تفسير الراغب الأصفهاني

الراغب الأصفهاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ـ[تفسير الراغب الأصفهاني]ـ المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ)

_ جزء 1: المقدمة وتفسير الفاتحة والبقرة تحقيق ودراسة: د. محمد عبد العزيز بسيوني الناشر: كلية الآداب - جامعة طنطا الطبعة الأولى: 1420 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 1 جزء 2، 3: من أول سورة آل عمران - وحتى الآية 113 من سورة النساء تحقيق ودراسة: د. عادل بن علي الشِّدِي دار النشر: دار الوطن - الرياض الطبعة الأولى: 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 2 جزء 4، 5: (من الآية 114 من سورة النساء - وحتى آخر سورة المائدة) تحقيق ودراسة: د. هند بنت محمد بن زاهد سردار الناشر: كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى الطبعة الأولى: 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

مقدمة تفسير الراغب الأصفهاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة تفسير الراغب الأصفهاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله على آلائه، وصلى الله على النبي محمد وأوليائه، ونسأله أن يجعلنا ممن ابتدأه بفضله ونعمته وأعقبه برأفته ورحمته وأن يجعلنا ممن ابتدأه بفضله ونعمته وأعقبه برأفته ورحمته وأن يجعلنا ممن أسبل عليه نور عصمة الأنبياء، وحصن قلوبهم بطهارة النقاء، إنه لطيف لما يشاء، قال الشيخ أبو القاسم الراغب رحمه الله تعالى: القصد في هذا الإملاء إن نفَّسَ الله في العُمْر، ووقانا من نُوَبِ الدَّهْرِ، وهو مرجوٌّ أن يُسٌعِفنا بالأمرين أن نبين من تفسير القرآن وتأويله نكتاً بارعاً تنطوي علتى تفصيل ما أشار إليه أعيان الصحابة والتابعين ومنْ دُونَهُمْ من السلف المتقدمين رحمهم الله - إشارة مجملة، نبين من ذلك ما ينكشفُ عنه السر ويُتلّجُ به الصدر، وفقنا الله لمرضاته برحمته وجعل سعينا مسعوداً وفعلنا في الدارين محموداً، فمنه يُستحلاب مبداُ التوفيق ومنتهاهُ. (فُصُولٌُ لاَبُدً مِنْ بَيَانِهَا فِيِ مبُتْدَاِ الكْتِاَبِ) " فصل " في بيان ما وقع فيه الاشتباه من الكلام المفرد والمركب " الكلام ضربان: مفردُ ومركبُ، فالمفرد المسمى بالاسم والفعل والحرف وذلك بالوصع الاصطلاحي سُمي بذلك، فأما بالوضع الأول، فكله يسمى اسماً، ويحق إن صار ثلاثة أقسام، فإن الكلام إما أن يكون مُخْبّراً عنه وهو الملقب بالاسم، وإما خبراً وهو الملقب بالفعل، وإما رابطاً بينهما وهو الملقب بالحرف، والقسمة لا تقتضي غير ذلك، وما كان من الخبر نحو " فَاعل " و " مفُعَلٌ " والبصريون يسمونه إسماً اعتباراً بأحكامٍ لفظية، لأنه يدخله ما يدخل الأسماء من التنوين والجر وحروفه الألف والام، ويُخبِرُ عنه، والكوفيون يسمونه الفعل الدائم.

(فصل في أوصاف اللفظ المشترك)

أما الفعل: فاعتباراً بالمعنى، وهو إن قائماً فيه معنى يقوم، وأما الدائم فلأنه يصلح للأزمنة الثلاثة وإن كان الحال أولى به في أكثر المواضع والأصل في الألفاظ: أن تكون مختلفة بحسب اختلاف المعاني، لكن ذلك لم يكن في الإمكان، إذ كانت المعلني بلا نهاية والألفاظ مع اختلاف تراكيبها ذات نهاية، وغير المتناهي لا يحويه المتناهي، فلم يكن بُّد من وقوع اشتراك في الألفاظ. ويجب أن يُعلم أن للفظ مع المعنى خمس أحوال، الأول: أن يتفقا في اللفظ والمعنى، فيسمى " اللفظ المتواطئ "، نحو " الإنسان " إذا استُعمل في " زيد " و " عمرو ". الثاني: أن يختلفا في اللفظ والمعنى، ويسمى المتباين نحو " رَجُلُ " و " فَرَسٌ "، والثالث: أن يتفقا في المعنى من دون اللفظ ويسمى: " المترادف "، نحو " الحُسَامِ " و " الصَّمْصَامِ ". الرابع: أن يتفقا في اللفظ ويختلفا في المعنى، ويسمى: " المشترك " والمتفق، نحو " العيَْنِ " المستعملة في " الجارجة " و " مَنْبَع الماء " و " الدَّيْدَبَان " وغير ذلك .. والخامس أن يتفقا في بعض الألفاظ وبعض المعنى، ويسمى " المشتق "، نحو " ضارب " و " ضرب "، والذي يقع فيه الاشتباه من هذه الخمسة: " الألفاظ المشتركة "، و " الألفاظ المتواطئة ": هل هي عامةٌ أو خاصةٌ، و " المشتقة " مما اشتق! كقولهم: " النبي "، و " البرية " منهم من قال: من " أنبأ، و " بَرَأ "، فترك الهمزة، ومنهم من قال: من النبوة، وهي الرَّبْوة، ومن " البْرَىَ " وهو: الترابُ .. (فصل في أوصاف اللفظ المشترك) اللفظ إنما يحصل فيه التشارك بأن يستوي اللفظان في ترتيب الحروف وعددها وحركاتها، ويختلفا في المعنى نحو: عينٌ و " كلبٌ " إذا اختلف ترتيب الحروف نحو " حِلم " و " حمَل " أو

(فصل: الاشتراك في اللفظ يقع لأحد وجوه)

العدد نحو العناء " والعنّاء، و " قَدَرُ " و " قَدَّر "، أو الحركة نحو: " قَدِمَ "، و " قَدُم "، أو لم يختلفا في المعنى نحو: " الإنسان " إذا استُعمل في " زيد " و " عمرو " فليس شيءٌ من ذلك الأسماء المشتركة، فإن الذي اختلف في العدد ربما كان من المشترك نحو: " ضاربٌ " و " ضرَبُ "، وربما كان من المتباينة نحو " القنا "، و " القْنَاَبلِ "، وربما كانت الكلمة صورتها صورة المترك في اللفظ، وتكون من المشتقة لختلاف تقديرهما، نحو " المحتار ": إذا كان فاعلاً، فإن تقديره: " مُفْتَعِلٌ "، وإذا كان مفعولاً فإن تقديره " مفتعل "، وكذا فلانٌ منحَلُّّ، وأمر منُحَلُّ فيه، و " الفُلْلك " إذا كان واحداً " كَقُفْل "، وإذا كان جمعاً فإنه كَوَثنِ، وناقةٍ " هجان " وامرأة " صنِاك " فإنها كحمار، ونوق " هجان " كقوم كرام، وعلى ذلك: هم " يغزون " نحو: " يخرجون "، وهن " يَغْزُوَنْ " نحو " يَخْرُجْن " وأنت " تعْصين " نحو " تشتمين "، وأنتن " تَعْصَيِنَ " نحو، " تَشتْمُن "، ونحو " دَبْر " مصدر دَبَرَ وجمع " الدَّابِرْ " نحو " ركْب "، وكثيراً ما يلتقي فرعان بوضعنا للفظين متفقين في الصيغة، وهما مختلفان في المعنى، نحو " المصباح " لما يُشْرَبُ منه الصبوح، ولما يُشتق من " صَبَحَت " أي أسْرَجَتَ، واشتكى لإظهار الشكوى، ولاتخاذ شِكْوة اللبن. (فصل: الاشتراك في اللفظ يقع لأحد وجوه) إما أن يكون في لغتين نحو " الصقر " للبن إذا بلغ الحموضة في لغة أكثر العرب و " الصقر " للدبس في لغة أكثر أهل المدينة، وإما أن يكون أحدهما منقولاً عن الآخر أو مستعاراً، والفرق بينهما: أن المنقول هو الذي ينقله أهل صناعة ما عن المعنى المصطلح عليه أولاً إلى معنى آخر قد تفردوا بمعرفته، فيبقى من بعد مشتركاً بين المعنيين وعلى ذلك الألفاظ الشرعية نحو الصلاة

والزكاة، والألفاظ التي يستعملها الفقهاء والمتكلمون والنحويون، وأما المستعار: فالأسم الموضوع لمعنى فتستعيره لمعنى آخر له اسم وضعي غيره، فتستعمله فيه لمةاصلة توجد بين المعنيين كتسميتها الشجاع بالأسد، والبليد بالحمار. والفرق بين حكم المنقول والمستعار أن المنقول شرطه أن يتبع فيه أهل تلك الصناعة والمستعار لكل أحد أن يستعير فيستعمله إذا قصد معنى صحيحاً، فيكون متضمناً لمعنى التشبيه نحو أن تقول: ركبت " برقاً "، فتعني به فرساً كالبرق سرعة، ورأيت بحراً، أي سخياً كالبحر، وأما المشتق: فشرطه أن يشارك المشتق منه في حروفه الأصلية ويوجد فيه ببعض معناه، ويخالفه إما في الحركات نحو " ضَرَبَ " و " ضُرِبَ " أو في الزوائد من الحروف نحو " ضَرَبَ " وضارب و " استضرب " أو في التقدير نحو " المختار " إذا كان فاعلاً أو مفعولاً وسائر ما تقدم. فقد بان بهذه الجملة أنواع مفردات الألفاظ وما يقع فيه الاشتباه، وأما المركب من اللفظ: فما ركب من هذه الثلاثة، والتركيب على ضربين: تركيب يحصل به جملة مفيدة، وذلك: إما " من " اسمين أو " من " اسم وفعل، أو تقدير ذلك. وتركيب لا يحصل به ذلك، ويكون إما من اسمين يجعلان اسماً واحداً، نحو خمسة عشر، وبعلبك، أو اسم مضاف إلى اسم نحو عبد الملك، أو اسم وفعل نحو: تأبط شراً، أو اسم وحرف نحو " سيبويه "، أو فعل وحرف نحو " هلم " أو حرفين نحو " إنما " أو من جمل الكلام، وذلك لا يكون إلا بحذف بعضها نحو " بسملة "، و " حيعلة "، و " حوقلة " في قولهم: بسم الله، وحي على الصلاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله - وجميع ما يقع فيه الشبهة من الكلام المركب لا يخلو: إما أن يكون لشيء يرجع إلى مفردات الكلام وذلك على

التفصيل المتقدم، وأما لشيء لا يرجع إلى ذلك، وذلك لا يخلو إما أن يكون من جهة المعنى، أو من جهة اللفظ، فأما ما كان من جهة المعنى: فلا سبيل إلى إزالته بتغيير العبارات وذاك أن المعاني ضربان، جلي وغامض، فالجليُّ: ما يمكن إدراكه بأدنى تأمل، كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} إلى قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وأما الغامض: فعلى ثلاثة أضرب، الأول: أن يكون المعنى في نفسه خفياً، نحو الكلام في صفات الباري - سبحانه - ونفى التشبيه عنه، والثاني: أن يكون الكلام أصلاً يشتمل على فروع تتشعب منه كالآيات الدالة على الأحكام، والثالث: أن يكون مثلاً وإيماء، كقولهم: " الصَّيفُ ضَيَّعَتِ اللَّبَنَ "، وذلك لأن ظاهرة ينبئ عن شيء والمقصود غيره، وذلك في القرآن كقصة موسى مع الخضر في كسر السفينة، وقتل النفي الزكية بغير نفس، وإقامة جدار من غير نفع ظاهر، وكقصة الخصمين " إذ دخلو على داود ففزع منهم "، وكقوله: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ}، واللفظ أيضاً ضربان: لفظُ جليَّ، وهو أن يقع كيفيات الله للفظ وكمياته على حسب ما يجب نحو " قوله تعالى ": {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولفظ غامض، وذلك من ثلاثة أوجةٍ، إما من جهة الكيفية، وذلك بتقديم ما يقدر تأخيره.

(فصل في الآفات المانعة من فهم المخاطب مراد المخاطب)

أو تأخير ما يقدر تقديمه نحو قول الشاعر: وَمَا مِثُلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً ... أَبُو أُمَّهِ حَيُّ أًبُوُه يُقَارِبُهْ وعب ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} وأما من جهة الكمية، وذلك إما من جهة البسط في الكلام، أو من جهة الحذف والإيجاز، فما كان من جهة البسط فكقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} الآية، وكقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}. وما كان من جهة الإيجاز والحذف، كقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وأما من جهة الإضافة، وذلك بحسب اعتبار حال المخاطب نحو قولك: أفعل في الطلب والشفاعة والأمر ... (فصل في الآفات المانعة من فهم المخاطب مراد المخاطب) الآفات المانعة من ذلك ثلاثة: الأولى: راجعة إلى الخطاب، إما من جهة اللفظ، أو من جهة المعنى، وقد تقدم ذلك، والثانية: راجعة إلى المخاطب، وذلك لضعف تصوره لما قصد الانباء عنه، أو قصور عبارته عن تصوير ما قُصدِ الإنبتء عنه، وخطاب الله - عز وجل - منزه عنها. والثالثة: راجعة إلى المخاطب، وذلك إما لبلاده فهمه عن تصور أمثال ذلك من المخاطبة، وإما لشغل خاطره بغيره، وذلك غن كان موجوداً في بعض المخاطبين بالقرآن، فغير جائزٍ أن يشمل كافة المخاطبين، إذ من المستبعد أن يكون الناس قاطبة لا يفهمونه.

(فصل في عامة ما يوقع الاختلاف ويكثر الشبه)

(فصل في عامة ما يوقع الاختلاف ويكثر الشبه) وذلك ثلاثة أشياء حق العالم أن يعني بتهذيبها وسد الثُّلم المنبثقة عنها .. أحدها: وقوع الشبه من الألفاظ المشركة وقد تقدم. والثاني: اختلاف النظرين من جهة الناظرين، وذلك كنظر فرقتى - أهل الجبر والقدر، حيث أعتبر أهل الجبر السبب الأول فقالوا: الأفعال كلها من جهة الباري - سبحانه " وتعالى " - إذ لولاه لم يوجد شيء منها، وقال أهل القدر: إن الممكنات من جهتنا، حيث اعتبرو السبب الأخير، وهو المباشر للفعل دون السبب الأول، والثالث: اختلاف نظر الناظرين من اللفظ إلى المعنى، أو من المعنى إلى اللفظ، وذلك كنظر الخطابي إلى اللفظ في إثبات ذوات الأشياء، ونظر الحكماء من ذوات الأشياء إلى الألفاظ. وذلك نحو الكلام في صفات الباري - عز وجل - فإن الناظر من اللفظ وقع عليه الشبهة العظيمة في نحو قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، وما يجري مجراه. وأهل الحقائق لما بينوا بالبراهن أن الله تعالى واحدُ منَّزُهُ عن التكثر، فكيف عن الجوارح؟ بنوا الألفاظ على لذك، وحملوها على مجاز اللغة ومشاع الألفاظ، فصينوا عما وقع فيه الفرقة الأولى ...

(فصل في أقسام ما ينطوي عليه القرآن من أنواع الكلام)

(فصل في أقسام ما ينطوي عليه القرآن من أنواع الكلام) وقد تقرر أن أنواع الكلام المركب الخبر، والاستخبار، والأمر، والنهي والطلب والشافعة، والوارد في كلام الله تعالى من ذلك: الخبر والأمر والنهي، وذاك أن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاستخبار وكل ما ورد من ألفاظ الاستخبار فعلى الحكاية أو على الانكار والتوبيخ، والمولى لا يطلب من عبده ولا يتشفع إليه. فإذن هذه الثلاثة ساقطة من القرآن، والخبر: ما ينطلق عليه الصدق والكذب، وخاصيته أن يتعلق بالأزمان الثلاث. والأمر والنهي لا ينطلق عليهما ذلك، ولا يتعلقان إلا بالمستقبل، وفائدة الخبر ضربان: أحدهما: إلقاء ما ليس عند المخاطب إليه ليتصوره نحو أمور الآخرة من الثواب والعقاب. والثاني: إلقاء ما قد تصوره ليتأكد عنده. وعلى ذلك جميع ما ورد في القرآن مما قد علم بالعقل مثل " الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ". وفائدة الأمر والنهي شيئان: أحدهما: حث المخاطب على اكتساب محمود واجتناب مذموم، والثاني: حثه على الوجه الذي به يكتسب المحمود ويجتنب المذموم المقررين عند المخاطب، والغرض الأقصى من الخطاب الخبري: إيصال المخاطب إلى تالفرق بين الحق والباطل ليعتقد الحق دون الباطل. ومن الأمر والنهي ان يفرق بين الجميل والقبيح، ليتحرى الجميل، ويجتنب القبيح، فكل خبر: فإما أن يكون معرباً عما يلزم اعتقاده، فيسمى " الخبر الاعتقادي " وذلك نحو ما ينطوي عليه قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وإما أن يكون مبيناً عما يقتضي الاعتبار به، فيسمى " الخبر الاعتباري "، كأخبار الأنبياء وأممهم والقرون الماضية، والأخبار عن خلق السماوات والأرض. وكل أمر ونهي: فإما أن يكون أمراً بما يقتضي العقل حسنه، ونهياً عما يقتضي العقل قبحه، فيسمى " الأوامر والنواهي العقلية "، أو أمراً بما تقصر عقولنا عن معرفة حسنه، ونهياً عما تقصر

(فصل في كيفية بيان القرآن)

عقولنا عن معرفة قبحه، فيسمى: الأوامر والنواهي الشرعية والفرق بين العقلي منها والشرعي: أن العقلي لا يتغير على مرور الأيام ولا ينسخ في شيء من الأزمان. والشرعي: ما يتسلط عليه النسخ والتبديل، بحسب ما يتعلق به من المنافع. (فصل في كيفية بيان القرآن) اعترض " بعض " الناص فقال: كيف وصُفَ القرآن بالبيان، فقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ}، وقال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، وقال {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ}، وقد علُم ما فيه من الإشكال والمتشابه وما يجري مجرى الرموز، نحو قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وقوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} وقد وصفه تعالى بالمتشابه وبأنه لا يعلم تأويله إلا هو؟ فالجواب أن البيان المشترط فيه إنما هو بالإضافة إلى " أعيان " أرباب أهل الكتاب لا إلى كل من يسمعه ممن دب زدرج، فقد علمنا أن ذلك ليس ببيان لمن ليس من أهل العربية، ثم أحوال أهل العربية مختلفة في معرفته. ولو كان البيان لا يكون بياناً حتى يعرفه العامه لأدى إلى أن يكون البيان في الكلام السوقي العامي أو إلى أن لا يكون بياناً بوجه، إذ كل كلام بالإضافة إلى قوم بيان، وبالإضافة إلى آخرين ليس ببيان، وقد عُلمّ أن قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ

(فصل في الفرق بين التفسير والتأويل)

خَلْفَهُمْ} وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} من أشرف كلام، ولاَحَظَّ في معرفته لمن لم يتوفر نصيبه من البلاغة، وكذلك قول الشاعر: فَاقْطَعْ لُبَانةَ مَنْ تَعرَّضَّ وَصْلُُ ... وقول الآخر: وَمَا اْلَمرْءُ ماَدَامَتْ حشُاَشَةُ نَفْسه ... بُمْدِركِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ ولاَ أَلِ من أفصح كلام ولا يعرفه جميع الأنام، ثم إن القرآن وإن كان في الحقيقة هداية للبرية، فإنهم لن يتساووا في معرفته، وإنما يحيطون به بحسب درجاتهم واختلاف أحوالهم. فالبلغاء تعرف من فصاحته، والفقهاء من أحكامه، والمتكلمون من براهينه العقلية، وأهل الآثار من قصصه ما يجهله غير المختص بفنه، وقد علم ان الإنسان بقدر ما يكتسب من قوته في العلم تتزايد معرفته بغوامض معانيه، وعلى ذلك أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال عليه السلام: " نَضَّرَ الله أمُرءاً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا كَمَا سمَعِهَا حَتَّى يُؤدِيِها إلى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ مُبَلُغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ " .. (فصل في الفرق بين التفسير والتأويل) الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ومنه قيل لما ينبئ عنه البول تفسيره، وتسمى بها قارورة الماء. وجُعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار، فيقل: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح، وسفرت البيت إذا كنسته .. ، والتأويل من آل يؤول:

إذا رجع، والتفسير أعم من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل: في المعاني كتأويل الرؤيا، والتأويل: يُستعمل أكثره في الكتب الإلهية، والتفسير يُستعمل فيها وفي غيرها، والتفسير: أكثر يُستعمل في مفردات الألفاظ، والتأويل أكثره " يُستعمل " في الجمل، فالتفسير: إما أن يُستعمل في غريب الألفاظ نحو " البحيرة " والسائبة " والوصيلة "، أو في " وجيز يبُبّنٌ ويُشرح " كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. وإما في كلام مُضمنٍ بقصة لا يمكن تصوره " إلا " بمعرفتها نحو قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية ... وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عاماً ومرة خاصاً، نحو " الكفر " المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة، و " الإيمان " المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق دين الحق تارة، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفو نحو لفظة " وجد " المستعملة في الجدة والوجد والوجود. والتأويل نوعان: مستكره ومنقاد: فالمستكره: ما يستبشع إذا سبُرّ بالحُجَّة، ويستقبح بالتدليسات المزخرفة الكزوجة " وذلك على أربعة أضرب: الأول: أن يكون لفظ عام فيخصص في بعض ما يدخل تحته، نحو قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} حمله بعض الناس على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقط. والثاني: أن يلفق بين اثنين نحو قول من زعم أن الجيوانات كلها مكلفة محتجاً بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}، وقد قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}، فدل بقوله " أمم أمثالكم " أنهم مكلفون كما نحن مكلفون،

الثالث ما استعين فيه بخبر مزور أو كالمزور كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}، قال بعضهم: عنى به الجارحة مستدلاً بحديثٍ موضوع، والرابع: ما يستعان فيه باستعاراتٍ واشتقاقاتٍ بعسدة، كما قاله بعض الناس في البقر: إنه " إنسان " يبقرُ عن أسرار العلوم، وفي الهدهد: إنه إنسان " موصوف " بجودة البحث والتنقير. فالأول: أكثر ما يروج على المتفقة الذين لم يقووا في معرفة الخاص والعام. والثاني على المتكلم الذي لم يقو في معرفة شرائط النظم، والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار، والرابع: على الأديب الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات والمنقاد من التأويل: ما لا يعرض فيه البشاعة المتقدمة، وقد يقع الخلاف فيه بين الراسخين في العلم إحدى جهات ثلاث: إما لاشتراك في اللفظ: نحو قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} هل هو من بصر العين، أو من بصر القلب؟ أو لأمر راجع إلى النظم نحو قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} هل هذا الاستثناء مقصور على المعطوف، أو مردود إليه وإلى المعطوف عليه معاً؟ وإما لغموض المعنى ووجازة اللفظ، نحو قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} والوجوه التي يعتبر بها تحقيق أمثالها أن ينظر: فإن كان ما ورد فيه ذلك أمراً أو نهياً عقلياً فزع في كشفه إلى الأدلة العقلية، فقد حث تعالى على ذلك في قوله {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} وإن كان أمراً شرعياً فزع في

(فصل في الوجوه التي بها يعبر عن المعنى وبها يبين)

كشفه إلى آية محكمة أو سنة مبينة، وإن كان من الأخبار الاعتقادية فزع إلى الحجج العقلية. وإن كان من الأخبار الاعتبارية فزع فيه إلى الأخبار الصحيحة المشروحة في القصص. (فصل في الوجوه التي بها يعبر عن المعنى وبها يبين) لما كان المعنى الواحد يقرب من الأفهام بعبارات مختلفة لأغراض متفاوتة، وجب أن يبين الوجوه التي منها " تختلف " العبارات عن المعنى الواحد، فالمعنى الواحد قد يدل عليه بأشياء كثيرة: إما باسمه نحو " إنسان "، أو بنسبه نحو " آدمي " و " ولد حواء "، أو بإحدي خصائصه اللازمة له: نحو " المنتصب القامة " أو " الماشي برجليه " أو " العريض الأظفار "، وإما بفصله اللازم كقوله " الناطق "، " المائت "، وكما يبين الشيء بأوصاف كثيرة، كذلك قد يتبين باسماء كثيرة متضمنة لأوصاف مختلفة، كقولك في الجرم العلوي: " السماء " لما اعتبر ارتفاعها بالإضافة إلى الأرض، و " الجرباء ": لما " اعتبروا نجومها "، وأنها كجرب في الجلد و " الخلقاء " و " الملساء " لما اعتبر بحالها عند فقدان نجومها بالنهار، و " الرقيع " تشبيهاً بالثوب المرقوع لظهور نجومها ظهور الرقاع في المرقع " والخضراء " لما اعتبر لونها، وعلى ذلك قولهم " في المرأة ": " الزوج " لما اعتبرت بازدواجها بالرجل، و " الظعينة " لما اعتبر ظعنها معه، و " القعيدة " لما اعتبرت بقعودها في البيت أو بكونها مطية له

كالقعود من الجمال، والقعدة من الأفراس، ألا ترى أنها سميت " مَطِيَّة " في قول الشاعر: مَطِيَّاتَّ السُّرورٍ فُوَيْقَ عَشْرٍ ... إلى عِشْرِينَ ثُمَّ قِفٍ المطَاَيَا و" حليلة " إذا أعتبر حلولها معه، أو حل الأزار له، وذلك يُفعل لأحد أمرين: إما لأن الشيء " في نفسه " لا يمكن إبرازه إلا بالعبارات الدالة على أوصافه كمعرفة الله - عز وجل - لما صعبت لم يكن لنا سبيل " إليها " إلا بصفاته، وكأن الله تعالى جعل لنا أن نصفه بهذه الأوصاف لتكون لنا ذريعة إلى معرفته، إذ لا سبيل لنا إليها إلا استدلالاً بأوصافه وأفعاله، ولذلك قال " موسى " - عليه السلام - لما سأله فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟ قال: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}، ولما قال له: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}؟ قال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، فلم يجبه عن الماهية، لما كان الباري تعالى منزهاً عنها، وأحاله عن صفاته الكثيرة، وإما لأن الشيء له تركيبات " وأحوال "، فيجعل له بحسب كل واحد منها اسم كما تقدم في أسماء السماء، وبحسب ذلك قال النبي عليه السلام: " سُمَّيتُ محمداً، وأحمد، وخاتماً، وحاشراً، وعاقباً وماحياً " لأنه محمود، وحامد، وخاتم الأنبياء، وحاشر، لأنه بعث مع الساعة نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وعاقب: لأنه عقب الأنبياء، وماحي: لأنه محى به سيئات من اتبعه.

(فصل في الحقيقة والمجاز)

(فصل في الحقيقة والمجاز) الحقيقة مشتقة من الحق، والحق يستعمل على وجهين: أحدهما: في الموجود الذي وجوده بحسب مقتضى الحكمة بنحو قولنا: الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، والثاني: للاعتقاد المطابق لوجود الشيء نفسه، أو في القول المطابق لمعنى الشيء الذي هو عليه نحو أن يقال: إن اعتقاد فلان في البعث حق، وقوله في الثواب والعقاب حق، ويضاد " الحق "، الباطل، وإذا فهم الحق فهم الباطل، لأن العلم بالمتضادين واحد. وأما الحقيقة: فإنها تستعمل في المعنى تارة، وفي اللفظ تارة: فأما استعمالها في المعنى: فعبارة عما ينبئ عن الحق ويدل عليه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لحارثة: لما قال: " أصبحت مؤمناً حقاً: " قال: لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ " أي: ما الذي ينبئ عن ذلك؟ ". ويستعمل في العمل والاعتقاد والخبر، فيقال: هذا فعل وخبرٌ وقول له حقيقة. ويستعمل ضدها المجاز، والتسمح، والتوسع، فيقال: هذا فعل واعتقاد وخبر فيها تجُّوز وتسمُّح وتوسُّع ولا فرق " بين " أن يكون مثل هذا الخبر بلفظ مجاز أو لفظ حقيقة في أنه يقال هو حقيقة إذا كان مطابقاً لما عليه الشيء في نفسه. وإذا استعملت في اللفظ، فالمراد به: اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة من غير نقل ولا زيادة ولا نُقصان، والمجاز على العكس من ذلك، كلاهما ضربان: أحدهما في

مفردات الألفاظ، والثاني في الجمل: فالمجاز في المفردات: إما أن يكون بنقل، نحو فلانٌ عظيم الحافز، ويراد به القدم، أو زيادة نحو أنظور في " انظر "، وأرأريت لو كان على أبيك دين فقضيتيه " أي قضيته " أو بنقصان نحو: دَرَسَ المنا بُمتَالِعٍ فَأَبانٍ -، أي: المنازل. وربما يكون اللفظ الواحد من وجه حقيقة، ومن وجه مجازاً، نحو قولهم: " فلانٌ عظيم الإقدام "، فمن حيث استعمل القدم حقيقة، ومن حيث أتى بلفظ الجمع مجاز، وأما المجاز في الجمل، فمن حيث هي جملة لا يكون إلا بحذف أو زيادة، أما الحذف: فما كان المحذوف منه شيئاً مستغني عنه لدلالة عليها، فذلك من الإيجاز نحو حذف المخبر " عنه " تارةً، والخبر تارةًَ، والمضاف تارة، والمضاف إليه تارة، والمفعول تارة، والفاعل تارة، وأمثلتها مشهورة يُستَغْنَى عن ذكرها. وأما الزيادة: فلا شبهة أن كل زيادة تقتضي زيادة معنى، أو بسط مختصر، أو شرح مبهم، فإنها مستحسنة متى حصل فيها شرائط البلاغة، نحو ذكر " جبريل " و " ميكائيل " بعد ذكر " الملائكة "، وذكر " النخل " و " الرمان " بعد ذكر " الفاكهة "، وكذلك ما كان من نحو زيادة اللازم في " شَكَرْتُهُ وشَكَرْتُ لَه "، وأما المستنكر المستكره عند أكثر المحصلين - فكل زيادة ادُّعى فيها أن وجودها وعدمها سواء كما زعم بعضهم أن ذلك " كالكاف " في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} و " الوجه " في قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: الله وقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ}، أي بالله، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} أي: أن تسجد، وكل ذلك يجيئ الكلام عليه في مواضعه في أنها ليست بزائدة، وأن

لها معاني صحيحة، وبعض الناس تَحَرَّوْا في آيات ذكرها الله تعالى على سبيل المثل تَطَّلب الحقائق، ورأوا أن ذلك المعنى إذا لم يكن له وجود " على سبيل " الحقيقة كان كذباً، وذلك في نحو قوله تعالى: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}، وقول إبراهيم عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} حتى إن بعضاً حمل قول النبي عليه السلام: " إِنَّ إِبْرَاهيِمّ لمْ يَكْذِبْ إلاَّ ثَلاَثَ كذباتٍ كلها يُمَاحِكُ بِهَا عَن دِيِنِه ". قال: " إني سقيمٌ، وهذه أختي ويل فعله كبيرهم " على الحقيقة، وخفي عليه أن المذكور على وجه المثل إذا تُحرَّى به معنى صحيحُ لم يكن كذباً، نحو قولنا لمن نحثه على عمل: " أِطَّري فِإنِك فِاعلَه " كما يقال لمن

تعاتبه في تضييع أمر وقع فيه " الصيف ضيعت اللبن " وأنكر بعضهم قول المفسرين: إن هذاكذا مضمر، وقال: الإضمار إنما يُسْتَعْمَلُ فيمن له قلب وخاطر والله تعالى منزةٌ عن ذلك، وليس يراد بالإضمار هذا المعنى، وإنما يعني أن بنية الكلام تؤدي معنى ذلك عن غير نطق به، نحو قولهم " أحشفاً وسوء كيلة " فإن هذا الكلام يقتضي أتجمع علىَّ، وبه مضمون الكلمة، وذلك معلوم للسامع ..

(فصل في العموم والخصوص من جهة المعنى)

(فصل في العموم والخصوص من جهة المعنى) وذلك ثلاثة أضرب: عام مطلق: وهو الجنس، نحو قولنا: " الحيوان أوالحبوب، خاص مطلق مثل ": زيد، وعمرو، وهذا الرجل، وعام من وجه خاص من وجه، نجو كالإنسان، فإنه بالإضافة إلى الحيوان خاص، وبالإضافة إلى زيد وعمرو عام، والعام: إذا حمل على الخاص صدق القول، نحو قولنا " زيد ": إنسان وحيوان، والإنسان حيوان. والخاص: إذا حمل على العام كذب، نحو الحيوان: إنسان. والإنسان: زيد، إلا إذا قُيد لفظاًَ وتقديراً، فيقال: هذا الإنسان زيد، أو الإنسان زيد، ويجعل الألف واللام للعهد لا للجنس، أو يراد أن معنى الإنسانية كمال موجود في زيد. فإذا ثبت ذلك فالمفسر إذا فسر العام بالخاص، فقصده أن يبين تخصيصه، " بالذكر " ويذكر مثاله، لأنه لم يرد أنه هو هو لا غير، وكثير ممن لم يتدرب بالقوانين البُرْهَانية إذا رأى عاماً مستعملاً في خاصين قدر أن ذلك حار مجرى الأسماء المشتركة، فيجعله من بابها، وعلى ذلك رأيت كثيراً ممن صنفوا في نظائر القرآن، فقالوا: الإثم: ارتكاب الذنب، والإثم: الكذب، احتاجاً بقوله {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا}، والإثم عام في المقال والفعال، وإنما خُص في عذا الموضع لأن السماع ليس إلا في المقال على ذلك قال اللحياني: " الخوف ": القتال، بقوله تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ}، والقتل لقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}، والعلم، لقوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} أي: علم، وذلك من ظهور سوء التصور بحيث لا يحتاج إلى تبين. وأما الخاص: فتفسيره بالعام فجائز إذا قصد تبيين جنسه، نحو " الْحِرْبِاءُ دوُيَبْةَ. وَالْحرِبْاَءُ حَيَوَانٌ.

