَالُوهُ على طَرِيق الْإِنْكَار. وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك رَجَعَ بعيد} أَي: رُجُوع يبعد كَونه.

4

قَوْله تَعَالَى: {قد علمنَا مَا تنقص الأَرْض مِنْهُم} قَالَ الْحسن أَي: يَمُوت مِنْهُم، وَقَالَ مُجَاهِد: مَا تَأْكُل الأَرْض من لحومهم وجلودهم. وَعَن بَعضهم: موت علمائها. وَقَوله: {وَعِنْدنَا كتاب حفيظ} أَي: حَافظ، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَقيل: مَحْفُوظ مَا فِيهِ.

5

قَوْله تَعَالَى: {بل كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فهم فِي أَمر مريج} أَي: مختلط. قَالَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ: (فَخر كَأَنَّهُ خوط مريج ... وَقَالَ غَيره: (فجالست فَالْتمست بِهِ حشاها ... فَخر كَأَنَّهُ غُصْن مريج) وَيُقَال: مريج: ملتبس. وَوجه الالتباس أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي مرّة هُوَ سَاحر، وَمرَّة هُوَ شَاعِر، وَمرَّة هُوَ كَاهِن، [وَكَانُوا] أَيْضا يقرونَ بِالْبَعْثِ مرّة، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْث مرّة، فَهَذَا هُوَ معنى الِاخْتِلَاط والالتباس.

{أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهم كَيفَ بنيناها وزيناها وَمَا لَهَا من فروج (6) وَالْأَرْض مددناها وألقينا فِيهَا رواسي وأنبتنا فِيهَا من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات وَحب الحصيد (9) }

6

قَوْله تَعَالَى: {أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهم كَيفَ بنيناها وزيناها} أَي: بالنجوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر. وَقَوله: {وَمَا لَهَا من فروج} أَي: شقوق.

7

وَقَوله تَعَالَى: {وَالْأَرْض مددناها وألقينا فِيهَا رواسي} أَي الْجبَال. وَقَوله: {وأنبتنا فِيهَا من كل زوج بهيج} أَي: من كل صنف حسن، والبهجة: الْحسن، وعَلى هَذَا قَوْله فِي مَوضِع آخر: {ذَات بهجة} أَي: ذَات حسن.

8

وَقَوله: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} أَي: (تبصرا) للآيات، وموعظة للقلوب. وَيُقَال: تبصرة أَي: يبصر بهَا ذَوُو الْعُيُون " وذكرى " أَي: يذكر بهَا ذَوُو الْقُلُوب. وَقَوله: {لكل عبد منيب} أَي: رَاجع فِي أُمُوره إِلَى الله تَعَالَى.

9

قَوْله تَعَالَى: {ونزلنا من السَّمَاء مَاء مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جنَّات} أَي: الْبَسَاتِين. وَقَوله: {وَحب الحصيد} أَي: حب النبت المحصود، وَهُوَ الْبر وَالشعِير وَغَيره. وَيُقَال: " حب الحصيد ": هُوَ الحصيد نَفسه، كَأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفسه، مثل قَوْلهم: صَلَاة الأولى، وَمَسْجِد الْجَامِع، وَمثل قَوْله تَعَالَى: {حق الْيَقِين} .

10

قَوْله تَعَالَى: {وَالنَّخْل باسقات لَهَا} أَي: طوَالًا. قَالَ عِكْرِمَة: طوَالًا فِي استقامة. وَيُقَال فِي صفة النخيل: الباسقات فِي الوحل، المطعمات فِي الْمحل.

{وَالنَّخْل باسقات لَهَا طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا بِهِ بَلْدَة مَيتا كَذَلِك الْخُرُوج (11) كذبت قبلهم قوم نوح وَأَصْحَاب الرس وَثَمُود (12) وَعَاد وَفرْعَوْن وإخوان} وَقَوله: {لَهَا طلع نضيد} أَي: منضود، وَهُوَ الْمُتَّصِل بعضه بِبَعْض. وَيُقَال: المتراكم بعضه على بعض. قَالَ أهل اللُّغَة: وَإِنَّمَا يُسمى نضيدا مَا دَامَ فِي الطّلع، فَإِذا خرج من الطّلع لم يكن نضيدا، وَعَن بَعضهم قَالَ: إِن نخيل الْجنَّة مثمرة من أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلهَا، وَهِي كالقلال كلما أخذت وَاحِدَة نَبتَت مَكَانهَا أُخْرَى.

11

وَقَوله: {رزقا للعباد} الرزق: الْعَطاء الْجَارِي من الله تَعَالَى على توظيف، وَقد يكون بِطَلَب، وَقد يكون بِغَيْر طلب، وَقد يكون بِدُعَاء يَدْعُو بِهِ العَبْد، وَقد يكون بِغَيْرِهِ. وَقَوله: {وأحيينا بِهِ بَلْدَة مَيتا كَذَلِك الْخُرُوج} يَعْنِي: كَمَا نحيي الأَرْض الْيَابِسَة وَنخرج مِنْهَا الْأَشْجَار (وَالزَّرْع) والكلأ، كَذَلِك نحيي الأجساد بعد الْمَوْت ونخرجها من الأَرْض. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يمطر من السَّمَاء مَاء على الأَرْض حِين يُرِيد أَن يبْعَث الْخلق كمنى الرِّجَال (فينبت) بهَا الأجساد فِي الأَرْض، وَيجمع الْجُلُود إِلَيْهَا ثمَّ يَبْعَثهُم.

12

قَوْله تَعَالَى: {كذبت قبلهم قوم نوح وَأصَاب الرس} قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: هم قوم رسوا نَبِيّهم فِي بِئْر، وَيُقَال: هِيَ بِئْر بِالْيَمَامَةِ، وَيُقَال: بالفلج، كَانَ عَلَيْهَا قوم أَتَاهُم نَبِي فَكَذبُوهُ فأهلكهم الله تَعَالَى، وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن اسْم نَبِيّهم كَانَ حَنْظَلَة بن صَفْوَان، وَالله أعلم. وَيُقَال: كَانَ بِئْرا بِأَذربِيجَان. وَقَوله: {وَثَمُود وَعَاد وَفرْعَوْن وإخوان لوط} فِي بعض التفاسير: أَن لوطا يبْعَث وَحده وَلَيْسَ مَعَه أحد آمن بِهِ.

{لوط (13) وَأَصْحَاب الأيكة وَقوم تبع كل كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد (14) أفعيينا بالخلق الأول بل هم فِي لبس من خلق جَدِيد (15) وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان ونعلم مَا} وَعَن بَعضهم: أَن فِرْعَوْن كَانَ رجلا أعجميا من أهل اصطخر فَارس، ذكره أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره، وَذكر فِيهِ أَنه عَاشَ مِائَتَيْنِ وَعشْرين سنة لم يؤذه شَيْء، وَدعَاهُ مُوسَى ثَمَانِينَ سنة، ثمَّ أغرقه الله فَجَمِيع مُدَّة ملكه ثلثمِائة سنة،

14

وَقَوله: {واصحاب الأيكة} وَقُرِئَ: " ليكة " فِي مَوضِع آخر، فليكة اسْم الْقرْيَة، والأيكة أسم الاناحية مثل: (بكة) وَمَكَّة. وَقَوله: {وَقوم تبع} فِي التَّفْسِير: أَن تبع اِسْعَدْ بن لمكيكرب، وكنيته أَبُو كرب. وَفِي الْقِصَّة: أَنه خرج من الْيمن غازيا سائحا فِي الأَرْض وَمَعَهُ جَيش عَظِيم، وَهُوَ أول من حير الْحيرَة أَي: بناها مر بِبِلَاد الْعَجم حَتَّى أَتَى سَمَرْقَنْد [وهدمها] . وَيُقَال: إِن الَّذِي هدم سَمَرْقَنْد هُوَ شمر. وَمِنْه سَمَرْقَنْد أَي: شمر كِنْدَة، وَهُوَ من مُلُوك الْيمن أَيْضا، ولتبع ابْن يُقَال لَهُ: حسان بن تبع، وَكَانَ فيهم من غزا الصين وأسكن ثمَّ قوما من الْعَرَب، فَيُقَال: أَن " التبت " مِنْهُم، وهم على خلقَة الْعَرَب نحاف سمر. وَقد روينَا أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تسبوا تبعا؛ فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم ". وَقد دلّ على هَذَا قَوْله هَاهُنَا: {وَقوم تبع} وَلم يذكرهُ بَينهم. وَقَوله: {كل كذب الرُّسُل فَحق وَعِيد} أَي: حق عَلَيْهِم وعيدي وعذابي.

15

قَوْله تَعَالَى: {أفعيينا بالخلق الأول} وَجَوَابه مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: أفعيينا بالخلق الأول فنعيا بالخلق الثَّانِي أَي: عسر علينا ذَلِك فيعسر علينا هَذَا، وَيُقَال: عيي فلَان بِالْأَمر إِذا عجز عَنهُ.

{توسوس بِهِ نَفسه وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد (16) إِذْ يتلَقَّى الملتقيان عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد (17) مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد (18) وَجَاءَت سكرة} وَقَوله: {بل هم فِي لبس من خلق جَدِيد} أَي: فِي شكّ من الْخلق الثَّانِي.

16

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان} يُقَال: إِن المُرَاد بِهِ آدم صلوَات الله عَلَيْهِ وَحده. وَيُقَال: إِنَّه فِي كل النَّاس. وَقَوله: {ونعلن مَا توسوس بِهِ نَفسه} الوسوسة: حَدِيث النَّفس، وَإِن كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ هُوَ آدم فالوسوسة فِي حَقه حَدِيث نَفسه بِأَكْل الشَّجَرَة. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء، وَصلى رَكْعَتَيْنِ وَلم يحدث فيهمَا نَفسه؛ غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ". وَقَوله: {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} حَبل الوريد: عرق فِي بَاطِن الْعُنُق، وَيُقَال: فِي الْبدن عرق يُسمى الأكحل نهر الْبدن، وَفِي السَّاق يُقَال لَهُ: النِّسَاء، وَفِي الْبَطن يُسمى الحالب، وَفِي الظّهْر يُسمى الْأَنْهُر، وَفِي الْيَد يُسمى الأكحل، وَفِي الْعُنُق يُسمى الوريد، وَفِي الْقلب يُسمى الوتين، وَيُقَال هما وريدان تَحت الودجين. قَالَ الشَّاعِر: (كَانَ كَأَن وريديه رشاء حَبل ... أَي: لِيف. وَمَعْنَاهُ: أَن الله تَعَالَى أقرب إِلَيْهِ من كل شَيْء حَتَّى إِنَّه أقرب إِلَيْهِ من مماته وحياته، وحياة الْإِنْسَان بِهَذَا الْعرق، حَتَّى إِذا انْقَطع لم يبْق حَيا.

17

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يتلَقَّى الملتقيان} مَعْنَاهُ: اذكر يَا مُحَمَّد إِذْ يتلَقَّى المتلقيان، وهما الْملكَانِ. والتقى: هُوَ الْقبُول وَالْأَخْذ، فالملك يَأْخُذ مله ونطقه فيثبته، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات} أَي: أَخذ. وَقَوله: {عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد} أَي: قَاعد، فَاكْتفى بِذكر أَحدهمَا عَن الآخر، مَعْنَاهُ: عَن الْيَمين قَاعد وَعَن الشمَال قَاعد. وَفِي بعض الْأَخْبَار: الصماخان مقْعد الْملكَيْنِ، وهما جانبا الْفَم.

{الْمَوْت بِالْحَقِّ ذَلِك مَا كنت مِنْهُ تحيد (19) وَنفخ فِي الصُّور ذَلِك يَوْم الْوَعيد (20) }

18

وَقَوله: {مَا يلفظ من قَول إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيب عتيد} أَي: رَقِيب حَاضر. قَالَ الْحسن: يكْتب الْملكَانِ كل شَيْء حَتَّى قَوْله لجاريته اسقيني المَاء، وناوليني نَعْلي، أَو أعطيني رِدَائي، وَيُقَال: يكْتب كل شَيْء حَتَّى صفيره بِشرب المَاء. وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي أُمَامَة أَن النَّبِي قَالَ: " ملك الْيَمين أَمِير على ملك الشمَال، فَإِذا عمل العَبْد حَسَنَة كتبهَا ملك الْيَمين فِي الْحَال عشرا، وَإِذا عمل العَبْد سَيِّئَة فَأَرَادَ صَاحب الشمَال ان يكْتب، قَالَ لَهُ صَاحب الْيَمين: أمسك سبع سَاعَات، فَإِن تَابَ لم يكْتب، وَإِن لم يتب قَالَ: اُكْتُبْهَا وَاحِدَة ". وَاعْلَم أَن ملك الْيَمين يكْتب الْحَسَنَات، وَملك لشمال يكْتب السَّيِّئَات، وَالْيَمِين مَحْبُوب الله ومختاره، وَمِنْه مَا رُوِيَ عَن النَّبِي " أَنه كَانَ يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء، حَتَّى فِي ترجله وتنعله وَطهُوره ". وَمن هَذَا إِذا دخل الْمَسْجِد يبْدَأ بِالْيَمِينِ ليقدمها إِلَى مَوضِع الْخَيْر، وَإِذا خرج يبْدَأ بالشمال ليَكُون مكث الْيَمين فِي مَوضِع الْخَيْر أَكثر وَإِن قل، وعَلى عكس هَذَا دُخُول مَوضِع الْخَلَاء وَالْخُرُوج مِنْهُ.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ} السكرة هِيَ (الغشية) والغمرة الَّتِي تلْحق الْإِنْسَان عِنْد الْقرب من الْمَوْت. وَقَوله: {بِالْحَقِّ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْحق هُوَ نفس السكرة الَّتِي هِيَ سكرة الْمَوْت، وَيُقَال: الْحق هُوَ الله، وَفِي الْمَوْت لِقَاء الله، فَهُوَ معنى قَوْله: {بِالْحَقِّ} أَي: بلقاء الْحق. وَيُقَال: هُوَ إِشَارَة إِلَى الْجنَّة وَالنَّار؛ لِأَنَّهُ إِذا مَاتَ إِمَّا أَن يدْخل الْجنَّة، وَإِمَّا أَن

{وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سائق وشهيد (21) لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا فكشفنا عَنْك غطاءك فبصرك الْيَوْم حَدِيد (22) وَقَالَ قرينه هَذَا مَا لدي عتيد (23) ألقيا فِي جَهَنَّم} يدْخل النَّار. وَفِي الْأَثر الْمَعْرُوف أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لما احْتضرَ كَانَت عَائِشَة عِنْده فأنشدت: (لعمرك مَا يغنى الثراء عَن الْفَتى ... إِذا حشرجت يَوْمًا وضاق بهَا الصَّدْر) فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ لَا تقولي هَذَا، وَلَكِن قولي: وَجَاءَت سكرة الْحق بِالْمَوْتِ " فَيُقَال: إِنَّه زل لِسَانه، وَيُقَال: هَذِه قِرَاءَته. قَالَت عَائِشَة: فَدَعَا بِصَحِيفَة يسْتَخْلف، وَكتب وظننت أَنه سيستخلف طَلْحَة، وَكنت أود ذَلِك؛ لِأَن طَلْحَة من أقرباء أبي بكر، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لم آل وَلم أوال، فَعرفت أَنه غير مستخلف إِيَّاه. وَقَوله: {ذَلِك مَا كنت بِهِ تحيد} أَي: تَفِر وتهرب، وَيسْتَحب لِلْمُؤمنِ حب الْمَوْت؛ لِأَنَّهُ بِهِ يستخلص من الأوزار، ويصل إِلَى محبوبه إِن قدر لَهُ خير. وَعَن بعض السّلف: لَا يكره الْمَوْت إِلَّا مريب. وَإِنَّمَا كره تمني الْمَوْت بضر نزل بِهِ على مَا فِي الْخَبَر. فَأَما إِذا تمنى الْمَوْت ليستخلص من الدُّنْيَا وفتنها وشوقا إِلَى لِقَاء ربه فَهُوَ مَحْبُوب.

20

وَقَوله: {وَنفخ فِي الصُّور ذَلِك يَوْم الْوَعيد} أَي: يَوْم وَعِيد الْكفَّار ووعد الْمُؤمنِينَ.

21

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاءَت كل نفس مَعهَا سائق وشهيد} السَّائِق: هُوَ الْملك، والشهيد: هُوَ الْعَمَل، قَالَه قَتَادَة وَمُجاهد وَالضَّحَّاك. وَيُقَال: السَّائِق: ملك السَّيِّئَات، والشهيد: ملك الْحَسَنَات. وَيُقَال: السَّائِق: الشَّيْطَان، والشهيد: الْملك. وَقيل فِي الشَّهِيد: إِنَّه الْجَوَارِح.

22

قَوْله تَعَالَى: {لقد كنت فِي غَفلَة من هَذَا} يُقَال: إِن هَذَا فِي الْكفَّار؛ لأَنهم فِي الْغَفْلَة من الْآخِرَة على الْحَقِيقَة. وَيُقَال: فِي كل غافل. وَقَوله: {فكشفنا عَنْك غطاءك} أَي: كشفنا عَنْك مَا غشيك وغطى سَمعك وبصرك وعقلك، حَتَّى لم تسمع وَلم تبصر وَلم تعقل الْحق، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {أسمع بهم وَأبْصر} .

{كل كفار عنيد (24) مناع للخير مُعْتَد مريب (25) الَّذِي جعل مَعَ الله إِلَهًا آخر فألقياه} وَقَوله: {فبصرك الْيَوْم} أَي: نَافِذ، وَقيل: شَدِيد. وَيُقَال: بَصرك الْيَوْم {حَدِيد} إِلَى لِسَان الْمِيزَان، وَمِنْه حِدة الْبَصَر.

23

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ قرينه} أَي: الْملك. {هَذَا مَا لدي عتيد} أَي: هَذَا الَّذِي كتبته، وَهُوَ عِنْدِي وَلَدي عتيد أَي: معد، وَيُقَال: حَاضر.

24

وَقَوله: {ألقيا فِي جَهَنَّم كل كفار عنيد} فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: " ألقيا " وَمن الْمُخَاطب؟ وَالْجَوَاب: أَن الْمُخَاطب ملك وَاحِد، وَلكنه قَالَ: ألقيا على عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يخاطبون الْوَاحِد بخطاب الِاثْنَيْنِ. قَالَ الشَّاعِر: (فَإِن تزجراني يَابْنَ عَفَّان أنزجر ... وَإِن تدعاني أحم عرضا ممنعا.) وَقَالَ آخر: (خليلي مرابي على أم جُنْدُب ... لنقضي حاجات الْفُؤَاد المعذب) (ألم تَرَ كلما جِئْت طَارِقًا ... وجدت بهَا طيبا وَإِن لم تطيب) وَأَرَادَ بالخليلين الْوَاحِد. وَكَانَ الْحجَّاج إِذا أَمر بقتل إِنْسَان قَالَ: ياحرسي اضربا. وَقَالَ الْمبرد: معنى قَوْله: {ألقيا} أَي: ألق ألق، فَلَمَّا ثنى خَاطب يُخَاطب اثْنَان. عَن بَعضهم: أَنه يَقُول لملكين حَتَّى يلقياه فِي النَّار. وَقَوله: {كل كفار عنيد} أَي: معاند، وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: العنيد: هُوَ الَّذِي يكابر الْحق كَأَنَّهُ يقربهُ وينكره.

25

وَقَوله: {مناع للخير مُعْتَد مريب} أَي: ذِي عدوان ذِي رِيبَة، والمناع للخير: هُوَ

{فِي الْعَذَاب الشَّديد (26) قَالَ قرينه رَبنَا مَا أطغيته وَلَكِن كَانَ فِي ضلال بعيد (27) قَالَ لَا تختصموا لدي وَقد قدمت إِلَيْكُم بالوعيد (8) مَا يُبدل الْقوي لدي وَمَا أَنا} مَانع الْحُقُوق وَالصَّدقَات والزكوات.

26

وَقَوله: {الَّذِي جعل مَعَ الله إِلَهًا آخر فألقياه فِي الْعَذَاب الشَّديد} أَي: عَذَاب النَّار. وَذكر لنحاس فِي تَفْسِيره قولا: أَن {قرينه} فِي الْآيَة الْمُتَقَدّمَة هُوَ الشَّيْطَان. وَقَوله: {هَذَا مَا لدي عتيد} أَي: هَذَا عمله وَهُوَ حَاضر، وَالَّذِي قُلْنَا: أَن المُرَاد بِهِ الْملك فَهُوَ ألْقى وأليق بقوله: {هَذَا مَا لدي عتيد} يَعْنِي: يَقُول الْملك: هَذَا الَّذِي كتبته عَلَيْهِ، وَقد أحضرته. وَقَالَ النّحاس فِي قَوْله: {ألقيا فِي جَهَنَّم} الأولى خطاب للملكين اللَّذين أَحدهمَا يَسُوقهُ وَالْآخر يشْهد عَلَيْهِ، وهما اللَّذَان كتبا الْعمَّال. وَقَوله: {مُعْتَد مريب} أَي: مُعْتَد فِي سيرته ونطقه وخلقه. يُقَال: أرابني كَذَا فَأَنا مريب أَي: شَاك قَالَ الشَّاعِر: (بثينة قَالَت يَا جميل أربتنى ... فَقلت كِلَانَا يَا بثين مريب) وَيُقَال فِي قَوْله: {مناع للخير} أَي: الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة. وَقَالَ الضَّحَّاك: الْآيَة وَردت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي.

27

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قرينه رَبنَا مَا أطغيته} القرين: هَاهُنَا هُوَ الشَّيْطَان بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين. وَقَوله: {رَبنَا مَا أطغيته} أَي: مَا أضللته. وَقَوله: {وَلَكِن كَانَ فِي ضلال بعيد} أَي: وجدته وَقد اخْتَار الضَّلَالَة لنَفسِهِ، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن إِبْلِيس: {وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان إِلَّا أَن دعوتكم فاستجبتم لي} الْآيَة.

28

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَا تختصموا لدي} أَي: عِنْدِي.

{بظلام للعبيد (29) يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل من مزِيد (30) وأزلفت} وَقَوله: {وَقد قدمت إِلَيْكُم بالوعيد} أَي: بعثت الرُّسُل وأنزلت الْكتب وبينت الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد. فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون} [و] قَالَ هَاهُنَا {لَا تختصموا لدي} فَكيف وَجه التَّوْفِيق؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن للقيامة مَوَاطِن ومواقف، فَهَذَا فِي موطن. وَذَلِكَ فِي موطن مَا على بَينا. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن قَوْله: {ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم تختصمون} للْمُؤْمِنين، وَقَوله: {لَا تختصموا لَدَى} للْكفَّار. وَيُقَال إِنَّه يَقُول لَهُم لَا تختصموا لَدَى بعد أَن اخْتَصَمُوا، واختصامهم مَا ذكر فِي سُورَة الْقَصَص وَالصَّافَّات.

29

قَوْله تَعَالَى: {مَا يُبدل القَوْل لدي} أَي: لَا يكذب عِنْدِي؛ فَإِنَّهُ لَا يخفى على حَقِيقَة الْأُمُور وبواطنها. وَيُقَال: " مَا يُبدل القَوْل لدي " أَي: لَا يُبدل قولي: إِن السَّيئَة بِمِثْلِهَا، والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا. وَقَوله: {وَمَا أَنا بظلام للعبيد} أَي: لَا أنقص ثَوَاب الْمُحْسِنِينَ، وَلَا أَزِيد فِي مجازاة المسيئين.

30

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نقُول لِجَهَنَّم هَل امْتَلَأت وَتقول هَل من مزِيد} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {هَل من مزِيد} أَي: قد امْتَلَأت، فَلَا مزِيد فِي، وَحَقِيقَته أَنَّك قد وفيت بِمَا وعدت، وملأتني فَلَا مَوضِع للزِّيَادَة. وَهَذَا مثل قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " وَهل ترك لنا عقيل من دَار " أَي: مَا ترك. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {هَل من مزِيد} أَي: طلب الزِّيَادَة بقوله تغيظا على الْكفَّار، وطلبا لزِيَادَة الانتقام. وَالْأول أحسن. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أنس وَأبي هُرَيْرَة أَن

{الْجنَّة لِلْمُتقين غير بعيد (31) هَذَا مَا توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشِي} النَّبِي قَالَ: " لَا تزَال جَهَنَّم تَقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع الْجَبَّار فِيهَا قدمه فَتَقول قطّ قطّ " أَي: حسبي. وَهَذَا الْخَبَر يُؤَيّد القَوْل الثَّانِي، وَالْخَبَر من الْمُتَشَابه، وَقد بَينا وَجه الْكَلَام فِي الْمُتَشَابه. وَقَالَ بَعضهم: أَن القَوْل من جَهَنَّم هَاهُنَا على طَرِيق الْمجَاز مثل قَول الشَّاعِر: (امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا ورويدا قد مَلَأت بَطْني) فَقَوله: قطني أَي: حسبي. وَوجه الْمجَاز فِيهِ أَنه لما امْتَلَأَ الْحَوْض وَلم يكن فِيهِ مزِيد وَكَأَنَّهُ قَالَ: قد امْتَلَأت فحسبي. كَذَلِك فِي جَهَنَّم، وَهُوَ على توسع الْكَلَام. وَالأَصَح أَن هَذَا النُّطْق من جَهَنَّم على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَهَذَا اللَّائِق بِمذهب أهل السّنة فِي الْإِيمَان بتسبيح الجمادات، وَمَا نزل فِي ذَلِك من آي الْقُرْآن. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو لم يعْص الله إِلَّا رجل وَاحِد لملأ الله مِنْهُ جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة.

31

قَوْله تَعَالَى: {وأزلفت الْجنَّة لِلْمُتقين} أَي: قربت. وَفِي الْآثَار: أَن النَّاس إِذا بعثوا من قُبُورهم رَأَوْا الْجنَّة وَالنَّار على قرب مِنْهُم. وَقيل إِن الْجنَّة وَالنَّار يعرضان على الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار قبل دُخُولهمْ فيهمَا.

32

وَقَوله: {هَذَا مَا توعدون لكل أواب حفيظ} الأواب هُوَ الَّذِي اعْتَادَ الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى فِي كل أُمُوره. والحفيظ هُوَ الَّذِي يحفظ الْأَمر وَالنَّهْي. وَعَن بَعضهم: أَن الأواب هُوَ المسبح. وَعَن بَعضهم: أَنه الْكثير الصَّلَاة. وَعَن بَعضهم: أَنه الدُّعَاء.

{الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بقلب منيب (33) ادخلوها بِسَلام ذَلِك يَوْم الخلود (34) لَهُم مَا يشاءون فِيهَا ولدينا مزِيد (34) وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أَشد مِنْهُم بطشا} وَعَن بَعضهم: أَنه الَّذِي يحفظ قَوْله وَفعله فِي مَجْلِسه، فَإِذا أَرَادَ أَن [يقوم] قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك. وَيُقَال: حفيظ أَي: حَافظ لعهد الله.

33

قَوْله تَعَالَى: {من خشِي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} إِنَّمَا قَالَ بِالْغَيْبِ؛ لأَنهم آمنُوا بِالْبَعْثِ وَالْجنَّة وَالنَّار وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَذَلِكَ كُله غيب. وَقَوله: {وَجَاء بقلب منيب} الْمُنِيب قد بَينا مَعْنَاهُ فِيمَا سبق، وَالرجل هُوَ الْمُنِيب؛ لكنه أضَاف إِلَى الْقلب؛ لِأَن الْأَكْثَر من أَعمال الْإِيمَان يعمله الْمُؤمن بِقَلْبِه.

34

وَقَوله: {ادخلوها بِسَلام} يُقَال: إِن الله تَعَالَى يَقُول ذَلِك، وَيُقَال: الْملك يَقُولهَا. وَقَوله: {بِسَلام} أَي: بسلامة. وَقَوله: {ذَلِك يَوْم الخلود} هُوَ الخلود فِي الْجنَّة وَالنَّار.

35

وَقَوله: {لَهُم مَا يشاءون فِيهَا} أَي: مَا يشتهون فِيهَا. قَوْله: {ولدينا مزِيد} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْمَزِيد هُوَ مَا لم يخْطر ببالهم، وَلم تصل [إِلَيْهِ] شهوتهم وإرادتهم. وَالْآخر: أَنه النّظر إِلَى الله تَعَالَى.

36

وَقَوله: {وَكم أهلكنا قبلهم من قرن} قد بَينا معنى الْقرن، وَالأَصَح أَنه أقْصَى مُدَّة عمر كل قوم فِي عمرهم؛ فقرن نوح على مَا كَانَ فِي زَمَانه، وَقرن إِبْرَاهِيم على مَا كَانَ فِي زَمَانه، وَكَذَا إِلَى زَمَانا، فعلى هَذَا قَوْله: " من قرن " أَي: من أهل قرن. وَقَوله: {هم أَشد مِنْهُم بطشا} أَي: قُوَّة. وَقَوله: {فَنقبُوا فِي الْبِلَاد} أَي: طوفوا وَسَارُوا.

{فَنقبُوا فِي الْبِلَاد هَل من محيص (36) إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد (37) وَلَقَد خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مسنا من لغوب (38) فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب (39) وَمن اللَّيْل فسبحه وأدبار السُّجُود (40) واستمع يَوْم يناد المناد} قَالَ امْرُؤ الْقَيْس. (وَقد نقبت فِي الْبلدَانِ حَتَّى ... رضيت من الْغَنِيمَة بالإياب) { [هَل من محيص]

37

إِن فِي ذَلِك لذكرى) أَي: موعظة وتذكير. وَقَوله: {لمن كَانَ لَهُ قلب} أَي: عقل. يَقُول الْإِنْسَان لغيره: مَالك من قلب أَي: مَالك من عقل، وَيَقُول: أَيْن قَلْبك أَي: أَيْن عقلك. وَعند بعض الْعلمَاء أَن مَحل الْعقل هُوَ الْقلب بِدَلِيل هَذِه الْآيَة. وَعَن بَعضهم: أَن مَحَله الدِّمَاغ. يُقَال: فلَان خَفِيف الدِّمَاغ أَي: خَفِيف الْعقل. وَقَوله: {أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} أَي: اسْتمع بأذنه وَهُوَ حَاضر بفؤاده، يَقُول الْإِنْسَان لغيره: ألق سَمعك وارعني سَمعك أَي: اسْتمع إِلَيّ، وَالْمعْنَى: أَنه يستمع، وَلَا يشغل قلبه بِمَا يمنعهُ من السماع.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فِي سِتَّة أَيَّام وَمَا مسنا من لغوب} أَي: إعياء وَنصب، وَهُوَ رد لما قالته الْيَهُود أَن الله تَعَالَى خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام واستراح يَوْم لسبت.

39

قَوْله تَعَالَى: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسبح بِحَمْد رَبك} أَي: صل حامدا رَبك. وَقَوله: {قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل الْغُرُوب} قبل طُلُوع الشَّمْس هُوَ صَلَاة الصُّبْح. وَقبل الْغُرُوب هُوَ الظّهْر وَالْعصر.

40

وَقَوله: {وَمن اللَّيْل فسبحه} هُوَ الْمغرب وَالْعشَاء.

{من مَكَان قريب (41) يَوْم يسمعُونَ الصَّيْحَة بِالْحَقِّ ذَلِك يَوْم الْخُرُوج (42) إِنَّا نَحن نحيي ونميت وإلينا الْمصير (43) يَوْم تشقق الأَرْض عَنْهُم سرَاعًا ذَلِك حشر علينا} وَقَوله: {وأدبار السُّجُود} القَوْل الْمَعْرُوف أَنه الركعتان بعد الْمغرب، ورد الْقُرْآن بِهِ لزِيَادَة التأكد وَالنَّدْب إِلَيْهِ، وَهُوَ قَول عَليّ وَأبي هُرَيْرَة. وَقيل: إِنَّه جَمِيع النَّوَافِل بعد الْفَرَائِض. وَقيل: إِنَّه الْوتر؛ لِأَنَّهُ آخر مَا يَفْعَله الْإِنْسَان عِنْد فَرَاغه من الصَّلَوَات، وَقد ذكرنَا الْخَبَر فِيمَا جرى من الرُّؤْيَة، وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي آخر ذَلِك الْخَبَر: " فَإِن اسْتَطَعْتُم أَن [لَا] تغلبُوا على صَلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس وعَلى صَلَاة قبل غُرُوبهَا فافعلوا " وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.

41

قَوْله تَعَالَى: {واستمع يَوْم يناد المناد من مَكَان قريب} القَوْل الْمَعْرُوف أَنه إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام يُنَادي النَّاس على صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس، فَيَقُول: أيتها الْعِظَام البالية، والجلود المتمزقة، والأجساد المتفرقة، والأوصال المتقطعة، ارجعي إِلَى رَبك، وَقيل بِلَفْظ آخر. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَوْله: {من مَكَان قريب} أَي: من تَحت أَقْدَامهم. وَيُقَال فِي صماخ آذانهم، وَقيل: إِن هَذَا النداء هُوَ النفخة الأولى بِهَلَاك النَّاس.

42

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم يسمعُونَ الصَّيْحَة بِالْحَقِّ} هُوَ النفخة الثَّانِيَة، وَالأَصَح أَن [كليهمَا] وَاحِد، وَذكره بلفظين. وَقَوله: {ذَلِك يَوْم الْخُرُوج} أَي: من الْقُبُور لحساب الْأَعْمَال وَدخُول الْجنَّة وَالنَّار.

43

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحن نحيي ونميت وإلينا الْمصير} أَي: الْمرجع.

44

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تشقق الأَرْض عَنْهُم سرَاعًا} أَي: لَا يلبثُونَ بعد سَماع الصَّيْحَة، وَالْمعْنَى: أَنهم إِذا سمعُوا الصَّيْحَة تشققت عَنْهُم الأَرْض، وَخَرجُوا من غير) {يسير (44) نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بجبار فَذكر بِالْقُرْآنِ من يخَاف وَعِيد (45) } لبث وَلَا زمَان. وَقَوله: {ذَلِك حشر علينا يسير} هُوَ جَوَاب لقَولهم فِي أول السُّورَة ذَلِك رَجَعَ بعيد.

45

قَوْله تَعَالَى: {نَحن أعلم بِمَا يَقُولُونَ} أَي: بِمَا يَقُولُونَ من الشّرك وَالْكذب على الله وعَلى رَسُوله. وَقَوله: {وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بجبار} أَي: بمسلط، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {لست عَلَيْهِم بمسيطر} والجبار فِي صِفَات الله مَحْمُود، وَفِي صِفَات الْخلق مَذْمُوم، وَكَذَلِكَ المتكبر؛ لِأَن الْخلق أمروا بالتواضع والخشوع والخضوع ولين الْجَانِب وخفض الْجنَاح، وَأما الرب جلّ جَلَاله فيليق بِهِ الجبروت والكبرياء: لِأَنَّهُ المتعالي عَن إِدْرَاك الْخلق، القاهر لَهُم فِي كل مَا يُريدهُ، وَلم يصفه أحد حق صفته، ولأعظمه أحد حق تَعْظِيمه، وَلَا عرفه أحد حق مَعْرفَته. وَقد قيل: إِن الْجَبَّار فِي اللُّغَة هُوَ الْقِتَال، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تكون جبارا فِي الأَرْض} أَي: قتالا. وَقَالَ بَعضهم: إِن الْآيَة مَنْسُوخَة، وَهِي قبل نزُول آيَة السَّيْف، نسختها آيَة السَّيْف. وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} نسخت سبعين آيَة من الْقُرْآن. وَقَوله: {فَذكر بِالْقُرْآنِ من يخَاف وَعِيد} أَي: عظ بِالْقُرْآنِ من يخافني. فَإِن قيل: أَلَيْسَ يوعظ بِالْقُرْآنِ الْكَافِر وَالْمُؤمن جَمِيعًا، فَكيف معنى قَوْله: {من يخَاف وَعِيد} وَالْكَافِر لَا يخَاف وَعِيد الله؟ وَالْجَوَاب: أَنه لما لم ينْتَفع بِالْقُرْآنِ إِلَّا الْمُؤمن فَكَأَنَّهُ لم يخوف بِالْقُرْآنِ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {والذاريات ذَروا (1) فَالْحَامِلَات وقرا (2) فَالْجَارِيَات يسرا (3) فَالْمُقَسِّمَات} تَفْسِير سُورَة الذاريات وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْجَمِيع

الذاريات

قَوْله تَعَالَى: {والذاريات ذَروا} وروى أَبُو الطُّفَيْل أَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ خطب وَقَالَ: سلوني: فوَاللَّه لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا حدثتكم بِهِ، سلوني عَن كتاب الله، مَا من آيَة نزلت إِلَّا وَأَنا أعلم بلَيْل نزلت أم بنهار، فِي سهل أم فِي جبل، وفيم أنزلت، فَقَامَ ابْن الكوا وَقَالَ: مَا لذاريات ذَروا فَالْحَامِلَات وقرا فَالْجَارِيَات يسرا فَالْمُقَسِّمَات أمرا؟ فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ سل تفقها، وَلَا تسْأَل تعنتا، " والذاريات ذَروا " هِيَ الرِّيَاح، فَالْحَامِلَات وقرا " هِيَ السَّحَاب " فَالْجَارِيَات يسرا " هِيَ السفن " فَالْمُقَسِّمَات أمرا هِيَ الْمَلَائِكَة، وَمثل هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وعَلى أَكثر هَذَا الْمُفَسّرين. فَقَوله: {والذاريات} هِيَ من ذرت الرّيح التُّرَاب وأذرته إِذا فرقته، وَيُقَال: إِن الذاريات هِيَ النِّسَاء الْحَوَامِل تذرين الْأَوْلَاد، وَالْأول هُوَ الْمُخْتَار.

2

وَقَوله: {فَالْحَامِلَات وقرا} قيل: إِنَّهَا الرِّيَاح تحمل السَّحَاب، والوقر هُوَ السَّحَاب.

3

وَقَوله: {فَالْجَارِيَات يسرا} يُقَال: إِنَّهَا الرِّيَاح أَيْضا تجْرِي بسهوله وَيسر، وَيُقَال: {فَالْجَارِيَات يسرا} هِيَ: الْكَوَاكِب السبة: الشَّمْس، وَالْقَمَر، وَالْمُشْتَرِي، وَعُطَارِد، والزهرة، وبهرام، وزحل، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمُخْتَار.

4

وَقَوله: {فَالْمُقَسِّمَات أمرا} يُقَال: إِنَّهَا الرِّيَاح أَيْضا. وَمعنى قسْمَة الْأَمر: أَن الرِّيَاح تقسم الْمَطَر فتصب الْبَعْض وَلَا تصب الْبَعْض، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمُخْتَار، وَالْمعْنَى من الْمَلَائِكَة هم أَرْبَعَة: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وإسرافيل، وعزرائيل؛ فجبريل على الْوَحْي وَالْعَذَاب، وَمِيكَائِيل على الرزق والمطر والرياح، وإسرافيل على الصُّور، وعزرائيل على قبض الْأَرْوَاح، وَقَالَ الْأَعْشَى فِي وصف السَّحَاب.

{أمرا (4) إِنَّمَا توعدون لصَادِق (5) وَإِن الدّين لوَاقِع (6) وَالسَّمَاء ذَات الحبك (7) إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف (8) } (كَأَن مشيتهَا من بَيت جارتها ... مشي السَّحَاب لَا ريث وَلَا عجل)

5

وَقَوله: {إِنَّمَا توعدون لصَادِق} قَالَ مُجَاهِد مَعْنَاهُ: أَن الْقِيَامَة كائنة. وَقَوله: {لصَادِق} أَي: ذُو صدق، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله: {فِي عيشة راضية} أَي: ذَات رضَا، وَيُقَال: سمي الْوَعْد صَادِقا؛ لِأَن الصدْق يَقع عَلَيْهِ، كَمَا يُقَال: ليل نَائِم، وَخبر كَاذِب، وسر كاتم، وَمَا أشبه ذَلِك.

6

وَقَوله: {وَإِن الدّين لوَاقِع} قَالَ قَتَادَة: إِن الْجَزَاء لوَاقِع. قَالَ لبيد شعرًا: (قوم يدينون بالنوعين مثلهمَا ... بالسوء سوءا وبالإحسان إحسانا) يَعْنِي: يجازون. فَإِن قيل: مَا معنى الْقسم بالرياح والسفن والسحاب وَمَا أشبه ذَلِك؟ فَكيف يقسم الله بخلقه؟ وَالْجَوَاب مَعْنَاهُ: وَرب الذاريات، وَرب الْحَامِلَات والجاريات. وَيُقَال: إِن قسمه بالشَّيْء يدل على جلالة ذَلِك وَعظم مَنْفَعَة الْعباد بِهِ. وَقيل: التَّقْدِير: أقسم بالذاريات.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات الحبك} قَالَ عِكْرِمَة: ذَات الْخلق الْحسن، وَقيل: ذَات التَّأْلِيف، الْمُحكم: وَيُقَال ذَات الطرائق فِي الرمل وَالْمَاء إِذا ضربتها الرِّيَاح حبائك، وَيُقَال: الحبك هُوَ بهاؤها واستواؤها، وَيُقَال: شدتها وإحكامها، قَالَ الشَّاعِر: (مكلل بأصول النبت تنسجه ... ريح خريق مايد حبك) وَقَالَ أَبُو كثير الْهُذلِيّ: (مِمَّن حملن بِهِ وَهن عواقد ... حبك النطاق تشب غير مهبل) وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: وَالسَّمَاء ذَات الحبك أَي: النُّجُوم.

8

وَقَوله: {إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف} يَعْنِي: مُصدق ومكذب، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن

{يؤفك عَنهُ من أفك (9) قتل الخراصون (10) الَّذين هم فِي غمرة ساهون (11) } بَعضهم يَقُول: هُوَ سَاحر، وَبَعْضهمْ يَقُول: شَاعِر، وَبَعْضهمْ يَقُول: مَجْنُون، وعَلى هَذَا وَقع الْقسم، وَقيل: {إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف} أَي: مُنَاقض، ذكره الْقفال الشَّاشِي. وَمعنى التَّنَاقُض فِي هَذَا: أَنهم أقرُّوا بالنشأة الأولى، وأنكروا النشأة الْأُخْرَى، وَهَذَا تنَاقض؛ لِأَن من قدر على النشأة الأولى فَهُوَ على النشأة الْأُخْرَى أقدر.

9

وَقَوله: {يؤفك عَنهُ من أفك} أَي: يصرف عَنهُ من صرف، وَقيل: يصرف عَن الْإِقْرَار بِهِ من صرف عَنهُ فِي علم الله وَحكمه، وَيُقَال: من صرف عَن هَذَا الْخَيْر فقد صرف عَن الْخَيْر كُله، كَمَا يُقَال: من حرم عَن كَذَا فقد حرم. وَفِي التَّفْسِير: أَن أَمر النَّبِي لما انْتَشَر من قبائل الْعَرَب جعلُوا يبعثون الْوَاحِد والاثنين يسْأَلُون عَن خَبره، فَكَانَ الْمُشْركُونَ فِي أَيَّام الْمَوْسِم يبعثون النَّاس فِي الطرقات حَتَّى إِذا جَاءَ السَّائِل. [وسألهم] عَن مُحَمَّد قَالُوا: هُوَ مَجْنُون كَذَّاب، وَذكروا أَمْثَال هَذَا، [وَكَانُوا] يرجعُونَ قبل أَن يلقوه، وَيَقُولُونَ: قومه أعلم بِهِ.

10

وَقَوله: {قتل الخراصون} أَي: لعن الكذابون، وَهَذَا هُوَ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من أهل التَّفْسِير. وَعَن بَعضهم: أَنه لَا يعرف قتل بِمَعْنى لعن فِي اللُّغَة، وَمَعْنَاهُ: أَن الخراصين قد أَتَوا بِمَا يسْتَحقُّونَ [بِهِ] الْقَتْل، ولعنة الله إيَّاهُم إهلاك لَهُم، فَهُوَ قَتلهمْ. والخارص هُوَ الَّذِي يَقُول بالحدس وَالظَّن.

11

وَقَوله: {الَّذين هم فِي غمرة ساهون} قَالَ السدى: فِي غَفلَة لاهون، وَيُقَال: فِي حيرة وعمى، وَقيل: فِي شكّ وجهالة، كَأَن الْجَهْل والعمى غمر حَالهم، وَمِنْه المَاء الْغمر إِذا كَانَ يُغطي من ينزل فِيهِ. وَيُقَال: ساهون يتمادون يَعْنِي: أَن الشَّك والضلالة يتمادى بهم.

{يسْأَلُون أَيَّانَ يَوْم الدّين (12) يَوْم هم على النَّار يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون (14) إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات وعيون (15) آخذين مَا آتَاهُم رَبهم إِنَّهُم كَانُوا من قبل ذَلِك محسنين (16) كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون (17) }

12

وَقَوله: {يسْأَلُون أَيَّانَ يَوْم الدّين} أَي: مَتى يَوْم الْجَزَاء، وَكَانُوا يسْأَلُون عَن ذَلِك تعنتا وتكذيبا.

13

وَقَوله: {يَوْم هم على النَّار يفتنون} أَي: يُعَذبُونَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يحرقون، وَذكره القتيبي وَغَيره. وَيُقَال: يفتنون أَي: يدْخلُونَ النَّار، وَمِنْه فتنت الذَّهَب، وَقد بَينا من قبل.

14

وَقَوله: {ذوقوا فتنتكم} أَي: عذابكم. وَقَوله: {هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون} وَمعنى استعجالهم: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ مَتى يَوْم الدّين، مَتى يَوْم الْحساب، مَتى يَوْم الْقِيَامَة، وَالْمرَاد من الْآيَة أَنه يُقَال لَهُم ذَلِك.

15

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات وعيون} أَي: بساتين وأنهار.

16

وَقَوله: {آخذين مَا آتَاهُم رَبهم} أَي: آخذين مَا أَعْطَاهُم رَبهم، وَمعنى الْأَخْذ هُوَ دُخُولهمْ الْجنَّة ووصولهم إِلَى مَا وعدوا من الثَّوَاب.

17

وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك محسنين} أَي: من قبل أَن ينالوا مَا نالوا محسنين فِي الدُّنْيَا. وَمعنى الْإِحْسَان هَاهُنَا هُوَ طَاعَة الله تَعَالَى، ثمَّ فسر فَقَالَ: {كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون} قل إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يقومُونَ أَكثر اللَّيْل. وَعَن الضَّحَّاك أَن قَوْله: {قَلِيلا} يَقع على النَّاس، وَمَعْنَاهُ: أَن قَلِيلا من النَّاس كَانُوا لَا يهجعون. وَعَن سعيد بن جُبَير أَن مَعْنَاهُ: قَلما مرت عَلَيْهِم لَيْلَة لم يصلوا فِيهَا. وَقَالَ الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: مدوا الصَّلَاة إِلَى السحر، ثمَّ اسْتَغْفرُوا الله. وَعَن أنس بن مَالك مَعْنَاهُ: كَانُوا يصلونَ بَين الْعشَاء وَالْعَتَمَة، وَهَذَا أثر مُسْند. وَيُقَال: إِنَّه فِي أهل قبَاء كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك. وَعَن بَعضهم أَن مَعْنَاهُ: كَانُوا لَا ينامون حَتَّى يصلوا الْعشَاء الْآخِرَة.

{وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالهم حق للسَّائِل والمحروم (19) وَفِي}

18

وَقَوله: {وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الاسْتِغْفَار نَفسه، وَالْآخر أَن مَعْنَاهُ: الصَّلَاة. وَقد كَانَ فِي قيام اللَّيْل من دأب أَصْحَاب رَسُول الله وَالتَّابِعِينَ من بعد. رُوِيَ عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَكَانَ جارا لعمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: عجبا لعمر نَهَاره صِيَام وحوائج النَّاس، وَلَيْلَة قيام. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يُصَلِّي أَكثر اللَّيْل. وَعَن عُثْمَان أَنه كَانَ يحيي اللَّيْل بِرَكْعَة، وَهِي وتره. وَعَن ابْن عمر أَنه كَانَ لَا ينَام من اللَّيْل إِلَّا الْقَلِيل. وَعَن شَدَّاد بن أَوْس أَنه كَانَ إِذا مَال إِلَى فرَاشه يكون كالحية على المقلاة، ثمَّ يَقُول: إِن النَّار منعتني النّوم، ثمَّ يقوم فَيصَلي حَتَّى يصبح. وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَعْرُوف " أَنه كَانَ يقوم اللَّيْل ويصوم النَّهَار إِلَى أَن سهل عَلَيْهِ رَسُول الله بعض ذَلِك ".

19

وَقَوله: {وَفِي أَمْوَالهم حق} يُقَال: إِنَّه الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَيُقَال: مَا سوى الزَّكَاة من الْحُقُوق، وَذَلِكَ أَن يحمل كلا، أَو يصل رحما، أَو يُعْطي فِي نائبة، أَو يعين ضَعِيفا. وَقَوله: {للسَّائِل} هُوَ الطّواف على الْأَبْوَاب. وَيُقَال: كل من سَأَلَ. وَقَوله: {والمحروم} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ المحارف، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَيَسَّر لَهُ كسب وَلَا معيشة. وَعَن بَعضهم: هُوَ الَّذِي لَا سهم لَهُ من الْغَنِيمَة، وَقد ضعف هَذَا القَوْل؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، والغنائم كَانَت بعد الْهِجْرَة. وَيُقَال: المحروم هُوَ الَّذِي لَا يسْأَل النَّاس، وَلَا يفْطن لَهُ فَيعْطى. وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد الْحَنَفِيَّة: هُوَ الَّذِي أَصَابَته (الْجَائِحَة) فِي مَاله، وَهَذَا قَول حسن يشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة " ن " {فَلَمَّا رَأَوْا قَالُوا إِنَّا لضالون بل نَحن محرومون} وَكَانَ قد هلك مَالهم بالجائحة. وَيُقَال: المحروم هُوَ الْكَلْب، ذكره النقاش فِي تَفْسِيره، وَرَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَعمر بن عبد الْعَزِيز. رُوِيَ

{الأَرْض آيَات للموقنين (20) وَفِي أَنفسكُم أَفلا تبصرون (21) وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق مثل مَا أَنكُمْ تنطقون (23) هَل} أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ يَأْكُل وَثمّ كلب، فَأمر أَن يلقى لَهُ الطَّعَام، وَقَالَ: إِنِّي إخال أَنه المحروم.

20

وَقَوله: {وَفِي الأَرْض آيَات للموقنين} أَي: دلالات وَعبر.

21

وَقَوله: {وَفِي أَنفسكُم أَفلا تبصرون} قَالَ عبد الله بن الزبير مَعْنَاهُ: سَبِيل الْخَلَاء وَالْبَوْل. وَيُقَال: مَا يدْخل فِي جَوْفه وَمَا يخرج مِنْهُ. وَالْأولَى أَن يُقَال: هُوَ سَائِر الْآيَات الَّتِي فِي النَّفس مِمَّا يدل على أَن لَهَا خَالِقًا وصانعا.

22

وَقَوله: {وَفِي السَّمَاء رزقكم} أَي: الْمَطَر، وَيُقَال: إِن مَعَ كل قَطْرَة مَكْتُوب رزق فلَان. وَقَوله: {وَمَا توعدون} قَالَ عَطاء: الثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَالْعِقَاب. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: الْخَيْر وَالشَّر. وَالْمَعْرُوف أَنه الْجنَّة؛ لِأَنَّهَا فِي السَّمَاء عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عِنْدهَا جنَّة المأوى} وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: {وَفِي السَّمَاء رزقكم} الثَّلج، وكل مَا نزل من السَّمَاء فَهُوَ مذاب من الثَّلج. وَعَن بَعضهم: أَنه يحْتَمل " وَفِي لسماء رزقكم " أَي: تَقْدِير رزقكم.

23

وَقَوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه الْحق} يعْنى أَن الْوَعْد حق وَمَا ذكرت أَن فِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون حق. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّه لحق يَعْنِي: مَا سبق من أول السُّورَة إِلَى هَذَا الْموضع. وَقَوله: {مثل مَا أَنكُمْ تنطقون} رُوِيَ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " ويل لقوم يقسم لَهُم رَبهم ثمَّ لَا يصدقونه " رَوَاهُ الْحسن مُرْسلا. وَمعنى قَوْله: {مثل مَا أَنكُمْ تنطقون} يَعْنِي: أَنه حق مثل نطقكم، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: إِنَّه لحق كَمَا أَنَّك

{أَتَاك حَدِيث ضيف إِبْرَاهِيم الْمُكرمين (24) إِذْ دخلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاما قَالَ سَلام قوم منكرون (25) فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين (26) } هَاهُنَا، أَو مَا كَمَا أَنَّك تَتَكَلَّم.

24

قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث ضيف إِبْرَاهِيم الْمُكرمين} قد ذكرنَا من قبل، وإكرامه إيَّاهُم هُوَ خدمتهم بِنَفسِهِ. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ وَغَيره أَن النَّبِي قَالَ: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فليحسن إِلَى جَاره وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلْيقل خيرا أَو ليصمت ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا ابْن فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْمُقْرِئ، أخبرنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن نَافِع بن جُبَير، عَن [أبي] شُرَيْح، عَن النَّبِي الحَدِيث. والكرامة إيَّاهُم هُوَ تَعْجِيل الطَّعَام.

25

وَقَوله: {إِذْ دخلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاما} وَقُرِئَ: " فَقَالُوا سلما " فَمَعْنَى قَوْله: {سَلاما} أَي: سلمُوا سَلاما، وَمعنى قَوْله: " سلما " أَي: عَن سلم. وَقَوله: {قَالَ سَلام} هُوَ جَوَاب سلامهم. وَقَوله: {قوم منكرون} إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ أنكر هيئتهم، وَلم يكن رَآهُمْ من قبل. قَالَ الشَّاعِر: (فأنكرتني وَمَا كَانَ الَّذِي (نكرت) من الْحَوَادِث إِلَّا الشيب والصلعا) وَيُقَال: {قوم منكرون} أَي: يخَافُونَ، يُقَال: أنْكرت فلَانا إِذا خفته.

26

وَقَوله: {فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين} فِي الْقِصَّة: أَن أَكثر أَمْوَال إِبْرَاهِيم

{فقربه إِلَيْهِم قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فأوجس مِنْهُم خيفة قَالُوا لَا تخف وبشروه بِغُلَام عليم (28) فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا وَقَالَت عَجُوز عقيم (29) قَالُوا} كَانَ هُوَ الْبَقر، وَكَانَ يُسمى أَبَا الضيفان، وَيُقَال: كَانَ يمشي ميلًا وميلين فِي طلب (الضَّيْف) ، فَكَانَ لَا يَأْكُل إِلَّا مَعَ الضَّيْف. وَقَوله: {فرَاغ} أَي: ذهب خُفْيَة.

27

وَقَوله: {فقربه إِلَيْهِم قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} فِي الْآيَة حذف، وَتَقْدِيره: فقربه إِلَيْهِم فَلم يَأْكُلُوا قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ. وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا قعد مَعَ الضَّيْف نكس رَأسه، وَجعل يَأْكُل وَلَا ينظر إِلَى الضَّيْف، فَفعل مثل ذَلِك مَعَ الْمَلَائِكَة، وهم أَربع: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وروبيل، وَملك آخر، فَقَالَت سارة: ارْفَعْ رَأسك فهم لَا يَأْكُلُون، فَرفع رَأسه وَقَالَ: أَلا تَأْكُلُونَ.

28

قَوْله تَعَالَى: {فأوجس مِنْهُم خيفة} أَي: دخل فِي نَفسه مِنْهُم خيفة. وَفِي التَّفْسِير: أَن السَّبَب فِي ذَلِك أَن الرجل كَانَ إِذا طرقه ضيف (فَقدم) إِلَيْهِ شَيْئا وَأكله أَمن مِنْهُ، وَإِن لم يَأْكُل خَافَ شَره. وَقَوله: {قَالُوا لَا تخف} يَعْنِي: نَحن مَلَائِكَة الله فَلَا تخف. وَقَوله: {وبشروه بِغُلَام عليم} أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَنه إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام.

29

قَوْله تَعَالَى: {فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة} أَي: صَيْحَة، كَأَنَّهَا ولولت مثل مَا تفعل النِّسَاء، وَيُقَال: فِي صرة هُوَ حِكَايَة صَوتهَا فِي الضحك، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {فَضَحكت} وَهُوَ مثل: صرير الْبَاب، وخرير المَاء، والقهقهة غير ذَلِك، فالقهقهة أخذت من حِكَايَة صَوت الضاحك. وَقَوله: {فصكت وَجههَا} أَي: ضربت وَجههَا مثل مَا تفعل النِّسَاء. وَقَوله: {وَقَالَت عَجُوز عقيم} وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك؛ لِأَنَّهَا أنْكرت وِلَادَتهَا غُلَاما وَقد

{كَذَلِك قَالَ رَبك إِنَّه هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم (30) قَالَ فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين (32) لنرسل عَلَيْهِم حِجَارَة من طين (33) مسومة عِنْد رَبك للمسرفين (34) فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ (35) فَمَا وجدنَا فِيهَا} صَارَت عجوزا عقيما، وَقد ذكرنَا سنّهَا، أَنَّهَا كَانَت بنت تسع وَتِسْعين سنة.

30

وَقَوله: {قَالُوا كَذَلِك قَالَ رَبك إِنَّه هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم} أَي: الْحَكِيم فِيمَا يدبر، الْعَلِيم بِأُمُور خلقه.

31

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ} أَي: مَا شَأْنكُمْ؟ ولأي شَيْء أرسلتم؟

32

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين} أَي: كَافِرين، وَقيل: ذَوي جرم.

33

وَقَوله: {لنرسل عَلَيْهِم حِجَارَة من طين مسومة} أَي: معلمة، وَيُقَال: العلامات هِيَ اخواتيم على الْأَحْجَار، وَقيل: كَانَ اسْم كل من يهْلك بذلك الْحجر من الْكفَّار مَكْتُوبًا على ذَلِك الْحجر. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: {مسومة} أَي: حمرَة فِي بَيَاض. وَيُقَال: مخططة. وَقَوله: {عِنْد رَبك للمسرفين} أَي: الْمُشْركين، وهم الَّذين أَسْرفُوا فِي الْمعاصِي، وكل مُشْرك مُسْرِف فِي الْمعْصِيَة. فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {حِجَارَة من طين} وَكَيف تكون الْحِجَارَة من طين؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن كَانَ فِي الأَصْل طينا فاستحجر بشروق الشَّمْس عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ مطبوخا من طين كَمَا يطْبخ الْآجر. وَالثَّالِث: أَن قَوْله: {جَارة من طين} ذكر الطين هَاهُنَا لكَي يعلم أَنه لم يرد بِهِ الْبرد، وَالْعرب تسمي الْبرد النَّازِل من السَّمَاء حِجَارَة.

35

وَقَوله تَعَالَى: {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} فِيهِ دَلِيل لمن قَالَ: إِن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَاحِد، وَقد بَينا من قبل. وَعَن

{غير بَيت من الْمُسلمين (36) وَتَركنَا فِيهَا آيَة للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الْأَلِيم (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أرسلناه إِلَى فِرْعَوْن بسُلْطَان مُبين (38) } قَتَادَة أَنه قَالَ: لَو كَانَ فِي قريات لوط بَيت من الْمُسلمين غير بَيت لوط لم يُهْلِكهُمْ الله تَعَالَى؛ ليعرف قدر الْإِيمَان عِنْد الله تَعَالَى. وَاخْتلف القَوْل أَنه هَل كَانَ آمن بلوط عَلَيْهِ السَّلَام أحد. فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه كَانَ آمن بِهِ بضع [عشرَة] نفسا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لم يكن آمن بِهِ أحد إِلَّا ابنتاه.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَتَركنَا فِيهَا آيَة للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الْأَلِيم} أَي: عِبْرَة، وَالْعبْرَة فِي قريات لوط بَيِّنَة لمن مر بهَا، فَإِنَّهَا أَرض سَوْدَاء (مبيئة) . وَيُقَال: معنى الْآيَة الْمَذْكُورَة فِي قريات لوط هُوَ مَا بَقِي من الْحِجَارَة فِيهَا. وَفِي الْقِصَّة عَن ابْن عَبَّاس: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَدخل جنَاحه تَحت الأَرْض السَّابِعَة، واقتلع مَدَائِن قوم لوط من أَصْلهَا، ورفعها حَتَّى بلغ بهَا السَّمَاء الدُّنْيَا، وَحَتَّى تسمع أهل السَّمَاء الدُّنْيَا نباح الْكلاب وَصَوت الديكة مِنْهَا، ثمَّ قَلبهَا وَأرْسل الله تَعَالَى حِجَارَة على مَا بَينا، وَيُقَال: أرسل الْحِجَارَة على الشذاذ والمسافرين مِنْهُم حَتَّى أهلكهم كلهم. وَفِي الْقِصَّة أَيْضا: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أصبح جَالِسا فِي مَسْجده بعد أَن ذهبت الْمَلَائِكَة مَكَثُوا عِنْد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى قَالُوا قيلولة، ثمَّ راحوا إِلَى مَدَائِن لوط، وَكَانَ بَين قَرْيَة إِبْرَاهِيم وَمَدَائِن لوط أَرْبَعَة فراسخ فَلَمَّا اصبح إِبْرَاهِيم رأى دخانا ساطعا فِي السَّمَاء من مَدَائِن لوط، فَعرف أَنهم قد عذبُوا.

38

قَوْله: {وَفِي مُوسَى إِذْ أرسلناه إِلَى فِرْعَوْن بسُلْطَان مُبين} أَي: وَفِي إرْسَال مُوسَى آيَة وعبرة. وَقَوله: {بسُلْطَان مُبين} أَي: بِحجَّة بَيِّنَة.

{فَتَوَلّى بركنه وَقَالَ سَاحر أَو مَجْنُون (39) فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم وَهُوَ مليم (40) وَفِي عَاد إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم (41) }

39

قَوْله تَعَالَى: {فَتَوَلّى بركنه} قَالَ ابْن عَبَّاس: بجمعه وَجُنُوده. وَعَن قَتَادَة: بقوته فِي نَفسه. وَعَن بَعضهم: برهطه الَّذين يتقوى بهم. وركن الشَّيْء مَا يتقوى بِهِ الشَّيْء، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى مخبرا عَن لوط عَلَيْهِ السَّلَام {أَو آوى إِلَى ركن شَدِيد} أَي: إِلَى رَهْط وَقوم أتقوى بهم، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا أَيْضا مَعْنَاهُ: أعرض مُعْتَمدًا على رهطه وَقَومه الَّذين يتقوى بهم، وَقيل: تولى بركنه أَي: نأى بجانبه. وَقَوله: {وَقَالَ سَاحر أَو مَجْنُون} قَالَ أهل الْعلم: هَذَا تنَاقض؛ لِأَن السحر لَا يكون إِلَّا بعقل كَامِل، وَالْمَجْنُون هُوَ الَّذِي لَا عقل لَهُ.

40

قَوْله تَعَالَى: {فأخذناهم وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم} أَي: (طرحناهم) وألقيناهم فِي الْبَحْر. وَقَوله: {وَهُوَ مليم} يُقَال: ألام الرجل فَهُوَ مليم، إِذْ أَتَى بِمَا يلام عَلَيْهِ.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَفِي عَاد إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم} الرّيح الْعَقِيم هِيَ الرّيح الَّتِي لَا خير فِيهَا أصلا، كَأَنَّهَا لَا تلقح شَجرا، وَلَا تثير سحابا، وَلَا تَأتي بمطر. وَفِي بعض التفاسير: أَن الرّيح الْعَقِيم ريح محبوسة تَحت الأَرْض السَّابِعَة أرسل مِنْهَا على مِقْدَار منخر ثَوْر، حَتَّى أهلكت عَاد ودمرتهم، ثمَّ ردهَا إِلَى مَوضِع حَبسهَا. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نصرت بالصبا وأهلكت عَاد بالدبور ". وَعَن سعيد بن الْمسيب وَالزهْرِيّ: أَنهم أهلكوا بالجنوب، فَقيل لسَعِيد: إِن الْجنُوب تَأتي بِالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: إِن الله يصرفهَا كَيفَ يَشَاء. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: الرّيح الْعَقِيم هِيَ النكباء.

{مَا تذر من شَيْء أَنْت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم (42) وَفِي ثَمُود إِذْ قيل لَهُم تمَتَّعُوا حَتَّى حِين (43) فَعَتَوْا عَن أَمر رَبهم فَأَخَذتهم الصاعقة وهم ينظرُونَ (4) فَمَا اسْتَطَاعُوا من قيام وَمَا كَانُوا منتصرين (45) وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (46) }

42

قَوْله تَعَالَى: {مَا تذر من شَيْء أَنْت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم} قَالَ السدى: كالتراب. وَعَن مؤرج قَالَ: كالرماد بلغه حَضرمَوْت. وَيُقَال: كالعظم الْبَالِي المنسجق وَمِنْه الرمة. وَيُقَال كالنبت الَّذِي يبس وديس بِالرجلِ.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَفِي ثَمُود إِذْ قيل لَهُم تمتوا حَتَّى حِين} أَي: إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَقد بَينا هَذَا من قبل.

44

قَوْله تَعَالَى: {فعنتوا عَن أَمر رَبهم} أَي: عصوا، وَيُقَال: خالفوا أَمر رَبهم. وَقَوله: {فَأَخَذتهم الصاعقة} وَقُرِئَ: " الصعقة " وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَيُقَال: الصعقة الصَّيْحَة، والصاعقة فاعلة من الصعقة. وَقَوله: {وهم ينظرُونَ} أَي: نَهَارا جهارا، وهم يرَوْنَ نزُول الْعَذَاب، وَمَعْنَاهُ: أَنه لم يكن بلَيْل وهم نيام وَلم يشعروا بِهِ.

45

قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا من قيام} أَي: وَقَعُوا وقوعا لم يستطيعوا بعده الْقيام. وَيُقَال: لم يستطيعوا أَن يدفعوا عَن أنفسهم الْعَذَاب أَي: أَن يقومُوا بِالدفع. يَقُول الرجل: أَنا لَا أَسْتَطِيع أَن أقوم بِهَذَا الْأَمر أَي: لَا أَسْتَطِيع دفع هَذَا الْأَمر عَن نَفسِي. وَقَوله: {وَمَا كَانُوا منتصرين} أَي: ممتنعين من نزُول الْعَذَاب بهم.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين} أَي: خَارِجين عَن طَاعَة الله تَعَالَى. وَقَوله: {من قبل} أَي: من قبل عَاد وَثَمُود، أهلكناهم كَمَا أهلكنا عادا وَثَمُود.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء بنيناها بأيد} أَي: بِقُوَّة وقدرة.

{وَالسَّمَاء بنيناها بأيد وَإِنَّا لموسعون (47) وَالْأَرْض فرشناها فَنعم الماهدون (48) وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ} وَقَوله: {وَإِنَّا لموسعون} قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ يسع قدرتنا أَن تخلق سَمَاء مثلهَا، وَيُقَال: {وَإِنَّا لموسعون} أَي: فِي وسعنا خلق مَا هُوَ أحكم وَأَرْفَع من هَذِه السَّمَاء الَّتِي ترونها، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن هَذَا الَّذِي خلقنَا لَيْسَ هُوَ جهد قدرتنا، فَإِن فِي وسعنا أَن نخلق أَمْثَال هَذَا وأضعافه. وَيُقَال: وَإِنَّا لموسعون أَي: فِي رزق الْعباد. وَيُقَال: فِي تَدْبِير أَمر الْعباد.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَرْض فرشناها} أَي: بسطناها. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَنَّهَا مسيرَة خَمْسمِائَة عَام. وَقَوله: {فنغم الماهدون} أَي: الباسطون، وَالْمعْنَى: أَنا بسطنا الأَرْض على الْهَيْئَة الَّتِي يسْتَقرّ عَلَيْهَا الْعباد، وَلَا تنكفئ بهم على مَا يبسط الْإِنْسَان فرشا يمهد بِهِ لغيره مَوضِع اسْتِقْرَار وَسُكُون.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ} أَي: صنفين. وَيُقَال: مَعْنَاهُ زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ، وَذَلِكَ مثل: السَّمَاء وَالْأَرْض، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، والنور والظلمة، وَالذكر وَالْأُنْثَى، وَالْبر وَالْبَحْر، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: الْكفْر وَالْإِيمَان، والشقاوة والسعادة، وَالْهدى والضلالة. وَعَن الْكَلْبِيّ قَالَ: السَّمَاء وَالْأَرْض زوج، وَاللَّيْل وَالنَّهَار زوج، وَالشَّمْس وَالْقَمَر زوج، وعد بِهِ أَشْيَاء من ذَلِك، ثمَّ قَالَ: وَالله هُوَ الْوتر. وروى حُذَيْفَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله خَالق كل شَيْء، صانع وصنعته ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا عَن النَّبِي مخبرا عَن الله تَعَالَى: " لَا إِلَه إِلَّا أَنا،

{لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (49) فَفرُّوا إِلَى الله إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين (50) وَلَا تجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهًا آخر إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين (51) كَذَلِك مَا أَتَى الَّذين من قبلهم من رَسُول إِلَّا قَالُوا سَاحر أَو مَجْنُون (52) } خلقت الشَّرّ، وخلقت من يجْرِي على يَده الشَّرّ، فويل لمن خلقته للشر وأجريت الشَّرّ على يَده، وخلقت الْخَيْر، وخلقت من يجْرِي الْخَيْر على يَده، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الْخَيْر على يَده " وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله خلق الْإِيمَان وحفه بالسماحة وَالْحيَاء، وَخلق الْكفْر وحفه بالشح والجفاء ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا: أَن الله خلق الرِّفْق فَلَو رَأَيْته رَأَيْت شَيْئا حسنا، وَخلق الْخرق فَلَو رَأَيْته رَأَيْت شَيْئا قبيحا. وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} أَي: تتعظون.

50

قَوْله تَعَالَى: {فَفرُّوا إِلَى الله} أَي: من مَعْصِيَته إِلَى طَاعَته، وَيُقَال: من سخطه إِلَى رَحمته، وَمن عِقَابه إِلَى عَفوه. وَقَوله: {إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين} قد بَينا من قبل.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهًا آخر إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين} الْآيَة. قد بَينا.

52

قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك مَا أَتَى الَّذين من قبلهم من رَسُول إِلَّا قَالُوا سَاحر أَو مَجْنُون} ظَاهر الْمَعْنى، وَهَذَا تَسْلِيَة للنَّبِي أَي: كَمَا قيل لَك فقد قيل لمن قبلك من الرُّسُل.

{أتواصوا بِهِ بل هم قوم طاغون (53) فتول عَنْهُم فَمَا أَنْت بملوم (54) وَذكر فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ (55) وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون (56) مَا أُرِيد مِنْهُم من رزق وَمَا أُرِيد أَن يطْعمُون (57) }

53

قَوْله تَعَالَى: {أتواصوا بِهِ} أَي: أوصى بَعضهم بَعْضًا بِهَذَا القَوْل، وَيُقَال: أوصى الأول الْأَخير بالتكذيب. قَوْله: {بل هم قوم طاغون} أَي: عاصون يبالغون فِي الْعِصْيَان.

54

قَوْله تَعَالَى: {فتول عَنْهُم فَمَا أَنْت بملوم} فِي بعض الْآثَار عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة حزن أَصْحَاب رَسُول الله حزنا شَدِيدا، وظنوا أَنه لَا ينزل الْوَحْي بعد ذَلِك حَيْثُ أَمر النَّبِي بِالْإِعْرَاضِ والتولي، وَعذر بقوله: {فَمَا أَنْت بملوم}

55

فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَذكر فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ} فَفَرِحُوا، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت بِآيَة السَّيْف.

56

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب " وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس من الْمُؤمنِينَ إِلَّا ليعبدون " وَهُوَ تَفْسِير الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة. قَالَ الضَّحَّاك: الْآيَة عَامَّة أُرِيد بهَا الْخَاص، وهم الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذَا القَوْل اخْتِيَار الْفراء والقتيبي وَغَيرهمَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون أَي: لآمرهم بِالْعبَادَة. وَقَالَ مُجَاهِد: لآمرهم وأنهاهم، وَحكى بَعضهم هَذَا عَن عَليّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون أَي: لينقادوا ويخضعوا لي، وانقيادهم وخضوعهم هُوَ استمرارهم على مَشِيئَته وَحكمه، وَهُوَ معنى خضوع السَّمَوَات وَالْأَرضين وطواعيتها وانقيادها، وَالْمُخْتَار هُوَ القَوْل الأول.

57

قَوْله تَعَالَى: {مَا أُرِيد مِنْهُم من رزق} أَي: أَن يرزقوا عبَادي، وَيُقَال: أَن يرزقوا أنفسهم. {وَمَا أُرِيد أَن يطْعمُون} هُوَ على الْمَعْنيين الْأَوَّلين، أَي: يطعموا عبَادي، أَو يطعموا أنفسهم، فَإِذا قلت فِي الأول هُوَ رزق أنفسهم فَمَعْنَى هَذَا إطْعَام الْعباد، وَإِذا

{إِن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين (58) فَإِن للَّذين ظلمُوا ذنوبا مثل ذنُوب أَصْحَابهم فَلَا يستعجلون (59) فويل للَّذين كفرُوا من يومهم الَّذِي يوعدون (60) } قلت فِي الأول رزق الْعباد فَمَعْنَى هَذَا إطعامهم أنفسهم، وَإِنَّمَا قَالَ: {يطْعمُون} لِأَن الْخلق عباد الله، فَإِذا أطْعمهُم (فَكَأَنَّهُ) أطْعم الله على الْمجَاز. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ حاكيا عَن الله تَعَالَى فِيمَا يَقُول لعَبْدِهِ يَوْم الْقِيَامَة: " استطعمتك فَلم تطعمني، فَيَقُول: يَا رب، وَكَيف أطعمك، وَأَنت رب الْعَالمين؟ فَيَقُول: استطعمك عَبدِي فلَان فَلم تطعمه وَلَو أطعمته لوجدته عِنْدِي ... الْخَبَر إِلَى آخِره ".

58

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين} ، الرَّزَّاق بِمَعْنى الرازق، وَيُقَال: يَقْتَضِي مُبَالغَة وتكثيرا. وَقَوله: {ذُو الْقُوَّة المتين} أَي: الْقُوَّة الْبَالِغَة.

59

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن للَّذين ظلمُوا ذنوبا مثل ذنُوب أَصْحَابهم} أَي: نصيب من الْعَذَاب مثل نصيب أَصْحَابهم، أَي: أمثالهم من الْمُشْركين الَّذين تقدمُوا، فجعلهم أَصْحَابهم لما اجْتَمعُوا فِي الْكفْر، وَإِن تَفَرَّقت بهم الْقُرُون. والذنُوب فِي اللُّغَة: هُوَ الدَّلْو لعَظيم، وَمِنْه أَخذ النَّصِيب. وَقَوله: {فَلَا يستعجلون} أَي: الْعَذَاب نَازل بهم فَلَا يَنْبَغِي أَن يستعجلوا، وَقد تقدم ذكر استعجالهم فِيمَا سبق.

60

قَوْله تَعَالَى: {فويل للَّذين كفرُوا من يومهم الَّذِي يوعدون} قد بَينا معنى الويل. وَقَوله: {من يومهم الَّذِي الَّذِي يوعدون} هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ الْيَوْم الْمَوْعُود المنتظر لجزاء الْعباد، ونسأل الله حسن الْعَاقِبَة بفضله وَمِنْه (آمين) .

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالطور (1) وَكتاب مسطور (2) } تَفْسِير سُورَة الطّور وَهِي مَكِّيَّة. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جُبَير بن مطعم أَنه قَالَ: " سَمِعت النَّبِي يقْرَأ فِي الْمغرب سُورَة الطّور ".

الطور

قَوْله تَعَالَى: {وَالطور} قَالَ مُجَاهِد: هُوَ بالسُّرْيَانيَّة اسْم للجبل. وَالأَصَح أَنه اسْم الْجَبَل بِالْعَرَبِيَّةِ. وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كل جبل ينْبت فَهُوَ طور، وكل مَا لَا ينْبت فَلَيْسَ بطور. وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار وَغَيره: هُوَ الطّور الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى. وَقد رُوِيَ هَذَا القَوْل عَن قَتَادَة وَعِكْرِمَة. وَعَن نوف الْبكالِي: أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى الْجبَال أَنِّي منزل على جبل مِنْكُن، فشمخت الْجبَال بأنفسها، وتواضع الطّور وَقَالَ: أَنا رَاض بِمَا قسم الله لي، وَكَانَ عَلَيْهِ الْأَمر.

2

وَقَوله: {وَكتاب مسطور} فِيهِ أَقْوَال: أَنه الْقُرْآن، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ. وَالْآخر: أَنه التَّوْرَاة كتبهَا الله تَعَالَى فِي الألواح. وَالثَّالِث أَنه الْكتاب الَّذِي أثبت الله فِيهِ أَعمال بني آدم، وَيخرج يَوْم الْقِيَامَة وفيكون صَحَائِف، فآخذ بِيَمِينِهِ وآخذ بِشمَالِهِ، وآخذ وَرَاء ظَهره، وَهَذَا قَول مَعْرُوف ذكره الْفراء وَغَيره. وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الصُّحُف الَّتِي تقْرَأ مِنْهَا الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء الْقُرْآن على مَا قَالَ تَعَالَى: {فِي صحف مكرمَة مَرْفُوعَة مطهرة بأيدي سفرة} وَيُقَال: إِنَّه اللَّوْح الْمَحْفُوظ قد كتب فِيهِ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.

{فِي رق منشور (3) وَالْبَيْت الْمَعْمُور (4)

3

وَقَوله: {فِي رق منشور} وَالرّق: هُوَ الْأَدِيم الَّذِي يكْتب فِيهِ الشَّيْء. وَقَوله: {منشور} أَي: مَبْسُوط، وَهَذَا يُؤَيّد القَوْل الَّذِي قُلْنَا إِن الْكتاب هُوَ صَحَائِف الْأَعْمَال فِي الْآخِرَة، لِأَن الله تَعَالَى قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَإِذا الصُّحُف نشرت} وَالْمرَاد مِنْهُ صَحَائِف الْأَعْمَال فِي الْآخِرَة.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَيْت الْمَعْمُور} قَالَ بَعضهم: هُوَ الْكَعْبَة، وعمارته بِالْحَجِّ وَالطّواف. وَالْقَوْل الْمَعْرُوف أَنه بَيت فِي السَّمَاء، قَالَه ابْن عَبَّاس وَعَامة الْمُفَسّرين وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَيْضا. وَاخْتلفُوا فِي مَوْضِعه، فروى أنس بن مَالك بن صعصعة عَن النَّبِي فِي قصَّة الْمِعْرَاج أَنه قَالَ: " رفع لي الْبَيْت الْمَعْمُور فِي السَّمَاء السَّابِعَة ". وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه فِي السَّمَاء السَّادِسَة. وَعَن الرّبيع بن أنس وَغَيره أَنه فِي السَّمَاء الدُّنْيَا بحيال الْكَعْبَة لَو سقط سقط عَلَيْهِ. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْبَيْت الْمَعْمُور [أنزلهُ] الله تَعَالَى من السَّمَاء لآدَم، وَوَضعه مَكَان الْكَعْبَة فَلَمَّا كَانَ زمَان نوح رَفعه الله تَعَالَى إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَهُوَ مَوضِع حج الْمَلَائِكَة وحرمته كَحُرْمَةِ الْكَعْبَة فِي الأَرْض. قَالَ عَليّ وَغَيره: اسْمه الضراح يدْخلهُ كل يَوْم سَبْعُونَ ألف ملك لَا يعودون إِلَيْهِ أبدا وَقد أسْند هَذَا اللَّفْظ إِلَى الرَّسُول. وَعَن بَعضهم أَنه فِي السَّمَاء الرَّابِعَة. وَفِي بعض المسانيد " أَن الله تَعَالَى خلق نَهرا

{والسقف الْمَرْفُوع (5) وَالْبَحْر الْمَسْجُور (6) } تَحت الْعَرْش يُسمى نهر الْحَيَوَان فيدخله جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كل يَوْم حِين تطلع الشَّمْس ثمَّ يخرج، وينتفض انتفاضة فيقطر مِنْهُ سَبْعُونَ ألف قَطْرَة يخلق الله تَعَالَى من كل قَطْرَة مِنْهَا ملكا فهم الْعباد فِي الْبَيْت الْمَعْمُور ". وَهَذَا خبر غَرِيب.

5

قَوْله تَعَالَى: {والسقف الْمَرْفُوع} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه السَّمَاء، وَالْآخر: أَنه الْعَرْش.

6

وَقَوله: {وَالْبَحْر الْمَسْجُور} أشهر الْأَقَاوِيل فِيهِ أَنه الممتلئ. وَعَن ربيع بن أنس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ عَرْشه على المَاء} قَالَ: إِن الله تَعَالَى جعل ذَلِك المَاء نِصْفَيْنِ حِين خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَجعل نصفا مِنْهُ تَحت الأَرْض السَّابِعَة وَنصفا مِنْهُ تَحت الْعَرْش، فَإِذا كَانَ بَين النفختين ينزل الله مِنْهُ قطرا على الأَرْض، فينبت بِهِ الأجساد فِي الْقُبُور. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْبَحْر الْمَسْجُور هُوَ المفجور على مَا قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر: {وَإِذا الْبحار فجرت} وتفجيرها هُوَ بسطها وإرسالها على الأَرْض. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْبَحْر الْمَسْجُور هُوَ الْمُرْسل، وَذَلِكَ لِمَعْنى مَا بَينا. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْبَحْر الْمَسْجُور هُوَ الموقد نَارا، من قَوْلهم: سجرت التَّنور. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ لكعب الْأَحْبَار: أَيْن جَهَنَّم؟ قَالَ: هُوَ الْبَحْر، فَقَالَ: مَا أَرَاك إِلَّا صَادِقا، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الْبحار سجرت} وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الْبَحْر الْمَسْجُور هُوَ الْبَحْر الَّذِي يبس مَاؤُهُ وَذهب، كَأَن بحار الأَرْض تفرغ عَن المَاء يَوْم الْقِيَامَة. وَعبر بَعضهم عَن هَذَا الْبَحْر الْمَسْجُور بالفارغ.

{إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع (7) مَا لَهُ من دَافع (8) يَوْم تمور السَّمَاء مورا (9) وتسير الْجبَال سيرا (10) فويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (11) الَّذين هم فِي خوض يَلْعَبُونَ (12)

7

قَوْله تَعَالَى: {إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع} على هَذَا وَقع الْقسم، وَإِلَى هَذَا الْموضع كَانَ قسما على التَّقْدِير الَّذِي قُلْنَاهُ فِي السُّورَة الْمُتَقَدّمَة. وَقَوله: {وَاقع} أَي: كَائِن.

8

وَقَوله: {مَا لَهُ من دَافع} أَي: مَاله دَافع من الْكفَّار. وَعَن جُبَير بن مطعم: " أَنه أَتَى الْمَدِينَة ليفدي بعض أُسَارَى بدر، فَسمع النَّبِي يقْرَأ فِي الصَّلَاة سُورَة الطّور، فَلَمَّا سمع قَوْله: {إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع مَا لَهُ من دَافع} غشية وَجل وَخَوف، وَكَانَ ذَلِك سَبَب إِسْلَامه ".

9

قَوْله: {يَوْم تمور السَّمَاء مورا} أَي: تَدور، وَيُقَال: تَجِيء وَتذهب وَالْمرَاد سَيرهَا وَيُقَال تكفأ بِأَهْلِهَا.

10

وَقَوله {وتسير الْجبَال سيراً} أى تجىء وَتذهب على وَجه الأَرْض، وَيُقَال: سَيرهَا سير السَّحَاب بَين السَّمَاء وَالْأَرْض على مَا قَالَ تَعَالَى: {وَهِي تمر مر السَّحَاب} .

11

وَقَوله: {فويل يَوْمئِذٍ للمكذبين الَّذين هم فِي خوض يَلْعَبُونَ} أَي: فِي بَاطِل لاهون، وَيُقَال: يَخُوضُونَ فِي أَمر النَّبِي بالتكذيب، ويلعبون بِمَا هُوَ [الْجد] . وَعَن بَعضهم: أَنه رُؤِيَ فِي الْمَنَام، فَقيل لَهُ: كَيفَ الْأَمر؟ فَقَالَ: الْأَمر جد فأياك أَن تخلطه بِالْهَزْلِ. وَقيل: إِن الله تَعَالَى جعل كل مَا فِيهِ الْكفَّار لعبا.

13

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يدعونَ إِلَى نَار جَهَنَّم دَعَا} أَي: يدْفَعُونَ فِي نَار جَهَنَّم. وَقَوله: {دَعَا} أَي: دفعا. والدع فِي اللُّغَة: هُوَ الدّفع بِشدَّة وعنف.

{يَوْم يدعونَ إِلَى نَار جَهَنَّم دَعَا (13) هَذِه النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا تكذبون (14) أفسحر هَذَا أم أَنْتُم لَا تبصرون (15) اصلوها فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا سَوَاء عَلَيْكُم إِنَّمَا تُجْزونَ}

14

وَقَوله: {هَذِه النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا تكذبون} يُقَال لَهُم هَذَا على طَرِيق التوبيخ والتقريع.

15

قَوْله تَعَالَى: {أفسحر هَذَا} فِي التَّفْسِير: أَنهم لما كَانُوا يرَوْنَ الْآيَات فِي الدُّنْيَا وَدَلَائِل نبوة الرَّسُول فَيَقُولُونَ: إِنَّهَا سحر وَنحن لَا نبصر مَا يَقُول أَي: لَا نعلم فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة وعاينوا الْعَذَاب يُقَال لَهُم: أفسحر هَذَا كَمَا تَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا لما رَأَيْتُمْ من الْآيَات أم أَنْتُم لَا تبصرون، أَي: هَل أَنْتُم لَا تبصرون كَمَا لم تبصروا فِي الدُّنْيَا على زعمكم؟ . وَالْقَوْل الثَّانِي فِي قَوْله: {أم أَنْتُم لَا تبصرون} أَي: مَعْنَاهُ بل كُنْتُم لَا تبصرون، أَي: لَا تعلمُونَ، وَهَذَا قَول مَعْرُوف.

16

وَقَوله: {اصلوها} أَي: ادخلوها. وَيُقَال: قاسوا حرهَا. وَقَوله: {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا} وَالْمعْنَى: أَنكُمْ سَوَاء صَبَرْتُمْ أَو جزعتم، فالعذاب وَاقع بكم وَلَا يُخَفف عَنْكُم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن أهل النَّار يجزعون مُدَّة مديدة، وينادون على أنفسهم بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور ثمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نصبر، فيصبرون أَيْضا مُدَّة مديدة فَلَا يَنْفَعهُمْ وَاحِد من الْأَمريْنِ، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {سَوَاء عَلَيْكُم} أَي: مستو [كلتا] الْحَالَتَيْنِ، وَالْعَذَاب مُسْتَمر بكم فيهمَا. وَقَوله: {إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} يَعْنِي: أَن هَذَا عَمَلكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ.

17

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونعيم} أَي: بساتين ونعمة.

{مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (16) إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونعيم (17) فاكهين بِمَا آتَاهُم رَبهم ووقاهم رَبهم عَذَاب الْجَحِيم (18) كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (19) }

18

وَقَوله: {فاكهين} قَالَ ابْن عَرَفَة وَهُوَ نفطويه النَّحْوِيّ فاكهين: ناعمين. وَيُقَال: فاكهين ذَوي فَاكِهَة. يُقَال: فلَان لِابْنِ أَي: ذُو لبن: وتامر أَي: ذُو تمر. وَقُرِئَ: {فكهين} أَي: معجبين مسرورين بحالهم. وَقَوله: {بِمَا آتَاهُم رَبهم} أَي: أَعْطَاهُم رَبهم. وَقَوله: {ووقاهم رَبهم عَذَاب الْجَحِيم} أَي: عَذَاب النَّار، والجحيم: مُعظم النَّار.

19

قَوْله تَعَالَى: {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} أَي: تهنئون هَنِيئًا. وَقَوله: {بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: تَعْمَلُونَ من الطَّاعَات.

20

قَوْله تَعَالَى: {متكئين على سرر} هُوَ جمع سَرِير. وَقَوله: {مصفوفة} أَي مضموم بَعْضهَا إِلَى بعض. وَيُقَال: مصطفة. وَفِي التَّفْسِير: أَن ارْتِفَاع السرير يكون كَذَا كَذَا ميلًا، فَإِذا أَرَادَ الْمُؤمن أَن يَصْعَدهُ تطامن حَتَّى يرْتَفع عَلَيْهِ الْمُؤمن، ثمَّ يعود إِلَى مَا كَانَ. وَقَوله: {وزوجناهم} أَي: قرناهم، قَالَه الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا من أهل الْمعَانِي. قَالُوا: وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ التَّزْوِيج الْمَعْرُوف الَّذِي يكون فِي الدُّنْيَا، فَإِن عقد التَّزْوِيج من عُقُود الدُّنْيَا لَيْسَ من عُقُود الْآخِرَة. وَقَوله: {بحور عين} الْحور: الْبيض، وَمِنْه الْحوَاري، وَمِنْه الحواريون، لأَصْحَاب عِيسَى، وهم القصارون الَّذين يبيضون الثِّيَاب. وَالْعرب تسمى نسَاء الْأَمْصَار حواريات لبياضهن. وَقَالَ بَعضهم: (فَقَالَ للحواريات يبْكين غَيرنَا ... وَلَا تبكنا إِلَّا الْكلاب النوابح) وَقَوله: {عين} أَي: حسان الْعين. وَيُقَال: سميت الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ حوراء؛ لشدَّة

{متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين (20) وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ} بياضها، وَسَوَاد (حدقتيها) .

21

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا وأتبعناهم ذرياتهم} وَقُرِئَ: " وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ " وَفِي الْخَبَر مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس وَمَرْفُوعًا إِلَى رَسُول الله: " أَن الله تَعَالَى يرفع ذُرِّيَّة الْمُؤمن إِلَى دَرَجَته، وَإِن لم يبلغهَا عَمَلهم؛ لتقر عينهم بهم " وَعَن بَعضهم أَن هَذَا فِي الْآبَاء مَعَ الْأَوْلَاد، وَالْأَوْلَاد مَعَ الْآبَاء جَمِيعًا، كَأَن الله تَعَالَى يبلغ الْوَالِد دَرَجَة الْوَلَد إِذا كَانَ أرفع مِنْهُ فِي الدرجَة، ويبلغ الْوَلَد دَرَجَة الْوَالِد إِذا كَانَ أرفع مِنْهُ فِي الدرجَة. وَقد ورد فِي بعض الْكتب: أَن هَذَا يكون أَيْضا للْأَخ مَعَ أَخِيه فِي الْإِيمَان يَقُول الْأَخ: يَا رب، ارفعه إِلَى درجتي، فَيَقُول: إِنَّه لم يعْمل مثل عَمَلك، فَيَقُول: إِنِّي عملت لنَفْسي وَله. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي " أَن أَوْلَاد الْمُؤمنِينَ يكونُونَ مَعَ آبَائِهِم فِي الْجنَّة وَأَوْلَاد الْكفَّار مَعَ آبَائِهِم فِي النَّار. "

( {بِإِيمَان ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ} وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن أَوْلَاد الْمُشْركين يكونُونَ خدم أهل الْجنَّة ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: أَنه مَاتَ صبي من الْأَنْصَار، فَقَالَت عَائِشَة: طُوبَى لَهُ عُصْفُور من عصافير الْجنَّة، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " يَا عَائِشَة أَو غير ذَلِك؟ إِن الله تَعَالَى خلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا، وخلقهم لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم، وَخلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا، خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي رَحمَه الله بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد المقرىء أخبرنَا جدي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة، عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، عَن النَّبِي ... وَالْخَبَر فِي صَحِيح مُسلم. وَقد قَالَ أهل الْعلم: إِن الْأَصَح فِي ذرارى الْمُؤمنِينَ أَنهم فِي الْجنَّة، وَيحْتَمل أَن النَّبِي إِنَّمَا قَالَ ذَلِك على مَا كَانَ عرفه فِي الأَصْل، ثمَّ إِن الله تَعَالَى أخبرهُ أَن ذرارى الْمُسلمين فِي الْجنَّة بِهَذِهِ الْآيَة وَغَيرهَا، وأنما ذرارى الْكفَّار: فَالْأَصَحّ أَن الْأَمر فيهم على التَّوَقُّف على مَا روى عَن النَّبِي " أَنه سُئِلَ عَن أَطْفَال الْمُشْركين فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين ". وَقَوله: {بِإِيمَان} أَي: بإيمَانهمْ، إِمَّا بإيمَانهمْ بِأَنْفسِهِم، أَو بِثُبُوت الْإِيمَان لَهُم

{وَمَا ألتناهم من عَمَلهم من شَيْء كل امْرِئ بِمَا كسب رهين (21) وأمددناهم بفاكهة وَلحم مِمَّا يشتهون (22) يتنازعون فِيهَا كأسا} بِإِيمَان الْآبَاء. {ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ} أَي: فِي الدرجَة على مَا قُلْنَا. وَقَوله: {وَمَا ألتناهم من عَمَلهم من شَيْء} أَي: مَا نقصناهم من عَمَلهم من شَيْء. وَقَرَأَ ابْن كثير: " وَمَا ألتناهم " بِكَسْر اللَّام، وَالْأول هُوَ الأولى. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَمَا لتناهم " وَالْكل بِمَعْنى وَاحِد. قَالَ الشَّاعِر: (أبلغ بنى ثقل عني مغلغلة ... جهد الرسَالَة لَا ألتا وَلَا كذبا) قَوْله تَعَالَى: {كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} هَذَا فِي الْمُشْركين، وَمَعْنَاهُ: أَن الْكفَّار محبوسون فِي النَّار بعملهم، وَأما الْمُؤمن فَهُوَ غير مَحْبُوس وَلَا مُرْتَهن، فَإِن ارْتهن بِعَمَلِهِ فَلَا بُد أَن يدْخل النَّار. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " لن يُنجي أحدا مِنْكُم عمله، قيل: وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل لَهُ ".

22

قَوْله تَعَالَى: {وأمددناهم بفاكهة} هَذَا رُجُوع إِلَى صفة أهل الْجنَّة. وَقَوله: {وَلحم طير مِمَّا يشتهون} ظَاهر الْمَعْنى.

23

قَوْله تَعَالَى: {يتنازعون فِيهَا كأسا} أَي: يتعاطون، وَالْمعْنَى: بَعضهم يُعْطي بَعْضًا على مَا يفعل الشَّرَاب فِي الدُّنْيَا. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فَلَمَّا تنازعنا الحَدِيث وأسمحت ... هصرت بِغُصْن ذِي شماريخ ميال)

{لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم} وَيَطوف عَلَيْهِم غلْمَان لَهُم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤ منكون وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتساءلون قَالُوا إِنَّا كُنَّا قبل فِي أهلنا فِي أهلنا مشفقين وَقَوله {لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم} أَي: لَا يجْرِي بَينهم كَلَام بَاطِل، وَلَا كَلَام يَأْثَم بِهِ قَائِله، على مَا يكون بَين الشَّرَاب فِي الدُّنْيَا. قَالَ القتيبي: مَعْنَاهُ: لَا يسكرون فَيكون مِنْهُم كَلَام لَغْو أَو كَلَام يأثمون بِهِ.

24

قَوْله تَعَالَى: {وَيَطوف عَلَيْهِم غلْمَان لَهُم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤ مَكْنُون} أَي: مصون مَسْتُور من الشَّمْس وَالرِّيح، وَمن كل مَا يذهب صفاءه وبهاءه ويغيره.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتساءلون} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن أهل الْجنَّة يَجْتَمعُونَ، ويذكرون أَحْوَال الدُّنْيَا، وَيسْأل بَعضهم بَعْضًا عَن ذَلِك.

26

وَقَوله: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قبل فِي أهلنا مشفقين} أَي: وجلين خَائِفين، فَيُقَال: إِن خوفهم ووجلهم هُوَ من يَوْم الْقِيَامَة. وَيُقَال: إِن خوفهم ووجلهم من أَن لَا تقبل مِنْهُم أَعْمَالهم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون} قَالَت عَائِشَة: عمِلُوا مَا عمِلُوا من الطَّاعَات، وخافوا أَن لَا تقبل مِنْهُم. وَيُقَال: إِن الْمُؤمن فِي بَيته وَجل؛ لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى معاشرة أَهله وَولده، وَلَا بُد لَهُ مَعَ ذَلِك أَن يَتَّقِي الله تَعَالَى، وَلَا يَقُول وَلَا يفعل مَا لَا يرضاه الله، وَهَذَا هُوَ أَشد شَيْء على الْمُؤمنِينَ أَن يَكُونُوا على حذر من رَبهم وعَلى طلب رِضَاهُ مِنْهُم فِيمَا بَين أُمُورهم مَعَ الْخلق.

27

قَوْله تَعَالَى: {فَمن الله علينا} أَي: أنعم الله علينا. وَقَوله: {ووقانا عَذَاب السمُوم} أَي: عَذَاب جَهَنَّم، فَيُقَال: إِن السمُوم اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم. وَيُقَال: عَذَاب السمُوم أَي: عَذَاب سموم جَهَنَّم.

28

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا من قبل نَدْعُوهُ} أَي: نوحده ونعبده، وَالدُّعَاء هَاهُنَا بِمَعْنى

{فَمن الله علينا ووقانا عَذَاب السمُوم (27) إِنَّا كُنَّا من قبل نَدْعُوهُ إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم (28) فَذكر فَمَا أَنْت بنعمت رَبك بكاهن وَلَا مَجْنُون (29) أم يَقُولُونَ شَاعِر نتربص} التَّوْحِيد، وَعَلِيهِ أَكثر الْمُفَسّرين. وَيُقَال: إِنَّه الدُّعَاء الْمَعْرُوف. قَوْله: {إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} قرئَ بِفَتْح الْألف وَكسرهَا، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ على الِابْتِدَاء والاستئناف، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فَمَعْنَاه: إِنَّا كُنَّا من قبل نَدْعُوهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْبر الرَّحِيم أَي: لِأَنَّهُ. وَالْبر: هُوَ الْبَار اللَّطِيف بعباده، ولطفه بعباده هُوَ إنعامه عَلَيْهِم مَعَ عظم جرمهم وذنبهم. والرحيم: هُوَ العطوف على مَا ذكرنَا. وَعَن بَعضهم: أَن الْبر الَّذِي يصدق وعده لأوليائه. وَعَن ابْن عياس فِي عَذَاب السمُوم قَالَ: السمُوم هُوَ الطَّبَق السَّابِع من النَّار، وَهُوَ الطَّبَق الْأَعْلَى. والسموم يكون بِالْحرِّ وَيكون بالبرد. قَالَ الشَّاعِر: (الْيَوْم يَوْم بَارِد سمومه ... من يجزع الْيَوْم فَلَا ألومه) وَيُقَال " السمُوم وهج النَّار.

29

قَوْله تَعَالَى: {فَذكر فَمَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بكاهن وَلَا مَجْنُون} قَوْله: {فَذكر} أَي: فعظ، وَيُقَال: ذكر عِقَاب الْكَافرين، ونعيم الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {بكاهن وَلَا مَجْنُون} الكاهن هُوَ الَّذِي يخبر عَن الْغَيْب كذبا. يُقَال: تكهن كهَانَة إِذا فعل ذَلِك. وَالْمَجْنُون: هُوَ الَّذِي زَالَ عقله وَاخْتَلَطَ.

30

قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ شَاعِر} يُقَال: إِن " أم " هَاهُنَا بِمَعْنى الِاسْتِفْهَام يَعْنِي: أتقولون شَاعِر. وَيُقَال: الْمَعْنى: بل. قَالَ النّحاس: " أَو " فِي اللُّغَة لِلْخُرُوجِ من حَدِيث إِلَى حَدِيث. وَقَوله: {شَاعِر نتربص بِهِ ريب الْمنون} مَعْنَاهُ: حوادث الدَّهْر. وَقَالَ الْخَلِيل: الْمنون هُوَ الْمَوْت، ذكره ابْن السّكيت أَيْضا. وَقيل: هُوَ صرف الدَّهْر،

{بِهِ ريب الْمنون (30) قل تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعكُمْ من المتربصين (31) أم تَأْمُرهُمْ أحلامهم بِهَذَا أم هم قوم طاغون (32) أم يَقُولُونَ تَقوله بل لَا يُؤمنُونَ (33) فليأتوا بِحَدِيث} وَقَالَ الشَّاعِر: أَمن الْمنون وريبها نتوجع ... وَالْمَوْت لَيْسَ بمعتب من يجزع) والمنون يؤنث وَيذكر، فَمن ذكر فعلى اللَّفْظ، وَمن أنث فَهُوَ على أَنه بِمَعْنى الْمنية. وَيُقَال: (ريب) الْمنون الدَّهْر، مكاره الدَّهْر، فَقَالَ: رَابَنِي كَذَا أَي: أصابني مِنْهُ مَا أكره. وَفِي التَّفْسِير: أَن هَذَا القَوْل قَالَه أَبُو جهل وَعقبَة بن أبي معيط وَشَيْبَة بن ربيعَة وَالنضْر بن الْحَارِث وَغَيرهم. قَالُوا: هُوَ شَاعِر نَنْتَظِر بِهِ حوادث الدَّهْر، وتتخلص مِنْهُ بهَا كَمَا تخلصنا من فلَان وَفُلَان.

31

قَوْله تَعَالَى: {قل تَرَبَّصُوا} أَي: انتظروا. {فَإِنِّي مَعكُمْ من المتربصين} أَي: المنتظرين، وانتظاره كَانَ [إِمَّا] أَن يظفر بهم أَو يسلمُوا.

32

وَقَوله تَعَالَى: {أم تَأْمُرهُمْ أحلامهم بِهَذَا} أَي: عُقُولهمْ، وَكَانُوا يدعونَ أَنهم ذَوُو عقول وأحلام. وَالْعقل: هُوَ الدَّاعِي إِلَى الْحلم فَسَماهُ باسمه. وَيُقَال: إِن الْمَعْنى من هَذَا هُوَ تسفيههم وتجهيلهم أَي: لَيْسَ لَهُم حلم وَلَا عقل حَيْثُ قَالُوا مثل هَذَا القَوْل، وَحَيْثُ نسبوا إِلَى الشّعْر وَالْجُنُون من دعاهم إِلَى التَّوْحِيد وأتاهم بالبراهين. وَقَوله: {أم هم قوم طاغون} أَي: بل هم قوم طاغون.

33

قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ تَقوله} أَي: افتراه واختلقه. وَقَوله: {بل لَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يصدقون.

34

قَوْله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث مثله إِن كَانُوا صَادِقين} أَي: بِكِتَاب مثل مَا أَتَى بِهِ

{مثله إِن كَانُوا صَادِقين (34) أم خلقُوا من غير شَيْء أم هم الْخَالِقُونَ (35) أم خلقُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض بل لَا يوقنون (36) } مُحَمَّد إِن كَانُوا صَادِقين أَنه اختلقه وافتراه. وَهَذَا بِمَعْنى التحدي على مَا ذكره فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.

35

قَوْله تَعَالَى: {أم خلقُوا من غير شَيْء} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: أم خلقُوا من غير أَن يكون لَهُم خَالق وصانع أَي: تَكُونُوا بِأَنْفسِهِم. وَقَوله: {أم هم الْخَالِقُونَ} أَي: خلقُوا أنفسهم، وَالْمرَاد على هَذَا القَوْل، أَنهم إِذا لم يدعوا أَنهم تَكُونُوا من غير خَالق وصانع، وَلَا ادعوا أَنهم الَّذين هم خلقُوا أنفسهم، وأقروا أَن خالقهم هُوَ الله، فَلَا يَنْبَغِي أَن يعبدوا مَعَه غَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: أم خلقُوا من غير شَيْء أَي: لغير شَيْء، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} وَمثل قَوْله تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يجوز أَن يكون " من " بِمَعْنى اللَّام؟ وَالْجَوَاب: أَن بَعضهم قد أجَاز ذَلِك، وَمن لم يجز قَالَ مَعْنَاهُ: أم خلقُوا من غير شَيْء توجبه الْحِكْمَة يعْنى: أَن الْحِكْمَة أوجبت خلقهمْ ذكره النّحاس أَيْضا وَالْأول أظهر فِي الْمَعْنى.

36

قَوْله تَعَالَى: {أم خلقُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: أم يدعونَ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض للأصنام الَّتِي يعبدونها. قَوْله {بل لَا يوقنون} أى لَا يوقنون بِمَا يدعونَ وَقيل أم خلقُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض أى أهم الَّذين خلقُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض. مَعْنَاهُ: أَنهم لم يخلقوا السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا مقرين بِأَن الله خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض. فَالْمَعْنى: أَنهم إِذا كَانُوا مقرين بِأَن الله هُوَ الْخَالِق فَلم يشركوه مَعَه غَيره؟ ! .

{أم عِنْدهم خَزَائِن رَبك أم هم المسيطرون (37) أم لَهُم سلم يَسْتَمِعُون فِيهِ فليأت مستمعهم بسُلْطَان مُبين (38) أم لَهُ الْبَنَات وَلكم البنون (39) أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من}

37

قَوْله تَعَالَى: {أم عِنْدهم خَزَائِن رَبك} أَي: عطايا رَبك، وَيُقَال: خزائنه من الرزق والمطر، فهم يملكُونَ ويعطون من شَاءُوا. قَوْله: {أم هم المسيطرون} أَي: الأرباب المسلطون. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْمعْنَى: أَنهم لَيْسُوا كَذَلِك. يُقَال: تسيطر الرجل على فلَان، إِذا حمله على مَا يُحِبهُ ويهواه.

38

قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم سلم} أَي: درج ومرقى. وَقَوله: {يَسْتَمِعُون فِيهِ} أَي: عَلَيْهِ، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي: على جُذُوع النّخل. وَقَوله: {فليأت مستمعهم بسُلْطَان مُبين} أَي: فليأت من ادّعى الِاسْتِمَاع مِنْهُم بِحجَّة بَيِّنَة. وَفِي بعض التفاسير: كَمَا أَتَى جِبْرِيل بِالْحجَّةِ فِي أَنه قد سمع الْوَحْي.

39

قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُ الْبَنَات وَلكم البنون} مَعْنَاهُ: كَيفَ تَقولُونَ أَن لَهُ الْبَنَات وَأَنْتُم لَا ترْضونَ ذَلِك لأنفسكم؟ وَالْمعْنَى: أَنه لَيْسَ الْأَمر كَمَا تَزْعُمُونَ.

40

قَوْله تَعَالَى: {أم تَسْأَلهُمْ أجرا} أى علا على تَبْلِيغ الرسَالَة. وَقَوله {فهم من مغرم مثقلون أَي: فهم من المغرم الَّذِي لحقهم مثقلون. يُقَال: لحق فلَانا دين فادح، أَو دين ثقيل، فَهُوَ مثقل.

41

قَوْله تَعَالَى: {أم عِنْدهم الْغَيْب فهم يَكْتُبُونَ} مَعْنَاهُ: علم الْغَيْب، وَيُقَال: اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فهم يَكْتُبُونَ مِنْهُ مَا يزعمونه ويدعونه، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ عِنْدهم ذَلِك، فقد ادعوا مَا ادعوا فَقَالُوا مَا قَالُوا زورا وكذبا. وَيُقَال: أم عِنْدهم الْغَيْب أَي: كتاب من الله فهم يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ مِنْهُ.

42

قَوْله تَعَالَى: {أم يُرِيدُونَ كيدا} أَي: كيدا بك، وكيدهم: هُوَ مَا دبروه فِي أمره

{مغرم مثقلون (40) أم عِنْدهم الْغَيْب فهم يَكْتُبُونَ (41) أم يُرِيدُونَ كيدا فَالَّذِينَ كفرُوا هم المكيدون (42) أم لَهُم إِلَه غير الله سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ (43) وَإِن} ليخرجوه من مَكَّة أَو يقتلوه أَو يحسبوه. وَقَوله: {فَالَّذِينَ كفرُوا هم المكيدون} أَي: هم المقتولون، وَقد قتلوا ببدر. وَيُقَال: مَعْنَاهُ: أَن كيدنا ومكرنا نَازل بهم.

43

قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم إِلَه غير الله} فَإِن قيل: قد كَانُوا يدعونَ أَن لَهُم آلِهَة غير الله، فَكيف يَصح قَوْله أم لَهُم إِلَه غير الله يحي وَيُمِيت، وَيُعْطِي وَيمْنَع، ويرزق وَيحرم؟ ! . وَقَوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ} نزه نَفسه عَن شركهم، وَعَما كَانُوا يعتقدونه من عبَادَة غَيره.

44

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يرَوا كسفا من السَّمَاء} أَي: جانبا من السَّمَاء، أَو قِطْعَة من السَّمَاء، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن بعض الْكفَّار قَالُوا: {فأسقط علينا كسفا من السَّمَاء إِن كنت من الصَّادِقين} . وَالْمعْنَى أَنه [لَو] سقط عَلَيْهِم جَانب من السَّمَاء فظلوا فِيهِ يعرجون لقالوا: إِنَّمَا سكرت أبصارنا.

45

قَوْله تَعَالَى: {فذرهم حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي فِيهِ يصعقون} وَقُرِئَ: " يصعقون " يَعْنِي: يموتون. وَيُقَال: هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، ويصعقون هُوَ نزُول الْعَذَاب بهم.

46

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم لَا يُغني عَنْهُم كيدهم شَيْئا} أَي: حيلتهم. وَقَوله: {وَلَا هم ينْصرُونَ} أَي: لَا يمْنَع مِنْهُم الْعَذَاب. وَيُقَال: لَا يكون لَهُم نَاصِر يدْفع عَنْهُم.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن للَّذين ظلمُوا عذَابا دون ذَلِك} الْأَكْثَرُونَ على أَنه عَذَاب

{يرَوا كسفا من السَّمَاء سَاقِطا يَقُولُونَ سَحَاب مركوم (44) فذرهم حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي فِيهِ يصعقون (45) يَوْم لَا يُغني عَنْهُم كيدهم شَيْئا وَلَا هم ينْصرُونَ (46) وَإِن} لقبر. وَعَن مُجَاهِد: أَنه الْجُوع فِي الدُّنْيَا. وَيُقَال {أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن الْعَذَاب نَازل بهم، فَهَذَا دَلِيل على أَنه قد كَانَ فيهم من هُوَ متعنت يعرف وينكر.

48

قَوْله تَعَالَى: {واصبر لحكم رَبك} أَي: لما حكم عَلَيْك، وَهَذَا تَعْزِيَة وتسلية لَهُ فِي الْأَذَى الَّذِي كَانَ يلْحقهُ من الْكفَّار. وَقَوله: {فَإنَّك بأعيننا} قَالَ ابْن عَبَّاس: بمرأى منا، وَيُقَال: نَحن نرَاك ونحفظك ونرعاك. قَالَ أهل الْمعَانِي: وَهَذَا إِنَّمَا قَالَه لتيسير الْأَمر عَلَيْهِ وتسهيله، لِأَنَّهُ إِذا علم أَن الْأَذَى الَّذِي يلْحقهُ من الْكفَّار بِحكم الله ومرأى مِنْهُ، سهل عَلَيْهِ بعض السهولة، فَإِنَّهُ لَا يتْرك مجازاتهم على ذَلِك وإثابته على مَا لحقه من الْأَذَى. وَقَوله: {وَسبح بِحَمْد رَبك} أَي: صل حامدا لِرَبِّك. وَعَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَن مَعْنَاهُ: هُوَ أَنه إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة يَقُول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وتبارك اسْمك، وَتَعَالَى جدك، وَلَا إِلَه غَيْرك. وَعَن بَعضهم أَنه إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة يَقُول: الله أكبر كَبِيرا، وَالْحَمْد لله كثيرا وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا، فَهُوَ المُرَاد من الْآيَة، قَالَه زر بن حُبَيْش. وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَص مَعْنَاهُ: أَنه يَقُول: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِك إِذا قَامَ [من] أَي مجْلِس كَانَ. وَعَن بَعضهم أَنه بقول: إِذا قَامَ من الْمجْلس: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، استغفرك وَأَتُوب إِلَيْك. فَهُوَ كَفَّارَة لكل مجْلِس جلسه الْإِنْسَان. وَقَوله: {حِين تقوم} قد بَينا.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فسبحه} أَي: صل لَهُ، وَيُقَال: إِنَّه صَلَاة الْمغرب

{للَّذين ظلمُوا عذَابا دون ذَلِك وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (47) واصبر لحكم رَبك فَإنَّك بأعيننا وَسبح بِحَمْد رَبك حِين تقوم (48) وَمن اللَّيْلَة فسبحه وإدبار النُّجُوم (49) } وَالْعشَاء. قَالَ مُجَاهِد: هُوَ اللَّيْل كُله. وَقَوله: {وإدبار النُّجُوم} قَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس: هُوَ الركعتان قبل الصُّبْح. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَكعَتَا الْفجْر خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ". فعلى هَذَا معنى " إدبار السُّجُود " رَكعَتَا الْمغرب، قَالَه ابْن عَبَّاس، " وإدبار النُّجُوم " رَكعَتَا الصُّبْح، وَإِنَّمَا سماهما إدبار النُّجُوم لِأَن الرجل يُصَلِّيهمَا عِنْدَمَا يَزُول سُلْطَان النُّجُوم من الضَّوْء، كَالرّجلِ يدبر عَن الشَّيْء فيزول سُلْطَانه عَنهُ. وَيُقَال: معنى قَوْله: {وإدبار النُّجُوم} هُوَ التَّسْبِيح بعد صَلَاة الصُّبْح.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {والنجم إِذا هوى (1) تَفْسِير سُورَة والنجم وَهِي مَكِّيَّة، وَفِي قَول بَعضهم إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا اللمم} الْآيَة. قَالَ: هِيَ نزلت بِالْمَدِينَةِ. وَهَذِه السُّورَة أول سُورَة أعلنها النَّبِي وَقرأَهَا جَهرا عِنْد الْمُشْركين.

النجم

قَوْله تَعَالَى: {والنجم} قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة الْوَالِبِي هُوَ الثريا، [وَهِي] إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مُجَاهِد. وروى أَسْبَاط عَن السدى: أَنه الزهرة. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى، وَهُوَ قَول جمَاعَة: أَن المُرَاد بِهِ الْقُرْآن أنزل نجما نجما فِي عشْرين سنة. وَقيل: فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة. وَالْقَوْل الرَّابِع: قَول قَتَادَة وَغَيره أَنه جَمِيع النُّجُوم فِي السَّمَاء، عبر عَنْهَا باسم الْجِنْس، وَهَذَا أظهر الْأَقَاوِيل؛ لِأَنَّهُ يُطَابق اللَّفْظ من كل وَجه. وَيجوز أَن يذكر النَّجْم بِمَعْنى النُّجُوم. قَالَ [عمر] بن أبي ربيعَة: (أحسن [النَّجْم] فِي السَّمَاء الثريا ... والثريا فِي الأَرْض زين السَّمَاء) وَمَعْنَاهُ: أحسن النُّجُوم. وَقَوله: {إِذا هوى} أَي: غَابَ وغار هَذَا إِذا حملناه على النَّجْم الْمَعْرُوف وَأما إِذا حملناه على نُجُوم الْقُرْآن؛ فَمَعْنَاه: إِذا نزل يَعْنِي نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: {والنجم إِذا هوى} أَي: تساقطت يَوْم الْقِيَامَة أَي:

{مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى (2) وَمَا ينْطق عَن الْهوى (3) إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى (4) علمه شَدِيد القوى (5) النُّجُوم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا النُّجُوم انكدرت} أَي: انتثرت. وَعَن بَعضهم: {إِذا هوى} مَعْنَاهُ: انقضاضها فِي أثر الشَّيَاطِين، وَهُوَ الرَّمْي بِالشُّهُبِ على مَا ورد بِهِ الْقُرْآن فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.

2

قَوْله تَعَالَى: {مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} الْآيَة الأولى وَردت على وَجه الْقسم وَمَعْنَاهُ وَرب النَّجْم. وَقَوله {مَا ضل صَاحبكُم} على هَذَا وَقع الْقسم، وَكَانَت قُرَيْش يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا ضال غاو، فأقسم الله تَعَالَى أَنه مَا ضل وَمَا غوى، أَي: مَا أَخطَأ [طَرِيقا] {وَمَا غوى} أَي: مَا خرج عَن الرشد فِي أَمر دينه ودنياه، والغي: ضد الرشد. وَيُقَال: مَا غوى أَي: مَا خَابَ سَعْيه فِيمَا يَطْلُبهُ. كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى وجود مَا هُوَ فِي طلبه. قَالَ الشَّاعِر: (وَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمره ... وَمن يغو لَا يعْدم على الغي لائما) أَي: من خَابَ سَعْيه، وَلم يجد مَا يَطْلُبهُ.

3

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بالهوى. وَقَالَ غَيره: مَا ينْطق عَن هَوَاهُ أَي: مَا ينْطق بِغَيْر الْحق؛ لِأَن من اتبع الْهوى فِي قَوْله قَالَ بِغَيْر الْحق.

4

وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} الْوَحْي فِي اللُّغَة: إِلْقَاء الشَّيْء إِلَى النَّفس خُفْيَة، وَهُوَ فِي عرف أهل الْإِسْلَام عبارَة عَمَّا ينزله الله تَعَالَى على الْأَنْبِيَاء، وَمن الْأَنْبِيَاء التَّبْلِيغ إِلَى الْخلق.

5

قَوْله تَعَالَى: {علمه شَدِيد القوى} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ الَّذِي علم الرَّسُول مَا أنزلهُ الله تَعَالَى عَلَيْهِ.

{ذُو مرّة فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى (7) ثمَّ دنا فَتَدَلَّى (8) } وروى عباد بن مَنْصُور عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن قَوْله: " علمه شَدِيد القوى " هُوَ الله تَعَالَى. والقوى جمع الْقُوَّة. قَالَ ابْن عَبَّاس: من قُوَّة جِبْرِيل أَنه أَدخل جنَاحه تَحت الأَرْض السَّابِعَة، وَقلع مَدَائِن لوط، ورفعها إِلَى السَّمَاء، ثمَّ قَلبهَا. وَعَن كَعْب الحبر: أَن إِبْلِيس تعرض لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام على عقبَة من الأعقاب، وقصده، فنفخه جِبْرِيل بجناحه نفخة أَلْقَاهُ إِلَى الْهِنْد.

6

قَوْله تَعَالَى: {ذُو مرّة فَاسْتَوَى} قَالَ الْحسن: ذُو مرّة أَي: ذُو منظر حسن. وَقَالَ غَيره وَهُوَ الأولى ذُو قُوَّة. يُقَال: حَبل مري أَي: مُحكم الفتل. وَقَوله: {فَاسْتَوَى} أَي: فَاسْتَوَى جِبْرِيل فِي أفق السَّمَاء على صورته الَّتِي خلق فِيهَا. وَكَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة وعلقمة وقرة بن شرَاحِيل وَأكْثر أهل التَّفْسِير. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه الله تَعَالَى، وَالأَصَح هُوَ الأول.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى} هُوَ الْأُفق الَّذِي تطلع من جَانِبه الشَّمْس. وَقيل: الَّذِي يَجِيء مِنْهُ النَّهَار. والأفق: جَوَانِب السَّمَاء. وَيُقَال بالأفق الْأَعْلَى أَي: بالسماء. وَفِي الْأَخْبَار: " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أظهر نَفسه للنَّبِي على صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا، وَقد سد الْأُفق ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: رَأسه فِي السَّمَاء وَرجلَاهُ فِي الأَرْض، فقد مَلأ بجناحيه مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب.

8

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ دنا} أَي: دنا جِبْرِيل من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَوله: {فَتَدَلَّى} أَي: زَاد فِي الدنو. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: {ثمَّ دنا فَتَدَلَّى} على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير. وَقَوله: {تدلى} أَي: هوى وَأرْسل نَفسه من السَّمَاء، ثمَّ دنا أَي: دنا جِبْرِيل من

{فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى (9) النَّبِي وَصَارَ مَا بَينهمَا قاب قوسين أَو أدنى، وَهُوَ معنى قَوْله: {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} أَي: كَانَ (بَينهمَا) مِقْدَار قوسين أَو أقل من ذَلِك، وقاب لُغَة يَمَانِية فِي هَذَا الْمَعْنى، قَالَ الشَّاعِر: ((ألم تعلمُوا أَن رشيمة لم تكن ... لتبخسنا من وَرَاء قاب إِبْهَام)) وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ قاب نصف الْإِبْهَام. وروى أَسْبَاط عَن السدى أَن قَوْله: {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} أَي: قدر ذراعين. وَقَالَ مُجَاهِد: من الْوتر إِلَى المقبض. وَقيل: من السية إِلَى السية، فَإِن قيل: إِذا حملتم هَذَا على جِبْرِيل، فَكيف تَقْدِير الْآيَة؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ: " أَن جِبْرِيل لما اسْتَوَى فِي الْأُفق الْأَعْلَى على صورته غشي على النَّبِي " وَهُوَ مَرْوِيّ فِي الْأَخْبَار من عظم مَا رأى، فانتقل جِبْرِيل من صورته إِلَى الصُّورَة الَّتِي كَانَ يلقى النَّبِي فِيهَا، وَهُوَ صُورَة رجل، ودنا من النَّبِي، وَهُوَ معنى قَوْله: {ثمَّ دنا} ثمَّ نكس رَأسه إِلَيْهِ، بِمَعْنى قَوْله: {فَتَدَلَّى} وضمه إِلَيْهِ، فسكنه من رَوْعَته.

9

فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} [و] " أَو " كلمة تشكيك، وَلَا يجوز الشَّك على الله تَعَالَى. وَإِن كَانَ بِمَعْنى الْوَاو، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: فَكَانَ مِنْهُ أدنى من قاب قوسين، وَأَيْضًا فقد قَالَ: {قاب قوسين أَو أدنى} وَأي معنى لذكر القوسين هَاهُنَا وتخصيصهما بِالذكر، وَقد كَانَ يُمكنهُ تمثيله وتشبيهه بِشَيْء وَاحِد غير الْقوس فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر القوسين؟ وَالْجَوَاب: أَن الْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب على مَا كَانُوا يتخاطبون بِهِ، وَيفهم بَعضهم من بعض، فعلى هَذَا

نزلت الْآيَة، إِنَّكُم لَو رَأَيْتُمُوهُ لقلتم إِن الْقرب الَّذِي بَينهمَا قاب قوسين أَو أدنى أَو أنقص، وَقيل: أَزِيد أَو أنقص، وَأما ذكر الْقوس فَهُوَ على مَا كَانُوا يعتادونه، وَقرب الْقوس من الْوتر مَعْلُوم. وَيُقَال: إِن القوسين هَاهُنَا بِمَعْنى الْقوس الْوَاحِد، وَقد ذكرنَا أَن الشَّيْء الْوَاحِد يذكر بِلَفْظ التَّثْنِيَة. وَالظَّاهِر أَن المُرَاد مِنْهُ القوسان على الْحَقِيقَة، وَهُوَ غير مستنكر فِي لُغَة الْعَرَب، وَلَا يستبعد. القَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن قَوْله: {ثمَّ دنا} أَي: دنا مُحَمَّد من ربه. وَقَوله: {فَتَدَلَّى} أَي: زَاد فِي الدنو. وَفِي رِوَايَة مَالك بن صعصعة أَن النَّبِي [قَالَ] : " بَينا أَنه قَاعد إِذْ أَتَانِي جِبْرِيل فلكزني بَين كَتِفي، فَقُمْت فَإِذا شَجَرَة عَلَيْهَا شبه وكرين، فَجَلَست فِي أَحدهمَا، وَجلسَ جِبْرِيل فِي الآخر، وارتفعنا إِلَى السَّمَاء، وَرَأَيْت نورا عَظِيما، وَنظرت فَإِذا جِبْرِيل كالحلس فَعرفت فضل خَشيته على خَشْيَتِي، ولط دُوننَا الْحجاب ". وَفِي بعض الرِّوَايَات قَالَ: " فارقني جِبْرِيل، وهدأت الْأَصْوَات، وَسمعت من رَبِّي: ادن يَا مُحَمَّد ". وَقد ذكر هَذَا اللَّفْظ فِي الصَّحِيح، وَهُوَ دنو مُحَمَّد من ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى قَوْله: {ثمَّ دنا} أَي: دنا الرب من مُحَمَّد، وَهُوَ لفظ ثَابت أَيْضا، وَهُوَ على مَا شَاءَ الله. وَقَوله: {فَتَدَلَّى} أَي: زَاد فِي الدنو، وَالْمَعْرُوف عِنْد الْأَكْثَرين القَوْل الأول، وَهُوَ الأسلم.

{فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى (10) مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى (11)

10

قَوْله تَعَالَى: {فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: فَأوحى جِبْرِيل إِلَى عبد الله مَا أوحى، وَهُوَ مُحَمَّد. وَالْقَوْل الثَّانِي: فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى أَي: أوحى الله تَعَالَى إِلَى مُحَمَّد مَا أوحى. وَفِي الْأَخْبَار: أَنه كَانَ مِمَّا أوحى الله إِلَيْهِ أَنه فرض على هَذِه الْأمة خمسين صَلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ثمَّ ردَّتْ إِلَى الْخمس، [وَمِمَّا] أوحى إِلَيْهِ أَيْضا خَوَاتِيم سُورَة الْبَقَرَة، وَمِمَّا أوحى إِلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَة أَنه غفر لأمته الْمُقْحمَات مَا لم يشركوا بِاللَّه " يَعْنِي: يغْفر.

11

قَوْله تَعَالَى: {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ: رأى شَيْئا، وَصدق فِيمَا أخبر عَن رُؤْيَته. وَيُقَال: مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى أَي: رأى الْفُؤَاد مَا رَآهُ حَقِيقَة، وَلم يكن على تخييل وحسبان. تَقول الْعَرَب: كذبت فلَانا عينه: إِذا تخيل لَهُ الشَّيْء على غير حَقِيقَته. قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: يُقَال: مَا كذب فلَان الحَدِيث. أَي: مَا كذب فِيهِ. وَقُرِئَ: {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى} من التَّكْذِيب، وَالْأول أولى، قَالَ الشَّاعِر: (كذبتك عَيْنَيْك أَو رَأَيْت بِوَاسِطَة ... غلس الظلام من الربَاب خيالا) وَيُقَال: مَا كذب الْفُؤَاد الْعين أَي: لم توهمه أَنه علم شَيْئا وَلم يُعلمهُ. وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: رأى مُحَمَّد ربه بفؤاده مرَّتَيْنِ. فَإِن قَالَ قَائِل: الْمُؤْمِنُونَ يرونه بفؤادهم، وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا الْعلم بِهِ، فَمَا معنى تَخْصِيص النَّبِي؟

{أفتماروه على مَا يرى (12) وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى (13) } وَالْجَوَاب: أَنهم قَالُوا: إِن الله تَعَالَى خلق رُؤْيَة لفؤاده، فَرَأى بفؤاده مثل مَا يرى الْإِنْسَان بِعَيْنِه. وعَلى القَوْل الأول الرُّؤْيَة منصرفة إِلَى جِبْرِيل.

12

قَوْله تَعَالَى {أفتمارونه على مَا يرى} بعنى افتجادلونه وَكَانَت مجادلتهم مجادلة الشاكين المكذبين وَقد روى أَنهم استعوصفوه مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس واستخبروه عَن عيرهم فِي الطَّرِيق وقربها من مَكَّة وقرىء " أفتمرونه على مَا يرى أى أفتجحدونه قَالَ الشَّاعِر: (لَئِن هجرت أَخا صدق ومكرمة ... فقد مريت أَخا مَا كَانَ يمركما) أى جحدت.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} أَي: رأى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نزلة أُخْرَى أَي: مرّة أُخْرَى. فَإِن قيل: قد كَانَ رَآهُ كثيرا، فَمَا معنى نزلة أُخْرَى؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم ير جِبْرِيل فِي [صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا] إِلَّا مرَّتَيْنِ: مرّة بالأفق الْأَعْلَى، وَكَانَ ذَلِك عِنْد ابْتِدَاء الْوَحْي، وَقَالَ أهل الْمعَانِي: كَانَ ذَلِك شبه آيَة أَرَاهَا النَّبِي ليعلم أَنه من الله. والمرة الثَّانِيَة رَآهُ عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى لَيْلَة الْمِعْرَاج كَمَا قَالَ: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى} والسدرة شَجَرَة النبق. وَفِي التَّفْسِير: أَنَّهَا فِي السَّمَاء السَّابِعَة، وَيُقَال: فِي السَّادِسَة. وَعَن عِكْرِمَة: هِيَ على يَمِين الْعَرْش. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رفعت لي سِدْرَة الْمُنْتَهى فَإِذا نبقها كقلال هجر، وأوراقها كآذان الفيلة، يخرج من أَصْلهَا أَرْبَعَة أَنهَار: نهران ظاهران، ونهران باطنان ". على مَا بَينا. وَاخْتلف القَوْل فِي معنى الْمُنْتَهى، قَالَ بَعضهم: يَنْتَهِي إِلَيْهَا علم الْمَلَائِكَة، وَلَا يعلمُونَ مَا وَرَاء ذَلِك، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف.

وَالْقَوْل الثَّانِي: يَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يصعد إِلَيّ السَّمَاء، وَيَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يهْبط من فَوق. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الْمَلَائِكَة تصعد بأعمال بني آدم حَتَّى إِذا انْتَهوا إِلَى سِدْرَة قبضت مِنْهُم، وَلم يعلمُوا مَا وَرَاء ذَلِك. وَقد ذكر أَبُو عِيسَى القَوْل الثَّانِي الَّذِي ذكرنَا مُسْندًا إِلَى النَّبِي. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى المنتهي أَنه يَنْتَهِي إِلَيْهَا مقَام جِبْرِيل. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} أَي: رأى مُحَمَّد ربه نزلة أُخْرَى، وَقد ذكرنَا قَول ابْن عَبَّاس من قبل. وَاخْتلف أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي عَنْهُم فِي هَذَا، فَقَالَ ابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة: إِنَّه رأى جِبْرِيل وَلم ير الله تَعَالَى. وَعَن مَسْرُوق قَالَ: قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا من زعم ثَلَاثًا فقد أعظم الْفِرْيَة، من زعم أَن مُحَمَّدًا يعلم مَا فِي غَد فقد أعظم الْفِرْيَة؛ قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله عِنْده علم السَّاعَة} وَذكرت الْآيَة، وَمن زعم أَن مُحَمَّدًا كتم من الْوَحْي فقد أعظم الْفِرْيَة؛ قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته} وَمن زعم أَن مُحَمَّدًا رأى ربه فقد أعظم الْفِرْيَة، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} الْآيَة. وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: " أَن مُحَمَّدًا رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج بِعَيْنِه ". وَهُوَ قَول أنس وَكَعب الْأَحْبَار وَجَمَاعَة كَثِيرَة من التَّابِعين مِنْهُم: الْحسن، وَعِكْرِمَة: أَن الله قسم رُؤْيَته وَكَلَامه بَين مُحَمَّد ومُوسَى، فَكلم مُوسَى مرَّتَيْنِ، وَرَأى مُحَمَّد ربه

{عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى (14) عِنْدهَا جنَّة المأوى (15) إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى (16) مرَّتَيْنِ. وَهَذَا قَول جمَاعَة من الْأَئِمَّة مِنْهُم أَحْمد بن حَنْبَل، وَإِسْحَاق، وَغَيرهمَا. وَفِي بعض الرِّوَايَات: جعلت الْخلَّة لإِبْرَاهِيم، وَالْكَلَام لمُوسَى، والرؤية لمُحَمد. فَإِن قيل: كَيفَ تجوز الرُّؤْيَة على الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم يكن فِي الدُّنْيَا، وَإِن كَانَ فِي الدُّنْيَا فَكل مَا فعل الله تَعَالَى وَأكْرم بِهِ نَبيا من أنبيائه فَجَائِز بِلَا كَيفَ. وَفِي رِوَايَة [زرين] حُبَيْش عَن ابْن مَسْعُود فِي معنى الْآيَة " أَن النَّبِي رأى جِبْرِيل وَله سِتّمائَة جنَاح " وَالْخَبَر صَحِيح. وَقد ثَبت بِرِوَايَة عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة " وَالله أعلم.

15

وَقَوله: {عِنْدهَا جنَّة المأوى} أَي: يأوى إِلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: تأوى إِلَيْهَا أَرْوَاح الشُّهَدَاء. وَقيل: [تأوى] إِلَيْهَا الْمَلَائِكَة. قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كالغربان يقعن على الشّجر. وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الْجنَّة فِي السَّمَاء وَأَنَّهَا مخلوقة، وَمن زعم أَنَّهَا غير مخلوقة فَهُوَ كَافِر بِهَذِهِ الْآيَة. وَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: جنَّة المأوى جنَّة الْمبيت. وَعَن بَعضهم: جنَّة المثوى وَالْمقَام. وَعَن بَعضهم: يأوى إِلَيْهَا جِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة المقربون. قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: هِيَ جنَّة فِيهَا طير خضر فِي حواصلها أَرْوَاح الشُّهَدَاء.

16

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى} قَالَ ابْن مَسْعُود: يَغْشَاهَا فرَاش من ذهب. وَعَن الْحسن: يَغْشَاهَا نور الرب تَعَالَى. فِي بعض الْأَحَادِيث: أَن الْمَلَائِكَة اسْتَأْذنُوا لرَبهم أَن ينْظرُوا إِلَى مُحَمَّد لَيْلَة الْمِعْرَاج، فَأذن لَهُم، فَاجْتمعُوا على السِّدْرَة.

وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت على كل ورقة مِنْهَا ملكا قَائِما يسبح الله تَعَالَى ". أوردهُ أَبُو الْحسن بن فَارس قَالَ: فَهُوَ معنى قَوْله: {إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى} وَفِي بعض الرِّوَايَات: يَغْشَاهَا جَراد من ذهب. وَاعْلَم أَن السِّدْرَة شَجَرَة تجمع ثَلَاثَة أَشْيَاء: الظل المديد، والطعم اللذيذ، والرائحة الطّيبَة، كَذَلِك الْإِيمَان يجمع ثَلَاثَة أَشْيَاء: النِّيَّة، وَالْقَوْل، وَالْعَمَل. وَاعْلَم أَنا قد ذكرنَا اخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي عَنْهُم فِي أَنه هَل رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج أَولا؟ وَذكر أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره آثارا سوى مَا ذَكرنَاهَا؛ فحكي عَن ابْن عمر أَن الله تَعَالَى احتجب عَن خلقه بِنور وظلمة ونار. وَرُوِيَ عَن [أبي] الْعَالِيَة الريَاحي رَحمَه الله أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت لَيْلَة الْمِعْرَاج نَهرا، وَرَأَيْت وَرَاءه حِجَابا، وَرَأَيْت وَرَاء الْحجاب نورا، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاء ذَلِك ". وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ " أَن النَّبِي رأى ربه بفؤاده كَمَا يرى بِالْعينِ ". وَفِي رِوَايَة أبي ذَر " أَن النَّبِي سُئِلَ هَل رَأَيْت رَبك؟ فَقَالَ: نور أَنِّي أرَاهُ ". فالروايات مُخْتَلفَة فِي الْبَاب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ من ذَلِك. وَيَنْبَغِي أَن يُقَال: إِن ثَبت النَّقْل أَنه رأى ربه نحكم بِالرُّؤْيَةِ ونعتقدها، وَإِن لم يثبت النَّقْل فالأمثل أَنه لم ير.

17

قَوْله تَعَالَى: {مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى} فِي التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: لم يلْتَفت يَمِينا وَلَا

{مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى (17) لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى (19) وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى (20) } شمالا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: مَا قصر عَمَّا أَمر بِالنّظرِ إِلَيْهِ، وَمَا جَاوز بَصَره فِي النّظر إِلَى غير مَا أَمر بِهِ بِالنّظرِ. وَمعنى الزيغ فِي اللُّغَة: هُوَ الْميل بِهِ، وَمعنى الطغيان: هُوَ التجاوز.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} قَالَ ابْن مَسْعُود: أَي: جِبْرِيل وَله سِتّمائَة جنَاح قد سد الْأُفق. وَفِي رِوَايَة ينتشر من ريشه الدّرّ والياقوت (والتعاويذ) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن مَسْعُود: أَنه رأى رفرفا أَخْضَر قد مَلأ الْأُفق. وَتَقْدِير الْآيَة: " رأى من آيَات ربه الْآيَة الْكُبْرَى ". وَقيل: رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى، أَي: النُّور الَّذِي رَآهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة.

19

قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} مَعْنَاهُ: أَفَرَأَيْتُم هَذِه الْأَصْنَام الَّتِي تعبدونها، هَل تملك شَيْئا مِمَّا ذكر الله تَعَالَى؟ أَو هَل لَهَا من الْعُلُوّ والرفعة وَالْقُدْرَة مثل مَا ذكرنَا؟ . وَأما تَفْسِير هَذَا الْأَصْنَام: " فلات " صنم كَانَت ثَقِيف تعبده، وَقيل: إِنَّه كَانَ صَخْرَة. وَأما " الْعُزَّى " فشجرة كَانَت تعبدها غطفان وجشم وسليم. وَيُقَال: كَانَت بَيت عَلَيْهِ سدنة، وَكَانَت الْعَرَب قد عَلقُوا عَلَيْهِ السوار، وزينوه بالعهن وَمَا يُشبههُ. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي " أَنه بعث خَالِد بن الْوَلِيد ليهْدم الْعُزَّى فَقطع شجرات ثمَّ، وَهدم بعض الْهدم، فَرجع إِلَى النَّبِي وَأخْبرهُ، فَقَالَ: هَل رَأَيْت شَيْئا؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: إِنَّك لم تفعل، عد، فَعَاد وَبَالغ فِي الْهدم وَقتل السَّدَنَة، وَكَانُوا يَقُولُونَ: يَا عزى عوزيه، يَا عزى خبليه. قَالَ: فَخرجت امْرَأَة عُرْيَانَة من جَوف الْعُزَّى، نَاشِرَة شعرهَا، تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور، وتحثو التُّرَاب على رَأسهَا، فعمها خَالِد بِالسَّيْفِ وقتلها، وَرجع

إِلَى النَّبِي وَذكر لَهُ ذَلِك. فَقَالَ: تِلْكَ الْعُزَّى لَا تعبد بعد الْيَوْم ". وَهَذَا خبر مَعْرُوف. وَأما " مَنَاة " صنم كَانَ " بِقديد " بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. وَيُقَال: بالمشلل. قَالَ أهل التَّفْسِير: وَإِنَّمَا قَالَ: {وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن مَنَاة دون اللات والعزى. وَفِي التَّفْسِير: أَن " اللات " كَانَ رجل يلت السويق على حجر، فَكَانَ كل من يَأْكُل مِنْهُ سمن، فَلَمَّا مَاتَ عبدوه، وَاتَّخذُوا حجرا (بصورته) . قَالَ الشَّاعِر: (لَا تعبدوا اللات إِن الله مهلكها ... وَكَيف ينصركم من لَيْسَ ينتصر) وَاعْلَم أَنا قد ذكرنَا فِي سُورَة الْحَج: " " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه السُّورَة على الْمُشْركين، فَلَمَّا بلغ هَذِه الْآيَة ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه تِلْكَ الغرانيق العلى، وَإِن شفاعتهن لترتجى ". رَوَاهُ سعيد بن جُبَير. وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: " فَلَمَّا قَرَأَ (كَذَلِك) فَخرج الْمُشْركُونَ وَقَالُوا: مَا كُنَّا نطلب مِنْك إِلَّا هَذَا، وَهُوَ أَن لَا تعيب آلِهَتنَا وَلَا تسبها، وَتعلم أَن لَهَا شَفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة. لما بلغ آخر السُّورَة سجد النَّبِي وَسجد الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا، ثمَّ إِن جِبْرِيل أَتَاهُ وَأمره أَن يقْرَأ عَلَيْهِ السُّورَة، فَقَرَأَ كَمَا قَرَأَ على الْمُشْركين، فَقَالَ: إِن هَذَا لم أنزلهُ عَلَيْك، واستخرج ذَلِك من قِرَاءَته، وحزن النَّبِي بذلك حزنا شَدِيدا حَيْثُ عمل الشَّيْطَان على لِسَانه مَا عمل، فَأنْزل الله تَعَالَى مسليا ومعزيا لَهُ: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته ... .} الْآيَة. ثمَّ إِن الرَّسُول لما رَجَعَ عَمَّا سمع مِنْهُ، وَعَاد إِلَى

{ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذا قسْمَة ضيزى (22) إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم} سبّ آلِهَتهم وعيبها، عَاد الْمُشْركُونَ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ". وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ قد وصل ذَلِك الْخَبَر إِلَى الْحَبَشَة، أَن الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين اتَّفقُوا، وَأَن الْكفَّار قد سجدوا بسجود النَّبِي حَتَّى الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقد كَانَ شيخهم وَكَبِيرهمْ فَرفع التُّرَاب إِلَى جَبهته وَسجد عَلَيْهِ، فَرجع الْمُسلمُونَ من الْحَبَشَة، فَلَمَّا صَارُوا فِي بعض الطَّرِيق بَلغهُمْ الْخَبَر فَرَجَعُوا إِلَى الْحَبَشَة.

21

قَوْله تَعَالَى: {ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى} هَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار عَلَيْهِم، لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِه الْأَصْنَام على صور الْمَلَائِكَة، وَالْمَلَائِكَة بَنَات الله، وَهَذَا قَول بَعضهم.

22

وَقَوله: {تِلْكَ إِذا قسْمَة ضيزى} أَي: جائرة. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ إِذا كرهتم الْبَنَات لأنفسكم فَأولى أَن تكرهوها لله تَعَالَى. وَقد حكى أهل اللُّغَة هَذِه الْكَلِمَة عَن الْعَرَب على أَرْبَعَة أوجه: ضيزى، وضوزى بِغَيْر همزَة، وضأزى، وضازي بِغَيْر همزَة، وَهَذِه اللُّغَات وَرَاء مَا ورد بِهِ التَّنْزِيل.

23

قَوْله تَعَالَى: {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان} أَي: حجَّة. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن كل سُلْطَان فِي الْقُرْآن هُوَ بِمَعْنى الْحجَّة. وَقَوله: {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن} فِي بعض الْآثَار: أَن الْمُؤمن أحسن الْعَمَل فَحسن ظَنّه، وَأَن الْمُنَافِق أَسَاءَ الْعَمَل فسَاء ظَنّه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أكذب الحَدِيث هُوَ الظَّن ".

{مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى (23) أم للْإنْسَان مَا تمنى (24) فَللَّه الْآخِرَة وَالْأولَى (25) وَكم من ملك فِي السَّمَوَات لَا تغني شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن الله لمن يَشَاء ويرضى (26) إِن} وَقَوله: {وَمَا تهوى الْأَنْفس} أَي: مَا تَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ النَّفس. وَقَوله: {وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى} أَي: طَرِيق الرشد وَالْحق.

24

وَقَوله تَعَالَى: {أم للْإنْسَان مَا تمنى؟ مَعْنَاهُ: اللأنسان مَا تمنى؟ أَي: لَيْسَ لَهُ مَا تمنى. وَاعْلَم أَن الأمنية مذمومة، والإرادة محمودة، وَالْفرق بَينهمَا أَن الأمنية شَهْوَة لَا يصدقها الْعَمَل، والإرادة هُوَ مَا يصدقهُ الْعَمَل. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت، والفاجر من اتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله الْمَغْفِرَة ". وَعَن بَعضهم: الْأَمَانِي رَأس مَال المفاليس.

25

وَقَوله: {فَللَّه الْآخِرَة وَالْأولَى} أَي: الْملك فِي الْآخِرَة وَالْأولَى.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَكم من ملك فِي السَّمَوَات} روى عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: مَا من مَوضِع شبر فِي السَّمَاء إِلَّا وَفِيه ملك قَائِم أَو ساجد. وَقد روى مثل هَذَا فِي الأَرْض أَيْضا عَن غَيره. وَكم فِي اللُّغَة للتكثير. وَقَوله: {لَا تغني شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن الله لمن يَشَاء ويرضى} وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يملكُونَ الشَّفَاعَة لأحد حَتَّى يَأْذَن الله فِيهِ ويرضاه. وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذَا جَوَاب لقَوْل الْمُشْركين: إِن الغرانقة تشفع يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله تَعَالَى، وَهِي الْأَصْنَام، فَأخْبر الله تَعَالَى أَن أحدا لَا يملك الشَّفَاعَة إِلَّا بِإِذن الله تَعَالَى وَرضَاهُ فِي ذَلِك.

27

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة ليسمون الْمَلَائِكَة تَسْمِيَة الْأُنْثَى} هُوَ قَوْلهم للأصنام وتسميتهم إِيَّاهَا اللات، والعزى، وَمَنَاة تَسْمِيَة الْإِنَاث. وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِن هَذِه الْأَصْنَام على صُورَة الْمَلَائِكَة.

{الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة ليسمون الْمَلَائِكَة تَسْمِيَة الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ من علم إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا (28) فَأَعْرض عَن من تولى عَن ذكرنَا وَلم يرد إِلَّا الْحَيَاة الدُّنْيَا (29) ذَلِك مبلغهم من الْعلم أَن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن}

28

وَقَوله: {وَمَا لَهُم بِهِ من علم إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} أَي: لَا يَنُوب على الْحق أبدا.

29

قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْرض عَن من تولى عَن ذكرنَا وَلم يرد إِلَّا الْحَيَاة الدُّنْيَا} يُقَال: إِن هَذِه الْآيَة نزلت قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسختها آيَة السَّيْف.

30

وَقَوله: {ذَلِك مبلغهم من الْعلم} أَي: لَا يعلمُونَ إِلَّا أَمر المعاش فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: رب رجل ينقر درهما بظفره فيذكرونه وَلَا يُخطئ فِيهِ، وَهُوَ لَا يحسن يُصَلِّي. وَقَوله: {إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بِمن اهْتَدَى} أَي: يعلم الْمُهْتَدي والضال، وَالْمُؤمن وَالْكَافِر، وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أَمرهم.

31

وَقَوله: {وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض ليجزي الَّذين أساءوا بِمَا عمِلُوا وَيجْزِي الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى} أَي: بِالْجنَّةِ.

32

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش} وَقُرِئَ: " كَبِير الْإِثْم " وَقد بَينا معنى الْكَبَائِر من قبل. وَقيل: إِنَّه كل مَا أوعد الله عَلَيْهِ بالنَّار. وَالْفَوَاحِش: الْمعاصِي. وَقَوله: {إِلَّا اللمم} قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره: وَهُوَ أَن يلم بالذنب ثمَّ يَتُوب مِنْهُ. أَي: يفعل ذَلِك مرّة وَلَا يصر عَلَيْهِ. وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله تَعَالَى كتب على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا أدْرك ذَلِك لَا محَالة، فزنا الْعين النّظر، وزنا الْيَد اللَّمْس، وَالنَّفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِك أويكذبه ". وَهُوَ حَدِيث صَحِيح.

{سَبيله وَهُوَ أعلم بِمن اهْتَدَى (30) وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض ليجزي الَّذين أساؤوا بِمَا عمِلُوا وَيجْزِي الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا اللمم إِن رَبك وَاسع الْمَغْفِرَة هُوَ أعلم بكم إِذا أنشأكم من الأَرْض وَإِذ} فعلى هَذَا القَوْل: اللمم هُوَ النّظر واللمس وَمَا يشبه ذَلِك. وَفِيه حَدِيث نَبهَان التمار الَّذِي ذكرنَا فِي سُورَة هود. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن اللمم هُوَ الصَّغَائِر. وَفِيه قَول رَابِع: أَن اللمم هُوَ مَا فعله الْمُسلمُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة قبل إسْلَامهمْ، فَلَمَّا أَسْلمُوا وَقع الْعَفو عَنْهَا. وَقيل: إِن اللمم هُوَ النّظر فَجْأَة، ثمَّ يغض بَصَره فِي الْحَال. وَعَن بَعضهم: (إِن تغْفر اللَّهُمَّ فَاغْفِر جما ... فَأَي عبد لَك لَا ألما.) وَقد روى بَعضهم هَذَا مُسْندًا إِلَى النَّبِي وَأما معنى " إِلَّا " فِي الْآيَة، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ مُنْقَطع، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَكِن اللمم. وَمِنْهُم من قَالَ: الِاسْتِثْنَاء على حَقِيقَته، واللمم: فواحش إِلَّا أَن الله تَعَالَى يعْفُو عَنْهَا بمشيئته. وَقَوله: {إِن رَبك وَاسع الْمَغْفِرَة} أَي: كثير الْمَغْفِرَة. وَقَوله: {هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الأَرْض} مَعْنَاهُ: هُوَ ابْتِدَاء خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم} يَعْنِي: أَنه كَانَ عَالما بأحوالكم وَأَنْتُم أجنة فِي بطُون الْأُمَّهَات جاهلون بأحوالكم. وَقَوله: {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} أَي: لَا تمدحوا أَنفسكُم. وَقَوله: {هُوَ أعلم بِمن اتَّقى} أَي: هُوَ أعلم بالمتقين. وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَن اللمم أَن يعزم على الذَّنب ثمَّ لَا يفعل. ذكره الْقفال الشَّاشِي فِي تَفْسِيره. وَحكي عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: اللمم: الغمزة والقبلة.

{أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم فَلَا تزكوا أَنفسكُم هُوَ أعلم بِمن اتَّقى (32) أَفَرَأَيْت الَّذِي} وَأما قَوْله: {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} قد بَينا. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الرجل من الْيَهُود كَانَ إِذا مَاتَ لَهُ طِفْل يَقُول: هُوَ صديق، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ردا عَلَيْهِم. وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي الرجل يخبر بصومه وَصلَاته وَفعله الْخَيْر بَين النَّاس، وَقد كَانَ مِنْهُم من يَقُول كَذَلِك فعلنَا كَذَا، وصنعنا كَذَا، فنهاهم الله تَعَالَى عَن ذَلِك. وَاعْلَم أَن مدح الرجل نَفسه مَكْرُوه، وَكَذَلِكَ مدح الرجل غَيره فِي وَجهه. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: أَن رجلا مدح رجلا عِنْد النَّبِي فَقَالَ: " وَيلك قطعت عنق أَخِيك فَإِن كنت قَائِلا شَيْئا، فَقل: أَحسب فلَانا كَذَا، وَلَا أزكى على الله أحدا ". وَفِي خبر آخر " احثوا التُّرَاب فِي وُجُوه المداحين "، رَوَاهُ الْمِقْدَاد عَن النَّبِي. وَقَوله: {هُوَ أعلم بِمن اتَّقى} قد بَينا.

33

قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْت الَّذِي تولى} أَي: أعرض عَن الْإِيمَان بِاللَّه.

34

وَقَوله: {وَأعْطى قَلِيلا وأكدى} معنى قَوْله أكدى: أَي: قطع عطاءه. وَيُقَال: أكدى مَعْنَاهُ: أجبل. وَمِنْه الكدية، وَهِي إِذا حفر الرجل بِئْرا فَبلغ موضعا لَا يُمكنهُ الْعَمَل فِيهِ من صَخْرَة وَمَا يشبهها، يُقَال لَهُ: الكدية. وَمعنى قَوْله أجبل أَي: بلغ جبلا. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَيُقَال: فِي الْعَاصِ بن وَائِل، كَانَ يحضر مجْلِس النَّبِي ويستمع إِلَى الْقُرْآن، ثمَّ إِن الْمُشْركين عيروه فَقَالَ: إِنِّي أخْشَى الْعَذَاب، فَقَالَ لَهُ بَعضهم: أَعْطِنِي شَيْئا أتحمل عَنْك الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة، فَأعْطَاهُ وَتحمل عَنهُ، فعلى هَذَا قَوْله: " أعْطى قَلِيلا " أَي: اسْتمع وَرغب فِي الْإِسْلَام.