(فصل في تبيين الوجوه التي يجعل لأجلها الاسم فاعلا في اللفظ)

(فصل في تبيين الوجوه التي يجعل لأجلها الاسم فاعلاً في اللفظ) كل فعل من أفعال غير الله تعالى نحو: التجارة، والكتابة يحتاج في حصوله إلى أشياء إلى فاعل يصدر عنه الفعل كالنجار، وإلى عنصر يعمل فيه كالخشب، وإلى عمل كالنجر، وإلى مكان وزمان يعمل فيهما، وإلى آلة يعمل كالمنجر والمنحت، وإلى مثال يعمل عليه ويحتذي نحوه، وإلى غرض يعمل لأجله ما يعمل، ثم الفاعل قد يحتاج إلى من يسدده ويرشده. والغرض قد يكون على نحوين: قريب وبعيد. فالقريب: اتخاذ النجار الباب ليحصل به نفعاً، والبعيد: ليحصن " به " البيت، وكل ذلك قد يُنسب إليه الفعل، فيقال: أعطاني زيد إذا باشر العطاء، وأعطاني الله لما كان هو الميسر له. وربما جمع بين السبب القريب والبعيد، فيقال: أعطاني الله وزيد. قال الشاعر: حَبَانَا بِهِ جَدُّنَا وَالْإَلهُ ... وَضَرْبٌ لَناَ جَذْمُ صِائبِ فنسب إلى المسبب الأول، وهو الله تعالى وإلى السبب الأخير، وهو الضرب، وإلى المتوسط وهو الجد، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}، فأسند الفعل الأول إلى الآمر به، وفي الثاني إلى المباشر له، وقال الشاعر في صفة درع: " وألبَسنِيِه الْهَالكُّى " وقال آخر: " كَسَاهُمْ مُحْرقٌ "، (فنسب في الأول إلى عاملها، وفي الثاني إلى مستعملها)، " وقال " في صفة نِبَال: نِبالٌ كَسَتْهَا ريِشَهَا مَضْرحيَّةٌ، فنسب كسوتها إلى

الطير التي اتخذ منها ريشها، وقيل: " يداك أوكتاوفوك نفخ "، فنسبه إلى الآلة المتصلة، وثقال: سيفُ قاطع، فنسب إلى الآلة المنفصلة، وقيل: ضربٌ فيصل، وفاصل، وطعنٌ جائفٌ، فنسب إلى الحدث، وقيل: " سرٌّ كآتم "، و " عيشة راضية "، فنسب إلى المفعول، وقال: " حَرَماً آمناً "، فنسبه إلى المكان، وقيل " يومٌ صائمً "، و " ليل ساهرً "، وقال: - ومَاَلَيْلُ اَلْمطِىَّ بِنَائِمِ فنسبه إلى الزمان، فلما كانت أفعالنا على ذلك صح في الفعل الواحد أن ينسب لأحد الأسباب مرة، وينفي عنه بنظرين مختلفين، على ذلك قال الشاعر: أًعْطَيْتَ مَنْ لَمْ تُعْطه وَلَوْ انْقَضَى ... حُسْنُ الَّلقَاء حَرَمْتَ مَنْ لَمْ تَحْرِمِ فأثبت له الفعل " مرة " ونفاه عنه معاً بنظرين مختلفين، ويقال " هذا الخشب قطعته أنت لم يقطعه السكين " بمعنى أنه جعل تأثيره لك لا للسكين، ويقال: قطعه السكين لم تقتطعه، وبتصور هذا الفصل تزول الشبهة فيها يرى من الأفعال منسوباً إلى الله تعالى، منفياً عن العبد، ومنسوباً إلى العبد تارة منفياً عن الله تعالى، نحو قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}، وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، وبيان ذلك أن الأفعال التي نباشرها تعتبر على وجهين: أحدهما بالإضافة إلى مباشره، فيقال: فعل فلان كذا، ولم يفعل كذا، والثاني: الاعتبار بميسره والمقدر له

والموفق لسبيله، وأنه لولا سوابق نعمه لما وجد ذلك، بل ما وجد شيء " من " أفعالنا وذواتنا، وأنه تعالى السبب الأول الذي يصح ارتفاع ما سواه، ولا يصح ارتفاعه - تعالى علواً كبيراً. فإذا: النظر إلى أفعالنا وإلى من يسرها لنا نظران: نظر من أفعالنا إلى فعل الباري، فيتوصل بها إلى معرفته. ونظرٌ من إنعامه علينا بقوانا وتسهيل سبيلنا إلى إيجاد أفعالنا. وهذا الثاني لا سبيل إلى تصوره لمن لم يتقو في الأول ولم يجعله ذريعة إلى " الوصول " إلى هذا، وبهذا السبيل دعا الناس إلى الإيمان فقال: {آمَنُوا بِاللَّهِ} {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}. فلما نبههم عرفهم أن ذلك كله بتوفيقه، فقال تعالى: {قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ}، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}، فلما علم تعالى أن قد صار لهم قوة يمكنهم أن ينظر وامن آلائه إلى أفعالهم قال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} وقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، فأضاف أفعالهم إلى نفسه عند تناهي معارفهم بخلاف ما فعل في الأول. فإذا تقررت هذه الجملة عُلم أنه لا فاعل في الحقيقة منفرداً غير الله تعالى، إذ كل فاعل يحتاجُ إلى معاون على ما تقدم البيان فيها، والله تعالى: كل أفعاله إبداع لا في مادة، ولا من شيء ولا على مثال ولا في زمان ولا في مكان، ولا بآلة ولا بمرشد ومعين. فهو الفاعل الحقيقي، وما سواه على ضرب من التوسع .. وبهذا النظر ورد الشرع وأجمع الصدر الأول من المؤمنين " على " أن الأفعال كلها بمشيئة الله وإرادته، ومن جهته. وأطلقوا على " الله " لفظ " الشيء " كما يطلق على غيره بنظرين مختلفين: فإن بعض الناس قد ذكر أن " الشيء " في الأصل مصدر " شاء "، فإذا استعمل فيه تعالى فبمعنى " الشائي "، وإذا استعمل في غيره فبمعنى " الْمُشاءِ "، وذلك في اللغة مستمر، لأن المصدر يُطلق على الفاعل والمفعول جميعاً، قال: وتصور هذه الحقيقة من لفظة " الشيء " مما ينبهنا أن هذه اللغة من جهة الله تعالى:

(فصل في بيان الألفاظ التي تجيء متنافية في الظاهر)

(فصل في بيان الألفاظ التي تجيء متنافية في الظاهر) كثيراً ما تجئ الألفاظ في الظاهر كالمتنافي عند من لم يتدرب بالبراهين العقلية والعلوم الحقيقة، وربما يغالط الملحد بألفاظ من القرآن في نحو ذلك العجزة فيشككهم مثل أن يقول: قد ثبت من بداية العقول أن النفي والإثبات في الخبر الواحد إذا اجتمعا لابد من صدق أحدهما وكذب الآخر، نحو أن يقال: زيدً خارجً، زيدً ليس بخارج، وقد رأينا في القرآن أخباراً متنافية، فلابد من أن يكون أحدهما صدقاً، والآخر كذباً، وذلك مثل قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}، مع قوله: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} وقوله إخباراً عن الكفار أنهم يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} مع قوله تعالى {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}، وقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} مع قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}، وقوله تعالى {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} مع قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ}، وقوله تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}، وقوله: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} وقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مع قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} مع قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

وقبل الجواب عن ذلك يجب أن نقدم مقدمة تزول الشبهة بها عن ذلك وعن أمثاله، ويكتفي بتصورها عن آحاد هذه " الأسئلة " ونظائرها، وهو أن الخبرين اللذين أحدهما نفي والآخر إثبات إنما يتناقضان إذا استويا في الخبر والمخبر عنه، وفي المتعلق بهما، وفي الزمان والمكان، وفي الحقيقة والمجاز: فأما إذا اختلفا في واحد من ذلك فليسا بمتناقضين نحو أن يُقال زيد مالك، زيد ليس بمالك، وتريد بأحد الزيدين غير الآخر، أو تريد بأحد المالكين المبني " من " المل، وبالآخر المبني من الملك الذي هو الشد، أو تريد بأحدهما: المالك في الحال، وبالآخر أنه ممن يصح ملكه كالعبد. أو تعني بأحدهما بأصبهان وبالآخر ببغداد، أو تعني بأحدهما في زمان، و " بالأخر في زمان " آخر غير الزمان الأول، فكل هذا لا تناقض فيه، فإن المراد بأحد الخبرين غير المراد بالآخر، وعلى ذلك كل ما يوصف بوصفين متضادين على نظرين مختلفين، نحو من يقول: في " الوحي " و " البكرة الدائرة على مركزها ": إنها سائة أو منتقلة لعتبار بعض أجزائها ببعض، ويقول آخر: إنها غير سائرة أو غير منتقلة اعتباراً بجملة أجزائها، وأنها لا تتبدل عن المركز، فإن ذلك لا تضاد بينهما، وكذلك إذا قيل: فلان لين العود - وُيرادُ به في السخاء - وقول آخر: ليس بلين العود - ويراد به في الشجاعة، وعلى ذلك ما يتختلف به الحال في الإضافة إلى حالين أو إلى نفسين، نحو أن يقال: المال صالح - اعتباراً بحال ما أو بذات ما، ويقول الآخر: إن المال ليس بصالح - إعتباراً بحال أخرى أو بذات أخرى، وعلى ذلك الحكم في كل ما له مبدأ وغاية، مثل: الإيمان، والشرك، والتوكي، وذلك أن " الإيمان " لما كان مبدؤه إظهار الشهادتين كما قال عليه الصلاة والسلام في الجارية التي أشارت إلى السماء: " إنَّهَا مُؤْمِنَةّ "، وكان

(فصل في بيان انطواء كلام الله تعالى على الحكم كلها علميها وعمليها)

غايته ما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية صح أن يقال: (لا يزني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وأن يقال " يزني الزاني وهو مؤمن " وعلى ذلك كل ما هو مركب من شيئين، أو كان له مبدأ وغاية كما تقدم صدق فيه أربعة أخبار بأربع نظرات، نحو أن يقال: السكنجبين حلو، السكنجبين حامض، " السكنجبين حلو حامض "، السكنجبين لا حلو ولا حامض، ومتى تصورت هذه المقدمة سهل الجواب عن هذه الآيات إذ كل ذلك راجع إلى أحد الأسباب المذكورات من المخالفات. (فصل في بيان انطواء كلام الله تعالى على الحكم كلها علميها وعمليها) كتاب الله تعالى منطو على كل ذلك بدلالة قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وقوله: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، لكن ليس يظهر ذلك إلا للراسخين في العلم، ولكونه منطوياً على الحكم كلها قيل في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، أنه عنى به تفسير القرآن ثم منازل العلماء تتفاوت في تفهمه ولذلك قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، وأعظم ما يقصر تفهم الأكثرين عن إدراك حقائقه: أحدهما: راجع إلى اللفظ، والآخر راجع إلى المعنى فالراجع إلى اللفظ شيئان: أحدهما: ما اختص به اللغة العربية من الإيجاز، والحذف، والاستعارات والإشارات اللطيفة، واللمحات الغامصة مما ليس في سوى هذه اللغة والآخر: ما يوجد

في القرآن خاصة من الإيجازات والحذف مما ليس في غيره من الكلام، ولما فيه من اللفظ " اليسير " المنطوي على المعنى الكثير، قال عليه الصلاة والسلام: " أوتيتُ حوامعَ الكلام "، فمن مثال الإيجاز: قوله تعالى في وصف ارتفاع الأسباب المكروهة عن أوليائه {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فنفى بذلك كل تنغيص إذا كان جميعه في حصول مكروه وفوت محبوب، وقد نفاهما بذلك، وقال في فاكهة أهل الجنة {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}، فنفى بذلك جميع الآفات العارضة لمطاعم الدنيا، وقال في صفة خمرهم: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ}، فنفى بذلك كل مكروه يعرض فيها، وأخبر بكل ما كان من أمر فرعون وآله بألفاظ يسيرة، وذلك في قوله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}. فذكر فيه ما قيل إنه ينطوي عليه " من " أوراق وجلود من السفر، ومن عجيب ما فيه أن كل ما علم (بالسامع استغناء عنه) من الألفاظ ترك ذكره وتخطى إلى ما بعده نحو قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ}، فترك ما كان من موسى، ثم ترك ما كان منه ومن أصحابه في دخولهم البحر، وتخطى إلى ذكر ما صنع بهم، وأما الراجع إلى المعنى: فذكره تعالى - أصولاً منطوية على فروع بعضها بينه النبي عليه السلام، وبعضها فوض استنباطه إلى الراسخين في العلم تشريفاً لهم وتعظيماً لمحلهم، لكي يقرب منزلة علماء هذه الأمة " من " منزلة الأنبياء في استنباطهم بعض الأحكام، ولاختصاص هذه الأمة بهذه المنزلة الشريفة قال عليه الصلاة والسلام: " كادت أمتي تكون أنبياء "، وعلى ذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} - الآية - وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فجعلهم في ذلك بمنزلة الأنبياء ...

(فصل في انطواء القرآن على البراهين والأدلة)

(فصل في انطواء القرآن على البراهين والأدلة) ما من برهان ولا دلالة وتقسيم وتحديد " ينبئ " عن كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، لكن أورده تعالى على عادة العرب، دون دقائق طرق الحكماء والمتكلمين - لأمرين: أحدهما: بسبب ما قاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية. والثاني: إن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجلي من الكلام. فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح. الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه " إلا " الأقلون ما لم يكن ملغزاً. فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجل صورة تشتمل على أدق دقيق لتفهم العامة من جليها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الحكماء. وعلى هذا النحو قال " عليه الصلاة والسلام ": " إن لكل آية ظهراً وبطناً " ولكل حرف حداً ومطلعاً " لا على ما ذهب إليه الباطنية. ومن هذا الوجه كلهُّ مَنْ كان حظه في العلوم أوفر، كان نصيبه من علم القرآن أكثر، ولذلك، إذا ذكر " تعالى " حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافتها إلى أولي العقل، ومرة إلى أولي العلم، ومرة إلى السامعين، ومرة إلى المفكرين، ومرة إلى المتذكرين - تنبيهاً " على " أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها، وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، وغيرها من الآيات ...

(فصل في الأحكام التي عليها مدار الأديان وما يجوز فيه النسخ وما لا يجوز فيه من الأحكام)

(فصل في الأحكام التي عليها مدار الأديان وما يجوز فيه النسخ وما لا يجوز فيه من الأحكام) الأحكام التي تشتمل عليها الشرائع ستة: الاعتقادات، والعبادات، والمشتهيات والمعاملات، والزاجرات، والآداب الخلقية ... فالاعتقادات خمسة: إثبات وجود البارئ - جل ثناؤه - بصفاته، وإثبات الملائكة الذين هم السفراء بين الله وبين خلقه، والكتاب والرسل، والمعاد، وقد انطوى على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية، وأما العبادات فثمانية: الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والاعتكاف والقرابين والكفارات. والمشتهيات أربع: المأكولات والمشروبات والمنكوحات والملبوسات والمعاملات أربع: المعاوضات كالبيع والإجازة وما يجري مجراهما، المخاصمات - كالدعوى والبيات والأمانات كالودائع والعواري، - والتركات - كالوصايا والمواريث، والمزاجر خمس: مزجرة عن فوات الأرواح حفظاً للنفوس - كالقصاص والدية، ومزجرة لحفظ الأعراض - كحد القذف والفسق. ومزجرة لحفظ الأنساب - كالجلد والرجم -، ومزجرة لحفظ الأموال - كالقطع والصلب - ومزجرة لحماية البيضة - كالقتل للمرتد، وقتال البغاة، وأما الآداب الخلقية فثلاثة: ما يختص به الإنسان في نفسه وإصلاح أخلاقه كالعلم، والحلم، والسخاء، والعفة، والشجاعة، والوفاء، والتواضع. وما يختص به في معاشرة ذويه ومختصيه: كبر الوالدين، وصلة الأرحام، وحفظ الجار، ورعاية الحقوق، ومواساة أهل الفقر، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وما يختص به أولو الأمر من سياسة الرعية. والفرق بين الشرعيات والآداب الخلقية: أن الشرعيات: محدودة الكميات والكيفيات، وليس لتاركها عقوبة، بل هي موكولة إلى ذوي الأنفس الزكية، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، وعلى جمهور ذلك ذل قوله تعالى:

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} وأشرف هذه الأنواع الستة: الاعتقادات، لأنه في حيز العلم، والباقيات في حيز العمل، والعلم: هو المبدأ. والعمل تمامه، ولا يكون تمام بلا مبدأ. وقد يكون مبدأ بلا تمام، ولأن العلم أصل، والعمل فرع، ولإثبات للفرع إلا بالأصل كما لا " كمال " للأصل إلا بالفرع، ومتفق عند كل أحد أن الاعتقاد مقدم على العمل، حتى إنهم يتباينون بما ينفع من الاختلاف في الاعتقادات دون الأعمال، " وتصير " بفساد الاعتقاد المحاسن كلها مقابح، ثم يتبعه أمر العبادة، فإن المخل بالصلاة والصيام والاغتسال من الجنابة عند المسلمين أعظم من مرتكب الظلم، وكذا ترك السبت عند اليهود، وترك العبادة عند النصارى، وترك الزمزمة عند المجوس أعظم عن ظلم العباد، فإن العبادة هي المحافظة على حق الله، والورع عن ظلم الناس بالمحافظة على أحكامه، والعابد أعلى من الورع.

وبعد ذلك يجب أن نبين ما يجوز في النسخ وما لا يجوز، وقد علم أن النسخ لا يصح إلا في التعبد الذي هو الأمر والنهي دون الإخبار كما يصح ذلك في الاعتقادات المذكورة إذ كان ذلك أشياء أمرنا أن نعرفها على ما هي بها، فنعتقدها بحسب ما هي عليه، وذلك لا يتغير، وما كان من الآداب الخلقية، فإنما هي ما هي عقليات ظاهرة لا يأتي شرع بخلاف مقتضاها. وأما العبادات والمعاملات والمزاجر فلا يصح، في أصولها النسخ، وإنما يصح في فروعها، وذاك أنه محال أن تنفك شريعة من الشرائع عن عبادة الله تعالى واقعة في حيز البدن، وهي مثل الصلاة، وعبادة في حيز المال، وهي كالزكاة، وعبادة في إمساك الشهوة كالصوم. وأن تنفك عن معاملات تحثهم على العدالة وتمنعهم عن التهارج، وعن مزاجر تزجرهم عن استباحة نفوس الغير وأعراضهم وأموالهم وأنسابهم، وأما هيآتها وأشكالها وأمكنتها وأزمنتها وأعدادها، فهي فروعها التي لم تزل تعرض النسخ على حسب ما عرف الله تعالى من مصلحة كل قوم، ومما يدل على أنه لا نسخ في عامة أصول هذه الأشياء ما ورد من النصوص على ذلك في القرآن نحو قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}، وقوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} الآية، وقال حكاية عن عيسى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} وقال في الزكاة: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، وقال في القبلة: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} .. ، وقال في الصوم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، وقال

في الاعتكاف: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ}، وقال في القرابين: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا}، وحكى عن اليهود {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}، وفي الجهاد: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، وقال في القصاص: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وقال في المطاعم والمشارب: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ}، وقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال في المزاجر: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}، وقال في أخرى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ}، وقال: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}، وذكر في الآداب وصايا لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} إلى قوله: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}. إلى غير ذلك من الآيات، وآكد من ذلك كله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} إلى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}، وقال في الفروع: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، فإن قيل: إن المزاجر ليست في كل شريعة، ألا ترى أنه قيل: لم تكن في النصرانية، لما روى عن عيسى عليه السلام: " إذا لطم أحدكم على احد جانبيه فليعرض عليه الجانب الآخر "، وقال: " أدع الناس إلى الدين بالمقال دون القتال "، قيل: إن المزاجر كما تكون بالقتال قد تكون بالمقال، فلابد أن يكون لهم مزاجر، ثم إن مزاجرهم قد وردت بها التوراة، فاستغنى بها عيسى عليه السلام عن تبيينها وما ذكر من تمكين الجانب الآخر من اللطم، فحثُّ منه على العفو واحتمال المكروه.

(فصل فيما يحتاج إليه في التفسير من الفرق بين النسخ والتخصيص)

(فصل فيما يحتاج إليه في التفسير من الفرق بين النسخ والتخصيص) النسخ والمسخ يتقاربان، كذا قال الخليل، إلا أن " المسخ " في نقل الأعيان، والنسخ في نقل الصور، نحو نسخ الكتاب، وهو نقل صورة الكتابة إلى غيره من غير إبطال لرسمه الأول، ونَسَخَ الظَّلُّ الشمْسَ إذا أزَالَها، وحقيقة النسخ: إزالة مثل الحكم الثابت بالشرع بشرع آخر مع التراخي .. ، والفرق بينه وبين التخصيص أن التخصيص قد يكون في الخبر، والنسخ لا يكون فيه، والتخصيص إخراج ما لم يرد بالخطاب من الأعيان والمعاني والأمكنة، والنسخ إخراج ما لم يرد به من الحكم في بعض الأزمنة، والتخصيص في الأكثر مقرون بالمخصوص لفظاً أو تقديراً، والنسخ لا يكون إلا متأخراً عن المنسوخ، ومتى اقترن به سمي تخصيصاً، " وكأن النسخ في الحقيقة ضرب " من التخصيص إلا أنهما في المتعارف مختلفان. وقد تصور عدة ممن صنفوا في النسخ بعض ما هو بيان للمجمل أو تخصيص للعام بصورة لناسخ، وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} وقال بعضهم: نُسِخَ ذلك بقوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وهذا بيان ما ليس بظلم من أكل مالهم، ونحو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قال: فلم تحرم، ثم قال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} - الآية - وهذا أيضاً بيان الأول، وذاك أن ما كان حضرته أكثر من منفعته.

(فصل في أنه هل في القرآن ما لا تعلم الأمة تأويله)

فالعقل بالجملة يقتضي تجنبه، ولكن لما " ذاك " غير صريح أكده بالآية الأخرى، ومن التخصيص الذي يعد نسخاً قوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} مع قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، وعلى هذا ما حكى أنه لما نزل قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} شق ذلك على بعض أولي الضرر، فنزل قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} مقروناً بقوله تعالى: {الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وهذا القدر يدل على كثير مما ذكروه من أمثال ذلك. (فصل في أنه هل في القرآن ما لا تعلم الأمة تأويله) اختلفوا في ذلك، فذهب عامة المتكلمين إلى أن كل القرآن يجب أن يكون معلوماً، وإلا أدى إلى بطلان فائدة الانتفاع به وأن لا معنى لإنزاله، وحملوا قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} على أنه عطف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وجعلوا قوله تعالى: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} في موضع الحال كما قال: الرَّيحُ يَبْكِي شَجْوَهَا ... وَاْلبرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامِهِ

أي البرق يبكي لامعاً، وقوَّى ذلك بقراءة ابن مسعود فيما قيل: (ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) بالواو، وعامة أعيان الصحابة وكثير من المفسرين بعدهم، ذهبوا إلى أنه يصح أن يكون القرآن بعض ما لا يعلم تأويله إلا الله. قال ابن عباس: " أنزل القرآن على أربعة أوجه: وجه حلال وحرام لا يسع أحداً جهالته. ووجه يعرفه العرب، ووجه تأويله يعلمه العالمون، ووجه لا يعلم تأويله إلا الله، ومن انتحل فيها علماً فقد كذب ". وحمل الآية على أحد وجوه ثلاثة: - أحدهما: أنه جعل التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقائق الأشياء من كيفياتها وأزماتها وكثير من أحوالها .. وقد علمنا أن كثيراً من العبادات والأخبار الاعتقادية كالقيامة والبعث ودابة الأرض لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقائقها وأزمانها، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} الآية .. ، والثاني: أن من ألفاظه ما أمرنا بأن نتلوها تلاوة، وبها نتعبد دون معرفة تأويلها، كما تعبدنا بحركات تحصل في كثير من العبادات في الصلاة والحج، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} أي أنهم أمروا بالتفوه بهذه اللفظة، والثالث: أن كثيراً من الآيات مما اختلف المفسرون فيه، ففسروه على أوجه كثيرة تحتملها الآية، ولا يقطع على واحد من الأقوال، فإن مراد الله تعالى منها غير معلوم لنا مفصلاً، بحيث يقطع به، والذين ذهبوا المذهب الثاني قالوا: قد علم أن الآية نزلت إنكاراً على قوم طمعوا في الهجوم على ما لا سبيل لهم إليه، فأراد تعالى حسم أسباب الخوض، ومتى كان فيه تشارك لم ينقطع الشغب إذ كل يدعي معرفته، فإن قيل: إن هذا لأقوام معينين، فرجع القول إلى ما يقوله الإمامية أن آيات من القرآن لا يعرف تأويلها إلا الإمام، ويشهد لهذا قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}

(فصل في بيان حكمة الله تعالى في جعله بعض الآيات متشابها)

(فصل في بيان حكمة الله تعالى في جعله بعض الآيات متشابهاً) سُئل بعض العابدين، فقيل له: ما بال القرآن جعل بعضه محكماً وبعضه متشابهاً؟ وهلاَّ جعل كله على نمط المحكم حتى كان يكفي الإنسان مؤونة النظر الذي قل ما سلم متعاطيه من زلة؟ وهذه مسئلة نسأل عنها في الأحكام أيضاً فنقول: هلاَّ بينها كلها حتى يستغنى عن جهد الرأي الي لا يؤمن خطؤه؟ بل سئل عنها أيضاً في أصل التكليف، فيقال: هلاَّ خوّلنا الله إنعامه بلا مشقة ولا مؤنة حتى كان عطاؤه أهنأ منالاً؟ فقال: (الجواب) عن جميع ذلك واحد، وهو أن الله تعالى خص الإنسان بالفكر والتميز، وشرفَهُ بهما، حتى قال تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، وجعله بذلك خليفة في الأرض فقال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، وقال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}، وقال تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية، وقال تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، وكفاه شرفاً بما أعطاه من هذه المنزلة أنه قد يصير لأجلها شريفاً موصوفاً بالعلم والحلم والحكمة، وكثير من الصفات التي هي من صفاته تعالى، وإن لم تكن على حَدَّها وحقيقتها. ولما خصه الله تعالى بهذه الفضيلة - أعني بالفكر والروية - أعطاه كل ما أعطاه من المعارف قاصرة عن درجة الكمال، ليكمله الإنسان بفكرته، لئلا تتعطل فائدتها، وإلا كانت موجداً لما لا فائدة فيه، وذلك شنيع يُنزه عنه الباري سبحانه، وعلى ذلك أحوال كل ما أوجده لنا من المأكولات والمشروبات، لأنه أوجد لنا أصول الأغذية، ثم هدانا بما خولنا من التميز إلى تركيبها، وتناول ما يحتاج إليه على الوجه الذي يحتاج وفي الوقت الذي يحتاج. فإذا ثبت ذلك فتأويل كتاب الله تعالى وأحكام شرائعه وسائر معانيه قسمان:

(فصل في شرف علم التفسير)

جليَّ، وخفيَّ، فالجلي: ما أدركناه إما بالحاسة، أو ببديهة العقل. والخفي: ما يتوصل إليه بوساطة أحد هذين، فسبحان الذي شرف الإنسان بهذه المنزلة السنية لتكون ذريعة لهَ إلى إدراك الحياة الأبدية وتحصيل ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، كما قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. (فصل في شرف علم التفسير) أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن وتأويله، وذلك أن الصناعات الحقيقة إنما تشرف بأحد ثلاثة أشياء: " إما بشرف موضوعاتها، وهي المعمول فيها، نحو أن يقال: الصياغة أشرف من الدباغة لأن موضوعها - وهو الذهب والفضة - أشرف من جلد الميتة - الذي هو موضوع الدباغة وإما بشرف صورها: نحو أن يقال: طبع السيوف اشرف من طبع القيود .. وإما بشرف أغراضها وكمالها، كصناعة الطب - التي غرضها إفادة الصحة - فإنها أشرف من الكناسة - التي غرضها تنظيف المستراح، فإذا ثبت ذلك، فصناعة التفسير قد حصل لها الشرف من الجهات الثلاث، وهو أن موضوع المفسر كلام الله تعالى: الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضله. وصورة فعله: إظهار خفيات ما أودعه مُنْزِلُهُ من أسراره {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، وغرضه: التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى السعادة الحقيقة التي لافناء لها. ولهذا عظمَ الله محله بقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}. " قيل: هو تفسير القرآن ".

(فصل في بيان الآلات التي يحتاج إليها المفسر)

(فصل في بيان الآلات التي يحتاج إليها المفسر) اختلف الناس في تفسير القرآن: هل يجوز لكل ذي علم الخوض فيه؟ فبعض يشدد في ذلك وقال: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن، وإن كان عالماً أدبياً متسعاً في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وإنما له أن ينتهي إلى ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين، واحتجوا في ذلك بما روي عنه عليه السلام: " من فسر القرآن برأيه فليتبوء مقعده من النار "، وقوله عليه السلام: " من فسر القرآن برأية فأصاب فقد أخطأ "، وفي خبر " من قال في القرآن برأية فقد كفر "، وبما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي ". وذكر آخرون أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسره فالعقلاء والأدباء " فوضى فضاً " في معرفة الأغراض، واحتجوا في ذلك بقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. وذكر بعذ المحققين " أن المذهبين " هما الغلو والتقصير، فمن اقتصر على المنقول إليه فقد " ترك كثيراً مما يحتاج إليه "، ومن أجاز لكل أحد الخوض فيه، فقد عرضه للتخليط، ولم يعتبر حقيقة قوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} .. والواجب: أن يبين أولاً ما ينطوي عليه

القرآن، وما يحتاج إليه المفسر من العلوم، فنقول وبالله التوفيق: إن جميع شرائط الإيمان والإسلام التي دعينا إليها واشتمل القرآن عليها ضربان: علمٌ غايته الاعتقاد، وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وعلم غايته العمل، وهو معرفة أحكام الدين والعمل بها. والعلم مبدأ والعمل تمام، ولا يتم العلم من دون العمل، ولا يخلص العمل من دون العلم، ولذلك لم يفرد - تعالى - أحدهما من الآخر في عامة القرآن، نحو قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا}، وقوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، ولا يمكن تحصيل هذين إلا بعلوم لفظية وعقلية وموهبية، فالأول: معرفة الألفاظ: وهو علم اللغة، والثاني: مناسبة بعض الألفاظ إلى بعض وهو الاشتقاق. والثالث: معرفة أحكام ما يعرض للألفاظ من الأبنية والتصاريف والإعراب وهو النحوي والرابع بما يتعلق بذات التنزيل، وهو معرفة القراءات، والخامس: ما يتعلق بالأسباب التي نزلت عندها هذه الآيات وشرح الأقاصيص التي تنطوي عليها السور من ذكر الأنبياء عليهم السلام والقرون الماضية، وهو علم الآثار والأخبار. والسادس: ذكر السنن المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمن شهد الوحي مما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، مما هو بيان لمجمل، أو تفسير لمبهم المنبأ عنه بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، وبقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وذلك علم السنن. والسابع: معرفة الناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص، والإجماع والاختلاف والمجمل والمفسر، والقياسات الشرعية، والمواضع التي يصح فيها القياس، والتي لا يصح، وهو علم أصول الفقه.

والثامن: أحكام الدين وآدابه، وآداب السياسات الثلاث، التي " هي " سياسة النفس، والأقارب والرعية، مع التمسك بالعدالة فيها، وهو علم الفقه والزهد ... والتاسع: معرفة الأدلة العقلية والبراهين الحقيقة، والتقسيم والتحديد، والفرق بين المعقولات والمظنونات، وغير ذلك، وهو علم الكلام. والعاشر: علم الموهبة، وذلك علم يورثه الله من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وقال أمير المؤمنين (علي) - رضي الله عنه -: قال الحكمة: من أرادني فليعمل بأحسن ما علم، ثم تلا: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وما روي عنه حيث سئل: " هل عندك علمُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقع إلى غيرك؟ قال: لا، إلا كتاب الله وما في صحيفتي، وغهم يؤتيه الله من يشاء، وهذا هو التذكر الذي رجانا تعالى - إدراكه بفعل الصالحات، حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وهو الهداية المزيدة للمهتدي في قوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} الآية، وهو الطيب من القول المذكور في قوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} فجملة العلوم التي هي كالآلة للمفسر، ولا يتم صناعة إلا بها هذ هذه العشرة: علم اللغة، والاشتقاق والنحو، والقراءات والسير، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة، فمن تكاملت فيه هذه العشرة واستعملها خرج عن كونه مفسراً للقرآن برآية، ومن نقص عن بعض ذلك مما ليس بواجب معرفته في تفسير القرآن وأحس من نفسه في ذلك بنقصه واستعان بأربابه واقتبس منهم واستضاء بأقوالهم لم يكن - إن شاء من المفسرين برأيهم، فإن القائل بالرأي - ها هنا - من لم

(فصل في جواز إرادة المعنيين المختلفين بعبارة واحدة)

تجتمع عنده الآلات التي يستعان بها في ذلك، ففسره وقال فيه تخميناً وظناً. وإنما جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مخطئاً وإن أصاب، فإنه مخبر بما لم يعلمه، وإن كان قوله مطابقاً لما عليه الأمر في نفسه. ألا ترى أن الله تعالى قال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فشرط مع الشهادة العلم وكذب المنافقين في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ}، فقال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} من حق من تصدى للتفسير أن يكون مستشعراً لتقوى الله مستعيذاً من شرور نفسه والإعجاب بها، فالإعجاب بالنفس أسُّ كل فساد وأن يكون اتهامه لفهمه أكثر من اتهامه لفهم أسلافه الذين عاشروا الرسول وشاهدوا التنزيل، وبالله التوفيق .. (فصل في جواز إرادة المعنيين المختلفين بعبارة واحدة) العبارة الموضوعة لمعنيين على سبيل الاشتراك حقيقة فيهما أو مجازاً في أحدهما؟ متى تنافي معناهما في المراد لم يصح أن يرادا معاً بعبارة واحدة، نحو أن يقال: صل صلاة واحدة على سبيل الوجوب والندب. وإذا لم يتنافيا صح ذلك، نحو اللمس - المراد به المسيس - والمس. وإلى ذلك ذهب الشافعي - رحمه الله - وهو مقتضى مذهب سيبويه، لأنه قال في قولهم: " الويل له ": إنه دعاء عليه وإخبار عن حاله، فجعله للأمرين في حالة واحدة، إلى غير ذلك مما دل من كلامه عليه. والدلالة على جواز ذلك قولهم: " أفعلوا كذا " - في مخاطبة الرجال والنساء - وقولهم: " الرجال والنساء فعلوا "، وهذه العبارة للمذكر حقيقة، وللمؤنث مجاز. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}، وعناه والمؤمنين، فهو حقيقة فيه ومجاز فيهم.

وقال الشاعر: ثِقَالُ الْجِفَانِ والُحُلُوِم رَحَاهُمْ ... رَحَى الْمَاءِ يَكْتَالُونَ كَيْلاً عُذَمْذَمَا فوصف الجفان بالثقل حقيقة، ووصف " الحُلوم " به مجاز، وقد نظمها بلفظ واحد، وقال آخر: وماءٍ آجِنِ اْلَجمَّاتِ قَفْرٍ،. فذكر الماء " وأراده به " ومكانه، فقد يسمى مكان الماء ماء، والدلالة على أنه أرادهما أنه قد وصفه " بآجن الجمات " وذلك من صفة الماء نفسه، و " بقفر " وهو من صفة المكان، وقال ابن هرمة: وَاْحُوتُ يَسْبَحُ في السَّمَا ... ءِ كَسَبْحِهِ في ألمَاءِ وهو بكل سبح عن معنى الحوت، والحوت السابح في السماء غير السابح في الماء. وقالوا: القمران، للشمس والقمر، وذلك في الشمس مجازاً لا محالة، فإن قيل: لإن ذلك لا يصح من حيث أن المتكلم به يكون مريداً استعمال اللفظ فيما وضع له، والعدول به عن الموضوع له في حالة واحدة، وذانك أمران متنافيان في المراد، وهذه عمدة من منع من جواز ذلك، قيل: إن ذلك إنما ينافي إذا وضع لفظ فاستعمل في معنى واحد على أنه منقول إليه عن غيره، ومستعمل في موضعه. " أما إذا استعمل في أحد معنييه " لأعلى النقل بل على الوضع له، وفي الآخر على النقل إليه صح إرادتهما معاًَ.

(فصل في إعجاز القرآن)

ثم ليس من شرط المتكلم أن يخطر ببياله كيفيه وضع اللفظ من حقيقة ومجازٍ، وأيضاً: فما من لفظ مستعمل في شيئين: حقيقة فيهما أو مجازاً في أحدهما إلا ويجمعهما معنى عام لهما على طريقة من يراعي مناسبة الألفاظ، نحو أن يقال: اتق الأسد والحمار، ويعني " بالأسد ": الحيوان الجرئ، و " بالحمار ": الحيوان البليد، وذلك متناول للبهيمة والإنسان معاً، فيصح أن يرادا كما لو قال: الحيوان الجرئ والحيوان البليد. ومما يحمل من القرآن على ذلك قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}، وذلك عام في الإنسان وغيره، وقد علم أن الإنسان يسبح بلسانه وفعاله، والجمادات ليست تسبح كذلك وقد قرئهما بلفظ واحد، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} قيل: عنى بذلك الغني بالكفاية والغني بالقناعة معاً، وأمثال ذلك في القرآن أكثر من أن تحصى ههنا. ولمثل هذه المعاني المجتزعة فيه قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}، وعلى ذلك روي في الخبر " لكل حرف " ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع تنبيهاً على كثرة معلنيه المجتمعة تحت اللفظة بعد اللفظة ... (فصل في إعجاز القرآن) المعجزات التي أتى بها الأنبياء - عليهم السلام - ضربان: حسي وعقلي: فالحسي: ما يدرك بالبصر، كناقة صالح، وكوفان نوح، ونار إبراهيم وعصى موسى - عليهم السلام - والعقلي: ما يدرك بالبصيرة، كالإخبار عن الغيب تعريضاً وتصريحاً، والإتيان بحقائق العلوم التي حصلت عن غير تعلم، فأما الحسي: فيشترك في إدراكه العامة والخاصة، وهو أوقع عند طبقات العامة، وأخذ بمجامع قلوبهم، وأسرع لإدراكهم، إلا أنه لا يكاد يفرق - بين ما يكون معجزة في الحقيقة، وبين ما يكون كهانة أو شعبذة أو سحراً، أو سبباً اتفاقياً، أو مواطأة، أو احتيالاً هندسياً، أو تمويهاً وافتعالاً - إلا

ذو سعة في العلوم التي يعرف بها هذه الأشياء، وأما العقلي: فيختص بإدراكه كملة الخواص من ذوي العقول الراجحة، والإفهام الثاقبة، والروية المتناهية، الذين يغنيهم إدراك الحق. وجعل تعالى أكثر معجزات بني إسرائيل حسياً لبلادتهم، وقلة بصيرتهم. وأكثر معجزات هذه الأمة عقلياً لذكائهم وكمال افهمامهم التي صاروا بها كالأنبياء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " كَاَدتْ أُمَّتِي أن تَكُونَ أَنْبِيَاءَ ". ولأن هذه الشريعة لما كانت باقية على وجه الدهر غير معرضة للنسخ، وكانت العقليات باقية غير مبتذلة، جعل أكثر معجزاتها مثلها باقية. وما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من معجزاته الحسية، كتسبيح الحصا في يده، ومكالمة الذئب له، ومجئ الشجرة إليه، فقد حواها وأحصاها أصحابه، وأما العقليات: فمن تفكر فيما أورده - صلى الله عليه وسلم - من الحكم التي قصرت عن بعضها أفهام حكماء الأمم بأوجز عبارة، اطلع على أشياء عجيبة، ومما خصه الله تعالى به من المعجزات القرآن: وهو آية حسية عقلية صامتة ناطقة باقية على الدهر مبثوثة في الأرض، ولذلك قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}، ودعاهم ليلاً ونهاراً مع كونهم أولى بسطه في البيان إلى معارضته بنحو قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وفي موضع آخر: {ادعوا من استطعتم} وقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}. فجعل عجزهم علماً للرسالة، فلو قدروا ما أقصروا، وبذلوا أرواحهم في إطفاء نوره وتوهين أمره، فلما رأيناهم تارة يقولون {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}، وتارة يقولون: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا}، وترة يصفونه بأنه {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، وتارة يقولون: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ

جُمْلَةً وَاحِدَةً}، وترة يقولون: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} كل ذلك عجزاً عن الإتيان بمثله، علمنا قصورهم عنه، ومحال أن يقال: إنه عورض فلم ينقل، " فالنفوس " مهتزة لنقل مادق زجل، وقد رأينا كتباً كثيراً صنفت في الطعن على الإسلام قد نقلت وتدوولت. وهذه الجملة المذكورة، وإن كانت دالة على كون القرآن معجزاً، فليس بمقنع إلا بتبيين فصلين: أحدهما: أن يبين ما الذي هو معجز: أهو اللفظ، أم المعنى، أم النظم؟ أم ثلاثتها؟ فإن كل كلام منظوم مشتمل على هذه الثلاثة. والثاني: أن المعجز: هو ما كان نوعه غير داخل تحت الإمكان، كإحياء الموتى وإبداع الأجسام. فأما ما كان نوعه مقدوراً، فمحله محل الأفضل، " وما كان من باب الأفضل " في النوع، فإنه لا يحسم نسبة ما دونه إليه. وإن تباعدت النسبة حتى صارت جزءاً من ألف، فإن النجار الحاذق وإن لم يبلغ شأوه لا يكون معجزاً. إذا استطاع غيره جنس فعله، فنقول وبالله التوفيق: إن الإعجاز " قد ذكر " في القرآن " على وجهين: أحدهما: إعجاز متعلق بفصاحة، والثاني: بصرف الناس عن معارضته: فأما الإعجاز المتعلق بالفصاحة: فليس يتعلق ذلك بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى، وذلك أن الفاظه ألفاظهم، ولذلك قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا}، وقال: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ} تنبيهاً على أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادة الكلام. ولا يتعلق أيضاً بمعانيه، فإن كثيراًَ منها موجود في " الكتب المتقدمة " ولذلك قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}، وقال {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} وما هو معجز فيه من جهة المعنى، كالإخبار بالغيب فإعجازه ليس برجع إلى القرآن بما هو قرآن، بل هو لكونه خبراً بالغيب، وذلك سواء كونه النظم أو بغيره. وسواء كان مورداً بالفارسية أو بالعربية أو بلغة أخرى أو بإشارة أو بعبارة. فإذا بالنظم المخصوص صار القرآن قرآنا. كما أنه بالنظم المخصوص صار الشعر شعراً، أو الخطبة خطبة.

فالنظم صورة القرآن، واللفظ والمعنى عنصره، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره، كالخاتم والقرط والخلخال تختلف أحكامها وأسماؤها باختلاف صورها لا بعنصرها الذي هو الذهب والفضة، فإذا ثبت [هذا ثبت] أن الإعجاز المختص بالقرآن متعلق بالنظم المخصوص. وبيان كونه معجزاًَ هو أن نبين نظم الكلام، ثم نبين أن هذا النظم مخالف لنظم سائره، فنقول: لتأليف الكلام خمس مراتب: الأولى: ضم حروف التهجي بعضها إلى بعض، حتى يتركب منها الكلمات الثلاث: الاسم والفعل والحرف. والثانية: أن يؤلف بعض ذلك مع بعض حتى يتركب منها لجمل المفيدة، وهي النوع الذي يتداوله الناس جميعاً في مخاطباتهم، وقضاء حوائجهم، ويقال له: المنثور من الكلام، والثالثة: أن يضم بعض ذلك إلى بعض ضماً له مبادئ ومقاطع، ومداخل ومخارج، ويقال له المنظوم، والرابعة: أن يجعل له في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له: المسجع. الخامسة: أن يجعل له مع ذلك وزن مخصوص، ويقال له الشعر. وقد انتهى. وبالحق صار كذلك: فإن الكلام إما منثور فقط، أو مع النثر نظم، أو مع النظم سجع، أو مع السجع وزن، والمنظوم: إما محاورة، ويقال لها: الخطابة، وإما مكاتبة، ويقال لها: الرسالة، وأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الجملة. ولكن من ذلك نظم مخصوص. والقرآن حاو لمحاسن جميعه بنظم ليس هو نظم شيء منها بدلالة أنه لا يصح أن يقال: القرآن رسالة، أو خطابة، أو شعر، كما يصح أن يقال: هو كلام، ومن قرع سمعه فصل بينه وبين سائر النظم. ولهذا قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} تنبيهاً على أن تأليفه ليس [على] هيئة نظم يتعاطاه البشر، فيمكن أن يزاد فيه كحال الكتب الأخر، فإن قيل: ولمَ لمْ يتبع نظم القرآن الوزن الذي هو الشعر، وقد علم أن للموزون من الكلام مرتبة أعلى من مرتبة المنظوم غير الموزون، إذ كل موزون منظوم وليس كل منظوم موزوناً؟ قيل: إنما جنب القرآن نظم الشعر ووزنه لخاصية في

الشعر منافية للحكمة الإلاهية، فإن القرآن هو مَقَرُّ الصدق، ومَعْدِنُ الحق. وقصوى الشاعر تصوير الباطل في صورة الحق، وتجاوز الحد في المدح والذم دون استعمال الحق في تحري الصادق، حتى إن الشاعر لا يقول الصدق ولا يتحرى الحق إلا بالعرض. ولهذا يقال: من كانت قوته الخيالية فيه أكثر كان على قرض الشعر أقدر، ومن كانت قوته العاقلة فيه أكثر فيه كان في قرضه أقصر. ولأجل كون الشعر مقر الكذب، نزه الله نبيه - عليه الصلاة والسلام - عنه لما كان مرشحاً لصدق المقال، وواسطة بين الله وبين العباد، فقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}، فنفى ابتغاءه له. وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} أي: ليس بقول كاذب. ولم يعن أن ذلك ليس بشعر، فإن وزن الشعر أهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفي عنه. ولأجل شهرة الشعر بالكذب، سمي أصحاب البراهين الأقسية المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعري، وما وقع في القرآن من الألفاظ متزنة، فذلك بحسب ما يقع في الكلام على سبيل العرض بالانفاق، وقد تكلم الناس فيه. وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته، فظاهر أيضاً إذا اعتبر، وذلك أنه ما من صناعة ولا فعله من الأفعال محمودة كانت أو مذمومة، إلا وبينها وبين قوم مناسبات خفية، واتفاقات الإهية بدلالة أن الواحد فالواحد يؤثر حرفة من الحرف فينشرح صدره بملابستها، وتطيعه قواه في مزاولتها فيقبلها باتساع قلب، ويتعاطاها بانشراح صدر. وقد تضمن ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أعْملُوا فَكُلَّ مَّيَسًّر لما خلُقِ لَهُ "، فلما رؤي أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون في كل واد من المعاني بسلاطة ألسنتهم، وقد دعا الله جماعتهم إلى معارضة القرآن وأعجزهم عن الإتيان بمثله، وليس تهتز غرائزهم البتة للتصدي لمعارضته لم يخف على ذي لب أن صارفا إلهياً يصرفهم عن ذلك وأي إعجاز أعظم من أن تكون كافة البلغاء مُخيرةً في الظاهر أن يعارضوه، ومُجْبَرةً في الباطن عن ذلك. وما أليقهم بإنشاد ما قال أبو تمام: فَإِنْ نَكُ أَهّمَلْنَا فَأَضْعِفْ بِسَعْينَا ... وإَن نَكُ أُجْبِرنْاَ فَفيِم نُتَعْتِعُ والله ولي التوفيق [والعصمة]

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال بعض العلماء إنما قال " بسم الله " ولم يقل " الله " لأنه لما استحب الاستعانة بالله تعالى في كل أمر يفتتح به من قراءة وغيرها، فبعضهم - يذكره - بقلبه، وبعضهم يزيد عليه ويقوله بلسانه ويكون أبلغ - و " ذكر الله مستعمل في كل ذلك " - وألفاظ الاستعانة نحو " أستعين بالله " و " اللهم أعني " ونحو ذلك كثير، فصار لفظة " بسم الله " مستغني به عن جميعها وقائماُ مقامها، ولو قال " بالله " (لكان يقتضي الاستعانة) بهذه اللفظة فقط و " اسم - ههنا - موضوع موضع المصدر، أي: التسمية، نحو قوله: وبَعَدَ عَطَائِكَ المْائَةَ الرَّتَاعاَ أي: إعطائك، وكما وضع " السلام " موضع " التسليم ". وذكر أبو عبيدة أن قوله " بسم الله " معناه: الله - والاسم زيادة - واحتج بقول الشاعر: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمَ السَّلاّمِ عَلَيْكُمَا ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذَرَ. وإنما المعنى أن القائل إذا قال " الله أبتدى " فمعناه: بهذا الاسم. وإذا قال: " بسم الله " فإن المقصود به " المسمى " فصار قول القائل " أفتتح باسم الله " يفيد فائدة أفتتح الله. وما ذكر من الخلاف في أن " الأسم " هل هو " المسمى "؟ أو " غيره ". فقولان قالواهما بنظرين مختلفين، وكلاهما صحيح بنظر ونظر، وذاك أن من قال: الاسم الذي هو زيد أو عمرو، هو المسى، فإنما نظر إلى نحو قولهم: " رأيت زيداً "، و " زيد رجل فاضل "، فإن " زيداً " - ههنا - عبارة عن المسمى، والرؤية تعلقت به، ومن قال: هو - غير المسمى، فإنه نظر إلى [نحو]- " قولهم ": سميت ابني زيداً و " زيد اسم حسن "، وإنما عنى: أني سميت: بهذا اللفظ الذي هو " ز ي د " وأن هذا محكوم عليه بالحسن. فإذا - قولك: زيد حسن لفظ مشترك يصح أن يعني به أن هذا اللفظ حسن وأن يعني به أن المسمى به حسن، ونحو هذا الاشتباه في قولك: هذا إنسان، فإنه يستعمل على ضربين أحدهما

أن يختلف أو يشك في اسمه، فيقال: هذه إنسان أي اسمه إنسان، والثاني: أن يختلف أو يشك في جوهره، فيقال هذا إنسان أي جوهرة الإنسانية، وكثير من المواضع مثل هذا يقع فيه المغالطة، وأما تصور من قال: لو كان الاسم هو المسمى، لكان من قال: " النار " أحرقت فمه، فهذا تصور بعيد. فإن عاقلاً لا يقول: إن هذه الحروف التي هي " ز ي د " هو الشخص. واشتقاق " اسم ": قيل هو من " وسمت "، لأن الاسم علامة للمسمى، وهذا وإن كان من حيث المعنى يصح، فتصريف الكلمة يبطله، نحو سميت، والتسمية، أو والمسمى، ولأن ألف الوصل لا يدخل فيما حذف فاؤه نحو: " عِدَّةٌ " و " زِنَةٌ "، والضحيح: أن اصله من " السمو "، لأن الاسم شعار للمسمى ورفعه له. وأصله: سمو، كعضو، وحنو، أو سمو، كجبل وزجمل، لقولهم في الجمع: أسماء، وقد كثر " أفعال " في جميع هذين البنائين، ولا يُجْعَلُ فُعْلاً " كتُرْسٍ " و " أتراس "، لأن باب " فُعْل " لم يمثر فيما آخره واو استثقالاً، وأما قول الشاعر: بِاسْمِ الَّذِي في كُلَّ سُورَةٍ سمِهُ فقد قيل إنما ضم اتباعاً لما بعده، ولو كان الميم مكسوراً لم يجز في السين الضمة، فأما لفظة: الله، فيجب أن يعلم أن اسماء الله تعالى كلها مشتقة باتفاق أهل اللغة إلا لفظة الله، فإنه مختلف فيها: فبعضهم جعلها كالعلم مستدلاً بأنه يوصف ولا يوصف به كالأسماء الأعلام، ويقوي ذلك إنه يقال بالتنوين - إلاهاً - ولأنه قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}، ويعني به " الله ". وآخرون قالوا هو مشتق، ثم اختلف بعد ذلك فيها: فقيل: اصله " إلاه " مصدر من " اله " " يأله " أي: عبد فسمي به كقولهم في صفاته تعالى: " السلام " وهو في الأصل مصدر وزسموا الشمس " إلهة " لعبادتهم لها. ولذلك نهاهم الله تعالى

بقوله: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}، وسموا الأصنام آلهة لذلك، وأصله: إلاه، فحذفوا همزته، وجعلوا الألف واللام عوضاً منها، ولكونهما عوضاً استجيز قطع الهمزة الموصولة، وإدخال حرف النداء عليه في قولهم: " يالله " وقال سيبويه - في موضع: أصله: لاه، على " فَعْل " من لاه - يلوه لياهاً، أي: احتجب، قالوا: وذلك إشارة إلى ما قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}، وقيل: من أله: إذا فزع، وألهه: أي: أجارهُ وأمَّنَهُ. وإلا له اسم المفزوع إليه كالإمام لمن يؤتم به. وقيل هو من أله يأله، إذا تحير، وكأنه عنى ذلك أمير المؤمنين - صلى الله عليه وسلم -، بقوله: " كَلَّ دونَ صفاته تحبيرُ اللغات وضل فيما هناك تصاريف والصفات "، ومنع قيل في صفة المفازة: والعاتية تأله العينُ وَسْطَهَا " وقيل: أصله: ولاه، من وَلِهَ يَوْلهُ " فقلب الواو همزة، فيكون الإله اسماً لما يُؤْلَهُ نحوه. فمن الناس من قال: إن ذلك قيل لأن الأشياء تأله نحوه إما تسخيراً، وإما أرادة وقصداً، كما أنه يُسَبَّحُ له لذلك. وعلى هذا قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} وذلك إما تسخيراً وإما إراداة ومنهم من قال ذلك مختص بالعقول التي فطرها الله تعالى وأشار إليها بقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، لأن العقول بفطرتها دالة على وحدانية ومُنْبِئّةٌ عن وجوب شكره ما لم يدسها صاحبها كما قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، ومنهم من قال: ذلك مختص بالأحوال التي ينقطع الإنسان عن غيره، فيقصده بفكره، وإليه أشار بقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُون}، ومنهم من قال: مختص بالعباد المخلصين والعبادة عنه بذلك كالعبادة عنه بالمحبوب، والمراد المشار إليها بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وبقوله: {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، وقد أطلق بعض الأولياء وبعض القدماء عليه تعالى لفظ المعشوق، والمشوق، إلا أن كرهه أهل العلم لأمرين: عدم التوقيف فيه، وكون العشق في هذه اللغة متعارفاً في اللذات البدنية ...

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: الرحمة - في اللغة - رقة مقتضية للتعطف والتفضل، فمبدأها الرقة التي هي انفعال، ومنتهاها: العطف والتفضل الذي هو فعل. فالإنسان إذا وصف بالرحمة، فتارة يراد به حصول المبدأ الذي هو الرقة، وتارة يراد به المنتهى الذي هو التفضل والعطف، وتارة يرادان معاً، وإذا وصف بها الباري، فليس يراد به إلا المنتهى الذي هو الفعل دون المبدأ الذي هو الانفعال، إذ هو منزه عن الانفعالات وعن كل نقص تعالى الله عن ذلك، " الرؤف " فإن الرأفة انعصار القلب عن مشاهدة شدة مقتضية للإغاثة، فمتى وصف به الإنسان صح أن يراد به المبدأ الذي هو انعصار القلب. وإذا وصف به الباري، فليس يراد به إلا الغاية التي هو الإغاثة، وعلى ذلك الجود فإنهه اختصاص بخلق مقتض لأن لا يدخر عن المحتاج ما ينتفع به عليماً يجب ومتى وصف به الباري تعالى فالمراد به النهاية التي هي ترك الإدخار دون الاختصاص بالخلق. وهذا التفسير - أغنى في " الرحمة " - هو على ما روي عن التابعين، حيث قالوا " الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميين: رقة وتعطف ". وهذه الطريقة أظهر وأبين. وأشبه بنظر السلف، من نظر من تخبط في تفسير ذلك زاعماً أن الوصف لا يختلف معانيه باختلاف الموصوفين، وذلك أن فاعل ذلك لم يتصور أنه قد يكون بين مبدأ المعنى ومنتهاه بون بعيد. فإن قولنا " العالم " وإن كان موضوعه للمدح، فإن مبدأ، أن يتخصص الموصوف به بمعلومات ما يخرج بها عن حد الجهالة، ووسطه: أن يحصل له معلومات كثيرة تفوق بها أكثر العلماء، وغايته: أن يحيط بجميع المعلومات بحيث لا يخفي عليه شيء، ولا يدركه سهو ولا غفلة ولا نسيان. ومعلوم أن المبدأ لأكثر الخلائق، ووسطه ليس إلا للخصائص، ومن الأنبياء والحكماء، وغايته: ليس إلا لله تعالى: وذلك ظاهر {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فأما لفظة {الرَّحْمَنِ} فليس يطلق إلا لله كلفظة الله، فإنهما اسمان اختص بهما الباري جل وعز باتفاق، ولأجل ذلك قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فالرحمن هو الذي كثرت رحمته وتكررت ووسعت كل شيء ولذلك فسر بأنه الذي يكون منه تعطف بعد تعطف وتفضل. وأما {الرَّحِيمِ}، فقد

يوصف به غيره إذا كان معناه: الذي كثرت رحمته، وعلى ذلك: " نديم " و " ندمان "، فإن " النديم ": هو الذي كثرت منادمته. و" النُّدْمَانُ ": هو الذي مع كثرة ذلك منه تكررت عنه، ولذلك قال أهل اللغة: " ندمان " أبلغ من " نديم "، ولفظهما يدل على ذلك، فإن العرب إذا أرادوا زيادة معنى زادوا في اللفظ في الأمر العام، كأنما يحاكي باللفظ المعنى، نحو " قَطَعَ " و " قَطَّعَ "، و " كُبَار " و " كُبَّار "، و " أحمر: و " احمار "، وذلك فصل قد أحكم في غير هذا الموضع، فإن قيل: ما الفائدة في الجمع بينهما مع أن " الرحمن " يقتضي معنى " الرحيم " إذ هو أبلغ منه؟ قيل: إنه تعالى لما خلق الدارين وكان في دار الدنيا منعماً على المؤمن والكاففر: واختص رحمته بالمؤمنين في الآخرة - ولذلك قيل: رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة، وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} جمع بين الوصفين، وأما ذكر " الرحيم " بعد " الرحمن " فذكر خصوص بعد عموم. وروى عن عطاء أنه قال: كأن الله أختص بالرحمن، فلما تسمى بذلك بعض الكفار قال: " الرحمن الرحيم ": إذ كان الاسمان معاً لم وصف غير الله به بوجه. وقدم ذكر " الله " إذ هو أخص الأسماء. و" الرحم " و " الرحمة " مشتق بعضها من بعض، وقد دل على ذلك قوله عليه السلام: (لما خلق الله الرحم، قال: أنا الرحمن، وأنت الرحم، شقتت لك اسماً من اسمي، فو عزتي وجلالي لأصلن من وصلك، ولأقطعن من قطعك). ومعنى ذلك أن الله تعالى لما جعل بين نفسه وبين عباده سبباً، فهو كما أنه كتب على نفسه الرحمة لعباده، وأوجب عليهم من مقابلتها شكر نعمته لما كان هو السبب الأول في وجودهم وخلق قواهم وقدرهم وسائر خيراتهم، كذا أيضاً (جعل) بين ذوي اللُّحْمَةِ بعضهم مع بعض سبباً أوجب به على الأعلى التوقر على الأدون، وعلى الأدون توقير الأعلى، فصار بين " الرحم " و " الرحمة " والرحمة مناسبة معنوية، كما أن بينهما نسبة لفظية، ولهذا عظم شكر الوالدين، فقرنه بشكره في قوله تعالى: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} تنبيهاً أنهما السبب الأخير في وجود الولد، كما أن الله تعالى السبب الأول في وجود كل موجود.

(2)

(سورة الفاتحة) قوله - عز وجل -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: الآية (2) سورة الفاتحة. الحمد: هو الثناء بالفضيلة. والشكر: مقابلة النعمة قولاً وعملاً. ولما كانت النعمة لا تخرج من كونها فضيلة، صار الحمد منطوياً على معنى الشكر، فكل ذكر حمد، وليس كلُّ حَمْدٍ شكراً. ولكون الحمد أعم قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما: طالحمد هو الشكر لله والاستخذاء والإقرار بنعمه "، وقال عليه السلام " الُحَمُد رَاْسُ الشُْكِرْ، ومَاَ شَكَر الله عَبْدَ لَمْ يَحْمَدْهُ "، ولذلك قيل: الحمد لله شكراً ولم يقل: شكرت الله حمداً، ولكون الشمر بالفعل كما يكون بالقول، قيل: دابة شكور، إذا ظهر سمنها بأدنى علف لها، وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. وأما الفرق بين " الحمد و " المدح ": فالحمد أخص، إذ لا يستحق إلا بالفعل الاختياري، والمدح قد يستحق بما يكون من قبل الله تعالى، يقال: فلان ممدوح على جوده ومحمود. وممدوح على حسنه، ولا يقال محمود. والمدح: أكثر ما يقال في الأشياء النافعة التي لم تبلغ الغاية، كالثروة والجلادة، والجود، والحمد يقال في ذلك، وفيما فوقه، فيقال: الجود محمود. والله تعالى محمود. وقل ما يقال: الله ممدوح. ودخول الألف واللام في " الحمد " للجنس، تنبيهاً أن الحمد كله في الحقيقة لا يستحق سواه، وإن كل حمد لغيره فهو عارية له. والله تعالى هو المستحق له في الحقيقة، إذ هو سبب كل نعمة وخير، ولذلك قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، إن قيل: لِمَ لَمْ يَقُلْ: الحمد لي؟ قيل: لأن ذلك تعليم منه لعباده، كأنه قال: قولوا: بسم الله، الحمد لله، بدلالة قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}

وقيل: إن ذلك كقول الرجل لابنه: الْحَمْدُ في كذا لأبيك، فيأتي بلفظ الغائب ليكون أبلغ. وقيل: إن " قل " غير مقدر في هذا الموضع، لأن الله حمد نفسه ليقتدي به، في حمده، بدلالة ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس شيء أحب إلى الله من الحمد، أثنى على نفسه فقال: " الحمد لله "، ولأن أرفع حمد ما كان من أرفع حامد وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه في الحمد، وما حامد أرفع منه وأعرف بذاته وأقدر على حمده منه تعالى، كما لا محمود أرفع منه وأعلى، وقال بعضهم: كل ثناء أثنى الله على نفسه، فهو في الحقيقة إظهاره بفعله. فحمده لنفسه: هو بث آلائه، وإظهار نعمائه بمحكمات أفعاله المقتضية لحمده. فكأن قوله: " الحمد لله " - تقديره: الحمد لله ظاهر بآلائه، وعلى ذلك قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو}، فإن شهادته لنفسه إيجاده الأشياء دالة على وحدانيته ناطقة بالشهادة له. وعلى هذا قال ذو النون: لما شهد الله لنفسه، أنطق كل شيء بشهادته: فَفيِ كُلَّ شَيَءٍ لهُ شَاهِدً ... يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ وعلى ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إن قيل: استحسن حمده لنفسه وقد علم في الشاهد استقباح حمد الإنسان نفسه حتى قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه؟! قيل: إنما قبح ذلك من الإنسان، لأنه ما من أحد إلا والنقص فيه ظاهر، ولو لم يكن إلا في كون أثر الصنعة عليه وحاجته إلى الكمال، ومن خفي عليه نقصه، فقد خدع عنه عقله. ثم مدح الإنسان نفسه ليس بقبيح على الإطلاق، فإن ذلك مستحسن عند تنبيه المخاطب على ما خفي عليه من حال المخاطب، كقول عالم يحث المتعلم على الأخذ عنه: اسمع مني فإنك لا تجد فيه مثلي. وعلى ذلك قول يوسف - عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}

إن قيل: " الحمد لله " خبر. ويقتضي مخبراً. فما الفائدة في إيراده في الخلوات؟ قيل: أما في القرآن. فلما ندب الله تعالى إلى تلاوته. وأما في غيره. فلئى ينفك من حمده في شيء من الأحوال، كما لا ينفك من نعمه اعترافاً له بها، فكأنه هو المخبر. قوله - عز وجل -: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية: (2) سورة الفاتحة الرب - في الأصل - التربية: يقال: رَبَّهُ ورَبَّاهُ، فسُمي الرابُّ رباً لزيادة معنى تُصوُرَّ منه [لرحمته] ومنه قيل: " لأن يَرُبُّني رجُل من قريش أحبُّ إلي من أن يَرُبُّني رجل من هوازن " فـ " رب العالمين ": هو المتكفل بمصلحتهم، ولا يقال: " الرب " - مطلقاً بالألف واللام - إلا الله تعالى. وتسميتهم إياه بذلك للنظر إلى آلائه. قال بعض المحققين - في الفرق بين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} قال: حيث خاطب الناس كافة حثهم على اتقائه برؤية آلائه، لاشتراكهم كلهم في معرفتها وتصورهم إياها. وحيث خاطب المؤمنين حثهم على اتقائه بلا واسطة. و" العالم ": اسم للفلك وما يحويه، وجميع ما فيه من الجواهر والأعراض. وهو في الأصل:: اسم لما يعلم به. و" فاعل ": كثيراً ما يجئ في اسم الآلة التي فعل بها الشيء كـ " الطابع " و " الخاتم " و " القالب ". فجعل بناؤه على هذه الصيغة لكونه كالآلة في الدلالة وعلى صانعه. وأما جمعه، فقد قيل لأن الله تعالى بضعة عشرين عالماً. ولما كان في جملاتها الناس جمع جمعهم إذ من شأن الإنسان - إذا شارك غيره في اللفظ - أن يكون الحكم في اللفظ له. وقيل: لأنه عنى به أصناف الخلائق من الملائكة والجن والإنس دون غيرها - وإليه ذهب ابن عباس ومجاهد -[رضي الله عنهما]، وقيل: عنى به الناس وجعل كل واحد منهم عالماً - قال ذلك جعفر بن محمد، قال: العالمُ عالَماَن، عالم كبير، وهو الفلك بما فيه، وعالم صغير، وهو الإنسان.