{تولى (33) وَأعْطى قَلِيلا وأكدى (34) أعنده علم الْغَيْب فَهُوَ يرى (35) أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى (37) أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} وَقَوله: {أكدى} أَي: قطع مَا أعْطى. وَقَالَ مقَاتل: أعْطى بِلِسَانِهِ وَقطع بِقَلْبِه. وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس أَن معنى الْآيَة: أطَاع ثمَّ عصى. وَذكر بَعضهم: أَن رجلا من جهلاء الْأَعْرَاب، وَكَانَ قد أسلم وَقدم الْمَدِينَة فَجعل يَقُول: من يَشْتَرِي حسناتي بِصَاع من تمر، فَقَالَ أَبُو خَيْثَمَة الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ رجلا فِيهِ خير: أَنا أشتريها مِنْك بوسق من تمر. والوسق: سِتُّونَ صَاعا، فَبَاعَ الْأَعرَابِي مِنْهُ حَسَنَاته وَأخذ الوسق، فَأنْزل الله تَعَالَى فِي الْأَعرَابِي هَذِه الْآيَة. وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول.

35

قَوْله تَعَالَى: {أعنده علم الْغَيْب فَهُوَ يرى} أَي: يعلم. والرؤية تكون بِمَعْنى رُؤْيَة الْبَصَر، وَتَكون بِمَعْنى الْعلم. تَقول الْعَرَب: رَأَيْت فلَانا عَالما أَي: علمت. وَمعنى الْآيَة: أَكَانَ عِنْد من (تحمل) الذُّنُوب عَن الْوَلِيد علم الْغَيْب فَهُوَ يعلم أَنه يتحملها عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة؟ .

36

قَوْله تَعَالَى: {أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف مُوسَى} مَعْنَاهُ: أم لم يخبر. وَقَوله: {بِمَا فِي صحف مُوسَى} ذكر وهب بن مُنَبّه: أَن الله تَعَالَى أنزل مائَة [وَأَرْبَعَة] كتب؛ ثَلَاثُونَ صحيفَة على شِيث، وَخَمْسُونَ على إِدْرِيس، وَعِشْرُونَ على إِبْرَاهِيم، وَأَرْبَعَة على مُوسَى وَدَاوُد وَعِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.

37

قَوْله: {وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى} قَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ " وفى " مخففا أَي: بِمَا أَمر بِهِ. وَيُقَال: [وفى فِي ذبح ابْنه] . وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة بِالتَّشْدِيدِ فَيجوز أَن تكون بِمَعْنى " وفى " إِلَّا أَنه أكده بِالتَّشْدِيدِ وَيُقَال: وفى [بسهام] الْإِسْلَام. قَالَ الْحسن: لم يُؤمر بِأَمْر إِلَّا عمل بِهِ.

((38} وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى (39) وَأَن سَعْيه سَوف يرى (40) ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى (41) وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى (42) وَأَنه هُوَ أضْحك وأبكى (43) وَأَنه) وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْإِسْلَام ثَلَاثُونَ سَهْما، وَلم يتم جَمِيعهَا غير إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَقَالَ الْفراء: " وفى " مَعْنَاهُ: بلغ. وَعَن الْهُذيْل بن شُرَحْبِيل قَالَ: كَانَ بَين نوح وَإِبْرَاهِيم قُرُون يَأْخُذُونَ الْجَار بذنب الْجَار، وَابْن الْعم بذنب ابْن الْعم، وَالصديق بذنب الصّديق، فجَاء إِبْرَاهِيم وَبلغ عَن الله تَعَالَى

38

: {أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} أَي: لَا يُؤْخَذ أحد بذنب غَيره.

39

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} مَعْنَاهُ: إِن سعي فِي الْخَيْر يلق الْخَيْر، وَإِن سعى فِي الشَّرّ يلق الشَّرّ.

40

وَقَوله: {وَأَن سَعْيه سَوف يرى} أَي: يرَاهُ على معنى أَن الله تَعَالَى يرِيه إِيَّاه، وَهُوَ الْجَزَاء الَّذِي يجازيه عَلَيْهِ، وَهُوَ معنى

41

قَوْله: {ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى} أَي: الْأَكْمَل الأتم.

42

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى} أَي: مصير الْعباد ومرجعهم إِلَيْهِ. قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: تاه فِيهِ الْعُقُول أَي: تحيرت. فعلى هَذَا معنى الْآيَة: أَن الْعُقُول إِذا انْتَهَت إِلَى أَوْصَافه تحيرت، يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تدْرك أَوْصَافه على الْكَمَال. وَفِي بعض التفاسير: أَن بعض الْمَلَائِكَة تفكر فِي الله تَعَالَى فصيحت عَلَيْهِ صَيْحَة، فتاه عقله، فَهُوَ يُسمى بَين الْمَلَائِكَة التائه.

43

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه هُوَ أضْحك وأبكى} قَالَ ابْن عَبَّاس: أضْحك أهل الْجنَّة، وأبكى أهل النَّار. وَيُقَال: أضْحك بالوعد، وأبكى بالوعيد. وَيُقَال: أضْحك الأَرْض بالنبات، وأبكى السَّمَاء بالمطر. وَالأَصَح من الْأَقَاوِيل أَنه أضْحك الْخلق وأبكاهم.

44

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه هُوَ أمات وَأَحْيَا} يُقَال: أمات الْآبَاء، وَأَحْيَا الْأَبْنَاء وَقيل: أمات قوما بالضلالة، وَأَحْيَا بالهداية. وَالأَصَح أَنه أمات الْخلق وأحياهم.

45

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه خلق الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} أَي: الصِّنْفَيْنِ. قَالَ الضَّحَّاك:

{هُوَ أمات وَأَحْيَا (44) وَأَنه خلق الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى (45) من نُطْفَة إِذا تمنى (46) وَأَن عَلَيْهِ النشأة الْأُخْرَى (47) وَأَنه هُوَ أغْنى وأقنى (48) وَأَنه هُوَ رب} آدم وحواء. وَالأَصَح أَنه الذّكر وَالْأُنْثَى من بني آدم.

46

وَقَوله: {من نُطْفَة إِذا تمنى} أَي: تقدر. تَقول الْعَرَب: مَا تمنى تِلْكَ [الْأَمَانِي] أَي: يقدر ذَلِك الْمُقدر. وَقيل: إِذا تمنى، هُوَ عبارَة عَن الْوَطْء أَي: من نُطْفَة تحصل بِالْجِمَاعِ.

47

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن عَلَيْهِ النشأة الْأُخْرَى} أَي: الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا قَالَ: " الْأُخْرَى " لِأَنَّهَا ثَانِيَة النشأة الأولى، والنشأة الأولى ابْتِدَاء الْخلق.

48

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه هُوَ أغْنى وأقنى} مَعْنَاهُ: أعْطى وأوسع، فَقَوله: {أقنى} أَي: أعْطى الْقنية، والقنية: هِيَ أصل مَال يتَّخذ. قَالُوا: وَهُوَ مثل الْإِبِل وَالْبَقر والضياع والنبات وَمَا أشبه. وَيُقَال: أغْنى بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وأقنى بِغَيْرِهِمَا من الْأَمْوَال. وَيُقَال: أغْنى وأقنى: أَي: أعْطى وقنع بِمَا أعْطى. قَالَ القتيبي: أغْنى أَي: أعْطى المَال وأفنى أَي أخدم كَأَنَّهُ أعطَاهُ من يَخْدمه وَقَالَ أغْنى أى أعْطى بِمَا أعْطى. وَعَن بَعضهم أغْنى: أَي: أغْنى نَفسه، كَأَنَّهُ وصف نَفسه بالغنى. وَقَوله: {وأقنى} أَي: أفقر خلقه إِلَى نَفسه، وَيُقَال: أغْنى وأقنى: أَي: وسع وقتر.

49

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه هُوَ رب الشعرى} فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ رجل من خُزَاعَة خَالف دين آبَائِهِ وَعبد الشّعْر العبور، وَهُوَ كَوْكَب خلف الجوزاء تسمى المرزم، وهما الشعريان: [إِحْدَاهمَا] : الغميصاء، وَالْأُخْرَى: العبور، فالغميصاء فِي المجرة، والعبور خلف الجوزاء وَتسَمى كلب الجوزاء. وَكَانَ ذَلِك الرجل يعبد الشعرى، وَيَقُول: إِنَّهَا تقطع الْفلك عرضا دون سَائِر الْكَوَاكِب، فَإِنَّهَا تقطع أَمْوَالًا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر أَنه خَالق الشعرى الَّتِي تعبدونها. [قَالَه] مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا. وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا الزهرة، وَهَذَا مُخَالف لظَاهِر الْآيَة.

{الشعرى (49) وَأَنه أهلك عادا الأولى (50) وَثَمُود فَمَا أبقى (51) وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا هم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أَهْوى (53) فغشاها مَا غشى (54) }

50

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه أهلك عادا الأولى} فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: " عادا الأولى "، وَعَاد كَانَت وَاحِد لَا اثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: أَن ثمودا وعادا كَانَا من ولد آدم بن سَام بن نوح، فَعَاد هم قوم هود، وهم عَاد الأولى، وَثَمُود هم قوم صَالح وهم عَاد الْأُخْرَى.

51

وَقَوله: {وَثَمُود فَمَا أبقى} أَي: أبادهم وأفناهم.

52

قَوْله تَعَالَى: {وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا هم أظلم وأطغى} أَي: أكبر وَأَشد طغيانا. وَفِي الْقِصَّة: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يَأْتِي بِابْنِهِ إِلَى نوح فَيَقُول: احذر هَذَا الشَّيْخ، وَإِيَّاك أَن يضلك، فَإِن أبي حَملَنِي وَأَنا فِي مثل سنك إِلَيْهِ وَحَذَّرَنِي مِنْهُ كَمَا حذرتك مِنْهُ.

53

قَوْله تَعَالَى: {والمؤتفكة أَهْوى} المؤتفكة هِيَ مَدَائِن لوط، ائتفكت بهم الأَرْض أَي: انقلبت بهم. وَقَوله: {أَهْوى} يُقَال: هوى إِذا سقط، وأهوى إِذا أسقط. وَقد بَينا أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قلعهَا من أَصْلهَا، وَبلغ بهَا السَّمَاء الدُّنْيَا حَتَّى سمع أهل السَّمَاء الدُّنْيَا نباح الْكلاب وأصوات ديكتهم، وَكَانَ فِيهَا أَرْبَعمِائَة ألف رجل. وَقد قيل أَكثر من ذَلِك، ثمَّ أَن جِبْرِيل قَلبهَا فَجَاءَت تهوى فَهُوَ معنى قَوْله: {والمؤتفكة أَهْوى} قَالَ عِكْرِمَة: فَهِيَ تتجلجل فِي الأَرْض إِلَى قيام السَّاعَة. وَالْعرب تَقول: أَهْوى أَي: وَقع فِي هوة، والهوة: الحفرة.

54

قَوْله تَعَالَى: {فغشاها مَا غشى} أَي: غشاها من الْحِجَارَة مَا غشى. يُقَال: من عَذَاب الله مَا غشى. والتغشية: التغطية. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر يتبع شرادهم حَتَّى أهلكهم جَمِيعًا، وَكَانَ فِي الْحرم رجل مِنْهُم فَوقف حجر فِي الْهَوَاء سَبْعَة أشهر، ثمَّ خرج فَلَمَّا خرج وخطا خطْوَة سقط عَلَيْهِ الْحجر وأهلكه، وَكَانَ اسْمه أَبُو رِغَال.

55

قَوْله تَعَالَى: {فَبِأَي آلَاء رَبك تتمارى} أَي: تتشكك، وَمَعْنَاهُ: تشك، وَقيل:

{فَبِأَي آلَاء رَبك تتمارى (55) هَذَا نَذِير من النّذر الأولى (56) أزفت الآزفة (57) لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفة (58) أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا} تكذب. والمرية: هِيَ الشَّك فِي اللُّغَة. وَالْخطاب للْكَافِرِ أَي: فَبِأَي آلَاء رَبك تتمارى أَيهَا الْكَافِر.

56

وَقَوله: {هَذَا نَذِير من النّذر الأولى} أَي: نَبِي يشبه الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين.

57

وَقَوله: {أزفت الآزفة لَيْسَ لَهَا من دون الله كاشفة} فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: " كاشفة "؟ وَلم أَدخل هَاء التَّأْنِيث؟ وَالْجَوَاب: أَن بَعضهم قَالَ: لموافقة رُءُوس الآى وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا من دون الله نفس كاشفة وَهَذَا أحسن وَمعنى الْآيَة: أَنه لَا يعلم علمهَا سوى الله تَعَالَى. وَهُوَ علم قِيَامهَا وتجليها وَيُقَال لَا يَأْتِي بهَا أحد سوى الله تَعَالَى. يُقَال: كشف عَن الشَّيْء إِذا أظهره أَي: لَا يكْشف عَن الْقِيَامَة وَلَا يظهرها غير الله تَعَالَى.

59

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ} أَي: الْقُرْآن. وَقَوله: {تعْجبُونَ} أَي: تتعجبون، وتعجبهم أَنهم قَالُوا: كَيفَ أنزل على وَاحِد مثلنَا. وَيُقَال: تعجبهم من قَوْله إِن الله وَاحِد على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر {أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب} .

60

وَقَوله: {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} يَعْنِي: من حقكم أَن تبكوا لَا أَن تَضْحَكُوا. وَفِي التَّفْسِير: " أَن النَّبِي لما نزلت هَذِه الْآيَة لم ير ضَاحِكا إِلَى أَن خرج من الدُّنْيَا، غير أَنه كَانَ يبتسم ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: عجبت من ضَاحِك (ملْء فِيهِ وَالْمَوْت يَطْلُبهُ) .

{تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62) }

61

وَقَوله: {وَأَنْتُم سامدون} أَي: لاهون غافلون، وَيُقَال: متكبرون. قَالَ مُجَاهِد: السمود هُوَ الْغناء بلغَة حمير. يَقُولُونَ: يَا جَارِيَة سمدى لنا: أَي: غنى. وَيُقَال لَهُ: البرطمة أَيْضا وَأنْشد بَعضهم: (رمى الْحدثَان نسْوَة آل حَرْب ... بداهية سمدان لَهَا سمودا) ويروى: (بِمِقْدَار سمدن لَهُ سمودا. ... (فَرد شعورهن السود بيضًا ... ورد وجوههن الْبيض سُودًا)

62

وَقَوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} حمل بَعضهم هَذَا على الصَّلَوَات الْخمس. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت بِمَكَّة قبل فرض الصَّلَوَات الْخمس، وَالسورَة مَكِّيَّة، فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: فاسجدوا لله واعبدوا أَي: اخضعوا لله ووحدوا. وَيُقَال: المُرَاد مِنْهُ أصل السُّجُود، وَالْمرَاد من الْعِبَادَة هِيَ الطَّاعَة، وَهُوَ مَوضِع سُجُود عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء إِلَّا مَالك حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْمفصل سُجُود أصلا. وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ " أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَرَأَ سُورَة النَّجْم فَسجدَ فِيهَا، فَمَا بقى من الْقَوْم أحد إِلَّا سجد غير رجل وَاحِد أَخذ حَصى وَوَضعه على جَبهته، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. وَقَالَ عبد الله: فرأيته قتل كَافِرًا ". وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر (1) } تَفْسِير سُورَة الْقَمَر وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} وَالْآيَة الَّتِي بعْدهَا.

القمر

قَوْله تَعَالَى: {اقْتَرَبت السَّاعَة} أَي: دنت الْقِيَامَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {أزفت الآزفة} ، وَمثل قَوْله: {اقْترب للنَّاس حسابهم} ، وَقد روى أنس أَن النَّبِي خطب عِنْد مغيربان الشَّمْس حَتَّى كَادَت تغرب، فَقَالَ: " مَا بَقِي من الدُّنْيَا فِيمَا مضى إِلَّا كَمَا بَقِي من هَذَا الْيَوْم فِيمَا مضى مِنْهُ ". وَعَن كَعْب ووهب: أَن مُدَّة الدُّنْيَا سَبْعَة آلَاف سنة، وَالَّذِي يمضى هُوَ الْألف السَّابِع. وَقَوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَر} روى ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحن مَعَ رَسُول الله بمنى فانشق الْقَمَر فلقَتَيْنِ، فلقَة وَرَاء الْجَبَل، وَفلقَة دونه، وَأنزل الله تَعَالَى {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} . وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الْمُشْركين سَأَلُوا من النَّبِي آيَة. وَرُوِيَ أَنهم قَالُوا لَهُ إِن كنت صَادِقا فشق الْقَمَر لنا حَتَّى نرى قِطْعَة مِنْهُ على أبي قبيس، وَقطعَة مِنْهُ على (قعيقعان) ، فَدَعَا الله تَعَالَى وَانْشَقَّ الْقَمَر على مَا أَرَادوا، فَقَالَ النَّبِي: " اشْهَدُوا اشْهَدُوا ".

{وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر (2) } فَإِن قيل: ابْن عَبَّاس لم يكن رأى انْشِقَاق الْقَمَر، فَكيف تصح رِوَايَته؟ وَأما ابْن مَسْعُود فقد تفرد بِهَذِهِ الرِّوَايَة، وَلَو كَانَ قد انْشَقَّ الْقَمَر لرواه جَمِيع أَصْحَاب رَسُول الله، وَأَيْضًا لَو كَانَ ثَابتا لرواه جَمِيع النَّاس، ولأرخوا لَهُ تَارِيخا؛ لأَنهم قد أَرخُوا مَا دون هَذَا من الْحَوَادِث، وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: انْشَقَّ الْقَمَر أَي: ينشق، وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة. وَيُقَال: معنى انْشَقَّ الْقَمَر أَي: انكسف. وَالْجَوَاب: أَنه قد ثَبت انْشِقَاق الْقَمَر بالرواية الصَّحِيحَة. رَوَاهُ ابْن مَسْعُود وَجبير بن مطعم شَهدا بِالرُّؤْيَةِ، وَرَوَاهُ ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأنس، وروى بَعضهم عَن بَعضهم عَن عبد الله بن عَمْرو، وَمن الْمُحْتَمل أَنه رُوِيَ عَن رُؤْيَة، وَقد كَانَ ابْن مَسْعُود روى هَذَا عَن [رُؤْيَته] ، وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد من الصَّحَابَة، فَكَانَ ذَلِك اتِّفَاقًا مِنْهُم، ثمَّ الدَّلِيل الْقَاطِع على ثُبُوته الْآيَة. وَقَوله إِن مَعْنَاهُ سينشق الْقَمَر. قُلْنَا: هَذَا عدُول عَن ظَاهر الْآيَة، وَلَا يجوز إِلَّا بِدَلِيل قَاطع، وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ:

2

{وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر} وَهَذَا دَلِيل على أَنهم قد رأوها، وَلِأَنَّهُ سَمَّاهُ آيَة، وَإِنَّمَا يكون آيَة إِذا كَانَت فِي الدُّنْيَا؛ لِأَن الْآيَة هَاهُنَا بِمَعْنى الدّلَالَة وَالْعبْرَة. وَقَوله: إِن النَّاس لم يرَوا. قُلْنَا: يحْتَمل أَنه كَانَ فِي زمَان غَفلَة النَّاس، أَو تستر عَنْهُم بغيم، وَقد رد الله تَعَالَى الشَّمْس ليوشع بن نون، وَلم ينْقل أرخ لذَلِك أَيْضا. وَقد ذكر فِي بعض التفاسير أَن أهل مَكَّة قَالُوا: سحرنَا ابْن أبي كَبْشَة، فَقَالَ بَعضهم: سلوا السفار الَّذين يقدمُونَ، فَإِنَّهُ إِن كَانَ سحرنَا فَلَا يقدر أَن يسحر جَمِيع النَّاس، فَقدم السفار وسألوهم وأخبروا أَنهم قد رَأَوْا. قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يرَوا آيَة يعرضُوا ويقولوا سحر مُسْتَمر} قَالَ الْفراء: أَي: يشبه بعضه بَعْضًا، فَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: فعله هَذَا فِي السحر يشبه سَائِر أَفعاله فِي

{وكذبوا وَاتبعُوا أهواءهم وكل أَمر مُسْتَقر (3) وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء مَا فِيهِ مزدجر (4) حِكْمَة بَالِغَة فَمَا تغن النّذر (5) السحر، وَيحْتَمل أَن مَعْنَاهُ: سحره يشبه سحر مُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهمَا. وَعَن بَعضهم: أَن قَوْله: {مُسْتَمر} أَي: ذَاهِب بَاطِل، يبطل وَيذْهب بِمُضِيِّ الزَّمَان، ذكره أَبُو عُبَيْدَة. وَيُقَال: سحر مُسْتَمر: أَي: شَدِيد مُحكم. وَيُقَال: اسْتمرّ من الأَرْض إِلَى السَّمَاء أَي: ظهر سحره فِي السَّمَاء.

3

وَقَوله: {وكذبوا وَاتبعُوا أهواءهم} أَي: اتبعهُ مَا دَعَتْهُ نُفُوسهم إِلَيْهِ من الْبَاطِل. وَقَوله: {وكل أَمر مُسْتَقر} قَالَ مُجَاهِد: الْخَيْر لأهل الْخَيْر، وَالشَّر لأهل الشَّرّ. وَيُقَال: الْجنَّة لمن يعْمل بِالطَّاعَةِ، وَالنَّار لمن يعْمل بالمعصية. وَقيل: كل أَمر مُسْتَقر: أَي: وَاقع. وَقيل: لكل قَول حَقِيقَة وَغَايَة وَنِهَايَة فِي وُقُوعه وحلوله، ذكره السدى. وَعَن بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: الْإِشَارَة إِلَى دوَام ثَوَاب الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة، وعقاب الْكَافرين فِي النَّار.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جَاءَهُم من الأنباء} أَي: من الْأَخْبَار، وَهِي الأقاصيص وأخبار الْأَنْبِيَاء. وَقَوله: {مَا فِيهِ مزدجر} أَي: متعظ. يُقَال: زجرته فانزجر، وكففته فَكف، ووعظته فاتعظ.

5

وَقَوله: {حِكْمَة بَالِغَة} مَعْنَاهُ أَي: الْقُرْآن، وَمَا بلغه الرَّسُول عَن الله حِكْمَة بَالِغَة، أَي: تَامَّة كَامِلَة، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَنه صَوَاب كُله. وَقد بَينا أَن الْحِكْمَة هِيَ الْإِصَابَة قولا وفعلا. وَقَوله: {فَمَا تغن النّذر} أَي: أَي شَيْء تغني النّذر. وَيُقَال: " مَا " بِمَعْنى " لَا " أَي: لَا تغني النّذر عَنْهُم شَيْئا، وَهَذَا فِي أَقوام بأعيانهم، علم الله مِنْهُم أَنهم لَا يُؤمنُونَ، (وَأَنه) لَا يَنْفَعهُمْ إنذار الرُّسُل وَإِقَامَة الْآيَات.

{فتول عَنْهُم يَوْم يدع الداع إِلَى شَيْء نكر (6) خشعا أَبْصَارهم يخرجُون من}

6

قَوْله تَعَالَى: {فتول عَنْهُم} مِنْهُم من قَالَ: قَوْله: {فتول عَنْهُم} عَلَيْهِ الْوَقْف، وَبِه تمّ الْكَلَام ثمَّ ابْتَدَأَ، وَقَالَ: {يَوْم يدع الداع} ، وَمِنْهُم من قَالَ: مَعْنَاهُ: فتول عَنْهُم يَوْم يَدْعُو الدَّاعِي. وَأما معنى دُعَاء الدَّاعِي. فِي التَّفْسِير أَنه قيام إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام على صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس، ونفخه فِي الصُّور. وَيُقَال: هُوَ دُعَاء النَّاس إِلَى الْحساب. وَقَوله: {إِلَى شَيْء نكر} أَي: فظيع شَدِيد هائل. وكل مَا يهول الْإِنْسَان فَهُوَ مُنكر عِنْده. وَيُقَال: نكر أَي: لَا يُطَاق حمله. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَرَأَ: {يَوْم يدع الداع إِلَى شَيْء نكر} بخفض الْكَاف وَفتح الرَّاء، أَي: جحد وَكفر بِهِ، وَهَذِه قِرَاءَة شَاذَّة. وَعَن ابْن عمر أَنه قَرَأَ: {إِلَى شَيْء نكر} بتسكين الْكَاف وأنشدوا فِي هَذَا شعرًا (أَبى الله إِلَّا عدله ووفاءه ... فَلَا النكر مَعْرُوف وَلَا الْعرف ضائع)

7

وَقَوله {خشعا أَبْصَارهم} أَي: خاشعة أَبْصَارهم، يَعْنِي: ذليلة، وَقُرِئَ: " خَاشِعًا أَبْصَارهم " وَيجوز التَّوْحِيد إِذا تقدم فعل الْجَمَاعَة دون مَا إِذا تَأَخّر، يُقَال: مَرَرْت بشباب حسان وُجُوههم، وَحسن وُجُوههم، وحسنة وُجُوههم. قَالَ الشَّاعِر: (فِي شباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد) وَقَوله: {يخرجُون من الأجداث} أَي: من الْقُبُور، واحدتها جدث. وَفِي لُغَة تَمِيم هُوَ الجذف. وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مواتهم أجداثهم " أَي: قُبُورهم. وَقَوله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ جَراد منتشر} أَي: دَاخل بَعضهم فِي بعض كالجراد، وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوضِع آخر: {كالفراش المبثوث} هُوَ الْمُنْتَشِر والمختلط أَيْضا، لَا يقصدون جِهَة وَاحِدَة، بل ينتشر فِي جِهَات مُخْتَلفَة بِخِلَاف الْجَرَاد، فَإِن الْكل يتبعُون جملَة وَاحِدَة.

{الأجداث كَأَنَّهُمْ جَراد منتشر (7) مهطعين إِلَى الداع يَقُول الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْم عسر (8) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عَبدنَا وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر (9) فَدَعَا ربه أَنِّي مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أَبْوَاب السَّمَاء بِمَاء منهمر (11) وَرُوِيَ أَن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام سَأَلت رَبهَا أَن يطْعمهَا لَحْمًا بِغَيْر دم، فَقَالَت: اللَّهُمَّ أعشها بِغَيْر [رضَاع] ، وتابع بَينهَا بِغَيْر شياع. ثمَّ ذكر أَن التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ هُوَ أَن النَّاس إِذا خَرجُوا من قُبُورهم يخْتَلط بَعضهم بِبَعْض، وَلَا يتبعُون جملَة وَاحِدَة، فهم كالفراش المبثوث، ثمَّ يدعونَ إِلَى الْمَحْشَر أَو إِلَى الْحساب فَيتبع كلهم الْجِهَة الَّتِي يدعونَ إِلَيْهَا، فهم كالجراد الْمُنْتَشِر.

8

وَقَوله: {مهطعين إِلَى الداع} أَي: مُسْرِعين مُقْبِلين، وَيُقَال: مهطعين الإهطاع: هُوَ النسلان، وَيُقَال: الخبب. وَقَوله: {يَقُول الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْم عسر} أَي: غير سهل.

9

قَوْله تَعَالَى: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عَبدنَا} أَي: نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله: {وَقَالُوا مَجْنُون وازدجر} أَي: زجر بالشتم والسب. وَيُقَال: زجرا بالتخويف بِالْقَتْلِ، قَالَه سعيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَغَيرهمَا. وَيُقَال: ازدجر، أَي: استطر عقله، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَجْنُون ومعتوه.

10

وَقَوله: {فَدَعَا ربه أَنِّي مغلوب فانتصر} أَي: انتصر لدينك بالانتقام من أعدائك.

11

وَقَوله: {ففتحنا أَبْوَاب السَّمَاء بِمَاء منهمر} قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ (فتح) مَوضِع المجرة، وَهِي شرج السَّمَاء. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى أرسل المَاء من السَّمَاء بِدُونِ سَحَاب، وَلم يكن أرسل الْمَطَر قبله وَلَا بعده إِلَّا من

{وفجرنا الأَرْض عيُونا فَالتقى المَاء على أَمر قد قدر (12) وحملناه على ذَات أَلْوَاح ودسر (13) تجْرِي بأعيينا جَزَاء لمن كَانَ كفر (14) } سَحَابَة، وَقيل: إِن الْأَبْوَاب هَاهُنَا بطرِيق الْمجَاز، وَالْمعْنَى: أرسلنَا من السَّمَاء بِمَاء منهمر أَي: كثير. قَالَ الشَّاعِر: (أعيني جودا بالدموع الهوامر (على حَتَّى باد من بعد وضامر)) وَيُقَال: منهمر أَي: منصب سَائل.

12

قَوْله: {وفجرنا الأَرْض عيُونا} أَي: فتحنا عُيُون الأَرْض بِالْمَاءِ. وَقَوله: {فَالتقى المَاء على أَمر قد قدر} أَي: التقى مَاء السَّمَاء وَمَاء الأَرْض على أَمر قد قدر كَونه، وَهُوَ تغريق أهل الأَرْض سوى أَصْحَاب السَّفِينَة. وَيُقَال: على أَمر قد قدر: هُوَ تَقْدِير المَاء، يَعْنِي: أَن المَاء أنزل من السَّمَاء وفجر من الْعُيُون على كيل وَتَقْدِير مَعْلُوم.

13

وَقَوله تَعَالَى: {وحملناه على ذَات أَلْوَاح ودسر} أَي: على السَّفِينَة ذَات أَلْوَاح، ودسر أَي: مسامير، وَيُقَال: ودسر أَي: معاريض السَّفِينَة، وَهِي الْخشب الَّتِي تعرض عَلَيْهَا. وَيُقَال: دسر أَي: صدر السَّفِينَة، كَأَنَّهَا قد تدسر المَاء بصدرها، أَي: تدفع.

14

وَقَوله: {تجْرِي بأعيننا} أَي: بمرأى منا وَحفظ منا. وَقَوله تَعَالَى: {جَزَاء لمن كَانَ كفر} أَي: جَزَاء على مَا صنع بِمن كفر بِهِ، وَهُوَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام. وَيُقَال: جَزَاء النَّوْع وَهُوَ الَّذِي كفر بِهِ ذكره الزّجاج وَغَيره وَقيل جَزَاء عَمَّن كفر بِهِ وَهُوَ الله تَعَالَى. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " جَزَاء لمن كَانَ كفر " وَهُوَ ظَاهر.

{وَلَقَد تركناها آيَة فَهَل من مدكر (15) فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر (16) وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر (17) كذبت عَاد فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر (18) إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا فِي يَوْم نحس مُسْتَمر (19) تنْزع النَّاس}

15

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد تركناها آيَة} أَي: تركنَا السَّفِينَة آيو وعبرة، قَالَ قَتَادَة: بقيت سفينة نوح ببا قردى من بِلَاد الجزيرة حَتَّى أدْركهَا أَوَائِل هَذِه الْأمة. وَقَوله: {فَهَل من مدكر} أَي: متعظ متذكر.

16

وَقَوله: {فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر} أَي: كَيفَ كَانَ تعذيبي وإنذاري.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} أَي: متفكر، وَمعنى تيَسّر الْقُرْآن للذِّكْرَى: هُوَ قِرَاءَته عَن ظهر قلب، وَلم يُعْط هَذَا فِي كتاب الله غير هَذِه الْأمة، فَإِن أهل الْكِتَابَيْنِ إِنَّمَا يقرءوا فهما عَن الصُّحُف.

18

قَوْله تَعَالَى: {كذبت عَاد فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر} أَي: تعذيبي وإنذاري لَهُم.

19

وَقَوله: {إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا} أَي: بَارِدَة، وَيُقَال: شَدِيدَة الهبوب. وَقَوله: {فِي يَوْم نحس} أَي: فِي يَوْم مشئوم، وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد قَالَ: كَانَ فِي أربعاء لَا تَدور، ذكره النقاش. وَيُقَال: كَانَ زحل رَاجعا هابطا، وَهُوَ ضَعِيف مَتْرُوك. وَقَوله: {مُسْتَمر} أَي: دَائِم الشؤم، ودوام الشؤم أَن الرّيح استمرت بهم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام. وَيُقَال: مُسْتَمر أَي: اسْتمرّ بهم الْعَذَاب حَتَّى أوقعهم فِي جَهَنَّم.

20

قَوْله تَعَالَى: {تنْزع النَّاس} أَي: تقلع النَّاس. وَفِي الْقِصَّة: أَن الرّيح كَانَت تقلعهم، وَتجْعَل أعلاهم أسفلهم وأسفلهم أعلاهم. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: لما جَاءَت الرّيح أَخذ بَعضهم بيد بعض، وَجعلُوا دست، وضربوا بأقدامهم على الْحجر حَتَّى رسخت فِيهِ، وَقَالُوا: من الَّذِي يزيلنا من أماكننا؟ وَفِي الْقِصَّة: أَن طول الْوَاحِد مِنْهُم كَانَ سِتّمائَة ذِرَاع وَخَمْسمِائة، والأقصر ثَلَاثمِائَة ذِرَاع بذراعهم، فَلَمَّا فعلوا ذَلِك خرجت من تَحت أَقْدَامهم وقلعتهم.

{كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل منقعر (20) فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر (21) وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر (22) كذبت ثَمُود بِالنذرِ (23) فَقَالُوا أبشرا منا وَاحِد نتبعه إِنَّا إِذا لفي ضلال وسعر (24) أؤلقي الذّكر عَلَيْهِ من بَيْننَا بل هُوَ} وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل منقعر} أَي: أصُول نخل منقلع. فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية} وَقَالَ هَا هُنَا: {منقعر} وَلم يقل منقعرة. قُلْنَا: النّخل يذكر وَيُؤَنث. فَإِن قيل: فَلم شبه بأصول النّخل لَا بِجَمِيعِهِ؟ قُلْنَا فِي الْقِصَّة: أَن الرّيح كَانَت تقلع رُءُوسهم أَولا، ثمَّ تخرب أَجْسَادهم وتجعلها (كأصول) النّخل، فَهُوَ معنى الْآيَة.

21

وَقَوله: {فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر} قد بَينا.

22

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} .

23

{كذبت ثَمُود بِالنذرِ} أَي: بالرسل. وَيجوز أَن يكون أَرَادَ بِهِ صَالحا وَحده، وَذكر الْوَاحِد باسم الْجمع.

24

قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا أبشرا منا وَاحِدًا نتبعه} أَي: نتبع بشرا منا وَاحِدًا. قَالُوا على طَرِيق الْإِنْكَار، أَي: لَا نتبعه. وَقَوله: {إِنَّا إِذا لفي ضلال وسعر} أَي: فِي ضلال وعناء، وَيُقَال: فِي ضلال وجنون. يُقَال: نَاقَة مسعورة، أَي: كالمجنونة من النشاط.

25

قَوْله تَعَالَى: {أؤلقي الذّكر عَلَيْهِ من بَيْننَا} أَي: النُّبُوَّة. وَقَوله: {بل هُوَ كَذَّاب أشر} أَي: كَذَّاب متكبر. والأشر: البطر الْفَرح، كَأَنَّهُ يتكبر بطرا وفرحا.

{كَذَّاب أشر (25) سيعلمون غَدا من الْكذَّاب الأشر (26) إِنَّا مرسلوا النَّاقة فتْنَة لَهُم فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أَن المَاء قسْمَة بَينهم كل شرب محتضر}

26

وَقَوله: {سيعلمون غَدا من الْكذَّاب الأشر} أَي: يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يلقون جَزَاء أَعْمَالهم. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " من الْكذَّاب الأشر " وَقُرِئَ أَيْضا: " الأشر " بِضَم الشين. والأشر والأشر بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ مثل حذر وحذر.

27

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا مرسلوا النَّاقة فتْنَة لَهُم} فِي الْقِصَّة: أَن قوم صَالح طلبُوا مِنْهُ أَن يخرج من هَذِه الصَّخْرَة وأشاروا إِلَى صَخْرَة بِعَينهَا نَاقَة حَمْرَاء عشراء، والعشراء: هِيَ النَّاقة الْحَامِل الَّتِي أَتَى على حملهَا عشرَة أشهر، وتلد سقبا فِي الْحَال، ثمَّ ترد مَاءَهُمْ وتشرب جَمِيع مَا فِيهَا، وَتُعْطِي لَبَنًا بِقدر مَا شربت من المَاء، فَأَعْطَاهُمْ الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَرُوِيَ أَن الصَّخْرَة تمخضت كَمَا تتمخض النَّاقة عِنْد الْولادَة، وَوضعت نَاقَة فِي الْحَال كأعظم مَا يكون. وَرُوِيَ أَن عظم النَّاقة كَانَ بِحَيْثُ إِذا مشت بَين الْوَادي أَخذ بَطنهَا مَا بَين الجبلين. وَقَوله: {فتْنَة لَهُم} أَي: اختبارا لَهُم. وَقَوله: {فارتقبهم واصطبر} أَي: انتظرهم واصبر.

28

وَقَوله: {ونبئهم أَن المَاء قسْمَة بَينهم} أَي: للناقة يَوْم وَلَهُم يَوْم. وَقَوله: {كل شرب محتضر} أَي: كل نصيب بِحَضْرَة من لَهُ.

29

قَوْله تَعَالَى: {فَنَادوا صَاحبهمْ} يَعْنِي: قدار بن سالف، وَهُوَ أَحْمَر ثَمُود. وَفِي الْمثل: أشأم من أَحْمَر عَاد. يَعْنِي: على قومه. وَإِنَّمَا قيل: عادا لِأَن ثَمُود من نسب عَاد. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " انْبَعَثَ لَهُ يَعْنِي لقتل النَّاقة رجل عَزِيز فِي قومه مثل [أبي] زَمعَة ".

((28} فَنَادوا صَاحبهمْ فتعاطى فعقر (29) فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر (30) إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم صَيْحَة وَاحِدَة فَكَانُوا كهشيم المحتضر (31) وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر (32) كذبت قوم لوط بِالنذرِ (33) إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم حاصبا إِلَّا آل لوط نجيناهم بِسحر (34)) وَقَوله: {فتعاطى فعقر} أَي: ارْتكب الْمعْصِيَة فعقر النَّاقة. والعقر: هُوَ الْقَتْل. وَفِي الْخَبَر: " أفضل الْجِهَاد من أريق دَمه وعقر جَوَاده ".

30

وَقَوله: {فَكيف كَانَ عَذَابي وَنذر} قد بَينا.

31

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم صَيْحَة وَاحِدَة} فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ فِي جَانب قريتهم، وَصَاح عَلَيْهِم صَيْحَة وَاحِدَة، فماتوا جَمِيعًا. وَقَوله: {فَكَانُوا كهشيم المحتضر} الهشيم مَا يبس من النَّبَات وَالشَّجر، والهشيم هَاهُنَا: مَا تناثر من التُّرَاب عَن الْجواد، يَعْنِي: صَارُوا كَذَلِك. وَقَوله: {المحتضر} وفرئ: " المحتضر " بِفَتْح الظَّاء. قَالَ أهل الْمعَانِي: هُوَ أَن يَأْخُذ الرَّاعِي حَظِيرَة حوالي غنمه من شوك وَشَجر، فَإِذا يبس وتناهى فِي اليبس تكسر وتشتت، فشبهم حِين هَلَكُوا بذلك. وَأما المحتضر هُوَ الَّذِي يتَّخذ الحظيرة، والمحتضر بِالْفَتْح هُوَ الْمُتَّخذ.

32

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} أَي: متعظ. قَالَ قَتَادَة: هَل من طَالب خير فيعان عَلَيْهِ.

33

قَوْله تَعَالَى: {كذبت قوم لوط بِالنذرِ} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {بِالنذرِ} وَلُوط كَانَ وَاحِدًا؟ قُلْنَا: لِأَن من كذب وَاحِدًا من الرُّسُل، فَكَأَنَّهُ كذب جَمِيع الرُّسُل.

34

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا عَلَيْهِم حاصبا} أَي: ريحًا ذَات حَصْبَاء، وَهِي الْحِجَارَة. قَوْله: {إِلَّا آل لوط نجيناهم بِسحر} هُوَ لوط وابنتاه. وَفِي الْخَبَر: أَنه وأعنزة بَين

{نعْمَة من عندنَا كَذَلِك نجزي من شكر (35) وَلَقَد أَنْذرهُمْ بطشتنا فتماروا بِالنذرِ (36) وَلَقَد راودوه عَن ضَيفه فطمسنا أَعينهم فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر (37) وَلَقَد صبحهمْ بكرَة عَذَاب مُسْتَقر (38) } يَدَيْهِ، وَهِي أَرْبَعُونَ يَسُوقهَا، وَهُوَ آخذ بيد ابْنَته الْكُبْرَى بِيَمِينِهِ، وبيد ابْنَته الصُّغْرَى بيساره، وَامْرَأَته خَلفه، فَلَمَّا سمعُوا الْوَصِيَّة فِي هَلَاك الْقَوْم سجد هُوَ وابنتاه شكرا، والتفتت الْمَرْأَة فأصابتها الْحِجَارَة وَهَلَكت.

35

وَقَوله: {نعْمَة من عندنَا} أَي: إنعاما من عندنَا. وَقَوله: {كَذَلِك نجزي من شكر} أَي: شكر نعم الله.

36

وَقَوله: {وَلَقَد أَنْذرهُمْ بطشتنا} أى خوفهم بطشتنا بهم فِي الإهلاك وَقَوله {فتماروا بِالنذرِ} أَي: شكوا برسالة الرُّسُل.

37

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد راودوه عَن ضَيفه} أَي: طلبُوا من لوط أَن يسلم إِلَيْهِم أضيافه. وَفِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام جَاءَ وَمَعَهُ ملكان، وَكَانَ قوم لوط قد قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَا نمتنع من عَملنَا، فإياك أَن تضيف أحدا من الغرباء، فَلَمَّا جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ الْملكَيْنِ فِي صُورَة الْبشر، مرت الْعَجُوز الخبيثة وَأَخْبَرتهمْ بورودهم، وَذكرت لَهُم حسن وُجُوههم، فَجَاءُوا يطْلبُونَ الْفَاحِشَة، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {راودوه عَن ضَيفه} . وَقَوله: {فطمسنا أَعينهم} رُوِيَ أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام صفق أَعينهم صَفْقَة بجناحه، فصاروا عميانا يَلْتَمِسُونَ الْجِدَار بِالْأَيْدِي. وَرُوِيَ أَن وُجُوههم صَارَت سطحا وَاحِدًا مَا بَقِي عَلَيْهَا أثر شَيْء. وَقَوله: {فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر} أَي: فَذُوقُوا عَذَابي وعاقبة إنذاري.

38

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صبحهمْ بكرَة عَذَاب مُسْتَقر} أَي: نزل بهم الْعَذَاب وَاسْتقر بكرَة. وَمعنى الِاسْتِقْرَار هُوَ هلاكهم بذلك الْعَذَاب.

فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر وَلَقَد جَاءَ آل فِرْعَوْن النّذر كذبُوا بِآيَاتِنَا كلهَا فَأَخذهُم أَخذ عَزِيز مقتدر أكفاركم خير من أولائكم أم لكم بَرَاءَة فِي الزبر أم يَقُولُونَ نَحن جَمِيع منتصر سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر

39

وَقَوله {فَذُوقُوا عَذَابي وَنذر} قد بَينا.

40

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن للذّكر فَهَل من مدكر} قد ذكرنَا.

41

وَقَوله: {وَلَقَد جَاءَ آل فِرْعَوْن النّذر} يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُون، وَيُقَال: جَاءَهُم الْإِنْذَار.

42

وَقَوله: {كذبُوا بِآيَاتِنَا كلهَا فأخذناهم أَخذ عَزِيز مقتدر} أَي: قوي قَادر، وَقد بَينا معنى الْعَزِيز الْقَادِر.

43

قَوْله تَعَالَى: {أكفاركم خير من أولئكم} مَعْنَاهُ: أكفاركم خير من الْكفَّار الَّذين كَانُوا قبلكُمْ، يَعْنِي: لَيْسُوا بِخَير مِنْهُم، فَكَمَا أهلكناهم فسنهلك هَؤُلَاءِ. وَقَوله: {أم لكم بَرَاءَة فِي الزبر} أَي: بَرَاءَة من الْكتب أَنا لانهلككم كَمَا أهلكنا من قبلكُمْ.

44

وَقَوله: {أم يَقُولُونَ نَحن جَمِيع منتصر} يَعْنِي: أيقولون نَحن جَمِيع ينصر بَعْضنَا بَعْضًا، أَو ننتصر من أَعْدَائِنَا. وَفِي الْمَغَازِي أَنه لما كَانَ يَوْم بدر خرج أَبُو جهل على قَدَمَيْهِ، وَهُوَ يَقُول: نَحن جَمِيع منتصر، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} ، قَالَ عمر: فَرَأَيْت النَّبِي يثب فِي درعه، وَيَقُول: " سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ". وَفِي بعض التفاسير: أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ:

45

نزل قَوْله تَعَالَى: {سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} وَلم أعرف تَأْوِيله، حَتَّى كَانَ يَوْم بدر فَرَأَيْت النَّبِي

{بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى وَأمر (46) إِن الْمُجْرمين فِي ضلال وسعر (47) يَوْم يحبسون فِي النَّار على وُجُوههم ذوقوا مس سقر (48) إِنَّا كل شَيْء} يثب فِي درعه وَيَقُول: " سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ". وَهَذَا الْخَبَر دَلِيل أَيْضا أَن هَذِه الْآيَة مَكِّيَّة، وَقد بَينا فِي رِوَايَة أُخْرَى أَنَّهَا مَدَنِيَّة. والدبر بِمَعْنى الأدبار.

46

وَقَوله: {بل السَّاعَة موعدهم} أَي: الْقِيَامَة موعدهم، وَسميت السَّاعَة لقرب كَونهَا. وَقيل: سميت سَاعَة؛ لِأَنَّهَا كائنه لَا محَالة كالوقت، وَهُوَ كَائِن لَا محَالة فَسمى سَاعَة. وَقَوله: {والساعة أدهى وَأمر} أَي: أقطع وَأَشد. والداهية: كل أَمر لَا يَهْتَدِي إِلَى الْخُرُوج مِنْهُ. " وَأمر ": هُوَ من المرارة.

47

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُجْرمين فِي ضلال وسعر} قد بَينا. وَعَن الْأَخْفَش: أَن السّعر جمع السعير جمع السعير، وَيُقَال مَعْنَاهُ: فِي نَار يحترقون فِيهَا وَلَا يعلمونها، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى الْعَاقِبَة، وَمَا يصير إِلَيْهِ حَالهم.

48

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يسْحَبُونَ فِي النَّار على وُجُوههم} قَالَ ابْن مَسْعُود: " يَوْم يسْحَبُونَ فِي النَّار ". وَالْمَعْرُوف الأول، وَهُوَ من السحب والجر. وَقَوله: {ذوقوا مس سقر} أَي: يُقَال لَهُم ذَلِك، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره وَهُوَ يضْربهُ: ذُقْ وبال أَمرك، أَي: عمله، وَمثله كثير فِي الْعَرَبيَّة وَكَلَامهم.

49

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} نصب كل بِتَقْدِير فعل مَحْذُوف، وَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّا خلقنَا كل شَيْء خلقناه بِقدر. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " كل

{خلقناه بِقدر (49) وَمَا أمرنَا إِلَّا وَاحِدَة كلمح بالبصر (50) وَلَقَد أهلكنا أشياعكم} شَيْء بِقدر حَتَّى الْكيس وَالْعجز ". وَعَن ابْن عَبَّاس: كل شَيْء بِقدر حَتَّى وضعك يدك على خدك. وَعَن عَليّ: مَا طن ذُبَاب إِلَّا بِقدر. وَعَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: أشهد أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْقَدَرِيَّة ردا عَلَيْهِم وتلا هَذِه الْآيَة: {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} وَهُوَ خبر غَرِيب. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله أَنه قَالَ: لَو صَامَ إِنْسَان حَتَّى يصير كالحبل هزلا، وَصلى حَتَّى يصير كوتد، وَذبح ظلما بَين الرُّكْن وَالْمقَام، ثمَّ كَانَ مُكَذبا بِقدر الله، لأدخله الله النَّار، وَيُقَال لَهُ: ذُقْ مس سقر. وَفِي رِوَايَة عَائِشَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة نَادَى مُنَاد: أَيْن خصماء الرَّحْمَن؟ فَيقوم الْقَدَرِيَّة ثمَّ تَلا قَوْله: {إِن الْمُجْرمين فِي ضلال وسعر} وَمَا بعْدهَا ". وخصومتهم أَنهم يَقُولُونَ: قدرت علينا الْمعاصِي وَكَيف تعذبنا؟

50

وَقَوله: {وَمَا أمرنَا إِلَّا وَاحِدَة} يَعْنِي: إِلَّا مرّة وَاحِدَة. وَقَوله: {كلمح بالبصر} أَي: كسرعة اللمح بالبصر فِي النّفُوذ والوقوع، وَفِي بعض التفاسير فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كل شَيْء خلقناه بِقدر} أَي: جعلنَا لكل شَيْء مَا يصلح لَهُ، مثل ثِيَاب الرِّجَال للرِّجَال، وَثيَاب النِّسَاء للنِّسَاء، والسرج للْفرس، والإكاف للحمار، وَمَا أشبه ذَلِك، وَالْمعْنَى: أَي: قَدرنَا لكل شَيْء مَا يصلح لَهُ، ذكره

{فَهَل من مدكر (51) وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر (52) وكل صَغِير وكبير مستطر (53) إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونهر (54) فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر} ) بن فَارس فِي تَفْسِيره.

51

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَد أهلكنا أشياعكم} أَي: أشبابهكم ونظراءكم من الْكفَّار. وَقَوله: {فَهَل من مدكر} أَي: متعظ.

52

وَقَوله: {وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر} أَي: مسطور مَكْتُوب فِي الزبر. وَيُقَال: كل شَيْء مَحْفُوظ فِي الزبر.

53

وَقَوله: {وكل صَغِير وكبير مستطر} أَي مسطور مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي الْآثَار المروية عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: خلق الله اللَّوْح الْمَحْفُوظ من درة بَيْضَاء ودفتاه من ياقوت أَحْمَر، قلمه ذهب وَكتابه نور، ينظر الله كل يَوْم فِيهِ ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ نظرة، يخلق، ويحيي، وَيُمِيت، ويرزق، وَيفْعل مَا يَشَاء. وَهَذَا أثر مَعْرُوف.

54

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونهر} فِي بعض الْآثَار: أَن الرجل لَا يكون متقيا حَتَّى يدع مَا لَيْسَ بِهِ بَأْس حذرا مِمَّا بِهِ بَأْس، وَقد روى بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي، وَهُوَ غَرِيب. وَقَوله تَعَالَى: {فِي جنَّات ونهر} أَي: بساتين وأنهار، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، والأنهار هَذِه مَا ذكرهَا الله تَعَالَى فِي " سُورَة مُحَمَّد ". وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {فِي جنَّات ونهر} أَي: ضِيَاء وسعة. قَالَ قيس بن الخطيم: (ملكت بهَا كفى فأنهرت فتقها ... يرى قَائِما من دونهَا مَا وَرَاءَهَا) أَي: أوسعت. وَقُرِئَ: " فِي جنَّات ونهر " بِضَم النُّون وَالْهَاء، وَهُوَ بِمَعْنى النَّهَار. وَقَالَ الشَّاعِر:

(لَوْلَا الثريدان هلكنا بالضمم ... ثريد ليل وثريد بالنهر) وَعَن أبي عمرَان الْجونِي قَالَ: لَيْسَ فِي الْجنَّة ليل، هُوَ نَهَار كُله، وَيعرف مَجِيء النَّهَار بِفَتْح الْأَبْوَاب وَرفع الستور، وَيعرف مَجِيء اللَّيْل برد الْأَبْوَاب وإرخاء الستور.

55

وَقَوله: {فِي مقْعد صدق} أَي: مجْلِس حسن، وَيُقَال: فِي مقْعد لَا لَغْو فِيهِ وَلَا تأثيم. وكل مَكَان لَيْسَ فِيهِ لَغْو وَلَا تأثيم، فَهُوَ مقْعد صدق. وَقَوله: {عِنْد مليك مقتدر} يُقَال: إِن الْملك والمليك بِمَعْنى وَاحِد. قَالَ ابْن الزبعري: (يَا رَسُول المليك إِن لساني ... رائق مَا فتقت إِذْ أَنا بور) أَي: رَسُول الْملك. وَقيل: إِن المليك هُوَ الْمُسْتَحق للْملك، وَالْملك: الْقَائِم بِالْملكِ. وَمعنى الْآيَة: ذكر كَرَامَة الْمُؤمنِينَ وقربهم من الله تَعَالَى، وَهُوَ النِّهَايَة فِي الْإِكْرَام.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان الشَّمْس} تَفْسِير سُورَة الرَّحْمَن وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين وَقَالَ بَعضهم هِيَ مَدَنِيَّة

الرحمن

قَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَن} قَالَ الْحسن هُوَ اسْم لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يَنْتَحِلهُ وَيُقَال اسْم مُمْتَنع وَإِنَّمَا لم يَصح أَن يُقَال لغير وَصَحَّ أَن يُقَال رَاحِم وَرَحِيم لِأَن معنى الرَّحْمَن أَن رَحمته وسعت كل شَيْء وَهَذَا لَا يَصح فِي غير الله جلّ وَعلا وَحكى بَعضهم أَن الرَّحْمَن هُوَ مَجْمُوع فواتح ثَلَاث سور " الر - حم - ن ".

2

وَقَوله {علم الْقُرْآن} أى يسر وَسَهل تعلمه.

3

وَقَوله (خلق الْإِنْسَان) قَالَ قَتَادَة: هُوَ آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَقَالَ الضَّحَّاك هُوَ مُحَمَّد وَعَن بَعضهم هُوَ جنس النَّاس وَاحِد بِمَعْنى الْجمع مثل قَوْله تَعَالَى {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفى خسر} اى النَّاس.

4

وَقَوله {علمه الْبَيَان} فعلى القَوْل الَّذِي قُلْنَا إِن المُرَاد بِهِ آدم فَمَعْنَى تَعْلِيم الْبَيَان تَعْلِيم الْأَسْمَاء وعَلى القَوْل الَّذِي يَقُول إِنَّه مُحَمَّد فَمَعْنَى تَعْلِيم الْبَيَان هُوَ أَنه بَين لَهُ الْحَلَال وَالْحرَام وَيُقَال بَين لَهُ طَرِيق الْهدى وَطَرِيق الضَّلَالَة وَيُقَال بَين الْخَيْر وَالشَّر وَإِذا حملنَا على جنس النَّاس فَمَعْنَى الْبَيَان هُوَ الْمنطق وَالْكَلَام وكل عَاقل مُمَيّز لَهُ بَيَان يعقله وتمييزه.

5

وَقَوله {الشَّمْس وَالْقَمَر بحسبان} أى بِحِسَاب قَالَه مُجَاهِد وَغَيره وَيُقَال بحسبان أَي بجرى مَعْلُوم فِي منَازِل مَعْلُومَة وَقَالَ السّديّ بِأَجل مَعْلُوم فَإِذا بلغا أجلهما هلكا. وَقيل الحسبان قطب الرحا وَالْمعْنَى أَنَّهُمَا يدوران كَمَا يَدُور {وَالْقَمَر بحسبان (5) والنجم وَالشَّجر يسجدان (6) وَالسَّمَاء رَفعهَا وَوضع الْمِيزَان (7) أَلا تطغوا فِي الْمِيزَان (8) وَأقِيمُوا الْوَزْن بِالْقِسْطِ وَلَا تخسروا الْمِيزَان (9) وَالْأَرْض وَضعهَا للأنام (10) الرحا على القطب.

6

وَقَوله: {والنجم وَالشَّجر يسجدان} قَالَ أهل اللُّغَة: النَّجْم كل مَا نبت لَا على سَاق، وَالشَّجر مَا نبت على سَاق. وَيُقَال: النَّجْم نجم السَّمَاء، وَالشَّجر جَمِيع الْأَشْجَار. وَأما سجودهما، قَالَ ابْن عَبَّاس: يسجدان إِذا طلعت الشَّمْس وَإِذا قَالَت الشَّمْس إِلَى أَن تغرب. وَيُقَال: سجودهما هُوَ مَا سخرهما الله تَعَالَى على مَشِيئَته وَأمره. وَالْأولَى هُوَ أَن يُقَال: إِن سُجُود الْموَات ثَابت بِنَصّ الْكتاب، هُوَ على مَا أَرَادَ الله تَعَالَى، وَالْعلم بحقيقته موكول إِلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة. وَيُقَال: سجودهما بدوران الظل يَمِينا وَشمَالًا.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء رَفعهَا} أَي: أَعْلَاهَا بِحَيْثُ لَا تنالها الْأَيْدِي. وَقَوله: {وَوضع الْمِيزَان} فِيهِ قَولَانِ، أَحدهمَا: أَنه الْمِيزَان الْمَعْرُوف، وَالْآخر: أَن المُرَاد مِنْهُ الْعدْل.

8

وَقَوله: {أَن لَا تطغوا فِي الْمِيزَان} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " لَا تطغوا فِي الْمِيزَان " أَي: لَا تَجُورُوا فِيهِ، وَلَا تجوزوا الْحَد. والطغيان: مُجَاوزَة الْحَد.

9

وَقَوله: {وَأقِيمُوا الْوَزْن بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ. وَإِقَامَة الْوَزْن: إِقَامَة لِسَان الْمِيزَان من غير ميل وجور. وَقَوله: {وَلَا تخسروا الْمِيزَان} أَي: لَا تنقصوا وَلَا تبخسوا. وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: يَا معشر الموَالِي يَعْنِي: الْعَجم إِنَّكُم وليتم أَمر من فيهمَا هلك كثير من الْأُمَم قبلكُمْ الْمِكْيَال وَالْمِيزَان.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَالْأَرْض وَضعهَا للأنام} أَي: بسطها. وَفِي الْأَنَام ثَلَاثَة أَقْوَال، أَحدهَا: ذكره الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه الْجِنّ وَالْإِنْس. وَالْآخر: أَنه الْإِنْس خَاصَّة. وَالثَّالِث:

{فِيهَا فَاكِهَة وَالنَّخْل ذَات الأكمام (11) وَالْحب ذُو العصف وَالريحَان (12) فَبِأَي} كل مَا دب ودرج.

11

قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا فَاكِهَة} الْفَاكِهَة كل مَا يتفكه بِهِ. وَقَوله: {ذَات الأكمام} جمع الْكمّ، والكم: كل مَا يُغطي شَيْئا، وَمِنْه الْكمّ الْمَعْرُوف، فَلِأَنَّهَا تغطي الْيَد. والقلنسوة تسمى الكمة؛ لِأَنَّهَا تغطي الرَّأْس. ومعتى الْكمّ هَاهُنَا: هُوَ الغلاف الَّذِي يكون لثمرة النّخل، وَيُقَال: الْكمّ هُوَ الطّلع.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَالْحب ذُو العصف وَالريحَان} العصف: ورق الزَّرْع، فَإِذا يبس صَار تبنا، وَيُقَال: العصف هُوَ البقل الَّذِي ينْبت من الأَرْض. وَقَوله: {وَالريحَان} أَي: الثَّمَرَة. قَالَ ابْن كيسَان: إِذا نبت الزَّرْع فأوله يكون عصفا، ثمَّ يظْهر فِيهِ الريحان، وَهُوَ ثَمَرَته. وَقيل: إِن الريحان هُوَ الرزق، قَالَ الشَّاعِر: (سَلام الْإِلَه وريحانه ... وَرَحمته وسماء دُرَر) قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الريحان الَّذِي يشم. وَأولى الْأَقَاوِيل أَن العصف هُوَ التِّبْن، وَالريحَان هُوَ الْحبّ الَّذِي خلق فِيهِ للْأَكْل، سَمَّاهُ ريحانا؛ لِأَن مِنْهُ رزق الْعباد. وَفِي الْمَصَاحِف: " وَالْحب والعصف " وَمَعْنَاهُ: وَخلق الْحبّ ذَا العصف.

13

وَقَوله: {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} مَعْنَاهُ: بِأَيّ نعم رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ أَيهَا الْإِنْس وَالْجِنّ؟ وَالْمرَاد من الآلاء النعم الَّتِي عدهَا من قبل. وَقد ثَبت بِرِوَايَة مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر أَن النَّبِي قَرَأَ سُورَة الرَّحْمَن على أَصْحَابه، فَلم يجيبوا بِشَيْء، فَقَالَ: " مَا لي أَرَاكُم سكُوتًا! للجن كَانُوا أحسن مِنْكُم ردا، مَا قَرَأت عَلَيْهِم هَذِه الْآيَة من مرّة {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْء من نعمك رَبنَا نكذب، فلك الْحَمد ". {آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خلق الْإِنْسَان من صلصال كالفخار (14) وَخلق الجان من مارج من نَار (15) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) }

14

قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من صلصال كالفخار} الصلصال: الطين الْيَابِس الَّذِي يصوت إِذا نقر وحرك. وَقَوله: {كالفخار} أَي: الخزف. فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {من طين لازب} ، وَقَالَ فِي مَوضِع: {من حمأ مسنون} ، وَقَالَ هَاهُنَا: {من صلصال} فَكيف وَجه التَّوْفِيق؟ الْجَواب عَنهُ: أَن الْجَمِيع صَحِيح على الْقطع، فَالله تَعَالَى خلق آدم من تُرَاب جعله طينا لازبا، ثمَّ جعله حمأ مسنونا، ثمَّ جعله صلصالا كالفخار، ثمَّ صوره. قَالَ قَتَادَة: هُوَ المَاء يُصِيب الأَرْض، ثمَّ يذهب المَاء فيجف مَوضِع المَاء وييبس وينشق، فَهُوَ الصلصال كالفخار. وَذكر أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره: أَنه ورد فِي بعض الحَدِيث أَن الله تَعَالَى حِين أَرَادَ أَن يخلق آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام جعل التُّرَاب طينا لازبا، وَتَركه أَرْبَعِينَ سنة، ثمَّ جعله صلصالا كالفخار، وَتَركه أَرْبَعِينَ سنة، ثمَّ صوره وَتَركه جسدا لَا روح فِيهِ أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَت الْمَلَائِكَة يَمرونَ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَ الَّذِي خلقك لامر مَا خلقك. وَقد ثَبت عَن النَّبِي " أَن إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة لما رأى الصُّورَة فَوَجَدَهُ أجوف، فَعلم أَنه خلق لَا يَتَمَالَك ".

15

قَوْله تَعَالَى: {وَخلق الجان من مارج من نَار} أَي: من لَهب النَّار. وَيُقَال: خَالص النَّار. وَإِن الجان هُوَ أَبُو الْجِنّ.

16

وَقَوله: {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} قد بَينا مَعْنَاهُ. وَقَالَ الْحسن: الجان هُوَ

{رب المشرقين وَرب المغربين (17) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مرج الْبَحْرين يَلْتَقِيَانِ (19) بَينهمَا برزخ لَا يبغيان (20) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) إِبْلِيس. وَقَوله: {من مارج من نَار} قد ذكرنَا. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: المارج: الخضرة الَّتِي تكون بَين النَّار وَبَين الدُّخان. وَيُقَال: المارج نَار مختلطة بسواد. وَقَالَ الْفراء فِي قَوْله: {من نَار} : هِيَ نَار دون الْحجاب، وَمِنْهَا الصَّوَاعِق الَّتِي يَرَاهَا النَّاس.

17

قَوْله تَعَالَى: {رب المشرقين وَرب المغربين} مَعْنَاهُ: مشرق الصَّيف، ومشرق الشتَاء. وَالَّذِي قَالَ فِي مَوضِع آخر: {رب الْمشرق وَالْمغْرب} هُوَ مشرق كل يَوْم فِي الصَّيف والشتاء. وَيُقَال: المشرقان: الشَّمْس وَالْفَجْر، والمغربان: الشَّمْس والشفق.

19

قَوْله تَعَالَى: {مرج الْبَحْرين يَلْتَقِيَانِ} أَي: خلاهما وأرسلهما، قَالَه الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا، وَعَن بَعضهم: مرج الْبَحْرين أَي: لَاقَى بَينهمَا. وَقَوله: {الْبَحْرين} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ مُجَاهِد: بَحر السَّمَاء وَالْأَرْض. وَقَالَ الْحسن: بَحر فَارس وَالروم. وَيُقَال: بَحر الْمشرق وَالْمغْرب. وَيُقَال: بَحر الْملح والعذب. وَقَوله: {يَلْتَقِيَانِ} أَي: يلقِي أَحدهمَا صَاحبه.

20

وَقَوله: {بَينهمَا برزخ لَا يبغيان} أى حاجزه وَقَوله: لَا يبغيان أَي: لَا يخلتط أَحدهمَا بِالْآخرِ، لَا يخْتَلط الْملح بالعذب [فيفسده] ، وَلَا العذب بالملح فيختلج. وَيُقَال: الحاجز حاجز من الْقُدْرَة. وَالْآيَة وَردت فِي مَوضِع مَخْصُوص من بَحر فَارس وَالروم. وَقيل: فِي مَوضِع مَخْصُوص من العذب وَالْملح. والعذب هُوَ النّيل، وَالْملح هُوَ بَحر الرّوم، يَلْتَقِيَانِ وَلَا يختلطان.

{يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان (22) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَله الْجوَار الْمُنْشَآت فِي الْبَحْر كالأعلام (24) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) } وَقَالَ بَعضهم: الحاجز هُوَ الأَرْض من بَحر السَّمَاء وبحر الأَرْض. وَعَن بَعضهم: أَن الحاجز هُوَ جَزِيرَة الْعَرَب.

22

قَوْله تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان} وَقُرِئَ: " يخرج " و " يخرج " أَي: يخرج الله. وَأما اللُّؤْلُؤ، فَهُوَ الْحبّ الْمَعْرُوف مِنْهُ الصغار والكبار، وَأما المرجان، قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ خرز أَحْمَر. وَيُقَال: إِنَّه [البسد] جَوْهَر مَعْرُوف. وَقَالَ قَتَادَة وَغَيره: المرجان كبار اللُّؤْلُؤ، واللؤلؤ صغاره، وَقيل على الْعَكْس: المرجان صغَار اللُّؤْلُؤ، واللؤلؤ كباره. فَإِن قيل: قد قَالَ: {يخرج مِنْهُمَا} وَأجْمع أهل الْعلم بِهَذَا الشَّأْن أَنه يخرج من الْملح دون العذب. وَالْجَوَاب: أَنه ذكرهمَا وَالْمرَاد أَحدهمَا، كَمَا تَقول الْعَرَب: أكلت خبْزًا ولبنا، وَإِنَّمَا الْأكل فِي أَحدهمَا دون الآخر. قَالَ الزّجاج: لما ذكر الْبَحْرين ثمَّ ذكر اللُّؤْلُؤ والمرجان، وَهُوَ يخرج من أَحدهمَا، صحب الْإِضَافَة إِلَيْهِمَا على لِسَان الْعَرَب. وَذكر الْقفال الشَّاشِي فِي تَفْسِيره: أَن اللُّؤْلُؤ والمرجان لَا يكون إِلَّا فِي ملتقى الْبَحْرين فِي أول مَا يخلق، ثمَّ حِينَئِذٍ مَوضِع الأصداف هُوَ الْبَحْر الْملح دون العذب، فصح قَوْله: {يخرج مِنْهُمَا} لِأَنَّهُمَا فِي ابْتِدَاء عِنْد ملتقى الْبَحْرين، وَهَذَا قَول حسن إِن كَانَ كَذَلِك. وروى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: أَن السَّمَاء إِذا أمْطرت ارْتَفَعت الأصداف إِلَى وَجه الْبَحْر وَفتحت أفواهها، فَمَا وَقع من قطر السَّمَاء فِي أفواها يكون الدّرّ.

24

قَوْله تَعَالَى: {وَله الْجوَار الْمُنْشَآت} وَقُرِئَ بِكَسْر الشين، وَالْأول أشهر؛ فَمَعْنَى الْكَلِمَة على الْفَتْح أَي: المرفوعات الشَّرْع، وَيُقَال: الْمَخْلُوقَات. وَمعنى الْكَلِمَة بِالْكَسْرِ أَي: المقيلات، وَيُقَال: المبتدئات فِي السّير، فعلى هَذَا الْمَعْنى إِذا قرئَ بِالْفَتْح فَمَعْنَاه: أبتدئ بِهن فِي السّير، ذكره الْأَزْهَرِي. والجواري: هِيَ السفن. وَقَوله: {فِي الْبَحْر كالأعلام} أَي: الْجبَال، قَالَ الشَّاعِر:

{كل من عَلَيْهَا فان (26) وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام (27) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يسْأَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن (29) فَبِأَي آلَاء} (إِذا قطعن علما بدا علم ... وَقَالَت الخنساء: (وَإِن صخرا ليأتم الهداة بِهِ ... كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه نَار) أَي: جبل. وَيُقَال: كالأعلام أَي: كالقصور. وَعَن بعضم: أَن السفن فِي الْبَحْر كالجبال فِي الْبر.

26

قَوْله تَعَالَى: {كل من عَلَيْهَا فان} أَي: كل من على الأَرْض هَالك.

27

وَقَوله: {وَيبقى وَجه رَبك} أَي: يبْقى رَبك، وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَنه يبْقى مَا أُرِيد بِهِ وَجه رَبك. وَقَوله: {ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} أَي: الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة. وَأما الْإِكْرَام: هُوَ مَا أكْرم أولياءه، وأصفياءه.

29

قَوْله تَعَالَى: {يسْأَله من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} فِي الْآيَة أَقْوَال: أَحدهَا: يسْأَله من فِي السَّمَاء الرَّحْمَة، وَمن فِي الأَرْض الرزق وَالْمَغْفِرَة. قَالَ الْكَلْبِيّ: لَا يَسْتَغْنِي عَنهُ أحد من أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض. وَقَالَ قَتَادَة: يسْأَله أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض الْمَغْفِرَة. وَعَن بَعضهم: يسْأَله من فِي السَّمَاء أَي: الْمَلَائِكَة لأهل الأَرْض الْمَغْفِرَة والرزق، ويسأله من فِي الأَرْض لأَنْفُسِهِمْ الْمَغْفِرَة والرزق، وَهَذَا قَول الْحسن الْبَصْرِيّ. فالمسئول لَهُ فِي السؤالين أهل الأَرْض. وَالْجُمْلَة أَن معنى الْآيَة: أَن كل أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض يسألونه حوائجهم، وَلَا غنى لأحد عَنهُ. وَقَوله: {كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن} روى أَبُو الدَّرْدَاء عَن النَّبِي قَالَ: " يغْفر ذَنبا،

{رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سنفرغ لكم أَيهَا الثَّقَلَان (31) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا} ويفرج كربا، وَيرْفَع قوما، وَيَضَع آخَرين ". وَعَن بَعضهم: يُعْطي سَائِلًا، ويجيب دَاعيا، ويفك عانيا. وَعَن بَعضهم: يحيي وَيُمِيت، ويعز ويذل، ويخلق ويرزق. وَعَن بَعضهم: يعْتق رقابا، وَيُعْطِي رغابا، ويفحم خطابا.

31

قَوْله تَعَالَى: {سنفرغ لكم أَيهَا الثَّقَلَان} أَي: الْجِنّ وَالْإِنْس. والثقل فِي كَلَام الْعَرَب: كل مَا يتنافس فِيهِ، ويسمون بيض النعامة ثقلا؛ لِأَنَّهُ يتنافس فِيهَا. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " تركت فِيكُم الثقلَيْن، كتاب الله وعترتي ". وَهُوَ إِخْبَار عَن عظم قدرهما. فَإِن قيل: قد قَالَ: {سنفرغ} والفراغ لَا يكون إِلَّا عَن شغل، وَلَا يجوز الشّغل على الله تَعَالَى، فَكيف مَعْنَاهُ؟ وَالْجَوَاب: أَن هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد، كالإنسان يَقُول لغيره: سأفرغ لَك، وَإنَّهُ لم يكن فِي الْحَال فِي شغل. وَقَالَ الزّجاج: والفراغ يكون على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: الْفَرَاغ من الشّغل. وَالْآخر: بِمَعْنى الْقَصْد، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: قد تفرغت لأذاى ومكروهي أى أخذت فِي كروهى وأذاى وَيَقُول الرجل لغيره اصبر حَتَّى أتفرغ

{معشر الْجِنّ وَالْإِنْس إِن اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض فانفذوا لَا تنفذون إِلَّا بسُلْطَان (33) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسل عَلَيْكُمَا شواظ من نَار} لَك أَي: أقصدك وأعمدك، فَمَعْنَى قَوْله: {سنفرغ لكم} أَي: سنقصد ونعمد بلمؤاخذة والمجازاة. وَأنْشد الْمبرد فِي هَذَا الْمَعْنى قَول جرير: (لما اتَّقى الْقَيْن الْعِرَاقِيّ [باسته] ... فرغت إِلَى العَبْد الْمُقَيد فِي الحجل)

33

قَوْله تَعَالَى: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس إِن اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: جَوَانِب السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {أَن تنفذوا} أَي: تخْرجُوا. وَقَوله: {فانفذوا} أَي: اخْرُجُوا، وَهَذَا على طَرِيق التهديد. وَقَوله: {لَا تنفذون إِلَّا بسُلْطَان} أَي: حجَّة. وَيُقَال: لَا تنفذون إِلَّا فِي سُلْطَان، وَالْبَاء بِمَعْنى فِي، حَيْثُمَا كُنْتُم فَأنْتم فِي سلطاني وملكي. وَاخْتلفُوا أَن هَذَا القَوْل مَتى يكون؟ فالأكثرون على أَنه يَوْم الْقِيَامَة يكون، وَينزل الله تَعَالَى لملائكة حَتَّى ينفذوا على أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَإِذا رأى الْجِنّ وَالْإِنْس أهوال الْقِيَامَة هربوا، فتردم الْمَلَائِكَة. وروى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: بَيْنَمَا يكون النَّاس فِي أسواقهم إِذا رَأَوْا السَّمَاء قد تشققت، وَنزلت الْمَلَائِكَة، فيهرب النَّاس، فتتبعهم الْمَلَائِكَة ويردونم إِلَى أَمر الله تَعَالَى وَهُوَ الْهَلَاك. وَهَذَا قَول غَرِيب. وَيُقَال: إِن المُرَاد هُوَ الْهَرَب من الْمَوْت، يَعْنِي: إِن اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا من أقطار السَّمَوَات وَالْأَرْض هربا من الْمَوْت فانفذوا. وَقَوله: {لَا تنفذون إِلَّا بسُلْطَان} يَعْنِي: حَيْثُ مَا كُنْتُم أدرككم.

35

قَوْله تَعَالَى: {يُرْسل عَلَيْكُمَا شواظ من نَار} أَي: لَهب من نَار، قَالَه ابْن عَبَّاس.

{ونحاس فَلَا تنتصران (35) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذا انشقت السَّمَاء فَكَانَت وردة كالدهان (37) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه} وَقَالَ مُجَاهِد: قِطْعَة من النَّار فِيهَا خضرَة. وَالْمرَاد بِالْإِرْسَال هُوَ إرْسَال الْعَذَاب. وَقَوله: {عَلَيْكُمَا} منصرف إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس. وَقَوله: {ونحاس} يقْرَأ بِكَسْر السِّين وَضمّهَا، والنحاس من الدُّخان، وَفِي قَول الْأَكْثَرين، قَالَ الشَّاعِر: (يضيء كضوء سراج السليطة ... لم يَجْعَل الله فِيهِ نُحَاسا) وَقَالَ مُجَاهِد: النّحاس: الصفر الْمُذَاب على رُءُوس الْكفَّار. وَقَوله: {فَلَا تنتصران} أَي: لَا تمتنعان، يُقَال: لَا يكون لَكمَا قُوَّة دفع الْعَذَاب.

37

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا انشقت السَّمَاء فَكَانَت وردة} أَي: حَمْرَاء. وَقَوله: {كالدهان} وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كالأديم الْأَحْمَر، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ: أَن الوردة وردة النَّبَات، وَهِي تكون حَمْرَاء فِي الْأَغْلَب، قَالَ عبد بني الحساس: (فَلَو كنت وردا لَونه [لعشقنني] ... وَلَكِن [رَبِّي شانني] بسواديا) وَذكر الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا أَن الوردة هَاهُنَا: لون الْفرس الْورْد، وَهُوَ الْكُمَيْت. وَذَلِكَ يَتلون فِي فُصُول السّنة، فَيكون أصفر فِي فصل، وأحمر فِي فصل، وأغر فِي فصل. والدهان جمع الدّهن، وَهِي مُخْتَلفَة الألوان. فَمَعْنَى الْآيَة: أَن السَّمَاء يخْتَلف لَوْنهَا يَوْم الْقِيَامَة كاختلاف لون الْورْد، وَاخْتِلَاف لون الدّهن. وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوضِع آخر {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ} قَالُوا: هُوَ دردي الزَّيْت، أَي: فِي اللَّوْن. وَقَالَ بَعضهم: يصير مثل الدّهن الْأَصْفَر، وَهَذَا كُله من فزع الْقِيَامَة وهولها.

39

قَوْله تَعَالَى: {فَيَوْمئِذٍ لَا يسْأَل عَن ذَنبه إنس وَلَا جَان} أَي: لَا يسْأَل سُؤال

{إنس وَلَا جَان (39) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذ بالنواصي والأقدام (41) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِه جَهَنَّم الَّتِي يكذب بهَا المجرمون (43) يطوفون بَينهَا وَبَين حميم آن (44) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) } استعلام، وَإِنَّمَا يسْأَل سُؤال تقريع وتوبيخ، وَلَا يُقَال لَهُم: هَل فَعلْتُمْ؟ بل يُقَال لَهُم: لم فَعلْتُمْ؟ وَعَن بَعضهم: أَن مَعْنَاهُ: لَا يسْأَل بَعضهم بَعْضًا. وَعَن بَعضهم: أَن الْمَلَائِكَة لَا يسْأَلُون عَن ذنُوب بني آدم؛ لأَنهم قد رفعوا الصُّحُف، وأدوا الْأَمَانَة فِيهَا. وَالْقَوْل الأول هُوَ الصَّحِيح.

41

قَوْله تَعَالَى: {يعرف المجرمون بِسِيمَاهُمْ} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره: بسواد الْوُجُوه وزرقة الْعُيُون. وَقَوله: {فَيُؤْخَذ بالنواصي والأقدام} أَي: يجرونَ بنواصيهم وأقدامهم إِلَى النَّار، وَيُقَال: يجمع بَين نواصيهم وأقدامهم ويشد، ثمَّ يلقى (فِي) النَّار.

43

قَوْله تَعَالَى: {هَذِه جَهَنَّم الَّتِي يكذب بهَا المجرمون} يُقَال لَهُم هَذَا حِين يرَوْنَ جَهَنَّم، وَهَذَا على طَرِيق التقريع والتوبيخ، يَعْنِي: مَا أنكرتموه وجحدتموه فأبصروه عيَانًا.

44

وَقَوله: {يطوفون بَينهَا وَبَين حميم آن} أَي: يُطَاف بهم مرّة إِلَى الْحَمِيم، وَمرَّة إِلَى الْجَحِيم. وَقَوله: {آن} هُوَ الْحَمِيم الَّذِي انْتهى حره. وَقيل: آن أَي: آن وَحضر وَقت عَذَابهمْ بِهِ وشربهم إِيَّاه.

46

قَوْله تَعَالَى: {وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان} لما ذكر عَذَاب الْكفَّار أتبع ذكر نعيم الْمُؤمنِينَ.

{وَلمن خَافَ مقَام ربه جنتان (46) فَبِأَي ألاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) } وَقَوله: {خَافَ مقَام ربه} أَي: قِيَامه بَين يَدي ربه للسؤال والحساب، وَيُقَال: هُوَ من قدر على الذَّنب فَذكر ربه فخاف مِنْهُ وَتَركه. وَعَن عَطِيَّة بن قيس: " أَن الْآيَة وَردت فِي الرجل الَّذِي أوصى بنيه، وَقَالَ: إِذا مت فأحرقوني واسحقوني وذروني فِي الرّيح، لعَلي أضلّ الله، فَفَعَلُوا، فأحياه الله تَعَالَى وَقَالَ: لم فعلت ذَلِك؟ قَالَ: مخافتك، فغفر الله لَهُ ". وَهَذَا خبر صَحِيح. وَعَن الزبير أَن الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا محكي عَن عَطاء بن أبي رَبَاح. قَالَ الضَّحَّاك: شرب أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ لَبَنًا، ثمَّ سَأَلَ عَنهُ، وَكَانَ من غير وَجهه، فاستقاه، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {جنتان} أَي: بُسْتَان. وَيُقَال: بُسْتَان لمسكنه، وبستان لخدمه وحشمه. وَيُقَال: مسكن لَهُ، وبستان لَهُ. وَعَن بَعضهم مَعْنَاهُ: جنَّة عدن، وجنة النَّعيم، وَهَذَا قَول حسن. وَقَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله: {خَافَ مقَام ربه} أَي: هم بالمعصية فَتَركهَا خوفًا من الله تَعَالَى. وَقَالَ الْفراء: الجنتان هَاهُنَا بِمَعْنى الْجنَّة الْوَاحِدَة، وَقد ورد هَذَا فِي الشّعْر. قَالَ الشَّاعِر: (ومهمهمين فرقدين مرَّتَيْنِ ... وَأَرَادَ بِهِ الْوَاحِدَة. وَقد أنكر عَلَيْهِ ذَلِك. وَقيل: هَذَا ترك الظَّاهِر، وَإِنَّمَا الجنتان بستانان. وَفِي الْخَبَر الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " جنتان من ذهب آنيتهما وَمَا فيهمَا، وجنتان من فضَّة آنيتهما وَمَا فيهمَا " رَوَاهُ أَبُو مُوسَى.

{ذواتا أفنان (48) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فيهمَا عينان تجريان (50) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فيهمَا من كل فَاكِهَة زوجان (52) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) متكئين على فرش بطائنها من إستبرق}

48

قَوْله تَعَالَى: {ذواتا أفنان} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: ذواتا ألوان من الْفَاكِهَة، كَأَن الأفنان بِمَعْنى الْفُنُون. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الأفنان بِمَعْنى الأغصان، وَهُوَ الْأَظْهر. قَالَ عِكْرِمَة: ظلّ الأغصان على الْحِيطَان. وَأما الأول قَالَه الضَّحَّاك، وَجمع عَطاء بَين الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: على كل غُصْن ألوانه من الْفَوَاكِه.

50

قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا عينان تجريان} فَقَالَ: هما التسنيم والسلسبيل، وَعَن بَعضهم: تجريان بِكُل خير وبركة.

52

قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا من كل فَاكِهَة زوجان} أَي: نَوْعَانِ وصنفان، وَهُوَ الرطب من الْفَوَاكِه وَمَا يشبهها، كالعنب وَالزَّبِيب، وَالرّطب وَالتَّمْر، وَنَحْو ذَلِك. وَعَن ابْن عَبَّاس: لَيْسَ مِمَّا وصف فِي الْجنَّة فِي الدُّنْيَا شَيْء إِلَّا الْأَسْمَاء. كَأَنَّهُ ذهب إِلَى أَن شَيْئا مِمَّا فِي الدُّنْيَا لَا يماثل مَا فِي الْجنَّة.

54

قَوْله تَعَالَى: {متكئين على فرش بطائنها من إستبرق} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: بطائنها أَي: ظواهرها، تَقول الْعَرَب: هَذِه بطن السَّمَاء، وَهَذِه ظهرهَا، لما يرى من السَّمَاء، وَهَذَا القَوْل ذكره الْفراء أَيْضا، وَأما سَائِر أهل التَّفْسِير قَالُوا: إِن المُرَاد من البطائن حَقِيقَة البطانة. والإستبرق: هُوَ الديباج الغليظ، مثل مَا يعلق من الديباج على الْكَعْبَة. وَقيل: إِنَّهَا فارسية معربة من قَوْلهم: إستبر. وَعَن بَعضهم: أَنه مثل الْحَرِير الصيني. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: هَذِه البواطن، فَمَا ظنكم بالظواهر، وَمثله عَن ابْن مَسْعُود. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: ظواهرها نور يتلألأ. وَعَن بَعضهم: ظواهرها مِمَّا قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} .

{وجنى الجنتين دَان (54) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قاصرات الطّرف لم يطمثهن إنس وَلَا جَان (56) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) } وَقَوله: {وجنى الجنتين دَان} أَي: ثمار الجنتين دانية، وَمِنْه قَول الْعَرَب: هَذَا جناي خِيَار فِيهِ، إِذْ كل جَان يَده إِلَى فِيهِ، وَهُوَ يَحْكِي عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ حِين دخل بَيت المَال بِالْكُوفَةِ، وَرَأى مَا فِيهِ من الذَّهَب ولبفضة فَقَالَ: يَا صفراء، وَيَا بَيْضَاء غرا غَيْرِي، ثمَّ قَالَ: هَذَا جناي ... إِلَى آخِره. وَقَوله: {دَان} أَي: قريب المتناول. قَالَ قَتَادَة: لَا يردهُ عَنْهَا بعد وَلَا شوك. وَقَالَ غَيره: يَتَنَاوَلهَا قَائِما وَقَاعِدا ومضطجعا.

56

قَوْله تَعَالَى: {فِيهِنَّ قاصرات الطّرف} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {فيهم} وَإِنَّمَا ذكر الجنتين؟ وَالْجَوَاب: قَالَ بَعضهم: إِن الِاثْنَيْنِ يذكران بِلَفْظ الْجمع، فَيجوز أَن يرد الْكَلَام إِلَيْهِمَا بِلَفْظ الْجمع. وَالأَصَح أَن قَوْله: {فِيهِنَّ} ينْصَرف إِلَى الْفرش، وَمَعْنَاهُ: عَلَيْهِنَّ، مثل قَوْله: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي: على جُذُوع. وَقَوله: {قاصرات الطّرف} أَي: قصرن أطرافهن على أَزوَاجهنَّ لَا يرَوْنَ غَيرهم، وَهَذَا أحسن خصْلَة من خِصَال النِّسَاء. قَالَ ابْن مَسْعُود: لسن بمتبرجات، وَلَا ضماخات، وَلَا دفرات. وَقَالَ بَعضهم: لسن بمتشرغات، وَلَا بمتطلعات، وَلَا صياحات، وَلَا صخابات. وَقَالَ الْحسن: لسن بالطوافات فِي الْأَسْوَاق. وَقَوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان} أَي: لم يمسسهن إنسي وَلَا جني. قَالَ الْفراء: الطمث: هُوَ الْوَطْء بالتدمية، وَهُوَ الافتضاض. قَالَ الفرزدق:

{كأنهن الْيَاقُوت والمرجان (58) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان (60) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) } (رفعن إِلَيّ لم يطمثن فبلي ... وَهن أصح من بيض النعام) وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن المُرَاد من قَوْله: {فِيهِنَّ قاصرات الطّرف} هن الْمُؤْمِنَات من الآدميات. فعلى هَذَا قَالَ بَعضهم: يجوز أَن يطَأ الجني الإنسية، وَاسْتدلَّ بِظَاهِر الْآيَة. وَأما الْأَكْثَرُونَ أَنْكَرُوا هَذَا، وَقَالُوا: معنى الْآيَة: لم يطمثهن، الجنية جني، وَلَا الإنسية إنسي، وَقَوله: {فِيهِنَّ قاصرات الطّرف} يتَنَاوَل الإنسيات والجنيات. فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يَقُولُونَ إِن الْجِنّ يدْخلُونَ الْجنَّة، وَيكون لَهُم أَزوَاج مثل الْإِنْس؟ وَالْجَوَاب: أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: يدْخل الله الْمُؤمنِينَ مِنْهُم الْجنَّة كَمَا يدْخل الْكَافرين مِنْهُم النَّار، وَهُوَ قَول ضَمرَة بن جُنْدُب وَغَيره. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ لَهُم ثَوَاب. قَالَ لَيْث بن أبي سليم: مؤمنو الْجِنّ يحاجزون من النَّار ثمَّ يجْعَلُونَ تُرَابا، وَأما الْكفَّار مِنْهُم يخلدُونَ فِي النَّار. وَأما على الأول إِذا حملنَا الْآيَة على الْحور الْعين لَا يرد شَيْء من هَذِه الأسئلة.

58

قَوْله تَعَالَى: {كأنهن الْيَاقُوت والمرجان} أى فِي صفاء الْيَاقُوت وَبَيَاض المرجان وَقد بَينا أَن المرجان هُوَ اللُّؤْلُؤ الصغار وَقيل الْكِبَار

60

قَوْله تَعَالَى: {هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان} مَعْنَاهُ: هَل جَزَاء الطَّاعَة إِلَّا الثَّوَاب. وَيُقَال: هَل جَزَاء من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَّا الْجنَّة. وَفِي رِوَايَة ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ حاكيا عَن الله تَعَالَى: " جَزَاء مَا أَنْعَمت عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا أَن أدخلته جنتي ". وَقيل: الْآيَة على الْجُمْلَة، وَمَعْنَاهَا: هَل جَزَاء من أحسن إِلَّا أَن يحسن إِلَيْهِ. وَعَن بَعضهم: أَنه يحْتَمل أَن معنى الْآيَة: هَل جَزَاء إِحْسَان الله إِلَيْكُم إِلَّا أَن تحسنوا بِالطَّاعَةِ.

{وَمن دونهمَا جنتان (62) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مدهامتان (64) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فيهمَا عينان نضاختان (66) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان (68) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) }

62

قَوْله تَعَالَى: {وَمن دونهمَا جنتان} أَي: من دون الجنتين جنتان، فَيُقَال: الجنتان، فَيُقَال: الجنتان المذكورتان أَولا للمقربين، والمذكورتان آخرا لأَصْحَاب الْيَمين، وَيُقَال: المذكورتان أَولا للسابقين، والمذكورتان آخرا للتابعين. وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله: {وَمن دونهمَا جنتان} قَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: أَن الجنتين المذكورتين آخرا دون الجنتين المذكورتين أَولا فِي النَّعيم والكرامة. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مَأْخُوذ من الدنو على معنى الْقرب، كَأَن هَاتين الجنتين أقرب إِلَى الْمُؤمن يَعْنِي: إِلَى مَسْكَنه ومنزله من الجنتين الأولتين. فَإِن قَالَ قَائِل: أَي كَرَامَة فِي ذكر الجنتين، وَهنا ذكر جنَّة وَاحِدَة؟ وَالْجَوَاب: أَن التنقل من بُسْتَان إِلَى بُسْتَان من الاستلذاذ والتنعم مَا لَا يخفى، فَذكر الجنتين للزِّيَادَة والكرامة وَالنعْمَة.

64

قَوْله تَعَالَى: {مدهامتان} أَي: خضراوتان من الرّيّ. قَالَ مُجَاهِد: مسودتان من شدَّة الخضرة، وَهَذَا قَول صَحِيح؛ لِأَنَّهُ مَا من أَخْضَر إِلَّا واشتدت خضرته يضْرب إِلَى السوَاد، وَالْعرب كَانَت تسمى قرى الْعرَاق سوادا لشدَّة خضرتها، وَكَثْرَة أشجارها.

66

قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا عينان نضاختان} أَي: فوارتان، والنضخ فَوق النَّضْح وَدون الجري. وَيُقَال: نضاختان بالعنبر والمسك.

68

قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} حُكيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الرُّمَّان لَيْسَ من الْفَاكِهَة، وَكَذَلِكَ الرطب؛ لِأَنَّهُمَا أفردا بِالذكر عَن الْفَاكِهَة، وَذكر الْفراء هَذَا أَيْضا. و [هَذَا] عَن ابْن عَبَّاس قَول غَرِيب، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْجَمِيع فَاكِهَة؛ لِأَن الْفَاكِهَة مَا يتفكه بِهِ، والإفراد بِالذكر للتّنْبِيه على نوع فضل، لَا أَنه لَيْسَ من الْفَاكِهَة، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} وَمثل قَوْله

{فِيهِنَّ خيرات حسان (70) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حور مقصورات فِي الْخيام (72) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان (74) فَبِأَي آلَاء} تَعَالَى: {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} . وَالرُّمَّان نوع فَاكِهَة يمص ويرمى بثفله. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو قَالَ رجل لامْرَأَته: إِن أكلت فَاكِهَة فَأَنت طَالِق، فَأكلت الرُّمَّان أَو الرطب وَقع الطَّلَاق. وَهَذَا قَول أَكثر أهل الْعلم وَهُوَ الْمُخْتَار وَعند ابي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لَا يَقع الطَّلَاق قَالَ سعيد بن جُبَير: نخل الْجنَّة جذوعها من ذهب، وأغلافها من ذهب، وكرانيفها من زمرد، وسعفها كسْوَة أهل الْجنَّة، وَثَمَرهَا كالدلاء، أحلى من كل شَيْء، وألين من كل شَيْء.

70

قَوْله تَعَالَى: {فِيهِنَّ خيرات حسان} قرئَ فِي الشاذ: " خيرات حسان " وهما بِمَعْنى وَاحِد، مثل: هَين وهين، وليل ولين. وَمعنى الْآيَة: خيرات الْأَخْلَاق، حسان الْوُجُوه.

72

قَوْله تَعَالَى: {حور مقصورات فِي الْخيام} أَي: محبوسات، وَلَيْسَ هَذَا الْحَبْس إهانة، إِنَّمَا هُوَ حبس الْكَرَامَة، قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ الْخَيْمَة مجوفة. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: كل خيمة لَهَا أَرْبَعَة أَبْوَاب، يدْخل عَلَيْهِ من كل يَوْم هَدِيَّة جَدِيدَة من الله تَعَالَى. وَعَن ابْن عَبَّاس: الْخَيْمَة فَرسَخ فِي فَرسَخ من درة وَاحِدَة، لَهَا أَرْبَعَة آلَاف مصراع من ذهب. وَقَالَ بَعضهم: الْخَيْمَة بِمَعْنى الْقبَّة، وَهِي قباب الْعَرَب الَّتِي كَانُوا يسكنونها فِي الْبَادِيَة، فَذكر لَهُم مثل مَا كَانُوا يستلذونها ويستطيبونها، وَقد كَانُوا يستطيبون السُّكْنَى فِي الْخيام فِي الْبَوَادِي، وَقد قيل: إِن هَذِه الْخيام خَارج الْجنَّة كالبوادي للحاضرة.

74

وَقَوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان} قد بَينا.

76

قَوْله تَعَالَى: {متكئين على رَفْرَف} قَالَ الْفراء: هُوَ رياض الْجنَّة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة:

{رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) متكئين على رَفْرَف خضر وعبقري حسان (76) فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تبَارك اسْم رَبك ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام (78) } فرش الْجنَّة. وَعَن ابْن مَسْعُود فِي قَوْله: {لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} أَي: رفرفا أَخْضَر قد سد الْأُفق، وَهُوَ الْبسَاط. وعَلى الْجُمْلَة: الرفرف كل فرش يرْتَفع، مَأْخُوذ من الرف، وَهُوَ الْمُرْتَفع فِي الْجِدَار. وَقَوله: {وعبقري حسان} وَقُرِئَ فِي الشاذ: " عباقري حسان " قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: عبقري حسان هُوَ الوسائد. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الطنافس، وَعَن بَعضهم: الزرابي، وعبقري: قَرْيَة بِالْيمن ينسج بهَا الوشي، وهم ينسبون إِلَيْهَا كل شَيْء حسن. وَفِي " كتاب الغريبين ": أَن عبقر قَرْيَة يسكنهَا الْجِنّ، وَالْعرب ينسبون كل شَيْء فائق إِلَيْهَا، قَالَ الشَّاعِر: (بخيل عَلَيْهَا جنَّة عبقرية ... جديرون يَوْمًا أَن ينالوا ويستعلوا) وَقد ذكر بَعضهم أَن العبقري هَاهُنَا: هُوَ الوشي. قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الديباج. وَعَن بَعضهم: هُوَ الديباج الَّذِي عمل فِيهِ بِالذَّهَب. وَأما الْخَبَر الَّذِي رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي عمر: " فَلم أر عبقريا يفري فِرْيَة ". مَعْنَاهُ: فَلم أر سيد قوم وجليلهم يعْمل عمله.

78

قَوْله تَعَالَى: {تبَارك اسْم رَبك ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام} وفرئ: " ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام " مَعْنَاهُ: ذُو العظمة والمهابة. وَيُقَال: ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام أَي: يجل الْمُؤمنِينَ ويكرمهم، وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَنَّهُ ينْصَرف إِلَى عَظمَة الله وعلو شَأْنه.

وَقَوله: {ذُو الْجلَال} ينْصَرف إِلَى الِاسْم، وَقَوله: {ذِي الْجلَال} ينْصَرف إِلَى الرب، وَالِاسْم والمسماة وَاحِد عِنْد أَكثر أهل السّنة. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلظُّوا بيا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام " أَي: الزموا وداموا عَلَيْهِ. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى تَكْرِير قَوْله: {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} فِي هَذِه السُّورَة؟ وَكَانَ يُوقف على الْمَعْنى بالمرة الْوَاحِدَة؟ وَالْجَوَاب: أَن الْقُرْآن نزل على لِسَان الْعَرَب على مَا كَانُوا يعتادونه ويتعارفونه فِي كَلَامهم، وَمن عَادَتهم أَنهم إِذا ذكرُوا النعم على إِنْسَان، يكررون التَّنْبِيه على الشُّكْر أَو ذكر التوبيخ عِنْد عدم الشُّكْر، وَالله تَعَالَى عد النعم فِي هَذِه السُّورَة، وَذكر عِنْد كل نعْمَة هَذِه الْكَلِمَة؛ لِئَلَّا ينسوا شكرها، ويعرفوا إِحْسَان الله عَلَيْهِم، ويجددوا الْحَمد عَلَيْهَا. تمت السُّورَة.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِذا وَقعت الْوَاقِعَة (1) لَيْسَ لوقعتها كَاذِبَة (2) خافضة رَافِعَة (3) إِذا رجت} تَفْسِير سُورَة الْوَاقِعَة وَهِي مَكِّيَّة، وَعَن مَسْرُوق أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يعلم نبأ الْأَوَّلين والآخرين، ونبأ أهل الْجنَّة وَأهل النَّار، ونبأ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فليقرأ سُورَة الْوَاقِعَة. وَالله أعلم.

الواقعة

قَوْله تَعَالَى: {إِذا وَقعت الْوَاقِعَة} مَعْنَاهُ: إِذا كَانَت الْقِيَامَة، وَهَذَا قَول عَامَّة الْمُفَسّرين. وَسميت الْقِيَامَة وَاقعَة؛ لِأَنَّهُ لَا بُد من وُقُوعهَا. وَالْعرب تسمي كل متوقع لَا بُد مِنْهُ وَاقعا، وَقَالَ الضَّحَّاك: الْوَاقِعَة هَاهُنَا هِيَ الصَّيْحَة لمَوْت الْخَلَائق. وَقيل: سميت الْقِيَامَة وَاقعَة؛ لِكَثْرَة مَا يَقع فِيهَا من الشدَّة. وَعَن بَعضهم: لِأَنَّهَا تقع على غَفلَة من النَّاس. فَإِن قيل: أَيْن جَوَاب قَوْله: {إِذا} ؟ وَلَا بُد لهَذِهِ الْكَلِمَة من جَوَاب، وَالْجَوَاب: أَن جَوَابه قَوْله: {فأصحاب الميمنة} .

2

وَقَوله: {لَيْسَ لوقعتها كَاذِبَة} قَالَ قَتَادَة: لَيْسَ مثنوية وَلَا رد وَلَا رَجْعَة. وَيُقَال مَعْنَاهُ: هِيَ صدق وَلَا كذب فِيهَا. وَقيل: لَيْسَ لوقوعها من نفس كَاذِبَة، حُكيَ هَذَا عَن سُفْيَان، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ عِنْد وُقُوعهَا مكذب بهَا.

3

وَقَوله: {خافضة رَافِعَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: تخْفض أَقْوَامًا، وترفع آخَرين، وَعنهُ فِي رِوَايَة أُخْرَى: تخْفض أَقْوَامًا ارتفعوا، وترفع أَقْوَامًا خفضوا فِي الدُّنْيَا. وَعَن السدى: ترفع أَقْوَامًا فِي الْجنَّة، وتخفض أَقْوَامًا فِي النَّار. وَمعنى هَذَا: تخْفض أهل الْمعْصِيَة بِإِيجَاب النَّار لَهُم، وترفع أهل الطَّاعَة بِإِيجَاب الْجنَّة لَهُم. قَالَ ابْن جريج: خافضة رَافِعَة بِالْحَسَنَاتِ والسيئات.

4

قَوْله تَعَالَى: {إِذا رجت الأَرْض رجا} قَالَ الْمبرد: الرجة حَرَكَة يسمع مِنْهَا صَوت،

{الأَرْض رجا (4) وبست الْجبَال بسا (5) فَكَانَت هباء منبثا (6) وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة (7) فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة (8) وَأَصْحَاب المشأمة مَا} وَهِي أَكثر من الصَّيْحَة. فعلى هَذَا معنى الاية: حركت الأَرْض بِمن فِيهَا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} .

5

وَقَوله: {وبست الْجبَال بسا} قَالَ ابْن عَبَّاس: فتتت فتا. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: قلعت من أَصْلهَا. وَقَالَ السدى: كسرت كسرا. قَالَ مُجَاهِد: بست كَمَا يبس السويق أَي: دقَّتْ، والبسيسة هِيَ الدَّقِيق، والسويق يلت ويتخذ مِنْهُ الزَّاد. وَقَالَ قَتَادَة: بست أَي: جعلت كبيس الشَّجَرَة تَذْرُوهُ الرِّيَاح، وَقَالَ الشَّاعِر فِي البس بِمَعْنى اللت: (لَا تخبزا خبْزًا وبسا بسا ... أوردهُ النّحاس. وَقَالَ بَعضهم: بست أَي: سيرت، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " يخرج من الْمَدِينَة قوم يبسون وَالْمَدينَة خير لَهُم " أَي: يَسِيرُونَ.

6

وَقَوله: {فَكَانَت هباء منبثا} قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ هُوَ مَا سَطَعَ من سنابك الْخَيل من المرضح وَالْغُبَار، ثمَّ يذهب. وَعَن بَعضهم: إِن الهباء المنبث هُوَ الَّذِي يرى فِي الكوة من ضوء الشَّمْس كالعمود الْمَمْدُود. وَالأَصَح هُوَ الأول هُوَ الهباء المنبث. وَعَن بَعضهم: أَن الهباء المنبث هُوَ الرماد.

7

وَقَوله: {وكنتم أَزْوَاجًا ثَلَاثَة} أَي: أصنافا ثَلَاثَة.

8

قَوْله تَعَالَى: {فأصحاب الميمنة مَا أَصْحَاب الميمنة وَأَصْحَاب المشأمة مَا أَصْحَاب المشأمة} قَالَ يزِيد بن أسلم: هم الَّذين أخذُوا من الشق الْأَيْمن من آدم عَلَيْهِ السَّلَام،

{أَصْحَاب المشأمة (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ المقربون (11) فِي} وَأَصْحَاب المشأمة هم الَّذين أخذُوا من الشق الْأَيْسَر. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: أَصْحَاب الميمنة هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بإيمالهم. وَأَصْحَاب المشأمة هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بشمالهم وَقَالَ السدى: أَصْحَاب الميمنة: جُمْهُور أهل الْجنَّة، وَأَصْحَاب المشأمة: جُمْهُور أهل النَّار. وَيُقَال: أَصْحَاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم، وَأَصْحَاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم. وَالْعرب تسمي الْجَانِب الْأَيْسَر الْجَانِب الأشأم، وتسمي الْيَسَار الشؤمى، وَالْيَمِين الْيُمْنَى. وَقَوله: {مَا أَصْحَاب الميمنة} و {مَا أَصْحَاب المشأمة} هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب للتعجيب، وَهُوَ فِي كَلَام الله مَعَ عباده للتّنْبِيه على عظم شَأْن الْأَمر.

10

وَقَوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قَالَ كَعْب: هم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام. وَعَن بَعضهم: هُوَ كل من صلى إِلَى الْقبْلَتَيْنِ. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: مُؤمن آل فِرْعَوْن سبق إِلَى مُوسَى، وَمُؤمن آل ياسين سبق إِلَى عِيسَى، وَعلي سبق إِلَى مُحَمَّد بِالْإِيمَان، أوردهُ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس. وَيُقَال: السَّابِقُونَ هم المبادرون إِلَى الطَّاعَات. وَقَوله: {السَّابِقُونَ} تَقْدِير الْآيَة: وَالسَّابِقُونَ إِلَى الْخيرَات والطاعات هم السَّابِقُونَ فِي الدَّرَجَات. وَقيل: هُوَ على طَرِيق التَّأْكِيد.

11

وَقَوله: {أُولَئِكَ المقربون} أَي: المقربون من الْمنزلَة والكرامة والوصول إِلَيّ رضَا الله تَعَالَى. وَذكر فِي مَوضِع آخر أصنافا ثَلَاثَة فَقَالَ: {ثمَّ أَوْرَثنَا الْكتاب الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات} فَذهب بعض أهل التَّفْسِير إِلَى أَن الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي سُورَة الْوَاقِعَة [كلهم] من الْمُؤمنِينَ مثل الْأَصْنَاف الْمَذْكُورين فِي تِلْكَ السُّورَة، وَأَن أَصْحَاب المشأمة هم

{جنَّات النَّعيم (12) ثلة من الْأَوَّلين (13) وَقَلِيل من الآخرين (14) } الظَّالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ، وَأَصْحَاب الميمنة هم المقتصدون، وَالسَّابِقُونَ هم السَّابِقُونَ بالخيرات. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْأَصَح، وَأَن أَصْحَاب المشأمة هم الْكفَّار؛ وَلِأَن الله تَعَالَى قَالَ بعده: {وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال فِي سموم وحميم} ووصفهم بالْكفْر على مَا سَيَأْتِي.

12

وَقَوله: {فِي جنَّات النَّعيم} ذكر النقاش فِي تَفْسِيره عَن النَّبِي فِي وصف جنَّة النَّعيم: " أَن لبنة مِنْهَا فضَّة، ولبنة ذهب، وطينها الْمسك، وترابها الزَّعْفَرَان، وحصباءها الدّرّ والياقوت ".

13

قَوْله: {ثلة من الْأَوَّلين} أَي: جمَاعَة من الْأَوَّلين، وَلَفظ الثلَّة مَأْخُوذ من الثل وَهُوَ الْقطع.

14

وَقَوله: {وَقَلِيل من الآخرين} اخْتلف أهل التَّفْسِير فِيهِ على الْقَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من الْأَوَّلين هم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين قبل نَبينَا مُحَمَّد. وَقَوله: {وَقَلِيل من الآخرين} هم من أمة مُحَمَّد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُمَا جَمِيعًا من هَذِه الْأمة، وَقد رُوِيَ هَذَا فِي خبر مَرْفُوع، وَهُوَ قَول الْحسن وَابْن سِيرِين. فَإِن قيل على القَوْل الأول: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَأَتْبَاع الرَّسُول من الْمُؤمنِينَ أَكثر من أَتبَاع الْأَنْبِيَاء؟ وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد من الْأَوَّلين هُوَ من رأى جمع الْأَنْبِيَاء وآمن بهم، وَمن الآخرين من رأى مُحَمَّدًا وآمن بِهِ، وعَلى الْقطع

{على سرر موضونة (15) } يعلم أَن أُولَئِكَ مِمَّن رأى نَبينَا وآمن بِهِ، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام: {وَأَرْسَلْنَا إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} هَذَا فِي نَبِي وَاحِد، فَكيف فِي جَمِيع الْأَنْبِيَاء؟ وَإِنَّمَا كثرت هَذَا الْأمة بعد وَفَاة الرَّسُول، وَقد رُوِيَ " أَنه لما نزلت هَذَا الْآيَة حزن أَصْحَاب رَسُول الله حزنا شَدِيدا لقَوْله: {وَقَلِيل من الآخرين} فَقَالَ النَّبِي: " إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا ربع أهل الْجنَّة، بل ثلث أهل الْجنَّة، بل نصف أهل الْجنَّة، وتقاسمونهم فِي النّصْف الثَّانِي ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أهل الْجنَّة مائَة وَعِشْرُونَ صفا، ثَمَانُون من هَذِه الْأمة ".

15

قَوْله تَعَالَى: {على سرر} فالسرر جمع سَرِير. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن ارتفاعه سَبْعُونَ ذِرَاعا، وَقيل: أَكثر من ذَلِك، وَالله أعلم. وَقَوله: {موضونة} أَي: مرمولة بقضبان الذَّهَب. وَقيل: مشبكة منسوجة بالدر والياقوت. والوضين فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الحزام الَّذِي يشد بِهِ بطن الدَّابَّة، سمي وضينا لنسجه وإدخاله بعضه فِي بعض، قَالَ الشَّاعِر: (إِلَيْك تعدو قلقا وضينها ... مُعْتَرضًا فِي بَطنهَا جَنِينهَا) (مُخَالفا دين النَّصَارَى دينهَا ...

{متكئين عَلَيْهَا مُتَقَابلين (16) يطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معِين (18) لَا يصدعون عَنْهَا} وَقَالَ آخر: (وَمن نسج دَاوُد موضونة ... تساق مَعَ الْحَيّ عيرًا فعيرا) والسرير المرمول أوطأ من السرير الَّذِي هُوَ غير مرمول. وَقيل: موضونة أَي: مصفوفة.

16

وَقَوله: {متكئين عَلَيْهَا} الاتكاء هُوَ الِاسْتِنَاد على طَرِيق التنعم. وَقَوله: {عَلَيْهَا مُتَقَابلين} هُوَ مثل قَوْله: {إخْوَانًا على سرر مُتَقَابلين} أَي: لَا ينظر بَعضهم إِلَى قفا بعض، ووجوههم إِلَى وُجُوه إخْوَانهمْ.

17

قَوْله تَعَالَى: {يطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون} أَي: غلْمَان. وَقَوله: {مخلدون} أَي: لَا يموتون. وَقيل: مخلدون مسرورون. وَقيل: مقرطون، قَالَ الشَّاعِر: (ومخلدات باللجين كَأَنَّمَا ... أعجازهن [أقاوز] الكثبان)

18

وَقَوله: {بأكواب} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الأكواب هِيَ الْأَوَانِي المستديرة الرُّءُوس، وَلَيْسَت لَهَا خراطيم، والأباريق الَّتِي لَهَا خراطيم. وَفِي الْخَبَر فِي وصف الْكَوْثَر أَكَاوِيبه عدد نُجُوم السَّمَاء. وَقَوله: {وكأس من معِين} فِي التَّفْسِير: أَن الْعَرَب لَا تسمى الْإِنَاء كأسا حَتَّى يكون فِيهِ الْخمر. قَوْله تَعَالَى: {معِين} أَي: خمر جَار. وَيُقَال: إِن خمر أهل الْجنَّة تكون بَيْضَاء، وَقيل: حَمْرَاء، وَالله أعلم.

{وَلَا ينزفون (19) وَفَاكِهَة مِمَّا يتخيرون (20) وَلحم طير مِمَّا يشتهون (21) وحور عين (22) كأمثال اللُّؤْلُؤ الْمكنون (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (24) لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما (25) إِلَّا قَلِيلا سَلاما سَلاما (26) }

19

وَقَوله: {لَا يصدعون عَنْهَا} أَي: لَا يلحقهم من شربهَا صداع مثل مَا يُصِيب شَارِب الْخمر فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَلَا ينزفون} أَي: وَلَا تذْهب عُقُولهمْ. وَقيل: لَا يسكرون. وَقيل: لَا تَتَغَيَّر ألوانهم، وَقيل: لَا يقيئون مثل مَا يقئ شَارِب الْخمر فِي الدُّنْيَا. وَفِي اللُّغَة يُسمى ذَاهِب اللَّوْن منزوفا، وذاهب الْعقل نزيفا، وَكَذَلِكَ العطشان، قَالَ الشَّاعِر: (فلثمت فاها آخِذا بقرونها ... شرب النزيف بِبرد مَاء الحشرج) وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَلَا ينزفون " بِكَسْر الزَّاي، وَمَعْنَاهُ: لَا تفنى خمرهم.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَفَاكِهَة مِمَّا يتخيرون} أَي: يختارون.

21

وَقَوله تَعَالَى: {وَلحم طير مِمَّا يشتهون} أَي: يُرِيدُونَ.

22

وَقَوله: {وحور عين} بِالرَّفْع فيهمَا، وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ فيهمَا، وَقُرِئَ بِالْفَتْح فيهمَا فِي الشاذ، فعلى الرّفْع مَعْنَاهُ: وَلَهُم حور عين، وعَلى الْكسر مَعْنَاهُ: وَيُطَاف عَلَيْهِم بحور عين، وعَلى النصب مَعْنَاهُ: ويعطون حورا عينا. وَالْمَشْهُور بِالرَّفْع والخفض، وَسميت الْحور حورا؛ لبياضهن وَشدَّة سَواد أعينهن، وَقيل: سمين حورا؛ لِأَن الطّرف يحار فِيهِنَّ. وَقَوله: {عين} أَي: حسان الْأَعْين، وَهُوَ مَا ذكرنَا من بَيَاض الْبشرَة وَسَوَاد الحدقة.

23

وَقَوله: {كأمثال اللُّؤْلُؤ الْمكنون} أَي: اللُّؤْلُؤ الْمكنون فِي أصدافه لم تنله يَد.

24

وَقَوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: ثَوابًا لَهُم لعملهم.

25

قَوْله تَعَالَى: {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما} أَي: كلَاما بَاطِلا، وكلاما يَأْثَم بِهِ قَائِله، واللغو كل مَا يلغى.

26

وَقَوله: {إِلَّا قَلِيلا سَلاما سَلاما} مَعْنَاهُ: إِلَّا قَوْلهم السَّلَام بعد السَّلَام، والتحية بعد {وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين (27) فِي سدر مخضود (28) وطلح منضود التَّحِيَّة. وَقد قَالُوا: إِن الِاسْتِثْنَاء هَاهُنَا من غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَهُوَ مُنْقَطع، وَهُوَ بِمَعْنى لَكِن. وَقيل: إِنَّه من جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ؛ لِأَن اللَّغْو كَلَام مسموع، وَالسَّمَاع كَلَام مسموع، وَاخْتلفُوا فِي نصب قَوْله: {سَلاما} قَالَ بَعضهم: انتصب لِأَن مَعْنَاهُ: سلمك الله سَلاما أَي: يَقُول بَعضهم لبَعض، وَمِنْهُم من قَالَ: انتصب تبعا لقَوْله: {قيلا} لِأَن سَلاما هُوَ الْفِعْل الْمَذْكُور.

27

وَقَوله تَعَالَى: {وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين} قد بَينا، وَعَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ: لَهُم منزلَة دون منزلَة المقربين. وروى جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده: أَنهم الَّذين خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا ثمَّ تَابُوا. وَذكر الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى مسح صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى فاستخرج مِنْهَا ذُرِّيَّة شبه الذَّر بيضًا؛ وَقَالَ لَهُم: ادخُلُوا الْجنَّة برحمتي، ثمَّ مسح صفحة ظَهره اليسى واستخرج مِنْهَا ذُرِّيَّة كالحمم سَوْدَاء، وَقَالَ لَهُم: ادخُلُوا النَّار وَلَا أُبَالِي. وَفِي رِوَايَة: أَخذ بِيَمِينِهِ كل طيب، وَأخذ بِشمَالِهِ كل خَبِيث. وَفِي الصَّحِيح "أَن كلتا يَدَيْهِ يَمِين". فعلى هَذَا معنى قَوْله: {وَأَصْحَاب الْيَمين} هم الَّذين أخذُوا من صفحة ظهر آدم الْيُمْنَى.

28

وَقَوله: {فِي سدر مخضود} أَي: قد قطع شوكه وَنزع. والسدر: شجر النبق، قَالَ السّديّ: ثَمَرَة أحلى من الْعَسَل. وَقيل: مخضود أَي: موقر حملا. وَيُقَال: لَا عجم فِي ثمره. وَفِي اللُّغَة الخضد هُوَ الْقطع. قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صفة مَكَّة: "لَا يخضد شَجَرهَا" أَي: لَا يقطع.

29

وَقَوله: {وطلح منضود} قَرَأَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: "وطلع منضود" وَهُوَ مثل قَوْله

((29} وظل مَمْدُود (30) وَمَاء مسكوب (31) وَفَاكِهَة كَثِيرَة (32) لَا مَقْطُوعَة وَلَا) فِي مَوضِع آخر: {لَهَا طلع نضيد} وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَغَيرهم: هُوَ الموز. قَوْله: {منضود} أَي: متراكم بعضه على بعض، وَذكر النّحاس أَن الْعَرَب تَقول: عَسى يَا فلَان تطلح، أَي: بِنِعْمَة، قَالَ الشَّاعِر: (كم رَأينَا من أنَاس هَلَكُوا ... ورأينا الْمَرْء عمرا بطلح) أَي: بِنِعْمَة. وَيُقَال: إِن الطلح هَاهُنَا هُوَ شجر العضاه، وَهُوَ أَكثر شجر الْعَرَب، وَله منظر حسن. وَرُوِيَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي الله عَنْهُم لما ذَهَبُوا إِلَى الطَّائِف أعجبهم طلح وَج، فَذكر الله تَعَالَى أَن لَهُم فِي الْجنَّة طلحا. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يكون لَهُم فِي الْجنَّة شَجَرَة شوك؟ : قُلْنَا: لَا يكون ثمَّ شوك، إِلَّا أَنه شجر يشبه الطلح فِي الْكبر وَحسن المنظر، وَيجوز أَن يكون فِي الْجنَّة شَجرا؛ لأكل الثَّمر مِنْهُ، وَشَجر يحسن النّظر إِلَيْهِ، وَالأَصَح أَنه الموز. وَقَوله تَعَالَى: {منضود} قَالُوا مَعْنَاهُ: أَن ثمره وورقه من أَوله إِلَى آخِره لَيست لَهَا سَاق بارزة.

30

وَقَوله: {وظل مَمْدُود} قَالَ الْحسن: لَا يَنْقَطِع. وَعَن يحيى بن أبي كثير: أَن سَاعَات الْجنَّة تشبه الْغَدَاة الْبَارِدَة فِي الصَّيف. وَيُقَال: إِنَّهَا مثل سَجْسَج لَيْسَ فِيهِ حر وَلَا برد. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " إِن فِي الْجنَّة شَجَرَة يسير الرَّاكِب فِي ظلها مائَة عَام لَا يقطعهُ، واقرءوا إِن شِئْتُم: {وظل مَمْدُود} ".

31

وَقَوله: {وَمَاء مسكوب} أَي: مصبوب، وَمَعْنَاهُ: أَنه ينصب إِلَيْهِم من الْعُلُوّ. قَالَ الْحسن: مسكوب أَي: جَار لَا يَنْقَطِع أبدا.

32

وَقَوله تَعَالَى: {وَفَاكِهَة كَثِيرَة لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة} قَالَ الزّجاج: لَا مَقْطُوعَة

{مَمْنُوعَة (33) وفرش مَرْفُوعَة (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء (35) } أَي: لَا يكون فِي حِين دون حِين، وَلَا مَمْنُوعَة أَي: لَا يخْطر عَلَيْهَا كَمَا يخْطر على الْبَسَاتِين فِي الدُّنْيَا، وَقيل: لَا مَقْطُوعَة: لَا يَنْقَطِع أبدا، وَالْمعْنَى على هَذَا أَنَّهَا إِذا جنيت ظهر مَكَانهَا فِي الْحَال مثلهَا أَو خير مِنْهَا. وَقَوله: {وَلَا مَمْنُوعَة} أَي: لَا يمْنَع الْأَخْذ مِنْهَا، وَقيل: لَا يمْنَع الْأَخْذ بعد وَلَا شوك. وَعَن ابْن شَوْذَب قَالَ: رَأَيْت الْحجَّاج بن فرافصة وَاقِفًا فِي سوق الْفَاكِهَة بِالْبَصْرَةِ، فَقلت: مَا تصنع هَاهُنَا؟ فَقَالَ: أنظر إِلَى هَذِه المقطوعة الممنوعة.

34

وَقَوله تَعَالَى: {وفرش مَرْفُوعَة} أَي: عالية، وَيُقَال: بَعْضهَا فَوق بعض. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " ارتفاعها مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، ومسيرة مَا بَينهمَا خَمْسمِائَة عَام ". وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كِتَابه، وَقَالَ: هُوَ غَرِيب. وَذهب جمَاعَة من التَّابِعين أَن الْفرش المرفوعة هَاهُنَا هِيَ النِّسَاء، وَالْعرب تسمي الْمَرْأَة فرَاش الرجل ولحافه. وسماهن مَرْفُوعَة؛ لِأَنَّهُنَّ رفعن بِالْفَضْلِ وَالْجمال والكمال. وَالْعرب تسمي كل فَاضل رفيعا. وَيُقَال: سماهن فرشا؛ لِأَنَّهُنَّ على الْفرش، فكنى بالفرش عَنْهُن.

35

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إنْشَاء} فِيهِ قَولَانِ: لِأَنَّهُنَّ الْحور، وَمعنى الْإِنْشَاء فِيهِنَّ أَن الله تَعَالَى يَجْعَل الصبايا وَالْعجز على سنّ وَاحِدَة فِي الصُّورَة والشباب. وَعَن بعض التَّابِعين أَنه قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: هن الْعَجز الرمص العمش. وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " تفضل الْمَرْأَة الصَّالِحَة فِي الْحسن على الْحور {فجعلناهن أَبْكَارًا (36) عربا أَتْرَابًا (37) لأَصْحَاب الْيَمين (38) ثلة من الْأَوَّلين (39) وثلة من الآخرين (40) } سبعين ضعفا" ذكره النقاش، وَهُوَ غَرِيب جدا.

36

وَقَوله: {فجعلناهن أَبْكَارًا} أَي: عذارى. قَالَ الضَّحَّاك: أهل الْجنَّة لَا يأْتونَ النِّسَاء من مرّة إِلَّا وَجَدُوهُنَّ عذارى.

37

وَقَوله تَعَالَى: {عربا} أَي: محببات إِلَى أَزوَاجهنَّ. وَعَن ابْن عَبَّاس: عواشق لِأَزْوَاجِهِنَّ. وَعَن بَعضهم: غنجات. وَعَن بَعضهم شكلات. عَن بَعضهم: مغتلمات. تَقول الْعَرَب للناقة إِذا كَانَت تشْتَهى الْفَحْل: عرُوبَة. وَعَن زيد بن أسلم حَسَنَات الْكَلَام. وَعَن بَعضهم: عربا أَي: يتكلمن بِالْعَرَبِيَّةِ. وَالْمَعْرُوف الأول [و] يُمكن الْجمع بَين هَذِه الْأَقْوَال كلهَا، فَكَأَنَّهَا تتحبب إِلَى زوجهات بغنج وشكل، وَكَلَام حسن، وميل شَدِيد، وبلفظ عَرَبِيّ. وَقَوله: {أَتْرَابًا} أَي: لدات، كأنهن على سنّ وَاحِد وميلاد وَاحِد. وَيُقَال: أَتْرَابًا: أشكالا لِأَزْوَاجِهِنَّ فِي الْجِسْم والمقدار، قَالَ الشَّاعِر: (أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بَين جنس كواعب أتراب)

38

وَقَوله {لأَصْحَاب الْيَمين} أَي: هَذَا الَّذِي قُلْنَا لأَصْحَاب الْيَمين.

39

وَقَوله تَعَالَى: {ثلة من الْأَوَّلين وثلة من الآخرين} أَي: جمَاعَة من الْأَوَّلين، وهم الَّذين اتبعُوا الْأَنْبِيَاء والمتقدمين - صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ - وَجَمَاعَة من الآخرين، وهم الَّذين اتبعُوا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والثلة: الْقطعَة. وَقد روى أبان بن أبي عَيَّاش عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ هَذِه

{وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال (41) فِي سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لَا بَارِد وَلَا كريم (44) إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك مترفين (45) } الْآيَة: {ثلة من الْأَوَّلين وثلة من الآخرين} وَقَالَ: " الثُّلَّتَانِ من أمتِي ". فعلى هَذَا الثلَّة الأولى هم الَّذين عاينوا النَّبِي وآمنوا بِهِ، والثلة الثَّانِيَة هم الَّذين آمنُوا بِهِ وَلم يروه. فَإِن قيل: كَيفَ وَجه الْجمع بَين هَذِه الْآيَة وَبَين الْآيَة الَّتِي تقدّمت، وَهِي قَوْله: {وَقَلِيل من الآخرين} وَالْجَوَاب: قد روينَا أَن تِلْكَ الْآيَة لما نزلت حزن أَصْحَاب رَسُول الله، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكرنَا معنى الْقَلِيل، وهم من عاين النَّبِي وَاتبعهُ، فعلى هَذَا معنى الثلَّة هَاهُنَا جَمِيع من اتبعهُ، عاينه أَو لم يعاينه.

41

قَوْله تَعَالَى: {وَأَصْحَاب الشمَال مَا أَصْحَاب الشمَال} فقد ذكرنَا مَعْنَاهُ.

42

قَوْله: {فِي سموم} هِيَ الرّيح الحارة. وَقيل: إِنَّه اسْم جَهَنَّم. وَقَوله: {وحميم} أَي: المَاء الَّذِي انْتهى حره. وَفِي التَّفْسِير: أَنه يخرج من صَخْرَة فِي جَهَنَّم. وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود: أَن أَنهَار الْجنَّة تخرج من جبل من الكافور فِي الْجنَّة.

43

وَقَوله: {وظل من يحموم} أَي: دُخان أسود يغشي أهل النَّار، ويصيبهم من حره مَا يغلي دماغهم. وَعَن بَعضهم: أَن اليحموم اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم. وَعَن (ابْن البريدة) : أَن اليحموم جبل فِي النَّار يظل أهل النَّار مُدَّة أَن يستظلوا بظله، فَيُؤذن لَهُم بعد مُدَّة، فيصيبهم من حره مَا يستغيثون مِنْهُ، وَيكون ذَلِك أَشد عَلَيْهِم مِمَّا كَانُوا فِيهِ.

44

وَقَوله: {لَا بَارِد وَلَا كريم} أَي: لَا بَارِد الْمدْخل، وَلَا كريم المنظر. قَالَ الْفراء: الْعَرَب تجْعَل الْكَرِيم تَابعا فِي كل مَا يبْقى عَنهُ، وصف يُرَاد بِهِ الذَّم. يَقُول: هَذِه الدَّار لَيست بواسعة وَلَا كَرِيمَة، وَهَذَا الْفرس لَيْسَ بجواد وَلَا كريم.

{وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون (47) أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ (48) قل إِن الْأَوَّلين والآخرين (49) لمجموعون إِلَى مِيقَات يَوْم مَعْلُوم (50) ثمَّ إِنَّكُم أَيهَا الضالون المكذبون (51) لآكلون من شجر من زقوم (52) فمالئون مِنْهَا الْبُطُون (53) فشاربون عَلَيْهِ من}

45

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك مترفين} أَي: منعمين، والترفة: النِّعْمَة. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن عباد الله لَيْسُوا بالمتنعمين. وَالْمعْنَى: التَّوَسُّع فِي الْحرم وَمَا لَا يحل؛ لِأَن التَّوَسُّع فِي الْحَلَال والتنعم مِنْهُ جَائِز، وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ عُقُوبَة.

46

وَقَوله: {وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: الشّرك. وَيُقَال: هُوَ الْإِثْم الْعَظِيم. وَيُقَال للصَّبِيّ إِذا بلغ: قد بلغ الْحِنْث أَي: بلغ زمَان الْإِثْم. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: الْحِنْث الْعَظِيم: الْيَمين الْفَاجِرَة. وَعَن الشّعبِيّ: هُوَ الْيَمين الْغمُوس. وَقَوله تَعَالَى: {يصرون} أَي: يُقِيمُونَ عَلَيْهِ إِلَى أَن مَاتُوا.

47

وَقَوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أئذا متْنا وَكُنَّا تُرَابا وعظاما أئنا لمبعوثون} أَي: بعث الْقِيَامَة، قَالُوا ذَلِك على طَرِيق الْإِنْكَار.

48

وَقَوله: {أَو آبَاؤُنَا الْأَولونَ} أَي: أَو يبْعَث آبَاؤُنَا الْأَولونَ بعد أَن صَارُوا تُرَابا ورمما.

49

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن الْأَوَّلين والآخرين لمجموعون إِلَى مِيقَات يَوْم مَعْلُوم} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.

51

وَقَوله: {ثمَّ إِنَّكُم أَيهَا الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم} والزقوم كل طَعَام يصعب على الْإِنْسَان أكله ويشق عَلَيْهِم، وَقد بَينا مَعْنَاهُ من قبل.

53

وَقَوله: {فمالئون مِنْهَا الْبُطُون} قَالَ أهل اللُّغَة: الشّجر يؤنث وَيذكر، وَذكره على بن عِيسَى.

{الْحَمِيم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هَذَا نزلهم يَوْم الدّين (56) نَحن خَلَقْنَاكُمْ فلولا تصدقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نَحن الْخَالِقُونَ (59) نَحن قَدرنَا بَيْنكُم الْمَوْت}

54

وَقَوله: {فشاربون عَلَيْهِ من الْحَمِيم} قَالَ ذَلِك لِأَن من أكل شَيْئا و [وغص] مِنْهُ عَطش وَشرب.

55

وَقَوله: {فشاربون شرب الهيم} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْإِبِل العطاش. وَعند أهل اللُّغَة أَن الهيم دَاء يُصِيب الْإِبِل، فتعطش، وَلَا تروى أبدا حَتَّى لَا تزَال تشرب فتهلك. وَيُقَال: شرب الهيم: الرمل كلما يصب عَلَيْهِ المَاء لم يظْهر عَلَيْهِ ويشربه.

56

وَقَوله: {هَذَا نزلهم يَوْم الدّين} أَي: رزقهم وعطاؤهم. فَإِن قيل: النزل إِنَّمَا يسْتَعْمل فِي الْإِكْرَام وَالْإِحْسَان، وَالْجَوَاب: أَنه لما جعل هَذَا فِي مَوضِع النزل لأهل الْجنَّة سَمَّاهُ نزلا، وَهُوَ كَمَا أَنه سمى عقوبتهم ثَوابًا، ووعيدهم بِشَارَة، وَالْمعْنَى فِيهِ مَا بَينا.

57

وَقَوله: {نَحن خَلَقْنَاكُمْ فلولا تصدقُونَ} أَي: هلا تصدقُونَ مَعَ ظُهُور هَذِه الدَّلَائِل أَي: صدقُوا.

58

قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون} الإمناء: إِلْقَاء المنى.

59

وَقَوله: {أأنتم تخلقونه} أَي: تخلقون مِنْهُ الْإِنْسَان. وَقَوله: {أم نَحن الْخَالِقُونَ} أَي: بل نَحن الْخَالِقُونَ. قَالَ الْأَزْهَرِي فِي هَذِه الْآيَة: إِن الله تَعَالَى احْتج عَلَيْهِم بأبلغ دَلِيل فِي الْبَعْث والإحياء بعد الْمَوْت فِي هَذِه الْآيَة، وَذَلِكَ لِأَن المنى الَّذِي يسْقط من الْإِنْسَان ميت، ثمَّ يخلق الله مِنْهُ شخصا حَيا، وَقد كَانُوا مقرين أَن الله خلقهمْ من النطف، وَكَانُوا منكرين للإحياء بعد الْمَوْت، فألزمهم أَنهم لما أقرُّوا بِخلق حَيّ من نُطْفَة ميتَة يلْزمهُم أَن يقرُّوا بِإِعَادَة الْحَيَاة فِي ميت. وَمعنى الْآيَة: كَمَا أقررتم بذلك فأقروا بِهَذَا.

{وَمَا نَحن بمسبوقين (60) على أَن نبدل أمثالكم وننشئكم فِي مَا لَا تعلمُونَ (61) وَلَقَد علمْتُم النشأة الأولى فلولا تذكرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ (63) أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون (64) لَو نشَاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إِنَّا}

60

قَوْله تَعَالَى: {نَحن قَدرنَا بَيْنكُم الْمَوْت} يَعْنِي: إِنَّا نميتكم أَي: لَو كُنَّا نعجز عَن إحيائكم بعد الْمَوْت لعجزنا عَن إماتتكم بِإِخْرَاج أَنفسكُم. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا نَحن بمسبوقين} أَي: بمغلوبين. قَالَ الْفراء مَعْنَاهُ: إِذا أردنَا أَن نعيدكم لم يسبقنا سَابق، وَلم يفتنا شَيْء. وَيُقَال: لَو أَرَادَ غَيرنَا أَن يفعل مثل فعلنَا لعجز عَنهُ، تَقول الْعَرَب: مَا أسبق فِي هَذَا الْفِعْل أَي: لَا يفعل مثل فعلي أحد.

61

وَقَوله: {على أَن نبدل أمثالكم} أَي: لَو شِئْنَا أَن نميتكم ونخلق أمثالكم لقدرنا عَلَيْهِ. وَقَوله: {وننشئكم فِيمَا لَا تعلمُونَ} من الْهَيْئَة وَالصُّورَة أَي: لَو شِئْنَا فعلنَا ذَلِك. وَيُقَال: أَن نجعلكم فِي صُورَة القردة والحنازير. وَيُقَال: ننشئكم من مَكَان لَا تعلمُونَ أَي: فِي عَالم لَا تعلمونه.

62

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد علمْتُم النشأة الأولى} أَي: الْخلق الأول، اسْتدلَّ عَلَيْهِم بالنشأة الأولى على النشأة الثَّانِيَة. وَقَوله تَعَالَى {فلولا تذكرُونَ} أى: هلا تتعظون وتعتبرون.

63

وَقَوله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَا تَحْرُثُونَ أأنتم تزرعونه أم نَحن الزارعون} أَي: تنبتونه. يُقَال للْوَلَد: زرعه الله أَي: أَنْبَتَهُ الله. قَوْله: {أم نَحن الزارعون} أَي: نَحن المنبتون.

65

وَقَوله: {لَو نشَاء لجعلناه حطاما} أَي: يَابسا يتفتت وينكسر لَا شَيْء فِيهِ. وَقَوله: {فظلتم تفكهون} أَي: تتعجبون. وَيُقَال: تَنْدمُونَ وتتحسرون.

{لمغرمون (66) بل نَحن محرومون (67) أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نَحن المنزلون (69) لَو نشَاء جعلنَا أجاجا}

66

وَقَوله: {إِنَّا لمغرمون} أَي: معذبون. قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ قَتَادَة: ملقون بِالشَّرِّ، وَعَن بَعضهم: أَنه من الغرام، وَهُوَ الْهَلَاك. وَقيل: من الْغرم؛ لأَنهم غرموا وَلم يُصِيبُوا شَيْئا.

67

وَقَوله: {بل نَحن محرمون} أَي: حرمنا الْجد، وَلم نصل إِلَى مَا كُنَّا نأمله ونرجوه. وَعَن تغلب: أَن المغرم هُوَ المولع، يُقَال: فلَان مغرم أَي: مولع بِهِ، فعلى هَذَا معنى قَوْله: {إِنَّا لمغرمون} أَي: ولع بِنَا الْمُصِيبَة والحرمان. وَيُقَال: إِنَّا لمغرمون أَي: غرمنا كَمَا غرمنا وَلم نصب شَيْئا، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْغرم بِمَعْنى الْعَذَاب: (وَيَوْم النيار وَيَوْم الجفا ... ركانا عذَابا فَكَانَا غراما)

68

قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم} هَذَا مَذْكُور للتّنْبِيه على مَا فِيهِ من الدَّلِيل. وَقَوله: {المَاء الَّذِي تشربون} مَعْلُوم.

69

وَقَوله: {أأنتم أنزلتموه من المزن} أَي: من السَّحَاب. قَالَ نفطويه: المزن هُوَ السَّحَاب الملآن من المَاء، قَالَ جرير: (كَأَنَّهَا مزنة غراء رَائِحَة أَو ... درة لَا يواري لَوْنهَا الصدف) وَقَوله: {أم نَحن المنزلون} أَي: نَحن أنزلنَا المَاء من المزن، وَلم تنزلوه أَنْتُم، ينبههم بذلك على عَظِيم قدرته.

70

قَوْله تَعَالَى: {لَو نشَاء جَعَلْنَاهُ أجاجا} أَي: مرا شَدِيد المرارة. وَقيل: ملحا شَدِيد الملوحة. يُقَال: أج المَاء تأج إِذا ملح. وَالْمعْنَى: أَنا لَو نشَاء جَعَلْنَاهُ أجاجا بِحَيْثُ لَا يُمكن شربه، ينبههم بذلك على الشُّكْر. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي كَانَ إِذا

{فلولا تشكرون (70) أَفَرَأَيْتُم النَّار الَّتِي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نَحن المنشئون (72) نَحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) } شرب قَالَ: " الْحَمد الله الَّذِي جعله عذبا فراتا، وَلم يَجعله ملحا أجاجا ". أَو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ. قَوْله: {فلولا تشكرون} أَي: فَهَلا تشكرون.

71

قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم النَّار الَّتِي تورون} أَي: تقتدحون. يُقَال: أورت الزند إِذا استخرج النَّار مِنْهُ. وَيُقَال: زند وزندة للحجر الَّذِي يقْدَح مِنْهُ النَّار.

72

وَقَوله: {أأنتم أنشأتم شجرتها} أَي: خلقْتُمْ شجرتها. وَقَوله: {أم نَحن المنشئون} يَعْنِي: أم نَحن خلقنَا الشَّجَرَة. وشجرة النَّار شَجَرَة مَعْرُوفَة، وَيَقُولُونَ: فِي كل شجر نَار، واستمجد [المرخ والعفار] .

73

وَقَوله تَعَالَى: {نَحن جعلناها تذكرة} أَي: جعلنَا النَّار تذكرة من النَّار الْكُبْرَى، وَهِي نَار جَهَنَّم. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن نَاركُمْ هَذِه هِيَ جُزْء من سبعين جُزْءا من نَار جَهَنَّم ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: " ضربت بِالْمَاءِ مرَّتَيْنِ ". وَقَوله: {ومتاعا للمقوين} أظهر الْأَقَاوِيل فِيهِ: أَن المقوين الْمُسَافِرين، وهم الَّذين ينزلون فِي الأَرْض القفر الخالية. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لجَمِيع النَّاس المقيمين والمسافرين. وعَلى القَوْل الأول خص الْمُسَافِرين؛ لِأَن منفعتهم بالنَّار أَكثر؛ لأجل الاصطلاء من

{فسبح باسم رَبك الْعَظِيم (74) فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم (75) } الْبرد، والاستضاءة بِاللَّيْلِ، وَفِي إيقاد النَّار رد السبَاع، وَمَنْفَعَة الاستضاءة الاهتداء عِنْد ضلال الطَّرِيق. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ومتاعا للمقوين أَي: مَنْفَعَة لكل من لَيْسَ لَهُ (زَاد) وَلَا مَال. وَيُقَال: أقوى الْمَكَان إِذا خلا عَن الشَّيْء. وَأنكر القتيبي وَغَيره هَذَا القَوْل، وَقَالُوا: مَنْفَعَة الْغَنِيّ بالنَّار أَكثر من مَنْفَعَة الْفَقِير، وَالْعرب تَقول للْفَقِير مقوى، وللغني مقوى؛ تَقول للْفَقِير مقوى؛ لنفاد مَا مَعَه وخلوه عَنهُ، وللغني مقوى لقُوته وَقدرته على مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْفَقِير، فعلى هَذَا معنى الْآيَة: أَن النَّار مَنْفَعَة لجَمِيع النَّاس من الْفُقَرَاء والأغنياء والمقيمين والمسافرين.

74

وَقَوله: {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} لما ذكر الله الدَّلَائِل على الْكفَّار فِي هَذِه الْآيَة الْمُتَقَدّمَة، وَوجه الدَّلِيل فِيهَا أَنهم كَانُوا مقرين أَن فَاعل هَذِه الْأَشْيَاء هُوَ الله، وَأَنَّهُمْ عاجزون عَنْهَا، وَيُنْكِرُونَ الْبَعْث والنشأة الْآخِرَة؛ فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: لما لم تنكروا قدرَة الله تَعَالَى على هَذِه الْأَشْيَاء وَمَا فِيهَا من عَجِيب الصنع، فَكيف تنكرون قدرته على بعثكم وإحيائكم بعد موتكم؟ فَلَمَّا ألزمهم الدَّلِيل قَالَ لنَبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} كَأَنَّهُ أرشده إِلَى الِاشْتِغَال بتنزيه الرب وتسبيحه وتقديسه حِين لزم الْكفَّار الْحجَّة، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " أفضل الْكَلَام سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ".

75

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم} أَي: أقسم، و " لَا " صلَة. وَقيل: إِن معنى " لَا " أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالُوا من أَن الْقُرْآن شعر وسحر وكهانة، بل أقسم بمواقع النُّجُوم. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن معنى مواقع النُّجُوم أَي: مساقط النُّجُوم. وَيُقَال: مساقطها ومطالعها أقسم بهَا لما علق بهَا من مصَالح الْعباد. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهُوَ قَول جمَاعَة كَثِيرَة من التَّابِعين (مِنْهُم) : الْحسن، وَقَتَادَة، وَعِكْرِمَة،

{وَإنَّهُ لقسم لَو تعلمُونَ عَظِيم (76) إِنَّه لقرآن كريم (77) فِي كتاب مَكْنُون (78) لَا} وَغَيرهم أَن مواقع النُّجُوم هَاهُنَا نُجُوم الْقُرْآن، وَمعنى المواقع نُزُوله نجما نجما. وَفِي الْخَبَر: أَن الله تَعَالَى أنزل الْقُرْآن جملَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ أنزل نجما نجما فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة إِلَى النَّبِي. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن المُرَاد من مواقع النُّجُوم انتثارها وتساقطها يَوْم الْقِيَامَة.

76

وَقَوله: {وَإنَّهُ لقسم لَو تعلمُونَ عَظِيم} قَالَ ذَلِك لَان قسم الله عَظِيم، وكل مَا أقسم بِهِ. وَيُقَال: إِن تَخْصِيصه هَذَا الْقسم بالعظم؛ لِأَنَّهُ أقسم بِالْقُرْآنِ على الْقُرْآن؛ قَالَه الْقفال الشَّاشِي.

77

وَقَوله: {إِنَّه لقرآن كريم} هُوَ مَوضِع الْقسم، وَهُوَ الْمقسم [عَلَيْهِ] . وَقَوله: {كريم} أَي: كثير الْخَيْر وَالْبركَة. تَقول الْعَرَب: هَذِه النَّاقة كَرِيمَة، وَهَذِه النَّخْلَة كَرِيمَة، إِذا كثرت فوائدها ومنافعها.

78

قَوْله: {فِي كتاب مَكْنُون} أَي: مصون، وَقد فسر باللوح الْمَحْفُوظ، وَفسّر أَيْضا بِكِتَاب فِي السَّمَاء عِنْد الْمَلَائِكَة فِيهِ الْقُرْآن.

79

وَقَوله: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد بِهِ أَنه لَا يمس ذَلِك الْكتاب إِلَّا الْمَلَائِكَة الْمُطهرُونَ. قَالَ قَتَادَة: فَأَما الْمُصحف يمسهُ كل أحد، وَإِنَّمَا المُرَاد ذَلِك الْكتاب فِي السَّمَاء. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بِهِ الْمُصحف، وَقَوله: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} خبر بِمَعْنى النَّهْي أَي: لَا تمسوه إِلَّا على الطَّهَارَة. وَقد ورد أَن النَّبِي كتب فِي كتاب عَمْرو بن حزم " وَلَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر ". وَعَن عَلْقَمَة وَالْأسود

{يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ (79) تَنْزِيل من رب الْعَالمين (80) أفبهذا الحَدِيث أَنْتُم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون (82) } أَنَّهُمَا دخلا على سلمَان ليقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن، فجَاء من الْغَائِط، فَقَالَا لَهُ: تَوَضَّأ لنقرأ عَلَيْك الْقُرْآن، فَقَالَ: اقرآني، لَا أُرِيد أَن أمسه، ثمَّ قَرَأَ: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} .

80

وَقَوله: {تَنْزِيل من رب الْعَالمين} أَي: الْقُرْآن نزله رب الْعَالمين.

81

قَوْله تَعَالَى: {أفبهذا الحَدِيث أَنْتُم مدهنون} أَي: مكذبون تَكْذِيب مُنَافِق. والمدهن والمداهن بِمَعْنى وَاحِد، والمداهن هُوَ ذُو الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يكون قلبه خلاف لِسَانه، وَلسَانه خلاف قلبه. وَيُقَال: المدهنون: هم الَّذين يدْفَعُونَ الصدْق وَالْحق بِأَحْسَن وَجه يقدر عَلَيْهِ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} يَعْنِي: تكذب فيكذبون، وترائي فيراءون.

82

وَقَوله: {وتجعلون رزقكم أَنكُمْ تكذبون} قَرَأَ عَليّ: " وتجعلون شكركم أَنكُمْ تكذبون " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة يَعْنِي: تضعون التَّكْذِيب مَوضِع الشُّكْر، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (تَحِيَّة بَينهم ضرب وجيع ... ) أَي: يضعون الضَّرْب الوجيع مَوضِع التَّحِيَّة. وَيُقَال معنى الْآيَة: تَجْعَلُونَ شكر رزقكم أَنكُمْ تكذبون، فَحذف الْمُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه، مثل قَوْله تَعَالَى: {واشتعل الرَّأْس شيبا} أَي: شعر الرَّأْس. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن الرزق هَاهُنَا بِمَعْنى الْهِدَايَة الَّتِي أَعْطَاهُم الله تَعَالَى بِالْقُرْآنِ، فَكَأَن الله تَعَالَى لما أنزل الْقُرْآن، وَبَين لَهُم طَرِيق الْحق بِهِ فَكَذبُوهُ وأنكروا، سمي بذلك الْبَيَان رزقا، وَجعل تكذيبهم كفرانا لهَذَا الرزق. وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: خسر قوم جعلُوا حظهم من الْقُرْآن التَّكْذِيب. وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ

{فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم (83) وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون (84) وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون (85) فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين (86) } الْمَعْرُوف فِي الْآيَة أَن الرزق هَاهُنَا هُوَ الْمَطَر، والتكذيب هُوَ قَوْلهم: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " أَلا ترَوْنَ إِلَى مَا قَالَ ربكُم؟ قَالَ: مَا أَنْعَمت على عبادى نعْمَة إِلَّا أصبح فريق مِنْهُم بهَا كَافِرين يَقُولُونَ الْكَوْكَب وَبِالْكَوْكَبِ. . " أوردهُ مُسلم فِي صَحِيحه. وَفِي خبر آخر بِرِوَايَة (مُعَاوِيَة) اللَّيْثِيّ أَن النَّبِي قَالَ: " يصبح الْقَوْم مجدبين، فيأتيهم الله برزق من عِنْده، فيصبحوا مُشْرِكين يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا ".

83

قَوْله تَعَالَى: {فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم} أَي: بلغت النَّفس الْحُلْقُوم. الْآيَة فِي بَيَان عجزهم، وَذكر قدرته عَلَيْهِم.

84

وَقَوله: {وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون} الْخطاب لأهل الْمَيِّت.

85

وَقَوله: {وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم أى بِالْقُدْرَةِ وَقد قيل ملك الْمَوْت وأعوانه يَعْنِي: أَنهم أقرب إِلَى الْمَيِّت مِنْكُم. وَقَوله: {وَلَكِن لَا تبصرون} أَي: لَا ترَوْنَ.

86

وَقَوله تَعَالَى: {فلولا إِن كُنْتُم} أَي: فَهَلا إِن كُنْتُم، [وَقَوله] : {غير مدينين} أَي: غير مُدبرين مملوكين مقهورين يَعْنِي: إِن كُنْتُم قَادِرين على مَا شِئْتُم، وَلم تَكُونُوا فِي ملكنا وقهرنا [فَردُّوا] روح الْمَيِّت إِلَى مَكَانَهُ، وَهُوَ معنى قَوْله:

{ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين (87) فَأَما إِن كَانَ من المقربين (88) فَروح وَرَيْحَان}

87

{ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين} ينبئهم بذلك على عجزهم. وَيُقَال: غير مدينين أَي: غير محاسبين ومجزيين. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْوَجْه فِي معنى الْآيَة.

88

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما إِن كَانَ من المقربين} ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَات حَال الْأَصْنَاف الثَّلَاثَة عِنْد الْمَوْت، وَهِي الْأَصْنَاف الَّتِي ذكرهم فِي أول السُّورَة، فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَما إِن كَانَ من المقربين} أَي: السَّابِقين إِلَى الْخيرَات، المبرزين فِي الطَّاعَات.

89

وَقَوله تَعَالَى: {فَروح} قِرَاءَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " فَروح " وَاخْتَارَهُ يَعْقُوب الْحَضْرَمِيّ، وَالْأَشْهر: " فَروح " بِفَتْح الرَّاء، وَمَعْنَاهُ: الرَّحْمَة. وَيُقَال: [الرّوح] الاسْتِرَاحَة، وَمن قَرَأَ بِضَم الرَّاء فَهُوَ بِمَعْنى الْحَيَاة الدائمة الَّتِي لَا فنَاء بعْدهَا. وَفِي الْخَبَر: " أَنه إِذا وضع الْمُؤمن فِي قَبره، وَأجَاب بِجَوَاب الْحق يُقَال لَهُ: نم نومَة الْعَرُوس لَا هم وَلَا بؤس " وَفِي خبر آخر " يفتح لَهُ بَاب إِلَى الْجنَّة وَيُقَال لَهُ هَذَا موضعك ". وَقَوله تَعَالَى: {وَرَيْحَان} أَي: رزق، وَهُوَ الرزق الَّذِي يدر عَلَيْهِ من الْجنَّة فِي الْقَبْر. وَقد بَينا من قبل الريحان بِمَعْنى الرزق فِي شعر الْعَرَب: (سَلام الْإِلَه وريحانه ... وَرَحمته وسماء دُرَر) وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الريحان الَّذِي يشم. قَالَ أَبُو الجوزاء: يُؤْتى بضبائر من ريحَان الْجنَّة فتجعل روحه فِيهَا. وَقَوله: {وجنة نعيم} هِيَ الْجنَّة الموعودة. قَالَ أهل التَّفْسِير: الرّوح وَالريحَان فِي الْقَبْر، وجنة نعيم يَوْم الْقِيَامَة. وَيُقَال: الرّوح عِنْد الْمَوْت، وَالريحَان فِي الْقَبْر، وجنة نعيم فِي الْقِيَامَة عِنْد الْبَعْث. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه، وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه، وَقيل: يَا رَسُول الله، لَكنا نكره الْمَوْت قَالَ:

{وجنة النَّعيم (89) وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين (90) فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين (91) وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين (92) فَنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين (95) فسبح اسْم رَبك الْعَظِيم (96) } لَا، إِن الْمُؤمن إِذا بشر برحمة من الله أحب لِقَاء الله، فَأحب الله لقاءه، وَإِن الْكَافِر إِذا بشر بالنَّار كره لِقَاء الله وَكره الله لقاءه " وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة.

90

قَوْله تَعَالَى: {وَأما إِن كَانَ من أَصْحَاب الْيَمين} قد بَينا أَصْحَاب الْيَمين.

91

وَقَوله: {فسلام لَك من أَصْحَاب الْيَمين} أَي: تسلم الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم. وَقيل: يسلم الله عَلَيْهِم، فَيَقُول: سَلام عَلَيْك. وَلَك بِمَعْنى عَلَيْك. وَقَوله تَعَالَى: {من أَصْحَاب الْيَمين} أَي: لِأَنَّك من أَصْحَاب الْيَمين. وَهَذَا قَول كثير من الْمُفَسّرين. وَقَالَ بَعضهم: الْخطاب للنَّبِي وَمَعْنَاهُ: أبشر بالسلامة لأَصْحَاب الْيَمين، كَأَنَّهُ يَقُول: لَا تشغل قَلْبك بهم، فَإِنَّهُم قد نالوا السَّلامَة. وَقيل: المُرَاد من الْآيَة تَسْلِيم بَعضهم على بعض، كَأَن بَعضهم يسلم على بعض، ويهنئ بالسلامة.