(4)

وقال: سمَّى كُلُّ إنسان عالماًَ، لأن فيه جواهر العالم الأكبر من الأخلاط الأربعة، ولأن لحمه كالأرض الرخوة، وعظامه كالجبال، ودمه الجاري في العروق كالمياه في الأنهار، ونفسه كالريح، وشعره كالنبات. وفيه من الملك: العقل، ومن البهائم: الشهوة، ومن النبات: النمو والتغذي. قال: فصار عالماً يعلم به وحدانيته صانعه كما يُعْلَمُ بالعالم الكبير. ولذلك قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، وقال عليه السلام: " أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه "، وقيل - فيما أنزل الله في السفر الأول:: من عرف نفسه فقد عرف ربه " وإلى نحو ذلك أشار بقوله - عز وجل -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ} تنبيهاً أنهم لو تفكروا في أنفسهم لما خفي معرفته عليهم. وقال المفضل بن سلمة العرب تقول: " العالمين " - بالياء - في موضع النصب والرفع والجر، إلا قوماً من كنانة يقولون: " اللذون " قال: ويدل على ذلك أن " فاعل " لم يجمع السلامة قال: وعلى ذلك " الأقورين " و " الفتكرين " و " البرجين "، وذكر أن من قال: العالمون، فقد وقع عليه السهو حيث لم يجد ذلك في موضع الرفع، كما وجد الذين في موضع رفع، وذكر المبرد أن هذا سهو من قائله، لأنه رأى ذلك في القآن إما خفضاً أو نصباً. قوله - عز وجل - {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الآية: (4) سورة الفاتحة. قيل: الملك الذي يملك الأمر والنهي في الجمهور، وإنما شرط الجمهور لأن كل إنسان يملك ذلك في نفسه وما يختص به، ثم يقال له: ملك، وهذا إنما قاله بالنظر العامي وأما بالنظر الخاصي، فهو

في الحقيقة اسم لمن يملك السياسة من نفسه أو منها أو من غيرها، ومالك ذلك من نفسه أجل ملك وأكبر سلطان ولذلك قيل لحكيم: ما الملك الأعظم؟ فقال: أن يغلب الإنسان شهواته، بل لهذا قال عليه السلام لمن سأله أي الأعمال أشدُّ؟ فقال: " جهادُكّ هَواَكَ "، وقال: " رَجَعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "، وحجة من قرأ ملك قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} والملك: مصدر " الملك " لا " المالك ". وأما " المالك ": فهو الضابط للشيء المتصرف فيه بالحكم، ومنه " ملكت العجين ". و" الوكيل ": وإن كان ضابطاً للشيء متصرفاً فيه - فإنه لا يقال له: " مالك " لما كانت يده يد غيره. ويقال للصبي والمعتوه: " مالك " لما كان ذلك لهما حكماً وإن لم يكن لهما فعلاً. وحجة قارئه قوله - عز وجل - {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}، فجعل الملك مملوكاً. وقال {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}، وقوله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا}. فإن قيل: أيهما أبلغ؟ قيل: قال بعضهم: " مالك " أبلغ، لأنه يقال: مالك الدراهم والحيوانات والريح، ولا يقال ملكها. وقيل: " الملك " أبلغ، لأنه لا يمكن إلا مع تعظيم. وهما مختلفان في الحقيقة. فإن الملك: هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين. والمالك: هو المتصرف في الأعيان المملوكة على أي وجه كان. فإن قيل: على أي وجه أضيف إلى اليوم؟ قيل: أما " ملك "، فعلى حد: يا سارق الليلة أهل الدار. في أنه اتسع للظرف. فجعله مفعولاً به، وأما " مالك " فمضاف إلى المفعول به. لأنه تعالى هو موجده وضابطه. وإذا أضيف إلى " الوقت " غير الله تعالى فيقال: فلان مالك يوم كذا. فإنما هو على تجوز إذ كان حقيقة اليوم والوقت ليس بملك لغيره. وأما اختصاص ذلك اليوم مع كونه في الحقيقة مالكاً لجميع الأشياء، وفي جميع الأزمنة - لأمرين: أحدهما: أنه قد ملك في الدنيا قوماً أشياء يبطل عنها ملكهم لها يوم القيامة، ولذلك قال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، وقال: {نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا}، وقال: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}

(5)

والثاني على وجه التعظيم، لأنهم يجعلون ما يستعظمونه ملكاً له نحو: بيت الله وناقة الله وتعظيم إياه على وجه أن اليوم الآخر لا انقضاء له ولا فناء، وجميع ما في الدنيا فإن، وقد علم أن الباقي أشرف من الفاني، فأما الدين فالجزاء، كقوله: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ}، وقيل: الدين عبارو عن الشريعة كقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، ومعناه يوم جزاء الدين، ومثل: الدين الطاعة، أي يوم جزاء الطاعة وخص الطاعة وإن كانت المجازاة عنها وعن المعصية لأمرين أحدهما إن كل أحد بطبعه في ذلك اليوم ولذلك قال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} والثاني: أن الطاعة هي المقصودة بالجزاء ولأجلها خلقنا وعلى ذلك ذل قوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وقرئ " مالك " - بالنصب - فقيل: هو نداء - فعلى هذا يقع في اللفظ عدول عن الخبر إلى الخطاب به. وقيل: نصبه على المدح والعدول عن الخير إلى الخطاب حينئذ، يكون في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قوله - عز وجل -: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الآية (5) - سورة الفاتحة. قال بعض النحويين: " إياك " كله اسم واحد. وقال بعضهم: " الكاف " هو الاسم. و" أياً ": وصلة له. وهذان لا تنافي بينهما في الحقيقة، لأن ذلك بنظرين مختلفين، وذاك أن الضمير المتصل إذا قدم أو فصل بينه وبين المتصل به لا يحسن النطق به مفرداً، فضم إليه: " إيا " ليصير بذلك كلاماً مستقلاً. فمن قال: الضمير هو الكاف، فإنما اعتبر بذلك بعد انضمام " إيا " إلى الضمير. والعرب كما أنهم يتحرون بالحروف المركبة إفادة المعنى، فقد يأتون ببعضها تهذيباً للفظ وتحسيناً له، بدلالة إدخالهم الحروف بين الحرفين المتنافرين في

التركيب، لئلا يقبح التفوه بهما. وذلك قد أشبع الكلام فيه في غير هذا الكتاب. " فـ إيا ": جعل وصلة لتحسين اللفظ بالضمير إذا قدم لما لم يحسن أن يقال: ل ألزمت. وهُ ضربت كما أتوا بـ " ذي " لما أرادوا للوصف باسم الجنس في نحو قولهم: " مررت برجل ذي مال ". وأتى بـ " الذي " لما أريد أن توصف بالمعرفة بالجمل. وعلى ذلك لأتى " مثل " مع " الكاف " في نحو كمثله شيء لما لم يحسن إدخال الكاف على الضمير، فيقال: كَكَ، وكَهُ. و" العبادة ": التذلل، ومنه: طريق معبد. وفي المتعارف. الاشتغال بالخدمة، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} والعبد على ضربين: عبد بالإيجاد والتسخير: وذلك يطلق على كل أحد، وإياه عنى بقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} وعبد على طريق التخصيص وذلك قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} واستثناهم إبليس بقوله {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}. فعلى الثاني: يصح أن يقال: فلان ليس عبداً. وعلى هذا قيل: فلان عبد الهوى، وعبد الشهوة، وعبد الطاغوت، وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} وعلى ذلك قال عليه السلام: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم "، والاستعانة: طلب المعونة، وهي ضربان: ضروري في الأمر وغير ضروري: فالضروري: ما لا يتم إيجاد الفعل من دونه، وبوجوده يوصف الإنسان بالاستطاعة للفعل. وبعدمه يوصف بالعجز عنه، وهي بالقول المجمل أربعة: بنية صحيحة للفاعل وتصوره للفعل، وتأتي مادة له، وآلة يعمل بها، وذلك متصور في الكاتب، فإنه يحتاج إلى بنية صحيحة، وهي العضو: وإلى تصور لها وهو: المعرفة. وإلة آلات كالدواة والقلم، وإلى مادة توجد الفعل فيها، وهو الكاغد. وغير ضروري: وهو ما يصح إيجاد الفعل من دونه، لكن ربما يكون فيه الصعوبة، كمن يقصد مكاناً بعيداً فيعيره صديق له مركوباً، فيسهل عليه طريقه، فغير الضروري لا يمكن حصره. ويصح التكليف من دون وجوده، وهو المعبر عنه بالتوفيق والتسهيل، وتسميه العامة: سعادة الجد، وجودة البخت. وفي تيسيره ودفع ضده يستعمل في كثير من

الأدعية. فإذا ثبت هذه الجملة. فالاستعانة بالله: طلب الأمرين. فبحصول الضروريات من المعاون يتوصل إلى اكتساب الثواب، وبحصول غير الضروريات منها يتسهل علينا السلوك إليها. إن قيل: كيف قال: " إياك " نعبد ولو قال: " نعبدك " كان أوجز منه لفظاً؟ قيل: إن عادتهم أن يقدموا من الفاعل والمفعول ما القصد الأول إليه، والاهتمام متوجه نحوه، وإن كان في ذكر الجملة القصدان جميعاً. تقول: بالأمير استخف الجند - إذا كان القصد الأول ذكر من وقع به استخفاف الجند - و " الأمير أستخف بالجند - إذا كان القصد الأول إلى من أقدم على الاستخفاف بهم. ولما كان القصد الأول - في هذا الموضع - ذكر المعبود دون الإخبار عن إتخاذ عبادتهم، كان تقديم ذكره أولى. وعلى هذا قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} وأيضاً، ففي ذكر المفعول إشارة إلى إثبات الحكم المذكور ونفيه عن غيره تقول: إليك أفزع تنبيهاً أني لا أفزع إلا إليك. وإذا قال: أفزع إليك، فليس فيه المعنى وعلى هذا فسر ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما فقال: معناه: لا نوجد غيرك وقال بعضهم: إنما نبه تعالى بتقديم ذكر أن تكون نظر العباد من المعبود إلى عبادتهم له لا من العبادة إلى المعبود، وعلى ذلك فضل ما حكي الله عن نبينا - عليه السلام - إذ قال: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فنظر من الله تعالى إلى نفسه على ما حكى عن موسى عليه السلام حين قال: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} فقدم ذكر نفسه، ونظر منها إلى ربه إن قيل: لم كرر إياك؟. قيل لأنه لو قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، لكان يصح أن يعتقد أن الاستعانة بغيره، وكان إعادته أبلغ. إن قيل: لم قدم العبادة على الاستعانة، وحق الاستعانة أن تكون مقدمة، إذ لا سبيل إلى عبادته إلا بمعونته؟ قيل: قد قالوا: هو على التقديم والتأخير. وقيل: الواو لا تقتضي الترتيب. والوجه - في ذلك - أن الله تعالى علم خلقه بذلك أن يقدموا حقه ثم يسألوه ليمونوا مستحقين للإجابة. ويجوز أن يكون قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: في موضع الحال، نحو قول الشاعر: بَأَيْدِيّ رِجَالٍ لَمْ يشُيِمُوا سُيُوفَهُمْ ... ولم يكْثُر الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ.

(6)

فقوله: " ولم يكثر القتلى بها " في موضع الحال. قوله - عز وجل -: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: الآية (6) - سورة الفاتحة. الهداية: دلالة بلطف، ومنه الهدية، وهوادي الوحش متقدماتها، لكونها هادية لسائرها، وخص ما كان دلالة بفعلت نحو: هديته الطريق، وما كان من الإعطاء ب " أفْعَلْتُ " نحو: أهديت الهدية "، و " أهديت إلى البيت "، ولما تصور العروس على وجهين، قيل فيه: هديت وأهديت، فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة بلطف، وقد قال الله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}؟ قيل: إن ذلك على حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال: وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهُ بِخَيْلٍ ... تَحِيُةُ بَيْنِهِمْ ضرَبٌ وَجيِعُ والهداية: هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً، وهي من الله تعالى على منازل بغضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول، ولا الثالث إلا بعد الثاني، فأول المنازل: إعطاؤه العبد القوي التي بها يهتدي إلى مصالحه، إما تسخيراً، وإما طوعاً، كالمشاععر الخمسة، والقوى الفكرية، وبعض ذلك أعطاه الحيوانات، وبعضه خص به الإنسان. وعلى ذلك دل قوله تعالى: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}، وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} وقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}، وقال في الإنسان بما أعطاه من العقل وعرفه من

الرشد: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وقال في ثمود: {فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وثانيها: الهداية بالدعاء وبعثة الأنبياء عليهم السلام وإياها عنى بقوله تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} وبقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله - عز وجل - وتارة إلى النبي - عليه السلام - وتارة إلى القرآن قال تعالى {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وثالثها: هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات. وهي الهداية المذكورة في قوله - عز وجل - {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقوله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وهذه الهداية هي المعنية بقوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}، ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله - عز وجل - فيقال: هو آثرهم بها من حيث أنه هو السبب في وصولهم إليها، ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث أنهم توصلوا إليها باجتهادهم، فمن قصد سلطاناً مسترفداً فأعطاه، يصح أن يقال إن السلطان خوله، ويصح أن يقال: " فلان اكتسبه بسعيه "، ولانطواء ذلك على الأمرين قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}، فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعاً، وهذه الهداية يصح أن يقال هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال: هي مباحة للعقلاء كلهم، ويصح أن يقال هي مجظورة إلا على أوليائه لما كان في إمكان جميع العقلاء أن يترشحوا لتناولها ومن قبل أنها لا يسهل تناولها قبل أن يتشكل الإنسان بشكل مخصوص بتقديم عبادات، وقد قال بعض المحققين: الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا البصير ولا يعمل به إلا اليسير، ألا ترى إلى نجوم السماء ما أكثرها، ولا يهتدي بها إلا العماء، وقال بعض

الأولياء: إن مثل هداية الله مع الناس كمثل سيل مر على قلات وغداير، فيتناول كل قلت منها بقدر سعته، ثم قال قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، وقال بعضهم: هي كمطر أتى على أرضين، فتنتفع كل أرض بقدر ترشيحها للانتفاع به، والمنزلة الرابعة من الهداية، التمكين من مجاورته في دار الخلد وإياها عنى الله تعالى: بقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا} فإذا ثبت ذلك فمن الهداية ما لا ينفي عن أحد بوجه، ومنها ما ينفي عن بعض ويثبت لبعض، ومن هذا الوجه قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وقال: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ}، فإنه عنى الهداية التي هي التوفيق وإدخال الجنة دون التي هي الدعاء، لقزله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال في الأنبياء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}، فقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فسر على وجوه بحسب أنظار مختلفة إلى الوجوه المذكورة: الأول: أنع عنى الهداية العامة، وأمر أن ندعو بذلك، وإن كان هو قد فعله لا محالة، ليزيدنا ثواباً بالدعاء، كما أمرنا أن نقول: " اللهم صل على محمد ". الثاني: قيل: وفقنا لطريقه الشرع. الثالث: احرسنا عن استغواء الغواة وإستهواء الشهوات، واعصمنا من الشبهات. الرابع: زدنا هدى واستنجاحاً لما وعدت بقولك: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. وقولك: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}، الخامس: قيل: علمنا العلم الحقيقي، فذلك سبب الخلاص، وهو المعبر عنه بالنور في قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}، السادس: قيل سؤال الجنة، لقوله تعالى: {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} الاية. فهذه الأقاويل اختلف باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها والجميع يصح مراداً بالآية إذ لا تنافي بينها. وبالله التوفيق. وقوله: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} " يقال: الصراط، والسراط، والزراط، والأصل من: سرطت الطعام، وزردته: إذا ابتلعته، وسمي الطريق بذلك تصوراً أنه إما أن يبتلعه سالكه، أو يبتلع هو سالكه، ذلك ألا ترى أنه قيل: فلان أكلته المفازة - إذا أضمْرَتَهُ أو أهْلَكَتْهُ. وأكل المفازة - إذا قطعها - وعلى هذا النحو قال [أبو تمام] رَعَتْهُ اْلَفَيافي بَعْدَمَا كَانّ حِقْبَةٌ ... رَعَاهَا وَمَاءُ الرَّوْضِ يَنْهَلُّ سَاكِبُهْ ويقال: قتل أرضاً عالمها. وقتلت أرض جاهلها. وسمي الطريق: " الَّقّمْ وْاُلْملْتَقِم " - على هذا المحو - وذلك في معنى: " الملقوم " كالنقض والرفض في معنى " المنقوض " و " المرفوض ". و" المستقيم ": القائم بالقسط، قال: أمير المؤمنين على صراطٌ ... إذا أعْوَج الْموَارِدُ مُستَقيمُ. وذلك قد تصور على وجهين: أحدهما: أنه إشارة إلى أن الطريق المستقيم " واحدة " بإضافتها إلى طرق الضلال واحد، وطرق الضلال كثيرة، وعلى هذا النحو، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول: " أدخلوا الصراط ولا تعوجوا "، ثم قال: " الصراط: الإسلام، والستور المرخاة: محارم الله. وذلك الداعي: " القرآن "، وعلى هذا فسر الآية.

(7)

فقيل: الصراط المستقيم: القرآن. وقيل: الإسلام، وقيل: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كله إشارة إلى شيء واحد وإن اختلفت العبارات. والثاني أن طريق النجاة بإضافة بعضها إلى بعض كثيرة، ولكن بعضها أقصد، وبعضها أبعد، وأقصد الطرق الطريق المستقيم الذي هو طريق السابقين دون طريق المقتصدين الظالمين وإن كانا مؤديين إلى النجاة أيضاً، ولكنهما أبعد, ألا ترى أنه قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} - الآية - فجعل ثلثهم مصطفين، ولكون بعض الطرق أقرب من بعض، قال النبي عليه السلام في قوم: " إنهم يدخلون الجنة قبل آخرين بكذا سنة). قوله - عز وجل -: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: الآية (7) - سورة الفاتحه. الإنعام: إيصال الإحسان إلى الغير، والنعمة - يقال فيما يرتضيه العقل وإن كان كريه المحتمل - والنعمة - قد يقال فيكا يستلذه الهوى، وإن كان كريه العاقبة - هذا هو الحقيقة، وإن كان قد يعد الإنسان بسوء تصوره بعض ما يستلذه هواه نعمة وإن كان وخيم العقبى. ونعمة الله، وإن كانت لا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فهي بالقول المجمل ضربان دنيوي وأخروي. فالدنيوي ضربان موهبي ومكتسبي. فالموهبي: ثلاثة: أشرفها: العقل وقواه من الفهم والحفظ والفكر والنطق. ثم البدن: وقواه من الصحة والقوة والجمال والكمال. ثم ما يكنفه من الخارج كالماء والجاه والأقارب والأصدقاء. وأما المكتسب: فأربعة:

وأما المكتسب فأربعة: - الحكمة والعفة وعنها يصدر الجود والنجدة وعنها يصدر الصبر والعدالة. وهي ثلاث: عدالة في نفس الإنسان. وذلك بأن يجعل هواه تابعاً لعقله، وعدالة بين العبد وخالقه وذلك في توفية حق العبادات، وعدالة بين كل إنسان وبين غيره في المعاملات، وهذه الأربعة ينطوي عليها العبادة المأمور بها في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وأما الأخروي: فرضاء الخالق. ومعاشرة الملائكة. وبقاء الأبد. والغني عن كل حاجة إلا إليه تعالى. وعلى ذلك دل قوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فالنعمة الحقيقية التي لا غناء عنعا، ويقال لها الخير المطلق هي الأخروية، فأما الدنيوية فضربان: ضرب هو نافع ضروري في الإيصال إلى الخير المطلق، وهي المكتسبات، فإنها ضرورية فيه، إذ لا يمكن الوصول إلى نعيم الآخرة إلا بها أو ببعضها، ولذلك قال تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وضرب غير ضروري، وقد يكون تارة نافعاً في بلوغ المقصود، وتارة ضاراً فيه، نحو المال والجاه والقوة والجمال، ولذلك لا يقال في الملك: إنه نعمة على الإطلاق، لأنه قد يكون نعمة لزيد، ونقمة على عمرو، ولهذا قيل " " رب مغبوط بأمر وهو داؤه. ومرحوم بأمر هو شفاؤه " ولذلك قال بعض الصالحين: (يا من منعه عطاء)، وقال آخر: (يا من لا يستحق بمنعه الشمر سواه)، وعماد ذلك كله في إيصالنا إلى المقصود من نعيم الآخرة توفيق الله - عز وجل -، فقد قيل لبعض الحكماء: ما الذي لا يستغنى عنه في كل حال؟ فقال: التوفيق. إذا ثبت معرفة أنواع النعم، على أن قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: يعني به من سهلت عليهم طريق الفوز بإعطائهم ما يمكنهم منه، ومنهم ما يثبطهم عنه، ومن المفسرين من قال: أراد به أن عرفهم مكائد الشيطان وخيانة النفس، ومنهم من قال: عنى الإنعام عليهم بالعلم والفهم وكل هذا أبعاض للحكمة، فالوجه: أن يجري ذلك على العموم في كل ما صح أن يكون نعمة بدلالة قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} , وهؤلاء المنعم عليهم: المعنيون بقوله تعالى:

{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هم المذكورين بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} وقوله - عز وجل -: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} الآية: (7) - سورة الفاتحة أصل " الغضب ": غليان دم القلب إرادة الانتقام، ومبدأ الغضب: انفعال مكروه، بدلالة قوله عليه السلام: " إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار " وقال عليه السلام: " اتقوا الغضب، فإنها جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه فمن وجد من ذلك شيئاً، فليلزم الأرض " والغضب: " والغم " ثوران في النفس، وهما من أصل واحد - إلا أنه متى كان معه الطمع في الوصول إلى الانتقام كان غضباً، وإذا لم يكن معه الطمع كان غماً، فإذا: الغم والحزن: هما ما ينال الإنسان ممن فوقه، والغضب ما يناله ممن هو دونه، فيختلفان لا بالذات، ولهذا قال بعض المحدثين: " فحزن كل أخي حزن أخو الغضب ". فإذا ثبت ذلك، فالغضب من الصفات التي لو خلينا ومجرد العقل لم نجوز وصف الباري - عز وجل - بها، لكن أطلقنا عليه ذلك لما جسرنا السمع، وفسح لنا الشرع على معنى صحيح هو أنه قد تقم أن الصفات - التي مبدؤها انفعالات، ومنتهاها فعل - متى وصف الباري تعالى به أريد به المنتهى دون المبدأ، فإذا المراد بالغضب في صفته تعالى: إرادة الانتقام، وعلى هذا فسر المتكلمون: فقال بعضهم: هو إرادة الانتقام، وقال بعضهم، هو ذم العصاة، وقال بعضهم: هو حنس من العقال، وقال بعضهم: هو استجتزة البطش. لاستنكار أمر، وقال بعضهم: هو الانتقام، وهذه التفاسير عنهم متقاربة [وكلها] لنظرهم منه إلى منتهى الغضب دون مبدئه، وأما الضلال والخطأ: فالعدول عن الصراط المستقيم عن الصواب، سواء كان العدول عن ذلك عمداً

أو سهوا، وسواء كان يسيراً أو كثيراً، والصواب من الشيء يجري " مجرى القرطاس " من المرمى في أنه هو الصواب. وباقية ضلال وخطأ. ولهذا قال الحكماء: كوننا أخياراً من وجه واحد، وكوننا أشراراًَ من وجوه كثيرة، ولهذا روي عن بعض الصالحين أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في منامه، فقال له: ما الذي شيبك يا رسول الله - حيث قلت: " شيبتني هود وأخواتها "؟ فقال: مثل قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} واصعوبة الصواب وكونه واحداً، قال عليه السلام: (استقيموا ولن تحصوا)، وعلى هذا النظر قال: (من اجتهم فأصاب فله اجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر) فإذا ثبت أن كل عدول عن الغرض والمقصود يقال له خطأ وضلال، وأن الصواب في نهاية الصعوبة، علم أنه ليس كل ضلال وخطأ يستحق به العقاب الدائم. بل كما يسمى أكبر الكبائر نحو: الكفر ضلالاً وباطلاً وخطأ وقد يسمى بذلك اصغر الصغائر. قال يجب أن يشككنا مشكك إذا رأينا بعض الأولياء موصوفاً بضلال وخطأ، كما رأينا الكافر موصوفاً بهما، فقد يتقارب الوصفان حداً، وموصوفاً هما متباعدان، فغرض الضلال والخطأ عريض، والتفاوت بين أدناه وأقصاه كثير. ولذلك قال تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أي: ووجدك غير مهتد إلى ما سبق إليك من النبوة والعلم، ونحوه قوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وقد يعبر عن سوء الاختيار بالضلال نحو قوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}، ويعبر عن الخيبة بالضلال والغي والخطأ، كما قال في الكفار: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}، فإذا ثبت ذلك،

فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " المغضوب عليهم " - ههنا: اليهود، و " الضالين ": النصارى، ودل على ذلك قوله في اليهود {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ}، وقوله في النصاري: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}، إن قيل: كيف فسر على ذلك كلا الفريقين ضال ومغضوب عليه؟ قيل: هو كذلك، ولكن خص تعالى كل فريق منهم بصفة كانت أغلب عليهم، وإن شاركوا غيرهم في صفات ذم. إن قيل: ما الفائدة في ترادف الوصفين، وأحدهما يقتضي الآخر؟ قيل إن: اقتضاء أحدهما الآخر من حيث المعنى، وليس من شرط الخطاب أن يقتصر في الأوصاف على ما يقتضي وصفاً آخر دون ذلك الآخر. ألا ترى أنك تقول: " حي سميع، بصير "، والسمع والبصر يقتضي الحياة. ثم ليس من شرط ذلك أن يكون ذكره لغواً, وإنما ذكر {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء، ليس هو النعم العامة، بل ذلك نعمة مخصوصة، وقوله: " غير " إذا خفض: فصفة، ويصح أن يوصف ما فيه الألف واللام، ويدل على الجنس بـ " غير " و " مثل " وأخواتها، لكونه قريباً من النكرة ولا يصح أن يوصف به ما فيه الألف واللام، ودل على العهد، ولا سائر المعارف، ويجوز خفضه على البدل: وإذا نصب: فحال: إما من الضمير في " عليهم " أو من " الذين " قال الأخفش: ويصح أن يكون استثناء. ولم يجوز ذلك الفراء، لأن الاستثناء لا يعطف عليه بـ " لا "، لا تقول: رأيت القوم إلا زيداً ولا عمرواً، قال أبو علي الغمري - رحمه الله - من جعله استثناء فإنه يقول: أدخل عليه " لا " حملاً على المعنى قولهم: " أتاني القوم إلا زيداً " أتوني لا زيداً. وتجعل " لا " زائدة "، وزل أبو علي الجبائي في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} زلة عظيمة في النحو، وقال: ذكر " المغضوب " بلفظه المفرد، وهو يعني الجماعة، قال: إلا أن هذا يجوز في سعة الكلام، وخفي عليه أن المتعدي بالجار يدخل التثنية والجمع على الضمير المتصل به دون لفظ المفعول.

(آمين)

وقوله: (آمين): قيل: هو اسم الفعل، كصه ومه، ومعناه: استجب - وذلك عن الحسن - وإليه ذهب الأحفش، ويدل على كونه اسم فعل ما روي أن موسى كان يدعو وهارون - عليهما السلام - كان يؤمن، فقال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا}، فكما أن قول [موسى عليه السلام] {ارَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} جملة، فكذل قول هارون (آمين) جملة من حيث المعنى، وقال مجاهد وابن جبير وجعفر بن محمد: هو اسم من أسماء الله - عز وجل - وقال أبو علي الغنوي: تأويل ما قالوه: إن هذا الاسم لما تضمن الضمير المرفوع، وهو ذكر الله، قالوا: هو اسم الله، لأن الكلمة كما هي اسمه وما روي عن أمير المؤمنين -[رضي الله عنه] أنه قال: آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده، فقد قيل: إن ذلك ليس بتفسير لآمين. وإنما هو وصف له. ومن قال: " آمين " بالمد: فقد قال الأحفش: هو اسم أعجمي نحو " حاميم ". وقال محمد بن يزيد: هو علي مثال عاصين، وليس يعني أنه جميع، ولا أن النون فتحت كما فتحت في عاصين، وإنما يريد: أن لفظه كلفظه: وقيل إن الألف: فيه زيادة للمد، نحو: " ينباع " و " أتطور " في: " ينبع " و " أنظر ".

سورة البقرة

(سورة البقرة) قوله - عز وجل - {الم}: الآية (1) - سورة البقرة. اختلف الناس في الحروف التي في أوائل السور، فقالوا فيها أقوالاً جلها مراد باللفظ وغير متناف على السير، لكن بعضها مفهوم بلا واسطة، وبعضخا مفهوم بواسطة، فنقول وبالله التوفيق: إن المفهوم من هذه الحروف الأظهر بلا واسطة ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغو كالفراء وقطرب، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما - وكثير من التابعين على ما بين من بعد، وهو أن هذه الحروف لما كانت هي عنصر الكلام ومادته التي تركب منها بين تعالى أن هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم تنبيهاً لهم على إعجازهم، وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم مع تظاهركم عن معارضته، وأما اختصاص هذه الحروف وهذا العدد المخصوص وكونها في سور معدودة وجعل بعضها مفرداً، وبعضها ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وخماسياً، ثم لم يتجاوز ذلك واختصاصها ببعض الحروف دون بعض، ففيها عجائب وبدائع إذا اطلع عليها علم أنه كما وصفه تعالى بقوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، والقول في ذلك إن حروف التهجي قد قيل: ثمانية وعشرون. وقيل: تسعة وعشرون، وهذا الخلاف من حيث أن " الألف " حرف لا صورة له في اللفظ حتى قال بعض الناس: الألف - في حروف التهجي: حرف لا ساكن ولا متحرك، وإنما هو مدلاً اعتماد له وقيل: إن الله تعالى جعل هذه الحروف طبقاً للعدد الذي هو أصل العلوم، ولو توهم ارتفاعه سائر العلوم، لأن عقود الأعداد ثمانية وعشرون: آحاد: وهي تسعة, وعشرات، وهي تسعة، ومائات، وهي تسعة وألف: وهو واحد، ثم الباقي مكررات، وجعلها أيضاً لمنازل القمر، وهي ثمانية وعشرون إلى غير ذلك من العجائب، وأما " لام الألف ": فمركب من حرفين، ولا اعتداد به في حصر المفردات، وقد قال بعض النحويين: إن ذلك أن يقال: " لا "، ذاك أنهم لما أرادوا تعريف صورة لفظ الألف مفردة: ولم يكن سبيل إلى التفوه به مفرداً، إذ لا يكون إلا مدة ضم إليها اللام ليمكن النطق به. وخص بذلك اللام لعله مذكورة في موضعها. فإذا ثبت ذلك فقد قيل: إن السور التي ذكر في أزائلها هذه الحروف تسع وعشرون، وجعل ذلك تنبيهاً على عدد حروف التهجي - إذا عد فيها الألف. وقد ذكر هذه الحروف مفردة وتنائية إلى الخمسية تنبيهاً أن الكتاب المنزل على رسوله مركب من كلماتهم التي هي أصولها:

إما مفردا وإما ثنائياً - إلى الخماسي - وإن أصول أبنية كلامهم لا يتجاز ذلك. وجاء ثلاث سور مفتتحة بمفردات، وتسع سور بالثنائيات. وثلاث عشرة سورة ثلاثيات، وسورتان برباعيات، وسورتان بخماسيات، وذلك " صّ " و " قّ " و " نّ " و " طّه " و " يسّ " و " طسّ " وست من الحواميم، و " المّ " في ست سور. و" الرّ " في خمس سور، و " طسّم " في سورتين، و " المرّ "، و " المصّ "، و " كهيعصّ " و " حمّ عسق "، فجعل عدد الثلاثي أكثر تنبيهاً أن أكثر تراكيب كلامهم الثلاثي. وباقيها أقل. وإنما جعل الثلاثي ثلاثة عشر تنبيهاً أن أصول الثلاثي المستعملة: ثلاثة عشر: عشرة منها للأسماء المستعملة وذلك " فّعْل " " كعْاس "، و " فُعْل " كقُفُل، و " فِعْل " كقِرْد، وفَعَلِ كجعل، و " فَعُل " كعضُد، و " فَعِل " ككتف وفعل كابل وفعل كعنق، وفعل كعنب، و (فعل) كصرد، وثلاثة للأفعل: " فَعَل " و " فَعُل " و " فَعِل " ولم يعتد بـ " فُعِلَ ": أما في الأسماء، فلأنه لم يوجد ما يعتد به، أما في الأفعل: فإن الفعل في الأصل يجب أن يبنى للفاعل ويسند إليه دون المفعول. وأما التسعة الثنائية، فتنبيهاً أن ما جاء من الكلم على حرفين تسعة اضرب ثلاثة للحروف: " إن " و " مّن " ومذ إذا جر به - وثلاثة للأسماء: " من " و " إذ " وهذا إذا رفع به. وثلاثة للأفعال في الاسعمال، نحو " قل "، و " بع " و " خف " وأما الثلاثة المفردة: فتنبيهاً أن الحروف ثلاثة أضرب مفتوح ومكسور وساكن، نحو: له، وبه، ولام التعريف، وأما الرباعيان والخماسيان، فتنبيهاً أن لكل واحد منهما ساكن أصلاً وملحقاً به، أما الأصل: فكجعفر وسفرجل، وأما الملحق بهما: فكقرد وحجنكل، واقتصر من حروف التهجي على النصف منها - وهو أربعة عشر حرفاً من غير تكرير - لتدل على حكم عجيبة. ولما خص نصفها بالذكر أورد فيها من الحروف المجهورة والمهموسة والشديدة، وما ليس بشديدة، واللينة والمطبقة وحروف البدل وما لا يصح فيه الإدغام، وما لا يدغم فيما قاربه، ولا يدغم ما قاربه فيه، وما لا يدغم فيما قاربه، ويدغم ما قاربه فيه، ومن حروف اللقلقة ومن الحروف التي للعرب دون العجم، من كل ذلك ما هو زوج، واحتمل التنصيف فإنه أخرج نصفه، ومن كل ما هو فرد لا يحتمل التنصيف نصفه بإسقاط حرف أو زيادة حرف، وأما الحروف الذلقية والحلقية، والزوائد، فقد زيد فيها على النصف بخاصية فيها: من ذلك: الحروف المجهورة: وهي ما أشبع للاعتماد على منبعه،

ولم يجر معه النفس، وهي تسعة عشر حرفاً يجمعها: (زاد ظبي غنج لي ضموراً إذ قطع) أسقط منها الألف الزائدة التي قيل فيها: إنه لم يعتد بها من حيث لا تكون إلا مدة، وذكر نصفها في هذه الأربعة عشر، وهي تسعة يجمعها: " لن يقطع أمر ". والمهموسة: وهي: ما ضعف الاعتماد على منبعه، وذلك عشرة يجمعها: " (ستشحثك خصفه) ذكر منها في هذه الأربعة عشر نصفها، وهي ما يجمعها: (صه حسك) والشديدة: وهي ثمانية يجمعها: " أجدت طبقك " ذكر نصفها، ويجمعها " أقطك " وباقيها [رخوة] وهو: أحد وعشرون، إذا سقط منها الألف فنصفها عشرة يجمعك " حمس على نصره ". واللينة حرفان - سوى الألف: الواو والياء، وفي هذه الأربعة عشر أحدهما: وهو الياء، والمطبقة أربعة: ص، ض، ط، ظ. ذكر اثنان منها، وهي: الصاد والطاء. وحروف البدل اثنا عشر حرفاً - فيما ذكر سيبويه - يجمعها: (أجد طويت منها): ذكر منها ستة يجمعها " أهطمين " وترك باقيها. وإنما لم يجر مجرى غيرها في أن ترك منها الألف ثم نصف، بل زيد لأمر اختص به باب البدل، وهو أن الألف في باب البدل أكثر من سائر الحروف، فلم يجز الإخلال بها في باب الإبدال وأما على غير طريقة سيبويه، فقد بلغ حروف البدل ثمانية عشر، فعد فيها اللام بدلاً من النون في " أصيلان " والصاد تبدل من " السين " في " الصراط " و " الثاء " من " الفاء " في " فروع الدلو " والفاء من التاء في " جدث " و " جدف " و " ثوم " و " فوم " والعين من الهمزة في عنعنة تميم، نحو قوله: أأن ترسمت من خرقاء منزلة. في " أأن ترسمت " والباء من الميم " باسمك " في " ما اسمك " والزاي من السين في قولهم: " زقر " أي " سقر " - فعلى هذا - في الحروف من الثمانية عشر تسعة، وهي الستة المذكورة واللام، والصاد، والعين. وما لا يصح فيه الإغام: اثنان: الهمزة والألف. وذكر أحدهما. وما لا يدغم ولا يدغم فيه: فالواو والياء - إذا انفتح ما قبلهما - وقد ذكر أحدهما. وأما الحروف التي لا يدغم فيما قاربها، ويدغم ما قاربها فيها: فهي الميم، والراء، والشين، والفاء، وقد ذكر من هذه الحروف اثنان، وأما حروف اللقلقة: فخمسة: القاف، والجيم، والطاء، والدال، والباء، وذكر منها اثنان: الطاء والقاف وهما

أقوى الخمسة. وأما الحروف التي للعرب دون العجم: فالضاد والحاء، وقد ذكر أحدهما. وأما الحروف الذلقية: وهي التي ذلقت وسهلت على اللسان، فستة يجمعها " رمل فنب ". وحروف الحلق وهي ستة: الحاء، والخاء، والعين، والغين، والهاء، والهمزة، فقد ذكر من النوعين أكثر من النصف للتنبيه على كثرة وقوعهما في الكلام، إذ قل ما ينفك رباعي وخماسي من حرف أو حرفين وثلاثة من هذه الحروف، فلما كثر وقوعها في الكلام أيد المذكور منهما على النصف تنبيهاً على ذلك. وأما الزوائد: فعشرة يجمعها (اليوم تنساه) وقع في هذه الحروف منها سبعة لخاصية فيها، وهي التنبيه على أن البناء من الكلمة قد يبلغ سبعة أحرف بالزيادة، فهذه هي التي زاد المذكور منها على النصف لفائدة تختصه وحكمة تقتضيه. وما روي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن هذه الحروف اختصار من كلمات، فمعنى " الم ": أنا الله أعلم، ومعنى " المر " أنا الله أعلم وأرى، فإشارة منه إلى ما تقدم. وبيان ذلك ما ذكره بعض المفسرين أن قصده بهذا التفسير ليس أن هذه الحروف مختصة بهذه المعاني دون غيرها، وإنما أشار بذلك إلى ما فيه الألف واللام والميم من الكلمات تنبيهاً أن هذه الحروف منبع هذه الأسماء، ولو قال: إن اللام يدل على " اللعن "، والميم على " المكر " لكان يحمل، ولكن تحرى في المثال اللفظ الأحسن، كأنه قال: هذه الحروف هي أجزاء ذلك الكتاب. ومثل هذا في ذكر نبذ تنبيها على نوعه قول ابن عباس - رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أنه الماء الحار في الشتاء، ولم يرد به أن النعيم ليس إلا هذا، بل أشار إلى بعض ما هو نعيم تنبيها على سائره، فكذلك أشار بهذه الحروف على ما يكتب منها، وعلى ذلك ما رواه السدي عنه أن ذلك حروف إذا ركبت يحصل منها اسم الله. وكذا ما روي عنه أنه قال: هي أقسام غير مخالف لهذا القول، وذلك أن الأقسام الواردة في فواتح السور إنما هي بقسم وأجوبتها تنبيه عليها. فيكون قوله: " ألم ذلك الكتاب جملة في تقدير مقسم بها. وقوله: " لا ريب فيه " جوابها، ويكن إقسامه بها تنبيهاً على عظم موقعها، وعلى عجزنا عن معارضة كتابه المؤلف منها. فإن قيل: لو كان قسماً لكان فيه حرف القسم. قيل: إن حرف القسم يحتاج إليه إذا كان المقسم به مجروراً. فأما إذا

كان مرفوعاً نحو و " أيم الله، أو منصوباً، نحو يمين الله فليس بمحتاج إلى ذلك وما قاله زيد بن أسلم والحسن، ومجاهد، وابن جريج أنها أسماء للسور فليس بمناف للأول، فكل سورة سميت بلفظ متلو منها، فله (معنى) في السورة معلوم. وعلى هذا القصائد والخطب المسماة بلفظ منه يفيد معنى فيها، وكذلك ما قاله أبو عبيدة، وروي أيضاً عن مجاهد، وحكاه قطرب والأخفش. أن هذه الفواتح دلائل على انتهاء السورة التي قبلها، وافتتاح ما بعدها، فإن ذلك يقتضي من حيث إنها لم تقع إلا في أوائل السور ولا يقتضي أن لا معنى لها سواه، كما أن بسم الله في أوائل السور يقتضي ما قالوه ولا يوجب ذلك أن لا معنى سواه. وما ذكر من أن هذه الحروف قصد بها الرد على من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتلقن ما يودعه القرآن من بعض الأعجمين، وذلك في قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فذلك شبيه أن هذه الصورة المخصوص بها القرآن، هي من النظم الذس أصوله عندكم، وذاك أن القوم لم يدعوا أن لفظ هذا القرآن أعجمي، وإنما ادعوا أن معناه مأخوذ عنهم ولهذا قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} فإذا: المعنى يرجع إلى ما تقدم بأنه تنبيه على إعجازه. وما قاله قطرب إنه قصد بها صرف أسماع المشركين إلى الاستماع إليه لما تواصلوا بأن لا يستعموا له حتى قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فإنما يشير به أيضاً إلى المعنى المتقدم، لأنه تعالى قصج بصرف أسماعهم تنبيههم على عجزهم عن معارضته، وأن من حقكم إذا عجزتم عن مثله أن تتدبروا آياته، وأن تعرفوا أنه حق فلا تلغوا فيه. وما روي عن اين عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الألف من " الم " على " الله "، اللام على " جبرائيل "، والميم على " محمد "، فدل بذلك على أن القرآن (من الله) - عز وجل - مبدؤه، وأن الواسطة: " جبريل ". ومنتهاه إلى محمد. فهذا صحيح ودال على ما تقدم، وفيه نبه بمخرج " الألف " الذي هو مبدأ مخارج الحروف على المبدأ، وهو الله تعالى، وبمخرج اللم الذي هو أوسط المخارج على جبريل، وبمخرج الميم الذي هو منتهى المخارج على المنتهى الذي هو النبي - عليه السلام -.

(2)

فكأنه قال: من هذه الحروف الدالة على الأسباب الثلاثة حصول الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بمثله. وما قاله الربيع بن أنس أن هذه الحروف حروف الجمل، وأن ذلك من علوم خاصتهم، وقد نبه بها على مدد، فذلك غير ممتنع أن يكون مع المعنى الأول مراداً، بدلالة أن النبي - عليه السلام - لما أتاه اليهود فسألوه عما أنزل عليه، تلا عليهم " الم "، فحسبوه، وقالوا: إن ملكاً يبقى إحدى وسبعين سنة لقصير المدة فعل غيره؟ فقال: " آلر "، و " آلمر " و " آلمص " فقالوا: خلطت علينا، فإنا لا ندري بأيها نأخذ. فتلاوة النبي - عليه السلام - ذلك عليهم، وتقريرهم على استنباطهم دلالة أنه لا يمتنع أن يكون في كل واحدة دلالة على مدة لأمر ما. وأما ما حكي عنالزبيري أن هذه الحروف ذكرت علماً منه تعالى أن يكون في هذه الامة من يزعم أن القرآن ليس بكلام الله، وإنما هو حكاية كلامه، فأراد أن يبين أن القرآن مما يكتب ويخبر عن أبعاضه وأجزائه بالحروف التي هي معلومة إنها محدثة، فإن هذا القول من الوهي بحيث يستغنى عن إظهار بطلانه، إذ لا يقول أحد إن الكتاب بما هو كتاب ليس بمؤلف من هذه الحروف وإن كانوا قد اختلفوا في القرآن. بل هو مقصور على الكتاب، أو المراد به هو غيره. قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} الآية (2) - سورة البقرة. قال أبو عبيدة: عنى به هذا الكتاب. وقال غيره: عنى هو الكتاب، فظن بعض من لم يتقو في الحقائق أن قولهم: " ذلك " قد يجئ بمعنى " هذا " و " هو " ليس الأمر على ما ظنوه. وإنما قصد هذا المفسر أن يبين أن الاسم الذي فيه الألف واللام هو الخبر، لا لأنه وصف والخبر منتظر، كقوله تعالى: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} والفصل كما يقع بالمضمرات فإنه يقع بالمبهمات فإن قيل: إذا كان هذا المعنى ما قدمت في " الم ذلك الكتاب " فهلا قيل: " ذلك الكتاب ألم " فإنه قد علم أن حروف التهجي - كما يكون الكتاب المشار إليه - قد يكون شعراً وخطبةً ورسالةً. وقد تقرر أن العام إذا أخبر عنه بالخاص كان كذباً، نحو قولهم: الحيوان إنسان وإذا أخبر عن الخاص بالعام كان صدقاً، نحو قولهم: الإنسان حيوان، فيحصل من ذلك أنه إذا قيل: " الم

ذلك الكتاب - كان كذباً على هذا - وإذا قيل: " ذلك الكتاب الم " كان صدقاً؟ قيل: في ذلك الكتاب جوابان أحدهما: أن يجعل " ذلك الكتاب ": مبتدأ. و" الم ": خبراً له مقدماً، وتقديمه على كون العناية به أصدق كما تقدم. والثاني: أنه قد يقال: الإنسان زيد. بمعنى غير معنى " زيد إنسان " وهو أن يراد أن كما الإنسانية موجود في زيد. فكأنه قيل: كمال حروف التهجي موجود في هذا الكتاب والمكتوب في التعارف اسم للمكتوب، أي: المنظوم كتابة، وقد يعبر عن المنظوم عبارة قبل أن يكتب بالكتاب. قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} الآية: (2) - سورة البقرة. قال المفسرون: معناه لا شك فيه، فإن قيل: كيف نفى الريب عنه، وقد علم تشكك كثير من الناس فيه؟ قيل: في ذلك أجوبة: الأول: إن ذلك نفي على معنى النهي نحو قوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، بدلالة قوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وقوله: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} فإن قيل: الشك لا يقصده الإنسان، فكيف ينهى عنه؟ قيل: اللفظ لذلك، والمعنى حث على التدبر والتفكر النافيين للشك. والثاني: أنه يقال: رابني كذا، إذا تحققت منه الريبة، وأرابني: أوهمني الريبة. قال الشاعر: أخوك الذي إن ربته قال إنما. . . أربت وإن عاتبته لان جانبه فالقرآن لا ريب فيه، وإن كان فيه ارتياب من بعض الكفار، والثالث أنه يقال: هذا لا ريب فيه، والقصد إلى أنه حق، تنبيهاً أن الريب يرتفع عن عند التدبير والتأمل، والرابع: أنه لا ريب في كونه مؤلفاً من حروف التهجي وقد عجزتم عن معارضته، والخامس لا ريب فيه للمتقين، ويكون خبر (لا ريب فيه) قوله تعالى: (للمتقين) وهدى نصب على الحال أو خبر ابتداء مضمر في موضع الحال. قوله عز وجل -: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} الآية: (2) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في الهداية. أما اختصاص المتقين، فلأن الهداية: نصب العلم ليهتدي به الناس فله موضوع هو المبدأ: وذلك نصب العلم للكافة. وغاية: وهو الاهتداء به، فيقال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} لما لم يهتد به غيرهم. ومثاله: من بنى مسجداً مباحاً للكافة. يصح أن يقول: " بنيت هذا المسجد للناس كافة "، اعتباراً بالمبدأ. ويصح أن يقول: بنيته للمصلين فيه، اعتباراً بالغاية. وطريقة أخرى: وهي أن

" اللام " في قوله القائل " خرجت لأظفر " يقال على وجهين: أحدهما أن المقصود بالخروج: الظفر والثاني: أن الحاصل منه الظفر، لا أنه قصد به، وعلى ذلك قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} فقوله: هدى للمتقين: تنبيه على حصول الهدى لهم، وإن كان القصد لهم ولغيرهم. وطرقة ثالثة - إذا تؤملت تصور عنها جواب مسائل كثيرة في القرآن - وهو أن الله تعالى جعل لنا طبين طبا بدنياً، وطباً دينياً. وكل واحدٍ منهما ضربان: أحدهما: إعادة الصحة. والآخر: حفظ الصحة. قد أجرى العادة أن الذي يحفظ به الصحة غير الذي يعاد به الصحة أما في الطب البدني: فالذي يعاد به الصحة العقاقير والأدوية. والذي يحفظ به الصحة فالغذاء والأطعمة، وأما في الطب الديني فالذي يعاد به الصحة صقل العقل واستعماله في تدبر الدلالات، وتعرف المعجزات، ومعرفة النبوات. والذي يحفظ به الصحة: تدبر الكتاب المنزل، وتتبع سنن النبي المرسل. فكما أن من لم يستفد الصحة في الطب البدني، إذا تغذى، كان ذلك ضرراً عليه، ومتى أعاد صحته كان تناول الغداء عائداً بنفع إليه، كذا من لم يستفد صحة عقله بتدبر الدلالات كان القرآن ضرراً عليه، ومتى استعمل ذلك وتهذب فيه، جلب بالاستماع إلى القرآن نفعاً إليه. وعلى ذلك قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًاء} وقوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} إلى قوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وأما [التقوى] فهو: جعل النفس في وقاية مما يخاف. هذا حقيقته. ثم يسمى تارة " الخوف " التقوى. والتقى: خوفاً على تسمية المقتضي باسم المقتضي والمقتضي باسم المقتضي وفي التعارف: حفظ النفس عن كل ما يؤثم. ولها منازل: الأول: ترك المحظور. وذلك لا يتم إلا بترك بعض المباح مما يليه. ولذلك قال عليه السلام " من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " وقيل: من

لم يجعل بينه وبين محارم الله ستراً من حلال، فحقيق به أن يقع فيها. فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي: التاركين للمحظورات. وقال {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} فجعل " المتقي " - في الآيتين - غير المصلح والمحسن. والثاني: من منازل التقوى - أن يتعاطى الخير من تجنب الشر، وإياه عنى الله تعالى بقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} والثالث منها: التبرؤ من كل شيء سوى الله - عز وجل - فلا سكون إلى النفس ولا إلى شيء من القنيات والجاه والأعراض. وهو المعنى بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وما وعدناه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} ورجاناه بقوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فهذه المنازل مرتب بعضها على بعض. وقد فسر قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} على الوجوه الثلاثة، فقيل: عني به التاركين لمحارم الله. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما: عني به الخائفين عقوبته الراجين رحمته، وقال بعض المتقدمين: معنى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أي وصلة للمنقطعين إليه عن الأغيار الذين نزع عن قلوبهم حب الشهوات. فهذا نظر منهم إلى الغاية.

قوله - عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الآية: (3) سورة البقرة. الإيمان: التصديق بالشيء، ولا يكون التصديق إلا عن علم. ولذلك قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فالإيمان: اسم لثلاثة أشياء: علم بالشيء وإقرار به، وعمل بمقتضاه، إن كان لذلك المعلوم عمل، كالصلاة والزكاة. وهذا هو الأضل، ثم قد يستعمل في كل واحد من هذه الثلاثة، فقال: " فلان مؤمن "، ويعني به أنه مقر بما يحصن دمه وماله وإياه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "، وبذلك حكم - عليه السلام - على الجارية التي عرضت عليه فسألها ما سألها. ثم قال: " اعتقها فإنها مؤمنة " ويقال: " مؤمن " ويراده: أنه يعرف الأدلة الإقناعية التي يحصل معها سكون النفس، وإياه عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة "، ويقال: " مؤمن "، ويعني به: أنه يسكن قلبه إلى الله من غير تلفت إلى شيء من عوارض الدنيا وإياه عنى الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية، وبقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} و " الغيب ": ما لا يقع تحت الحواس، ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم إما بواسطة علم ما أو الاستشهاد به عليه، وإما بخبر الصادق، وهو الذي دفعه قوم، فلزمهم اسم الإلحاد، لأن الإلحاد: دفع أخبار الغيب، وقول: " زر بأن ": الغيب: هو القرآن. وقول عطاء: إنه القدر: تمثيل لبعض ما هو غيب. وليس ذلك بخلاف بينهم، بل كل أشار إلى الغيب بمثال وكذا ما روى أبو جمعة " إنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا يا رسول الله: هل قوم أعظم أجرا منا، آمنا بك واتبعناك. قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين،

فيؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم أجراً منكم " فتبين منه - عليه السلام - أن من بعده يحتاج إلى نظر أكثر من نظر الذين شاهدوه فقد كفوا كثيراً من أخبار الغيب. وقوله: " بالغيب " في موضع المفعول. كقوله: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وقال بعضهم: معناه: يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا كالمنافقين الذين {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. وقوى ما قاله بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} وقوله {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}، قول الشاعر: وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا ويكون " بالغيب " على هذا في موضع الحال. ومفعول: " يؤمنون ": محذوف. وقال بعض المتأخرين من المتكلمين: يحمل قوله تعالى " بالغيب " على المعنيين وخفي عليه أن ذلك لا يصح، فإن وبالغيب في القول الأول: مفعول: في القول الثاني: حال لا يصح أن يقال ضربت راكباً، و " راكب " يكون مفعولاً: لـ " لضربت " و " حالاً " للفاعل. والوجه: هو القول الأول، لأنه مستوعب لمعنى الثاني وزائد عليه، إذ كل من آمن - على الوجه الأول - فلا شك أنه بخلاف من يقول: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وقيل: معنى قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} يعني بالقلب، والنور الذي آتاهم الله وهو العقل، ومعناه: آمنوا بقلوبهم، بخلاف من أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} ومن حكى عنهم: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وهذا أيضاً يرجع إلى الأول عند التحقيق، وقيل: " يؤمنون " من: " آمن فلان " - أي: صار ذا أمنٍ نحو أحال وأجرب. ومعناه: صاروا ذوي أمن بظهر الغيب بأن ما أخبروا به حق، فتطمئن قلوبهم بذكر الله.

قوله (عز وجل): {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}: إقامة الصلاة: توفية حدودها وإدامتها، وتخصيص " الإقامة " تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط. ولهذا لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} و {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ولم يقل المصلي إلا في المنافقين {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} وذلك تنبيه أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل، كما قال عمر - رضي الله عنه [الحاج قليل والركب كثير]، ولهذا قال عليه السلام: " من صلى ركعتين مقبلاً بقلبه على الله خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " فذكر مع قوله - صلى الله عليه وسلم - الإقبال بقلبه على الله تنبيهاً على معنى الإقامة، وبذلك عظم ثوابه وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه ذكره بلفظ الإقامة نحو: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} ونحو: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} تنبيهاً على المحافظة على تعديله. وقال أبو علي الجبائي: الصلاة لما جاورها القيام صح أن يعبر عن المصلى بالقيام وهذا بعيد، لأن المجاور للصلاة القيام لا الإقامة، ثم مع القول المتقدم لا يعرج على هذا، وقوله - عز وجل - {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الرزق: لفظ مشترك، يقال للعطاء الجاري تارة، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة. فقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} يعني نصيبكم من النعمة. وقوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} تنبيه على ان الحظوظ بالمقادير. وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} محمول على المباح دون الحظور لأمرين: أحدهما: [أنه] حث

وعلى الإنفاق، ومدح لفاعل، ولا يحث ولا يمدح بانفاق المحظورات. والثاني: باضافته إليه وتمكينه منه، حيث قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من شرط ما يضاف إليه من الأفعال مفصلاً أن يخص الأفضل، فالأفضل، وإن كان قد يضاف إليه الأفعال كلها على سبيل العموم بمعنى: أنه هو السبب الذي لولاه - تعالى - لم يحصل ولم يكن بوجه والظاهر - من إنفاق ما رزقه الله - المال، وذلك عام فيما يخرج من الزكاة المفروضة، ومن العطايا النافلة، بدلالة أن ذلك مدح منه. والمدح قد يستحق بالفرض والنفل، وما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه عنى " الصلوات المفروضة " والزكوات [المحدودة] فإنه، ذكر أوكد ما يستحق به المدح، إذ لا يعتد بالنفل ما لم يؤت بالفرض، لقوله عليه السلام: " إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة " وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - " إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يضعها في في امرأته " فالإنفاق من الرزق بالنظر العامي من المال كما تقدم. وأما بالنظر الخاصي: فقد يكون الإنفاق من جميع المعاون التي أتانا الله - عز وجل - من النعم الباطنة والظاهرة، كالعلم والقوة والجاه والمال. ألا ترى إلى قوله - عليه السلام - " إن علماً لا يقال به ككنز لا ينفق منه " وبهذا النظر عد الشجاعة وبذل الجاه وبذل العلم من الجود حتى قال الشاعر: والجود بالنفس أقصى غاية الجود. وقال آخر: بحر يجود بماله وبجاهه. . . والجود كل الجود بذل الجاه وقال حكيم: الجود التام: بذل العلم. فمتاع الدنيا عرض زائل ينقصه الإنفاق. وإذا تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعض. والعلم بالضد 0 فهو باق دائم. ويزكو على النفقة، ولا يثلم تناول البعض حال الباقين، وإلى هذا ذهب بعض المحققين فقال: (ومما رزقناهم ينفقون) أي: مما خصصناهم به

(4)

من أنوار المعرفة يفيضون " فعلى هذا عام في كل ذلك. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. سورة البقرة: الآية (4) .. الإنزال، والوحي متقاربان، لكن استعمال " الإنزال " على اعتبار حال المنزل والمنزل إليه بالشرف والمنزلة، لا بالمكان، والوحي: هو الإشارة والإبقاء. وذلك على ثلاثة أضرب بينها الله تعالى في قوله {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ} الأول - من ذلك الوحي: والإنزال الذي بينه تعالى وبين أولي العزم من الرسل بسفير يرونه. والثاني: بسماعٍ من غير رؤية، كحال موسى - عليه السلام - في ابتداء بعثته. والثالث: بالإلهام والإلقاء في الروع. وذلك ضربان: إما الإلقاء في الروع في حال اليقظة، وهو المعبر عنه بالمحدث و " المروع "، وعليه نبه عليه السلام بقوله: (إن في أمتي لمروعين) وقوله: (إن يك في هذه الأمة محدث فعمر بن الخطاب) وقوله (إن روح القدس نفث في روعي) وإما إلقاء إليه في المنام، وذلك ضربان: إما ظاهر من المنام لا يحتاج إلى تعبير ... وإما تلويح ورمز يحتاج إلى تعبيره، ولهذا قال عليه السلام: " الرؤيا الصادقة [الصالحة] جزء من خمس وأربعين جزءاً من النبوة " فالذي يكون في المنام بالإلقاء في الروع، قد يكون لغير الأنبياء - عليهم السلام - والذي يكون بالسماع من غير رؤية قد يكون لغير أولي العزم من الرسل. والذي يكون بالسفير المرئي لا يكون إلا لأولي العزم. وعلى هذا

حال الإنزال، فقد ذكر تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}، وقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ومعلوم أن ذلك بالتمكين والإلقاء في الروع: بالهداية إليه. واليقين أقوى إدراكات العقل، ولهذا قيل: هو مشاهدة الغيوب بعين القلوب تنبيه أنه أقوى إدراكات العقل، كما أن رؤية البصر أقوى إدراكات الحواس، ولصعوبة إدراكه، قال - عليه السلام -: " أخوف ما أخاف على أمتي ضعف اليقين " ولذلك قالوا: اليقين هو اطمئنان القلب اعتباراً بثمرته. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} واستعمل فيه " الرؤية تنبيهاً على ما تقدم، والكلام في ترتيب الآيتين ونظمها صعب. وذاك أنه إن كانت تفصيلاً للمتقين، فالوجه أن يفصل ذلك بفصل لا يدخل أحد القسمين في الآخر، نحو أن يقال: العرب بدوي وحضري، وشاعر وغير شاعر. أو تميمي وغير تميمي، فأما أن يقال: شاعر وتميمي، فلا يصح، ومعلوم أن بعض ما ينطوي عليه أحد الآيتين داخل في جملة الأخرى. وإن كان ذلك ليس بتفصيل، وإنما هي صفات للمتقين، ويكون ذكر بعض ذلك مخصصاً عن الجملة كذكر جبرائيل وميكائيل بعد الملائكة على سبيل التخصيص، فالوجه: أن لا يعاد " الذين " ثانياً، [ثم] قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الآية: (5) - سورة البقرة. [يجب أن يعلم هل هما صفتان لموصوفين أو لموصوف واحد] فيقال - وبالله التوفيق: إنه قد قيل: الآيتان - وإن كانتا عامتين فمعناهما خاص. فالأولى أشير بها إلى الذين آمنوا عن الشرك، والثانية إلى الذين آمنوا من أهل الكتاب - وهو قول ابن عباس - واستدل على تقوية ذلك بأنه كما صنف الكفار - بعد

ذلك - فجعلهم " مجاهداً " و " منافقاً "، كذلك صنف المؤمنين، فجعلهم مؤمناً عن شرك، ومؤمناً عن غير مخالف في النبوة. فعلى هذا قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} كأنه قيل: هذا الكتاب هدى للمسلمين الذين هذا وصفهم. ولأهل الكتاب الذين جمعوا بين الإيمان بك وبمن تقدمك. وقد قيل فيه قول ثان: وهو أن الإيمان ضربان: ضرب يمكن أن يدرك جملتها بالعقل، وإن لم يكن إدراك تفاصيله إلا بالشرع. وذلك ثلاثة أشياء. ذكرها في الآية المتقدمة: وهي أفضل ما يؤدي بالجوارح وهي الصلاة. وأفضل ما يؤدي من الأملاك، وهو الزكاة. وذلك صفات المتقين. ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة أشياء. ذكرها في الآية المتقدمة: وهي أفضل ما يؤدي بالجوارح وهو الصلاة. وأفضل ما يؤدى من الأملاك، وهو الزكاة. وذلك صفات المتقين. ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة أحوال من أسرار الإيمان مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالسمع وهو الإيمان بالقرآن والإيمان بالكتب المنزلة على الرسل المتقدمة الإيقان بيوم القيامة قال: وإنما أعاد " الذين " تنبيهاً أن هذه الثلاثة سبيلها غير سبيل الأول، وقد قيل فيه قول ثالث: وهو أن الإيمان ضربان، ضرب هو معرفة سبيل الحق، وطلب الوسيلة إليه وهو المشار إليه بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وبقوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وضرب هو مزاولة السلوك إليه المشار [إليه] بقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وبقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} فالمعنيون بالآية الأولى هم الموطئون السبيل إليه بالإيمان به والعبادات البدنية والمالية، وبالثانية المجتهدون في التوصل إليه وهم الذين يعرفون حقائق مراد الله بما أنزله على أنبيائه وعناهم الله تعالى بقوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} وبقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وبقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} وهم المزيد لهم بقوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} فعلى

(5)

هذا يرجع قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} إلى الصنف الأول، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إلى الصنف الثاني، قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (5) قد تقدم القول في ذكر الهداية بما أغنى عن الإعادة. فأما " الفلح " فأصله: الشق ومنه قيل: " الحديد بالحديد يفلح " وسمى " الأكار " فلاحاً، اعتباراً بمبدأ فعله، وهو شق الأرض، ومن قال: يسمى " المكارى " فلاحاً لقول الشاعر " وفلاح يسوق لها حماراً " فهذا سوء نظر منه، فإنه أراد أكاراً يسوق حماراً، فكما أنه لو قال: أكاراً يسوق حماراً، لم يكن يجب أن يقال: الاكار: هو المكاري، كذلك هذا. وسمي " الظفر " فلاحاً اعتباراً بكشف الكربة. ثم " الفلاح " تارة يعتبر بأعراض الدنيا، فيقال: أفلح فلان: إذا ظفر بما يريده. وقول من قال: الفلاح: البقاء، لقول الشاعر: وترجو والفلاح بعد عاد وحميرا فإنما عني الفرج. والبقاء: بعض الفرج. فإذا ذلك عام موضوع موضع خاص. وقد استعمل " الفلاح " في الآية لما هو في الحقيقة ظفر وفرج، كما قال عليه السلام: " لا عيش إلا عيش الآخرة " وهو قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}.

(6)

قوله - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية: (6) - سورة البقرة الكفر في اللغة الستر، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص والزارع لستره البذر في الأرض وليس لهما باسم كما ظن بعض أهل اللغة لما سمع قول الشاعر: ألقت ذكاء يمينها في كافر فإن ذلك على إقامة الوصف تمام المصوف، وقول الشاعر: كالكرم إذ نادى من الكافور، أي: الأكمام منه، وسمى القرية كفراً لذلك، وكفر النعمة: سترها، يقال: كفر كفراً وكفوراً، نحو شكر شكراً وشكوراً وهو كافر وكفور، وشاكر وشكور. وحقيقة الكفر ستر نعم الله تعالى، ولما كانت نعمه تعالى بالقول المجمل ثلاثاً، نعمة خارجة: كالمال والجاه، ونعمة بدنية: كالصحة والقوة، ونعمة نفسية: كالعقل والفطنة، صار الشكر والفكر ثلاثة أنواع بحسبها، وأعظم الكفر ما كان مقابلاً للنعمة [النفسية] فيها يتوصل إلى الإيمان واستحقاق الثواب، ومن قابل تلك النعم بالكفران فهو الكافر المطلق، ولذلك صار الكفر في الإطلاق جحود الوحدانية والنبوة والشريعة .. ، وقوله تعالى: {سَوَاءٌ} في الأصل مصدر كالعلاء والنماء، وفي المتعارف يستعمل في وسط الشيء المعتبر استواؤه بطرفيه، ومنه سواء الدار، وأما السيان: ففي الشيئين المعتبر أحدهما بالآخر في المساواة، فالشيء هو المساوي كالقتل والمثل في معنى المقاتل والمماثل، فإذا قيل: " سيان زيد وعمر "، فمعناه: " كل واحد منهما مساوٍ للآخر "، وإنما جاز قولهم: ([سواء] على أقمت أم قعدت) منه بإبهام الأمر على استواء الحالين لديه، وإن كان القصد الأول بهذا الكلام إلى الاستفهام دون المساواة، فلما صار فيه معنى الاستواء، جاز أن يقال ذلك بمعنى أن ما اقتضاه هذا السؤال سوى عندي، وأكثر النحويين جعلوا " سواء " مبتدأ وما بعده خبره، وقالوا: " كل جملة حصلت خبرا لمبتدأ فلابد من أن يكون فيها ضمير منطوق به، أو مقدر إلا هذه الجملة، فإنه لا ضمير فيها بوجه، وذكر بعضهم أن المبتدأ ههنا مقدر، وقد دل عليه لفظ الاستفهام وسواء: خبره فالجملة قد تدل على المخبر عنه نحو من كذب

كان شراً له أي كان الكذب شراً له، وهذا التقدير أجود لأمور منها: أنه لا ينكسر الباب على هذا، لأن الباب مقرر في أن الجملة إذا كانت خبراً فلابد لها من ضمير يرجع إلى المخبر عنه، والثاني: أنا إذا قلنا: " سواء عليهم القيام والقعود " يخبر عن القيام والقعود بالسواء لا عن السواء بالقيام والقعود والثالث: إن سواء نكرة غير موصوفة ولا محدودة، فيقبح الابتداء به، وقال أبو على الغنوي في نصرة المذهب الأول: " إنك إذا قلت سواء هو خبر، بقى الكلام بلا مبتدأ فالجملة بعده خبر ساقط على التقدير المتقدم ويشهد لصحة ما قلنا قولهم: " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فإن قولهم: " تسمع " يدل على مبتدأ، وقولهم: " خير " خبره، كأنه قيل: " تسمع وسماعك بالمعيدي خير "، والإنذار إخبار فيه تخويف، كما أن التبشير إخبار فيه سرور، وقولهم: نذرت يقتضي معنى خشيت وخفت، وأما قولهم: " أنذرت "، فذلك تقديم قول يقتضي خوفاً من محذور أو رجاء لسرور. إن قيل: كيف قال {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الآية وقد علم أنه قد آمن من الذين كفروا قوم قيل: إيمان من آمن لا ينافي مقتضى الآية، وذلك أنه تعالى نفى أنهم ينتفعون بالإنذار مع حصول الكفر، فأما إذا زال الكفر وهو الجحود، فإنه لا يمتنع أن ينتفعوا بالإنذار، كقولك: " المريض سواء أطعمته أم لم تطعمه لا ينفعه الطعام " - تنبيهاً أنه ما دام مرضه حاصلاً لم ينفعه ذلك، ولا تقتضي أنه لا ينتفع بذلك إذا زال مرضه، وقد تقدم أن الطب ضربان: إزالة المرض، وحفظ الصحة، وأن الإنذار يجري مجرى الغداء الحافظ للصحة، وأن النظر في الأدلة المقتضية للتوحيد وإثبات الرسل جار مجرى الدواء المعيد للصحة، والمريض لا ينتفع بالغذاء ما لم يزل مرضه، فتبين أن الذي في قلبه مرض من الكفر لا ينتفع بما يجري مجرى الغذاء ما دام به المرض، وقد روى عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ما دل على هذا، وهو أنه قال: " عنى به الجاحدين لنعمه " وأن الإنذار لا ينفعهم مع كفرهم "، وقيل: إن ذلك حكم على جميعهم، لأن النبي - عليه السلام - كان يحب أن يؤمنوا بأجمعهم، وإيمان بعضهم ليس يقتضي أن الحكم على الكل كاذب، وقيل: الآية نزلت في اليهود الذين حجدوا نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ظهور المعجزات لهم، ولم يؤمن أحد منهم، وقال الربيع: " نزلت في قادة الأحزاب الذين نزلت فيهم.

(7)

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} وقيل: لم يدخل في الإسلام منهم إلا نفر لا يدري هل حصل لهم الإيمان الموصوف في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} فإن قيل: إذا علم أنه لا ينجع فيهم الإنذار، فما فائدة حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على إنذارهم؟ قيل: قد بين الله تعالى في الآية ما هو تنبيه على الجواب عن ذلك، لأنه قال: " سواء عليهم "، ولم يقل: عليك، ليبقى للنبي فضل الإنذار والسعي، ففي إبلاغه فائدتان: فائدة له في استحقاق الثواب لما تكلفه من المشاق، وفائدة لهم أن قبلوا، فهم وإن حرموا فائدة القبول، فإنه - عليه السلام - لم يحرم فائدة الإبلاغ، وعلى ذلك قال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} تنبيهاً على هذا المعنى، وقال فيما خاطب به الكفار وذمهم لعبادتهم الأصنام {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} فقال عليكم لما كان ذلك راجعاً إلى الداعين دون المدعوين وخبر أن يصح أن يكون قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} مع خبره اعتراض في موضع الحال، ويصح أن يكون الجملة التي هي سواء عليهم مع خبره خبر " إن " وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} حال مؤكدة، أو تفسير لذلك، لأنه إذا قيل: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} لا يعلم من ظاهره أن هذا الاستواء هل هو في: " أن يؤمنوا " أو في " أن لا يؤمنوا " فبين ذلك قوله - عز وجل -: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الآية (7) سورة البقرة. الختم، والطبع الأثر الحاصل على نقش، وتجوز به في أمور، يقال: " ختمت كذا " في الاستيثاق من الشيء والمنع منه - نظراً إلى ما يحصل من المنبع بالختم على الكتب والأبواب، ويقال ذلك، ونعني به تحصل أثر نظر إلى النقش الحاصل عن الطابع إذا طبع، ويقال ذلك ونعني به بلوغ أخر الشيء - نظراً إلى أنه أخر فعل يفعل في إحراز الشيء منه، ومنه قيل: " ختمت القرآن " ويقال ذلك لما يستدل به إلى الشيء نظراً إلى ختم المناشر المستدل به على منشيها، وأما المراد من الآية، فقد قيل: " للإنسان بالقول المجمل ثلاثة

أنواع من الذنوب يقابلها في الدنيا ثلاث عقوبات. الأول: الغفلة عن العبارات، وذلك يورث صاحبها جسارة على ارتكاب الذنوب، وهي المشار إليها بقوله عليه السلام: " إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يغلق قلبه " " والثاني: الجسارة على ارتكاب المحارم، إما الشهوة تدعوه إليه أو وشرارة تحسنه في عينه، وذلك يورثه وقاحة، وهي المعبر عنها بالرين في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} والثالث: الضلال، وهو أن يسبق إلى اعتقاد مذهب باطل، وأعظمه الكفر، فلا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق، وذلك يورثه هيئة تمرنه على استحسانه للمعاصي واستقباحه للطاعات، وهو المعبر عنه بالختم والطبع، وكما عبر عنه بذلك في قوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فقد عبر عنه بالإقفال في قوله تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وبالإغفال في قوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} وبقساوة القلب في قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وبجعل أكنةٍ عليها في قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} وبعدم العقل في آيات كثيرة. ويجب أن يتصور ههنا نكتة تزيل الشبهة فيها وفيما أشبهها من الآيات، وهي أن الهداية من الله تعالى ضربان، أحدهما: بالعقل الذي هو فطرته التي فطر الناس عليها، ومتى توهم نفياً مرتفعاً ارتفع التكليف، والثاني: العلم المحصل للإنسان بالفكر والروية بواسطة ما أعطى من نور الهداية الأولى، وهو الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قال لعلي - رضي الله تعالى عنه - " إذا تقرب الناس إلى خالقهم بالصلاة والصيام، فتقرب أنت إليه بالعقل تسبقهم بالدرجات " فإذا كان كذلك، وجب أن يكون متصوراً أن هذه الهداية الثانية مباحة للكافة.