92

قَوْله تَعَالَى: {وَأما إِن كَانَ من المكذبين الضَّالّين فَنزل من حميم} أَي: الْمعد لَهُ شراب من حميم.

94

وَقَوله: {وتصلية جحيم} أَي: دُخُول الْجَحِيم يُقَال: أصلى كَذَا أَي: قاسه، فعلى هَذَا تصلية جحيم أَي: مقاساة الْجَحِيم.

95

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا لَهو حق الْيَقِين} أَي: مَحْض الْيَقِين، يُشِير إِلَى أَنه كَائِن لَا خلف فِيهِ. وَيُقَال مَعْنَاهُ: إِنَّه يَقِين أَحَق الْيَقِين، كَمَا يُقَال: حق عَالم أَي: عَالم حق.

96

وَقَوله: {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} أَي: نزه رَبك وعظمه، كَأَنَّهُ أرشده إِلَى الِاشْتِغَال بثنائه وتسبيحه وتقديسه ليصل إِلَى دَرَجَة المقربين.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (1) لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يحيي وَيُمِيت وَهُوَ على كل شَيْء قدير (2) هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر} تَفْسِير سُورَة الْحَدِيد وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْكَلْبِيّ وَجَمَاعَة. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّهَا مَدَنِيَّة. وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: اسْم الله الْأَعْظَم فِي سِتّ آيَات من أول سُورَة الْحَدِيد. وَعَن أبي التياح أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يعرف كَيفَ وصف الْجَبَّار نَفسه فليقرأ سِتّ آيَات من أول سُورَة الْحَدِيد. وَالله أعلم.

الحديد

قَوْله تَعَالَى: {سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: صلي وَتعبد، وَيُقَال: نزه وَقدس. وَقد ذكر بَعضهم أَن تَسْبِيح الجمادات هُوَ أثر الصنع فِيهَا. وَالأَصَح أَنه التَّسْبِيح حَقِيقَة، وَهُوَ قَول أهل السّنة؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد مِنْهُ أثر الصنع لم يكن لقَوْله: {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} معنى، لِأَن أثر الصنع يُعلمهُ ويفهمه كل وَاحِد. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب الْحَكِيم فِي أمره.

2

قَوْله تَعَالَى: {لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض يحيي وَيُمِيت} أَي: لَهُ الْملك فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض محييا ومميتا. قَالَ الزّجاج: يحيي من النُّطْفَة الْميتَة، وَيُمِيت الشَّخْص الْحَيّ. وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

3

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الأول وَالْآخر} أَي: الأول قبل كل شَيْء، وَالْآخر بعد كل شَيْء. وَقيل: الأول فَلَا أول لَهُ، وَالْآخر فَلَا آخر لَهُ، وَهُوَ فِي معنى الأول. وَقيل: الأول بِلَا ابْتِدَاء، وَالْآخر بِلَا انْتِهَاء.

{وَالْبَاطِن وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم (3) هُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يعلم مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج مِنْهَا وَمَا ينزل من السَّمَاء وَمَا يعرج فِيهَا وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (4) لَهُ ملك السَّمَوَات} وَقَوله: {وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن} أَي: الظَّاهِر بالدلائل والآيات، وَالْبَاطِن لِأَنَّهُ لَا يرى بالأبصار، وَلَا يدْرك بالحواس. وَقيل: الظَّاهِر هُوَ الْغَالِب؛ وَهَذَا يحْكى عَن ابْن عَبَّاس. وَالْبَاطِن المحتجب عَن خلقه. (وَعَن) بَعضهم: الْعَالم بِمَا ظهر وَمَا بطن. وَقَوله: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم.

4

قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام} فِي التَّفْسِير أَن كل يَوْم ألف سنة وَقيل أسامي الْأَيَّام أبجد هوز حطى كلمن سعفص قرشت. قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} قد بَينا. وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: خلق الْعَرْش من نوره. وَعَن بَعضهم: هُوَ ياقوتة حَمْرَاء. وَسمي الْعَرْش عرشا لارتفاعه. وَقَوله: {يعلم مَا يلج فِي الأَرْض} أَي: يدْخل فِيهَا من مطر وَحب وميت. وَقَوله: {وَمَا يخرج مِنْهَا} أَي: يدْخل فِيهَا منطر وَحب وميت وَقَوله تَعَالَى {وَمَا يخرج مِنْهَا} أى من نَبَات وشجرة وَنَحْوه. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا ينزل من السَّمَاء} أَي: من الْمَطَر والرزق وَالْمَلَائِكَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا يعرج فِيهَا} أَي: من الْمَلَائِكَة وأعمال بني آدم. وَقَوله: {وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم} أَي: بِعِلْمِهِ وَقدرته، ذكره ابْن عَبَّاس وَغَيره. وَقَالَ الْحسن: هُوَ مَعكُمْ بِلَا كَيفَ. وَقَوله: {أَيْنَمَا كُنْتُم} أَي: حَيْثُمَا كُنْتُم. وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} أَي: خَبِير.

5

قَوْله تَعَالَى: {لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور} أَي: ترد الْأُمُور.

{وَالْأَرْض وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور (5) يولج اللَّيْل فِي النَّهَار ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل وَهُوَ عليم بِذَات الصُّدُور (6) آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وأنفقوا مِمَّا جعلكُمْ مستخلفين فِيهِ فَالَّذِينَ آمنُوا مِنْكُم وأنفقوا لَهُم أجرا كَبِير (7) وَمَا لكم لَا تؤمنون بِاللَّه وَالرَّسُول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وَقد أَخذ ميثاقكم إِن كُنْتُم مُؤمنين (8) هُوَ الَّذِي ينزل على عَبده آيَات بَيِّنَات ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَإِن الله بكم لرءوف رَحِيم (9) وَمَا لكم أَلا تنفقوا فِي سَبِيل الله وَللَّه مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من}

6

قَوْله تَعَالَى: {يولج اللَّيْل فِي النَّهَار} أَي: ينقص من اللَّيْل، وَيزِيد فِي النَّهَار. وَقَوله: {ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل} أَي: ينقص من النَّهَار، وَيزِيد فِي اللَّيْل. وَقَوله: {وَهُوَ عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا فِيهَا.

7

قَوْله تَعَالَى: {آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله وأنفقوا مِمَّا جعلكُمْ مستخلفين فِيهِ} أَي: أَنْفقُوا من الْأَمْوَال الَّتِي خَلفْتُمْ فِيهَا من قبلكُمْ. وَقيل: مستخلفين فِيهِ أَي: معمرين بالرزق. وَقَوله: {فَالَّذِينَ آمنُوا مِنْكُم وأنفقوا لَهُم أجر كَبِير} أَي: عَظِيم.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لكم لَا تؤمنون بِاللَّه وَالرَّسُول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وَقد أَخذ ميثاقكم} أَي: الْعَهْد مِنْكُم {إِن كُنْتُم مُؤمنين} أَي: مُصدقين.

9

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي ينزل على عَبده آيَات بَيِّنَات ليخرجكم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} أَي: من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان. وَقَوله: {وَإِن الله بكم لرءوف رَحِيم} قد بَينا.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لكم أَلا تنفقوا فِي سَبِيل الله} مَعْنَاهُ: أَي: فَائِدَة لكم إِذا تركْتُم الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله، وَأَمْوَالكُمْ تصير إِلَى غَيْركُمْ؟ وَالْمعْنَى: هُوَ الْإِنْكَار، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلم لَا تنفقون أَمْوَالكُم لتصلوا بهَا إِلَى ثَوَاب الله، وَهِي لَا تبقى لكم إِذا لم تنفقوا؟ وَقَوله: {وَللَّه مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض} هُوَ إِشَارَة إِلَى مَا بَينا من قبل.

{أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا} وَقَوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل} أَي: لَا يَسْتَوِي من أنْفق وَقَاتل قبل فتح مَكَّة، وَمن أنْفق وَقَاتل بعد فتح مَكَّة. وَإِنَّمَا لم يستويا؛ لِأَن أَصْحَاب النَّبِي نالهم من التَّعَب وَالْمَشَقَّة وَالْمَكْرُوه والشدة قبل الْفَتْح مَا لم ينلهم بعده. وَذكر الْكَلْبِيّ أَن الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَقد ورد فِي بعض المسانيد عَن ابْن عمر " أَن النَّبِي كَانَ جَالِسا وَعِنْده أَبُو بكر الصّديق، وَعَلِيهِ عباءة قد خللها فِي صَدره؛ فجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ للنَّبِي: يَقُول الله تَعَالَى: سلم على أبي بكر، وَقل لَهُ: أراض أَنْت عني فِي فقرك أم ساخط؟ فَقَالَ النَّبِي لأبي بكر: هَذَا جِبْرِيل يُقْرِئك من رَبك السَّلَام، وَيَقُول كَذَا، فَبكى أَبُو بكر وَقَالَ: بل أَنا رَاض عَن رَبِّي، بل أَنا رَاض عَن رَبِّي ". وَذكر النقاش أَن الْآيَة نزلت فِي عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ قد جهز جَيش الْعسرَة، وَأعْطى سَبْعمِائة وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَأعْطى سبعين فرسا، وَكَانَ أَعْطَاهَا بآلاتها. وَفِي رِوَايَة: جَاءَ بِخَمْسَة آلَاف دِينَار وصبها بَين يَدي النَّبِي، فَجعل النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يقلبها بِيَدِهِ وَيَقُول: " مَا ضرّ عُثْمَان مَا يفعل بعد هَذَا ". وَقَوله: {أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا} قد بَينا الْمَعْنى فِي ذَلِك.

{وعد الله الْحسنى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (10) من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} وَقَوله: {وكلا وعد الله الْحسنى} أَي: الْجنَّة. وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} أَي: عَالم، وَالْمعْنَى: أَن الله تَعَالَى وعد جَمِيع الْمُتَّقِينَ الْجنَّة، وَإِن تفاضلوا فِي الدرجَة.

11

قَوْله تَعَالَى: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} قَالَ عِكْرِمَة: لما أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة تصدق أَبُو الدحداح بحائط فِيهِ سِتّمائَة نَخْلَة. وَفِي رِوَايَة: تصدق بِنصْف جَمِيع مَاله حَتَّى نَعْلَيْه تصدق بِأَحَدِهِمَا، ثمَّ جَاءَ إِلَى أم الدحداح وَقَالَ: إِنِّي بِعْت رَبِّي، فَقَالَت: ربح البيع. فَقَالَ رَسُول الله: " كم من نَخْلَة مدلاة لأبي الدحداح فِي الْجنَّة، عروقها من زبرجد وَيَاقُوت ". وَعَن بَعضهم: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة جَاءَ الْيَهُود إِلَى النَّبِي، وَقَالُوا: أفقير رَبنَا فيستقرضنا؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء} . وَقَالَ الزّجاج: الْعَرَب تَقول لكل من كل فعل فعلا حسنا: قد أقْرض، قَالَ الشَّاعِر: (وَإِذا جوزيت قرضا فاقضه ... إِنَّمَا يَجْزِي الْفَتى لَيْسَ الْإِبِل) فَمَعْنَى الْآيَة على هَذَا: من الَّذِي يعفه فعلا حسنا فيجازيه الله بذلك. وَهُوَ على الْعُمُوم.

{فيضاعفه لَهُ وَله أجر كريم (11) يَوْم ترى الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات يسْعَى نورهم بَين أَيْديهم وبأيمانهم بشراكم الْيَوْم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (12) يَوْم يَقُول المُنَافِقُونَ والمنافقات للَّذين آمنُوا انظرونا نقتبس من} وَقَوله تَعَالَى: {فيضاعفه لَهُ} قرئَ بِرَفْع الْفَاء ونصبها، فبالرفع هُوَ مَعْطُوف على قَوْله: {يقْرض} وَبِالنَّصبِ يكون على جَوَاب الِاسْتِفْهَام بِالْفَاءِ. وَقَوله: {وَله أجر كريم} أَي: حسن.

12

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترى الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات يسْعَى نورهم بَين أَيْديهم} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: على الصِّرَاط. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: نور كل إِنْسَان على قدر عمله، فَمنهمْ من نوره كالجبل الْعَظِيم، وَمِنْهُم من نوره كنخلة، وَمِنْهُم من نوره على إبهامه ينطفي مرّة ويتقد أُخْرَى. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن نورهم مَا بَين صنعاء إِلَى عدن. يَعْنِي: فِي الْقدر. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة الضَّحَّاك قَالَ: الصِّرَاط فِي دقة الشعرة، وحدة (الشَّفْرَة) ، والمؤمنون يَمرونَ عَلَيْهِ نورهم من بَين أَيْديهم، بَعضهم كالبرق، وَبَعْضهمْ كَالرِّيحِ، وَبَعْضهمْ كالطير، وَبَعْضهمْ (كحضرة) الْفرس. وَقَوله تَعَالَى: {وبأيمانهم} أَي: النُّور بأيمانهم. وَقَوله: {بشراكم الْيَوْم} أَي: بشارتكم الْيَوْم {جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} . وَقَوله: {خَالِدين فِيهَا ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} أَي: النجَاة [الْعَظِيمَة] .

13

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَقُول المُنَافِقُونَ والمنافقات للَّذين آمنُوا انظرونا} من الإنظار، وَأشهر الْقِرَاءَتَيْن هِيَ الأولى، وَمَعْنَاهُ: انظرونا. وَأما بِنصب الْألف فَمَعْنَاه: اصْبِرُوا لنا، قَالَ الشَّاعِر: (أَبَا هِنْد فَلَا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا)

{نوركم قيل ارْجعُوا وراءكم فالتمسوا نورا فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهره من قبله الْعَذَاب (13) ينادونهم ألم نَكُنْ مَعكُمْ قَالُوا بلَى وَلَكِنَّكُمْ فتنتم أَنفسكُم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الْأَمَانِي حَتَّى جَاءَ أَمر الله وغركم بِاللَّه الْغرُور} وَقَوله: {نقتبس من نوركم} فِي الْأَخْبَار: أَن النَّاس يحشرون والمنافقون مختلطون بِالْمُؤْمِنِينَ، ثمَّ إِن الله تَعَالَى يُرْسل نورا للْمُؤْمِنين فيمشون فِي نورهم، فيتبعهم المُنَافِقُونَ وَيَقُولُونَ: انظرونا نقتبس من نوركم، وَكَانُوا قد بقوا فِي الظلمَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن النَّاس يحشرون فيغشاهم أَمر من أَمر الله، فيبيض وُجُوه الْمُؤمنِينَ، ويسود وُجُوه الْكفَّار، ثمَّ يَغْشَاهُم أَمر آخر، فَيقسم بَين الْمُؤمنِينَ النُّور على قدر أَعْمَالهم، وَيبقى الْكفَّار والمنافقون فِي الظلمَة، فَيَقُولُونَ للْمُؤْمِنين: " انظرونا نقتبس من نوركم ". وَقَوله: {نقتبس} أَي: نَأْخُذ شَيْئا من نوركم. وَقَوله: {قيل ارْجعُوا وراءكم} أَي: إِلَى الْموضع الَّذِي قسم فِيهِ النُّور. وَقَوله: {فالتمسوا نورا} أَي: اطْلُبُوا نورا ثمَّ، فيرجعون فَلَا يَجدونَ شَيْئا. وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ: فَارْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا، واطلبوا النُّور بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة، وَهَذَا على التعيير والتبكيت، وَهُوَ قَول غَرِيب، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول. وَقَوله: {فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب} فِي التَّفْسِير: أَنهم إِذا رجعُوا إِلَى ذَلِك الْموضع وَلم يَجدوا النُّور، عَادوا ليتبعوا نور الْمُؤمنِينَ، فيغشاهم عَذَاب من عَذَاب الله، وَيضْرب بَينهم وَبَين الْمُؤمنِينَ بسور، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فَضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب} وَقيل: هُوَ الْأَعْرَاف الَّذِي [ذكر] فِي سُورَة الْأَعْرَاف. وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن السُّور حَائِط مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس الشَّرْقِي مِنْهُ، فَالَّذِي يَلِي الْمَسْجِد هُوَ الَّذِي قَالَ: {بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة} وَالَّذِي يَلِي وَادي جَهَنَّم هُوَ الَّذِي قَالَ: {وَظَاهره من قبله الْعَذَاب} وَثمّ وَاد يُقَال لَهُ: وَادي جَهَنَّم، وَهُوَ مَعْرُوف.

((14} فاليوم لَا يُؤْخَذ مِنْكُم فديَة وَلَا من الَّذين كفرُوا مأواكم النَّار هِيَ مولاكم وَبئسَ الْمصير (15) ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله وَمَا نزل من الْحق وَلَا)

14

قَوْله تَعَالَى: {ينادونهم ألم نَكُنْ مَعكُمْ} يَعْنِي: أَن الْمُنَافِقين ينادون الْمُؤمنِينَ ألم نَكُنْ مَعكُمْ؟ مَعْنَاهُ: ألم نَكُنْ مَعكُمْ فِي صَلَاتكُمْ وَصِيَامكُمْ ومساجدكم، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {قَالُوا بلَى} أَي: بلَى كُنْتُم فِي الظَّاهِر. وَقَوله: {وَلَكِنَّكُمْ فتنتم أَنفسكُم} أَي: استعملتم أَنفسكُم فِي الْفِتْنَة، وَيُقَال: فتنتم أَنفسكُم أَي: اتبعتم الْمعاصِي والشهوات. وَقَوله: {وتربصتم} أَي: تربصتم بِالنَّبِيِّ وَبِالْمُؤْمِنِينَ دوائر الدَّهْر. وَيُقَال: تربصتم بِالتَّوْبَةِ أَي: أخرتموها. وَقَوله: {وارتبتم} أَي: شَكَكْتُمْ فِي الدّين. وَقَوله: {وغرتكم الْأَمَانِي} أَي: أمنيتكم أَن مُحَمَّدًا يهْلك، وَيبْطل أمره. وَقَوله: {حَتَّى جَاءَ أَمر الله} أَي: أَمر الله بنصر نبيه وَالْمُؤمنِينَ. وَيُقَال: النَّار. وَقَوله: {وغركم بِاللَّه الْغرُور} أَي: الشَّيْطَان، وَإِنَّمَا سمى الشَّيْطَان غرُورًا؛ لِأَن النَّاس تغر النَّاس بتمنية الأباطيل. وَعَن سعيد بن جُبَير أَنه قَالَ: الْغرُور: أَن تعْمل بالمعصية، وتتمنى على الله الْمَغْفِرَة.

15

قَوْله تَعَالَى: {فاليوم لَا يُؤْخَذ مِنْكُم فديَة} فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " جِزْيَة " وَمعنى الْفِدْيَة: هُوَ مَا يفتدي بِهِ نَفسه من الْعَذَاب. وَقَوله: {وَلَا من الَّذين كفرُوا مأواكم النَّار} أَي: [منزلتكم] النَّار. وَقَوله: {هِيَ مولاكم} أَي: النَّار أولى بكم.

{يَكُونُوا كَالَّذِين أُوتُوا الْكتاب من قبل فطال عَلَيْهِم الأمد فقست قُلُوبهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ (16) اعلموا أَن الله يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا قد بَينا لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ} وَقَوله: {وَبئسَ الْمصير} أَي: بئس المنقلب النَّار.

16

قَوْله تَعَالَى: {ألم يَأن للَّذين آمنُوا} مَعْنَاهُ: ألم يحن، من الْحِين وَهُوَ الْوَقْت. يُقَال: آن يئين وحان يحين بِمَعْنى وَاحِد. وَقَوله: {أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله} أَي: تلين وترق. قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي الْآيَة حث لطائفة من الْمُؤمنِينَ على الرقة عِنْد الذّكر. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: مَا كَانَ بَين إِسْلَام الْقَوْم وَبَين أَن عَاتَبَهُمْ الله على ترك الْخُشُوع والرقة إِلَّا أَربع سِنِين. وَعَن مقَاتل: أَن أَصْحَاب رَسُول الله أخذُوا فِي نوح من المرح فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَعَن بَعضهم أَن أَصْحَاب رَسُول الله أَصَابَتْهُم مِلَّة فَقَالُوا: (حَدثنَا) يَا رَسُول الله، فَأنْزل الله تَعَالَى: {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص} ، ثمَّ أَصَابَتْهُم مِلَّة، فَأنْزل الله: {الله نزل أحسن الحَدِيث} ثمَّ أَصَابَتْهُم مِلَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى: {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله} . وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: إِن قَوْله: {ألم يَأن للَّذين آمنُوا} هُوَ فِي مؤمني أهل الْكتاب، حثهم على الْإِيمَان بالرسول. وَعَن بَعضهم: هُوَ فِي الْمُنَافِقين؛ آمنُوا بألسنتهم، وَلم يُؤمنُوا بقلوبهم {وَمَا نزل من الْحق} [أَي] : الْقُرْآن. وَقَوله: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِين أُوتُوا الْكتاب من قبل} أَي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى. وَقَوله: {فطال عَلَيْهِم الأمد} أَي: الْمدَّة. وَيُقَال: الْأَجَل. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ:

{تعقلون (17) إِن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يُضَاعف لَهُم وَلَهُم أجر كَبِير (18) وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله أُولَئِكَ هم الصديقون وَالشُّهَدَاء عِنْد رَبهم} لَا تسألوا أهل الْكتاب عَن شَيْء، فقد طَال عَلَيْهِم الأمد فقست قُلُوبهم، وَلَكِن مَا أَمركُم بِهِ الْقُرْآن فأتمروا بِهِ، وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا. وَقَوله: {فقست قُلُوبهم} أَي: يَبِسَتْ. وَقَوله: {وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} أَي: خارجون عَن طَاعَة الله. وَيُقَال: هُوَ فِي ابتداعهم الرهبانية.

17

قَوْله تَعَالَى: {اعلموا أَن الله يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا} فِي الْخَبَر عَن [أبي] رزين الْعقيلِيّ أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ يحيي الله الْمَوْتَى؟ فَقَالَ: " أَرَأَيْت أَرضًا مخلاء ثمَّ أرأيتها خضراء، قَالَ: نعم. قَالَ: هُوَ كَذَلِك ". وَعَن صَالح الْمُزنِيّ قَالَ: يحيي الْقُلُوب بتليينها بعد قساوتها. فَهُوَ المُرَاد بِالْآيَةِ. وَقَوله: {قد بَينا لكم الْآيَات لَعَلَّكُمْ تعقلون} ظَاهر الْمَعْنى.

18

قَوْله تَعَالَى: {إِن المصدقين والمصدقات} قرئَ: بتَشْديد الصَّاد وتخفيفها، فعلى تَخْفيف الصَّاد يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، وعَلى تَشْدِيد الصَّاد يَعْنِي: المتصدقين. وَقَوله: {وأقرضوا الله قرضا حسنا} قيل: لَا تكون الصَّدَقَة قرضا حسنا حَتَّى تَجْتَمِع فِيهَا خِصَال: أَولهَا: أَن تكون من حَلَال، وَأَن يُعْطِيهَا طيبَة بهَا نَفسه، وَأَن لَا يتبعهَا منا وَلَا أَذَى، وَأَن يتَيَمَّم الْجيد من مَاله لَا الْخَبيث والرديء، وَأَن يُعْطِيهَا ابْتِغَاء وَجه الله لَا مراءاة لِلْخلقِ، وَأَن يخرج الأحب من مَاله إِلَى الله تَعَالَى، وَأَن يتَصَدَّق وَهُوَ صَحِيح يأمل الْعَيْش ويخشى الْفقر، وَأَن لَا يستكثر مَا فعله بل يستقله، وَأَن يتَصَدَّق بالكثير. وَقَوله: {يُضَاعف لَهُم وَلَهُم أجر كريم} أَي: كثير حسن.

{لَهُم أجرهم ونورهم وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم (19) اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو وزينة وتفاخر بَيْنكُم وتكاثر فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته ثمَّ يهيج فتراه مصفرا ثمَّ يكون حطاما وَفِي الْآخِرَة}

19

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله أُولَئِكَ هم الصديقون} الصّديق هُوَ كثير الصدْق، كالسكيت كثير السُّكُوت. وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: كلكُمْ صديق وشهيد. فَقيل لَهُ: كَيفَ يَا أيا هُرَيْرَة؟ فَقَرَأَ قَوْله فِي هَذِه الْآيَة. وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله: {وَالشُّهَدَاء} فأحد الْأَقْوَال: أَنهم الشُّهَدَاء المعروفون، وهم الَّذين اسْتشْهدُوا فِي سَبِيل الله. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم النَّبِيُّونَ، ذكره الْفراء. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنهم جَمِيع الْمُؤمنِينَ. فعلى هَذَا يكون الشُّهَدَاء مَعْطُوفًا على قَوْله: {أُولَئِكَ هم الصديقون} وعَلى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلين تمّ الْوَقْف وَالْكَلَام على قَوْله: {أُولَئِكَ هم الصديقون} ، وَقَوله: {وَالشُّهَدَاء عِنْد رَبهم} ابْتِدَاء كَلَام. وَفِي قَوْله: {عِنْد رَبهم} إِشَارَة إِلَى مَنْزِلَتهمْ ومكانتهم عِنْد الله. وَقَوله: {لَهُم أجرهم ونورهم} أَي: ثوابهم وضياؤهم. وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم} مَعْلُوم الْمَعْنى، والجحيم مُعظم النَّار.

20

وَقَوله تَعَالَى: {اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعب وَلَهو وزينة} أَي: هِيَ مَا يلْعَب بِهِ ويلهي ويتزين بِهِ. وَالْمرَاد بِهِ: كل مَا أُرِيد بِهِ غير الله، أَو كل مَا شغل عَن الدّين. وَيُقَال: لعب وَلَهو: أكل وَشرب. وَيُقَال: اللّعب الْأَوْلَاد، وَاللَّهْو النِّسَاء. وَقَوله تَعَالَى: {وتفاخر بَيْنكُم} أَي: تفاخر من بَعْضكُم على بعض. وَقَوله: {وتكاثر فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد} أَي: تطاول بِكَثْرَة الْأَوْلَاد وَالْأَمْوَال. وَالْفرق بَين التفاخر وَالتَّكَاثُر: أَن التفاخر قد يكون مِمَّن لَهُ ولد وَمَال مَعَ من لَا ولد لَهُ

{عَذَاب شَدِيد ومغفرة من الله ورضوان وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور (20) سابقوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض أعدت للَّذين آمنُوا بِاللَّه} وَلَا مَال، وَأما التكاثر لَا يكون إِلَّا مِمَّن لَهُ ولد وَمَال مَعَ من لَهُ ولد وَمَال. وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " من طلب الدُّنْيَا تعففا عَن السُّؤَال، وصيانة للْوَلَد والعيال، جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَوَجهه كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر، وَمن طلبَهَا تفاخرا وتكاثرا ورياء للنَّاس، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " أَو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ. وَقَوله: {كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته} أَي: الزراع، وَذَلِكَ حِين ينْبت وَيحسن فِي أعين النَّاس. وَقَوله: {ثمَّ يهيج فتراه مصفرا} أَي: ييبس ويجف. وَقَوله: {مصفرا} أَي: أصفر يَابسا. وَقَوله: {ثمَّ يكون حطاما} أَي: يتكسر ويتهشم. وَقيل: يكون نبتا لَا قَمح فِيهِ. وَقَوله: {وَفِي الْآخِرَة عَذَاب شَدِيد} يَعْنِي: لمن آثر الدُّنْيَا على الْآخِرَة. وَقَوله: {ومغفرة من الله ورضوان} يَعْنِي لمن آثر الْآخِرَة على الدُّنْيَا. قَالَ قَتَادَة: رَجَعَ الْأَمر إِلَى هَذِه الْكَلِمَات الثَّلَاث {وَفِي الْآخِرَة عَذَاب شَدِيد ومغفرة من الله ورضوان وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور} ومتاع الْغرُور قد بَينا من قبل، وَهُوَ كل مَا لَا أصل لَهُ، أَو كل مَا لَا بَقَاء عَلَيْهِ.

21

قَوْله تَعَالَى: {سابقوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم} أَي: سارعوا، يُقَال: إِن الْمُسَابقَة بِالْإِيمَان. وَيُقَال: بالتكبيرة الأولى والصف الأول، حُكيَ هَذَا عَن رَبَاح بن عُبَيْدَة. وَعَن وَكِيع بن الْجراح قَالَ: كُنَّا إِذا رَأينَا الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى علمنَا أَنه لَا يفلح.

{وَرُسُله ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (21) مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم إِلَّا فِي كتاب من قبل أَن نبرأها إِن ذَلِك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم وَالله لَا يحب كل مختال} وَقَوله: {وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض} المُرَاد مِنْهُ: ألصق بعضه بِبَعْض فَمَا يبلغ عرض الْجَمِيع، فَهُوَ عرض الْجنَّة. وَقيل: المُرَاد من الْمُسَابقَة: الْمُسَابقَة إِلَى التَّوْبَة. وَقيل: إِلَى النَّبِي. وَقَوله: {عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض} أَي: سعتها، قَالَ الشَّاعِر: (كَأَن بِلَاد الله وَهِي عريضة ... على الْخَائِف الْمَطْلُوب كفة حابل) وَقَوله تَعَالَى: {أعدت للَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله} أَي: صدقُوا الله، وَصَدقُوا لَهُ رسله. وَقَوله: {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

22

قَوْله تَعَالَى: {مَا أصَاب من مُصِيبَة فِي الأَرْض وَلَا فِي أَنفسكُم} الْمُصِيبَة فِي الأَرْض: مَا يُصِيب الأَرْض من الجدب والقحط وهلاك الثِّمَار وَمَا أشبه ذَلِك، والمصيبة فِي الْأَنْفس هِيَ الأسقام والأمراض وَمَا يشبهها. وَقَوله: {إِلَّا فِي كتاب} قد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " لما خلق الله الْقَلَم قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَالْكتاب هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَقَوله: {من قبل أَن نبرأها} أَي: من قبل أَن نخلقها. وَالْكِتَابَة يجوز أَن ترجع إِلَى النقوش، وَيجوز أَن نرْجِع إِلَى الْمُصِيبَة. وَقَوله: {إِن ذَلِك على الله يسير} أَي: هَين.

23

قَوْله تَعَالَى: {لكيلا تأسوا على مَا فاتكم} الأسى: هُوَ الْحزن والتندم.

{فخور (23) الَّذين يَبْخلُونَ ويأمرون النَّاس بالبخل وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد (24) لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} وَقَوله: {وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم} أَي: لَا تبطروا وَلَا تأشروا. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا من أحد إِلَّا ويحزن، وَلَكِن المُرَاد بِالْآيَةِ هُوَ أَن نشكر عِنْد النِّعْمَة، وَنَصْبِر عِنْد الْمُصِيبَة. وَعَن بَعضهم مَعْنَاهُ: لَا يُجَاوز مَا حَده الله تَعَالَى يَعْنِي: لَا يجزع عِنْد الْمُصِيبَة جزعا يُخرجهُ إِلَى ترك الرِّضَا، وَلَا يفرح عِنْد النِّعْمَة فَرحا يُخرجهُ عَن طَاعَة الله، أَو يمْسِكهَا عَن حُقُوقهَا، وَلَكِن إِذا علم أَن الْكل بِقَضَاء الله وَقدره، وَأَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه، وَمَا أَصَابَهُ لم لكم يكن ليخطئه، هان عَلَيْهِ مَا فَاتَ، وَلم يفرح بِمَا أصَاب. وَعَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: إِذا اسْتَأْثر الله عَلَيْك بِشَيْء [مَا فاتك] ذَلِك عَن ترك ذكره. وَمن الْمَعْرُوف قَول النَّبِي " لله مَا أَخذ، وَللَّه مَا أعْطى ". وَقَوله: {وَالله لَا يحب كل مختال فخور} أَي: متكبر منان بِمَا أعْطى.

24

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يَبْخلُونَ ويأمرون النَّاس بالبخل} قَالَ أهل الْعلم: الْبُخْل حَقِيقَته هُوَ منع المَال عَن حق الله تَعَالَى. وَقَالَ بَعضهم: إِذا وَضعه فِي غير مَوْضِعه فَهُوَ بخيل، وَإِن أعْطى وَأكْثر، وَإِذا وَضعه فِي مَوْضِعه فَلَيْسَ ببخيل وَإِن قل. وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: من أدّى زَكَاة مَاله فقد برِئ من الْبُخْل. وَفِي الْآيَة قَول آخر ذكره السدى وَغَيره: أَن الْآيَة فِي الْيَهُود؛ وبخلهم هُوَ كتمان صفة الرَّسُول، وَأمرهمْ بالبخل أَمرهم بِالْكِتْمَانِ. وَقَوله: {وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} أَي: الْغَنِيّ عَن طَاعَة خلقه، الحميد فِي فعاله. وَقيل: الْغَنِيّ عَن صدقَات الْخلق، الحميد فِي إفضاله عَلَيْهِم. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: يَبْخلُونَ أَي: لَا يتصدقون، ويأمرون النَّاس بالبخل، أَي:

{وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد وَمَنَافع للنَّاس وليعلم الله من ينصره وَرُسُله بِالْغَيْبِ إِن الله قوي عَزِيز (25) وَلَقَد أرسلنَا نوحًا وَإِبْرَاهِيم وَجَعَلنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب} بترك الصَّدَقَة. وَالْفرق بَين الْبَخِيل والسخي: أَن السخي هُوَ الَّذِي يلتذ بالإعطاء، والبخيل هُوَ الَّذِي يلتذ بالإمساك. وَقيل: الْبَخِيل هُوَ الَّذِي يُعْطي مَا يُعْطي وَنَفسه غير طيبَة، والسخي هُوَ الَّذِي يُعْطي مَا يُعْطي طيبَة بهَا نَفسه.

25

قَوْله تَعَالَى: {لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب} أَي: الْكتب. وَقَوله: {وَالْمِيزَان} قَالَ قَتَادَة: الْعدْل. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: الْمِيزَان الْمَعْرُوف الَّذِي توزن بِهِ الْأَشْيَاء. وَمَعْنَاهُ: وَضعنَا الْمِيزَان، وعَلى القَوْل الأول مَعْنَاهُ: أمرنَا بِالْعَدْلِ. وَقَوله: {ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} أَي: بِالْعَدْلِ فِي الْمِيزَان. وَقَوله: {وأنزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد} قَوْله: {أنزلنَا الْحَدِيد} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: وخلقنا الْحَدِيد وأحدثناه. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْإِنْزَال من السَّمَاء حَقِيقَة، " وَأَن الله تَعَالَى لما أنزل آدم إِلَى الأَرْض أنزل مَعَه العلاة والكلبتين والميقعة " وَهِي المطرقة وَقيل: أنزل مَعَه الْحجر الْأسود وعصا مُوسَى من آس الْجنَّة وَمَا ذكرنَا من الْحَدِيد. وَقَوله: {فِيهِ بَأْس شَدِيد} أَي: هُوَ سلَاح وجنة. فالسلاح يُقَاتل بِهِ، وَالْجنَّة يتقى وَقَوله {مَنَافِع للنَّاس} هِيَ مَا يتَّخذ من الْآلَات من الْحَدِيد مثل الفأس والقدوم والمنشار والمسلة والإبرة وَنَحْوهَا بهَا. وَقَوله: {وليعلم الله من ينصره وَرُسُله بِالْغَيْبِ} ذكر هَاهُنَا هَذَا؛ لِأَن نصْرَة الله تَعَالَى ونصرة رسله بِالْقِتَالِ، والقتال بآلات الْحَدِيد، وَإِنَّمَا قَالَ: {بِالْغَيْبِ} لِأَن كل مَا يَفْعَله الْعباد من الطَّاعَات إِنَّمَا يَفْعَلُونَهُ بِالْغَيْبِ، على مَا قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ} . وَقَوله: {إِن الله قوي عَزِيز} ظَاهر الْمَعْنى.

{فَمنهمْ مهتد وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ (26) ثمَّ قفينا على آثَارهم برسلنا وقفينا بِعِيسَى ابْن مَرْيَم وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل وَجَعَلنَا فِي قُلُوب الَّذين اتَّبعُوهُ رأفة وَرَحْمَة ورهبانية ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِم إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله فَمَا رعوها حق رعايته فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم}

26

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا وَإِبْرَاهِيم وَجَعَلنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب فَمنهمْ مهتد} أَي: مُسلم. {وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} أَي: كافرون.

27

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ قفينا على آثَارهم برسلنا} أَي: أتبعنا. وَقَوله: {وقفينا بِعِيسَى ابْن مَرْيَم وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيل} أَي: أعطيناه الْإِنْجِيل جملَة. وَقَوله: {وَجَعَلنَا فِي قُلُوب الَّذين اتَّبعُوهُ رأفة وَرَحْمَة} الرأفة: أَشد الرَّحْمَة، وَالْمرَاد بهؤلاء: هم الَّذين بقوا على دين الْحق، وَلم يُغيرُوا وَلم يبدلوا بعد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله: {ورهبانية ابتدعوها} أَي: وابتدعوها رَهْبَانِيَّة من تِلْقَاء أنفسهم، والرهبانية هِيَ مَا ابتدعوها من السياحة فِي البراري (والمفاوز) . قيل: هُوَ التفرد فِي الديار والصوامع لِلْعِبَادَةِ. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا رَهْبَانِيَّة فِي الْإِسْلَام ". وَفِي رِوَايَة قَالَ: " رَهْبَانِيَّة أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله ". وَفِي الْأَخْبَار: أَن سَبَب ابتداعهم الرهبانية أَن الْمُلُوك بعد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام بدلُوا دين عِيسَى، وَقتلُوا الْعباد والأخيار من بني إِسْرَائِيل حِين دعوهم إِلَى الْحق؛ فَقَالَ الأخيار فِيمَا بَينهم وهم الَّذين بقوا إِنَّهُم وَإِن قتلونا لَا يسعنا الْمقَام فِيمَا بَينهم وَالسُّكُوت، فلحق بَعضهم بالبراري وساحوا، وَبنى بَعضهم الصوامع وتفردوا فِيهَا لِلْعِبَادَةِ، فَكَانَ أصل الرهبانية بِهَذَا السَّبَب. وَقَوله: {مَا كتبناها عَلَيْهِم} أَي: مَا فرضناها عَلَيْهِم.

{أجرهم وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ (27) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم (28) لِئَلَّا} وَقَوله: {إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله} انتصب لمَحْذُوف، والمحذوف: مَا ابتدعوها إِلَّا ابْتِغَاء رضوَان الله. وَقَوله: {فَمَا رعوها حق رعايتها} أَي: مَا قَامُوا كَمَا يجب الْقِيَامَة بهَا. وَقَوله: {فآتينا الَّذين آمنُوا مِنْهُم أجرهم} أَي: ثوابهم، وهم الَّذين آمنُوا بِمُحَمد بعد أَن ترهبوا. وَقَوله: {وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ} أَي: الَّذين بقوا على الْكفْر.

28

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته} أَي: نَصِيبين. وَقيل: أَجْرَيْنِ من رَحمته. وَفِي التَّفْسِير: أَن سَبَب نزُول الْآيَة أَن الله تَعَالَى لما أنزل عَلَيْهِم قَوْله: {وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا} إِلَى قَوْله: {أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ} تفاخر الَّذين آمنُوا من أهل الْكتاب على سَائِر الْمُؤمنِينَ من الصَّحَابَة، وَقَالُوا: إِنَّكُم تؤتون أجوركم مرّة، وَنحن نؤتى مرَّتَيْنِ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة بِشَارَة لسَائِر الْمُؤمنِينَ. وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنه قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " ثَلَاثَة يُؤْتونَ أُجُورهم مرَّتَيْنِ: رجل آمن بِالْكتاب الأول ثمَّ آمن بِالْكتاب الثَّانِي، وَرجل اشْترى جَارِيَة فأدبها وَأحسن تأديبها ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا، وَعبد أطَاع ربه ونصح لسَيِّده ". وَقيل: قَوْله: {يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته} وَهُوَ أجر السِّرّ وَأجر الْعَلَانِيَة. وَقيل: أجر أَدَاء حق الله تَعَالَى وَأَدَاء حق الْعباد. وَقَوله: {وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ} هُوَ النُّور الَّذِي بَينا من قبل يضيئهم على الصِّرَاط. وَقيل: هُوَ نور الْإِسْلَام. وَقَوله: {تمشون بِهِ} أَي: تسلكون طَرِيق الْإِسْلَام بنوره.

{يعلم أهل الْكتاب أَلا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (29) .} وَقَوله: {وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

29

قَوْله تَعَالَى: {لِئَلَّا يعلم أهل الْكتاب} وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ تَفْسِير الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة. وَقد قَالَ الْأَخْفَش وَالْفراء وَغَيرهمَا: إِن " لَا " صلَة هَاهُنَا، وَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر: (وَلَا ألزم الْبيض أَن لَا تسحرُوا ... ) أَي: أَن تسحرُوا. وَقَوله: {أَلا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله} مَعْنَاهُ: إِنَّا أعطينا مَا أعطينا من الكفلين من الرَّحْمَة للْمُؤْمِنين؛ ليعلم أهل الْكتاب أَن لَيْسَ بِأَيْدِيهِم إِيصَال فضل الله الْوَاحِد، وَيعلم الْمُؤْمِنُونَ أَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء، وَهُوَ معنى قَوْله: {وَأَن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء} أَي: يُعْطِيهِ من يَشَاء، وَقيل معنى الْآيَة: ليعلم أهل الْكتاب أَن من لم يُؤمن بِمُحَمد لَيْسَ لَهُ نصيب من فضل الله يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {أَلا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله} أَي: لَا يصلونَ إِلَى شَيْء من فضل الله حِين لم يُؤمنُوا بِمُحَمد، وَالْفضل بيد الله يوصله إِلَى الْمُؤمنِينَ بِمُحَمد بمشيئته، وَالْفضل هَاهُنَا هُوَ الْجنَّة. وَقَوله: {وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} أَي: لَهُ الْفضل الْعَظِيم، وَهُوَ الْقَادِر على إِيصَال الْفضل الْعَظِيم يَعْنِي: إِلَى من يَشَاء من عباده وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي إِلَى الله وَالله يسمع تحاوركما إِن} تَفْسِير سُورَة المجادلة وَهِي مَدَنِيَّة

المجادلة

قَوْله تَعَالَى: {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي إِلَى الله} نزلت الْآيَة فِي خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة، وَهِي امْرَأَة أَوْس بن الصَّامِت، وَيُقَال: خَوْلَة بنت خويلد. وَقيل: خَوْلَة بنت الصَّامِت، وَالأَصَح هُوَ الأول، وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير مِنْهُم: مُجَاهِد، وَقَتَادَة، وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ، وَغَيرهم. وَكَانَ أَوْس بن الصَّامِت ظَاهر مِنْهَا. وَفِي رِوَايَة عَن خَوْلَة أَنَّهَا قَالَت: " كَانَ بأوس بن الصَّامِت لمَم، فراجعته فِي بعض الْأَمر فَظَاهر منى ". قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَتَت خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة رَسُول الله وَقَالَت: إِن أَوْس بن الصَّامِت زَوجي وَابْن عمي وَأحب النَّاس إِلَيّ وَقد ظَاهر مني، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " مَا أَرَاك إِلَّا وَقد حرمت عَلَيْهِ "، فَجعلت تَشْتَكِي وَتقول: أَبُو وَلَدي وَزَوْجي وَلَا أَسْتَطِيع فِرَاقه، وَرَسُول الله يَقُول: " مَا أَرَاك إِلَّا وَقد حرمت عَلَيْهِ "، وَهِي تراجعه مرّة بعد أُخْرَى، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: (قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا) " قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: سُبْحَانَ الَّذِي وسع سَمعه الْأَصْوَات، كنت فِي جَانب الْبَيْت وَلَا أسمع مَا تَقوله خَوْلَة، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} . وَقَوله: {وتشتكي إِلَى الله} اشْتَكَى وشكا بِمَعْنى وَاحِد وَقَوله {وَالله يسمع تحاوركما} أَي: تراجعكما. وَقَوله: {إِن الله سميع بَصِير} ظَاهر.

{الله سميع بَصِير (1) الَّذين يظاهرون مِنْكُم من نِسَائِهِم مَا هن أمهاتهم إِن أمهاتهم إِلَّا اللائي ولدنهم وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل وزورا وَإِن الله لعفو غَفُور (2) وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير رَقَبَة من قبل أَن يتماسا ذَلِكُم}

2

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يظاهرون مِنْكُم من نِسَائِهِم مَا هن أمهاتهم} أَي: لَيْسَ هن بأمهاتهم، وَالْمعْنَى: أَنه لَيْسَ أَزوَاجهنَّ كَمَا قَالُوا: إِن ظهورهن كَظهر أمهاتهم. وَقَوله: {إِن أمهاتهم إِلَّا اللائي ولدنهم وَإِنَّهُم ليقولون مُنْكرا من القَوْل وزورا} قَالَ قَتَادَة: أَي: كذبا. وَالْكذب هُوَ قَوْله لَهَا: أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي. وَقَوله: {وَإِن الله لعفو غَفُور} أَي: لمن نَدم على قَوْله،

3

وَهَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير} قَالَ الْحسن وَطَاوُس وَالزهْرِيّ: الْعود هُوَ الْوَطْء، وَهَذَا قَول مَالك. وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن ينْدَم على مَا قَالَ وَيرجع إِلَى الألفة. وَمذهب الشَّافِعِي فِي الْعود أَنه يمْسِكهَا على النِّكَاح عقيب الظِّهَار وَلَا يطلقهَا، قَالَ: وَإِنَّمَا يكون هَذَا عودا؛ لِأَن الظِّهَار قصد التَّحْرِيم، فَإِذا مضى وَقت عقيب الظِّهَار، وَلم يحرمها على نَفسه بِالطَّلَاق، فَهُوَ عَائِد عَمَّا قَالَ. وَيجوز أَن يكون على هَذَا قَول ابْن عَبَّاس الَّذِي ذكرنَا. وَأما مَذْهَب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قَالَ: الْعود هُوَ أَن يعزم على إِِمْسَاكهَا، فَإِذا فعل ذَلِك فقد تحقق الْعود. وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين قَول الشَّافِعِي أَنه إِذا مضى عقيب الظِّهَار وَقت يُمكنهُ أَن يطلقهَا فِيهِ وَلم يُطلق فَهُوَ عَائِد، وَإِن لم يعزم على إِِمْسَاكهَا. وَعند أبي حنيفَة مَا لم يعزم على إِِمْسَاكهَا لَا يكون عَائِدًا. وَفِي الْآيَة قَول رَابِع، وَهُوَ قَول أبي الْعَالِيَة وَبُكَيْر بن عبد الله الْأَشَج: أَن الْعود هُوَ أَن يُكَرر لفظ الظِّهَار وأولا الْعود لما قَالُوا بِهَذَا. وَقَالَ القتيبي: ثَبت الظِّهَار بِنَفس القَوْل وَتجب الْكَفَّارَة. وَمعنى الْعود فِي هَذَا هُوَ الْعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة من فعل

{توعظون بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (3) فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين من قبل أَن يتماسا فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا ذَلِك لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وَتلك حُدُود} الظِّهَار، وَكَأَنَّهُ قَالَ: " ويعودون لما قَالُوا " يَعْنِي: إِلَى مَا قَالَه أهل الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ الْأَخْفَش سعيد بن مسْعدَة: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وتقديرها: وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون فَتَحْرِير رَقَبَة بِمَا قَالُوا. وَقَوله: {من قبل أَن يتماسا} يَعْنِي: الْوَطْء، وَأما اللَّمْس فِيمَا دون الْفرج اخْتلفُوا فِيهِ، فحكي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: يجوز. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا يجوز، وَالأَصَح أَنه لَا يجوز حَتَّى يكفر. وَقَوله: {ذَلِكُم توعظون بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {فَتَحْرِير رَقَبَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: مُؤمنَة. وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: رَقَبَة قد صلت وَعرفت الْإِيمَان. وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي دَعَا أَوْس بن الصَّامِت وَقَالَ: " اعْتِقْ رَقَبَة. فَقَالَ: لَا أَجدهَا. فَقَالَ: صم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، قَالَ: لَا أَسْتَطِيع وَكَانَ شَيخا قد أسن وَكبر فَقَالَ: أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا، فَقَالَ: " نعم ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ: " لَا أجد إِلَّا أَن تعينني، فأعانه رَسُول الله بفرق من تمر، وأعانته الْمَرْأَة بفرق من تمر ". وَفِي رِوَايَة: " أَنه لما أعطَاهُ رَسُول الله التَّمْر قَالَ: لَيْسَ فِي الْمَدِينَة أحد أحْوج إِلَيْهِ مني، فَقَالَ: كُله أَنْت وَعِيَالك ".

4

قَوْله تَعَالَى: {فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين من قبل أَن يتماسا} قد بَينا. وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: إِذا أفطر بِعُذْر يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا يسْتَقْبل. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: يسْتَقْبل. وَعَلِيهِ أَكثر الْفُقَهَاء.

{الله وللكافرين عَذَاب أَلِيم (4) إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله كبتوا كَمَا كبت الَّذين من قبلهم وَقد أنزلنَا آيَات بَيِّنَات وللكافرين عَذَاب مهين (5) يَوْم يَبْعَثهُم الله جَمِيعًا فينبئهم بِمَا عمِلُوا أَحْصَاهُ الله ونسوه وَالله على كل شَيْء شَهِيد (6) ألم تَرَ أَن الله} وَقَوله: {فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} قد بَينا، وَالأَصَح أَنه يطعم مدا مدا، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس. وَقَوله: {ذَلِك لتؤمنوا بِاللَّه وَرَسُوله وَتلك حُدُود الله} أَي: سنة الله، وَيُقَال: أوَامِر الله. وَقَوله: {وللكافرين عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم.

5

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله} أَي: يكونُونَ فِي حد غير حد الْمُؤمنِينَ. وَيُقَال: إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله أَي: يعادون الله وَرَسُوله. وَقَوله فِي مَوضِع آخر: {وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله} أَي: يكون فِي شقّ غير شقّ الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {كبتوا} أَي: أخزوا، قَالَه قَتَادَة. وَيُقَال: أهلكوا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَيُقَال: لعنُوا، قَالَه السدى. وَقَوله: {كَمَا كبت الَّذين من قبلهم} أَي: كَمَا أخزى وَأهْلك وَلعن الَّذين من قبلهم. وَقَوله: {وَقد أنزلنَا آيَات بَيِّنَات وللكافرين عَذَاب مهين} أَي: يهينهم، وَهُوَ من الهوان، وَمن عذبه الله فقد أهانه.

6

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَبْعَثهُم الله جَمِيعًا فينبئهم بِمَا عمِلُوا} أَي: يُخْبِرهُمْ. وَقَوله: {أَحْصَاهُ الله ونسوه} أَي: أحَاط بِهِ علم الله، ونسوه أَي: نَسيَه من عمل بِهِ. وَقَوله: {وَالله على كل شَيْء شَهِيد} أَي: شَاهد.

7

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض مَا يكون من نجوى

{يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم وَلَا خَمْسَة إِلَّا هُوَ سادسهم إِلَّا وَلَا أدنى من ذَلِك وَلَا أَكثر إِلَّا هُوَ مَعَهم أَيْن مَا كَانُوا ثمَّ ينبئهم بِمَا عمِلُوا يَوْم الْقِيَامَة إِن الله بِكُل شَيْء عليم (7) ألم تَرَ إِلَى الَّذين نهوا عَن النَّجْوَى ثمَّ} ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم) ذكر الزّجاج أَن السرَار والنجوى بِمَعْنى وَاحِد. وَعَن بَعضهم: أَن السرَار يكون بَين اثْنَيْنِ، والنجوى [تكون] بَين ثَلَاثَة وَأكْثر إِذا إخفي. وَقَوله: {إِلَّا هُوَ رابعهم} يَعْنِي: بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة. وَقَوله: {وَلَا خَمْسَة إِلَّا هُوَ سادسهم} هُوَ كَمَا بَينا. وَقَوله: {وَلَا أدنى من ذَلِك وَلَا أَكثر هُوَ مَعَهم أَيْنَمَا كَانُوا} هُوَ كَمَا بَينا. وَقَوله: {ثمَّ ينبئهم بِمَا عمِلُوا يَوْم الْقِيَامَة إِن الله بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم.

8

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين نهوا عَن النَّجْوَى} نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُنَافِقين كَانَ رَسُول الله إِذا بعث سَرِيَّة قَالُوا فِيمَا بَينهم: قد أصَاب السّريَّة، وَكَذَا قد أَسرُّوا وَقتلُوا وَمَا يشبه ذَلِك إرجافا بِالْمُسْلِمين، فنهاهم النَّبِي عَن ذَلِك، فَكَانُوا يَقُولُونَ قد نبئنا. [قَوْله] : {ثمَّ يعودون [لما نهوا عَنهُ] } . قَوْله: {ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرَّسُول} وَهُوَ بِالْمَعْنَى الَّذِي بَيناهُ من قبل. وَقَوله: {وَإِذا جاءوك وحيوك بِمَا لم يحيك بِهِ الله} هَذَا فِي الْيَهُود. وَيُقَال: إِن أول الْآيَة فِي الْيَهُود أَيْضا، وتحيتهم أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: السام عَلَيْك يَا مُحَمَّد، وَكَانَ السام فِي لغتهم الْمَوْت والهلاك، وَكَانَ رَسُول الله يَقُول: " وَعَلَيْكُم ". فَروِيَ فِي بعض الْأَخْبَار: " أَن عَائِشَة سمعتهم يَقُولُونَ ذَلِك، فَجعلت تسبهم وتلعنهم، فزجها النَّبِي عَن ذَلِك وَقَالَ لَهَا: " يَا عَائِشَة، إِن الله لَا يحب الْفُحْش والتفحش، وَقَالَت:

{يعودون لما نهوا عَنهُ ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرَّسُول وَإِذا جاءوك حيوك بِمَا لم يحيك بِهِ الله وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول حسبهم جَهَنَّم يصلونها فبئس الْمصير (8) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تناجيتم فَلَا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرَّسُول وتناجوا بِالْبرِّ وَالتَّقوى وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون} يَا رَسُول الله، ألم تسمع مَا قَالُوا؟ ! فَقَالَ رَسُول الله: ألم تسمعي مَا قلت، قلت: وَعَلَيْكُم، وَإِنَّا نستجاب فيهم، وَلَا يستجابون فِينَا ". وَقَوله: {وَيَقُولُونَ فِي أنفسهم لَوْلَا يعذبنا الله بِمَا نقُول} الْمَعْنى: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: لَو كَانَ مُحَمَّد نَبيا لعذبنا الله بِمَا نقُول. وَقَوله: {حسبهم جَهَنَّم} أَي: كافيهم عَذَاب جَهَنَّم. وَقَوله: {يصلونها} أَي: يدْخلُونَهَا. وَقَوله: {وَبئسَ الْمصير} أَي: المنقلب والمرجع.

9

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تناجيتم فَلَا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرَّسُول وتناجوا بِالْبرِّ وَالتَّقوى} أَي: وَمَا تَتَّقُون بِهِ. وَقَوله: {وَاتَّقوا الله الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون} يَوْم الْقِيَامَة. وَإِذا حملنَا الْآيَة على الْمُنَافِقين فَقَوله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} أَي: آمنُوا بألسنتهم، وَالأَصَح أَن الْخطاب للْمُؤْمِنين، أَمرهم الله تَعَالَى أَلا يَكُونُوا كالمنافقين وكاليهود.

10

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا النَّجْوَى من الشَّيْطَان} يَعْنِي: أَن النَّجْوَى بَينهم على مَا بَينا [هِيَ] من الشَّيْطَان. وَقَوله: {ليحزن الَّذين آمنُوا} أَي: ليحزنوا بِمَا يسمعُونَ من الإرجاف بالسرية.

((9} إِنَّمَا النَّجْوَى من الشَّيْطَان ليحزن الَّذين آمنُوا وَلَيْسَ بضارهم شَيْئا إِلَّا بِإِذن الله وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قيل لكم تَفَسَّحُوا فِي) وَقَوله تَعَالَى: {وَلَيْسَ بضارهم شَيْئا} يَعْنِي: أَن الإرجاف لَا يضر السّريَّة. وَقَوله تَعَالَى: {إِلَّا بِإِذن الله} أَي: بِعلم الله. وَقَوله: {وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} أَي: فليتق الْمُؤْمِنُونَ.

11

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا قيل لكم تَفَسَّحُوا فِي الْمجْلس فافسحوا يفسح الله لكم} مَعْنَاهُ: إِذا قيل لكم توسعوا فِي الْمجْلس أَي: فِي مجْلِس رَسُول الله فوسعوا يُوسع الله لكم. أَي: فِي الْجنَّة. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي ثَابت بن قيس بن شماس، وَكَانَ بِهِ صمم، فجَاء يَوْمًا وَقد (جلس) النَّاس عِنْد النَّبِي، فَطلب أَن يوسعوا لَهُ ليقرب من النَّبِي وَيسمع، فوسعوا لَهُ إِلَّا رجلا وَاحِدًا وَكَانَ قَرِيبا من النَّبِي لم يُوسع لَهُ، وَقَالَ لَهُ: قد أصبت موضعا فَاقْعُدْ، فَعَيَّرَهُ ثَابت بن قيس بِأم كَانَت لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَسمع النَّبِي ذَلِك فَقَالَ: " يَا ثَابت، انْظُر من الْقَوْم فَلَيْسَ لَك على أحد مِنْهُم فضل إِلَّا بالتقوى ". وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمر الْمُسلمين أَن يتوسعوا فِي الْمجْلس. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: نزلت الْآيَة فِي صُفُوف الْجِهَاد. وَالْمرَاد من التفسح هَاهُنَا هُوَ الْقعُود فِي الْمَكَان من (اختباء) لَا للحرب. وَالْقَوْل الأول أظهر. وَقَوله: {وَإِذا قيل انشزوا فانشزوا} قَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: إِذا دعيتم إِلَى خير فأجيبوا. وَقَالَ الْحسن: هُوَ فِي الْحَرْب. وَقيل: هُوَ النهوض فِي جَمِيع الْأَشْيَاء بعد أَن يكون من الْخيرَات، وَذَلِكَ مثل: الْجِهَاد، وصفوف الْجَمَاعَات، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وَمَا أشبه ذَلِك.

{الْمجَالِس فافسحوا يفسح الله لكم وَإِذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (11) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نَاجَيْتُم الرَّسُول فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة ذَلِك خير لكم وأطهر فَإِن لم تَجدوا} وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن قَوْله: {فانشزوا} هُوَ إِذا فرغ النَّبِي فاخرجوا من عِنْده، وَلَا تلبثوا عِنْده فتثقلوا عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أطعمْتُم فَانْتَشرُوا وَلَا مستأنسين لحَدِيث} . وَقَوله: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} أَي: بإيمَانهمْ وعلمهم. وَقيل: كَانَ النَّبِي يسْتَحبّ أَن يكون بِالْقربِ مِنْهُ أولُوا الْعلم وَالنَّهْي من أَصْحَابه، فَكَانَ غَيرهم يَأْتِي وَيقرب من النَّبِي، ثمَّ إِذا حضر الأكابر وَأولُوا الْعلم من أَصْحَابه كَانَ يَقُول: " يَا فلَان، قُم، وَيَا فلَان، قُم وَتَأَخر؛ ليقعد أولُوا الْعلم وَالنَّهْي بِالْقربِ مِنْهُ، فعلى هَذَا معنى قَوْله: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ يرفعهم النَّبِي ويقعدهم بِالْقربِ. يَعْنِي: أَنهم أَصَابُوا مَا أَصَابُوا من الرّفْعَة والرتبة بِالْإِيمَان وَالْعلم. وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} أَي: عليم.

12

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نَاجَيْتُم الرَّسُول فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة} سَبَب نزُول الْآيَة أَن النَّاس كَانُوا يستكثرون من السُّؤَال على النَّبِي، وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يَتَنَاجَى مَعَ رَسُول الله طَويلا، فَأَرَادَ الله أَن يُخَفف عَن نبيه، فَأنْزل هَذِه الْآيَة. وَعَن مُجَاهِد عَن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: لم يعْمل بِهَذِهِ الْآيَة غَيْرِي، كَانَ عِنْدِي دِينَار فتصدقت بِهِ، وانتجيت مَعَ الرَّسُول. وَفِي رِوَايَة: أَنه صَارف الدِّينَار بِعشْرَة دَرَاهِم، فَكَانَ كلما أَرَادَ أَن يَتَنَاجَى مَعَ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تصدق بدرهم. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن الْمُنَافِقين قَالُوا: قد طَال نجوى مُحَمَّد مَعَ ابْن عَمه

{فَإِن الله غَفُور رَحِيم (12) أَأَشْفَقْتُم أَن تقدمُوا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صدقَات فَإِذا لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم فأقيموا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله وَالله خَبِير بِمَا} فَقَالَ النَّبِي: " مَا انتجيته أَنا وَلَكِن الله انتجاه ". فِي بعض التفاسير: أَن هَذَا لأمر لم يبْق إِلَّا سَاعَة من النَّهَار حَتَّى نسخ. وَفِي التَّفْسِير أَيْضا: أَن النَّبِي قَالَ لعَلي: " كم تقدر فِي الصَّدَقَة؟ فَقَالَ: شعيرَة، فَقَالَ: إِنَّك لَزَهِيد "، " وَكَانَ الرَّسُول قد قَالَ: " يتصدقون بِدِينَار. فَقَالَ عَليّ: إِنَّهُم لَا يطيقُونَهُ ". وَذكر بَعضهم: أَن الْمُنَافِقين كَانُوا يأْتونَ النَّبِي [ويتناجون] مَعَه طَويلا تصنعا ورياء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فبخلوا بِأَمْوَالِهِمْ وَكفوا عَن النَّجْوَى. وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك خير لكم وأطهر} أَي: أزكى. وَقَوله: {فَإِن لم تَجدوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} أَي: إِن لم تَجدوا مَا تتصدقون بِهِ فَإِن الله غفر لكم، وَرَحِمَكُمْ بِإِسْقَاط الصَّدَقَة عَنْكُم.

13

وَقَوله تَعَالَى: {أَأَشْفَقْتُم أَن تقدمُوا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صدقَات} مَعْنَاهُ: أَأَشْفَقْتُم على أَمْوَالكُم وبخلتم بهَا؟ وَقَوله: {فَإِذا لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم فأقيموا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله} نسخ ذَلِك الْأَمر بِهَذِهِ الْآيَة، كَأَنَّهُ قَالَ: فَإِذا لم تَفعلُوا ونسخناه مِنْكُم {فأقيموا الصَّلَاة} أَي: حَافظُوا عَلَيْهَا {وَآتوا الزَّكَاة} أَي: أدوها {وَأَطيعُوا الله

{تَعْمَلُونَ (13) ألم تَرَ إِلَى الَّذين توَلّوا قوما غضب الله عَلَيْهِم مَا هم مِنْكُم وَلَا مِنْهُم ويحلفون على الْكَذِب وهم يعلمُونَ (14) أعد الله لَهُم عذَابا شَدِيدا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ (15) اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة فصدوا عَن سَبِيل الله فَلهم عَذَاب مهين (16) لن} وَرَسُوله) فِيمَا يأمران من الْأَمر {وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} أَي: عليم بأعمالكم.

14

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين توَلّوا قوما غضب الله عَلَيْهِم} نزلت فِي الْمُنَافِقين كَانُوا [يتولون] الْيَهُود، وَقَالُوا لَهُم: نَحن مَعكُمْ فِي السِّرّ. وَقَوله: {مَا هم مِنْكُم وَلَا مِنْهُم} أَي: الْمُنَافِقين. وَقَوله: {ويحلفون على الْكَذِب وهم يعلمُونَ} رُوِيَ " أَن النَّبِي دَعَا عبد الله ابْن نَبْتَل وَكَانَ أحد الْمُنَافِقين فَقَالَ لَهُ: مَالك تَشْتمنِي وتؤذيني وقومك وَأَصْحَابك، فَذهب وَجَاء بِأَصْحَابِهِ يحلفوا أَنهم لم يَقُولُوا لَهُ إِلَّا خيرا "، فَهُوَ معنى قَوْله: {ويحلفون على الْكَذِب وهم يعلمُونَ} .

15

وَقَوله: {أعد الله لَهُم عذَابا شَدِيدا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: ساءت أَعْمَالهم.

16

قَوْله تَعَالَى: {اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة} مَعْنَاهُ: اتَّقوا بأيمانهم كَمَا يَتَّقِي الْمُحَارب

{تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ (17) يَوْم يَبْعَثهُم الله جَمِيعًا فَيحلفُونَ لَهُ كَمَا يحلفُونَ لكم وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء أَلا إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ (18) استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان فأنساهم ذكر الله أُولَئِكَ حزب الشَّيْطَان أَلا إِن حزب الشَّيْطَان هم الخاسرون (19) إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله} بجنته، وَهِي ترسه. وَقَوله: {فصدوا عَن سَبِيل الله} أَي: أَعرضُوا عَن سَبِيل الله. وَقَوله: {فَلهم عَذَاب مهين} ظَاهر الْمَعْنى.

17

قَوْله: {لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من الله شَيْئا} أَي: لن تدفع عَنْهُم أَمْوَالهم وَلَا أَوْلَادهم من عَذَاب الله شَيْئا. وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ} أَي: دائمون.

18

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يَبْعَثهُم الله جَمِيعًا فَيحلفُونَ لَهُ كَمَا يحلفُونَ لكم} أَي: يحلفُونَ لله كذبا كَمَا حلفوا لكم كذبا. وَقَوله: {وَيَحْسبُونَ أَنهم على شَيْء} أَي: يظنون أَنهم على شَيْء. وَقَوله: {آلا إِنَّهُم هم الْكَاذِبُونَ} أَي: الْكَاذِبُونَ على الله وعَلى رَسُوله.

19

قَوْله: {استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان} أَي: غلب عَلَيْهِم الشَّيْطَان. وَفِي صِفَات عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ أحوذيا نَسِيج وَحده. وَفِي رِوَايَة أحوزيا. وَمَعْنَاهُ بِالذَّالِ أَي: غَالِبا على الْأُمُور. وَقَوله: {فأنساهم ذكر الله} أَي: أنساهم الشَّيْطَان ذكر الله. وَقَوله: {أُولَئِكَ حزب الشَّيْطَان أَلا إِن حزب الشَّيْطَان هم الخاسرون} أَي: خسروا رضَا الله تَعَالَى وَالْجنَّة.

20

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يحادون الله وَرَسُوله} قد بَينا.

{أُولَئِكَ فِي الأذلين (20) كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي إِن الله قوي عَزِيز (21) لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ} وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي الأذلين} أَي: الأقلين. وكل كَافِر ذليل، وكل مُؤمن عَزِيز. وَمَعْنَاهُ: هم أقل دَرَجَة ورتبة.

21

وَقَوله: {كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي} أما غَلَبَة الله مَعْلُومَة؛ لِأَن كل الْأَشْيَاء على مُرَاده ومشيئته، أما غَلَبَة رسله فَهِيَ بالنصر تَارَة وبالحجة أُخْرَى. وَقَوله: {إِن الله قوي عَزِيز} أَي: قوي فِي الْأُمُور، غَالب عَلَيْهَا.

22

قَوْله تَعَالَى: {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله} أَي: لَا يكون من صفة الْمُؤمنِينَ أَن يوادوا من حاد الله وَرَسُوله {وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم} فِي نزُول الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي حَاطِب بن أبي بلتعة حِين كتب إِلَى مَكَّة يؤذنهم بغزو النَّبِي؛ وَسَتَأْتِي قصَّة ذَلِك فِي سُورَة الممتحنة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة نزلت فِي غَيره. وَقَوله: {وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم} نزل فِي أبي عُبَيْدَة بن الْجراح، وَكَانَ قتل أَبَاهُ الْكَافِر وَجَاء بِرَأْسِهِ إِلَى النَّبِي. وَقد قيل: إِن أَبَاهُ مَاتَ قبل أَن يسلم أَبُو عُبَيْدَة، وَالله أعلم. وَقَوله: {أَو أَبْنَاءَهُم} نزل فِي أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ أَن يخرج إِلَى ابْنه عبد الرَّحْمَن فيبارزه، فَمَنعه النَّبِي عَن ذَلِك وَقَالَ: " نبله مِنْهُ غَيْرك ". وَقَوله: {أَو إخْوَانهمْ} نزل فِي عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قتل أَخَاهُ هِشَام بن الْعَاصِ يَوْم بدر، وَكَانَ أَخَاهُ من أمه. وَقَوله: {أَو عشيرتهم} نزل فِي حَمْزَة وَعلي وَعبيدَة بن الْحَارِث رَضِي الله عَنْهُم بارزوا مَعَ عتبَة وَشَيْبَة والوليد بن عتبَة، وَقد كَانُوا عشيرتهم وقرابتهم.

{ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ أُولَئِكَ حزب الله أَلا إِن حزب الله هم المفلحون (22) .} وَقَوله: {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} أَي: أَدخل فِي قُلُوبهم الْإِيمَان. وَقيل: كتب أَي: جعل فِي قُلُوبهم عَلامَة تدل على إِيمَانهم. وَقَوله: {وأيدهم بِروح مِنْهُ} أَي: قواهم بنصر مِنْهُ. وَقيل: بِنَظَر مِنْهُ. وَقيل: برحمة مِنْهُ. وَقَوله: {ويدخلهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} مَعْلُوم الْمَعْنى. وَقَوله: {أُولَئِكَ حزب الله} أَي: جند الله. وَقيل: خَاصَّة الله وصفوته. وَتقول الْعَرَب: أَنا فِي حزب فلَان أَي: فِي شقّ فلَان وجانبه. وَقَوله: {أَلا إِن حزب الله هم المفلحون} أَي: هم السُّعَدَاء الْبَاقُونَ فِي نعيم الْأَبَد. وَقيل: هم الَّذين نالوا رضَا الله تَعَالَى، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (1) هُوَ الَّذِي أخرج} تَفْسِير سُورَة الْحَشْر وَهِي مَدَنِيَّة وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه سَمَّاهَا سُورَة النَّضِير، وَالله اعْلَم

الحشر

قَوْله تَعَالَى: {سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} أَي: صلى وَتعبد لله. وَالتَّسْبِيح لله تَعَالَى: هُوَ تنزيهه من كل سوء. وَذكر بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كل تَسْبِيح ورد فِي الْقُرْآن فَهُوَ بِمَعْنى الصَّلَاة. وَمِنْه قَوْله: سبْحَة الضُّحَى أَي: صَلَاة الضُّحَى. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب على الْأَشْيَاء، الْحَكِيم فِي الْأُمُور.

2

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ} قَالَ جمَاعَة الْمُفَسّرين: هم بَنو النَّضِير من الْيَهُود، وَكَانَ رَسُول الله وادعهم وَشرط عَلَيْهِم أَن لَا ينصرُوا مُشْركي قُرَيْش، فنقضوا الْعَهْد. وَرُوِيَ أَن نقضهم الْعَهْد كَانَ هُوَ أَن النَّبِي أَتَاهُم يَسْتَعِين بهم فِي دِيَة التلاديين وَقيل الْعَامِرِيين قَتْلَى عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، فجَاء وَقعد فِي أصل حصنهمْ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بك يَا مُحَمَّد؟ ! فَذكر لَهُم مَا جَاءَ فِيهِ، واستعان بهم، فدبروا ليلقوا عَلَيْهِ صَخْرَة ويقتلوه؛ فجَاء جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأخْبرهُ، فَرجع إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ حَاصَرَهُمْ وأجلاهم ". وَقَوله: {لأوّل الْحَشْر} قَالَ الْحسن: معنى أول الْحَشْر: هُوَ أَن الشَّام أَرض الْحَشْر والمنشر، وَكَانَ رَسُول الله أجلاهم إِلَى الشَّام، فإجلاءه إيَّاهُم كَانَ هُوَ الْحَشْر الأول، والحشر الثَّانِي يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ قَول عِكْرِمَة أَيْضا. وَقَالَ عِكْرِمَة: من شكّ أَن الشَّام أَرض الْمَحْشَر فليقرأ قَوْله تَعَالَى: {لأوّل الْحَشْر} . وَقيل: إِن بني النَّضِير كَانُوا أول من

{الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ لأوّل الْحَشْر مَا ظننتم أَن يخرجُوا وظنوا أَنهم مانعتهم حصونهم من الله فَأَتَاهُم الله من حَيْثُ لم يحتسبوا وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار (2) وَلَوْلَا أَن} أجلوا عَن بِلَادهمْ من الْيَهُود فَقَالَ: {لأوّل الْحَشْر} بِهَذَا الْمَعْنى. ثمَّ إِن عمر رَضِي الله عَنهُ أجلى بَاقِي الْيَهُود عَن جَزِيرَة الْعَرَب اسْتِدْلَالا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لَا يجْتَمع دينان فِي جَزِيرَة الْعَرَب " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وجزيرة الْعَرَب من حفر أبي مُوسَى إِلَى أقْصَى حجر بِالْيمن طولا، وَمن رمل يبرين إِلَى مُنْقَطع السماوة عرضا. وَالْقَوْل الثَّانِي قَول مُجَاهِد وَغَيره. وَقَوله: {مَا ظننتم أَن يخرجُوا} مَعْنَاهُ: مَا ظننتم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ أَن يخرجُوا؛ لأَنهم كَانُوا أعز الْيَهُود بِأَرْض الْحجاز وأمنعهم جانبا. قَوْله: {وظنوا أَنهم مانعتهم حصونهم من الله} أَي: من عَذَاب الله. وَقَوله: {فَأَتَاهُم الله من حَيْثُ لم يحتسبوا} قَالَ السدى: هُوَ بقتل كَعْب بن الْأَشْرَف، قَتله مُحَمَّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ حِين بَعثه رَسُول الله وَكَانَ صديقا لكعب فِي الْجَاهِلِيَّة فَجَاءَهُ لَيْلًا ودق عَلَيْهِ بَاب الْحصن، فَنزل وفاغتاله وَقَتله، وَرُوِيَ أَن مُحَمَّد بن مسلمة قَالَ لكعب: أَلَسْت كنت تعدنا خُرُوج هَذَا النَّبِي؟ وَتقول: هُوَ الضحوك الْقِتَال يركب الْبَعِير، ويلبس الشملة، يجترئ بالكسرة، سَيْفه على عَاتِقه، لَهُ ملاحم وملاحم. فَقَالَ: نعم، وَلَكِن لَيْسَ هُوَ بِذَاكَ. فَقَالَ كذبت يَا عَدو الله، بل حسدتموه. وَقَوله: {وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب} أَي: الْخَوْف، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " نصرت بِالرُّعْبِ مسيرَة شهر ". وَقَوله: {يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ} وَقُرِئَ: " يخربون " من

{كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء لعذبهم فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار (3) ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يشاق الله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب (4) مَا قطعْتُمْ من لينَة} الإخراب، فَمنهمْ من قَالَ: هما وَاحِد، وَالتَّشْدِيد للتكثير. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: يخربون من فعل التخريب، ويخربون بِالتَّخْفِيفِ أَي: يتركوها خرابا. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ} وَلَا يتَصَوَّر أَن يخربوا بُيُوتهم بأيدي الْمُؤمنِينَ؟ وَالْجَوَاب: إِنَّمَا أضَاف إِلَيْهِم؛ لأَنهم هم الَّذين ألجأوا الْمُؤمنِينَ إِلَى التخريب، وحملوهم على ذَلِك بامتناعهم عَن الْإِيمَان. فَإِن قَالَ قَائِل: لم يخربوا بُيُوتهم؟ قُلْنَا: طلبُوا من ذَلِك توسيع مَوضِع الْقِتَال. وَعَن الزُّهْرِيّ: أَن الْمُسلمين كَانُوا يخربون من خَارج الْحصن، وَالْيَهُود كَانُوا يخربون من دَاخل الْحصن، وَكَانَ تخريبهم ذَلِك ليحملوا مَا استحسنوه من سقوف بُيُوتهم مَعَ أنفسهم. وَقيل: لِئَلَّا تبقى للْمُؤْمِنين. وَقَوله: {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} وَالِاعْتِبَار هُوَ النّظر فِي الشَّيْء ليعرف بِهِ جنسه وَمثله. وَقيل مَعْنَاهُ: فانظروا وتدبروا يَا ذَوي الْعُقُول والفهوم، كَيفَ سلط الله الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِم، وسلطهم على أنفسهم؟ وَقد اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة على جَوَاز الْقيَاس فِي الْأَحْكَام، لِأَن الْقيَاس نوع اعْتِبَار؛ إِذْ هُوَ تَعْبِير شَيْء بِمثلِهِ بِمَعْنى جَامع بَينهمَا ليتفقا فِي حكم الشَّرْع.

3

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء لعذبهم فِي الدُّنْيَا} أَي: بِالسَّيْفِ. وَاسْتدلَّ بَعضهم بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الْإِخْرَاج من الدَّار بِمَنْزِلَة الْقَتْل؛ وَعَلِيهِ يدل قَوْله تَعَالَى: {أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ} . وَقَوله: {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار} أَي: عَذَاب جَهَنَّم.

4

وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله} أَي: خالفوا الله وَرَسُوله. وَقد ذكرنَا أَن مَعْنَاهُ: صَارُوا فِي شقّ غير شقّ الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {وَمن يشاق الله} أَي: يُخَالف الله {فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب} .

{أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا فبإذن الله وليخزي الْفَاسِقين (5) وَمَا أَفَاء الله على}

5

قَوْله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة} قَالَ سعيد بن جُبَير: اللينة كل تمر سوى البرني والعجوة، وَأهل الْمَدِينَة يسمون التمور الألوان. وَقيل: اللينة: النَّخْلَة. وَعَن بَعضهم أَن اللينة: جمع الْأَشْجَار، سميت لينَة للينها بِالْحَيَاةِ. وَعَن سُفْيَان قَالَ: اللينة كرائم النخيل. وَقيل: هُوَ الفسيل، سمي لينَة لِأَنَّهُ لَا يكون فِي شدَّة الْحر. وَمن الْمَشْهُور أَن النَّبِي قَالَ: " الْعَجْوَة من الْجنَّة وفيهَا شِفَاء من السم ". وَفِي الْقِصَّة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما حاصروا بني النَّضِير كَانَ بَعضهم يقطع النخيل وَبَعْضهمْ يَتْرُكهَا. وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي أَمرهم بِقطع النخيل، فَخرج الْيَهُود حِين رَأَوْا ذَلِك وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، أَلَسْت تنْهى عَن الْفساد، وَهَذَا من الْفساد، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر " أَن النَّبِي حرق نخيل بني النَّضِير وقطعها، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا فبإذن الله} " أَي: بِأَمْر الله، قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْخَبَر الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا جدي، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، عَن قُتَيْبَة، عَن اللَّيْث بن سعد، عَن نَافِع. الْخَبَر. وَفِي رِوَايَة: أَن النَّبِي حرق البويرة، وَقَالَ شَاعِرهمْ شعرًا: (وَهَان على سراة بني لؤَي ... حريق بالبويرة مستطير) والبويرة: مَوضِع بني النَّضِير

{رَسُوله مِنْهُم فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء وَالله على كل شَيْء قدير (6) مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ} وَقَوله: {وليخزي الْفَاسِقين} هم الْيَهُود، وإخزاؤهم هُوَ رُؤْيَتهمْ كَيفَ يتحكم الْمُؤْمِنُونَ فِي أَمْوَالهم.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاء الله على رَسُوله مِنْهُم} أَي: من بني النَّضِير، والفيء كل مَال رد الله تَعَالَى من الْكفَّار إِلَى الْمُسلمين، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْفَيْء بِمَعْنى الرُّجُوع يُقَال: فَاء إِذا رَجَعَ، وَمِنْه فَيْء الظل، وَالْفرق بَين الْفَيْء وَالْغنيمَة: أَن الْغَنِيمَة هِيَ مَا أَخذه الْمُسلمُونَ من الْكفَّار بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والفيء مَا صَار إِلَى الْمُسلمين من أَمْوَال الْكفَّار من غير إيجَاف خيل وركاب. وَقَوله: {فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب} الركاب: الْإِبِل، وَالْمعْنَى: أَن أَمْوَالهم صَارَت إِلَى رَسُول الله من غير إيجافكم بخيل أَو إبل. والإيجاف: الْإِسْرَاع. فَجعل الله تَعَالَى أَمْوَال بني النَّضِير للنَّبِي خَاصَّة، لِأَن النَّبِي ظهر عَلَيْهِم من غير قتال من الْمُسلمين، وَكَانَ يدّخر مِنْهَا قوت سنة لِعِيَالِهِ، وَالْبَاقِي يتَّخذ مِنْهُ الكراع وعدة فِي سَبِيل الله ". وَفِي تَفْسِير قَتَادَة: أَن الْمُسلمين طلبُوا أَن يقسم بَينهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَجعل مَا أَصَابُوهُ للرسول خَاصَّة، وَكَانَ رَسُول الله لما أجلاهم شَرط أَن لَهُم مَا تحمله إبلهم إِلَّا الْحلقَة، يَعْنِي: السِّلَاح. وَقَوله: {وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء} أَي: رَسُوله على من يَشَاء. وَقَوله: {وَالله على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

7

قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} فِي الْآيَة بَيَان مصارف الْخمس، وَقد بَينا من قبل،

{وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب (7) للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون (8) وَالَّذين تبوءوا الدَّار} والقرى هِيَ الْقرى الْعَرَبيَّة مثل: خَيْبَر، ووادي الْقرى، وفيماء، وَغَيرهَا. وَمن الْمَشْهُور فِي التَّفْسِير أَيْضا: أَن النَّبِي قسم أَمْوَال بني النَّضِير بَين الْمُهَاجِرين، وَلم يُعْط الْأَنْصَار مِنْهَا شَيْئا إِلَّا ثَلَاثَة نفر: سهل بن حنيف، وَأَبا دُجَانَة، والْحَارث بن الصمَّة، وَهَذَا قَول غير القَوْل الأول الَّذِي ذكرنَا، وَهُوَ الْأَشْهر، فعلى هَذَا جعل الله أَمْوَال بني النَّضِير للرسول خَاصَّة قسمهَا بَين الْمُهَاجِرين ليكفي الْأَنْصَار مؤنتهم. وَقَوله تَعَالَى: {كي لَا يكون دولة بَين الْأَغْنِيَاء مِنْكُم} أَي: لِئَلَّا يتداوله الْأَغْنِيَاء مِنْكُم. والتداول هُوَ النَّقْل من يَد إِلَى يَد. وَقَوله: {وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} حث الله تَعَالَى الْمُسلمين فِي هَذِه الْآيَة على التَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى وَنَهْيه؛ لِأَن الْمَعْنى وَمَا أَتَاكُم الرَّسُول عَن الله فَخُذُوهُ، وَمَا نهاكم عَن الله فَانْتَهوا. وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب} أَي: الْعقُوبَة.

8

قَوْله تَعَالَى: {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين} يَعْنِي: مَا أَفَاء الله على رَسُوله للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين {الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ} فديارهم مَكَّة وَغَيرهَا، وَأَمْوَالهمْ مَا خلفوها عِنْد هجرتهم. وَقَوله: {يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا} أَي: يطْلبُونَ فضل الله وَرضَاهُ. وَقَوله: {وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون} أَي: الصادقون عقدا وقولا وفعلا.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم} أجمع أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد بهم الْأَنْصَار.

{وَالْإِيمَان من قبلهم يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم} وَقَوله: {تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان} أَي: استوطنوا الْمَدِينَة، وقبلوا الْإِيمَان. وَقيل: تبوءوا الدَّار أَي: أعدُّوا الديار للمهاجرين وواسوهم فِي كل مَالهم. وَقَوله: {وَالْإِيمَان} أَي: جعلُوا دُورهمْ دور الْإِيمَان، وَذَلِكَ بإظهارهم الْإِيمَان فِيمَا بَينهم، فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: {من قبلهم} وَالْأَنْصَار إِنَّمَا آمنُوا من بعد الْمُهَاجِرين؟ وَالْجَوَاب أَن قَوْله: {من قبلهم} ينْصَرف إِلَى تبوء الدَّار لَا إِلَى الْإِيمَان وَالثَّانِي أَن قَوْله {من قبلهم} وَإِن انْصَرف إِلَى الْإِيمَان فَالْمُرَاد مِنْهُ قبل هجرتهم؛ لِأَن الْأَنْصَار كَانُوا قد آمنُوا قبل هجرتهم. وَقَوله: {يحبونَ من هَاجر إِلَيْهِم} أَي: من أهل مَكَّة وَغَيرهم. وَقَوله: {وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا} قَالَ قَتَادَة: وَعند كثير من الْمُفَسّرين مَعْنَاهُ: حسدا مِمَّا أعْطوا، وَقيل: ضيقا فِي قُلُوبهم مِمَّا أعطي الْمُهَاجِرين، وَهُوَ بِمَعْنى الأول. وَقد ذكرنَا مَا أعْطى رَسُول الله الْمُهَاجِرين من أَمْوَال بني النَّضِير، فَالْمَعْنى ينْصَرف إِلَيْهِم. وَقَوله: {ويؤثرون على أنفسهم} أَي: يقدمُونَ الْمُهَاجِرين على أنفسهم. وَقَوله: {وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} أَي: فقر وحاجة. وَمن الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن بعض الْأَنْصَار أضَاف رجلا من الْفُقَرَاء، وَلم يكن عِنْده فضل عَمَّا يَأْكُلهُ وَيَأْكُل أَهله وصبيانه. وَفِي رِوَايَة: أَن ذَلِك الرجل كَانَ جَاع ثَلَاثَة أَيَّام وَلم يجد شَيْئا، وَطلب رَسُول الله لَهُ شَيْئا فِي بيُوت أَزوَاجه وَلم يجد، فأضافه هَذَا الْأنْصَارِيّ، حمله إِلَى بَيته وَقَالَ لأَهله: نومي الصبية وأطفئي السراج [بعلة] الْإِصْلَاح، فَفعلت ذَلِك، وَجعلا يمدان أَيْدِيهِمَا ويضربان على (الصحفة) ؛ ليظن الضَّيْف أَنَّهُمَا يأكلان، وَلَا يأكلان ففعلا ذَلِك وَأكل الضَّيْف حَتَّى شبع، فَلَمَّا غَدا

{المفلحون (9) وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا} على النَّبِي قَالَ: " لقد عجب الله من صنيعتكم البارحة " فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ للْأَنْصَار: " إِنَّكُم لتكثرون عِنْد الْفَزع، وتقلون عِنْد الطمع ". وَقَوله: {وَمن يُوقَ شح نَفسه} أَي: بخل نَفسه {فَأُولَئِك هم المفلحون} أَي: السُّعَدَاء الفائزون. وَعَن ابْن مَسْعُود أَن رجلا قَالَ لَهُ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أعطي من مَالِي شَيْئا أفتخش الْبُخْل. قَالَ: ذَلِك الْبُخْل، وَبئسَ الشَّيْء الْبُخْل، وَإِنَّمَا الشُّح أَن تَأْخُذ المَال من غير حَقه. وَقيل: الْبُخْل أَن يبخل بِمَالِه نَفسه وَالشح أَن يبخل بِمَال غَيره وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان وَمن يُوقَ شح نَفسه أَي: حرص نَفسه. وَقيل: هوى نَفسه. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ منع الزَّكَاة. وَعَن ابْن زيد: هُوَ أَن يَأْخُذ مَا لَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ، وَيمْنَع مَا لَا يجوز لَهُ مَنعه.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ} هم التابعون. وَقيل: الَّذين يُؤمنُونَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا} أَي: خِيَانَة وحقدا، وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن الترحم للسلف

{بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم (10) ألم تَرَ إِلَى} وَالدُّعَاء لَهُم بِالْخَيرِ وَترك ذكرهم بالسوء من عَلامَة الْمُؤمنِينَ. وَرُوِيَ أَن رجلا جَاءَ إِلَى مَالك بن أنس فَجعل يَقع فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة مثل: أبي بكر، وَعمر، وَعُثْمَان، وَغَيرهم، فَقَالَ لَهُ: أَنْت من الْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَنْت من الَّذين تبوءوا الدَّار وَالْإِيمَان من قبلهم؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: أشهد أَنَّك لست من الَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَيْسَ لمن يَقع فِي الصَّحَابَة وَيذكرهُمْ بالسوء فِي الْفَيْء نصيب، وتلا هَذِه الْآيَات الثَّلَاث. وَرُوِيَ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز سُئِلَ عَمَّا جرى بَين الصَّحَابَة من الْقِتَال وَسَفك الدِّمَاء فَقَالَ: تِلْكَ دِمَاء طهر الله يَدي عَنْهَا، فَلَا أحب أَن أغمس لساني فِيهَا. من الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا ذكر أَصْحَابِي فأمسكوا، وَإِذا ذكر الْقدر فأمسكوا " وَالْمرَاد بِهِ الْإِمْسَاك عَن ذكر المساوئ لَاعن ذكر المحاسن. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " إِذا ذكر النُّجُوم فأمسكوا ". وَقَوله: {رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

11

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين نافقوا} هم عبد الله بن أبي سلول، وَعبد الله بن نفَيْل، وَزيد بن رِفَاعَة وَغَيرهم.

{الَّذين نافقوا يَقُولُونَ لإخوانهم الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب لَئِن أخرجتم لَنخْرجَنَّ مَعكُمْ وَلَا نطيع فِيكُم أحدا أبدا وَإِن قوتلتم لننصرنكم وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ (11) لَئِن أخرجُوا لَا يخرجُون مَعَهم وَلَئِن قوتلوا لَا ينصرونهم وَلَئِن نصروهم ليولن} وَقَوله: {يَقُولُونَ لإخوانهم الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم بَنو النَّضِير، قَالَ لَهُم المُنَافِقُونَ ذَلِك قبل أَن أجلوا. وَالْقَوْل الآخر: أَنهم بَنو قُرَيْظَة، قَالَ لَهُم المُنَافِقُونَ ذَلِك بعد أَن أَجلي بَنو النَّضِير. وَقَوله: {لَئِن أخرجتم لَنخْرجَنَّ مَعكُمْ} أَي: لَئِن أخرجتم من الْمَدِينَة لَنخْرجَنَّ مَعكُمْ فِي الْقِتَال. وَقَوله: {وَلَا نطيع فِيكُم أحدا أبدا} أَي: لَا نطيع مُحَمَّدًا فِيكُم. وَقَوله: {وَإِن قوتلتم لننصرنكم} مَعْنَاهُ: وَلَئِن قاتلكم [مُحَمَّدًا] لنكونن مَعكُمْ فِي الْقِتَال. وَقَوله: {وَالله يشْهد إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أَي: فِي هَذَا القَوْل.

12

قَوْله تَعَالَى: {لَئِن أخرجُوا لَا يخرجُون مَعَهم} يَعْنِي: لَئِن أخرج الْيَهُود لَا يخرج مَعَهم المُنَافِقُونَ. وَقَوله: {وَلَئِن قوتلوا لَا ينصرونهم} أَي: لَئِن قوتل الْيَهُود لَا ينصرهم المُنَافِقُونَ. وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم ليولن الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {لَا ينصرونهم} ثمَّ قَالَ {وَلَئِن نصروهم} وَإِذا أخبر الله تَعَالَى أَنهم لَا ينصرونهم كَيفَ يجوز أَن ينصروهم؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن قَوْله: {لَا ينصرونهم} فِي قوم من الْمُنَافِقين، وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: فِي قوم آخَرين مِنْهُم، وهم الَّذين لم يَقُولُوا ذَلِك القَوْل. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن قَوْله: {لَا ينصرونهم} أَي: طائعين.

{الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ (12) لَأَنْتُم أَشد رهبة فِي صُدُورهمْ من الله ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ (13) لَا يقاتلونكم جَمِيعًا إِلَّا فِي قرى مُحصنَة أَو من وَرَاء جدر بأسهم بَينهم شَدِيد تحسبهم جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ (14) كَمثل الَّذين من} وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: مكرهين. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن قَوْله: {لَا ينصرونهم} أَي: لَا يدومون على نَصرهم. وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: نصروهم فِي الِابْتِدَاء. وَالْوَجْه الرَّابِع كَمَا قَالَه الزّجاج: هُوَ أَنهم لَا ينصرونهم على مَا قَالَ الله تَعَالَى، وَقَوله: {وَلَئِن نصروهم} أَي: قصدُوا نصرتهم، لولوا الأدبار أَي: انْهَزمُوا، وَذَلِكَ بِمَا يلقِي الله تَعَالَى فِي قُلُوبهم من الرعب. وَقَوله: {ثمَّ لَا ينْصرُونَ} أَي: لَا ينصر الْيَهُود.

13

قَوْله تَعَالَى: {لَأَنْتُم أَشد رهبة فِي صُدُورهمْ من الله} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَعْنِي: أَنْتُم [أَشد] رهبة فِي صُدُورهمْ من الله إِذْ يخَافُونَ مِنْكُم مَا لَا يخَافُونَ مِنْهُ. وَقَوله: {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ عَظمَة الله وَقدرته فيخافون مِنْهُ.

14

قَوْله تَعَالَى: {لَا يقاتلونكم جَمِيعًا إِلَّا فِي قرى مُحصنَة أَو من وَرَاء جدر} يَعْنِي: أَنهم لَا يُمكنهُم أَن يصافوكم فِي الْقِتَال [ويواجهوكم] بِهِ، وَإِنَّمَا يقاتلونكم فِي الْحُصُون ووراء الْجدر لقتلهم وَدخُول الرعب عَلَيْهِم. قَوْله: {بأسهم بَينهم شَدِيد} قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي أَنهم يَقُولُونَ فِيمَا بَينهم: لنفعلن كَذَا ولنفعلن كَذَا. وَقَوله: {تحسبهم جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى} يَعْنِي: أَن الْمُنَافِقين قطّ لَا يخلصون للْيَهُود، وَلَا الْيَهُود لِلْمُنَافِقين. وَقَوله: {ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} أَي: لَا يتدبرون بعقولهم، فهم بِمَنْزِلَة من

{قبلهم قَرِيبا ذاقوا وبال أَمرهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (15) كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان اكفر فَلَمَّا كفر قَالَ إِنِّي برِئ مِنْك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين (16) فَكَانَ عاقبتهما} لَا عقل لَهُ.

16

قَوْله تَعَالَى: {كَمثل الشَّيْطَان إِذْ قَالَ للْإنْسَان اكفر} أَي: مثل هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقين مَعَ الْيَهُود كَمثل الشَّيْطَان مَعَ الْكَافِر. وَأكْثر الْمُفَسّرين على أَن هَذَا الْكَافِر هُوَ رجل من بني إِسْرَائِيل يعبد الله تَعَالَى فِي صومعة دهرا طَويلا، وَكَانَ اسْمه برصيصا العابد، وَكَانَ فِي بني إِسْرَائِيل ثَلَاثَة إخْوَة لَهُم أُخْت حسناء بهَا شَيْء من اللمم، وَقيل: كَانَت مَرِيضَة، فَعرض لَهُم سفر فَقَالُوا: نسلم أُخْتنَا إِلَى فلَان العابد فيحفظها إِلَى أَن نرْجِع وَفِي رِوَايَة: يَدْعُو لَهَا وَيقوم عَلَيْهَا فَإِن مَاتَت دَفنهَا، وَإِن برأت فَكَانَت عِنْده إِلَى أَن نرْجِع، فسلموها إِلَيْهِ بِجهْد، فَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى برأت. ثمَّ أَن الشَّيْطَان جَاءَهُ وزين لَهُ أَن يواقعها فواقعها وحبلت مِنْهُ، ثمَّ جَاءَ الشَّيْطَان وَقَالَ: إِنَّك تفضح إِذا قدم إخوتها فَاقْتُلْهَا وادفنها وَقل أَنَّهَا مَاتَت، فَفعل ذَلِك ودفنها فِي أصل صومعته، فَلَمَّا رَجَعَ الْإِخْوَة وَجَاءُوا [إِلَيْهِ] ذكر لَهُم أَنَّهَا قد مَاتَت فصدقوه، ثمَّ أَن الشَّيْطَان أَرَاهُم فِي الْمَنَام أَن العابد قد قتل أختكم ودفنها فِي مَوضِع كَذَا، فَجَاءُوا إِلَى ذَلِك الْموضع، وحفروا وَاسْتَخْرَجُوا أختهم مقتولة، فَذَهَبُوا وَذكروا ذَلِك للْملك، فجَاء الْملك وَالنَّاس واستنزلوا العابد من صومعته ليقتلوه، فَجَاءَهُ الشَّيْطَان وَقَالَ: أَنا الَّذِي فعلت بك مَا فعلت فأطعني حَتَّى أنجيك، فَقَالَ: أيش أفعل؟ فَقَالَ: تسْجد لي سَجْدَة فَفعل، وَقتل على الْكفْر، وَنزلت هَذِه الْآيَة فِي هَذِه الْقِصَّة وَقد روى عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس قَرِيبا من هَذَا وَذكر بَعضهم هَذِه الْقِصَّة مُسندَة إِلَى الرَّسُول بِرِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار بِأَلْفَاظ قريبَة من هَذَا فِي الْمَعْنى. قَالَ الشَّيْخ: أخبرنَا بذلك أَبُو على الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا ابْن فراس، أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي، أخبرنَا سعيد بن

{أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدين فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين (17) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله ولتنظر نفس مَا قدمت لغد وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان. وَقَوله: {فَلَمَّا كفر قَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْك إِنِّي أَخَاف الله رب الْعَالمين} هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا تراءت الفئتان نكص على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيء مِنْكُم إِنِّي أرى مَا لَا ترَوْنَ إِنِّي أَخَاف الله وَالله شَدِيد الْعقَاب} وَقيل: إِن خَوفه من الْعقُوبَة فِي الدُّنْيَا لَا من الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة. وَقيل: هُوَ الْخَوْف من الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة إِلَّا أَن خَوفه لَا يَنْفَعهُ لعدم الْإِيمَان. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي جَمِيع الْكفَّار لَا فِي كَافِر مَخْصُوص، وَالْمَشْهُور هُوَ القَوْل الأول.

17

قَوْله تَعَالَى: {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِي النَّار خَالِدين فِيهَا} يَعْنِي: عَاقِبَة الْكَافِر وإبليس (خَالِدين فِيهَا) أَي: دائمين فِيهَا. وَقَوله: {وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين.

18

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله ولتنظر نفس مَا قدمت لغد} قَالَ قَتَادَة: مَا زَالَ يقرب السَّاعَة حَتَّى جعل كالغد. وَقَوله: {وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} الْأَمر بالتقوى على طَرِيق التَّأْكِيد.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} أَي: تركُوا أَمر الله فتركهم من نظره وَرَحمته. وَقيل مَعْنَاهُ: تركُوا طلب الْحَظ لأَنْفُسِهِمْ فِي الْآخِرَة بِمَا تركُوا من أَمر الله، وَنسب إِلَى الله تَعَالَى؛ لِأَن تَركهم طلب الْحَظ لأَنْفُسِهِمْ وفواته إيَّاهُم كَانَ لأجل مَا توجه عَلَيْهِم من أَمر الله، وَقيل مَعْنَاهُ: أغفلهم عَن حَظّ أنفسهم عُقُوبَة لَهُم. قَالَ النّحاس: ويستقيم فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال: نسيهم فلَان بِمَعْنى تَركهم. وَلَا يَسْتَقِيم أنساهم بِمَعْنى تَركهم.

{كَالَّذِين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب الْجنَّة هم الفائزون (20) لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس لَعَلَّهُم يتفكرون وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ} أَي: الخارجون عَن طَاعَة الله.

20

قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَاب النَّار وَأَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب الْجنَّة هُوَ الفائزون} أَي: الناجون.

21

قَوْله تَعَالَى: {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله} أَي: إِذا جعلنَا لَهُ مَا يُمَيّز وَيعْقل. قيل: هُوَ مَذْكُور على طَرِيق التَّمْثِيل لَا على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَعند أهل السّنة: أَن لله تَعَالَى فِي الْموَات والجمادات علما (لَا) يقف عَلَيْهِ النَّاس. وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم} وَهُوَ دَلِيل على مَا ذكرنَا من قبل. وَقَوله: {خَاشِعًا} أَي: ذليلا، وَقيل: متصدعا أَي: متشققا من خشيَة الله. وَقَوله: {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس لَعَلَّهُم يتفكرون} أَي: يتدبرون.

22

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: السِّرّ وَالْعَلَانِيَة، وَقيل: عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَي: مَا كَانَ وَمَا يكون. وَقَوله: {هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم} قد بَينا.

23

قَوْله: {هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك} أَي: المقتدر على الْأَشْيَاء. وَقَوله: {القدوس} أيك الطَّاهِر، وَقيل: المنزه من كل نقص وعيب، وَقيل القدوس: الْمُقَدّس، يَعْنِي: يقدسه الْمَلَائِكَة ويسبحونه، وَفِي تَسْبِيح الْمَلَائِكَة: سبوح

{هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم (22) هُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْملك القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار المتكبر قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح. وَمِنْه بَيت الْمُقَدّس، وَمِنْه حَظِيرَة الْقُدس، وَهِي الْجنَّة. قَالَ رؤبة:. (دَعَوْت رب الْعِزَّة القدوسا ... دُعَاء من لَا يقرع الناقوسا} وَقَوله: {السَّلَام} قَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: مُسلم من الْآفَات والعيوب. وَقَالَ مُجَاهِد: سلم النَّاس من ظلمه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " السَّلَام اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى [وَوَضعه] بَيْنكُم فأفشوه ". وَقَوله: {الْمُؤمن} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يُؤمن الْمُؤمنِينَ من النَّار وَالْعَذَاب. وَالْآخر: أَن الْمُؤمنِينَ أمنُوا من ظلمه فَهُوَ مُؤمن. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه شهد لنَفسِهِ بالوحدانية، فَهُوَ مُؤمن بِهَذَا الْمَعْنى، وشهادته لنَفسِهِ بالوحدانية هُوَ قَوْله تَعَالَى: {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَقَوله: {الْمُهَيْمِن} قَالَ قَتَادَة: أَي: الشَّهِيد. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الْأمين، وَمعنى كَونه أَمينا: أَنه لَا يضيع أَعمال الْعباد، فَكَأَن أَعمال الْعباد فِي أَمَانَته لَا يضيعها. وَقيل: هُوَ الرَّقِيب. وَقيل: إِن الْمُهَيْمِن أَصله المؤيمن إِلَّا أَنه قد قلبت الْهمزَة هَاء مثل قَوْلهم: أرقت المَاء وهرقته. وَقَوله: {الْعَزِيز} أَي الْغَالِب. وَقيل: القاهر. وَقيل: المنيع. وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْمُهَيْمِن.

{سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ (23) هُوَ الله الْخَالِق البارئ المصور لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى يسبح لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (24) .} (مليك على عرش السَّمَاء مهيمن ... [لعزته] تعنو الْوُجُوه وتسجد) وَقَوله: {الْجَبَّار} أَي: جبر الْخلق على مُرَاده ومشيئته. وَقيل: الْجَبَّار أَي: الْعَظِيم. وَقيل: هُوَ الَّذِي يفوت عَن الأوهام والإدراك. يُقَال: نَخْلَة جبارَة إِذا كَانَت طَوِيلَة لَا يُوصل إِلَيْهَا بِالْأَيْدِي. قَوْله: {المتكبر} أَي: الْكَبِير. وَقيل: المتكبر هُوَ الَّذِي أَعلَى نَفسه وعظمها، وَهَذَا ممدوح فِي صِفَات الله، مَذْمُوم فِي صِفَات الْخلق؛ لِأَن الْخلق لَا يخلون عَن نقيصة، فَلَا يَلِيق بهم إعظامهم أنفسهم وإعلاؤهم إيَّاهُم، وَالله تَعَالَى لَا يجوز عَلَيْهِ نقص فَيصح مدحه لنَفسِهِ وإعظامه. وَقيل: مدح نَفسه ليعلم خلقه مدحهم إِيَّاه ليثيبهم عَلَيْهِ، إِذْ لَا يجوز أَن يعود إِلَيْهِ ضرّ وَلَا نفع. وَقَوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ} قد بَينا فِي كثير من الْمَوَاضِع.

24

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الله الْخَالِق البارئ} أَي: مُقَدّر الْأَشْيَاء ومخترعها. وَقَوله: {البارئ} قيل: هُوَ فِي معنى الْخَالِق على طَرِيق التَّأْكِيد، وَقيل: إِن مَعْنَاهُ المحيي بعد الإماتة. قَالَ الشَّاعِر: (وكل نفس على سلامتها ... يميتها الله ثمَّ يبرؤها) ذكره أَبُو الْحسن بن فَارس. وَقَوله: {المصور} هُوَ التَّصْوِير الْمَعْلُوم يصور كل خلق على مَا يَشَاء. وَقيل:

التَّصْوِير هُوَ تركيب مَخْصُوص فِي مَحل مَخْصُوص من الْخلق. وَقَوله تَعَالَى: {لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} الْحسنى: هُوَ تَأْنِيث الْأَحْسَن، وَهِي هَاهُنَا بِمَعْنى الْعليا. وَقَوله: {يسبح لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى. وَقد ورد فِي بعض المسانيد بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن اسْم الله الْأَعْظَم فِي ثَلَاث آيَات من آخر سُورَة الْحَشْر ". وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا} تَفْسِير سُورَة الممتحنة وَهِي مَدَنِيَّة، وَالله أعلم

الممتحنة

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} نزلت الْآيَة فِي حَاطِب بن أبي بلتعة حِين كتب كتابا إِلَى الْمُشْركين يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر النَّبِي، وَالْخَبَر فِي ذَلِك مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو عَليّ الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن الْحسن الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْمُقْرِئ، أخبرنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله ابْن يزِيد الْمُقْرِئ، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، عَن عبيد الله بن أبي رَافع قَالَ: سَمِعت غليا رَضِي الله عَنهُ يَقُول: " بَعَثَنِي رَسُول الله وَالزُّبَيْر والمقداد بن الْأسود فَقَالَ: انْطَلقُوا إِلَى رَوْضَة خَاخ فَإِن بهَا ظَعِينَة مَعهَا كتاب، فخرجنا [تَتَعَادَى] بِنَا خَيْلنَا حَتَّى بلغنَا رَوْضَة خَاخ، فَوَجَدنَا بهَا ظَعِينَة وَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكتاب. فَقَالَت: مَا معي كتاب. فَقُلْنَا: لتخْرجن الْكتاب أَو لنقلبن ثِيَابك. فأخرجت كتابا من غقاص شعرهَا، فأخذناه وأتينا بِهِ النَّبِي، فَإِذا هُوَ كتاب من حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى الْمُشْركين بِمَكَّة يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر النَّبِي، فَدَعَا حَاطِبًا وَقَالَ لَهُ: " مَا هَذَا؟ " فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لَا تعجل عَليّ، إِنِّي كنت أمرأ مُلْصقًا فِي قُرَيْش يَعْنِي حليفا وَلم اكن من أنفسهم، وَكَانَ من مَعَك من الْمُهَاجِرين لَهُم قراباتهم، قَرَابَات يحْمُونَ بهَا قراباتهم وَلم يكن لي بِمَكَّة قرَابَة، فَأَحْبَبْت إِذْ فَاتَنِي ذَلِك أَن أَتَّخِذ عِنْدهم يدا يحْمُونَ بهَا قَرَابَتي، وَالله مَا فعلته شكا فِي الْإِسْلَام، وَلَا رضَا بالْكفْر، فَقَالَ النَّبِي: " لقد صدقكُم " فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله، دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق، فَقَالَ النَّبِي: " إِنَّه قد شهد بَدْرًا، وَلَعَلَّ الله

{بِمَا جَاءَكُم من الْحق يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ} اطلع على أهل بدر فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم ". قَالَ أهل التَّفْسِير: " وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا أَرَادَ غزوا ورى بِغَيْرِهِ ". وَكَانَ يَقُول: " الْحَرْب خدعة " فَلَمَّا أَرَادَ أَن يَغْزُو مَكَّة كتم أمره أَشد الكتمان، وَكتب حَاطِب بن أبي بلتعة على يَدي امْرَأَة تسمى سارة كتابا إِلَى أهل مَكَّة يُخْبِرهُمْ بمسير النَّبِي، فَأطلع الله نبيه على ذَلِك، وَكَانَ الْأَمر على مَا بَينا، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن حَاطِب لم يخرج من الْإِيمَان بِفِعْلِهِ ذَلِك. وَقَوله: {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء} أَي: أعدائي وأعداءكم، وهم مشركو قُرَيْش. وَقَوله: {تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة} أَي: تلقونَ إِلَيْهِم أَخْبَار النَّبِي وسره بالمودة الَّتِي بَيْنكُم وَبينهمْ. وَيُقَال: تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة أَي: بِالنَّصِيحَةِ، قَالَه مقَاتل. وَقيل: تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة أَي: بِالْكتاب. وَسمي ذَلِك مَوَدَّة وَكَذَلِكَ النَّصِيحَة؛ لِأَن ذَلِك دَلِيل الْمَوَدَّة. وَقَوله: {وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق} الْوَاو وَاو الْحَال قَالَه الزّجاج. وَمَعْنَاهُ: وحالهم أَنهم كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق. وَقَوله: {يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم} أَي: أخرجُوا الرَّسُول وأخرجوكم، وَمعنى الْإِخْرَاج هَاهُنَا هُوَ الإلجاء إِلَى الْخُرُوج.

{جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إِلَيْهِم بالمودة وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل (1) إِن يثقفوكم يَكُونُوا لكم أَعدَاء ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لَو تكفرون (2) قد كَانَت لكم} وَقَوله تَعَالَى: {أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم} أَي: لأنكم آمنتم بِاللَّه ربكُم. وَقَوله: {إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي} قَالُوا: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي فَلَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء. وَقيل مَعْنَاهُ: لَا تسروا إِلَيْهِم بالمودة إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي، فَهُوَ معنى قَوْله: {تسرون إِلَيْهِم بالمودة} خبر بِمَعْنى النَّهْي. وَقَوله: {وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم} أَي: بِمَا أسررتم وَمَا ظهرتم. وَقَوله: {وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل} أَي: أَخطَأ طَرِيق الْحق.

2

قَوْله تَعَالَى: {إِن يثقفوكم يَكُونُوا لكم أَعدَاء} مَعْنَاهُ: إِن يظفروا بكم، وَالْعرب تَقول: فلَان ثقف لقف، إِذا كَانَ سريع الْأَخْذ. وَقَوله: {يَكُونُوا لكم أَعدَاء} أيك يعاملونكم مُعَاملَة الْأَعْدَاء. وَقَوله: {ويبسطوا إِلَيْكُم أَيْديهم وألسنتهم بالسوء} أَي: أَيْديهم بِالسَّيْفِ، وألسنتهم بالشتم. وَقَوله: {وودوا لَو تكفرون} أَي: وأحبوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا.

3

قَوْله تَعَالَى: {لن تنفعكم أَرْحَامكُم وَلَا أَوْلَادكُم} يَعْنِي: أَنكُمْ فَعلْتُمْ مَا فَعلْتُمْ لأجل قراباتكم وأرحامكم، وَلنْ ينفعكم ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {يَوْم الْقِيَامَة يفصل بَيْنكُم} أَي: يفصل بَيْنكُم يَوْم الْقِيَامَة؛ فيبعث أهل الطَّاعَة إِلَى الْجنَّة، وَأهل الْمعْصِيَة إِلَى النَّار. وَقَوله تَعَالَى: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

{أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك وَمَا املك لَك من الله من شَيْء رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير (4) رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا واغفر لنا رَبنَا إِنَّك}

4

قَوْله تَعَالَى: {قد كَانَت لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} أَي: قدوة حَسَنَة. وَقَوله: {فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا} الْمَعْنى فِي الْكل: أَنه أَمرهم بِأَن تأسوا بإبراهيم فِي التبرؤ من الْمُشْركين وَترك الْمُوَالَاة مَعَهم. وَقَوله: {إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك} قَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: اقتدوا بإبراهيم إِلَّا فِي هَذَا [الْموضع] ، وَهُوَ استغفاره لِأَبِيهِ الْمُشرك، وَقد بَينا سَبَب اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ من قبل. وَقَوله: {وَمَا أملك لَك من الله من شَيْء} أَي: لَا أدفَع عَنْك من الله من شَيْء، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ. وَقَوله: {رَبنَا عَلَيْك توكلنا وَإِلَيْك أنبنا وَإِلَيْك الْمصير} إِخْبَار عَن إِبْرَاهِيم وَقَومه من الْمُؤمنِينَ يَعْنِي: إِنَّهُم ذَلِك.

5

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للَّذين كفرُوا} قَالَ مُجَاهِد وَغَيره: أَي: لَا تعذبنا بأيدي الْكفَّار وَلَا بِعَذَاب من عنْدك، فيظن الْكفَّار أَنا على غير الْحق حَيْثُ عذبنا، فَيصير فتْنَة لَهُم فِي دينهم، ويظنون أَنا كُنَّا على الْبَاطِل؛ لأَنهم يَقُولُونَ لَو كَانَ هَؤُلَاءِ على الْحق لم يعذبوا وَلم يظفر بهم. وَقَوله: {واغفر لنا رَبنَا إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

6

قَوْله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة} كرر الْمَعْنى الأول على طَرِيق التَّأْكِيد.

{أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (5) لقد كَانَ لكم فيهم أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد (6) عَسى الله أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتم مِنْهُم مَوَدَّة وَالله قدير وَالله غَفُور رَحِيم (7) لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يقاتلونكم فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم إِن الله يحب} وَقَوله: {لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر} أَي: يخَاف الله، وَيخَاف يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {وَمن يتول فَإِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} أَي: المستغني عَنْهُم، الحميد فِي فعاله. وَالْمعْنَى: أَنهم إِذا خالفوا أمره، وتولوا الْكفَّار لم يعد إِلَى الله من ذَلِك شَيْء.

7

قَوْله تَعَالَى: {عَسى الله} قد بَينا أَن عَسى من الله وَاجِب. وَقَوله تَعَالَى: {أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتهم مِنْهُم مَوَدَّة} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن المُرَاد مِنْهُ تَزْوِيج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان من رَسُول الله. وَقيل: هُوَ إِسْلَام أبي سُفْيَان بن حَرْب، وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَصَفوَان بن أُميَّة وَغَيرهم. وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي توفّي وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب أَمِير على بعض الْيمن، فَلَمَّا ارْتَدَّت الْعَرَب قَاتل هودا الْحمار وَقَومه على ردتهم، فَكَانَ [هُوَ] أول من يُجَاهد مَعَ الْمُرْتَدين. وَقَوله: {وَالله قدير} أَي: قَادر على أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبينهمْ مَوَدَّة. وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} أَي: لما كَانَ مِنْهُم قبل إسْلَامهمْ، وَقبل حُدُوث الْمَوَدَّة بَيْنكُم وَبينهمْ.

8

قَوْله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن المُرَاد مِنْهُ قوم كَانُوا على عهد النَّبِي من الْكفَّار من خُزَاعَة، وَهِي مُدْلِج وَغَيرهم. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قتيلة [كَانَت كَافِرَة، و] كَانَت

{المقسطين (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم أَن تولوهم وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فَإِن} أم أَسمَاء، فَلم تقبل أَسمَاء هديتها حَتَّى سَأَلت النَّبِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَرخّص فِي الْقبُول والمكافأة، قَالَه عبد الله بن الزبير. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت بِآيَة السَّيْف، قَالَ قَتَادَة وَغَيره. وَقَوله: {أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم} أَي: تحسنوا إِلَيْهِم، وتستعملوا الْعدْل مَعَهم أَي: الْمُكَافَأَة. وَقَوله: {إِن الله يحب المقسطين} أَي: الفاعلين للعدل.

9

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدّين وأخرجوكم من دِيَاركُمْ وظاهروا على إخراجكم} أَي: عاونوا على إخراجكم. وَقَوله: {أَن تولوهم} مَعْنَاهُ: أَن تتولوهم. وَقَوله: {وَمن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} أَي: وضعُوا الْمُوَالَاة فِي غير موضعهَا.

10

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات} سماهن مؤمنات قبل وصولهن إِلَى النَّبِي؛ لِأَنَّهُنَّ على قصد الْإِيمَان وَتَقْدِيره، ذكره الْأَزْهَرِي. وَقَوله: {فامتحنوهن} أَي: اختبروهن. قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة " فِي الْعَهْد الَّذِي كَانَ بَين النَّبِي وَبَين الْمُشْركين، وَهُوَ عهد الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ النَّبِي عَاهَدَ مَعَ الْمُشْركين على أَن من جَاءَهُ مِنْهُم يردهُ (عَلَيْهِم) ، وَمن لحق بهم من الْمُؤمنِينَ لم يردوا "، وَأَن الله تَعَالَى نسخ هَذَا الْعَهْد، وَرَفعه فِي النِّسَاء وَأمره بالامتحان. وَقَالَ

{علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ وَلَا تمسكوا بعصم} بَعضهم: كَانَ الْعَهْد مُطلقًا، وَلم يكن نَص فِي النِّسَاء بردهن عَلَيْهِم. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ قد نَص فِي النِّسَاء أَن يردهن عَلَيْهِم وَإِن جئن مؤمنات، ثمَّ نسخ، وَهُوَ الْأَشْهر، فَكَانَت الَّتِي أَتَت مُؤمنَة مهاجرة بعد الْعَهْد: أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط، وَأما الأمتحان، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن يحلفها أَنَّهَا مَا هَاجَرت إِلَّا جبا لله وَرَسُوله، ورغبة فِي الْإِسْلَام، وَأَنَّهَا لم تهَاجر بِحَدَث أحدثته، وَلَا لِبُغْض زوج، وَلَا لرغبة فِي مَال، وَلَا حبا لإِنْسَان. وَقَوله: {الله أعلم بإيمانهن} يَعْنِي: إخلاصهن فِي إيمانهن. وَقَوله: {فَإِن علمتموهن مؤمنات فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ التَّوْفِيق بَين قَوْله: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} وَبَين قَوْله: {وَالله أعلم بإيمانهن} ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: {فَإِن علمتموهن مؤمنات} أَي: إِيمَان الْإِقْرَار والامتحان، كأنهن أقررن بِالْإِيمَان، وحلفن عِنْد الامتحان. وَقَوله: {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار} أَي: لَا ترودهن. وَقَوله تَعَالَى: {لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ} أَي: لَا هن حل للْكفَّار نِكَاحا وَلَا هم يحلونَ للمؤمنات نِكَاحا. وَقَوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا} أوجب الله على الْمُسلمين أَن يردوا على أَزوَاجهنَّ مَا أعطوهن من المهور. وَقَوله: {وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن إِذْ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} أَي: مهورهن، وَفِيه دَلِيل على أَن النِّكَاح لَا يكون إِلَّا بِمهْر. وَقَوله: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} أَي: لَا تمسكوا بِنِكَاح الكوافر، والكوافر جمع الْكَافِر، وَالْمعْنَى: أَن الرجل إِذا أسلم وَهَاجَر إِلَيْنَا، وَخلف امْرَأَته فِي دَار الْحَرْب

{الكوافر واسألوا مَا أنفقتم وليسألوا مَا أَنْفقُوا ذَلِكُم حكم الله يحكم بَيْنكُم وَالله عليم حَكِيم (10) وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم فآتوا الَّذين ذهبت} كَافِرَة لم يعْتد بهَا، وَلم يبْق نِكَاح بَينه وَبَينهَا. وَرُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما هَاجر خلف امْرَأتَيْنِ بِمَكَّة مشركتين، فَتزَوج (إحديهما) مُعَاوِيَة، وَالْأُخْرَى صَفْوَان بن أُميَّة. وَقَوله: {واسألوا مَا أنفقتم} أَي: مَا أعطيتم، وَهَذَا فِي الْمَرْأَة من المسلمات إِذا لحقت بالمشركين، فطالب زَوجهَا الْمُشْركين بِالْمهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا. وَقَوله: {وليسألوا مَا أَنْفقُوا} أَي: مَا أعْطوا من الْمهْر وَهُوَ مَا قدمنَا، وَلَيْسَ هَذَا معنى الْأَمر وَالْوَاجِب أَن يسْأَلُوا لَا محَالة، وَلَكِن مَعْنَاهُ: إِن سَأَلُوا أعْطوا، وكل هَذَا مَنْسُوخ، وَقد كَانَ ذَلِك عهدا بَين الرَّسُول وَبينهمْ، وَقد ارْتَفع ذَلِك. وَقَوله: {ذَلِكُم حكم الله يحكم بَيْنكُم وَالله عليم حَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار} أَي: [التحقت] وَاحِدَة من أزواجكم إِلَى الْكفَّار، يَعْنِي: النِّسَاء {فعاقبتم} أَي: غَنِمْتُم. قَالَ القتيبي: مَعْنَاهُ: كَانَت لكم عُقبى خير فِي الْغَنِيمَة والظفرة. وَقُرِئَ: " فعقبتم ". وَهُوَ (بذلك) الْمَعْنى أَيْضا. قَوْله: {فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا} أَي: مثل الَّذِي أعْطوا من الْمهْر. وَمعنى الْآيَة: أَن امرآة الْمُسلم إِذا التحقت بالمشركين وَلم يردوا الْمهْر، وظفر الْمُسلمُونَ بهم وغنموا، يردون من الْغَنِيمَة الَّتِي أخذُوا مهر الزَّوْج الَّذِي أعطَاهُ. وَقَوله: {وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ} أَي: مصدقون، وَهَذَا الحكم مَنْسُوخ أَيْضا.

{أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنْتُم بِهِ مُؤمنُونَ (11) يَا أَيهَا النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ}

12

قَوْله تَعَالَى: {يَا ايها النَّبِي إِذا جَاءَك الْمُؤْمِنَات يبايعنك على أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا يَزْنِين وَلَا يقتلن أَوْلَادهنَّ} الْآيَة وَردت فِي بيعَة النِّسَاء، وَكَانَ قد بَايع الرِّجَال على الْإِيمَان وَالْجهَاد فَحسب، وَبَايع النِّسَاء على هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا، فَروِيَ " أَن النَّبِي قعد على الصَّفَا حِين فتح مَكَّة، وَقعد دونه عمر، وجاءته النِّسَاء يبايعنه، وفيهن هِنْد بنت عتبَة منتقبة مُتَنَكِّرَة، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " إِنَّا نبايعكن على أَن لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا " قَالَت هِنْد: مَا جِئْنَا إِلَيْك وَقد بَقِي فِي قُلُوبنَا شرك، فَلَمَّا قَالَ: " وعَلى أَن لَا تسرقن " قَالَت هِنْد: إِنِّي قد أخذت من مَال أبي سُفْيَان هَنَات وهنات وَلَا أَدْرِي أتحللها لي أَو لَا؟ وَكَانَ أَبُو سُفْيَان حَاضرا، فَقَالَ: حللتك عَمَّا مضى وَعَما بَقِي. وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا لما قَالَت ذَلِك عرفهَا النَّبِي فَقَالَ: " أَو هِنْد بنت [عتبَة] ؟ " قَالَت: نعم، اعْفُ عَمَّا سلف يَا نَبِي الله، عَفا الله عَنْك، فَقَالَ: " إِن الْإِسْلَام يجب مَا قبله "، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " وعَلى أَن لَا تزنين " قَالَت هِنْد: أَو تَزني الْحرَّة؟ ! فَضَحِك عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا قَالَ: " وعَلى أَلا تقتلن أَوْلَادكُنَّ وَالْمعْنَى: لَا تئدن أَوْلَادكُنَّ قَالَت هِنْد: رَبَّيْنَاهُمْ صغَارًا فَقَتَلْتُمُوهُمْ كبارًا وَكَانَ قتل ابْنهَا حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان يَوْم بدر فَلَمَّا _ كَانَ) قَالَ: {وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ} قَالَت هِنْد: مَا علمت الْبُهْتَان إِلَّا قبيحا ". وَمعنى الْآيَة: لَا تلْحق الْمَرْأَة

{وَلَا يَأْتِين بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف فبايعهن} بزوجها ولدا لَيْسَ مِنْهُ. وَقيل مَعْنَاهُ: أَن تلْتَقط ولدا، وَتقول لزَوجهَا: هَذَا وَلَدي مِنْك. وَمن حمل على هَذَا قَالَ: هَذَا أولى، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَلَا يَزْنِين} فقد تضمن الْيَمين عَن الزِّنَا الْيَمين على الْمَعْنى الأول، فَلَا بُد لهَذَا من معنى آخر. وَقَوله: {يَفْتَرِينَهُ بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ} قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الْوَلَد إِذا سقط من الْمَرْأَة سقط بَين يَديهَا ورجليها. وَقيل: لِأَن الثدي بَين يدين، والفرج بَين الرجلَيْن، وَالْمَرْأَة تضع وترضع. وَقيل: إِن ذكر الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ على طَرِيق التَّأْكِيد، مثل قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِمَا [قدمت] أَيْدِيكُم} يَعْنِي: بِمَا كسبتم، وَذكر الْأَيْدِي على طَرِيق التَّأْكِيد، فَلَمَّا قَالَ النَّبِي: " وَلَا تعصينني فِي مَعْرُوف " قَالَت هِنْد: مَا جئْنَاك لنعصيك. وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَت: إِنَّك لتأمر بمكارم الْأَخْلَاق ". وَأما الْمَعْرُوف فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه جَمِيع الطَّاعَات، وَالْآخر: أَنه النِّيَاحَة وَمَا يَفْعَله النِّسَاء على الْمَوْتَى من شقّ الْجُيُوب، وخمش الْوُجُوه، وَقطع الشُّعُور، وَمَا أشبه ذَلِك. وَهَذَا القَوْل هُوَ الْأَشْهر، وَقد روته أم عَطِيَّة مُسْندًا إِلَى النَّبِي فسر بالنياحة. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " مَا وفت بذلك امْرَأَة إِلَّا أم عَطِيَّة ". وروى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة شهر ابْن حَوْشَب عَن أم سَلمَة الْأَنْصَارِيَّة أَن امْرَأَة من النسْوَة قَالَت: " مَا هَذَا الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يَنْبَغِي لنا أَن نَعْصِيك فِيهِ؟ قَالَ: " لَا تنحن " فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن بني فلَان قد أسعدوني على عمي وَلَا بُد من قضائهن، فعاتبته مرَارًا، فَأذن لي فِي قضائهن، فَلم أنح بعد فِي قضائهن وَلَا غَيره حَتَّى السَّاعَة، وَلم يبْق من النسْوَة امْرَأَة إِلَّا وَقد ناحت غَيْرِي ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بذلك عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن أَحْمد الْقفال، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس المحبوبي

{واستغفر لَهُنَّ الله إِن الله غَفُور رَحِيم (12) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قوما غضب الله} أخبرنَا أَبُو عِيسَى، أخبرنَا عبد بن حميد، عَن أبي نعيم، عَن يزِيد بن عبد [الله] الشَّيْبَانِيّ، عَن شهر بن حَوْشَب. . الحَدِيث: قَالَ أَبُو عِيسَى: وَأم سَلمَة الْأَنْصَارِيَّة هِيَ أَسمَاء بنت يزِيد السكني. وَقَوله: {فبايعهن واستغفر لَهُنَّ الله} أَي: قد غفر الله لَكِن. وَقَوله: {إِن الله غَفُور رَحِيم} قد بَينا. وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة " أَن النَّبِي مَا مس بِيَدِهِ يَد امْرَأَة قطّ إِلَّا يَد امْرَأَة يملكهَا ". وَالْمَشْهُور فِي بيعَة النِّسَاء " أَنه دَعَا بِإِنَاء فِيهِ مَاء وغمس فِيهِ يَده فَجعل كل من بَايَعت غمست فِيهِ يَدهَا " وَقد قيل: " إِنَّه أَخذ بيدهن وَرَاء الثَّوْب " وَالأَصَح هُوَ الأول.

13

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قوما غضب الله عَلَيْهِم} فِيهِ رُجُوع إِلَى قصَّة حَاطِب بن أبي بلتعة، وتأكيد النَّهْي عَن مُوالَاة الْكفَّار. وَقيل: إِن الْآيَة عَامَّة. وَقَوله: {قوما غضب الله عَلَيْهِم} قيل: هم المُنَافِقُونَ. وَقيل: هم الْيَهُود، وعَلى

{عَلَيْهِم قد يئسوا من الْآخِرَة كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور (13) .} القَوْل الأول هم الْمُشْركُونَ. وَقَوله: {قد يئسوا من الْآخِرَة} أَي: يئسوا من الْبَعْث بعد الْمَوْت، وَهَذَا فِي الْمُشْركين ظَاهر؛ لأَنهم كَانُوا يُنكرُونَ الْبَعْث، وَقد أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم أَنهم قَالُوا: {مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} وَكَذَلِكَ فِي الْمُنَافِقين ظَاهر. وَأما إِذا حملنَا على الْيَهُود، فَالْمُرَاد من الْآيَة هم الْيَهُود الَّذين كَانُوا يعْرفُونَ النَّبِي، ويعلمون أَنه نَبِي الله، وَيُنْكِرُونَ نبوته حسدا وبغيا. وَمعنى إياسهم من الْآخِرَة هُوَ الْيَأْس من الثَّوَاب؛ لأَنهم إِذا عرفُوا الْحق [وأنكروه] متعنتين عرفُوا حَقِيقَة أَنهم فِي النَّار فِي الْآخِرَة. وَقيل: إِن الْمَعْنى على هَذَا القَوْل هُوَ أَن الْيَهُود كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْسَ فِي الْجنَّة أكل وَلَا شرب وَلَا استمتاع، فَمَعْنَى الْيَأْس هُوَ يأسهم عَن هَذِه النعم لمَكَان اعْتِقَادهم. وَقَوله تَعَالَى: {كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور عَن إصابتهم الثَّوَاب، ووصولهم إِلَى الْجنَّة؛ لأَنهم عاينوا الْأَمر، وَعرفُوا أَنهم أهل النَّار قطعا. وَالْقَوْل الثَّانِي: كَمَا يئس الْكفَّار من أَصْحَاب الْقُبُور أَنهم لَا يعودون إِلَيْهِم، فعلى القَوْل الأول المُرَاد من الْكفَّار هم الْكفَّار الَّذين مَاتُوا، وعَلى القَوْل الثَّانِي المُرَاد من الْكفَّار هم الْأَحْيَاء مِنْهُم. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم (1) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كبر مقتا عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِن الله} تَفْسِير سُورَة الصَّفّ وَهِي مَدَنِيَّة

الصف

قَوْله تَعَالَى: {سبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} قد بَينا معنى هَذِه الْآيَة. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أحب الْكَلَام إِلَى الله تَعَالَى سُبْحَانَ الله، ولحبه هَذِه الْكَلِمَة ألهمها أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.

2

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله وتذاكروا الْبَعْث وَأمر الْآخِرَة ثمَّ قَالُوا: لَو علمنَا مَا يُحِبهُ الله فَفَعَلْنَا وَلَو نبذل نفوسنا. وَفِي رِوَايَة: أَن عبد الله بن رَوَاحَة كَانَ يَقُول لمن يلقاه: تعال نؤمن سَاعَة، وَنَذْكُر الله تَعَالَى، وَيَقُول: وددت أَن لَو عرفت مَا يُحِبهُ الله فأفعله؛ فَلَمَّا فرض الله الْجِهَاد وَأمرهمْ ببذل النَّفس وَالْمَال، وَكتب عَلَيْهِم الْقِتَال أَحبُّوا الْحَيَاة وكرهوا الْقِتَال، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وَعَن قَتَادَة: أَن أَصْحَاب رَسُول الله لما فروا يَوْم أحد إِلَّا نَفرا يَسِيرا مِنْهُم أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالْآيَة وَإِن كَانَت عَامَّة فَإِنَّهَا فِي بعض الصَّحَابَة دون الْبَعْض، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ فِي مَوضِع آخر: {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا وَمَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه وَمِنْهُم من ينْتَظر وَمَا بدلُوا تبديلا} وَهَذَا دَلِيل ظَاهر على أَن الْآيَة فِي هَذِه السُّورَة لم ترد فِي حق جَمِيعهم على الْعُمُوم. وَفِي التَّفْسِير: أَن عبد الله بن رَوَاحَة قَالَ: لما نزلت آيَة الْجِهَاد حبست نَفسِي فِي سَبِيل الله، ثمَّ إِنَّه لما خرج إِلَى غَزْوَة مُؤْتَة، " وَكَانَ النَّبِي أَمر زيد بن حَارِثَة، فَإِن

{يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص (4) وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم لم تؤذونني وَقد تعلمُونَ أَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (5) وَإِذ قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم يَا بني إِسْرَائِيل إِنِّي رَسُول الله} اسْتشْهد فجعفر بن أبي طَالب، فَإِن اسْتشْهد فعبد الله بن رَوَاحَة [قَالَ: فاستشهد زيد] بن حَارِثَة، ثمَّ أَخذ الرَّايَة جَعْفَر فاستشهد، ثمَّ أَخذ الرَّايَة عبد الله بن رَوَاحَة فاستشهد، ثمَّ إِنَّه أَخذ الرَّايَة خَالِد بن الْوَلِيد وَقَاتل حَتَّى رَجَعَ بِالْمُسْلِمين ".

3

وَقَوله: {كبر مقتا عِنْد الله} أَي: بغضا {أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وَالْمعْنَى: أَن الله تَعَالَى يبغض من يَقُول شَيْئا وَلَا يفعل.

4

قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} أَي: ملزق بعضه بِبَعْض. وَقيل: يثبتون فِي الْحَرْب مَعَ الْكفَّار ثبات الْبُنيان الَّذِي وضع بعضه على بعض وسد بالرصاص. وَالْعرب إِذا بنت الْبناء بِالْحِجَارَةِ يرصون الْحِجَارَة ثمَّ يجعلونه فِي خلال الْبناء، ويسمونه الْبناء المرصوص.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم لم تؤذونني} قد بَينا مَا كَانَ يُؤْذونَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي سُورَة الْأَحْزَاب. وَقَوله: {وَقد تعلمُونَ أَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم} أَي: وتعلمون، " وَقد " صلَة. وَقَوله: {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} أَي: مالوا عَن الْحق [فأمال] الله قُلُوبهم، أَي: زادهم ميلًا عَن الْحق. وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} أَي: الْكَافرين.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم يَا بني إِسْرَائِيل إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم مُصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعد اسْمه أَحْمد} وَقد ثَبت

{إِلَيْكُم مُصدقا لما بَين يَدي من التَّوْرَاة وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سحر مُبين (6) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله الْكَذِب وَهُوَ يدعى إِلَى الْإِسْلَام وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (7) يُرِيدُونَ ليطفئوا نور الله} بِرِوَايَة مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي قَالَ: " لي خَمْسَة أَسمَاء: أَنا مُحَمَّد، وَأَنا أَحْمد، وَأَنا الماحي يمحو الله بِي الْكفْر، وَأَنا الحاشر الَّذِي يحْشر النَّاس على قدمي، وَأَنا العاقب الَّذِي لَا نَبِي بعدِي ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أخبرنَا [ابْن] فراس، أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي، أخبرنَا سعيد بن (جُبَير) عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم، عَن أَبِيه. . الحَدِيث. وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سحر مُبين} أَي: ظَاهر. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن اسْم الرَّسُول فِي الْإِنْجِيل فار قليطا، وَبشر عِيسَى بِهِ بِمَا أَخذ عَلَيْهِ من الْعَهْد، والعهد الْمَأْخُوذ هُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النبين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه} الْآيَة وَأما معنى اسْمه أَحْمد على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لِأَنَّهُ كَانَ يحمد الله كثيرا. وَالثَّانِي: لِأَن النَّاس حمدوه فِي فعاله.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله الْكَذِب وَهُوَ يدعى إِلَى الْإِسْلَام وَالله

{بأفواههم وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ (9) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من عَذَاب أَلِيم (10) تؤمنون بِاللَّه وَرَسُوله وتجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (11) يغْفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ومساكن طيبَة فِي جنَّات عدن ذَلِك الْفَوْز} لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين) قد بَينا من قبل.

8

قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُونَ ليطفئوا نور الله بأفواههم} يُقَال: هُوَ الْقُرْآن. وَيُقَال: هُوَ مُحَمَّد. وَقَوله: {وَالله متم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} أَي: يتم أَمر نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ.

9

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} أَي: على جَمِيع الْأَدْيَان شرقا وغربا، ومصداق هَذِه الْآيَة على الْكَمَال إِنَّمَا يكون عِنْد نزُول عِيسَى ابْن مَرْيَم حَيْثُ لَا يبْقى إِلَّا دين الْإِسْلَام.

10

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا هَل أدلكم على تِجَارَة تنجيكم من عَذَاب أَلِيم} وَالتِّجَارَة أَن تبذل شَيْئا وَتَأْخُذ شَيْئا، فَكَأَنَّهُ جعل بذل النَّفس وَالْمَال وَأخذ الثَّوَاب تِجَارَة، وَهُوَ على طَرِيق الْمجَاز.

11

قَوْله تَعَالَى: {تؤمنون بِاللَّه وَرَسُوله} فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَجَوَابه: يغْفر لكم ذنوبكم. وَقَوله: {وتجاهدون فِي سَبِيل الله بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

12

قَوْله: {يغْفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: بساتين، والأنهار هِيَ الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة تجْرِي من غير أخدُود. وَقَوله: {ومساكن طيبَة فِي جنَّات عدن} أَي: يسطيبونها، والعدن مَوضِع الْإِقَامَة، قَالَ ابْن مَسْعُود: هُوَ بطْنَان الْجنَّة. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الله غرس جنَّة عدن

{الْعَظِيم (12) وَأُخْرَى تحبونها نصر من الله وَفتح قريب وَبشر الْمُؤمنِينَ (13) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا أنصار الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم للحواريين من أَنْصَارِي إِلَى الله} بِيَدِهِ. وَقَوله: {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} أَي: النجَاة الْعَظِيمَة.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَأُخْرَى تحبونها} أَي: تودونها. وَقَوله تَعَالَى: {وَأُخْرَى} أَي: خصْلَة أُخْرَى. وَقيل: تِجَارَة آخرى. وَقَوله: {نصر من الله وَفتح قريب} هُوَ فتح مَكَّة. وَقيل: هُوَ فتح فَارس وَالروم. وَقَوله: {وَبشر الْمُؤمنِينَ} أَي: بالنصر فِي الدُّنْيَا، وبالجنة فِي الْآخِرَة.

14

قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كونُوا انصار الله} وَقُرِئَ: " أنصارا لله ". وَقَوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَم للحواريين} الحواريون صفوة الْأَنْبِيَاء وخالصتهم، وَمِنْه قَول النَّبِي للزبير: " هُوَ ابْن عَمَّتي وحواري من أمتِي ". وَمِنْه الْخبز الْحوَاري لبياضه ونفائه. وَالْعرب تسمي نسَاء الْأَمْصَار الحواريات، قَالَ الشَّاعِر: (فَقل للحواريات يبْكين غَيرنَا ... وَلَا تبكنا إِلَّا الْكلاب النوابح) وَفِي الْقِصَّة: أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام جمع الحواريين فِي بَيت وهم اثْنَا عشر رجلا وَقَالَ: إِن أحدكُم يكفر بِي الْيَوْم اثْنَتَيْ عشر مرّة، فَكَانَ كَمَا قَالَ: وَقَالَ: من يخْتَار مِنْكُم أَن يلقِي عَلَيْهِ شبهي فَيقْتل ويصلب؟ فَقَامَ شَاب مِنْهُم وَقَالَ: أَنا. فَقَالَ: اقعد. ثمَّ قَالَ ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، وَفِي الْجَمِيع يقوم ذَلِك الشَّاب، فَقَالَ عِيسَى: أَنْت هُوَ. ثمَّ إِن الله تَعَالَى رَفعه من الروزنة إِلَى السَّمَاء، وَدخل الْيَهُود وَألقى الله تَعَالَى شبه عِيسَى على ذَلِك الرجل فَقَتَلُوهُ وصلبوه.

{قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله فآمنت طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم فَأَصْبحُوا ظَاهِرين (14) .} وَقَوله: {من أَنْصَارِي إِلَى الله} أَي: مَعَ الله. وَقيل مَعْنَاهُ: من أَنْصَارِي ينصر مِنْهُ إِلَى: نصر أَي: مضموم إِلَيْهِ. وَقَوله: {قَالَ الحواريون نَحن أنصار الله} ظَاهر الْمَعْنى. وَقَوله: {فآمنت طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل وكفرت طَائِفَة} فِي التَّفْسِير: أَن عِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِ لما رَفعه الله تَعَالَى إِلَى السَّمَاء اخْتلف أَصْحَابه؛ فَقَالَ بَعضهم: كَانَ هُوَ الله فَنزل إِلَى الأَرْض ثمَّ رَفعه إِلَى السَّمَاء، وهم النسطورية. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ هُوَ ابْن الله أنزلهُ إِلَى الأَرْض فَفعل مَا شَاءَ ثمَّ إرتفع إِلَى السَّمَاء، وهم اليعقوبية. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة، وَثَلَاثَة هُوَ أَب وَابْن وَزوج، وَقَالُوا: ثَلَاثَة قدما أقانيم، وَعِيسَى أحد الثَّلَاثَة، وهم الملكانية؛ وَعَلِيهِ أَكثر النَّصَارَى. وَقَالَ قوم: هُوَ عبد الله وَرَسُوله فَغلبَتْ الطَّائِفَة الثَّلَاثَة هَذ الطَّائِفَة قبل النَّبِي فَلَمَّا بعث عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام غلبت الطَّائِفَة المؤمنة الطوائف الثَّلَاث، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فأيدنا الَّذين آمنُوا على عدوهم} أَي: نصرنَا وقوينا. وَقَوله: {فَأَصْبحُوا ظَاهِرين} أَي: غَالِبين. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض الْملك القدوس الْعَزِيز الْحَكِيم (1) هُوَ} تَفْسِير سُورَة الْجُمُعَة مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع، وَذكر بَعضهم: أَنَّهَا مَكِّيَّة، وَلَيْسَ بِصَحِيح.

الجمعة

قَوْله تَعَالَى: {يسبح لله} قد بَينا معنى التَّسْبِيح، وَهُوَ تَنْزِيه الرب عَن كل مَا لَا يَلِيق بِهِ. وَيُقَال: التَّسْبِيح لله هُوَ ذكر الله. وَذكر الْقفال الشَّاشِي: أَن معنى تَسْبِيح الجمادات هُوَ مَا جعل فِيهَا من دَلَائِل حدثها، وَأَن لَهَا صانعا وخالقا. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، وَقد ذكرنَا من قبل مَا قَالَه أهل السّنة فِيهَا. وَقَوله: {مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض الْملك القدوس} أَي: الطَّاهِر من كل عيب وَآفَة. وَقَوله: {الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْغَالِب فِي أمره، الْعدْل فِي فعله.

2

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا} روى مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم: أَن الْأُمِّي هُوَ الَّذِي لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ. وروى ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: " نَحن أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ". وَأَشَارَ بأصابعه الْعشْر، وَحبس إبهامه فِي الْمرة الثَّالِثَة. وَيُقَال: سمي الْأُمِّي أُمِّيا نِسْبَة إِلَى مَا وَلدته عَلَيْهِ أمه. وَيُقَال: سمي أُمِّيا لِأَنَّهُ الأَصْل فِي جبلة الْأمة، وَالْكِتَابَة لَا تكون إِلَّا بتَعَلُّم. وَعَن بَعضهم: سميت قُرَيْش أُمِّيين نِسْبَة إِلَى أم الْقرى وَهِي [مَكَّة] فَإِن قَالَ قَائِل: لم يكن كل قُرَيْش أُمِّيا، وَقد قَالَ: {فِي الْأُمِّيين} وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى سماهم أُمِّيين بِاعْتِبَار غَالب أَمرهم، وَقد كَانَت الْكِتَابَة نادرة فيهم، وَقد كَانَت الْعَرَب تسمي من علم الْكِتَابَة والسباحة وَالرَّمْي شَاعِرًا الْكَامِل. قَالَ ابْن عَبَّاس: تعلمت قُرَيْش الْكِتَابَة من أهل

{الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين (2) وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم وَهُوَ} لحيرة، وتعلمها أهل الْحيرَة من أهل الأنبار. وَالْحكمَة فِي كَون الرَّسُول أُمِّيا انْتِفَاء التُّهْمَة عَنهُ فِي تعلم أَخْبَار الْأَوَّلين ودراستها من كتبهمْ. وَيُقَال: ليَكُون مُوَافقا لصفته فِي كتب الْأَوَّلين. وَقَوله: {يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته} أَي: الْقُرْآن. وَقَوله: {وَيُعلمهُم الْكتاب} أَي: كتاب الله. وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الْخط بالقلم، فَإِن الْكِتَابَة كثرت فِي قُرَيْش وَسَائِر الْعَرَب بعد رَسُول الله، وَهَذَا مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} . وَقَوله: {وَالْحكمَة} أَي: السّنة. وَيُقَال: الْفِقْه فِي الدّين. وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين} أَي: فِي ضلال من الْحق بَين.

3

قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرين مِنْهُم} قَالَ الْأَزْهَرِي: هُوَ فِي مَوضِع الْخَفْض يَعْنِي: بعث فِي الْأُمِّيين وَفِي آخَرين. وَقَوله: {لما يلْحقُوا بهم} أَي: لم يلْحقُوا بهم وسيلحقون. وَيُقَال فِي قَوْله: {وَآخَرين} أَي: يعلمهُمْ الْكتاب وَالْحكمَة، وَيعلم آخَرين، أوردهُ النقاش. وَاخْتلفت الْأَقْوَال فِي المُرَاد بالآخرين من هم؟ قَالَ عِكْرِمَة: هم التابعون. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هم الْعَجم. (وَقَائِل) هَذَا القَوْل مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة وَأَشَارَ إِلَى سلمَان، وَقَالَ: لَو كَانَ الدّين مُعَلّقا بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رجال من قوم

{الْعَزِيز الْحَكِيم (3) ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم (4) مثل الَّذين حملُوا التَّوْرَاة ثمَّ لم يحملوها كَمثل الْحمار يحمل أسفارا بئس مثل الْقَوْم} هَذَا " أَي: الْعَجم. وَقَالَ الضَّحَّاك: هُوَ كل من آمن وَعمل صَالحا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد بَينا.

4

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء} أَي: النُّبُوَّة. وَيُقَال: مَا سبق ذكره من تَعْلِيم الْكتاب وَالْحكمَة. وَقَوله: {وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} ظَاهر. وَقد ورد فِي الْخَبَر " أَن الْفُقَرَاء شكوا إِلَى النَّبِي وَقَالُوا: ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ، فَأَرْشَدَهُمْ الرَّسُول إِلَى التَّسْبِيح والتهليل وأنواع من الذّكر؛ فَسمع الْأَغْنِيَاء بذلك فَجعلُوا يَقُولُونَ مثل مَا يَقُول الْفُقَرَاء؛ فجَاء الْفُقَرَاء إِلَى رَسُول الله وَذكروا لَهُ ذَلِك؛ فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة، وَهُوَ وَقَوله: {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} وَهُوَ خبر مَشْهُور.

5

قَوْله تَعَالَى: {مثل الَّذين حملُوا التَّوْرَاة} أَي: حملُوا الْقيام بهَا (واستعمالها) ، وَهُوَ من الْحمالَة وَلَيْسَ من الْحمل أَي: ضمنُوا الْقيام بهَا وَالْعَمَل بِمَا فِيهَا. وَقَوله: {ثمَّ لم يحملوها} أَي: ضيعوها وَلم يعملوا بِمَا فِيهَا {كَمثل الْحمار يحمل أسفارا} قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " كَمثل حمَار يحمل أسفارا " والأسفار جمع سفر، وَالسّفر هُوَ الْكتاب، فَجعل الْكفَّار لما ضيعوا كتاب الله وَلم يعملوا بِمَا فِيهِ مثل الْحمر تحمل الْكتب وَلَا تَدْرِي مَا فِيهَا.

{الَّذين كذبُوا بآيَات الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (5) قل يَا أَيهَا الَّذين هادوا إِن زعمتم أَنكُمْ أَوْلِيَاء لله من دون النَّاس فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين (6) وَلَا يتمنونه أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم وَالله عليم بالظالمين (7) قل إِن الْمَوْت الَّذِي تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ} وَقَوله: {بئس مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله} أَي: بئس الْمثل مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله وَقَوله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين.

6

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا الَّذين هادوا} وَفِي بعض التفاسير: أَن يهود الْمَدِينَة بعثوا إِلَى يهود خَيْبَر يَسْأَلُونَهُمْ عَن النَّبِي، فَكتب يهود خَيْبَر إِلَى يهود الْمَدِينَة، وَقَالُوا: إِنَّا لَا نَعْرِف نَبيا يخرج من الْعَرَب، وَإِن هَذَا الرجل يُرِيد أَن يضعكم ويصغر شَأْنكُمْ، وَأَنْتُم أَوْلِيَاء الله وأحباؤه فَلَا تَتبعُوهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {إِن زعمتم أَنكُمْ أَوْلِيَاء لله من دون النَّاس} هُوَ مَا قُلْنَا. وَقَوله: {فتمنوا الْمَوْت إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: صَادِقين أَنكُمْ أَوْلِيَاء الله، فَإِنَّكُم إِذا متم وصلتم إِلَى كَرَامَة الله وجنته على زعمكم، فتمنوا لتصلوا. وَفِي أَكثر التفاسير: أَن الْآيَة معْجزَة للرسول، فَإِن الله كَانَ قد قضى أَنهم لَو تمنوا مَاتُوا فِي وقتهم ذَلِك، فَلم يتمن أحد مِنْهُم، فَفِي صرفهم عَن التَّمَنِّي مَعَ حرصهم على إِظْهَار كذب الرَّسُول، وَفِي علمهمْ أَنهم لَو تمنوا مَاتُوا، دَلِيل على صدق الرَّسُول.

7

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يتمنونه أبدا بِمَا قدمت أَيْديهم} أخبر أَنهم لَا يتمنون، وَلم يتمن أحد مِنْهُم. وَقَوله: {وَالله عليم بالظالمين} أَي: بظلمهم على أنفسهم بكتمانهم وصف الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي كتبهمْ.

8

قَوْله تَعَالَى: {قل إِن الْمَوْت الَّذِي تفرون مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم} فِي الْآيَة دَلِيل على أَنهم لَو تمنوا مَاتُوا، وَإِنَّهُم لم يتمنوا فِرَارًا من الْمَوْت. وَقَوله: {فَإِنَّهُ ملاقيكم} أَي: الْمَوْت ملاقيكم.

{ملاقيكم ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع ذَلِكُم} وَقَوله: {ثمَّ تردون إِلَى عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} أَي: عَالم بِمَا ظهر وخفي. وَقَوله: {فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: بِمَا عملتم.