كان لا سبيل إلى لقائها وتناولها والانتفاع بها إلا لمن جلى بصيرته لرؤيتها، وطهر قلبه بقبولها، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} والكافر من حيث لم يجل البصيرة لم يرها، وإذا لم يرها لم يتناولها، وإذا لم يتناولها، صح أن يقال: " هو ممنوع منها ومصروف عنها "، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} ثم بين سببه فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} وتصور بعض الناس أن ذلك الختم منع من الله تعالى للكافر عن الإيمان، واستدل به على جواز تكليف ما لا يستطاع، وهذا تصور فاسد، فالإنسان في هذه الحالة، وإن كان لا سبيل له إلى الإيمان في الحال، فذلك بما كسبت يداه من إهمال نفسه، فما فسد بينهما من يده، فإنه وإن كان لا يقدر على رده، فقد كان من قبل سهلاً عليه أن يضبطه فلا يرمي به، ألا ترى أنه تعالى قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فجعل الكفر علة للطبع على قلوبهم، وقال بعض المتكلمين: إن الختم والكن لو كان مانعاً من الإيمان، لما أنكر الله تعالى على الكفار حيث قالوا {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} وليس بصحيح استدلاله، وذاك أن هذا المنع حاصل، لكن هو من جهتهم على ما تقدم، والقوم لم يتصوروا ذلك، فلذلك أنكر الله عليهم ما قالوه، وأما ما قاله أبو علي الجبائي في أن " الختم " سمة جعلها الله تعالى في قلوب الكفار دلالة للملك على كفرهم كالكتابة في قلوب المؤمنين ليعرفوا بها الاعتقادات التي لا تظهر بالجوارح، فإن هذا كما قال الشاعر: تخرصا وأحاديثا ملفقة. . . ليست بنبع إذا عدت ولا غرب وذاك أن هذا الحكم لا سبيل إلى إثباته إلا بسمع غير محتمل، وأيضا فإن هذه الكتابة إن كانت

محسوسة، فمن حقها أن يدركها ذو الحاسة وإن كانت معقولة، والاعتقاد أيضاً معقول، فالملائكة غير مفتقرة في شيء من المعقولات إلى الأدلة والبراهين كما يحتاج إليها البشر، وقال أبو القاسم البلخي: " إن ختم الله عليها شهادته على صاحبها بأنه لا يؤمن " قال: وتخصيص القلب بذلك لاختصاصه بالاعتقادات، كتخصيص الرجل بالمشي، واليد بالبطش إذا قيل: " مشت رجله "، و " بطشت يده " وقد جعل الله تعالى في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} ثلاثتها مطبوعاً عليها، وفي هذه الآية، وفي قوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}. البصر مغشي عليع مفرداً عن القلب، والسمع، فقد قيل: إن ذلك لاختصاص البصر بمعنى، وهو أنه لما كان يحتاج في إدراك مدركاته إلة نور من خارج كما يحتاج إلى نور من داخل، والقلب والسمع يستوي حالهما في إدراك مدركاتها في الضوء والظلمة، خص البصر بالغشاوة - تنبيهاً على أن النور ممنوع منه، فلا يحصل به الانتفاع وأيضاً، فإن ما يدركه القلب والسمع لا يختص بجهة دون جهة، وما يدركه البصر يختص بجهة المقابلة، فجعل ما يمنعهما من خاص، فعليهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وجعل ما يمنع البصر من خاص الغشاوة المختصة بجهة دون جهة، وأكثر ما ذكر الله القلب، فالمقصود به " العقل والمعرفة "، وكان ذلك عباة عن الموعي بالوعاء، وعلى هذا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}، وقوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}، وقوله عليه السلام: " استفت قلبك وإن افتاك المفتون "، وأما إفراد السمع مع جمع القلب والبصر، فقد قيل: إن السمع في الأصل مصدر، فأجرى مجرى أصله، وقيل: أراد موضع سمعهم، وقيل: المضاف إلى الجمع يصح جمعه على الأصل، وإفراده على الإيجاز - اعتماداً على المضاف إليه، كقول الشاعر: أمَّا عِظَمامُهَا فَبِيضٌ ... وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

(8)

والغشاوة: ما يغشى به كالعلاقة، وغشي منه، لكن قلب واوه ياء لنكسار ما قبله، وكذلك: غشيان، كغليان. ومن نصب غشاوة فعلى تقديره جعل على أبصارهم غشاوة، ومن رفع فعلى القطع والاستئناف، والعذاب: اسم من التعذيب، وكان الأصل من قولهم ما عذب والتعذيب إزالة ذلك العذاب كقولهم مرضته فديته في إزالة المرض والقذى بين العذاب والعقاب أن العقاب لا يقال إلا فيما كان مجازة، وكأنه هو المتعقب للجرم المتقدم، والعذاب يقال فيه وفي غيره، ووصفه بالعظيم: تنبيه أنه إذا قويس بسائر ما يجانسه قصر جميعه عنه. قوله - عز وجل - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} الآية: (8) - سورة البقرة. الناس: جماعة حيوان ذي فكر ورويةٍ، واختلف في لفظه، فقيل: هو من قولهم: أناس، وحذف همزته وتقديره بعد الحذف عال، وقيل: بل هو من: " ناس " - ينوس - أي اضطرب، وتسميته بذلك لكونه ذا اضطراب زائد على غيره، إما ببدنه وفكره معاً، فللإنسان بالفكر حركة زائدة على سائر الحيوان، وقيل: هو ومقلوب من: نسى، نحو: " جذب "، و " جبذ " ولاه أبوك ولهي أبوك، وكذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في الإنسان: إنه سمى بذلك لأنه عهد إليه فنسى، فإنسان: على ذلك: " أفعلان " أصله " إنسيان " بدلالة تصغيرهم على أنيسان وقيل: سمي إنسا وإنساناً لانه خلق خلقه لا قوام له في حياته بجميع أسبابه، فيحتاج البعض إلى بعض ليتسبب لهم أمورهم ولأنه إذا لم يكن له مسكون إليه من جنسه لم تطب حياته، وعلى ذلك قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} وهذا المعنى رمقه الشاعر حيث قال: من كان في الدنيا بغير حبيب. . . فحياته فيها حياة غريب ما كان في حور الجنان لا دم. . . لو لم يكن حواء من مرغوب قد كان في الفردوس يشكو وحشة. . . فيها فلم يأنس بغير حبيب

وقد روى أنه سمي إنسانا لأنه نسى العهد، وهذا من حيث اللفظ لا يصح، لكن من حيث المعنى يصح أن يقال: عنى أنه أنس بالشجرة، فنسى العهد والله أعلم، وأما القول: فيقال على أوجه: الأول: اللفظ المبرز بالعبادة، والثاني: للمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ والثالث: للمذهب نحو: " فلان يذهب إلى قول أبي حنيفة " - رحمه الله تعالى -. والرابع: للعناية الصادقة بالشيء نحو: فلان يقول بكذا، والخامس للدلالة المنبئة عن الشيء نحو: امتلأ الحوض، وقال قطني والسادس: في استعمال المنطقيين عبارة عن الحد، يقولون قول الجوهر كذا، وقول العرض كذا، أي حدهما، ولاستعمال القول على أوجه مختلفة، قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} وقال: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} والأصل في ذلك العبارة، لكن عبر عن نسبة تارة به كتسمية العنب خمراً في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} والفرق بين القول والكلام أن الكلام لا يطلق إلا لجملة مفيدة لفظاً أو تقديراً، والقول قد يقال لبعض الجملة، فإذا كل كلام قول، وليس كل قول كلاماً، ولذلك قال سيبويه: " قلت: في كلامهم: يحكى به ما كان كلاماً لا قول " فأورد ذلك مورد المقرر في النفس أن الكلام موضوع لجملة مفيدة، وقد بين الله تعالى في هذه الآية أن في الناس من يدعي الإيمان بالله والمعاد، وهو كاذب في قوله ودعاه وذلك كقوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا} وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} كل ذلك تنبيه على أن الإيمان غير نافع ولا مقبول إلا بتقديم النية والإخلاص ومطابقة المقال والفعال، وقال أبو علي الجبائي: هذه الآية تدل على أن إقرار من أقر بالله إذا لم يكن عارفاً بالله لا يكون بهذا القول مؤمناً بل مدعياً له. والمخالف لا يخالف في ذلك وإنما يقول: إنه يصير مؤمنا إذا تفوه بالشهادتين، وقال أبو علي أيضا: " إن الآية

(9)

تدل على بطلان قول من زعم أن جميع المكلفين عارفون بالله " قال: لأن هؤلاء المنافقين لو كانوا بالله عارفين، وكانوا بحضرة النبي - عليه السلام - مقرين، لكان يجب أن يكون إقرارهم بذلك إيماناً منهم، لأن من عرف الله وأقر به لم يكن إقراره غير إيمان، فلما بين تعالى أنهم غير مؤمنين بما أخبروا به، علمنا أنهم لم يكونوا يعرفونه وليس في الآية دلالة على ما قال، أو لأن الله تعالى قال: يقولون آمنا بالله وباليوم الآخر، ثم نفى عنهم الإيمان بهما، واحد لا يقول: إن معرفة الإنسان بالله وباليوم الآخر ضرورة وإن ادعوا معرفة الله وحدها، وثانياً: أن أحداً لا يقول: " الإقرار بالله على وجه الخداع إيمان، والله تعالى قد أخبر أنهم يخادعون الله بهذا القول، وثالثا: أن الإيمان المنفي عنهم ليس هو الإقرار، بل هو سكون النفس المذكور في قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}. ورابعاً: أن من يقول: معرفة الله ضرورة، يذكر أن ذلك لا يحصل إلا عن سبب يتقدمه كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة لا يحصل إلا بتقديم سماع المخصوص فكذلك معرفة الله ضرورة [لكن لابد فيها من سبب يتقدمها، وخامسها: أن عند كثير ممن يدعي] أن معرفة الله ضرورة أن ذلك موجود في الإنسان بالقوة، كوجود النار في الحجر، فلابد لها من انقداح به يخرج، ومتى لم يحصل السبب لم تكن النار، كذلك المعرفة بالله تعالى. قوله عز وجل: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} الآية (9) - سورة البقرة. الخداع: إنزال الغير عما هو بصدده بأمر تبديه على خلاف ما تخفيه، ومنه: قيل: خدع الضب. إذا استتر في جحره، واستعمال ذلك فيه لما اعتقدوا في الضب، أنه يعد عقربا يلدغ من يدخل يده في حجره حتى قالوا العقرب بواب الضب، ولاعتقاد الخديعة فيه قالوا: " أخدع من ضب " وطريق خادع مخالف لما يقتضيه ظاهره، والمخدع كأنك جعلته خادعاً لمن رام تناول ما فيه لأنه بيت في بيت، وقولهم: " خدع الطريق " إذا قل، فتغير متصور منه هذا المعنى. والاخدعان: تصور منهما الخداع، لاستنادهما تارة، وظهورهما أخرى، وفي الحديث: " بين يدي الساعة سنون خداعة " أي مغتالة، لتلونها بالجدب تارة، والخصب أخرى. إن قيل:

لم قال (يخادعون الله) وهم لم يقصدوا بفعلهم خديعته؟ قيل: ذكر بعض النحويين أنه أراد تعالى " يخادعون رسول الله "، فحذف المضاف، وهذا باعتبار حكم اللفظ دون المعنى فأما باعتبار المعنى فإنهم لما قصدوا خديعة النبي - عليه السلام - وقد أنبأ تعالى أن معاملة الله تعالى، حتى قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} جعلهم مخادعين له بخديعتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن قيل: المخادعة من بين اثنين، وقد علم أن ذلك لم يكن من الله تعالى ولا من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكيف قال يخادعون؟ قيل: قد قال أهل اللغة وكثير من المفسرين: أن الخديعة من الله هي مجازاته إياهم بمثل فعلهم، فسمي مجازاة الشيء باسمه، وكذلك قالوا في المكر والهزؤ ونحوهما مما وصف به نفسه، ولا يليق به، وعلى ذلك قول الشاعر: فنجهل فوق جهل الجاهلينا ووجه أخر وهو أنه قد تقدم أن مخادعتهم لله - عز وجل - في الحقيقة مخادعة الرسول، ولما كانوا يراؤون ليزيل عنهم حكم المشركين ويجريهم في الأحكام مجرى المؤمنين، ويطلعهم على الأسرار، وهو لا يجريهم في كثير من الأمور مجراهم تصوروا أن ذلك لهم خداع، كما أن الأول منهم له خداع، فأخرج اللفظ على حسب وهمهم وجسبانهم فهمهم، لا على ما عليه حقيقة الأمر. وقد يطلق الحكم على المعنى عبارة على حسب اعتقاد المخاطب والمخبر عنه لأعلى ما عليه حقيقة الأمر كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أي على زعمك، وقول الشاعر: خذها خذيف فأنت السيد الصمد ..

وما حكى الله تعالى عن موسى - عليه السلام - في قوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} فإن قيل: كيف وصف تعالى نفسه بأنه خادعهم في قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}؟ قيل هو على ما تقدم، ووجه آخر في هذا اللفظ، وإخوانه مما وصف الله تعالى نفسه به من الصفات التي تنزه تعالى عما يتصور من ظواهر معانيها نحو قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا} وقوله: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} كل ذلك قد قيل فيه قيول، من تصوره متحرياً به الحقى ثلج قلبه، واستقرب ما كان من قبل يستبعده، وهو أن المكر والخديعة، وإنما هو استنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبدي منه خلاف ما تخفيه ويتحراه مستعمله على وجهين: أحدهما: قاصداً به استنزال الغير عن ضلال إلى الرشد وذلك جميل، وهو كما يفعله الأب البار بابنه من تحذير يستجره به إلى ترك شراً أو تعاطي خير، فيقول: " خدعت ابني عما كان يتعاطاه من القبيح "، و " مكرت به حتى قبحته في عينه "، وقد علم أن هذا الفعل وإن أطلق عليه لفظ الخديعة والمكر فهو فعل حسن، فإذا المكر والخديعة وإن كان لفظهما مستبشعاً فقد يقصد به وجه محمود، وبالعكس من ذلك فعل العدالة، فقد يتحراه الإنسان لاستغواء غيره وإضلاله مما يعد فساداً وجوراً وخديعة ومكراً، قد يكون صلاحاً ورشداً وعدلاً، وما يعد صلاحاً وعدلاً ورشداً قد يكون فساداً وجوراً ومكراً، وبهذا النظر قال بعض التابعين: " كل قبيح من العبد فهو حسن من الله تعالى " ويعني بذلك أن الفعل يقبح ويحسن المقاصد، ولهذا قال عليه السلام: " الأعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى "، وقال: " نية المؤمن خير من عمله "، وبهذا النظر قال بعض المحققين وقد سئل عن شيء يقبح إطلاقة

(10)

في الله تعالى مع ورود الشرع به، فأنشد: ويقبح من سؤال الشيء عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاكا فهذا ظاهر لمن جلى بصيرته وتأمل حقيقته، ونبه بقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أن وبال خديعتهم راجع على أنفسهم لا على الله تعالى وعلى المؤمنين، كقولك: " ظلمت فلاناً وما ظلمت إلا نفسك "، وذلك في الحقيقة أعظم خديعة وظلم وجور، فإن الله تعالى لما قيض لهم النعيم الأبدي والخير السرمدي، وسهل لهم السبيل إليه، ثم غفلوا عنه، ومالوا إلى زهرات الدنيا، صاروا في الحقيقة خادعين لأنفسهم ظالمين لها، ولذلك وصفهم في القرآن بطلم أنفسهم في غير موضع وبأنهم خسروا أنفسهم وما يمركون إلا بأنفسهم، ولأنه قيل: " من خدعك وقد عرفت خديعته فقد خدع نفسه "، ومعلوم أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فمن خادعه فقد خدع نفسه، وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} أصل هذا الشعر ومنه الشعار للثوب الذي يلي الجسد، فيقال: أشعرته ثوباً، ثم يقال على التشبيه بذلك أشعرهما، واستشعر سروراً، و " شعرت كذا ": يستعمل على وجهين، تارة يؤخذ من مس الشعر، ويعبر به عن اللمس، وعنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: " فلان لا يشعر " فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر، لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارة يقال: " شعرت كذا ": أي أدركت شيئاً دقيقاً من قولهم: شعرته أي أصبت شعره نحو: قادته وراسته، وكأن ذلك إشارة إلى نحو قولهم: " فلان يشق الشعر في كذا " إذا دقق النظر فيه ومنه أخذ الشاعر لإدراكه دقائق المعاني ... قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} الآية: (10) - سورة البقرة. المرض ضربان: جسمي ونفسي، وكلاهما خروج عن الاعتدال الخاص بهما، فالجسمي: معروف، والنفسي: كالجهل والجبن والبخل الوحسد والحرص وسائر الرذايل الخلقية وتسميتها بالمرض إما لكونها مانعة عن إدراك الفضائل، كالمرض الملنع للبدن عن التصرف الكامل، وأما لكونها ذريعة إلى سلب الحياة الحقيقة التي هي في الدنيا لسان صدق، وفي الآخرة بقاء الأبد، كما وصفه تعالى في قوله:

{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}، وأما الميل النفي به إلى الاعتقادات الرديئة ميل البدن المريض إلى الأشياء المضرة، ويكون هذه الأشياء بصورة المرض قيل: ذوي صدر فلان، ونقل قلبه، وقال عليه السلام: " وأي داء أدوأ من البخل "، وقوله تعالى: {في قلوبهم مرض} عبارة عن نفاقهم وشكهم وعداوتهم، وقول ابن مسعود - رضي الله عنه والحسن وقتادة رحمهما الله تعالى: " إنه شك، وقول غيرهم: إنه حب الدنيا واتباع الهوى، وقول آخر: إنه غم وآخر: إنه حسد، وآخر: إنه السكون إلى الدنيا، وكلها إشارات على سبيل المثال إلى أبغاض ما ينطوي عليه معنى المرض ولا خلاف بينهم فيه، فمعنى قوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} على أوجه، الأول كما تقدم: أن ما أنزله الله يجري من النفس مجرى الغذاء الحافظ للصحة، ومتى تناوله المريض الذي لم يزل مرضه لم ينفعه بل يضره، والثاني: أن هذه الزيادة في المرض هي ما كان الله تعالى يؤتيه نبيه والمؤنين من إنعامه ويصير زيادة في مرض المنافقين وذلك كقولك لمن أعطاك شيئاً: " قد أكمدت عدوي وهو لم يقصج إكماده، ولكن لما تولد من فعله بك ذلك صح نسبته إليه، وعلى ذلك قوله الشاعر: يا مرسل الريح جنوباً وصباً ... إن غضبت قيس فزدها غضباً أي زدنا إيلاً ليزدادوا غضباً، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا}، وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، ولا يختلف المعنى في قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أي جعل مورده مورد خير أو مورد دعاء، فإن الدعاء من الله واجب، وإن كان منا رغبة وطلباً، ويجوز أن يكون ذلك رجعاً إلى حال الآخرة، ومعناه من في قلبه مرض، فإن الله يزيده في الآخرة مرضاً نحو قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} وهذا والأول يرجعان إلى معنى، لأنهم إذا زيدوا في الدنيا عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما ازدادوا إلا شكاً في الآخرة استحقاق عذاب، قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}

(11)

- أليم: بمعنى مؤلم نحو سميع وخصيب بمعنى مسمع ومخصب، وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، أي بسبب كذبهم أو بدل كذبهم، كقولهم: هذا بذاك، وحجة من قرأ بالتخفيف أن ما قيله كذب، وهو قوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وهو به أشبه، لأنه في صفة المنافقين، وقد قال الله تعالى فيهم {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، ومن قرأ " يكذبون "، فقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}، ولأن التكذيب أبلغ، إذ كل مكذب بشيء كاذب وليس كل كاذب مكذباً، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} الآية (11) - سورة البقرة. الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال، والصلاح على الضد منه، والافساد: إخراجه عن الاعتدال، والفساد عام في الكفر والضلال وكل ما هو ضار، والصلاح عام في الإيمان والرشد وكل نافع، فقوله: {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} عام في كل ذلك، وقول ربيعة وقتادة أن معناه " لاتسالموا الكفار "، ومثله: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، ومن قال: عنى بذلك كنز الدراهم، فإنه تمثيل بأدنى ما يكون فساداً - تنبيهاً أن ذلك عام، فإنه إذا كان ذلك فساداً، فما فوقه من قتل النفس الزكية بغير حق ونحوه أولى بذلك، والخطاب في الآية للمنافقين، وما روي عن سلمان أ، أهل هذه الآية لم يأتوا بعد، فيجوز أن يكون معنى قوله: " أنه سيكون من بعد حاله من له في ذلك شبيهه بحال المنافقين، فإن الآية متصلة بما قبلها، والضمير فيها ليس إلا لمن تقدم ذكره، وقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فيه تنبيه أنهم يتصورون إفسادهم بصورة الإصلاح لما في قلوبهم من المرض، كما قال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قال الحسن: من ذلك الإفساد: بناؤهم مسجد قباء ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وقوله - عز وجل - {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} " ألا ": تقرير للإثبات لأن " لا " للنفي، والألف

(13)

للاستفهام، واجتماعهما يقتضي إثباتاً نحو: " أليس " و " الم "، إن قيل: ما الذي يفيد تعريف قوله المفسدون وإدخال لفظه هم عليه؟. قيل: أما التعريف: فيقتضي كون الكلام جواباً أو كالجواب، وأما إدخال لفظ هم، فيقتضي إثبات الحكم للمذكور ونفيه عمن عداه نحو أن يقال: " زيد منطلق "، فتقول: أنت يا عمرو هو المنطق، ولما كان في قولهم: {نَحْنُ مُصْلِحُونَ} تعريض إنكم المفسدون رد الله تعالى عليهم بقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} وقد تقدم أن " شعرت " يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى: أحسست والثاني: بمعنى فطنت، فقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} في الآية الأولى نفي الإحساس عنهم، وفي هذه الآية نفي الفطنة عنهم، لأن معرفة الصلاح والفساد تدرك بالفطنة، وفي الآية التي بعدهما نفي العلم عنهم، فإن قيل: كيف نفي أولاً الحس ثم الفطنة ثم العلم ومعلوم أن ما لا حس له فلا فطنة له ولا علم؟، قيل: إن في نفي هذه الثلاثة على هذا الوجه تنبيهاً لطيفاً ومعنى دقيقاً وذلك أنه يبين في الأول أن في استعمالهم الخديعة نهاية للجمل الدالة على عدم الحس، ثم بين في الثاني أنهم لا يفطنون - تنبيهاً على أن ذلك لازم لهم، لأن من لا حس له لا فطنة له، ومن لا فطنة له لا علم له، ثم بين في الثالث أنهم " لا يعلمون " - تنبيهاً أن ذلك أيضاً لازم لهم، لأن من لا فطنة له فلا علم له فإذا: من الألفاظ الثلاث إشارة إلى قياس ظاهر وإلزام واجب لمن تأملها وتدبرها. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} الآية: (13) - سورة البقرة. قولهم: الناس، بل كل اسم نوع، ف، هـ يستعمل على وجهين، أحدهما: دلالة على المسمى وفصلاً بينه وبين غيره، والثانيك وجود المعنى المختص به وذلك هو الذي يمدح به في نحو: " إذ الناس ناس والزمان زمان " ونحو ذلك: " زيد رجل "، و " هذا الفرس فرس "، ومثال ذلك أن كل ما أوجده الله في هذا العالم يصلح لفعل خاص به لا يصلح لذلك العمل سواه، فإن الفرس للعدو الشديد، والبعير لقطع الفلاة البعيدة، والمنجر لنجر الخشب والمنحت لنحته، وعلى ذلك الجوارح كاليد والرجل والعين. والإنسان أوجد لأن يعلم ويعمل بحسبه، وكل شيء لو يوجد كاملاً لما قد خلق له لا يستحق اسمه مطلقاً، بل قد ينفي عنه نحو قولهم: " فلان ليس بانسان "، أي لا يوجد فيه المعنى الذي خلق من أجله، فإذ ثبت ذلك، فقوله

(14)

تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} هو اسم جنس لا غير، وقوله: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} معناه كما يفعل من وجد فيه تمام فعل الإنسانية الذي يقتضيه العقل والتمييز فإذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما: إنه عنى كما آمن أصحاب النبي عليه السلام وقول غيره أنه عنى كما آمن أصحاب النبي عليه السلام وقول غيره أنه عنى كما أمن الذين أسلموا من اليهود مثل " عبد الله بن سلام ". وأصحابه كلاهما صحيح، لأن الفريقين يجري على ما اقتضاه فعل الإنسانية، وقوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ} استعلام على جهة النفي نحو {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} ومعناه: لا نؤمن إيمان السفهاء تعريضاً بأصحاب النبي - عليه السلام - والسفيه: خفة في البدن وفي المقال يقتضيها نقصان العقل، والحلم رزانة في البدن يقتضيها زيادة العقل، وعنه استعير " زمام سفيه "، و " رمح سفيه "، إن قيل: كيف عذرهم بأهم لا يعلمون؟ قيل لهم: ليس عذراً لهم، بل تعظيم أمر عليهم وأنهم مع جهلهم يجهلون جهلهم كما قال: جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ... وذاك لعمري من تمام الجهالة وكل ما ذم به الكفار من أنهم لا يعلمون ولا يبصرون ولا يسمعون فتنبيه أنهم لم يستعملوا هذه الآلات ولم يتفكروا. وقوله - عز وجل -: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} الآية (14) - سورة البقرة. قال الخليل: كل شيء استقبلته وصادفته فقد لقيته، وأما ألقيته أي طرحته، فأصله جعلته بحيث يلقي أي يصادف، ثم جعل عبارة عن الطرح واللقي المطروح الذي لا يحجزه شيء عن لقاء المارة به. ولقي من اللقوة كناية بذلك عنها، ثم كثر حتى صار معروفاً بالداء. و" خلا الإناء " صار خالياً، و " خلا فلان بفلان " صار معه في خلاء والخلي: من خلاه الهم، نحو المطلق في قوله: يطلقه ". طوراً وطوراً

(15)

يراجع، والشياطين: جمع الشيطان، فقيل هو " غعلان " من شاط إذا احترق غضباًن وذلك لما قال تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}، وذلك لما خص به من فضل القوة الغضبية، وقيل هو فيعال من شطن، أي تباعد، ومنه بين شطوان، وقيل للحبل الطويل شطن، والشيطان كل عارم من الجن والإنس والحيوانات، وعلى ذلك قال الشاعر شياطين تنزوا بعضهم على بعض [وقال: " إن شطان الذئاب العسل "، وقال آخر: " ما ليلة الفقير إلا شيطان "، وسمي الحية شيطاناًَ لذلك، وقيل هو فعلان من قولهم: وقد شط على أرماحنا البطل، ومعنى الآية، أنهم يراؤن للمؤمنين، فإذا عادوا إلى مردتهم ادعوا أنهم معهم وعلى دينهم، وأنهم يستهزؤن بالمؤمنين. وقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية: (15) - سورة البقرة -. الهزء: إظهار جد يراد به مزح أو ما هو في الظاهر كالمزح يقال: هزأت واستهزأت، نحو أجبت، واستجبت، والصحيح أن الاستهزاء إرتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به عنه، وكذا الاستجابة في الأصل معناها مخالف للإجابة وإن كان قد يجري مجراها، والهزؤ إذا أريد به المزح لا يصح منه تعالى، كما لا يصح منه اللعب واللهو وإطلاقه عليه، إما لأنه يراد به المجازاة، فسماه به إما لمقابلة اللفظ باللفظ إما مع مقابلة اللفظ مراعاة مطابقة ما لكونه مماثلاً له في القدر، فسماه لذلك باسمه نحو قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ولأنه تعالى لما أمهلهم لتطول المدة التي يمكنهم أن يتوبوا فيها فلم يحصل ذلك منهم سمي إمهاله هزؤاً، ولأنه لما استدرجهم من حيث لا يعلمون صار ذلك كالهزؤ، وإما لأن الهزؤ لما لم يخل

من العيب أطلق على العيب لفظ الهزؤ ونحو قوله: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} أي تعاب، فالآيات لا يستهزؤ بهما في الحقيقة، أو لما تقدم في المخادعة وهو أنهم لما قدروا أنهم يهزؤن وقد عرف منهم الهزؤ كأنه يهزؤ بهم كما قيل: من خدعك وقد عرفت خديعته فقد خدعته " أو لما روي في الخبر " إن المستهزئين بالناس في الدنيا يفتح لهم وهم في النار باب إلى الجنة فيرسعون نحوه، فإذا صاروا إليه سد عليهم " وذلك قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} وعلى هذه الوجوه قوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} وأصل المد الجر ومنه المدة، ومدة الجرح، ومد النهر، ومده نهر آخر، وإمداد الجيش، وإمداد الإنسان بالطعام، وقال بعضهم: أكثر ما جاء من الإمداد في القرآن فبالخبر، نحو قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} وقوله {نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} وقال: وما كان من المد فبالشر نحو قوله تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} وقال {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} والطغيان في المصادر كالعدوان والكفران، يقال: طغي يطغوا ويطغى، نحو صفا، وحكى: طغيت، والفرق بين عدا، وطغي، وبغي أن العدو أن العدو أن تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه والوقوف عنده وعلى ذلك قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أي من تجاوز معكم المقدار المأمور بالانتهاء إليه، فتجاوزوا معه بقدره، لتكون العدالة محفوظة في المجازاة بالتعدي وأما الطغيان: فتجاوز المكان الذي وقعت فيه، وكأن من أخل بما فطر عليه من المعارف العقلية والمواقف الشرعية فلم يراعها فيما يتحراه ويتعاطاه، فقد طغى، وعلى ذلك قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي تجاوز الحد الذي كان عليه من قبل، والبغي: طلب تجاوز

(16)

قدر الاستحقاق تجاوزه أم لم يتجاوزه، وأصله الطلب، واستعمل في التكبر، لأن المتكبر طالب منزلة ليس لها بأهل، والعمة في البصيرة كالعمي في البصر، وهو التردد في الضلالة، يقال رجل عامة وعمه، فقوله تعالى: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يصح أن يتعلق بقوله: نمدهم فيكون ذلك عبارة عن خذلانهم عن توفيقه لهم، لا لبخله عليهم، بل لسدهم طريقه على أنفسهم بإعراضهم عنه، ويصح أن يتعلق بقوله: {يَعْمَهُونَ}، ومعناه: يمدهم استصلاحاً لهم، وهم مع ذلك يعمهون [في طغيانهم ومثله معنى وتقديراً قوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}] * * * قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} الآية (16) - سورة البقرة. المبايعة ضربان: مبايعة سلعة بناض، فيقال لدافع السلعة: بايع، ولدافع الناض مشنري، ومبايعة سلعة بسلعة أو ناض بناض، ويصح أن يقال لكل واحد منهما بائع ومشتري، ولذك بحسب ما يتصور في الثمن والمثمن فأي السلعتين تصورتها بصورة الثمن فأخذه بايع، والآخر مشتري، ولهاذ الشأن صار البائع والمشتري من الأسماء المشتركة المعدودة في باب الأضداد والمشاراة وإن كانت موضوعة لمعاملة في أعيان على وجه مخصوص فقد يتحرز بها في كثير من المعارضات فيقال لمن أفرح عن شيء في يده مخصلاً به غيره قد باعه به، وقد يقال لمن رغب عن شيء طمعاً في غيره. وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية - ومعناه: أراد منهم أن يبذلوا مهجهم وأموالهم في سبيله، فيجعل لهم بذلك الجنة، فسمي ذلك شري، وقد تقدم أن الهدي يقال على أربعة أوجة: الأول: لما جعله الله للإنسان بالفطرة، والثاني: لما جعله له بالوحي، والثالث: لما يكتسبه الإنسان بالفكر والنظر والعمل والرابع: زيادة الهدي في الدنيا، وطريق الجنة في الآخرة، فكذلك. الضلال على أربعة أوجه مقابل للهداية، فالأول: إضاعة الإنسان ما جعله الله له بالفطرة من العقل الغزيزي، وذلك بأن لا يزكيه كما قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. والثاني: إضاعته لما أنزل الله تعالى على ألسنة الأنبياء. والثالث: لما يكتسبه الإنسان بالفكر والنظر والعمل. والرابع: أن يترك ما يستحق به زيادة الهدي في الدنيا والثواب في الآخرة، وقد علم من هذا أن من الضلال ما هو

(17)

كفر، ومنه ما ذنب صغير، وكذلك الهدي منه ما هو الإسلام، ومنه ما هو الإسلام، ومنه ما هو رفيق الورع، فكل من رغب عن منزلة من الهدى إلى ضدها من الضلال، فقد اشترى ذلك الضلال بما يقابله من الهدي لكن منه ما يستحق به النار كالشرك، وكالكبائر، ومنه ما هو كتجاف عنه كالصغائر، فإذا ثبت ذلك، فقول من قال: عنى به الذين أخلوا بالهدي الذي جعله الله لهم بالفطرة، وقول مجاهد، إنه عنى به الذين آمنوا ثم كفروا، وقول قتادة: استحبوا الضلالة على الهجى، وقول من قال: اشتروا النار بالجنة لا اختلاف بينهم إلا باختلاف النظرات فقط. وكذا قول من قال: من التزم فعلاً من الخيرات ثم أخل به فقد اشترى الضلالة بالهدى، ولما استعمل في ذلك المشاراة قال تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} والربح والخسران ينسبان مرة إلى صاحب السلعة، ومرة إلى السلعة، ومرة إلى الصفقة، إذ لا اشتباه فيه، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ونفي أنهم كانوا مهتدين أي طالبين للهدى تنبيهاً أنهم لو طلبوع لوجدوه. قوله - عز وجل - {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} الآية: (17) - سورة البقرة. التمثيل: تصوير الخفي بالظاهر، وأصله من مثل إذا انتصب، والتمثال للشيء المصور، وسمي الوصف مثلاً، إذ هو مثال للموصوف يدل عليه كالمثال في دلالته على ما هو مثال له، والمستوقد: طالب الوقود وأخذه، وقد يقال للموقد للمجيب مستجب، والنار حرارة مخصوصة والنور والضياء وأحدهما مشتق من الآخر من حيث إنه قل ما ينفك أحدهما عن الآخر، ولهاذ قال: {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} فاستعمل فيه الاقتباس الذي هو للنار، ويقال: أضاءت الشيء فضاء وأضاء والأظهر في الآية أن يكون متعدياً لإدخال حرف التأنيث فيه والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهداية والمعارف النفسية أو البدنية أو الخارجة، فأضاعه ولم يتوصل به إلى النعيم الأبد فإذا قول من قال ذلك هو فيمن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة، وقول من قال: هو في الذين آمنوا ثم كفروا، وقول من قال: هو فيمن أظهر الإيمان نفاقاً منه وحقناً لدمه، كل ذلك داخل في عمومه، وكذا قول من قال إنه يعني من لم تصح له أحوال الإرادة، فارتقى منها بالدعوى إلى أحوال المحبة، فأذهب الله عنه ما جعل له من النور عبد الإرادة، فبقي متحيراً في حال الدعوى، وقد نبه تعالى بتشبيههم بمستوقد نار أضيع نورها على حيرتهم أو نكسهم فيما أضاءه من الهدى، وقوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} الأظهر أن يكون ذلك راجعاً إلى المشبه الذي هو في قوله: " مثلهم " دون المشبه به الذي هو

(19)

قوله استوقد ناراً، واختصر، ولو بسط الكلام، لقيل: " فلما اضاءت ما حوله ذهب الله بنارهم ذهابه بنورهم وقد قيل: إن ذلك يرجع إلى المشبه به، وأن الذي قد يستعمل في الجميع كاستعماله في الواحد - استدلالاً بقول الشاعر: فإت الذي خانت بفلج دماءهم هم القوم، هم فقال: استوقد رداً إلى لفظ الذي ثم قال بنورهم رداً إلى معنى الجمع، وإنما قال على هذا " بنورهم " ولم يقل " بنارهم "، لأن المراد من النار ههنا النور الذي يضئ لهم الطريق فتركه إياهم في ظلمات إنما هو لتركهم إياه في قبول التوفيق منه، فلما تركوه تركهم كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، وإنما قال: في " ظلمات " لأنه عنى ظلمة ضلال لهم، وظلمة همومهم في الدنيا، وظلمة يوم القيامة التي تنزه عنها الموصوفون بقوله تعالى {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، وقوله - عز وجل - {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} والصم صلابة من اكتناز الأجزاء، ومنه قيل: حجر أصم، وصخرة صماء، أو قناة صماء، وقيل لرأس القارورة " الصمام " والبكم: اعتقال اللسان وأصله فيمن يولد أخرس والعمي يقال في عدم البصيرة والبصر، جميعاً، فمن ترك الإصغاء إلى الحكمة وأعرض عن طريق الآخرة واشتغل عن تعرف حالها ولم ينعم تدبرها صح أن يستعمل هذه الألفاظ فيه، فيقال: هو أصم عن سماعه، وأبكم عن تعرفه، وأعمى عن إدراكه، ومالآية مبنية على الآية الأولى، ومفسرة بحسب تفسيرها، وقوله {لَا يَرْجِعُونَ} أي لا يعودون إلى طريقة الرشد، وقيل معناه: " لا يرجعون جواباً " أي لا يردونه. * * * قوله تعالى {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآيتان (19، 20) - سورة البقرة. الصيب: فيعل من " صاب " يصوب، وذلك يقال للسحاب والمطر وإن كان الصيب في السحاب أكثر، والصوب يقال في المطر، وكأن المطر تسمي صوباً لمجيئه على الصواب إما اعتباراً بالوقت المحتاج إليه فيه، وإما بالقدر المعتدل على حسب قوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} وعلى طريقه نظر من وصف المطلر بقوله ..

فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى وأصاب السهم إذا توجه نحو الرمية على الصواب، وقد شبه العقل والقرآن بل العلوم كلها بالمطر والماء من حيث أنه سبب الحياة الأبدية، كما أن الماء سبب الحياة الدنيوية والسماء في هذا الموضوع يجوز أن يكون السحاب وأن يكون المطر، من فيه للتبغيض، وقوله " فيه ظلمات " يقتضي معنى اللصطحاب، فلا فرق بين أن يقال: صيب فيه ظلمة ورعد - وأما الكلام في مائية الرعد والبرق فليس يليق بهذا الموضع، والصاعقة يستعمل في كل هائل عظيم من مرئي ومسموع، وإنما قال: " أو كصيب "، لأنه من حيث أنه يدل على أحد الشيئين، ويستعمل في الإباحة والتخيير، وفيه تنبيه على أنه إن شبه بأحدهما فصواب، وإن شبه بهما فصواب، وهذا المعنى في لفظه أو دون الواو، فإن قيل كيف وجه العطف في ذلك وقد قال في الأول {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ولا يليق أن يقال بعده. " أو كصيب "؟ قيل: قد أجيب عن ذلك بانه أريد أو كاهل صيب من السماء، وقيل: إن ذلك عطف على المعنى وذاك أن التشبيه تارة يؤتي به مطابقاً للمشبه في اللفظ، وتارة يؤتي به على ما يقتضيه المعنى دون اللفظ وعلى ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} ومعناه كحرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح، فروعي فيه المعنى دون اللفظ، وعلى ذلك قول الشاعر: فلابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب وتقديره: كعنوان رقشه الكاتب، وهذا النوع من التشبيه يقال له: التشبيه الملقف، والآية تأولت على وجهين: أحدهما أنه شبه حال المتحرين الذين اشتروا الضلالة بالهدى بمن حصل في ليلة مطيرة ومظلمة راعدة بارقة يخاف من أهوالها وصاعقتها ويسد أذنه خوفاً من أن يصعق ويكون هذا في شغل الكلام بالمشبه به ووصفه بما يعظم من غير أن يكون في تفاصيل صفة المشبه به ما يرجع إلى المشبه طريقة العرب على ذلك قول لبيد. أفتلك أم وحشية مسبوعة ... خذلت وهادية الصوار قوامها

(21)

فشبه الناقة بالوحشية ثم ذكر أنها مسبوعة مخذولة، ولا اختصاص للناقة بهذا الوصف. والثاني: أنه شبه ما أتى الله الإنسان من المعاون التي هي سبب الحياة الأبدية بالصيب الذي فيه خياة كل ذي حياة، وما فيه من المشاق المبهمة والعوارض المشكلة بظلمات، وجمع الظلمات تنبيهاً على كثرة العوارض، وشبه ما فيه من الوعيد بالرعد، وما فيه من الآيات الباهرة بالبرق، ثم ذكر كل واحد من هذه الأشياء فقال: إذا سمعوا وعيداً تصاموا عنه كحال من تهوله الرعد فيخاف من صواعقه، فيسد أذنه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهذا معنى قوله: " الله محيط بالكافرين "، ثم ذكر أنه إذا رأوا لامعاً لهم إما راشد تدركه بصائرهم وإما رفداً ينفعهم اهتزوا له، فمضوا بنوره وذلك قوله " كلما أضاء لهم مشوا فيه "، ثم بين أنه إن اعترض لهم شبهة أو عن لهم مصيبة تحيروا، فوقفوا، وذلك معنى قوله {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} وقوله {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} تنبيهاً على أنهم يصرفون أسماعهم وأبصارهم عما فيه نجاتهم وتأمل ما فيه صلاحهم وإنما جعل الله لهم السمع والأبصار لينفعهم ولو شاء الله لجعلهم بالحالة التي أنفسهم عليها يسدهما وتعطيلهما، وذلك تنبيه على أنه إنما أعطاهم هذه الآلات لينتفعوا بها. قوله - عز وجل - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية (21) - سورة البقرة. قد تقدم أن " الناس " يستعمل على وجهين أحدهما المشار به إلى الصورة المخصوصة، وذلك عام في الصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل، والثاني المشار به إلى المختص بقوى العلم والعمل المحكم وهو المستعمل على طريق المدح، ولذلك يقال: فلان أكثر إنسانية من فلان، لاختصاص هذا المعنى بقبول الزيادة والنقصان، وهذا المعنى هو المراد في هذا الموضع، والعبادة نهاية التذلل في الخدمة وبذل الطاعة وذلك في مقابلة أعظم النعم، ولا يستحقها غير الله تعالى، فهو الذي له أعظم النهم، و " العبادة " تقال في ثلاثة أشياء: اعتقاد الحق، وتحري الصدق، وعمل الخير، وعبادة الله قد يكون في فعل المباحات كما يكون في أداء الواجبات وذلك إذا قصد بالفعل وجه الله وتحرى به مرضاته. وقد قال بعض الحكماء: " مباحات أولياء الله كلها واجبات " وواجباتهم نوافل " فقيل كيف يكون ذلك؟ قال: لأنهم لا يقومون على تناول مباح لهم كالأكل والشرب حتى يضطروا إليه، فيصير تناولها متحتماً ويلتزمون من الفرائض فوق ما يلزمهم حتى يصير فرضهم متنفلاً، وبهذا النظر قيل

عن أكل الصالحين تنزل الرحمة تنبيهاً أنه لا يتناول إلا إذا اشتد به الأمر، ووجب عليه الأكل إمساكاً لرمقه. ألا ترى أن كثيراً من المحظورات يصير مباحاً عند الضرورات بل ربما يصير عليه من الواجبات. إن قيل: ما الفرق بين قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} وبين قوله {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} قيل في قوله {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} إيجاب العبادة بواسطة رؤية نعمه التي بها تربيتهم وقوامهم، وفي قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} إيجاب عبادته بمراعاته عز وجل من غير واسطة وعلى ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} فحيث ذكر الناس ذكر معه الرب، وحيث ذكر الإيمان ذكر الله - لما تقدم وأما الخلق فتقدير الأعراض الجسمانية وإيجادها، وقد يقال مفيداً للتقدير من غير إيجاد نحو قوله الشاعر: وأراك تفري ما خلقت .... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري واستعمل الخلق في الأجسام والخلق في القوى والأفعال، وجعل " خلقت " للتكوين، وأخلقت للإفساد، نحو فريت، وأفريت، وذلك نحو " أخلقت الثوب " فخلق وأخلق، ولما كان الشيء الحلق كثيراً ما يلين قبل حجر أخلق و " الصخرة خلقاء " أي " ملساء "، ومن أجل أن " الخلق لا يستعمل إلا في إيجاد الأجسام وأعراضها امتنع قوم من إطلاق الخلق على القرآن، فراعوا فيه هذا الوجه دون الوجه الآخر، قالوا: ولا يكاد يقال في وصف الكلام مخلوق ومختلق إلا إذا أريد به المنقول المفتعل. وعلى هذا قال تعالى حكاية عن الكفار في وصفه {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} ولا يكاد يستعمل الخالق مطلقاً إلا في وصف الله تعالى. وقيل في الجملة: يستعمل في المتقدم لكن ذلك على أربعة أوجه تقدم بالزمان نحو آدم قبل نوح عليهما السلام، وتقدم بالذات وهو في كل شيئين متى توهمت ارتفاع أحدهما ارتفع معه الآخر، وإذا توهمت ارتفاع الآخر لم يرتفع معه الأول، كالحياة مع العلم، وتقدم بالشرف، نحو تقدم الأمير للحاجب، وبهذا النظر استعمل العتيق في الشريف وإن كان موضوعه لما تقدم زمانه، نحو

(22)

قولنا: تمر عتيق. وتقدم بالرتبة الوضيعة نحو قولنا: الواحد قبل الاثنين، وقوله: " الذين " ها هنا يتناول نوع العقلاء وغيرهم من جميع الأشياء. وفي ذلك تنبيه أن الله تعالى خالقنا وخالق كل ما تقدمنا، وكل ما هو سبب في وجودنا وحصولنا من الآباء والأمكنة والأزمنة والسماء والأرض وسائر ما لو توهمناه مرتفعاً لم يحصل، وأخرج الكلام مخرج المقرر عند المخاطبين أنه تعالى خالق الكل ومبدع الجميع، فعلم ذلك عندهم إما موجود وإما ممكن وجوده، ولهذا قال {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ولعل ذكر بعضهم أن معنى ما في غاية القرآن، قال: لأن " لعل " للشك، والشك لا يصح على الله تعالى، فكما لا يصح أن يقول أرجو، وأشك وأظن، فكذلك لا يصح منه أن يقول " لعل " و " عسى " بمعنى ذلك فثبت أن معناه إذا أورده معنى ما وهذا تصور بعيد، وذاك أن القائل إذا قال: " إفعل كذا لعلك تفلح يصح أن يكون " لعلك " حال للمخاطب بمعنى أنا طامع راج لفلاحك ويصح أن يكون للمخاطب بمعنى " وأنت طامع في فلاحك "، ولما دلت الدلالة أن الطمع إنما يكون لمن يخفى عليه العواقب، علم أنه لا يصح أن يكون لله تعالى إذا ورد في كلامه، فصار ذلك حال للمخاطب كأنه قال: " اعبدوا ربكم راجين تقاكم "، وإخراج الكلام على ذلك لأن من شرط المكلف أن يكون واقفا بين الرجاء والخوف ولذلك قال في مدح المؤمنين {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} وقال: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وكذلك التقوى فقد تقدم أن لها ثلاث منازل: الأولى: ترك الكفر، والثانية: ترك المحارم التي تحظرها الشريعة. والثالث: حفظ الخواطر والنيات، والآخران اللذان رجانا هما الله تعالى ها هنا دون الأولى، إذ لا يصح فعل العبادة مع وجود الكفر، وحقيقة التقوى جعل النفس في وقاية من كل ما يبعد عن الله تعالى ولهذا قال بعض المحققين التقوى أن يتجنب الإنسان بغاية جهده الأخلاق الحيوانية، ويتخصص بالأخلاق الملكية، فلا يكون متكبراً كالنمر، ولا معيناً كالكلب، ولا حقوداً كالجمل، ولا غمراً كالثور، ولا جاهلاً كالحمار - وقد نبه بالآية أن العبادة لله تعالى هي المبلغة بنا إلى نهاية التقوى التي يستحق بها حوار الله تعالى، نحو قوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. قوله - عز وجل -: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} الآية (22) - سورة البقرة. جعل: لفظ عام في الافعال كلها، ويتصرف على ثلاثة أوجه: تارة تجري مجرى صار، و " طفق "

فلا يتعدى مثل قولك جعل زيد يقول كذا، قال الشاعر: وقد جعلت قلوص بني سهيل .... من الأكوار مرتعها قريب وتارة تجري مجرى " أوجد، فيتعدى إلى مفعول واحد، نحو قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وتارة تجري نجرى صير وكون فيتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} وتقول جعلته خارجاً إذا جملته على الخروج وإذا أخبرت عنه بالخروج أو حكمت له سواء كان خارجاً أو لم يكن والفراش والبساط متقاربان وهو كل ما فرش من ثوب أو غيره والبناء لكل مرتفع وحائط وغيره والقصد بالآية إلى ما جعله الله تعالى لنا من الآية الواصلة إلينا من السماء والأرض وما بينهما ودل على ذلك بأظهر الآلاء وأقربها من الحواس وقد بسط ذلك المعنى بأبلغ من هذا في قوله {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وهذا المعنى على مقتضى ظاهر اللفظ. وقد قال بعض المفسرين إن الله تعالى مع إرادته لهذا المعنى جعل ذلك مثلاً فذلك أنه جعل الأرض فراشاً أي مركباً من قوله: " افترشت البعير " إذا ركبته، (والسماء بناء) أي الجنة مقراً أو منزلاً، وجعل ما يصل إلينا من الوحي والعلم ماء، وما يثمره من الأعمال الصالحة التي هي سبب الحياة الأبدية ثمرات، وهذا إذا جعل مثلاً فليس ببعيد، إذ قد علم أن السماء تجعل مثلاً لكل منزلة رفيعة كقول الشاعر: نالوا السماء فأمسكوا بعنانها ... حتى إذا كانوا هناك استمسكوا ولا منزلة أرفع من الجنة، ثم لما كانت الجنة في السماء على ما روي في الخبر صح أن يعبر به عنها وقد جعل الأرض مركباً لنا لما روى في الخبر: " اجعلوا الدنيا مطية تبلغكم إلى الآخرة، واجعلوا الآخرة دار مقركم ومحط رحالكم، وجعل المساء مثلاً للعلم والحكمة حتى قيل في قوله تعالى {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أنه عنى بالماء القرآن بدلالة أنه علقه بالسماع، وليس الماء مما يسمع، وفي قوله - عز وجل - {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أنه عنى به القرآن، فذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ويروى أن رجلاً قال لابن سيرين:

(22)

رأيت في منامي كأن ماء يتبعني وأنا أهرب منه وكنت عطشان "، فقال إنه يعرض عليك علم أنت محتاج إلهي وتأبى أن تتعلمه "، وجعل الثمر مثلاً لما يتحصل من الأفعال الصالحة عن ذلك البيان، وقد جعل الله تعالى الماء والثمر مثلاً في قوله {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} الآية .. ، وجعل بعضهم ذلك مثلاً على وجه آخر، فقال: الأرض مثل للأبدان، والسماء مثل للعقل، والماء مثل لما أفاض الله به علينا من العلوم المكتسبة التي تحصل بواسطة العقل. والثمرات التي جعلها الله رزقاً لنا مثل لما يحصل من الأفعال التي تقتضيها العلوم والله أعلم. وهذا يكون أبلغ في المعنى، لأنه يحصل مع المعنى المحسوس معنى معقول. والله أعلم. قوله - عز وجل -: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية: (22) - سورة البقرة. الند والشبه والمساوي والشكل والمثل متقاربة المعنى، لكن بيناه فروق - فند الشيء هو المشارك له في الجوهر وإن خالفه في الكمية والكيفية وشبهه مماثله في الكيفية، وإن خالفه في غيرها ومساويه مماثله في الكمية كلها وإن خالفه في غيرها، وشكله مماثله في القدر والمساحة ويدل على هذا الفرقان إنه إذا قيل ما هذا؟ فيقال: ند كذا، أو يقال كم هذا؟ فيقال مساو لكذا، أو يقال: كيف هذا؟ فيقال: شبه كذا قنع المخاطب متى عرف المشبه به، ولو قال كم هذا؟ فيقال: شبه هذا أو قال كيف هذا؟ فيقال مساو لهذا لم يقنع به، والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبيه من كل وجه خصه بالذكر، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقال أبو عبيد: الند " هو الضد، وهذا نظر منه إلى بعض الأنداد،

وذلك أن الشيئين قد يشتركان في الجوهر، ثم يختلفان في فصل ما، كالإنسان والفرس فإنهما مشتركان في الحيوانية، ومنفصلان في كثير من المعاني فمن اعتبر في مثل ذلك ما بينهما من الفصل قال: الند: هو الضد أو المخالف لأن أهل اللغة يطلقون الضد على المتقابلين، وعلى المختلفين كثيراً على ما يدل عليه كلامهم في الأضداد، وقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} عام في النهي عن الشرك المطلق وعن الدقائق المؤدية إلى الشرك المنبأ عنه بقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ولهذا قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في هذه الآية هو قول الرجل: (لولا نباح الكلب لدخل علي اللص) وقيل: هو نهي لقوم كانوا يقولون: إن شاء الله وشاء رسول الله - عليه السلام: " أمثلان أمثلان؟ قولوا إن شاء الله " فأنزل الله هذه الآية. إن قيل: ما وجه قوله: " وأنتم تعلمون "؟ فإن ذلك إن جعلته خبراً مستأنفاً، فلابد له من ذكر معلم يقترن به حتى يحصل به تمام الخبر، إن جعلته حالاً يصير تقديره: " لا تجعلوا له أنداداً في حال علمكم "، وذلك غير صحيح، لأن جعل الأنداد محظور في كل حال، قيل إن ذلك حال للمنتهي، وليس الاتيان به شرطاً لقصر الحكم على هذه الحال، وإنما هو تنبيه على قبح فعلهم، لأن مرتكب القبيح مع علمه بقبحه أعظم جرماً، وإذا قيل: " لا تكفر معانداً " فذلك نهي عن الكفر وعن العناد، فكذلك هذا، وعلى هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ثم قوله: (وأنتم تعلمون) عام فيمن حصل له العلم بذلك، وفيمن له التمكن مع العلم به، فقد

(23)

يصف من حصل له التمكن من الشيء الترشح له بذلك الشيء كتميتهم العصير خمراً، الصبي ناطقاً، والنائم عالماً قد تقرر في عقل كل عاقل إذا تأمل أدنى نظر أنه لابد للموجودات من موجد لها يخالفها، يصح أن يقال لهم: " أنتم تعلمن " وبهذا الوجه قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ومعلوم أنهم لا يقولون ذلك إلا بأدنى تأمل واعتبار. قوله - عز وجل - {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} الآية (23) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في الريب، وأما الفرق بين الشك والمرية، والريب والأرابة، والتخمين والحدس، والوهم والخيال، والحسبان والظن، فإنه يذكرها هنا إذا كانت معرفته نافعة، فنقول: وبالله التوفيق: إن الشك هو وقوف النفس بين الشيئين المتقابلين بحيث لا يترجع أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية هي التردد في المتقابلين، وطلب الإمارة مأخوذ من بري الضرع، أي منحه للدر، فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي عليه الظن. والريب أن تتوهم في الشيء أمراً ما، ثم ينكشف عما توهمت فيه، والأرابة أن تتوهمه، فينكشف بخلاف ما توهمت، ولهذا قيل: " القرآن فيه أرابة وليس فيه ريب "، والتخمين توهم لا عن إمارة. والحدس إسراع الحكم بما لا يأتي به الهاجس من غير توقف فيه مأخوذ من حدس في سيره، أي أسرع والوهم صورة تتصورها في نفسك سواء كان لها وجود من خارج كصورة إنسان ما، أم لم يكن له وجود كعنقاء مغرب، وغزائل، والخيال تصور ما أدركه الحاسة في النفس. والحسبان: اعتقاد عن أمارة اعتددت به، سواء كان له وجود في الحقيقة، أو ولم يكن وهو مشتق من حسبت الحساب، والظن: أعم معنى من ذلك كله فإنه اعتقاد عن أمارة ما مما قد ثبت، فمتى كانت تلك الأمارة ضعيفة جرى مجرى " خلت

وحسبت "، ومتى كانت الامارة قوية جرى مجرى " علمت " وكتردده بين هذين. قال أهل اللغة: " ظننت " قد يكون بمعنى: " خلت " وبمعنى: " تيقنت "، ومتى كانت الأمارة قوية، ولحق بباب العلم استعمل معه " أن " الثقيلة والخفيفة منه نحو: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} وقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} ومتى كانت ضعيفة، استعمل معه " أن " المختصة بالمعدومين من الفعل، نحو قوله: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} وقد تقدم الكلام في الإنزال والتنزيل وفي معنى العبد. وأما تخصيص إضافة العبد إلى الله في كثير من المواضع، فتنبيه على مدحه في كونه مطيعاً له متصرفاً عن أمره، وأنه غير متعرج على غيره، ولا مؤتمر لسواه كمن سماهم " عبدة الطاغوت "، و " عبد الدرهم والدينار " وتنبيه أنهم ممن وصفهم الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وتنبيه أنه يجري مجرى الملك الموصوف في قوله {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ثم إضافته بنون الملكية مبالغة في الاختصاص، وكل إضافة إليه تعالى على هذه الوجه، فالمبالغة والسورة المنزلة في نحو: ألم تر أن الله أعطاك سورة ويقال للمحيط بالمدينة " سور " لحياطته بجملتها، وتسمية القطعة من القرآن بذلك لكونه كالمحاط بها إحاطة السور بالمدينة، أو لكونها منزلة ما من القرآن كما تقدم، ومن قال سؤرة بالهمز، فمن: أسارت أي: أبقيت قطعة، فكان ذلك قطعة مفرزة من جملته، وقوله:

" من مثله "، قيل: من مثل القرآن، وقيل: من مثل النبي [عليه السلام] من البشر - تنبيهاً أن مثله ليس في طرق البشر، ومن على الوجه الأول: للتبغيض، وعلى الثاني: للابتداء. قوله - عز وجل -: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. الآية: (23) - سورة البقرة. الشهادة: تبين الشيء الحاضر، فقولهم: " شهد زيد " في المعنى من قولهم: " حضر " وإن كان قد يفسر به، ولما كان تبين الشيء على ضربين: تبين بالبصر، وتنبين بالبصيرة، والحضور على ضربين: حضور بالذات، وحضور بالتصور، صارت الشهادة تستعمل على أوجه بحسب ذلك، فيقال ذلك لحصول قربة ومنزلة، ومنه قليل: استشهد فلان "، " وهو شهيد "، كأنه حضر وتبين ما كان يرجوه، واستعمال ذلك فيه كاستعمال القريب نحو قوله: {الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ولهذه العنى قال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}، وقال في الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وقالوا: " أنا شاهد لهذا الأمر "، أي عارف به متصور له - إشارة إلي قولهم " لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي ". وقالوا: " شاهده " أي: ناصره، وعلى نحوه قال [تعالى]: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وقالوا: " صحبك الله، وأما الشهادة المتعارفة: فأصلها الحضور بالقلب والتبين، ثم يقال ذلك إذا عبر عنه باللسان، ولذلك متى أطلق لفظ الشهادة على ما يظهر من اللسان دون حصوله في القلب عد كذباً، كقوله تعالى في المنافقين حيث قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، فكذبهم وقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ثم يقال لكل ما يدل على شيء شهادة وإن لم يكن قولاً فقوله: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} قد فسر على ما يقتضيه لفظ

الشهادة، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - معناه: أعوانكم، وقال مجاهد: معناه الذين يشهدون لكم، وقال غيرهما: أئمتكم نحو: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ}، وكأنما عنى بذلك الكبير الذي لا يبرم أمراً من دونهم كقولهم: " فلان يحضر به النوادي وهو من أهل النجوى " وبضده هجى من قبيل فيه بيت: مخلفون، ويقضي الناس أمرهم ... وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا وأما الصدق: فإنه يُحد بأنه مطابقة الخبر المخبر عنه، لكن حقيقته وتمامه أن يتطابق في ذلك أشياء، وجود المخبر عنه على ما أخبر عنه، واعتقاد المخبر فيه ذلك عن والاعتقاد وبخلافه، صح أن يوصف بالكذب ... ألا ترى أن الله تعالى كذب المنافقين في إخبارهم " إنك لرسول الله " لما كان اعتقادهم غير مطابق لقولهم؟ وإذا قال لك من أعتقد كون زيد في الدار، ولم يكن فيها صح أن يقال كذب، وإن كان قوله مطابقاً لاعتقاده، ولما كان اللسان ترجمان القلب، صح أن يقال: " صح في اعتقاده أو كذب "، وقد يتجوز أيضاً بذلك في جميع الأفعال، فيقال لكل فعل جميل على ما يجب صدق، ولما كان بخلافه [قيل] كذب، ويقال أيضاً لكل شيء يعتقد فيه اعتقاداً ما فوجد مطابقاً لذلك صدق، وإن وجد بخلافه كذب، ووجه الآية أن الله تعالى تحداهم بأن قال: " ادعوا أعوانكم وأنصاركم " وأستعينوا بكل ناصر لكم غير الله الذي هو مفزع الكل، وانظروا هل فب طوقكم الإتيان بمثله - تنبيهاً على أن ذلك لو أتى به محمد من قبله لقدرتم أنتم مع تظاهركم على الإتيان بمثله، ويحوز أن يكون قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ذماً لهم أي: ادعوا أعوانكم التي من عادتكم الاستعانة بهم الذين هو غير

(24)

الله، ويجوز أن يكون معناه (وادعوا شهداءكم الذين لكم من دون الله)، فإن الاستعانة به ليس بكم، وعلقه بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} - تنبيهاًَ أن إقامة الدلالة على الشيء الصدق ليس يقصر، فعجزكم عنه دلالة على أنكم كاذبون في دعواكم. قوله - عز وجل -: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}. الآية: (24) - سورة البقرة. لفظ الفعل أعم من معنى سائر أخواته، نحو: العمل، والصنع، والإبداع، والإحداث، والخلق والكسب وذاك أن الإبداع أكثر ما يقال في إيجاد عين عن عدم، وليس حقيقة ذلك إلا الله تعالى، والأحداث يقال في إيجاد الأعيان والأعراض معاً، والعمل لا يقال إلا ما كان عن فكر وروية، ولهذا قرن بالعلم، فقيل: علم وعمل، حتى قال بعض الأدباء: " قلب لفظ " العمل عن لفظ " العلم " تنبيهاً أنه من مقتضاه، والصنع يقال لإيجاد الصورة في المواد كالصياغة والبناء فإن الصائغ يوجد صورة الخاتم والخلخال في الذهب والفضة، والبناء يوجد صورة البناء في الطين، والكسب أكثر ما يقال في اجتلاب المنافع، وقد يقال أيضاً في اجتلاب المضار مقيداً، والخلق قد تقدم القول فيه، وقد أمر الله بالتقوى على ثلاثة أوجه، وخص بكل وجه عصابة من الناس وذلك بحسب اختلاف مراتبهم من العلم ومكانهم من الإيمان، فالأول: حث الإنسان على اتقاء عقوبة الله برؤية ذنوبه، وذلك في قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} والثاني: حث على

اتقائه بروية آلائه ونعمه لقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} والثالث: حث على تقواه برؤية وحدانيته دون الوسائط وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}. وجعلها على ثلاثة مراتب حسب ما سنه تعالى في سياسة الأصناف الثلاثة من الناس الخاصة والعامة، وبهذا الاعتبار قسمهم تعالى ثلاثة أقسام في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} وأشرف هذه المنازل " تقوى الله " تعالى من غير رؤية الوسايط بلا مخالفة ولا رجاء، ولذلك عظم ثوابه بقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وهم الاتقون المعنيون بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} والمعبر عنهم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} والوقود: الحطب الذي يوقد به، ولذلك فسر بأنه دقاق الحطب، لأنه الدقاق الذي يوقد به، ولما كانت نار الدنيا محتاجة إلى دقاق توقد به، ونار جهنم مستغنية عن ذلك، بل يكتفي في إيقادها بالناس وبالحجارة التي ليست من عادة النيران المشاهدة أن يتقدبها عظم أمرها ومن قال: أراد بذلك حجارة " الكبريت " فإنما عنى أن الحجارة لتلك النار كحجارة الكبريت لنار الدنيا، وقوله: أعدت أصله في العدد وهو الإحصاء، لكن العد يتجوز به على أوجه فيقال: شيء معدود ومحصور للقليل مقابلة بما لا يحصى كثرة، ويقال على الضد من ذلك، وجيش عديد، وإنهم لذو عدد، أي: كثيرة، وذلك مقابلة بما لا يحتاج إلى حصره وتعداده لقلته، ولهذا قيل: أعددت هذا لكذا، أي جعلته معادا للمعد له، يتناول منه بحسب حاجته إليه وقد ألزمهم الله تعالى بهذه الآية الحجة بأنكم إن أتيتم بمثله، فقد أدخصتم حجته،

وإن لم تأتوا به لزمتكم الحجة، ووجب عليكم أن تتقوا عقابه. وفصل بين الشرط والجزاء بحكم جزم أن لا تأتوا بمثله، وذلك زيادة في إعجازه لوجود مخبره على ما أخبر به وذلك مثل قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الآية، فإن قيل كيف خص الكافرين بالنار دون الفاسقين؟ قيل: يجوز أن يكون أراد أن هذا الضرب من النار يختص به الكفار، وهي المخصوصة أيضاً بقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ثم إذا قيل: " أعد هذا لزيد " لا يقتضي أن لا يكون معداً لغيره، بل قد يكتفي بأعظم الشيئين عن الآخر نحو قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} لم يذكر معه البرد، فيكون النار على هذا الوجه للجنس، وعلى الأول للنوع ..