9

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} أَي: لصَلَاة الْجُمُعَة من يَوْم الْجُمُعَة، وَسمي الْيَوْم جُمُعَة؛ لِأَنَّهُ جمع فِي هَذَا الْيَوْم خلق آدم. وَقد روى بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي. وَقَوله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله} قَرَأَ عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن الزبير: " فامضوا إِلَى ذكر الله ". قَالَ ابْن مَسْعُود: لَو قَرَأت: " فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله " لسعيت حَتَّى يسْقط رِدَائي. وَالْمَعْرُوف: " فَاسْعَوْا " وَقد رُوِيَ عَن بعض التَّابِعين أَنهم كَانُوا يعدون. قَالَ ثَابت الْبنانِيّ: كنت عِنْد أنس بن مَالك: فَنُوديَ لصَلَاة الْجُمُعَة فَقَالَ: قُم نسع. وَالصَّحِيح أَن السَّعْي هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَمَل وَالْفِعْل، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره، وَحكي ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَاسْتشْهدَ بقوله تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى} أَي: إِلَّا مَا عمل، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِن سعيكم لشتى} وأمثال هَذَا. وَقد قَالَ الشَّاعِر: (أسعى على جلّ بني مَالك ... كل امْرِئ فِي شَأْنه ساعي) فالسعي هَاهُنَا بِمَعْنى الْعَمَل وَالتَّصَرُّف. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: أَن المُرَاد من قَوْله: {فَاسْعَوْا} هُوَ النِّيَّة بِالْقَلْبِ والإرادة لَهَا. وَقَالَ عبد الله بن الصَّامِت: كنت أَمْشِي مَعَ أبي ذَر إِلَى الْجُمُعَة فسمعنا النداء للصَّلَاة، فَرفعت فِي مشي، فجذبني جذبة، وَقَالَ:

{خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ (9) فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون (10) وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا} أَلسنا نسعى. وَقَوله: {إِلَى ذكر الله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْخطْبَة، وَالْآخر: أَنه الصَّلَاة. وَهُوَ الْأَصَح. وَقَوله تَعَالَى: {وذروا البيع} أَي: واتركوا البيع. وَيُقَال المُرَاد مِنْهُ: إِذا دخل وَقت الصَّلَاة وَإِن لم يُؤذن لَهَا بعد، وَيُقَال: إِنَّه بعد سَماع النداء. وَالْأول أحسن. وَمن قَالَ بِالثَّانِي، قَالَ: النداء هُوَ الآذان إِذا جلس الإِمَام على الْمِنْبَر وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي زمَان رَسُول الله وَأما الْآذِن الأول أحدثه عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ حِين كثر النَّاس. وَالْمرَاد من قَوْله: {وذروا البيع} أَي: البيع وَالشِّرَاء وكل مَا يشغل عَن الْجُمُعَة. وَاخْتلف الْعلمَاء أَنه لَو بَاعَ هَل يجوز ذَلِك البيع؟ فَذهب أَكْثَرهم إِلَى أَن البيع جَائِز، وَالنَّهْي عَنهُ كَرَاهَة. وَذهب مَالك وَأحمد إِلَى أَن البيع لَا يجوز أصلا. وَحكى بَعضهم عَن مَالك أَنه رَجَعَ من التَّحْرِيم إِلَى الْكَرَاهَة، وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {ذَلِكُم خير لكم إِن كُنْتُم تعلمُونَ} جعل ترك البيع خيرا، وَهَذَا يُشِير إِلَى الْكَرَاهَة فِي الْفِعْل دون التَّحْرِيم، وَلِأَن النَّهْي عَن العقد للاشتغال عَن الْجُمُعَة لَا لعين العقد.

10

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة} أَي: فرغ مِنْهَا. قَوْله تَعَالَى: {فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله} هُوَ أَمر ندب لَا أَمر حتم وَإِيجَاب، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} وَعَن ابْن محيريز قَالَ: يُعجبنِي أَن يكون لي حَاجَة بعد الْجُمُعَة فأنصرف إِلَيْهَا، وابتغى من فضل الله مِنْهَا. وَعَن عبد الله [بن] بسر: أَنه كَانَ يخرج من الْمَسْجِد إِذا صلى الْجُمُعَة، ثمَّ يعود وَيجْلس إِلَى أَن يُصَلِّي الْعَصْر. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي فِي معنى قَوْله

تَعَالَى: {فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله} قَالَ: " لَيْسَ هُوَ طلب دنيا، وَإِنَّمَا هُوَ عِيَادَة مَرِيض، أَو شُهُود جَنَازَة، أَو زياح أَخ فِي الله ". وَالْخَبَر غَرِيب. وَقَوله: {واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون} ظَاهر الْمَعْنى.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن رَسُول الله كَانَ على الْمِنْبَر يخْطب، وَقد كَانَ أصَاب أهل الْمَدِينَة غلاء ومجاعة، فَقدمت عير تحمل الطَّعَام وَيُقَال: كَانَت لدحية بن خَليفَة الْكَلْبِيّ فنزلوا عِنْد أَحْجَار الزَّيْت، وضربوا بالطبل ليعلم النَّاس، فَسمع الْمُسلمُونَ ذَلِك فِي الْمَسْجِد فَذَهَبُوا إِلَيْهَا، وَبَقِي النَّبِي مَعَ اثْنَي عشر نَفرا فيهم أَبُو بكر وَعمر. وَأورد البُخَارِيّ خَبرا فِي هَذَا، وَأورد هَذَا الْعدَد. وَقيل: فِي [ثَمَانِيَة] رجال، وَالْأول أصح، فَانْزِل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالتِّجَارَة مَعْلُومَة، وَهِي التِّجَارَة فِي الطَّعَام وتحصيلها، وَاللَّهْو هُوَ الطبل، قَالَه مُجَاهِد. وَيُقَال: هُوَ المزامير، وَكَانَ الْأَنْصَار يستعملون ذَلِك إِذا زفوا امْرَأَة إِلَى زَوجهَا، وَذَلِكَ مثل الدُّف والطبل وَمَا يُشبههُ، فعلى هَذَا القَوْل سمع الْمُسلمُونَ صَوتهَا فِي السُّوق وَكَانُوا يزفون امْرَأَة فَذَهَبُوا إِلَيْهَا، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ الثَّابِت. وَقَوله: {وَتَرَكُوك قَائِما} لِأَنَّهُ كَانَ يخْطب، وَفِيه دَلِيل على أَن السّنة أَن يخْطب قَائِما، وَأول من خطب قَاعِدا مُعَاوِيَة وَتَبعهُ على ذَلِك مَرْوَان. وَالسّنة مَا بَينا. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} وَقد تقدم سببان؛ التِّجَارَة وَاللَّهْو، وَلم يقل: " انْفَضُّوا إِلَيْهِمَا "؟ وَالْجَوَاب أَن مَعْنَاهُ: وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا، وَإِذا رَأَوْا لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَاكْتفى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر. وَقد ذكرنَا من قبل أَن الْعَرَب قد تذكر شَيْئَيْنِ وَترد الْكِنَايَة إِلَى أَحدهمَا، وَالْمرَاد كِلَاهُمَا، قَالَ الشَّاعِر:

{إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِما قل مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو وَمن التِّجَارَة وَالله خير الرازقين (11) .} نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك رَاض والرأي مُخْتَلف) وَيُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير وَمَعْنَاهُ: وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَو لهوا والانفضاض هُوَ الذّهاب بِسُرْعَة. وَقَوله: {قل مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو وَمن التِّجَارَة} أَي: ذكر الله تَعَالَى والاشتغال فِي الصَّلَاة خير من اللَّهْو وَالتِّجَارَة، وَقَوله: {وَالله خير الرازقين} قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: أَنه يرزقكم وَلَا يمسِكهُ عَنْكُم فَلَا تشتغلوا بِطَلَبِهِ عَن الصَّلَاة وَعَن ذكر الله. وَيُقَال: الرزق مسجلة للبر والفاجر. وروى الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ أَن النَّبِي قَالَ حِين نفر النَّاس إِلَى العير وَبَقِي فِي اثْنَي عشر رجلا: " لَو لحق آخِرهم أَوَّلهمْ لاضطرم الْوَادي عَلَيْهِم نَارا ". وَقد وَردت أَخْبَار كَثِيرَة فِي فضل الْجُمُعَة وثوابها مِنْهَا: مَا روى سعيد بن الْمسيب، عَن جَابر، عَن عبد الله أَن النَّبِي قَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس تُوبُوا إِلَى ربكُم من قبل أَن تَمُوتُوا، وَبَادرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة قبل أَن تشْغَلُوا، وصلوا الَّذِي بَيْنكُم وَبَين ربكُم بِكَثْرَة ذكركُمْ لَهُ وَالصَّدَََقَة فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة تنصرُوا وَتجبرُوا وترزقوا، وَاعْلَمُوا أَن الله تَعَالَى قد فرض عَلَيْكُم الْجُمُعَة فِي مقَامي هَذَا فِي يومي هَذَا فِي شَهْري هَذَا فِي عَامي هَذَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَمن تَركهَا فِي حَياتِي أَو بعد موتِي وَله إِمَام عَادل أَو جَائِر اسْتِخْفَافًا بهَا وجحودا لَهَا، أَلا فَلَا جمع الله شَمله، وَلَا بَارك لَهُ فِي أمره أَلا لَا ... ".

وروى مَالك، عَن سمي، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة ثمَّ رَاح فِي السَّاعَة الثَّالِثَة فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قرب بقرة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّالِثَة فَكَأَنَّمَا قرب كَبْشًا أقرن، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الرَّابِعَة فَكَأَنَّمَا قرب دجَاجَة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الْخَامِسَة فَكَأَنَّمَا قرب بَيْضَة، فَإِذا [شرع] الإِمَام طويت الصُّحُف، وَحَضَرت الْمَلَائِكَة يَسْتَمِعُون الذّكر ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو الْحُسَيْن بن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص أخبرنَا يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد، أخبرنَا أَبُو مُصعب عَن مَالك الْخَبَر. وَورد أَيْضا بِرِوَايَة عمرَان بن الْحصين، عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة غسلت ذنُوبه وخطاياه، فَإِذا رَاح كتب الله بِكُل قدم عمل عشْرين سنة، فَإِذا قضيت الصَّلَاة أُجِيز بِعَمَل مِائَتي سنة " وَالْخَبَر غَرِيب جدا. وَالْخَبَر الثَّالِث أَن النَّبِي قَالَ: " من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة من الْجَنَابَة، وَلبس من صَالح ثِيَابه، وَمَسّ من طيب بَيته، وَلم يفرق بَين اثْنَيْنِ غفر لَهُ مَا بَينه وَبَين الْجُمُعَة

الْأُخْرَى وَزِيَادَة ثَلَاثَة أَيَّام ". ذكره البُخَارِيّ فِي كِتَابه. وَورد أَيْضا فِي بعض الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " من ترك الْجُمُعَة ثَلَاث مَرَّات من غير عذر طبع الله على قلبه ". وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة} تَفْسِير سُورَة الْمُنَافِقين وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع. وَالله أعلم.

المنافقون

قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله} قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت السُّورَة فِي شَأْن عبد الله بن أبي بن سلول وَأَصْحَابه، كَانُوا يأْتونَ النَّبِي وَيَقُولُونَ: نَحن مُؤمنُونَ بك، ونشهد إِنَّك لرَسُول الله، وَأَن مَا جِئْت بِهِ حق، ثمَّ إِذا رجعُوا إِلَى مَا بَينهم أظهرُوا الْكفْر. وَعَن بَعضهم: أَن قَوْله تَعَالَى: {نشْهد} مَعْنَاهُ: نحلف بِدَلِيل أَن الله تَعَالَى قَالَ بعد هَذِه الْآيَة: {اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة} . قَالَ الشَّاعِر: (وَأشْهد عِنْد الله أَنِّي أحبها ... فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدهَا ليا) أَي: أَحْلف. وَقَوله: {وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} هُوَ تطييب لقلب النَّبِي وتسلية لَهُ، وَمَعْنَاهُ: أَن علمي أَنَّك رَسُول الله وشهادتي لَك بذلك خير من شَهَادَتهم. وَقَوله: {إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} قَالَ أَبُو عبيد: أَي: الْكَافِرُونَ، يُسَمِّي الْكفْر باسم الْكَذِب. وَقَالَ غَيره: هُوَ الْكَذِب حَقِيقَة. وَسمي قَوْلهم كذبا؛ لأَنهم كذبُوا على قُلُوبهم. وَقيل: لما أظهرُوا بألسنتهم خلاف مَا كَانَ فِي ضمائرهم سمي بذلك كذبا، كَالرّجلِ يخبر بالشَّيْء على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ.

2

قَوْله تَعَالَى: {اتَّخذُوا أَيْمَانهم جنَّة} أَي: ستْرَة لما أبطنوه من الْكفْر. وَقيل: جنَّة أَي: يترسوا بهَا عَن الْقَتْل، مثل الْمِجَن يتترس بهَا الْمقَاتل بهَا الْمقَاتل عَن سلَاح الْعَدو.

{فصدوا عَن سَبِيل الله إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ (2) ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا فطبع على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم وَإِن يَقُولُوا} وَقَوله: {فصدوا عَن سَبِيل الله} أَي: منعُوا النَّاس عَن سَبِيل الْإِيمَان. وَمعنى صدهم النَّاس عَن سَبِيل الله أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لضعفة الْمُسلمين: إِنَّا نشْهد عِنْد هَذَا الرجل ونظهر خلاف مَا نسر، فَلَو كَانَ نَبيا لعلم إسرارنا، ومنعنا من المخالطة مَعَ أَصْحَابه. وَقَوله: {إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يعْملُونَ} أَي: بئس الْعَمَل عَمَلهم. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " اتَّخذُوا إِيمَانهم جنَّة " بِكَسْر الْألف، وَالْمَعْرُوف إِيمَانهم بِالْفَتْح جمع الْيَمين.

3

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا} أَي: آمنُوا بألسنتهم، وَكَفرُوا بقلوبهم. وَقَوله: {فطبع على قُلُوبهم} أَي: ختم على قُلُوبهم فَلَا يدخلهَا الْإِيمَان وَقبُول الْحق. وَقَوله: {فهم لَا يفقهُونَ} أَي: لَا يتدبرون، وَالْفِقْه هُوَ التدبر والتفهم. وَقيل: فهم لَا يفقهُونَ أَي: لَا يعْقلُونَ، كَأَنَّهُمْ لم يقبلُوا الدّين مَعَ ظُهُور الدَّلَائِل عَلَيْهِ بِمَنْزِلَة من لَا يعقل.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم} فِي التَّفْسِير: أَن عبد الله بن أبي بن سلول كَانَ رجلا جسيما فصيحا صبيحا ذلق اللِّسَان. قَالَ الزّجاج: أخبر الله تَعَالَى بِصِحَّة أجسامهم وَحسن مناظرهم وفصاحة ألسنتهم. وَهُوَ فِي قَوْله: {وَإِن يَقُولُوا تسمع لقَولهم} أَي: للسان الَّذِي لَهُم، ثمَّ قَالَ فِي شَأْنهمْ: {كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة} أَي: هم مناظر بِلَا مخابر، وصور بِلَا مَعَاني، وَإِنَّمَا مثلهم بالخشب؛ لِأَن الْخشب لَا قلب لَهُ وَلَا عقل، وَلَا يعي خَبرا وَلَا يفهمهُ. وَيُقَال فِي الْعَادة: فلَان خشب أَي: لَيْسَ لَهُ عقل وَلَا فهم. وَقُرِئَ: " خشب " بِسُكُون الشين، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، يُقَال: بدن وبدنة وثمر وَثَمَرَة، فالخشب والخشب جمع، والواحدة خَشَبَة، ومثاله مَا ذكرنَا.

{تسمع لقَولهم كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم هم الْعَدو فَاحْذَرْهُمْ قَاتلهم الله أَنى يؤفكون (4) وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا يسْتَغْفر لكم رَسُول الله لووا} وَقَوله تَعَالَى: {مُسندَة} أَي: ممالة إِلَى الْجِدَار. قَالَ عَليّ بن عِيسَى: جعلهم كخشب نخرة، متآكلة فِي الْبَاطِن، صَحِيحَة فِي الظَّاهِر. وَقَوله: {يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم} يَعْنِي: إِذا سمعُوا نِدَاء أَو سمعُوا من ينشد ضَالَّة أَو أَي صَوت كَانَ، ظنُّوا أَنهم المقصودون بذلك الصَّوْت، وَأَن سرائرهم قد ظَهرت للْمُسلمين، وَهُوَ وصف لجبنهم وخوفهم من الْمُسلمين. وَفِي بعض التفاسير أَن مَعْنَاهُ: هُوَ أَن كل من سَار النَّبِي بِشَيْء كَانُوا يظنون أَن ذَلِك فِي أَمرهم وشأنهم. وَقيل: كَانَ كلما نزلت لآيَة أَو سُورَة ظنُّوا من الْخَوْف أَنَّهَا نزلت فيهم، قَالَه ابْن جريح. وأنشدوا لجرير فِي الْجُبْن: (مَا زلت تحسب كل شَيْء بعدهمْ ... خيلا تكر عَلَيْهِم ورجالا) وَقَالَ غَيره: (لقد خفت حَتَّى لَو تمر كمامة ... لَقلت عدوا وطليعة معشر) وَقَوله: {هم الْعَدو} أَي: الْأَعْدَاء. وَقَوله: {فَاحْذَرْهُمْ} قَالَ ذَلِك لأَنهم يطلعون الْمُشْركين على أسرار الْمُسلمين، ويجبنون ضعفاء الْمُسلمين. قَوْله: {قَاتلهم الله} أَي: أخزاهم وأهلكهم. وَقيل: نزلهم منزلَة من يقاتله عَدو قاهر لَهُ. وَقَوله: {أَنى يؤفكون} أَي: كَيفَ يصرفون عَن الْحق مَعَ ظُهُوره؟ وَهُوَ يتَضَمَّن تقبيح فعلهم وتعجيب رَسُول الله مِنْهُم.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا يسْتَغْفر لكم رَسُول الله} كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ لِلْمُنَافِقين: احضروا النَّبِي واعترفوا بذنوبكم يسْتَغْفر لكم، وَكَانُوا يهزون

{رُءُوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5) سَوَاء عَلَيْهِم أَسْتَغْفَرْت لَهُم أم لم تستغفر لَهُم لن يغْفر الله لَهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين (6) هم الَّذين يَقُولُونَ لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا وَللَّه خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَكِن} رُءُوسهم، وَيَنْظُرُونَ يمنة ويسرة استهزاء، قيل: هَذَا فِي عبد الله بن أبي بن سلول خَاصَّة. قَالَ بعض الصَّحَابَة لَهُ ذَلِك فَثنى رَأسه وحركه استهزاء، فَهُوَ معنى قَوْله: {لووا رُءُوسهم} وَيقْرَأ بِالتَّخْفِيفِ. وَمَعْنَاهُ: ثنوا رُءُوسهم، وَمن قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ تَأْكِيد. وَقَوله: {ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} أَي: يعرضون وهم ممتنعون عَن الْإِيمَان.

6

وَقَوله: {سَوَاء عَلَيْهِم أَسْتَغْفَرْت لَهُم أم لم تستغفر لَهُم لن يغْفر الله لَهُم} وَمَعْنَاهُ: أَن استغفارك لَهُم لَا يَنْفَعهُمْ، وَعِنْدهم أَن وجوده وَتَركه وَاحِد. فَإِن قيل: كَيفَ أسْتَغْفر لَهُم رَسُول الله وَقد علم أَنهم مُنَافِقُونَ؟ وَالْجَوَاب: أَنه كَانَ يسْتَغْفر لَهُم لأَنهم كَانُوا يأْتونَ يطْلبُونَ الاسْتِغْفَار، ويسألون مِنْهُ الصفح وَالْعَفو، مثل مَا ذكرنَا فِي سُورَة التَّوْبَة، وَلم يكن يَنْفَعهُمْ؛ لأَنهم كَانُوا كفَّارًا عِنْد الله. وَقَوله: {إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} أَي: الْمُنَافِقين، وهم كفار وفساق ومنافقون. وَحكى بَعضهم عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان أَنه قيل لَهُ: من الْمُنَافِق؟ قَالَ: الَّذِي يصف الْإِيمَان وَلَا يعْمل بِهِ. وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَخَاف عَلَيْكُم مُؤمنا تبين إيمَانه، وَلَا كَافِرًا تبين كفره، وَإِنَّمَا أَخَاف عَلَيْكُم كل مُنَافِق عليم اللِّسَان.

7

قَوْله تَعَالَى: {هم الَّذين يَقُولُونَ لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا} وَقُرِئَ فِي الشاذ " حَتَّى يَنْفضوا " من النفض أَي: حَتَّى يَنْفضوا أوعيتهم فيفتقروا ويتفرقوا. وَقَوله: {هم الَّذين يَقُولُونَ} يُقَال: الْوَاو محذوفة، وَمَعْنَاهُ: وهم الَّذين يَقُولُونَ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: {لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة} أَي: وَيَقُولُونَ، قَالَ الشَّاعِر:

(لأمر مَا تصرفت اللَّيَالِي ... لأمر مَا تحركت النُّجُوم) أَي: ولأمر. وَقَوله: {لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله} نزلت الْآيَة على سَبَب، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن أُسَامَة بن زيد أَن عمر رَضِي الله عَنهُ كَانَ اسْتَأْجر رجلا من غفار يُقَال لَهُ: " جَهْجَاه " ليعْمَل لَهُ فِي بعض الْغَزَوَات، وَهِي غَزْوَة " الْمُريْسِيع " فجرت بَينه وَبَين رجل من الْأَنْصَار مُنَازعَة على رَأس بِئْر للإسقاء فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: يَا للْأَنْصَار، وَقَالَ جَهْجَاه: يَا للمهاجرين، فَسمع النَّبِي ذَلِك فَقَالَ: " مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة دَعُوهَا فَإِنَّهَا ميتَة ". وَبلغ ذَلِك عبد الله بن أبي سلول فَغَضب وَقَالَ: هَذَا مثل مَا قَالَ الأول سمن كلبك، وَقَالَ: أما إِنَّكُم لَو أطعتموني لم تنفقوا على من اجْتمع عِنْد هَذَا الرجل وَكَانَ الْأَنْصَار يُنْفقُونَ على الْمُهَاجِرين، وَكَانُوا يَنْفضونَ عَنهُ وَقَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل وعنى بالأعز نَفسه، وَبِالْأَذَلِّ مُحَمَّدًا فَبلغ ذَلِك النَّبِي وَقَالَ عمر: دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لَا يبلغ النَّاس أَن مُحَمَّدًا يقتل أَصْحَابه " أَي: لَا أَقتلهُ لهَذَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس أخبرنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الديبلي، أخبرنَا أَبُو عبد الله سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، أخبرنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ ... الحَدِيث. وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه بِرِوَايَة زيد بن أَرقم قَالَ: كنت مَعَ عمر فِي غزَاة فَسمِعت عبد الله بن أبي بن سلول يَقُول لأَصْحَابه: لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا، وَقَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل. قَالَ فَجئْت إِلَى عمر وَذكرت لَهُ ذَلِك، وَذكر عمر ذَلِك لرَسُول الله، فجَاء ابْن أبي بن سلول إِلَى النَّبِي وَحلف أَنه مَا قَالَه فَصدقهُ وَكَذبَنِي، فَأَصَابَنِي من الْهم مَا لم يُصِبْنِي مثله قطّ حَتَّى جَلَست فِي بَيْتِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَالَّتِي قبلهَا،

{الْمُنَافِقين لَا يفقهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} فدعاني رَسُول الله وَقَالَ: " إِن الله تَعَالَى قد صدقك ". وَفِي رِوَايَة سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر " أَن رجلا من الْمُهَاجِرين كسع رجلا من الْأَنْصَار، فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: ياللأنصار، وَقَالَ الْمُهَاجِرِي: ياللمهاجرين وَكَانَ الْأَنْصَار أَكثر من الْمُهَاجِرين حِين قدم رَسُول الله الْمَدِينَة، ثمَّ كثر الْمُهَاجِرين من بعد فَلَمَّا سمع عبد الله بن أبي بن سلول ذَلِك قَالَ مَا ذَكرْنَاهُ، (وسَاق) الحَدِيث قَرِيبا من الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكرنَا عَن سُفْيَان. وَقَوله: {حَتَّى يَنْفضوا} أَي: يتفرقوا. وَقَوله تَعَالَى: {وَللَّه خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: أَنهم لَو لم تنفقوا فَللَّه خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض فَهُوَ يرزقكم. وَيُقَال: خَزَائِن السَّمَوَات بالمطر، وخزائن الأَرْض بالنبات. وَعَن بَعضهم: خَزَائِن السَّمَوَات مَا قَضَاهُ، وخزائن الأَرْض مَا أعطَاهُ. وَقَالَ بعض أَرْبَاب الخواطر: خَزَائِن السَّمَوَات: الغيوب، وخزائن الأَرْض: الْقُلُوب. وَالصَّحِيح الأول. قَوْله: {وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يفقهُونَ} قد بَينا.

8

قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} قد ذكرنَا، والأعز هُوَ الأقدر على منع الْغَيْر، والأذل هُوَ الأعجز عَن نفع الْغَيْر. وَقيل مَعْنَاهُ: ليخرجن الْعَزِيز مِنْهَا الذَّلِيل. وَفِي أفعل بِمَعْنى فعيل قَالَ الفرزدق: (إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا ... بَيْتا دعائمه أعز وأطول)

{وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ (8) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم عَن ذكر الله وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون (9) وأنفقوا من مَا رزقناكم من قبل أَن يَأْتِي أحدكُم الْمَوْت فَيَقُول رب لَوْلَا أخرتني} أَي: عَزِيز طَوِيلَة. وَقَوله: {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ} أَي: الْغَلَبَة والمنعة وَالْقُوَّة، والعزة لله لعزة فِي ذَاته، والعزة لرَسُوله وَلِلْمُؤْمنِينَ بِمَا أَعْطَاهُم الله تَعَالَى من الْغَلَبَة والمنعة وَالْقُوَّة. وَقَوله: {وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن الْعِزَّة وَالْغَلَبَة لله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ.

9

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تلهكم أَمْوَالكُم وَلَا أَوْلَادكُم} أَي: لَا تشغلكم، وَمَعْنَاهُ: لَا تشتغلوا بِالْقيامِ على أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فيشغلكم ذَلِك عَن ذكر الله كَمَا شغل الْمُنَافِقين. وَذكر الله هُوَ الْإِيمَان بِهِ هَاهُنَا. وَقَوله: {وَمن يفعل ذَلِك فَأُولَئِك هم الخاسرون} أَي: المغبونون بحظوظهم. وَيُقَال: هم الَّذين غبنوا أنفسهم وخسروها فِي الْآخِرَة. وَعَن عَطاء: أَن ذكر الله هَاهُنَا هُوَ الصَّلَوَات الْخمس. وَقَالَ الضَّحَّاك: هُوَ جَمِيع مَا فَرْضه الله تَعَالَى.

10

قَوْله تَعَالَى: {وأنفقوا مِمَّا رزقناكم} الْأَصَح أَنه الزَّكَاة، وَقيل: هُوَ صَدَقَة التَّطَوُّع، وكل مَا ندب الله تَعَالَى إِلَيْهِ من النَّفَقَة فِي الْخيرَات. وَقَوله: {من قبل أَن يَأْتِي أحدكُم الْمَوْت فَيَقُول رب لَوْلَا أخرتني} أَي: هلا أخرتني. قَوْله: {إِلَى أجل قريب} أَي: إِلَى مُدَّة قريبَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: كل من كَانَ لَهُ مَال وَلم يؤد زَكَاته يسْأَل الله الرّجْعَة إِذا حَضَره الْمَوْت. فَقَالُوا لَهُ: يَا ابْن عَبَّاس، اتَّقِ الله، فَإِنَّمَا الرّجْعَة للْكَافِرِ، فَقَالَ: اتْلُوا هَذِه الْآيَة: {وأنفقوا مِمَّا رزقناكم} الْآيَة. وَفِي رِوَايَة: أَن هَذَا فِي الْحَج بدل الزَّكَاة.

{إِلَى أجل قريب فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين (10) وَلنْ يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ (11) .} وَقَوله: {فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين} وَقُرِئَ: " وأكون " وَمن قَرَأَ " وأكون " فَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله فَأَصدق. وَقيل لِابْنِ عمر: وَكَيف خَالَفت الْمُصحف فِي قَوْله: {وأكون من الصَّالِحين} ؟ فَقَالَ: هُوَ مثل قَوْلهم فِي هجاء أبجد كلمن، وَهُوَ كلمون. وَأما تَقْرِير الْآيَة على الْقِرَاءَة بِدُونِ الْوَاو: " وَإِن أخرتني أصدق وأكن من الصَّالِحين ". وَقيل: " أصدق " أَي: أزكي، " وأكن من الصَّالِحين " أَي: أحج.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا} أَي: لَا يتَقَدَّم وَلَا يتَأَخَّر إِذا جَاءَ الْأَجَل. وَقَوله: {وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير (1) هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} تَفْسِير سُورَة التغابن وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين. وَقَالَ الضَّحَّاك: مَكِّيَّة. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: مَكِّيَّة ومدنية. وَمَعْنَاهُ: أَن بَعْضهَا مَكِّيَّة، وَبَعضهَا مَدَنِيَّة. وَالله أعلم.

التغابن

قَوْله تَعَالَى: {يسبح لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير} قد ذكرنَا مَعَاني هَذَا من قبل.

2

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن} قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي: خَلقكُم كفَّارًا وخلقكم مُؤمنين، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقد أيد هَذَا الْمَعْنى قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يبشرك بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} فَأخْبر أَن الله تَعَالَى خلقه كَذَلِك. وَفِي الْخَبَر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق يحيى سعيدا فِي بطن أمه، وَخلق فِرْعَوْن كَافِرًا فِي بطن أمه ". وروى سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن [أبي] الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَقُول: الشقي من شقي فِي بطن أمه، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ. فَقلت: ثكلت أم الشقي من قبل أَن يعْمل، فَلَقِيت حُذَيْفَة بن أسيد وكنيته أَبُو شريحة الْغِفَارِيّ فَذكرت لَهُ ذَلِك فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِأَعْجَب من هَذَا! سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِذا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَة فِي رحم الْمَرْأَة أَرْبَعِينَ لَيْلَة أَو قَالَ: خمْسا

{وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (2) خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ وصوركم فَأحْسن} وَأَرْبَعين لَيْلَة دخل عَلَيْهَا الْملك فَيَقُول: أَي رب، شقي أَو سعيد؟ فَيَقُول الله، وَيكْتب الْملك. فَيَقُول أذكر أم أُنْثَى فَيَقُول الله وَيكْتب الْملك فَيَقُول: يَا رب، مَا أَجله؟ مَا عمله؟ مَا رزقه؟ مَا مصيبته؟ فَيَقْضِي الله تَعَالَى، وَيكْتب الْملك، ثمَّ يطوي الصَّحِيفَة، فَلَا يُزَاد وَلَا ينقص إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وروى سُفْيَان أَيْضا عَن طَلْحَة بن يحيى، عَن عمته، عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة، عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ أَن النَّبِي أَتَى بصبي من الْأَنْصَار ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقلت: طوباه عُصْفُور من عصافير الْجنَّة. فَقَالَ: " أَو غير ذَلِك يَا عَائِشَة؛ إِن الله تَعَالَى خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم، وَخلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا الديبلي، أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. . الْخَبَر كَمَا ذكرنَا. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة أَن مَعْنَاهَا: فمنكم كَافِر بِأَن الله خلقه، ومنكم مُؤمن ومنكم فَاسق. وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل الأول. وَقَوله: {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر.

3

قَوْله تَعَالَى: {خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ. وَيُقَال: بإحكام الصَّنْعَة وَحسن (التَّقْدِير) ، وَيُقَال: للحق. وَقَوله: {وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} قَالَ مقَاتل: خلق آدم بِيَدِهِ، فَهُوَ معنى قَوْله: {وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} وَعَن غَيره: أَنه فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم وَعَن بَعضهم قَالَ خلق الْإِنْسَان فِي أحسن

{صوركُمْ وَإِلَيْهِ الْمصير (3) يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون وَالله عليم بِذَات الصُّدُور (4) ألم يأتكم نبأ الَّذين كفرُوا من قبل فذاقوا وبال أَمرهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم (5) ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا اُبْشُرْ يهدوننا فَكَفرُوا وتولوا وَاسْتغْنى الله وَالله غَنِي حميد (6) } صُورَة، وَلَو عرض الله عَلَيْهِ الصُّور مَا اخْتَار غير صورته. وَقَوله: {وَإِلَيْهِ الْمصير} أَي: الْمرجع.

4

قَوْله تَعَالَى: {يعلم مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيعلم مَا تسرون وَمَا تعلنون وَالله عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا تكنه الصُّدُور.

5

قَوْله تَعَالَى: {ألم يأتكم نبأ الَّذين كفرُوا من قبل} هَذَا خطاب لمشركي قُرَيْش. وَقَوله: {فذاقوا وبال أَمرهم} أَي: فِي الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: فِي الْآخِرَة.

6

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات الواضحات. وَقَوله: {فَقَالُوا أبشر يهدوننا} مثل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا منع النَّاس أَن يُؤمنُوا إِذْ جَاءَهُم الْهدى إِلَّا أَن قَالُوا أبْعث الله بشرا رَسُولا} . وَقَوله: {فَكَفرُوا وتولوا} أَي: جَحَدُوا وأعرضوا. وَقَوله: {وَاسْتغْنى الله} يَعْنِي: أَن الله غَنِي عَن طاعتهم وعبادتهم وتوحيدهم. وَقَوله: {وَالله غَنِي حميد} أَي: مستغني عَن أَفعَال الْعباد، مستحمد إِلَى خلقه بالإنعام عَلَيْهِم. وَيُقَال: حميد أَي: مُسْتَحقّ للحمد. وَيُقَال حميد أَي: يحب أَن يحمد. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من أحد [أغير] من الله وَمَا أحب أحد إِلَيْهِ

{زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي لتبعثن ثمَّ لتنبؤن بِمَا عملتم وَذَلِكَ على الله يسير (7) فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله والنور الَّذِي أنزلنَا وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير (8) يَوْم يجمعكم ليَوْم الْجمع ذَلِك يَوْم التغابن} الْحَمد من الله، وَمَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله ".

7

وَقَوله تَعَالَى: {زعم الَّذين كفرُوا} حُكيَ عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ يكره لَفْظَة زَعَمُوا، وَكَذَلِكَ حُكيَ عَن ابْن مَسْعُود. وَفِي بعض التفاسير عَن ابْن عمر قَالَ: كنية الْكَذِب. وَنَحْو ذَلِك عَن شُرَيْح. فزعموا هَاهُنَا بِمَعْنى قَالُوا وأخبروا، قَالَ الشَّاعِر: (أَلا زعمت بسباسة الْيَوْم أنني ... كَبرت وَألا يحسن السِّرّ أمثالي) وَقَوله: {أَن لن يبعثوا} يَعْنِي: بعد الْمَوْت. وَقَوله: {قل بلَى وربي لتبعثن} قَوْله: {بلَى} فِي هَذَا الْموضع لتكذيب الْقَوْم فِيمَا زَعَمُوا، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: وَقد أَمرتك بِكَذَا وَكَذَا، فَيَقُول الرجل: مَا سَمِعت وَمَا أَمرتنِي بِهِ، فَيَقُول: بلَى، أَي: وكذبت، قد سَمِعت وَقد أَمرتك. وَقَوله: {ثمَّ لتنبؤن بِمَا عملتم وَذَلِكَ على الله يسير} أَي: هَين.

8

قَوْله تَعَالَى: {فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله والنور الَّذِي أنزلنَا} أَي: الْقُرْآن الَّذِي أَنزَلْنَاهُ على مُحَمَّد {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} أَي: عليم.

9

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يجمعكم ليَوْم الْجمع} أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَسمي يَوْم الْجمع؛ لِأَنَّهُ يجْتَمع فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ، ويجتمع أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض. وَقَوله: {ذَلِك يَوْم التغابن} عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ اسْم ليَوْم الْقِيَامَة. وَفِي التغابن مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَن أهل الْحق يغبنون أهل الْبَاطِل، وَأهل الْإِيمَان يغبنون أهل الْكفْر.

{وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يكفر عَنهُ سيئاته ويدخله جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم (9) وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار خَالِدين فِيهَا وَبئسَ الْمصير (10) مَا أصَاب من مُصِيبَة إِلَّا بِإِذن الله وَمن} وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الله تَعَالَى سمى لكل أحد من خلقه منزلا فِي النَّار ومنزلا فِي الْجنَّة، فَمن كَانَ مُؤمنا يَرث منزلَة الْكَافِر فِي الْجنَّة، وَمن كَانَ كَافِرًا يَرث منزل الْمُؤمن فِي النَّار، وَهُوَ معنى التغابن يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن بَعضهم: أَن الْغبن هُوَ أَخذ الشَّيْء بِدُونِ قِيمَته، فبالتفاوت الَّذِي يَقع بَين الْقيمَة وَمَا دونهَا يحصل التغابن، فالمؤمنون لما عمِلُوا للجنة وللنعيم الْبَاقِي فقد غبنوا أهل النَّار، وَالْكفَّار لما اخْتَارُوا النَّعيم الْمُنْقَطع على النَّعيم الْبَاقِي، وَالدَّار الَّتِي تفنى على الدَّار الَّتِي لَا تفنى؛ فقد غبنوا. قَالَ زيد بن عَليّ: غبنوا أنفسهم. والغبن هَاهُنَا يَعْنِي الخسران فِي (غير) هَذَا الْموضع. وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يكفر عَنهُ سيئاته ويدخله جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا ذَلِك الْفَوْز الْعَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار خَالِدين فِيهَا وَبئسَ الْمصير} أَي: الْمرجع والمنقلب.

11

قَوْله تَعَالَى: {مَا أصَاب من مُصِيبَة إِلَّا بِإِذن الله} أَي: بِعِلْمِهِ وقضائه وَتَقْدِيره. وَقَوله: {وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه} قَالَ عَلْقَمَة: وَمن يُؤمن بِاللَّه فِي الْمُصِيبَة أَي: يعلم أَنَّهَا من الله يهد قلبه للاسترجاع وَالتَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى. وَمثله عَن سعيد بن جُبَير. وَعَن بَعضهم: يهد قلبه أَي: للصبر إِذا ابْتُلِيَ، وللشكر إِذا انْعمْ عَلَيْهِ، وللعفو إِذا [ظلم] وَقَالَ عِكْرِمَة: يهد قلبه لليقين، فَيعلم أَن مَا أخطأه لم يكن ليصيبه، وَأَن مَا أَصَابَهُ لم يكن ليخطئه. وَذكر الْأَزْهَرِي فِي كِتَابه أَن معنى قَوْله: {يهد قلبه} أَي: يَجعله مهتديا، وَقد أيد هَذَا القَوْل مَا حُكيَ عَن ابْن جريج أَنه قَالَ: من عرف الله فَهُوَ مهتدي الْقلب.

{يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه وَالله بِكُل شَيْء عليم (11) وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توليتم فَإِنَّمَا على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين (12) الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم (14) إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} وَقَوله: {وَالله بِكُل شَيْء عليم} .

12

قَوْله تَعَالَى: {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن توليتم فَإِنَّمَا على رَسُولنَا الْبَلَاغ الْمُبين} أَي: الْبَين.

13

قَوْله تَعَالَى: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} قد بَينا.

14

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم} أَي: أَعدَاء لكم فاحذروهم. قَالَ ابْن عَبَّاس: نزلت الْآيَة فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَن يهاجروا إِلَى الْمَدِينَة فيمنعهم أَوْلَادهم وَأَهْلُوهُمْ وَيَقُولُونَ: فارقتمونا بدينكم فَلَا تفارقونا بِأَنْفُسِكُمْ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: نزلت الْآيَة فِي عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ، وَكَانَ قد لَقِي جفَاء من أَهله وَولده. وَقَوله: {وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} قَالَ ابْن عَبَّاس: لما تخلف هَؤُلَاءِ بِسَبَب أَهْليهمْ ثمَّ هَاجرُوا من بعد فَرَأَوْا قوما قد أَسْلمُوا من قَومهمْ، وتقدموا فِي الْهِجْرَة وتفقهوا فِي الدّين، حزنوا لذَلِك حزنا شَدِيدا، وهموا أَن يعاقبوا أَهْليهمْ وبنيهم ويتركوا الْإِنْفَاق عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {وَإِن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} .

15

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} أَي: بلَاء ومحنة، وَمعنى الْبلَاء والمحنة من الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد أَنه يشْتَغل بهم عَن طَاعَة الله تَعَالَى، ويحمله طلب المَال ورضا الْأَوْلَاد على مَعْصِيّة الله تَعَالَى. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْوَلَد مَبْخَلَة مَجْبَنَة مَحْزَنَة مجهلَة ". وَمَعْنَاهُ: أَنه يحمل على الْبُخْل والجبن والحزن

{وَا لله عِنْده أجر عَظِيم (15) فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم واسمعوا وَأَطيعُوا وأنفقوا خيرا} وَالْجهل. وَعَن عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: من اتخذ أَهلا ومالا وَولدا كَانَ للدنيا عبدا. وروى عبد الله بن بُرَيْدَة [عَن أَبِيه] " أَن النَّبِي كَانَ يخْطب فَدخل الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثرَانِ فِي ذَلِك، فَنزل النَّبِي عَن الْمِنْبَر وحملهما وَوَضعهمَا بَين يَدَيْهِ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْوَالكُم وَأَوْلَادكُمْ فتْنَة} ثمَّ قَالَ: رَأَيْت هذَيْن الصَّبِيَّيْنِ يَعْثرَانِ فِي قميصهما، فَمَا ملكت نَفسِي حَتَّى نزلت وحملتهما ". وأنشدوا فِي لفظ الْفِتْنَة لبَعْضهِم: (قد فتن النَّاس فِي دينهم ... وخلى ابْن عُثْمَان شرا طَويلا) يَعْنِي: قد ابْتُلِيَ النَّاس. وَقَوله: {وَالله عِنْده أجر عَظِيم} أَي: كثير.

16

قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} قَالَ ربيع بن أنس: بجهدكم وطاقتكم. وروى معمر، عَن قَتَادَة أَن هَذِه الْآيَة نسخت قَوْله تَعَالَى: {اتَّقوا الله حق تُقَاته} وَمثل هَذَا عَن جمَاعَة من التَّابِعين. وَقَالَ جمَاعَة من أهل الْعلم: الأولى أَن يُقَال: هَذِه الْآيَة رخصَة وَلَيْسَت بناسخة. وَذكر الْقفال أَن هَذِه الْآيَة مبينَة لقَوْله تَعَالَى: {اتَّقوا الله حق تُقَاته} لِأَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف نفسا إِلَّا وسعهَا. وَذكر مثل ذَلِك على ابْن عِيسَى وَغَيره.

{لأنفسكم وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون (16) إِن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم وَيغْفر لكم وَالله شكور حَلِيم (17) } وَالْمُخْتَار مَا عَلَيْهِ السّلف، وَهُوَ القَوْل الأول. وَقد ذكرنَا عَن ابْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى: {اتَّقوا الله حق تُقَاته} هُوَ أَن يطاع فَلَا يعْصى، وَيذكر وَلَا ينسى، ويشكر فَلَا يكفر. وَقَوله: {واسمعوا وَأَطيعُوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم} نصب قَوْله: {خيرا} على تَقْدِير: اتَّقوا فِي الْإِنْفَاق خيرا. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {انْتَهوا خيرا لكم} . وَقَوله: {وَمن يُوقَ شح نَفسه} أَي: بخل نَفسه، وَيُقَال: الشُّح هُوَ منع حُقُوق الله الْوَاجِبَة. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: الشُّح هَاهُنَا هُوَ الظُّلم دون الْبُخْل؛ لِأَن الله تَعَالَى قد قَالَ: {وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه} . وَقَوله: {فَأُولَئِك هم المفلحون} قد بَينا.

17

قَوْله تَعَالَى: {إِن تقرضوا الله قرضا حسنا} قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: هُوَ الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله. وَيُقَال: هُوَ جَمِيع حُقُوق المَال، وَسمي ذَلِك قرضا؛ لِأَن الله تَعَالَى يثيبهم عَلَيْهِ ويعطيهم عوضه، فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْقَرْض. وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْإِقْرَاض هَاهُنَا هُوَ قَول الْقَائِل: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. وَذكر الْقفال: أَن بعض السّلف كَانَ إِذا سمع سَائِلًا يَقُول: من يقْرض الله قرضا حسنا يَقُول: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْد لله، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله أكبر. وَأما قَوْله: {حسنا} أَي: طيبَة بهَا أَنفسكُم. وَيُقَال: من خِيَار المَال لَا من رذاله. وَقَوله: {يضاعفه لكم} أَي: يَجْعَل الْوَاحِد عشرا. وَيُقَال: يُضَاعف لَا إِلَى عدد مَعْلُوم. وَقَوله: {وَيغْفر لكم وَالله شكور حَلِيم} الشُّكْر من الله هُوَ جَزَاؤُهُ الْمُحْسِنِينَ جَزَاء

{عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز الْحَكِيم (18) } من يشكرهم على إحسانهم. وَيُقَال: الشُّكْر من الله هُوَ الْعَفو عَن السَّيِّئَات وَقبُول الْحَسَنَات. وَيُقَال: هُوَ الْعَفو عَن الْكثير وَقبُول الْقَلِيل. وَقَوله: {حَلِيم} مَعْنَاهُ: إمهال الْعباد وَترك معالجتهم بالعقوبة.

18

قَوْله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزِيز الْحَكِيم} ظَاهر الْمَعْنى.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن} تَفْسِير سُورَة الطَّلَاق وَهِي مَدَنِيَّة فِي قَول الْجَمِيع

الطلاق

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} فَإِن قيل: كَيفَ خَاطب النَّبِي وَحده فِي الِابْتِدَاء ثمَّ قَالَ: {إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} ؟ وَالْجَوَاب من أوجه: أَحدهَا: أَن خطاب النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام خطاب لأمته، مثل خطاب الرئيس يكون خطابا للأتباع وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا أَيهَا النَّبِي والمؤمنون إِذا طلّقْتُم النِّسَاء. وَالْجَوَاب الثَّانِي أَن قَوْله: {إِذا طلّقْتُم النِّسَاء} على تَحْويل الْخطاب إِلَى الْغَيْر مثل قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بهَا. .} . وَالْجَوَاب الثَّالِث: أَن فِيهِ تَقْدِير مَحْذُوف، وَتَقْدِيره: يَا أَيهَا النَّبِي قل للْمُؤْمِنين إِذا طلّقْتُم النِّسَاء. وروى قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي طلق حَفْصَة، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: يَقُول لَك رَبك: رَاجعهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة، وَهِي من أَزوَاجك فِي الْجنَّة. وَقَوله: {فطلقوهن لعدتهن} مَعْنَاهُ: لزمان عدتهن وَهُوَ الطُّهْر، وَفِيه دَلِيل على أَن الْأَقْرَاء الَّتِي تنقض بهَا الْعدة هِيَ الْأَطْهَار، وَهَذَا قَول أهل الْحجاز. وَأما من قَالَ: إِن الْأَقْرَاء هِيَ الْحيض، قَالَ معنى قَوْله: {لعدتهن} أَي: ليعتددن مثل قَوْله تَعَالَى: {فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزنا} أَي: ليحزنوا، ذكره النّحاس، وَقَرَأَ فِي الشاذ: " فطلقوهن لقبل عدتهن " وَقيل: إِنَّهَا قِرَاءَة النَّبِي، فَمن قَالَ: إِن الْأَقْرَاء هِيَ الْحيض اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْقِرَاءَة، لِأَن هَذِه اللَّفْظَة تَقْتَضِي أَن يكون زمَان الطَّلَاق قبل

{وأحصوا الْعدة وَاتَّقوا الله ربكُم} زمَان الْعدة، وَأَن زمَان الْعدة يتعقب زمَان الطَّلَاق. وَأما من قَالَ: بِأَن الْأَقْرَاء هن الْأَطْهَار، قَالَ فَمَعْنَى قَوْله: " لقبل عدتهن " أَي: لوجه عدتهن؛ فَإِن قيل: إِن قبل الشَّيْء وَجهه، وَالْمرَاد فِي أول زمَان الطُّهْر، فَإِن قيل: أول زمَان الطُّهْر وَآخره وَاحِد فِي الطَّلَاق؛ فَلَيْسَ الْمَعْنى إِلَّا مَا ذكرنَا. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِك، بل الأولى أَن يُطلق فِي أول زمَان الطُّهْر إِذا أَرَادَ الطَّلَاق؛ لِأَنَّهُ إِذا أخر لم يَأْمَن أَن يُجَامِعهَا ثمَّ يُطلق، فَيكون قد طلق طَلَاق الْبِدْعَة. وَقد رُوِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَغَيره من التَّابِعين معنى قَوْله: {لعدتهن} أَي: طَاهِرا من غير جماع. وَقد ثَبت هَذَا اللَّفْظ عَن النَّبِي بِرِوَايَة نَافِع عَن ابْن عمر أَنه طلق امْرَأَته فِي حَال الْحيض، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " رَاجعهَا ثمَّ أمْسكهَا حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر ثمَّ إِن شِئْت طَلقهَا طَاهِرا من غير جماع ". وَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله تَعَالَى أَن يُطلق لَهَا النِّسَاء. وَفِي رِوَايَة: أَنه قَالَ لعمر: " مره فَلْيُرَاجِعهَا ". وَفِي رِوَايَة " ثمَّ إِذا طهرت إِن شَاءَ طَلقهَا طَاهِرا من غير جماع " وَلم يذكر ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر. وَعَن أنس [و] ابْن سِيرِين أَنه قَالَ لِابْنِ عمر: " احتسبت بِتِلْكَ الطَّلقَة؟ قَالَ: نعم. (وَفِي رِوَايَة: خَمْسَة) . وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة: قَالَ: نعم وَإِن عجزت واستحمقت. وَقَوله: {وأحصوا الْعدة} هَذَا خطاب للأزواج، أَمرهم أَن يحصوا الْعدة ليعرفوا زمَان الرّجْعَة وَمُدَّة انقطاعها. وَيُقَال: ليعرفوا مُدَّة الْإِنْفَاق عَلَيْهِنَّ. وَقَوله: {وَاتَّقوا الله ربكُم} يَعْنِي: طلقوا للسّنة، وَلَا تطلقوا للبدعة. وَيُقَال: اتَّقوا ربكُم فِي ترك إخراجهن من الْبيُوت، وَأما صفة طَلَاق السّنة فَهُوَ من حَيْثُ الْوَقْت أَن

{لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} يطلقهَا طَاهِرا من غير جماع، وَأما من حَيْثُ الْعدة، فمذهب مَالك وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَكثير من الْعلمَاء أَنه يكره الطَّلَاق ثَلَاثًا جملَة، وَالسّنة أَن يطلقهَا وَاحِدَة وَيَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا، هَذِه هُوَ الأولى، قَالَه مَالك. وَإِن أَرَادَ أَن يُطلق ثَلَاثًا فرق على الْأَطْهَار، فيطلق لكل طهر طَلْقَة، وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله أَنه لَيْسَ فِي الْجمع والتفريق سنة وَلَا بِدعَة. وَقد ذكر الْأَصْحَاب الأولى أَن يُطلق وَاحِدَة وَإِن لم يكره الْجمع بَين الثَّلَاث، قَالُوا: وَهُوَ الْمَذْهَب. وَفِي الْآيَة دَلِيل (الشَّافِعِي) على قَوْله؛ لِأَن الله تَعَالَى أَبَاحَ الطَّلَاق بقوله: {فطلقوهن لعدتهن} مُطلقًا وَلم يفرق بَين أَن يُطلق وَاحِدَة أَو أَكثر مِنْهَا، وَلِأَن الله تَعَالَى بَين وَقت الطَّلَاق وَلم يبين عدده، وَالْآيَة وَردت لبَيَان الْمسنون من الطَّلَاق، فَلَو كَانَ فِي عدد الطَّلَاق سنة لم يُؤَخر بَيَانهَا. وَقَوله: {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ} أَي: فِي زمَان الْعدة، وَنسب الْبيُوت إلَيْهِنَّ لأجل السُّكْنَى. وَقَوله: {وَلَا يخْرجن} أَي: لَا يخْرجن بِأَنْفُسِهِنَّ. وَقَوله: {إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} اخْتلف القَوْل فِي معنى الْفَاحِشَة هَاهُنَا، فأظهر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا الزِّنَا، وَهَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ قَول الْحسن وَالشعْبِيّ وَعِكْرِمَة و (حَمَّاد بن أبي سَلمَة) وَاللَّيْث وَجَمَاعَة كَثِيرَة، وَالْمرَاد من الْآيَة على هَذَا إِلَّا أَن تَزني فَتخرج لإِقَامَة الْحَد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْفَاحِشَة هِيَ أَن تبذو على أَهلهَا، قَالَه ابْن عَبَّاس فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَيُقَال فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " إِلَّا أَن يفحشن " وَهَذِه الْقِرَاءَة تقَوِّي هَذَا القَوْل. وَرُوِيَ عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت لفاطمة بنت قيس: اتقِي الله فَإنَّك تعلمين أَن

{وَتلك حُدُود الله وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا (1) فَإِذا بلغن أَجلهنَّ فأمسكوهن بِمَعْرُوف أَو فارقوهن} الرَّسُول أخرجك، يَعْنِي: من بَيت زَوجهَا، وَكَانَت تبذو بلسانها. وَالْقَوْل الثَّالِث مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: الْفَاحِشَة نفس الْخُرُوج. وَهُوَ محكي عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة بخروجهن. وَقَالَ بَعضهم: الْفَاحِشَة هَاهُنَا جَمِيع الْمعاصِي. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول لِكَثْرَة من قَالَ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُوَافق لقَوْله: {واللاتي يَأْتِين الْفَاحِشَة} وَأَجْمعُوا على أَن المُرَاد بِهِ الزِّنَا. وَقَوله: {وَتلك حُدُود الله} قَالَ السدى: هِيَ شُرُوط الله. وَيُقَال: شرع الله، وَقيل: أمره وَنَهْيه. وَقَوله: {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} أَي: أهلك نَفسه وأوبقها. وَقَوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} القَوْل الْمَعْرُوف فِي هَذَا أَنه الرَّغْبَة فِي الْمُرَاجَعَة، وَفِيه دَلِيل على أَن المُرَاد بقوله: {فطلقوهن} فِي ابْتِدَاء الْآيَة هُوَ الطَّلقَة والطلقتان دون الثَّلَاثَة، وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الْوَاحِدَة وَالثَّلَاث جَمِيعًا. قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} قَالَ: هُوَ النّسخ؛ وَمَعْنَاهُ: لَعَلَّ الله ينْسَخ هَذَا الحكم وَيَرْفَعهُ. وَقيل: هُوَ الرَّغْبَة فِي ابْتِدَاء النِّكَاح بعد زوج آخر.

2

وَقَوله: {فَإِذا بلغن أَجلهنَّ} أَي: قاربن بُلُوغ أَجلهنَّ، وَهُوَ انْقِضَاء الْعدة. وَقَوله: {فأمسكوهن بِمَعْرُوف} أَي: راجعوهن بِمَعْرُوف، وَمَعْنَاهُ: على أَمر الله تَعَالَى. وَيُقَال: الْمَعْرُوف هَاهُنَا: هُوَ أَن يُرَاجِعهَا ليمسكها لَا أَن يُرَاجِعهَا فيطلقها، فَيطول الْعدة عَلَيْهَا على مَا كَانَ يَفْعَله أهل الْجَاهِلِيَّة. وَقَوله: {أَو فارقوهن بِمَعْرُوف} مَعْنَاهُ: أَن يَتْرُكهَا لتنقضي الْعدة فَتَقَع الْفرْقَة. وَالْمَعْرُوف: هُوَ مَا أَمر الله تَعَالَى بِهِ من إِيصَال حَقّهَا إِلَيْهَا من السُّكْنَى وَالنَّفقَة فِي

{بِمَعْرُوف وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم وَأقِيمُوا الشَّهَادَة لله ذَلِكُم يوعظ بِهِ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا (2) وَيَرْزقهُ من} مَوضِع الْوُجُوب، وَيُقَال: بِمَعْرُوف أَي: من غير قصد مضارة. قَوْله: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْإِشْهَاد وَاجِب فِي الطَّلَاق وَالرَّجْعَة بِظَاهِر الْآيَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْإِشْهَاد يجب فِي الرّجْعَة وَلَا يجب فِي الْمُفَارقَة وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ قَول طَاوس من التَّابِعين. وَالْقَوْل (الثَّانِي) : أَنه ينْدب إِلَى الْإِشْهَاد فِي الرّجْعَة، وَلَا يجب، وَعَلِيهِ أَكثر أهل الْعلم، وَهُوَ قَول آخر الشَّافِعِي رَحمَه الله عَلَيْهِ. وَأما الْعدْل هُوَ مُسْتَقِيم الْحَال فِي معاملات الشَّرْع وأوامره. وَقَالَ مَنْصُور: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْعدْل فَقَالَ: هُوَ الَّذِي لم يظْهر فِيهِ رِيبَة. وَقَوله: {وَأقِيمُوا الشَّهَادَة لله} هُوَ خطاب للشهداء بأَدَاء الشَّهَادَات على وجوهها. وَقَوله: {ذَلِكُم يوعظ بِهِ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَقَوله: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} قَالَ ابْن عَبَّاس: من كل أَمر ضَاقَ على النَّاس. وَعنهُ قَالَ: إِذا اتَّقى الله فِي الطَّلَاق على وَجه السّنة بِأَن طلق وَاحِدَة، جعل لَهُ مخرجا مِنْهُ فِي جَوَاز الرّجْعَة وَرُوِيَ أَن رجلا أَتَاهُ وَقَالَ: إِن عمي طلق امْرَأَته ثَلَاثًا فَهَل لَهُ مخرج؟ فَقَالَ: إِن عمك عصى الله فأثم، وأطاع الشَّيْطَان فَلم يَجْعَل لَهُ مخرجا. وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ فِي قَوْله: " {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ مخرجا} قَالَ: " من غموم الدُّنْيَا وغمرات الْمَوْت وشدائد الْآخِرَة ".

3

وَقَوله: {وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} أَي: من حَيْثُ لَا يَرْجُو وَلَا يأمل، وَقيل:

{حَيْثُ لَا يحْتَسب وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه إِن الله بَالغ أمره قد جعل الله لكل شَيْء قدرا (3) واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم} يقنعه بِمَا رزقه. وَفِي التَّفْسِير: " أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ أسر ابْنه، فجَاء إِلَى النَّبِي يشكو إِلَيْهِ فَقَالَ: " اصبر وَاتَّقِ الله " فَرجع، ثمَّ إِن الْعَدو غفلوا عَن ابْنه، مرّة، فهرب مِنْهُم وسَاق مَعَ نَفسه إبِلا وَرجع إِلَى أَبِيه وَجَاء بِالْإِبِلِ، فَأتى النَّبِي وَأخْبرهُ بذلك، وَسَأَلَهُ عَمَّا سَاقه إِلَيْهِ ابْنه هَل يحل لَهُ ذَلِك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة " فَالْمَعْنى بقوله: {وَيَرْزقهُ من حَيْثُ لَا يحْتَسب} هُوَ مَا جَاءَ بِهِ ابْن عَوْف ابْن مَالك إِلَى أَبِيه من الْإِبِل. وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه} أَي: يَثِق بِاللَّه ويفوض أمره إِلَيْهِ: وَيُقَال: التَّوَكُّل على الله هُوَ الرِّضَا بِقَضَائِهِ. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من انْقَطع إِلَى الله كَفاهُ الله كل مُؤنَة، وَمن انْقَطع إِلَى الْخلق وَكله إِلَيْهِم ". وَقَوله: {إِن الله بَالغ أمره} أَي: كل مَا يُريدهُ فِي خلقه. وَقَوله: {قد جعل الله لكل شَيْء قدرا} أَي: مِقْدَارًا وأجلا يَنْتَهِي إِلَيْهِ.

4

قَوْله تَعَالَى: {واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم} الْآيَة مشكلة لقَوْله: {إِن ارتبتم} وَاخْتلفت الْأَقْوَال فِي قَوْله: {إِن ارتبتم} أظهر الْأَقَاوِيل: أَن الله تَعَالَى لما بَين عدَّة ذَوَات الْأَقْرَاء قَالَ جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول الله قد عرفنَا عدَّة ذَوَات

{إِن ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَة أشهر واللائي لم يحضن وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} الْأَقْرَاء، فَكيف عدَّة الآيسات والصغائر وَذَوَات الْأَحْمَال؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {إِن ارتبتم} خطاب لأولئك الْجَمَاعَة أَي: شَكَكْتُمْ فِي عدتهن فَلم تعرفوها. وَفِي بعض التفاسير: أم معَاذ بن جبل سَأَلَ رَسُول الله عَن ذَلِك. وَعَن بَعضهم: أَن أبي بن كَعْب سَأَلَ رَسُول الله عَن ذَلِك. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله تَعَالَى: {إِن ارتبتم} أَي: لم تعرفوا أَنَّهَا تحيض، أَو لَا تحيض وَذَلِكَ فِي الْمَرْأَة الشَّابَّة إِذا ارْتَفع حَيْضهَا لعِلَّة. قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: تنْتَظر سَبْعَة أشهر، فَإِن لم تَرَ الْحيض اعْتدت بِثَلَاثَة أشهر، وَهَذَا قَول مَالك، وَحكي عَن مُجَاهِد نَحْو مَا ذكرنَا. وَالْقَوْل الثَّالِث أَن قَوْله: {إِن ارتبتم} رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن} وَالْمعْنَى إِن ارتبتم فِي انْقِضَاء عدتهَا فَلَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن، ذكره النّحاس. وَأما الآيسة فَهِيَ الَّتِي لَا ترى أَمْثَالهَا الْحيض فعدتها ثَلَاثَة أشهر. وعَلى مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء أَن الشَّابَّة وَإِن ارْتَفع حَيْضهَا لعِلَّة لَا تَنْقَضِي عدتهَا بالشهور مَا لم تيئس، قَالُوا: وَلَو شَاءَ الله لابتلاها بِأَكْثَرَ من ذَلِك. وَقَوله: {واللائي لم يحضن} هن الصَّغَائِر. وَقَوله: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} هَذَا الحكم مُتَّفق عَلَيْهِ فِي المطلقات الْحَوَامِل، فَأَما الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا اخْتلف الصَّحَابَة فِي ذَلِك، فَقَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس: إِن عدتهَا أبعد الْأَجَليْنِ. وَقَالَ عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة: إِن عدتهَا بِوَضْع الْحمل، وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمُخْتَار. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: نزلت سُورَة

{وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا (4) ذَلِك أَمر الله أنزلهُ إِلَيْكُم وَمن يتق الله يكفر عَنهُ سيئاته ويعظم لَهُ أجرا (5) أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من} النِّسَاء القصوى بعد قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا} فقد نقل ابْن مَسْعُود نسخ تِلْكَ الْآيَة بِهَذِهِ الْآيَة. وَفِي رِوَايَة عَنهُ أَنه قَالَ: هَذِه الْآيَة ناسخة لتِلْك الْآيَة. وَرُوِيَ أَن أَبَا هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس اخْتلفَا فِي هَذِه (الْمَسْأَلَة) ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: تَعْتَد بأبعد الْأَجَليْنِ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: تَعْتَد بِوَضْع الْحمل؛ فَبعث ابْن عَبَّاس كريبا مَوْلَاهُ إِلَى أم سَلمَة يسْأَلهَا عَن ذَلِك، فروت أَن سبيعة الأسْلَمِيَّة توفّي عَنْهَا زَوجهَا وَهِي حَامِل فَوضعت لنصف شهر؛ فَسَأَلت رَسُول الله عَن ذَلِك فَقَالَ: " حللت للأزواج ". وَهَذَا خبر صَحِيح. وَقَوله: {وَمن يتق الله يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا} أَي: يتق الله فِي أَمر الطَّلَاق فيطلب للسّنة. وَقَوله: {يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا} أَي: الرّجْعَة (وَقَالَ بَعضهم) : " وَمن يتق الله " أَي: يحذر من الْمعاصِي وَيعْمل بالطاعات " يَجْعَل لَهُ من أمره يسرا " أَي: يوفقه ويسدده وييسر عَلَيْهِ الْأُمُور.

5

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك أَمر الله أنزلهُ إِلَيْكُم} أَي: مَا تقدم من الْأَمر وَالنَّهْي فِي الطَّلَاق وَأَحْكَامه. وَقَوله: {وَمن يتق الله يكفر عَنهُ سيئاته ويعظم لَهُ أجرا} أَي: فِي الْقِيَامَة.

6

قَوْله تَعَالَى: {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} اخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب السُّكْنَى للمبتوتة مَعَ اتِّفَاقهم أَنَّهَا وَاجِبَة للرجعية؛ فمذهب الشَّافِعِي: أَن السُّكْنَى وَاجِبَة لَهَا دون النَّفَقَة إِلَّا الْحَامِل تجب لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى، وَهُوَ قَول مَالك.

{وجدكم وَلَا تضاروهن لتضيقوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} وَمذهب أَحْمد وَجَمَاعَة: أَن السُّكْنَى وَالنَّفقَة غير واجبين للمبتوتة لحَدِيث فَاطِمَة بنت قيس. وَمذهب أبي حنيفَة رَحمَه الله: أَنَّهُمَا واجبتان. وَقَوله: {من وجدكم} أَي: من سعتكم. وَقَالَ الْفراء: مِمَّا تَجِدُونَ. وَقَرَأَ الْأَعْرَج: " من وجدكم " وَهُوَ لحن لِأَن الوجد من الوجد من الْجدّة، وَالْجد من الْحزن والحث والعطف، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. وَقَالَ: {وَلَا تضاروهن لتضيقوا عَلَيْهِنَّ} قَالَ مَنْصُور عَن [أبي] الضُّحَى: المضارة هُوَ أَن يرجعها حِين تشرف على انْقِضَاء الْعدة من غير رَغْبَة لطول عَلَيْهَا الْعدة. وَيُقَال: [إِن] المُرَاد من المضارة هَاهُنَا هُوَ المضارة فِي الْمنزل وَالسُّكْنَى، قَالَه مُجَاهِد. وَقَوله: {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضعن حَملهنَّ} من لم يُوجب النَّفَقَة للمبتوتة الْحَامِل اسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة وَقَالَ: إِن الله تَعَالَى: شَرط فِي وجوب النَّفَقَة للمبتوتات أَن يكن حوامل. وَمن أوجب النَّفَقَة لَهُنَّ قَالَ: قَوْله: {وَلَا تضاروهن لتضيقوا عَلَيْهِنَّ} أَي: فِي ترك الْإِنْفَاق على الْعُمُوم فِي المبتوتات. وَقَوله: {وَإِن كن أولات حمل} تَخْصِيص بعض مَا تنَاوله اللَّفْظ الأول بِالذكر مثل قَوْله تَعَالَى: {وَجِبْرِيل وميكال} بعد ذكر الْمَلَائِكَة. قَالَ بَعضهم: الْآيَة لبَيَان مُدَّة النَّفَقَة يَعْنِي: أَن النَّفَقَة تجب للحامل وَإِن طَالَتْ مُدَّة حملهَا إِلَى أَن تضع الْحمل. وَقَوله: {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} أَي: الْأُم إِذا أرضعت بعد الطَّلَاق

{وأتمروا بَيْنكُم بِمَعْرُوف وَإِن تعاسرتم فسترضع لَهُ أُخْرَى (6) لينفق ذُو سَعَة من سعته وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا} يؤتيها الْأَب أجرهَا. وَقَوله: {وأتمروا بَيْنكُم بِمَعْرُوف} أَي: لينفق الْوَالِد والوالدة على مَا هُوَ الأنفع للصَّبِيّ، فَلَا تمْتَنع الوالدة من الْإِرْضَاع، وَلَا يمْتَنع الْأَب من إِعْطَاء الْأجر. قَالَ السدى: " وأنتمروا بَيْنكُم بِمَعْرُوف " أَي: تشاوروا بَيْنكُم بِالْمَعْرُوفِ. وَهُوَ قَول ضَعِيف. وَقَالَ الْمبرد: ليأمر بَعْضكُم بَعْضًا بِالْمَعْرُوفِ. وَقَوله: {وَإِن تعاسرتم} أَي: تضايقتم وتنازعتم فِي الْأجر. وَقَوله: {فسترضع لَهُ أُخْرَى} أَي: إِذا لم ترض الْأُم بِأَجْر الْمثل وَطلبت أَكثر مِنْهُ يسلم الْوَلَد إِلَى غَيرهَا لترضع بِأَجْر الْمثل. وَقَوله: {فسترضع لَهُ أُخْرَى} خبر بِمَعْنى الْأَمر أَي: لترضع، مثل قَوْله تَعَالَى: {والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ} .

7

وَقَوله: {لينفق ذُو سَعَة من سعته} أَي: بِمِقْدَار سعته، وَهُوَ حث على التَّوَسُّع فِي النَّفَقَة لمن وسع الله عَلَيْهِ. وَقَوله: {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} أَي: ضيق عَلَيْهِ رزقه، وَلم يكن لَهُ إِلَّا الْقُوت وَمَا يُشبههُ وَهُوَ قَوْله: {فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله} أَي: على قدر ذَلِك. وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه سمع أَن أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح يلبس الثَّوْب الخشن، وَيَأْكُل الطَّعَام (الجشب) ، فَبعث إِلَيْهِ بِأَلف دِينَار من بَيت المَال، وَأمر الرَّسُول أَن يتعرف حَاله بعد ذَلِك، فتوسع وَأكل الطّيب من الطَّعَام، وَلبس اللين من الثِّيَاب، فَرجع الرَّسُول فَأخْبر عمر بذلك فَقَالَ: إِنَّه تَأَول قَوْله تَعَالَى: {لينفق ذُو سَعَة من سعته وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله} ذكره الْقفال فِي تَفْسِيره. وَقَوله: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا آتاها}

{آتاها سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا (7) وكأين من قَرْيَة عَتَتْ عَن أَمر رَبهَا وَرُسُله فحاسبناها حسابا شَدِيدا وعذبناها عذَابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرهَا وَكَانَ عَاقِبَة أمرهَا خسرا (9) أعد الله لَهُم عذَابا شَدِيدا فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب الَّذين آمنُوا قد أنزل الله إِلَيْكُم ذكرا (10) رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْكُم} وَقَوله: {سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا} أَي: بعد ضيق سَعَة، وَبعد فقر غنى. قَالَ أهل التَّفْسِير: أَرَادَ بِهِ أَصْحَاب رَسُول الله كَانُوا فِي ضيق، ثمَّ وسع الله عَلَيْهِم.

8

قَوْله تَعَالَى: {وكأين من قَرْيَة عَتَتْ عَن أَمر رَبهَا وَرُسُله} أَي: عتى أَهلهَا عَن أَمر رَبهَا، والعتو هُوَ الْمُبَالغَة فِي الْعِصْيَان. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى لم ينزل قَطْرَة من السَّمَاء إِلَّا بِوَزْن مَعْلُوم إِلَّا فِي زمَان نوح، وَلَا يُرْسل ريحًا إِلَّا بكيل مَعْلُوم إِلَّا فِي زمَان عَاد، فَإِنَّهَا عَتَتْ على خزانها. وَقَوله: {فحاسبناها حسابا شَدِيدا} الْحساب الشَّديد هُوَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ عَفْو وَلَا تجَاوز. وَقَوله: {وعذبناها عذَابا نكرا} أَي: يُنكر، وَالْمُنكر: الفظيع.

9

قَوْله تَعَالَى: {فذاقت وبال أمرهَا} أَي: عَاقِبَة أمرهَا من الْمَكْرُوه، وَيُقَال: طَعَام وبيل أَي: مَكْرُوه، وَهُوَ ضد الهنيء من الطَّعَام. وَيَقُول: الوبيل من الطَّعَام: هُوَ الَّذِي تُؤدِّي عاقبته إِلَى الْهَلَاك. وَقَوله: {وَكَانَ عَاقِبَة أمرهَا خسرا} أَي: هَلَاكًا، وَقيل: نُقْصَانا.

10

وَقَوله تَعَالَى {أعد الله لَهُم عذَابا شَدِيدا} وَهُوَ النَّار. وَقَوله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا الله يَا أولي الْأَلْبَاب} أَي: أولي الْعُقُول الَّذين آمنُوا، وَهَذَا يدل على أَن الْعقل إِنَّمَا ينفع مَعَ الْإِيمَان، وَأما بِدُونِ الْإِيمَان لَا ينفع.

{آيَات الله مبينات ليخرج الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا قد أحسن الله لَهُ رزقا (11) الله الَّذِي خلق سبع سموات وَمن} وَقَوله: {قد أنزل الله إِلَيْكُم ذكرا رَسُولا} فِيهِ وُجُوه: أَحدهَا: أنزل إِلَيْكُم ذكرا أَي: دَلِيلا، وَأنزل رَسُولا. وَيُقَال: الذّكر: الْقُرْآن،

11

وَقَوله: {رَسُولا} مَنْصُوب على الْبَدَل. وَقيل: " رَسُولا " أَي: رِسَالَة. فَمَعْنَاه: أنزل قُرْآنًا رِسَالَة. وَقَوله: {يَتْلُو} يُقَال: هُوَ مُحَمَّد، (وَيُقَال) : هُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله: {عَلَيْكُم آيَات مبينات} أَي: واضحات. وَقَوله: {ليخرج الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} أَي: من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان، وَمن الْبَاطِل إِلَى الْحق، وَمَا أشبه ذَلِك. وَقَوله: {وَمن يُؤمن بِاللَّه وَيعْمل صَالحا يدْخلهُ جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا قد أحسن الله لَهُ رزقا} أَي: الْجنَّة.

12

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي خلق سبع سموات وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ} لَيْسَ فِي الْقُرْآن آيَة تدل على عدد الْأَرْضين بِسبع مثل عدد السَّمَوَات سوى هَذِه الْآيَة، وَقد ثَبت أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من غصب شبْرًا من أَرض طوقه الله من سبعين أَرضين ". وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: سبع سموات بَعْضهَا فَوق بعض، وَسبع أَرضين بَعْضهَا تَحت بعض، وَبَين كل سَمَاء وسماء مسيرَة خَمْسمِائَة سنة، وَكَذَلِكَ بَين كل أَرض وَأَرْض. وَعنهُ أَنه قَالَ: خلق السَّمَاء الدُّنْيَا من موج مكفوف، وَالسَّمَاء الثَّانِيَة من صَخْرَة، وَالسَّمَاء الثَّالِثَة من حَدِيد، وَالرَّابِعَة من نُحَاس، وَالْخَامِسَة من فضَّة، وَالسَّادِسَة

{الأَرْض مِثْلهنَّ يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَن الله قد أحَاط بِكُل شَيْء علما (12) } من ذهب، وَالسَّابِعَة من درة، وَخلق الْكُرْسِيّ فَوق السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي جنب الْكُرْسِيّ كحلقة فِي فلاة وَيحمل الْكُرْسِيّ أَرْبَعَة أَمْلَاك لكل ملك أَرْبَعَة أوجه، وَجه على صُورَة الْآدَمِيّين يسْأَل الرزق للبشر، وَوجه على صُورَة سيد السبَاع وَهُوَ الْأسد يسْأَل الرزق للسباع، وَوجه على صُورَة سيد الطير وَهُوَ النسْر يسْأَل الرزق للطيور. وَوجه على صُورَة سيد الْأَنْعَام وَهُوَ الثور يسْأَل الرزق للأنعام. قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا زَالَت على وَجهه الَّذِي هُوَ على صُورَة الثور عِمَامَة مُنْذُ عبد الْعجل من دون الله، فملكان يَقُولَانِ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على حملك بعد علمك، وملكان يَقُولَانِ: اللَّهُمَّ لَك الْحَمد على عفوك بعد قدرتك. وَعنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: فِي كل ارْض آدم كآدم أبي الْبشر، ونوح مثل نوح، وَإِبْرَاهِيم كإبراهيم، ومُوسَى كموسى، وَعِيسَى كعيسى، وَمُحَمّد كمحمد. ذكر هَذِه الْآثَار عَن ابْن عَبَّاس أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن النقاش فِي تَفْسِيره. وَعَن قَتَادَة قَالَ: فِي كل سَمَاء وَفِي كل أَرض خلق من خلقه، وَأمر من أمره، وَقَضَاء من قَضَائِهِ. وَقَوله تَعَالَى: {يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ} أَي: بَين السَّمَوَات وَالْأَرضين، وَهُوَ معنى مَا بَينا. وَقَوله: {لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر. وَقَوله: {وَأَن الله قد أحَاط بِكُل شَيْء علما} ظَاهر الْمَعْنى، وَهُوَ مَنْصُوب على (التَّفْسِير) ، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك وَالله غَفُور رَحِيم (1) } تَفْسِير سُورَة التَّحْرِيم وَهِي مَدَنِيَّة

التحريم

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل الله لَك تبتغي مرضات أَزوَاجك وَالله غَفُور رَحِيم} فِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهَا نزلت فِي تَحْرِيم رَسُول الله على نَفسه مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَسبب ذَلِك: أَن النَّبِي خلا بهَا فِي بَيت حَفْصَة، وَكَانَت حَفْصَة قد خرجت لزيارة أَبِيهَا، فَلَمَّا رجعت وَعرفت ذَلِك فوقفت على الْبَاب، وَخرج النَّبِي وَرَأى الكآبة فِي وَجههَا. وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا راجعته فِي ذَلِك بعض الْمُرَاجَعَة وَقَالَت هَذَا من حقارتي عنْدك وَصغر شأني وَلَو كَانَت فِي بَيت غَيْرِي لم تفعل ذَلِك، فَحرم مَارِيَة على نَفسه لطلب رِضَاهَا وَقَالَ لَهَا: " لَا تُخْبِرِي بذلك عَائِشَة ". وَالْقَوْل الثَّانِي: " أَن النَّبِي كَانَ يشرب عسلا فِي بَيت زَيْنَب بنت جحش وَفِي رِوَايَة: فِي بَيت سَوْدَة، وَفِي رِوَايَة: فِي بَيت أم سَلمَة فَتَوَاطَأت عَائِشَة وَحَفْصَة على أَن النَّبِي إِذا دخل على وَاحِدَة مِنْهُمَا أَيَّتهمَا كَانَت قَالَت: إِنِّي أجد مِنْك ريح مَغَافِير " وَقد روى أَن صَفِيَّة كَانَت مَعَهُمَا فِي هَذِه المواطأة، فَدخل النَّبِي على عَائِشَة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، وَدخل على حَفْصَة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، وَدخل على صَفِيَّة فَقَالَت لَهُ ذَلِك، فَكَانَ النَّبِي يكره أَن يُوجد مِنْهُ ريح لأجل الْمَلَائِكَة فَقَالَ: شربت عسلا عِنْد زَيْنَب. فَقُلْنَ لَهُ: جرست نَخْلَة العرقط والعرقط شَجَرَة يُوجد مِنْهَا ريح

{قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} مَكْرُوه فَحرم الْعَسَل على نَفسه، وَقَالَ: لَا أَعُود إِلَى شربه أبدا ". حكى هَذَا القَوْل عبيد بن عُمَيْر عَن عَائِشَة. وَالْأول قَول عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعَامة الْمُفَسّرين. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَن الْآيَة وَردت فِي الواهبة نَفسهَا للنَّبِي، وَهُوَ قَول شَاذ، وَمعنى الْآيَة: هُوَ المعاتبة مَعَ النَّبِي فِي تَحْرِيم مَا أحل الله لَهُ لطلب رضَا أَزوَاجه. وَقَوله: {وَالله غَفُور رَحِيم} قد بَينا.

2

قَوْله تَعَالَى: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} أَي: كَفَّارَة أَيْمَانكُم، وَالْفَرْض هَا هُنَا بِمَعْنى الْبَيَان وَالتَّسْمِيَة وَيُقَال: بِمَعْنى التَّقْدِير؛ لِأَن الْكَفَّارَات مقدرَة مَعْدُودَة، فَإِن قيل: أَيْن الْيَمين فِي الْآيَة، وَالله تَعَالَى قَالَ: {قد فرض الله لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن النَّبِي كَانَ حرم وَحلف فَعَاتَبَهُ على التَّحْرِيم، وَأمره بالتفكير فِي الْيَمين، وَهَذَا قَول مَنْقُول عَن جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم مَسْرُوق وَالشعْبِيّ وَغَيرهمَا. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه كَانَ حرم وَلم يحلف إِلَّا أَن تَحْرِيم الْحَلَال يُوجب الْكَفَّارَة، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي تَحْرِيم الْحَلَال، فَذهب ابْن مَسْعُود أَنه إِذا حرم حَلَالا أَي حَلَال كَانَ، فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة، وَهَذَا قَول جمَاعَة من التَّابِعين، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ والكوفيين. وَأما مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَن تَحْرِيم الْحَلَال فِي النِّسَاء يُوجب الْكَفَّارَة، وَفِي غير النِّسَاء لَا يُوجب شَيْئا. وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن تَحْرِيم الْحَلَال لَيْسَ بِشَيْء، قَالَ مَسْرُوق: لَا أُبَالِي أَحرمت امْرَأَتي أَو قَصْعَة من ثريد يَعْنِي: أَنه لَيْسَ بِشَيْء. وَعَن بَعضهم: أَنه إِيلَاء. وَعَن بَعضهم: أَنه ظِهَار. وَعَن بَعضهم: أَنه يلْزمه الطَّلَاق الثَّلَاث بِتَحْرِيم الْحَلَال فِي النِّسَاء. وَعَن بَعضهم: أَنه على نِيَّته. وتحلة الْيَمين كَفَّارَة الْيَمين، وسماها تَحِلَّة؛ لِأَنَّهُ يتَحَلَّل بهَا عَن الْيَمين أَي: يخرج. وَعَن بَعضهم: أَن تَحِلَّة الْيَمين

{وَالله مولاكم وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم (2) وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا فَلَمَّا نبأت بِهِ وأظهره الله عَلَيْهِ عرف بعضه} هُوَ الِاسْتِثْنَاء؛ لِأَنَّهُ يخرج بِهِ عَن الْيَمين. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف. وَبَيَان الْكَفَّارَة فِي سُورَة الْمَائِدَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} الْآيَة، فروى " أَن النَّبِي أعتق رَقَبَة ". وَقَوله: {وَالله مولاكم} أَي: ولي أُمُوركُم، يهديكم إِلَى الأرشد والأقوم وَالْأولَى. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم} أَي: الْعَالم بِأَمْر خلقه، الْحَكِيم بِمَا يدبره لَهُم.

3

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} هِيَ حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا وَالَّذِي أسره إِلَيْهَا هُوَ تَحْرِيمه مَارِيَة. وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان: أسر إِلَيْهَا هَذَا، وَأسر إِلَيْهَا أَن الْخلَافَة بعده لأبي بكر، ثمَّ لأَبِيهَا بعده، وَهَذَا مَذْكُور فِي كثير من التفاسير عَن مَيْمُون بن مهْرَان وَغَيره. وَقَوله: {فَلَمَّا نبأت بِهِ} روى أَن النَّبِي قَالَ لحفصة: " لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا " وَكَانَت لَا تكْتم شَيْئا عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَذَهَبت وأخبرت عَائِشَة بذلك؛ فَنزل جِبْرِيل وَأخْبرهُ بِمَا كَانَ بَينهمَا، وَذَلِكَ قَوْله: {وأظهره الله عَلَيْهِ} . وَقَوله: {عرف بعضه} أَي: عرفهَا بعض مَا كَانَ بَينهمَا، وَأعْرض عَن الْبَعْض تكرما وصفحا، والتغافل عَن كثير من الْأُمُور من شِيمَة الْعُقَلَاء وَأهل الْكَرم. وَيُقَال: الْعَاقِل هم المتغافل. وَالَّذِي أظهره لَهَا هُوَ إخبارها بِتَحْرِيم مَارِيَة، وَالَّذِي أعرض عَنهُ هُوَ حَدِيث أبي بكر وَعمر كَرَامَة أَن يفشو ذَلِك بَين النَّاس. وَقَرَأَ الْكسَائي: " عرف بعضه " بِالتَّخْفِيفِ. قَالَ الْفراء: أَي: جازى عَلَيْهِ، ومجازاته إِيَّاهَا أَنه طَلقهَا، ثمَّ إِنَّه نزل جِبْرِيل وَأمره بمراجعتها، وَقَالَ: إِنَّهَا صَوَّامَة قَوَّامَة. وَقَالَ الْفراء: وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: لأعرفن مَا عملت أَي: لأجازينك عَلَيْهِ. وَهُوَ أَيْضا مثل قَوْله تَعَالَى: {وأوحينا إِلَيْهِ

{وَأعْرض عَن بعض فَلَمَّا نبأها بِهِ قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير (3) إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا} لتنبئنهم بأمرهم) أَي: لتجازينهم. وَقَوله: {وَأعْرض عَن بعض} أَي: لم يجاز عَلَيْهِ. وَقَوله: {فَلَمَّا نبأها بِهِ} أَي: أخْبرهَا. وَقَوله: {قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا} أَي: من أخْبرك بِهَذَا. وَقَوله: {قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير} أَي: الله، فَإِنَّهُ الْعَلِيم بالأمور، الْخَبِير بِمَا فِي الصُّدُور.

4

وَقَوله تَعَالَى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله} هَذَا خطاب لعَائِشَة وَحَفْصَة، وَمَعْنَاهُ: إِن تَتُوبَا فقد فعلتما مَا عَلَيْكُمَا، التَّوْبَة فِي ذَلِك، وَالَّذِي فعلنَا: المظاهرة على النَّبِي بالمواطأة على مَا بَينا، وبالسرور بِمَا يكرههُ من تَحْرِيم مَا أحل الله لَهُ، وبشدة الْغيرَة عَلَيْهِ وأذاه بذلك. وَقَوله: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} أَي: مَالَتْ قُلُوبكُمَا عَن الصَّوَاب. وَقد روى " أَنه كَانَ يصغي الْإِنَاء للهرة " أَي: يمِيل. وَقَوله: {قُلُوبكُمَا} أَي: قلباكما. قَالَ الْفراء: هُوَ مثل قَول الْعَرَب: ضربت ظهوركما، وهشمت رءوسكما أَي: رأسيكما وظهريكما. وَيُقَال: إِن أَكثر مَا فِي الْإِنْسَان من الْجَوَارِح اثْنَان اثْنَان، وَإِذا هِيَ تذكر باسم الْجمع، فَمَا كَانَ وَاحِدًا جرى ذَلِك المجرى، مثل: الرَّأْس وَالْقلب وَغير ذَلِك، ذكره النقاش.

{وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالح الْمُؤمنِينَ وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك ظهير (4) عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} وَقَوله: {وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ} ثَبت أَن ابْن عَبَّاس سَأَلَ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا عَن الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تظاهرتا على النَّبِي أَي: توافقتا على فعل مَا يشْتَد عَلَيْهِ ويؤذيه غَيره عَلَيْهِ، فَقَالَ: هما حَفْصَة وَعَائِشَة. وَقَوله: {فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ} أَي: ناصره وحافظه {وَجِبْرِيل} أَي: ينصره أَيْضا ويحفظه. وَقَوله: {وَصَالح الْمُؤمنِينَ} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: قَالَ الْعَلَاء بن زِيَاد: هم الْأَنْبِيَاء، وَهُوَ قَول قَتَادَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ. وَعَن قَتَادَة فِي رِوَايَة أُخْرَى قَالَ: هُوَ أَبُو بكر وَعمر، وهما أَبَوا الْمَرْأَتَيْنِ. قَالَ سعيد بن أبي عرُوبَة وَهُوَ الحاكي ذَلِك عَن قَتَادَة: ذكرت ذَلِك لسَعِيد بن جُبَير فَقَالَ: صدق قَتَادَة. وروى اللَّيْث عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هُوَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ. وَعَن بَعضهم: هُوَ خِيَار الْمُؤمنِينَ. وَقَوله: {وَالْمَلَائِكَة بعد ذَلِك ظهير} أَي: ظهراء وَأَعْوَان، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا} أَي: رُفَقَاء. قَالَ الشَّاعِر (إِن العواذل لَيْسَ لي بأمير ... ) أَي: بأمراء. وَرُوِيَ أَن عمر عَاتب حَفْصَة وَقَالَ: لَو أَمرنِي رَسُول الله أَن أضْرب رقبتك لضَرَبْت.

5

قَوْله تَعَالَى: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن} فَإِن قيل: كَيفَ خيرا مِنْكُن وَلم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت أحد من النِّسَاء خيرا مِنْهُنَّ؟ وَالْجَوَاب: أَن مَعْنَاهُ: إِن طَلَّقَكُن بإلجائكن إِيَّاه إِلَى الطَّلَاق، وَشدَّة آذاكن لَهُ، وَترك التَّوْبَة فيبدله خير مِنْكُن أَي: أطوع لَهُ مِنْكُن، وَيُقَال: أحب لَهُ مِنْكُن.

{مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (5) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا} وَقَوله: {مسلمات} أَي: خاضعات منقادات. وَقَوله: {مؤمنات} أَي: مصدقات. وَقَوله: {قانتات} أَي: مطيعات. وَقَوله: {تائبات} أَي: تائبات من كل الذُّنُوب، وَمن كل مَا يُؤْذِي النَّبِي. وَقَوله: {عابدات} أَي: متذللات أَو فاعلات للطاعة كَمَا أمرهن الله تَعَالَى. وَقَوله: {سائحات} أَي: صائمات، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: سمي الصَّائِم سائحا؛ لِأَن السائح يسيح بِغَيْر زَاد، فَإِن وجد شَيْئا أكل على جوع شَدِيد. وَيُقَال: سائحات أَي: مهاجرات. وَقَوله: {ثيبات وأبكارا} ظَاهر الْمَعْنى. وَيُقَال: الثّيّب مثل آسِيَة، والأبكار مثل: مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام.

6

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا} أَي: بفعلكم طَاعَة الله، وأمركم إياهن بِطَاعَة الله. وَيُقَال: أدبوهن وعلموهن ودلوهن على الْخَيْر. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: " علق السَّوْط حَيْثُ يرَاهُ أهلك " يَعْنِي: بالتأديب. وَعَن عَمْرو بن قيس الْملَائي قَالَ: " إِن الْمَرْأَة لتخاصم زَوجهَا يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله فَتَقول: إِنَّه كَانَ لَا يؤدبني، وَلَا يعلمني شَيْئا، كَانَ يأتيني بِخبْز السُّوق. وَقيل: قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا أى: قوا أَنفسكُم نَارا وقوا أهليكم نَارا بِمَا ذكرنَا، وَهُوَ تَقْدِير الْآيَة.

{وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون (6) يَا أَيهَا الَّذين كفرُوا لَا تعتذروا الْيَوْم إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (7) } وَقَوله: {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} قد بَينا فِي سُورَة الْبَقَرَة، وَهُوَ حِجَارَة الكبريت. وَقَوله: {عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد} أَي: غِلَاظ الْقُلُوب، شَدَّاد الْأَيْدِي. وَفِي التَّفْسِير: أَن وَاحِدًا مِنْهُم يلقِي سبعين ألفا بدفعة وَاحِدَة فِي النَّار. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الله تَعَالَى لم يخلق فِي قُلُوب الزَّبَانِيَة شَيْئا من الرَّحْمَة ". وَعَن بَعضهم: أَنه يَأْخُذ العَبْد الْكَافِر بعنف شَدِيد، فَيَقُول ذَلِك العَبْد: أما ترحمني؟ ! فَيَقُول: كَيفَ أرحمك، وَلم يَرْحَمك أرْحم الرَّاحِمِينَ. وَفِي بعض الْآثَار أَيْضا: أَن الله تَعَالَى يغْضب على الْوَاحِد من عبيده، فَيَقُول للْمَلَائكَة: خذوه فيبتدره مائَة ألف ملك، كلهم يغضبون بغضب الله تَعَالَى، فيجرونه إِلَى النَّار، وَالنَّار أَشد غَضبا عَلَيْهِ مِنْهُم بسبعين ضعفا. وَقَوله: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} ظَاهر الْمَعْنى.

7

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين كفرُوا لَا تعتذروا الْيَوْم} يَعْنِي: يُقَال لَهُم يَوْم الْقِيَامَة: لَا تعتذروا، أَي: لَا عذر لكم فتعتذروا. وَقَوله: {إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: بعملكم فِي الدُّنْيَا.

8

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} قَالَ (الزُّهْرِيّ) : كل مَوضِع فِي الْقُرْآن {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} افعلوا كَذَا فالنبي عَلَيْهِ السَّلَام فيهم. وَعَن خَيْثَمَة قَالَ: كل مَا فِي الْقُرْآن {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فَهُوَ فِي التَّوْرَاة يَا أَيهَا الْمَسَاكِين. وَقد ذكرنَا عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: إِذا سَمِعت الله يَقُول: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فارعها سَمعك، فَإِنَّهُ شَيْء تُؤمر بِهِ، أَو شَيْء تنْهى عَنهُ.

{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم وبأيمانهم يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إِنَّك على كل} وَقَوله: {تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا} قَالَ عمر وَابْن مَسْعُود: هُوَ أَن يَتُوب من الذَّنب ثمَّ لَا يعود إِلَيْهِ أبدا، وَيُقَال: نصُوحًا أَي: صَادِقَة، وَيُقَال: خَالِصَة، وَقيل: محكمَة وَثِيقَة. وَهُوَ مَأْخُوذ من النصح وَهُوَ الْخياطَة، كَأَن التَّوْبَة ترقع خرق الذَّنب فيلتئم، كالخياط يخيط بالشَّيْء فيلتئم. وَقُرِئَ: " نصُوحًا " بِضَم النُّون أَي: ذَات نصح. وَقَوله: {عَسى ربكُم أَن يكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} قد بَينا أَن عَسى من الله وَاجِبَة. وَقَوله: {ويدخلكم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار} أَي: بساتين. وَقَوله: {يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي} أَي: لَا يهينه وَلَا يَفْضَحهُ، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى كَرَامَة فِي الْآخِرَة؛ يَعْنِي: يُكرمهُ ويشرفه فِي ذَلِك الْيَوْم، وَلَا يهينه، وَلَا يذله. وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا مَعَه} أَي: كَذَلِك يَفْعَله بالذين آمنُوا مَعَه. وَقَوله: {نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم} هُوَ نور الْإِيمَان يكون قدامهم على الصِّرَاط يَمْشُونَ فِي ضوئه. وَفِي التَّفْسِير: أَن لأَحَدهم مثل الْجَبَل، وَلآخر على قدر ظفره ينطفئ مرّة ويتقد أُخْرَى. وَقَوله: {وبأيمانهم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وبأيمانهم كتبهمْ، وَالْآخر: وبأيمانهم نورهم كالمصابيح. وَقَوله: {يَقُولُونَ رَبنَا أتمم لنا نورنا} وَفِي [التَّفْسِير] : أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك حِين يخمد وينطفئ نور الْمُنَافِقين، فَيَقُولُونَ ذَلِك إشفاقا على نورهم. وَقَوله: {واغفر لنا إِنَّك على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

{شَيْء قدير (8) يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (9) ضرب الله مثلا للَّذين كفرُوا امرأت نوح وامرأت لوط كَانَتَا تَحت عَبْدَيْنِ من عبادنَا صالحين فَخَانَتَاهُمَا فَلم يغنيا عَنْهُمَا من الله شَيْئا}

9

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار} أَي: بِالسَّيْفِ. وَقَوله: {وَالْمُنَافِقِينَ} أَي: بِاللِّسَانِ، وَيُقَال: بالغلظة عَلَيْهِم. قَالَ ابْن مَسْعُود: أَن يلقاهم بِوَجْه مكفهر. وَيُقَال: بِإِقَامَة الْحُدُود عَلَيْهِم، ذكره قوم من التَّابِعين. وَقَوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِم ومأواهم جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} أَي: المنقلب.

10

قَوْله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا للَّذين كفرُوا امْرَأَة نوح وَامْرَأَة لوط} فِي بعض التفاسير: أَن اسْم (إحديهما) كَانَت والهة، وَالْأُخْرَى كَانَت والغة. وَقَوله: {كَانَتَا تَحت عَبْدَيْنِ من عبادنَا صالحين} أَي: نوح وَلُوط عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَقَوله تَعَالَى: {فَخَانَتَاهُمَا} اخْتلف القَوْل فِي هَذَا؛ فأحد الْأَقْوَال: أَنه الْخِيَانَة بالْكفْر. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الْخِيَانَة بالنفاق، كَانَتَا تظهران الْإِيمَان وتسران الْكفْر. وَالْقَوْل الثَّالِث: بالنميمة. وَالْقَوْل الرَّابِع: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُنُون لنوح، وَالدّلَالَة على الأضياف للوط، فَكَانَت امْرَأَة نوح تَقول لمن يقْصد نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام، ليسمع كَلَامه: إِنَّه مَجْنُون، وَامْرَأَة لوط كَانَت تدل قَومهَا على أضياف لوط لقصد الْفَاحِشَة. وَفِي الْقِصَّة: أَنَّهَا كَانَت بِالنَّهَارِ ترسل، وبالليل تدخن وتوقد نَارا ليعلموا. قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا بَغت امْرَأَة نَبِي قطّ أَي: مَا زنت. وَقَوله: {فَلم يغنيا عَنْهُمَا من الله شَيْئا} أَي: لم (يدْفَعَا) نوح وَلُوط عَنْهُمَا

{وَقيل ادخلا النَّار مَعَ الداخلين (10) وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امرأت فِرْعَوْن إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين (11) وَمَرْيَم ابنت عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} أَي: عَن امرأتيهما. وَالْمرَاد تحذير عَائِشَة وَحَفْصَة، يَعْنِي: أنكما إِن عصيتما رَبكُمَا لم يدْفع رَسُول الله عنكما شَيْئا، كَمَا لم يدْفع نوح وَلُوط عَن امرأتيهما. وَقَوله: {وَقيل ادخلا النَّار مَعَ الداخلين} أَي: قيل للمرأتين.

11

وَقَوله تَعَالَى: {وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امْرَأَة فِرْعَوْن} وَهِي آسِيَة بنت مُزَاحم، وَكَانَت آمَنت بِاللَّه وبموسى عَلَيْهِ السَّلَام سرا ثمَّ أظهرت، فعذبها فِرْعَوْن وعاقبها، وَفِي الْقِصَّة: أَنه وتدها بأَرْبعَة أوتاد من حَدِيد، وَفِي الْقِصَّة: أَن أول من آمَنت امْرَأَة خَازِن فِرْعَوْن، وَيُقَال: ماشطة بنت فِرْعَوْن، فعذبها فِرْعَوْن فَصَبَرت على ذَلِك، فأظهرت حِينَئِذٍ آسِيَة إيمَانهَا. وَقَوله: {إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة} أَي: دَارا. وَقَوله: {ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: من شركه، وَالْآخر: من المضاجعة مَعَه. وَيُقَال: من الْجِمَاع. وَقَوله: {ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين} أَي: من قوم فِرْعَوْن.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَمَرْيَم ابْنة عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا} أشهر الْقَوْلَيْنِ أَنه الْفرج بِعَيْنِه. وَالْعرب تَقول: أحصنت فُلَانَة فرجهَا إِذا عفت عَن الزِّنَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْفرج هَاهُنَا هُوَ الجيب. قَالَ الْفراء: كل خرق فِي درع أَو غَيره فَهُوَ فرج، وَيُقَال: فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " فنفخنا فِي جيبها من رُوحنَا " وَقَوله: {فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا} فِي الْقِصَّة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نفخ فِي جيب درعها فَحملت بِعِيسَى، وَرُوِيَ أَنه دخل عَلَيْهَا فِي صُورَة شَاب أَمْرَد جعد قطط، وَهِي فِي مدرعة صوف. قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: فِي مدرعتها. وعَلى القَوْل الأول إِذا

{وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَكتبه وَكَانَت من القانتين (12) } قُلْنَا إِنَّه الْفرج بِعَيْنِه يصير النفخ فِي جيب درعها كالنفخ فِي فرجهَا بِعَيْنِه. وَقَوله: {وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا} وَقُرِئَ: " بِكَلِمَة رَبهَا " فَمَعْنَى الْكَلِمَات مَا أخبر الله تَعَالَى من الْبشَارَة بِعِيسَى وَصفته وكرامته على الله وَغير ذَلِك. وَيُقَال: بِكَلِمَات رَبهَا أَي: بآيَات رَبهَا. وَأما قَوْله: {بِكَلِمَة رَبهَا} هُوَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَقَوله: {وَكتابه} أَي: الْإِنْجِيل، وَقُرِئَ: " وَكتبه " أَي: التَّوْرَاة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل. وَقَوله: {وَكَانَت من القانتين} فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ {من القانتين} وَلم يقل: " من القانتات "؟ قُلْنَا: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب مَعْنَاهُ: كَانَت من قوم قَانِتِينَ. والقنوت هُوَ الطَّاعَة على مَا بَينا. وَيُقَال: قنوتها هَاهُنَا هُوَ صلَاتهَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء، وَهُوَ أَيْضا فعل القانتين على هَذَا القَوْل، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} تَفْسِير سُورَة الْملك وَهِي مَكِّيَّة روى أَبُو هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَن النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ: " إِن سُورَة من الْقُرْآن ثَلَاثُونَ آيَة شفعت لصَاحِبهَا حَتَّى غفر لَهُ، وَهِي {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} ". وروى أَبُو الزبير عَن جَابر أَن النَّبِي كَانَ لَا ينَام حَتَّى يقْرَأ: {الم تَنْزِيل الْكتاب} ، و {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} قَالَ طَاوس: يفضلان سَائِر السُّور بسبعين حَسَنَة. وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس أَن رجلا ضرب خباءه على قبر وَهُوَ لَا يحْسب أَنه قبر، فَسمع قَارِئًا: {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} حَتَّى ختم السُّورَة، فَأتى النَّبِي فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: " هِيَ المنجية، هِيَ الْمَانِعَة، تنجيه من عَذَاب الْقَبْر " ذكر هَذِه الْأَخْبَار أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِإِسْنَادِهِ. وَفِي غَيره أَن الزُّهْرِيّ روى عَن حميد ابْن عبد الرَّحْمَن أَن النَّبِي قَالَ: " سُورَة الْملك تجَادل عَن صَاحبهَا يَوْم الْقِيَامَة ".

{وَهُوَ على كل شَيْء قدير (1) الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} وروى مرّة الْهَمدَانِي عَن عبد الله بن مَسْعُود: أَن رجلا أَتَى فِي قَبره من جوانبه، فَجلت سُورَة من الْقُرْآن تجَادل عَن صَاحبهَا حَتَّى الْجنَّة. قَالَ مرّة: فَنَظَرت أَنا وخيثمة فَإِذا هِيَ سُورَة الْملك، وَالله أعلم.

الملك

قَوْله تَعَالَى: {تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ} قد بَينا أَن تبَارك تفَاعل من الْبركَة، وَالْمعْنَى: أَن جَمِيع البركات مِنْهُ تَعَالَى. وَيُقَال: تبَارك أَي: تعظم وتقدس وَتَعَالَى، وَمِنْه البرك فِي الصَّدْر. وَقَوله {الَّذِي بِيَدِهِ الْملك} أَي: ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَيُقَال: ملك النُّبُوَّة، يعز بِهِ من اتبعهُ، ويذل بِهِ من خَالفه، حكى ذَلِك عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق. وَقَوله {وَهُوَ على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

2

وَقَوله تَعَالَى: {الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة} أَي: الْمَوْت فِي الدُّنْيَا، والحياة فِي الْآخِرَة. وَيُقَال: خلق الْمَوْت أَي: النُّطْفَة فِي الرَّحِم لِأَنَّهَا ميتَة، والحياة هُوَ أَنه نفخ فِيهَا الرّوح من بعد. وَيُقَال: خلق الْمَوْت والحياة، أَي: الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَحكى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: " أَن الله تَعَالَى خلق الْمَوْت على صُورَة كَبْش أغبر، لَا يمر بِشَيْء، وَلَا يطَأ على شَيْء وَلَا يجد رِيحه شَيْء إِلَّا مَاتَ، وَخلق الْحَيَاة على صُورَة فرس أُنْثَى بلقاء لَا تمر على شَيْء، وَلَا تطَأ على شَيْء وَلَا تَجِد [رِيحهَا] شَيْء إِلَّا حيى. قَالَ: وَهِي دون البغلة وَفَوق الْحمار، خطوها مد الْبَصَر، وَكَانَ جِبْرِيل رَاكِبًا [عَلَيْهَا] يَوْم غرق فِرْعَوْن، وَمن تَحت حافرها أَخذ السامري القبضة. وَقَالَ بَعضهم: خلق الدُّنْيَا للحياة ثمَّ للْمَوْت، وَخلق الْآخِرَة للجزاء ثمَّ للبقاء. وَقَوله {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} أَي: ليختبركم فَيظْهر مِنْكُم أَعمالكُم الْحَسَنَة وَأَعْمَالكُمْ السَّيئَة ويجازكم عَلَيْهَا. وَقَوله {أحسن عملا} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أتم عقلا وَأَوْرَع عَن محارم الله، وَهُوَ

{وَهُوَ الْعَزِيز الغفور (2) الَّذِي خلق سبع سموات طباقا مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت فَارْجِع الْبَصَر هَل ترى من فطور (3) ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين} قَول مأثور. وَالْقَوْل الثَّانِي: أحسن عملا أخْلص عملا. وَالْقَوْل الثَّالِث: أحسن عملا أَي: أزهد فِي الدُّنْيَا وأترك لَهَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن وسُفْيَان الثَّوْريّ. وَالْقَوْل الرَّابِع: أحسن عملا أَي: أَشدّكُم ذكرا للْمَوْت وَأَحْسَنُكُمْ لَهَا اسْتِعْدَادًا. وَيُقَال: أَشدّكُم لله مَخَافَة. وَيُقَال: أبصركم بعيوب نَفسه. وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الغفور} قد بَينا.

3

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلق سبع سموات طباقا} أَي: بَعْضهَا فَوق بعض، بَين كل سماءين أَمر من أمره، وَخلق من خلقه. وَقَوله {مَا ترى فِي خلق الرَّحْمَن من تفَاوت} أَي: من خلل وعيب. وَيُقَال: من اضْطِرَاب وتباين. وَقُرِئَ " تفوت " وَاخْتَارَهُ أَبُو عبيد. قَالَ الْفراء: تفوت وتفاوت بِمَعْنى وَاحِد كَمَا يُقَال: تعهد وتعاهد وَغير ذَلِك. وَيُقَال: تفوت أَي: لَا تفوت بعضه بَعْضًا. وَقَوله: {فَارْجِع الْبَصَر} أَي: رد الْبَصَر. وَقَوله: {هَل ترى من فطور} أَي: صدوع وشقوق وخروق. وَيُقَال: فطر نَاب الْبَعِير أَي: انْشَقَّ.

4

وَقَوله: {ثمَّ ارْجع الْبَصَر كرتين} أَي: مرَّتَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: مرّة بعد مرّة، وَإِن زَاد على الْمَرَّتَيْنِ، كَالرّجلِ يَقُول لغيره: قد قلت لَك هَذَا القَوْل مرّة بعد مرّة، وَقد كَانَ قَالَ لَهُ مَرَّات، ذكر الْقفال. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا ذكر الْمَرَّتَيْنِ، لِأَن الْإِنْسَان فِي الْمرة الثَّانِيَة يكون أحد بصرا وَأكْثر بصرا وَأكْثر نظرا. وَيُقَال: الكرة الأولى بِالْعينِ. وَالْأُخْرَى بِالْقَلْبِ. قَالَ الْفراء: يجوز أَن يكون معنى كرتين كرة وَاحِدَة وأنشدوا:

{يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر خاسئا وَهُوَ حسير (4) وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} (مهمهين قذفين مرَّتَيْنِ ... قطعته [بالسمت] لَا بالسمتين) وَأَرَادَ مهمها وَاحِدًا. وَقَوله: {يَنْقَلِب إِلَيْك الْبَصَر} أَي: يرجع إِلَيْك الْبَصَر {خاسئا} أَي: صاغرا {وَهُوَ حسير} أَي: كليل يَعْنِي ضَعِيف عَن إِدْرَاك مَا أَرَادَهُ من طلب الْعَيْب والخلل. وَيُقَال: دَابَّة حسرى أَي: كالة. قَالَ الشَّاعِر: (بِهِ جيف الحسرى فَأَما عظامها ... فبيض وَأما جلدهَا فصليب) قَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: أَنه يُبَالغ فِي النّظر، فَرجع الْبَصَر إِلَيْهِ خاسئا وَلم ينل مَا أَرَادَهُ، وَلم ير عَيْبا وخللا. وَقَوله: {خاسئا} من ذَلِك قَوْلهم للكلب اخْسَأْ وابعد، قَالَ الفرزدق فِي جرير: (اخْسَأْ إِلَيْك جَرِيرًا يَا معر ... نلنا السَّمَاء نجومها وهلالها)

5

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح} أَي: بسرج، وسمى النُّجُوم مصابيح لإضاءتها. وَقَوله: {وجعلناها رجوما للشياطين} أَي: رجمنا بهَا الشَّيَاطِين عَن استراق السّمع. قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: إِن النَّجْم لَا يطلع لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلكنه زِينَة الدُّنْيَا ورجوم الشَّيَاطِين. وَعَن قَتَادَة قَالَ: خلق الله النُّجُوم لثَلَاثَة أَشْيَاء: جعلهَا زِينَة للسماء الدُّنْيَا، ورجوما للشياطين، وهاديا للنَّاس فِي الطّرق، فَمن تكلّف غير ذَلِك فقد قَالَ مَا لَا علم لَهُ بِهِ.

{وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير (5) وللذين كفرُوا برَبهمْ عَذَاب جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير (6) إِذا ألقوا فِيهَا سمعُوا لَهَا شهيقا وَهِي تَفُور (7) تكَاد تميز من الغيظ كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير (8) قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ظلال كَبِير (9) } . وَقَوله تَعَالَى: {وأعتدنا لَهُم عَذَاب السعير} أَي: المسعرة. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن السعير هُوَ الطَّبَق الرَّابِع من جَهَنَّم.

6

وَقَوله: {وللذين كفرُوا برَبهمْ عَذَاب جَهَنَّم} إِنَّمَا سمى جَهَنَّم جهنما لبعد قعرها، تَقول الْعَرَب: ركية جهنام أَي: بعيدَة القعر. وَقَوله: {وَبئسَ الْمصير} أَي: الْمرجع.

7

قَوْله: {إِذا ألقوا فِيهَا سمعُوا لَهَا شهيقا} أَي: لِجَهَنَّم، والشهيق: أول صَوت الْحمار. وَقيل: الشهيق. أول صَوته، والزفير. آخر صَوته. وَقيل: الشهيق فِي الصَّدْر، والزفير فِي الْحلق. وَقيل: إِن الشهيق من الْكفَّار حِين يدْخلُونَ جَهَنَّم. وَالْقَوْل الأول أظهر فِي هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {وَهِي تَفُور} قَالَ ابْن مَسْعُود: تغلي غليان الْقدر بِمَا فِيهِ. وَعَن مُجَاهِد: تغلي غليان المَاء الْكثير بالحب الْقَلِيل.

8

وَقَوله: {تكَاد تميز من الغيظ} أَي: تتقد وتتفرق. يُقَال: فلَان امْتَلَأَ غيظا حَتَّى يكَاد يتقد. وغيظها حنقا على أَعدَاء الله وانتقامها. وَقَوله: {كلما ألْقى فِيهَا فَوْج} أَي: قوم {سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير} أَي: رَسُول. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: الرُّسُل من الْإِنْس، وَالنّذر من الْجِنّ. وَهُوَ قَول مهجور.

9

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ظلال كَبِير} أَي: عَظِيم. وَيُقَال: خاطئين.

{وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير (10) فاعرفوا بذنبهم فسحقا لأَصْحَاب السعير (11) إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} .

10

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل} أَي: نسْمع سَماع من يُمَيّز ويتفكر، ونعقل عقل من يتدبر وَينظر {مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَالْمعْنَى: أَنا لم نسْمع الْحق وَلم نعقله أَي: لم ننتفع بأسماعنا وعقولنا. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لكل شَيْء دعامة، ودعامة الدّين الْعقل ". وروى أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الرجل يكون من أهل الْجِهَاد وَأهل الصَّلَاة وَأهل الصّيام، وَيَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر، وَإِنَّمَا يجازى يَوْم الْقِيَامَة على قدر عقله " وَهُوَ حَدِيث حسن الْإِسْنَاد.

11

قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَرفُوا بذنبهم} أَي: بِذُنُوبِهِمْ، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، وَقَوله: {فسحقا لأَصْحَاب السعير} أَي: بعدا، يُقَال: مَكَان سحيق أَي: بعيد. وَعَن مُجَاهِد: السحق اسْم وَاد فِي جَهَنَّم.

12

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ} أَي: بالوعد والوعيد الَّذِي غَابَ عَنهُ، وَيُقَال: بِالْجنَّةِ وَالنَّار، وَيُقَال: فِي الخلوات.

{لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير (12) وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (13) أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير (14) هُوَ الَّذِي جعل لكم الأَرْض ذلولا} . وَقَوله: {لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير} أَي: عَظِيم.

13

قَوْله تَعَالَى: {وأسروا قَوْلكُم أَو اجهروا بِهِ} فِي التَّفْسِير: أَن الْكفَّار كَانَ بَعضهم يَقُول لبَعض: أَسرُّوا بقولكم حَتَّى لَا يسمع رب مُحَمَّد فيخبره قَوْلكُم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَوله: {إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا فِي الصُّدُور. قَالَ الْحسن: يعلم من السِّرّ مَا يعلم من الْعَلَانِيَة، وَيعلم من الْعَلَانِيَة مَا يعلم من السِّرّ.

14

قَوْله تَعَالَى: {أَلا يعلم من خلق} اسْتِفْهَام بِمَعْنى الْإِنْكَار والتوبيخ، وَالْمعْنَى: أَلا يعلم من فِي الصُّدُور من خلق الصُّدُور. وَيُقَال: أَلا يعلم مَا خلق " من " بِمَعْنى " مَا "، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} أَي: وَمن بناها. وَقَوله: {وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير} أَي: اللَّطِيف فِي علمه، يعلم مَا يظْهر وَمَا يسر وكل مَا دق، يُقَال لطيف، وَيُقَال: الْخَبِير هُوَ الْعَالم.

15

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جعل لكم الأَرْض ذلولا} أَي: مذللة، وتذليلها: تسهيل السّير فِيهَا والقرار عَلَيْهَا. وَقَوله: {فامشوا فِي مناكبها} أَي: فِي جوانبها، وَيُقَال: فِي فجاجها، وَيُقَال: فِي طرقها، وَقيل: فِي جبالها. وَعَن بشير بن كَعْب الْأنْصَارِيّ أَنه كَانَ يقْرَأ هَذِه السُّورَة فَبلغ هَذِه الْآيَة، فَقَالَ لجارية لَهُ: إِن عرفتي معنى قَوْله: {فِي مناكبها} فَأَنت حرَّة، فَقَالَت: فِي جبالها. فشح الرجل بالجارية وَجعل يسْأَل أَبَا الدَّرْدَاء فَقَالَ: دع مَا يريبك إِلَى مَالا يريبك خلها. وَحكى قَتَادَة عَن أبي الْجلد قَالَ: الأَرْض كلهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف فَرسَخ، اثْنَا عشر ألفا للسودان، وَثَمَانِية آلَاف للروم، وَثَلَاثَة آلَاف للعجم، وَألف للْعَرَب.

{فامشوا فِي مناكبها وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور (15) أأمنتم من فِي السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور (16) أم أمنتم من فِي السَّمَاء أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا فستعلمون كَيفَ نَذِير (17) وَلَقَد كذب الَّذين من قبلهم فَكيف كَانَ نَكِير (18) أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات ويقبضن مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن إِنَّه بِكُل شَيْء بَصِير} . وَقَوله: {وكلوا من رزقه وَإِلَيْهِ النشور} أَي: فِي الْآخِرَة.

16

قَوْله تَعَالَى: {أأمنتم من فِي السَّمَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس أَي: الله. وَقَوله: {أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور} أَي: تضطرب وتدور، وَيُقَال: تمور أَي: تخسف بكم حَتَّى تجعلكم فِي أَسْفَل الْأَرْضين، قَالَ الشَّاعِر: (رمين فأقصدن الْقُلُوب وَلنْ ترى ... دَمًا مائرا إِلَّا جرى فِي الحيازم) أَي: سَائِلًا.

17

قَوْله تَعَالَى: {أم أمنتم من فِي السَّمَاء} أَي: أأمنتم ربكُم {أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا} أَي: ريحًا ذَات حَصْبَاء، وَيُقَال: حِجَارَة فيهلككم بهَا. والحصباء الْحِجَارَة. وَقَوله: {فستعلمون كَيفَ نَذِير} أَي: إنذاري، وَالْمعْنَى: كنت محقا فِي إنذاري إيَّاكُمْ الْعَذَاب.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد كذب الَّذين من قبلهم فيكف كَانَ نَكِير} أَي: إنكاري.

19

قَوْله تَعَالَى: {أولم يرَوا إِلَى الطير فَوْقهم صافات} يُقَال: صف الطير جنَاحه إِذا بَسطه، وَقَبضه إِذا ضربه، وَالْمرَاد من الْقَبْض: هُوَ ضرب الجناحين بالجنبين، وَهَذَا الْقَبْض والبسط فِي بعض الطُّيُور لَا فِي جَمِيع الطُّيُور، فَإِن بَعْضهَا يقبض بِكُل حَال، وَبَعضهَا يبسط تَارَة وَيقبض أُخْرَى. وَقَوله: {مَا يمسكهن إِلَّا الرَّحْمَن} يَعْنِي: مَا يمسكهن عَن الْوُقُوع إِلَّا الرَّحْمَن. قَالُوا: والهواء للطير بِمَنْزِلَة المَاء للسابح، فَهُوَ يسبح فِي الْهَوَاء بجناحيه كَمَا يسبح الْإِنْسَان فِي المَاء بأطرافه. وَقَوله: {إِنَّه بِكُل شَيْء بَصِير} أَي: عليم.

( {19) أَمن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم ينصركم من دون الرَّحْمَن إِن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور (20) أَمن هَذَا الَّذِي يرزقكم إِن أمسك رزقه بل لجوا فِي عتو ونفور (21) أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه أهْدى أَمن يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم (22) } .

20

قَوْله تَعَالَى: {أَمن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم ينصركم} مَعْنَاهُ: أَيْن هَذَا الَّذِي هُوَ جند لكم يمنعكم من عَذَاب الله؟ وَهُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التوبيخ وَالْإِنْكَار. وَقَوله تَعَالَى: {إِن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور} أَي: مَا الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غرور.

21

قَوْله تَعَالَى: {أَمن هَذَا الَّذِي يرزقكم} الْمَعْنى: أَن الله هُوَ الَّذِي يرزقكم إِن أمسك رزقه، فَمن ذَا الَّذِي يرزقكم سواهُ؟ . وَقَوله: {بل لجوا فِي عتو ونفور} العتو هُوَ التَّمَادِي فِي الْكفْر، والنفور هُوَ التباعد عَن الْحق. وَيُقَال الْمَعْنى: أَن اللجاج حملهمْ على الْكفْر والنفور عَن الْحق، فَإِن الدَّلَائِل أظهر وَأبين من أَن تخفى على أحد، وَالْعرب تسمي كل سَفِيه متمرد متماد فِي الْبَاطِل عاتيا.

22

قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه} فِي الضَّلَالَة لَا يبصر الْحق. وَيُقَال: مكبا على وَجهه أَي: لَا ينظر من بَين يَدَيْهِ وَلَا عَن يَمِينه وَلَا عَن يسَاره وَلَا من خَلفه. وَقيل: إِن هَذَا فِي الْآخِرَة، فَإِن الله تَعَالَى يحْشر الْكفَّار على وُجُوههم على مَا نطق بِهِ الْقُرْآن فِي غير هَذَا الْموضع، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الَّذِي قدر أَن يُمشيهمْ على أَرجُلهم قَادر على أَن يُمشيهمْ على وُجُوههم ". وَقَوله: {أهْدى أَمن يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: يمشي فِي طَرِيق الْحق بِنور الْهدى. وَيُقَال: ينظر من بَين يَدَيْهِ وَعَن يَمِينه وَعَن يسَاره وَمن خَلفه. وَقيل: هُوَ فِي الْآخِرَة. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: قَوْله {أَفَمَن يمشي مكبا على وَجهه} هُوَ أَبُو جهل، وَقَوله: {أم من يمشي سويا على صِرَاط مُسْتَقِيم} هُوَ عمار بن يَاسر. وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس: أَنه حَمْزَة بن عبد الْمطلب وكنيته أَبُو عمَارَة.

{قل هُوَ الَّذِي أنشأكم وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون (23) قل هُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تحشرون (24) وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين (25) قل إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زلفة سيئت وُجُوه الَّذين كفرُوا وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون (27) } .

23

قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الَّذِي أنشأكم وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قَلِيلا مَا تشكرون} أَي: قل شكركم لهَذِهِ النعم.

24

قَوْله تَعَالَى (قل هُوَ الَّذِي ذرأكم فِي الأَرْض) أَي: خَلقكُم فِي الأَرْض {وَإِلَيْهِ تحشرون} أَي: فِي الْآخِرَة.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي: الْقِيَامَة.

26

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله} أَي: علم السَّاعَة عِنْد الله. وَقَوله: {وَإِنَّمَا أَنا نَذِير مُبين} أَي: مُنْذر بَين النذارة.

27

قَوْله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زلفة} قَالَ الْمبرد وثعلب: أَي: رَأَوْا الْعَذَاب حَاضرا. وَقيل: قَرِيبا. وَقَوله: {سيئت وُجُوه الَّذين كفرُوا} أَي: تبين السوء والكآبة فِي وجهوهم. وَيُقَال: اسودت وُجُوههم. قَوْله تَعَالَى: {وَقيل هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تدعون} وَقُرِئَ فِي الشاذ: " تدعون " بِغَيْر تَشْدِيد. وَعَن بَعضهم: أَن تدعون وتدعون بِمَعْنى وَاحِد، فَقَوله: {تدعون} أَي: تدعون الله بِهِ. وَقَوله: {تدعون} أَي: تتداعون بِهِ، وَهُوَ مثل قَوْله {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى: {قَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا} أَي: نصيبنا من الْعَذَاب. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تدعون افتعال من الدُّعَاء. وَعَن بَعضهم: تدعون أَي: تكذبون. وَيُقَال: تَسْتَعْجِلُون

{قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا فَمن يجير الْكَافرين من عَذَاب أَلِيم (28) قل هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا فستعلمون من هُوَ فِي ظلال مُبين (29) قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا فَمن يأتيكم بِمَاء معِين (30) } . وتمترون وتختلفون. وَقيل: تدعون تمنون. تَقول الْعَرَب لغيره: ادْع مَا شِئْت أَي: تمن، وَهَذَا القَوْل يقرب من القَوْل الأول.

28

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا} قَالَ أهل التَّفْسِير: كَانَ الْكفَّار يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه أَكلَة رَأس، يهْلكُونَ عَن قريب، وكل يرجون الأباطيل فِي حق الرَّسُول وَأَصْحَابه، فَقَالَ الله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أهلكني الله وَمن معي أَو رحمنا} يَعْنِي: إِن نجونا أَو هلكنا {فَمن يجير الْكَافرين من عَذَاب أَلِيم} أَي: فَمن يجيركم من عَذَاب الله تَعَالَى وَقد كَفرْتُمْ بِهِ.

29

قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الرَّحْمَن آمنا بِهِ وَعَلِيهِ توكلنا فستعلمون من هُوَ فِي ظلال مُبين} أَي: خطأ بَين، وتباعد من الْحق وضلال عَنهُ. قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن أصبح ماؤكم غورا} أَي: غائرا، وَمَعْنَاهُ: ذَاهِبًا. قَالَ قَتَادَة: وَيُقَال: لَا تناله الدلاء، قَالَه سعيد بن جُبَير. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي بِئْر زَمْزَم وبئر مَيْمُون، وهما بِمَكَّة.

30

وَقَوله: {فَمن يأتيكم بِمَاء معِين} قَالَ ثَعْلَب: أَي ظَاهر. وَهُوَ مَنْقُول عَن الْحسن وَقَتَادَة وَمُجاهد وَغَيرهم. وَيُقَال: بِمَاء عذب، وَيُقَال: بِمَاء جَار. يَعْنِي: أَن الله هُوَ الْقَادِر أَن يَأْتِي بِهِ، وَلَا تصلونَ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِكُمْ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم تَفْسِير سُورَة الْقَلَم وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين. وَعَن بَعضهم: أَن بَعْضهَا مَكِّيَّة، وَبَعضهَا مَدَنِيَّة.

القلم

قَوْله تَعَالَى: {ن} اخْتلف القَوْل فِيهِ؛ قَالَ مُجَاهِد: هِيَ السَّمَكَة الَّتِي عَلَيْهَا قَرَار الْأَرْضين. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن جَمِيع الْمِيَاه تنصب من شدقها. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه اسْم من أَسمَاء السُّورَة. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه حرف من حُرُوف التهجي. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن " الر " و " حم " و " ن " مَجْمُوع من اسْم الرَّحْمَن. وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن النُّون هِيَ الدواة، وَهُوَ قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَفِيه خبر مأثور بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله خلق أول مَا خلق الْقَلَم، ثمَّ خلق النُّون وَهِي الدواة، ثمَّ قَالَ للقلم: اكْتُبْ. فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ ! فَقَالَ: اكْتُبْ مَا يكون وَمَا كَانَ من عمل وَأجل ورزق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. فَكتب الْقَلَم وَختم الله على فيِّ الْقَلَم فَلم ينْطق، وَلَا ينْطق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ خلق الْعقل، وَقَالَ لَهُ: مَا خلقت خلقا أعجب إِلَيّ مِنْك، وَعِزَّتِي لأكملنك فِيمَن أَحْبَبْت، ولأنقصنك فِيمَن أبغضت، ثمَّ قَالَ النَّبِي: " أكمل النَّاس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بِطَاعَتِهِ، وأنقص النَّاس عقلا أطوعهم للشَّيْطَان وأعملهم بِطَاعَتِهِ ".

{ن والقلم وَمَا يسطرون (1) مَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بمجنون (2) وَإِن لَك لأجرا} . قَوْله {والقلم} فِي التَّفْسِير: أَنه خلق من نور، وَطوله مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض. وَفِي خبر عبَادَة بن الصَّامِت أَن النَّبِي قَالَ: " أول مَا خلق الله الْقَلَم وَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. فَقَالَ: وَمَا أكتب؟ قَالَ: مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الدواة والقلم، الْأَكْثَرُونَ أَنه الدواة والقلم الَّذِي كتب بِهِ الذّكر فِي السَّمَاء. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الدواة والقلم الَّذِي يكْتب بِهِ بَنو آدم. وَمعنى الْآيَة هُوَ الْقسم، وَللَّه أَن يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه. وَقَالَ قَتَادَة: لَوْلَا الْقَلَم مَا قَامَ لله دين، وَلَا كَانَ لِلْخلقِ عَيْش. وَقَوله: {وَمَا يسطرون} أَي: مَا يَكْتُبُونَ من أَعمال بني آدم يَعْنِي: الْمَلَائِكَة. وَحكى النقاش عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْكفَّار لَا يكْتب لَهُم حَسَنَات وَلَا سيئات، وَإِنَّمَا يكْتب ذَلِك للْمُؤْمِنين وَمَا يَفْعَلُونَ من الْحَسَنَات فِي الدُّنْيَا ويكافئون عَلَيْهَا، وَمَا يَفْعَلُونَ من السَّيِّئَات، فالشرك أعظم من ذَلِك كُله.

2

قَوْله تَعَالَى: {مَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بمجنون} هَذَا مَوضِع الْقسم، وَهُوَ جَوَاب لقَولهم على مَا حكى الله تَعَالَى عَنْهُم: {وَقَالُوا يَا أَيهَا الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر إِنَّك لمَجْنُون} . وَقَوله: {بِنِعْمَة رَبك} أَي: برحمة رَبك. وَيُقَال: بإنعامه عَلَيْك، كَأَنَّهُ نفى عَنهُ الْجُنُون بِمَا أنعم الله عَلَيْهِ، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: أَنْت عَاقل أَو غَنِي بِنِعْمَة الله عَلَيْك.

3

وَقَوله: {وَإِن لَك لأجرا غير ممنون} أَي: غير مُنْقَطع. وَيُقَال: غير مَحْسُوب. وَيُقَال: غير ممتن بِهِ عَلَيْك.

{غير ممنون (3) وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم (4) } .

4

وَقَوله: {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} أَي: على الْخلق الَّذِي أدبك الله بِهِ مِمَّا نزل بِهِ الْقُرْآن من الْإِحْسَان إِلَى النَّاس، وَالْعَفو، والتجاوز، وصلَة الْأَرْحَام، وَإِعْطَاء النصفة، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وَمَا أشبه ذَلِك. وَفِي حَدِيث سعد بن هِشَام أَنه سَأَلَ عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - عَن خلق النَّبِي فَقَالَت: " كَانَ خلقه الْقُرْآن ". أَي: كَانَ مُوَافقا لما نزل بِهِ الْقُرْآن. وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا قَالَت: " لم يكن رَسُول الله فحاشا وَلَا متفحشا، وَلَا يُجزئ السَّيئَة بِمِثْلِهَا، وَلَكِن يعْفُو ويصفح ". وَقَالَ السّديّ: وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم أَي: على الْإِسْلَام. وَقَالَ زيد بن أسلم: على دين عَظِيم، وَهُوَ الدّين الَّذِي رضيه الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة، وَهُوَ أحب الْأَدْيَان إِلَى الله تَعَالَى. وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى خلق مائَة وَسَبْعَة عشر خلقا، فَمن جَاءَ بِوَاحِدَة مِنْهَا دخل الْجنَّة ". وَعنهُ أَنه قَالَ: " بعثت لأتمم مصَالح

{فستبصر ويبصرون (5) بأيكم الْمفْتُون (6) } . الْأَخْلَاق ". وَقيل: على خلق عَظِيم أَي: طبع كريم.

5

قَوْله: {فستبصر ويبصرون بأيكم الْمفْتُون} وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة الْبَاء صلَة. وَمَعْنَاهُ: أَيّكُم الْمفْتُون، وَأنْشد شعرًا: (نضرب بِالسَّيْفِ ونرجوا بالفرج ... ) أَي: الْفرج. وَأما الْفراء والزجاج وَسَائِر النَّحْوِيين لم يرْضوا هَذَا القَوْل، وَذكروا قَوْلَيْنِ آخَرين: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {بأيكم الْمفْتُون} أَي: بأيكم الْفِتْنَة يُقَال: مَا لفُلَان مَعْقُول وَلَا مجلود أَي: عقل وَلَا جلد. وَالْقَوْل الثَّانِي: بأيكم الْمفْتُون أَي: فِي أَيّكُم الْمفْتُون (يَعْنِي) : فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا رَسُول الله وَأَصْحَابه، أَو فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا أَبُو جهل وذووه. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ تبصرون يَوْم الْقِيَامَة، وتعلمون أَن الْمَجْنُون كَانَ فِيكُم، لَا فِي رَسُول الله وَأَصْحَابه أَي: فِي الْفرْقَة الَّتِي فِيهَا رَسُول الله وَأَصْحَابه. وَذكر النّحاس قَوْلَيْنِ أَيْضا قَالَ: معنى قَوْله {بأيكم الْمفْتُون} أَي: بأيكم فتْنَة الْمفْتُون مثل قَوْله

{إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين (7) فَلَا تُطِع المكذبين (8) ودوا لَو تدهن فيدهنون (9) وَلَا تُطِع كل حلاف مهين (10) هماز مشاء} . تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة.

7

قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين} ظَاهر الْمَعْنى.

8

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تُطِع المكذبين} يَعْنِي: المكذبين بآيَات الله.

9

وَقَوله: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} أَي: تضعف فِي أَمرك فيضعفون، أَو تلين لَهُم فيلينون. والمداهنة معاشرة فِي الظَّاهِر، ومحالمة من غير مُوَافقَة الْبَاطِن. وَقَالَ القتيبي فِي معنى الْآيَة: إِن الْكفَّار قَالُوا للنَّبِي نعْبد مَعَك إلهك مُدَّة، وَتعبد مَعنا إلهنا مُدَّة، فَهُوَ معنى قَوْله: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} أَي: تميل إِلَى مُرَادهم فيميلون إِلَى مرادك.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع كل حلاف مهين} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة. وَعَن مُجَاهِد: هُوَ الْأسود بن عبد يَغُوث. وَعَن بَعضهم: هُوَ الْأَخْنَس بن شريق. وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم. وَقَوله: {كل حلاف} أَي: كثير الْحلف. وَقَوله: {مهين} أَي: حقير، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: قلَّة الرَّأْي والتمييز.

11

وَقَوله: {هماز} أَي: (عتاب) مغتاب طعان فِي النَّاس. وَقَوله: {مشاء بنميم} أَي: بالنميمة، وَهُوَ نقل الحَدِيث من قوم إِلَى قوم. وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة حُذَيْفَة أَنه قَالَ: " لَا يدْخل الْجنَّة قَتَّات) أَي: نمام. وَعنهُ

{بنميم (11) مناع للخير مُعْتَد أثيم (12) عتل} . عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه قَالَ: " شرار النَّاس المشاءون بالنميمة الباغون للبراء الْعَنَت ". وَعَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: يفْسد النمام فِي يَوْم مَا لَا يُفْسِدهُ السَّاحر فِي شهر.

12

وَقَوله: {مناع للخير} أَي: بخيل: وَيُقَال: مناع من الْإِسْلَام. وَكَانَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ لِبَنِيهِ وَأَهله: من أسلم مِنْكُم قطعت مِنْهُ رفدي ورفقي. وَقَوله: {مُعْتَد} أَي: متجاوز فِي الظُّلم. وَقَوله: {أثيم} أَي: كثير الْإِثْم.

13

قَوْله: {عتل} أَي: الْفَاحِش الْخلق. وَقيل: الجافي الغليظ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: من يعْمل السوء وَيعرف بِهِ. أوردهُ النقاش. وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا أنبئكم بِأَهْل النَّار؟ كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بِاللَّيْلِ حمَار بِالنَّهَارِ، وعالم بالدنيا جَاهِل بِالآخِرَة ". فَمَعْنَى الجعظري: هُوَ الأكول الشروب الظلوم، وَهُوَ كالعتل. والجواظ: هُوَ الْجِمَاع المناع، ذكره شَدَّاد بن أَوْس، وَقَالَ ثَعْلَب: الجواظ: هُوَ الْكثير اللَّحْم المختال فِي مشيته. وَيُقَال: فلَان جظ، أَي: ضخم.

{بعد ذَلِك زنيم (13) أَن كَانَ ذَا مَال وبنين (14) إِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين (15) سنسمه على الخرطوم (16) إِنَّا بلوناهم} وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار أَن النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - قَالَ: " تبْكي السَّمَاء من عبد أصح الله جِسْمه، وأرحب جَوْفه، وَأَعْطَاهُ مقضما ثمَّ يكون ظلوما، وتبكي السَّمَاء من شيخ زَان، وتكاد الأَرْض لَا تقله ". وَقَوله: {بعد ذَلِك زنيم} أَي: دعِي. وَقيل: ملصق بالقوم وَلَيْسَ مِنْهُم. وَيُقَال: الَّذِي لَهُ زنمة فِي الشَّرّ يعرف بهَا مثل زنمة الشَّاة. قَالَ حسان فِي الزنيم: (زنيم تداعاه الرِّجَال زِيَادَة ... كَمَا زيد فِي عرض الْأَدِيم الأكاريع)

14

قَوْله تَعَالَى: {أَن كَانَ ذَا مَال وبنين} وَقُرِئَ: " أأن كَانَ ". فَقَوله: {أَن} أَي: لِأَن كَانَ ذَا مَال وبنين يفعل كَذَا وَيَقُول كَذَا أَي: لأجل أَنه. وَقَوله: " أأن كَانَ " أَي: وَلَا تطعه، وَإِن كَانَ ذَا مَال وبنين.

15

وَقَوله: {إِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين} قد بَينا. والأساطير وَاحِدهَا أسطورة. وَقَالَ الْكسَائي: ترهات من الْكَلَام لَا نظام لَهَا.

16

وَقَوله تَعَالَى: {سنسمه على الخرطوم} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة والمبرد وَغَيرهمَا: الخرطوم: الْأنف. وَمَعْنَاهُ: يَجْعَل على أَنفه سمة يعرف بهَا أَنه من أهل النَّار. قَالَ جرير: (لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعَلى البعيث جدعت أنف الأخطل) وَيُقَال: معنى قَوْله: {سنسمه على الخرطوم} أَي: سنسود وَجهه، (وَوصف) الْأنف مَوضِع الْوَجْه لِأَنَّهُ مِنْهُ. وَقيل: يلصق بِهِ عارا ومسبة وشيئا لَا يُفَارِقهُ أبدا.

17

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا بلوناهم} أَي: أهل مَكَّة، وَذَلِكَ حِين دَعَا رَسُول الله

{كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة إِذْ أَقْسمُوا ليصرمنها مصبحين (17) وَلَا يستثنون (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طائف من رَبك وهم نائمون (19) } وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كسنى يُوسُف؛ فَأَصَابَهُمْ الْجُوع حَتَّى أكلُوا العلهز وَالْعِظَام الْمُحْتَرِقَة ". وَقَوله: {كَمَا بلونا أَصْحَاب الْجنَّة} فِي أَكثر التفاسير أَن هَذَا رجل شيخ بِالْيمن كَانَ لَهُ بنُون، وَله بُسْتَان يتَصَدَّق مِنْهُ على الْمَسَاكِين، وَينْفق مِنْهُ على نَفسه وَأَوْلَاده. وَيُقَال: كَانَ يتَصَدَّق بِالثُّلثِ، وَينْفق على نَفسه وَأَوْلَاده الثُّلُث، وَيرد الثُّلُث فِي عمَارَة الْجنَّة، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخ قَالَ بنوه: الْعِيَال كثير، والدخل قَلِيل وَلَا يَفِي بِإِعْطَاء الْمَسَاكِين، فتوافقوا على أَن يذهبوا إِلَى الْبُسْتَان حِين يُصْبِحُونَ على سدفة من اللَّيْل، فيصرموا ويقطعوا قبل أَن يعلم الْمَسَاكِين. وَكَانَ الْمَسَاكِين قد اعتادوا الْحُضُور عِنْد الْجذاذ والصرام؛ فحين اتَّفقُوا على ذَلِك أرسل الله تَعَالَى نَارا من السَّمَاء فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَاحْتَرَقَ الْبُسْتَان وَالْأَشْجَار، وَيُقَال: إِن هَذَا الرجل هُوَ رجل من ثَقِيف. وَقَوله: {إِذا أَقْسمُوا} أَي: حلفوا. وَقَوله: {ليصرمنها مصبحين} أَي: يقطعون فِي الْوَقْت الَّذِي قُلْنَا.

18

وَقَوله: {وَلَا يستثنون} أَي: لم يَقُولُوا: إِن شَاءَ الله.

19

وَقَوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طائف من رَبك} أَي: طرق طَارق من الْعَذَاب، وَهِي النَّار الَّتِي أرسلها الله تَعَالَى. وَالْعرب لَا تسْتَعْمل الطَّائِف إِلَّا فِي الْعَذَاب. وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى أَمر ملكا حَتَّى اقتلع تِلْكَ الْجنَّة بأشجارها وغروسها فوضعها فِي مَوضِع الطَّائِف الْيَوْم. وَقَوله: {وهم نائمون} ذكرنَا.

{فَأَصْبَحت كالصريم (20) فَتَنَادَوْا مصبحين (21) أَن اغدوا على حَرْثكُمْ إِن كُنْتُم صارمين (22) فَانْطَلقُوا وهم يتخافتون (23) أَن لَا يدخلنها الْيَوْم عَلَيْكُم مِسْكين (24) } .

20

قَوْله: {فَأَصْبَحت كالصريم} أَي: كالليل المظلم. وَيُقَال: كالنهار الَّذِي لَا شَيْء فِيهِ. وَالْعرب تسمي العامر من الأَرْض نَهَارا لبياضه، والغامر لَيْلًا لسواده وخضرته. والصريم من الأضداد، هُوَ اسْم لِليْل وَالنَّهَار جَمِيعًا؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يقطع عَن صَاحبه. وَيُقَال: كالصريم أَي: المصروم فَاعل بِمَعْنى مفعول يَعْنِي: أَنه لم يبْق شَيْء فِيهَا.

21

وَقَوله: {فَتَنَادَوْا مصبحين} أَي: نَادَى بَعضهم بَعْضًا عِنْد الصَّباح.

22

وَقَوله: {أَن اغدوا على حَرْثكُمْ} أَي: اقصدوا حَرْثكُمْ. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَت لَهُم حروث وأعناب. وَقَوله: {إِن كُنْتُم صارمين} أَي: قاطعين. يُقَال: فِي الْعِنَب الصرام، وَفِي الزَّرْع الْحَصاد. قَالَ الشَّاعِر: (غَدَوْت عَلَيْهِ غدْوَة فَوَجَدته ... قعُودا عَلَيْهِ بالصريم عواذله) والصريم هَا هُنَا: هُوَ الجرة السَّوْدَاء. وَقد ذكره ابْن فَارس فِي معنى الصريم الَّذِي ذَكرْنَاهُ من قبل. وَعَن ابْن جريج أَنه قَالَ: خرجت عنق من النَّار من جَوف وَادِيهمْ فأحرقت جنتهم. وَقَوله: {إِن كُنْتُم صارمين} قَالَ مُجَاهِد: المُرَاد مِنْهُ صرام الْعِنَب. وَكَانَ حرثهم الْعِنَب.

23

قَوْله: {فَانْطَلقُوا وهم يتخافتون} أَي: يَتَكَلَّمُونَ سرا وخفية، وَكَانَ كَلَامهم لَا يدخلنها الْيَوْم عَلَيْكُم مِسْكين أَي: لَا تتركوا الْمَسَاكِين [يدْخلُونَ] عَلَيْكُم.

{وغدوا على حرد قَادِرين (25) فَلَمَّا رأوها قَالُوا إِنَّا لضالون (26) بل نَحن محرومون (27) قَالَ أوسطهم ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبنَا إِن كُنَّا ظالمين} .

25

وَقَوله: {وغدوا على حرد قَادِرين} أشهر الْأَقَاوِيل أَن مَعْنَاهُ: على حسد، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَمُجاهد وَالْحسن وَجَمَاعَة. وَعَن الشّعبِيّ وسُفْيَان أَنَّهُمَا قَالَا: على غضب. أَي: على الْمَسَاكِين. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " على حرد " أَي: على منع. يُقَال: حاردت السّنة فَلَيْسَ فِيهَا مطر، وحاردت النَّاقة إِذا لم يكن بهَا لبن. وَمعنى الْمَنْع هُوَ مَا عقدوه من منع الْمَسَاكِين. وَعَن الْحسن فِي رِوَايَة: على حرص. وَقيل: على قصد. قَالَ الشَّاعِر: (أقبل سيل جَاءَ من أَمر الله ... يحرد حرد الْجنَّة المغلة) أَي: يقْصد. وَعَن السّديّ: أَن الحرد اسْم جنتهم. وَقَوله: {قَادِرين} أَي: قَادِرين عِنْد أنفسهم على الصرام. وَقيل: " قَادِرين " أَي: على أَمر أسسوه بَينهم.

26

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رأوها قَالُوا إِنَّا لضالون} يَعْنِي: أَنهم لما رَأَوْا مَوضِع الْجنَّة وَلَيْسَ فِيهَا شجر وَلَا نَبَات قَالُوا: إِنَّا لضالون أَي: أَخْطَأنَا طَرِيق جنتنا.

27

وَقَوله: {بل نَحن محرومون} مَعْنَاهُ: أَنهم تنبهوا على الْأَمر، وَعرفُوا أَنهم لم يخطئوا الطَّرِيق فَقَالُوا: بل نَحن محرومون أَي: نزل الْعَذَاب وحرمنا ثمار جنتنا.

28

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أوسطهم} أَي: خَيرهمْ وأعدلهم. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} أَي: عدلا خيارا. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: أعقلهم. وَقَوله: {ألم أقل لكم لَوْلَا تسبحون} أَي: هلا قُلْتُمْ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَوضع التَّسْبِيح هَا هُنَا مَوضِع الْمَشِيئَة؛ لِأَن التَّسْبِيح هُوَ تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن كل سوء. وَقَوله: إِن شَاءَ الله فِيهِ معنى التَّنْزِيه، وَهُوَ أَنه لَا يملك أحد فعل شَيْء إِلَّا بِمَشِيئَة، فينزه أَن

( {29) فَأقبل بَعضهم على بعض يتلاومون (30) قَالُوا يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين (31) عَسى رَبنَا أَن يبدلنا خيرا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبنَا راغبون (32) كَذَلِك الْعَذَاب ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ (33) إِن لِلْمُتقين عِنْد رَبهم جنا النَّعيم (34) } . يكون شَيْء فِي ملكه إِلَّا أَن يُريدهُ. وَعَن عِكْرِمَة: أَنه كَانَ استثناؤهم هُوَ التَّسْبِيح يَعْنِي: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ مَكَان قَوْلنَا إِن شَاءَ الله: سُبْحَانَ الله.

29

وَقَوله: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} أَي: بِمَنْع الْمَسَاكِين.

30

وَقَوله: {فَأقبل بَعضهم على بعض يتلاومون} أَي: يلوم بَعضهم بَعْضًا، فَيَقُول هَذَا لذاك: أَنْت فعلت والذنب لَك، وَيَقُول ذَلِك لصَاحبه مثله.

31

وَقَوله: {قَالُوا يَا ويلنا} دعوا بِالْوَيْلِ على أنفسهم. وَقَوله: {إِنَّا طنا طاغين} أَي: ظالمين.

32

وَقَوله: {عَسى رَبنَا أَن يبدلنا خيرا مِنْهَا} هَذَا إِخْبَار عَن تَوْبَتهمْ وندامتهم، وسؤالهم من الله تَعَالَى أَن يبدلهم بجنتهم خيرا مِنْهَا فيعطوا حق الْمَسَاكِين. وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى قبل تَوْبَتهمْ وَأَعْطَاهُمْ جنَّة خيرا مِنْهَا. وَالله أعلم. وَقَوله: {إِنَّا إِلَى رَبنَا راغبون} أَي: بسؤالنا.

33

وَقَوله: {كَذَلِك الْعَذَاب} أَي: كَذَلِك عَذَاب الدُّنْيَا. وَقَوله: {ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ} أَي: عَذَاب الْآخِرَة. وَيُقَال: كَمَا عذبنا هَؤُلَاءِ وأنزلنا بهم، كَذَلِك نعذب قُريْشًا وننزله بهم. وروى فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى أنزل الْعَذَاب بهم يَوْم بدر، فَإِنَّهُم لما خَرجُوا إِلَى بدر قَالُوا: لنقتلنهم ولنقتلن مُحَمَّدًا ولنأسرنهم، وَنَرْجِع إِلَى مَكَّة فنطوف بِالْبَيْتِ ونحلق رءوسنا، وَنَشْرَب الْخمر، وتعزف على رءوسنا القيان، وحلفوا على ذَلِك، فأخلف الله ظنهم وَنزل بهم مَا نزل من الْقَتْل والأسر.

34

قَوْله تَعَالَى: {إِن لِلْمُتقين عِنْد رَبهم جنَّات النَّعيم} لما ذكر عَذَاب الْكفَّار وَمَا ينزله بهم ذكر مَا وعده للْمُؤْمِنين من هَذِه الْآيَة؛ فروى أَن عتبَة بن ربيعَة قَالَ لما نزلت

{أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين (35) مَا لكم كَيفَ تحكمون (36) أم لكم كتاب فِيهِ تدرسون (37) إِن لكم فِيهِ لما تخيرون (38) أم لكم أَيْمَان علينا بَالِغَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِن لكم لما تحكمون (39) سلهم أَيهمْ بذلك زعيم (40) أم لَهُم شُرَكَاء} . هَذِه الْآيَة: لَئِن أَعْطَاكُم الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة جنَّات النَّعيم فيعطينا مثل مَا يعطيكم أَو خيرا مِنْهَا،

35

فَأنْزل الله تَعَالَى: {أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين} [أَي] : نسوي بَين الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فِي إِعْطَاء جنَّات النَّعيم، وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق الْإِنْكَار أَي: لَا يفعل كَذَلِك.

36

وَقَوله: {مَا لكم كَيفَ تحكمون} أَي: كَيفَ تقضون؟ وَالْمرَاد من الحكم هُوَ حكمهم فِي أنفسهم بِالْجنَّةِ.

37

وَقَوله: {أم لكم كتاب فِيهِ تدرسون} أَي: تدرسون مَا تحكمون بِهِ. وَقيل: ترددون النّظر فِيهِ، فتحكمون مِنْهُ لأنفسكم مَا حكمتم.

38

وَقَوله: {إِن لكم فِيهِ لما تخيرون} أَي: تختارون، وَهُوَ بَيَان لذَلِك الحكم.

39

وَقَوله تَعَالَى: {أم لكم أَيْمَان علينا بَالِغَة} أَي: مُؤَكدَة، وَمعنى الْبَالِغَة فِي كَلَام الْعَرَب فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع: هُوَ بُلُوغ النِّهَايَة، يُقَال: هَذَا شَيْء جيد بَالغ، أَي: بلغ النِّهَايَة فِي الْجَوْدَة. وَقَوله: {إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} يَعْنِي: اللُّزُوم والثبات، وَقيل: ألكم أَيْمَان مُؤَكدَة أَلا نعذبكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {إِن لكم لما تحكمون} تَفْسِير لما وَقع عَلَيْهِ الْيَمين.

40

وَقَوله: {سلهم أَيهمْ بذلك زعيم} أَي: كَفِيل.

41

وَقَوله: {أم لَهُم شُرَكَاء} هَذَا على توسع الْكَلَام. وَمَعْنَاهُ: عِنْدهم وَفِي زعمهم. وَقيل: أم بِهَذَا شهد الشُّرَكَاء بِمَعْنى الشُّهَدَاء، ذكره النقاش.

{فليأتوا بشركائهم إِن كَانُوا صَادِقين (41) يَوْم يكْشف عَن سَاق} . وَقَوله: {فليأتوا بشركائهم إِن كَانُوا صَادِقين} أَي: بشركاء فيهم على زعمهم على القَوْل الأول، وعَلى القَوْل الثَّانِي بشهاداتهم إِن كَانُوا صَادِقين.

42

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يكْشف عَن سَاق} قَالَ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: عَن الْأَمر الشَّديد، وَفِي هَذِه الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِذا أشكل عَلَيْكُم الْقُرْآن فالتمسوه فِي الشّعْر، فَإِنَّهُ ديوَان الْعَرَب، وَأنْشد: (وَقَامَت الْحَرْب بِنَا على سَاق ... ) وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت الْعَرَب إِذا اشْتَدَّ بهم الْأَمر عبروا بِهَذَا اللَّفْظ؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا وَقع لَهُ الْأَمر وَأَخذه بجد وَجهد يَقُول: شمر عَن سَاقه، فَوضعت السَّاق مَوضِع الشدَّة. قَالَ الشَّاعِر: (أَخُو الْحَرْب إِن عضت بِهِ الْحَرْب عضها ... وَإِن شمرت عَن سَاقهَا الْحَرْب شمرا) وَقَالَ دُرَيْد بن الصمَّة: (كميش الْإِزَار خَارج نصف سَاقه ... صبور على العوراء (طلاع) أنجد) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن ابْن عَبَّاس: يَوْم يكْشف عَن سَاق أَي: عَن هول وكربة وَشدَّة، وَهُوَ بِمَعْنى الأول. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ أول سَاعَة من سَاعَات الْقِيَامَة، وَهِي أفظعها وأشدها على النَّاس. هَذَا كُله قَول وَاحِد. وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يكْشف رَبنَا عَن سَاقه فَيسْجد كل مُؤمن ومؤمنة، وَيذْهب المُنَافِقُونَ ليسجدوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ". وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ نَحوا من هَذَا. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: يَوْم يكْشف عَن سَاق أَي: السّتْر بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَيُقَال: الغطاء بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ومعناهما قريب.

{وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وهم سَالِمُونَ (43) } وَقَوله: {وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} أَي: لَا يَسْتَطِيع المُنَافِقُونَ: السُّجُود. وَفِي الْخَبَر: فيعقم أصلابهم أَي أصلاب الْمُنَافِقين وَقَوله: يعقم أَي: يصير طبقًا وَاحِدًا. وَفِي رِوَايَة: تصير كسفا قيد الْحَدِيد. وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مثل لكل قوم مَا كَانَ [يعبدونه] فِي الدُّنْيَا فيتبعونه، وَيبقى أهل التَّوْحِيد فَيُقَال لَهُم: قد ذهب النَّاس فَمَاذَا تنتظرون؟ فَيَقُولُونَ: إِن لنا رَبًّا كُنَّا نعبده. فَيُقَال لَهُم: هَل تعرفونه لَو رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نعم. فَيُقَال [لَهُم] : كَيفَ تعرفونه وَلم تروه؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّه لَا شبه لَهُ. فَيكْشف لَهُم الْحجاب فَيسْجد كل مُؤمن ومؤمنة، وَيبقى المُنَافِقُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُود، وَتصير ظُهُورهمْ كصياص الْبَقر. فَيَقُول الله تَعَالَى للْمُؤْمِنين: ارْفَعُوا رءوسكم فقد جعلت بدل كل رجل [مِنْكُم رجلا] من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي النَّار ".

43

وَقَوله: {خاشعة أَبْصَارهم} أَي: ذليلة أَبْصَارهم، وَالْمرَاد مِنْهُ ذل الندامة وَالْحَسْرَة. وَقَوله: {ترهقهم ذلة} أَي: يَغْشَاهُم الذل والهوان. وَقَوله: {وَقد كَانُوا يدعونَ إِلَى السُّجُود وَهُوَ سَالِمُونَ} أَي: يدعونَ إِلَى صَلَاة الْجَمَاعَة وهم سَالِمُونَ أَي: معافون، والآن السُّجُود لَهُم (مهيات) .

{فذرني وَمن يكذب بِهَذَا الحَدِيث سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ (44) وأملي لَهُم إِن كيدي متين (45) } . وَظَاهر الْآيَة أَن مَعْنَاهَا السُّجُود فِي الصَّلَاة. وَعَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: هُوَ الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: يدعونَ إِلَى السُّجُود بحي على الْفَلاح وهم سَالِمُونَ فَلَا يجيبون.

44

قَوْله تَعَالَى: {فذرني وَمن يكذب بِهَذَا الحَدِيث} أَي: خَلِّنِي وإياه وَكله إِلَيّ لأجازيه بِعَمَلِهِ. وَقيل ذَرْنِي أَي: لَا تشغل قَلْبك بِهِ، وَدعنِي وإياه فَإِنِّي مجازيه ومكافئه، وَهُوَ بِمَعْنى الأول. وَالْعرب تَقول مثل هَذَا القَوْل، وَإِن لم يكن هُنَاكَ أحد يمنعهُ مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِر: (ذَرِينِي والثعلب أم سعد ... تُقِلني الأَرْض (أَو بَيْتك) أمالا) وَقَوله: {سنستدرجهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ} الاستدراج فِي كَلَام الْعَرَب هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَمِنْه درج الصَّبِي إِذا مَشى قَلِيلا قَلِيلا. وروى عبد الرَّحْمَن بن دَاوُد الْخُرَيْبِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ: الاستدراج هُوَ إسباغ النعم، وَمنع الشُّكْر. وَقيل: هُوَ أَنه كلما جدد ذَنبا جدد الله لَهُ نعْمَة. وَعَن عقبَة بن مُسلم قَالَ: إِذا كَانَ العَبْد على مَعْصِيّة الله ثمَّ أعطَاهُ الله مَا يحب، فَليعلم أَنه فِي اسْتِدْرَاج. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: كم من مستدرج يحسن الثَّنَاء عَلَيْهِ، ومغرور يستر الله عَلَيْهِ. (وَقيل) : سنستدرجهم أَي: نمكر بهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ.

45

وَقَوله: {وأملي لَهُم} أَي: أمهلهم وَلَا أباغتهم جَهرا، بل آخذهم وأمكر بهم قَلِيلا قَلِيلا. وَقد بَينا معنى الْإِمْهَال والإملاء من قبل. وَقَوله: {إِن كيدي متين} أَي: شَدِيد.

{أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون (46) أم عِنْدهم الْغَيْب فهم يَكْتُبُونَ (47) فاصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم (48) لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم (49) فاجتباه ربه فَجعله من الصَّالِحين (59) وَإِن يكَاد الَّذين كفرُوا ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ} .

46

قَوْله تَعَالَى: {أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون} أَي: أجرا على تَبْلِيغ الرسَالَة فهم من الْغرم مثقلون.

47

وَقَوله: {أم عِنْدهم الْغَيْب فهم يَكْتُبُونَ} أَي: عِنْدهم اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَسَماهُ غيبا لِأَنَّهُ كتب فِيهِ مَا غَابَ عَن الْعباد. وَقَوله: {فهم يَكْتُبُونَ} أَي: يَكْتُبُونَ مِنْهُ مَا يحكمون لأَنْفُسِهِمْ وَيَقَع بشهواتهم.

48

قَوْله تَعَالَى: {فاصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} أَي: فِي الضجر وَترك الصَّبْر. وَيُقَال: لَا تغاضب كَمَا غاضب صَاحب الْحُوت، وَهُوَ ذُو النُّون، واسْمه يُونُس بن مَتى صلوَات الله عَلَيْهِ. وَقَوله: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مكظوم} أَي: مَمْلُوء كربا وغما. وَيُقَال: كظم الْبَعِير بجرته إِذا حَبسهَا، وَالْمعْنَى: أَنه لم يجد للغم الَّذِي فِي قلبه نفاذا ومساغا فكظم عَلَيْهِ أَي: حَبسه.

49

وَقَوله: {لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه} أَي: رَحْمَة من ربه. وَقَوله: {لنبذ بالعراء} العراء هُوَ وَجه الأَرْض. وَيُقَال: الْمَكَان الْخَالِي البارز. وَقَوله: {وَهُوَ مَذْمُوم} أَي: نبذ غير مَذْمُوم، وَلَوْلَا رَحْمَة ربه لَكَانَ مذموما.

50

قَوْله تَعَالَى: {فاجتباه ربه} أَي: اصطفاه وَاخْتَارَهُ. وَقَوله تَعَالَى: {فَجعله من الصَّالِحين} أَي: من عباده الصَّالِحين. وَقد ذكرنَا قصَّته من قبل.

51

قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يكَاد الَّذين كفرُوا ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ} قَرَأَ ابْن عَبَّاس:

{لما سمعُوا الذّكر وَيَقُولُونَ إِنَّه لمَجْنُون (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (52) . " ليزهقونك بِأَبْصَارِهِمْ " والزلق هُوَ السُّقُوط، والإزلاق: الْإِسْقَاط. وَفِي الْآيَة قَولَانِ معروفان: أَحدهمَا: ليزلقونك بِأَبْصَارِهِمْ أَي: يعتانونك، وَمَعْنَاهُ: يصيبونك بأعينهم. ذكره الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَغَيرهمَا، وَذكره الْفراء أَيْضا فِي كِتَابه. وروى أَن الرجل من الْعَرَب كَانَ يجوع نَفسه ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ يخرج فتمر عَلَيْهِ إبل جَاره أَو غنمه فَيَقُول: مَا أحْسنهَا، وَمَا أعظمها، وَمَا أسمنها وَمثل هَذَا؛ فَيسْقط (مِنْهَا} الْعدة فتهلك. وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذَا كَانَ فِي بني أَسد من الْعَرَب وَكَانَ الرجل يعتان إبل الْوَاحِد مِنْهُم أَو الْغنم، ثمَّ يَقُول لغلامه: اذْهَبْ بمكتل وَدِرْهَم لتأْخذ لنا من لَحْمه، وَكَانَ يتَيَقَّن أَنه يسْقط فينحر. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة - وَهُوَ أحسن الْقَوْلَيْنِ - أَن المُرَاد مِنْهَا هُوَ أَنهم ينظرُونَ إِلَيْك نظر الْبغضَاء والعداوة فيكادون من شدَّة نظرهم أَي: يصرعونك ويسقطونك، وَهَذَا على مَذْهَب كَلَام الْعَرَب. تَقول الْعَرَب: نظر فلَان نظرا يكَاد يصرعه أَو يَأْكُلهُ، أَو ينظر إِلَيّ فلَان نظرا يكَاد يصرعني أَو يكَاد يأكلني بِهِ أَي: لَو أمكنه أَن يصرعني بِهِ يصرعني أَو يأكلني بِهِ لأكلني. وَهَذَا اخْتِيَار الزّجاج وَغَيره من أهل الْمعَانِي. وأنشدوا: (يتلاحظون إِذا الْتَقَوْا فِي موطن ... نظرا يزِيل (مَوَاطِن) الْأَقْدَام) وَقَوله: {لما سمعُوا الذّكر} أَي: الْقُرْآن وَكَانَت عداوتهم وبغضاؤهم تشتد إِذا سَمِعُوهُ يقْرَأ الْقُرْآن. وَقَوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّه لمَجْنُون} اسْم سموهُ بِهِ.

52

وَقَوله: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: شرف للْعَالمين، وَهُوَ كِنَايَة عَن الرَّسُول. وَالْأَظْهَر أَن الْقُرْآن ذكر للْعَالمين. وَقيل: الرَّسُول مُذَكّر للْعَالمين، وَقد بَينا معنى الْعَالمين من قبل.

تَفْسِير سُورَة الحاقة وَهِي مَكِّيَّة وَذكر النقاش فِي كِتَابه بروايته أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: تعرضت لرَسُول الله قبل أَن أسلم - فمضيت إِلَى الْمَسْجِد فَوَجَدته قد سبقني إِلَيْهِ، وَقَامَ يُصَلِّي فَقُمْت خَلفه - فَقَرَأَ سُورَة الحاقة، فَجعلت أتعجب من تأليف الْقُرْآن، وَأَقُول: هُوَ شَاعِر كَمَا يَقُوله قُرَيْش حَتَّى بلغ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم مَا هُوَ بقول شَاعِر} إِلَى آخر السُّورَة، فَعلمت أَنه لَيْسَ بشاعر، وَوَقع الْإِسْلَام فِي قلبِي.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {الحاقة (1) مَا الحاقة (2) وَمَا أَدْرَاك مَا الحاقة (3) كذبت ثَمُود وَعَاد بالقارعة (4) فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية (5) } .

الحاقة

قَوْله تَعَالَى {الحاقة مَا الحاقة} هِيَ اسْم للقيامة. وَسميت الْقِيَامَة حاقة؛ لِأَن فِيهَا حواق الْأُمُور، أَي: حقائقها. وَيُقَال: لِأَنَّهَا حققت على كل إِنْسَان عمله من خير وَشر، وَتظهر جزاءه من الثَّوَاب وَالْعِقَاب. قَالَ الْأَزْهَرِي: سميت حاقة؛ لِأَنَّهَا تحق الْكفَّار الَّذين حاقوا الْأَنْبِيَاء فِي الدُّنْيَا إنكارا لَهَا. تَقول الْعَرَب: حاققت فلَانا فحققته، أَي خاصمته فَخَصمته. وَقَوله: {مَا الحاقة} مَذْكُور على وَجه التَّعْظِيم والتفخيم. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فدع عَنْك نهبا صِيحَ فِي حجراته ... وَلَكِن حَدِيث مَا حَدِيث الرَّوَاحِل) فَمَا للاستفهام، وَهُوَ مَذْكُور فِي هَذَا الْموضع لتعظيم أَمر الرَّوَاحِل. كَذَلِك هَاهُنَا.

3

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الحاقة} قَالَ ابْن عَبَّاس: كل مَا قَالَ " أَدْرَاك " فقد أعلم النَّبِي، وَمَا قَالَ: " وَمَا يدْريك " فَلم يُعلمهُ. وَهُوَ مَذْكُور أَيْضا على طَرِيق التَّعْظِيم والتهويل. وَمثله قَول أبي النَّجْم شعرًا: (أَنا أَبُو النَّجْم وشعري شعري ... )

4

قَوْله تَعَالَى: {كذبت ثَمُود وَعَاد بالقارعة} القارعة اسْم للقيامة أَيْضا. قَالَ الْمبرد: سميت الْقِيَامَة قَارِعَة؛ لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب، وتهجم عَلَيْهَا بالشدة وَالْكرب.

5

وَقَوله: {فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية} قَالَ مُجَاهِد: بطغيانهم، وَهُوَ قَول أبي

{وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة (6) سخرها عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية (7) فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة (8) } . عُبَيْدَة أَيْضا. وَيُقَال: بالطاغية أَي: بالصيحة. (وَقيل) : بالرجفة. وسمى الصَّيْحَة طاغية؛ لِأَنَّهَا زَادَت على الْمِقْدَار الَّذِي تُطِيقهُ الأسماع.

6

وَقَوله: {وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر} أَي: ذَات برد شَدِيد. وعَلى هَذَا القَوْل أَخذ من الصر وَهُوَ الْبرد. وَقيل [هِيَ] ذَات صَيْحَة. وعَلى هَذَا مَأْخُوذ من الصرة وَهِي الصَّيْحَة. وَقَوله {عَاتِيَة} أَي: عَتَتْ على خزانها. قَالَ قبيصَة بن ذُؤَيْب. لم يُرْسل الله ريحًا إِلَّا بِقدر مَعْلُوم غير الرّيح الَّتِي أرسلها على عَاد، فَإِنَّهَا خرجت بِغَيْر قدر مَعْلُوم غَضبا بغضب الله تَعَالَى. وَقد روى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس. وَيُقَال: سمى هَذِه الرّيح عَاتِيَة؛ لِأَنَّهَا جَاوَزت الْمِقْدَار.

7

وَقَوله: {سخرها عَلَيْهِم} أَي: سلطها وأرسلها عَلَيْهِم {سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوما} أَي: متتابعة. وَقيل: مشائيم. وَيُقَال: سَمَّاهَا حسوما؛ لِأَنَّهَا قَتلتهمْ وأفنتهم، من الحسم وَهُوَ الْقطع. وَفِي التَّفْسِير: أَن ابتداءه كَانَ من غَدَاة يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَيُقَال: من غَدَاة يَوْم الْأَحَد. وَقَوله {فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى} أَي: صرعوا وصاروا {كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل} أَي أصُول نخل مُنْقَطِعَة عَن أماكنها. {خاوية} قَالَ الْأَزْهَرِي: سَمَّاهُ خاوية؛ لِأَنَّهَا إِذا (انقلعت) خلت أماكنها مِنْهَا.

8

وَقَوله {فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة} أَي: من نفس بَاقِيَة. وَيُقَال: من بَقَاء.

{وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله والمؤتفكات بالخاطئة (9) فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية (10) إِنَّا لما طغا المَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة (11) لنجعلها لكم تذكرة وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة (12) } .

9

قَوْله تَعَالَى: {وَجَاء فِرْعَوْن وَمن قبله} وَقُرِئَ: " وَمن قبله " أَي: الْأُمَم الَّذين كَانُوا قبله. وَقَوله: {والمؤتفكات} هِيَ قريات لوط. فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: وَأهل الْمُؤْتَفِكَات. وَقيل الْمُؤْتَفِكَات: هم قوم لوط؛ لِأَنَّهُ ائتفك بهم. وَقَوله: {بالخاطئة} أَي: بالْخَطَأ الْعَظِيم، أَي: بالذنب الْعَظِيم.

10

وَقَوله: {فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية} أَي: زَائِدَة على الأخذات. وَيُقَال: زَاد الْعَذَاب على قدر أَعْمَالهم.

11

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لما طَغى المَاء} قَالَ سعيد بن جُبَير: غضب بغضب الله فطغى. وَيُقَال: طَغى أَي: جَاوز الْمِقْدَار. فَيُقَال: إِنَّه زَاد كل شَيْء فِي الْعَالم خَمْسَة [أَذْرع] . وَقد قيل أَكثر من ذَلِك. وَقَوله: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة} أَي: السَّفِينَة، وَجَمعهَا الْجَوَارِي وَهِي السفن.

12

وَقَوله: {لنجعلها لكم تذكرة} أَي: عِبْرَة وعظة. قَالَ قَتَادَة: أدْرك أَوَائِل هَذِه الْأمة سفينة نوح، وَكم من السفن قد هَلَكت، وَلَكِن الله تَعَالَى أبقى هَذِه السَّفِينَة تذكرة لهَذِهِ الْأمة وعبرة لَهَا. وَيُقَال: جعلهَا لكم تذكرة، أَي: تَذكرُوا هَذِه الْقِصَّة فَتكون لكم وَلمن سَمعهَا عِبْرَة وعظة. وَقَوله تَعَالَى: {وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة} أَي: أذن عقلت أَمر الله وعملت بِهِ. وروى مَكْحُول أَن هَذِه الْآيَة لما نزلت قَالَ النَّبِي لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " سَأَلت الله أَن يَجْعَلهَا أُذُنك ". قَالَ عَليّ: فَمَا سَمِعت بعد ذَلِك شَيْئا فَنسيته.

{فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة وَاحِدَة (13) وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة (14) فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة (15) وانشقت السَّمَاء فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية (16) وَالْملك على أرجائها وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة (17) يَوْمئِذٍ} .

13

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا نفخ فِي الصُّور} قد بَينا معنى الصُّور. وَقَوله: {نفخة وَاحِدَة} أَي: النفخة الأولى. وَقَوله: {وَاحِدَة} أَي: لَيست لَهَا مثنوية.

14

وَقَوله تَعَالَى: {وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة} أَي: زلزلتا زَلْزَلَة وَاحِدَة. وَيُقَال: فتتا فتة وَاحِدَة. وَقيل: ضرب أَحدهمَا بِالْآخرِ فانهدمتا وهلكتا.

15

وَقَوله: {فَيَوْمئِذٍ وَقعت الْوَاقِعَة} أَي: قَامَت الْقِيَامَة.

16

وَقَوله: {وانشقت السَّمَاء فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية} أَي: ضَعِيفَة. قَالَ عَليّ بن أبي طَالب: تَنْشَق من المجرة. يُقَال: شقا واه أَي: ضَعِيف متخرق. وَمن أمثالهم: (خل سَبِيل من وهى شقاؤه ... وَمن هريق بالفلاة مَاؤُهُ) وَقيل: فَهِيَ يَوْمئِذٍ واهية، أَي: منشقة منخرقة، لِأَن مَا وهى ينشق ويتخرق.

17

وَقَوله: {وَالْملك على أرجائها} أَي: على أطرافها. قَالَ الْكسَائي: على حافتها. وَقيل: على (مَوَاضِع) شقوقها ينظرُونَ إِلَى الدُّنْيَا. وَقَوله: {وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة يَوْمئِذٍ تعرضون} قيل: ثَمَانِيَة صُفُوف من الْمَلَائِكَة. وَفِي جَامع أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِرِوَايَة الْأَحْنَف بن قيس عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَن النَّبِي كَانَ جَالِسا فِي عِصَابَة من أَصْحَابه، فمرت سَحَابَة فَقَالَ: " هَل تَدْرُونَ مَا اسْم هَذِه؟ قَالُوا: نعم، هَذَا السَّحَاب. قَالَ رَسُول الله: المزن؟ قَالُوا: والمزن. قَالَ رَسُول الله: والعنان؟ قَالُوا: والعنان. قَالَ لَهُم رَسُول الله:

تَدْرُونَ كم بعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض؟ قَالُوا: لَا، وَالله مَا نَدْرِي. قَالَ: فَإِن بعد مَا بَينهمَا إِمَّا وَاحِدَة وَإِمَّا اثْنَتَانِ أَو ثَلَاث وَسَبْعُونَ سنة، وَالسَّمَاء الَّتِي فَوْقهَا كَذَلِك حَتَّى عدهن سبع سموات. قَالَ: فَوق السَّمَاء السَّابِعَة بَحر بَين أَعْلَاهُ وأسفله كَمَا بَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء، وَفَوق ذَلِك ثَمَانِيَة أوعال بَين أظلافهن وركبهن مَا بَين سَمَاء إِلَى السَّمَاء، ثمَّ فَوق ظهورهن الْعَرْش بَين أَسْفَله وَأَعلاهُ مَا بَين السَّمَاء إِلَى السَّمَاء، وَالله فَوق ذَلِك. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك وَالِدي أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن عبد الْجَبَّار السَّمْعَانِيّ، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب أخبرنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ أخبرنَا [عبد بن حميد] أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن سعد، عَن عَمْرو بن أبي قيس، عَن سماك بن حَرْب، عَن عبد الله بن عميرَة عَن الْأَحْنَف ابْن قيس، عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب ... الْخَبَر. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن من جملَة حَملَة الْعَرْش ملكا على صُورَة ديك، رِجْلَاهُ فِي تخوم الْأَرْضين وَرَأسه تَحت الْعَرْش، وَجَنَاح لَهُ بالمشرق وَجَنَاح لَهُ بالمغرب، إِذا سبح الله تَعَالَى سبح لَهُ كل شَيْء. وروى الزُّهْرِيّ عَن أنس أَن النَّبِي قَالَ لجبريل " إِنِّي أُرِيد أَن أَرَاك فِي صُورَتك. فَقَالَ: إِنَّك لَا تطِيق ذَلِك، فَقَالَ: أَنا أحب أَن تفعل، قَالَ: فَخرج رَسُول الله إِلَى الْبَطْحَاء، وَأرَاهُ جِبْرِيل نَفسه فِي صورته الَّتِي خلقه الله تَعَالَى عَلَيْهَا، وَجَنَاح لَهُ بالمشرق وَجَنَاح لَهُ بالمغرب، وَرَأسه فِي السَّمَاء، فغشى على النَّبِي ثمَّ أَفَاق وَرَأسه فِي حجر جِبْرِيل، وَقد وضع إِحْدَى يَدَيْهِ على صَدره وَالْأُخْرَى بَين كَتفيهِ، ثمَّ قَالَ: لَو رَأَيْت إسْرَافيل وَله اثْنَا عشر جنَاحا، وَالْعرش على كَاهِله، وَإنَّهُ لَيَتَضَاءَل أَحْيَانًا من خشيَة الله حَتَّى يصير مثل الْوَضع، فَلَا يحمل الْعَرْش

{تعرضون لَا تخفى مِنْكُم خافية (18) فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَيَقُول هاؤم اقْرَءُوا كِتَابيه (19) إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه (20) } . إِلَّا عَظمَة الله ".

18

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ تعرضون لَا تخفى مِنْكُم خافية} أَي: فعلة خافية وَالْمعْنَى: أَنه لَا يخفى شَيْء على الله تَعَالَى. وَقد روى عَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: حاسبوا أَنفسكُم قبل أَن تحاسبوا، وزنوا أَنفسكُم قبل أَن توزنوا، وتهيئوا للعرض الْأَكْبَر. وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ: فِي الْقِيَامَة ثَلَاث عرضات: عرضتان جِدَال ومعاذير، والعرضة الثَّالِثَة فِيهَا تطاير الْكتب. وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن عَائِشَة قَالَت: " يَا رَسُول الله، هَل تذكرُونَ أهاليكم يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: أما فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن فَلَا، وَذكر عِنْد تطاير الْكتب، وَعند الْمِيزَان، وعَلى الصِّرَاط ".

19

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَيَقُول هاؤم اقْرَءُوا كِتَابيه} أَي: تَعَالَوْا اقْرَءُوا كِتَابيه. وَقيل: خُذُوا. تَقول الْعَرَب للْوَاحِد: هَاء وللاثنين هاؤما، وللجماعة هاؤموا. وَقد روى: " أَن رجل نَادَى رَسُول الله وَقَالَ: يَا مُحَمَّد. فَقَالَ النَّبِي: هاؤم ".

20

وَقَوله: {إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه} أَي: أيقنت. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِن

{فَهُوَ فِي عيشة راضية (21) فِي جنَّة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم فِي الْأَيَّام الخالية (24) وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فَيَقُول يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه (25) وَلم أدر مَا حسابيه (26) يَا ليتها كَانَت القاضية (27) مَا أغْنى عني مَالِيَّة (28) هلك عني سلطانيه (29) } . الْمُؤمن أحسن الظَّن بِاللَّه فَأحْسن الْعَمَل، وَإِن الْمُنَافِق أَسَاءَ الظَّن بِاللَّه فأساء الْعَمَل.

21

وَقَوله {فَهُوَ فِي عيشة راضية} أَي: ذَات رضَا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مرضية. وَيُقَال: عيشة راضية: الْجنَّة.

22

وَقَوله: {فِي جنَّة عالية} أَي: مُرْتَفعَة.

23

وَقَوله تَعَالَى: {قطوفها دانية} قَالَ الْبَراء بن عَازِب: يَتَنَاوَلهَا قَائِما وَقَاعِدا ونائما، أَي: مُضْطَجعا. وَمعنى دانية: قريبَة المتناول، لَا يمْنَع مِنْهَا بعد وَلَا شوك.

24

وَقَوله: {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أسلفتم} أَي: قدمتم {فِي الْأَيَّام الخالية} أَي: الْمَاضِيَة، وَهِي فِي الدُّنْيَا. وَعَن بَعضهم: أَن الْآيَة فِي الصائمين.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ فَيَقُول يَا لَيْتَني لم أوت كِتَابيه} أَي: كتابي

26

{وَلم أدر مَا حسابيه} . أَي: لم أتق حسابي، لِأَنَّهُ لَا يرى لحسابه حَاصِلا، وَيرى كل شَيْء عَلَيْهِ.

27

وَقَوله: {يَا ليتها كَانَت القاضية} أَي: يَا لَيْت الْميتَة كَانَت قاضية أَي: لم أَحَي بعْدهَا، فقضت عَليّ الفناء أبدا. وَقيل: يَا ليتها أَي: يَا لَيْتَني مت الْآن.

28

وَقَوله: {مَا أغْنى عني مَالِيَّة} أَي: مَالِي.

29

وَقَوله: {هلك عني سلطانية} أَي: بطلت حجتي، وَلم يسمع عُذْري، وَإِنَّمَا لَا يسمع لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُ. وسمى السُّلْطَان سُلْطَانا؛ لِأَنَّهُ يُقَام عِنْده الْحجَج، أَو لِأَنَّهُ حجَّة على الْخلق ليقيموا أُمُورهم. قَالَ قَتَادَة: لَيْسَ هُوَ أَن يَلِي قَرْيَة فيجيبها، وَلكنه أَرَادَ بِهِ سُلْطَانه على نَفسه، حَيْثُ ضيع مَا جعله الله لَهُ، وارتكب الْمعاصِي، وضيع الْأَوَامِر.

{خذوه فغلوه (30) ثمَّ الْجَحِيم صلوه (31) ثمَّ فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسلكوه (32) إِنَّه كَانَ لَا يُؤمن بِاللَّه الْعَظِيم (33) وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم (35) وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين (36) لَا يَأْكُلهُ إِلَّا الخاطئون (37) فَلَا أقسم بِمَا تبصرون (38) وَمَا لَا تبصرون (39) } .

30

قَوْله تَعَالَى: {خذوه فغلوه} هُوَ من غل الْيَد إِلَى الْعُنُق. وَقيل: يشد قدمه بِرَقَبَتِهِ ثمَّ يجر على وَجهه.

31

وَقَوله: {ثمَّ الْجَحِيم صلوه} أَي: اشوه.

32

وَقَوله: {ثمَّ فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا} قَالَ نوف الْبكالِي: كل ذِرَاع سَبْعُونَ باعا، وكل بَاعَ من هَاهُنَا إِلَى مَكَّة، وَكَانَ بِالْكُوفَةِ يَوْمئِذٍ. وروى نَحوا من ذَلِك عَن سعيد بن جُبَير. وَقَوله: (فاسلكوه) فِي التَّفْسِير: أَنَّهَا تدخل فِي فِيهِ حَتَّى تخرج من دبره، فَهُوَ معنى قَوْله {فاسلكوه} .

33

وَقَوله: {إِنَّه كَانَ لَا يُؤمن بِاللَّه الْعَظِيم وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين} أَي: لَا يحث. قَالَ الْحسن: أدْركْت أَقْوَامًا يعزمون على أَهْليهمْ إِذا خَرجُوا أَن لَا يردوا سَائِلًا، وَأدْركت أَقْوَامًا كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يخلف أَخَاهُ فِي أَهله أَرْبَعِينَ عَاما.

35

وَقَوله: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم} أَي: قريب.

36

وَقَوله: {وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين} الغسلين: صديد أهل النَّار. وَعَن الرّبيع بن أنس قَالَ: هُوَ شَجَرَة تخرج طَعَاما هُوَ أَخبث أَطْعِمَة أهل النَّار. وَفِي الْخَبَر أَن دلوا من غسلين لَو صب فِي الدُّنْيَا لأنتن أهل الدُّنْيَا.

37

وَقَوله: {لَا يَأْكُلهُ إِلَّا الخاطئون} أَي: الْمُشْركُونَ. وَيُقَال: أهل الْمعْصِيَة.

38

وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بِمَا تبصرون} أَي: أقسم، و " لَا " صلَة.

39

وَقيل معنى (وَمَا لَا تبصرون) أَي: الْمَلَائِكَة. وَفِي التَّفْسِير: أَن فِي الْآيَة ردا على الْمُشْركين

{إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم (40) وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون (41) وَلَا بقول كَاهِن قَلِيلا مَا تذكرُونَ (42) تَنْزِيل من رب الْعَالمين (43) وَلَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل (44) لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) . حَيْثُ قَالَ بَعضهم: إِن مُحَمَّدًا سَاحر، وَهُوَ وليد بن الْمُغيرَة وَمن تبعه، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ شَاعِر، وَهُوَ أَبُو جهل وَمن تبعه، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَاهِن، وَهُوَ عقبَة بن أبي معيط وَمن تبعه.

40

وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} أَي: رَسُول كريم على الله. وَقيل: إِنَّه جِبْرِيل. وَقيل: إِنَّه مُحَمَّد. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} وَإِنَّمَا هُوَ قَول الله تَعَالَى؟ . وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ تِلَاوَة رَسُول كريم، وَالثَّانِي: قَول الله وإبلاغ رَسُول كريم، فاتسع فِي الْكَلَام وَاكْتفى بالفحوى.

41

وَقَوله: {وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون} أَي: لَا تؤمنون أصلا. يَقُول الرجل لغيره: قَلِيلا مَا تَأتِينِي، أَي: لَا تَأتِينِي أصلا.

42

وَقَوله: {وَلَا بقول كَاهِن} الكاهن هُوَ الَّذِي يخبر عَن الْغَيْب كذبا. وَقيل: بِظَنّ وحدس لَا عَن علم. وَقَوله تَعَالَى: {قَلِيلا مَا تذكرُونَ} أَي: لَا تتعظون أصلا كَمَا بَينا.

43

وَقَوله: {تَنْزِيل من رب الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.

44

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل} يَعْنِي: أَن مُحَمَّدًا لَو تَقول علينا بعض الْأَقَاوِيل، أَي: قَالَ مَا لم نَقله.

45

وَقَوله: {لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أَي: بِالْقُوَّةِ. أَي: انتقمنا مِنْهُ بقوتنا وقدرتنا، قَالَه مُجَاهِد. قَالَ الشماخ:

{ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين (46) فَمَا مِنْكُم من أحد عَنهُ حاجزين (47) وَإنَّهُ لتذكرة لِلْمُتقين (48) وَإِنَّا لنعلم أَن مِنْكُم مكذبين (49) وَإنَّهُ لحسرة على الْكَافرين (50) وَإنَّهُ لحق الْيَقِين (51) فسبح باسم رَبك الْعَظِيم (52) } . (رَأَيْت عرابة الأوسي يسمو ... إِلَى الْخيرَات مُنْقَطع القرين) (إِذا مَا راية رفعت لمجد ... تلقاها [عرابة] بِالْيَمِينِ) أَي: بِالْقُوَّةِ. وَقَالَ مؤرخ: قَوْله: {لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} وَعَن ثَعْلَب: بِالْحَقِّ. وَهُوَ مَرْوِيّ عَن السّديّ أَيْضا. وَعَن الْحسن. لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، أَي: أذهبنا قوته. وَيُقَال: " لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ " هُوَ مثل قَول الْقَائِل: خُذ بِيَمِينِهِ إِذا فعل شَيْئا - أَي: بِالْقُوَّةِ - يسْتَحق الْعقُوبَة.

46

وَقَوله: {ثمَّ لقطعنا مِنْهُ الوتين} أَي: نِيَاط الْقلب؛ فَإِذا انْقَطع لم يحي الْإِنْسَان بعده. قَالَ الشماخ أَيْضا مُخَاطبا لناقته: (إِذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بديم الوتين)

47

وَقَوله: {فَمَا مِنْكُم من أحد عَنهُ حاجزين} يَعْنِي. إِنَّكُم تنسبونه إِلَى الْكَذِب عَليّ، وَلَو أَخَذته لم يقدر أحد مِنْكُم على دفعنَا عَنهُ.

48

وَقَوله: {وَإنَّهُ لتذكرة لِلْمُتقين} أَي: الْقُرْآن.

49

وَقَوله: {وَإِنَّا لنعلم أَن مِنْكُم مكذبين} أَي: بِالْقُرْآنِ وبالرسول.

50

وَقَوله: {وَإنَّهُ لحسرة على الْكَافرين} أَي: الْبَعْث حسرة على الْكَافرين.

51

وَقَوله: {وَإنَّهُ لحق الْيَقِين} أَي: الْبَعْث مَحْض الْيَقِين وَعين الْيَقِين.

52

وَقَوله: {فسبح باسم رَبك الْعَظِيم} أَي: نزه رَبك الْعَظِيم، واذكره بأوصافه المحمودة اللائقة. وَفِيه دَلِيل أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى، وَلَا فرق بَينهمَا.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع (1) للْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافع (2) } . تَفْسِير سُورَة المعارج وَهِي مَكِّيَّة

المعارج

قَوْله تَعَالَى: {سَأَلَ سَائل بِعَذَاب وَاقع} أَي: وَاقع أَي: دَعَا دَاع. وَالْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة وَأَنه قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم فَنزلت هَذِه الْآيَة. قَوْله تَعَالَى: {بِعَذَاب وَاقع} " الْبَاء " صلَة. وَمَعْنَاهُ: دَعَا دَاع، وَالْتمس ملتمس عذَابا من الله تَعَالَى. وَقَوله: {وَاقع} أَي: كَائِن حَاصِل فِي حق الْكَافرين، وَذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة يَقع بهم ذَلِك لَا محَالة. وَقيل: هُوَ فِي الدُّنْيَا، وَقد وَقع ذَلِك بالنضر بن الْحَارِث، حَيْثُ قتل صبرا يَوْم بدر. وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا معنى قَول مُجَاهِد وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: سَأَلَ سَائل عَن عَذَاب وَاقع، " فالباء " بِمَعْنى " عَن " قَالَه الْفراء وَغَيره. وَالْمعْنَى: سَأَلَ سَائل بِمن يَقع الْعَذَاب؟ وعَلى من ينزل الْعَذَاب؟

2

فَقَالَ الله تَعَالَى: {للْكَافِرِينَ} يَعْنِي: على الْكَافرين. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " سَالَ سَائل " يُقَال: سَالَ بِمَعْنى سَأَلَ على الْهَمْز. وَقيل: سَالَ سَائل أَي: وَاد فِي جَهَنَّم يسيل على الْكفَّار بِالْعَذَابِ. وَقَوله تَعَالَى: {لَيْسَ لَهُ دَافع} أَي: لَا يدْفع الْعَذَاب على الْكَافرين أحد، وَلَا يمنعهُ مِنْهُم.

{من الله ذِي المعارج (3) تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة (4) } .

3

وَقَوله: {من الله ذِي المعارج} أَي: ذِي السَّمَوَات، وَسميت السَّمَوَات معارج، لِأَن الْمَلَائِكَة يعرجون إِلَيْهَا. وَيُقَال: ذِي المعارج أَي: ذِي الفواضل. وَيُقَال: ذِي الدَّرَجَات على معنى إكرامه الْمُؤمنِينَ بالدرجات وإعطائها إيَّاهُم.

4

وَقَوله: {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ} قد بَينا معنى الرّوح. وَقيل: هم فِي خلق السَّمَاء يشبهون الْآدَمِيّين، وَلَيْسوا بآدميين. وَقَوله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ أصح الْقَوْلَيْنِ. وروى الْحسن مُرْسلا وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مُسْندًا فِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات: " أَن الله تَعَالَى يخففه على الْمُؤمنِينَ، فَيَجْعَلهُ بِقدر صَلَاة مَكْتُوبَة خَفِيفَة ". وَفِي بعض الْآثَار: " بِقدر مَا بَين الظّهْر إِلَى الْعَصْر ". وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: من قَرَار الأَرْض إِلَى فَوق الْعَرْش خمسين ألف سنة. وَقيل معنى قَوْله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} يَعْنِي: لَو عمل عَامل أَو حاسب محاسب مَا يعْمل الله تَعَالَى فِي سَاعَة أَو فِي يَوْم وَاحِد، لم يَنْقَطِع إِلَى خمسين ألف سنة. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات أَن قَوْله تَعَالَى: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خمسين ألف سنة} وَقَوله: {فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ} آيتان لَا يعلم مَعْنَاهُمَا إِلَّا الله. وَمثله عَن قَتَادَة.

{فاصبر صبرا جميلا (5) إِنَّهُم يرونه بَعيدا (6) ونراه قَرِيبا (7) يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ (8) وَتَكون الْجبَال كالعهن (9) وَلَا يسْأَل حميم حميما (10) يبصرونهم} وَقَوله: إِن قَوْله: {ألف سنة} هُوَ مَسَافَة مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض صاعدا ونازلا. وَقَوله: {خمسين ألف سنة} مَسَافَة مَا بَين الأَرْض إِلَى الْعَرْش صاعدا. وَالله أعلم.

5

وَقَوله: {فاصبر صبرا جميلا} أَي: صبرا لَا جزع فِيهِ وَلَا شكوى. وَعَن قيس بن الْحجَّاج فِي قَوْله: {فاصبر صبرا جميلا} قَالَ: هُوَ أَن يكون صَاحب الْمُصِيبَة فِي الْقَوْم وَلَا يدرى من هُوَ، وَإِنَّمَا أمره بِالصبرِ؛ لِأَن الْمُشْركين كَانُوا يؤذونه، فَأمره بِالصبرِ إِلَى أَن ينزل بهم عَذَابه.

6

وَقَوله: {إِنَّهُم يرونه بَعيدا} أَي: الْعَذَاب.

7

وَقَوله: {ونراه قَرِيبا} لكَونه ووقوعه لَا محَالة.

8

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تكون السَّمَاء كَالْمهْلِ} أَي: كدردى الزَّيْت، وَيُقَال: كَعَكرِ القطران. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: هُوَ الْمُذَاب من جَوَاهِر الأَرْض مثل النّحاس والرصاص وَالْفِضَّة، فَالْكل مهل.

9

وَقَوله: {وَتَكون الْجبَال كالعهن} والعهن: الصُّوف الْمَصْبُوغ، وَشبهه بِهِ فِي ضعفه وَلينه.

10

وَقَوله: {وَلَا يسْأَل حميم حميما} أَي: لَا يسْأَل قريب عَن حَال قَرِيبه لشغله بِنَفسِهِ. وَقُرِئَ: " وَلَا يسْأَل حميم حميما " أَي: لَا يسْأَل أحد أَيْن حميمك؟

11

وَقَوله: {يبصرونهم} أَي: يعرفونهم. وَمَعْنَاهُ: يعرف بَعضهم بَعْضًا، وَلَا يسْأَله عَن حَاله لشغله بِنَفسِهِ. وَقيل: يعرف بَعضهم بَعْضًا بالسمات والعلامات، فَإِن لأهل الْجنَّة سمات وعلامات، وَكَذَلِكَ لأهل النَّار.

{يود المجرم لَو يفتدي من عَذَاب يَوْمئِذٍ ببنيه (11) وصاحبته وأخيه (12) وفصيلته الَّتِي تؤويه (13) وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا ثمَّ ينجيه (14) كلا إِنَّهَا لظى (15) نزاعة للشوى (16) تَدْعُو من أدبر وَتَوَلَّى (17) وَجمع فأوعى} وَقَوله: {يود المجرم لَو يفتدى من عَذَاب يَوْمئِذٍ ببنيه وصاحبته} أَي: امْرَأَته. {وأخيه} هُوَ الْأَخ الْمَعْرُوف.

13

وَقَوله: {وفصيلته الَّتِي تؤويه} أَي: عشيرته الَّتِي يأوي إِلَيْهِم، وَقيل: أقربائه الأدنون. والفصيلة أحضر وَأدنى من الْفَحْل. وَيُقَال: الْعَبَّاس هُوَ من فصيلة الرَّسُول.

14

وَقَوله: {وَمن فِي الأَرْض جَمِيعًا ثمَّ ينجيه} أَي: لَو يفتدى بِمن فِي الأَرْض جَمِيعًا لينجو فَلَا ينجو.

15

وَقَوله: {كلا} هُوَ مَا بَينا من الْمَعْنى. وَعَن عمر بن عبد الله مولى غفرة: أَن كل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن " كلا " هُوَ بِمَعْنى كذبت. وَقَوله: {إِنَّهَا لظى} اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم. وَيُقَال: " إِنَّهَا لظى " عَذَاب لَازم لَا ينجو مِنْهَا أبدا.

16

وَقَوله: {نزاعة للشوى} الْأَكْثَرُونَ أَن الشوى هُوَ الْأَطْرَاف مثل الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وَغير ذَلِك. وَذكر الْفراء أَنَّهَا جلدَة الرَّأْس. وَقيل: قحف الرَّأْس. وَيُقَال: الْجلد وَاللَّحم حَتَّى يبْقى الْعظم. وَقيل: الْجلد وَاللَّحم والعظم إِلَى أَن يصل إِلَى الْقلب، وَهُوَ نضيج، ذكره مُجَاهِد.

17

وَقَوله: {تَدْعُو من أدبر وَتَوَلَّى} أَي: تنادي من أدبر وَتَوَلَّى من الْكفَّار فَتَقول: يَا فلَان وتذكر اسْمه أقبل إِلَيّ وتأخذه. وَقَالَ الْمبرد فِي قَوْله: {تَدْعُو} أَي: تعذب. وروى عَن النَّضر عَن الْخَلِيل أَنه سمع أَعْرَابِيًا يَقُول لآخر: دعَاك الله، أَي: عذبك الله. وَأما ثَعْلَب فَإِنَّهُ قَالَ: تناديهم وَاحِدًا وَاحِدًا بِأَسْمَائِهِمْ. وَهُوَ الْأَظْهر.

18

وَقَوله: {وَجمع فأوعى} أَي: جمع المَال فأوعاه، أَي: جعله فِي وعَاء وأوكأ

( {18) إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا (19) إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا (20) وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا (21) إِلَّا الْمُصَلِّين (22) الَّذين هم على صلَاتهم دائمون (23) وَالَّذين فِي أَمْوَالهم حق مَعْلُوم (24) للسَّائِل والمحروم (25) وَالَّذين} عَلَيْهِ، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْبُخْل وَمنع الْحق.

19

قَوْله تَعَالَى {إِن الْإِنْسَان خلق هلوعا} أَي: جزوعا. قَالَ ثَعْلَب: سَأَلَني مُحَمَّد ابْن عبد الله بن طَاهِر عَن هَذِه الْآيَة، فَقلت: الْهَلَع أَسْوَأ الْجزع. وَقيل: هلوعا: ضجرا. وَعَن الْحسن: ضَعِيفا. وَقَالَ الضَّحَّاك: بَخِيلًا. وَعَن غَيرهم: حَرِيصًا.

20

وَيُقَال تَفْسِيره هُوَ قَوْله: {إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا} أَي: إِذا مَسّه الشَّرّ لم يصبر، وَإِذا مَسّه الْخَيْر لم يشْكر.

22

وَقَوله: {إِلَّا الْمُصَلِّين الَّذين هم على صلَاتهم دائمون} هَذَا الِاسْتِثْنَاء منصرف إِلَى ابْتِدَاء الْكَلَام، وَمَعْنَاهُ: أَن هَؤُلَاءِ ينجون من الْعَذَاب. وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: الْآيَة فِي الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَة. وَقيل: إدامتها هُوَ إِقَامَتهَا فِي أَوْقَاتهَا. وَيُقَال: لَيست إدامتها أَن يُصَلِّي أبدا، وَلَكِن إدامتها أَنه إِذا صلى لم يلْتَفت يَمِينا وَلَا شمالا. وَيُقَال: إدامة الصَّلَوَات: أَلا يَتْرُكهَا، وَهَذَا قَول حسن. وَعَن بعض السّلف هُوَ أَلا يؤخرها عَن الْمَوَاقِيت؛ فَأَما إِذا تَركهَا كفرز

24

وَقَوله: {وَالَّذين فِي أَمْوَالهم حق مَعْلُوم للسَّائِل} وَهُوَ الطّواف الَّذِي يسْأَل (عَن) النَّاس. وَقَوله: {والمحروم} هُوَ الَّذِي لَا يسْأَل، وَيُقَال: هُوَ المحارف، وَقيل: الْمَحْدُود. وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد. يُقَال: فلَان مجدود، وَفُلَان مَحْدُود، والمجدود الَّذِي يُوَافقهُ الْجد، والمحدود المحروم. قَالَ ابْن عمر: المحروم هُوَ الْكَلْب. وَعَن الشّعبِيّ قَالَ: أعياني أَن أعرف معنى المحروم. وَقيل: هُوَ الْفَقِير الَّذِي لَا شَيْء لَهُ.

26

وَقَوله: {وَالَّذين يصدقون بِيَوْم الدّين} أَي: يُؤمنُونَ بِهِ.

{يصدقون بِيَوْم الدّين (26) وَالَّذين هم من عَذَاب رَبهم مشفقون (27) إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون (28) وَالَّذين هم لفروجهم حافظون (29) إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين (29) فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون (31) وَالَّذين هم لأمانتهم وَعَهْدهمْ رَاعُونَ (32) } .

27

وَقَوله: {وَالَّذين هم من عَذَاب رَبهم مشفقون} أَي: خائفون. وَعَن معَاذ بن جبل قَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي مُنَاد أَيْن الخائفون؟ فيحشرون فِي كنف الرَّحْمَن لَا يحتجب الله مِنْهُم. ذكره أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ حاكيا عَن الله تَعَالَى: " لَا أجمع على عَبدِي خوفين وَلَا أمنين، فَإِذا خافني فِي الدُّنْيَا أمنته فِي الْآخِرَة، وَإِذا أمنني فِي الدُّنْيَا خوفته فِي الْآخِرَة ".

28

قَوْله: {إِن عَذَاب رَبهم غير مَأْمُون} ظَاهر الْمَعْنى.

29

وَقَوله: {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين} قَالَ ابْن عُيَيْنَة، من لَام أحدا فِيمَا ملكت يَمِينه وَإِن كثر، أَو لامه فِي نِسَائِهِ إِذا بلغ الْأَرْبَع، فقد عصى الله تَعَالَى؛ لقَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُم غير ملومين} وَقَالَ أَيْضا: من تزوج [بِأَرْبَع] نسْوَة، أَو تسرى بمماليك، فَلَا خلل فِي زهده فِي

{وَالَّذين هم بشهاداتهم قائمون (33) وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جنَّات مكرمون (35) فَمَا للَّذين كفرُوا قبلك مهطعين (36) عَن الْيَمين وَعَن الشمَال عزين (37) } . الدُّنْيَا، فَإِن عليا - رَضِي الله - عَنهُ قتل عَن أَربع عقائل [وتسع عشرَة] سَرِيَّة وَكَانَ أزهد الصَّحَابَة. وَفِي الْآيَة دَلِيل على تَحْرِيم الْمُتْعَة. وسئلت عَائِشَة عَن الْمُتْعَة فَقَالَت: بيني وَبَيْنكُم كتاب الله، وتلت هَذِه الْآيَة. وَسُئِلَ ابْن عمر عَن ذَلِك فَقَالَ: هُوَ زنا. فَقيل: إِن فلَانا يبيحها، فَقَالَ: أَفلا ترمرم بِهِ فِي زمَان عمر، وَالله لَو أَخذه فِيهَا لرجمه.

31

وَقَوله: {فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون} هُوَ دَلِيل على مَا بَينا. والعادي والمتعادي وَاحِد.

32

وَقَوله: {وَالَّذين هم لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدهمْ رَاعُونَ} أَي: حافظون. وَقيل: أصل الْأَمَانَة أَن كلمة التَّوْحِيد ائْتمن الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ عَلَيْهَا.

33

وَقَوله: {وَالَّذين هم بِشَهَادَتِهِم قائمون} وَقُرِئَ: " بشهاداتهم " إِحْدَاهمَا بِمَعْنى الْجمع، وَالْأُخْرَى بِمَعْنى الوحدان. وَمعنى {قائمون} أَي: يؤدونها على وَجههَا.

34

وَقَوله: {وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ} قد بَينا الْمَعْنى.

35

وَقَوله: {أُولَئِكَ فِي جنَّات مكرمون} أَي: بساتين يكرمهم الله بأنواع النعم.

36

وَقَوله تَعَالَى: {فَمَال الَّذين كفرُوا قبلك مهطعين} أَي: مُسْرِعين. قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: وَالْآيَة فِي الْمَعْنى مشكلة، وَالْمرَاد وَالله أعلم: فَمَا للَّذين كفرُوا يسرعون إِلَيْك لاستماع الْقُرْآن، ثمَّ يتفرقون بِلَا قبُول لَهُ وَالْإِيمَان بِهِ. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يأْتونَ ويجلسون حول النَّبِي وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ نظر الْبغضَاء والعداوة، ويستمعون الْقُرْآن اسْتِمَاع الِاسْتِهْزَاء والتكذيب.

37

وَقَوله: {عَن الْيَمين وَعَن الشمَال عزين} أَي: مُتَفَرّقين حلقا حلقا. وروى أَن

{أيطمع كل امْرِئ مِنْهُم أَن يدْخل جنَّة النَّعيم (38) كلا إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ (39) فَلَا أقسم بِرَبّ الْمَشَارِق والمغارب إِنَّا لقادرون (40) على أَن نبدل خيرا مِنْهُم} النَّبِي خرج إِلَى الْمَسْجِد وَأَصْحَابه متفرقون كل جمَاعَة فِي مَوضِع، فَقَالَ: " مَالِي أَرَاكُم عزين ". وَالسّنة أَن يجلسوا حَلقَة وَاحِدَة، أَو بَعضهم خلف بعض، وَلَا يتفرقون فِي الْجُلُوس.

38

قَوْله تَعَالَى: {أيطمع كل امْرِئ مِنْهُم أَن يدْخل جنَّة نعيم} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما ذكر الله تَعَالَى الْجنَّة للْمُؤْمِنين قَالَ الْكفَّار: وَنحن أَيْضا ندخل مَعكُمْ؛

39

فَأنْزل الله تَعَالَى: {كلا} أَي: لَا يكون الْأَمر كَمَا يطْمع ويظن. وَقَوله: {إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ} أَي: من الأقذار والنجاسات. وَالْمعْنَى: أَنه لَيْسَ إِدْخَال من يدْخل الْجنَّة بِكَوْنِهِ مخلوقا؛ لِأَنَّهُ خلق من شَيْء نجس قذر، فَلَا يسْتَحق دُخُول الْجنَّة، وَإِنَّمَا يسْتَحق دُخُول الْجنَّة بالتقوى وَالدّين. وَيُقَال: إِنَّا خلقناهم من أجل مَا [يعلمُونَ] ، وَهُوَ عبَادَة الله وَالْإِيمَان بِهِ. قَالَ الشَّاعِر: (أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذِي هوى أَن تزارا) أَي: من أجل آل ليلى. وَقيل: {إِنَّا خلقناهم مِمَّا يعلمُونَ} أَي: مِمَّن يعلمُونَ. وَالْقَوْل الْأَصَح هُوَ الأول.

{وَمَا نَحن بمسبوقين (41) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون (42) يَوْم يخرجُون من الأجداث سرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون (43) خاشعة أَبْصَارهم ترهقهم ذلة ذَلِك الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يوعدون (44) } .

40

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بِرَبّ الْمَشَارِق والمغارب} مَعْنَاهُ: أقسم، وَهُوَ على مَذْهَب الْعَرَب، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَكَذَا. وَذكر هَاهُنَا الْمَشَارِق والمغارب؛ لِأَن الشَّمْس فِي كل يَوْم تشرق من مَكَان آخر غير مَا كَانَ فِي الْيَوْم الأول، وَكَذَلِكَ فِي الْمغرب. وَفِي التَّفْسِير: أَنَّهَا تطلع كل يَوْم من كوَّة أُخْرَى، وتغرب من كوَّة أُخْرَى. وَقَوله: {إِنَّا لقادرون على أَن نبدل خيرا مِنْهُم} أَي: أطوع لله مِنْهُم، وأمثل مِنْهُم. وَقَوله: {وَمَا نَحن بمسبوقين} أَي: معاجزين، وَقد بَينا من قبل.

42

قَوْله تَعَالَى: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون} هُوَ يَوْم الْقِيَامَة. وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق التهديد لَا على طَرِيق الْإِطْلَاق وَالْإِذْن.

43

وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم يخرجُون من الأجداث سرَاعًا} أَي: من الْقُبُور. والجدث: الْقَبْر، والأجداث الْجمع. وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون} أَي: يخرجُون سرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى علم نصب لَهُم يسرعون، وَقُرِئَ: " نصب يوفضون " بِضَم النُّون، والنُصُب والنَصَب بِمَعْنى الْأَصْنَام، وَقد كَانُوا يسرعون إِلَى أصنامهم إِذا ذَهَبُوا إِلَيْهَا، فيعظموها ويستلموها.

44

وَقَوله: {خاشعة أَبْصَارهم} أَي: ذليلة أَبْصَارهم {ترهقهم ذلة} أَي: مذلة. وَقَوله: {ذَلِك الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يوعدون} أَي: يُقَال لَهُم: هَذَا الْيَوْم هُوَ الْيَوْم الَّذِي وعدتم فِي الدُّنْيَا. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه أَن أنذر قَوْمك من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب أَلِيم (1) قَالَ يَا قوم إِنِّي لكم نَذِير مُبين (2) أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3) يغْفر لكم} تَفْسِير سُورَة نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَهِي مَكِّيَّة وَهُوَ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أَخْنُوخ. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه بعث وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة. وَعَن عَوْف بن أبي شَدَّاد: أَنه بعث وَهُوَ ابْن ثلثمِائة وَخمسين سنة. وَيُقَال: سمي نوحًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ ينوح على نَفسه. وَالله أعلم.

نوح

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه أَن أنذر قَوْمك} مَعْنَاهُ: بِأَن أنذر قَوْمك إِلَّا أَنه حذف الْبَاء. وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود {أنذر قَوْمك} من غير " أَن " وَمَعْنَاهُ: وَقُلْنَا لَهُ أنذر قَوْمك. وَقَوله {من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب أَلِيم} قيل: هُوَ الْغَرق فِي الدُّنْيَا. وَقيل هُوَ النَّار فِي الْآخِرَة.

2

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ يَا قوم إِنِّي لكم نَذِير مُبين} أَي: بَين النذارة.

3

وَقَوله {أَن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} وَهَذَا هُوَ الَّذِي بعث الله لأَجله الرُّسُل، فَإِن الله تَعَالَى مَا بعث رَسُولا إِلَّا ليعبدوه ويتقوه ويطيعوا رَسُوله.

4

وَقَوله: {يغْفر لكم من ذنوبكم} أَي: من ذنوبكم الَّتِي أوعدكم عَلَيْهَا الْعقُوبَة. وَقد كَانَت لَهُم ذنُوب أخر عَفا الله عَنْهَا. وَقَالَ الْفراء: " من " لَيست هَاهُنَا للتَّبْعِيض،

{من ذنوبكم ويؤخركم إِلَى آجل مُسَمّى إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر لَو كُنْتُم تعلمُونَ (4) قَالَ رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلم يزدهم دعائي إِلَّا فِرَارًا (6) } . وَلكنهَا للتخصيص على معنى تَخْصِيص الذُّنُوب بالغفران. وَقَوله: {ويؤخركم إِلَى آجل مُسَمّى} أَي: إِلَى الْمَوْت. فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة تدل على أَنه يجوز أَن يكون للْإنْسَان أجلان، وَأَن الْعقُوبَة تقع قبل الْأَجَل الْمَضْرُوب للْمَوْت. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه يجوز أَن يُقَال: إِن الْأَجَل أجلان: أَحدهمَا: إِلَى سنة أَو سنتَيْن إِن عصوا الله، وَالْآخر: إِلَى عشر سِنِين أَو عشْرين سنة إِن أطاعوا الله، فعلى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر} أَي: فِي حالتي الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْأَجَل وَاحِد بِكُل حَال. وَقَوله {ويؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى} أَي: يميتكم غير ميتَة الاستئصال والعقوبة، وَهُوَ الْمَوْت الَّذِي يكون بِلَا غرق وَلَا قتل وَلَا حرق. وَقيل: يؤخركم إِلَى أجل مُسَمّى، أَي: عنْدكُمْ، وَهُوَ الْأَجَل الَّذِي تعرفونه، وَذَلِكَ موت من غير هَذِه الْوُجُوه. وَهَذَا القَوْل أقرب إِلَى مَذْهَب أهل السّنة، فعلى هَذَا قَوْله: إِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر) هُوَ الْأَجَل الْمُسَمّى الْمَضْرُوب لكل إِنْسَان) . وَقَوله {لَو كُنْتُم تعلمُونَ} [أَي] : إِن كُنْتُم تعلمُونَ.

5

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا} قَالَ الْفراء: أَي: من كل وَجه وَفِي كل زمَان أمكنت فِيهِ الدعْوَة من ليل أَو نَهَار.

6

وَقَوله تَعَالَى: {فَلم يزدهم دعائي إِلَّا فِرَارًا} أَي: فِرَارًا من الْإِيمَان.

{وَإِنِّي كلما دعوتهم لتغفر لَهُم جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم واستغشوا ثِيَابهمْ وأصروا واستكبروا استكبارا (7) ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا (8) ثمَّ إِنِّي أعلنت}

7

وَقَوله: {وَإِنِّي كلما دعوتهم لتغفر لَهُم} أَي: ليؤمنوا فتغفر لَهُم، فكنى بالمغفرة عَن الْإِيمَان؛ لِأَن الْإِيمَان سَبَب الْمَغْفِرَة. وَقَوله: {جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم} يَعْنِي: فعلوا ذَلِك لِئَلَّا يسمعوا. وَقَوله: {واستغشوا ثِيَابهمْ} أَي: تغطوا بثيابهم لِئَلَّا يرَوا نوحًا، وَلَا يسمعوا كَلَامه، وَذكر النّحاس قولا آخر وَقَالَ: إِن معنى قَوْله: {واستغشوا ثِيَابهمْ} أَي: أظهرُوا الْعَدَاوَة. وَيُقَال: لبس فلَان ثِيَاب الْعَدَاوَة على معنى إِظْهَار الْعَدَاوَة. وَقَوله: {وأصروا} قَالَ (أَبُو عبيد) : [أَي] : أَقَامُوا عَلَيْهِ. والإصرار أَن يفعل الْفِعْل ثمَّ لَا ينْدَم. وَفِي بعض الغرائب من الْآثَار؛ " لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار، وَلَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار ". وَقَوله: {واستكبروا استكبارا} أَي: تكبروا تكبرا. وَقد بَينا أَن الشّرك وَترك الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ استكبار.

8

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا ثمَّ إِنِّي أعلنت لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا} فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد دخل هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: (رب إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا) ؟ قُلْنَا: كَلَام بِحَيْثُ يجوز أَن يكون قَالَ هَذَا على وَجه التَّأْكِيد، والإعلان والجهر بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ كَلَام بِحَيْثُ يسمع الْجَمَاعَة، وَأَن الْإِسْرَار هُوَ أَن يَقُوله مَعَ الْإِنْسَان وَحده فِي خلْوَة. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {إِنِّي دَعَوْت قومِي لَيْلًا وَنَهَارًا} إِلَى التَّوْحِيد، وَأما قَوْله: {ثمَّ إِنِّي دعوتهم جهارا ثمَّ إِنِّي أعلنت لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا} هُوَ دعاؤه إيَّاهُم إِلَى الاسْتِغْفَار لما يتلوه من بعد، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَقلت اسْتَغْفرُوا

{لَهُم وأسررت لَهُم إسرارا (9) فَقلت اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا (10) يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا (12) مَا لكم لَا ترجون لله وقارا (13) } . ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا) .

11

وَقَوله: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا} أَي: ليرسل. ومدرارا، أَي: مُتَتَابِعًا. وَالسَّمَاء: الْمَطَر. وَقيل هُوَ الْمَطَر فِي إبانه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: إِذا أَرَادَ الله بِقوم خيرا أمطرهم فِي وَقت الزَّرْع، وَحبس عَنْهُم فِي وَقت الْحَصاد، وَإِذا أَرَادَ بِقوم سوءا أمطرهم فِي وَقت الْحَصاد وَحبس فِي وَقت الزَّرْع. وروى الشّعبِيّ أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - خرج (مرّة) للاستسقاء فَلم يزدْ على الاسْتِغْفَار ثمَّ نزل. فَقيل لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّك لم تستسق! فَقَالَ: لقد طلبت الْغَيْث بِمَجَادِيح السَّمَاء الَّتِي يسْتَنْزل بهَا الْمَطَر، وتلا قَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا} .

12

وَقَوله: {ويمددكم بأموال وبنين} قَالَ قَتَادَة: علم أَن الْقَوْم أَصْحَاب دنيا، فحركهم بهَا ليؤمنوا. وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى أعقم أَرْحَام نِسَائِهِم أَرْبَعِينَ سنة، وَحبس عَنْهُم الْمَطَر أَرْبَعِينَ سنة، فَهُوَ معنى قَول نوح: {يُرْسل السَّمَاء عَلَيْكُم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين} . وَقَوله تَعَالَى: {وَيجْعَل لكم جنَّات وَيجْعَل لكم أَنهَارًا} أَي: بساتين وأنهارا تجْرِي فِيمَا بَينهَا.

13

قَوْله تَعَالَى: {مَا لكم لَا ترجون لله وقارا} أَي: تخافون لله عَظمَة وقدرة. وَقَالَ قطرب: مالكم لَا تبالون من عَظمَة الله تَعَالَى. وَقيل: وقارا، أَي: طَاعَة، وَمَعْنَاهُ: مالكم لَا ترجون طَاعَة الله، أَي: لَا تستعملونها. وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَعْرُوف، ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا، وَقد يذكر الرَّجَاء بِمَعْنى الْخَوْف؛ لِأَنَّهُ لَا يكون الرَّجَاء إِلَّا وَمَعَهُ خوف الْفَوْت.

{وَقد خَلقكُم أطوارا (14) ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سموات طباقا (15) وَجعل الْقَمَر} قَالَ الشَّاعِر: (إِذا لسعته النَّحْل لم يرج لسعها ... وخالفها فِي بَيت نوب (عوامل)) وَقَالَ آخر: (إِذا أهل الْكَرَامَة أكرموني ... فَلَا أَرْجُو الهوان من اللئام) . أَي: لَا أَخَاف.

14

وَقَوله: {وَقد خَلقكُم أطوارا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الطّور: الْحَال. وَذكره ابْن الْأَنْبَارِي أَيْضا. قَالَ الشَّاعِر: (والمرء يخلق طورا بعد (أطوار) ) وَمعنى الْحَالَات هَاهُنَا: أَنه خلقه نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ عظما ولحمها إِلَى أَن أتم خلقه.

15

قَوْله تَعَالَى: {ألم تروا كَيفَ خلق الله سبع سموات طباقا} قد بَينا.

16

وَقَوله: {وَجعل الْقَمَر فِيهِنَّ نورا} فَإِن قَالَ قَائِل: الْقَمَر إِنَّمَا خلق فِي سَمَاء الدُّنْيَا، فَكيف قَالَ: {فِيهِنَّ نورا} ؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهمَا: أَنه يجوز فِي لِسَان الْعَرَب أَن (يُقَال) : فِيهِنَّ نورا، وَإِن كَانَ فِي إحديهن، كَالرّجلِ يَقُول: توارى فلَان فِي دور فلَان، وَإِن كَانَ توارى فِي إحديها. وَيَقُول الْقَائِل: وَنزلت على بني تَمِيم، وَإِن كَانَ نزل عِنْد بَعضهم.

{فِيهِنَّ نورا وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا (16) وَالله أنبتكم من الأَرْض نباتا (17) ثمَّ يعيدكم فِيهَا ويخرجكم إخراجا (18) . وَالْوَجْه الثَّانِي: مَا قَالَه عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن وَجه الْقَمَر إِلَى السَّمَوَات السَّبع وَقَفاهُ إِلَى الأَرْض، وَكَذَا قَالَ فِي الشَّمْس، فعلى هَذَا قَوْله: {فِيهِنَّ نورا} أَي: نوره فِيهِنَّ. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن السَّمَوَات فِي الْمَعْنى كشيء وَاحِد، فَقَالَ: {فِيهِنَّ نورا} لهَذَا، وَإِن كَانَ فِي سَمَاء وَاحِد. وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن معنى قَوْله: {فِيهِنَّ نورا} أَي: مَعَهُنَّ نورا. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (وَهل ينعمن من كَانَ آخر عَهده ... ثَلَاثِينَ شهرا فِي ثَلَاثَة أَحْوَال) أَي: مَعَ ثَلَاثَة أَحْوَال. وَقَوله: {وَجعل الشَّمْس سِرَاجًا} أَي: فِيهِنَّ، وَالْمعْنَى مَا بَينا. وَعَن عبد الله بن عَمْرو أَيْضا قَالَ: مَا خلق الله شَيْئا أَشد حرارة من الشَّمْس، وَلَوْلَا أَن السَّمَاء تحول بَين الأَرْض وَبَين ضوئها وَإِلَّا (لأحرقت) كل شَيْء فِي الأَرْض. وروى أَنه سُئِلَ لماذا يبرد الزَّمَان فِي الشتَاء، وَبِمَ يكون الْحر فِي الصَّيف؟ فَقَالَ: تكون الشَّمْس فِي الصَّيف فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَفِي الشتَاء فِي السَّمَاء السَّابِعَة.

17

قَوْله تَعَالَى: {وَالله أنبتكم من الأَرْض نباتا} يجوز فِي اللُّغَة إنباتا ونباتا. وَقيل: أنبتكم فنبتم نباتا.

18

وَقَوله: {ثمَّ يعيدكم فِيهَا} أَي: بِالْمَوْتِ. وَقَوله: {ويخرجكم إخراجا} عِنْد النشور.

19

قَوْله تَعَالَى: (وَالله جعل لكم الأَرْض بساطا) أَي: بسطها بسطا.

{وَالله جعل لكم الأَرْض بساطا (19) لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا (20) قَالَ نوح رب إِنَّهُم عصوني وَاتبعُوا من لم يزده مَاله وَولده إِلَّا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارًا (22) وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم لَا تذرن ودا وَلَا سواعا وَلَا يَغُوث ويعوق}

20

وَقَوله: {لتسلكوا مِنْهَا سبلا فجاجا} أَي: طرقا وَاسِعَة. والسبيل قد يذكر وَيُؤَنث. قَالَ الشَّاعِر: (تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت ... فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد) أَي: بِوَاحِد.

21

وَقَوله: {قَالَ نوح رب إِنَّهُم عصوني وَاتبعُوا من لم يزده مَاله وَولده إِلَّا خسارا} يَعْنِي: أَن الضُّعَفَاء اتبعُوا الْأَشْرَاف والأكابر والرءوس من الْكفَّار الَّذين لم تزدهم أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ إِلَّا خسارا.

22

وَقَوله: {ومكروا مكرا كبارًا} أَي: كَبِيرا، وكبار فِي اللُّغَة أَشد من الْكَبِير.

23

وَقَوله: {وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم} أَي: لَا تذروا آلِهَتكُم، {وَلَا تذرن} أَي: وَلَا تذروا {ودا وَلَا سواعا وَلَا يَغُوث ويعوق ونسرا} هَذِه الْأَسْمَاء أَسمَاء أصنامهم الَّتِي كَانُوا يعبدونها. وَفِي التَّفْسِير: أَن ودا كَانَت لكَلْب، والسواع كَانَت لهذيل، ويغوث كَانَت لبني غطيف بن دارم، ويعوق كَانَت لهمدان، ونسرا كَانَت لحمير، وَقد قيل على خلاف هَذَا. وَكَانَت بَقِيَّة هَذِه الْأَصْنَام لَهُم من زمَان نوح قد غرقت، فاستخرجها لَهُم إِبْلِيس حَتَّى عبدوها. وَعَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ قَالَ: كَانَت يَغُوث من رصاص رَأَيْته، وَكَانُوا يحملونه على جمل أجرد إِذا سافروا وَلَا يهيجون الْجمل ويجعلونه قدامهم، فَإِذا برك فِي مَوضِع نزلُوا، وَقَالُوا: رضى ربكُم بالمنزل. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ: هَذِه الْأَسْمَاء أَسمَاء قوم صالحين قبل نوح، فَلَمَّا مَاتُوا زين الشَّيْطَان لأبنائهم ليتخذوا أشخاصا على صورهم، فَيكون نظرهم إِلَيْهَا حثا لَهُم على الْعِبَادَة، ثمَّ إِنَّهُم عبدوها من بعد لما تطاول لَهُم الزَّمَان.

{ونسرا (23) وَقد أَضَلُّوا كثيرا وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا ضلالا (24) مِمَّا خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نَارا فَلم يَجدوا لَهُم من دون الله أنصارا (25) وَقَالَ نوح رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا (26) إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا (27) .

24

قَوْله تَعَالَى: {وَقد أَضَلُّوا كثيرا} أَي: ضل كثير من النَّاس بسببهم. وَقَوله: {وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا ضلالا} دَعَا عَلَيْهِم هَذَا الدُّعَاء عُقُوبَة لَهُم، وَهُوَ مثل دُعَاء مُوسَى على قوم فِرْعَوْن {رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم وَاشْدُدْ على قُلُوبهم} .

25

قَوْله تَعَالَى: {مِمَّا خطيئاتهم} أَي: من خطيئاتهم، {أغرقوا فأدخلوا نَارا} يَعْنِي: أغرقوا فِي الدُّنْيَا، وأدخلوا نَارا فِي الْآخِرَة. وَقيل: هُوَ فِي الْقَبْر. وَعَن الْحسن قَالَ: الْبَحْر طبق جَهَنَّم. وَقيل: الْبَحْر نَار ثمَّ نَار. وَقَوله: {فَلم يَجدوا لَهُم من دون الله أنصارا} أَي: أحدا يمنعهُم من عَذَاب الله.

26

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ نوح رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} أَي: أحدا. وَقيل: ديارًا أَي: من ينزل دَارا، مَأْخُوذ من الدَّار.

27

وَقَوله: {إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا} وَهَذَا على مَا أخبرهُ الله تَعَالَى عَنْهُم {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} وَعَن مُجَاهِد: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يَأْتِي نوحًا فيضربه حَتَّى يغشى عَلَيْهِ، فَإِذا أَفَاق قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ. ثمَّ إِنَّه لما أخبر الله تَعَالَى أَنه لَا يُؤمن أحد مِنْهُم دَعَا عَلَيْهِم. وَفِي الْقِصَّة: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يحمل ابْنه على كتفه إِلَيْهِ وَيَقُول: احذر هَذَا الشَّيْخ الْمَجْنُون، فَإِن أَبى أحذرني إِيَّاه كَمَا حذرتك، فَفَعَلُوا كَذَلِك حَتَّى مضى سَبْعَة قُرُون،

{رب اغْفِر لي ولوالدي وَلمن دخل بَيْتِي مُؤمنا وَلِلْمُؤْمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا (28) } . فروى أَن آخر من جَاءَهُ مِنْهُم قَالَ كَذَلِك لِابْنِهِ، فَقَالَ ذَلِك الصَّبِي: أنزلني فأنزله، فَجعل يرميه بِالْحجرِ حَتَّى شجه، فَغَضب حِينَئِذٍ ودعا عَلَيْهِم.

28

قَوْله تَعَالَى: {رب اغْفِر لي ولوالدي} قَرَأَ سعيد بن جُبَير: " لوالِدِي " وَفِي بعض الْقرَاءَات: " لِوالَدَيَّ ". وَقَوله: {وَلمن دخل بَيْتِي مُؤمنا} أَي: سفينتي. وَقيل: صومعتي. وَقيل: بَيْتِي الَّذِي أسْكنهُ. وَقَوله: {وَلِلْمُؤْمنِينَ} أَي: لكل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {وَلَا تزد الظَّالِمين إِلَّا تبارا} أَي: هَلَاكًا.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} تَفْسِير سُورَة الْجِنّ وَهِي مَكِّيَّة

الجن

قَوْله تَعَالَى: {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس " أَن النَّبِي انْطلق فِي نفر من أَصْحَابه عَامِدين إِلَى سوق عكاظ، فَمر بالنخلة، وَقد كَانَ الشَّيَاطِين منعُوا من السَّمَاء، وَأرْسلت الشهب عَلَيْهِم، فَقَالُوا لقومهم: قد حيل بَيْننَا وَبَين خبر السَّمَاء، فَقَالُوا: إِنَّمَا ذَلِك لأمر حدث فِي الأَرْض. وروى أَنهم قَالُوا ذَلِك لإبليس، وَأَن إِبْلِيس قَالَ لَهُم: اضربوا فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا لتعرفوا مَا الْأَمر الَّذِي حدث؟ فَمر نفر مِنْهُم نَحْو تهَامَة فَرَأَوْا النَّبِي يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفجْر بِبَطن نَخْلَة، وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن، فَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْأَمر الَّذِي حدث، وَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ وأخبروهم بذلك، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ". وَقد روى البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح نَحوا (من رِوَايَة) ابْن عَبَّاس. وَذكر ابْن جريح فِي تَفْسِيره عَن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن ابْن مَسْعُود " أَن النَّبِي انْطلق إِلَى الْجِنّ ليقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن ويدعوهم إِلَى الله، فَقَالَ لأَصْحَابه: من يصحبني مِنْكُم؟ وَفِي رِوَايَة: ليقمْ مِنْكُم رجل معي لَيْسَ فِي قلبه حَبَّة خَرْدَل من كبر. فَسكت الْقَوْم. فَقَالَ ذَلِك ثَانِيًا وثالثا، فَقَامَ عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ ابْن مَسْعُود: فَانْطَلَقت مَعَ رَسُول الله قبل الْحجُون حَتَّى دَخَلنَا شعب أبي دب، فَقَالَ: فَخط لي خطا فَقَالَ: لَا تَبْرَح هَذَا الْخط، وَنزل عَلَيْهِ الْجِنّ مثل الحجل. قَالَ فَقَرَأَ عَلَيْهِم

الْقُرْآن وَعلا صَوته، فلصقوا بِالْأَرْضِ حَتَّى لَا أَرَاهُم " وَفِي رِوَايَة: انهم قَالُوا لَهُ: " مَا أَنْت؟ مَا أَنْت؟ قَالَ: نَبِي. قَالُوا: وَمن يشْهد لَك؟ فَقَالَ: هَذِه الشَّجَرَة، قَالَ: فَدَعَا الشَّجَرَة فَجَاءَت تجر عروقها، لَهَا قعاقع، وَشهِدت الشَّجَرَة لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، ثمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانهَا " وَفِي هَذَا الْخَبَر: " أَنهم سَأَلُوهُ الزَّاد فَأَعْطَاهُمْ الْعظم والبعر، فَكَانُوا يَجدونَ الْعظم أوقر مَا يكون لَحْمًا، والبعر علفا لدوابهم، وَنهى الرَّسُول حِينَئِذٍ الِاسْتِنْجَاء بالعظم والروث ". قَالَ جمَاعَة من أهل التَّفْسِير: أَن أَمر الْجِنّ كَانَ مرَّتَيْنِ، مرّة بِمَكَّة وَمرَّة بِبَطن نَخْلَة، فَالَّذِي رَوَاهُ ابْن عَبَّاس هُوَ الَّذِي كَانَ بِبَطن نَخْلَة، وَالَّذِي رَوَاهُ ابْن مَسْعُود هُوَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّة، فَأَما الَّذِي كَانَ بِبَطن نَخْلَة فَإِنَّهُم مروا بِالنَّبِيِّ وَاسْتَمعُوا الْقُرْآن، وَأما الَّذِي كَانَ بِمَكَّة فَإِن الرَّسُول انْطلق إِلَيْهِم، وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآن ودعاهم إِلَى الْإِيمَان، فَهَذَا هُوَ الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ. وَقد روى أَن عبد الله بن مَسْعُود رأى بالعراق قوما من الزط، فَقَالَ: أشبههم بالجن لَيْلَة الْجِنّ. وَفِي رِوَايَة عَلْقَمَة: أَنه قَالَ لعبد الله بن مَسْعُود: هَل كَانَ مِنْكُم أحد مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْجِنّ؟ قَالَ: لَا، مَا شهده منا أحد، وسَاق خَبرا ذكره مُسلم فِي كِتَابه. وَفِي الْبَاب اخْتِلَاف كثير فِي الرِّوَايَات، وَأما مَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الْمُخْتَصر مِنْهَا، وَيحْتَمل أَن ابْن مَسْعُود كَانَ مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْجِنّ إِلَّا أَنه لم يكن مَعَه عِنْد خطاب الْجِنّ وَقِرَاءَة الْقُرْآن، عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ روى أَنه قَالَ: " خطّ رَسُول الله لي خطا وَقَالَ: لَا تَبْرَح هَذَا الْخط وَانْطَلق فِي الْجَبَل، قَالَ فَسمِعت لَغطا وصوتا عَظِيما، فَأَرَدْت أَن أذهب فِي أَثَره، فَذكرت قَول رَسُول الله: لَا تَبْرَح الْخط فَلم أذهب، فَلَمَّا رَجَعَ ذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لي: لَو خرجت من الْخط لم ترني أبدا ". قَوْله تَعَالَى: {قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} قَالَ الْفراء: النَّفر اسْم لما بَين الثَّلَاثَة إِلَى عشرَة. وَحَكَاهُ ابْن السّكيت أَيْضا عَن ابْن زيد. يَقُولُونَ: عشرَة نفر، وَلَا يَقُولُونَ: عشرُون نَفرا، وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا. وَقد روى أَنهم كَانُوا تِسْعَة نفر، وَذكروا أَسْمَاءَهُم، وَقد بَينا. وروى عَاصِم عَن زر أَنه كَانَ فيهم زَوْبَعَة.

{فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا (1) يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا (2) وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا} وَقَوله تَعَالَى: {فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا} أَي: عجبا فِي نظمه وتأليفه وَصِحَّة مَعْنَاهُ، وَلَا يَصح قَوْله: {إِنَّا سمعنَا} إِلَّا بِالْكَسْرِ.

2

قَوْله: {يهدي إِلَى الرشد} أَي: إِلَى الصَّوَاب وَطَرِيق الْحق. وَقَوله تَعَالَى: {فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا} أَي: لَا نجْعَل أحدا من خلقه شَرِيكا لَهُ.

3

قَوْله تَعَالَى {وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا} قرئَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ أَن الْجِنّ قَالُوا، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فنصبه على معنى: آمنا وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا، فانتصب بِوُقُوع الْإِيمَان عَلَيْهِ، وَالْقِرَاءَة بِالْكَسْرِ أحسن الْقِرَاءَتَيْن. وَقَوله تَعَالَى: {جد رَبنَا} أَي: عَظمَة رَبنَا، هَذَا قَول قَتَادَة وَغَيره. وَالْجد: العظمة، وَهُوَ البخت أَيْضا، وَهُوَ أَب الْأَب. وَفِي حَدِيث أنس: كَانَ الرجل منا إِذا قَرَأَ الْبَقَرَة وَآل عمرَان جد فِينَا، أَي: عظم [فِينَا] . وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد " أَي: لَا ينفع ذَا البخت مِنْك بخته إِذا أردْت بِهِ سوءا أَو مَكْرُوها. وَعَن الْحسن قَالَ: تَعَالَى جد رَبنَا أَي: غَنِي رَبنَا. وَعَن إِبْرَاهِيم وَالسُّديّ قَالَا: جد رَبنَا أَي: أَمر رَبنَا.

{مَا اتخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا (3) وَأَنه كَانَ يَقُول سفيهنا على الله شططا (4) وَأَنا ظننا أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا (5) وَأَنه كَانَ رجال من} وَقَوله تَعَالَى: {مَا اتخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا} أَي: زَوْجَة وَولدا.

4

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه كَانَ يَقُول سفيهنا على الله شططا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن السَّفِيه هُوَ إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، وَهُوَ قَول مُجَاهِد، وَالْآخر: أَنه كل عَاص متمرد من الْجِنّ. وَقَوله: {شططا} أَي: كذبا. وَقيل: جورا.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا ظننا أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا} وَقَرَأَ يَعْقُوب: " أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ " أَي: لن تَقول، مَعْنَاهُ ظَاهر، كَأَنَّهُمْ ظنُّوا أَن كل من قَالَ على الله شَيْئا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَأَنه لَا (يجزى) الْكَذِب على الله.

6

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه كَانَ رجال من الْإِنْس} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قرئَ هَذَا كُله بِالنّصب، فَمَا وَجه النصب فِيهِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قد بَينا وَجه النصب فِيمَا سبق، وَبَاقِي الْآيَات نصبت بِحكم الْمُجَاورَة والعطف، أَو بِتَقْدِير آمنا أَو ظننا أَو شَهِدنَا، وَالْعرب قد تتبع الْكَلِمَة الْكَلِمَة فِي الْإِعْرَاب بِنَفس الْمُجَاورَة والعطف مثل قَوْلهم: جُحر ضَب خرب. وَقَوله {يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ} فِي التَّفْسِير: أَن الرجل كَانَ يُسَافر وَالْقَوْم كَانُوا يسافرون، فَإِذا بلغُوا مَكَانا قفرا من الْبَريَّة وأمسوا قَالُوا: نَعُوذ بِسَيِّد هَذَا الْوَادي من سُفَهَاء قومه. وَحكى عَن بَعضهم - وَهُوَ السَّائِب بن أبي كردم - أَنه قَالَ: انْطَلَقت مَعَ أبي فِي سفر ومعنا قِطْعَة من الْغنم، فنزلنا وَاديا قَالَ: فجَاء ذِئْب وَأخذ حملا من الْغنم، فَقَامَ أبي وَقَالَ: يَا عَامر الْوَادي، نَحن فِي جوارك، فحين قَالَ ذَلِك أرسل الذِّئْب الْحمل، فَرجع الْحمل إِلَى الْغنم فَلم تصبه كدمة. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بِرِجَال من

{الْإِنْس يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ فزادوهم رهقا (6) وَأَنَّهُمْ ظنُّوا كَمَا ظننتم أَن لن يبْعَث الله أحدا (7) وَأَنا لمسنا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا الْجِنّ، وَالْجِنّ لَا يسمون رجَالًا؟ وَالْجَوَاب: قُلْنَا يجوز على طَرِيق الْمجَاز، وَقد ورد فِي بعض أَخْبَار الْعَرَب فِي حِكَايَة أَن قوما من الْجِنّ قَالُوا: نَحن أنَاس من الْجِنّ، فَإِذا جَازَ أَن يسموا أُنَاسًا جَازَ أَن يسموا رجَالًا. وَأما قَوْله: {فزادوهم رهقا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِلَّا أَن الْإِنْس زادوا الْجِنّ رهقا أَي: عَظمَة فِي أنفسهم، كَأَن الْإِنْس لما استعاذوا بالجن ازدادوا الْجِنّ فِي أنفسهم عَظمَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ أَن الْإِنْس ازدادوا رقها بالاستعاذة من الْجِنّ. وَمَعْنَاهُ: طغيانا وإثما، كَأَن الْإِنْس لما استعاذوا بالجن وأمنوا على أنفسهم ازدادوا كفرا، وظنوا أَن أَمنهم كَانَ من الْجِنّ. وَقيل: رهقا أَي: غشيانا للمحارم. وَقيل: مُفَارقَة اللائم. قَالَ الْأَعْشَى: لَا شَيْء يَنْفَعنِي من دون رؤيتها ... هَل يشتفي عاشق مَا لم يصب رهقا)

7

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنَّهُمْ ظنُّوا كَمَا ظننتم أَن لن يبْعَث الله أحدا} فِي الْآيَة دَلِيل على أَنه كَانَ فِي الْجِنّ قوم لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ كَمَا فِي الْإِنْس.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لمسنا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا} أَي: ملئت حرسا بِالْمَلَائِكَةِ. وَقَوله: {شهبا} جمع شهَاب، وَهُوَ قِطْعَة من النَّار، وَقد ذكرنَا من قبل صُورَة كَيْفيَّة استراق الشَّيَاطِين السّمع من السَّمَاء، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يسمعُونَ الْكَلِمَة فيضمون إِلَيْهَا عشرَة ويلقونها إِلَى الكهنة، فَلَمَّا كَانَ فِي زمَان النَّبِي حرست السَّمَاء، وَرمى الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ. فَإِن قَالَ قَائِل: لم يزل هَذَا الْأَمر معهودا قبل الرَّسُول، وَهُوَ انقضاض الْكَوَاكِب، وَذكره شعراء الْجَاهِلِيَّة فِي أشعارهم، وَقَالَ بَعضهم.

( {8) وَأَنا كُنَّا نقعد مِنْهَا مقاعد للسمع فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا (9) وَأَنا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا (10) } . (فانقض كالدري يتبعهُ ... نقع (يثور) تخاله طنبا) (قَالَه لاقوه إِلَّا وروى) . وَإِذا كَانَ هَذَا أمرا معهودا فِي الْجَاهِلِيَّة فَمَا معنى تَعْلِيقه بنبوة مُحَمَّد، وعندكم أَنه كَانَ معْجزَة لَهُ وأساسا لنبوته؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لم يكن هَذَا من قبل، وَإِنَّمَا حدث فِي زمَان نبوة الرَّسُول، والأشعار كلهَا منحولة على الْجَاهِلِيَّة، أَو قالوها بعد مولده حِين قرب مبعثه. وَذكر السّديّ: أَن أول من تنبه للرمي بِالشُّهُبِ هُوَ هَذَا الْحَيّ من ثَقِيف، فخافوا خوفًا شَدِيدا وظنوا أَن الْقِيَامَة قد قربت، فَجعلُوا يعتقون العبيد ويسيبون الْمَوَاشِي، فَقَالَ لَهُم ابْن عبد يَا ليل: لَا تعجلوا، وانظروا إِلَى النُّجُوم الْمَعْرُوفَة هَل هِيَ فِي أماكنها؟ فَقَالُوا: هِيَ فِي أماكنها. قَالَ: فَإِن هَذَا لأمر هَذَا الرجل الَّذِي خرج بِمَكَّة. وَالْجَوَاب الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح - أَن الرَّمْي بِالشُّهُبِ قد كَانَ من قبل، وَلكنه لما كَانَ فِي زمَان الرَّسُول كثر وَقَوي. قَالَ معمر: قلت لِلزهْرِيِّ: أَكَانَ الرَّمْي بِالشُّهُبِ قبل الرَّسُول فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: نعم، وَلكنه لما كَانَ زمَان الرَّسُول كثر وَاشْتَدَّ.

9

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا كُنَّا نقعد مِنْهَا مقاعد للسمع} أَي: مقاعد للاستماع. وَقَوله: {فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا} أَي: يجد شهابا أرصد لَهُ [وهيء] ليرمى بِهِ.

10

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا} أَي: أُرِيد بهم الصّلاح فِي ذَلِك أَو الْفساد أَو الْخَيْر أَو الشَّرّ.

{وَأَنا منا الصالحون وَمنا دون ذَلِك كُنَّا طرائق قددا (11) وَأَنا ظننا أَن لن نعجز الله فِي الأَرْض وَلنْ نعجزه هربا (12) وَأَنا لما سمعنَا الْهدى آمنا بِهِ فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا (13) وَأَنا منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا (14) .

11

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا منا الصالحون وَمنا دون ذَلِك} أَي: سوى ذَلِك. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فِي الْجِنّ قدرية ومرئجة وروافض وخوراج، وَغير ذَلِك من الْفرق، وَفِيهِمْ العَاصِي والمطيع والمصلح، وَغير ذَلِك من الْمُؤمن وَالْكَافِر. وَقَوله: {كُنَّا طرائق قددا} أَي: ذَا أهواء مُخْتَلفَة. وقددا مَعْنَاهُ: مُتَفَرِّقَة. قَالَ الشَّاعِر: (الْقَابِض الباسط الْهَادِي بِطَاعَتِهِ ... فِي فتْنَة النَّاس إِذْ أهواؤهم قدد) أَي: مُتَفَرِّقَة.

12

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا ظننا أَن لن نعجز الله فِي الأَرْض} معنى الظَّن هَاهُنَا: الْيَقِين أَي: أيقنا أَن لن نعجزه فِي الأَرْض أَي: لن نفوته، وَلَا يعجز عَنَّا بِأَخْذِهِ إيانا. وَقَوله: {وَلنْ نعجزه هربا} قد بَينا.

13

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا لما سمعنَا الْهدى آمنا بِهِ} أَي: بِالْهدى، وَالْهدى هُوَ الْقُرْآن لِأَنَّهُ يهدي النَّاس. وَقَوله: {فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا} أَي: نُقْصَانا من حَسَنَاته وَلَا زِيَادَة فِي سيئاته. وَقيل: أَي: ظلما.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنا منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون} أَي: الجائرون هم الْكفَّار. يُقَال: أقسط إِذا عدل، وقسط إِذا جَار. فَمن أقسط مقسط، وَمن قسط قاسط. قَالَ الفرزدق: (قومِي هم قتلوا ابْن هِنْد عنْوَة ... عمرا وهم قسطوا على النُّعْمَان)

{وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا (15) وَأَن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقا (16) لنفتنهم فِيهِ وَمن يعرض عَن ذكر ربه يسلكه عذَابا} . أَي: جاروا. وَقَوله: {فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا} أَي: طلبُوا الرشد (وتوخوا) لَهُ. والمتحري والمتوخي بِمَعْنى وَاحِد.

15

وَقَوله: {وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا} أَي: الْكَافِرُونَ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة} .

16

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة} فِي الطَّرِيقَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الْإِيمَان، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَعِكْرِمَة وَجَمَاعَة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحتنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَكِن كذبُوا} . وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الطَّرِيقَة هَاهُنَا طَريقَة الْكفْر والضلالة، وَهَذَا قَول أبي مجلز لَاحق بن حميد من التَّابِعين، وَهُوَ قَول الْفراء وَجَمَاعَة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة} الْآيَة. فَجعل تماديهم فِي الْكفْر سَببا لتوسيع النعم عَلَيْهِم، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء} الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَبْوَاب كل شَيْء من الْخيرَات وَالنعَم. قَالُوا: وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَنَّهُ عرف الطَّرِيقَة بِالْألف وَاللَّام، فَيَنْصَرِف إِلَى الطَّرِيقَة الْمَعْرُوفَة الْمَعْهُودَة شرعا وَهِي الْإِيمَان. وَقَوله: {لأسقيناهم مَاء غدقا} أَي: كثيرا. تَقول الْعَرَب: فرس غيداق إِذا كَانَ كثير الجري وَاسِعَة. وَمَعْنَاهُ: أكثرنا لَهُم المَال وَالنعْمَة؛ لِأَن كَثْرَة المَاء سَبَب لِكَثْرَة المَال.

17

وَقَوله: {لنفتنهم فِيهِ} أَي: لنبتليهم فِيهِ، ونختبرهم فِيهِ.

{صعدا (17) وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا (18) } . وَاسْتدلَّ بِهَذَا من قَالَ: إِن معنى الطَّرِيقَة هُوَ الْكفْر والضلالة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {ولنفتنهم فِيهِ} وَهَذَا لَا يلْزم من قَالَ بالْقَوْل الأول؛ لِأَن كَثْرَة النعم فتْنَة للْمُؤْمِنين والكفرة جَمِيعًا. وَقَوله: {وَمن يعرض عَن ذكر ربه} أَي: عَن الْإِيمَان بربه {يسلكه عذَابا صعدا} أَي: شاقا. وَالْعَذَاب الشاق هُوَ النَّار، وَمَعْنَاهُ: يدْخلهُ النَّار. وَمِنْه قَول عمر رَضِي الله عَنهُ: مَا تَصعَّدَنِي شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خطْبَة النِّكَاح. أَي شقَّتْ. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن قَوْله: {صعدا} هُوَ جبل فِي جَهَنَّم. وَقيل: هُوَ صَخْرَة من نَار يُكَلف الصعُود عَلَيْهَا، فَإِذا صعد عَلَيْهَا وَقع فِي الدَّرك الْأَسْفَل.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} اتّفق الْقُرَّاء على فتح الْألف فِي هَذِه الْآيَة، وَعلة النصب أَن مَعْنَاهُ: وَلِأَن الْمَسَاجِد لله، ثمَّ حذفت اللَّام فانتصب الْألف. وَقيل: انتصبت لِأَن مَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ أَن الْمَسَاجِد لله. وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة أَن الْجِنّ قَالُوا للنَّبِي: نَحن نود أَن نصلي مَعَك، فَكيف نَفْعل وَنحن ناءون عَنْك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {وَأَن الْمَسَاجِد لله} وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ إِن صليتم فمقصودكم حَاصِل من عبَادَة الله تَعَالَى، فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ أحدا، وَهُوَ معنى قَوْله: {فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} وَيُقَال: هُوَ ابْتِدَاء كَلَام. وَالْمعْنَى: أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى يشركُونَ فِي البيع والصوامع، وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ فِي عبَادَة الْأَصْنَام، فَأنْتم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ اعلموا أَن الصَّلَوَات وَالسُّجُود والمساجد كلهَا لله، فَلَا تُشْرِكُوا مَعَه أحدا. وَفِي الْمَسَاجِد أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا بِمَعْنى السُّجُود، وَهِي جمع مَسْجِد. يُقَال: سجدت سجودا ومسجدا وَالْمعْنَى: أَن السُّجُود لله يَعْنِي: هُوَ الْمُسْتَحق للسُّجُود. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمَسَاجِد هِيَ الْمَوَاضِع المبنية للصَّلَاة المهيأة لَهَا، وَهِي جمع مَسْجِد، وَمعنى قَوْله: {لله} نفي الْملك عَنْهَا، أَو مَعْنَاهُ: الْأَمر بإخلاص الْعِبَادَة فِيهَا لله. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْمَسَاجِد هِيَ الْأَعْضَاء الَّتِي يسْجد عَلَيْهَا الْإِنْسَان من جَبهته وَيَديه وركبتيه وقدميه، وَالْمعْنَى: أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يسْجد على هَذِه الْأَعْضَاء إِلَّا لله.

{وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا (19) قل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أشرك بِهِ أحدا (20) } . وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أمرت أَن أَسجد على سَبْعَة أعظم، وَألا أكف ثوبا وَلَا شعرًا ".

19

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه لما قَامَ عبد الله} فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ ينْصَرف إِلَى قَول الْجِنّ، وَمَعْنَاهُ: قَالَ الْجِنّ: {وَإنَّهُ} وَقيل: ينْصَرف إِلَى قَول الله أَي: قَالَ الله تَعَالَى: وَإنَّهُ لما قَامَ عبد الله وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح مَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ أَنه لما قَامَ عبد الله. فعلى القَوْل الأول قَوْله: {كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا} ينْصَرف إِلَى أَصْحَاب النَّبِي وَعبد الله هُوَ الرَّسُول، وَالْمعْنَى: أَن الْجِنّ لما رأو النَّبِي وَأَصْحَابه خَلفه وشاهدوا طواعيتهم لَهُ قَالُوا: كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: يركب بَعضهم بَعْضًا من الطواعية. وعَلى القَوْل الثَّانِي الْمَعْنى: هُوَ أَن الله تَعَالَى حكى عَن الْجِنّ أَن الرَّسُول لما قَرَأَ الْقُرْآن عَلَيْهِم - يَعْنِي: على الْجِنّ - كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: على الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَي: يركب بَعضهم بَعْضًا لحب الإصغاء إِلَى قِرَاءَته وَالِاسْتِمَاع إِلَيْهَا. وَيُقَال: إِن الرَّسُول كَانَ صلى بهم وازدحموا عَلَيْهِ، وَكَاد يركب بَعضهم بَعْضًا. وَفِي بعض التفاسير: كَادُوا يسقطون عَلَيْهِ. وَأما على قِرَاءَة الْفَتْح قَوْله: {كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا} ينْصَرف إِلَى الْجِنّ أَيْضا، و (هُوَ) أظهر الْقَوْلَيْنِ أَن الِانْصِرَاف إِلَى الْجِنّ. وَمن اللبد قَالُوا: تلبد الْقَوْم إِذا اجْتَمعُوا، وَمِنْه اللبد، لِأَن بعضه على بعض. وَقيل: كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: تلبدت الْجِنّ وَالْإِنْس واجتمعوا على أَن يطفئوا نور الله لما قَامَ الرَّسُول يَدعُوهُ أَي: يَدْعُو الله، وَقُرِئَ: " لبدا " أَي: كثيرا. واللبد أَيْضا اسْم آخر نسر من نسور (نعْمَان) بن عَاد، وَكَانَ عَاشَ سَبْعمِائة سنة. وَقيل فِي الْمثل: طَال لبد على أمد.

20

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنَّمَا أدعوا رَبِّي} وَقُرِئَ: " قَالَ إِنَّمَا أدعوا رَبِّي " فِي التَّفْسِير: أَن

{قل إِنِّي لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا (21) قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد وَلنْ أجد من دونه ملتحدا (22) إِلَّا بلاغا من الله ورسالاته وَمن يعْص الله وَرَسُوله} النَّضر بن الْحَارِث قَالَ للنَّبِي: إِنَّك جِئْت بِأَمْر عَظِيم، وخالفت دين آبَائِك، وَأَن الْعَرَب لَا يوافقونك على هَذَا، فَارْجِع إِلَى دين آبَائِك فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {قل إِنَّمَا أدعوا رَبِّي} أَي: أوحد رَبِّي {وَلَا أشرك بِهِ أحدا} أَي: مَعَه أحدا. وَيُقَال: إِن هَذَا قَالَه مَعَ الْجِنّ، وَهُوَ نسق على مَا تقدم.

21

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا} يَعْنِي: لَا أملك ذَلِك بنفسي، وَإِنَّمَا هُوَ من الله تَعَالَى وبعونه وتوفيقه) .

22

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد} روى أَن النَّضر بن الْحَارِث قَالَ لَهُ: ارْجع إِلَى دين آبَائِك وَلَا تخف من أحد، فَإنَّا نجيرك ونمنعك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد} أَي: لن ينصرني ويمنعني من عَذَاب الله أحد. وَيُقَال: إِنَّه خطاب الْجِنّ نسقا على مَا تقدم. وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن ابْن مَسْعُود خرج مَعَ النَّبِي لَيْلَة الْجِنّ، فازدحم الْجِنّ على النَّبِي وتعاووا عَلَيْهِ، فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم يُقَال لَهُ وردان: يَا مُحَمَّد، لَا تخف فَأَنا أجيرك مِنْهُم، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد} . وَقَوله: {وَلنْ أجد من دونه ملتحدا} أَي: ملْجأ. وَقيل: مهربا. وَيُقَال: متعرجا.

23

وَقَوله: {إِلَّا بلاغا من الله} أَي: لَا أملك شَيْئا من الضّر والرشد إِلَّا أَن أبلغ رِسَالَة رَبِّي أَي: لَيْسَ بيَدي إِلَّا هَذَا وَهَذَا التَّبْلِيغ. وَقد قيل: ضرا وَلَا رشدا أَي: لَا أدفَع عَنْكُم ضرا، وَلَا أسوق إِلَيْكُم خيرا، وَلَيْسَ بيَدي إِلَّا أَن أبلغ رِسَالَة رَبِّي. وَقَوله: {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا} أَي: دَائِما.

24

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون} أَي: الْقِيَامَة، قَالَه سعيد بن جُبَير وَغَيره. وَقيل: الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا، قَالَه قَتَادَة وَغَيره.

{فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا (24) قل إِن أَدْرِي أَقَرِيب مَا توعدون أم يَجْعَل لَهُ رَبِّي أمدا (25) عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا (26) إِلَّا من ارتضى من رَسُول فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ} وَقَوله: {فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا} أَي: وَأَقل جندا وأعوانا. وَيُقَال: معنى قَوْله: {وَأَقل عددا} أَي: فِي الْقِيَامَة. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يُعْطي الْمُؤمنِينَ من الْأزْوَاج والولدان والحور والقهارمة (و) وَمَا يكثر عَددهمْ ويزيدوا على أهل بَلْدَة كَثِيرَة من بِلَاد الدُّنْيَا، فَهُوَ معنى قَوْله: {فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا} فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يعيرون النَّبِي وَالْمُؤمنِينَ بقلة النَّاصِر وَقلة الْعدَد، فَقَالَ: {فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا} أَي: فِي الْقِيَامَة، وَإِذا وصل كل أحد إِلَى مستقره.

25

قَوْله تَعَالَى {قل إِن أَدْرِي أَقَرِيب مَا توعدون أم يَجْعَل لَهُ رَبِّي أمدا} أَي: مُدَّة وَغَايَة، وَالْمعْنَى: لَا أَدْرِي أَنه يعجل لكم الْعَذَاب أَو يُؤَخِّرهُ، ويعجل لكم مُدَّة ومهلة. وَقد روى أَن الْمُشْركين كَانُوا يستعجلونه الْعَذَاب، وَيَقُولُونَ: إِلَى مَتى توعدنا الْعَذَاب؟ فَأَيْنَ الْعَذَاب؟ فَأمره الله تَعَالَى أَن يكل ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، وَأَن يَقُول: إِنَّه بيد الله لَا بيَدي.

26

قَوْله تَعَالَى: {عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا} أَي: هُوَ عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا

27

{إِلَّا من ارتضى من رَسُول} فَإِنَّهُ يطلعه على غيبه بِمَا ينزله عَلَيْهِ من الْآيَات والبينات. وَقَوله: {فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ} أَي: يَجْعَل من بَين يَدَيْهِ {وَمن خَلفه رصدا} أَي: حفظَة. وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: مَلَائِكَة يحرسونه. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى مَا بعث وَحيا من السَّمَاء إِلَّا وَمَعَهُ مَلَائِكَة يحرسونه. فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن مَاذَا يَحْفَظُونَهُ ويحرسونه؟ وَالْجَوَاب: أَن الْحِفْظ والحراسة لخطر شَأْن

{من خَلفه رصدا (27) ليعلم أَن قد أبلغوا رسالات رَبهم وأحاط بِمَا لديهم وأحصى كل شَيْء عددا (28) } . الْوَحْي ولتعظيمه فِي النُّفُوس، لَا بِحكم الْحَاجة إِلَى الحراسة والحفظة. يُقَال: إِن الْحِفْظ والحراسة من المسترقين للسمع، لِئَلَّا يسرقوا شَيْئا من ذَلِك ويلقوه إِلَى الكهنة. وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى لما أنزل سُورَة الْأَنْعَام بعث مَعهَا سبعين ألف ملك يحرسونها ". وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن من قَالَ بالنجوم شَيْئا وَادّعى علما من الْغَيْب بجهتها فَهُوَ كَافِر بِالْقُرْآنِ. وَقد قَالَ بَعضهم: الطّرق والجبت والكهان كلهم مضللون وَدون الْغَيْب أشاروا. وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي نهى عَن النّظر فِي النُّجُوم ". وَالْمعْنَى هُوَ النّظر فِيهَا لِلْقَوْلِ بِالْغَيْبِ عَنْهَا، فَأَما النّظر فِيهَا للاهتداء أَو للاعتبار أَو لمعْرِفَة الْقبْلَة وَمَا أشبه ذَلِك مُطلق جَائِز.

28

وَقَوله تَعَالَى: {ليعلم أَن قد أبلغوا رسالات رَبهم} وَقُرِئَ: " رِسَالَة رَبهم " وَهِي وَاحِد الرسالات. وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله تَعَالَى: {ليعلم} فأحد الْأَقْوَال هُوَ أَن مَعْنَاهُ: ليعلم مُحَمَّد أَن الرُّسُل الَّذين كَانُوا قبله قد أبلغوا رسالات رَبهم على مَا أنزل إِلَيْهِم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه منصرف إِلَى الْجِنّ. وَقُرِئَ: " ليعلم الْجِنّ أَن قد أبلغ الرُّسُل رسالات رَبهم على مَا أنزل إِلَيْهِم ". وَالْقَوْل الثَّالِث: ليعلم الْمُؤْمِنُونَ. وَالْقَوْل الرَّابِع: ليعلم الله، أوردهُ الزّجاج وَغَيره. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: ليعلم الله، وَهُوَ عَالم

بالأشياء قبل كَونهَا ووجودها؟ وَالْجَوَاب: أَنا قد بَينا الْجَواب فِيمَا سبق فِي مَوَاضِع كَثِيرَة. وَقد قيل: ليعلم الله تَعَالَى أَن قد أبلغ الرُّسُل رسالات رَبهم شَهَادَة ووجودا، وَقد كَانَ يعلم ذَلِك غيبا. وَقَوله: {وأحاط بِمَا لديهم} أَي: أحَاط علمه بِمَا عِنْدهم. وَقَوله: {وأحصى كل شَيْء عددا} أَي: وأحصى كل شَيْء معدودا. وَيُقَال: عد كل شَيْء عددا، وَهَذَا على معنى أَنه لَا يخفى على الله شَيْء كثير أَو قَلِيل، جليل أَو دَقِيق. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا المزمل (1) قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا (2) } . تَفْسِير سُورَة المزمل وَهِي مَكِّيَّة. وَعند بَعضهم هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل} إِلَى آخر السُّورَة.

المزمل

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} مَعْنَاهُ: يَا أَيهَا المتزمل، أدغمت التَّاء فِي الزَّاي، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر} أَي: يَا أَيهَا المتدثر، أدغمت التَّاء فِي الدَّال. قَالَ ابْن عَبَّاس: لما تراء لَهُ جِبْرِيل - صلوَات الله عَلَيْهِ - فِي ابْتِدَاء الْوَحْي فرق مِنْهُ فرقا شَدِيدا، فَرجع إِلَى بَيته وتزمل بثيابه؛ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} ثمَّ إِن جِبْرِيل - عَليّ السَّلَام - أَكثر الْمَجِيء إِلَيْهِ حَتَّى أنس. قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: وَكَانَ متزملا فِي قطيفة. وَعَن الضَّحَّاك فِي قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} يَا أَيهَا النَّائِم. وَفِي بعض الرِّوَايَات أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - جَاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِم، فَقَالَ: يَا أَيهَا المزمل - أَي النَّائِم - قُم، وَاتخذ لنَفسك ظلا يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله. وَفِي بعض التفاسير عَن عِكْرِمَة: {يَا أَيهَا المزمل} يَا أَيهَا المتزمل بِالنُّبُوَّةِ. وَهُوَ غَرِيب. وَأنْشد فِي المزمل: (كَأَن ثبيرا فِي عرانين وبلة ... كَبِير أنَاس فِي بجاد مزمل) . وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَا أَيهَا المزمل ".

2

وَقَوله: {قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا} أَي: إِلَّا شَيْئا يَسِيرا مِنْهُ. قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ الثُّلُث، وَمَعْنَاهُ: قُم (ثُلثي) اللَّيْل. وَعَن وهب بن مُنَبّه: إِلَّا

{نصفه أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا (3) أَو زد عَلَيْهِ ورتل الْقُرْآن ترتيلا (4) } . قَلِيلا هُوَ دون السُّدس.

3

وَقَوله: {نصفه} يدل على اللَّيْل أَي: قُم نصفه إِلَّا قَلِيلا. وَقيل فِي الْقَلِيل على هَذَا القَوْل: نصفه السُّدس. وَقَوله: {أَو انقص مِنْهُ قَلِيلا} أَي: من النّصْف إِلَى الثُّلُث.

4

وَقَوله {أَو زد عَلَيْهِ} أَي: زد على النّصْف إِلَى الثُّلثَيْنِ. وَالْمعْنَى من الْآيَة: إِيجَاب الْقيام عَلَيْهِ مَعَ توسيع الْأَمر فِي الْمِقْدَار. وَذكر النقاش أَن قَوْله: " نصفه " مَعْنَاهُ: أَو نصفه. وَقَوله: {ورتل الْقُرْآن ترتيلا} أَي: بَينه تبيينا. قَالَ الضَّحَّاك: حرفا حرفا. وَحَقِيقَة الترتيل هُوَ الترسل فِي الْقِرَاءَة وإلقاء الْحُرُوف حَقّهَا من الإشباع بِلَا عجل وَلَا (هذرمة) . وروى أَبُو جَمْرَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لِأَن أَقرَأ سُورَة الْبَقَرَة أرتل ترتيلا أحب إِلَيّ من أَن أَقرَأ جَمِيع الْقُرْآن هذرمة. وَعَن أنس أَنه سُئِلَ عَن قِرَاءَة النَّبِي فَقَالَ: " كَانَ يمد مدا ". وَفِي الحكايات عَن صَدَقَة المقابري أَنه قَالَ: قُمْت لَيْلَة وقرأت أحدر حدرا فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أزرع شَعِيرًا، ثمَّ رتلت فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أزرع حِنْطَة، ثمَّ حققت فَرَأَيْت فِي الْمَنَام كَأَنِّي أزرع سمسما. وَقد صَحَّ بِرِوَايَة سعد بن هِشَام أَنه قَالَ: قلت لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: أَخْبِرِينِي عَن قيام رَسُول الله بِاللَّيْلِ. فَقَالَت: أَلَسْت تقْرَأ سُورَة المزمل؟ قلت: نعم. قَالَت:

{إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا (5) إِن ناشئة اللَّيْل هِيَ أَشد وطئا} " فرض الله تَعَالَى قيام اللَّيْل على النَّبِي وَأَصْحَابه، فَقَامُوا سنة حَتَّى تورمت أَقْدَامهم، ثمَّ أنزل الله تَعَالَى قَوْله: {إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل} فنسخ قيام اللَّيْل ". وَفِي هَذَا الْخَبَر أَنه أنزل أول السُّورَة وَأمْسك خاتمتها سنة. وَفِي بعض الرِّوَايَات: سِتَّة عشر شهرا. وَفِي بعض الغرائب من الرِّوَايَات: عشر سِنِين.

5

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا} قَالَ الْحسن: ثقيلا الْعَمَل بِهِ. وَقَالَ الزّجاج: هُوَ الصَّلَاة وَالصِّيَام وَسَائِر الْأَوَامِر والنواهي، لَا يَفْعَلهَا الْإِنْسَان إِلَّا بتكلف يثقل عَلَيْهِ. وَعَن قَتَادَة قَالَ: ثقيل وَالله حُدُوده وفرائضه. وَقيل: ثقيلا فِي الْمِيزَان يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه الْحسن فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ الْفراء: هُوَ قَول ثقيل، أَي: لَيْسَ بخفيف وَلَا بسفساف، وَهُوَ ثقيل، أَي: لَهُ وزن بِصِحَّتِهِ وَبَيَانه وتقشعه. يُقَال: هَذَا كَلَام رزين صين أَي: لَيْسَ بقول لَا معنى لَهُ.

6

قَوْله تَعَالَى: {إِن ناشئة اللَّيْل} رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَمُجاهد وَسَعِيد ابْن جُبَير: أَنه اللَّيْل كُله. وَعَن ابْن عمر وَأنس: هُوَ مَا بَين الْمغرب وَالْعشَاء. وَعَن الْكسَائي: أول اللَّيْل. وَعَن بَعضهم: من صَلَاة الْعشَاء الْأَخِيرَة إِلَى الصُّبْح، قَالَه الْحسن وَالْحكم بن عتيبة. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ أَن يَسْتَيْقِظ بعد أَن ينَام. وناشئة اللَّيْل: سَاعَات اللَّيْل، وَحَقِيقَته هِيَ أَن سَاعَات الناشئة من اللَّيْل، أَي: الَّتِي ينشأ بَعْضهَا فِي إِثْر بعض. وَقَوله: {هِيَ أَشد وطئا} وَقُرِئَ: " وطاء " أما قَوْله: {وطأ} قَالَ الْأَخْفَش سعيد ابْن مسْعدَة: أَشد قيَاما. وَالْوَطْء فِي اللُّغَة هِيَ الثّقل. قَالَ النَّبِي " اشْدُد وطأتك على مُضر ". يُقَال: اشْتَدَّ وَطْء السُّلْطَان فِي بلد كَذَا، أَي: ثقله. فعلى هَذَا معنى

{وأقوم قيلا (6) إِن لَك فِي النَّهَار سبحا طَويلا (7) } . قَوْله: {أَشد وطئا} أَي: ثقلا. وَالْمعْنَى: أَنه أثقل على الْبدن؛ لِأَنَّهُ وَقت الرَّاحَة والسكون، فَيكون الْقيام فِيهِ أثقل، وَإِذا كَانَ الْقيام أثقل فالثواب أعظم، فَإِن الْجهد إِذا كَانَ أَشد، وَالْعَمَل أتعب، فالثواب أكبر، وَهُوَ المُرَاد بِالْآيَةِ فِي هَذِه الْقِرَاءَة. وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة أَي: أَشد مواطأة، وَمَعْنَاهُ: مُوَافقَة بَين السّمع وَالْبَصَر وَالْقلب، وَذَلِكَ لقلَّة الحركات وهدء الْأَصْوَات، فَإِن بِالنَّهَارِ تكون الْعين مشتغلة بِالنّظرِ، وَالْأُذن بِالسَّمْعِ، وَالْقلب مشتغل بالتصرفات، فَلَا تقع الْمُوَافقَة بالاستماع والتفهم. قَالَ الْفراء: {أَشد وطأ} أَي أَجْدَر أَن تُحْصُوا مقادير قيامكم لفراغ قُلُوبكُمْ. وَقَوله: {وأقوم قيلا} قَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل: أبين قولا. وَعَن أنس أَنه قَرَأَ قَوْله: {أَشد وطاء} " أهيأ وطاء " وَهُوَ قريب الْمَعْنى من الأول. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: ناشئة اللَّيْل هُوَ جَمِيع اللَّيْل بالحبشية، وَهِي معربة.

7

قَوْله تَعَالَى: {إِن لَك فِي النَّهَار سبحا طَويلا} أَي: فراغا طَويلا للاستراحة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: سبحا طَويلا، أَي: تَصرفا وإقبالا وإدبارا فِي أمورك. وَقَرَأَ يحيى بن يعمر " سبخا طَويلا " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. قَالَ ثَعْلَب: السبح هُوَ الِاضْطِرَاب، والسبخ هُوَ السّكُون. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - فِي السَّارِق مِنْهَا: " لَا تستبخي بِرَأْيِك عَلَيْهِ "، أَي: لَا تخففي.

{وَاذْكُر اسْم رَبك وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا (8) رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا (9) واصبر على مَا يَقُولُونَ واهجرهم هجرا جميلا (10) وذرني}

8

وَقَوله: وَقَوله {وَاذْكُر اسْم رَبك} قَالَ مقَاتل: إِذا قَرَأت فَقل: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عِنْد افْتِتَاح السُّورَة. وَقيل: اذكر رَبك. وَقَوله: {وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} أَي: انْقَطع إِلَيْهِ انْقِطَاعًا. وَمِنْه الْعَذْرَاء البتول لِمَرْيَم، أَي: المنقطعة إِلَى الله تَعَالَى فِي النّسك. وَكَذَلِكَ الزهراء البتول لفاطمة، أَي: المنقطعة عَن أقرانها فِي الْفضل، وَمِنْه صَدَقَة بتلة، أَي: مُنْقَطِعَة خَارِجَة من مَال الْمُتَصَدّق بهَا. وَقيل: {وتبتل إِلَيْهِ تبتيلا} أَي: أخْلص لَهُ إخلاصا. وَذكر النقاش عَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: أَنه رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة. وَعَن زيد بن أسلم: أَنه رفض الدُّنْيَا، وَطلب مَا عِنْد الله تَعَالَى.

9

قَوْله تَعَالَى: {رب الْمشرق وَالْمغْرب لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فاتخذه وَكيلا} قَالَ الْفراء: كَفِيلا. وَقيل: إِلَهًا. وَقيل: كل أمورك.

10

قَوْله تَعَالَى: {واصبر على مَا يَقُولُونَ} وَهَذَا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام قبل نزُول آيَة السَّيْف، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {واهجرهم هجرا جميلا} وَقد نسخ بِآيَة السَّيْف. والهجر الْجَمِيل قيل: هُوَ الَّذِي لَا جزع فِيهِ.

11

قَوْله تَعَالَى {وذرني والمكذبين} فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى قَوْله: {وذرني والمكذبين} وَلَا حَائِل يحول عَنْهُم؟ وَالْجَوَاب: أَن الْعَرَب تَقول ذَلِك وَإِن لم يكن ثمَّ حَائِل وَلَا مَانع على مَا بَينا. وَقَوله: {أولي النِّعْمَة} أَي: التنعم. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " إِن

{والمكذبين أولي النِّعْمَة ومهلهم قَلِيلا (11) إِن لدينا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّة وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) } . عباد الله لَيْسُوا بمتنعمين ". وَقَوله: ومهلهم قَلِيلا) أَي: أمهلهم مُدَّة قَليلَة. قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: لم يكن بَين نزُول هَذِه الْآيَة ووقعة بدر إِلَّا شَيْئا (يَسِيرا) . وَقد قيل: إِن الْآيَة نزلت فِي بني الْمُغيرَة، وَهُوَ مُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم. وَيُقَال: إِنَّهَا نزلت فِي اثْنَي عشر رهطا من قُرَيْش، هم المطعمون يَوْم بدر.

12

قَوْله تَعَالَى: {إِن لدينا أَنْكَالًا} أَي: قيودا. وَقَالَت الخنساء: (دعَاك فَقطعت أنكاله ... ولولاك يَا صَخْر لم تقطع) . وَقَالَ أَبُو عمرَان الْجونِي: إِن لدينا أَنْكَالًا أَي: اللجم من النَّار. وَقَوله: {وَجَحِيمًا} قد بَينا.

13

وَقَوله: {وَطَعَامًا ذَا غُصَّة} قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الزقوم، وَقيل: هُوَ شوك يحصل فِي الْحلق، فَلَا ينزل وَلَا يخرج. وَقيل: هُوَ الضريع. وَفِي الحكايات أَن الْحسن الْبَصْرِيّ طوى ثَلَاث لَيَال وَلم يفْطر، وَكَانَ كلما قدم إِلَيْهِ الطَّعَام ذكر هَذِه الْآيَة فيأمر بِرَفْعِهِ، حَتَّى أكره من بعد على شربة سويق. وَقد ورد فِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار " أَن النَّبِي قرئَ عِنْده هَذِه الْآيَة فَصعِقَ صعقة "،

{يَوْم ترجف الأَرْض وَالْجِبَال وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلا (14) إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا (15) فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول فأخذناه أخذا وبيلا (16) فَكيف تَتَّقُون إِن كَفرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَل الْولدَان شيبا (17) } . وَهُوَ غَرِيب جدا. قَوْله: {وَعَذَابًا أَلِيمًا} أَي: موجعا. وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن الله تَعَالَى يحب النكل على النكل. أَي: الرجل الْقوي المجرب على الْفرس المجرب.

14

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الأَرْض وَالْجِبَال} أَي: تتزلزل، وَمِنْه الرجفة، أَي: الزلزلة. وَقَوله: {وَكَانَت الْجبَال كثيبا مهيلا} أَي: رملا سَائِلًا. وَيُقَال: المهيل هُوَ الَّذِي إِذا أَخذ الطّرف مِنْهُ انهال الطّرف الآخر.

15

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم} وَهُوَ مُحَمَّد. وَقَوله تَعَالَى: {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا} هُوَ مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ.

16

وَقَوله: {فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} أَي: خرج عَن أمره. وَقَوله: {فأخذناه أخذا وبيلا} أَي: شَدِيدا. يُقَال: طَعَام وبيل إِذا أكله الْإِنْسَان فَلم يستمرئه. وَقيل وبيلا: ثقيلا.

17

قَوْله تَعَالَى: {فَكيف تَتَّقُون إِن كَفرْتُمْ يَوْمًا} أَي: كَيفَ تَتَّقُون [إِن كَفرْتُمْ من عَذَاب يَوْم؟] ثمَّ وصف الْيَوْم فَقَالَ: {يَجْعَل الْولدَان شيبا} وَهَذَا على طَرِيق كَلَام الْعَرَب فِي ذكر شدَّة الْيَوْم، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: هُوَ يَوْم تشيب [فِيهِ] النواصي، وَيَوْم يبيض فِيهِ القار. فَالْمُرَاد من الْآيَة هُوَ الْإِخْبَار عَن شدَّة الْأَمر. وَفِي التَّفْسِير: أَنه يشيب فِيهِ ولدان الْكفَّار لَا ولدان الْمُؤمنِينَ.

{السَّمَاء منفطر بِهِ كَانَ وعده مَفْعُولا (18) إِن هَذِه تذكرة فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا (19) إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه وَثلثه وَطَائِفَة من}

18

وَقَوله: {السَّمَاء منفطر بِهِ} قد ورد عَن كثير من السّلف أَن قَوْله: {منفطر بِهِ} أَي: بِاللَّه، وَهُوَ نزُول يَوْم الْقِيَامَة لفصل الْقَضَاء بِلَا كَيفَ. وَقيل: السَّمَاء منفطر بِهِ أَي: فِيهِ، يَعْنِي أَن السَّمَاء منشقة فِي يَوْم الْقِيَامَة. ذكره أَبُو جَعْفَر النّحاس، وَذكر أَنه أحسن الْمعَانِي. وَقَوله: {كَانَ وعده مَفْعُولا} أَي: متحققا كَائِنا لَا محَالة.

19

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذِه تذكرة} أَي: السُّورَة تذكرة عِبْرَة عظة. قَوْله: {فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا} أَي: طَرِيقا ووجهة إِلَى الله تَعَالَى.

20

قَوْله تَعَالَى: {إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل وَنصفه} وَقُرِئَ: " وَنصفه " فَمن قَرَأَ بِفَتْح الْفَاء نَصبه على تَفْسِير الْأَدْنَى، وَمن قَرَأَ بِكَسْر الْفَاء، أَي: أدنى من نصفه. وَقَوله: {وَثلثه} مَعْطُوف [على] النّصْف فِي الْقِرَاءَتَيْن. وَقَوله: {وَطَائِفَة من الَّذين مَعَك} قد بَينا أَن النَّبِي وَأَصْحَابه قَامُوا حولا حَتَّى تورمت أَقْدَامهم. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يقومُونَ جَمِيع اللَّيْل مَخَافَة أَن ينقصوا من الْمِقْدَار الْمَفْرُوض. وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه كَانَ الْقيام مَفْرُوضًا على النَّبِي وَجَمِيع أَصْحَابه أَو على النَّبِي وَحده؟ فَفِي أحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع أَصْحَابه. وَفِي قَول آخر: كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ وَحده [ذكره] أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ، وَذكر أَيْضا قَوْلَيْنِ فِي أَنه هَل بَقِي عَلَيْهِ قيام اللَّيْل بعد النّسخ؟

{الَّذين مَعَك وَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار علم أَن لن تحصوه فَتَابَ عَلَيْكُم فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن النّسخ كَانَ فِي حق الصَّحَابَة، وَأما فِي حَقه بَقِي إِلَى أَن توفاه الله تَعَالَى. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه صَار مَنْسُوخا فِي حَقه وَالصَّحَابَة جَمِيعًا، وَإِنَّمَا بقى التَّنَفُّل والتطوع بِهِ فَحسب. وَقَوله: {وَالله يقدر اللَّيْل وَالنَّهَار} أَي: لَا يفوت عَن علمه سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار، فَيعلم مَا يقومُونَ من ذَلِك وَمَا يتركون. وَقَوله: {علم أَن لن تحصوه} أَي: لن [تطيقوه] . وَالْمعْنَى: أَنه يشق عَلَيْكُم معرفَة مِقْدَار الْمَفْرُوض وَالْقِيَام بِالْأَمر، وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان إِذا نَام ثمَّ اسْتَيْقَظَ لَا يدْرِي وَكم نَام وَكم بَقِي من اللَّيْل، وَقد كَانَ الله تَعَالَى فرض قيام اللَّيْل على مِقْدَار مَعْلُوم، وَهُوَ لَا ينقص من الثُّلُث، ويبلغ الثُّلثَيْنِ إِن أَرَادَ. وَقَوله: {فَتَابَ عَلَيْكُم} أَي: نُسْخَة عَلَيْكُم ورفضه، وَمعنى التَّوْبَة هُوَ الرّفْع وَالْعَفو هَاهُنَا. وَقَوله: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: صلوا مَا تيَسّر من (الصَّلَاة) ، وَهَذَا على طَرِيق النَّافِلَة والتطوع لَا على طَرِيق الْفَرْض. وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: يجب قيام اللَّيْل وَلَو حلب شَاة لهَذِهِ الْآيَة. وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول؛ " لِأَنَّهُ قد ثَبت أَن النَّبِي جَاءَهُ أَعْرَابِي ثَائِر الرَّأْس يسمع دوِي صَوته، وَلَا يفهم مَا يَقُول ... الْخَبَر إِلَى أَن قَالَ: هَل على غَيْرهنَّ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَن

{علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله} تطوع ". فَدلَّ هَذَا الْخَبَر أَن قيام اللَّيْل لَيْسَ بمفروض، وَفِيه إِجْمَاع. وَالْقَوْل الثَّانِي: [أَن] قَوْله: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} أَي: فاقرءوا فِي الصَّلَاة مَا تيسير من الْقُرْآن من غير تَوْقِيف وَلَا تَقْدِير. وَهَذَا على قَول الشَّافِعِي وَعَامة الْعلمَاء فِيمَا وَرَاء الْفَاتِحَة. وَقد ذكر أَبُو [الْحسن] الدَّارَقُطْنِيّ فِي كِتَابه بِإِسْنَادِهِ عَن قيس بن أبي حَازِم أَنه قَالَ: صليت خلف ابْن عَبَّاس فَقَرَأَ الْفَاتِحَة فِي الرَّكْعَة الأولى، وَقَرَأَ الْآيَة الأولى من سُورَة الْبَقَرَة، ثمَّ قَامَ فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة وَقَرَأَ الْفَاتِحَة وَالْآيَة الثَّانِيَة من سُورَة الْبَقَرَة، فَلَمَّا فرغ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {فاقرءوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن} يَعْنِي: أَنه الَّذِي تيَسّر. قَالَ عَليّ بن عمر وَهُوَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ دَلِيل على قَول من يَقُول أَن مَا تيسير هُوَ مَا وَرَاء الْفَاتِحَة. وَقَوله: {علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى} أَي: (ذَوُو) مرض. قَوْله: {وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله} أَي: التُّجَّار وَسَائِر الْمُسَافِرين. وَقَوله: {وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله} أَي: الْغُزَاة. وَالْكل بَيَان وُجُوه الْمَشَقَّة فِي قيام اللَّيْل.

{فاقرءوا مَا تيَسّر مِنْهُ وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله هُوَ خيرا وَأعظم أجرا وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم (20) } . وَقَوله: {فاقرءوا مَا تيَسّر مِنْهُ} مَعْنَاهُ على مَا بَينا. وَقَوله: {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} أَي: الصَّلَوَات الْخمس الْمَفْرُوضَة، وَالزَّكَاة الْمَفْرُوضَة. وَقيل بِأَن الزَّكَاة هَاهُنَا: زَكَاة الرُّءُوس، وَهِي زَكَاة الْفطر. وَقيل: {وأقرضوا الله قرضا حسنا} قد ذكرنَا من قبل. وَقيل: هُوَ جَمِيع النَّوَافِل ووجوه الصَّلَاة. وَقيل: هُوَ قَوْله: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر. وَيُقَال: إِنَّه النَّفَقَة على الْأَهْل. وَقَوله: {وَمَا تقدمُوا لأنفسكم من خير تَجِدُوهُ عِنْد الله} أَي: ثَوَابه عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة. وَقَوله: {هُوَ خيرا وَأعظم} نَصبه على أَنه مفعول ثَان من تَجِدُوهُ. وَقيل: هُوَ فصل كَلَام، ذكره الْأَزْهَرِي. وَقَوله: {وَأعظم أجرا} مَعْطُوف على الأول. وَقَوله: {وَاسْتَغْفرُوا الله إِن الله غَفُور رَحِيم} ظَاهر الْمَعْنى وَالله أعلم.

تَفْسِير سُورَة المدثر وَهِي مَكِّيَّة وَذكر جَابر بن عبد الله أَنَّهَا أول سُورَة أنزلت من الْقُرْآن. وروى أَن النَّبِي قَالَ: " جَاوَرت بحراء شهرا، فَلَمَّا نزلت واستبطنت الْوَادي نوديت يَا مُحَمَّد، فَنَظَرت من قدامي وَخَلْفِي ويميني وشمالي فَلم أر أحدا، فنوديت ثمَّ نوديت ثمَّ نوديت، فَرفعت رَأْسِي فَإِذا هُوَ فِي الْعَرْش فِي الْهَوَاء. يَعْنِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فجئثت مِنْهُ فرقا، فَرَجَعت إِلَى الْبَيْت وَقلت: زَمِّلُونِي دَثرُونِي ". وَفِي رِوَايَة: " صبوا عَليّ مَاء بَارِدًا، ثمَّ جَاءَنِي جِبْرِيل فَقَالَ: {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر} . وَمن الْمَعْرُوف أَن أول مَا نزل من الْقُرْآن سُورَة اقْرَأ، ونبين من بعد وَيُمكن الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ فَيُقَال: إِن سُورَة اقْرَأ أول مَا نزل من الْقُرْآن حِين بُدِئَ بِالْوَحْي، وَسورَة المدثر أول مَا نزل بعد فتور الْوَحْي، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {يَا أَيهَا المدثر (1) ثمَّ فَأَنْذر (2) } .

المدثر

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر} مَعْنَاهُ: يَا أَيهَا المتدثر، مثل قَوْله: {يَا أَيهَا المزمل} أَي: المتزمل. وَالْفرق بَين الشعار والدثار، أَن الشعار هُوَ الثَّوْب الَّذِي يَلِي جلد الْإِنْسَان، والدثار هُوَ الثَّوْب الَّذِي فَوق ذَلِك. وَقد روى معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: سَمِعت رَسُول الله يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي، فَقَالَ فِي حَدِيثه: " بَيْنَمَا أَنا أَمْشِي سَمِعت صَوتا من السَّمَاء، فَرفعت رَأْسِي، فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء [جَالِسا] على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فجئثت مِنْهُ رعْبًا، فَرَجَعت وَقلت: زَمِّلُونِي دَثرُونِي، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر} ، وَهَذَا خبر مُتَّفق على صِحَّته. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهِ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد ابْن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن الْبَزَّار، أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا [العذافري] ، أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي أخبرنَا عبد الرَّزَّاق عَن معمر ... الْخَبَر.

2

قَوْله تَعَالَى: {قُم فَأَنْذر} قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس: الْقيام فِي لُغَة الْعَرَب على وَجْهَيْن: قيام جد وعزم، وَقيام انتصاب، فقيام الانتصاب مَعْلُوم، وَقيام الْجد والعزم فَهُوَ مثل قَول الشَّاعِر: (قد رضيناه فَقُمْ فسمه ... ) قَالَه لبَعض الْخُلَفَاء فِي بعض وُلَاة الْعَهْد. وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ النَّبِي قَائِما فَنزل

{وَرَبك فَكبر (3) وثيابك فطهر (4) } . {يَا أَيهَا المدثر} أَي: النَّائِم. {قُم فَأَنْذر} أَي: قُم من النّوم وأنذر النَّاس.

3

وَقَوله: {وَرَبك فَكبر} أَي: عظمه، وَدخلت الْفَاء بِمَعْنى جَوَاب الْجَزَاء. وَقيل: رَبك فَكبر، أَي قل: الله أكبر.

4

وَقَوله: {وثيابك فطهر} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة مَعْنَاهُ: لَا تلبسها على غدر وفجور. وَقَالَ السّديّ: وعملك فَأصْلح. وَقَالَ الشَّاعِر فِي القَوْل الأول: (وَإِنِّي بِحَمْد الله لَا ثوب فَاجر ... لبست وَلَا من غدرة أتقنع) وَقَالَ السّديّ: تَقول الْعَرَب فلَان نقي الثِّيَاب إِذا كَانَت أَعماله صَالِحَة، وَفُلَان دنس الثِّيَاب إِذا كَانَت أَعماله خبيثة. وَقيل: " وثيابك فطهر " أَي: قَلْبك فَأصْلح. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فَإِن يَك قد ساءتك مني خَلِيقَة ... فسلي ثِيَابِي من ثِيَابك تنسل) وَقَالَ طَاوس: وثيابك فطهر، أَي: قصر، فَإِن الثَّوْب إِذا طَال انجر على الأَرْض فَيُصِيبهُ مَا يُنجسهُ. وَقَالَ عمر فِي رجل يجر ثِيَابه: قصر من ثِيَابك فَإِنَّهُ أنقى وَأبقى وَأتقى. وَعَن ابْن سِيرِين فِي قَوْله: {وثيابك فطهر} أَي: [اغسلها] ، من النَّجَاسَات. وَهُوَ قَول مُخْتَار عِنْد الْفُقَهَاء. وَذكر الزّجاج أَن التَّطْهِير هُوَ التَّقْصِير على مَا ذكرنَا عَن طَاوس. وَقيل: ونساءك فَأصْلح، أَي: تزوج الْمُؤْمِنَات العفيفات. وَقد بَينا أَن اللبَاس يكنى

{وَالرجز فاهجر (5) وَلَا تمنن تستكثر (6) ولربك فاصبر (7) فَإِذا نقر فِي الناقور (8) فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير (9) على الْكَافرين غير يسير (10) } . بِهِ عَن النِّسَاء، فَكَذَلِك يجوز فِي الثِّيَاب.

5

وَقَوله: {وَالرجز فاهجر} قَالَ مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم مَعْنَاهُ: فاهجر، أَي: ابعد، وَالْقَوْل الثَّانِي: فِي الْأَوْثَان فاهجر، وَهُوَ قَول مَعْرُوف. وَقد قرئَ: " وَالرجز فاهجر " لهَذَا الْمَعْنى. وَقَالَ الْفراء: الرجز وَالرجز بِمَعْنى وَاحِد. وَقيل: الرجز هُوَ الرجس، يَعْنِي: اجْتنب الرجاسات والنجاسات. وعَلى هَذَا القَوْل أبدلت السِّين بالزاي. وَيُقَال: الرجز هُوَ الْعَذَاب، وَالْمعْنَى: اجْتنب مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعَذَاب.

6

وَقَوله {وَلَا تمنن تستكثر} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وَلَا تمنن أَن تستكثر ". قَالَ الْكسَائي: سَقَطت " أَن " فارتفع. وَقَالَ الْحسن مَعْنَاهُ: لَا تمن بِعَطَائِك على أحد. وَذكر الاستكثار لِأَنَّهُ إِنَّمَا يمن إِذا رَآهُ كثيرا. وَالْقَوْل الْمَعْرُوف: لَا تعط أحدا لتعطي أَكثر مِمَّا تُعْطِي. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَهَذَا فِي حق النَّبِي خَاصَّة؛ لِأَن الله تَعَالَى أمره بأشرف الْآدَاب وَأجل الْأَخْلَاق، فَأَما فِي حق غَيره فَلَا بَأْس بِهِ. رَوَاهُ الْمُغيرَة بن مقسم الضَّبِّيّ عَن إِبْرَاهِيم. وَقد حكى هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ عَن غير إِبْرَاهِيم.

7

وَقَوله: {ولربك فاصبر} قَالَ مُجَاهِد: على مَا أوذيت. وَقيل: على الْحق وإبلاغ الرسَالَة. وَعَن إِبْرَاهِيم قَالَ: ولربك فاصبر حَتَّى تثاب على عَمَلك. أوردهُ النّحاس عَنهُ.

8

قَوْله تَعَالَى {فَإِذا نقر فِي الناقور} أَي: الصُّور. وَيُقَال: هُوَ النفخة الأولى. وَيُقَال: هُوَ الثَّانِيَة. وَقد روى أَن زُرَارَة بن أبي أوفى كَانَ يُصَلِّي بِقوم فَقَرَأَ: {فَإِذا نقر فِي الناقور} فَخر مغشيا [عَلَيْهِ] . وَقيل: إِنَّه شبه البوق.

9

وَقَوله: {فَذَلِك يَوْمئِذٍ يَوْم عسير} أَي: شَدِيد

10

{على الْكَافرين غير يسير} أَي:

{ذَرْنِي وَمن خلقت وحيدا (11) وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا (12) وبنين شُهُودًا (13) } . غير هَين وَلَا لين.

11

{قَوْله تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمن خلقت وحيدا} قَوْله: {ذَرْنِي} مَعْنَاهُ: دَعْنِي. وَقد بَينا وَجه ذَلِك. وَقَوله: {وحيدا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: خلقته وَحده لَا مَال لَهُ وَلَا ولد. وَالثَّانِي: خلقته وحدي لم يشركني فِي خلقه غَيْرِي، وَهُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة على قَول أَكثر الْمُفَسّرين.

12

وَقَوله: {وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا} فِيهِ أَقْوَال كَثِيرَة: أَحدهَا: أَنه ألف دِينَار، قَالَه ابْن عَبَّاس وَعَن سُفْيَان: أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، وَقَالَ قَتَادَة: سِتَّة آلَاف دِينَار. وَعَن مُجَاهِد فِي بعض الرِّوَايَات: مائَة ألف دِينَار. وَالْقَوْل الأول مَعْرُوف؛ لِأَن الْحساب يَمْتَد إِلَيْهِ فَيقطع. وَعَن عمر بن الْخطاب: غلَّة شهر بِشَهْر. وَقد ورد أَنه كَانَ لَهُ بُسْتَان بِالطَّائِف لَا يَنْقَطِع دخله شتاء وَلَا صيفا. وَيُقَال: هُوَ المَال الَّذِي يستوعب جَمِيع وُجُوه المكاسب من التِّجَارَة وَالزَّرْع والضرع وَغير ذَلِك. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: كَانَت لَهُ الْإِبِل المؤبلة وَالْخَيْل المسومة والأنعام من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَغير ذَلِك.

13

قَوْله تَعَالَى: {وبنين شُهُودًا} فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ لَهُ [عشرَة] بَنِينَ، وَقيل: ثَلَاثَة عشر. وَقيل: غير ذَلِك. وَقَوله: {شُهُودًا} أَي: حُضُور لَا يغيبون عَنهُ لحَاجَة أَو لخوف. (رَوَاهُ مُسلم) .

{ومهدت لَهُ تمهيدا (14) ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد (15) كلا إِنَّه كَانَ لآياتنا عنيدا (16) سَأُرْهِقُهُ صعُودًا (17) } . [و] من بنيه أسلم اثْنَان: خَالِد بن الْوَلِيد، وَهِشَام بن الْوَلِيد، وَالْبَاقُونَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة.

14

وَقَوله: {ومهدت لَهُ تمهيدا} التَّمْهِيد هُوَ التهيئة والتوطئة. وَقيل: وسعت عَلَيْهِ الْأَمر توسيعا. (وَيُقَال) : بسطت لَهُ مَا بَين الْيمن وَالشَّام. أَي: فِي التِّجَارَة. وَقيل: التَّمْهِيد هُوَ تيسير أَسبَاب الْمَعيشَة، كَأَنَّهُ كَانَ يَتَيَسَّر عَلَيْهِ كل مَا كَانَ يَطْلُبهُ ويريده من أَسبَابهَا.

15

وَقَوله: {ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد} وروى أَن النَّبِي لما ذكر مَا أعد الله تَعَالَى للْمُسلمين من نعيم الْجنَّة، قَالَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة: أَنا أيسركم وأكثركم بَنِينَ، فَأَنا أَحَق بِالْجنَّةِ مِنْكُم، فَأنْزل الله تَعَالَى: {ثمَّ يطْمع أَن أَزِيد كلا} أَي: لَا أَزِيد. وَقيل هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَقد أعْسر من بعد وَاحْتَاجَ. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ لآياتنا عنيدا} أَي: معاندا. وَقيل: جاحدا.

17

وَقَوله: {سَأُرْهِقُهُ صعُودًا} الإرهاق فِي اللُّغَة: هُوَ حمل الرجل على (الشَّيْء) . وَقَوله: {صعُودًا} روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي قَالَ: " هُوَ جبل من نَار يتَصَعَّد فِيهِ سبعين خَرِيفًا ثمَّ يهوى بِهِ كَذَلِك فِيهِ أبدا ". ذكره أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي كِتَابه، وروى أَنه صَخْرَة من نَار إِذا وضع يَده عَلَيْهَا ذَابَتْ، وَإِذا رَفعهَا عَادَتْ.

{إِنَّه فكر وَقدر (18) فَقتل كَيفَ قدر (19) ثمَّ قتل كَيفَ قدر (20) ثمَّ نظر (21) ثمَّ عبس وَبسر (22) } . قَالَ الْكَلْبِيّ: يجر من قدامه بالسلاسل وَيضْرب من خَلفه بالمقامع فَإِذا صعد عَلَيْهَا هوى هَكَذَا أبدا. وَيُقَال الصعُود: الْعقبَة الشاقة. وَهَذَا القَوْل قريب مِمَّا ذكرنَا.

18

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه فكر} أَي: تدبر. وَقَوله: {وَقدر} هُوَ بِمَعْنى التفكر أَيْضا.

19

وَقَوله: {فَقتل كَيفَ قدر} أَي: لعن كَيفَ قدر. قَالَ صَاحب النّظم مَعْنَاهُ: لعن على أَي حَال قدر مَا قدر.

20

وَقَوله: {ثمَّ قتل كَيفَ قدر} على وَجه التَّأْكِيد، وَمَعْنَاهُ مَا بَينا.

21

وَقَوله: {ثمَّ نظر} أَي: بِرَأْيهِ وعقله فِي أَمر النَّبِي. وروى إِسْحَاق [بن] إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي فِي كِتَابه بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد أَن الْمُشْركين اجْتَمعُوا عِنْد الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَقَالُوا: هَذَا الْمَوْسِم يَأْتِي وَيقدم فِيهِ النَّاس، ويسألوننا عَن هَذَا الرجل، فَإِن سألونا نقُول: إِنَّه شَاعِر. فَقَالَ الْوَلِيد: إِنَّهُم يسمعُونَ كَلَامه ويعلمون أَنه لَيْسَ بشاعر. فَقَالُوا: نقُول: إِنَّه مَجْنُون: فَقَالَ: إِنَّهُم يسمعُونَ حَدِيثه فيعلمون أَنه عَاقل. فَقَالُوا: نقُول إِنَّه كَاهِن. فَقَالَ: إِنَّهُم قد رَأَوْا الكهنة فيعلمون أَنه لَيْسَ بكاهن. قَالُوا: فَمَاذَا نقُول؟ فَحِينَئِذٍ فكر وَقدر وَنظر.

22

وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ عبس وَبسر} أَي: قطب وَجهه. يُقَال للقاطب: وَجهه باسر. وَقيل: العبوس بعد المحاورة، والبسور قبل المحاورة. وَالأَصَح أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الْإِنْسَان إِذا أهمه الْأَمر، وَجعل يتفكر فِيهِ، وَيُؤْتى بعبس وَجهه كالمتكاره بِشَيْء. ثمَّ إِن الْوَلِيد لما فعل جَمِيع مَا فعل للْقَوْم [قَالَ] : قُولُوا: إِنَّه سَاحر؛ فَإِن السَّاحر يبغض بَين المتحابين، ويحبب بَين

{ثمَّ أدبر واستكبر (23) فَقَالَ إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر (24) إِن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر (25) سأصليه سقر (26) وَمَا أَدْرَاك مَا سقر (27) لَا تبقي وَلَا تذر (28) } . المتباغضين، وَإِن مُحَمَّدًا كَذَلِك، فَخَرجُوا واجتمعوا على هَذَا القَوْل، وَجعلُوا يَقُولُونَ لكل من يلقاهم: إِنَّه سَاحر، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ إِن هَذَا إِلَّا سحر يُؤثر} أَي: الْقُرْآن. وَقَوله: {يُؤثر} أَي: يأثره عَن غَيره. كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه يتَعَلَّم من غُلَام ابْن الْحَضْرَمِيّ، وَقيل غَيره. وَقَوله: {ثمَّ أدبر واستكبر} أَي: تولى وتكبر.

25

قَوْله: {إِن هَذَا إِلَّا قَول الْبشر} أَي: الْقُرْآن قَول الْبشر، لَيْسَ بقول الله تَعَالَى.

26

وَقَوله تَعَالَى: {سأصليه سقر} سأدخله، وسقر اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم. قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدَّرك الْخَامِس، والدركات سبع كلهَا فِي الْقُرْآن: جَهَنَّم لظى، والجحيم، وسقر، وسعير، والهاوية، والحطمة.

27

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا سقر} قَالَه تَعْظِيمًا لأمر السقر.

28

وَقَوله: {لَا تبقي وَلَا تذر} قَالَ مُجَاهِد: لَا تبقى حَيا فيستريح، وَلَا مَيتا فيتخلص، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} . وَيُقَال: {لَا تبقى وَلَا تذر} أَي لَا تبقى لَحْمًا وَلَا عظما (وَلَا تذر) أَي: إِذا أحرقت الْكل لم تذر؛ لِأَنَّهُ يعود خلقا جَدِيدا. وَقيل: لَا تبقى أحدا من الْكَافرين، أَي: تَأْخُذ جَمِيع الْكَافرين وَلَا تذرهم من الْعَذَاب وقتا مَا، أَي: تحرقهم أبدا. وَفِي بعض التفاسير: أَن كل شَيْء يسأم ويمل سوى جَهَنَّم.

29

وَقَوله: {لواحة للبشر} أَي محرقة. قَالَ أَبُو رزين: تحرقهم حَتَّى يصيروا سُودًا

{لواحة للبشر (29) عَلَيْهَا تِسْعَة عشر (30) وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَى مَلَائِكَة كالليل المظلم. وَقيل: لواحة للبشر أَي: تحرق اللَّحْم حَتَّى تلوح الْعظم. وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن بشرة أَجْسَادهم تلوح على النَّار، حكى هَذَا عَن مُجَاهِد. وَقيل: لواحة للبشر، أَي: معطشة للبشر، قَالَ الشَّاعِر: (سقتني على لوح من المَاء شربة ... سَقَاهَا بِهِ الله الربَاب والغواديا}

30

وَقَوله: {عَلَيْهَا تِسْعَة عشر} أَي: من الزَّبَانِيَة وخزنة النَّار. وَفِي التَّفْسِير: أَن من منْكب أحدهم إِلَى الْمنْكب الآخر مسيرَة سنة، وَيَأْخُذ بكفه مثل عدد ربيعَة وَمُضر، وَيدْفَع فِي النَّار بدفعة وَاحِدَة سبعين ألفا. وَقيل: تسعين ألفا، وأعينهم كالبرق الخاطف، وأسنانهم كصياص الْبَقر. وَذكر الْكَلْبِيّ أَن لَهُم من الأعوان والجند مَا لَا يعلم عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى.

31

وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَى مَلَائِكَة} سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن النَّبِي لما أخبر بِعَدَد الزَّبَانِيَة، وَقَالَ أَبُو جهل: أرى مُحَمَّدًا يوعدكم بِتِسْعَة عشر وَأَنْتُم الدهم، أَفلا تقرنون مَعَهم ليعمد كل عشرَة مِنْكُم إِلَى وَاحِد فيدفعه. وَقَالَ أَبُو الْأسد بن كلدة - وَكَانَ رجلا من بني جمح -: أَنا أتقدمكم على الصِّرَاط، فأدفع عشرَة بمنكبي الْأَيْمن، وَتِسْعَة بمنكبي الْأَيْسَر، ونمر إِلَى الْجنَّة. وَقَالَ: كلدة بن أسيد: أَنا أكفيكم سَبْعَة عشر، فاكفوني أَنْتُم اثْنَيْنِ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا أَصْحَاب النَّار إِلَّا مَلَائِكَة} أَي: هَؤُلَاءِ التِّسْعَة عشر من الْمَلَائِكَة، وَكَيف تطيقونهم؟ وروى أَن الْمُسلمين لما سمعُوا مِنْهُم هَذَا قَالُوا: تقيسون الْمَلَائِكَة بالحدادين؟ أَي: (السجانين) .

{وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا ليستقين الَّذين أُوتُوا الْكتاب ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا وَلَا يرتاب الَّذين أُوتُوا الْكتاب والمؤمنون وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ} وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا عدتهمْ إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا} أَي: منحة وبلية حَتَّى قَالُوا مَا قَالُوا. وَقَوله: {ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب} أَي: ليستيقن الَّذين أُوتُوا الْكتاب أَن مُحَمَّدًا قَالَ مَا قَالَ من الله تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ وَافق هَذَا الْعدَد الَّذين (وعدوا) فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. وَقَوله: {ويزداد الَّذين آمنُوا إِيمَانًا} أَي: يزْدَاد الَّذين آمنُوا من أهل الْكتاب إِيمَانًا. وَقيل: يزْدَاد جَمِيع الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا إِذا رَأَوْا مَا قَالَه النَّبِي مُوَافقا لما حَكَاهُ أهل الْكتاب. وَقَوله: {وَلَا يرتاب الَّذين أُوتُوا الْكتاب والمؤمنون} أَي: لَا يشكوا فِي الْعدَد إِذا وجدوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن متفقة على هَذَا الْعدَد. وَقَوله: {وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا} أَي: كَيفَ ذكر الله هَذَا الْعدَد وَخص الزَّبَانِيَة بِهِ؟ وَهُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا فتْنَة للَّذين كفرُوا} . وَقَوله: {كَذَلِك يضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} يَعْنِي: كَمَا أضلّ الْكفَّار بِهَذَا الْعدَد، وَهدى الْمُؤمنِينَ لقبوله، كَذَلِك يضل الله من يَشَاء، وَيهْدِي من يَشَاء بِمَا ينزل من الْقُرْآن. وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ} روى أَن الْكفَّار لما سمعُوا هَذَا الْعدَد

{وَمَا هِيَ إِلَّا ذكرى للبشر (31) كلا وَالْقَمَر (32) وَاللَّيْل إِذا أدبر (33) وَالصُّبْح إِذا أَسْفر (34) إِنَّهَا لإحدى الْكبر (35) نذيرا للبشر (36) } . قَالُوا: مَا أقل هَذَا الْعدَد؛ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا يعلم جنود رَبك إِلَّا هُوَ} أَي: لَهُ من الْجنُود سوى هَذَا الْعدَد مَا لَا يعلم عَددهَا إِلَّا هُوَ. وَقَوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذكرى للبشر} أَي: هَذِه الْآيَة عظة وعبرة للبشر.

32

قَوْله تَعَالَى: {كلا وَالْقَمَر} كلا: هُوَ رد لما قَالُوا. وَقَوله: {وَالْقَمَر} ابْتِدَاء قسم.

33

وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا أدبر} وَقُرِئَ: {إِذا أدبر} أَي: تولى وَذهب. وَقَوله: {إِذا أدبر} أَي: إِذا جَاءَ خلف النَّهَار. وروى أَن عبد الله بن عَبَّاس سُئِلَ عَن قَوْله: {وَاللَّيْل إِذا أدبر} فَقَالَ للسَّائِل: امْكُث. فَلَمَّا أذن الْمُؤَذّن للصبح قَالَ: هَذَا حِين دبر اللَّيْل. وَقد أنكر بَعضهم هَذِه الْقِرَاءَة. وَقَالُوا: إِذا دبر، إِنَّمَا يُقَال فِي ظهر الْبَعِير. وَالصَّحِيح مَا بَينا، وهما قراءتان معروفتان. وَقَالَ الْكسَائي وَالْفراء: دبر وَأدبر بِمَعْنى وَاحِد.

34

وَقَوله: {وَالصُّبْح إِذا أَسْفر} أَي: تبين وأضاء. يُقَال: سفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا، (وسفر) الرجل بَيته إِذا كنسه حَتَّى كشف عَن تُرَاب الْبَيْت.

35

وَقَوله: {إِنَّهَا لإحدى الْكبر} أَي: الْقِيَامَة لإحدى العظائم. وَيُقَال: الْكبر دركات جَهَنَّم. وَقَوله: {إِنَّهَا لإحدى الْكبر} أَي: سقر إِحْدَى دركات جَهَنَّم، فَيَنْصَرِف (إِلَى مَا) ذكرنَا.

36

وَقَوله: {نذيرا للبشر} أَي: إنذارا للبشر. وَذكر النّحاس أَنه رَجَعَ إِلَى قَوْله:

{لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يتَقَدَّم أَو يتَأَخَّر (37) كل نفس بِمَا كسبت رهينة (38) إِلَّا أَصْحَاب الْيَمين (39) فِي جنَّات يتساءلون (40) عَن الْمُجْرمين (41) مَا سلككم فِي سقر (42) قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين (43) وَلم نك نطعم الْمِسْكِين (44) وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين (45) وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين (47) فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين (48) } . {قُم} أَي: قُم نذيرا للبشر.

37

وَقَوله: {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يتَقَدَّم أَو يتَأَخَّر} أَي: يتَقَدَّم إِلَى الْإِيمَان أَو يتَأَخَّر عَنهُ.

38

وَقَوله: {كل نفس بِمَا كسبت رهينة} أَي: مرتهنة.

39

وَقَوله: {إِلَّا أَصْحَاب الْيَمين} فليسوا بمرتهنين؛ لِأَنَّهُ لَيست لَهُم ذنُوب. قَالَ زَاذَان عَن عَليّ: هم ولدان الْمُسلمين. وَقيل: هم الْأَنْبِيَاء. وَقيل: هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بأيمانهم. وَقيل: هم الَّذين أخذُوا من صلب آدم من الْجَانِب الْأَيْمن، وَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: هَؤُلَاءِ فِي الْجنَّة وَلَا أُبَالِي. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنهم الْمَلَائِكَة.

40

وَقَوله: {فِي جنَّات} أَي: بساتين. وَقَوله: {يتساءلون عَن الْمُجْرمين مَا سلككم فِي سقر} أَي: مَا أدخلكم فِي سقر، وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَن ذَلِك؛ لأَنهم لم يعرفوا الذُّنُوب، وَهَذَا يَصح إِذا حملنَا على الْمَلَائِكَة وولدان الْمُسلمين، وَأما إِذا حملنَا على غَيرهم، فَهُوَ سُؤال مَعَ الْمعرفَة، وَيجوز أَن يسْأَل الْإِنْسَان عَن غَيره مَعَ معرفَة حَاله.

43

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين وَلم نك نطعم الْمِسْكِين وَكُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين} قَالَ قَتَادَة: كلما غوى قوم غوينا مَعَهم. وَقيل: كُنَّا نَخُوض مَعَ الخائضين فِي أَمر مُحَمَّد، وننسبه إِلَى السحر وَالشعر وَغير ذَلِك.

46

وَقَوله: {وَكُنَّا نكذب بِيَوْم الدّين حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} أَي: الْمَوْت.

48

وَقَوله: {فَمَا تنفعهم شَفَاعَة الشافعين} لأَنهم كفرة، فَلَا يكون لَهُم شَفِيع وَلَو

{فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين (49) كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة (50) فرت من قسورة (51) بل يُرِيد كل امْرِئ مِنْهُم أَن يُؤْتى صحفا منشرة (52) كلا بل لَا يخَافُونَ الْآخِرَة (53) كلا إِنَّه تذكرة (54) فَمن شَاءَ ذكره (55) } . كَانَ لم يَنْفَعهُمْ. وَفِي التَّفْسِير: أَن هَذَا حِين يخرج قوم من الْمُؤمنِينَ من النَّار بشفاعة الْأَنْبِيَاء وَالرسل وَالْمَلَائِكَة وَالْعُلَمَاء وَالصديقين، وكل هَذَا مَرْوِيّ [فِي] الْأَخْبَار، وَيبقى الْكفَّار فِي النَّار على الْخُصُوص.

49

وَقَوله: {فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين} أَي: العظة وَالْعبْرَة.

50

وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة} وَقُرِئَ: {مستنفَرة} بِفَتْح الْفَاء. وَقَوله: {مستنفرة} نافرة. وَقَوله: {مستنفَرة} أَي: مَذْعُورَة.

51

وَقَوله: {فرت من قسورة} قَالَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة: هُوَ الْأسد. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يُقَال بِالْعَرَبِيَّةِ الْأسد، وبالحبشية القسورة، وبالفارسية شير، وبالنبطية أريا. وَعَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فرت من قسورة: هم النقابون. وَقيل: هم رُمَاة النبل.

52

وَقَوله: {بل يُرِيد كل امْرِئ مِنْهُم أَن يُؤْتى صحفا منشرة} روى أَن الْكفَّار قَالُوا: لَا نؤمن بك يَا مُحَمَّد حَتَّى تَأتي كل وَاحِد منا كتابا من الله أَن آمن بِمُحَمد فَإِنَّهُ رَسُولي.

53

وَقَوله: {كلا} أَي: لَا يُؤْتونَ هَذِه الصُّحُف. وَقيل: كلا أَي: لَو أُوتُوا هَذِه الصُّحُف لم يُؤمنُوا. وَقَوله: {بل لَا يخَافُونَ الْآخِرَة} أَي: لَو خَافُوا لم يطلبوا هَذِه الْأَشْيَاء.

54

وَقَوله: {كلا إِنَّه تذكرة} أَي: الْقُرْآن عظة وعبرة.

55

وَقَوله: {فَمن شَاءَ ذكره} أَي: اتعظ بِهِ وَاعْتبر بِهِ، ثمَّ رد الْمَشِيئَة إِلَى نَفسه فَقَالَ:

{وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة (56) } .

56

{وَمَا يذكرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله} أَي: لَا يعتبرون وَلَا يتعظون إِلَّا بمشيئتي. وَقَوله: {هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي: أهل أَن أبقى خَالِدا فِي الْجنَّة من اتَّقى، وَلم يَجْعَل معي إِلَهًا. {وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي: من اتَّقى وَلم يَجْعَل معي إِلَهًا فَأَنا أهل أَن أَغفر لَهُ. وَفِي هَذَا خبر مُسْند بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي على نَحْو هَذَا الْمَعْنى ذكره أَبُو عِيسَى فِي كِتَابه. وَعَن مُحَمَّد بن النَّضر بن الْحَارِث فِي هَذِه الْآيَة أَن قَوْله: {هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة} الْمَعْنى: أَنا أهل أَن أتقي بترك الذُّنُوب {وَأهل الْمَغْفِرَة} أَي: وَأَنا أهل أَن أَغفر للمذنبين إِن لم يتقوا. وَذكر الْأَزْهَرِي فِي قَوْله {بل يُرِيد كل امْرِئ مِنْهُم أَن يُؤْتى صحفا منشرة} قولا آخر: هُوَ أَن الْمُشْركين قَالُوا: كَانَت بَنو إِسْرَائِيل إِذا أذْنب الْوَاحِد مِنْهُم ذَنبا ظهر ذَنبه مَكْتُوبًا على بَاب دَاره، فَمَا بالنا لَا يكون لنا ذَلِك إِن كُنَّا مذنبين؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأخْبر على هَذَا الْمَعْنى، وَأخْبر أَنه لَا يفعل ذَلِك لهَذِهِ الْأمة، وَأَن ذَلِك كَانَ مَخْصُوصًا ببني إِسْرَائِيل. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة (1) . تَفْسِير سُورَة الْقِيَامَة وَهِي مَكِّيَّة وَعَن عمر - رَضِي الله - عَنهُ أَنه قَالَ: من أَرَادَ أَن يُشَاهد الْقِيَامَة فليقرأ سُورَة الْقِيَامَة. وَعَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَنه قَالَ: يَقُولُونَ الْقِيَامَة وَمن مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَته. أورد هذَيْن الأثرين النقاش فِي تَفْسِير.

القيامة

قَوْله تَعَالَى: {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة} قَالَ سعيد بن جُبَير مَعْنَاهُ: أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة. وَعنهُ أَيْضا أَنه سَأَلَ ابْن عَبَّاس عَن قَوْله: {لَا أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة} فَقَالَ: إِن رَبنَا تَعَالَى يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه. وَاخْتلفُوا فِي قَوْله: " لَا " على أَقْوَال: أحد الْأَقْوَال: أَنَّهَا صلَة، أَي: زَائِدَة على مَا هُوَ مَذْهَب كَلَام الْعَرَب، وَأنكر الْفراء هَذَا وَقَالَ: الصِّلَة إِنَّمَا تكون فِي أثْنَاء الْكَلَام، فَأَما فِي ابْتِدَاء الْكَلَام فَلَا، وَمعنى قَوْله: {لَا} أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا يَزْعمُونَ أَن لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار، ثمَّ ابْتَدَأَ بقوله: {أقسم} وَأجَاب من قَالَ بالْقَوْل الأول أَن الْقُرْآن كُله مُتَّصِل بعضه بِالْبَعْضِ فِي الْمَعْنى، فيصلح أَن تكون " لَا " صلَة فِي هَذَا الْموصل وَإِن كَانَ (عِنْد) ابْتِدَاء السُّورَة. وَالْقَوْل الثَّالِث أَن معنى قَوْله: {لَا} على معنى التَّنْبِيه، كَأَنَّهُ قَالَ: أَلا فَتنبه ثمَّ أقسم، وَمثله قَول الشَّاعِر: (أَلا وَأَبِيك ابْنة العامري ... لَا يَدعِي قوم أَنِّي أفر) وَقَرَأَ ابْن كثير: " لأقسم بِيَوْم الْقِيَامَة " وَهِي قِرَاءَة الْحسن والأعرج. وَأنكر النحويون

{وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة (2) أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه (3) بلَى قَادِرين على أَن نسوي بنانه (4) } . من الْبَصرِيين هَذِه الْقِرَاءَة وَزَعَمُوا أَنَّهَا لحن، وَقَالُوا: لَا بُد من دُخُول النُّون إِذا كَانَ على هَذَا الْوَجْه، وَالصَّحِيح هِيَ الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَأكْثر الْقُرَّاء على هَذَا. وَقَوله: {بِيَوْم الْقِيَامَة} سميت الْقِيَامَة؛ لِأَن النَّاس يقومُونَ فِي هَذَا الْيَوْم لِلْحسابِ وَجَزَاء الْأَعْمَال.

2

وَقَوله: {وَلَا أقسم بِالنَّفسِ اللوامة} أَي: أقسم. وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: أقسم بِيَوْم الْقِيَامَة، وَلم يقسم بِالنَّفسِ اللوامة. وَالأَصَح أَن الْقسم بهما. وَفِي اللوامة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْفَاجِرَة تلام يَوْم الْقِيَامَة، فَمَعْنَى اللوامة: الملومة هَاهُنَا على هَذَا القَوْل. وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنَّهَا المؤمنة تلوم نَفسهَا على مَا تفعل من الْمعاصِي. قَالَ مُجَاهِد: الْمُؤمن يلوم نَفسه على الْمعاصِي، وَالْكَافِر يمْضِي قدما قدما فِي الْمعاصِي وَلَا يفكر فِيهِ. وَفِي التَّفْسِير: أَنه مَا من أحد إِلَّا وَيَلُوم نَفسه يَوْم الْقِيَامَة؛ إِن كَانَ محسنا يلوم أَلا ازْدَادَ واستكثر من الْإِحْسَان، وَإِن كَانَ مسيئا يلوم نَفسه أَلا أقلع عَن الْإِسَاءَة والمعاصي.

3

وَقَوله {أيحسب الْإِنْسَان أَن لن نجمع عِظَامه} أَي: لن نحيي عِظَامه (فنجمعها) للإحياء بعد تفرقها.

4

وَقَوله: {بلَى} هُوَ جَوَاب الْقسم، وَعَلِيهِ وَقع الْقسم. وَقَوله: {قَادِرين} أَي: بلَى لنجمعنكم قَادِرين. وَقيل: بلَى نقدر قَادِرين. وَقَوله: {على أَن نسوي بنانه} أَي: على تَسْوِيَة بنانه، وَهِي أَطْرَاف الْأَصَابِع، وفيهَا عِظَام صغَار، وخصها بِالذكر؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذا قدر على جمع الْعِظَام الصغار فعلى الْكِبَار أقدر على جمعهَا وإحيائها. وَعَن قَتَادَة فِي قَوْله: {على أَن نسوي بنانه} أَن

{بل يُرِيد الْإِنْسَان ليفجر أَمَامه (5) يسْأَل أَيَّانَ يَوْم الْقِيَامَة (6) فَإِذا برق الْبَصَر (7) وَخسف الْقَمَر (8) } . نجْعَل أَصَابِعه بِمَنْزِلَة خف الْبَعِير وحافر الْحمار، وَهَذَا قَول مَشْهُور فِي التفاسير.

5

قَوْله تَعَالَى: {بل يُرِيد الْإِنْسَان ليفجر أَمَامه} فِي التَّفْسِير: أَن مَعْنَاهُ: يقدم الذَّنب وَيُؤَخر التَّوْبَة. وَهُوَ بِمَعْنى التسويف فِي ترك الْمعاصِي وَالتَّوْبَة إِلَى الله. وروى عَليّ بن أبي طَلْحَة الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس أَن مَعْنَاهُ: هُوَ التَّكْذِيب بالقيامة، والفجور هُوَ الْميل عَن الْحق، والكاذب مائل عَن الصدْق فَهُوَ فَاجر. وَحكى ابْن قُتَيْبَة أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى عمر - رَضِي الله - عَنهُ وَقَالَ: إِن بَعِيري قد دبر فَاحْمِلْنِي على بعير، فَلم يحملهُ عمر، فولى الْأَعرَابِي وَهُوَ يَقُول: (أقسم بِاللَّه أَبُو حَفْص عمر ... مَا مَسّه من نقب وَلَا دبر) (اغْفِر لَهُ اللَّهُمَّ إِن كَانَ فجر ... ) أَي: كذب. قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {يفجر أَمَامه} أَي: يمْضِي أَمَامه رَاكِبًا هَوَاهُ لَا يفكر فِي ذَنْب، وَلَا يَتُوب عَن مَعْصِيّة.

6

قَوْله تَعَالَى: {يسْأَل أَيَّانَ يَوْم الْقِيَامَة} أَي: مَتى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك على وَجه الِاسْتِهْزَاء، وَهُوَ دَلِيل على صِحَة القَوْل الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس.

7

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا برق الْبَصَر} وَقُرِئَ: " برق " بِالْفَتْح، فَقَوله: " برق الْبَصَر " أَي: شخص من الهول فَلم يطرف. وَقَوله: " برق " أَي: تحير وجزع، وَيُقَال: غشيه مثل الْبَرْق.

8

وَقَوله: {وَخسف الْقَمَر} أَي: ذهب ضوءه. وَمِنْه يُقَال: بِئْر منخسفة وَغير منخسفة. وَعَن أبي حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ أَنه قَالَ: الْكُسُوف أَن يذهب بعض

{وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر (9) يَقُول الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ أَيْن المفر (10) كلا لَا وزر (11) إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المستقر (12) ينبأ الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قدم وَأخر (13) } . الضَّوْء، والخسوف أَن يذهب جَمِيع الضَّوْء. وَهُوَ قَول مَرْوِيّ عَن غَيره أَيْضا.

9

وَقَوله: {وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر} أَي: فِي الخسفة وإذهاب الضَّوْء. قَالَ ابْن مَسْعُود: يصيران كالبعيرين القرينين، ثمَّ يلقيان فِي النَّار فيصيران نَارا على الْكفَّار، وَهَذَا على معنى قَوْله. وَعَن مُجَاهِد: وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر أَي: كور كِلَاهُمَا.

10

وَقَوله: {يَقُول الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ أَيْن المفر} أَي: أَيْن الْمَهْرَب؟ وَقُرِئَ: " أَيْن الْمقر " أَي: أَيْن مَوضِع الْقَرار.

11

وَقَوله: {كلا لَا وزر} أَي: لَا مهرب وَلَا فرار. وَأما قَوْله: {لَا وزر} فِيهِ أَقْوَال: قَالَ سعيد بن جُبَير: لَا محيص. وَقَالَ عِكْرِمَة: لَا مَنْعَة. وَعَن مُجَاهِد: لَا منجا. وَقَالَ مطرف بن عبد الله بن الشخير، وَالضَّحَّاك: لَا جبل. وَهُوَ قَول مَشْهُور، وَقد كَانَت الْعَرَب إِذا طرقتهم الْخَيل قَالُوا: الْوزر الْوزر، أَي: الْجَبَل الْجَبَل. قَالَ الشَّاعِر: (لعمرك مَا للفتى من وزر ... إِذا الْمَوْت يُدْرِكهُ وَالْكبر) وَهَذَا على الْمَعْنى المنجا.

12

وَقَوله: {إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المستقر} أَي: يظْهر مُسْتَقر الْعباد فِي الْجنَّة أَو النَّار.

13

وَقَوله: {ينبأ الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قدم وَأخر} قَالَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: بِمَا قدم من طاعه فَعمل بهَا، وَأخر من (سنة) سَيِّئَة، فَعمل بهَا بعده. وَيُقَال: {بِمَا قدم وَأخر} بِأول عمله وَآخره. وَهُوَ محكي عَن مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم. وَقيل: {بِمَا قدم وَأخر}

{بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة (14) وَلَو ألْقى معاذيره (15) لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ (16) . أَي: يلقى جَزَاء جَمِيع أَعماله من طَاعَة ومعصية. وَعَن زيد بن أسلم: بِمَا قدم من المَال للصدقة، وَأخر من المَال للْوَرَثَة.

14

وَقَوله: {بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة} أَي: شَاهد، وَالْمعْنَى: هُوَ لُزُوم الْحجَّة عَلَيْهِ كَمَا يلْزم بِالشَّهَادَةِ، وَمَا من أحد إِلَّا وَله من نَفسه على نَفسه حجَّة. وَقيل: هُوَ شَهَادَة الْجَوَارِح عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: تشهد عَلَيْهِ يَدَاهُ وَرجلَاهُ وفرجه وَغير ذَلِك. وَدخلت التَّاء فِي قَوْله {بَصِيرَة} للْمُبَالَغَة مثل قَوْلهم: عَلامَة وَرِوَايَة وَمَا يشبهها.

15

وَقَوله: {وَلَو ألْقى معاذيره} فِيهِ قَولَانِ معروفان: أَحدهمَا: وَلَو جَاءَ بِكُل عذر، وأدلى بِكُل حجَّة أَي: لَا يقبل مِنْهُ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُ وَلَا حجَّة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَلَو ألْقى معاذيره} أَي: ستوره، وَاحِدهَا معذار، قَالَ الزّجاج: وَهُوَ السّتْر. وَقيل: هُوَ لُغَة يَمَانِية. وَالْمعْنَى: أَنه وَإِن ستر جَمِيع أعمله بالستور، فَإِنَّمَا تظهر يَوْم الْقِيَامَة ويجازى عَلَيْهِ.

16

قَوْله تَعَالَى: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مُوسَى ابْن أبي عَائِشَة، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس " أَن النَّبِي كَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي يُحَرك بِهِ لِسَانه يُرِيد أَن يحفظه فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {لَا تحرّك بِهِ لسَانك لتعجل بِهِ} قَالَ: وحرك سعيد بن جُبَير شَفَتَيْه، وحرك ابْن عَبَّاس شَفَتَيْه ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن (فراس) ، أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي، أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَن ابْن عُيَيْنَة. الحَدِيث.

{إِن علينا جمعه وقرآنه (17) فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه (18) ثمَّ إِن علينا بَيَانه (19) كلا بل تحبون العاجلة (20) وتذرون الْآخِرَة (21) وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة (22) إِلَى رَبهَا ناظرة (23) } . وَاخْتلف القَوْل أَن النَّبِي لماذا كَانَ يُحَرك لِسَانه؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه كَانَ يحركه مَخَافَة الانفلات لكيلا ينساه، وَهُوَ الْمَعْرُوف. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كَانَ يُحَرك لِسَانه حبا للوحي، ذكره الضَّحَّاك.

17

وَقَوله: {إِن علينا جمعه وقرآنه} أَي: جمعه فِي صدرك. و" قرآنه " أَي: نيسر قِرَاءَته عَلَيْك؛ فالقرآن هَاهُنَا بِمَعْنى الْقِرَاءَة. وَقَالَ قَتَادَة: إِن علينا جمعه وقرآنه فِي صدرك وتآليفه على مَا أَنزَلْنَاهُ.

18

وَقَوله: {فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه} أَي: إِذا أَنزَلْنَاهُ فاستمع لَهُ. وَيُقَال: إِذا قَرَأَهُ جِبْرِيل عَلَيْك فَاتبع قرآنه، وَقيل: فَاتبع قرآنه أَي: فَاتبع الْقُرْآن بِالْعَمَلِ بِهِ فِي الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي.

19

وَقَوله: {ثمَّ إِن علينا بَيَانه} أَي: علينا أَن نجمعه فِي صدرك لتبينه للنَّاس وتقرأه عَلَيْهِم، وَهُوَ مَذْكُور بِمَعْنى تيسير الْحِفْظ عَلَيْهِ وتسهيله بمعونة: الله تَعَالَى، وَقد كَانَ يلقى من الْحِفْظ شدَّة قبل ذَلِك، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة كَانَ إِذا قَرَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيل أطرق، فَإِذا ذهب قَرَأَ كَمَا أنزل.

20

قَوْله تَعَالَى: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الْآخِرَة} هِيَ خطاب للْكفَّار؛ لأَنهم كَانُوا يعْملُونَ للدنيا وَلَا يعْملُونَ للآخرة، فَهَذَا هُوَ معنى الْآيَة.

22

وَقَوله: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} قَوْله: {ناضرة} بالضاد أَي: مسرورة طَلْقَة هشة بشة. والنضرة: هِيَ النِّعْمَة والبهجة فِي اللُّغَة. وَقَوله: {إِلَى رَبهَا ناظرة} هُوَ النّظر إِلَى الله تَعَالَى بالأعين، وَهُوَ ثَابت للْمُؤْمِنين فِي الْجنَّة بوعد الله تَعَالَى وبخبر الرَّسُول.

قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا هدبة [بن] خَالِد عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت الْبنانِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن صُهَيْب عَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة يَقُول الله تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئا أَزِيدكُم؟ فَيَقُولُونَ: ألم تبيض وُجُوهنَا؟ ألم تُدْخِلنَا الْجنَّة وتنجنا من النَّار؟ قَالَ: فَيكْشف الْحجاب، فَمَا أعْطوا شَيْئا أحب إِلَيْهِم من النّظر إِلَى الله تَعَالَى ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس بِإِسْنَادِهِ عَن إِسْرَائِيل عَن ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَن النَّبِي قَالَ: " إِن أدنى أهل الْجنَّة منزلَة لمن ينظر فِي ملكه ألف سنة يرى أقصاه كَمَا يرى أدناه، وَإِن أفضلهم منزلَة لمن ينظر إِلَى الله تَعَالَى كل يَوْم مرَّتَيْنِ ". وَفِي رِوَايَة: " غدْوَة وعشيا، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وجود يَوْمئِذٍ ناضرة} ".

{ووجوه يَوْمئِذٍ باسرة (24) تظن أَن يفعل بهَا فاقرة (25) كلا إِذا بلغت التراقي (26) } . وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ من النّظر إِلَى الله هُوَ قَول عَامَّة الْمُفَسّرين، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَيْضا أَنه حمل الْآيَة على هَذَا، وَذكره سَائِر الروَاة. وَحكى بَعضهم عَن مُجَاهِد: إِلَى ثَوَاب رَبهَا ناظرة، وَلَيْسَ يَصح؛ لِأَن الْعَرَب لَا تطلق هَذَا اللَّفْظ فِي مثل هَذَا الْموضع إِلَّا وَالْمرَاد مِنْهُ النّظر بِالْعينِ، وَلَعَلَّ القَوْل المحكي عَن مُجَاهِد لَا يثبت؛ لِأَنَّهُ لم يُورد من يوثق بروايته. وَحمل بَعضهم قَوْله: {ناظرة} أَي: منتظرة، وَهَذَا أَيْضا تَأْوِيل بَاطِل؛ لِأَن الْعَرَب لَا تصل قَوْله: " ناظرة " بِكَلِمَة " إِلَى " إِلَّا بِمَعْنى النّظر بِالْعينِ، قَالَ الشَّاعِر: (نظرت إِلَيْهَا بالمحصب من منى ... ولي نظر وَلَوْلَا التحرج عَارِم) فَأَما إِذا [أَرَادَ] الِانْتِظَار فَإِنَّهُم لَا يصلونها بإلى، قَالَ الشَّاعِر: (فإنكما إِن تنظراني سَاعَة ... من الدَّهْر تنفعني لَدَى أم جُنْدُب) أَي: تنتظراني، وعَلى الْمَعْنى لَا يَصح أَيْضا هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَن الطلاقة والهشاشة وَالسُّرُور إِنَّمَا يكون بالوصول إِلَى الْمَطْلُوب فَأَما مَعَ الِانْتِظَار فَلَا، فَإِن فِي الِانْتِظَار تنغصا ومشقة.

24

وَقَوله: {ووجوه يَوْمئِذٍ باسرة} أَي: كالحة عابسة.

25

وَقَوله: {تظن أَن يفعل بهَا فاقرة} أَي: تتيقن أَن الَّذِي يفعل بهَا فاقرة، والفاقرة هُوَ الْأَمر الشَّديد الَّذِي ينكسر مَعَه فقار الظّهْر. وَقيل: فاقرة: واهية، أَو أَمر عَظِيم.

26

قَوْله تَعَالَى: {كلا إِذا بلغت التراقي} الْمَعْنى: أَنه لَيْسَ الْأَمر كَمَا يظنون ويتوهمون، (ويستعملون) ذَلِك إِذا بلغت النَّفس التراقي. والتراقي جمع ترقوة،

{وَقيل من راق (27) وَظن أَنه الْفِرَاق (28) والتفت السَّاق بالساق (29) إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المساق (30) فَلَا صدق وَلَا صلى (31) وَلَكِن كذب وَتَوَلَّى (32) ثمَّ ذهب إِلَى أَهله يتمطى (33) } . وَهُوَ مقدم الْحلق الْمُتَّصِل بالصدر، وَهُوَ مَوضِع الحشرجة، ذكره أَبُو عِيسَى.

27

وَقَوله: {وَقيل من راق} أَي: هَل من طَبِيب يشفي ويداوي، قَالَه قَتَادَة. وَقيل مَعْنَاهُ: أَن الْمَلَائِكَة يَقُولُونَ من يرقي بِرُوحِهِ أَي: تصعد مَلَائِكَة الرَّحْمَة أَو مَلَائِكَة الْعَذَاب.

28

وَقَوله: {وَظن أَنه الْفِرَاق} قَرَأَ ابْن عَبَّاس: " وأيقن أَنه الْفِرَاق ". وَهُوَ صَحِيح عَنهُ، وَهُوَ المعني.

29

وَقَوله: {والتفت السَّاق بالساق} أَي: [اتَّصَلت] شدَّة الدُّنْيَا بِشدَّة الْآخِرَة. وَقيل: يجْتَمع عَلَيْهِ كرب الْمَوْت وهول المطلع. قَالَ الضَّحَّاك: هُوَ فِي أَمر عَظِيم، النَّاس يجهزون بدنه، وَالْمَلَائِكَة يجهزون روحه. وَعَن الْحسن: " والتفت السَّاق بالساق " أَي: فِي الْكَفَن، وَهُوَ السَّاق الْمَعْرُوف، وعَلى القَوْل الأول السَّاق بِمَعْنى الشدَّة. وَقد ذكرنَا من قبل.

30

وَقَوله: {إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المساق} أَي: السُّوق، فَإِنَّهُ يساق إِمَّا فِي الْجنَّة، وَإِمَّا إِلَى النَّار بِأَمْر الله تَعَالَى.

31

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا صدق وَلَا صلى} مَعْنَاهُ: فَلَا صدق الْكَافِر وَلَا صلى مَعْنَاهُ: لم يصدق الْكَافِر وَلم يصل. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نزلت الْآيَة فِي أبي جهل بن هِشَام.

32

قَوْله: {وَلَكِن كذب وَتَوَلَّى} أَي: كذب بآيَات الله، وَأعْرض عَن الْحق.

33

وَقَوله: {ثمَّ ذهب إِلَى أَهله يتمطى} أَي: يتبختر. ومشية الْمُطَيْطَاء هِيَ مشْيَة التَّبَخْتُر. وَقيل: هُوَ أَن يولي مطاؤه، والمطا الظّهْر. وَفِي بعض التفاسير: أَنه مشْيَة بني مَخْزُوم. وَقيل: التمطي: هُوَ التمدد من كسل أَو مرض، فَأَما من الْمَرَض فَهُوَ غير مَذْمُوم، وَأما من الكسل إِذا كَانَ تثاقلا عَن الْحق فَهُوَ مَذْمُوم.

{أولى لَك فَأولى (34) ثمَّ أولى لَك فَأولى (35) أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى (36) ألم يَك نُطْفَة من مني يمنى (37) } .

34

وَقَوله: {أولى لَك فَأولى} اخْتلف القَوْل فِي هَذِه اللَّفْظَة، فأحد الْأَقْوَال: أَن مَعْنَاهَا: الويل لَك ثمَّ الويل لَك. وَالثَّانِي: مَعْنَاهَا: وليك الْمَكْرُوه وقارب مِنْك، وَهَذَا قَول قَتَادَة وَجَمَاعَة. وَالْقَوْل الثَّالِث: الذَّم أولى لَك، ثمَّ طرحت لفظ الذَّم للاستغناء عَنْهَا وَلِأَنَّهُ مَعْلُوم، ذكره عَليّ بن عِيسَى. وَفِي التَّفْسِير: " أَن النَّبِي لَقِي أَبَا جهل وَهُوَ يخرج من بَاب بني مَخْزُوم يتبختر، فَأخذ بِيَدِهِ وهزه مرّة أَو مرَّتَيْنِ، ثمَّ قَالَ لَهُ: أولى لَك فَأولى، فَأخْبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن قَول الرَّسُول على مَا قَالَ "، وَهَذَا قَول حسن؛ لِأَن أولى فِي لُغَة الْعَرَب بِمَعْنى كَاد وهم، وَلَفْظَة كَاد بالخلق أليق؛ فَهُوَ حِكَايَة من الله تَعَالَى لقَوْل الرَّسُول. وأنشدوا فِي كلمة أولى قَول الخنساء: (هَمَمْت بنفسي بعض الهموم ... فَأولى لنَفْسي أولى لَهَا) (سأحمل نَفسِي على آلَة ... فإمَّا عَلَيْهَا وَإِمَّا لَهَا) آلَة أَي: حَالَة.

36

قَوْله تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدا} أَي: مهملا لَا يُؤمر وَلَا ينْهَى. قَالَه مُجَاهِد. وَقيل: لَا يبْعَث وَلَا يُحَاسب وَلَا يُعَاقب، قَالَ الشَّاعِر: (فأقسم بِاللَّه جهد الْيَمين ... مَا ترك الله شَيْئا سدى)

37

وَقَوله: {ألم يَك نُطْفَة من مني يمنى} وَقُرِئَ بِالتَّاءِ: " تمنى ". والمني مَاء مَعْرُوف يخلق مِنْهُ الْإِنْسَان، فالقراءة بِالْيَاءِ تتصرف إِلَى المنى، وَالتَّاء تَنْصَرِف إِلَى مَعْنَاهُ، وَهُوَ النُّطْفَة. وَقَوله: {يمنى} أَي: يقذف فِي الرَّحِم. وَقيل: يقدر.

{ثمَّ كَانَ علقَة فخلق فسوى (38) فَجعل مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى (40) } . قَالَ الشَّاعِر: (مَا يمنى لَك الماني ... ) أَي: مَا يقدر لَك الْقدر.

38

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ كَانَ علقَة} أَي: الْمَنِيّ علقَة، وَهُوَ الدَّم المنعقد. وَقَوله: {فخلق فسوى} أَي: فخلق مِنْهُ الْإِنْسَان فسوى خلقه.

39

وَقَوله: {فَجعل مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} وَقيل: من الْمَنِيّ الذّكر وَالْأُنْثَى.

40

وَقَوله: {أَلَيْسَ ذَلِك بِقَادِر على أَن يحيي الْمَوْتَى} مَعْنَاهُ: أَلَيْسَ الله الَّذِي خلق الْإِنْسَان من النُّطْفَة بِقَادِر على أَن يحيى الْمَوْتَى؟ يَعْنِي: هُوَ قَادر. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ إِذا بلغ هَذِه الْآيَة قَالَ: اللَّهُمَّ بلَى. وَفِي رِوَايَة: سُبْحَانَكَ بلَى. وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا فِي بعض المسانيد. وَالله أعلم وَأحكم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر لم يكن شَيْئا مَذْكُورا (1) إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج} . تَفْسِير سُورَة الْإِنْسَان وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول بَعضهم. مَدَنِيَّة فِي قَول بَعضهم، وَقيل: بَعْضهَا مَكِّيَّة وَبَعضهَا مَدَنِيَّة.

الإنسان

قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر} مَعْنَاهُ: قد أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر، قَالَه الْفراء. وَقيل أَتَى على الْإِنْسَان حِين من الدَّهْر، وَالْإِنْسَان هُوَ آدم على قَول أَكثر الْمُفَسّرين. وَعَن ابْن جريج: أَنه كل إِنْسَان من الْآدَمِيّين. وَقَوله تَعَالَى: {حِين من الدَّهْر} هم أَرْبَعُونَ سنة. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: صور الله آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - ثمَّ تَركه أَرْبَعِينَ سنة ينظر إِلَيْهِ، ثمَّ نفخ فِيهِ الرّوح. وَفِي رِوَايَة: خلقه من طين ثمَّ بعد أَرْبَعِينَ سنة صَار صلصالا من غير أَن تمسه النَّار. وَفِي رِوَايَة: كَانَ أَرْبَعِينَ سنة طينا، وَأَرْبَعين سنة حمأ مسنونا، وَأَرْبَعين سنة صلصالا. وَقَوله: {لم يكن شَيْئا مَذْكُورا} أَي: كَانَ شَيْئا إِلَّا أَنه لم يكن شَيْئا يذكر. وروى أَنه قَرَأت هَذِه الْآيَة عِنْد عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ: يَا ليتها تمت، أَي: تِلْكَ الْحَالة.

2

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج} أَي: أخلاط. قَالَ ابْن مَسْعُود: أمشاجها عروقها الَّتِي فِي النُّطْفَة. وَفِي اللُّغَة: أَن الأمشاج وَاحِدهَا مشيج، وَهُوَ الْخَلْط. (وَالْمعْنَى) : هُوَ اخْتِلَاط مَاء الرجل بِمَاء الْمَرْأَة، أَو اخْتِلَاط الدَّم بالنطفة.

{نبتليه فجعلناه سميعا بَصيرًا (2) إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سلاسل وأغلالا وسعيرا (4) } . وَقيل: إِن الله تَعَالَى خلق الطبائع الَّتِي فِي الْإِنْسَان فِي النُّطْفَة من الْحَرَارَة والبرودة والرطوبة واليبوسة، فَهِيَ الأمشاج، ثمَّ عدلها ثمَّ بنى البنية الحيوانية على هَذِه الطبائع المعدلة، ثمَّ نفح فِيهَا الرّوح، ثمَّ شقّ لَهَا السّمع وَالْبَصَر، فسبحان من خلق هَذَا الْخلق من نُطْفَة مهينة أَو علقَة نَجِسَة. وَقيل: أمشاج أَي: أطوار، فالنطفة طور، والعلقة طور، والمضغة طور، وَكَذَلِكَ مَا بعْدهَا. وَقيل: أمشاج أَي: ألوان. وَفِي الْخَبَر: " أَن مَاء الرجل أَبيض غليظ، وَمَاء الْمَرْأَة أصفر رَقِيق، فَإِذا علا مَاء الْمَرْأَة مَاء الرجل آنثتت، وَإِذا علا مَاء الرجل مَاء الْمَرْأَة أذكرت ". وَقَوله: {نبتليه} أَي: نختبره ونمتحنه. وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهَا: فجعلناه سمعيا [بَصيرًا] نبتليه ونختبره.

3

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا هديناه السَّبِيل} أَي: الْخَيْر وَالشَّر، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وهديناه النجدين} . وَقيل بَينا لَهُ طَرِيق الْإِيمَان وَالْكفْر. وَقَوله تَعَالَى: {إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} عِنْد الْبَصرِيين أَن " إِمَّا " بِمَعْنى " أَو " وَعند الْكُوفِيّين أَن مَعْنَاهُ: إِمَّا كَانَ شاكرا وَإِمَّا كَانَ كفورا. وَقيل: إِمَّا شقيا، وَإِمَّا سعيدا.

4

قَوْله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا للْكَافِرِينَ سلاسلا وأغلالا وسعيرا} وَقُرِئَ: " سلاسل "، وَالْأَصْل سلاسل لَا تَنْصَرِف، وَأما صرفه على (قِرَاءَة) من قَرَأَ " سلاسلا وأغلالا

{إِن الْأَبْرَار يشربون من كأس كَانَ مزاجها كافورا (5) } . وسعيرا " على مُوَافقَة قَوْله: {أغلالا} وَذَلِكَ جَائِز على مَذْهَب الْعَرَب. والأغلال جمع غل. وروى جُبَير بن نفير عَن أبي الدَّرْدَاء أَنه قَالَ: ارْفَعُوا أَيْدِيكُم إِلَى الله قبل أَن تغل بالأغلال. وَقَوله: {سعيرا} أَي: نَارا موقدة. وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة عَطِيَّة، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: أَن الله تَعَالَى يبْعَث سَحَابَة فتقف على رُءُوس أهل النَّار، وَيُقَال لَهُم: مَا تُرِيدُونَ: فَيَقُولُونَ: الشَّرَاب، فيمطرهم الله مِنْهَا السلَاسِل والأغلال وَالْحَمِيم. قَالَ الْحسن: إِن الله لَا يغل الْكفَّار عَجزا عَن حفظهم، وَلَكِن حَتَّى إِذا خبت النَّار عَنْهُم أرسبتهم [أغلالهم] فِي أَسْفَل النَّار.

5

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار يشربون} الْأَبْرَار: هم المطيعون. وَقيل: هم الَّذين بروا الْآبَاء وَالْأَبْنَاء. وَعَن الْحسن: هم الَّذين لَا يُؤْذونَ الذَّر. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " مَا من ولد ينظر إِلَى وَالِده نظر بر وَعطف إِلَّا كتب الله لَهُ بِهِ حجَّة، فَقيل: يَا رَسُول الله، وَإِن نظر فِي الْيَوْم مائَة مرّة! قَالَ: الله أكبر وَأطيب ". وَقَوله: {من كأس} قَالَ الزّجاج: الْعَرَب لَا تذكر الكأس إِلَّا إِذا كَانَت فِيهَا الْخمر. قَالَ الشَّاعِر: (صرفت الكأس عَنَّا أم عَمْرو ... وَكَانَ الكأس مجْراهَا اليمينا)

{عينا يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يُوفونَ بِالنذرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا (7) . وَقَوله: {كَانَ مزاجها كافورا} أَي: يمزج بالكافور، وَهُوَ مزاج وجود الرَّائِحَة لَا مزاج وجود الطّعْم. وَقيل: إِن الكافور والزنجبيل اسمان لعينين من عُيُون الْجنَّة.

6

وَقَوله: {عينا يشرب بهَا عباد الله} النصب على الْمَدْح، أَعنِي عينا {يشرب بهَا عباد الله} أَي: مِنْهَا - عباد الله. وَقَوله: {يفجرونها تفجيرا} أَي: يجرونها [جراء] على مَا يُرِيدُونَ ويشتهون. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي أبي بكر وَعمر وَعلي وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد وَأبي عُبَيْدَة. وَفِي بعض التفاسير: وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وسلمان وَأبي ذَر.

7

قَوْله تَعَالَى: {يُوفونَ بِالنذرِ} أَي: يُوفونَ بأقوالهم. وَقيل: هُوَ نفس النّذر. وَالْأولَى أولى؛ لِأَن النّذر مَكْرُوه على مَا ورد فِي بعض الْأَخْبَار: " أَن النّذر يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل ". وَالْمعْنَى: أَن الْجواد لَا يحْتَاج إِلَى النّذر، وعَلى الْجُمْلَة الْوَفَاء بِالنذرِ مَحْمُود. وَقَوله: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَره مُسْتَطِيرا} أَي: فاشيا. وَقيل: ممتدا. وَقيل: منتشرا. قَالَ الشَّاعِر: (وَهَان على سراة بَين لؤَي ... حريق بالبويرة مستطير) أَي: منتشر، وانتشار شَرّ يَوْم الْقِيَامَة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، أما فِي السَّمَوَات فبتكوير شمسها، وخسوف قمرها، وانتشار كواكبها، وطي السَّمَوَات كطي السّجل،

{ويطعمون الطَّعَام على حبه مِسْكينا ويتيما وأسيرا (8) إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نُرِيد مِنْكُم جزاءا وَلَا شكُورًا (9) } . وَمَا أشبه ذَلِك. وَأما شَره فِي الأَرْض فبقلع جبالها، وطم أنهارها، وإخراب نباتها، وَكسر بَعْضهَا على بعض، وَمَا شبه ذَلِك من تَبْدِيل الأَرْض وإهلاك الْخلق وَغَيره.

8

وَقَوله: {ويطعمون الطَّعَام على حبه مِسْكينا} أَي: على حب الطَّعَام وشهوتهم إِيَّاه وحاجتهم إِلَيْهِ. وَقَوله: {مِسْكينا} هُوَ الْمُحْتَاج (ويتيما) هُوَ الَّذِي لَا أَب لَهُ {وأسيرا} قَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الْمَحْبُوس المسجون. وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة وَجَمَاعَة: هُوَ الْأَسير من الْمُشْركين. وَعَن أبي (سُلَيْمَان) الدَّارَانِي: على حب الله. وَاخْتلف القَوْل فِيمَن نزلت هَذِه الْآيَة، فأصح الْأَقَاوِيل: أَن الْآيَة على الْعُمُوم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن، رَوَاهُ عمر بن عبيد، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَحكى عَن ابْن عَبَّاس ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات. وَفِي الْقِصَّة: أَن عليا وَفَاطِمَة أصبحا صَائِمين، فهيأت فَاطِمَة ثَلَاثَة أَقْرَاص من شعير لتأكل قرصا بِنَفسِهَا، وَيَأْكُل عَليّ قرصا، وللحسن وَالْحُسَيْن قرص؛ فَلَمَّا كَانَ الْمسَاء جَاءَ مِسْكين فَأَعْطوهُ أحد الأقراص، ثمَّ جَاءَ يَتِيم فَأَعْطوهُ القرص الثَّانِي، ثمَّ جَاءَ أَسِير فَأَعْطوهُ القرص الثَّالِث وطووا. وَفِي رِوَايَة: أَن عليا كَانَ أجر نَفسه من يَهُودِيّ يَسْتَقِي لَهُ بِشَيْء من شعير، وَحمل ذَلِك الشّعير إِلَى فَاطِمَة، وَأخذت مِنْهُ الأقراص الثَّلَاثَة. وَفِي بعض الرِّوَايَات؟ أَن ذَلِك كَانَ فِي ثَلَاث لَيَال. وَالله أعلم. وَفِي هَذِه الْقِصَّة خبط كثير تركنَا ذكره. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت فِي أبي الدَّرْدَاء.

9

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نُرِيد مِنْكُم جزاءا وَلَا شكُورًا} أَي: جَزَاء بِالْفِعْلِ، وَلَا ثَنَاء بالْقَوْل. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم لم يَقُولُوا هَذَا القَوْل، وَلكنه كَانَ فِي

{إِنَّا نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا عبوسا قمطريرا (10) فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم ولقاهم نَضرة وسرورا (11) وجزاهم بِمَا صَبَرُوا جنَّة وَحَرِيرًا (12) متكئين} . ضميرهم فَأخْبر الله تَعَالَى على مَا كَانَ فِي ضميرهم.

10

قَوْله: {إِنَّا نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا عبوسا قمطريرا} لِأَن الْوُجُوه تنعبس فِيهِ، وأضاف العبوس إِلَى الْيَوْم على طَرِيق مجَاز. وَمعنى " نَخَاف من رَبنَا يَوْمًا " أَي: من عَذَاب يَوْم. وَقَوله: {قمطريرا} أَي: شَدِيدا. يُقَال: يَوْم قمطرير وقماطر إِذا اشْتَدَّ فِيهِ الْأَمر. قَالَ الشَّاعِر: (بنى عمنَا هَل تذكرُونَ بلاءنا ... عَلَيْكُم إِذا مَا كَانَ يَوْم قماطر)

11

وَقَوله تَعَالَى: {فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم ولقاهم نَضرة وسرور} أَي: نَضرة فِي الْوَجْه، وسرورا فِي الْقُلُوب. والنضرة: هِيَ الْحسن فِي الْوُجُوه من النِّعْمَة، وَهِي التنعم.

12

وَقَوله: {وجزاهم بِمَا صَبَرُوا} على الْأَمر وَالنَّهْي. وَقيل: على المحن والشدائد، وعَلى الْجُوع مَعَ الإيثار. وَقَوله: {جنَّة وَحَرِيرًا} أَي: الْبَسَاتِين وَالثيَاب من الديباج.

13

وَقَوله تَعَالَى: {متكئين فِيهَا على الأرائك} الأرائك: هِيَ [السرر] فِي الحجال عَلَيْهَا الْفرش، وَالْعرب لَا تسميها أريكة إِلَّا إِذا كَانَت فِي حجلة. وَقَوله تَعَالَى: {لَا يرَوْنَ فِيهَا شمسا وَلَا زمهريرا} أَي: حرا وَلَا بردا. قَالَ الشَّاعِر: (منعمة طفلة مهاة ... لم تَرَ شمسا وَلَا زمهريرا)

{فِيهَا على الأرائك لَا يرَوْنَ فِيهَا شمسا وَلَا زمهريرا (13) ودانية عَلَيْهِم ضلالها وذللت قطوفها تذليلا (14) وَيُطَاف عَلَيْهِم بآنية من فضَّة وأكواب كَانَت قَوَارِير (15) قَوَارِير من فضَّة قدروها تَقْديرا (16) ويسقون فِيهَا كأسا كَانَ مزاجها زنجبيلا (17) عينا فِيهَا تسمى سلسبيلا (18) } .

14

قَوْله تَعَالَى: {ودانية عَلَيْهِم} نصب " ودانية " عطفا على قَوْله: {متكئين} . وَقَوله: {عَلَيْهِم ظلالها} أَي: ظلال الحجال. وَقَوله: {وذللت قطوفها تذليلا} أَي: أدنيت قطوفها إِلَيْهِم. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم إِذا قَامُوا ارْتَفَعت إِلَيْهِم، وَإِذا قعدوا نزلت إِلَيْهِم، وَإِذا اضطجعوا دنت مِنْهُم، وَقيل: لَا يمنعهُم مِنْهَا بعد وَلَا شوك.

15

وَقَوله تَعَالَى: {وَيُطَاف عَلَيْهِم بآنية من فضَّة وأكواب} والأكواب هِيَ الأباريق الَّتِي لَا خراطيم لَهَا، وَاحِدهَا كوب. وَقَوله تَعَالَى: {كَانَت قَوَارِير} قَالَ الشّعبِيّ: لَهَا صفاء الْقَوَارِير وَبَيَاض الْفضة. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه لَو أخذت قِطْعَة من فضَّة وَجعلت فِي الرقة كجناح ذُبَاب لم ير من دَاخله، وَفِضة الْجنَّة يرى من داخلها، فَهُوَ فِي صفاء الْقَوَارِير على هَذَا الْمَعْنى. وَعنهُ أَيْضا: أَن الْقَوَارِير فِي الدُّنْيَا أَصْلهَا من الرمل، فَإِذا كَانَ أَصْلهَا من الْفضة فِي الْجنَّة فَكيف تكون فِي الْحسن والصفاء. وَعنهُ أَيْضا: أَنه لَا يشبه شَيْء فِي الْجنَّة شَيْئا فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا فِي الدُّنْيَا الْأَسَامِي مِمَّا فِي الْجنَّة فَحسب.

16

وَقَوله: {قَوَارِير من فضَّة قدروها تَقْديرا} أَي: مقدرَة على قدر الرّيّ لَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان. وَقيل: على قدر الْكَفّ أَي: على مَا يَسعهُ. وَقيل: ممتلئة.

17

وَقَوله: {ويسقون فِيهَا كأسا} أَي: من كأس. وَقَوله: {كَانَ مزاجها زنجبيلا} كَانَت الْعَرَب تستطيب طعم الزنجبيل، فَذكر ذَلِك على مَا [اعتادوه] . وَقيل: الزنجبيل اسْم الْعين لَا أَنه زنجبيل مَعْرُوف فِي الطّعْم

{وَيَطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون} . والرائحة. فعلى هَذَا قَوْله: {مزاجها زنجبيلا} أَي: مزاجه من عين الزنجبيل.

18

وَقَوله: {عينا فِيهَا تسمى سلسبيلا} يُقَال: إِن السلسبيل هِيَ عين الزنجبيل أَيْضا، وَنصب على الْمَدْح، وَمَعْنَاهُ: أَعنِي عينا. وَقَوله: {تسمى سلسبيلا} أَي: سلسبيل الجري فِي حُلُوقهمْ. وَفِي بعض الْآثَار: أَنَّهَا إِذا أدنيت من أَفْوَاههم تسلسلت فِي حُلُوقهمْ. وَمن قَالَ فِي قَوْله {سلسبيلا} سلني سَبِيلا إِلَيْهَا فقد أبعد، وَهُوَ تَأْوِيل بَاطِل، وَلَيْسَ هُوَ من قَول أهل الْعلم. وَعَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: لم أسمع سلسبيلا إِلَّا فِي الْقُرْآن. وَقيل: هُوَ اسْم الْعين على مَا ذكرنَا. فَإِن قيل: إِذا جعلتهم سلسبيل اسْم الْعين فَكيف ينْصَرف؟ وَالْجَوَاب: إِنَّمَا انْصَرف؛ لِأَنَّهُ رَأس آيَة، وَقد بَينا من قبل. وروى سُفْيَان، عَن ابْن أبي نجيح، عَن مُجَاهِد قَالَ: سلسبيلا أَي: شَدِيدَة الجري. وَقَالَ قَتَادَة: سلسة أَي: تجْرِي فِي حُلُوقهمْ على غَايَة السهولة. وَقَالَ ثَعْلَب: سلسبيلا أَي: لينًا. وَعَن سعيد بن الْمسيب: السلسبيل عين تجْرِي تَحت الْعَرْش فِي قضيب من ذهب. وَفِي قَوْله: {كَانَ مزاجها زنجبيلا} كَلَام آخر، وَهُوَ أَنه تمزج لسَائِر أهل الْجنَّة، ويشربه المقربون صرفا، وَهُوَ مثل التسنيم على مَا يَأْتِي من بعد. وأنشدوا فِي الزنجبيل: {وَكَأن طعم الزنجبيل بِهِ ... إِذْ دقته وسلافة الْخمر} وَهَذَا يدل على أَنهم كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ طعم الزنجبيل. وَقيل فِي السلسبيل أَيْضا: إِنَّه يسيل عَلَيْهِم فِي قصورهم وغرفهم وعَلى مجَالِسهمْ.

19

قَوْله تَعَالَى: {وَيَطوف عَلَيْهِم ولدان مخلدون} أَي: غلْمَان مخلدون. وَقَوله: {مخلدون} أَي: لَا يبلون وَلَا يفنون. وَقيل: مخلدون مقرطون مسورون. قَالَ الشَّاعِر:

{إِذا رَأَيْتهمْ حسبتهم لؤلؤا منثورا (19) وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت نعيما وملكا كَبِيرا (20) عاليهم ثِيَاب سندس خصر} . (ومخلدات باللجين كَأَنَّمَا ... أعجازهن أقاوز الكثبان) وَقَوله: {إِذا رَأَيْتهمْ حسبتهم لؤلؤا منثورا} إِنَّمَا شبه باللآلئ فِي الصفاء وَالْحسن وَالْكَثْرَة. وَذكر منثورا لِأَن اللُّؤْلُؤ المنثور فِي الْمجْلس أحسن مِنْهُ منظوما. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَنهم ينشرون فِي الْخدمَة، فَلهَذَا قَالَ: {لؤلؤا منثورا} فَلَو كَانَ صفا وَاحِدًا لقَالَ منظوما.

20

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت} فِيهِ حذف، وَالْمعْنَى: إِذا رَأَيْت مَا ثمَّ رَأَيْت {نعيما وملكا كَبِيرا} قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: بلغنَا أَنه تَسْلِيم الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم. وَعَن الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل وَغَيرهمَا أَنهم قَالُوا: هُوَ اسْتِئْذَان الْمَلَائِكَة للتسليم عَلَيْهِم، فَهُوَ الْملك الْكَبِير. وَفِي بعض الْأَخْبَار بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ: " أَن أدنى أهل الْجنَّة منزلَة يكون لَهُ ثَمَانُون ألف خَادِم وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ زَوْجَة ". وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا: للْوَاحِد مِنْهُم سَبْعُونَ قصرا، فِي كل قصر سَبْعُونَ دَارا، فِي كل دَار سَبْعُونَ بَيْتا، فِي كل بَيت خيمة طولهَا فِي السَّمَاء فَرسَخ، وعرضها فَرسَخ فِي فَرسَخ لَهَا أَرْبَعَة آلَاف مصراع من ذهب.

21

قَوْله تَعَالَى: {عاليهم} وَقُرِئَ: " عَالِيَهُم " فَمن قَرَأَ بِفَتْح الْيَاء أَي: فَوْقهم، وَمن قَرَأَ بِسُكُون الْيَاء فَمَعْنَاه: عَلَيْهِم. وَيُقَال: عَلَيْهِم أَي: عَال الحجال الْمَذْكُور من قبل. وَقَوله: {ثِيَاب سندس خضر} وخضر أَي: ألوانها خضر. فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَيَنْصَرِف إِلَى الثِّيَاب، وَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ نعت السندس. والسندس هُوَ مَا رق من

{وإستبرق وحلو أساور من فضَّة وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا (21) إِن هَذَا كَانَ لكم جَزَاء وَكَانَ سعيكم مشكورا (22) } . الديباج والإستبرق مَا غلط مِنْهُ. وَقَوله: {وإستبرق} وَقُرِئَ: " وإستبرق " فعلى الرّفْع ينْصَرف إِلَى الثِّيَاب، وعَلى الْخَفْض على تَقْدِير من إستبرق. وَقَوله: {وحلو أساور من فضَّة} الأساور والأسورة جمع السوار، فَإِن قيل: وَأي زِينَة فِي السوار والأغنياء لَا يبالون بهَا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه قد ذكر الذَّهَب واللؤلؤ فِي مَوضِع آخر، فيحلون من ذهب تَارَة، وَمن فضَّة (تَارَة) ، وَمن لُؤْلُؤ تَارَة؛ ليَكُون أجمع لمحاسن الزِّينَة. وَيُقَال: الذَّهَب للنِّسَاء، وَالْفِضَّة للرِّجَال. وَقيل: إِن الذَّهَب إِنَّمَا يفضل الْفضة فِي الدُّنْيَا لِكَثْرَة الْفضة وَعزة الذَّهَب، وَهَذَا التَّفَاوُت لَا يُوجد فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود عين الزِّينَة، والزينة تُوجد فيهمَا جَمِيعًا. وَقَوله: {وسقاهم رَبهم شرابًا طهُورا} قَالَ الزّجاج: لَيْسَ برجس كخمر الدُّنْيَا. وَعَن أبي قلَابَة وَإِبْرَاهِيم أَنَّهُمَا قَالَا: إِذا فرغ أهل الْجنَّة من الطَّعَام يُؤْتونَ بِالشرابِ الطّهُور، فيطهر أَجْوَافهم، ويضمر بطونهم، وَيُوجد مِنْهُم جشاء وَرشح لَهُ رَائِحَة الْمسك فيشتهون الطَّعَام مرّة أُخْرَى. وَقيل: إِن الشَّرَاب الطّهُور من عين على بَاب الْجنَّة، فَإِذا شرب مِنْهَا الْمُسلمُونَ طهرت أَجْوَافهم من كل غل وخيانة وحسد، وَهَذَا قَول لِأَن الطّهُور هُوَ الطَّاهِر المطهر على مَا ذكر فِي الْقِصَّة. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام [حِين] سُئِلَ عَن التَّوَضُّؤ بِمَاء الْبَحْر فَقَالَ: " هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ " أَي: المطهر مَاؤُهُ.

22

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا كَانَ لكم جزاءا وَكَانَ سعيكم مشكورا} الشُّكْر الْمُضَاف

{إِنَّا نَحن نزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن تَنْزِيلا (23) فاصبر لحكم رَبك وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا (24) وَاذْكُر اسْم رَبك بكرَة وَأَصِيلا (25) وَمن اللَّيْل فاسجد لَهُ وسبحه} . إِلَى الرب تَعَالَى هُوَ بِمَعْنى قبُول الْحَسَنَات وَالْعَفو عَن السَّيِّئَات.

23

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا نَحن نزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن تَنْزِيلا} ظَاهر الْمَعْنى.

24

وَقَوله: {فاصبر لحكم رَبك وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} فِي التَّفْسِير: أَن الآثم هُوَ عتبَة بن ربيعَة، والكفور هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة. وَقيل: إِن الآثم هُوَ أَبُو جهل. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ للنَّبِي: لَو تركت دين آبَائِك؟ ولعلك إِنَّمَا تركت للفقر، فَارْجِع إِلَى دين آبَائِك وَأُعْطِيك نصف مَالِي. وَقَالَ أَبُو البخْترِي بن هِشَام: أَنا أزَوجك ابْنَتي، وَهِي أحسن النِّسَاء جمالا، وأفصحهن منطقا، وأعذبهن لِسَانا. وَقد علمت قُرَيْش ذَلِك. فَسكت النَّبِي فَقَالَ: أَبُو مَسْعُود الثَّقَفِيّ: إِن كنت تخَاف من الله فَأَنا أجيرك مِنْهُ. فحين سمع النَّبِي ذَلِك قَامَ وَذهب؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَهُوَ قَوْله {إِنَّا نَحن نزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن تَنْزِيلا} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ. فَإِن قيل: هلا قَالَ: آثِما وكفورا؟ وأيش معنى " أَو " هَاهُنَا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن لكلمة " أَو " هَاهُنَا زِيَادَة معنى لَا تُوجد فِي الْوَاو، وَهُوَ الْمَنْع من طَاعَة كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد، فَإِن الرجل إِذا قَالَ لغيره: لَا تُطِع فلَانا وَفُلَانًا، فَإِذا أطَاع أَحدهمَا مَا كَانَ عَاصِيا على الْكَمَال، وَإِذا قَالَ: لَا تُطِع فلَانا وَلَا فلَانا أَو فلَانا فَإِذا أطَاع أَحدهمَا كَانَ عَاصِيا على الْكَمَال. وَهُوَ مثل قَوْلهم: جَالس الْحسن أَو ابْن سِيرِين مَعْنَاهُ: أَيهمَا جالسته فَأَنت مُصِيب، وَإِذا قَالَ: جَالس الْحسن وَابْن سِيرِين فَلَا تكون مصيبا إِلَّا إِذا جالستهما. وَكَذَلِكَ يُقَال: اقتد بِمَالك أَو الشَّافِعِي على هَذَا الْمَعْنى.

25

قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر اسْم رَبك بكرَة وَأَصِيلا} أَي: بِالْغُدُوِّ والعشي. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار أَن النَّبِي كَانَ إِذا صلى الْغَدَاة قَالَ: " الله أكبر ثَلَاثًا، وَإِذا صلى الْعَصْر قَالَ: الله أكبر ثَلَاثًا ".

26

قَوْله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فاسجد لَهُ} أَي: صل لَهُ. وَقيل: هُوَ صَلَاة الْمغرب

{لَيْلًا طَويلا (26) إِن هَؤُلَاءِ يحبونَ العاجلة ويذرون وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثقيلا (27) نَحن خلقناهم وشددنا أسرهم وَإِذا شِئْنَا بدنا أمثالهم تبديلا (28) إِن هَذِه تذكرة فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا (29) } . وَقَوله: {وسبحه لَيْلًا طَويلا} هُوَ التَّطَوُّع من بعد صَلَاة الْعشَاء الْأَخِيرَة إِلَى الصُّبْح، وَهَذَا على النّدب والاستحباب.

27

قَوْله تَعَالَى: {إِن هَؤُلَاءِ يحبونَ العاجلة} مَعْنَاهُ: إِن هَؤُلَاءِ الْكفَّار يحبونَ العاجلة أَي: الدُّنْيَا. وَقَوله تَعَالَى: {ويذرون وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثقيلا} هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وتركهم لَهُ هُوَ تَركهم الْعَمَل وَالسَّعْي لَهُ. وَقَوله: {ثقيلا} يجوز أَن يكون سَمَّاهُ ثقيلا لشدَّة الهول والفزع فِيهِ، وَيجوز أَن يكون سَمَّاهُ ثقيلا لفصل الْقَضَاء فِيهِ بَين الْعباد وعدله مَعَهم، وَهُوَ فِي غَايَة الثّقل عَلَيْهِم إِلَّا من تَدَارُكه الله بفضله.

28

قَوْله تَعَالَى: {نَحن خَلَقْنَاكُمْ وشددنا أسرهم} أَي: قوينا خلقهمْ. وَقيل شددنا مفاصلهم. وَقيل: هِيَ الأوصال فشددها بالعروق والأعصاب. وَعَن مُجَاهِد: أَن الْأسر هُوَ الشرج، وَذَلِكَ مصر الْإِنْسَان (تسترخيان) عِنْد الْغَائِط ليسهل خُرُوج الْأَذَى، فَإِذا خرج انقبضا. قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا شِئْنَا بدلنا أمثالهم تبديلا} أَي: أهلكناهم وخلقنا خلقا غَيرهم.

29

قَوْله: {إِن هَذِه تذكرة} أَي: الْآيَات الَّتِي أنزلناها تذكرة أَي: موعظة وعبرة. قَوْله تَعَالَى: {فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه سَبِيلا} أَي: من شَاءَ مِنْكُم أَيهَا المخاطبون أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا فيسهل ذَلِك عَلَيْهِ لوُجُود الدَّلَائِل وَرفع الْأَعْذَار، فَلْيفْعَل.

{وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله إِن الله كَانَ عليما حكيما (30) يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته والظالمين أعد لَهُم عذَابا أَلِيمًا (31) } . وَقيل: هُوَ بِمَعْنى الْأَمر.

30

وَقَوله: {وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله} رد مشيئتهم إِلَى مَشِيئَته، وَالْمعْنَى: لَا يُرِيدُونَ إِلَّا بِإِرَادَة الله، وَهُوَ مُوَافق لعقائد أهل السّنة، أَنه لَا يفعل أحد شَيْئا وَلَا يختاره وَلَا يشاؤه إِلَّا بِمَشِيئَة الله. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن رجلا كَانَ يَقُول: إِلَّا مَا شَاءَ الله وَشاء مُحَمَّد؛ فَسمع النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - ذَلِك فَقَالَ: " أمثلان؟ ثمَّ قَالَ: قل إِلَّا مَا شَاءَ الله ثمَّ شَاءَ مُحَمَّد ". وَقَوله: {إِن الله كَانَ عليما حكيما} قد بَينا.

31

قَوْله تَعَالَى: {يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته} أَي: فِي جنته، وَقيل: فِي الْإِسْلَام. وَالْأول أفضل فِي هَذَا الْموضع، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ عَقِيبه: {والظالمين أعد لَهُم عذَابا أَلِيمًا} أَي: النَّار، وَنصب الظَّالِمين؛ لِأَن تَقْدِيره: وَأعد للظالمين عذَابا أَلِيمًا. وَأورد أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره فِي آخر السُّورَة بِرِوَايَة جَابر الْجعْفِيّ عَن قيس مولى عَليّ أَن الْحسن وَالْحُسَيْن مَرضا مَرضا شَدِيدا، فَنَذر عَليّ صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام، ونذرت فَاطِمَة كَذَلِك، وَنذر الْحسن وَالْحُسَيْن كَذَلِك، فَلَمَّا شفاهما الله تَعَالَى ابتدءوا جَمِيعًا الصَّوْم، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الأول خبزت فَاطِمَة ثَلَاثَة أَقْرَاص من شعير، وقدموها عِنْد إفطارهم لِيُفْطِرُوا، فجَاء مِسْكين، وَقَالَ: يَا أهل بَيت رَسُول الله، مِسْكين على الْبَاب أطعموا مِمَّا أطْعمكُم الله. فَأَعْطوهُ الأقراص وطووا، ثمَّ (إِنَّه) لما كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي اتَّخذت فَاطِمَة - رَضِي الله عَنْهَا - مثل مَا اتَّخذت فِي الْيَوْم الأول، وقدموه عِنْد الْمسَاء لقطروا، فجَاء يَتِيم ودعا كَمَا ذكرنَا، فَأَعْطوهُ وطووا، ثمَّ لما كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث اتَّخذت فَاطِمَة مَا بَينا وقدموه [فِي] الْمسَاء لِيُفْطِرُوا فجَاء أَسِير وَقَالَ: يَا

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {والمرسلات عرفا (1) فالعاصفات عصفا (2) والناشرات نشرا (3) تَفْسِير سُورَة المرسلات وَهِي مَكِّيَّة وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة: قَالَا: هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} وروى إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: نزلت سُورَة والمرسلات على رَسُول الله وَنحن مَعَه على جبل حراء، فأخذتها رطبا من فيِّ رَسُول الله، فَخرجت حَيَّة من جحرها فقصدناها فَدخلت حجره، فَقَالَ النَّبِي: " وقيت شركم كَمَا وقيتم شَرها ". وَالله أعلم.

المرسلات

قَوْله تَعَالَى: {والمرسلات عرفا} قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: على أَنَّهَا الرِّيَاح ترسل عرفا أَي: تتبع بَعْضهَا بَعْضًا كعرف الْفرس. وَعَن ابْن مَسْعُود وَأبي هُرَيْرَة قَالَا: هِيَ الْمَلَائِكَة ترسل بِالْعرْفِ أَي: الْمَعْرُوف.

2

وَقَوله: {فالعاصفات عصفا} هِيَ الرِّيَاح، وعصفها: شدَّة هبوبها، يُقَال: عصفت الرّيح وأعصفت إِذا اشتدت، قَالَه ابْن السّكيت. يُقَال: الرِّيَاح عاصفات لِأَنَّهَا تَأتي بالعصف أَي: بورق الزَّرْع. وَقيل: إِنَّهَا الْمَلَائِكَة تعصف بأرواح الْكفَّار.

3

وَقَوله: {والناشرات نشرا} وَهِي الرِّيَاح أَيْضا تنشر السَّحَاب. وَقيل: إِنَّهَا الْمَلَائِكَة تنشر الصُّحُف على الْعباد يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالَ أَبُو صَالح: هِيَ الأمطار تنشر النَّبَات. قَالَ الْأَعْشَى:

{فالفارقات فرقا (4) فالملقيات ذكرا (5) عذرا أَو نذرا (6) إِنَّمَا توعدون لوَاقِع (7) } . (لَو (أسندت) مَيتا إِلَى صدرها ... عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر) (حَتَّى يَقُول النَّاس (مِمَّا) رَأَوْا ... يَا عجبا للْمَيت الناشر)

4

وَقَوله: {فالفارقات فرقا} فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين: هم الْمَلَائِكَة يأْتونَ بِالْفرقِ بَين الْحق وَالْبَاطِل والحلال وَالْحرَام. وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ آي الْقُرْآن فرقت بَين الْحق وَالْبَاطِل والحلال وَالْحرَام.

5

وَقَوله: {فالملقيات ذكرا} هِيَ الْمَلَائِكَة تلقي الْوَحْي على الْأَنْبِيَاء وَالرسل. وَقيل: إِنَّهُم الْأَنْبِيَاء، وَكَذَلِكَ فسرت الْآيَة الأولى، وَهِي مثل قَوْله: {فالفارقات فرقا} فِي بعض الْأَقْوَال: وَالْإِلْقَاء طرح الشَّيْء على الشَّيْء، وَهُوَ فِي هَذَا الْموضع للتبيين والإفهام؛ فالملائكة يلقون على الْأَنْبِيَاء، والأنبياء يلقون على الْأُمَم، وَالْعُلَمَاء يلقون على المتعلمين.

6

وَقَوله: {عذرا أَو نذرا} وَقُرِئَ: " عذرا " بتسكين الذَّال. قَالَ الْفراء: إعذارا أَو إنذارا. وَقيل: للإعذار والإنذار. وَقَالَ الْحسن: ليقيم عذره [على خلقه] بِإِقَامَة الْحجَّة عَلَيْهِم، وَأَنه عذبهم حِين استحقوا الْعَذَاب بإنكارهم بعد إِقَامَة الْحجَج. والعذر ظُهُور معنى يوضع اللوم عَن الْإِنْسَان، وَهَذَا الْحَد فِي حق الْخلق، فَأَما فِي حق الله فَلَا. وَنصب " عذرا " على أَنه بدل من قَوْله: " ذكرا " وَكَأَنَّهُ قَالَ: فالملقيات عذرا أَو نذرا.

7

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا توعدون لوَاقِع} إِلَى هَذَا الْموضع كَانَ قسما. وَقَوله: {إِنَّمَا توعدون لوَاقِع} عَلَيْهِ وَقع الْقسم. وَقيل: إِن الله تَعَالَى أقسم بِهَذِهِ

{فَإِذا النُّجُوم طمست (8) وَإِذا السَّمَاء فرجت (9) وَإِذا الْجبَال نسفت (10) وَإِذا الرُّسُل أقتت (11) لأي يَوْم أجلت (12) ليَوْم الْفَصْل (13) وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الْفَصْل (14) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (15) } . الْأَشْيَاء، [و] لَهُ أَن يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه. وَقيل: فِي الْآيَات إِضْمَار، وَمَعْنَاهُ: وَرب المرسلات عرفا، وَرب العاصفات ... إِلَى آخِره، فَيكون قد أقسم بِنَفسِهِ.

8

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا النُّجُوم طمست} أَي: محيت وأذهب ضوءها.

9

وَقَوله: {وَإِذا السَّمَاء فرجت} أَي: شقَّتْ.

10

وَقَوله: {وَإِذا الْجبَال نسفت} أَي: قلعت من أماكنها.

11

وَقَوله: {وَإِذا الرُّسُل أقتت} أَي: جمعت لوَقْتهَا، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة؛ ليشهدوا على الْأُمَم. وَقيل: التَّوْقِيت تَقْدِير الْوَقْت لوُقُوع الْفِعْل، فَلَمَّا كَانَت الرُّسُل - عَلَيْهِم السَّلَام - قد قدر إرسالهم لأوقات مَعْلُومَة بِحَسب صَلَاح الْعباد (بهَا) ، كَانَت قد وقتت بِكُل الْأَوْقَات. وَقُرِئَ: " وُقِّتَتْ " و " وُقِتَت " و " أوقتت " بِمَعْنى وَاحِد، وَالْوَاو إِذا ضمت وابتدأ بهَا الْكَلِمَة أبدلت بِالْهَمْز، تَقول الْعَرَب: ووجوه وأجوه، ووجدانا وأجدانا. وَقيل: " وَإِذا الرُّسُل وقتت " أَي: أجلت.

12

وَقَوله: {لأي يَوْم أجلت} أَي: لأي يَوْم أخرت.

13

وَقَوله: {ليَوْم الْفَصْل} أَي: أخرت ليَوْم الْفَصْل، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.

14

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الْفَصْل} قَالَ الْحسن: وَالله مَا درى حَتَّى أعلمهُ الله تَعَالَى.

15

وَقَوله: {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين} قَالَ النُّعْمَان بن بشير: الويل وَاد فِي جَهَنَّم فِيهِ ألوان من الْعَذَاب. وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود أَيْضا.

{ألم نهلك الْأَوَّلين (16) ثمَّ نتبعهم الآخرين (17) كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين (18) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (19) ألم نخلقكم من مَاء مهين (20) فجعلناه فِي قَرَار مكين (21) إِلَى قدر مَعْلُوم (22) فقدرنا فَنعم القادرون (23) } .

16

قَوْله تَعَالَى: {ألم نهلك الْأَوَّلين} أَي: قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَمن قرب من زمانهم.

17

وَقَوله: {ثمَّ نتبعهم الآخرين} أَي: الَّذين كَانُوا بعد ذَلِك من فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون وَمن بعدهمْ.

18

وَقَوله: {كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين} أَي: مُشْركي مَكَّة ننزل بهم مثل مَا نزل بهم، لأَنهم عمِلُوا مثل عَمَلهم. وَقيل: " ثمَّ نتبعهم الآخرين " هم كفار قُرَيْش. وَقَوله: {كَذَلِك نَفْعل بالمجرمين} هم الَّذين يأْتونَ بعدهمْ من الْكفَّار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " ثمَّ سنتبعهم الآخرين " وَقَرَأَ الْأَعْرَج: " ثمَّ نتبعهم " بجزم الْعين.

20

وَقَوله: {ألم نخلقكم من مَاء مهين} قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة: ضَعِيف.

21

وَقَوله: {فجعلناه فِي قَرَار مكين} قَالَ عَطاء وَابْن جريج وَالربيع بن أنس: هُوَ الرَّحِم، وَالْمَاء المهين هُوَ النُّطْفَة.

22

وَقَوله: {إِلَى قدر مَعْلُوم} أَي: إِلَى وَقت مَعْلُوم، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى مُدَّة مكثه فِي الْبَطن فِي رحم الْأُم.

23

قَوْله: {فقدرنا فَنعم القادرون} وَقُرِئَ: " فَقَدَّرنا " بتَشْديد الدَّال. قَالَ القتيبي: هما بِمَعْنى وَاحِد. وَالْعرب تَقول: قَدَر وقَّدَّر. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ " أَي: قدرُوا لَهُ. (وَقد اعْترض على هَذَا القَوْل، فَقيل: لَو كَانَ قَدرنَا

{ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (24) ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا (25) أَحيَاء وأمواتا (26) وَجَعَلنَا فِيهَا رواسي شامخات} . بِمَعْنى قَدرنَا) لقَالَ. فَنعم المقدرون. وَالْجَوَاب: أَنه جمع بَين اللغتين، وَقَالَ الشَّاعِر فِي مثل هَذَا: (وأنكرتني وَمَا كَانَ الَّذِي نكرت ... من الْحَوَادِث إِلَّا الشيب والصلعا) وَقيل: فِي الْفرق بَين قَدرنَا وقدرنا، بِالتَّخْفِيفِ مَعْنَاهُ: ملكنا فَنعم المالكون، وَمعنى قَدرنَا بِالتَّشْدِيدِ أَي: قَدرنَا خلق الْإِنْسَان على تارات مُخْتَلفَة من نُطْفَة وعلقة ومضغة، وَمَا بعد ذَلِك إِلَى أَن جَعَلْنَاهُ إنْسَانا سويا. وَقيل: قَدرنَا شقيا وسعيدا، وصغيرا وكبيرا، وأسود وأبيض وَغير ذَلِك.

25

قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا} أَي: كفتا. وَقيل: مجمعا، فالكفت هُوَ الضَّم، وَمعنى الكفات هَاهُنَا: هُوَ أَن الأَرْض تضم الْخلق أَحيَاء وأمواتا، فالضم فِي حَال الْحَيَاة هُوَ باكتنانهم واستقرارهم على ظهرهَا، وَبعد الْمَمَات باكتنانهم فِي بَطنهَا وَهُوَ الْقُبُور، وَكَانَ بَقِيع الفرقد يُسمى الكفتة وَعَن (ابْن) يحيى بن سعيد وَرَبِيعَة: أَن اللبَاس يقطع إِذا أخرج الْكَفَن وَمن الْحِرْز، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {ألم لنجعل الأَرْض كفاتا أَحيَاء وأمواتا} رَوَاهُ سُلَيْمَان بن (بلَيْل) . وَعَن الْخَلِيل بن أَحْمد: أَن الكفت هُوَ التقلب. وَقَوله: {كفاتا} أَي: متقلبا.

27

قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا فِيهَا رواسي شامخات} أَي: مرتفعات: يُقَال: شمخ فلَان بِأَنْفِهِ إِذا رفع قدره، قَالَ بَعضهم: (إِذا كَانَت الْأَحْرَار أُصَلِّي ومنصبي ... وَقَامَ بأَمْري خازم وَابْن خازم)

{وأسقيناكم مَاء فراتا (27) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (28) انْطَلقُوا إِلَى مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون (29) انْطَلقُوا إِلَى ظلّ ذِي ثَلَاث شعب (30) لَا ظَلِيل وَلَا يُغني من اللهب (31) } . (عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قَاعِدا غير قَائِم) وَقَوله: {وأسقيناكم مَاء فراتا} أَي: عذبا. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: أصُول الْأَنْهَار العذبة أَرْبَعَة: جيحان وَهُوَ نهر بَلخ، ودجلة وفرات للكوفة، ونيل مصر. وَذكر الْكَلْبِيّ أَن فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَة فِي الْجنَّة [الدجلة] ، والفرات، ونهر الْأُرْدُن، وَأنْشد الشَّاعِر: (إِذا غَابَ عَنَّا غَابَ فراتنا ... وَإِن شهد إِحْدَى نبله وفواضله)

29

قَوْله: {انْطَلقُوا إِلَى مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون} فِي التَّفْسِير: أَن النَّاس يقفون على رُءُوس قُبُورهم أَرْبَعِينَ عَاما إِذا بعثوا، وتدنوا الشَّمْس من رُءُوسهم وَيُزَاد فِي حرهَا حَتَّى يَأْخُذهُمْ الكرب الْعَظِيم وَحَتَّى تَأْخُذ بِأَنْفَاسِهِمْ ثمَّ إِن الله تَعَالَى يُنجي الْمُؤمنِينَ إِلَى ظلّ من ظله برحمته، وَيبقى الْكفَّار فَيخرج لَهُم دُخان من النَّار ويتشعب ثَلَاث شعب فَيُقَال لَهُم: انْطَلقُوا إِلَى ذَلِك الدُّخان فاستظلوا بِهِ فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {انْطَلقُوا إِلَى مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون} وَإِنَّمَا قَالَ: {مَا كُنْتُم بِهِ تكذبون} لأَنهم كَانُوا يكذبُون بالنَّار. وَهَذَا دُخان النَّار.

30

وَقَوله تَعَالَى: {انْطَلقُوا إِلَى ظلّ ذِي ثَلَاث شعب} فَهُوَ مَا ذكرنَا وَهُوَ بَيَان الأول.

31

وَقَوله: ( [لَا] ظَلِيل) الظل: حجاب عَال يدْفع أَذَى الْحر عَن الْإِنْسَان فَقَوله: {لَا ظَلِيل} أَي: لَا يدْفع الْأَذَى فَهُوَ فِي صُورَة ظلّ وَلَيْسَ لَهُ معنى الظل. وَقَوله: {وَلَا يُغني من اللهب} أَي: لَا يدْفع عَنْهُم أَذَى اللهب، واللهب لَهب النَّار. وَعَن قطرب قَالَ: اللهب هُوَ الْعَطش.

{إِنَّهَا ترمي بشرر كالقصر (32) كَأَنَّهُ جمالت صفر (33) } .

32

وَقَوله: {إِنَّهَا ترمي بشرر} أَي: يتطاير مِنْهَا الشرر. وَقَوله: {كالقصر} قَالَ أَبُو عَمْرو: كالبناء الْعَظِيم. وَقيل: كالخيمة من خيام الْعَرَب، وَالْعرب تسمي ذَلِك قصرا. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " كالقَصَر " بتحريك الصَّاد. وَقيل: إِنَّهَا أَعْنَاق النخيل. وَقيل: أصُول النخيل. وَعَن بَعضهم أَنه خَشَبَة كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتنضدون بهَا نَحْو ثَلَاثَة أَذْرع يسمونها الْقصر. وَعَن مُجَاهِد: أَن الْقصر بتسكين الصَّاد هُوَ الْجَبَل. وَعَن قَتَادَة: أَعْنَاق الدَّوَابّ وَهُوَ بِنصب الصَّاد. (وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة هُوَ قلوس السفن) . وَقيل: [حبال السفن] . وَعَن (الْمبرد) قَالَ: هُوَ الجزل الْعَظِيم من الْخطب.

33

وَقَوله: {كَأَنَّهُ جمالات صفر} أَي: نُوق سود، والجمالات جمع جمل. وَقيل: إِنَّهَا جمع الْجمع كَأَنَّهُمْ قَالُوا جمل وجمال وجمالات، وَهُوَ مثل قَوْلهم: رجال وَرِجَال ورجالات. وَقُرِئَ بِضَم الْجِيم، وَهِي جُمال. وَقُرِئَ: " جُمَالَة " على الوحدان مثل حجر وحجارة وَحمل وحمالة. وَقَوله: {صفر} أَي: سود وَإِنَّمَا سَمَّاهَا صفرا لِأَنَّهُ يشوبها لون من السود وَإِن كَانَت صفرا. وَمِنْه يُقَال: [الْبيض الظباء] أَدَم لِأَنَّهُ يشوبها شَيْء من الكدورة وَإِن كَانَت بَيْضَاء. وَقَالَ الشَّاعِر: (تِلْكَ خيلي مِنْهَا وَتلك ركابي ... هن صفر (ألوانها) كالزبيب)

{ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (34) هَذَا يَوْم لَا ينطقون (35) وَلَا يُؤذن لَهُم فيعتذرون (36) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (37) هَذَا يَوْم الْفَصْل جمعناكم والأولين (38) فَإِن كَانَ لكم كيد فكيدون (39) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (40) إِن الْمُتَّقِينَ فِي ظلال وعيون (41) وفواكه مِمَّا يشتهون (42) كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (43) إِن كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ (44) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (45) كلوا وتمتعوا قَلِيلا إِنَّكُم مجرمون (46) } . أَي: سود

35

قَوْله تَعَالَى: {هَذَا يَوْم لَا ينطقون} فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتساءلون} فَكيف الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: بَينا أَن ليَوْم الْقِيَامَة مَوَاطِن ومواقف.

36

وَقَوله: {وَلَا يُؤذن لَهُم فيعتذرون} لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُم فيعتذرون.

38

وَقَوله: {هَذَا يَوْم الْفَصْل جمعناكم والأولين فَإِن كَانَ لكم كيد فكيدون} أَي: إِن كَانَ لكم حِيلَة فاحتالوا.

41

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي ظلال وعيون} قيل: ظلال الْقُصُور وَالْأَشْجَار. وَقيل: إِن الظل هُوَ مَا يدْفع أَذَى الْحر عَن الْإِنْسَان. وهواء الْجنَّة يُنَافِي كل أَذَى فَهُوَ ظلّ على هَذَا الْمَعْنى وَإِن لم يكن هُنَاكَ شمس.

42

وَقَوله: {وفواكه مِمَّا يشتهون} أَي: يتمنون.

43

وَقَوله: {كلوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} قد بَينا من قبل.

44

وَقَوله: {إِنَّا كَذَلِك نجزي الْمُحْسِنِينَ} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: المحسن من أدّى جَمِيع فَرَائض الله واجتنب جَمِيع مناهي الله.

{ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (47) وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (49) فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ (50) } [المرسلات: 1 - 50]

46

قَوْله تَعَالَى: {كلوا وتمتعوا قَلِيلا إِنَّكُم مجرمون} هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد لَا على طَرِيق الْأَمر. وَمَعْنَاهُ: افعلوا مَا أَنْتُم فاعلون فسينالكم رعب ذَلِك وعاقبته.

48

وَقَوله: {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} مَعْنَاهُ: إِذا قيل لَهُم: صلوا لَا يصلونَ. وَقيل: إِنَّهَا نزلت فِي ثَقِيف استعفوا من الصَّلَاة. وَقيل: كَانُوا استعفوا من الرُّكُوع وَالسُّجُود فَقَالَ النَّبِي: " لَا خير فِي دين لَيْسَ لَهُ رُكُوع وَلَا سُجُود ".

50

وَقَوله: {فَبِأَي حَدِيث بعده يُؤمنُونَ} أَي: بِأَيّ كتاب بعد الْقُرْآن يُؤمنُونَ إِن لم يُؤمنُوا بِهَذَا الحَدِيث بعد ظُهُور براهينه وَقيام الدَّلَائِل على أَنه من عِنْد الله؟ ! فَإِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه التّكْرَار فِي قَوْله: {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين} فِي هَذِه السُّورَة والمرة الْوَاحِدَة تغني عَن المُرَاد بِهِ؟ وَالْجَوَاب قد بَينا هَذَا فِي سُورَة الرَّحْمَن. وَوجه ذَلِك أَنه لما كرر ذكر النعم فِي تِلْكَ السُّورَة كرر الزّجر عَن كفرانها وَالنَّهْي عَنْهَا بقوله: {فَبِأَي آلَاء رَبكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَلما كرر ذكر الْآيَات فِي هَذِه السُّورَة لإِقَامَة الحجيج عَلَيْهِم كرر ذكر الْعقُوبَة عَلَيْهِم بِذكر الويل ليَكُون أبلغ فِي الْإِنْذَار والإعذار وَهُوَ على عَادَة كَلَام الْعَرَب فَإِن الرجل يَقُول لغيره: ألم أحسن إِلَيْك بِأَن فعلت لَك كَذَا؟ ألم أحسن بِأَن خلصتك من المكاره؟ ألم أحسن بِأَن تشفعت لَك إِلَّا فلَان؟ وَغير ذَلِك فَيحسن مِنْهُ التكرير لاخْتِلَاف مَا يقرره بِهِ. قَالَ مهلهل بن ربيعَة يرثي أَخَاهُ كليبا على هَذَا الْمَعْنى: (عليّ أَن لَيْسَ عدلا من كُلَيْب ... إِذا طرد (اللَّئِيم) عَن الْجَزُور) (عليّ أَن لَيْسَ عدلا من كُلَيْب ... إِذا مَا ضيم جيران المجير)

(عليّ أَن لَيْسَ عْدلاً من كُلَيْب ... إِذا خرجت مخبأة الْخُدُور) (على أَن لَيْسَ عْدلاً من كُلَيْب ... غَدَاة بلائك الْأَمر الْكَبِير) (عَليّ أَن لَيْسَ عْدلاً من كُلَيْب ... إِذا مَا ضام جَار المستجير) وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {عَم يتساءلون (1) عَن النبأ الْعَظِيم (2) الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلفُونَ (3) كلا سيعلمون (4) ثمَّ كلا سيعلمون (5) ألم نجْعَل الأَرْض مهادا (6) } . تَفْسِير سُورَة النبأ وَهِي مَكِّيَّة

النبأ

قَوْله تَعَالَى: {عَم يتساءلون عَن النبأ الْعَظِيم} مَعْنَاهُ: عَن مَا يتساءلون فأدغمت النُّون فِي الْمِيم، وأسقطت الْألف فَصَارَ عَم. قَالَ الزّجاج: لَفظه لفظ الِاسْتِفْهَام، وَالْمعْنَى تفخيم الْقِصَّة مثل الْقَائِل: أَي شَيْء زيد؟ وَفِي التَّفْسِير: أَن رَسُول الله لما بعث ودعا الْمُشْركين إِلَى التَّوْحِيد جعل بَعضهم يسْأَل بَعْضًا فبماذا بعث مُحَمَّد؟ وَإِلَى مَاذَا يَدْعُو؟ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَمعنى يتساءلون أَي: يسْأَل بَعضهم بَعْضًا. وَقَوله: {عَن النبأ الْعَظِيم} قيل مَعْنَاهُ: عَن النبأ الْعَظِيم: وَاخْتلف القَوْل فِي النبأ الْعَظِيم: روى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: أَنه الْقُرْآن، وَعَن قَتَادَة: أَنه الْبَعْث، وَهُوَ قَول أبي الْعَالِيَة وَالربيع بن أنس وَجَمَاعَة، وَعَن الْحسن أَنه قَالَ: هُوَ النُّبُوَّة، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ معروفان.

3

وَقَوله: {الَّذِي هم فِيهِ مُخْتَلفُونَ} أَي: مِنْهُم الْمُصدق، وَمِنْهُم المكذب.

4

وَقَوله: {كلا سيعلمون ثمَّ كلا سيعلمون} قَالَ الْحسن: هُوَ تهديد بعد تهديد. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: قَوْله: {كلا سيعلمون} أَي: الْكفَّار. وَقَوله: {ثمَّ كلا سيعلمون} أَي: الْمُؤْمِنُونَ، وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا جَمِيعًا للْكفَّار.

6

قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل الأَرْض مهادا} لما أخبر الله تَعَالَى باختلافهم فِي الْقُرْآن وَالْقِيَامَة - وَكَانَ اخْتلَافهمْ فِي الْبَعْث بالتصديق والتكذيب - وَاخْتِلَافهمْ فِي الْقُرْآن

{وَالْجِبَال أوتادا (7) وخلقناكم أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلنَا نومكم سباتا (9) وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا (10) } . أَنه سحر أَو شعر أَو كهَانَة، فَذكر الله تَعَالَى الدَّلَائِل عَلَيْهِم فِي التَّوْحِيد، وَأَن مَا أنزلهُ حق وَصدق، وَعدد نعمه عَلَيْهِم، ليعترفوا بِهِ ويشكروه. قَوْله تَعَالَى: {مهادا} أَي: بساطا وفراشا وَالنعْمَة فِي تذليلها وتوطئتها لَهُم.

7

وَقَوله: {وَالْجِبَال أوتادا} قَالَ ابْن عَبَّاس: لما خلق الله تَعَالَى الأَرْض جعلت تكفأ - وحرك ابْن عَبَّاس يَده - فخلق الله الْجبَال وأرساها بهَا - أَي: أثبتها - فَهِيَ أوتاد الأَرْض، كَمَا يثبت الشَّيْء على الْحَائِط بالوتد.

8

وَقَوله: {وخلقناكم أَزْوَاجًا} أَي: أصنافا وَمَوْضِع النِّعْمَة هِيَ سُكُون بَعضهم إِلَى بعض، فالرجل وَالْمَرْأَة زوج، وَكَذَلِكَ السَّمَاء وَالْأَرْض، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، وَغير ذَلِك من الْخلق، وَقيل: أَزْوَاجًا أَي: متآلفين، تألفون أزواجكم، وتألفكم أزواجكم.

9

وَقَوله: {وَجَعَلنَا نومكم سباتا} قَالَ ثَعْلَب: قطعا لأعمالكم، وأصل السبات هُوَ التمدد والسكون. وَالْمعْنَى: أَنهم ينقطعون عَن الْحَرَكَة بِاللَّيْلِ فيسكنون ويستريحون، وَقيل: سباتا أَي: رَاحَة. وَقَالَ الشَّاعِر: ومطوية (الأقتاب) أما نَهَارهَا ... فسبت وَأما لَيْلهَا فزميل) أَي قطيع.

10

وَقَوله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا اللَّيْل لباسا} أَي: سترا لكم، وَهُوَ مَذْكُور على طَرِيق الْمجَاز، وَوَجهه أَن ظلمَة اللَّيْل لما غشيت كل إِنْسَان كَمَا يَغْشَاهُ اللبَاس، سَمَّاهُ لباسا

{وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا (11) وبنينا فَوْقكُم سبعا شدادا (12) وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجا (13) وأنزلنا من المعصرات مَاء ثجاجا (14) على طَرِيق الْمجَاز.

11

وَقَوله: {وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا} أَي: مبتغى معاش ومطلب معاش، وَالْمعْنَى: أَنه الزَّمَان الَّذِي يعيشون وينصرفون فِيهِ.

12

وَقَوله: {وبنينا فَوْقكُم سبعا شدادا} أَي: السَّمَاوَات السَّبع. وَقَوله: {شَدَّاد} أَي: صلبة، وَفِي الْآثَار: أَن غلط كل سَمَاء مسيرَة خَمْسمِائَة عَام.

13

وَقَوله: {وَجَعَلنَا سِرَاجًا وهاجا} أَي: جعلنَا الشَّمْس وقادا متلألئا.

14

وَقَوله: {وأنزلنا من المعصرات مَاء} قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الرِّيَاح، وتسميتها بِهَذَا الِاسْم؛ لِأَن الرِّيَاح تلقح السَّحَاب ليَكُون فِيهِ الْمَطَر، فَكَأَن الْمَطَر كَانَ من الرِّيَاح، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المعصرات هِيَ السَّحَاب، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَجَمَاعَة. قَالَ الْمبرد: تَسْمِيَته بالمعصرات، لِأَنَّهُ ينعصر بالمطر شَيْئا فَشَيْئًا، وَقيل: من المعصرات أَي: بالمعصرات مَاء ثجاجا. وَقَوله: {ثجاجا} أَي: منصبا بعضه فِي إِثْر بعض. وَعَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أفضل الْحَج العج والثج " فالعج رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ، والثج إِرَاقَة الدِّمَاء. وَعَن

{لنخرج بِهِ حبا ونباتا (15) وجنات ألفافا (16) إِن يَوْم الْفَصْل كَانَ ميقاتا (17) يَوْم ينْفخ فِي الصُّور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفتحت السَّمَاء فَكَانَت أبوابا (19) وسيرت الْجبَال فَكَانَت سرابا (20) إِن جَهَنَّم كَانَت مرصادا (21) قَتَادَة: أَن المعصرات هُوَ السَّمَاء، وَهُوَ قَول غَرِيب.

15

قَوْله: {لنخرج بِهِ حبا ونباتا وجنات ألفافا} أَي: ملتفة، وَوَاحِد الألفاف لف، والملتفة هِيَ الدَّاخِل بَعْضهَا فِي بعض.

17

قَوْله تَعَالَى: {إِن يَوْم الْفَصْل كَانَ ميقاتا} أَي: ميعادا لِلْخَلَائِقِ، وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة.

18

وَقَوله: {يَوْم ينْفخ فِي الصُّور} ذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن إسْرَافيل - عَلَيْهِ السَّلَام - ينزل فيجلس على صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس، وَتجْعَل الْأَرْوَاح فِي الصُّور كأمثال النَّحْل، واستدارة فَم الصُّور كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مسيرَة خَمْسمِائَة عَام، ثمَّ ينْفخ فَتخرج الْأَرْوَاح مِنْهَا، وَترجع إِلَى أجسادها. وَقَوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} قَالَ مُجَاهِد: زمرا زمرا.

19

وَقَوله: {وَفتحت السَّمَاء} أَي: جعلت طرقا، وَقيل: فتحت أَبْوَاب السَّمَاء لنزول الْمَلَائِكَة. وَقَوله: {فَكَانَت أبوابا} أَي كَانَت طرقا على مَا بَينا.

20

وَقَوله: {وسيرت الْجبَال فَكَانَت سرابا} أَي: هباء منبثا، وَقيل: هُوَ يصير كالسراب ترى أَنه شَيْء وَلَيْسَ بِشَيْء.

21

وَقَوله: {إِن جَهَنَّم كَانَت مرصادا} قَالَ أهل اللُّغَة: كل شَيْء كَانَ أمامك فَهُوَ رصد، وَالْمرَاد أَنه الْمَكَان الَّذِي يرصد فِيهِ الْكفَّار لنزول الْعَذَاب بهم. وَعَن بَعضهم: يَا صَاحب الرصد، اذكر الرصد، وَقيل: مرصادا أَي: يرصدون بِالْعَذَابِ أَي: على معنى أَنه يعد لَهُم.

22

وَقَوله: {للطاغين مآبا} أَي: منقلبا، يُقَال: آب إِلَى مَكَان كَذَا أَي: رَجَعَ وانقلب.

{للطاغين مآبا (22) لابثين فِيهَا أحقابا (23) لَا يذوقون فِيهَا بردا وَلَا شرابًا (24) } .

23

وَقَوله: {لابثين فِيهَا أحقابا} الحقبة فِي اللُّغَة قِطْعَة من الزَّمَان مثل الْحِين. قَالَ متمم بن نُوَيْرَة يرثي أَخَاهُ مَالِكًا: (وَكُنَّا كندماني جذيمة حقبة ... من الدَّهْر حَتَّى قيل لن يتصدعا) أَي: قِطْعَة، وَأما الْمَنْقُول فِي التفاسير عَن السّلف فِي معنى الحقب: فأظهر الْأَقْوَال أَنه ثَمَانُون سنة، كل سنة ثلثمِائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كل يَوْم ألف سنة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَقَتَادَة وَغَيرهم، وَمثله عَن أبي هُرَيْرَة. وَعَن بَعضهم: أَنه ثلثمِائة سنة، كل سنة ثلثمِائة وَسِتُّونَ يَوْمًا، كل يَوْم مثل مُدَّة الدُّنْيَا، وَعَن بَعضهم: بضع وَثَمَانُونَ عَاما، فَإِن قيل: هَذِه الْآيَة تدل على أَن عَذَاب الْكفَّار يَنْقَطِع عِنْد مُضِيّ الأحقاب؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: (أَحدهَا) : أَن مَعْنَاهُ لابثين فِيهَا أحقابا لَا يذوقون فِيهَا بردا وَلَا شرابًا أَي: يُعَذبُونَ بِهَذَا النَّوْع من الْعَذَاب أحقابا، وَثمّ أحقاب أخر لسَائِر أَنْوَاع الْعَذَاب، قَالَه الْمبرد. وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ أَن معنى لابثين فِيهَا أحقابا لَا تخبو عَنْهُم النَّار، فَإِذا خبت النَّار وزيدوا سعيرا لَبِثُوا أبدا وَالْوَجْه الثَّالِث: مَا قَالَه ابْن كيسَان، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ لابثين فِيهَا أحقابا إِلَى أحقاب لَا تَنْقَطِع أبدا. قَالَ النّحاس: وَهُوَ أبين الْأَقْوَال.

24

وَقَوله: {لَا يذوقون فِيهَا بردا} قَالَ ثَعْلَب، نوما، وَتقول الْعَرَب: منع الْبرد، وَالْبرد أَي: نوم، وَقَالَ الشَّاعِر: (فَإِن شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم ... وَإِن شِئْت لم أطْعم نقاخا وَلَا بردا) النقاخ المَاء الزلَال وَقيل: " بردا " أَي: (رَاحَة) ، وَقيل: " بردا " لَا يبرد عَنْهُم حر السعير ولهبه. وَقَوله: {وَلَا شرابًا} أَي: لَا يسكن مِنْهُم الْعَطش.

{إِلَّا حميما وغساقا (25) جزاءا وفَاقا (26) إِنَّهُم كَانُوا لَا يرجون حسابا (27) وكذبوا بِآيَاتِنَا كذابا (28) وكل شَيْء أحصيناه كتابا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا (30) } .

25

وَقَوله: {إِلَّا حميما وغساقا} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْحَمِيم المَاء الْحَار، وَمِنْه الْحمى، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وظل من يحموم} وَقيل: الْحَمِيم هُوَ أَنه تجمع دموعهم فيسقون. وَقَوله: {وغساقا} أَي: الْقَيْح الغليظ، وَقيل: [هُوَ] صديد أهل النَّار، وَقيل: الْحَمِيم مَا هُوَ فِي نِهَايَة الْحر، والغساق مَا هُوَ فِي نِهَايَة الْبرد وَهُوَ الزَّمْهَرِير، فيعذبون بِكُل وَاحِد من العذابين.

26

وَقَوله: {جزاءا وفَاقا} أَي: جَزَاء يُوَافق أَعْمَالهم. قَالَ ابْن زيد: عمِلُوا شرا، فجوزوا شرا.

27

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا لَا يرجون حسابا} أَي: لَا يخَافُونَ، وَقد بَينا الرَّجَاء بِمَعْنى الْخَوْف فِيمَا سبق.

28

وَقَوله: {وكذبوا بِآيَاتِنَا كذابا} أَي: تَكْذِيبًا، قَالَ الْفراء: هِيَ لُغَة فصيحة يَمَانِية.

29

وَقَوله: {وكل شَيْء أحصيناه كتابا} هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين} أَي: بَيناهُ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ.

30

وَقَوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدكُمْ إِلَّا عذَابا} أَي: يُقَال لَهُم: فَذُوقُوا الْعَذَاب فَهُوَ غير مُنْقَطع عَنْكُم، وَلَا تزادون إِلَّا الْعَذَاب. قَالَ الشَّاعِر:

{إِن لِلْمُتقين مفازا (31) حدائق وأعنابا (32) وكواعب أَتْرَابًا (33) وكأسا دهاقا (34) لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا كذابا (35) جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} . (فصدقتها وكذبتها ... والمرء يَنْفَعهُ كذابه)

31

قَوْله تَعَالَى: {إِن لِلْمُتقين مفازا} أَي: فوزا، والمفاز: مَوضِع الْفَوْز.

32

وَقَوله: {حدائق وأعنابا} ظَاهر الْمَعْنى، وَقد بَينا.

33

وَقَوله: {وكواعب أَتْرَابًا} الكواعب: هِيَ النواهد، يُقَال: جَارِيَة كاعب أَي خرج ثديها مثل الكعب وَهِي ناهد. وَقَوله: {أَتْرَابًا} أَي لدات، وَقيل: بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة.

34

وَقَوله: {وكأسا دهاقا} أَي ممتلئة، قَالَه مُجَاهِد، وَقَالَ عِكْرِمَة: صَافِيَة، وَعَن بَعضهم: متتابعة، وَالْقَوْل الأول أظهر، وَهُوَ محكي عَن ابْن عَبَّاس، وَعنهُ أَنه قَالَ: كثيرا سَمِعت الْعَبَّاس يَقُول: اسقيني يَا جَارِيَة الكأس وادهقي، وَعنهُ أَيْضا: أَنه دَعَا بكأس فَجَاءَت بِهِ الْجَارِيَة ملآن فَقَالَ: هَذَا هُوَ الدهاق.

35

وَقَوله: {لَا يسمعُونَ فِيهَا لَغوا وَلَا كذابا} اللَّغْو: هُوَ الْكَلَام المطرح. وَقَوله: {كذابا} أَي: لَا يكذب بَعضهم بَعْضًا، وَقُرِئَ " كذابا " بِالتَّخْفِيفِ وَمَعْنَاهُ: الْكَذِب لَا غير، قَالَ الشَّاعِر: (فصدقتها وكذبتها ... والمرء يَنْفَعهُ كذابه) أَي: كذبه.

36

وَقَوله تَعَالَى: {جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا} أَي: عَطاء كَافِيا يُقَال: أَعْطَانِي فلَان حَتَّى أحسبني، يَعْنِي: حَتَّى قلت حسبي، وَقَالَ قَتَادَة: عَطاء حسابا أَي: كثيرا، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْمَعْنى الأول. (ونقفي وليد الْحَيّ إِن كَانَ جائعا ... ونحسبه إِن كَانَ لَيْسَ بجائع) وَقَوله: {جَزَاء من رَبك عَطاء} أَي: جوزوا جَزَاء، وأعطوا عَطاء.

( {36) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا (37) يَوْم يقوم الرّوح وَالْمَلَائِكَة صفا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن وَقَالَ صَوَابا (38) ذَلِك الْيَوْم الْحق} .

37

قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن} كِلَاهُمَا بِالرَّفْع، وَقُرِئَ: " رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن " الأول بِالْجَرِّ، وَالْآخر بِالرَّفْع. وَقُرِئَ كِلَاهُمَا بِالْكَسْرِ: " رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الرَّحْمَن " فَوجه الْقِرَاءَة الأولى أَن قَوْله: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} رفع بِالِابْتِدَاءِ والرحمن خَبره، وَوجه الْقِرَاءَة الثَّانِيَة أَن قَوْله: {رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} مخفوض اتبَاعا لقَوْله: {من رَبك} وَقَوله: {الرَّحْمَن} ابْتِدَاء، وَوجه الْقِرَاءَة الثَّالِثَة، أَن كليهمَا مخفوض اتبَاعا لقَوْله: {من رَبك} . وَقَوله تَعَالَى: {لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا} أَي: لَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الله، وَيمْنَعُونَ من الْكَلَام مَعَه، وَقيل: لَا يملكُونَ مِنْهُ خطابا أَي: لَا يشفعون لأحد إِلَّا بِإِذْنِهِ، على مَا قَالَ من بعد

38

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يقوم الرّوح} قَالَ مُجَاهِد: الرّوح خلق يشبهون بني آدم، وَلَيْسوا بني آدم، وَقيل: هُوَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقيل: هُوَ خلق من خلق الله لم يخلق بعد الْعَرْش أعظم مِنْهُ يقوم يَوْم الْقِيَامَة صفا وَجَمِيع الْمَلَائِكَة صفا، وَقيل: صفا، أَي: صُفُوفا وَمَوْضِع صَلَاة العَبْد يُسمى صفا، لِأَنَّهُ مَوضِع الصُّفُوف. وَقَوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ} أَي: لَا يشفعون، أَي: الْمَلَائِكَة وَقيل: لَا يَتَكَلَّمُونَ مُطلقًا. قَوْله: {إِلَّا من أذن لَهُ الرَّحْمَن} أَي: بالشفاعة وَالْكَلَام. وَقَوله: {وَقَالَ صَوَابا} أَي: حَقًا، وَقيل: هُوَ لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالْإِذْنِ أَو كلَاما صَوَابا، وَهُوَ لَا إِلَه إِلَّا الله.

39

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك الْيَوْم الْحق} أَي: الْقِيَامَة هُوَ الْيَوْم الْحق، وَمعنى الْحق هَاهُنَا: أَنه

{فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه مآبا (39) إِنَّا أنذرناكم عذَابا قَرِيبا يَوْم ينظر الْمَرْء مَا قدمت يَدَاهُ وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا (40) } . كَائِن لَا محَالة. وَقَوله: {فَمن شَاءَ اتخذ إِلَى ربه مآبا} أَي منقلبا حسنا بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة.

40

وَقَوله تَعَالَى {إِنَّا أنذرناكم عذَابا قَرِيبا} أَي النَّار وكل آتٍ فَهُوَ قريب. وَقَوله {يَوْم ينظر الْمَرْء مَا قدمت يَدَاهُ} أَي مَا قدمت يَدَاهُ من الْخَيْر وَالشَّر. وَقَوله {وَيَقُول الْكَافِر يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} روى [جَعْفَر بن برْقَان] عَن ابْن الأحم عَن ابْن عَبَّاس أَن الله تَعَالَى يجمع الْخلق يَوْم الْقِيَامَة من الدَّوَابّ والطيور وَالنَّاس وَالْجِنّ فرذا نزل الثقلَيْن مَنَازِلهمْ، قَالَ للطيور والبهائم وَالدَّوَاب: كوني تُرَابا، فَتكون تُرَابا فَحِينَئِذٍ يَقُول الْكَافِر: يَا لَيْتَني كنت تُرَابا. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن البرَاز أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الغدافري أخبرنَا الدبرِي هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا عبد الرازق عَن معمر عَن جَعْفَر بن برْقَان. . الحَدِيث. وَقيل: إِن الْكَافِر هَاهُنَا هُوَ أَبُو جهل. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره عَن الْحسن بن وَاقد قَالَ: إِن الْكَافِر يَقُول: يَا لَيْتَني كنت خنزيرا فأصير تُرَابا، فَيَقُول التُّرَاب لَهُ: لَا وَلَا كَرَامَة لَك - يَعْنِي لَا يكون مثلي. وَحكى مثل هَذَا عَن السّديّ أَيْضا. وَعَن بَعضهم أَن معنى قَوْله {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} أَي يَا لَيْتَني لم أبْعث. وَقد ورد فِي الحقب الَّذِي ذكرنَا أثران عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: ليعْمَل أحدكُم بِالطَّاعَةِ وَلَا يتكلمن على أَنه يدْخل النَّار ثمَّ يخرج مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يدْخل النَّار أحد فَيخرج مِنْهَا إِلَّا بعد أَن يمْكث أحقابا وَذكر الحقب كَمَا بَينا من ذكر الثَّمَانِينَ.

والأثر الثَّانِي مَا روى عَن ابْن مَسْعُود فِي بَقَاء النَّعيم لأهل الْجنَّة وَالْعَذَاب لأهل النَّار وَهُوَ مَا روى السّديّ عَن مرّة عَن عبد الله أَنه قَالَ: لَو علم أهل النَّار أَنهم يمكثون فِي النَّار عدد الْحَصَى سِنِين ثمَّ يخرجُون مِنْهَا لفرحوا وَلَو علم أهل الْجنَّة أَنهم يمكثون عدد الْحَصَى سِنِين ثمَّ يخرجُون مِنْهَا لحزنوا. والأثران غَرِيبَانِ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا (2) } . تَفْسِير سُورَة والنازعات وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم.

النازعات

قَوْله تَعَالَى: {والنازعات غرقا} فِيهِ أَقْوَال: أظهرها: أَنَّهَا الْمَلَائِكَة تنْزع أَرْوَاح الْكفَّار بِشدَّة، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة وَرُوِيَ مثله عَن ابْن مَسْعُود فِي رِوَايَة مَسْرُوق. قَوْله: {غرقا} أَي: إغراقا يُقَال: أغرق فِي النزع إِذا بلغ الْغَايَة. وَعَن الْحسن: أَنَّهَا النُّجُوم تنْزع من أفق إِلَى أفق، أَي: تطلع وتغرب، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَنَّهَا القسي وَهُوَ من نزع الْقوس والإغراق فِيهِ.

2

وَقَوله: {والناشطات نشطا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة أَيْضا تنشط أَرْوَاح الْكفَّار أَي: تجذبها بِسُرْعَة، قَالَ الشَّاعِر: (أمست همومي تنشط المناشطا ... الشَّام بِي طورا وطورا واسطا) والنشط فِي اللُّغَة: هُوَ الجذب، وَيُقَال: تجذب روح الْكفَّار كَمَا يجذب السفود من الصُّوف الرطب، وَقيل: إِن معنى الناشطات أَخذ الْمَلَائِكَة أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بسهولة كَمَا ينشط الْبَعِير من العقال. وَفِي الْأَخْبَار: أَن الْمَلَائِكَة تَأْخُذ روح الْكفَّار بغاية الشدَّة، فَإِذا بلغت ترقوته ردوا الرّوح فِي جسده، ثمَّ نَزَعته هَكَذَا مَرَّات عُقُوبَة لَهُ، وَتَأْخُذ روح الْمُؤمن سرعَة وسهولة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الناشطات هِيَ النُّجُوم على مَا ذكرنَا عَن الْحسن، وَالْمرَاد سرعَة

{والسابحات سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5) } . سَيرهَا، وَيُقَال: رُجُوعهَا من الْمغرب إِلَى مطالعها، وَذَلِكَ فِي السَّبع السيارة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالخنس الْجوَار الكنس} على مَا سنبين، ذكره النقاش. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الأوهاق.

3

وَقَوله تَعَالَى: {والسابحات سبحا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة، وسبحها سَيرهَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وعَلى القَوْل الثَّانِي أَنَّهَا النُّجُوم، وسبحها فِي الْفلك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْخَيل، وسبحها سرعَة جريها، يُقَال للْفرس الْجواد: سابح.

4

وَقَوله: {فالسابقات سبقا} على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة، وسبقها مبادرتها إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة والخيرات. وَيُقَال: سبقها: هُوَ الْمُسَابقَة إِلَى تَبْلِيغ الْوَحْي قبل استراق الشَّيَاطِين السّمع، وعَلى القَوْل الثَّانِي هِيَ النُّجُوم تسبق بَعْضهَا بَعْضًا فِي السّير، وعَلى القَوْل الثَّالِث هِيَ الْخَيل أَيْضا يسْبق بَعْضهَا بَعْضًا عِنْد الْمُسَابقَة، وَيُقَال: إِنَّهَا النُّفُوس تسبق إِلَى الْخُرُوج عِنْد الْمَوْت. وَقد ذكر السّديّ أَيْضا أَن معنى النازعات: هِيَ النُّفُوس والأرواح تنْزع عِنْد الْمَوْت.

5

وَقَوله تَعَالَى: {فالمدبرات أمرا} هِيَ الْمَلَائِكَة فِي قَول الْجَمِيع، إِلَّا مَا روى فِي رِوَايَة غَرِيبَة بِرِوَايَة خَالِد بن معدان، عَن معَاذ بن جبل: أَنَّهَا النُّجُوم. فَمَعْنَى التَّدْبِير من الْمَلَائِكَة هُوَ مَا جعل الله إِلَيْهَا من الْأُمُور. قَالَ عبد الرَّحْمَن بن سابط: فَإلَى جِبْرِيل الْجنُود، وَإِلَى مِيكَائِيل الْقطر والنبات، وَإِلَى عزرائيل قبض الْأَرْوَاح، وَإِلَى إسْرَافيل إِنْزَال

{يَوْم ترجف الراجفة (6) تتبعها الرادفة (7) قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة (8) أبصارها خاشعة (9) يَقُولُونَ} . لأمور إِلَيْهِم فِي هَذِه الْأَشْيَاء [إِلَى] : الْمَلَائِكَة، وَأما إِذا حملناه على النُّجُوم، فَيجوز أَن يعلق الله تَعَالَى على مطالعها وَمَغَارِبهَا وسيرها أَشْيَاء، وأضاف التَّدْبِير إِلَيْهَا على طَرِيق الْمجَاز. وَاخْتلف القَوْل فِي الْمقسم بِهِ والمقسم عَلَيْهِ: فأحذ الْقَوْلَيْنِ: أَنه أقسم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَللَّه أَن يقسم من خلقه بِمَا شَاءَ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: وَرب النازعات، فَذكر الرب مُضْمر فِي هَذِه الْكَلِمَات، وَإِنَّمَا أقسم بِنَفسِهِ لَا بِهَذِهِ الْأَشْيَاء. وَأما الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْقسم فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: لتبعثن ولتحاسبن، وَمَا أشبه ذَلِك. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْقسم هُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يغشى} .

6

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترجف الراجفة} الرجف والراجفة هِيَ الِاضْطِرَاب والزلزال الشَّديد، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} وَقيل: الراجفة هِيَ الصَّيْحَة الأولى الَّتِي يُمِيت بهَا الْخَلَائق.

7

وَقَوله: {تتبعها الرادفة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الْقِيَامَة، وَالْآخر: أَنَّهَا الصَّيْحَة الثَّانِيَة. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن بَينهمَا أَرْبَعِينَ سنة، وتمطر السَّمَاء فِي هَذِه الْأَرْبَعين فتهتز الأَرْض، وتنبت النَّاس فِي الْقُبُور، ثمَّ ترد إِلَيْهِم أَرْوَاحهم فِي الصَّيْحَة الثَّانِيَة.

8

وَقَوله تَعَالَى: {قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة} أَي: مضطربة، يُقَال: وجف يجِف، وَوَجَب يجب بِمَعْنى وَاحِد وَقيل: واجفة أَي: وَجلة.

9

وَقَوله: {أبصارها خاشعة} أَي: ذليلة.

10

وَقَوله: {يَقُولُونَ} هَذَا إِخْبَار عَن قَوْلهم فِي الدُّنْيَا أَي: يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا: {أئنا

{أئنا لمردودون فِي الحافرة (10) أءذا كُنَّا عظاما نخرة (11) قَالُوا تِلْكَ إِذا كرة خاسرة (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة (13) فَإِذا هم بالساهرة (14) } . لمردودون فِي الحافرة) أَي: إِلَى أول أمرنَا، وَالْمعْنَى: أنرد أَحيَاء بعد أَن متْنا على طَرِيق الْإِنْكَار، يُقَال: رَجَعَ فلَان على حافرته إِذا رَجَعَ من حَيْثُ جَاءَ. الْعَرَب تَقول: النَّقْد عِنْد الحافرة أَي: عِنْد أول كلمة، أَي: فِي السّوم. وَقَالَ الشَّاعِر: (أحافرة على صلع وشيب ... معَاذ الله من سفه وعار) وَقَالَ السّديّ: {أئنا لمردودون فِي الحافرة} أَي: إِلَى الْحَيَاة، وَهُوَ على مَا قُلْنَا وَقيل: إِلَى النَّار.

11

وَقَوله تَعَالَى: {أئذا كُنَّا عظاما نخرة} وَقُرِئَ: " ناخرة "، قَالَ الْفراء: هما وَاحِدَة، وَهِي البالية الفانية. وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: أَن النخرة هِيَ الَّتِي قد بليت، والناخرة هِيَ الَّتِي لم تبل بعد، وَعَن وَكِيع قَالَ: هِيَ الَّتِي تدخل الرّيح فِي جوفها فتنخر، وَهُوَ مَنْقُول أَيْضا عَن أهل اللُّغَة.

12

وَقَوله: {قَالُوا تِلْكَ إِذا كرة خاسرة} أَي: رَجْعَة ذَات خسران، وَالْمعْنَى: أَنا نَكُون فِي خسار إِن رَجعْنَا، وَيجوز أَن يكون المُرَاد أَنهم يخسرون إِذا رجعُوا. وَعَن الْحسن قَالَ: خاسرة أَي: كَاذِبَة يَعْنِي: لَيست بكائنة.

13

وَقَوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة} هُوَ إِخْبَار عَن سهولة الْأَمر على الله فِي الْفَهم، والزجرة: الصحية.

14

وَقَوله: {فَإِذا هم بالساهرة} القَوْل الْمَعْرُوف أَنَّهَا وَجه الأَرْض يَعْنِي: أَنهم يخرجُون من بَطنهَا إِلَى ظهرهَا، وَسميت الأَرْض ساهرة، لِأَن عَلَيْهَا سهر الْخلق ونومهم، وَقَالَ النَّخعِيّ " فَإِذا هم بالساهرة " أَي: فَوق الأَرْض. وَعَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: الساهرة جبل بِجنب بَيت الْمُقَدّس، قَالَ الشَّاعِر فِي الساهرة: (فَإِنَّمَا قصرك ترب الساهرة ... ثمَّ تعود بعْدهَا فِي الحافرة)

{هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى (15) إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (17) فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى (18) وأهديك إِلَى رَبك فتخشى (19) فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى (20) } . (من بعد مَا كُنَّا عظاما ناخرة ... )

15

قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} أَي: قد أَتَاك.

16

وَقَوله: {إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس} أَي: المطهر. وَقَوله: {طوى} أَي: طوى بِالْبركَةِ وَالتَّقْدِيس مرَّتَيْنِ، وَقيل: سَمَّاهُ طوى لِأَن مُوسَى وَطئه بقدمه، وَقيل: إِنَّه اسْم الْوَادي وَقيل: هُوَ الأَرْض الَّتِي بَين الْمَدِينَة ومصر. وَقَرَأَ الْحسن: " طوى " بِكَسْر الطَّاء، وَالْمَعْرُوف طوى، وَهُوَ غير مَصْرُوف لِأَنَّهُ اسْم الْبقْعَة من الْوَادي وَهُوَ مَعْرُوف وَعَن الزّجاج قَالَ: يجوز أَن يكون معدولا من طاو، فَلهَذَا لم يصرف مثل: عَمْرو معدول عَامر، وَقُرِئَ: مصروفا وأنشدوا: {أعاذل إِن اللوم فِي غير كنهه ... على طوى من غيك المتردد} .

17

وَقَول: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} قد بَينا، والطغيان هُوَ مُجَاوزَة الْحَد.

18

وَقَوله: {فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى} وَقُرِئَ: " تزكّى " بالتشديدين. قَالَ أَبُو عَمْرو ابْن الْعَلَاء: لَا يجوز بالتشديدين، وَيجوز بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَن تزكّى هُوَ من إِعْطَاء الزَّكَاة. وَقَوله: {تزكّى} هُوَ الدُّخُول فِي طَهَارَة الْإِسْلَام، وَتَابعه أَبُو عبيد على هَذَا [وَذكر] النّحاس فِي تَفْسِيره: أَن هَذَا غلط، وتزكى وتزكى بِمَعْنى وَاحِد، فتزكى مدغم، وتزكى مَحْذُوف مِنْهُ يُقَال: زَكَّاهُ الله أَي: طهره بِالْإِسْلَامِ فتزكى وَيُقَال أَيْضا لمن أعْطى زَكَاة مَاله: تزكّى.

19

وَقَوله: {وأهديك إِلَى رَبك فتخشى} أَي: إِذا أصبت الْهِدَايَة حسنت مِنْك.

20

وَقَوله: {فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى} يُقَال: (هِيَ) الْعَصَا، وَقيل: إِنَّهَا الْيَد الْبَيْضَاء، وَيُقَال: كِلَاهُمَا.

{فكذب وَعصى (21) ثمَّ أدبر يسْعَى (22) فحشر فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى (24) فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى (25) إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى (26) أأنتم أَشد خلقا أم السَّمَاء بناها (27) } .

21

وَقَوله: {فكذب وَعصى ثمَّ أدبر يسْعَى} أَي: أعرض وَجعل يسْعَى فِي إبِْطَال أَمر مُوسَى.

23

وَقَوله: {فحشر فَنَادَى} الْحَشْر هُوَ الْجمع من كل جِهَة. وَقَوله: {فَنَادَى} أَي ناداهم، وَقَالَ لَهُم {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} أَي: لَا رب فَوقِي. قَالَ الْحسن: كَانَ فِرْعَوْن علجا من أهل أَصْبَهَان طوله أَرْبَعَة أشبار، وَعَن مُجَاهِد: علج من أهل همذان، وَعَن بَعضهم: أَنه من أهل اصطخر. وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى قَالَ لفرعون: لَك ملك لَا يَزُول، وشباب لَا هرم فِيهِ، وَلَك الْجنَّة فِي الْآخِرَة فَقل: هُوَ رَبِّي وَأَنا عَبده فَقَالَ: حَتَّى استشير هامان، فَلَمَّا اسْتَشَارَ هـ قَالَ: أتصير عبدا بعد أَن كنت معبودا، لَا تقل هَذَا. فَأبى أَن يَقُول. ذكره النقاش فِي تَفْسِيره.

25

وَقَوله: {فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى} أَي: أَخذه أخذا نكالا لمقالته الْآخِرَة وَالْأولَى، فمقالته الأولى قَوْله: {مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي} ، ومقالته الْآخِرَة، قَوْله {أَنا ربكُم الْأَعْلَى} وَيُقَال: نكل بِهِ وعاقبه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَفِي الدُّنْيَا هُوَ الْغَرق، وَفِي الْآخِرَة هُوَ النَّار.

26

وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} أَي: اعْتِبَارا لمن يخَاف الله تَعَالَى.

27

قَوْله تَعَالَى: {أأنتم أَشد خلقا} اسْتدلَّ عَلَيْهِم بِهَذِهِ الْآيَات فِي قدرته على الْبَعْث، وَالْمعْنَى بِأَن إعادتكم خلقا جَدِيدا أَشد أم خلق السَّمَاء؟ وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {لخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس} . وَقَوله: {أم السَّمَاء بناها} مَعْنَاهُ: أم السَّمَاء الَّتِي بناها؟ وَقيل الْمَعْنى: أأنتم أَشد

{رفع سمكها فسواها (28) وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها (29) وَالْأَرْض بعد ذَلِك} . خلقا أم السَّمَاء؟ وَتمّ الْكَلَام ثمَّ قَالَ: {بناها} أَي: بناها الله تَعَالَى.

28

وَقَوله: {رفع سمكها فسواها} هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {هَل ترى من فطور} أَي: من شقوق وفروج، وَقيل: معنى التَّسْوِيَة هَاهُنَا هُوَ أَنه لَيْسَ بَعْضهَا أرفع من بعض وَلَا أَخفض من بعض، والسمك الِارْتفَاع.

29

وَقَوله: {وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها} أَي: أظلم لَيْلهَا. وَقَوله: {وَأخرج ضحاها} أَي: أبرز نَهَارهَا، وَقيل: أظهر ضوءها، وأضاف الظلمَة والضوء إِلَى السَّمَاء لِأَنَّهُمَا يظهران من جَانب السَّمَاء عِنْد طُلُوع الشَّمْس وغروبها

30

{وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} أَي: بسطها. قَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت: (وَبث الْخلق فِيهَا إِذْ دحاها ... فهم قطانها حَتَّى التنادي) وَقَالَ سعيد بن زيد: (أسلمت بوجهي لمن أسلمت ... لَهُ الأَرْض تحمل صخرا ثقالا) دحاها فَلَمَّا اسْتَوَت شدها ... وأرسى عَلَيْهَا جبالا) وَقَوله: {بعد ذَلِك} أَي: مَعَ ذَلِك، وَقيل: إِنَّه خلق الأَرْض قبل السَّمَاء على مَا قَالَ فِي " حم السَّجْدَة "، ثمَّ بسطها بعد خلق السَّمَاء. وَفِي الْأَثر عَن ابْن عَبَّاس: أَنه لم يكن إِلَّا الْعَرْش وَالْمَاء، فخلق على المَاء حجرا كالفهر، ثمَّ خلق عَلَيْهِ دخانا ملتصقا بِهِ، ثمَّ خلق موجا على المَاء، ثمَّ رفع الدُّخان من الْحجر، وَخلق من الْحجر الأَرْض، وَمن الدُّخان السَّمَاء، وَمن الموج الْجبَال.

{دحاها (30) أخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها (31) وَالْجِبَال أرساها (32) مَتَاعا لكم ولأنعامكم (33) فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى (34) يَوْم يتَذَكَّر الْإِنْسَان مَا سعى (35) وبرزت الْجَحِيم لمن يرى (36) فَأَما من طَغى (37) وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا (38) فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى (39) } .

31

وَقَوله: {أخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها} أَي: أخرج من الأَرْض المَاء لحياة النُّفُوس، والمرعى للأنعام.

32

وَقَوله: {وَالْجِبَال أرساها} أَي: أثبتها.

33

وَقَوله: {مَتَاعا لكم} أَي: إمتاعا لكم {ولأنعامكم} وَإِنَّمَا انتصب لِأَن مَعْنَاهُ: للإمتاع، ثمَّ نزعت اللَّام الخافضة فانتصب.

34

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى} الطامة فِي اللُّغَة: هِيَ الداهية الْعَظِيمَة، وَقيل: هِيَ الْأَمر الَّذِي لَا يُسْتَطَاع وَلَا يُطَاق، يُقَال: طم الْوَادي إِذا جَاءَ مِنْهُ مَا لَا يُطَاق وَعلا كل شَيْء، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الطامة اسْم الْقِيَامَة، وَسميت الْقِيَامَة طامة؛ لِأَنَّهَا تطم كل شَيْء أَي: فَوق كل شَيْء. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من طامة إِلَّا وفوقها طامة " وَهُوَ خبر غَرِيب.

35

وَقَوله: {يَوْم يتَذَكَّر الْإِنْسَان مَا سعى} أَي: يذكر.

36

قَوْله: {وبرزت الْجَحِيم لمن يرى} وَفِي التَّفْسِير: أَن الْحِكْمَة فِي إِظْهَار الْجَحِيم مُشَاهدَة الْكفَّار مَكَان عقوبتهم، وليعلم الْمُؤْمِنُونَ من أَي عَذَاب نَجوا.

37

وَقَوله: {فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: على الْآخِرَة. وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره عَن حُذَيْفَة: أَن من أكل على مائدة ثَلَاثَة ألوان من الطَّعَام، فقد آثر الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَأورد فِي خبر مَرْفُوع أَن النَّبِي قَالَ: " من آثر الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة شتت الله عَلَيْهِ همه، ثمَّ لم يبال بأيها هلك ".

39

وَقَوله: {فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى} أَي: مَأْوَاه الْجَحِيم، وَهُوَ مُعظم النَّار.

{وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى (40) فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى (41) يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها (42) فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا (43) إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها (45) } .

40

وَقَوله: {وَأما من خَافَ مقَام ربه} أَي: قِيَامه عِنْد ربه لِلْحسابِ. وَقَوله: {وَنهى النَّفس عَن الْهوى} أَي: عَمَّا هَوَاهُ ويشتهيه على خلاف الشَّرْع.

41

وَقَوله: {فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} أَي: منزلَة ومأواه الْجنَّة، وَفِي بعض التفاسير: أَن الْآيَة الأولى نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث وَأُميَّة بن خلف وَعقبَة وَعتبَة ابْني أبي لَهب وَجَمَاعَة، وَالْآيَة الثَّانِيَة نزلت فِي مُصعب بن عُمَيْر، وَكَانَ قد وقِي رَسُول الله بِنَفسِهِ يَوْم أحد حَتَّى دخلت المشاقص فِي جَوْفه، وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَانَ صَاحب لِوَاء الْمُهَاجِرين.

42

قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها} أَي: مَتى قِيَامهَا؟ وَمرْسَاهَا: مُنْتَهَاهَا، وَالْمعْنَى عَن ماهيتها.

43

وَقَوله: {فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا} أَي: مَالك وَمَعْرِفَة وَقت قيام السَّاعَة؟ وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي كَانَ يسْأَل كثيرا جِبْرِيل مَتى السَّاعَة، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ارتدع وكف وَلم يسْأَل بعد ذَلِك " وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: مَالك وَهَذَا الْأَمر؟ وَفِيه زجر إِيَّاه عَن السُّؤَال.

44

قَوْله: {إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا} أَي: مُنْتَهى علم قِيَامهَا، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن كل من يسْأَل عَنهُ يَقُول: الله أعلم، فَيرد علمهَا إِلَى الله.

45

وَقَوله: {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها} أَي: تنذر بِعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة من يخْشَى الْقِيَامَة.

{كَأَنَّهُمْ يَوْم يرونها لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها (46) } .

46

وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْم يرونها لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها} أَي: أول نَهَار أَو آخر نَهَار، فَأول النَّهَار من طُلُوع الشَّمْس إِلَى ارتفاعها، وَآخر النَّهَار من الْعَصْر إِلَى غُرُوبهَا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار بَلَاغ} فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف ضحى النَّهَار إِلَى عشيته، وَإِنَّمَا ضحى النَّهَار يُضَاف إِلَى النَّهَار فَبِأَي وَجه تستقيم هَذِه الْإِضَافَة؟ وَالْجَوَاب: أَنه يجوز مثل هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب، وهم يَفْعَلُونَ كَذَلِك ويريدون بِمثل هَذِه الْإِضَافَة، الْإِضَافَة إِلَى النَّهَار. قَالَ الشَّاعِر: (نَحن صبحنا عَامِرًا فِي دارها ... عيشة الْهلَال أَو سرارها) وَقيل معنى ذَلِك: كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها أَي: يَوْمًا من الْأَيَّام، فَالْمُرَاد من العشية هُوَ الْيَوْم، وَالضُّحَى هُوَ الْيَوْم أَيْضا، فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا الظَّن، وعندكم أَنهم يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم؟ وَالْجَوَاب: أَنهم يخفتون خفتة بَين النفختين، فَإِذا بعثوا ظنُّوا مَا بَينا، لأَنهم نسوا الْعَذَاب فِي تِلْكَ الخفتة، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {عبس وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) } . تَفْسِير سُورَة عبس وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم.

عبس

قَوْله تَعَالَى: {عبس وَتَوَلَّى} هُوَ الرَّسُول فِي قَول الْجَمِيع، وَمعنى عبس: كلح وَجهه، وَتَوَلَّى أَي: أعرض، وَالْمعْنَى: أظهر الْكَرَاهَة.

2

وَقَوله: {أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى} قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: لِأَن جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَنصب على أَنه مفعول، وَهُوَ عبد الله بن أم مَكْتُوم فِي قَول [الْجَمِيع] . وَسبب نزُول الْآيَة " هُوَ أَن النَّبِي كَانَ يكلم رجلا من أَشْرَاف الْمُشْركين، ويدعوه إِلَى الْإِسْلَام - قَالَ عَطاء: كَانَ عتبَة بن ربيعَة، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ أبي بن خلف، وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ عتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة وَأبي بن خلف - وَكَانَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام، وَيقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه كَانَ عِنْده جمَاعَة من أَشْرَاف قُرَيْش، وَكَانَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام، وَاشْتَدَّ طمعه فيهم، فجَاء عبد الله بن أم مَكْتُوم، وَجعل يَقُول: يَا رَسُول الله، عَلمنِي مِمَّا علمك الله، أَرْشدنِي. وَفِي رِوَايَة، أَنه جَاءَ مَعَ قائده، فَأَشَارَ النَّبِي إِلَى قائده أَن كَفه، فَدفع فِي ظهر قائده، وَأَقْبل النَّبِي ".

{وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى (3) أَو يذكر فتنفعه الذكرى (4) أما من اسْتغنى (5) فَأَنت لَهُ تصدى (6) وَمَا عَلَيْك أَلا يزكّى (7) وَأما من جَاءَك يسْعَى (8) وَهُوَ يخْشَى (9) } . وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَن الَّذِي كَانَ يكلمهُ ويدعوه إِلَى الْإِسْلَام كَانَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فَلَمَّا دخل ابْن أم مَكْتُوم فِي خطابه، وَجعل يُكَرر عَلَيْهِ قَوْله: عَلمنِي أَرْشدنِي، كره رَسُول الله ذَلِك حَتَّى ظَهرت الْكَرَاهَة فِي وَجهه، وَعَبس وَأعْرض عَنهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة معاتبا لَهُ فِيمَا فعله. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَامَ وَذهب.

3

وَقَوله: {وَمَا يدْريك لَعَلَّه يزكّى} أَي: يتزكى، وَالْمرَاد مِنْهُ ابْن أم مَكْتُوم. وَقَوله: {يزكّى} أَي: يقبل مَا تذكره بِهِ وتعلمه، وَقيل: يتَطَهَّر.

4

وَقَوله: {أَو يذكر} مَعْنَاهُ: أَو يتَذَكَّر. وَقَوله: {فتنفعه الذكرى} أَي: تَنْفَعهُ التَّذْكِرَة والعظة. وَالْمعْنَى: أَنَّك تعرض عَنهُ إِعْرَاض من لَا يَنْفَعهُ تَعْلِيمه وتذكيره، وَلَا تَدْرِي لَعَلَّه يَنْفَعهُ التَّعْلِيم والتذكير، فَعَلَيْك أَن تعلمه وتذكره.

5

وَقَوله: {أما من اسْتغنى} يَعْنِي: من أظهر الِاسْتِغْنَاء عَنْك.

6

وَقَوله: {فَأَنت لَهُ تصدى} أَي: تتعرض وَتقبل عَلَيْهِ، وَقيل: إِن أَصله تصدد فقلبت إِحْدَى الدالين يَاء.

7

قَوْله: {وَمَا عَلَيْك أَلا يزكّى} أَي: وَمَا عَلَيْك أَلا يسلم، وَالْمعْنَى أَنه لَو لم يسلم ذَلِك الَّذِي أَقبلت عَلَيْهِ، لم يكن عَلَيْك من ذَلِك شَيْء.

8

وَقَوله: {وَأما من جَاءَك يسْعَى} أَي: يطْلب الْخَيْر.

9

وَقَوله: {وَهُوَ يخْشَى} أَي: يخَاف الله تَعَالَى.

10

وَقَوله: {فَأَنت عَنهُ تلهى} أَي: تعرض، وَقيل: تشتغل عَنهُ بِغَيْرِهِ. وَمن هَذَا مَا

{فَأَنت عَنهُ تلهى (10) كلا إِنَّهَا تذكرة (11) فَمن شَاءَ ذكره (12) فِي صحف مكرمَة (13) } . روى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: إِذا رَأَيْت الله اسْتَأْثر عَلَيْك بِشَيْء فاله عَنهُ - أَي: اتركه وَأعْرض عَنهُ، وَقد قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: " كَانَ النَّبِي بعد ذَلِك إِذا جَاءَهُ عبد الله بن أم مَكْتُوم بسط رِدَاءَهُ وَقَالَ: يَا من عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي ". واستخلفه على الْمَدِينَة مرَّتَيْنِ، وَقيل مَرَّات حِين خرج إِلَى الْغَزْو. وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي مَا رئى بعد ذَلِك متصديا لغنى، وَلَا معرضًا عَن فَقير ".

11

قَوْله تَعَالَى: {كلا} قَالَ الْحسن: حَقًا، وَقيل: الْمَعْنى هُوَ للردع والزجر يَعْنِي: لَيْسَ يَنْبَغِي أَن يكون الْأَمر على هَذَا، وَهُوَ مَا سبق ذكره. وَقَوله: {إِنَّهَا تذكرة} أَي: هَذِه السُّورَة تذكرة، وَقيل: الأنباء والقصص تذكرة.

12

وَقَوله: {فَمن شَاءَ ذكره} أَي: فَمن شَاءَ الله ألهمه وَذكره.

13

وَقَوله: {فِي صحف} يَعْنِي: الْقُرْآن، وَقيل: الأنباء والقصص، فعلى القَوْل الأول قَوْله {فَمن شَاءَ ذكره} ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن. والصحف جمع صحيفَة. وَقَوله: {مكرمَة} أَي: كَرِيمَة على الله، وَقيل: مكرمَة لِأَنَّهَا نزلت من رب كريم.

14

وَقَوله: {مَرْفُوعَة} يجوز أَن يكون الْمَعْنى مَرْفُوعَة فِي الْمَكَان، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى مَرْفُوعَة الْقدر والمنزلة عِنْد الله تَعَالَى. وَقَوله تَعَالَى: {مطهرة} قَالَ الْحسن: مطهرة من كل دنس، وَقيل: مطهرة أَي: مصونة من أَن تنالها أَيدي الْكفَّار الأنجاس.

15

وَقَوله: {بأيدي سفرة} السّفر هِيَ الْمَلَائِكَة الَّذين يسفرون بِالْوَحْي بَين الله وَبَين رَسُوله، وَيُقَال للْكتاب سفر، وللمصلح بَين الْجَمَاعَة سفير، وَهُوَ مَأْخُوذ من تبين الْأَمر وإيضاحه، يُقَال: سفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا إِذا كشفته، وَيُقَال: أَسْفر الصُّبْح إِذا أَضَاء،

{مَرْفُوعَة مطهرة (14) بأيدي سفرة (15) كرام بررة (16) قتل الْإِنْسَان مَا أكفره (17) } . وَمِنْه قَول نوبَة بن حمير: {إِذا مَا جِئْت ليلى تبرقعت فقد ... رَابَنِي مِنْهَا الْغَدَاة سفورها} . أَي: ظُهُورهَا. وَقَالَ قَتَادَة وَالضَّحَّاك: {بأيدي سفرة} : هم الْقُرَّاء الَّذين يقرءُون الْآيَات. وَقَالَ الْفراء فِي قَوْله: {مَرْفُوعَة مطهرة} سَمَّاهَا مَرْفُوعَة مطهرة؛ لِأَنَّهَا أنزلت من اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَقيل: سفرة هم مَلَائِكَة موكلون بالأسفار من كتب الله تَعَالَى، وَمِنْه أسفار مُوسَى، وَاحِدهَا سفر. وَقَالَ الشَّاعِر: (فَمَا أدع السفارة بَين قومِي ... وَمَا أَمْشِي بغش إِن مشيت) وَسمي التَّفْسِير بَين الِاثْنَيْنِ سفيرا؛ لِأَنَّهُ يظْهر عَمَّا فِي قلب هَذَا وَعَما فِي قلب الآخر ليصلح بَينهمَا.

16

وَقَوله: {كرام بررة} فَقَوله: {كرام} صفة الْمَلَائِكَة أَي: كرام على الله، وَقَوله: {بررة} أَي: مُطِيعِينَ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {لَا يعصون الله مَا أَمرهم ويفعلون مَا يؤمرون} وَفِي بعض الْكتب أَن فِي السَّمَاء مَلَائِكَة بِأَيْدِيهِم الصُّحُف يقرءُون الْقُرْآن وعبادتهم ذَلِك، وَهَذَا رَاجع إِلَى مَا بَينا من قبل قَول الضَّحَّاك.

17

قَوْله تَعَالَى: {قتل الْإِنْسَان مَا أكفره} ثمَّ بَين الله تَعَالَى من العبر والآيات فِي الْآدَمِيّ مَا لَا يَنْبَغِي أَن يكفر مَعهَا. وَقَوله: {قتل} أَي: لعن، وَالْإِنْسَان هُوَ الْكَافِر، وَقيل: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقيل: أُميَّة بن خلف. وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس " أَن الْآيَة نزلت فِي عتبَة بن أبي لَهب لما أنزل الله تَعَالَى سُورَة " والنجم " قَالَ عتبَة: أَنا أكفر بِالنَّجْمِ إِذا هوى، فَقَالَ النَّبِي: " اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك "، وروى أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ أَسد الغاضرة " - والغاضرة مَوضِع - ثمَّ إِنَّه خرج بعد ذَلِك فِي رفْقَة، فَلَمَّا بلغ ذَلِك

{من أَي شَيْء خلقه (18) من نُطْفَة خلقه فقدره (19) ثمَّ السَّبِيل يسره (20) ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره (21) ثمَّ إِذا شَاءَ أنشره (22) } . الْموضع ذكر قَول الرَّسُول، فَأمر أهل الرّفْقَة أَن يحرسوه تِلْكَ اللَّيْلَة فَفَعَلُوا، وَجَاء الْأسد وثب وثبة وَصَارَ على ظَهره وافترسه ". وَقَوله: {مَا أكفره} وَيجوز أَن يكون أَيْضا على وَجه التوبيخ، وَإِن كَانَ اللَّفْظ لفظ الِاسْتِفْهَام فَالْمَعْنى: أَي شَيْء أكفره بِاللَّه، وَقد أرَاهُ من قدرته مَا أرَاهُ.

18

وَقَوله: {من أَي شَيْء خلقه} مَعْنَاهُ: أَفلا يتفكر هَذَا الْكَافِر من أَي شَيْء خلقه الله تَعَالَى، ثمَّ بَين من أَي شَيْء خلقه،

19

وَقَوله: {من نُطْفَة خلقه} ، وَقَوله تَعَالَى: {فقدره} قَالَ الْكَلْبِيّ: سوى خلقه من يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَسَائِر جوارحه الظَّاهِرَة والباطنة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {خلقك فسواك} وَقيل: فقدره أَي: وضع كل شَيْء مَوْضِعه، وهيأ لَهُ مَا يصلحه.

20

وَقَوله: {ثمَّ السَّبِيل يسره} أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ الْخُرُوج من الرَّحِم، وَقيل مَعْنَاهُ: يسر لَهُ سَبِيل الْخَيْر، وَقيل: بَين لَهُ سَبِيل الشقاوة والسعادة، قَالَه مُجَاهِد، وَالَّذِي تقدمه قَول الْحسن.

21

وَقَوله: {ثمَّ أَمَاتَهُ فأقبره} أَي: جعل لَهُ قبرا يدْفن فِيهِ، يُقَال: قبرت فلَانا إِذا دَفَنته، وأقبرته إِذا جعلت لَهُ موضعا يدْفن فِيهِ. قَالَ الْأَعْشَى: (لَو أسندت مَيتا إِلَى نحرها ... عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر)

22

وَقَوله: {ثمَّ إِذا شَاءَ أنشره} أَي: أَحْيَاهُ وَبَعثه. قَالَ الْأَعْشَى: (حَتَّى يَقُول النَّاس مِمَّا رَأَوْا ... يَا عجبا للْمَيت الناشر)

{كلا لما يقْض مَا أمره (23) فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه (24) أَنا صببنا المَاء صبا (25) ثمَّ شققنا الأَرْض شقا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حبا (27) } .

23

وَقَوله: {كلا لما يقْض مَا أمره} يَعْنِي: لم يفعل مَا أمره الله تَعَالَى. قَالَ مُجَاهِد: لَيْسَ أحد من الْخلق يفعل كل مَا أمره الله تَعَالَى. وَعَن ابْن عَبَّاس: {كلا لما يقْض مَا أمره} أَي: مَا أَخذ عَلَيْهِ من الْعَهْد يَوْم الْمِيثَاق.

24

وَقَوله تَعَالَى: {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} أَي: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى الطَّعَام والعلف الَّذِي خلقه الله تَعَالَى لحياة الْخلق، وَعَن ابْن عَبَّاس مَعْنَاهُ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه أَي: إِلَى مَا يخرج مِنْهُ كَيفَ انْقَلب من الطّيب إِلَى الْخَبيث. وَعَن الْحسن: أَن الله تَعَالَى وكل ملكا فَإِذا جلس الْإِنْسَان على حَاجته ثنى رقبته لينْظر إِلَى مَا يخرج مِنْهُ ذكره النقاش. وَأورد أَيْضا: أَن أَبَا الْأسود الدؤَلِي سَأَلَ عمرَان بن الْحصين لم ينظر الْإِنْسَان إِلَى مَا يخرج مِنْهُ؟ فَلم يدر عمرَان مَا يجِيبه بِهِ، ثمَّ ذهب عمرَان إِلَى الْمَدِينَة، فَذكر ذَلِك لأبي بن كَعْب فَقَرَأَ هَذِه الْآيَة: {فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه} ثمَّ قَالَ: ينظر ليعلم إِلَى مَا صَار مَا بخل بِهِ.

25

وَقَوله: {أَنا صببنا المَاء صبا} قرئَ بِكَسْر الْألف وَفتحهَا؛ فَقَوله بِالْكَسْرِ " إِنَّا " على الِابْتِدَاء، وَقَوله: {أَنا} بِالْفَتْح مَنْصُوب على الْبَدَل من الطَّعَام كَأَنَّهُ قَالَ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى أَنا صببنا، ذكره الْفراء. وَقيل مَعْنَاهُ: فَلْينْظر الْإِنْسَان إِلَى طَعَامه لأَنا صببنا. وَقَوله: {صببنا المَاء صبا} أَي: أجريناه إِجْرَاء.

26

وَقَوله: {ثمَّ شققنا الأَرْض شقا} أَي: بِخُرُوج النَّبَات.

27

وَقَوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حبا} هُوَ الْبر وَالشعِير، وكل مَا هُوَ قوت النَّاس.

28

وَقَوله: {وَعِنَبًا} هُوَ الْعِنَب الْمَعْرُوف. وَقَوله: {وَقَضْبًا} هُوَ القت بلغَة أهل مَكَّة، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الرّطبَة - وَهُوَ

{وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِق غلبا (30) وَفَاكِهَة وَأَبا (31) مَتَاعا لكم ولأنعامكم (32) فَإِذا جَاءَت الصاخة (33) } . قَول مَعْرُوف - وَسمي قضبا؛ لِأَنَّهُ يقضب أَي: يقطع وينبت، ثمَّ يقطع وينبت هَكَذَا.

29

وَقَوله: {وَزَيْتُونًا} وَهُوَ الزَّيْتُون الْمَعْرُوف. وَقَوله: {وَنَخْلًا وَحَدَائِق غلبا} الحديقة كل بُسْتَان يتحوط عَلَيْهِ، وَمَا لَا يكون محوطا عَلَيْهِ لَا يكون حديقة. وَقَوله: {غلبا} أَي: غِلَاظ الْأَعْنَاق، يُقَال: رجل أغلب إِذا كَانَ شَدِيدا غليظ الرَّقَبَة. وَقيل: " غلبا " ملتفة أَي: دخل بَعْضهَا فِي بعض.

31

وَقَوله: وَفَاكِهَة وَأَبا) الْفَاكِهَة هِيَ الثِّمَار، وَالْأَب هِيَ الْكلأ. قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد: الْأَب مرعى الْأَنْعَام، وَقيل: الْأَب للبهائم بِمَنْزِلَة الْفَاكِهَة للنَّاس. وَقَالَ (الضَّحَّاك) : الْأَب التِّين، وَعَن الْحسن: أَن الْفَاكِهَة مَا طَابَ واحلو لي من الثِّمَار. وَمن الْمَعْرُوف أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَفَاكِهَة وَأَبا} ثمَّ قَالَ: قد عرفت الْفَاكِهَة فَمَا الْأَب؟ ثمَّ قَالَ: يَا ابْن الْخطاب، هَذَا وَالله هُوَ (التَّكْذِيب) ، وَألقى الْعَصَا من يَده.

32

وَقَوله: {مَتَاعا لكم ولأنعامكم} أَي: مَنْفَعَة لكم ولأنعامكم.

33

وَقَوله: {فَإِذا جَاءَت الصاخة} هِيَ اسْم من أَسمَاء يَوْم الْقِيَامَة، ذكره ابْن عَبَّاس مثل الطامة والحاقة وَالْقَارِعَة وأشباهها، وَقيل: الصاخة هِيَ الداهية الَّتِي يعجز عَنْهَا الْخلق، وَقيل: الصاخة الصاكة، يُقَال: صخ فلَانا إِذا صَكه.

{يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه (34) وَأمه وَأَبِيهِ (35) وصاحبته وبنيه (36) لكل امْرِئ مِنْهُم يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه (37) وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة (38) } . قَالَ الشَّاعِر: (يَا جارتي هَل لَك أَن تجالدي ... جلادة كالصخ بالجلامد) أَي: كالصك، وَقيل: إِن الصاخة صَيْحَة إسْرَافيل تصك الأسماع، وَعَن بَعضهم: أَن الصاخة مَا يصخ لَهُ كل شَيْء أَي: ينصت يُقَال: رجل أصخ أَي أَصمّ.

34

وَقَوله: {يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه وَأمه وَأَبِيهِ وصاحبته وبنيه} يفر مِنْهُم لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يَنْفَعهُمْ وَينْتَفع بهم. قيل: يفر لِئَلَّا يرَوا الهوان الَّذِي ينزل فِيهِ، وَقيل: يفر مِنْهُم ضجرا لعظم مَا هُوَ فِيهِ، وَفِي بعض التفاسير: أَن قَوْله: {من أَخِيه} قابيل من هابيل. وَقَوله: {وَأمه} هُوَ الرَّسُول من أمه. وَقَوله: {وَأَبِيهِ} هُوَ إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ - من أَبِيه. وَقَوله: {وصاحبته} هُوَ لوط - عَلَيْهِ السَّلَام - من زَوجته. وَقَوله: {وبنيه} هُوَ آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - من بنيه المفسدين، وَقيل: هُوَ نوح - عَلَيْهِ السَّلَام - من ابْنه.

37

وَقَوله: {لكل امْرِئ مِنْهُم يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه} أَي: شَيْء يَكْفِيهِ ويشغله، وَقَالَ القتيبي: شَيْء يصرفهُ عَن غَيره، والشأن: هُوَ الْأَمر الْعَظِيم، يُقَال: فلَان فِي شَأْن، أَي: فِي أَمر عَظِيم. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يعنيه " من عَنى يَعْنِي بِالْعينِ غير مُعْجمَة.

38

قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة} أَي: [ذَات] فرحة مسرورة، وَقيل: نيرة، وَقيل: هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تبيض وُجُوه} أَي: وُجُوه يَوْمئِذٍ تبيض.

{ضاحكة مستبشرة (39) ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة (40) ترهقها قترة (41) أُولَئِكَ هم الْكَفَرَة الفجرة (42) } .

39

وَقَوله: {ضاحكة مستبشرة} أَي: من السرُور والفرح.

40

وَقَوله: {ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} أَي: كسوف وَسَوَاد.

41

وَقَوله: {ترهقها قترة} أَي: تعلوها الكآبة والحزن، وَقيل: هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَتسود وُجُوه} عَن عَطاء الخرساني: {وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة} لِكَثْرَة مَا أغبرت فِي الدُّنْيَا بِالْحَقِّ. وَقَوله: {ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة} من كَثْرَة مَا ضحِكت فِي الْبَاطِل.

42

وَقَوله: {أُولَئِكَ هم الْكَفَرَة الفجرة} يَعْنِي: أَصْحَاب الْوُجُوه هم الَّذين كفرُوا بِاللَّه وفجروا، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِذا الشَّمْس كورت (1) وَإِذا النُّجُوم انكدرت (2) } . تَفْسِير سُورَة (كورت) وَهِي مَكِّيَّة روى عبد الرَّزَّاق، عَن عبد الله بن بجير، عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد الصَّنْعَانِيّ قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يَقُول: قَالَ رَسُول الله: " من سره أَن ينظر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُ رأى عين ذَلِك الْيَوْم فليقرأ: {إِذا الشَّمْس كورت} و {إِذا السَّمَاء انفطرت} و (إِذا السَّمَاء انشقت) . قَالَ رَضِي الله عَنهُ أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد الْقفال، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس السنجي الطَّحَّان، أخبرنَا الْعَبَّاس بن عبد الْعَظِيم الْعَنْبَري، أخبرنَا عبد الرَّزَّاق.

التكوير

قَوْله تَعَالَى: {إِذا الشَّمْس كورت} قَالَ ابْن عَبَّاس: ذهب ضوؤها. وروى سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن أَبِيه، عَن الرّبيع بن خثيم قَالَ: كورت رمى بهَا. وَعَن سعيد بن جُبَير كور الْعِمَامَة، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا لفت وجمعت وَطرح بهَا.

2

وَقَوله: {إِذا النُّجُوم انكدرت} أَي: تناثرت وتساقطت، وَفِي بعض التفاسير: أَن النُّجُوم فِي قناديل من نور معلقَة بالسماء الدُّنْيَا بسلاسل فِي أَيدي الْمَلَائِكَة، فَإِذا جَاءَ

{وَإِذا الْجبَال سيرت (3) وَإِذا العشار عطلت (4) وَإِذا الوحوش حشرت (5) وَإِذا الْبحار سجرت (6) } . يَوْم الْقِيَامَة تساقطت السلَاسِل من أَيدي الْمَلَائِكَة، وانتثرت النُّجُوم. وروى أَن أهل الْأَرْضين يسمعُونَ إدة عَظِيمَة من وُقُوع النُّجُوم على الأَرْض.

3

وَقَوله: {وَإِذا الْجبَال سيرت} أَي: سيرت وَكَانَت سرابا، وَقيل: دقَّتْ دقا، وَصَارَت بِمَنْزِلَة الهباء، وَالْآيَة فِي معنى قَوْله تَعَالَى {وَترى الْجبَال تحسبها جامدة وَهِي تمر مر السَّحَاب} .

4

وَقَوله: {وَإِذا العشار عطلت} العشار وَاحِدهَا عشراء، وَهِي النَّاقة الَّتِي أَتَت عشرَة أشهر على حملهَا، وَهِي أحسن مَا يكون من النوق، وأعزها على أَرْبَابهَا، وتعطيلها إهمالها وَتركهَا بِلَا رَاع يرعاها، وَلَا يفعل ذَلِك إِلَّا يَوْم الْقِيَامَة، وَالْمعْنَى: أَن كل إِنْسَان يشْتَغل بِنَفسِهِ عَن كل شَيْء، وَإِن كَانَ عَزِيزًا عِنْده.

5

وَقَوله: {وَإِذا الوحوش حشرت} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى مَاتَت، والحشر هُوَ الْجمع، فَكَأَنَّهَا جمعت فِي الْمَوْت، وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهر أَن حشرها إحياؤها يَوْم الْقِيَامَة. وَقد ورد فِي الْخَبَر الْمَشْهُور عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يقْتَصّ للجماء من القرناء ". وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: يحْشر كل شَيْء حَتَّى الذُّبَاب.

6

وَقَوله: {وَإِذا الْبحار سجرت} قَالَ الْحسن: يَبِسَتْ، وَعنهُ أَنه قَالَ: فاضت أَي: أَدخل بَعْضهَا فِي بعض. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار سجرت أَي: ملئت نَارا. وَقَالَ شمر بن عَطِيَّة: تسجر كَمَا يسجر التَّنور.

{وَإِذا النُّفُوس زوجت (7) وَإِذا الموءودة سُئِلت (8) بِأَيّ ذَنْب قتلت (9) } . وَعَن سعيد بن الْمسيب أَن عليا - رَضِي الله عَنهُ - سَأَلَ رجلا من الْيَهُود عَن جَهَنَّم؟ فَقَالَ: هُوَ الْبَحْر، فَقَالَ: مَا أرَاهُ إِلَّا صَادِقا، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الْبحار سجرت} . وَعَن بَعضهم: أَن بَحر الرّوم وسط الأَرْض، وَفِي أَسْفَله آبار من نُحَاس مطبقة، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة سجرت نَارا، وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَحْر الْمَسْجُور} وَقد بَينا، وَيجوز أَن يجمع بَين هَذِه الْأَقَاوِيل، فَيُقَال: إِن الْبحار يدْخل بَعْضهَا فِي بعض فَتَصِير بحرا وَاحِدًا، ثمَّ يفِيض وييبس ثمَّ يمْلَأ نَارا.

7

وَقَوله: {وَإِذا النُّفُوس زوجت} قَالَ الشّعبِيّ: الْأَبدَان بالأرواح، وَقيل: قرنت بأعمالها. وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: الصَّالح مَعَ الصَّالح، والفاجر مَعَ الْفَاجِر. وَعَن بَعضهم: الْمُؤْمِنُونَ يقرنون بالحور الْعين، وَالْكفَّار بالشياطين.

8

{وَإِذا الموءودة سُئِلت بِأَيّ ذَنْب قتلت} الموءودة: هِيَ الْوَلَد، كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقتلونه، وَكَانَ الْوَاحِد مِنْهُم إِذا ولد لَهُ ابْن تَركه، وَإِذا ولد لَهُ بنت دَفنهَا حَيَّة. وَذكر بَعضهم. أَن الْمَرْأَة كَانَت إِذا أَخذهَا الْمَخَاض حُفْرَة حفيرة، وَجَلَست عَلَيْهَا فَإِن ولدت ابْنا حَبسته، وَإِن ولدت بِنْتا ألقتها فِي الحفيرة، وَقد كَانَ بَعضهم يتْرك الْجَارِيَة حَتَّى تصير شَدِيدَة، ثمَّ يَقُول لأمها: طيبيها زينيها، وَقد حفر بِئْرا فِي الصَّحرَاء، ويحملها مَعَ نَفسه، ويأمرها أَن تطلع فِي الْبِئْر، ثمَّ يَدْفَعهَا من خلفهَا فِي الْبِئْر، ويهيل التُّرَاب، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك إِمَّا خشيَة الإملاق، أَو [دفعا] للعار وأنفة عَن أنفسهم. وَقَوله: {سُئِلت بِأَيّ ذَنْب قتلت} هُوَ سُؤال توبيخ للوائد؛ لِأَن من جَوَاب هَذَا السُّؤَال أَن يَقُول: قتلت بِغَيْر ذَنْب. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة: " وَإِذا الموءودة سَأَلت بِأَيّ ذَنْب قتلت " وَالْمعْنَى مَعْلُوم. وَذكر بَعضهم فِي تَفْسِيره: أَنَّهَا تَأتي متلطخة بالدماء، وتتعلق بثدي أمهَا وَتقول: يَا رب، هَذِه أُمِّي وَقد قتلتني. واعم أَنه ورد كثير من الْأَخْبَار فِي أَن أَوْلَاد الْمُشْركين خدم أهل الْجنَّة.

وَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: من قَالَ الموءودة فِي النَّار فقد كذب، وتلا هَذِه الْآيَة. وَعَن النَّبِي أَنه قَالَ: " سَأَلت رَبِّي عَن اللاهين من ذُرِّيَّة الْبشر فأعطانيهم ". وَعنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " أَنه سُئِلَ عَن أَطْفَال الْمُشْركين؟ فَقَالَ: هم خدم أهل الْجنَّة. وَقد وَردت أَخْبَار أخر أَن أَوْلَاد الْمُشْركين فِي النَّار، وَقد ذكرنَا بعض ذَلِك فِيمَا سبق، وَعنهُ أَنه قَالَ لعَائِشَة: " لَو شِئْت أسمعتك تضاغيهم فِي النَّار "، وَعنهُ عَلَيْهِ - الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَنه قَالَ: " الوائدة والموءودة فِي النَّار "، وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي سُئِلَ عَن أَطْفَال الْمُشْركين؟ فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين ". فَالْأولى أَن يتَوَقَّف، ويوكل علم ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، وهم على مَشِيئَته يفعل بهم مَا يَشَاء. وَاعْلَم أَنه قد كَانَ فِي الْعَرَب من يحيي الْأَطْفَال الموءودة، وَذَلِكَ بِأَنَّهُم (يفرون) من آبَائِهِم. وَقَالَ الفرزدق يفتخر: (وَمنا الَّذِي منع لوائدات ... فأحيا الوئيد فَلم يوأد) قَالَه فِي جده صعصعة بن مجاشع.

{وَإِذا الصُّحُف نشرت (10) وَإِذا السَّمَاء كشطت (11) وَإِذا الْجَحِيم سعرت (12) وَإِذا الْجنَّة أزلفت (13) علمت نفس مَا أحضرت (14) فَلَا أقسم} .

10

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الصُّحُف نشرت} يَعْنِي: على الْخَلَائق، فَمنهمْ من يُعْطي بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُم من يُعْطي بِشمَالِهِ.

11

وَقَوله: {وَإِذا السَّمَاء كشطت} وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " قشطت " وهما بِمَعْنى وَاحِد، كالكافور والقافور. وَقَوله: {كشطت} أَي: قلعت، وَقيل: نزعت.

12

وَقَوله: {وَإِذا الْجَحِيم سعرت} أَي: أوقدت، وَهِي توقد مرّة بعد مرّة فاستقام على هَذَا الْكَلَام. قَالَ قَتَادَة: سعره غضب الله وخطايا بني آدم.

13

وَقَوله: {وَإِذا الْجنَّة أزلفت} أَي: قربت وأدنيت، وَهِي لِلْمُتقين.

14

وَقَوله: {علمت نفس مَا أحضرت} قَالَ الرّبيع بن خثيم: إِلَى هَذَا جرى الْكَلَام، وَحكى معنى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس. وَالْمعْنَى: أَنه إِذا كَانَت هَذِه الْأَشْيَاء علمت نفس مَا أحضرت يَعْنِي: من الْخَيْر وَالشَّر.

15

قَوْله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالخنس} قَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - هِيَ خَمْسَة كواكب: بهْرَام، وَعُطَارِد، وزحل، والزهرة، وَالْمُشْتَرِي، وَذكر بَعضهم الشَّمْس وَالْقَمَر فِي ذَلِك. وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا جَمِيع النُّجُوم. وَقَوله: {الخنس} أَي: تغيب فِي سَيرهَا، وَقيل: تغيب فِي النَّهَار، وَتظهر بِاللَّيْلِ، وَقيل: ترجع فِي مسيرها من الْمغرب، وَذَلِكَ ظَاهر فِي الْكَوَاكِب الْخَمْسَة.

16

وَقَوله: {الْجوَار الكنس} أَي: النِّسَاء السائرات الكنس، والكنس المستترات عَن الْأَبْصَار. وَقيل: بالغروب، وَقيل: بِالنَّهَارِ. وَهَذِه الْكَوَاكِب هِيَ الْكَوَاكِب الَّتِي يسميها المنجمون الْمُتَحَيِّرَة، وَقد تفردت حَيْثُ تسير بِخِلَاف سَائِر الْكَوَاكِب؛ لِأَن سَائِر الْكَوَاكِب تسير من الْمشرق إِلَى الْمغرب، وَهِي تسير من الْمغرب إِلَى الْمشرق، ويحيلون

{بالخنس (15) الْجوَار الكنس (16) وَاللَّيْل إِذا عسعس (17) وَالصُّبْح إِذا تنفس (18) إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم (19) ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين (20) } . عَلَيْهَا الْأَفْعَال فِي الْعَالم، وَنحن نتبرأ إِلَى الله تَعَالَى من هَذَا الِاعْتِقَاد، ونحيل الْجَمِيع على الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا النُّجُوم آيَات وَدَلَائِل ومسخرات خلقت لمعاني ذَكرنَاهَا من قبل، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الخنس هِيَ بقر الوحوش. قَالَ عَمْرو بن شُرَحْبِيل: قَالَ لي عبد الله بن مَسْعُود: أَنْتُم قوم عرب، فَمَا معنى {الخنس الْجوَار الكنس} ؟ قَالَ عَمْرو: هِيَ بقر الْوَحْش، قَالَ ابْن مَسْعُود: وَأَنا أرى ذَلِك وَهُوَ أَيْضا إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور. والخنس على هَذَا القَوْل: هِيَ صغَار الْأنف، والكنس من استتارها فِي كنسها.

17

وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا عسعس} أَي: أقبل بظلامه، وَقيل: أدبر، وَهُوَ من الأضداد. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.

18

وَقَوله: {وَالصُّبْح إِذا تنفس} أَي: ظهر وطلع، وَقيل: ارْتَفع.

19

وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم} أَي قَول أنزلهُ رَسُول كريم أَي كريم على مرسله وَهُوَ جِبْرِيل صلوَات الله عَلَيْهِ. وَحمل الْآيَة على مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على الرَّسُول من غير الْقُرْآن. فعلى هَذَا يجوز أَن يُقَال: هُوَ قَول جِبْرِيل. وَقيل: إِن قَوْله {رَسُول كريم} وَهُوَ مُحَمَّد وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمَشْهُور.

20

وَقَوله: {ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين} فِي الْخَبَر أَن النَّبِي سَأَلَ جِبْرِيل عَن قوته وأمانته؟ . فَقَالَ: " أما قوتي فَإِن الله تَعَالَى أَرْسلنِي إِلَى مَدَائِن لوط، وَهِي أَربع مَدَائِن فِي كل مَدِينَة أَرْبَعمِائَة ألف مقَاتل سوى الذُّرِّيَّة فأدخلت جناحي تحتهَا ورفعتها إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حَتَّى سمع أهل السَّمَاء الدُّنْيَا نباح الْكلاب وصياح الديكة ثمَّ قلبتها. وَأما أمانتي فَإِنِّي لم أعد مَا أمرت بِهِ إِلَى غَيره.

{مُطَاع ثمَّ أَمِين (21) وَمَا صَاحبكُم بمجنون (22) وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين (23) وَمَا هُوَ على الْغَيْب بضنين (24) وَمَا هُوَ بقول شَيْطَان رجيم (25) فَأَيْنَ تذهبون (26) } . وَقَوله: {مكين} هُوَ بِمَعْنى المكانة أَو الْمنزلَة عِنْد الله تَعَالَى. وَذي الْعَرْش: هُوَ الله تَعَالَى.

21

وَقَوله: {مُطَاع ثمَّ أَمِين} فِي التَّفْسِير أَن الْمَلَائِكَة يطيعونه فِيمَا يَأْمُرهُم بِهِ. وَقد قيل: إِن مَعْنَاهُ أَنه قَالَ: لرضوان خَازِن الْجنان لَيْلَة الْمِعْرَاج: افْتَحْ الْبَاب لمُحَمد ففتحه. وَقَالَ لمَالِك خَازِن النَّار: افْتَحْ اللّبَاب لمُحَمد ففتحه. وَقَوله: {أَمِين} قد ذكرنَا. وَقيل فِي معنى الْأَمَانَة، أَنه يرفع سبعين سرادقا من غير اسْتِئْذَان. وَقيل: يلج سبعين حِجَابا من نور من غير اسْتِئْذَان.

22

وَقَوله تَعَالَى {وَمَا صَاحبكُم بمجنون} معنى الرَّسُول. وَعَن عَطِيَّة أَن نَبِي الله سَأَلَ جِبْرِيل أَن يرِيه نَفسه على مَا يكون فِي السَّمَاء؟ فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِك إِلَيّ حَتَّى اسْتَأْذن رَبِّي، فَأذن الله تَعَالَى لَهُ فِي ذَلِك. فَلَمَّا رأى جِبْرِيل على مَا خلقه الله من العظمة وَكَثْرَة الأجنحة على مَا ذكرنَا غشي عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ قُرَيْش مغشيا عَلَيْهِ قَالُوا: مَجْنُون مَجْنُون فَأنْزل الله تَعَالَى {وَمَا صَاحبكُم بمجنون} .

23

وَقَوله: {وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين} فِي التَّفْسِير أَنه عِنْد مطلع الشَّمْس، وَالَّذِي رَآهُ جِبْرِيل، وَقد بَينا هَذَا فِي سُورَة والنجم.

24

وَقَوله: {وَمَا هُوَ على الْغَيْب بضنين} قرئَ بالضاد والظاء. قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: بظنين بالظاء، بمتهم، وبضنين بالضاد، ببخيل. أوردهُ النّحاس وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْمُفَسّرين والغيب: هُوَ الْوَحْي.

25

وَقَوله {وَمَا هُوَ بقول شَيْطَان رجيم} قَالَ: هَذَا لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ أَن مُحَمَّدًا يَقُول مَا يَقُول عَن الشَّيْطَان.

26

وَقَوله: {فَأَيْنَ تذهبون} أَي: أَيْن تذهبون عَن هَذَا الْحق الَّذِي ظهر بدلائله؟ .

{إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (27) لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم (28) وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين (29) } .

27

وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} أَي: تذكرة وعظة للْعَالمين.

28

وَقَوله: {لمن شَاءَ مِنْكُم أَن يَسْتَقِيم} فِي التَّفْسِير أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، قَالَ أَبُو جهل: الْأَمر إِلَيْنَا إِن شِئْنَا استقمنا، وَإِن شِئْنَا لم نستقم، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله، {وَمَا تشاءون إِلَّا أَن يَشَاء الله رب الْعَالمين} ردا عَلَيْهِ. وَفِي الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا مَا رُوِيَ عَن مَالك عَن زيد بن أبي أنيسَة أَن عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب أخبرهُ عَن مُسلم بن يسَار الْجُهَنِيّ أَن عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ - سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة {وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ} إِلَى أَن قَالَ: {أَلَسْت بربكم} الْآيَة. فَقَالَ عمر بن الْخطاب: سَمِعت رَسُول الله سُئِلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: " إِن الله خلق آدم فَمسح ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة، فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ، ثمَّ مسح ظَهره فاستخرج، فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله، فَفِيمَ الْعَمَل؟ فَقَالَ رَسُول الله: إِن الله تَعَالَى إِذا خلق العَبْد للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل أهل الْجنَّة، فيدخله بِهِ الْجنَّة، وَإِذا خلق العَبْد للنار اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى يَمُوت، وَهُوَ على عمل أهل النَّار فيدخله بِهِ النَّار، وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله} . وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لنَفس أَن تؤمن إِلَّا بِإِذن الله} قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد هياج بن عبيد الخطيبي بِمَكَّة قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن جَمِيع، أخبرنَا جدي، أخبرنَا مُحَمَّد بن عَبْدَانِ الْقَزاز، أخبرنَا أَبُو مُصعب عَن مَالك الحَدِيث. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِذا السَّمَاء انفطرت (1) وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت (2) وَإِذا الْبحار فجرت (3) وَإِذا الْقُبُور بعثرت (4) علمت نفس مَا قدمت وأخرت (5) يَا أَيهَا} . تَفْسِير سُورَة (انفطرت) وَهِي مَكِّيَّة

الانفطار

قَوْله تَعَالَى: {إِذا السَّمَاء انفطرت} مَعْنَاهُ: انشقت، وَمِنْه انفطر نَاب الْبَعِير.

2

وَقَوله: {وَإِذا الْكَوَاكِب انتثرت} أَي: تساقطت.

3

وَقَوله: {وَإِذا الْبحار فجرت} قَالَ الْحسن: يَبِسَتْ. وَعَن غَيره: ملئت، وَالْمَعْرُوف فجر بَعْضهَا فِي بعض، العذب فِي المالح، والمالح فِي العذب، وَقيل: فجرت أَي: جعلت بحرا وَاحِدًا، وَذَلِكَ بتفجير بَعْضهَا فِي بعض.

4

وَقَوله: {وَإِذا الْقُبُور بعثرت} أَي: بحثرت وبحثت، وَالْمعْنَى: قلبت ترابها، وَأخرج مَا فِيهَا من الْمَوْتَى. وَفِي الْخَبَر: أَن الأَرْض تلقى أفلاذ كَبِدهَا يَوْم الْقِيَامَة، فَتخرج كنوزها وموتاها وكل مَا فِيهَا. وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " يُوشك أَن يحسر الْفُرَات على جبل من ذهب، فيقتتل النَّاس عَلَيْهِ ". قَالَ الْقفال: يجوز أَن يكون مَا ذكره الله تَعَالَى من هَذِه الْأَشْيَاء قبل قيام السَّاعَة، وَيجوز أَن يكون بعد قيام السَّاعَة.

5

وَقَوله: {علمت نفس مَا قدمت وأخرت} أَي: {مَا قدمت} فَعمِلت من عمل {وأخرت} أَي: ترك من الْعَمَل، وَقيل: مَا قدمت وأخرت أَي: مَا عملت من قديم

الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم (6)) . وَحَدِيث، وَقيل فِي قَوْله: {وأخرت} أَي: من سنة سَيِّئَة عمل بهَا بعده.

6

قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} قيل: نزلت الْآيَة فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَقيل: فِي أبي جهل، وَقيل: فِي غَيرهمَا. وَقَوله: {مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} أَي: أَي شَيْء غَرَّك وجرأك وسول لَك حَتَّى ارتكبت مَا ارتكبت؟ وَقَوله: {بِرَبِّك الْكَرِيم} يتَجَاوَز عَنْك، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْآيَة نزلت فِي أبي الْأسد، وَكَانَ قد ضرب النَّبِي، فَلم يُعَاقِبهُ الله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ معنى قَوْله: {بِرَبِّك الْكَرِيم} الَّذِي تجَاوز عَنْك، وَلم يعاقبك فِي الدُّنْيَا. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الجنوجردي: أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق الثعالبي: أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن فَنْجَوَيْهِ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن حبش الْمُقْرِئ: أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن الْفضل الْمُقْرِئ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن الْحُسَيْن: أخبرنَا الْمقدمِي، أخبرنَا كثير بن هِشَام: أخبرنَا جَعْفَر بن برْقَان قَالَ: حَدثنِي صَالح بن مِسْمَار، قَالَ: " بَلغنِي أَن النَّبِي تَلا هَذِه الْآيَة: {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} قَالَ: جَهله ". وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا سيخلو الله بِهِ يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول: يَا ابْن آدم، مَا غَرَّك بِي؟ يَا ابْن آدم، مَاذَا عملت فِيمَا عملت؟ يَا ابْن آدم، مَاذَا أجبْت الْمُرْسلين؟ وَعَن السّديّ (بن الْمُفلس) قَالَ: غره رفقه بِهِ. وَعَن إِبْرَاهِيم بن الْأَشْعَث أَن الفضيل بن عِيَاض قيل لَهُ: لَو قَالَ الله تَعَالَى لَك: مَا غَرَّك بِي فَمَاذَا تَقول لَهُ؟ قَالَ: أَقُول ستورك المرخاة. ونظم ذَلِك بَعضهم:

{الَّذِي خلقك فسواك فعدلك (7) فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك (8) } . (يَا كاتم الذَّنب أما تَسْتَحي ... وَالله فِي الْخلْوَة ثأنيكا) (غَرَّك من رَبك إمهاله ... وستره طول مساويكا) وَعَن يحيى بن معَاذ قَالَ: لَو يَقُول الله تَعَالَى: مَا غَرَّك بِرَبِّك؟ فَأَقُول: تَركك لي سالفا وآنفا. وَعَن أبي بكر الْوراق قَالَ: أَقُول غرني كرم الْكَرِيم. وَعَن مَنْصُور بن عمار قَالَ: أَقُول غرني مَا علمت من سَابق أفضالك. وَقَالَ بَعضهم: (يَا من خلا فِي الغي والتيه ... وغره طول تماديه) أمل لَك الله فبارزته ... وَلم تخف غب مَعَاصيه)

7

وَقَوله: {الَّذِي خلقك فسواك فعدلك فِي أَي صُورَة} قَالَ عَطاء: جعلك قَائِما معتدلا حسن الصُّورَة، وَقيل: سواك أَي: سوى بَين يَديك ورجليك وعينيك وأذنيك، [و] وَوضع كل شَيْء مَوْضِعه، وَهُوَ أَيْضا معنى قَوْله: {فعدلك} ذكره الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَقيل: عدلك أَي عدل خلقك، وَهُوَ على مَا بَينا. وَقُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ أَي: صرفك فِي أَي صُورَة شَاءَ من حسن وقبيح، وطويل وقصير. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى إِذا أَرَادَ خلق عبد أحضر خلقه كل عرق كَانَ بَينه وَبَين آدم، فيخلقه على مَا يُرِيد من الشّبَه بِمن شَاءَ ". وَقد قيل: فَعدل فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك أَي: من شبه أَب وَأم وَعم وخال، وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: معنى عدلك

{كلا بل تكذبون بِالدّينِ (9) وَإِن عَلَيْكُم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (13) وَإِن الْفجار لفي جحيم} . بِالتَّخْفِيفِ أَي: فِي عدل بعضك بِبَعْض، فَكنت معتدل الْخلق مناسبها فَلَا تفَاوت فِيهَا.

9

قَوْله تَعَالَى: {كلا بل تكذبون بِالدّينِ} أَي: بِيَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: بِالْحِسَابِ.

10

وَقَوله: {وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين} فِي بعض الْأَحَادِيث " أَن النَّبِي قَالَ: أكْرمُوا الْكِرَام الْكَاتِبين فَإِنَّهُم مَعكُمْ، إِلَّا عِنْد الْجَنَابَة والتبرز للْحَاجة ". وَقد ورد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {كرام بررة} أَنهم الْمَلَائِكَة، يكرموا أَن يَكُونُوا مَعَ ابْن آدم عِنْد خلوته بأَهْله، وَعند حَاجته. وَقَوله: {كاتبين} هم الْمَلَائِكَة يَقْعُدُونَ عَن يَمِين الْإِنْسَان ويساره، فيكتبون مَا عَلَيْهِ وَله، وَقيل: وَاحِد عَن يَمِينه، وَوَاحِد عَن يسَاره، فَالَّذِي عَن يَمِينه يكْتب الْحَسَنَات، وَالَّذِي عَن يسَاره يكْتب السَّيِّئَات، وَقيل: إِن الَّذِي عَن يَمِينه أَمِين على الَّذِي على يسَاره لَا يكْتب إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَفِي الْخَبَر بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي: " إِن العَبْد إِذا هم بحسنة يكْتب لَهُ الْملك حَسَنَة، فَإِذا عَملهَا كتب لَهُ عشر حَسَنَات، وَإِذا هم بسيئة لم تكْتب عَلَيْهِ شَيْئا، فَإِذا عَملهَا كتب سَيِّئَة ".

12

وَقَوله: {يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

13

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} فِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " هم الَّذين بروا آبَاءَهُم وأبناءهم ". وَظَاهر الْمَعْنى أَنهم المطيعون.

( {14) يصلونها يَوْم الدّين (15) وَمَا هم عَنْهَا بغائبين (16) وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين (17) ثمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين (18) يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله (19) } .

14

وَقَوله: {وَإِن الْفجار لفي جحيم} هِيَ النَّار، نَعُوذ بِاللَّه مِنْهَا. وَفِي الحكايات: أَن سُلَيْمَان بن عبد الْملك حج، فلقي أَبَا حَازِم سَلمَة بن دِينَار فَقَالَ: يَا أَبَا حَازِم، كَيفَ الْقدوم على الله؟ فَقَالَ: أما المحسنون فكالغائب يقدم على أَهله، وَأما الْمُسِيء فكالعبد الْآبِق يرد إِلَى سَيّده، فَبكى سُلَيْمَان، ثمَّ قَالَ: لَيْت شعري نعلم مَا حَالنَا عِنْد الله؟ فَقَالَ أَبُو حَازِم: اعرضها على كتاب الله تَعَالَى، فَقَالَ: وعَلى أَي ذَلِك أعرض؟ فَقَالَ على قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم} قَالَ سُلَيْمَان: فَأَيْنَ رَحْمَة الله؟ قَالَ: قريب من الْمُحْسِنِينَ.

15

قَوْله تَعَالَى: {يصلونها يَوْم الدّين} أَي: يدْخلُونَهَا يَوْم الْقِيَامَة.

16

وَقَوله: {وَمَا هم عَنْهَا بغائبين} أَي: مبعدين.

17

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين ثمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدّين} هُوَ على معنى تفخيم الْأَمر وتعظيمه.

19

وَقَوله: {يَوْم لَا تملك نفس لنَفس شَيْئا} أَي: لَا تغني نفس عَن نفس شَيْئا. وَيَوْم مَنْصُوب على الظّرْف، وَقُرِئَ " يَوْم " بِالرَّفْع، وَهُوَ ظَاهر. وَقَوله: {وَالْأَمر يَوْمئِذٍ لله} أَي: الْأَمر يَوْم الْقِيَامَة لله لَيْسَ لأحد مَعَه أَمر، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذين إِذا اكتالوا على النَّاس يستوفون (2) وَإِذا كالوهم أَو وزنوهم يخسرون (3) } . سُورَة المطففين وَهِي مَدَنِيَّة قَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ أول سُورَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، قدم رَسُول الله الْمَدِينَة، وهم أَخبث النَّاس كَيْلا ووزنا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، فاستقاموا، فهم أوفى النَّاس كَيْلا ووزنا إِلَى (الْيَوْم) .

المطففين

قَوْله تَعَالَى: {ويل لِلْمُطَفِّفِينَ} الويل: هُوَ الدُّعَاء بالشدة والهلاك. وَعَن السّديّ هُوَ وَاد فِي جَهَنَّم، يسيل فِيهِ صديد أهل النَّار. وَقَوله: {لِلْمُطَفِّفِينَ} هم الَّذين لَا يُوفونَ الْكَيْل وَالْوَزْن ويبخسون. قَالَ الزّجاج: سمى مطففا، لِأَنَّهُ لَا يطف بِهَذَا الْفِعْل بالشَّيْء الطفيف أَي: الْيَسِير وَقد بَينا أَنَّهَا نزلت فِي أهل الْمَدِينَة، وَقيل: نزلت فِي أبي جُهَيْنَة، كَانَ رجلا من أهل الْمَدِينَة لَهُ صَاعَانِ يَكِيل بِأَحَدِهِمَا على النَّاس أَي: عَن النَّاس وَيُقَال: اكتلت على فلَان أَي: استوفيت مَا عَلَيْهِ. وَقَوله: {يستوفون} أَي: يستوفون حُقُوقهم على الْكَمَال، وَقيل: يستوفونه راجحا.

3

وَقَوله: {وَإِذا كالوهم} كالوا لَهُم. وَكَذَلِكَ: {أَو وزنوهم} أَي: وزنوا لَهُم. [قَالَه] أَبُو عُبَيْدَة والأخفش وَالْفراء - والأخفش هُوَ سعيد بن [مسْعدَة] ، وَهُوَ الْأَخْفَش الْكَبِير - وَقَالَ الْفراء: هُوَ لُغَة حجازية سَمِعت بَعضهم بِمَكَّة يَقُول: إِذا

{أَلا يظنّ أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون (4) ليَوْم عَظِيم (5) يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين (6) } . صدر النَّاس أَتَيْنَا التَّاجِر، فكال الْمَدّ والمدين إِلَى الْعَام الْمقبل أَي: كال لنا. و {يخسرون} أَي: ينقصُونَ.

4

وَقَوله: {أَلا يظنّ أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون} أَي: أَلا يستيقنوا أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: خمس بِخمْس: مَا نقص قوم الْعَهْد إِلَّا سلط الله عَلَيْهِم عدوهم، وَمَا حكم قوم بِغَيْر مَا أنزل الله إِلَّا فَشَا فيهم الْفقر، وَمَا ظَهرت فيهم الْفَاحِشَة إِلَّا فَشَا فيهم الْمَوْت، وَمَا نَقَصُوا من الْمِكْيَال وَالْمِيزَان إِلَّا منعُوا النَّبَات وأجدبوا بِالسِّنِينَ، وَمَا منع قوم الزَّكَاة إِلَّا حبس عَنْهُم الْقطر. وَعَن مَالك بن دِينَار قَالَ: دخلت على جَار لي أعوده، وَقد نزل بِهِ الْمَوْت، فَجعلت ألقنه كلمة الشَّهَادَة، وَهُوَ يَقُول: جبلان من نَار، جبلان من نَار. فَمَا زَالَ يَقُول حَتَّى مَاتَ، فسالت عَنهُ؟ قَالُوا: كَانَ لَهُ مكيال وميزان يطفف بهما. وَقيل فِي قَوْله: {أَلا يظنّ} يَعْنِي: أَنهم لَا يعْملُونَ عمل من يظنّ أَنهم مبعوثون.

5

وَقَوله: {ليَوْم عَظِيم} هُوَ يَوْم الْقِيَامَة. سَمَّاهُ عَظِيما لعظم مَا فِيهِ وشدته.

6

وَقَوله: {يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين} روى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يقومُونَ مائَة سنة على رُءُوس قُبُورهم "، وَعَن بعض الصَّحَابَة: ثلثمِائة سنة، وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: يقومُونَ ألف عَام فِي الظلمَة. وروى حَمَّاد بن سَلمَة، عَن أَيُّوب، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين} قَالَ: " يقومُونَ حَتَّى يبلغ الرشح

{كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين (7) } . أَطْرَاف آذانهم ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص. أخبرنَا ابْن بنت منيع - هُوَ أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ - أخبرنَا أَبُو نصر التمار، أخبرنَا حَمَّاد بن سَلمَة، الحَدِيث. خرجه مُسلم فِي صَحِيحه عَن أبي نصر التمار، وَذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِإِسْنَادِهِ، وَذكر أَنهم يقومُونَ حَتَّى يبلغ الرشح أَنْصَاف آذانهم، وروى سليم بن عَامر، عَن الْمِقْدَاد بن الْأسود أَن النَّبِي قَالَ: " تدنى الشَّمْس من رُءُوس الْخَلَائق، حَتَّى تكون على قدر ميل من رُءُوسهم " قَالَ سليم: فَلَا أَدْرِي أَرَادَ ميل الْمسَافَة أم ميل الَّذِي يكتحل بِهِ - قَالَ: " فتصهرهم الشَّمْس، فيكونون فِي الْعرق على قدر أَعْمَالهم، فَمنهمْ من يَأْخُذهُ الْعرق إِلَى كعبيه، وَمِنْهُم إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُم إِلَى حقوه، وَمِنْهُم من يلجمه إلجاما، وَوضع رَسُول الله يَده على (فَمه) ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الْعرق يذهب فِي الأَرْض سبعين ذِرَاعا " وَالله أعلم.

7

قَوْله تَعَالَى: {كلا إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين} كلا ردع وزجر وتنبيه، كَأَنَّهُ يَقُول: لَيْسَ الْأَمر كَمَا تَزْعُمُونَ فَارْتَدَعُوا. وَقَوله: {إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه كتاب الْأَعْمَال، وَالْآخر: أَنه أَرْوَاح الْكفَّار، وَالْأَظْهَر هُوَ الأول.

{وَمَا أَدْرَاك مَا سِجِّين (8) كتاب مرقوم (9) ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (10) الَّذين يكذبُون بِيَوْم الدّين (11) وَمَا يكذب بِهِ إِلَّا كل مُعْتَد أثيم (12) إِذا تتلى عَلَيْهِ} . وَقَوله: {لفي سِجِّين} هُوَ فعيل من السجْن، قَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: هُوَ الأَرْض السفلي فِيهَا إِبْلِيس وَذريته. وَعَن مُجَاهِد: صَخْرَة تَحت الأَرْض السَّابِعَة تقلب، وَيجْعَل تحتهَا كتاب الْفجار. وَعَن الحبر أَنه قَالَ فِي قَوْله: {إِن كتاب الْفجار لفي سِجِّين} : هُوَ روح الْكَافِر تقبض ويصعد بِهِ إِلَى السَّمَاء، فتأبى السَّمَاء أَن تقبله، ثمَّ يهْبط بِهِ إِلَى الأَرْض، فتأبى الأَرْض أَن تقبله، فيهبط بِهِ تَحت الْأَرْضين، فَيجْعَل تَحت خد إِبْلِيس. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَن الفلق جب فِي جَهَنَّم مغطى، والسجين جب فِي جَهَنَّم مَفْتُوح ".

8

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا سِجِّين} قَالَ الزّجاج: لم يُعلمهُ رَسُول الله حَتَّى أعلمهُ الله.

9

وَقَوله: {كتاب مرقوم} أَي كتاب الْفجار، وَقَالَ بَعضهم: كتاب مرقوم يرجع إِلَى السجين، وَالأَصَح مَا بَينا.

10

قَوْله: {ويل يَوْمئِذٍ للمكذبين} قد بَينا.

11

وَقَوله: {الَّذين يكذبُون بِيَوْم الدّين وَمَا يكذب بِهِ إِلَّا كل مُعْتَد أثيم إِذا تتلى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين} أَي: أباطيل الْأَوَّلين وأكاذيبهم.

14

قَوْله تَعَالَى: {كلا بل ران على قُلُوبهم} أَي: غلب على قُلُوبهم. قَالَ الْفراء: استكثروا من الْمعاصِي والذنُوب فأحاطت بقلوبهم. وروى الْقَعْقَاع بن حَكِيم، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن العَبْد إِذا أَخطَأ خَطِيئَة نكتت فِي قلبه نُكْتَة، فَإِن هُوَ نزع واستغفر وَتَابَ صقلت، وَإِن عَاد زيد فِيهَا حَتَّى يغلق قلبه، فَهُوَ

{آيَاتنَا قَالَ أساطير الْأَوَّلين (13) كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون (15) ثمَّ إِنَّهُم لصالوا الْجَحِيم (16) ثمَّ} . لرين الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى: {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الشريف أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَليّ الزَّيْنَبِي، أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا زغبة، عَن اللَّيْث، عَن ابْن عجلَان، عَن الْقَعْقَاع بن حَكِيم الحَدِيث. وَيُقَال: ران أَي: غطى وغشى، وَهُوَ قريب من الأول. قَالَ الْحسن: هُوَ الذَّنب على الذَّنب حَتَّى يسود قلبه، وروى نَحْو هَذَا عَن مُجَاهِد.

15

قَوْله تَعَالَى: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يؤمئذ لمحجوبون} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن الْمُؤمنِينَ يرَوْنَ الله تَعَالَى، وَقد نقل هَذَا الدَّلِيل عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ - رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا - قَالَ مَالك: لما حجب الله الْفجار عَن رُؤْيَته دلّ أَنه ليتجلى للْمُؤْمِنين حَتَّى يروه. وَمثل هَذَا رَوَاهُ الرّبيع بن سُلَيْمَان، عَن الشَّافِعِي، قَالَ الرّبيع: قلت للشَّافِعِيّ: أيرى الله بِهَذَا؟ فَقَالَ: لَو لم أوقن أَن الله يرى فِي الْجنَّة لم أعبده فِي الدُّنْيَا. وَقد رُوِيَ هَذَا الدَّلِيل عَن (أَحْمد بن يحيى بن ثَعْلَب الشَّيْبَانِيّ ابْن عَبَّاس) . وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَو عرف الْمُؤْمِنُونَ أَنهم لَا يرَوْنَ الله فِي الْآخِرَة، لانزهقت أَرْوَاحهم فِي الدُّنْيَا. وَفِي الْآيَة أبين دَلِيل من حَيْثُ الْمَعْنى على مَا قُلْنَا، لِأَنَّهُ ذكر قَوْله: {كلا إِنَّهُم عَن

{يُقَال هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون (17) كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين (18) وَمَا أَدْرَاك مَا عليون (19) كتاب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) إِن الْأَبْرَار لفي نعيم (22) على الأرائك ينظرُونَ (23) تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم} . رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون) فِي حق الْكفَّار عُقُوبَة لَهُم، فَلَو قُلْنَا: إِن الْمُؤمنِينَ يحجبون، لم يَصح عُقُوبَة الْكفَّار بِهِ. وَقد ذكر الْكَلْبِيّ فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة: أَن الْمُؤمنِينَ يرونه فِي الْجنَّة، ويحجب الْكفَّار. وَعَن الْحُسَيْن بن الْفضل قَالَ: كَمَا حجبهم فِي الدُّنْيَا عَن توحيده، كَذَلِك فِي الْآخِرَة عَن رُؤْيَته.

16

وَقَوله: {ثمَّ إِنَّهُم لصالوا الْجَحِيم} أَي: لداخلوا الْجَحِيم.

17

وَقَوله: {ثمَّ يُقَال هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تكذبون} يُقَال لَهُم ذَلِك على طَرِيق التوبيخ وَالتَّعْبِير.

18

قَوْله تَعَالَى: {كلا إِن كتاب الْأَبْرَار لفي عليين} قَالَ الْفراء: ارْتِفَاع بعد ارْتِفَاع. وَقَالَ كَعْب: يقبض روح الْمُؤمن فيصعد بِهِ إِلَى السَّمَاء، فتتلقاه الْمَلَائِكَة إِلَى أَن تبلغ السَّمَاء السَّابِعَة، فَيُوضَع تَحت الْعَرْش. يُقَال: إِن الْكتاب هُوَ كتاب الْأَعْمَال، وَقد بَينا أَنه أظهر الْقَوْلَيْنِ، وَالْمعْنَى: أَنه يوضع فِي أَعلَى الْأَمْكِنَة إِظْهَارًا لخسة عمل الْفجار.

19

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا عليون} قَالَ الزّجاج: لم يدر حَتَّى أعلمهُ الله.

20

وَقَوله: {كتاب مرقوم يشهده المقربون} أَي كتاب مَكْتُوب، أَو كتاب عَلَيْهِ عَلامَة الْقبُول، يشهده الْمَلَائِكَة، وَقيل: يشهده مقربو كل سَمَاء.

22

قَوْله تَعَالَى: {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم} أَي: فِي نعيم الْجنَّة.

23

وَقَوله: {على الأرائك ينظرُونَ} الأرائك جمع أريكة، وَهِي السرر فِي الحجال كَمَا بَينا.

24

وَقَوله: {تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم} أَي: بهجة النَّعيم وحسنها. وَهُوَ

( {24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختامه مسك وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ (26) ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب بهَا المقربون (28) إِن} . مثل قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} .

25

وَقَوله: (يسقون من رحيق مختوم) روى مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود، وَسَعِيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا: الرَّحِيق هُوَ الْخمر وَقيل: هُوَ الشَّرَاب الَّذِي لَا غش فِيهِ. وَقَوله: {مختوم} أَي: لم تمسسه الْأَيْدِي.

26

وَقَوله: {ختامه مسك} قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير: آخِره رَائِحَة الْمسك، وطعمه طعم ألذ الْأَشْرِبَة. وَعَن جمَاعَة من الْمُفَسّرين أَنهم قَالُوا: إِذا بلغ آخر الشّرْب وجد رَائِحَة الْمسك وَالْمعْنَى: أَن الشَّرَاب الَّذِي يكون فِي الدُّنْيَا يكون فِي آخِره الكدر، وَمَا تكرههُ النَّفس، فَذكر الله تَعَالَى أَن شراب الْآخِرَة على خِلَافه. وَقَرَأَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " خَاتِمَة مسك " وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر " خاتِمة مسك " بِكَسْر التَّاء، وَقيل فِي معنى قَوْله تَعَالَى: " خاتَمَهُ مسك " بِفَتْح التَّاء أَي: (طينته) مسك وَفِي قَوْله: " خاتِمَهُ مسك " بِكَسْر التَّاء أَي: آخِره وعاقبته. وَقَوله: {وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ} أَي: فليتبادر المتبادرون، والمنافسة إِظْهَار شدَّة الطّلب، وَقيل: هِيَ الْمُسَابقَة إِلَى التَّحْصِيل.

27

وَقَوله: {ومزاجه من تسنيم} قَالَ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وعلقمة عَن ابْن مَسْعُود: هُوَ أشرف شراب لأهل الْجنَّة يشربه المقربون صرفا، ويمزج للأبرار، وَمثله رَوَاهُ مَنْصُور عَن مَالك بن الْحَارِث. وَقيل فِي التسنيم: هُوَ عين تتسنم على أهل الْجنَّة من الغرف، وَقيل: هُوَ عين من مَاء.

28

وَقَوله: {عينا يشرب بهَا المقربون} قد بَينا، وَنصب عينا بِمَعْنى: أَعنِي عينا، أَو أُرِيد عينا.

{الَّذين أجرموا كَانُوا من الَّذين آمنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مروا بهم يتغامزون (30) وَإِذا انقلبوا إِلَى أهلهم انقلبوا فكهين (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِن هَؤُلَاءِ لضالون (32) وَمَا أرْسلُوا عَلَيْهِم حافظين (33) فاليوم الَّذين آمنُوا من الْكفَّار يَضْحَكُونَ (34) } . وَقَوله: {بهَا} أَي: مِنْهَا.

29

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين أجرموا} هم الْكفَّار. وَقيل: هَذَا فِي قوم مخصوصين من قُرَيْش، مِنْهُم أَبُو جهل والوليد بن الْمُغيرَة، وَالْأسود بن عبد يَغُوث، وَالنضْر بن الْحَارِث وَغَيرهم. وَقَوله: {كَانُوا من الَّذين آمنُوا يَضْحَكُونَ} قيل: إِنَّه فِي قوم مخصوصين من الْمُؤمنِينَ مِنْهُم خباب وبلال وَأَبُو ذَر وعمار وَغَيرهم من فُقَرَاء الصَّحَابَة.

30

وَقَوله: {وَإِذا مروا بهم يتغامزون} أَي: يشيرون بالأعين والحواجب.

31

وَقَوله: {وَإِذا انقلبوا إِلَى أهلهم انقلبوا فاكهين} أَي معجبين بأفعالهم. وَقيل: طيبين الْأَنْفس مستبشرين. وَالْعرب تَقول: رجل فكه وفاكه إِذا كَانَ ضحوكا طيب النَّفس.

32

وَقَوله: {وَإِذا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِن هَؤُلَاءِ لضالون} أَي: أخطأوا الْحق وَطَرِيق الرشد وَاتبعُوا الْبَاطِل.

33

وَقَوله: {وَمَا أرْسلُوا عَلَيْهِم حافظين} أَي مَا أرْسلُوا عَلَيْهِم ليحفظوا أَعْمَالهم. أَي مَا أرسل الْكفَّار على الْمُؤمنِينَ، وَالْمعْنَى: أَنهم مَا وكلوا بِالْمُؤْمِنِينَ ليحفظوا عَلَيْهِم مَا يَفْعَلُونَ. وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي الْمُنَافِقين. وَقيل: إِنَّهَا نزلت فِي أبي جهل وَأَصْحَابه. وَقَوله: {من الَّذين آمنُوا} على رضى الله عَنهُ وَأَصْحَابه. وَهُوَ قَول بعيد.

34

وَقَوله: {فاليوم الَّذين آمنُوا} هم الْمُؤْمِنُونَ من أَصْحَاب الرَّسُول.

{على الأرائك ينظرُونَ (35) هَل ثوب الْكفَّار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) } . وَقَوله: {من الْكفَّار يَضْحَكُونَ على الأرائك ينظرُونَ} فِي بعض التفاسير إِن للجنة كوى إِلَى أهل النَّار مَتى شَاءَ أهل الْجنَّة فتحُوا الكوى ونظروا إِلَى النَّار وَضَحِكُوا مِنْهُم. وَقد بَينا معنى الأرائك من قبل.

36

وَقَوله: {هَل ثوب الْكفَّار مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أَي هَل جوزي الْكفَّار مَا كَانُوا - أَي بِمَا كَانُوا - يَفْعَلُونَ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِذا السَّمَاء انشقت (1) وأذنت لِرَبِّهَا وحقت (2) وَإِذا الأَرْض مدت (3) } . تَفْسِير سُورَة الكدح وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم

الانشقاق

قَوْله تَعَالَى: {إِذا السَّمَاء انشقت} هُوَ فِي معنى قَوْله: {إِذا السَّمَاء انفطرت} وَيُقَال: انشقت بالغمام، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} وَقد ذكرنَا، وَقيل: انشقت لنزول الْمَلَائِكَة. وَفِي تَفْسِير النقاش: انشقت لنزول الرب عز اسْمه، وَهُوَ بِلَا كَيفَ، وَقيل: (مزقت) . وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: تَنْشَق السَّمَاء من المجرة، وَيُقَال: هِيَ بَاب السَّمَاء.

2

وَقَوله: {وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} أَي: واستمعت لأمر رَبهَا، وَحقّ لَهَا أَن تستمع. قَالَ الشَّاعِر: (الْقلب تعلل بددن ... إِن همي فِي سَماع وَأذن) وَقَالَ بَعضهم: صم إِذا سمعُوا خيرا ذكرت بِهِ، وَإِن ذكرت بِسوء عِنْدهم أذنوا، أَي: اسْتَمعُوا. وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " مَا أذن الله بِشَيْء كَإِذْنِهِ لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ". وَأما اسْتِمَاع السَّمَاء فَيجوز أَن يكون على الْحَقِيقَة، وَيجوز أَن يكون استماعها انقيادها لما تُؤمر بِهِ، وَالله أعلم.

3

وَقَوله: {وَإِذا الأَرْض مدت} أَي: مدت مد الْأَدِيم لَا يبْقى عَلَيْهَا جبل وَلَا شَيْء إِلَّا

{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت (4) وأذنت لِرَبِّهَا وحقت (5) يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه (6) } . دخل فِي جوفها، وَقيل: زيد فِي سعتها لتسعهم. وَعَن بَعضهم: غيرت عَن هيئتها بالتبديل، وَغير ذَلِك، فَهُوَ معنى قَوْله: {مدت} .

4

وَقَوله: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتخلت} أَي: وَأَلْقَتْ مَا فِي جوفها، من الْكُنُوز والموتى فخلى جوفها، وَيُقَال: أَلْقَت بِمَا اسْتوْدعت، وتخلت عَمَّا استحفظت، وَكَأَنَّهَا أَلْقَت مَا على ظهرهَا، وتخلت عَمَّا فِي جوفها.

5

وَقَوله: {وأذنت لِرَبِّهَا وحقت} قد بَينا. فَإِن قيل: أَيْن جَوَاب قَوْله: {إِذا السَّمَاء انشقت} وَهُوَ يَقْتَضِي جَوَابا؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: قَالَ الْفراء: جَوَابه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: إِذا السَّمَاء انشقت وَكَانَ كَذَا، رأى كل إِنْسَان مَا وجد من الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَيُقَال: علم كل مُنكر للبعث أَنه كَانَ فِي ضَلَالَة وَخطأ. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْجَواب قَوْله: {وأذنت} وَالْوَاو زَائِدَة، فَالْجَوَاب: أَذِنت. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن الْجَواب قَوْله: {فملاقيه} أَي: يلقى عمله من خير وَشر. وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا، وَالْمعْنَى: يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه إِذا السَّمَاء انشقت.

6

قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا فملاقيه} قَالَ قَتَادَة: عَامل لِرَبِّك عملا. والكدح هُوَ السَّعْي بتعب وَنصب. قَالَ الشَّاعِر: (وَمَضَت بشاشة كل عَيْش صَالح ... وَبقيت أكدح للحياة وأنصب) وَيجوز أَن يكون ذكر الْوَاحِد هَاهُنَا بِمَعْنى الْجمع، فَيكون بِمَعْنى يَا أَيهَا النَّاس. وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول: يَا أَيهَا الرجل، وكلكم ذَلِك الرجل.

{فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ (7) فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا (8) } . وَقَوله تَعَالَى: {فملاقيه} قَالَ قَتَادَة: أَي: فملاق عَمَلك من خير وَشر. وَيُقَال: ملاق رَبك.

7

وَقَوله: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} . أَي هينا، وَقيل فِي الْيَسِير: هُوَ أَن يقبل الْحَسَنَات، ويتجاوز عَن السَّيِّئَات. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي مليكَة عَن عَائِشَة أَن النَّبِي قَالَ: " من نُوقِشَ فِي الْحساب هلك، قلت: يَا رَسُول الله، فَإِن الله عز وَجل يَقُول: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} قَالَ: ذَلِك الْعرض " قَالَ رَضِي الله عَنهُ أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن ابْن النقور، أخبرنَا أَبُو طَاهِر (بن) المخلص، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد يحيى بن صاعد، أخبرنَا الْحسن بن الْحُسَيْن الْمروزِي، عَن عبد الله بن الْمُبَارك، عَن عُثْمَان بن الْأسود، عَن ابْن أبي مليكَة الْخَبَر. وَأورد أَبُو عِيسَى بِرِوَايَة (ابْن عمر) أَن النَّبِي قَالَ: " من حُوسِبَ عذب "، وَهُوَ بِإِسْنَاد غَرِيب. وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي رَآهَا، وَقد رفعت يَديهَا وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ حاسبني حسابا يَسِيرا. فَقَالَ: " يَا عَائِشَة، أَتَدْرِينَ

{وينقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا (9) وَأما من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره (10) } . مَا ذَلِك الْحساب؟ قَالَت عَائِشَة: فَقلت ذكر الله فِي كِتَابه: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوف يُحَاسب حسابا يسير} فَقَالَ رَسُول الله: من حُوسِبَ خصم، وَذَلِكَ الْمَمَر بَين يَدي الله تَعَالَى ". وَذكر الْحَاكِم أَبُو عبد الله الْحَافِظ فِي الْمُسْتَدْرك على الصَّحِيحَيْنِ بِإِسْنَادِهِ عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " ثَلَاث من كن فِيهِ حَاسبه الله حسابا يَسِيرا، وَأدْخلهُ الْجنَّة برحمته. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قلت يَا رَسُول الله، لمن ذَلِك؟ قَالَ: " أَن تصل من قَطعك، وَتَعْفُو عَمَّن ظلمك، وَتُعْطِي من حَرمك ".

9

وَقَوله: {وينقلب إِلَى أَهله مَسْرُورا} أَي: فَرحا مُسْتَبْشِرًا، وَيجوز أَن يَنْقَلِب إِلَى أَهله من الْحور الْعين، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى يَنْقَلِب إِلَى أَهله الَّذين كَانُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقيل: نزلت فِي أبي سَلمَة بن عبد الْأسد، وَكَانَ زوج أم سَلمَة، وَهُوَ أول من هَاجر إِلَى الْمَدِينَة. وَقَوله: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره} نزلت فِي الْأسود بن عبد الْأسد. قَوْله تَعَالَى: {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهره} قَالَ مُجَاهِد: يخلع يَده الْيُمْنَى، وَيجْعَل يَده الْيُسْرَى وَرَاء ظَهره، فَيُوضَع كِتَابه فِيهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: تغل يَده الْيُمْنَى، وَيُوضَع كِتَابه فِي شِمَاله من وَرَاء ظَهره. وروى أَبُو

{فَسَوف يَدْعُو ثبورا (11) وَيصلى سعيرا (12) إِنَّه كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا (13) إِنَّه ظن أَن لن يحور (14) } . مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - وَهُوَ عبد الله بن قيس - أَن النَّبِي قَالَ: " يكون فِي الْقِيَامَة ثَلَاث عرضات: فعرضتان جِدَال ومعاذير، والعرضة الثَّالِثَة عِنْد تطاير الصُّحُف، فآخذ بِيَمِينِهِ وآخذ بِشمَالِهِ ". وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره بِإِسْنَادِهِ أَن النَّبِي قَالَ: " من حاسب نَفسه فِي الدُّنْيَا هون الله عَلَيْهِ الْحساب فِي الْآخِرَة ".

11

{فَسَوف يَدْعُو ثبورا} مَعْنَاهُ: يَقُول واثبوراه، وَمعنى قَوْله: واثبوراه: واهلاكاه. يُقَال: رجل مثبور أَي: هَالك.

12

وَقَوله: {وَيصلى سعيرا} أَي: يقاسي النَّار، وَيُقَال: يدْخل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {اصلوها} أَي: ادخلوها، وَقُرِئَ: " وَيصلى سعيرا " أَي: يكثر عَذَابه بِنَار جَهَنَّم، ذكره الْأَزْهَرِي.

13

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا} أَي: لم يحزن للتقصير فِي أوَامِر الله تَعَالَى، وَلم يتعب، وَلم ينصب فِي الْعَمَل بِطَاعَة الله، ذكره الْقفال. وَيُقَال: كَانَ فِي أَهله مَسْرُورا، أَي: رَاكِبًا هَوَاهُ، مُتبعا شَهْوَته.

14

وَقَوله: {إِنَّه ظن أَن لن يحور} أَي: أَن لن يرجع إِلَى الله تَعَالَى، وَهُوَ إِخْبَار عَن إِنْكَاره بِالْبَعْثِ. وَقَوله: {يحور} يرجع، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " أعوذ بِاللَّه من الْحور بعد الكور " أَي: النُّقْصَان بعد الزِّيَادَة. وَفِي رِوَايَة: " من الْحور بعد الكور " أَي: من انتشار أمره بعد أَن كَانَ مجتمعا، أَو من فَسَاد أمره بعد أَن كَانَ صَالحا.

{بلَى إِن ربه كَانَ بِهِ بَصيرًا (15) فَلَا أقسم بالشفق (16) وَاللَّيْل وَمَا وسق (17) وَالْقَمَر إِذا اتسق (18) } . وَقَالَ الشَّاعِر: (وَمَا الْمَرْء إِلَّا كالشهاب وضوئِهِ ... يحور رَمَادا بعد إِذْ هُوَ سَاطِع)

15

وَقَوله: {بلَى إِن ربه كَانَ بِهِ بَصيرًا} أَي: عَالما.

16

وَقَوله تَعَالَى: {فَلَا أقسم بالشفق} أَي: أقسم بالشفق، قَالَ مُجَاهِد: هُوَ النَّهَار كُله. وَالْمَعْرُوف أَن الشَّفق هُوَ الْحمرَة من عِنْد غرُوب الشَّمْس إِلَى الْعشَاء الْآخِرَة. قَالَ الْفراء: سَمِعت الْعَرَب تَقول على فلَان ثوب كَأَنَّهُ الشَّفق، وَكَانَ عَلَيْهِ ثوب مصبوغ بالحمرة. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الشَّفق هُوَ الْحمرَة ". وَهُوَ قَول جمَاعَة من الصَّحَابَة وَجَمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم: ابْن عمر، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَغَيرهمَا. وَعَن أبي هُرَيْرَة: أَن الشَّفق هُوَ الْبيَاض، وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز.

17

قَوْله: {وَاللَّيْل وَمَا وسق} أَي: وَمَا جمع ولف، وَضم الْأَشْيَاء بعد انتشارها، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ اللَّيْل آوى كل شَيْء إِلَى مَأْوَاه، وَرجع كل إِنْسَان إِلَى منزله، وَإِذا كَانَ النَّهَار انتشروا فِي التَّصَرُّف.

18

وَقَوله: {وَالْقَمَر إِذا اتسق} أَي: إِذا اجْتمع ضوءه، وَيُقَال: امْتَلَأَ نورا، وَهُوَ لَيْلَة الثَّالِث عشر من الشَّهْر وَالرَّابِع عشر وَالْخَامِس [عشر] .

{لتركبن طبقًا عَن طبق (19) فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ (20) وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ (21) } . قَالَ الشَّاعِر: (إِن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات (لَو) يجدن سائقا)

19

وَقَوله: {لتركبن طبقًا عَن طبق} وَقُرِئَ: " لتركبن " على الوحدان، فَمن قَرَأَ على الْجمع فَمَعْنَاه: لتركبن أَيهَا النَّاس حَالا بعد حَال، وَالْحَال هُوَ بِمَعْنى الطَّبَق. قَالَ الشَّاعِر: (فَبينا الْمَرْء فِي عَيْش لذيذ ناعم ... خفض أَتَاهُ طبق يَوْمًا على مُنْقَلب دحض) وَمعنى حَال بعد حَال: هُوَ أَنه يكون نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح، وَبعد ذَلِك تتبدل أَحْوَاله، وَيخْتَلف على الْمَعْهُود الْمَعْلُوم من طفولية، وشباب، وهرم، وَغير ذَلِك. وَيُقَال: لتركبن طبقًا عَن طبق أَي: شدَّة على شدَّة، وَالْمعْنَى: أَنه حَيَاة ثمَّ موت ثمَّ بعث ثمَّ جَزَاء. فَأَما الْقِرَاءَة على الوحدان فَفِيهِ قَولَانِ. أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ السَّمَاء، وَالْمعْنَى: أَنه ينشق وَيكون مرّة كالدهان، وَمرَّة كَالْمهْلِ، وَمرَّة مشقوقة، وَمرَّة صَحِيحَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَغَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه خطاب للنَّبِي، وَالْمعْنَى لتركبن أطباق السَّمَاء طبقًا على طبق، وَذَلِكَ لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَيُقَال: لتركبن طبقًا عَن طبق يَعْنِي: أصلاب الْآبَاء، وَذَلِكَ للرسول. قَالَ الْعَبَّاس فِي مدح النَّبِي: (من قبلهَا طبت فِي الصلاب ... وَفِي مستودع حِين يخصف الْوَرق) (تنقل من صالب إِلَى رحم ... إِذا مضى عَالم بدا طبق)

{بل اللَّذين كفرُوا يكذبُون (22) وَالله أعلم بِمَا يوعون (23) فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم (24) إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون (25) } .

20

وَقَوله {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} فِي التَّفْسِير: أَن النَّبِي سجد وَأَصْحَابه، وَالْكفَّار على رؤوسهم يصفقون ويصفرون فَأنْزل الله تَعَالَى {فَمَا لَهُم لَا يُؤمنُونَ وَإِذا قرئَ عَلَيْهِم الْقُرْآن لَا يَسْجُدُونَ} وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة " أَن النَّبِي سجد سجد فِي هَذَا الْموضع ".

22

وَقَوله: {بل الَّذين كفرُوا يكذبُون وَالله أعلم بِمَا يوعون} أَي: يكتمون ويجمعون فِي صُدُورهمْ.

24

قَوْله: {فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم} أَي أجعَل لَهُم النَّار مَوضِع الْبشَارَة للْمُؤْمِنين بِالْجنَّةِ.

25

وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون} أَي غير مَنْقُوص وَلَا مَقْطُوع. وَيُقَال: لَا يمتن عَلَيْهِم أحد غير الله تَعَالَى فيكدره عَلَيْهِم الْمِنَّة وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالسَّمَاء ذَات البروج (1) وَالْيَوْم الْمَوْعُود (2) وَشَاهد ومشهود (3) } . تَفْسِير سُورَة البروج وَهِي مَكِّيَّة

البروج

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات البروج} أَي: النُّجُوم الْعِظَام. قَالَ عِكْرِمَة: ذَات الْقُصُور. وَيُقَال: ذَات الْخلق الْحسن، وَيُقَال: ذَات الْمنَازل، وَهِي منَازِل الْقَمَر، وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ منزلا ذَكرنَاهَا من قبل.

2

وَقَوله: {وَالْيَوْم الْمَوْعُود} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة بالِاتِّفَاقِ.

3

وَقَوله: {وَشَاهد ومشهود} فِيهِ أَقْوَال: روى أَبُو إِسْحَاق، عَن الْحَارِث، عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن الشَّاهِد هُوَ يَوْم الْجُمُعَة، والمشهود يَوْم عَرَفَة. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الْأَثر أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الصريفيني، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، عَن عَليّ بن الْجَعْد، عَن شريك، عَن [أبي] إِسْحَاق. الْأَثر. وَالْقَوْل الثَّانِي: الشَّاهِد يَوْم النَّحْر، والمشهود يَوْم عَرَفَة، قَالَه إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الشَّاهِد هُوَ الْمَلَائِكَة، والمشهود هُوَ الْإِنْسَان، قَالَه السّديّ، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الشَّاهِد هُوَ مُحَمَّد، والمشهود يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن بن عَليّ، وَابْن عمر، وَابْن الزبير - رَضِي الله عَنْهُم - وَالْقَوْل الْخَامِس: الشَّاهِد هُوَ الله،

{قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود (4) } . والمشهود هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل السَّادِس: أَن الشَّاهِد هُوَ عِيسَى ابْن مَرْيَم، والمشهود يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل السَّابِع: أَن الشَّاهِد هُوَ الْجَوَارِح، والمشهود هُوَ نفس الْإِنْسَان، وَالْقَوْل الثَّامِن: أَن الشَّاهِد يَوْم الِاثْنَيْنِ، والمشهود يَوْم الْجُمُعَة، وَشَهَادَة الْأَيَّام شهادتها على الْأَعْمَال وَمعنى الْمَشْهُود فِي الْأَيَّام هُوَ أَنه يشهدها النَّاس، وَهُوَ فِي يَوْم الْقِيَامَة على معنى أَنه تشهده الْمَلَائِكَة وَجَمِيع الْخَلَائق.

4

قَوْله تَعَالَى: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود} وَالْأُخْدُود جمع خد، وَهُوَ شقّ فِي الأَرْض، وَاخْتلفُوا فِيمَن نزلت هَذِه الْآيَة؟ . قَالَ عَليّ: فِي قوم من الْحَبَشَة، وَعَن مُجَاهِد: فِي قوم من نَجْرَان، وَعَن ابْن عَبَّاس: فِي قوم من الْيمن، وَعَن بَعضهم قوم بالروم، وَقيل غير ذَلِك. وَفِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ بِنَجْرَان قوم على شَرِيعَة عِيسَى بن مَرْيَم - صلوَات الله عَلَيْهِ - يدينون بِالتَّوْحِيدِ، فَجَاءَهُمْ ذُو نواس وأحضرهم - وَهُوَ ملك من مُلُوك الْيمن - وَخَيرهمْ بَين الْيَهُودِيَّة والإحراق بالنَّار، فَاخْتَارُوا الإحراق بالنَّار، فَخدَّ لَهُم أُخْدُودًا، وأضرم فِيهَا النَّار، وَأمرهمْ بالتهود أَو يلْقوا أنفسهم فِيهَا، فَألْقوا أنفسهم فِيهَا حَتَّى احترقوا. وَفِي بعض التفاسير: أَنه كَانَ فِي آخِرهم امْرَأَة وَمَعَهَا صبي رَضِيع، فَلَمَّا بلغت النَّار توقفت فَتكلم الصَّبِي وَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، سيري وَلَا تُنَافِقِي، فَإِنَّمَا هِيَ غُمَيْضَة. وَقد ذكر مُسلم فِي الصَّحِيح فِي هَذَا قصَّة طَوِيلَة، وَكَذَلِكَ أَبُو عِيسَى على غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا، وذكرا فِيهِ حَدِيث الْملك والراهب والساحر، وَهُوَ مَا روى عَن ثَابت الْبنانِيّ، عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، عَن صُهَيْب قَالَ: " كَانَ رَسُول الله إِذا صلى الْعَصْر هَمس، والهمس فِي بعض قَوْلهم تحرّك شَفَتَيْه كَأَنَّهُ يتَكَلَّم، فَقيل لَهُ: إِنَّك يَا رَسُول الله إِذا صليت الْعَصْر همست قَالَ: إِن نَبيا من الْأَنْبِيَاء كَانَ أعجب بأمته، من يقوم لهَؤُلَاء؟ فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن خَيرهمْ بَين أَن أنتقم مِنْهُم وَبَين أَن أسلط

عَلَيْهِم عدوهم، فَاخْتَارُوا النقمَة، فَسلط عَلَيْهِم الْمَوْت فَمَاتَ مِنْهُم فِي يَوْم سَبْعُونَ ألفا قَالَ: وَكَانَ إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث حدث بِهَذَا الحَدِيث الآخر، قَالَ: كَانَ ملك من الْمُلُوك، وَكَانَ لذَلِك الْملك كَاهِن يكهن لَهُ، فَقَالَ (الكاهن) : انْظُرُوا لي غُلَاما (فهما) - أَو قَالَ فطنا لقفا - فَأعلمهُ علمي هَذَا، فَإِنِّي أَخَاف أَن أَمُوت فَيَنْقَطِع مِنْكُم هَذَا الْعلم، وَلَا يكون فِيكُم من يُعلمهُ. قَالَ: فنظروا لَهُ على مَا وصف، وأمروه أَن يحضر ذَلِك الكاهن وَأَن يخْتَلف إِلَيْهِ. قَالَ: فَجعل يخْتَلف إِلَيْهِ، وَكَانَ على طَرِيق الْغُلَام رَاهِب فِي صومعة - قَالَ معمر: أَحسب أَن أَصْحَاب الصوامع كَانُوا يَوْمئِذٍ مُسلمين - قَالَ: فَجعل الْغُلَام يسْأَل ذَلِك الراهب كلما مر بِهِ، فَلم يزل بِهِ حَتَّى أخبرهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أعبد الله. قَالَ: فَجعل الْغُلَام يمْكث عِنْد الراهب، ويبطئ عَن الكاهن، فَأرْسل الكاهن إِلَى أهل الْغُلَام إِنَّه لَا يكَاد يحضرني، فَأخْبر الْغُلَام الراهب بذلك، فَقَالَ لَهُ الراهب: إِذا قَالَ لَك الكاهن: أَيْن كنت؟ فَقل: عِنْد أَهلِي، فَإِذا قَالَ لَك أهلك: أَيْن كنت؟ (فَأخْبرهُم أَنَّك) كنت عِنْد الكاهن. قَالَ فَبَيْنَمَا الْغُلَام على ذَلِك إِذْ مر بِجَمَاعَة من النَّاس كثير قد حبستهم دَابَّة - وَقَالَ بَعضهم: إِن الدَّابَّة كَانَت أسدا - قَالَ: فَأخذ الْغُلَام صخرا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ مَا يَقُول الراهب حَقًا فأسألك أَن أَقتلهُ، ثمَّ رمى فَقتل الدَّابَّة. فَقَالَ النَّاس: من قَتلهَا؟ فَقَالُوا: الْغُلَام، فَفَزعَ النَّاس وَقَالُوا: قد علم هَذَا الْغُلَام علما لم يُعلمهُ أحد. قَالَ: فَسمع بِهِ أعمى، وَقَالَ لَهُ: إِن أَنْت رددت بَصرِي فلك كَذَا كَذَا. فَقَالَ لَهُ: لَا أُرِيد مِنْك هَذَا، وَلَكِن إِن أَنْت شرطت إِن رَجَعَ إِلَيْك بَصرك أَن تؤمن بِالَّذِي رده عَلَيْك فعلت؟ قَالَ: فَدَعَا الله فَرد عَلَيْهِ بَصَره، فَآمن الْأَعْمَى، فَبلغ الْملك أَمرهم، فَبعث إِلَيْهِم، فَأتي بهم فَقَالَ: لأقتلن كل وَاحِد مِنْكُم قتلة لَا أقتل [بهَا] صَاحبه، فَأمر بِالرَّاهِبِ وَالرجل الَّذِي كَانَ أعمى فَوضع الْمِنْشَار على مفرق أَحدهمَا فَقتله، وَقتل الآخر بقتلة أُخْرَى، ثمَّ أَمر بالغلام فَقَالَ: انْطَلقُوا بِهِ إِلَى جبل كَذَا وَكَذَا فألقوه من رَأسه، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى ذَلِك الْمَكَان الَّذِي أَرَادوا أَن يلقوه مِنْهُ جعلُوا يتهافتون من ذَلِك الْجَبَل ويتردون، حَتَّى لم يبْق مِنْهُم إِلَّا

الْغُلَام. قَالَ: ثمَّ رَجَعَ، فَأمر بِهِ الْملك أَن ينطلقوا بِهِ إِلَى الْبَحْر فَيُلْقُوهُ فِيهِ، فَانْطَلقُوا إِلَى الْبَحْر، فغرق الله الَّذين كَانُوا مَعَه وأنجاه، فَقَالَ الْغُلَام: إِنَّك لَا تقتلني حَتَّى تصلبني وترميني، وَتقول إِذا رميتني: باسم الله رب هَذَا الْغُلَام. قَالَ: فَأمر بِهِ فصلب ثمَّ رَمَاه، وَقَالَ: باسم الله رب هَذَا الْغُلَام. قَالَ: فَوضع الْغُلَام يَده على صُدْغه حِين رمى بِهِ ثمَّ مَاتَ، فَقَالَ النَّاس: لقد علم هَذَا الْغُلَام علما مَا علمه أحد، فَإنَّا نؤمن بِرَبّ الْغُلَام. قَالَ: فَقيل للْملك: [أجزعت] إِن خالفك ثَلَاثَة، فَهَذَا الْعَالم كلهم قد خالفوك. قَالَ: فَخدَّ أُخْدُودًا، ثمَّ ألْقى فِيهَا الْحَطب وَالنَّار، ثمَّ جمع النَّاس. فَقَالَ: من رَجَعَ عَن دينه تَرَكْنَاهُ، وَمن لم يرجع ألقيناه فِي هَذِه النَّار، فَجعل يُلقيهِمْ فِي تِلْكَ الْأُخْدُود. قَالَ: يَقُول الله تَعَالَى: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار ذَات الْوقُود} حَتَّى بلغ {ذُو الْعَرْش الْمجِيد} قَالَ: فَأَما الْغُلَام فَإِنَّهُ دفن. قَالَ: فَذكر أَنه أخرج فِي زمن عمر بن الْخطاب، وأصبعه على صُدْغه كَمَا وَضعهَا حِين قتل ". قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث حسن غَرِيب (صَحِيح) . قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله بن أَحْمد، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس [المحبوبي] ، أخبرنَا عبد الرَّزَّاق، عَن معمر ... الْخَبَر. وَذكر مُسلم هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه، وَخَالف فِي مَوَاضِع أخر مِنْهُ. وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن اسْم ذَلِك الْغُلَام كَانَ عبد الله بن التامر. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق: حفر فِي زمن عمر - رَضِي الله عَنهُ - حفيرة، فوجدوا عبد الله بن التامر، وَيَده على صُدْغه فَكَانَ كلما أخروا يَده عَن ذَلِك الْموضع (انثعب) دَمًا، وَإِذا تركُوا

{النَّار ذَات الْوقُود (5) إِذْ هم عَلَيْهَا قعُود (6) وهم على مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود (7) وَمَا نقموا مِنْهُم إِلَّا أَن يُؤمنُوا بِاللَّه الْعَزِيز الحميد (8) } . الْيَد ارْتَدَّت إِلَى مَكَانهَا، وَكَانَ فِي أُصْبُعه خَاتم حَدِيد مَكْتُوب عَلَيْهِ: رَبِّي الله، فَأمر عمر أَن يرد إِلَى ذَلِك الْموضع كَمَا وجد. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن النَّبِي كَانَ إِذا ذكر هَذِه الْقِصَّة قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من جهد الْبلَاء ". وَقد ذكر بعض أهل الْمعَانِي أَن قَوْله: {قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود} هُوَ جَوَاب الْقسم.

5

قَوْله: {النَّار ذَات الْوقُود} على قَول الْبَدَل من الْأُخْدُود كَأَنَّهُ قَالَ: " قتل أَصْحَاب الْأُخْدُود النَّار ذَات الْوقُود، والوقود " مَا يُوقد بِهِ النَّار، وَقيل: ذَات الْوقُود أَي: ذَات التوقد، وَهُوَ الْأَصَح.

6

قَوْله: {إِذْ هم عَلَيْهَا قعُود} أَي: جُلُوس، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْملك وَأَصْحَابه كَانُوا قد قعدوا على كراسي عِنْد الأخاديد.

7

وَقَوله: {وهم على مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُود} فعل مَا فعل بِالْمُؤْمِنِينَ بحضورهم.

8

وَقَوله: {وَمَا نقموا مِنْهُم} قَالَ ابْن عَبَّاس: وَمَا كَرهُوا. وَعَن غَيره: وَمَا عابوا. وَذكر الزّجاج: مَا أَنْكَرُوا. قَالَ عبد الله بن قيس (بن) الرقيات: (مَا نقموا من بني أُميَّة إِلَّا ... أَنهم يحملون إِن غضبوا) (وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك ... فَلَا يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب) وَقَوله: {إِلَّا أَن يُؤمنُوا بِاللَّه الْعَزِيز الحميد} وَالْمعْنَى أَنهم مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِم إِلَّا إِيمَانهم بِاللَّه.

{الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله على كل شَيْء شَهِيد (9) إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ثمَّ لم يتوبوا فَلهم عَذَاب جَهَنَّم وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق (10) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ذَلِك الْفَوْز الْكَبِير (11) إِن بَطش رَبك لشديد (12) إِنَّه هُوَ يبدئ وَيُعِيد (13) وَهُوَ الغفور} . وَقَوله: {الْعَزِيز الحميد} أَي: الْغَالِب بقدرته، الحميد فِي أَفعاله.

9

قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالله على كل شَيْء شَهِيد} ظَاهر الْمَعْنى. قَالَ الزّجاج: وَالْمرَاد من الْآيَة أَن الله تَعَالَى ذكر قوما بلغت بصيرتهم فِي الدّين أَن خيروا بَين الْكفْر وَبَين الإحراق بالنَّار، فصبروا حَتَّى أحرقوا بالنَّار. وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي قَالَ: " لَا تشرك بِاللَّه وَإِن قتلت وأحرقت ".

10

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} أَي: أحرقوا، يُقَال: فتنت الذَّهَب بالنَّار إِذا أدخلته فِيهَا، وَيُقَال: حرَّة فتين إِذا كَانَت سَوْدَاء كالمحترقة {ثمَّ لم يتوبوا فَلهم عَذَاب جَهَنَّم وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق} بكفرهم ونوعا من الْعَذَاب بإحراقهم الْمُؤمنِينَ. وَعَن الرّبيع بن أنس: أَن النَّار الَّتِي أحرقوا الْمُؤمنِينَ فِيهَا ارْتَفَعت من الْأُخْدُود، فأحرقت الْملك وَأَصْحَابه، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَلَهُم عَذَاب الْحَرِيق} .

11

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ذَلِك الْفَوْز الْكَبِير} أَي: الْعَظِيم، وَهَذَا على مَا جرى أَمر الْقُرْآن، فَإِنَّهُ إِذا ذكر الْوَعْد للْكفَّار يذكر الْوَعْد للْمُؤْمِنين بجنبه، وَهُوَ ظَاهر فِي أَكثر الْقُرْآن.

12

قَوْله تَعَالَى: {إِن بَطش رَبك لشديد} الْبَطْش هُوَ الْأَخْذ بعنف وشده.

13

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه هُوَ يبدئ وَيُعِيد} أَي: يبدئ الْخلق فِي الدُّنْيَا، ثمَّ يعيدهم فِي الْآخِرَة.

14

قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الغفور الْوَدُود} الغفور هُوَ الستور بذنوب عباده، الْوَدُود هُوَ

{الْوَدُود (14) ذُو الْعَرْش الْمجِيد (15) فعال لما يُرِيد (16) هَل أَتَاك حَدِيث الْجنُود (17) فِرْعَوْن وَثَمُود (18) } . الْمُحب للْمُؤْمِنين، وَقيل: المتودد إِلَى الْمُؤمنِينَ بجميل أَفعاله وَكثير إحسانه. وَذكر الْأَزْهَرِي: أَنه يجوز أَن يكون الْوَدُود، بِمَعْنى المودود كالحلوب وَالرُّكُوب بِمَعْنى المحلوب والمركوب، فعلى هَذَا فِي قَوْله: {الْوَدُود} مَعْنيانِ: أَحدهمَا: أَنه الْمُحب لِعِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ. وَالْآخر: الَّذِي يُحِبهُ الْمُؤْمِنُونَ.

15

وَقَوله: {ذُو الْعَرْش الْمجِيد} قَرَأَ أَكثر الْقُرَّاء بِالرَّفْع، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بالخفض. وَالْعرش هُوَ السرير فِي اللُّغَة، وَأما فِي الْقُرْآن هُوَ الْعَرْش الْمَعْرُوف فَوق السَّمَوَات. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لَا يقدر قدره. وَعَن بَعضهم: ذُو الْعَرْش ذُو الْملك، يُقَال: كل عرش فلَان أَي: ملك فلَان، وَيُقَال: تبوأ فلَان على سَرِير ملكه أَي: اسْتَقر ملكه، وَإِن لم يكن ثمَّ سَرِير فِي ذَلِك الْوَقْت، حَكَاهُ الْقفال، وَالْقَوْل الصَّحِيح الأول. وَأما قِرَاءَة الرّفْع فَهُوَ صفة الله تَعَالَى، وَذَلِكَ بِمَعْنى الْعُلُوّ وَالْعَظَمَة، وَأما قِرَاءَة الْخَفْض فَفِيهِ أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه صفة الْعَرْش، وَمعنى الْمجِيد فِيهِ العالي الرفيع، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه صفة الله تَعَالَى إِلَّا أَنه خفض بالجوار، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه رَاجع إِلَى قَوْله: {إِن بَطش رَبك} كَأَنَّهُ قَالَ: إِن بَطش رَبك الْمجِيد لشديد، أوردهُ النّحاس. وَعَن بَعضهم: أَن جَوَاب الْقسم قَوْله: {إِن بَطش رَبك لشديد} وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين.

16

وَقَوله تَعَالَى: {فعال لما يُرِيد} أَي: مَا يَشَاء ويختار. وَفِي بعض الْآثَار أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ مرض فَدخل الْقَوْم يعودونه فَقَالُوا لَهُ: أَلا نَدْعُو لَك طَبِيبا؟ فَقَالَ: قد دَعوته. فَقَالُوا: فَمَاذَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو بكر: فَقَالَ أَنا فَاعل لما أُرِيد.

17

قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث الْجنُود} أَي قد آتِيك حَدِيث الْجنُود.

18

وَقَوله: {فِرْعَوْن وَثَمُود} أَي جنود فِرْعَوْن وَثَمُود. وَذكر النقاش أَن فِرْعَوْن لما أتبع بني إِسْرَائِيل كَانُوا خَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة ألف.

{بل الَّذين كفرُوا فِي تَكْذِيب (19) وَالله من ورائهم مُحِيط (20) بل هُوَ قُرْآن مجيد (21) فِي لوح مَحْفُوظ (22) } .

19

وَقَوله: {بل الَّذين كفرُوا فِي تَكْذِيب} أَي فِي تَكْذِيب الرُّسُل.

20

وَقَوله: {وَالله من وَرَاءَهُمْ مُحِيط} أَي مُحِيط بأفعالهم وأقوالهم.

21

وَقَوله: {بل هُوَ قُرْآن مجيد} فِي بعض التفاسير أَن الرَّسُول لما قَرَأَ عَلَيْهِم مَا ذكرنَا من الْآيَات قَالُوا لَهُ: لَعَلَّك غَلطت أَو سَهَوْت؟ وَلَعَلَّ الَّذِي ينزل عَلَيْك لَيْسَ من قبل الله؟ فَأنْزل الله تَعَالَى {بل هُوَ قُرْآن مجيد} هُوَ المتجمع بخصال الْخَيْر. وَقَرَأَ مُحَمَّد اليمامي: " بل هُوَ قُرْآن مجيد " على الْإِضَافَة معنى قُرْآن رب مجيد.

22

وَقَوله: {فِي لوح مَحْفُوظ} قرئَ بِالرَّفْع والخفض مَعَ التَّنْوِين فيهمَا، فَفِي الرّفْع ينْصَرف إِلَى الْقُرْآن، وَفِي الْخَفْض ينْصَرف إِلَى اللَّوْح. وروى سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن اللَّوْح الْمَحْفُوظ من درة بَيْضَاء دفتاه ياقوت أَحْمَر كِتَابَته نور وقلمه نور ينظر الله فِيهِ كل يَوْم ثلثمِائة وَسِتِّينَ نظرة يُمِيت ويحيي، ويعز ويذل، ويفقر ويغني، وَيفْعل مَا يَشَاء. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَنه مَكْتُوب فِي صَدره لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله. وَذكر الْحِفْظ هَاهُنَا ليبين أَن مَا يُوحى إِلَيْهِ من الْقُرْآن هُوَ مَحْفُوظ من السَّهْو والغلط، وَأَن مَا يَقُوله النَّبِي يَقُوله عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَعَن فرقد السبخي: أَن قَوْله: {فِي لوح مَحْفُوظ} هُوَ قلب الْمُؤمن، وَهُوَ قَول ضَعِيف، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالسَّمَاء والطارق (1) وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق (2) النَّجْم الثاقب (3) } . تَفْسِير سُورَة الطارق وَهِي مَكِّيَّة

الطارق

قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء والطارق} الطارق هَاهُنَا هُوَ النَّجْم، وَأما فِي لُغَة الْعَرَب فالطارق هُوَ كل مَا يطْرق لَيْلًا، وَقد قيل: هُوَ الَّذِي يطْرق لَيْلًا كَانَ أَو نَهَارا. وَأما قَول الْقَائِل: (نَحن بَنَات طَارق ... ) أَي: بَنَات النُّجُوم شرفا وعلوا. وَقَالَ جرير: (طرقتك صائدة الْقُلُوب وَلَيْسَ ذَا ... وَقت المقامة فارجعي بِسَلام)

2

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق} إِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الطارق يتَنَاوَل النَّجْم وَغَيره، فَذكر هَاهُنَا قَوْله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الطارق} لِأَن الرَّسُول لم يدر أَي طَارق أَرَادَ.

3

وَقَوله: {النَّجْم الثاقب} قَالَ ابْن عَبَّاس: المضيء. وَعَن مُجَاهِد: هُوَ المتوهج. وَعَن بَعضهم: هُوَ المستدير. وَعَن بَعضهم: الثاقب النَّجْم الَّذِي يثقب الشَّيَاطِين بالنَّار. وَذكر الْفراء: أَنه زحل، وَهُوَ أكبر النُّجُوم. وَقد حكى هَذَا القَوْل عَن عَليّ. وَعَن بَعضهم: أَنه نجم خلقه الله فِي السَّمَاء السَّابِعَة، لم يخلق فِيهَا غَيره، يطْرق

{إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ (4) فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق (5) خلق من مَاء دافق (6) يخرج من بَين الصلب والترائب (7) إِنَّه على رجعه لقادر (8) } . السَّمَوَات ثمَّ يرجع إِلَى مَكَانَهُ. وعَلى القَوْل الَّذِي قُلْنَا [أَن زحل هُوَ الثاقب] ، يَعْنِي أَنه يثقب السَّمَوَات بضيائه. وَعَن ابْن زيد: أَنه الثريا. وَالْعرب إِذا أطلقت النَّجْم عنت بِهِ الثريا.

4

وَقَوله: {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} هُوَ جَوَاب الْقسم. وَقد قرئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فَمَعْنَى التَّشْدِيد: إِلَّا عَلَيْهَا حَافظ، وَمعنى التَّخْفِيف: لَعَلَّهَا حَافظ، و " مَا " زَائِدَة، والحافظ: هُوَ الْملك، وَعَن بَعضهم: قرينه الَّذِي يحفظ عَلَيْهِ عمله، وَقيل: الْحَافِظ هُوَ الله تَعَالَى يحفظ عَلَيْهِم أَعْمَالهم.

5

وَقَوله تَعَالَى: {فَلْينْظر الْإِنْسَان مِم خلق} أَي: من أَي شَيْء خلق.

6

وَقَوله: {خلق من مَاء دافق} أَي: مدفوق مثل قَوْله تَعَالَى: {فِي عيشة راضية} أَي: مرضية، وَقيل: {مَاء دافق} أَي: منصب جَار.

7

وَقَوله: {يخرج من بَين الصلب والترائب} أَي: من صلب الرجل، وترائب الْمَرْأَة. وَفِي الْخَبَر: أَنه يخرج من كل خرزة من صلبه، والترائب ثَمَانِيَة أضلاع: أَرْبَعَة يمنة، وَأَرْبَعَة يسرة، وَقيل: هُوَ الصَّدْر، وَقيل: بَين الثديين، وَقيل: مَا دون الترقوة.

8

وَقَوله: {إِنَّه على رجعه لقادر} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: على رد النُّطْفَة فِي الإحليل لقادر، قَالَه مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم وَعِكْرِمَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ قَادر أَن يردهُ إِلَى حَالَة الطفولية، وَقيل: يرد من (الشيخوخة) إِلَى الكهولة، وَمن الكهولة إِلَى الشَّبَاب، وَمن الشَّبَاب إِلَى الصغر، وَمن الصغر إِلَى الطفولية، وَمن الطفولية إِلَى رحم الْمَرْأَة، وَمن الرَّحِم إِلَى الصلب، فَهُوَ معنى قَوْله: {إِنَّه على رجعه لقادر} . وَالْقَوْل الثَّالِث - وَهُوَ أولى الْأَقَاوِيل - أَن المُرَاد مِنْهُ، أَنه على إحيائه بعد الإماتة لقادر، ذكره الْفراء والزجاج وَغَيرهَا.

{يَوْم تبلى السرائر (9) فَمَا لَهُ من قُوَّة وَلَا نَاصِر (10) وَالسَّمَاء ذَات الرجع (11) وَالْأَرْض ذَات الصدع (12) إِنَّه لقَوْل فصل (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) } .

9

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تبلى السرائر} أَي: تختبر وتمتحن، وَقيل: تظهر، وَهُوَ الأولى. وَفِي التَّفْسِير: أَنه يظْهر سر كل إِنْسَان، ويبدو أَثَره على وَجهه، فتبيض بعض الْوُجُوه، وَتسود بعض الْوُجُوه.

10

وَقَوله: {فَمَا لَهُ من قُوَّة وَلَا نَاصِر} أَي: قُوَّة يتقوى بهَا، وناصر ينصره، فَيدْفَع بِهِ الْعَذَاب عَن نَفسه.

11

وَقَوله تَعَالَى: {وَالسَّمَاء ذَات الرجع} أَي: الْمَطَر، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف، وسمى الْمَطَر رجعا؛ لِأَنَّهُ يرجع مرّة بعد أُخْرَى. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم، وَسميت رجعا؛ لِأَنَّهَا تطلع وتغيب، وَترجع من الْمغرب إِلَى الْمشرق.

12

وَقَوله: {وَالْأَرْض ذَات الصدع} أَي: النَّبَات، وَهُوَ قَول الْجَمِيع، وسمى صدعا؛ لِأَن الأَرْض تنصدع بِهِ.

13

وَقَوله: {إِنَّه لقَوْل فصل} أَي: ذُو فصل، وَهُوَ الْفَصْل بَين الْحق وَالْبَاطِل.

14

وَقَوله: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أَي: باللعب، والعبث، وَالْمعْنَى: أَنه قَول جد.

15

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُم يكيدون كيدا} أَي: يمكرون مكرا، والكيد فِي اللُّغَة هُوَ صنع يصل بِهِ إِلَى الشَّيْء على الْخفية والاستتار.

16

{وأكيد كيدا} الكيد من الله هُوَ الاستدراج من حَيْثُ لَا يعلمُونَ الْكفَّار، والاستدراج هُوَ الْأَخْذ قَلِيلا قَلِيلا، وَقيل: هِيَ الْأَخْذ من حَيْثُ يخفى عَلَيْهِم، وَقيل: {وأكيد كيدا} أَي: أعاقبهم عُقُوبَة كيدهم.

17

وَقَوله: {فمهل الْكَافرين} أَي: أمْهل الْكَافرين، وَهَذَا قبل آيَة السَّيْف.

{فمهل الْكَافرين أمهلهم رويدا (17) } . وَقَوله: {أمهلهم رويدا} أَي: أمهلهم قَلِيلا، وَالْعرب تَقول: رويدك يَا فلَان أَي: كن على أودة ورفق، وَأما هَاهُنَا فَهُوَ بِمَعْنى الْقَلِيل على مَا بَينا. وَقد أَخذهم يَوْم بدر بِالسَّيْفِ، وسيأخذهم بِعَذَاب الْآخِرَة عَن قريب.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى (1) } . تَفْسِير سُورَة الْأَعْلَى وَهِي مَكِّيَّة وَفِي رِوَايَة الضَّحَّاك أَنَّهَا مَدَنِيَّة، وَالأَصَح هُوَ الأول، وَالله أعلم.

الأعلى

قَوْله تَعَالَى: {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} أَي: عظم رَبك الْأَعْلَى، وَقيل: نزه، وتنزيه الله - عز اسْمه - أَلا يُوصف بِوَصْف لَا يَلِيق بِهِ. وروى أَبُو صَالح، عَن ابْن عَبَّاس أَن مَعْنَاهُ: صل بِأَمْر رَبك، وَقيل: صل لِرَبِّك المتعالي. وَفِي الْآيَة دَلِيل أَن الِاسْم والمسمى وَاحِد؛ لِأَن الْمَعْنى سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى وَفِي قِرَاءَة أبي: " سُبْحَانَ رَبك الْأَعْلَى ". وَقَالَ الشَّاعِر: (إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر) أَي: ثمَّ السَّلَام عَلَيْكُمَا. وروى إِسْرَائِيل، عَن ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة، عَن أَبِيه، عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - " أَن الني كَانَ يحب سُورَة سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الصَّمد الترابي، أخبرنَا عبد الله بن أَحْمد بن حمويه، أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن خُزَيْمٌ الشَّاشِي، أخبرنَا عبد ابْن حميد، أخبرنَا وَكِيع، عَن إِسْرَائِيل الْخَبَر.

{الَّذِي خلق فسوى (2) وَالَّذِي قدر فهدى (3) } . وَفِي حَدِيث عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - " أَن رَسُول الله كَانَ يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى من الْوتر {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَة: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} فِي الثَّالِثَة: سُورَة الْإِخْلَاص والمعوذتين ". وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر أَنهم كَانُوا إِذا قرءوا سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى قَالُوا: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى امتثالا لِلْأَمْرِ. [وَالْأولَى] أَن يَقُول كَذَلِك. [و] من الْمَعْرُوف عَن عقبَة بن عَامر أَنه قَالَ: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} قَالَ النَّبِي: " اجعلوه فِي سُجُودكُمْ، وَلما نزل قَوْله: " سبح اسْم رَبك الْعَظِيم " قَالَ: اجعلوه فِي ركوعكم ". وَقَوله: {الَّذِي خلق فسوى} أَي: خلقك وجعلك رجلا سويا.

2

وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {الَّذِي خلقك فسواك} على مَا بَينا.

3

وَقَوله: {الَّذِي قدر فهدى} قَالَ السّديّ: قدر خلق الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهدى أَي:

{وَالَّذِي أخرج المرعى (4) فَجعله غثاء أحوى (5) سنقرئك فَلَا تنسى (6) } . هدى الذّكر إِلَى الْأُنْثَى. وَقيل: قدر خلق كل شَيْء، وهداه إِلَى مَا يصلحه، وَهَذَا فِي الْحَيَوَانَات. وَقيل: هداه إِلَى رزقه، كالطفل يَهْتَدِي إِلَى الثدي، وَيفتح فَاه حِين يُولد طلبا للثدي، والفرخ يطْلب الرزق من أمه وَأَبِيهِ وَكَذَلِكَ كل شَيْء. وَقَالَ مُجَاهِد: هدى الْإِنْسَان لسبيل الْخَيْر، وَالشَّر والسعادة والشقاوة. وَيُقَال: فِي الْآيَة حذف، وَالْمعْنَى: وَهدى وأضل.

4

وَقَوله: {وَالَّذِي أخرج المرعى} أَي: مرعى للأنعام. قَالَ الشَّاعِر: (وَقد ينْبت المرعى على دِمنِ الثرى ... وَتبقى حزازات النُّفُوس كَمَا هيا)

5

وَقَوله: {فَجعله غثاء أحوى} فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالْمعْنَى: أخرج المرعى أحوى. {فَجعله غثاء} أَي: يَابسا. والغثاء هُوَ مَا حمله السَّيْل من النَّبَات الْيَابِس والحشيش، والطفاط مَا أَلْقَاهُ الْقدر من الزّبد، والأحوى الْأسود، والحوة (السوَاد) . وَإِنَّمَا سَمَّاهُ أحوى؛ لِأَن كل أَخْضَر يضْرب إِلَى السوَاد إِذا اشتدت خضرته. قَالَ ذُو الرمة: (لمياء فِي شفتيها حوة لعس ... وَفِي اللثات وَفِي أنيابها شنب) وَيُقَال: أخرج المرعى أَخْضَر، ثمَّ جعله أحوى، ثمَّ جعله غثاء.

6

قَوْله: {سنقرئك فَلَا تنسى} ذكر [ابْن] أبي نجيح بروايته عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي: " كَانَ إِذا قَرَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيل سُورَة من الْقُرْآن فيحرك شَفَتَيْه بِقِرَاءَتِهَا مَخَافَة أَن

{إِلَّا مَا شَاءَ الله إِنَّه يعلم الْجَهْر وَمَا يخفى (7) ونيسرك لليسرى (8) فَذكر إِن نَفَعت الذكرى (9) } . يتفلت مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: {سنقرئك فَلَا تنسى} . وَالْمعْنَى: أَنَّك كفيت النسْيَان، (فَلم ينس) بعد ذَلِك.

7

وَقَوله: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} يَعْنِي: إِلَّا مَا شَاءَ الله أَن ينساه، وَالْمرَاد مِنْهُ نسخ التِّلَاوَة، وَقيل: النسْيَان هَاهُنَا بِمَعْنى التّرْك، أَي: لَا يتْرك إِلَّا مَا شَاءَ الله أَن يتْرك بالنسخ. وَعَن بَعضهم: أَن قَوْله: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} ذكر مَشِيئَته على التَّعْلِيم حَتَّى يقرن لفظ الْمَشِيئَة بِجَمِيعِ أَقْوَاله مثل قَوْله: {لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله [آمِنين] } قد قَالَ: {إِلَّا مَا شَاءَ الله} يَعْنِي: أَن تنسى، وَلم يَشَأْ. مثل قَوْله تَعَالَى: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك} وَلم يَشَأْ، ذكره ابْن فَارس. وَقَوله: {إِنَّه يعلم الْجَهْر وَمَا يخفى} أَي: السِّرّ والعلن، وَيُقَال: مَا فِي الْقلب، وَمَا على اللِّسَان.

8

وَقَوله: {ونيسرك لليسرى} الْيُسْرَى فعلى من الْيُسْر، وَمَعْنَاهُ: للأيسر من الْأُمُور.

9

وَقَوله: {فَذكر إِن نَفَعت الذكرى} فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: إِن نَفَعت الذكرى، وَهُوَ مَأْمُور بالتذكير على الْعُمُوم نَفَعت أَو لم تَنْفَع؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {إِن نَفَعت الذكرى} إِذْ نَفَعت الذكرى، مثل قَوْله تَعَالَى: {وخافون إِن كُنْتُم مُؤمنين} وَمَعْنَاهُ: إِذْ كُنْتُم مُؤمنين.

{سَيذكرُ من يخْشَى (10) ويتجنبها الأشقى (11) الَّذِي يصلى النَّار الْكُبْرَى (12) ثمَّ لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى (13) قد أَفْلح من تزكّى (14) وَذكر اسْم ربه فصلى} . وَالْوَجْه الثَّانِي: ذكر بِكُل حَال، فقد نَفَعت الذكرى، فَهُوَ تَعْلِيق بمتحقق وَالْمعْنَى: إِن نَفَعت، وَقد نَفَعت.

10

قَوْله تَعَالَى: {سَيذكرُ من يخْشَى} يُقَال: نزل هَذَا فِي عبد الله بن أم مَكْتُوم. وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم وَالْمعْنَى: من يخْشَى الله.

11

وَقَوله: {ويتجنبها الأشقى الَّذِي يصلى النَّار الْكُبْرَى} يُقَال: هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَعتبَة بن ربيعَة. وَقَوله: {يصلى النَّار الْكُبْرَى} أَي: يدْخل النَّار الْكُبْرَى. قَالَ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: هُوَ الطَّبَق الْأَسْفَل من جَهَنَّم.

13

وَقَوله: {ثمَّ لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} أَي: لَا يَمُوت فيستريح، وَلَا يحيا حَيَاة فِيهَا رَاحَة، وَيُقَال: لَا يَمُوت، وَلَا يجد (روح الْحَيَاة) .

14

قَوْله تَعَالَى: {قد أَفْلح من تزكّى} أَي: تطهر بِالْعَمَلِ الصَّالح، وَيُقَال: فلَان تزكّى بقول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: آمن ووحد ربه. وَعَن عَطاء: أَي أعْطى زَكَاة مَاله. [و] قَالَ ابْن مَسْعُود من لم يزك لم تقبل الصَّلَاة مِنْهُ. وَعَن ابْن عمر: أَنَّهَا صَدَقَة الْفطر. وَهُوَ قَول عمر بن عبد الْعَزِيز. وَكَانَ ابْن عمر يَقُول لنافع حِين يصبح يَوْم الْعِيد: أخرجت زَكَاة الْفطر؟ فَإِن قَالَ: نعم، توجه إِلَى الصَّلَاة، وَإِن قَالَ: لَا، يَأْمُرهُ بِالْإِخْرَاجِ، ثمَّ يتَوَجَّه، وَهَذَا على القَوْل الَّذِي قُلْنَا أَن السُّورَة مَدَنِيَّة، فَأَما إِذا قُلْنَا: مَكِّيَّة، وَهُوَ الْأَصَح، فَلَا يرد هَذَا القَوْل؛ لِأَن صَدَقَة الْفطر لم تكن وَاجِبَة بِمَكَّة، وَإِنَّمَا وَجَبت بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ صَلَاة الْعِيد، إِنَّمَا صليت بِالْمَدِينَةِ.

15

وَقَوله: {وَذكر اسْم ربه فصلى} أَي: ذكر ربه فصلى، وَيُقَال: الذّكر هُوَ التَّكْبِير،

( {15) بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَة خير وَأبقى (17) إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى (18) صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى (19) } . وَالصَّلَاة هِيَ الصَّلَاة الْمَعْرُوفَة، وَقيل: صَلَاة الْعِيد.

16

قَوْله تَعَالَى: {بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: تختارون. قَالَ ابْن مَسْعُود: عجلت لَهُم الدُّنْيَا، وغيبت عَنْهُم الْآخِرَة، فَاخْتَارُوا الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَلم عاينوا الْآخِرَة مَا اخْتَارُوا عَلَيْهَا شَيْئا. وروى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أحب دُنْيَاهُ أضرّ بآخرته، وَمن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا مَا يبْقى على مَا يفنى ".

17

وَقَوله: {وَالْآخِرَة خير وَأبقى} أَي: أدوم [وَأبقى] .

18

وَقَوله: {إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى} أَي: مَا ذكره الله فِي هَذِه السُّورَة، وَقيل: من قَوْله - تَعَالَى -: {قد أَفْلح من تزكّى} إِلَى قَوْله: {وَأبقى} قَالَ قَتَادَة: فِي جَمِيع كتب الْأَوَّلين أَن الْآخِرَة خير وَأبقى.

19

وَقَوله: {صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى} أَي: الْكتب الَّتِي أنزلهَا الله تَعَالَى على إِبْرَاهِيم ومُوسَى، وَقد أنزل على إِبْرَاهِيم صحفا، وَأنزل على مُوسَى التَّوْرَاة، فَهِيَ المُرَاد بِالْآيَةِ، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية (1) وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة (2) عاملة ناصبة (3) تصلى نَارا حامية (4) } . تَفْسِير سُورَة الغاشية وَهِي مَكِّيَّة بِالْإِجْمَاع

الغاشية

قَوْله تَعَالَى: {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} أَي: الْقِيَامَة، وَسميت غاشية؛ لِأَنَّهَا تغشى كل شَيْء بالأهوال، وَيُقَال: تغشى كل كَافِر وَفَاجِر بِالْعَذَابِ، والغاشية هِيَ المجللة، وَمعنى هَل أَتَاك: قد أَتَاك.

2

وَقَوله: {وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة} أَي: ذليلة لما ترى من سوء الْعَاقِبَة، وَالْمعْنَى: ركبهَا الذل.

3

وَقَوله: {عاملة ناصبة} أَي: عملت فِي الدُّنْيَا لغير الله، فَنصبت وتعبت فِي الْآخِرَة بِعَذَاب الله. وَعَن السّديّ وَجَمَاعَة: أَنهم الرهبان وَأَصْحَاب الصوامع من النَّصَارَى وَالْيَهُود. وَقد روى عَن عمر أَنه لما قدم الشَّام فَمر بصومعة رَاهِب فناداه فَاطلع عَلَيْهِ، وَقد تنْحَل من الْجُوع والضر وَالْعِبَادَة، وَعَلِيهِ برنس، فَبكى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَمَا يبكيك؟ ! فَقَالَ: مِسْكين طلب أمرا، وَلم يصل إِلَيْهِ، وسلك طَرِيقا وأخطأه، ثمَّ قَرَأَ قَوْله: {عاملة ناصبة} الْآيَة.

4

وَقَوله: {تصلى نَارا حامية} أَي: تقاسي حرهَا.

5

وَقَوله: {تسقى من عين آنِية} أَي: انْتَهَت فِي الْحر. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: أوقدت عَلَيْهَا جَهَنَّم مُنْذُ خلقت، فدفعوا إِلَيْهَا وردا، أَي: عطاشا.

{تسقى من عين آنِية (5) لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع (6) لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع (7) وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) فِي جنَّة عالية} ) . قَالَ النَّابِغَة: (ويخضب نحبة (غدرت) وهانت ... بأحمر من جَمِيع الْجوف آن) وَفِي بعض التفاسير: أَنهم إِذا دنوا ذَلِك من وُجُوههم سلخت وُجُوههم، فَإِذا شربوا مِنْهَا قطعت أمعاءهم.

6

وَقَوله: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع} هُوَ شجر يُسمى بالحجاز: الشبرق، لَهُ شوك كثير، فَإِذا يبس يُسمى الضريع. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الضريع شَيْء إِذا وَقعت عَلَيْهَا الْإِبِل فأكلته هَلَكت هزلا. وَيُقَال: الضريع هُوَ الْحِجَارَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن سعيد بن جُبَير وَغَيره، وَهُوَ قَول غَرِيب. وَيُقَال: نبت فِيهِ سم. وَفِي التَّفْسِير: أَن أهل النَّار سلط الله عَلَيْهِم الْجُوع حَتَّى يعدل بِمَا هم فِيهِ من الْعَذَاب، فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بالضريع، ثمَّ يستغيثون فَيُغَاثُونَ بِطَعَام [ذِي] غُصَّة، ثمَّ يذكرُونَ أَنهم كَانُوا فِي الدُّنْيَا يدْفَعُونَ الغصة بِالْمَاءِ، فَيَسْتَغِيثُونَ فيتركون ألف سنة يستسقون ثمَّ يسقون الْحَمِيم

7

وَقَوله: {لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع} روى أَن الْمُشْركين قَالُوا: إِن إبلنا تسمن على الضريع، وَقد كذبُوا فِي ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع} .

8

قَوْله تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناعمة} أَي: ذَات نعْمَة.

9

وَقَوله: {لسعيها راضية} أَي: مرضية.

10

وَقَوله: {فِي جنَّة عالية لَا تسمع فِيهَا لاغية} أَي: لَغوا فاعلة بِمَعْنى الْمصدر، وَهُوَ

( {10) لَا تسمع فِيهَا لاغية (11) فِيهَا عين جَارِيَة (12) فِيهَا سرر مَرْفُوعَة (13) وأكواب مَوْضُوعَة (14) ونمارق مصفوفة (15) وزرابي مبثوثة (16) أَفلا} . فِي معنى قَوْله: {لَا تسمع فِيهَا لَغوا وَلَا تأثيما} .

12

وَقَوله: {فِيهَا عين جَارِيَة} قد قد بَينا من قبل.

13

وَقَوله: {فِيهَا سرر مَرْفُوعَة} أَي: مُرْتَفعَة عَن أَرض الْجنَّة. وَيُقَال فِي التَّفْسِير: السرر مُرْتَفعَة، عَلَيْهَا فرش محشوة، كل فرش كجنبذ. وَفِيه أَيْضا أَنَّهَا تتطامن لِلْمُؤمنِ، فَإِذا صعد عَلَيْهَا ارْتَفَعت.

14

وَقَوله: {وأكواب مَوْضُوعَة} قد بَينا معنى الأكواب، وَهِي الأباريق الَّتِي لَا خراطيم لَهَا.

15

وَقَوله: {ونمارق مصفوفة} أَي: وسائد صف بَعْضهَا إِلَى بعض، قَالَ الشَّاعِر: (وَإِنَّا لنجري الكأس بَين شروبنا ... وَبَين أبي قَابُوس فَوق النمارق)

16

وَقَوله: {وزرابي مبثوثة} أَي: بسط، وَاحِدهَا زربية. وَقَوله: {مبثوثة} مُتَفَرِّقَة، وَمعنى المتفرقة: أَنَّهَا قد فرقت فِي الْمجَالِس، وفرشت الْمجَالِس بهَا.

17

وَقَوله تَعَالَى: {أَفلا ينظرُونَ} فَإِن قيل: كَيفَ يَلِيق هَذَا بِالْأولِ؟ . وَالْجَوَاب: أَن النَّبِي لما ذكر لَهُم مَا أوعده الله للْكفَّار ووعده للْمُؤْمِنين استبعدوا ذَلِك غَايَة الاستبعاد. وَقَالُوا: لَا نفهم حَيَاة بعد الْمَوْت، وَلَا نَدْرِي وَعدا وَلَا وعيدا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر لَهُم من الدَّلَائِل مَا هِيَ مجْرى أَبْصَارهم. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ - رَضِي الله عَنْهُم - ذكر الله تَعَالَى هَذِه الْأَرْبَع وَهِي الْإِبِل، وَالسَّمَاء، وَالْأَرْض، وَالْجِبَال، وخصها بِالذكر من بَين سَائِر الْأَشْيَاء؛ لِأَن الْأَعرَابِي إِذا ركب بعيره، وَخرج إِلَى الْبَريَّة،

{ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيفَ رفعت (18) وَإِلَى الْجبَال كَيفَ نصبت (19) وَإِلَى الأَرْض كَيفَ سطحت (20) فَذكر إِنَّمَا أَنْت مُذَكّر (21) لست عَلَيْهِم بمسيطر (22) إِلَّا من تولى وَكفر (23) فيعذبه الله} فَلَا يرى إِلَّا بعيره الَّذِي هُوَ رَاكِبه، وَالسَّمَاء الَّتِي فَوْقه، وَالْأَرْض الَّتِي تَحْتَهُ، وَالْجِبَال الَّتِي هِيَ نصب عينه. وَقَوله: {إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت} فِي الْإِبِل من أعجوبة الْخلق مَا لَيْسَ فِي غَيرهَا؛ لِأَنَّهَا مَعَ كبرها وعظمها تنقاد لكل وَاحِد يَقُودهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تبرك وَيحمل عَلَيْهِ الْحمل الثقيل، وَتقوم من بروكها، وَلَا يُوجد هَذَا فِي غَيره، والطفل الصَّغِير يَقُودهُ فينقاد، وينخه فيستنخ. وَفِي بعض الحكايات أَن فارة جرت بزمام بعير، وَدخلت جحرها، فَنزل الْبَعِير، وَجَرت الْفَأْرَة الزِّمَام، فَوضع فاها على الْجُحر.

18

قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى السَّمَاء كَيفَ رفعت وَإِلَى الْجبَال كَيفَ نصبت وَإِلَى الأَرْض كَيفَ سطحت} أَي: بسطت. وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: أَن قَوْله: {إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت} أَنَّهَا السَّحَاب، وَهُوَ قَول شَاذ، وَيجوز أَن يحمل هَذَا على هَذَا إِذا شدد وَمد. وَقُرِئَ فِي الشاذ بِالتَّشْدِيدِ. وَقَالَ الْمبرد: قد قيل الْإِبِل: الْقطع الْعِظَام من السَّحَاب، يُقَال: فلَان يوبل على فلَان أَي: يكبر عَلَيْهِ ويعظم.

21

قَوْله تَعَالَى: {فَذكر إِنَّمَا أَنْت مُذَكّر} فِي التَّفْسِير: أَنه عظة لِلْمُؤمنِ، وَحجَّة على الْكَافِر، وَيُقَال: ذكر أَي: اذكر دَلَائِل تَوْحِيد الله تَعَالَى، وَمَا أنعم عَلَيْهِ من النِّعْمَة.

22

وَقَوله: {لست عَلَيْهِم بمسيطر} أَي: بمسلط، وَقيل: إِن هَذَا قبل آيَة السَّيْف، فَأَما بعد نُزُولهَا فقد سلط عَلَيْهِم.

23

وَقَوله: {إِلَّا من تولى وَكفر} اسْتثِْنَاء مُنْقَطع كَأَنَّهُ قَالَ: لَكِن من تولى وَكفر {فيعذبه الله الْعَذَاب الْأَكْبَر} .

25

وَقَوله: {إِن إِلَيْنَا إيابهم} أَي: رجوعهم، يُقَال: آب يئوب إِذا رَجَعَ، قَالَ الشَّاعِر: (وكل ذِي غيبَة يئوب ... وغائب الْمَوْت لَا يؤوب)

{الْعَذَاب الْأَكْبَر (24) إِن إِلَيْنَا إيابهم (25) ثمَّ إِن علينا حسابهم (26) } .

26

وَقَوله: (ثمَّ إِن علينا حسابهم) أَي: فِي الْقِيَامَة. فَإِن قيل: قَالَ: {لَيْسَ لَهُم طَعَام إِلَّا من ضَرِيع} ، وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْم هَاهُنَا حميم وَلَا طَعَام إِلَّا من غسلين} فَكيف وَجه الْجمع بَينهمَا؟ . وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن الضريع والغسلين وَاحِد. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذَا لقوم، وَذَاكَ لقوم آخَرين. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن الغسلين طَعَام لَا ينفع، وَلَا يغنيهم من شَيْء، فَوضع الضريع مَوضِع ذَلِك؛ أَن الْكل بِمَعْنى وَاحِد، ذكره النّحاس، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالْفَجْر (1) وليال عشر (2) وَالشَّفْع وَالْوتر (3) } تَفْسِير سُورَة الْفجْر وَهِي مَكِّيَّة

الفجر

قَوْله تَعَالَى: {وَالْفَجْر} روى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس: أَنه فجر الْمحرم، وَذَلِكَ أول يَوْم مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ: أَنه فجر يَوْم النَّحْر، وَيُقَال: هُوَ الْفجْر فِي كل الْأَيَّام.

2

وَقَوله: {وليال عشر} أَكثر الْأَقَاوِيل: أَنَّهَا عشر ذِي الْحجَّة، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَنَّهَا الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان، وَعَن مَسْرُوق: أَنَّهَا الْعشْر الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى: {وأتممناها بِعشر} وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا الْعشْر الأول من الْمحرم.

3

وَقَوله: {وَالشَّفْع وَالْوتر} روى عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي: " (أَنه) الصَّلَاة، مِنْهَا شفع، وَمِنْهَا وتر " رَوَاهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الشفع هُوَ يَوْم نحر، وَالْوتر يَوْم عَرَفَة، وروى بَعضهم هَذَا مَرْفُوعا

{وَاللَّيْل إِذا يسر (4) هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر (5) } إِلَى النَّبِي. وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا. وَهُوَ قَول مَعْرُوف. وَعَن ابْن الزبير: أَن الشفع هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ} فاليومان الْأَوَّلَانِ من أَيَّام الرَّمْي شفع، وَالْيَوْم الثَّالِث وتر. وروى هشيم، عَن مُغيرَة، عَن إِبْرَاهِيم أَن الشفع هُوَ الزَّوْج، وَالْوتر هُوَ الْفَرد. قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْعدَد كُله، مِنْهُ الشفع، وَمِنْه الْوتر، وَهُوَ قريب من قَول إِبْرَاهِيم. وَعَن عَطاء قَالَ: الشفع هُوَ عشر ذِي الْحجَّة، وَالْوتر أَيَّام التَّشْرِيق. وَعَن جمَاعَة أَنهم قَالُوا: الشفع هُوَ الْخلق، وَالْوتر هُوَ الله تَعَالَى. وَيُقَال: الشفع هُوَ آدم وحواء، وَالْوتر هُوَ الله. وَقُرِئَ " وَالْوتر " بِالْفَتْح، وَقَالَ أهل اللُّغَة: بِالْفَتْح وَالْكَسْر بِمَعْنى وَاحِد.

4

وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا يسر} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: إِذا أقبل، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا اسْتَوَى، وَعَن بَعضهم: " إِذا يسر " يَعْنِي: إِذا يُسرى فِيهِ، فَيذْهب بعضه فِي إِثْر بعض، وَقيل يُسرى فِيهِ. وَقد أول بليلة جمع، وَهِي لَيْلَة يَوْم النَّحْر.

5

وَقَوله: {هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر} أَي: لذِي عقل. وَقَالَ الْفراء: " لذِي حجر " أَي: لمن كَانَ ضابطا لنَفسِهِ قاهرا لهواه. وَيُقَال: " لذِي حجر " أَي لذِي حكم، والحَجْر فِي اللُّغَة: هُوَ الْمَنْع، والحِجْر مَأْخُوذ مِنْهُ، وسمى

{ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بعاد (6) إرم ذَات الْعِمَاد (7) } الْعقل حِجرا؛ لِأَنَّهُ يمْنَع الْإِنْسَان من القبائح، وَهَذَا لتأكيد الْقسم، وَلَيْسَ بمقسم عَلَيْهِ.

6

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بعاد إرم} هُوَ أَبُو عَاد؛ لأَنهم قَالُوا: هُوَ عَاد ابْن إرم بن عوص بن سَام بن نوح، وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ اسْم بَلْدَة، وَلِهَذَا لم يصرف، فَإِن قُلْنَا: هُوَ اسْم رجل، فَلم نصرفه؛ لِأَنَّهَا اسْم أعجمي. وَعَن مَالك بن أنس: أَن إرم كورة دمشق. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَنه الْإسْكَنْدَريَّة. وَقَوله: {ذَات الْعِمَاد} أَي: ذَات الْبناء الرفيع، هَذَا إِذا قُلْنَا: إِن إرم اسْم بَلْدَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله {ذَات الْعِمَاد} أَي: ذَات الْأَجْسَام الطوَال. يُقَال: رجل معمد إِذا كَانَ طَويلا، فعلى هَذَا عَاد اسْم الْقَبِيلَة، فَقَوله: {ذَات الْعِمَاد} منصرف إِلَى الْقَبِيلَة. وَفِي الْقِصَّة: أَن طول الطَّوِيل مِنْهُم كَانَ خَمْسمِائَة ذِرَاع، والقصير ثلثمِائة. وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم يتَّخذ المصراع من الْحجر، فَلَا يَنْقُلهُ خَمْسمِائَة نفر مِنْكُم، وَقَالَ مُجَاهِد: ذَات عماد أَي: ذَات عَمُود، وَالْمعْنَى: أَنهم أهل خيام لَا يُقِيمُونَ فِي مَوضِع وَاحِد، بل ينتجعون لطلب الْكلأ أَي: ينتقلون من مَوضِع إِلَى مَوضِع، وَقَالَ الضَّحَّاك: ذَات الْعِمَاد أَي: ذَات الْقُوَّة، مَأْخُوذ من قُوَّة الأعمدة. وَفِي الْقِصَّة: أَن عاج بن عوج كَانَ مِنْهُم. وَذكر النقاش: أَن طول مُوسَى كَانَ سَبْعَة أَذْرع، وَعَصَاهُ سَبْعَة أَذْرع، ووثب سَبْعَة أَذْرع، فَأصَاب كَعْب عاج بن عوج فَقتله. وَفِيمَا نقل فِيهِ أَيْضا فِي الْقَصَص: أَن ضلعا من أضلاعه جسر أهل مصر كَذَا كَذَا سنة أَي: كَانَ جِسْرًا لَهُم وَهُوَ على النّيل، وَفِي التَّفْسِير أَن عادا اثْنَان: عادا الأولى، وعادا الْأُخْرَى، فَعَاد الأولى عَاد إرم، وَعَاد الثَّانِيَة هُوَ عَاد الْمَعْرُوفَة، وَهُوَ الَّذِي أرسل إِلَيْهِم هود النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ ابْن قيس الرقيات:

{الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد (8) وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد (9) وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد (10) الَّذين طغوا فِي الْبِلَاد (11) فَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد (12) فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب (13) إِن رَبك لبالمرصاد (14) } (مجدا تليدا بناه أَوله ... أدْرك عادا وَقَبله إرما)

8

وَقَوله: {الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد} أَي: لم يخلق مثل (أجسامهم) فِي الْبِلَاد. وَفِي رِوَايَة أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود: " الَّذين لم يخلق مثلهم فِي الْبِلَاد ".

9

وَقَوله: {وَثَمُود الَّذين جابوا الصخر بالواد} قطعُوا ونقبوا، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: {وَكَانُوا ينحتون من الْجبَال بُيُوتًا آمِنين} .

10

وَقَوله: {وَفرْعَوْن ذِي الْأَوْتَاد} يُقَال: كَانَ لَهُ أَرْبَعَة أوتاد، فَإِذا غضب على إِنْسَان وعذبه زند يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ على الأَرْض بِتِلْكَ الْأَوْتَاد. فِي الْقِصَّة: أَنه عذب امْرَأَته آسِيَة بِمثل هَذَا الْعَذَاب، وَوضع على صدرها صَخْرَة حَتَّى مَاتَت، وَعَن بَعضهم: أَنه كَانَ لَهُ أَربع أساطين، يشد الرجل بيدَيْهِ وَرجلَيْهِ بهَا. وَقيل: ذِي الْأَوْتَاد أَي: ذِي الْملك الشَّديد، قَالَ الشَّاعِر: (فِي ظلّ ملك ثَابت الْأَوْتَاد ... )

11

وَقَوله: {الَّذين طغوا فِي الْبِلَاد} أَي: جاوزوا الْحَد بِالْمَعَاصِي، وَيُقَال: تَمَادَوْا فِيهَا.

12

وَقَوله: {فَأَكْثرُوا فِيهَا الْفساد فصب عَلَيْهِم رَبك سَوط عَذَاب} أَي: عذبهم وَقيل: إِنَّه جعل عَذَابهمْ مَوضِع السَّوْط فِي الْعُقُوبَات، وَعَن بَعضهم: أَنهم كَانُوا يعدون الضَّرْب بالسياط إِلَى أَن يَمُوت أَشد الْعَذَاب، فَذكر الْعَذَاب بِذكر السَّوْط هَاهُنَا، على معنى أَنه بلغ النِّهَايَة فِي عَذَابهمْ.

14

وَقَوله: {إِن رَبك لبالمرصاد} أَي: إِلَيْهِ مرجع الْخلق ومصيرهم، وَالْمعْنَى: أَنه

{فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكرمن (15) وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه فَيَقُول رَبِّي أهانن (16) كلا بل لَا تكرمون الْيَتِيم (17) وَلَا تحاضون على طَعَام الْمِسْكِين (18) } لَا يفوت مِنْهُ أحد، وَعَن الْحسن: أَنه بمرصاد أَعمال الْعباد، وَعَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {إِن رَبك لبالمرصاد} أَي: يسمع وَيرى، وَعنهُ أَيْضا: أَن على جَهَنَّم سبع قناطر، فَيسْأَل على القنطرة الأولى عَن الْإِيمَان، وَعَن الثَّانِيَة عَن الصَّلَاة، وعَلى الثَّالِثَة عَن الزَّكَاة، وعَلى الرَّابِعَة عَن صِيَام رَمَضَان، وعَلى الْخَامِسَة عَن الْحَج وَالْعمْرَة، وعَلى السَّادِسَة عَن صلَة الرَّحِم، وعَلى السَّابِعَة عَن الْمَظَالِم. وَقَوله: {إِن رَبك لبالمرصاد} وَقع الْقسم.

15

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الْإِنْسَان إِذا مَا ابتلاه ربه فَأكْرمه ونعمه فَيَقُول رَبِّي أكرمن} نزلت الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف الجُمَحِي، وَيُقَال: هَذَا على الْعُمُوم. وَقَوله: {فَيَقُول رَبِّي أكرمن} أَي: أَنا كريم عَلَيْهِ حَيْثُ أَعْطَانِي هَذِه النعم.

16

وَقَوله: {وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه} أَي: ضيق عَلَيْهِ. [وَقَوله] {فَيَقُول رَبِّي أهانن} أَي: فعل مَا فعل بِي لهواني عَلَيْهِ، وَالْمعْنَى: أَنهم زَعَمُوا أَن الله يكرم بالغني، ويهين بالفقر.

17

وَقَوله: {كلا} رد لما قَالُوا يعْنى: أَن الله لَا يكرم بالغنى، وَلَا يهين بالفقر، وَإِنَّمَا يكرم بِالطَّاعَةِ، ويهين بالمعصية، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: إِنِّي لأجد فِي بعض الْكتب أَن الله تَعَالَى يَقُول: لَوْلَا أَنه يحزن عَبدِي الْمُؤمن، لكللت رَأس الْكَافِر بالأكاليل، فَلَا يصدع، وَلَا ينبض مِنْهُ عرق يوجع. وَقَوله: {بل لَا تكرمون الْيَتِيم} ذكر مَا يَفْعَله الْكفَّار، واستحقوا بِهِ الْعَذَاب فِي قَوْله: {لَا تكرمون الْيَتِيم} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: هُوَ أكل مَالهم أَي: الْيَتَامَى. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه ترك الْإِحْسَان إِلَيْهِم.

18

وَقَوله: {وَلَا تحضون على طَعَام الْمِسْكِين} أَي: لَا يحثون، وَقُرِئَ: " وَلَا تحاضون

{وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المَال حبا جما (20) كلا إِذا دكت الأَرْض دكا دكا (21) وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا (22) وَجِيء يَوْمئِذٍ بجهنم يَوْمئِذٍ يتَذَكَّر الْإِنْسَان وأنى لَهُ الذكرى (23) يَقُول يَا لَيْتَني قدمت لحياتي (24) } على طَعَام الْمِسْكِين " أَي: لَا يحض بَعضهم بَعْضًا.

19

وَقَوله: {وتأكلون التراث أكلا لما} التراث وَالْوَارِث بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الْمِيرَاث. وَقَوله: {أكلا لما} أَي: بخلط الْحَلَال بالحرام. وَقَالَ مُجَاهِد: {لما} أَي: سفا، فَيجمع الْبَعْض إِلَى الْبَعْض ويسف سفا.

20

وَقَوله: {وتحبون المَال حبا جما} أَي: كثيرا، وَقُرِئَ بِالتَّاءِ وَالْيَاء، فَمن قَرَأَ بِالْيَاءِ فعلى الْخَبَر، وَمن قَرَأَ بِالتَّاءِ فَهُوَ على الْخطاب.

21

قَوْله تَعَالَى: {كلا إِذا دكت الأَرْض دكا دكا} أَي: فتت ودقت.

22

وَقَوله: {وَجَاء رَبك} وَهُوَ من الْمُتَشَابه الَّذِي يُؤمن بِهِ وَلَا يُفَسر، وَقد أول بَعضهم: وَجَاء أَمر رَبك، وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا. وَقَوله: {وَالْملك صفا صفا} أَي: صُفُوفا.

23

وَقَوله: {وَجِيء يَوْمئِذٍ بجهنم} وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " أَنه يجاء بجهنم مزمومة بسبعين ألف زِمَام، ويقودها الْمَلَائِكَة، فتقام على سَائِر الْعَرْش فَحِينَئِذٍ يجثوا الْأَنْبِيَاء على ركبهمْ، وَيَقُول كل وَاحِد: نَفسِي، نَفسِي ". وَالْخَبَر غَرِيب، وَهُوَ مَعْرُوف عَن غير الرَّسُول. قَوْله: {يَوْمئِذٍ يتَذَكَّر الْإِنْسَان وأنى لَهُ الذكرى} أَي: يتعظ، وأنى لَهُ الاتعاظ، أَي: نفع الاتعاظ.

24

وَقَوله: {يَقُول يَا لَيْتَني قدمت لحياتي} أَي: لآخرتي، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {وَإِن الدَّار الْآخِرَة لهي الْحَيَوَان} أَي الْحَيَاة الدائمة، وَالْمعْنَى هَاهُنَا: لحياتي فِي الْآخِرَة.

25

وَقَوله: {فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد وَلَا يوثق وثَاقه أحد} بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْأَشْهر

{فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد (25) وَلَا يوثق وثَاقه أحد (26) يَا أيتها النَّفس المطمئنة (27) ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية (28) فادخلي فِي عبَادي (29) } من الْقِرَاءَتَيْن، وَمَعْنَاهُ: لَا يعذب أحد فِي الدُّنْيَا بِمثل مَا يعذبه الله فِي الْآخِرَة، وَلَا يوثق أحد فِي الدُّنْيَا مثل مَا يوثقه الله فِي الْآخِرَة، وَقُرِئَ: " فَيَوْمئِذٍ لَا يعذب عَذَابه أحد " بِفَتْح الذَّال، وَمَعْنَاهُ: لَا يعذب أحد مثل عَذَاب هَذَا الْكَافِر، أَو لَا يعذب أحد مثل عَذَاب هَذَا الصِّنْف من الْكفَّار، وَكَذَلِكَ قَوْله: {يوثق} بِفَتْح الثَّاء.

27

قَوْله تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة} أَي: المؤمنة الساكنة، وَيُقَال: المطمئنة إِلَى وعد رَبهَا، وَقيل: إِن المُرَاد بِالنَّفسِ هُوَ الرّوح هَاهُنَا، وَيُقَال: هُوَ جملَة الْإِنْسَان إِذا كَانَ مُؤمنا.

28

وَقَوله: {ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية} أَي: رضيت عَن الله، وأرضاها الله تَعَالَى عَن نَفسه. وَفِي بعض الْآثَار: أَن ملكَيْنِ يأتيان الْمُؤمن عِنْد قبض روحه، فَيَقُولَانِ: أخرج أَيهَا الرّوح إِلَى روح وَرَيْحَان، وَرب غير غَضْبَان.

29

وَقَوله: {فادخلي فِي عبَادي} أَي: مَعَ عبَادي.

30

{وادخلي جنتي} وَهَذَا القَوْل يَوْم الْقِيَامَة. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فادخلي فِي عَبدِي " أَي: يُقَال للنَّفس - أَي: الرّوح - ادخلي فِي عَبدِي أَي: فِي جسده، وادخلي فِي جنتي، وَذَلِكَ عِنْد الْبَعْث. وَعَن عِكْرِمَة: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ أَبُو بكر: إِن هَذَا لخير كثير، فَقَالَ النَّبِي: " أما إِن الْملك سيقولها لَك ". وَعَن (أبي بُرَيْدَة) : أَن الْآيَة نزلت فِي حَمْزَة بن عبد الْمطلب.

{وادخلي جنتي (30) } وَعَن بَعضهم: أَنَّهَا نزلت فِي خبيب بن عدي، وَهُوَ الَّذِي أسر وصلب بِمَكَّة، وَهُوَ أول من سنّ الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ عِنْد الصلب، وَهُوَ الْقَائِل: (فلست أُبَالِي حِين أقتل مُسلما ... على أَي جنب كَانَ فِي الله مصرعي) (وَذَلِكَ فِي ذَات الْإِلَه وَإِن يَشَأْ (يُبَارك فِي شلو الْأَدِيم الممزع)) وَعَن عَامر بن قيس: أَنه وَفد على عُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ - فَجَلَسَ على بَابه، فَخرج عَلَيْهِ عُثْمَان فَرَأى أَعْرَابِيًا فِي بت، فَلم يعرفهُ، فَقَالَ: أَيْن رَبك يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: بالمرصاد. فأفحم عُثْمَان، وَهَذَا على قَوْله: {إِن رَبك لبالمرصاد} وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {لَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد (1) وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد (2) تَفْسِير سُورَة الْبَلَد وَهِي مَكِّيَّة

البلد

قَوْله تَعَالَى: {لَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد} مَعْنَاهُ: أقسم، و " لَا " صلَة. قَالَ الْفراء: وَهُوَ على مَذْهَب كَلَام الْعَرَب يَقُولُونَ: لَا وَالله لَا أفعل كَذَا. أَي: وَالله، وَكَذَلِكَ لَا وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَي: وَالله، فَيجوز أَن تكون " لَا " صلَة، وَيجوز أَن يكون ردا لقَوْل سَابق، وَابْتِدَاء الْقسم من قَوْله وَالله، فَكَذَلِك قَوْله: {لَا أقسم} يجوز أَن يكون " لَا " صلَة، وَيجوز أَن يكون ردا لزعمهم من إِنْكَار الْبَعْث أَو إِنْكَار نبوة الرَّسُول، وَالْقسم من قَوْله: {أقسم} وَقَالَ الْفراء: هَذَا الثَّانِي أولى. وَقَوله: {بِهَذَا الْبَلَد} هُوَ مَكَّة فِي قَول الْجَمِيع، ذكره مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَغَيرهم.

2

وَقَوله: {وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَي: حَلَال لَك أَن تقَاتل فِي هَذَا الْبَلَد، وَلم يحل لأحد قبلك، وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " إِن مَكَّة حرَام، حرمهَا الله يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، لم تحل لأحد قبلي، وَلَا تحل لأحد بعدِي، وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار ". وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} أَي: استحلوا مِنْك مَا حرمه الله من الْأَذَى، وإيصال الْمَكْرُوه إِلَيْك مَعَ اعْتِقَادهم حُرْمَة الْحرم، ذكره الْقفال. وَالْقَوْل الثَّالِث: {وَأَنت حل بِهَذَا الْبَلَد} أَي: نَازل بِهَذَا الْبَلَد، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى زِيَادَة حُرْمَة وَشرف للبلد لمَكَان النَّبِي فِيهِ.

{ووالد وَمَا ولد (3) }

3

وَقَوله: {ووالد وَمَا ولد} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير وَأَبُو صَالح مَعْنَاهُ: آدم وَولده، وَعَن أبي عمرَان [الْجونِي] : هُوَ إِبْرَاهِيم وَولده. وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {ووالد وَمَا ولد} هُوَ الْوَالِد والعاقر، معنى الَّذِي يلد، وَالَّذِي لَا يلد، فَتكون مَا للنَّفْي.

4

وَقَوله: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد} على هَذَا وَقع الْقسم، (وَمعنى الْقسم) وَمعنى الكبد: الشدَّة. وروى شريك، عَن عَاصِم، عَن زر عَن عَليّ فِي قَوْله: {ووالد وَمَا ولد} آدم وَذريته، على مَا ذكرنَا. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو مُحَمَّد الصريفيني، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيّ، أخبرنَا عَليّ بن الْجَعْد، عَن شريك ... الْأَثر. وَأما الكبد بَينا أَنه الشدَّة. وروى عَليّ بن الْجَعْد، عَن عَليّ بن عَليّ الرِّفَاعِي، عَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: لَيْسَ أحد يكابد من الشدَّة مَا يكابده الْإِنْسَان. وَقَالَ سعيد " خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد " أَي: فِي مضائق الدُّنْيَا وشدائد الْآخِرَة. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِمَا ذكرنَا عَن الْحسن: الصريفيني، عَن [ابْن] حبابة، عَن الْبَغَوِيّ، عَن عَليّ ابْن الْجَعْد. وَقيل فِي تَفْسِير الكبد: هُوَ أَنه يكابد ضيق الرَّحِم، وعسر الْخُرُوج من بطن الْأُم، ثمَّ يكون فِي الرِّبَاط والقماط، ثمَّ نَبَات الْأَسْنَان، ثمَّ الْخِتَان، ثمَّ إِذا بلغ التكليفات والأوامر والنواهي، ثمَّ يكابد أَمر معيشته، وَالْأَحْوَال المنقلبة عَلَيْهِ إِلَى أَن

{لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد (4) أيحسب أَن لن يقدر عَلَيْهِ أحد (5) يَقُول أهلكت مَالا لبدا (6) أيحسب أَن لم يره أحد (7) } يَمُوت، ثمَّ بعد ذَلِك مَا يعود إِلَى أهوال الْقَبْر وأهوال الْقِيَامَة، إِلَى أَن يسْتَقرّ فِي إِحْدَى المنزلتين. وَقَالَ لبيد فِي الكبد. {يَا عين هلا بَكَيْت أَرْبَد إِذْ ... قمنا وَقَامَ الْخُصُوم فِي كبد} أَي: فِي شدَّة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم وَمُجاهد وَعبد الله بن شَدَّاد: فِي كبد أَي: فِي انتصاب، وَالْمعْنَى: أَنه خلق منتصبا فِي بطن أمه، غير منْكب على وَجهه بِخِلَاف سَائِر الْحَيَوَانَات. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الله تَعَالَى وكل ملكا بِالْوَلَدِ فِي بطن الْأُم فَإِذا قَامَت الْمَرْأَة، أَو اضطجعت رفع رَأس الْوَلَد؛ لِئَلَّا يغرق فِي الدَّم.

5

قَوْله تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن لن يقدر عَلَيْهِ أحد} نزلت الْآيَة فِي [أبي] الأشدين، فَكَانَ رجلا من بني جمح من أقوى قُرَيْش وأشدهم، وَكَانَ يبسط لَهُ الْأَدِيم العكاظي، فَيقوم عَلَيْهِ، ويجتمع الْقَوْم على الْأَدِيم، فيجذبونه من تَحت قدمه فَيَنْقَطِع وَلَا تَزُول قدمه، وَكَانَ شَدِيدا فِي عَدَاوَة النَّبِي، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة فِيهِ. وَمَعْنَاهُ: أيظن أَن لن يقدر عَلَيْهِ الله، وَقَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مغترا بقوته وشدته.

6

وَقَوله: {يَقُول أهلكت مَالا لبدا} أَي: أنفقت مَالا كثيرا فِي عَدَاوَة مُحَمَّد، و " لبدا " أَي: بعضه على بعض. قَالَ الْكَلْبِيّ: (وَكَانَ يكذب فِي ذَلِك،

7

فَقَالَ الله تَعَالَى: {أيحسب أَن لم يره أحد} أيحسب أَن الله لم ير مَا أنفقهُ، وَيُقَال: أيحسب أَن لم يطلع الله على فعله فيكذب، وَلَا يعلم الله كذبه. قَالَ معمر: قُرِئت هَذِه الْآيَة عِنْد قَتَادَة، فَقَالَ: أيحسب أَن لن يسْأَله الله تَعَالَى من أَيْن جمعه، وَأَيْنَ أنفقهُ؟ . وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يُؤْتى بِالْعَبدِ يَوْم

{ألم نجْعَل لَهُ عينين (8) وَلِسَانًا وشفتين (9) وهديناه النجدين (10) } الْقِيَامَة، فَيُقَال لَهُ: مَاذَا عملت بِمَالك؟ فَيَقُول: أنفقت، وزكيت طلبا لرضاك، فَيَقُول: كذبت إِنَّمَا أنفقت وَأعْطيت، ليقال: فلَان سخي، وَقد قيل ذَلِك، فجروه إِلَى النَّار ". وَالْخَبَر طَوِيل صَحِيح خرجه مُسلم. وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تَزُول قدما ابْن آدم يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يسْأَل عَن أَرْبَعَة: عَن عمره فِيمَا أفناه، وَعَن جسده فِيمَا أبلاه، وَعَن مَاله من أَيْن كَسبه وَأَيْنَ وَضعه ".

8

قَوْله تَعَالَى: {ألم نجْعَل لَهُ عينين} قَالَ أهل التَّفْسِير: ثمَّ إِن الله تَعَالَى ذكر نعمه عَلَيْهِ وعظيم قدرته، ليعرف أَن الله تَعَالَى قَادر على إِعَادَته يَوْم الْقِيَامَة خلقا جَدِيدا، وَأَنه مسئول عَمَّا يَفْعَله.

9

وَقَوله: {وَلِسَانًا وشفتين} ظَاهر الْمَعْنى.

10

وَقَوله: {وهديناه النجدين} قَالَ ابْن مَسْعُود: سَبِيل الْخَيْر وسبيل الشَّرّ. وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن قَوْله: {وهديناه النجدين} أَي: الْيَدَيْنِ. وَالْقَوْل الأول أشهر، وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِنَّمَا هما نجدان، نجد خير، ونجد شَرّ، فَلَا تجْعَل نجد الشَّرّ أحب السَّبِيل من نجد الْخَيْر ".

{فَلَا اقتحم الْعقبَة (11) وَمَا أَدْرَاك مَا الْعقبَة (12) فك رَقَبَة (13) }

11

وَقَوله: {فَلَا اقتحم الْعقبَة} أَي: فَهَلا أنْفق مَاله الَّذِي أنفقهُ فِي عَدَاوَة مُحَمَّد فِي اقتحام الْعقبَة، وَيُقَال: {فَلَا اقتحم الْعقبَة} أَي: لم يقتحم الْعقبَة، وَمَعْنَاهُ: لم يجاوزها، وَقيل: إِن الْعقبَة جبل فِي النَّار، وَيُقَال: هبوط وصعود، مصعد سَبْعَة آلَاف سنة، ومهبط ألف سنة. وَقيل: مصعد ألف عَام، وفيهَا غِيَاض ممتلئة من الأفاعي والحيات والعقارب. قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي الْعقبَة: إِنَّهَا مجاهدة النَّفس والهوى والشيطان. فعلى هَذَا ذكر الْعقبَة تَمْثِيل؛ لِأَن الْعقبَة يشق صعدوها، كَذَلِك الْإِنْسَان يشق عَلَيْهِ مجاهدة النَّفس والشيطان.

12

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الْعقبَة} أَي: فَمَا أَدْرَاك (مَا تجَاوز بهَا) الْعقبَة، ثمَّ فسر فَقَالَ: {فك رَقَبَة} وَفك الرَّقَبَة إعْتَاقهَا. وروى عقبَة بن عَامر: أَن النَّبِي قَالَ: " من أعتق رَقَبَة، كَانَت فكاكه من النَّار ". وَمن الْمَعْرُوف أَن رجلا أَتَى النَّبِي فَقَالَ: " يَا رَسُول الله، عَلمنِي عملا يدخلني الْجنَّة، فَقَالَ: لَئِن أقصرت الْخطْبَة فقد أَعرَضت فِي الْمَسْأَلَة، أعتق النَّسمَة، وَفك الرَّقَبَة، فَقَالَ: أوليسا وَاحِدًا يَا رَسُول؟ قَالَ: لَا، عتق النَّسمَة أَن تنفرد بِعتْقِهَا، وَفك الرَّقَبَة أَن تعين فِي ثمنهَا، وَعَلَيْك بالفيء على ذِي الرَّحِم الظَّالِم، فَإِن لم يكن ذَلِك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وَأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنه

{أَو إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسغبة (14) يَتِيما ذَا مقربة (15) } . عَن الْمُنكر، فَإِن لم تطق ذَلِك، فَكف لسَانك إِلَّا من خير ". وَورد - أَيْضا - عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من أعتق رَقَبَة مسلمة، أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا مِنْهُ من النَّار ". وَالْخَبَر صَحِيح. وَقُرِئَ: " فك رَقَبَة "، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: هِيَ فك رَقَبَة، وَمن قَرَأَ بِالنّصب فَمَعْنَاه: لَا يقتحم الْعقبَة إِلَّا من فك رَقَبَة.

14

وَقَوله: {أَو إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسغبة} أَي: إطْعَام مِسْكين فِي يَوْم ذِي جوع والسغب: الْجُوع، والمسغبة: المجاعة. قَالَ الشَّاعِر: (فَلَو كنت جارا يَابْنَ قيس بن عَاصِم ... لما بت شبعانا وجارك ساغب) أَي: جَائِع.

15

وَقَوله: تَعَالَى: {يَتِيما ذَا مقربة} أَي: ذَا قرَابَة، واليتيم هُوَ الَّذِي لَا وَالِد لَهُ، وَيُقَال: هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَبَوَانِ. قَالَ قيس بن الملوح: (إِلَى الله أَشْكُو فقد ليلِي كَمَا شكا ... إِلَى الله فقد الْوَالِدين يَتِيم)

16

وَقَوله: {أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة} أَي: لصق بِالتُّرَابِ من الْفقر. قَالَ مُجَاهِد: لَا يحول بَينه وَبَين التُّرَاب شَيْء. وَقيل: ذَا مَتْرَبَة، أَي: ذَا زمانة، وَقيل ذَا مَتْرَبَة أَي: لَيْسَ لَهُ أحد من النَّاس.

{أَو مِسْكينا ذَا مَتْرَبَة (16) ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة (17) أُولَئِكَ أَصْحَاب الميمنة (18) وَالَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا هم أَصْحَاب المشأمة (19) عَلَيْهِم نَار مؤصدة (20) } .

17

وَقَوله: {ثمَّ كَانَ من الَّذين آمنُوا} يَعْنِي: يقتحم الْعقبَة من فعل هَذِه الْأَشْيَاء، فَكَانَ من الَّذين آمنُوا. فَإِن قيل: كلمة " ثمَّ " للتراخي بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة، فَكيف وَجه الْمَعْنى فِي الْآيَة، وَقد ذكر الْإِيمَان متراخيا عَن هَذِه الْأَشْيَاء؟ وَالْجَوَاب: قَالَ النّحاس: هُوَ مُشكل، وَأحسن مَا قيل فِيهِ أَن مَعْنَاهُ: ثمَّ أخْبركُم أَنه كَانَ من الَّذين آمنُوا حِين فعل هَذِه الْأَشْيَاء، وَقد قيل: إِن " ثمَّ " بِمَعْنى الْوَاو، وَلَيْسَ يَصح. وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} أَي: بِالصبرِ عَن معاصي الله، وَقيل: بِالصبرِ على طَاعَة الله، وَقيل: بِالصبرِ عَن لذات الدُّنْيَا وشهواتها. وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بالمرحمة} أَي: مرحمة بَعضهم على بعض، وَتَوَاصَوْا بالمرحمة هُوَ وَصِيَّة البعضِ البعضَ.

18

وَقَوله: {أُولَئِكَ أَصْحَاب الميمنة} أَي: أَصْحَاب الْيَمين، وهم الَّذين اسْتخْرجُوا من شقّ آدم الْأَيْمن، وَيُقَال: الَّذين [يُعْطون] الْكتاب بأيمانهم، وَقيل: الميامين على أنفسهم.

19

وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا بِآيَاتِنَا هم أَصْحَاب المشأمة} أَي: المشائيم على أنفسهم، وَيُقَال: هم الَّذين يُعْطون الْكتاب بشمالهم، وَكَذَلِكَ القَوْل الأول.

20

وَقَوله: {عَلَيْهِم نَار مؤصدة} أَي: مطبقة، يُقَال: وصدت الْبَاب، وأصدته إِذا أطبقته، وَيُقَال: مؤصدة أَي: مُبْهمَة لَا بَاب لَهَا. قَالَ الشَّاعِر: (قوم يُصَالح شدَّة أبنائهم ... وسلاسلا حلقا وبابا مؤصدا) أَي مطبقاً

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَار إِذا جلالها (3) وَاللَّيْل إِذا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بناها (5) وَالْأَرْض وَمَا طحاها (6) وَنَفس وَمَا} . تَفْسِير سُورَة وَالشَّمْس وَهِي مَكِّيَّة

الشمس

قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} أَي: وضوئها، وَقيل: هُوَ النَّهَار كُله.

2

وَقَوله: {وَالْقَمَر إِذا تَلَاهَا} أَي: تبعها، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَعَامة الْمُفَسّرين، وَهُوَ مَرْوِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، وَمعنى تبعها: يَعْنِي أَن الشَّمْس إِذا غربت يَليهَا الْقَمَر فِي الضَّوْء، وَيُقَال: هُوَ فِي الْأَيَّام الْبيض إِذا غربت الشَّمْس طلع الْقَمَر، وَقيل: هُوَ فِي أول لَيْلَة من الشَّهْر، إِذا غربت الشَّمْس رئي الْهلَال، وعَلى الْجُمْلَة الْقَمَر أحد النيرين، وَهُوَ يَتْلُو الشَّمْس إِذا اسْتَدَارَ واستتمه فِي إضاءة الدُّنْيَا.

3

وَقَوله: {وَالنَّهَار إِذا جلاها} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: جلا الظلمَة فكنى عَن الظلمَة من غير ذكرهَا، وَهُوَ كثير فِي كَلَام الْعَرَب، وَالْقَوْل الآخر: جلاها أَي: جلا الشَّمْس؛ لِأَن النَّهَار إِذا ارْتَفع أَضَاءَت الشَّمْس وانبسطت.

4

وَقَوله: {وَاللَّيْل إِذا يَغْشَاهَا} يَعْنِي: إِذا يغشى الشَّمْس أَي: يستر ضوءها.

5

وَقَوله: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} مَعْنَاهُ: وَمن بناها، وَقيل: وَالَّذِي بناها. وَعَن ابْن الزبير أَنه سمع صَوت الرَّعْد فَقَالَ: سُبْحَانَ مَا سبحت لَهُ، أَي: الَّذِي سبحت لَهُ، وَيُقَال: وَمَا بناها أَي: وبنائها.

6

وَقَوله: {وَالْأَرْض وَمَا طحاها} أَي: وَمن بسطها، وَقيل: الأَرْض وطحوها أَي: وبسطها.

7

وَقَوله: {وَنَفس وَمَا سواهَا} أَي: وَمن سواهَا، وَقد بَينا معنى التَّسْمِيَة، وَقيل: هُوَ

{سواهَا (7) فألهمها فجورها وتقواها (8) قد أَفْلح من زكاها (9) وَقد خَابَ من دساها (10) } . اعْتِدَال الْقَامَة.

8

وَقَوله: {فألهمها فجورها وتقواها} أَي: عرفهَا وأعلمها، وَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك وَغَيرهمَا: جعل فِي قلبه فجورها وتقواها، وَهُوَ أولى من القَوْل الأول؛ لِأَن الإلهام فِي اللُّغَة فَوق التَّعْرِيف والإعلام. وَقَالَ الزّجاج: عدلها للفجور، ووفقها للتقوى

9

{قد أَفْلح من زكاها} على هَذَا وَقع الْقسم، وَالْمعْنَى: قد أفلحت نفس زكاها الله.

10

وَقَوله: {وَقد خَابَ من دساها} أَي: وخاب نفس دساها الله، وَقيل: أَفْلح من زكى نَفسه وَأَصْلَحهَا، وخاب من أخمد نَفسه ودسها، فعلى هَذَا قَوْله: {دساها} أَي: دسيها. يَقُول الشَّاعِر: (يقْضِي الْبَازِي إِذا الْبَازِي انْكَسَرَ ... ) أَي: يقضض الْبَازِي. قَالَ الْفراء: الْعَامِل بِالْفُجُورِ خامل عِنْد النَّاس غامض الشَّخْص، منكسر الرَّأْس، والمتقي عَال مُرْتَفع. وَقَالَ ثَعْلَب: " من دساها " أَي: أغواها، وَعنهُ أَنه قَالَ: دساها أَي: دس نَفسه فِي أهل الْخَيْر وَلَيْسَ مِنْهُم. قَالَ الشَّاعِر: (وَأَنت الَّذِي دسيت عمرا فَأَصْبَحت ... حلائله مِنْهُ أرامل ضيعا) وَقَوله: " دساها " هَاهُنَا: أهلكت، فعلى هَذَا معنى قَوْله: {وَقد خَابَ من دساها} أَي: أهلكها بِالْمَعَاصِي. وروى نَافِع بن عمر الجُمَحِي، عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: قَالَت عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - انْتَبَهت لَيْلَة فَوجدت رَسُول الله وَهُوَ يَقُول: " أعْط نفس تقواها، وزكها أَنْت خير من زكاها، أَنْت وَليهَا ومولاها ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو

{كذبت ثَمُود بطغواها (11) إِذْ انْبَعَثَ أشقاها (12) فَقَالَ لَهُم رَسُول الله نَاقَة الله وسقياها (13) فَكَذبُوهُ فَعَقَرُوهَا} . الْغَنَائِم عبد الصَّمد بن عَليّ العباسي، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا دَاوُد بن عَمْرو الضَّبِّيّ، عَن نَافِع بن عمر ... الحَدِيث.

11

وَقَوله: {كذبت ثَمُود بطغواها} أَي: بطغيانها، وَيُقَال: بأجمعها.

12

وَقَوله: {إِذْ انْبَعَثَ أشقاها} هُوَ قدار بن سالف، وَقد بَينا من قبل. وروى رشدين، عَن يزِيد بن عبد الله بن سَلامَة، عَن عُثْمَان بن صُهَيْب، عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله لعَلي: " من أَشْقَى الْأَوَّلين؟ قَالَ: عَاقِر النَّاقة، قَالَ: صدقت، قَالَ: فَمن أَشْقَى الآخرين؟ قَالَ: قلت: لَا أعلم يَا رَسُول الله. قَالَ: الَّذِي يَضْرِبك على هَذِه، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى يَافُوخه ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا كَرِيمَة بنت أَحْمد قَالَت: أخبرنَا أَبُو عَليّ زَاهِر بن أَحْمد، أخبرنَا مُحَمَّد بن إِدْرِيس [السَّامِي] ، أخبرنَا سُوَيْد بن سعيد، عَن رشدين. . الْخَبَر وَهُوَ غَرِيب.

13

وَقَوله: {فَقَالَ لَهُم رَسُول الله} ، وَهُوَ صَالح. وَقَوله: {نَاقَة الله وسقياها} أَي: ذَروا نَاقَة الله وسقياها، وَمعنى سقياها: شربهَا على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر: {لَهَا شرب وَلكم شرب يَوْم مَعْلُوم} .

14

وَقَوله: {فَكَذبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أَي: فكذبوا صَالحا، وعقروا النَّاقة.

{فدمدم عَلَيْهِم رَبهم بذنبهم فسواها (14) وَلَا يخَاف عقباها (15) } . وَقَوله: {فدمدم عَلَيْهِم رَبهم بذنبهم} عَن ابْن الزبير: أَنه " فرمرم عَلَيْهِم رَبهم "، وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَيُقَال: دمدم أَي: غضب عَلَيْهِم رَبهم، يُقَال: فلَان يدمدم إِذا كَانَ يتَكَلَّم بغضب. وَالْقَوْل الْمَعْرُوف أَن معنى قَوْله: {فدمدم عَلَيْهِم} أَي: أطبق عَلَيْهِم بِالْعَذَابِ يَعْنِي: عمهم وَلم يبْق مِنْهُم أحدا، وَيُقَال: الدمدمة هُوَ الْهَلَاك باستئصال. وَقَوله: {بذنبهم فسواها} أَي: سواهُم بِالْأَرْضِ، فَلم يبْق مِنْهُم أحدا صَغِيرا وَلَا كَبِيرا. وَيُقَال: سوى بَينهم بِالْعَذَابِ.

15

وَقَوله: {وَلَا يخَاف عقبيها} وَقُرِئَ: " فَلَا يخَاف عقباها " وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الله تَعَالَى لَا يخَاف أَن يتبعهُ أحد بِمَا فعل، قَالَه الْحسن وَغَيره، وَالْقَوْل الثَّانِي: لم يخف عَاقِر النَّاقة عَاقِبَة فعله، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَاللَّيْل إِذا يغشى (1) وَالنَّهَار إِذا تجلى (2) وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى (3) إِن سعيكم لشتى (4) } . تَفْسِير سُورَة وَاللَّيْل وَهِي مَكِّيَّة

الليل

قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} قَالَ قَتَادَة: يغشى الْأُفق بظلمته، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: يغشى مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض بظلمته. وَقيل: {وَاللَّيْل إِذا يغشى} أَي: أظلم. وَيُقَال: يغشى النَّهَار.

2

وَقَوله: {وَالنَّهَار إِذا تجلى} مَعْنَاهُ: إِذا أَضَاء وانكشف، وَيُقَال: جلّ الظلمَة فَكَأَنَّهُ قَالَ: تجلت الظلمَة بهَا.

3

وَقَوله: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} قَرَأَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو الدَّرْدَاء: " وَالذكر وَالْأُنْثَى " وَقد صَحَّ هَذَا بروايتهما عَن النَّبِي أَنه قَرَأَ كَذَلِك، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: {وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى} وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى مثل قَوْله: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} أَي: فَمن بناها. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَمَا خلق الذّكر وَالْأُنْثَى. وَذكر الْفراء والزجاج: أَن الذّكر وَالْأُنْثَى هُوَ آدم وحواء. وَقد قيل: إِنَّه على الْعُمُوم، وَللَّه أَن يقسم بِمَا شَاءَ من خلقه، وَقد ذكرنَا أَن الْقسم على تَقْدِيره ذكر الرب، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَرب اللَّيْل، وَرب النَّهَار إِلَى آخِره.

4

وَقَوله: {إِن سعيكم لشتى} على هَذَا وَقع الْقسم، وَالْمعْنَى: إِن عَمَلكُمْ

{فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى (5) وَصدق بِالْحُسْنَى (6) فسنيسره لليسرى (7) وَأما من بخل وَاسْتغْنى (8) } . مُخْتَلف، وَقيل: إِن سعيكم لشتى أَي: مِنْكُم الْمُؤمن وَالْكَافِر، والصالح والطالح، والشكور والكفور، وأمثال هَذَا. قَالَ الشَّاعِر: (سعى الْفَتى لأمور لَيْسَ يُدْرِكهَا ... فَالنَّفْس وَاحِدَة والهم منتشر) (والمرء مَا عَاشَ مَمْدُود لَهُ أثر ... لَا يَنْتَهِي الْعُمر حَتَّى يَنْتَهِي الْأَثر)

5

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى} ذهب أَكثر الْمُفَسّرين إِلَى أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنهُ. وَقَوله تَعَالَى: {أعْطى وَاتَّقَى} أَي: بذل المَال بِالصَّدَقَةِ، وحاذر من الله تَعَالَى.

6

وَقَوله تَعَالَى: {وَصدق بِالْحُسْنَى} أَي: بالخلق من الله تَعَالَى [قَالَه] عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ أشهر الْأَقَاوِيل. وَالْقَوْل الثَّانِي: وَصدق بِالْحُسْنَى أَي: بِالْجنَّةِ، قَالَه مُجَاهِد. وَقيل: بالثواب، وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَعَطَاء: صدق بِالْحُسْنَى أَي: بِلَا إِلَه إِلَّا الله.

7

وَقَوله: {فسنيسره لليسرى} أَي: للحالة الْيُسْرَى وَالْمعْنَى: يسهل عَلَيْهِ طَرِيق (الطَّاعَات) ، والأعمال الصَّالِحَة، قَالَ الْأَزْهَرِي: ييسر عَلَيْهِ مَا لَا ييسر إِلَّا على الْمُسلمين.

8

قَوْله تَعَالَى: {وَأما من بخل وَاسْتغْنى} يُقَال: نزلت الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف، وَقيل: فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب.

{وَكذب بِالْحُسْنَى (9) فسنيسره للعسرى (10) } . وَقَوله: {بخل} أَي: بخل بِمَالِه، وَاسْتغْنى أَي: عَن ثَوَاب ربه.

9

وَقَوله: {وَكذب بِالْحُسْنَى} هُوَ مَا بَينا.

10

وَقَوله: {فسنيسره للعسرى} أَي: يسهل عَلَيْهِ طَرِيق الشَّرّ، وروى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: يحول بَينه وَبَين الْإِيمَان بِاللَّه وبرسوله. قَالَ الْفراء: فَإِن سَأَلَ سَائل قَالَ: كَيفَ يستقم قَوْله: {فسنيسره للعسرى} وَكَيف ييسر العسير؟ أجَاب عَن هَذَا: أَن هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى {فبشر الَّذين كفرُوا بِعَذَاب أَلِيم} فَوضع الْبشَارَة مَوضِع الْوَعيد بالنَّار، وَإِن لم تكن بِشَارَة على الْحَقِيقَة، كَذَلِك وضع التَّيْسِير فِي هَذَا الْموضع، وَإِن كَانَ تعسيرا فِي الْحَقِيقَة. وَقد ذكر عَطاء الْخُرَاسَانِي أَن الْآيَة نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار كَانَ لَهُ حَائِط، وَله نَخْلَة تتدلى فِي دَار جَاره، وَيَأْكُل جَاره مِمَّا يسْقط من ثمارها، فَمَنعه الْأنْصَارِيّ، فَشكى ذَلِك الْفَقِير إِلَى رَسُول الله، فَقَالَ النَّبِي للْأَنْصَارِيِّ: " بِعني هَذِه النَّخْلَة بنخلة لَك فِي الْجنَّة، فَأبى أَن يَبِيع، فاشتراها مِنْهُ أَبُو الدحداح بحائط لَهُ، وَأَعْطَاهَا ذَلِك الْفَقِير، فَأنْزل الله تَعَالَى فيهمَا هَذِه الْآيَات. وَالأَصَح أَن الْآيَة نزلت فِي أبي بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة على قَول الْجَمِيع، فَلَا يَسْتَقِيم أَن تكون الْآيَة منزلَة فِي أحد من الْأَنْصَار. وَقد (ورد) فِي الْآيَتَيْنِ خبر صَحِيح، وَهُوَ مَا روى مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، عَن سعد بن عُبَيْدَة، عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، عَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: " كُنَّا فِي جَنَازَة بِالبَقِيعِ، فَأتى النَّبِي فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَه، وَمَعَهُ عود ينكت بِهِ فِي الأَرْض، فَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء وَقَالَ: مَا من نفس منفوسة إِلَّا وَقد كتب مدخلها، فَقَالَ الْقَوْم: يَا رَسُول الله، أَفلا نَتَّكِل على كتَابنَا، فَمن كَانَ من أهل السَّعَادَة فَإِنَّمَا يعْمل للسعادة، وَمن كَانَ من أهل الشَّقَاء فَإِنَّهُ يعْمل للشقاء، قَالَ:

{وَمَا يُغني عَنهُ مَاله إِذا تردى (11) إِن علينا للهدى (12) وَإِن لنا للآخرة وَالْأولَى (13) فأنذرتكم نَارا تلظى (14) لَا يصلاها إِلَى الأشقى (15) الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} . بل اعْمَلُوا فَكل ميسر، أما من كَانَ من أهل السَّعَادَة فَإِنَّهُ ييسر لعمل السَّعَادَة، وَأما من كَانَ من أهل الشَّقَاء فَإِنَّهُ ييسر بِعَمَل الشَّقَاء، ثمَّ قَرَأَ: {فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى فسنيسره لليسرى وَأما من بخل وَاسْتغْنى وَكذب بِالْحُسْنَى فسنيسره للعسرى} . قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن فراس، أخبرنَا الديبلي أخبرنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن مَنْصُور الحَدِيث.

11

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُغني عَنهُ مَاله إِذا تردى} مَعْنَاهُ: إِذا هلك، يُقَال: تردى أَي: سقط فِي النَّار، وَهُوَ الْأَصَح؛ لِأَن التردي فِي اللُّغَة هُوَ السُّقُوط، يُقَال: تردى من مَكَان كَذَا أَي: سقط.

12

وَقَوله: {إِن علينا للهدى} قَالَ الزّجاج: علينا بَيَان الْحَلَال وَالْحرَام، وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة. وَيُقَال: من سلك سَبِيل الْهدى، فعلينا هداه مثل قَوْله {وعَلى الله قصد السَّبِيل} أَي: بَيَان السَّبِيل لمن قصد.

13

وَقَوله: {وَإِن لنا للآخرة وَالْأولَى} أَي: ملك الْآخِرَة وَالْأولَى، وَقيل: ثَوَاب الْآخِرَة وَالْأولَى.

14

وَقَوله: {فأنذرتكم نَارا تلظى} أَي: تتلظى، وَمَعْنَاهُ: تتوهج.

15

وَقَوله: {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} أَي: كذب بِاللَّه، وَأعْرض عَن طَاعَته. وَفِي الْآيَة سُؤال للمرجئة والخوارج، فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى} أَي: لَا يقاسي حرهَا، وَلَا يدخلهَا إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى، فَدلَّ أَن

( {16) وسيجنبها الأتقى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى (18) } . الْمُؤمن وَإِن ارْتكب الْكَبَائِر لَا يدْخل النَّار، هَذَا للمرجئة، وَأما الْخَوَارِج قَالُوا: قد وافقتمونا أَن صَاحب الْكَبَائِر يدْخل النَّار، فَدلَّ أَنه كفر بارتكاب الْكَبِيرَة، والتحق بِمن كذب وَتَوَلَّى حَيْثُ قَالَ الله تَعَالَى: {لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى} . وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ: لَا يصلاها إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى، فالأشقى هم أَصْحَاب الْكَبَائِر، وَالَّذِي كذب وَتَوَلَّى هم الْكفَّار. وَالْعرب تَقول: أكلت خبْزًا لَحْمًا تَمرا. أَي: وَلَحْمًا وَتَمْرًا، وحذفوا الْوَاو، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَأنْشد أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ: (كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت فَمَا ... يثبت الود فِي فؤاد الْكَرِيم) أَي: وَكَيف أمسيت؟ وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن للنار دركات، وَالْمرَاد من الْآيَة دركة بِعَينهَا، لَا يدخلهَا إِلَّا الْكفَّار، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} دلّت الْآيَة أَنه مَخْصُوص لِلْمُنَافِقين، وَهَذَا جَوَاب مَعْرُوف. وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن الْمَعْنى: لَا يصلاها، لَا يدخلهَا خَالِدا فِيهَا إِلَّا الأشقى الَّذِي كذب وَتَوَلَّى، وَصَاحب الْكَبِيرَة وَإِن دَخلهَا لَا يخلد فِيهَا.

17

وَقَوله: {وسيجنبها الأتقى الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى} أَي: يُعْطي مَاله ليصير زاكيا طَاهِرا، وَهُوَ وَارِد فِي أبي بكر الصّديق على قَول أَكثر الْمُفَسّرين، وَيُقَال: إِن الْآيَة الأولى نزلت فِي أُميَّة بن خلف، وَأما إيتاؤه المَال فَهُوَ أَنه أعتق سَبْعَة نفر كَانُوا يُعَذبُونَ فِي الله، مِنْهُم بِلَال الْخَيْر، وعامر بن فهَيْرَة، والنهدية، وزنيرة، وَغَيرهم. وروى أَنه لما اشْترى الزنيرة وأعتقها - وَكَانَت قد أسلمت - عميت عَن قريب، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: أعماها اللات والعزى، فَقَالَت: أَنا أكفر بِاللات والعزى، فَرد الله عَلَيْهَا بصرها. وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي مر على بِلَال، وَهُوَ يعذب فِي رَمْضَاءُ مَكَّة، وَهُوَ يَقُول: أحد أحد، فَقَالَ النَّبِي: " سينجيك أحد، ثمَّ إِنَّه أَتَى أَبَا بكر وَقَالَ: رَأَيْت بِلَالًا

{وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى (20) ولسوف يرضى (21) } . يعذب فِي الله، فَذهب أَبُو بكر إِلَى بَيته، وَأخذ رطلا من ذهب، وَجَاء إِلَى أُميَّة بن خلف وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ وَأعْتقهُ، فَقَالَت قُرَيْش: إِنَّمَا أعْتقهُ ليد لَهُ عِنْده،

19

فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} أَي: إِلَّا طلب رِضَاء ربه المتعالى.

21

وَقَوله: {ولسوف يرضى} أَي: يرضى ثَوَابه فِي الْآخِرَة، وَالْمعْنَى: يُعْطِيهِ الله حَتَّى يرضى. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: " أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - أَتَى النَّبِي فَقَالَ: قل لأبي بكر يَقُول الله تَعَالَى: أَنا عَنْك رَاض، فَهَل أَنْت عني رَاض؟ ، فَذكر ذَلِك لأبي بكر [فَبكى] وخر سَاجِدا، وَقَالَ: أَنا عَن رَبِّي رَاض، أَنا عَن رَبِّي رَاض ". وروى عَليّ أَن النَّبِي قَالَ: " رحم الله أَبَا بكر، زَوجنِي ابْنَته، وحملني إِلَى دَار الْهِجْرَة، وَاشْترى بِلَالًا وَأعْتقهُ ".

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْل إِذا سجى (2) مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى (3) } . تَفْسِير سُورَة الضُّحَى وَهِي مَكِّيَّة

الضحى

قَوْله تَعَالَى: {وَالضُّحَى} أقسم بِالنَّهَارِ كُله، وَقيل: بِوَقْت الضحوة، وَهُوَ وَقت ارْتِفَاع الشَّمْس. قَالَ مُجَاهِد: سجى: اسْتَوَى، وَقَالَ عِكْرِمَة: سكن الْخلق فِيهِ، وَقيل: اسْتَقَرَّتْ ظلمته. قَالَ الْأَصْمَعِي: سجو اللَّيْل: تَغْطِيَة النَّهَار، يُقَال: ليل داج، وبحر سَاج، وسماء ذَات أبراج، قَالَ الراجز: (يَا حبذا القمراء وَاللَّيْل (الداج) وطرق مثل ملاء النساج) وَقَالَ آخر: (فَمَا ذنبنا أَن جاش بَحر ابْن عمكم ... وبحرك سَاج (مَا) يواري الدعامصا)

3

وَقَوله: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} قَالَ أهل التَّفْسِير: أَبْطَأَ جِبْرِيل عَن الرَّسُول مرّة؛ فَقَالَت قُرَيْش: ودعه ربه وقلاه. وَرُوِيَ أَن امْرَأَة قَالَت لَهُ: يَا مُحَمَّد، أرى أَن شَيْطَانك قد تَركك؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، وَأقسم بِمَا ذكرنَا أَنه مَا ودعه وَمَا قلاه. وروى زُهَيْر، عَن الْأسود بن قيس، عَن جُنْدُب البَجلِيّ قَالَ: كنت مَعَ النَّبِي فِي غَازِيَة، فدميت أُصْبُعه، فَقَالَ النَّبِي.

{هَل أَنْت إِلَّا أصْبع دميت ... وَفِي سَبِيل الله مَا لقِيت} قَالَ: فَأَبْطَأَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ الْمُشْركُونَ: قد ودع مُحَمَّد؛ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني، أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا أَحْمد بن يُونُس، عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة بن حديج الحَدِيث. وَذكر بَعضهم: أَن الْآيَة نزلت حِين سَأَلَ الْيَهُود رَسُول الله عَن خبر أَصْحَاب الْكَهْف وَعَن ذِي القرنين، وَعَن الرّوح فَقَالَ: سأخبركم غَدا، وَلم يقل: إِن شَاءَ الله، فَتَأَخر جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - سَبْعَة عشر يَوْمًا، وَقيل: أقل أَو أَكثر، فَقَالَ الْمُشْركُونَ: قد ودعه ربه وقلاه؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة ". وَقد قرئَ فِي الشاذ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْمَعْرُوف بِالتَّشْدِيدِ أَي: مَا قطع عَنْك الْوَحْي، (وَقيل) : مَا أعرض عَنْك. وبالتخفيف مَعْنَاهُ: مَا تَركك، تَقول الْعَرَب: دع هَذَا، وذر هَذَا، واترك هَذَا بِمَعْنى وَاحِد. وَقَوله: {وَمَا قلى} أَي: مَا قلاك بِمَعْنى: مَا أبغضك، (وَقيل) : مَا تَركك مُنْذُ قبلك، وَمَا أبغضك مُنْذُ أحبك. قَالَ الأخطل: (المهديات هُوَ من بَيته ... والمحسنات لمن قلين مقَالا) أَي: أبغضن.

{وللآخرة خير لَك من الأولى (4) ولسوف يعطيك رَبك فترضى (5) ألم يجدك يَتِيما فآوى (6) ووجدك ضَالًّا فهدى (7) } .

4

وَقَوله: {وللآخرة خير لَك من الأولى} يَعْنِي: ثَوَاب الله خير لَك من نعيم الدُّنْيَا، وَقد روى أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - دخل على النَّبِي فَرَآهُ مضجعا على حَصِير، قد أثر الْحَصِير فِي جنبه، فَبكى عمر - رَضِي الله عَنهُ - فَقَالَ رَسُول الله: " وَمَا يبكيك يَا عمر؟ فَقَالَ: ذكرت كسْرَى وَقَيْصَر وَمَا هما فِيهِ من النَّعيم، وَذكرت حالك وَأَنت رَسُول الله. فَقَالَ لَهُ النَّبِي: أما ترْضى أَن تكون لَهُم الدُّنْيَا ".

5

وَقَوله: {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} أَي: من الثَّوَاب والكرامة والمنزلة حَتَّى [ترْضى] ، وَفِي بعض التفاسير: هُوَ ألف قصر من اللُّؤْلُؤ وترابها الْمسك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه الشَّفَاعَة لأمته، وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ الباقر قَالَ: إِنَّكُم تَقولُونَ: إِن أَرْجَى آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى قَوْله: {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله} الْآيَة، وَنحن نقُول: أَرْجَى آيَة فِي كتاب الله تَعَالَى هُوَ قَوْله: {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} يَعْنِي: أَنه يشفعه فِي أمته حَتَّى يرضى.

6

قَوْله تَعَالَى: {ألم يجدك يَتِيما فآوى} سَمَّاهُ يَتِيما؛ لِأَن أَبَاهُ توفّي وَهُوَ حمل، وَقيل: بعد وِلَادَته بشهرين، وَتوفيت أمه وَهُوَ ابْن سِتّ سِنِين، وكفله جده عبد الْمطلب، ثمَّ مَاتَ وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، وكفله عَمه أَبُو طَالب، وَمعنى قَوْله: {فأوى} أَي: جعل لَك مأوى، وَهُوَ أَبُو طَالب، وَالْمعْنَى: يأوي إِلَيْهِ، وَتُوفِّي أَبُو طَالب قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين.

7

وَقَوله: {ووجدك ضَالًّا فهدى} أَي: عَن الشَّرَائِع وَالْإِسْلَام فهداك إِلَيْهَا، وَيُقَال: عَن النُّبُوَّة، وَقيل: ووجدك ضَالًّا أَي: غافلا عَمَّا يُرَاد بك فهداك إِلَيْهِ، وَهُوَ أحسن

{ووجدك عائلا فأغنى (8) فَأَما الْيَتِيم فَلَا تقهر (9) } الْأَقَاوِيل. وَقيل: ضَالًّا عَن طَرِيق الْحق فهداك إِلَيْهِ. وَعَن بَعضهم: وَجدك فِي قوم ضال، وَأولى الْأَقَاوِيل أَن يكون مَحْمُولا على الشَّرَائِع، وَمَا أنزل الله مثل قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان} أَو يكون الْمَعْنى وَجدك ضَالًّا أَي: غافلا عَن النُّبُوَّة وَالْوَحي الَّذِي أنزل إِلَيْهِ مثل قَوْله فِي قصَّة مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ -: {قَالَ فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين} أَي: من الغافلين.

8

وَقَوله: {ووجدك عائلا فأغنى} أَي: فَقِيرا فأغناك بِمَال خَدِيجَة. [وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل] : أَغْنَاك بِالرِّضَا والقناعة بِمَا أَعْطَاك، وَهُوَ أولى الْقَوْلَيْنِ، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض، إِنَّمَا الْغنى غنى الْقلب "، وَأنْشد بَعضهم: (فَمَا يدْرِي الْفَقِير مَتى غناهُ ... وَمَا يدْرِي الْغَنِيّ مَتى يعيل) أَي: يفْتَقر. وَيُقَال: {ووجدك عائلا} أَي: ذَا عِيَال، فأغنى أَي: كَفاك مؤنتهم، وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " يَا رب، إِنَّك اتَّخذت إِبْرَاهِيم خَلِيلًا ومُوسَى كليما، وسخرت مَعَ دَاوُد الْجبَال، وَفعلت كَذَا وَكَذَا، فَمَا فعلت بِي؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {ألم يجدك يَتِيما فآوى} وَالسورَة الْأُخْرَى، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {ألم نشرح لَك

{وَأما السَّائِل فَلَا تنهر (10) وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث (11) } صدرك) وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن الرَّسُول قَالَ: " وددت أَنِّي لم أقل مَا قلت ".

9

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَما الْيَتِيم فَلَا تقهر} أَي لَا تحتقره، وَالْمَعْرُوف: لَا تظلمه أَي: تَأْخُذ حَقه وتتقوى بِهِ، وَقد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَفْعَلُونَ ذَلِك فِي أَمْوَال الْيَتَامَى. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " فَلَا تَكْهَر " أَي: لَا تزجره.

10

وَقَوله: {وَأما السَّائِل فَلَا تنهر} أَي: رد بِرِفْق ولين، فإمَّا أَن تعطيه، وَإِمَّا أَن ترده بالرفق وَتَدْعُو لَهُ، وَحكى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: مَحْمُول على سَائل الْعلم دون سَائل الطَّعَام، وَعَن أبي الدَّرْدَاء - رَضِي الله عَنهُ - أَنه كَانَ إِذا جَاءَهُ طَالب علم قَالَ: مرْحَبًا بأحبة رَسُول الله، وَعَن إِبْرَاهِيم بن أدهم - قدس الله روحه - قَالَ: إِنِّي أَظن أَن الله تَعَالَى يصرف الْعقُوبَة عَن أهل الدُّنْيَا برحلة أَصْحَاب الحَدِيث فِي طلب الْعلم.

11

وَقَوله تَعَالَى: {وَأما بِنِعْمَة رَبك فَحدث} أَي: بِالنُّبُوَّةِ. وَقَوله: {فَحدث} أَي: ادْع النَّاس إِلَيْهَا، وَقد كَانَ يكتم زَمَانا ثمَّ أظهرها، وَقيل: هُوَ الْقُرْآن فعلى هَذَا قَوْله: {فَحدث} أَي: اتله على النَّاس، وَيُقَال: جَمِيع النعم. وَقَوله: {فَحدث} أَي: أظهر بالشكر، وَعَن الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: إِذا أصبت خيرا أَو نعْمَة فَحدث بِهِ الثِّقَات من إخوانك. وَعَن عَمْرو بن مَيْمُون أَنه قَالَ: من قَامَ لورده فِي اللَّيْل فَلَا بَأْس أَن يحدث بِهِ الثِّقَة من إخوانه، وَيَقُول: رَزَقَنِي الله كَذَا وَكَذَا. وَفِي

بعض الْأَخْبَار: " أَن إِظْهَار النِّعْمَة شكر، وَالسُّكُوت عَنْهَا كفر " وَالله أعلم. وَقَرَأَ ابْن كثير - رَحْمَة الله عَلَيْهِ - من هَذَا الْموضع بِالتَّكْبِيرِ فِي خَوَاتِم السُّور إِلَى آخر الْقُرْآن، وَذكر أَنه قَرَأَ على مُجَاهِد فَأمره بذلك، وَقَرَأَ مُجَاهِد على ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَأمره بذلك، وقرأن ابْن عَبَّاس على أبي بن كَعْب - رَضِي الله عَنْهُمَا - فَأمره بذلك، وَقَرَأَ (ابْن مَسْعُود) على النَّبِي فَأمره بذلك. وَالتَّكْبِير هُوَ قَوْله: الله أكبر، قَالُوا: وَسبب هَذَا أَن الْمُشْركين لما قَالُوا للنَّبِي إِن ربه ودعه وقلاه، وَفِي رِوَايَة أَنهم قَالُوا: قد هجره شَيْطَانه، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة وفيهَا قَوْله تَعَالَى: {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} كبر النَّبِي فَرحا بنزول هَذِه السُّورَة، فَصَارَ سنة إِلَى آخر الْقُرْآن. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {ألم نشرح لَك صدرك} تَفْسِير سُورَة ألم نشرح وَهِي مَكِّيَّة

الشرح

قَوْله تَعَالَى: {ألم نشرح لَك صدرك} مَعْنَاهُ: ألم نفتح لَك صدرك؟ وَقيل: ألم نوسع لَك صدرك، وَالْقَوْل الأول، قَالَه مُجَاهِد وَالْحسن. وَقَالَ السّديّ: ألم نلين لَك قَلْبك، وَقَالَ الْحسن فِي رِوَايَة أُخْرَى: {ألم نشرح لَك صدرك} مَعْنَاهُ: أَنه ملئ حِكْمَة وإيمانا. وَقد ورد فِي الْأَخْبَار بِرِوَايَة قَتَادَة، عَن أنس، [عَن] مَالك بن صعصعة، أَن نَبِي الله قَالَ: " بَيْنَمَا أَنا عِنْد الْبَيْت بَين النَّائِم وَالْيَقظَان إِذْ سَمِعت قَائِلا يَقُول: هُوَ بَين الثَّلَاثَة، فَأتيت بطست من ذهب فِيهِ مَاء زَمْزَم، فشرح الله صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا. قَالَ قَتَادَة: قلت: مَا تَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَل بَطْني، فاستخرج قلبِي وغسله بِمَاء زَمْزَم، ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى مَكَانَهُ، ثمَّ حشاه إِيمَانًا وَحِكْمَة ". وَفِي الحَدِيث قصَّة طَوِيلَة، قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث القَاضِي الإِمَام أَبُو الدَّرْدَاء، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب أخبرنَا أَبُو عِيسَى الْحَافِظ، أخبرنَا مُحَمَّد بن بشار، أخبرنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَابْن أبي عدي، عَن سعيد بن أبي (عرُوبَة) ، عَن قَتَادَة، عَن أنس بن مَالك الحَدِيث. وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. وَورد أَيْضا فِي الْأَخْبَار أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا دخل النُّور فِي قلب الْمُؤمن انْشَرَحَ وانفسخ. فَقيل يَا رَسُول الله وَهل لذَلِك من عَلامَة؟ قَالَ التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور، والإنابة إِلَى دَار الخلود، والاستعداد للْمَوْت قبل حُلُول الْمَوْت ".

{ووضعنا عَنْك وزرك (2) الَّذِي أنقض ظهرك (3) ورفعنا لَك ذكرك (4) }

2

وَقَوله: {ووضعنا عَنْك وزرك} قَالَ مُجَاهِد: أَي غفرنا لَك، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} . وَقَوله: {وزرك} قَالَ مُجَاهِد: أَي: ثقلك. وَعَن بَعضهم: ووضعنا عَنْك وزرك، أَي: حططنا عَنْك ثقلك. وَفِي رِوَايَة ابْن مَسْعُود: وحللنا عَنْك وقرك.

3

وَقَوله: {الَّذِي أنقض ظهرك} قَالَ الزّجاج، أَي: أثقلك ثقلا، يسمع مِنْهُ نقيض ظهرك: وَهَذَا على طَرِيق التَّشْبِيه والتمثيل، يَعْنِي: لَو كَانَ شَيْئا يثقل، يسمع من ثقله نقيض ظهرك. فَإِن قَالَ قَائِل: وأيش كَانَ وزره؟ وَهل كَانَ على دين قومه قبل النُّبُوَّة أَو لَا؟ وَالْجَوَاب: قد ورد فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ على دين قومه قبل ذَلِك، وَمعنى ذَلِك: أَنه كَانَ يشْهد مشاهدهم، ويوافقهم فِي بعض أُمُورهم من غير أَن يعبد صنما أَو يعظم وثنا، وَقد كَانَ الله عصمه عَن ذَلِك، فَمَا ذكرنَا هُوَ الْوزر الَّذِي أنقض ظَهره.

4

وَقَوله: {ورفعنا لَك ذكرك} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: ورفعنا لَك ذكرك بِالنُّبُوَّةِ والرسالة. وَالْآخر: رفعنَا لَك ذكرك أَي: جعلت طَاعَتك طَاعَتي، ومعصيتك معصيتي، وَالْقَوْل الْمَعْرُوف فِي هَذَا أَنِّي لَا أذكر إِلَّا ذكرت معي، قَالَ ابْن عَبَّاس: فِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة وَالتَّشَهُّد وعَلى المنابر فِي الْجمع والخطب فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْم عَرَفَة وَغير ذَلِك. وَقَالَ قَتَادَة: مَا من متشهد وَلَا خطيب وَلَا صَاحب صَلَاة إِلَّا وَهُوَ يُنَادي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار هَذَا مَرْفُوعا إِلَى جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - بِرِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي قَالَ لي: " إِن جِبْرِيل قَالَ: قَالَ الله عز وَجل: إِذا ذكرت

{فَإِن مَعَ الْعسر يسرا (5) إِن مَعَ الْعسر يسرا (6) } وَقَالَ حسان بن ثَابت يمدح النَّبِي: (أغر عَلَيْهِ للبنوة خَاتم ... من الله مشهود يلوح وَيشْهد) (وَضم الْإِلَه اسْم النَّبِي مَعَ اسْمه ... إِذا قَالَ فِي الْخمس الْمُؤَذّن أشهد) (وشق لَهُ من اسْمه ليجله ... فذو الْعَرْش مَحْمُود وَهَذَا مُحَمَّد)

5

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن من الْعسر يسرا} أَي: مَعَ الْعسر يسرا. فِي التَّفْسِير أَن الْمُشْركين عيروا النَّبِي وَأَصْحَابه، وَقَالُوا: لَو شِئْت جَمعنَا لَك شَيْئا من المَال لترجع عَن هَذَا القَوْل، فأكربه ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَالْمعْنَى: إِن مَعَ الْفقر غنى، وَمَعَ الضّيق سَعَة، وَإِن مَعَ الحزونة سهولة، وَمَعَ الشدَّة رخاء. وَقد حقق الله ذَلِك فِي الدُّنْيَا بِمَا فتح على النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - وعَلى أَصْحَابه، فَإِن الله تَعَالَى فتح للنَّبِي الْحجاز، وتهامة، وَمَا والاها، وَعَامة بِلَاد الْيمن، وَكَثِيرًا من الْبَوَادِي إِلَى [قريب] من الْعرَاق وَالشَّام، وَفتح على أَصْحَابه مَا فتح وأغنمهم كنوز كسْرَى وَقَيْصَر، وَقد صَار حَال النَّبِي فِي آخر أمره أَنه كَانَ يهب المائين من الْإِبِل، والألوف من الْغنم، ويدخر لِعِيَالِهِ قوت سنة، فَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ معنى الْآيَة. وَقد روى معمر (عَن أَيُّوب) عَن الْحسن " أَن النَّبِي خرج يَوْمًا مَسْرُورا إِلَى أَصْحَابه وَقَالَ: أَبْشِرُوا لن يغلب عسر يسرين، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِن مَعَ الْعسر يسرا إِن مَعَ الْعسر يسرا} قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد، أخبرنَا سهل بن عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن البرَاز أخبرنَا العذافري، أخبرنَا الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر ... الحَدِيث.

فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: لن يغلب عسر يسرين، وَقد كرر كِلَاهُمَا؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن الْفراء ذكر أَن النكرَة إِذا كررت نكرَة، فَالثَّانِي غير الأول، والنكرة إِذا أُعِيدَت معرفَة فَالثَّانِي هُوَ الأول تَقول الْعَرَب: كسبت الْيَوْم درهما، وأنفقت الدِّرْهَم. فَالثَّانِي هُوَ الأول. ونقول: وعَلى معنى هَذَا ورد قَوْله تَعَالَى: {كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: لَو دخل الْعسر فِي جُحر لتَبعه الْيُسْر حَتَّى يَسْتَخْرِجهُ. وَفِي معنى اليسرين قَولَانِ: أَحدهمَا: يسر الدُّنْيَا، وَالْآخر يسر الْآخِرَة، فعلى هَذَا معنى الْخَبَر، إِن غلب الْعسر يسر الدُّنْيَا، فَلَا يغلب يسر الْآخِرَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْيُسْر الأول هُوَ للرسول، واليسر الثَّانِي لأَصْحَابه. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الجنوجردي قَالَ: أخبرنَا أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ الْحسن بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بن عَامر الْبَغْدَادِيّ قَالَ سَمِعت عبد الْعَزِيز بن يحيى قَالَ: سَمِعت عمر قَالَ الْعُتْبِي يَقُول: كنت ذَات لَيْلَة فِي الْبَادِيَة، فَألْقى فِي روعي بَيت من شعر، فَقلت: (أرى الْمَوْت لمن أصبح ... مغموما أروح) فَلَمَّا جن اللَّيْل سَمِعت هاتفا يَهْتِف من الْهَوَاء: (أَلا أَيهَا الْمَرْء الَّذِي ... الْهم بِهِ يبرح) (وَقد أنْشد بَيْتا ... لم يزل فِي فكره يسنح) (إِذا اشتدت بك العسرى ... ففكر فِي ألم نشرح) (فعسر بَين يسرين ... إِذا أبصرته فافرح) قَالَ: فَحفِظت الأبيات، وَفرج الله غمي. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: وأنشدنا أَبُو بكر قَالَ: أنشدنا أَبُو إِسْحَاق قَالَ أنشدنا الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن قَالَ: أنشدنا أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْحِيرِي قَالَ: أنشدنا

{فَإِذا فرغت فانصب (7) وَإِلَى رَبك فارغب (8) } إِسْحَاق بن بهْلُول القَاضِي: (فَلَا تيأس وَإِن أعسرت يَوْمًا ... فقد أَيسَرت فِي دهر طَوِيل) (وَلَا تَظنن بِرَبِّك ظن سوء ... فَإِن الله أولى بالجميل) (وَإِن الْعسر يتبعهُ يسَار ... وَقَول الله أصدق كل قيل) قَالَ رَضِي الله عَنهُ: وأنشدنا أَبُو بكر قَالَ: أنشدنا أَبُو إِسْحَاق قَالَ: أنشدنا الْحسن قَالَ: أنشدنا الْحسن بن مُحَمَّد قَالَ: أَنْشدني مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن معَاذ (الْكَرْخِي) قَالَ أنشدنا أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: (إِذا بلغ الْعسر مجهوده ... فثق عِنْد ذَاك بيسر سريع) (ألم تَرَ نحس الشتَاء النطيع ... يتلوه سعد الرّبيع البديع) قَالَ رَضِي الله عَنهُ: وأنشدنا أَبُو بكر، أنشدنا أَبُو إِسْحَاق، أَنْشدني عِيسَى بن زيد الطفيلي أَنْشدني سُلَيْمَان بن أَحْمد الرقي: (توقع إِذا مَا عدتك الخطوب ... سُرُورًا يسردها عنْدك فسرا) (ترى الله يخلف ميعاده ... وَقد قَالَ إِن مَعَ الْعسر يسرا)

7

قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا فرغت فانصب} قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك والكلبي وَمُقَاتِل: إِذا فرغت من الصَّلَاة فانصب للدُّعَاء، وارغب إِلَى الله فِي الْمَسْأَلَة. وَقَالَ الشّعبِيّ: إِذا فرغت من التَّشَهُّد فَادع لدنياك وآخرتك. وروى نَحْو ذَلِك عَن الزُّهْرِيّ وَعَن ابْن مَسْعُود: إِذا فرغت من الْفَرَائِض فانصب لقِيَام اللَّيْل. وَعَن بَعضهم إِذا فرغت من تَبْلِيغ الرسَالَة فانصب لجهاد الْكفَّار.

8

وَقَوله: {وَإِلَى رَبك فارغب} هُوَ الْحَث على الدُّعَاء [و] الْمَسْأَلَة. وَقَالَ الزّجاج: إِلَى رَبك فارغب وَحده، وَلَا تكن رغبتك إِلَى أحد سواهُ. وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {والتين وَالزَّيْتُون (1) وطور سينين (2) وَهَذَا الْبَلَد الْأمين (3) لقد خلقهَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم (4) ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين (5) } تَفْسِير سُورَة التِّين وَهِي مَكِّيَّة وَقد ثَبت بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه السُّورَة فِي صَلَاة الْمغرب خرجه مُسلم فِي كِتَابه.

التين

قَوْله تَعَالَى: {والتين وَالزَّيْتُون} قَالَ مُجَاهِد وَالْحسن: هُوَ التِّين الَّذِي يُؤْكَل وَالزَّيْتُون الَّذِي يعصر. وَالْمعْنَى: وَرب التِّين وَالزَّيْتُون. وَقَالَ قَتَادَة: التِّين هُوَ الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ دمشق، وَالزَّيْتُون هُوَ الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ بَيت الْمُقَدّس. وَقَالَ كَعْب: هُوَ دمشق وَبَيت الْمُقَدّس. وَحكى الْفراء أَنَّهُمَا جبلان مَا بَين حلوان إِلَى همذان. وَيُقَال: أَرَادَ منابت التِّين وَالزَّيْتُون. قَالَ النّحاس: وَهَذَا قَول يُخَالف ظَاهر الْآيَة، وَلم ينْقل عَمَّن يكون قَوْله حجَّة.

2

وَقَوله: {وطور سِنِين} أَكثر الْمُفَسّرين أَنه الْجَبَل الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى. وَقد ثَبت عَن عمر أَنه قَرَأَ: " وطور سَيْنَاء "، وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: " وطور سِيْنَاء " بِكَسْر السِّين. وَقَالَ الْحسن: الطّور هُوَ الْجَبَل، وسنين: الْمُبَارك. وَعَن الْأَخْفَش: طور: اسْم الْجَبَل وسنين: اسْم الشّجر.

3

وَقَوله: {وَهَذَا الْبَلَد الْأمين} هُوَ مَكَّة بِالْإِجْمَاع، وَمعنى الْأمين أَي: آمن من فِيهِ.

4

وَقَوله: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} هُوَ جَوَاب الْقسم. قَالَ مُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم وَجَمَاعَة: فِي أحسن تَقْوِيم أَي: فِي أحسن صُورَة. وَقيل: فِي أحسن تَقْوِيم: هُوَ اعتداله واستواؤه.

5

وَقَوله: {ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين} قَالَ مُجَاهِد وَالْحسن: إِلَى النَّار إِلَّا من آمن. فعلى هَذَا تكون الْآيَة فِي الْكفَّار. وَقد قيل: إِنَّه ورد فِي كَافِر بِعَيْنِه فَيُقَال: إِنَّه أَبُو

{إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم أجر غير ممنون (6) فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ (7) أَلَيْسَ الله بِأَحْكَم الْحَاكِمين (8) } جهل. وَقيل: إِنَّه الْوَلِيد بن الْمُغيرَة. وَقيل غَيرهمَا. وَقَالَ إِبْرَاهِيم وَالضَّحَّاك وَجَمَاعَة: ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين: هُوَ أرذل الْعُمر، والسافلون هم الضُّعَفَاء والمرضى والشيوخ العجزة.

6

وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا} الِاسْتِثْنَاء مُشكل فِي هَذِه السُّورَة، فعلى قَول الْحسن وَمُجاهد يكون الِاسْتِثْنَاء ظَاهرا وَالْمعْنَى: رد النَّاس إِلَى النَّار إِلَّا من آمن وَعمل صَالحا فَإِنَّهُ لَا يرد إِلَى النَّار، وَمعنى الْإِنْسَان: النَّاس. وَأما على قَول إِبْرَاهِيم وَالضَّحَّاك فالاستثناء مُشكل على هَذَا القَوْل، قَالَه النّحاس. وَالْمعْنَى على هَذَا إِلَّا الَّذين آمنُوا فَلَا يردون إِلَى أرذل الْعُمر، وَمَعْنَاهُ: أَنه يكْتب لَهُم أَعْمَالهم الصَّالِحَة بعد الْهَرم على مَا كَانُوا يعملونها فِي حَالَة الشَّبَاب وَإِن عجزوا عَنْهَا، فكأنهم لم يردوا إِلَى أرذل الْعُمر، وَقد حكى معنى هَذَا عَن إِبْرَاهِيم، وروى ذَلِك مَرْفُوعا فِي بعض الْأَخْبَار إِلَى الرَّسُول. وَقَوله: {فَلهم أجر غير ممنون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يمتن بِهِ عَلَيْهِم أحد - سوى الله - منَّة تكدر النِّعْمَة عَلَيْهِم. وَالْقَوْل الْمَعْرُوف: غير مَقْطُوع وَهُوَ مؤيد لما ذَكرْنَاهُ من التَّأْوِيل.

7

قَوْله تَعَالَى: {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} الْمَعْنى: فَمَا يكذبك أَيهَا الشاك بِيَوْم الْحساب بعد مَا شاهدت من قدرَة الله تَعَالَى مَا شاهدت، هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف. وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن مَعْنَاهُ: فَمن يكذبك بعد بِالدّينِ على خطاب النَّبِي أَي: من الَّذِي يكذبك بِيَوْم الْحساب بعد أَن ظهر من الْبَرَاهِين والآيات مَا ظهر، ذكره أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ، القَوْل الأول أولى؛ لِأَن مَا بِمَعْنى من، يبعد فِي اللُّغَة.

8

وَقَوله: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَم الْحَاكِمين} هُوَ اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّحْقِيق وَهُوَ مثل قَول جرير: (ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى الْعَالمين بطُون رَاح) أَي: أَنْتُم كَذَلِك. وَقد ورد عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم كَانُوا إِذا ختموا السُّورَة قَالُوا: اللَّهُمَّ بلَى، وَفِي رِوَايَة: بلَى، وَأَنا على ذَلِك من الشَّاهِدين؛ مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق (1) } تَفْسِير سُورَة العلق وَهِي مَكِّيَّة

العلق

قَوْله تَعَالَى: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} أَكثر أهل الْعلم [أَن] هَذِه السُّورَة أول سُورَة أنزلت من الْقُرْآن، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ، وَابْن عَبَّاس، وَعَائِشَة، وَابْن الزبير. وروى مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة " أَن أول سُورَة أنزلت من الْقُرْآن، سُورَة اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي ... " قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْحَاكِم أَبُو عَمْرو وَمُحَمّد بن عبد الْعَزِيز الْقَنْطَرِي، أخبرنَا أَبُو الْحَارِث عَليّ بن الْقَاسِم الْخطابِيّ أخبرنَا أَبُو لبَابَة مُحَمَّد بن الْمهْدي، أخبرنَا أَبُو عماد بن الْحُسَيْن بن بشر، عَن [سَلمَة] بن الْفضل عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق. الْخَبَر. وَعَن جَابر: أَن أول سُورَة أنزلت سُورَة المدثر، [و] قد بَينا، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول، وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - قَالَت: " أول مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول الله من الْوَحْي الرُّؤْيَا (الصادقة) فِي النّوم، فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح، ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء، فَكَانَ يَأْتِي حراء فَيَتَحَنَّث فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد - وَهُوَ التَّعَبُّد - ويتزود لذَلِك، ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فتزوده لمثلهَا، حَتَّى (فجئه) الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء، فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ: اقر، فَقَالَ النَّبِي قلت: مَا أَنا بقارئ. قَالَ:

{خلق الْإِنْسَان من علق (2) اقْرَأ وَرَبك الأكرم (3) الَّذِي علم بالقلم (4) علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم (5) كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى (6) } فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ، أَرْسلنِي، فَقَالَ: اقْرَأ، فَقلت مَا أَنا بقارئ، فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي، فَقَالَ اقْرَأ، فَقلت مَا أَنا بقارئ فأخذني فغطني الثَّالِثَة حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي، فَقَالَ: " اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق ... حَتَّى بلغ مَا لم يعلم ". وَالْخَبَر طَوِيل مَذْكُور فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَوله: {باسم رَبك} أَي: اقْرَأ مفتتحا باسم رَبك، وَقيل: اقْرَأ اسْم رَبك، وَالْبَاء زَائِدَة، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَمثله قَول الشَّاعِر: (هن الْحَرَائِر لأرباب أخمرة ... سود المحاجر لَا يقْرَأن بالسور) أَي: السُّور، وَالْبَاء زَائِدَة. وَقيل: اقْرَأ على اسْم رَبك، كَمَا يُقَال: سر باسم الله أَي: على اسْم الله، وَالْقَوْلَان الْأَوَّلَانِ هما المعروفان. وَقَوله: {الَّذِي خلق} يَعْنِي: خلق النَّاس.

2

وَقَوله: {خلق الْإِنْسَان من علق} أَي: الْعلقَة وَهِي الدَّم، وَذكرهَا هُنَا الْعلقَة؛ لِأَنَّهَا من الأمشاج، فَدلَّ بهَا على غَيرهَا.

3

وَقَوله: {اقْرَأ وَرَبك الأكرم} أَي كريم، وَمن كرمه أَن يحلم عَن ذنُوب الْعباد، وَيُؤَخر عقوبتهم، وَعَن بَعضهم: من كرمه أَن يعبد الْآدَمِيّ غَيره، وَلَا يقطع عَنهُ رزقه.

4

وَقَوله: {الَّذِي علم بالقلم} أَي: الْكِتَابَة بالقلم، وَهِي نعْمَة عَظِيمَة، قَالَ قَتَادَة: الْقَلَم نعْمَة من الله عَظِيمَة، لَوْلَا ذَلِك لم يقم دين، وَلم يصلح عَيْش، وَاخْتلف القَوْل فِي المُرَاد بالتعليم، فأحد الْقَوْلَيْنِ هُوَ آدم صلوَات الله عَلَيْهِ، وَالْقَوْل الآخر: كل آدَمِيّ يخط بالقلم.

5

وَقَوله: {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} قد بَينا، وَهُوَ ظَاهر الْمَعْنى.

6

قَوْله: {كلا إِن الْإِنْسَان ليطْغى} نزل فِي أبي جهل، وَقد ورد فِي بعض الْأَخْبَار

{أَن رَآهُ اسْتغنى (7) إِن إِلَى رَبك الرجعى (8) أَرَأَيْت الَّذِي ينْهَى (9) عبدا إِذا صلى (10) أَرَأَيْت إِن كَانَ على الْهدى (11) أَو أَمر بالتقوى (12) أَرَأَيْت إِن كذب وَتَوَلَّى (13) ألم يعلم بِأَن الله يرى (14) كلا لَئِن لم ينْتَه لنسفعا بالناصية} عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن لكل أمة فِرْعَوْن، وَفرْعَوْن هَذِه الْأمة أَو جهل ". وَهُوَ خبر غَرِيب. وَقَوله: {ليطْغى} أَي: يُجَاوز الْحَد فِي الْعِصْيَان، قَالَ الْكَلْبِيّ: من الطغيان أَن يتنقل من منزلَة إِلَى منزلَة فِي اللبَاس وَالطَّعَام. وَفِي بعض التفاسير: هُوَ أَنه إِذا كثر مَاله زَاد فِي طَعَامه وَشَرَابه وثيابه (ومركبه) . وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: منهومان لَا يشبعان طَالب علم، وطالب مَال لَا يستويان، أما طَالب الْعلم فيبتغي رضَا الرَّحْمَن، وَأما طَالب المَال فيطلب رضَا الشَّيْطَان.

7

وَقَوله: {أَن رَآهُ اسْتغنى} أَي: رأى نَفسه غَنِيا.

8

وَقَوله: {إِن إِلَى رَبك الرجعى} أَي: الرُّجُوع والمرجع.

9

وَقَوله تَعَالَى: {أَرَأَيْت الَّذِي ينْهَى عبدا إِذا صلى} هُوَ أَبُو جهل أَيْضا، وَالْعَبْد الَّذِي يُصَلِّي هُوَ الرَّسُول، وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس: أَن أَبَا جهل قَالَ: إِن رَأَيْت مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَن على رقبته، فَذكر لَهُ أَنه يُصَلِّي فجَاء ليَطَأ على رقبته، فَلَمَّا قرب مِنْهُ نكص على عَقِبَيْهِ، فَقيل لَهُ: مَا لَك يَا أَبَا الحكم؟ فَقَالَ: رَأَيْت بيني وَبَينه خَنْدَقًا من نَار، وَهَؤُلَاء ذَوُو أَجْنِحَة، فَقَالَ النَّبِي: لَو دنى مني لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَة عضوا عضوا " خرجه مُسلم فِي كِتَابه. وَقَوله: {أَرَأَيْت} هُوَ تعجيب للسامع، وَقيل

( {15) نَاصِيَة كَاذِبَة خاطئة (16) فَليدع نَادِيَةَ (17) سَنَدع الزَّبَانِيَة (18) كلا لَا تطعه واسجد واقترب (19) } مَعْنَاهُ: أَرَأَيْت الَّذِي ينْهَى عبدا إِذا صلى، كَيفَ يَأْمَن عَذَابي؟ وَقيل مَعْنَاهُ أمصيب هُوَ؟ يَعْنِي: لَيْسَ بمصيب، وَفِي قَول سِيبَوَيْهٍ مَعْنَاهُ: أَرَأَيْت من كَانَ هَذَا عمله، أَخْبرنِي عَن أمره فِي الْآخِرَة؟ وَهُوَ إِشَارَة إِلَى أَنه يصير إِلَى عُقُوبَة الله فِي الْآخِرَة.

11

قَول تَعَالَى: {أَرَأَيْت إِن كَانَ على الْهدى أَو أَمر بالتقوى} يَعْنِي: مُحَمَّدًا.

13

وَقَوله: {أَرَأَيْت إِن كذب وَتَوَلَّى} يَعْنِي: أَبَا جهل، وَالْمعْنَى: أَن من كذب وَتَوَلَّى وَنهى عبدا إِذا صلى، كَيفَ يكون كمن آمن بربه وَاتَّقَى وَصلى! .

14

وَقَوله: {ألم يعلم بِأَن الله يرى} هُوَ تهديد ووعيد.

15

قَوْله تَعَالَى: {كلا لَئِن لم ينْتَه لنسفعا بالناصية} أَي: لنجرن بناصيته إِلَى النَّار، وَقيل: لنسودن وَجهه، وَذكر الناصية ليدل على الْوَجْه، وَقيل: لنسمن مَوضِع الناصية بِالسَّوَادِ، فَاكْتفى بِهِ من سَائِر الْوَجْه. وَفِي اللُّغَة: الأسفع: الثور الوحشي الَّذِي فِي خديه سَواد، وأنشدوا على القَوْل: (قوم إِذا سمعُوا الصَّرِيخ رَأَيْتهمْ ... من بَين ملجم مهرَة أَو سافع) أَرَادَ وَأخذ بناصيته. وأنشدوا على القَوْل الثَّانِي: (وَكنت (إِلَى) نفس الغوى نزت بِهِ ... سفعت على الْعرنِين مِنْهُ بميسم) أَرَادَ وسمته على عرنينه.

16

وَقَوله: {نَاصِيَة كَاذِبَة خاطئة} أَي: نَاصِيَة صَاحبهَا كَاذِب خاطئ.

17

وَقَوله تَعَالَى: {فَليدع نَادِيَةَ} روى: " أَن أَبَا جهل لما أنكر على النَّبِي صلَاته،

انتهره النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل: أتنهرني يَا مُحَمَّد، وَمَا بهَا أَكثر نَادِيًا مني؛ أعمر مَجْلِسا وَأكْثر قوما، فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَليدع نَادِيَةَ} أَي قومه الَّذِي يتعزز بهم، وهم أهل مَجْلِسه.

18

وَقَوله: {سَنَدع الزَّبَانِيَة} هم الْمَلَائِكَة الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فِي وَصفهم: {عَلَيْهَا مَلَائِكَة غِلَاظ شَدَّاد} وَقيل: هم أعوان ملك الْمَوْت. (وَوَاحِد الزَّبَانِيَة زبنية فِي قَول الْكسَائي زباني، وَعَن بَعضهم: زبان) .

19

وَقَوله: {كلا لَا تطعه واسجد واقترب} أَي: واسجد لله واقترب مِنْهُ بِالطَّاعَةِ، وَقيل: واسجد يَا مُحَمَّد واقترب يَا أَبَا جهل، لترى عُقُوبَة الله وَهُوَ قَول غَرِيب.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر (1) تَفْسِير سُورَة الْقدر وَهِي مَدَنِيَّة

القدر

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} أَي: الْقُرْآن، وَقد ذكرنَا أَن الله تَعَالَى أنزل جَمِيع الْقُرْآن فِي لَيْلَة الْقدر إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ أنزلهُ تفاريق على الرَّسُول، بعضه فِي إِثْر بعض وَالْهَاء كِنَايَة عَن الْقُرْآن، وَإِن لم يكن الْقُرْآن مَذْكُورا، وَصَحَّ ذَلِك لِأَنَّهُ مَعْلُوم. وَلَيْلَة الْقدر: هِيَ لَيْلَة الحكم. قَالَ مُجَاهِد فِي التَّفْسِير: إِن الله تَعَالَى يقسم فِيهَا [الأرزاق] والأعمال. وَاخْتلفُوا فِي لَيْلَة الْقدر، فَحكى عَن بَعضهم: أَنَّهَا رفعت حِين توفّي النَّبِي وَلَيْسَ بِصَحِيح، بل هِيَ بَاقِيَة إِلَى قيام السَّاعَة. وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: فِي الْحول، وَمن يقم حولا يُصِيبهَا. وَالصَّحِيح أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان، وَقد ثَبت بِرِوَايَة زر بن حُبَيْش أَنه قَالَ لأبي بن كَعْب: " إِن أَخَاك عبد الله بن مَسْعُود يَقُول: إِنَّهَا فِي الْحول، فَقَالَ أبي بن كَعْب: يرحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن! لقد علم أَنَّهَا فِي الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان، وَعلم أَنَّهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين، وَلَكِن أَرَادَ أَن لَا يتكل النَّاس على ذَلِك، ثمَّ حلف أبي بن كَعْب، وَلم يسْتَثْن أَنَّهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين، قَالَ زر: فَلَمَّا رَأَيْته يحلف: قلت: يَا أَبَا الْمُنْذر، بِمَ تعرف ذَلِك؟ قَالَ بالعلامة الَّذِي ذكرهَا لنا رَسُول الله، وَهِي أَن تطلع الشَّمْس فِي صبيحتها وَلَا شُعَاع لَهَا ".

{وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَة الْقدر (2) لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر (3) } وَقد ثَبت أَيْضا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " تحروها فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان ". أَي: اطلبوها، وَفِي بعض الرِّوَايَات: " اطلبوها فِي الْأَفْرَاد "، وَفِي رِوَايَة أبي سعيد الْخُدْرِيّ: " أَنَّهَا لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين ". وَقيل غير ذَلِك، وَأَصَح الْأَقَاوِيل وأشهرها أَنَّهَا لَيْلَة السَّابِع وَالْعِشْرين، وَمن قَامَ الْعشْر أدْركهَا قطعا وَحَقِيقَة.

2

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا لَيْلَة الْقدر} قد بَينا أَن مَا ورد فِي الْقُرْآن على هَذَا اللَّفْظ، فقد أعلمهُ الله تَعَالَى.

3

وَقَوله: {لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} أَي: ثَوَاب الْعَمَل فِيهَا أَكثر من ثَوَاب الْعَمَل فِي ألف شهر لَيْسَ فِيهَا لَيْلَة الْقدر، وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه بِرِوَايَة يُوسُف بن سعد، أَن الْحسن بن عَليّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - لما بَايع مُعَاوِيَة، وَسلم إِلَيْهِ الْخلَافَة، قَالَ لَهُ رجل: يَا مسود وُجُوه الْمُؤمنِينَ، أَو يَا مذل الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: لَا تقل بهَا، فَإِن رَسُول الله أرِي بني أُميَّة على منبره، فساءه ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى عَلَيْهِ: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} ، وَأنزل أَيْضا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقدر} ، وَقَالَ {لَيْلَة الْقدر خير من ألف شهر} أَي: خير من ألف شهر يملك فِيهَا بَنو أُميَّة ". قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهُوَ غَرِيب. وَفِي بعض التفاسير: أَن النَّبِي قَالَ: " إِن رجلا من بني

{تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا بِإِذن رَبهم من كل أَمر (4) سَلام هِيَ حَتَّى مطلع الْفجْر (5) } إِسْرَائِيل جَاهد أَعدَاء الله ألف شهر، وَكَانَ مَعَ ذَلِك يقوم بِاللَّيْلِ، ويصوم النَّهَار، فَاغْتَمَّ من ذَلِك لقصر أَعمار أمته، وَقلة أَعْمَالهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، وَأخْبر أَنه أعطَاهُ لَيْلَة يكون الْعَمَل فِيهَا خيرا من عمل ذَلِك الرجل ألف شهر ". وَقد ثَبت فِي فَضلهَا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من قَامَ لَيْلَة الْقدر إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ".

4

وَقَوله: {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح فِيهَا} أَي: جِبْرِيل فِيهَا. وَقَوله: {بِإِذن رَبهم من كل أَمر} أَي: لكل أَمر، وَهُوَ مَا ذكرنَا من مقادير الْأَشْيَاء.

5

وَقَوله: {سَلام هِيَ} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد مِنْهُ تَسْلِيم الْمَلَائِكَة على من يذكر الله تَعَالَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: {سَلام} أَي: سَلامَة، وَالْمعْنَى: أَنه لَا يعْمل فِيهَا دَاء وَلَا سحر وَلَا شَيْء من عمل الشَّيَاطِين والكهنة. وَقَوله: {حَتَّى مطلع الْفجْر} وَقُرِئَ: " مطلع الْفجْر " بِكَسْر اللَّام، فالبفتح على الْمصدر وبالكسر على وَقت الطُّلُوع.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة (1) رَسُول من الله يَتْلُو صحفا مطهرة (2) فِيهَا كتب قيمَة (3) وَمَا تفرق الَّذين} تَفْسِير سُورَة لم يكن وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول بَعضهم، (مَدَنِيَّة فِي قَول بَعضهم، وَالله أعلم)

البينة

قَوْله تَعَالَى: {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب} قَرَأَ أبي بن كَعْب: " مَا كَانَ الَّذين كفرُوا " وَهُوَ شَاذ، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول. وَقَوله تَعَالَى: {من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين} أَي: منتهين، وَمَعْنَاهُ: أَن الْكفَّار من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين مَا كَانُوا منتهين عَن كفرهم حَتَّى تأتيهم الْبَيِّنَة أَي: حَتَّى أَتَاهُم الرَّسُول، مُسْتَقْبل بِمَعْنى الْمَاضِي، وَقيل: الْبَيِّنَة هِيَ الْقُرْآن، وَهَذَا قَول مَعْرُوف مُعْتَمد، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين الَّذين سمعُوا مِنْهُم لم يزَالُوا على إِقْرَار بِالنَّبِيِّ قبل ظُهُوره، فَلَمَّا ظهر اخْتلفُوا، فَأقر بَعضهم، وَأنكر الْبَعْض،

2

وَقَوله: {رَسُول من الله} أَي: هُوَ رَسُول من الله، وَقيل: حَتَّى أَتَاهُم رَسُول من الله. وَقَوله: {يَتْلُو صحفا مطهرة} أَي: مَا فِي الصُّحُف، وَقَوله: {مطهرة} أَي: من التَّغْيِير والتبديل والإدناس والإنجاس.

3

وَقَوله: {فِيهَا كتب قيمَة} أَي: أَحْكَام مُسْتَقِيمَة عادلة، وَالْكتاب يَأْتِي بِمَعْنى الحكم، والكتب بِمَعْنى الْأَحْكَام، وَفِي قصَّة العسيف أَن النَّبِي قَالَ: " لأقضين بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله " أَي: بِحكم الله.

{أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة (4) وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة (5) إِن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين فِي نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أُولَئِكَ هم شَرّ الْبَريَّة (6) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة (7) }

4

وَقَوله: {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب} أَي: فِي أَمر النَّبِي وَمَا جَاءَ بِهِ. وَقَوله: {إِلَّا من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَة} أَي: الْبَينَات والبراهين والدلائل.

5

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء} قد ذكرنَا معنى الحنيف، وَقيل: إِذا كَانَ مُسلما فَهُوَ الْحَاج، وَإِذا كَانَ غير مُسلم فَهُوَ الْإِسْلَام، وَالْمعْنَى: أمروا أَن يَكُونُوا حنفَاء، فَإِن كَانَ الْخطاب مَعَ الْمُسلمين فَالْمُرَاد مِنْهُ أَن يَكُونُوا حجاجا وَإِن كَانَ الْخطاب مَعَ الْكفَّار فَالْمُرَاد أَن يَكُونُوا مُسلمين. وَقَوله: {ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة} أَي: ذَلِك الْملَّة الْقيمَة، وَقيل: دين الْأمة المستقيمة على الْحق، وَقيل: دين الْملَّة الْقيمَة.

6

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين فِي نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أُولَئِكَ هم شَرّ الْبَريَّة} قرئَ بِالْهَمْز وَترك الْهَمْز، فالقراءة بِالْهَمْز من برأَ الله الْخلق، وبترك الْهمزَة من البرى، وَهُوَ التُّرَاب أَي: شَرّ من خلق من البرى، وَالْعرب تَقول: بفيك البرى وَالثَّرَى.

7

وَقَوله: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة} قد ذكرنَا، وروى سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن الْمُخْتَار بن فلفل، عَن أنس بن مَالك: " أَن رجلا قَالَ للنَّبِي يَا خير الْبَريَّة قَالَ: ذَاك إِبْرَاهِيم - صلوَات الله عَلَيْهِ " أوردهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جَامعه، وَقَالَ: هُوَ صَحِيح غَرِيب.

{جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك لمن خشِي ربه (8) }

8

وَقَوله: {جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي} قَالَ ابْن عمر: خلق الله أَرْبَعَة أَشْيَاء بِيَدِهِ: الْقَلَم، وَالْعرش، وجنة عدن، وآدَم - صلوَات الله عَلَيْهِ، وَقَالَ لسَائِر الْأَشْيَاء كوني فَكَانَت. وَقَوله: {تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا أبدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} أَي: رَضِي أَعْمَالهم، وَرَضوا ثَوَابه. وَقَوله: {ذَلِك لمن خشِي ربه} أَي: خَافَ ربه.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا (1) } تَفْسِير سُورَة إِذا زلزلت وَهِي مَكِّيَّة، وَقل: مَدَنِيَّة. وَقد روى أنس أَن النَّبِي قَالَ: " من قَرَأَ: {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} عدلت لَهُ بِنصْف الْقُرْآن، وَمن قَرَأَ: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} عدلت لَهُ بِربع الْقُرْآن، وَمن قَرَأَ: {قل هُوَ الله أحد} عدلت بِثلث الْقُرْآن " أوردهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه وَقَالَ: هُوَ حَدِيث غَرِيب. وَأورد - أَيْضا - بِرِوَايَة سَلمَة بن وردان عَن أنس بن مَالك قَالَ: إِن النَّبِي قَالَ لرجل من أَصْحَابه: " هَل تزوجت يَا فلَان؟ قَالَ: لَا وَالله، وَلَا عِنْدِي مَا أَتزوّج بِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ مَعَك {قل هُوَ الله أحد} ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: ثلث الْقُرْآن، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَك {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: ربع الْقُرْآن، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَك {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} ؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: ربع الْقُرْآن، قَالَ: أَلَيْسَ مَعَك {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: ربع الْقُرْآن، قَالَ: تزوج تزوج ".

{وأخرجت الأَرْض أثقالها (2) وَقَالَ الْإِنْسَان مَا لَهَا (3) يَوْمئِذٍ تحدث أَخْبَارهَا (4) }

الزلزلة

قَوْله تَعَالَى: {إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا} قَالَ ابْن عَبَّاس: حركت من أَسْفَلهَا. والزلزال هُوَ التحريك الشَّديد، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه عقيب النفخة الأولى. وَفِي التَّفْسِير: أَن إسْرَافيل إِذا نفخ فِي الصُّور النفخة الأولى يكسر كل شَيْء على وَجه الأَرْض من شدَّة نفخته، وَيدخل فِي جَوف الأَرْض، فَإِذا نفخ النفخة الثَّانِيَة أخرجت جَمِيع مَا فِي جوفها، وألقتها على (وَجههَا) .

2

وَقَوله: {وأخرجت الأَرْض أثقالها} هُوَ مَا ذكرنَا، وَذَلِكَ عقيب النفخة الثَّانِيَة، قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: كنوزها وموتاها.

3

وَقَوله: {وَقَالَ الْإِنْسَان مَا لَهَا} أَي: وَقَالَ الْكَافِر مَا لَهَا؟ يَعْنِي: مَا للْأَرْض أخرجت أثقالها. وَإِنَّمَا قَالَ الْكَافِر ذَلِك؛ لِأَنَّهُ لم يكن يُؤمن بِالْبَعْثِ.

4

وَقَوله: {يَوْمئِذٍ تحدث أَخْبَارهَا} أَي: تحدث بِمَا عمل عَلَيْهَا من خير وَشر - يَعْنِي الأَرْض - وروى سعيد بن أبي أَيُّوب، عَن يحيى بن أبي سُلَيْمَان، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَرَأَ رَسُول الله هَذِه الْآيَة: {يَوْمئِذٍ تحدث أَخْبَارهَا} قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارهَا؟ فَقَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم، قَالَ: فَإِن أَخْبَارهَا أَن تشهد على كل عبد وَأمة بِمَا عمل على ظهرهَا، أَن تَقول: عمل كَذَا وَكَذَا فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَهَذِهِ أَخْبَارهَا. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور أخبرنَا أَبُو طَاهِر (بن) المخلص، أخبرنَا يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد، أخبرنَا [الْحُسَيْن

{بِأَن رَبك أوحى لَهَا (5) يَوْمئِذٍ يصدر النَّاس أشتاتا ليروا أَعْمَالهم (6) فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره (7) وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره (8) } بن الْحسن] الْمروزِي، أخبرنَا عبد الله بن الْمُبَارك، عَن سعيد بن أبي أَيُّوب. . الحَدِيث، وَيُقَال: الْمَعْنى: وَقَالَ الْإِنْسَان مَا لَهَا؟ أَي: مَا للْأَرْض تحدث أَخْبَارهَا.

5

قَوْله: {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} أَي: أوحى إِلَيْهَا أَن تحدث. قَالَ الشَّاعِر: (أوحى لَهَا الْقَرار فاستقرت ... ) أَي: إِلَيْهَا. وَالْمعْنَى: أَن الأَرْض أخْبرت بِوَحْي الله إِلَيْهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: الْوَحْي على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: وَحي الله إِلَى أنبيائه عَلَيْهِم السَّلَام، وَالْآخر: بِمَعْنى الإلهام، مثل قَوْله تَعَالَى: {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} ، وَمثل هَذِه الْآيَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} أَي: ألهمها أَن تحدث.

6

قَوْله تَعَالَى: {يَوْمئِذٍ يصدر النَّاس أشتاتا} أَي: مُتَفَرّقين. يُقَال: شتان مَا بَين فلَان وَفُلَان أَي: مَا أَشد التَّفْرِقَة بَينهمَا. وَقَوله: {ليروا أَعْمَالهم} أَي: أَعْمَالهم الَّتِي عملوها.

7

وَقَوله: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} قَالَ ابْن مَسْعُود: هَذِه الْآيَة أحكم آيَة فِي الْقُرْآن. وروى أَن عمر بن الْخطاب سَأَلَ قوما: أَي آيَة فِي كتاب الله أحكم؟ فَقَالُوا: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} فَقَالَ: أفيكم ابْن أم عبد؟ فَقَالُوا: نعم، وَأَرَادَ أَن هَذَا جَائِز مِنْهُ. وروى أَن صعصعة عَم الفرزدق أَتَى النَّبِي فَأسلم، فَسمع هَذِه الْآيَة: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} قَالَ: حسبي لَا أُبَالِي أَلا اسْمَع من الْقُرْآن غَيرهَا. رَوَاهُ الْحسن مُرْسلا.

وروى الْمُغيرَة بن قيس عَن ابْن الزبير، عَن جَابر قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله، إِلَى مَا يَنْتَهِي النَّاس يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالَ: إِلَى أَعْمَالهم؛ من عمل مِثْقَال ذرة خيرا يره، وَمن عمل مِثْقَال ذرة شرا يره ". وَفِي الذّرة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا النملة الْحَمْرَاء الصَّغِيرَة - وَهُوَ قَول مَعْرُوف، وَالْآخر: هِيَ مَا يعلق بيد الْإِنْسَان إِذا وضع يَده على الأَرْض، وَقيل: هِيَ الذّرة الَّتِي ترى فِي الكوة منبثا فِي الْهَوَاء فِي ضوء الشَّمْس، وَذكر النقاش عَن بَعضهم: أَن الذّرة جُزْء من ألف وَأَرْبَعَة و (عشْرين) جُزْءا من شعيرَة. وَعَن بَعضهم: أَنه بسط ذرات كَثِيرَة على وَجه إِحْدَى كفتي الْمِيزَان، فَلم تمل عين الْمِيزَان. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: [يرى الْمُؤمن حَسَنَاته وسيئاته فَيرد عَلَيْهِ حَسَنَاته وَتَأَخر سيئاته] . وَعَن بَعضهم: أَن ذكر الذّرة على طَرِيق التَّمْثِيل والتشبيه، وَالْمعْنَى أَنه يلقى عمله الصَّغِير وَالْكَبِير، فَمَا أحب الله أَن يغْفر غفر، وَمَا أحب الله أَن يُؤَاخذ بِهِ أَخذ وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالْعَادِيات ضَبْحًا (1) فالموريات قدحا (2) فالمغيرات صبحا (3) فأثرن بِهِ نقعا (4) فوسطن بِهِ جمعا (5) إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود (6) } تَفْسِير سُورَة العاديات وَهِي مَكِّيَّة

العاديات

قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَادِيات ضَبْحًا} قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل. قَالَ عَليّ: لم يكن يَوْم بدر إِلَّا فرسَان: أَحدهمَا لِلْمِقْدَادِ، وَالْآخر للزبير. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هِيَ الْخَيل. وَهَذَا القَوْل أظهر. وَأقسم بِالْخَيْلِ العادية فِي سَبِيل الله، وضبيحها. صَوت أجوافها، وَقيل: صَوت أنفاسها عِنْد الْعَدو. قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ بصهيل وَلَا حَمْحَمَة.

2

وَقَوله: {فالموريات قدحا} قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل تقدح بمناسمها، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس: هِيَ الْخَيل تقدح الْأَحْجَار بحوافرها، فتورى النَّار.

3

وَقَوله: {فالمغيرات صبحا} قَالَ ابْن مَسْعُود: هِيَ الْإِبِل حِين يفيضون من جمع، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس: هِيَ الْخَيل تغير فِي سَبِيل الله، قَالَ قَتَادَة: أغارت حِين أَصبَحت.

4

قَوْله تَعَالَى: {فأثرن بِهِ نقعا} على قَول ابْن مَسْعُود أثرن بالوادي فكنى عَنهُ وَإِن لم يكن مَذْكُورا، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس بِالْمَكَانِ المغار. قَالَ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: النَّقْع التُّرَاب، وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الْغُبَار.

5

وَقَوله تَعَالَى: {فوسطن بِهِ جمعا} فعلى قَول ابْن مَسْعُود أَي: جمع الْمزْدَلِفَة، وعَلى قَول ابْن عَبَّاس جمع الْعَدو، فأقسم الله تَعَالَى بِرَبّ هَذِه الْأَشْيَاء، وَقيل: بِهَذِهِ الْأَشْيَاء بِأَعْيَانِهَا، وَقيل: إِن النَّبِي كَانَ بعث سَرِيَّة إِلَى بني كنَانَة فَأَغَارُوا عِنْد الصَّباح، وتوسطوا جمع الْعَدو، وَكَانُوا أَصْحَاب خيل، فأقسم الله تَعَالَى بهم.

6

وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} على هَذَا وَقع الْقسم.

{وَإنَّهُ على ذَلِك لشهيد (7) وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد (8) } وَقَوله: {لكنود} أَي: لكفور، وَقيل: هُوَ الْبَخِيل السيء الْخلق. وَفِي بعض الْأَخْبَار مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي بِرِوَايَة أبي أُمَامَة عَن النَّبِي فِي قَوْله: {إِن الْإِنْسَان لرَبه لكنود} قَالَ: " هُوَ الَّذِي يَأْكُل وَحده، وَيمْنَع رفده وَيضْرب عَبده ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الْحَاكِم مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْقَنْطَرِي، أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن [الحدادي] ، أخبرنَا مُحَمَّد بن يحيى، أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، أخبرنَا (المؤتمن) بن سُلَيْمَان، عَن جَعْفَر بن الزبير، عَن الْقَاسِم، عَن أبي أُمَامَة الحَدِيث.

7

وَقَوله: {وَإنَّهُ على ذَلِك لشهيد} أَي: وَإِن الله على ذَلِك لشهيد أَي: على كفره. وَقَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس:

8

وَقَوله: {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} مَعْنَاهُ: إِن الْإِنْسَان لأجل حب المَال لبخيل. يُقَال: شَدِيد ومشدد أَي: بخيل. قَالَ طرفَة: (أرى الْمَوْت يعتام الْكِرَام ويصطفى ... عقيلة مَال الْفَاحِش المتشدد) أَي: الْبَخِيل

{أَفلا يعلم إِذا بعثر مَا فِي الْقُبُور (9) وَحصل مَا فِي الصُّدُور (10) إِن رَبهم بهم يَوْمئِذٍ لخبير (11) }

9

قَوْله تَعَالَى: {أَفلا يعلم إِذا بعثر مَا فِي الْقُبُور} أَي: أخرج، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " بحث " وَعَن غَيره وَهُوَ أبي بن كَعْب: " بحثر " أَي: قلب.

10

قَوْله: {وَحصل مَا فِي الصُّدُور} أَي: أظهر مَا فِيهَا. وَقيل: جمع يَعْنِي: مَا فِي صَحَائِف الْأَعْمَال.

11

وَقَوله: {إِن رَبهم بهم يَوْمئِذٍ لخبير} أَي: عَالم، وَيُقَال: أَي: يجازيهم بأعمالهم، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم} أَي: يجازيهم الله بِمَا فِي قُلُوبهم. وَكَذَلِكَ قَوْله: {وَمَا تَفعلُوا من خير يُعلمهُ الله} أَي: يجازي عَلَيْهِ، وَقيل فِي قَوْله: {وَحصل مَا فِي الصُّدُور} أَي: ميز مَا فِيهَا من الْخَيْر وَالشَّر، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {القارعة (1) مَا القارعة (2) وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة (3) يَوْم يكون النَّاس كالفراش المبثوث (4) وَتَكون الْجبَال كالعهن المنفوش (5) فَأَما من ثقلت} تَفْسِير سُورَة القارعة وَهِي مَكِّيَّة

القارعة

قَوْله تَعَالَى: {القارعة مَا القارعة} هِيَ الْقِيَامَة، سميت قَارِعَة؛ لِأَنَّهَا تقرع الْقُلُوب بالهول والشدة. وَقَوله: {مَا القارعة} مَذْكُور على وَجه التَّعْظِيم والتهويل، وَكَذَلِكَ {وَمَا أَدْرَاك مَا القارعة} .

4

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يكون النَّاس كالفراش المبثوث} الْفراش هُوَ صغَار الْحَيَوَان من البق والبعوض وَالْجَرَاد وَمَا يجْتَمع عِنْد ضوء السراج، والمبثوث سَمَّاهُ مبثوثا؛ لِأَنَّهُ يركب بعضه بَعْضًا، وَقيل: يمرج بعضه فِي بعض، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ جَراد منتشر} وَشبه النَّاس عِنْد الْحَشْر بِهِ؛ لِأَنَّهُ يمرج بَعضهم فِي بعض.

5

وَقَوله: {وَتَكون الْجبَال كالعهن} أَي: الصُّوف الَّذِي يدف، والعهن هُوَ الصُّوف الْمَصْبُوغ، وَهُوَ أرْخى مَا يكون من الصُّوف، وَذكر هَذَا على معنى أَن الْجبَال من هول يَوْم الْقِيَامَة مَعَ صلابتها وقوتها تصير كالعهن المنفوش.

6

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من ثقلت مَوَازِينه فَهُوَ فِي عيشة راضية} . قَالَ الْفراء والزجاج: أَي ذَات رضَا. وَقيل: مرضية.

8

وَقَوله: {وَأما من خفت مَوَازِينه} فِي بعض التفاسير: أَن لكل إِنْسَان ميزانا على حِدة لعمله من الْخَيْر وَالشَّر.

9

وَقَوله: {فأمه هاوية} أَي مرجعه إِلَى الهاوية، وسماها أمه؛ لِأَن الْإِنْسَان يأوي إِلَى

{مَوَازِينه (6) فَهُوَ فِي عيشة راضية (7) وَأما من خفت مَوَازِينه (8) فأمه هاوية (9) وَمَا أَدْرَاك مَا هية (10) نَار حامية (11) } أمه؛ فالهاوية تؤوي الْكفَّار، فَهِيَ أمّهم، وَفِي بعض الْأَخْبَار فِي نعت النَّار: فبئست الْأُم، وبئست المربية، وَيُقَال: الهاوية كل مَوضِع يهوى فِيهِ الْإِنْسَان وَيهْلك.

10

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا هية} الْهَاء فِي قَوْله: {مَا هية} هَاء الْوَقْف على فَتْحة الْيَاء.

11

وَقَوله: (نَار حامية) أَي: حامية على الْكفَّار محرقة لَهُم، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {أَلْهَاكُم التكاثر (1) حَتَّى زرتم الْمَقَابِر (2) كلا سَوف تعلون (3) ثمَّ كلا سَوف تعلمُونَ (4) كلا لَو تعلمُونَ علم الْيَقِين (5) لترون الْجَحِيم (6) ثمَّ} تَفْسِير سُورَة التكاثر وَهِي مَكِّيَّة

التكاثر

قَول تَعَالَى: {أَلْهَاكُم التكاثر} أَي: شغلكم التكاثر بالأموال وَالْأَوْلَاد عَمَّا أمرْتُم بِهِ.

2

وَقَوله: {حَتَّى زرتم الْمَقَابِر} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: حَتَّى متم، وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ أَنه تفاخر حَيَّان من قُرَيْش، وهما بَنو عبد منَاف، وَبَنُو الزهرة، وَقيل: بَنو زهرَة وَبَنُو جمح - وَهُوَ الْأَصَح - فعدوا الْأَحْيَاء فكثرتهم بَنو زهرَة فعدوا الْأَمْوَات فكثرتهم بَنو جمح، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى زرتم الْمَقَابِر} أَي: عددتم من فِي الْقُبُور. وروى شُعْبَة، عَن قَتَادَة، عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عَن أَبِيه قَالَ: انْتَهَيْت إِلَى رَسُول الله وَهُوَ يَقُول: " أَلْهَاكُم التكاثر " قَالَ: يَقُول ابْن آدم: مَالِي مَالِي، وَمَا لَك من مَالك إِلَّا مَا أكلت فأفنيت، أَو لبست فأبليت، أَو تَصَدَّقت فأمضيت؟ ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الصريفيني الْمَعْرُوف بِابْن هزارمرد، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا عَليّ بن الْجَعْد، عَن شُعْبَة. . الحَدِيث، خرجه مُسلم عَن بنْدَار، عَن غنْدر، عَن شُعْبَة.

3

وَقَوله تَعَالَى: {كلا سَوف تعلمُونَ} تهديد ووعيد.

4

وَقَوله: {ثمَّ كلا سَوف تعلمُونَ} تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وَعِيد، وَالْمعْنَى: ستعلمون عَاقِبَة تفاخركم وتكاثركم إِذا نزل بكم الْمَوْت.

{لترونها عين الْيَقِين (7) }

5

قَوْله تَعَالَى: {كلا لَو تعلمُونَ عل الْيَقِين} جَوَابه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: كلا لَو تعلمُونَ علم الْيَقِين لارتدعتم عَمَّا تَفْعَلُونَ، وَقيل: مَا أَلْهَاكُم التكاثر.

6

وَقَوله: {لترون الْجَحِيم ثمَّ لترونها عين الْيَقِين} قَالَ بَعضهم: الثَّانِي تَأْكِيد للْأولِ، وَالْمعْنَى فيهمَا وَاحِد، وَقَالَ بَعضهم: لترون الْجَحِيم عَن بعد إِذا أبرزت، ثمَّ لترونها عين الْيَقِين إِذا دخلتموها. وَعَن قَتَادَة قَالَ: كُنَّا نتحدث أَن علم الْيَقِين أَن يعلم أَن الله باعثه بعد الْمَوْت. وَيُقَال: لترون الْجَحِيم فِي الْقَبْر، ثمَّ لترونها عين الْيَقِين فِي الْقِيَامَة.

8

وَقَوله: {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: النَّعيم صِحَة الْأَبدَان والأسماع والأبصار، يسْأَل الله تَعَالَى عباده يَوْم الْقِيَامَة فيمَ استعملوها؟ وَهُوَ أعلم بذلك مِنْهُم. وَعَن ابْن مَسْعُود: أَنه الْأَمْن وَالصِّحَّة. وَعَن قَتَادَة: هُوَ الْمطعم الهني وَالْمشْرَب الروي. وروى أَبُو هُرَيْرَة مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي " أَنه الظل الْبَارِد وَالْمَاء الْبَارِد ". وروى عمر بن أبي سَلمَة أَن النَّبِي وَأَبا بكر وَعمر أَتَوا منزل أبي الْهَيْثَم بن التيهَان، وأكلوا عِنْده لَحْمًا وَتَمْرًا، ثمَّ قَالَ النَّبِي: " هَذَا من النَّعيم الَّذِي تسْأَلُون عَنهُ ". وروى أَن عمر قَالَ: " يَا رَسُول الله، نسْأَل عَن هَذَا؟ قَالَ: نعم إِلَّا كسرة يسد الرجل بهَا جوعه، وخرقة يستر بهَا عَوْرَته، وحجرا يدْخل فِيهِ من الْحر والقر ". وروى ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد قَالَ: كل لذات الدُّنْيَا. وَعَن بَعضهم: النّوم مَعَ الْعَافِيَة.

{ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم (8) } وَذكر أَبُو عِيسَى أَخْبَارًا فِي هَذِه، مِنْهَا مَا روينَا من حَدِيث مطرف، وَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وَمِنْهَا حَدِيث الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن زر بن حُبَيْش، عَن عَليّ قَالَ: مَا زلنا نشك فِي عَذَاب الْقَبْر حَتَّى نزلت {أَلْهَاكُم التكاثر} . قَالَ أَبُو عِيسَى: وَهُوَ حَدِيث غَرِيب. وَمِنْهَا حَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب، عَن عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، عَن أَبِيه قَالَ: " لما نزلت {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قَالَ الزبير: يَا رَسُول الله، وَأي النَّعيم يسْأَل عَنهُ، وَإِنَّمَا هما الأسودان: التَّمْر وَالْمَاء؟ قَالَ: أما إِنَّه سَيكون " قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن. وروى عَن مُحَمَّد بن عَمْرو، عَن أبي سَلمَة، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: " لما نزلت هَذِه الْآيَة: {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} قَالَ النَّاس: يَا رَسُول الله، عَن أَي النَّعيم نسْأَل، وَإِنَّمَا هما الأسودان، والعدو حَاضر، وسيوفنا على عواتقنا؟ قَالَ: إِن ذَلِك سَيكون ". روى عَن الضَّحَّاك بن عبد الرَّحْمَن [بن] عَرْزَم الْأَشْعَرِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله: " إِن أول مَا يسْأَل عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة - يَعْنِي العَبْد من النَّعيم - أَن يُقَال لَهُ: ألم نصحح لَك جسمك، ونروك من المَاء الْبَارِد ". قَالَ: وَهُوَ حَدِيث غَرِيب، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {وَالْعصر (1) إِن الْإِنْسَان لفي خسر (2) إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ (3) } تَفْسِير سُورَة الْعَصْر وَهِي مَكِّيَّة

العصر

قَوْله تَعَالَى: {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان} قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدَّهْر، وَفِيه الْعبْرَة لمرور اللَّيْل وَالنَّهَار أَنَّهُمَا على تَرْتِيب وَاحِد. وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: أَنه الْعشي. قَالَ الشَّاعِر: (تروح بِنَا عمر وَقد قصر الْعَصْر ... وَفِي الروحة الأولى المثوبة وَالْأَجْر) والعصران: هما اللَّيْل وَالنَّهَار، وَيُقَال: هما الْغَدَاة والعشي. وَقَالَ مقَاتل: الْعَصْر هُوَ صَلَاة الْعَصْر. وَعَن بَعضهم: أَنه عصر النَّبِي أقسم بِهِ، وَحكى أَن فِي حرف عَليّ: " الْعَصْر ونوائب الدَّهْر إِن الْإِنْسَان لفي خسر. وَهُوَ فِيهِ إِلَى آخر الْعُمر ". وَقَالَ الزّجاج: وَالْمعْنَى: وَرب الْعَصْر. وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} مَعْنَاهُ: لفي غبن، وَيُقَال: فِي شَرّ، وَيُقَال: فِي هَلَاك، والخسران هُوَ ذهَاب رَأس المَال، وَرَأس مَال الْآدَمِيّ هُوَ عمره وَنَفسه، فَإِذا كفر فقد ذهب رَأس مَاله، وَالْإِنْسَان هُوَ الْكَافِر، وَقيل: وَاحِد بِمَعْنى الْجمع، وَقيل: هُوَ فِي كَافِر بِعَيْنِه، فَقيل: إِنَّه أبي بن خلف، وَقيل: وليد بن الْمُغيرَة، وَقيل: أَبُو جهل بن هِشَام.

3

وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: بالطاعات. وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} قَالَ الْحسن وَقَتَادَة: أَي بِالْقُرْآنِ واتباعه، وَقيل: بِالتَّوْحِيدِ. وَعَن السّديّ: بِاللَّه أَي: تواصوا بِاللَّه، وَعَن الفضيل بن عِيَاض قَالَ: يحث بَعضهم بَعْضًا على طَاعَة الله.

وَقَوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} عَن الْمعاصِي، وَقيل: بِالصبرِ على الطَّاعَة، وَقد ورد خبر غَرِيب بِرِوَايَة أبي أُمَامَة أَن قَوْله: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} هُوَ أَبُو جهل بن هِشَام. وَقَوله: {إِلَّا الَّذين آمنُوا} هُوَ أَبُو بكر {وَعمِلُوا الصَّالِحَات} هُوَ عمر {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} هُوَ عُثْمَان {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} هُوَ عَليّ، رَضِي الله عَنْهُم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {ويل لكل همزَة لُمزَة (1) الَّذِي جمع مَالا وعدده (2) يحْسب أَن مَاله أخلده (3) كلا لينبذن فِي الحطمة (4) وَمَا أَدْرَاك مَا الحطمة (5) نَار الله الموقدة} تَفْسِير سُورَة الْهمزَة وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم

الهمزة

قَوْله تَعَالَى: {ويل لكل همزَة} قد بَينا معنى الويل. وَقَوله: {همزَة لُمزَة} قَالَ ابْن عَبَّاس: الْهمزَة الَّذِي يطعن فِي النَّاس ويعيبهم، واللمزة هُوَ الَّذِي يغتابهم وَمثله عَن مُجَاهِد، وَقيل على الْعَكْس، فالهمزة هُوَ المغتاب، واللمزة الَّذِي يطعن فِي النَّاس، قَالَه السّديّ وَغَيره، وَعَن بَعضهم: أَن الْهمزَة هُوَ الَّذِي يُؤْذِي النَّاس بِلِسَان أَو يَد، واللمزة هُوَ الَّذِي يؤذيهم بحاجب (وَعين) ، وَهُوَ قَول غَرِيب، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَن الْآيَة نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق الزُّهْرِيّ، وَهُوَ قَول مَعْرُوف، وأنشدوا فِي الْهمزَة واللمزة: (تدلى بودي إِذا لاقيتني كذبا ... وَإِن تغيبت كنت الهامز اللمزة)

2

وَقَوله: {الَّذِي جمع مَالا وعدده} بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فَقَوله: {جمع} بِالتَّخْفِيفِ مَعْلُوم، وبالتشديد فَالْمَعْنى: أَنه جمع من كل وَجه شَيْئا فَشَيْئًا. وَقَوله: {وعدده} أَي أعده لنَفسِهِ ولحوادثه، وَقُرِئَ: " وعدده " بِالتَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ: جمع عددا أَي: قوما وأنصارا يتقوى بهم.

3

وَقَوله: {يحْسب أَن مَاله أخلده} أَي: يبْقى حَتَّى بَقِيَّته، قَالَه الْحسن، وَقَالَ بَعضهم: أَي: يمْنَع الْمَوْت عَنهُ.

4

وَقَوله: {كلا لينبذن فِي الحطمة} هُوَ اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم، وَقَرَأَ ابْن مصرف:

( {6) الَّتِي تطلع على الأفئدة (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة (8) فِي عمد ممددة (9) " لينبذن فِي الحطمة " يَعْنِي: نَفسه وَمَاله، وَسميت النَّار حِكْمَة؛ لِأَنَّهَا تَأْكُل كل شَيْء. يُقَال: رجل حُطَمة أَي: أكول، وَقيل: لِأَنَّهَا تكسر كل شَيْء من الحطم وَهُوَ الْكسر.

5

وَقَوله: {وَمَا أَدْرَاك مَا الحطمة} قد بَينا.

6

وَقَوله: {نَار الله الموقدة الَّتِي تطلع على الأفئدة} يَعْنِي: يصل ألمها ووجعها إِلَى الْفُؤَاد. قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: تَأْكُل النَّار أَجْسَادهم، فَإِذا وصلت النَّار إِلَى الْقلب أعيدوا كَمَا كَانُوا، وتعود النَّار إِلَى أكلهم فَهَكَذَا أبدا.

8

وَقَوله: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مؤصدة} قَالَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة: مطبقة، وَقيل: مغلقة. يُقَال: أصدت الْبَاب أَي أغلقته.

9

وَقَوله: {فِي عمد} وَقُرِئَ " فِي عمد ممددة " بِفَتْح الْعين وَرَفعه، وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَطَلْحَة وَيحيى بن وثاب: " بعمد ممدة " وَهُوَ معنى الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَعَن بَعضهم: أَن الْعمد الممدة هِيَ الأغلال فِي أَعْنَاقهم، وَعَن بَعضهم: [هُوَ] الْقُيُود فِي أَرجُلهم، وَعَن بَعضهم: قيود على قبرهم من نَار يُعَذبُونَ فِيهَا، وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ أَنَّهَا مطبقة بعمد يَعْنِي: مسدودة لَا يخرج مِنْهَا غمر، وَلَا يدخلهَا روح. وَعَن قَتَادَة: يُعَذبُونَ بالعمد، وَهِي جمع عَمُود. وَعَن أبي جَعْفَر الْقَارئ: أَنه بَكَى مرّة حِين قُرِئت هَذِه السُّورَة عَلَيْهِ، فَقيل لَهُ: مَا يبكيك يَا أَبَا جَعْفَر؟ قَالَ: أَخْبرنِي زيد بن أسلم أَن أهل النَّار لَا يتنفسون فَذَلِك أبكاني. وَقَوله: {ممدة} وَقيل: مُطَوَّلَة، وَيُقَال: ممدودة. وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَنه يبْقى رجل من الْمُؤمنِينَ فِي النَّار ألف سنة يَقُول: يَا حنان، يَا منان، وَهُوَ فِي شعب من شعاب النَّار، فَيَقُول الله لجبريل: أخرج عَبدِي من النَّار، فَيَجِيء جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فيجد النَّار مؤصدة أَي: مطبقة، فَيَعُود وَيَقُول: يَا رب، إِنِّي وجدت النَّار مؤصدة،

فَيَقُول: يَا جِبْرِيل عد وَفَكهَا، وَأخرج عَبدِي من النَّار، فَيَعُود جِبْرِيل ويخرجه، وَهُوَ مثل الْخلال (أسود) فيلقيه على سَاحل الْجنَّة حَتَّى ينْبت الله لَهُ شعرًا وَلَحْمًا ودما ويدخله الْجنَّة. رَوَاهُ عَن سعيد بن جُبَير، وَذكر أَن النَّار تطبق عَلَيْهِم لييأسوا من الْخُرُوج مِنْهَا، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل (1) } تَفْسِير سُورَة الْفِيل وَهِي مَكِّيَّة

الفيل

قَوْله تَعَالَى: {ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} الْفِيل دَابَّة مَعْلُومَة، وَمعنى قَوْله: {ألم تَرَ} أَي: ألم تعلم؟ وَقيل: ألم تَرَ آثَار مَا فعل رَبك بأصحاب الْفِيل. وَأَصْحَاب الْفِيل هم جند من الْحَبَشَة أَمِيرهمْ أَبْرَهَة بن الصَّباح أَبُو يكسوم وَقيل: غَيره. غزوا الْكَعْبَة، وقصدوا تخريبها وهدمها، وَأَصَح مَا حكى فِي سَببه أَن أَبْرَهَة كَانَ نَصْرَانِيّا بني بيعَة بِصَنْعَاء الْيمن، وزينها بالفاخر من الثِّيَاب والجواهر، وَقَالَ: بنيت هَذَا، يحجه الْعَرَب وأكفهم عَن حج الْكَعْبَة، وَأمر النَّاس بذلك وأجبرهم عَلَيْهِ، فجَاء رجل من الْعَرَب - وَقيل: إِنَّه كَانَ من بني كنَانَة - وَدخل الْبيعَة، وأحدث فِيهَا وهرب، فَذكر ذَلِك لأبرهة فَغَضب غَضبا شَدِيدا وَحلف بالنصرانية والمسيح ليغزون الْكَعْبَة، وليهدمنها حجرا حجرا، ثمَّ إِنَّه غزا الْكَعْبَة مَعَ جَيش عَظِيم. وَفِيه قصَّة طَوِيلَة، وسَاق مَعَ نَفسه فيلا يُقَال لَهُ: مَحْمُود، وَقيل: كَانَت ثَمَانِيَة من الفيلة أكبرها هَذَا الْفِيل، وَلَقي فِي الطَّرِيق جندا من الْعَرَب وَهَزَمَهُمْ، وَقتل مِنْهُم حَتَّى أَتَى الطَّائِف، ثمَّ إِنَّه توجه من الطَّائِف إِلَى مَكَّة، وَدَلِيله أَبُو رِغَال، فَمَاتَ أَبُو رِغَال فِي الطَّرِيق فقبره هُوَ الْقَبْر الَّذِي تَرْجمهُ الْعَرَب، وَهُوَ بَين مَكَّة والطائف، وَنزل أَبْرَهَة والجند بالمغمس، وَسمع أهل مَكَّة بذلك، وسيدهم يَوْمئِذٍ عبد الْمطلب بن هَاشم، وأغار الْجند على مَا وجدوا من أَمْوَال أهل مَكَّة وإبلهم، وَأخذُوا مِائَتي بعير لعبد الْمطلب ثمَّ إِنَّه جَاءَ عبد الْمطلب، إِلَى أَبْرَهَة فِي طلب بعيره - وَكَانَ رجلا جسيما وسيما - فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَة أعجبه حسنه وجماله فَقَالَ: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ: أَن ترد على إبلي. فَقَالَ لِترْجُمَانِهِ: قل

{ألم يَجْعَل كيدهم فِي تضليل (2) } لَهُ: أعجبني مَا رَأَيْت من هيئتك، ثمَّ رغبت عَنْك حِين سَمِعت كلامك، فَقَالَ عبد الْمطلب: وَمَا الَّذِي رغب الْملك عني؟ فَقَالَ: جِئْت لأهدم شرفك وَشرف آبَائِك، فَتركت ذكره وَسَأَلتنِي إبِلا أخذت لَك! فَقَالَ لَهُ عبد الْمطلب: أَنا رب الْإِبِل، وَإِن للبيت رَبًّا يمنعهُ، فَأمر برد الْإِبِل عَلَيْهِ، فَعَاد عبد الْمطلب، وَأمر أهل مَكَّة حَتَّى تَنْصَرِف فِي رُءُوس الْجبَال، وَقَالَ: قد جَاءَكُم مَالا قبل لكم بِهِ. ثمَّ أَخذ عبد الْمطلب بِحَلقَة الْكَعْبَة وَقَالَ: (يَا رب: لَا أَرْجُو لَهُم سواكا ... يَا رب، فامنع مِنْهُم حماكا) (إِن عَدو الْبَيْت من عاداك ... ) وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَنه قَالَ: (يَا رب إِن الْمَرْء يمْنَع ... حلّه فامنع حلالك) (لَا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك) والمحال: الْعقُوبَة. (إِن كنت تاركهم وكعبتنا ... فامر مَا بدالك) ثمَّ خرج مَعَ الْقَوْم وخلوا مَكَّة، فروى أَن الْفِيل كَانَ إِذا أحس التَّوَجُّه قبل مَكَّة امْتنع، فَإِذا وَجه نَحْو الْيمن أسْرع وهرول، وَحبس الله الْفِيل عَن الْبَيْت، وَهُوَ معنى مَا ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة حِين بَركت نَاقَته - وَهِي الْقَصْوَاء - وَقَالَ النَّاس: خلأت الْقَصْوَاء فَقَالَ النَّبِي: " لَا، لَكِن حَبسهَا حَابِس الْفِيل " ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعث عَلَيْهِم طيرا خرجت من قبل الْبَحْر، قَالَ ابْن عَبَّاس: لَهَا خراطيم الطير وأنف الْكلاب، وَقيل: كَانَت سَوْدَاء، وَقيل: حَمْرَاء، وَمَعَ كل طير ثَلَاثَة أَحْجَار: حجران فِي كفيه، وَحجر فِي منقاره، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر كَانَ دون الحمص وَفَوق

{وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مَأْكُول (5) العدس، فَجَاءَت الطير ورمتهم بالأحجار، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر كَانَ يُصِيب رَأس الْإِنْسَان، فَيخرج من دبره، فَيسْقط وَيَمُوت، وَكَانَ إِذا وَقع على جَانب مِنْهُ خرج من الْجَانِب الآخر، وهرب الْقَوْم وتساقطوا فِي الطَّرِيق. وَقيل: إِن الْحجر إِذا أصَاب الْوَاحِد مِنْهُم نفط مَوْضِعه وأصابه الجدري، فَهُوَ أول مَا رئى الجدري فِي ديار الْعَرَب، وَالله أعلم. وَأما أَبْرَهَة فتساقط فِي الطَّرِيق أُنْمُلَة أُنْمُلَة، ثمَّ إِنَّه انصدع صَدره عَن قلبه وَمَات. وعام الْفِيل هُوَ الْعَام الَّذِي ولد فِيهِ النَّبِي، وَقد قيل: إِنَّه ولد بعد ذَلِك بِسنتَيْنِ، وَالصَّحِيح هُوَ الأول، وَقَالَ أهل الْعلم: كَانَ ذَلِك إرهاصا لنبوة النَّبِي وتأسيسا بهَا.

2

قَوْله تَعَالَى: {ألم يَجْعَل كيدهم فِي تضليل} أَي: أبطل مَكْرهمْ وسعيهم، وَيُقَال: قَوْله: {فِي تضليل} أَي: ضل عَنْهُم، وفاتهم مَا قصدُوا.

3

وَقَوله: {وَأرْسل عَلَيْهِم طيرا أبابيل} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: جماعات فِي تَفْرِقَة، وَعند أبي عُبَيْدَة وَالْفراء: لَا وَاحِد لَهَا، وَعند الْكسَائي: وَاحِدهَا: أبول مثل عجاجيل وعجول. وَيُقَال: طيرا أبابيل أَي: كَثِيرَة، وَيُقَال: أقاطيع يتبع بَعْضهَا بَعْضًا.

4

وَقَوله: {ترميهم بحجارة من سجيل} قَالَ ابْن عَبَّاس: السجيل بِالْفَارِسِيَّةِ (سنك) كل، وَيُقَال: من سجيل من السَّمَاء، وَهُوَ اسْم سَمَاء الدُّنْيَا.

5

وَقَوله: {فجعلهم كعصف مَأْكُول} العصف: هُوَ ورق الزَّرْع، وَمَعْنَاهُ: كعصف قد أكل مَا فِيهِ، وَقيل: كل ثمره. وَالْمعْنَى: أَن الله تَعَالَى شبههم بالزرع الَّذِي أَكلته الدَّوَابّ وراثته وَتَفَرَّقَتْ، وَلم يبْق من ذَلِك شَيْء فَشبه هلاكهم بذلك، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {لِإِيلَافِ قُرَيْش (1) تَفْسِير سُورَة لِإِيلَافِ وَهِي مَكِّيَّة

قريش

قَوْله تَعَالَى: {لِإِيلَافِ قُرَيْش} روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {لِإِيلَافِ قُرَيْش} قَالَ: نعمتي على قُرَيْش بإيلافهم رحْلَة الشتَاء والصيف. والإيلاف فِي اللُّغَة هُوَ ضد الإيجاش، وَهُوَ نَظِير الإيناس، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى ابْتِدَاء السُّورَة بِاللَّامِ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: اعجبوا لِإِيلَافِ قُرَيْش وتركهم الْإِيمَان بِي، كَأَنَّهُ يذكر نعْمَته عَلَيْهِم، وَيذكر كفرانهم لنعمته بترك الْإِيمَان، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: أَن هَذَا مُتَّصِل فِي الْمَعْنى بالسورة الْمُتَقَدّمَة، وَكَأَنَّهُ قَالَ: {فجعلهم كعصف مَأْكُول لِإِيلَافِ قُرَيْش} أَي: ليبقى لَهُم مَا ألفوه من رحلتي الشتَاء والصيف. وَذكر القتيبي فِي معنى السُّورَة: أَن الْقَوْم لم يكن لَهُم زرع وَلَا ضرع إِلَّا الْقَلِيل، وَكَانَت مَعَايشهمْ من التِّجَارَة وَكَانَت لَهُم رحلتان: رحْلَة فِي الصَّيف إِلَى الشَّام، ورحلة فِي الشتَاء إِلَى الْيمن، وَقيل: غير هَذَا، وَكَانُوا إِذا خَرجُوا من مَكَّة لَا يتَعَرَّض لَهُم أحد، فَإِذا لَقِيَهُمْ قوم قَالُوا: نَحن أهل الله فيكفون عَنْهُم وَلَا يحاجون. وروى أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن من حرم الله، فَتَقول الْعَرَب: هَؤُلَاءِ أهل الله فيكفون عَنْهُم، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا أَنا جعلنَا حرما آمنا وَيُتَخَطَّف النَّاس من حَولهمْ} فَذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة وَالسورَة الْمُتَقَدّمَة منته عَلَيْهِم فِي دفع أَصْحَاب الْفِيل عَنْهُم، ليبقى لَهُم مَا ألفوه من التِّجَارَة فِي رحلتي الشتَاء والصيف. وَأما قُرَيْش: فهم أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة، فَكل من كَانَ من أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة فَهُوَ

{إيلافهم رحْلَة الشتَاء والصيف (2) فليعبدوا رب هَذَا الْبَيْت (3) الَّذِي أطْعمهُم من جوع وآمنهم من خوف (4) } قرشي وَاخْتلفُوا فِي اشتقاق هَذَا الِاسْم، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: سموا قُريْشًا للتِّجَارَة، وَكَانُوا أهل تِجَارَة، والقرش: الْكسْب، يُقَال: كَانَ فلَان يقرش لِعِيَالِهِ ويقترش أَي: يكْتَسب. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه سميت قُرَيْش قُريْشًا بِدَابَّة تكون فِي الْبَحْر، يُقَال لَهَا: القرش، لَا تمر بغث وَلَا سمين إِلَّا أَكلته وأنشدوا فِي ذَلِك: (وقريش هِيَ الَّتِي تسكن الْبَحْر ... وَبهَا سميت قُرَيْش قُريْشًا) (تَأْكُل الغث والسمين وَلَا تتْرك ... فِيهِ لذِي الجناحين ريشا) (هَكَذَا فِي الْبِلَاد هِيَ قُرَيْش ... يَأْكُلُون الْبِلَاد أكلا كميشا) (وَلَهُم آخر الزَّمَان نَبِي ... يكثر الْقَتْل فيهم والخموشا)

3

وَقَوله: {فليعبدوا رب هَذَا الْبَيْت الَّذِي أطْعمهُم من جوع} قَالَ ذَلِك لأَنهم كَانُوا يجلبون الطَّعَام من الْمَوَاضِع الْبَعِيدَة وَكَانَ هُوَ الَّذِي يسهل لَهُم ذَلِك، ويرزقهم إِيَّاهَا بتيسير أَسبَابهَا لَهُم. وَقَوله: {وآمنهم من خوف} أَي: من خوف الْغَارة وَالْقَتْل على مَا قُلْنَا، وَقيل: من خوف الجذام، وَالأَصَح هُوَ الأول. وَفِي بعض التفاسير: أَن أول من جمع قُريْشًا على رحلتي الشتَاء والصيف هَاشم بن عبد منَاف، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ فِي بضائعهم باسم الْفُقَرَاء شَيْئا مَعْلُوما فَإِذا رجعُوا أعطوهم ذَلِك تقربا إِلَى الله. وَقَالَ الشَّاعِر فِي هَاشم: (عَمْرو الْعلَا هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ ... وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف) (الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حَتَّى يصير فقيرهم كالكاف)

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {أَرَأَيْت الَّذِي يكذب بِالدّينِ (1) فَذَلِك الَّذِي يدع الْيَتِيم (2) وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين (3) فويل للمصلين (4) } تَفْسِير سُورَة أَرَأَيْت وَهِي مَكِّيَّة وَقيل: إِنَّهَا مَدَنِيَّة، وَقيل: نصفهَا مَكِّيَّة، وَنِصْفهَا مَدَنِيَّة، فالنصف الأول إِلَى قَوْله {فويل للمصلين} مَكِّيَّة، وَالنّصف الْبَاقِي مَدَنِيَّة، وَالله أعلم.

الماعون

قَوْله تَعَالَى: {أَرَأَيْت الَّذِي يكذب بِالدّينِ} أَي: بالجزاء، وَقيل: بِالْحِسَابِ، قَالَه مُجَاهِد، وَالْمعْنَى: أَرَأَيْت من يكذب بِالدّينِ أمخطئ هُوَ أم مُصِيب؟ يَعْنِي: أَنه مُخطئ فَلَا توافقه وَلَا تتبعه.

2

وَقَوله: {فَذَلِك الَّذِي يدع الْيَتِيم} وَورد فِي الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ: " من ضم يَتِيما من بَين الْمُسلمين إِلَى نَفسه، وَجَبت لَهُ الْجنَّة ". وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَدعُ الْيَتِيم " أَي: يتْرك الْعَطف عَلَيْهِ وَالرَّحْمَة لَهُ.

3

وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا يحض على طَعَام الْمِسْكِين} قيل: لَا يطعم بِنَفسِهِ، وَلَا يَأْمر بِهِ غَيره.

4

قَوْله تَعَالَى: {فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} قَالَ قَتَادَة: غافلون. وروى الْمُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: مضيعون للْوَقْت، وَهَذَا قَول مَعْرُوف، وَهُوَ وَارِد عَن جمَاعَة من التَّابِعين، وَذكروا أَن المُرَاد بالسهو هَاهُنَا هُوَ تَأْخِير الصَّلَاة عَن وَقتهَا، وَالْقَوْل الثَّالِث: وَهُوَ أَن الْآيَة وَردت فِي الْمُنَافِقين. وَمعنى قَوْله: {الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون} يَعْنِي: أَنهم إِن صلوها لم يرجوا

{الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون (5) الَّذين هم يراءون (6) وَيمْنَعُونَ الماعون (7) } ثَوابًا، وَإِن تركوها لم يخَافُوا عقَابا. قَالَ ابْن زيد: هم المُنَافِقُونَ صلوها، وَلَيْسَت الصَّلَاة من شَأْنهمْ. وروى الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هم المُنَافِقُونَ، كَانُوا إِذا حَضَرُوا صلوها رِيَاء، وَإِذا غَابُوا تركوها. وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: هُوَ الْمُنَافِق، إِذا رأى النَّاس صلى، وَإِذا لم ير النَّاس لم يصل. وَقيل: ساهون أَي: لاهون، وَالْمعْنَى أَنهم يشتغلون بِغَيْرِهِ عَنْهَا.

6

وَقَوله: {الَّذين هم يراءون} قد بَينا.

7

وَقَوله: {وَيمْنَعُونَ الماعون} قَالَ عَليّ: هُوَ الزَّكَاة، حَكَاهُ مُجَاهِد عَنهُ، وَهَذَا القَوْل محكي أَيْضا عَن الْحسن وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْعَارِية، وَسميت ماعونا: لِأَن النَّاس يعين بَعضهم بَعْضًا. وَقد ورد فِي الْخَبَر: أَنه مثل المَاء وَالْملح والفأس وَالْقدر والمقدحة وَمَا أشبه ذَلِك. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي مَا الَّذِي لَا يحل مَنعه؟ قَالَ: " المَاء وَالْملح وَالنَّار ". وَفِي بعض الرِّوَايَات زِيَادَة: " وَالْحجر والدلو ". وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس عَن أَبِيه فَارس، أَن الماعون هُوَ المَاء، حَكَاهُ عَن أهل اللُّغَة، وَقد ذكره النّحاس أَيْضا فِي كِتَابه. وأنشدوا: (يمج صبيرة الماعون مجا ... ) وأنشدوا فِي الماعون بِمَعْنى الزَّكَاة: (قوم على الْإِسْلَام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا)

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر (1) } تَفْسِير سُورَة الْكَوْثَر وَهِي مَكِّيَّة روى الْمُخْتَار بن فلفل عَن أنس قَالَ: " بَينا رَسُول الله ذَات يَوْم بَين أظهرنَا، إِذا أغفى إغْفَاءَة، ثمَّ رفع رَأسه مُتَبَسِّمًا، فَقلت: مَا أضْحكك يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: أنزلت عليَّ آنِفا سُورَة " فَقَرَأَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فَصلي لِرَبِّك وانحر إِن شانئك هُوَ الأبتر} ثمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَر؟ قُلْنَا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: فَإِنَّهُ نهر وعدنيه رَبِّي خيرا كثيرا، هُوَ حَوْضِي ترد عَلَيْهِ أمتِي يَوْم الْقِيَامَة، آنيته عدد نُجُوم السَّمَاء، فيختلج العَبْد مِنْهُم، فَأَقُول: رب إِنَّه من أمتِي، فَيَقُول: إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك ". رَوَاهُ مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، عَن عَليّ بن مسْهر عَن الْمُخْتَار بن فلفل.

الكوثر

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} قد بَينا. وروى همام، عَن قَتَادَة عَن أنس أَن رَسُول الله قَالَ: " بَينا أَنا أَسِير فِي الْجنَّة إِذا بنهر حافتاه قباب اللُّؤْلُؤ المجوف، فَقلت: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل؟ فَقَالَ: هَذَا الْكَوْثَر الَّذِي أَعْطَاك رَبك، فَضرب الْملك بِيَدِهِ، فَإِذا طينه مسك أذفر ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ:

{فصل لِرَبِّك وانحر (2) } أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحسن بن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا هدبة، عَن همام. . الحَدِيث. وَأخرجه البُخَارِيّ عَن هدبة، وَذكره أَبُو عِيسَى فِي كِتَابه بروايته عَن قَتَادَة، عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " بَينا أَنا أَسِير فِي الْجنَّة إِذا عرض [لي] نهر حافتاه قباب اللُّؤْلُؤ، قلت للْملك: مَا هَذَا؟ قَالَ هَذَا الْكَوْثَر الَّذِي أعطاكه الله، قَالَ: ثمَّ ضرب بِيَدِهِ إِلَى طينه فاستخرج مسكا، ثمَّ رفعت لي (سِدْرَة الْمُنْتَهى) فَرَأَيْت عِنْدهَا نورا عَظِيما ". قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح، وروى أَيْضا بطرِيق [محَارب] بن دثار عَن عبد الله بن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " الْكَوْثَر نهر فِي الْجنَّة، حافتاه من ذهب وَمَجْرَاهُ على الدّرّ والياقوت، [و] ترتبه أطيب من الْمسك، وماؤه أحلى من الْعَسَل، وأبيض من الثَّلج ". قَالَ: هُوَ حَدِيث حسن. وَفِي بعض التفاسير بِرِوَايَة عَائِشَة - رَضِي الله عَنْهَا - أَن النَّبِي قَالَ: " من أَرَادَ أَن يسمع خرير الْكَوْثَر، فَلْيدْخلْ أُصْبُعه فِي أُذُنه ". وَهُوَ غَرِيب جدا. وَفِي الْكَوْثَر قَول آخر، وَهُوَ أَنه الْخَيْر الْكثير، فَهُوَ فوعل من الْكَثْرَة، وَقد أعْطى الله

{إِن شانئك هُوَ الأبتر (3) } رَسُوله مُحَمَّدًا من الْخَيْر مَا لَا يُحْصى وَلَا يعد كَثْرَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْقُرْآن، وَقيل: الْعلم وَالْقُرْآن.

2

وَقَوله: {فصل لِرَبِّك وانحر} أَي: صل الصَّلَوَات الْخمس، وانحر الْبدن، وَقيل: صل بِجمع، وانحر بمنى، قَالَه مُجَاهِد وَعَطَاء، وَعَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَن معنى قَوْله: {وانحر} هُوَ وضع الْيَمين على الشمَال فِي الصَّلَاة على النَّحْر. وَقيل: وانحر واستقبل الْقبْلَة بنحرك. قَالَ الشَّاعِر: (أَبَا حكم هَل أَنْت عَم مجَالد ... وَسيد أهل الأبطح المتناحر) أَي: المتقابل. وروى مقَاتل بن حَيَّان، عَن الْأَصْبَغ بن نباتة، عَن عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " لما نزلت على النَّبِي {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر فصل لِرَبِّك وانحر} قَالَ النَّبِي لجبريل - عَلَيْهِ السَّلَام -: مَا هَذِه النحيرة الَّتِي أَمرنِي بهَا رَبِّي؟ قَالَ: إِنَّهَا لَيست بنحيرة، وَلكنه يَأْمُرك إِذا (تحرمت) بِالصَّلَاةِ، أَن ترفع يَديك إِذا كَبرت، وَإِذا ركعت، وَإِذا رفعت رَأسك من الرُّكُوع، فَإِنَّهَا من صَلَاتنَا وَصَلَاة الْمَلَائِكَة فِي السَّمَوَات السَّبع. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: أَن قوما كَانُوا يصلونَ وينحرون

لغير الله، فَقَالَ الله تَعَالَى: {فصل لِرَبِّك وانحر} أَي: اجْعَل صَلَاتك ونحرك لله.

3

وَقَوله: {إِن شانئك هِيَ الأبتر} أَكثر الْمُفَسّرين أَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي، كَانَ إِذا ذكر لَهُ رَسُول الله قَالَ: دعوا ذكره، فَإِنَّهُ أَبتر يَعْنِي: أَنه لَا ولد لَهُ، فَإِذا مَاتَ انْقَطع ذكره، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ، وَكَانَت قُرَيْش تَقول لمن مَاتَ ابْنه، أَو لم يكن لَهُ ابْن: أَبتر. فَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} يَعْنِي: مبغضك هُوَ الأبتر أَي: الَّذِي انْقَطع خَيره وَذكره فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والبتر هُوَ الْقطع. وَقيل إِن الْآيَة فِي عقبَة بن أبي معيط وَقيل: إِن المُرَاد بِهِ كَعْب بن الْأَشْرَف، قدم مَكَّة، فَقَالَت لَهُ قُرَيْش: مَا تَقول أَيهَا الحبر فِي هَذَا (الصنبور) ؟ أهوَ خير أم نَحن؟ إِنَّه سبّ ألهتنا، وَفرق جَمعنَا، وَنحن أهل حرم الله وحجيج بَيته وسدنته، فَقَالَ: بل أَنْتُم خير مِنْهُ، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن شانئك هُوَ الأبتر} فِيهِ.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ (2) وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد (3) وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد (5) لكم دينكُمْ} تَفْسِير سُورَة {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} وَهِي مَكِّيَّة

الكافرون

قَوْله تَعَالَى: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما قَرَأَ رَسُول الله سُورَة والنجم، وَألقى الشَّيْطَان على لِسَانه عِنْد ذكر أصنامهم: وَإِن شفاعتهن لترتجى، فَقَالَ الْكفَّار: يَا مُحَمَّد، نصطلح تعبد آلِهَتنَا سنة، ونعبد إلهك سنة، ونعظم إلهك، وتعظم آلِهَتنَا، وَذكروا من هَذَا النَّوْع شَيْئا كثيرا، فَحزن النَّبِي لمقالتهم، وَرجع إِلَى بَيته حَزينًا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه السُّورَة، وَهِي {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ لَا أعبد مَا تَعْبدُونَ} أَي: الْيَوْم.

3

{وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} الْيَوْم.

4

{وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ} فِي الْمُسْتَقْبل.

5

{وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} فِي الْمُسْتَقْبل.

6

{لكم دينكُمْ ولي دين} لكم جَزَاء عَمَلكُمْ، ولي جَزَاء عَمَلي. قَالُوا: وَهَذَا فِي قوم بأعيانهم، مِنْهُم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَأُميَّة بن خلف، وَالْعَاص بن وَائِل، وَالْأسود بن الْمطلب، وَقد كَانَ الله أخبر أَنهم يموتون على الْكفْر. وَقيل: إِن هَذِه السُّورَة نزلت قبل آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت بأية السَّيْف. وَقد ورد فِي الْخَبَر: أَن قِرَاءَة هَذِه السُّورَة بَرَاءَة من الشّرك. روى أَبُو خَيْثَمَة، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن فَرْوَة بن نَوْفَل، عَن أَبِيه أَنه أَتَى النَّبِي وَقَالَ: جِئْت يَا رَسُول الله لتعلمني شَيْئا أقوله عِنْد مَنَامِي، فَقَالَ: " إِذا أخذت مضجعك فاقرأ: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} ثمَّ نم على خاتمتها، فَإِنَّهَا بَرَاءَة من الشّرك ". وَعَن

{ولي دين (6) } بَعضهم قَالَ: " كنت أَمْشِي مَعَ النَّبِي فِي لَيْلَة ظلماء، فَسمع رجلا يقْرَأ: {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} فَقَالَ: أما هَذَا فقد برِئ من الشّرك، وَسمع رجلا يقْرَأ: {قل هُوَ الله أحد} فَقَالَ: أما هَذَا فقد غفر لَهُ ". وَفِي السُّورَة سُؤال مَعْرُوف، وَهُوَ السُّؤَال عَن معنى التكرير؟ وَقد أجبنا، وَيُقَال: إِنَّهُم كرروا عَلَيْهِ الْكَلَام مرّة بعد مرّة، فكرر الله تَعَالَى عَلَيْهِم الْإِجَابَة. وَفِي السُّورَة سُؤال آخر، وَهُوَ فِي قَوْله: {قل} كَيفَ قُرِئت هَذِه الْكَلِمَة، وَهِي أمره بِالْقِرَاءَةِ؟ وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: {قل هُوَ الله أحد} . وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن قَوْله: {قَول يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} جَمِيعه قُرْآن، وَنحن أمرنَا بِتِلَاوَة الْقُرْآن على مَا أنزل، فَنحْن نتلو كَذَلِك. وَفِي السُّورَة سُؤال ثَالِث وَهُوَ أَنه قَالَ: {وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أعبد} وَلم يقل: من أعبد؟ وَالْجَوَاب عَنهُ أَنه قَالَ ذَلِك على مُوَافقَة قَوْله: {وَلَا أَنا عَابِد مَا عَبدْتُمْ} وَقد قيل: إِن " مَا " بِمَعْنى " من " هَاهُنَا، وَالله أعلم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح (1) وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا (2) فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا (3) } تَفْسِير سُورَة النَّصْر وَهِي مَدَنِيَّة

النصر

قَوْله تَعَالَى: {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} أَجمعُوا على أَن الْفَتْح هُوَ فتح مَكَّة، وَقيل: إِن النَّصْر فِيهِ أَيْضا، وَيُقَال: إِن النَّصْر هُوَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَالْأول هُوَ الْأَظْهر وَالْأَشْهر.

2

وَقَوله: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا} أَي: زمرا زمرا، وفوجا فوجا. وَفِي التَّفْسِير: أَن رَسُول الله لما فتح مَكَّة قَالَ الْمُشْركُونَ: إِن مُحَمَّدًا قد نَصره الله على قُرَيْش، وهم أهل الله وَأهل حرمه، فقد منع الله الْفِيل عَنْهُم فَلَا يدان لأيد [أحد] بِمُحَمد يَعْنِي: لَا قُوَّة، فَدَخَلُوا فِي دينه أَفْوَاجًا وَكَانَت الْقَبِيلَة بأسرها تسلم، ووفد عَلَيْهِ الْوُفُود من الجوانب، وَدخل أَكثر ديار الْعَرَب فِي الْإِسْلَام، وَلم يبْق إِلَّا الْقَلِيل، وَقد كَانَ قبل ذَلِك يدْخل الْوَاحِد والاثنان على خوف شَدِيد، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {وَرَأَيْت النَّاس يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا} .

3

وَقَوله: {فسبح بِحَمْد رَبك} أَي: صل حامدا لِرَبِّك. وَالأَصَح أَن مَعْنَاهُ: {اذكره بالتحميد وَالشُّكْر لهَذِهِ النِّعْمَة الْعَظِيمَة، فَإِن التَّسْبِيح هُوَ بِمَعْنى الذّكر فَصَارَ معنى الْآيَة على هَذَا: فاذكر رَبك بالتحميد وَالشُّكْر. وَقَوله: {وَاسْتَغْفرهُ} أَي: اطلب التجاوز وَالْعَفو عَنهُ. وَقَوله: {إِنَّه كَانَ تَوَّابًا} أَي: تَوَّابًا على عباده، وَيُقَال: التواب هُوَ المسهل لسبيل التَّوْبَة، وَيُقَال: هُوَ الْقَابِل لَهَا.

وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس أَن فِي الصُّورَة نعي النَّبِي إِلَى نَفسه، وَأمره بالتسبيح وَالِاسْتِغْفَار ليَكُون؛ آخر أمره وخاتمة عمله على زِيَادَة الطَّاعَة وَالذكر لله. وَورد أَيْضا أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - كَانَ إِذا حضر الْمُهَاجِرين واستشارهم فِي شَيْء، أحضر مَعَهم عبد الله بن عَبَّاس، فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن لنا أَوْلَادًا مثله - يَعْنِي أَنَّك لَا تحضرهم - فَقَالَ: إِنَّه من حَيْثُ تعلمُونَ، ثمَّ إِنَّه سَأَلَهُمْ مرّة عَن هَذِه السُّورَة فَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى أَمر رَسُول الله بالتسبيح وَالِاسْتِغْفَار حِين جَاءَهُ الْفَتْح، وَدخل النَّاس فِي الدّين أَفْوَاجًا، فَسَأَلَ عبد الله بن عَبَّاس عَن معنى السُّورَة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن الله تَعَالَى نعى إِلَى رَسُول الله نَفسه بِهَذِهِ السُّورَة، وَأمره بِزِيَادَة الْعَمَل وَالذكر؛ ليَكُون خَاتِمَة عمره عَلَيْهِ فَقَالَ لسَائِر الْمُهَاجِرين: إِنَّمَا أحضرهُ لهَذَا وَأَمْثَاله، أَو كَلَام هَذَا مَعْنَاهُ، وَاللَّفْظ الْمَذْكُور فِي الصَّحِيح فِي هَذَا الْخَبَر أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أجل رَسُول الله أعلمهُ إِيَّاه فَقَالَ لَهُ عمر: وَالله لَا أعلم مِنْهَا إِلَّا مَا تعلم. وَقيل: إِن السُّورَة نزلت فِي أَوسط أَيَّام التَّشْرِيق. وَقيل: إِن رَسُول الله لم يَعش بعد هَذِه السُّورَة إِلَّا ثَمَانِينَ لَيْلَة. وَقد قيل: إِنَّهَا آخر سُورَة نزلت من الْقُرْآن كَامِلَة، وَالله أعلم.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {تبت يدا أبي لَهب وَتب (1) } تَفْسِير سُورَة تبت وَهِي مَكِّيَّة

المسد

قَوْله تَعَالَى: {تبت يدا أبي لَهب وَتب} سَبَب نزُول هَذِه السُّورَة هُوَ مَا روى أَبُو مُعَاوِيَة [الضَّرِير مُحَمَّد بن خازم] عَن الْأَعْمَش، عَم عَمْرو بن مرّة، عَن سعيد ابْن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صعد ذَات يَوْم الصَّفَا وَقَالَ: " يَا صَبَاحَاه " فاجتمعت قُرَيْش فَقَالُوا لَهُ: مَالك؟ فَقَالَ: " (أَرَأَيْتُم) لَو أَخْبَرتكُم أَن الْعَدو مصبحكم أَو ممسيكم، أما (تصدقونني؟) " قَالُوا: بلَى. قَالَ: " فَإِنِّي نَذِير لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد " فَقَالَ أَبُو لَهب: تَبًّا لَك، أَلِهَذَا دَعوتنَا جَمِيعًا فَأنْزل الله تَعَالَى: {تبت يدا أبي لَهب وَتب} إِلَى آخر السُّورَة ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، أخبرنَا جدي أَبُو الْهَيْثَم، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، أخبرنَا (مُحَمَّد) بن سَلام، عَن [أبي] مُعَاوِيَة. . الحَدِيث

{مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب (2) سيصلى نَارا ذَات لَهب (3) } قَوْله: {وَتب} قَالَ مقَاتل وَغَيره: خسرت، والتباب فِي اللُّغَة هُوَ الْهَلَاك، وَهُوَ الخسران أَيْضا. قَالَ الْفراء: الأول دُعَاء، وَالثَّانِي إِخْبَار، فَالْأول هُوَ قَوْله {تبت يدا أبي لَهب} وَالثَّانِي قَوْله: {وَتب} على مَا معنى الْخَبَر أَي: وَقد خسر وَهلك، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " وَقد تبت ".

2

وَقَوله: {مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب} أَي: لَا يدْفع عَنهُ مَاله وَولده شَيْئا من عَذَاب الله، فَيكون قَوْله: {وَمَا كسب} بِمَعْنى وَمَا ولد على هَذَا القَوْل. قَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: وَيبعد أَن تكون مَا بِمَعْنى من فِي اللُّغَة. فَقَوله: {وَمَا كسب} أَي: وَمَا كسب من جَاءَ وَمَا يُشبههُ وَأما أَبُو لَهب فَهُوَ عَم النَّبِي واسْمه عبد الْعزي، وَيُقَال: سمي أَبُو لَهب لتلهب وَجهه حسنا. وَذكره الله تَعَالَى بكنيته؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفا بذلك أَو لِأَن اسْمه كَانَ عبد الْعزي فكره أَن تنْسب عبوديته إِلَى غَيره. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن أَبَا لَهب انْتَفَى بني هَاشم، وانتسب إِلَى أبي أُميَّة، وَقَالَ: لَا أكون من قوم فيهم كَذَّاب مثل مُحَمَّد. وَمن الْمَعْرُوف عَن طَارق الْمحَاربي أَنه قَالَ: " كنت بسوق ذِي الْمجَاز فَإِذا أَنا بشاب يَقُول: أَيهَا النَّاس، قُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله تُفْلِحُوا، وَإِذا الرجل خَلفه يرميه بِالْحجرِ، وَقد أدْمى (عَقِبَيْهِ) ، وَهُوَ يَقُول: أَيهَا النَّاس، لَا تُصَدِّقُوهُ فَإِنَّهُ كَذَّاب. قَالَ: فَسَأَلت عَنْهُمَا، فَقيل: إِن الشَّاب مُحَمَّد، وَالرجل الَّذِي خَلفه عَمه أَبُو لَهب ".

{وَامْرَأَته حمالَة الْحَطب (4) فِي جيدها حَبل من مسد (5) } . وَيُقَال فِي قَوْله: {مَا أغْنى عَنهُ مَاله} : أَي: أَي شَيْء أغْنى عَنهُ مَاله {وَمَا كسب} إِذا دخل النَّار؟ .

3

وَقَوله: {سيصلى نَارا ذَات لَهب} يُقَال: صلى الشَّيْء إِذا قاسى شدته وحره. وَيُقَال: صليته أَي شويته، وَمِنْه: شَاة مصلية أَي مشوية وَالْمعْنَى: سَوف يصلى أَي يدْخل نَارا ذَات لَهب أَي: ذَات التهاب وتوقد. وَقَوله: {وَامْرَأَته} أَي: تصلى امْرَأَته أَيْضا.

4

وَقَوله: {حمالَة الْحَطب} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا كَانَت تحمل الشوك فتلقيه على طَرِيق النَّبِي لتعقر رجله. قَالَ عَطِيَّة: كَانَت تلقى الْعضَاة فِي طَرِيق النَّبِي. وَكَانَت كالكثيب من الرمل لقدم النَّبِي، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {حمالَة الْحَطب} مَعْنَاهُ: الْمَاشِيَة بالنميمة. قَالَ الشَّاعِر: (إِن بني الأجرم حمالوا الْحَطب ... هم الوشاة فِي الرِّضَا وَفِي الْغَضَب) (عَلَيْهِم اللَّعْنَة تترى وَالْحَرب ... ) وَامْرَأَته هِيَ أم جميل بنت حَرْب بن أُميَّة أُخْت أبي سُفْيَان. وَقد قرئَ: " حمالَة الْحَطب " بِالنّصب فالبرفع على معنى حمالَة الْحَطب، وَبِالنَّصبِ على معنى أَعنِي حمالَة الْحَطب.

5

وَقَوله: {فِي جيدها حَبل من مسد} فِيهِ قَولَانِ: أظهرهمَا أَنه السلسلة الَّتِي ذكر الله تَعَالَى فِي كِتَابه: {فِي سلسلة ذرعها سَبْعُونَ ذِرَاعا} والمسد هُوَ الفتل والإحكام قَالَ: لِأَنَّهُ أحكم من الْحَدِيد، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن المُرَاد من الْآيَة أَنَّهَا كَانَت تحمل الْحَطب بِحَبل من مسد فِي عُنُقهَا فَذكر الله تَعَالَى ذَلِك على أحد وَجْهَيْن: إِمَّا

لبَيَان تخسيسها وتحقيرها، أَو لِأَنَّهَا عيرت رَسُول الله بالفقر فابتلاها الله تَعَالَى بِمَا هُوَ من عمل الْفُقَرَاء، وَقيل: حَبل من مسد أَي: حَبل من شعر أحكمت فتله، وَقيل: من لِيف أحكم فتله. وروى " أَن هَذِه السُّورَة لما نزلت وَسمعتهَا امْرَأَة أبي لَهب أخذت (فهرا) بِيَدِهَا، وَجَاءَت تطلب النَّبِي وَتقول: (مذمم أَبينَا ... وَدينه قلبينا ... وَأمره عصينا ... ) وتعني بمذمم مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - لِأَن كفار قُرَيْش كَانُوا يشتمونه مذمما، فَلَمَّا جَاءَت، قَالَ أَبُو بكر للنَّبِي: إِن هَذِه الْمَرْأَة قد جَاءَت، فَقَالَ: إِنَّهَا لَا تراني فَدخلت وَلم تَرَ رَسُول الله، فَقَالَت لأبي بكر: أَيْن صَاحبك؟ فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ فَقَالَت: بَلغنِي أَنه هجاني، فَجئْت لأكسر رَأسه بِهَذَا الْحجر، فَقَالَ أَبُو بكر: إِنَّه مَا هجاك، فَرَجَعت وعثرت فِي مرْطهَا، فَقَالَت: تعس مذمم وَمَضَت ".

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {قل هُوَ الله أحد (1) } . تَفْسِير سُورَة الْإِخْلَاص وَهِي مَدَنِيَّة وَقيل: إِنَّهَا مَكِّيَّة يزِيد بن كيسَان، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " احشدوا أَقرَأ عَلَيْكُم ثلث الْقُرْآن فَخرج رَسُول الله، فَقَرَأَ عَلَيْهِم: {قل هُوَ الله أحد} ثمَّ دخل بَيته قَالَ: فَقَالَ الْقَوْم: قَالَ لنا رَسُول الله: احشدوا أَقرَأ عَلَيْكُم ثلث الْقُرْآن فَقَرَأَ: {قل هُوَ الله أحد} ثمَّ دخل، مَا هَذَا إِلَّا شَيْء؟ قَالَ: فَسَمعَهَا فَخرج إِلَيْنَا فَقَالَ: إِن هَذِه السُّورَة تعدل ثلث الْقُرْآن " رَوَاهُ مُسلم فِي كِتَابه عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَيَعْقُوب الدَّوْرَقِي، عَن يحيى بن سعيد، عَن (يزِيد) بن كيسَان. . الحَدِيث. وروى إِسْمَاعِيل بن أبي (زِيَاد) عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: دخلت الْيَهُود على نَبِي الله فَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، صف لنا رَبك، وانسبه لنا فقد وصف نَفسه فِي التَّوْرَاة ونسبها فارتعد رَسُول الله حَتَّى خر مغشيا عَلَيْهِ، فَقَالَ: " كَيفَ تسألونني عَن صفة رَبِّي وَنسبه، وَلَو سَأَلْتُمُونِي أَن أصف لكم الشَّمْس لم أقدر عَلَيْهِ "، فهبط جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، قل لَهُم: الله أحد الله الصَّمد لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد أَي: لَيْسَ بوالد وَلَا بمولود، وَلَيْسَ لَهُ

{الله الصَّمد (2) لم يلد وَلم يُولد (3) } . شَبيه من خلقه ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث الشَّيْخ الْعَفِيف أَبُو عَليّ بن بنْدَار بهمدان بِإِسْنَادِهِ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد. . الحَدِيث. وَفِي بعض (الْأَخْبَار) : أَن سُورَة قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ وَسورَة قل هُوَ الله أَحدهمَا المقشقشتان أَي: تبرئان من الشّرك والنفاق، وَيُقَال: قشقش الْمَرِيض من علته إِذا برأَ، وَسميت السُّورَة سُورَة الْإِخْلَاص لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا وصف الرب عَن اسْمه وَلَيْسَ فِيهَا أَمر وَلَا نهى وَلَا وعد وَلَا وَعِيد. وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي كِتَابه بِرِوَايَة أبي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن الرّبيع بن أنس، عَن أبي الْعَالِيَة، عَن أبي بن كَعْب أَن الْمُشْركين قَالُوا: يَا رَسُول الله، انسب لنا رَبك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {قل هُوَ الله أحد الله الصَّمد لم يلد وَلم يُولد} لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء يُولد إِلَّا سيموت، وَلَيْسَ شَيْء يَمُوت إِلَّا سيورث، وَإِن الله لَا يَمُوت وَلَا يُورث، {وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} قَالَ: لم يكن لَهُ شَبيه وَلَا عدل، وَلَيْسَ كمثله شَيْء.

الإخلاص

قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الله أحد} أَي: قل هُوَ الله الْوَاحِد، أحد بِمَعْنى الْوَاحِد، وَقد فرق بَين الْأَحَد وَالْوَاحد. وَقيل: إِن الْأَحَد أبلغ من الْوَاحِد، يُقَال: فلَان لَا يقاومه أحد نفيا للْكُلّ، وَيُقَال: لَا يقاومه وَاحِد، وَيجوز أَن يقاومه اثْنَان، وَأَيْضًا فَإِن الْوَاحِد يكون الَّذِي يَلِيهِ الثَّانِي وَالثَّالِث فِي الْعدَد، والأحد لَا يكون بِمَعْنى هَذَا الْحَال، وَأكْثر الْمُفَسّرين أَنه بِمَعْنى الْوَاحِد. وَقَوله: {هُوَ} الِابْتِدَاء فِيهِ اسْم مُضْمر، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن الَّذِي سَأَلْتُمُونِي عَنهُ هُوَ الله الْوَاحِد، فَيكون قَوْله: {الله أحد} تبيينا وكشفا لاسم الْمُضمر فِي قَوْله: {هُوَ} .

2

وَقَوله: {الله الصَّمد} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الَّذِي يصمد إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِج، وَالْآخر: أَنه هُوَ الَّذِي انْتهى فِي السؤدد وَبلغ كَمَاله. قَالَ الشَّاعِر: (أَلا بكر الناعي بِخَير لي بني أَسد ... بعمر وَابْن مَسْعُود وبالسيد الصَّمد)

{وَلم يكن لَهُ كفوا أحد (4) } . وَقَالَ آخر: (علوته بحسام ثمَّ قلت لَهُ ... خُذْهَا حذيف فَأَنت السَّيِّد الصَّمد) وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه الَّذِي لَيْسَ لَهُ جَوف أَي لَا يَأْكُل، وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن تَفْسِيره قَوْله: {لم يلد وَلم يُولد} وَقيل: إِنَّه الْبَاقِي الَّذِي لَا يفنى، وَقيل: إِنَّه الدَّائِم الَّذِي لَا يَزُول.

3

وَقَوله: {لم يلد وَلم يُولد} أَي: لَيْسَ لَهُ وَالِد وَلَا ولد. وَقيل: إِنَّه نفي لقَوْل الْيَهُود وَالنَّصَارَى: عُزَيْر بن الله، والمسيح ابْن الله، وَنفي لقَوْل الْمُشْركين: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله. فَهَذَا كُله فِي قَوْله: {لم يلد} . وَقَوله: {وَلم يُولد} فِيهِ نفي لقَوْل النَّصَارَى: إِن مَرْيَم - عَلَيْهَا السَّلَام - ولدت إِلَهًا، وَهُوَ الْمَسِيح.

4

وَقَوله: {وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} أَي لم يكن أحد نظيرا لَهُ وَلَا شَبِيها، فَهُوَ على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير كَمَا ذكرنَا، وَمعنى أحد فِي آخر السُّورَة غير معنى أحد فِي أول السُّورَة.

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {قل أعوذ بِرَبّ الفلق (1) من شَرّ مَا خلق (2) وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب (3) } . تَفْسِير سُورَة الفلق وَهِي مَكِّيَّة

الفلق

قَوْله تَعَالَى: {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا - وَهُوَ الْأَظْهر -: أَن الفلق هُوَ الصُّبْح، قَالَ الله تَعَالَى: {فالق الإصباح} ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه جَمِيع الْخلق، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه بَيت فِي النَّار، إِذا فتح بَابه صَاح أهل جَهَنَّم من شدَّة حره، قَالَه كَعْب الحبر، وَالْقَوْل الرَّابِع: جب فِي جَهَنَّم، قَالَه مُجَاهِد.

2

وَقَوله: {من شَرّ مَا خلق} أَي: من شَرّ جَمِيع مَا خلق.

3

وَقَوله: {وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب} فِيهِ أَقْوَال أَيْضا: أَحدهَا: من شَرّ اللَّيْل إِذا أظلم، فالغاسق هُوَ اللَّيْل، قَالَه الْحسن وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَيُقَال: من شَرّ اللَّيْل إِذا أقبل. يُقَال: وَقب: دخل، وَقيل: أقبل، وَمعنى الِاسْتِعَاذَة من اللَّيْل؛ (لِأَن) فِيهِ يكون تحرّك الهموم وهجوم كل ذِي شَرّ بِقصد، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَمن شَرّ غَاسِق إِذا وَقب} هُوَ الْقَمَر، وَفِيه خبر مَعْرُوف روى ابْن أبي ذِئْب، عَن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة قَالَت: " أَخذ رَسُول الله بيَدي، وَأَشَارَ إِلَى الْقَمَر وَقَالَ: تعوذي بِاللَّه من شَرّ هَذَا، هُوَ الْغَاسِق إِذا وَقب ". وَذكره أَبُو عِيسَى

{وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد (4) وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد (5) } . فِي جَامعه وَقَالَ: هُوَ حَدِيث صَحِيح. قَالَ النّحاس: يجوز أَن تكون الِاسْتِعَاذَة من الْقَمَر، لِأَن قوما أشركوا بِسَبَبِهِ، فنسب إِلَيْهِ الِاسْتِعَاذَة على الْمجَاز. قَالَ القتيبي: من شَرّ غَاسِق إِذا وَقب: هُوَ الْقَمَر إِذا دخل فِي شاهوره - أَي: فِي غلافه - وَهُوَ إِذا غَابَ. وَذكر بَعضهم: أَن الِاسْتِعَاذَة من الْقَمَر؛ لِأَن أهل الْبَريَّة يتحينون وَجه الْقَمَر - أَي غروبه - وهم اللُّصُوص وَأهل الشَّرّ وَالْفساد، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْغَاسِق هُوَ الثريا. وَقَوله: {إِذا وَقب} إِذا غَابَ، وَذكر ذَلِك إِذا غَابَ الثريا ظَهرت العاهات والبلايا، وَإِذا طلع الثريا رفعت العاهات والبلايا. وَقد ورد عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِذا طلع النَّجْم رفعت العاهة عَن كل بلد ". وَذَلِكَ مثل الوباء والطواعين والأسقام وَمَا يشبهها. وَقيل: " من شَرّ غَاسِق إِذا وَقب " أَي: من شَرّ الشَّمْس إِذا غربت. وَذكر النقاش بِإِسْنَادِهِ عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: من شَرّ غَاسِق إِذا وَقب: من شَرّ الذّكر إِذا دخل، قَالَ النقاش: فَذكرت ذَلِك لمُحَمد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، وَقلت: هَل يجوز أَن تفسر الْقُرْآن بِهَذَا؟ ! قَالَ: نعم، قَالَ النَّبِي: " أعوذ بك من شَرّ منيى "، وَهُوَ خبر مَعْرُوف، وَهُوَ أَن النَّبِي قَالَ: " أعوذ بك من شَرّ سَمْعِي وَمن شَرّ بَصرِي " فعدد أَشْيَاء، وَقَالَ فِي آخرهَا: وَمن شَرّ منيى ".

4

وَقَوله: {وَمن شَرّ النفاثات فِي العقد} أَي: السواحر، والنفث هُوَ النفخ بالفم،

والتفل هُوَ إِذا كَانَ مَعَه ريق.

5

وَقَوله: {وَمن شَرّ حَاسِد إِذا حسد} الْحَسَد هُوَ تمني زَوَال النِّعْمَة عَن الْمُنعم عَلَيْهِ، وَقد ذكرنَا فِي الْحَسَد أَشْيَاء من قبل، وَقيل: من شَرّ حَاسِد إِذا حسد أَي: إِذا ظلم. وَاعْلَم أَن الْمُفَسّرين قَالُوا: إِن هَذِه السُّورَة وَالَّتِي تَلِيهَا نزلتا حِين سحر النَّبِي، سحره لبيد بن أعصم الْيَهُودِيّ. والنفاثات فِي العقد يُقَال: إنَّهُنَّ بَنَاته. وَكَانَ لبيد قد سحر النَّبِي، وَجعل ذَلِك فِي بِئْر (ذِي أروان) (فاعتل) النَّبِي، واشتدت علته وَكَانَ يخيل إِلَيْهِ أَنه يفعل الشَّيْء وَلَا يَفْعَله، ثمَّ إِن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - أنزل المعوذتين. وروى أَنه قَالَ لعَائِشَة: " هُنَا [و] أَنا نَائِم نزل عَليّ ملكان، فَقعدَ أَحدهمَا عِنْد رَأْسِي، وَالْآخر عِنْد رجْلي، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: مَا حَال الرجل؟ فَقَالَ: مطبوب، فَقَالَ: وَمن طبه؟ قَالَ: لبيد بن أعصم الْيَهُودِيّ، فَقَالَ: وَأَيْنَ ذَلِك؟ فَقَالَ: فِي مشط ومشاطة تَحت راعونة فِي بِئْر (ذِي أروان) ، ثمَّ إِن النَّبِي بعث علينا، وَقيل: إِنَّه بعث عمارا، وَقيل: بعث أَبَا بكر وَعمر حَتَّى اسْتخْرجُوا ذَلِك السحر، وَأنزل الله تَعَالَى هَاتين السورتين، وَكَانَ على ذَاك الشَّيْء [إِحْدَى عشرَة] عقدَة، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: اقْرَأ آيَة فانحلت عقدَة، وَكَانَ كلما قَرَأَ آيَة انْحَلَّت عقدَة، حَتَّى انْحَلَّت العقد كلهَا، وَقَامَ النَّبِي كَأَنَّمَا أنشط من عقال ".

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس (1) ملك النَّاس (2) إِلَه النَّاس (3) من شَرّ الوسواس الخناس (4) الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس (5) من الْجنَّة وَالنَّاس (6) } . تَفْسِير سُورَة النَّاس وَهِي مَدَنِيَّة

الناس

قَوْله تَعَالَى: {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس ملك النَّاس إِلَه النَّاس من شَرّ الوسواس الخناس} هُوَ الشَّيْطَان، وَالْمعْنَى من شَرّ الشَّيْطَان ذِي الوسواس، وَيُقَال: سمى وسواسا؛ لِأَنَّهُ يجثم، فَإِن ذكر العَبْد ربه خنس _ أَي تَأَخّر - وَإِن لم يذكر: وسوس. وَفِي رِوَايَة: الْتَقم ووسوس أَي الْقلب. وَفِيه خبر صَحِيح على هَذَا الْمَعْنى. وَقَوله: {الخناس} مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا يَعْنِي: إِذا ذكر العَبْد ربه وَسبح رَجَعَ أَي: تَأَخّر وخنس وَتَنَحَّى.

5

وَقَوله: {الَّذِي يوسوس فِي صُدُور النَّاس} هُوَ الشَّيْطَان.

6

وَقَوله: {من الْجنَّة} أَي: من الْجِنّ. وَقَوله: {وَالنَّاس} أَي: وَمن النَّاس. وَالْمعْنَى: أَنه أمره بالاستعاذة من شياطين الْجِنّ وَالْإِنْس، والشيطان كل متمرد سَوَاء كَانَ جنيا أَو إنسيا، وَقد ورد فِي الْأَخْبَار الْمَعْرُوفَة " أَن النَّبِي كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام قَرَأَ سُورَة الْإِخْلَاص والمعوذتين، وينفث فِي كفيه، ثمَّ يمسح بكفيه مَا اسْتَطَاعَ من جسده، وَيبدأ بِوَجْهِهِ وَرَأسه ". وروى أَنه كَانَ يعوذ بهما الْحسن وَالْحُسَيْن - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَذكر أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ بِرِوَايَة إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد قَالَ: حَدثنِي قيس بن أبي حَازِم، عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ،

عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " قد أنزل الله تَعَالَى عليّ آيَات لم ير مِثْلهنَّ {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} إِلَى آخر السُّورَة، و {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} إِلَى آخر السُّورَة " قَالَ: وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عبد الله عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن سراج السبخي، أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس بن مَحْبُوب أخبرنَا أَبُو عِيسَى الْحَافِظ، أخبرنَا مُحَمَّد بن بشار، أخبرنَا يحيى بن سعيد الْقطَّان، عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد. . الحَدِيث. فَإِن قَالَ قَائِل: لمَ لمْ يكْتب ابْن مَسْعُود هَاتين السورتين فِي مصحفه؟ وَهل يجوز أَن يشْتَبه على أحد أَنَّهُمَا من الْقُرْآن أَو ليستا من الْقُرْآن؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن حَمَّاد بن سَلمَة روى عَن عَاصِم بن بَهْدَلَة، عَن زر بن حُبَيْش قَالَ: قلت لأبي بن كَعْب: إِن ابْن مَسْعُود لم يكْتب فِي مصحفه المعوذتين! فَقَالَ أبي: قَالَ رَسُول الله: " قَالَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} فقلتها، وَقَالَ {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} فقلتها " فَنحْن نقُول: يَقُول رَسُول الله. كَأَن أَبَيَا وَافق ابْن مَسْعُود. قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو الْحُسَيْن بن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا الْبَغَوِيّ، أخبرنَا هدبة، عَن حَمَّاد بن سَلمَة. الحَدِيث خرجه مُسلم فِي الصَّحِيح فَيجوز أَن ابْن مَسْعُود وأبيا من كَثْرَة مَا سمعا النَّبِي يقْرَأ هَاتين السورتين ويتعوذ بهما ظنا أَنَّهُمَا عوذة، فَلم يثبتاهما فِي الْمُصحف، وَقد قيل: إنَّهُمَا مكتوبتان فِي مصحف أبي.

وَذكر بَعضهم أَن عبد الله بن مَسْعُود لم يشْتَبه عَلَيْهِ أَنَّهُمَا من الْقُرْآن، وَلَكِن لم يكتبهما لشهرتهما، كَمَا ترك كتبة سُورَة الْفَاتِحَة لشهرتها، وَالله أعلم وَأحكم بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب. وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا.

§1/1