(25)

قوله - عز وجل - {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} الآية: (25) - سورة البقرة. أصل بشرته تلقيته مني ببشرة ووجه طلق، وذاك أن من شأن من أتى بخبر سار أن يكون طلق الوجه، ومن أتى بخبر بخلافه يكون عابس الوجه وقيل معنى بشرته: أطلقت بشرته بما أخبرته فإن من ناله سرور، طار دمه منتشراً في صفحة وجهه، ومن ناله سوء يقيض دمه فاصفر أو اسود وقيل: بشرتهك أظهرت له خبراً دلت بشرته على المسرة به، أي ظاهره فاستعير لظاهر الخبر البشرة وذلك لكثرة ما يدل وجه الشيء على باطنه فإن قيل: فإن كانت البشارة للأخبار السارة، فما وجه قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؟ قيل إن مثل ذلك قد يستعمل على سبيل التهكم نحو: " تحية بينهم ضرب وجيع " تنبيهاً أن السار لهم الإخبار بالعذاب الآليم، فما الظن بما وراءه؟ والإيمان لما كان في الأصل للتحقيق والتصديق، قيل: ما ذكره الله تعالى إلا قرن به الأعمال الصالحة، تنبيهاً أن الاعتقاد لا يغني من دون العمل، فالعلم أس والعمل بناء، ولا غناء للأس ما لم يكن بناء كما لا بناء ما لم يكن له أس ولذلك قيل: " لولا العمل لم يطلب علم "، ولولا العلم لم يكن عمل، فإذا حقهما أن يتلازما والجن: أصله المستر عن حس البصر وسمى الجن لاستتاره عنه، ثم اشتق من الجن، فقيل جن فلان، وبنى على فعل نبأ " عامة الأدواء نحو:

" زكم " و " حم " ولقي والجنان: القلب، لكونه مستوراً عن البصر، و " جن الليل " والمجن لذلك وقيل للبستان ذي الأشجار جنة، لاستتاره بها، والجنة قيل: [تسمى تشبيهاً] بجنة الأرض وإن كان بينهما بون، وقيل: سميت بذلك، لأنه ستر في الدنيا حقيقة ما أعد الناس فيها من عظم الآلاء وبذلك أخبر تعالى في قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وإنما قال: " جنات " بلفظ الجمع لما قال ابن عباس - - رضي الله تعالى عنهما - " إن الجنان سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، وجنة المأوى، ودار الخلد، ودار السلام، وعليون " والجري: المر السريع، ويقال ذلك في الماء والرياح والسحاب والفرس، ويقال للرسول والوكيل المتحققين في الحال جري، والاتيان: عام في المجيء والذهاب وفيما كان طبعاً وقهرياً، والآتي: يقال للماء الجاري، ولما وقع فيه من خشب ونحوه ولمجرى الماء القريب أيضاً إن قيل: لم قال: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وقد علم أن الماء في البساتين إذا كان جارياً على وجع الأرض أحسن منها إذا كان جارياً تحتها؟ قيل: عنى أنهاراً جارية تحت الأشجار، لا تحت الأرض، وقد روي عن مسروق ما يدل على ذلك، وهو أن كل أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، إن قيل: كيف قالوا: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} وما كان من قبل قد فنى وعدم؟ قيل: لفظة " هذا " وأخواته يشار بها إلى العين الموجودة طوراً، وإلى النوع والجنس طوراً. والنوع من حيث ما هو نوع ليس يفنى، وإنما الذي يفنى هو الجزئيات وعلى ذلك تقول في الإشارة إلى نهر جار: " هذا الماء

لا يفنى " وأنت لا تعني بذلك الجزئيات المشاعدة منه، وإنما تعني به النوع المعلوم وقوله: (من قبل) هو للمتقدم، فقيل: عنى بذلك ما أتوا به قبل ذلك في الجنة، وإليه ذهب الحسن ويحيى بن أبي كثير، فقال: " إذا أوتي أحدهم بصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بآخر، فيقول: هذا الذي رزقنا من قبل، فيقول له الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف "، وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - (رزقنا من قبل) أي في الدنيا شبهه. وابن جرير رجح هذا الوجه، وقال: إن قوله: (كلما) عام يقتضي أنهم قالوا ذلك في كل مرة من غير تخصيص، ومتى جعل ذلك الأولى، اقتضى أن يكون مخصوصاً خلاف ما يقتضيه عموم الآية، وقال بعض المفسرين قول ابن عباس -[رضي الله عنهما]- في قوله: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: في الدنيا، يعني ثواب ما رزقنا من المعارف كقوله: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، قال: ويدل على صحة هذا أن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: " ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء "، والمتشابه: المتماثل في الكيفية، ولهذا يقال فيكا لا يتميز أحدهما عن الآخر متشابه، وكذلك للواقع من الكلام بين معنيين فصاعداً ومتشابه والشبهة في الشيء ما يقع فيه من مشابهة الغير، فقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، قيل: هو تفسير لقوله: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي يشبهه اسماً ولوناً لا طعماً وحقيقة وقيل: عنى به متماثلاً في الكمال وأن لا تقارب، فيه كأطعمة الدنيا، وقال بعض المفسرين: إن الآية مثل لا على الحقيقة، وقد نبه على كونه مثلاً بقوله بعده: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} والأنهار مثل لمجاري الخيرات، كقولك: ينابيع الحكم، وأنهار الفعل والرزق لم يعن به ما يؤكل فقط، وإنما هو كقولك: " رزقت فهماً وعلماً " والثمرة: اسم

لما يتحصل عن الشيء، كقولهم: " ثمرة العلم العمل الصالح، وثمرة العمل الصالح الجنة " ومعناه: كلما اعطوا في الجنة جزاء لما رزقوا من المعارف والأعمال، (قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) أي: هذا ثواب الذي وفقنا له في الدنيا. وهذا القول وإن كان لمجازه مساغ في اللغة، فهو ترك لما روي عن السلف في تفسير الآية، وقد طعن في هذه الآية وأمثالها من الآيات قوم من المتفلسفين والطبيعيين، وقالوا: " إن الجنة لا يصح فيها الأكل والشرب، فإن الأكل لا يطيب إلا عن جوع، والجوع مرض وأذى، والأكل مداواة له، ولا مرض ولا أذى بوجه في الجنة، ثم إن الطعام يصير بعضه ثقلاً بعد طبخ المعدة إياه فيخرج من البدن، وبعضه يصير غذاء يزيد في البدن بقدر ما يتحلل منه، وإلا خرج به البدن عن الاعتدال. وكل ذلك لا يصح إلا في دار الكون. والفساد دون دار الخلد والبقاء ". وهذا كلام من نظر إلى الأجساد في الآخرة نظره إليها في هذه الدنيا، وهي مركبة تركيباً معرضاً للاستحالات، ولم يعلم أن الله تعالى [قادر على أن] يعيدها إعادة لا تعتورها الاستحالات، ويجعل لها أطعمة يتلذذ بها، فلا يكون لها ثقل ولا تغير منكر، وقد دل على ذلك تعريضاً وتصريحاً، أما إعادتها على وجه معرى من الاستحالات، فقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وبقوله عليه السلام في أهل الجنة: (جرد مرد مكحول)، وأم إن أطعمتها لا يستحيل فبقوله عليه السلام: (إن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون إنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك).

ويقول ابن عباس " رضي الله عنهما " " ليس في الجنة شيء ما في الدنيا إلا أسماوها "، فإن الله تعالى سمي الماء واللبن والخمر والعسل والسندس والحرير والمسك والزنجبيل، ووصف لكم ما في أيديكم ليحلو عندكم، ولكي تهتدي، إليه قلوبكم، زليس لهذا القول منه وجه إلا التوقيف، إذ لا مدخل للاجتهاد فيه، وروي أن يهودياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - " أتزعم أن في الجنة نكاحاً وأكلاً وشرباً، ومن أكل وشرب كانت له عذرة؟ فقال النبي - عليه السلام -: " والذي نفسي بيده إن فيها أكلاً، وشرباً، ونكاحاً، ويخرج منهم عرق أطيب من ريح المسك "، فقال رجل: صدق رسول الله، خلق الله دوداً يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، فيخلف غسلاً سائغاً " فقال عليه السلام: " هذا مثل طعام الجنة أهل الجنة " وفي هذا إشارة عجيبة، فإنه إذا أمكن أن يأكل دود أطعمة مستحلية، فتخلف جنساً طيباً يبقى أطول مدة، فلا يلحقه فساد، فكيف ينكر أن يتناول أهل الجنة طعاماً معرى من العفونات والاستحالات، فيخلف منه مسك؟ والذي يستبعده بعض الناس من ذلك هو أنهم يريدون أم يتصوروا أبداناً متناولة لأطعمة لا استحالة فيها ولا تغير لها، ولا يكون منها فضولات، وتصور ذلك محال، وذاك أن التصور: هو إدراك الوهم خيال ما أدركه من الحس وما لا يدرك الحس جزءه ولا كله، كيف يمكنه، تصوره؟ ولو كان للإنسان سبيل إلى تصور لك، لما قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، ولما قال " عليه السلام " مخبراً عن الله تعالى: (أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، وجملة الأمر: يجب أن يكون معلوماً أن النقصانات منفية عن الجنة، لأنها من الأعدام، وليس في الجنة أعدام، إذ الجنة في غاية الكمال والتمام ..

(25)

قوله - عز وجل -: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية: (25) سورة البقرة. الزوج: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوان المتزواجة، ومن القرينين في غيرهما، كزوج الخف والنعل، ولكل ما معه آخر مقارن له - مماثلاً كان أو مضاداً، مركباً معه أو مفرداً، فقوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي. أشكالهم وموافقيهم في الدين، ولم يرج الرجل وحليلته، فقد تكون تحت المؤمن الكافرة وتحت الكافر المؤمنة، وقوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي اثنين، إما من حيث الأعداد، أو من حيث التركيب - تنبيهاً أنه تعالى هو الفرد من كل وجه، وما سواه زوج من وجه ما، والزوجية: أي أنثوية يقتضي كونها محدثة، والتطهير يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعاً، وقيل في قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}. أي نفسك نقها من الأوساخ، وذلك مخاطبة لككافة وإن كان لفظه للنبي - عليه السلام - وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، ومعلوم أنه تعالى لم يرد تطهيراً عن نجاسة في ثوب وبدن، وإنما أراد تطهير النفس الذي يستحق به المدح والخلود والبقاء الدائم وأصله لما يطول مكثه، ومنه قيل للأثافي والأحجار " خوالدٌ "، والخُلْدُ: اسم للجزء يبقى من الإنسان على حالته مادام حياً ...

(26)

قوله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}. الآية (26) سورة البقرة. الحياءُ: عارض للفرع من النقيصة، وذلك بين الوقاحة والخجل، فإن الوقاحة هي الجرأة على الإعال القبيحة من غير مبالاة، والخجل انحصار النفس عن الفعل، والحياء مأخوذة من لفظ (الحياة) التر يراد بها العلم والعقل، ووجه ذلك أن الحياء أسُّ العقل، إذ هو أول أمارة منه تظهر من الصبي، ولهذا قال عليه السلام: " من لا حياء له لا إيمان له "، لأن الحياء أول منزلة من العقل، والإيمان آخر منزلة له، ومحال أن يحصل آخر المنزلة لمن لم يحصل له الأولى، وأما الحياء الذي هو الفرح، فسمي بذلك لكونه مستحباً من ظهورة، ومن أجل ذلك قيل: " شورتُ لفلان " أي خَجَّلتُهُ خجل من يظهر شوارهُ أي فرحُةُ والضربُ أصله وقع شيء على شيء ثم تجوز به على أنظار مختلفة، ولما قيل: " ضربتُ الدرهم "، و " درهمٌ ضربٌ " أي مصوغ، استعير منه: " ضربت المثل " والكلام في المثل، والمثل قد تقدم، وما في قوله: " مثلاً ما " للمبالغة في التنكير، فإن " ما " في الخبر إما أن تكون معرفة، فتكون موصلة، أو نكرة، وذلك على ثلاثة أوجة: إما موصوفة نحو قوله: رُب ما تجزعُ النُّفوسُ منَ الأمـ .... ـرِ فُرْجةٌ كحلٌ العقال أو مبتدأ بلا صفة وذلك في قولهم: " ما أحسن زيداً " على مذهب " سيبويه "، وإما تابعاً

لاسم منكور - تنبيهاً أنه لم يقصد به معين، نحو: " رأيتُ رجُلاً ما "، وقوله: " فَمَاَ فَوْقها "، قيل معناه: ما دونها، وإنما عنى ما فوقها في الصغر، ففسره بدون، فظن بعض أهل اللغة أن فوق يكون بمعنى " دون " فأخرجه في جملة ما صنف من الأضداد والحق: لفظ عام لصدق المقال وصواب الفعال، يقال: قول حق، كقولك صواب، وقيل: الحق هو الذي لا يزاحمه في ذاته ضد، ولهذا وصف الله تعالى به في قوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} والإرادة منا تقتضي نزوع النفس إلى الشيء مع الحكم بأنه ينبغي أن يفعل وأن لا يفعل وإذا وصف الباري تعالى، فلا يصح أن يكون فيه النزاع، إذ هو منزه عن ذلك، والاختيار أخص من الإرادة، فإن فيه مع الإرادة دلالة من اللفظ على تفضيل أحد الشيئين على الآخر، والإيمان ههنا: الاعتقاد الصادر عن العلم وإن كان في التعارف يقتضي مع الاعتقاد قولاً وعملاً بحسب مقتضاه والكفر ههنا: الاعتقاد الكاذب عن تخمين، ومعنى الآية: أن الكفار لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تلا عليهم قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} وقوله {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} قالوا: لا يستحي ربك عن ذكر الذباب والعنكبوت؟ فأنزل الله تعالى ذلك - تنبيهاً - أن الاعتبار بالحكمة لا بصغر الجثة وكبرها، إن قيل: من حق مطابقة قوله [تعالى]: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي يقول: (وأما الذين كفروا فلا يعلمون)؟ قيل: لما كان الإيمان صادراً عن العلم، والعلم يقتضي سكون النفس وطمأنينة القلب، وذلك لا يقتضي مراجعة ومساءلة ذكر مقتضاه ولما كان الكفر منبع الجهل التام وتمام الجهل والاعتراض على الحق على

سبيل الإنكار، نبه بإنكارهم لما لا يعرفونه على تمام جهلهم وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} -[قد تقدم] الكلام في الإضلال والهداية، فأما الفاسق: فهو الخارج عن حجر الإيمان من قولهم: " فسق الرطب عن قشرة "، وكل كفر فسق، وليس كل فسق كفراً، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم فسق حكم الإسلام وأقر به أو ببعضه ثم أخل به، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق، فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضاه الفطرة، وللفاسق في انحلاله عن الإسلام ثلاث درجات: التغابي، والانهماك والجحود فبالتغابي: يرتكب بعض الذنوب مع استقباحه من نفسه، وبالانهاك: يرتكبها غير مبال بها، وبالجحود: يرتكبها مستصوباً لها. [والكبير والكثير يتقاربان، إلا أن الكبير والكثير أكثر ما يقال في أخر الشيء المتصل] فالكثير في الأعداد والمعدودات المنفصلة: إن قيل: كيف قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} والكثير والقليل إنما يقالان في شيئين يعتبر أحدهما بالآخر، والناس إذا فرقوا فرقتين فحكمت على إحديهما بالكثير، فالأحرى لا محالة قليلة، فكيف جعلهما كثيرين؟ قيل: إن ذلك باعتبارين، فقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} يعني من حيث العدد، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} يعني من حيث الفضل والشرف. وعلى هذا قول الشاعر: " قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا " أو يحكم عليهما بالكثرة - اعتباراً بالإضافة إلى غيرهما -.

(27)

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الآية: (27) - سورة البقرة. النقض: فسخ المبرم، وأصله في طاقات الحبل، والنكث: مثله، لكنه يقال في المتبلد كالأكسية، والأخبية، والعهد: كل أمرٍ شأنه أن يراعي كاليمين، والمشاركة، والمبايعة، ويقال العهد للدار المراعاة بالرجوع إليها، والتاريخ المراعي، وللمطر المتعهد، والميثاق: اسم لما يقع به الوثاقة، والعهد المأمور بحفظه ضربان: عهد مأخوذ بالعقل، وعهد مأخوذ بالرسل، والمأخوذ بالرسل مبني على المأخوذ بالعقل، ولا يصح إلا بعده أو معه، وقد حملت الآية عليهما، وذلك هو المذكور في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} وقد عظم الله تعالى أمر العهد وتوعد على الإخلال به في أي كثيرة، كقوله: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} وقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} الآية وقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} وأما ذمهم بقطع ما أمر الله به أن يوصل، فذم بقطع الخيرات وتعاطي السيئات، وذلك أن التقاطع بين الناس يحصل من رفض المحبة والعداية ورفضهما سبب كل فساد، فإن القوم إذا أحبوا وعدلوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عمروا وإذا عمروا عمروا وأمروا وبالعكس إذا تباغضوا وظلموا تدابروا وإذا تدابروا تخاذلوا وإذا تخاذلوا، لم يعمل بعضهم لبعض

فهلكوا ولهذا قال عليه السلام: (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله) وقال: (المؤمن مألف، ولا خير فيمن لا يؤلف ولا يألف)، ولذلك حثنا على الاجتماعات في الجماعات والجمعات، لكون ذلك سبباً للألفة، بل لذلك عظم الله تعالى المنة على المؤمنين بإيقاع الألفة بين المؤمنين، فقال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وليس ذلك في الإنسان فقط، بل لولا أن الله تعالى الف بين الأركان المتضادة، لما استقام العالم، ولذلك قال عليه السلام: " بالعدل قامت السماوات والأرض " ومتى تصور هذه الجملة، علم أن الآية في نهاية الذم

لهم، وقول قتادة: " إنه أمر بصلة الأرحام "، وقول غيره: " إنه ذم لهم بقطعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إشارة منهم إلى أبعاض ما يقتضيه عموم الآية، والخاسر في خسر إحدى المقتنيات الثلاثة من المال والبدن والعقل، وكما أن الفاسق بالقول المجمل على ثلاث طبقات بعضها فوق بعض، فكذلك ناقضوا العهد على ثلاث طبقات: ناقض عهده في أوامره المفروضة، وناقض عهده في أوامر النافلة، وناقض عهده في أركان الدين، وذلك أعظم الثلاثة، وكذلك قاطعو ما أمر الله به أن يوصل، قاطع لبعض ما يشير إليه عقله تابعاً لهواه، وقاطع لبعض ما يأمر به العلم وبنوه، وقاطع للعصمة بينه وبين الله، وكذلك الخاسر: خاسر ماله في ابتغائه غير الدار الآخرة، وخاسر بدنه في غير خدمة الله، وخاسر عقله في إهماله عن اقتباس ما يفيده الحياة الأبدية، وذلك أعظم الخسران المنبأ عنه بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} وقوله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}. فلكل منزلة من الفسق منزلة من نقض العهد، ومنزلة من القطع، ومنزلة من الخسران تلازمه، فالأول في كل ذلك مخطئ، والثاني فاسق، والثالث كافر، ثم منزل كل واحد منهم يتفاوت.

(28)

وقوله - عز وجل - {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الآية: (28) - سورة البقرة. كيف: ههنا استخبار لا استفهام، والفرق بينهما أن الاستخبار قد يكون تنبيهاً للمخاطب وتوبيخاً ولا يقتضي جهل المستخبر، والاستفهام بخلاف ذلك، فكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً، والحياة: يستعمل على أوجه، يقال للقوة النامية في النبات والحيوان حياة: ومنه قيل نبات حي إذا كان نامياً، وعلى ذلك قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وقوله عز وجل: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} والثاني: للقوة الحساسة الحاسة، وبه سمي الحيوان حيواناً، والثالث: للقوة المختصة بالإنسان من العقل والعلم والإيمان، وذلك لكونها سبباً للحياة الأبدية، وعلى ذلك قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا} وقوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وعلى نحوه قوله: وقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي والموت: يستعمل في فقد كل واحدٍ مما تقدم، وأما وصف الباري - جل ثناؤه - بالحي، فليس يتصور منه مقابله الموت، فإنه تعالى الدائم الباقي الذي به حياة كل حي، ومعنى الآية: قبل " كنتم أمواتاً " أي: تراباً ونطفة، فأحياكم، بأن أنشأكم وخلقكم ثم يميتكم الموت المعروف، ثم يحييكم يوم ينفخ

(29)

في الصور، " ثم إليه ترجعون أي تردون إلى دار الثواب والعقاب، وذلك نحو قوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ونبه بمثل هذه الآيات على أن القادر على الابداء، قادر على الإعادة، كما قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقال بعض أهل الحقائق: الآية خطاب للمؤمنين، ولا على الإنكار بل على تعظيم المنة عليهم وتبعيد الكفر منهم بعد تحققهم بالإيمان، فقد قيل: " ما رجع من رجع إلا من الطريق، أي: لا ينكر الله أحد بعد تخصصه بالمعرفة الحقيقية، وإنما يرتد ويتشكك من لم يبلغها، فمحال أن يصير العارف جاهلاً، وليس بمحال أن يصير الجاهل عالماً، فيقول: " كنتم أمواتاً " أي جهالاً فأحياكم بما أفادكم من العقل ورشحكم له من العلم، كما قال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} وهذا أعظم أعجوبة، وأولى بالاعتبار به والتنبيه عليه لمن ألقى السمع وهو شهيد، ثم قال: (يميتكم) الموت المعروف الذي لا يجب أن يتكادكم ثم يحييكم الحياة الحقيقية، ثم تثابون الثواب الذي لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قوله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية (29) - سورة البقرة. الاستواء: طلب السواء، أي المساواة، وسمي وسط الشيء سواء، لتساوي مساحة الجوانب كلها إليه، وقيل للعدل سواء لكونه وسطأً للظلم والانظلام، إن قيل: قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) يقتضي أن كل ما في الأرض خلق لأجل الإنسان، والانتفاع به، ومعلوم أن في الأرض كثيراً مما لا ينفع للإنسان فيه، بل فيه المضار كالحيات والعقارب، (والسموم) والأشرار من الناس، قيل: الأشياء الضارة في الظاهر لكل نوع منها خاصة فيها نفع للإنسان أو نفع لما فيه نفع للإنسان،

فأجزاء العالم إذا تأملتها إما أن تكون قراراً للإنسان، أو غذاء له، أو غذاء لما هو غذاء له، أو دواء له، أو ما ينتفع به نفعاً نا على وجه. وذلك بين في أنواع الأشياء وأجناسها. فأما نفع جزيئاتها في أن يقال: ما نفع هذه الحية بعينها فلا سبيل لنا إليه، وأجزاء العالم شيء ضار بالإضلاق، وإنما الضار بالاعتبار إلى جزيئاته، إن قيل: كيف ذكر ههنا أنه خلق ما في الأرض قبل السماء وقد قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، معلوم أن ما في الأرض محال وجوده قبل وجودها؟ قيل: قد ذكر في هذا جوابان: أحدهما: أنه تعالى خلق جوهر الأرض، ثم دحاها وبسطها بعد خلق السماء، والثاني: أنه خلق السماء بعد خلق الأرض ووجودها، وإنما وقعت الشبهة من قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، لأن بعض الناس تصور له من جهة القرآن قوله: (بعد ذلك) ظرف لقوله: (دَحَاهَا) واعتبر في (بعد) الزمان وليس كذلك، فإن تقدير الآية: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ}، ثم قال: {دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}. كقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} ثم قال: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}، وليس " بناها " وصفاً للسماء، بل تقديره: (أم السماء أشد خلقاً)، ثم استوؤنف فقيل: بناها - تنبيهاً أن من قدر على ذلك [فهو على] إعادتكم قادر، ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي الأرض بعد السماء أشد خلقاً من إعادة خلقكم، وذلك لأن السماء بما فيها من عجائب الصنعة أعظم خلقاً من الأرض، ثم الأرض أعظم من الإنسان، وليس يريد بقوله بعد التوقيت، وإنما يريد الترتيب في الشرف والرفعة، فإن قيل: ولم نصب الأرض ولم يرفعها كما رفع السماء؟

قيل: لأن القول استحبار، وقوله: " والأرض " ليس بداخل في الاستخبار، لأنه لو كان استخباراً لقال: أم الأرض، لكنه استأنفه، فأضمر له فعلاً نحو: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ}، ذلك الفعل ما دل عليه (أنتم أشد) من التعرف، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} فالاستواء وإن كان في الأصل للإقبال الدال على الانتقال، فقد يراد به التوفر على إصلاح الشيء، وهو المراد ههنا، وعلى ذلك الاتيان في نحو قوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}، ويكون اللفظ متجوزاً [به] ههنا، قال بعضهم: معناه: استولى وقال الحسن: أقبل على خلقه، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - استوى أمره عليه، وقيل معنى: (سَوَّاهُنَّ) أي تحرى السواء، أي العدالة وذلك لما جعل فيها من التركيب المتعادل المشار إليه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بالعدل قامت السماوات "، إن قيل: لم ذكر السماء ثم قال: (فَسوَاهُنَّ). قيل: لما عنى بالسماء السموات رد الضمير إلى المعنى، ومجاز ذلك أن الأسماء على ضربين: اسم موضوع لأجزاء الرجل والمرأة متشابهة، نحو: الدم، واللحم، والماء، والأرض، واسم موضوع لأجزاء غير متشابهة، نحو: اليد، والرجل، فما كان من الأول، فإنه يقع على بعضه اسم كله، فلا فرق بين أن يذكر بلفظ واحد، أو بلفظ الجمع. والسماء من هذا الباب، لأنه يقال لأقطاع اللحم لحم، ولكل قطعة منها منفصلة كانت أو متصلة لحم كذلك السماء، والله أعلم.

(30)

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية (30) - سورة البقرة. إذ: يتعلق بمضمر في موضع المفعول به، لأن تقديره: اذكر لا أذكر فيه، وقول أبي عبيد: إن " إذ " في مثل هذه المواضع زائدة، فإنه تقصير منه في النظر، والملك أصله " ملاك " مقلوباً عن مالك، والألوك: الرسالة المحفوظة في الفم من " ألك الفرس اللجام "، إذ لاكه، وروي أن الملائكة على أضرب خواص يتميزن تمييزاً مبانياً في الفضيلة، منهم وأدون ألو أجنحة، وجماعة يقال لهم الجن، وهم أقرب إلى النسا، وقد يقال للصالح من الناس " مَلَك " على ذلك قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} وقال الشاعر: فلَسْتَ لإ نسى ولكن لملاك والخليفة والخلف يتقاربان من قولك: خلف فلان فلاناً إذا قام مقامه، والخلف والسلف يتناقضان كخلف وقدام، فإن قيل: ما وجه استخلاف الله تعالى، والخلافة إنما تكون للنيابة عن الغري؟ إما لغيبته أو موته أو عجزه، وذلك لا يجوز على الله تعالى قيل: بل قد يكون على غير ذلك، وهو أن يستخلف المستخلف غيره امتحاناً للمستخلف، أو تهذيباً له، أو يستخلفه لقصور المستخلف عليع من قبول التأثير من المستخلف لا لعجز المستخلف وذلك ظاهر في الأشياء المهينة والطبيعية، فإن السلطان

جعل الوزير بينه وبين رعيته، إذ هو يقبلون من الواعظ ماله قرب إلى قبولهم منه، وكذا الواعظ جعل بين العامة والحكماء، فإن العامة لا يقبلونه من الحكيم، وليس ذلك لعجز الحكيم، بل لعجز العامة عن القبول منه، وعلى هذا اللحم والعظم لما تباعد ما بينهما عجز العظم عن قبول الغذاء من اللحم، فجعل الله تعالى بحكمته بينهما الغضاريف التي بينهما، ولها مناسبة إليهما لتأخذ ذلك من اللحم وتعطيه العظم، وكذلك جعل تعالى الرسل بين الملك الذي هو من قبله تعالى وبين العباد لفضل قوة أعطاهو ليأخذوا منه الحكمة ويوصلوها إلى الناس، وبهذا الوجه قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا}، والخليفة يقال للواحد والجمع، وهاهنا [هو] جمع، فإن الخليفة لم يرد به آدم عليه السلام فقط، بل أريد هو وصالحو أولاده، فهم خلفاؤه وحزبه لقوله تعالى: {حزب الله}، وأنصاره لقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ}، وعباده لقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وعمارة في الأرض لقوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، والمقصود واحد بهذه العبارات وإن اختلفت بحسب الاعتبارات، وقيل سماهم خليفة لكونهم بعد جان سكنوا الأرض، فإن كل من تولى شيئاً بعد آخر يقال له هو خليفة، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} وقوله تعال: {خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ}، وأما السفك، والسبك، والسفح، والسن، والشن، والصب، فمتقاربة، وبينهما فروق، فالصب: أعم من هذه الألفاظ، السفك: يقال في الدم والدمع، والسبك يقال للجواهر المذابة، والسفح: في الصب من أعلى، كسفح الجبل، وعنه استعير السفاح، والشن للصب عن القربة ونحوها، والسن يقاربه، لكن استعير السن في إماهة الحديد، وعنه بني المس والشن

للصب عن القربة ونحوها، والسن يقاربه، لكن استعير السن في إماهة الحديد، وعنه بني المس والشن استعمل في الغارة، وفي لبس الدرع، وذلك لتشبيه الدرع بالماء، وأجزاء الكتيبة بأجزاء السيل، وأما التسبيح فأصله السبح أي سرعة الذهاب في الماء، واستعير لمر النجوم في الفلك، ولجري الفرس، قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} أي: سعة ذهاب. وسبحته عن كذا: أي نزهته، وتسبيح الله: تنزيهه بالقول والحكم و " سبحان " مصدر، ككفران، وجعل السبحة للتسبيح، وسمى الصلاة بها لكونها تسبيحاً والحرزات: سمى سبحة، ومعنى: (نسبح بحمدك) أي: نسبحك والحمد لك، أو نسبحك بأن نحمدك والتقديس: التطهير، وقوله: (نقدس لك) قيل معناه نطهر أنفسنا لك - إشارة إلى نحو قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وليس ذلك إظهاراً للمنة، بل هو على حسب ما نقول مجتهد محب أن يفوض صاحبه إليه خدمة ما، فيقول: أتستعين بغيري وأنا مجتهد في خدمتك؟ وعلى ذلك قولهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} ولي قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} على سبيل الاستشارة، فالاستشار استمداد علم من المستشار، والله تعالى منزه عن ذلك، وإنما ذلك إعلام، كإعلامه إيانا كثيراً من الكائنات لمصلحة ما، إن قيل: فمن أين حكمت الملائكة على الإنسان بالإفساد في الأرض وسفك الدماء، وذلك إما ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين، وهم منزهون عن ذلك؟ قيل: قد قيل إنهم قاسوهم على من كان يسكن الأرض قبل من الجان، فأفسدوا فيها، وقيل: وهو أصح أن الله تعالى كان قد أخبرهم بذلك، لكن لم يقص علينا فيما حكى عنهم تنبيهاً عليه بما ذكر في الجواب وذلك عادة القرآن في كثير من الأقاصيص المذكورة، كقوله تعالى في قصو يوسف عليه السلام: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} وقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} ليس بانكار إنما هو استخبار مجرد ليعرفهم ما تسكن نفوسهم إليه ويرشدهم إلى ما يزيل شبهتهم وليسألوا عن ذلك ألا وقد أذن لهم في السؤال

أما جملة وتفصيلاً، إن قيل كيف أدخل عليهم الشبهة حتى سألوا عن ذلك واستنكروه؟ قيل: إن الله تعالى لما خلق الإنسان جسمانياً وروحانياً وجعله مركباً من قوى ثلاث، قوة شهوية، وقوة غضبية وقوة ملكية فبقوته الشهوية يفسد في الأرض، وبقوته الغضبية يسفك الدماء متى لم تكونا مهذبتين ويتولى خلافة الله تعالى بقوته الملكية التي هي العقل، وعلى ذلك دل النبي - عليه السلام - بقوله " لما خلق الله العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك أخذ، وبك أعطي "، فلما سمعت الملائكة أن الإنسان مركب من هذا التركيب ورأوا القوة التي بها تصلح لخلافته القوة التي خصوا بها ونظروا إلى رذيلة القوتين الأخريين ولم يعرفوا فضيلتهما استنكروا فراجعوا الله تعالى وقالوا: أما العبادة التي هي التسبيح والتقديس المختصة بالقوة الملكية، فنحن نقيمها، فما معنى الإنسان المركب تركيباً لا ينفك من فساد وقتل؟ فقال تعالى في جوابهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فعرض ولم يصرح ها هنا ليريهم فضيلة الإنسان وما خصوا به من العلم والعمل اللذين يفضلان الملك عنهما عياناً ومشاهدة والإجمال في هذه الآية بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} هم المبين بما بعده من الآية التي [تليها] ..

(31)

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} الآيات: (31، 32، 33) سورة البقرة. الإنباء: إخبار فيه إعلام، وهو متضمن لهما ولذلك كل إنباء أخبار، وليس كل إخبار إنباء، وكل نبأ علماً وليس كل علم نبأ ولكونه متضمناً لهما، ومشتملاً عليهما أجري مجرى كل واحد منهما فقيل أنبأته بكذا كقولك أخبرته وأنبأته بكذا، كقولك أعلمته كذا، ولا يقال: " نبأ " إلا لكل خبر يقتضي العلم كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الأنبياء [عليهم السلام] وما جرى مجراها، وسمى النبي لكونه منبئاً بما تسكن نفسه إليه، ومنبأ بما سكن المؤمنون إليه فهو أصح من أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل وبمعنى مفعول، أما بمعنى الفاعل، فلقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقوله {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} وأما بمعنى المفعول فلقوله: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وشرح هذه الآية لابد أن يبين فيه كيف كان تعليم الله آدم الأسماء، وهل فيه دلالة على أن اللغات توقيف أو أوائلها إصطلاح؟ وأنه هل علمه الأسماء دون المعاني؟ أو علمه إياها جميعاً؟ وما في ذلك مما تنبه الملائكة على خطئهم فيما توهموه وقالوه حتى رجعوا عن دعواهم واعتقادهم وأذعنوا للاستسلام؟ فنقول وبالله التوفيق: إن الناس اختلفوا في اللغات، فذهب بعض المتكلمين إلى أن أوائلها اصطلاح، والباقي يصح أن يكون توقيفاً، واستدل على ذلك بأنه لا سبيل إلى معرفة مراد الله تعالى إلا بالخطاب، ولا يصح أن يكون العلم بمراده ضرورة والعلم بذاته مكتسباً لأن ذلك مؤد إلى أن تعلمه ضرورة أن العلم بمراده فرع على العلم بذاته فلا يصح أن يكون العلم الخفي ضرورياً والجلي

مكتسباً، وذلك فاسد، هذا ما قاله، والصحيح - إن شاء الله - ما ذهب إليه الجمهور إنه توقيف وقيل: الدلالة على المسألة إن تعليم الله عباده على أي وجه يكون، فذلك يسهل الكلام في المسألة، والقول في ذلك - إن شاء الله تعالى - قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فذكر أن مكالمته للبشر على أحد هذه الوجوه الثلاثة، وأشرفها ما كان بإرسال رسول يرى ذاته، ويسمع كلامه كحال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جبرائيل - عليه السلام - والثاني: ما كان بإلقاء الكلام في السمع من غير رؤية، كحال موسى - عليه السلام - في ابتداء أمره، والثالث: ما كان بوحي والوحي - ههنا - مخصوص بالإلقاء في الروع، والإلهام، والتسخير، والمنامات فتعليم الله تعالى آدم [عليه السلام] الأسماء على أحد هذه الوجوه، ومحال أن يكون الاصطلاح على الألفاظ متقدماً على التعليم فإن الاصطلاح لابد له من كلام يتواطؤون عليه، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون اصطلاح ولا لغة، فإن قيل: فما ينكر أن يتواضعوا بإشارات وتصويت، فإن الأخرس يقدر على ذلك، وله مخارج الحروف، لأنا نجد الذين لا يتكلمون يفهمون ويفهمون ولا لغة لهم! قيل: الإشارات يفهم عنها بالاستدلال كسائر الاستدلالات التي لو توهمنا الكلام مرتفعاً لصح حصوله وليس للأخرس إلا الاستدلال فقط، ولا قدرة له على الألفاظ يؤلفها، وإنما صوته كصوت الطفل الذي لم يتلقن الألفاظ واللغة إنما تكون لغة بحصول تركيب المفردات الثلاث ولو كان إلى ذلك سبيل من غير تعليم، لكان من شرط البكم أن يتواضعوا فيما بينهم كلاماً لأن آفة البكم من السمع، وإنما عجز عن الكلام لعجزه عن التلقن بالسمع، فثبت أن ابتداء تعليم الكلام لا يكون إلا من معلم، وذلك قد كان من الله تعالى لآدم بأحد هذه الوجوه المتقدمة إن قيل: كيف علمه الأسامي كلها وقد علمنا أنه ما من زمن إلا وبنوه يضعون

أسامي لمعاني وأعيان إما مخترعة وإما منقولاً إليها عن غيرها؟ قيل: قد قال بعض الناس: " إن كل تلك بجزئيات علمها الله تعالى آدم - عليه السلام - وإن ظهر في بعض الأزمنة من بعض أهله والصحيح: أن العلم في الحقيقة يتعلق بمعرفة الأصول المشتملة على الفروع، والمعاني الكلية المنطوية على الأجزاء كمعرفة جوهر الإنسان والفرس والقوانين التي يعرف بها حقيقة الشيء مثل أصول الضرب في الحساب، وأحوال الأبعاد والمقادير في الهندسة، والأصول المبني عليها المسائل الكثيرة في الفقه والكلام والنحو. فأما معرفة الجزئيات متعرية عن الأصول، فليس بعلم، ولا يقال للعارف بها عالم على الإطلاق، وإنما هو في معرفتها محاك محاكاة الببغاء للألفاظ وإذا كان كذلك، فتعليم الله تعالى آدم الأسماء كلها إعلامه القوانين والأصول المشتملة على الجزئيات والفروع وقد علم أن تعليم الكليات أعظم في الأعجوبة وأشبه بالأمور الإلاهية من تعليمنا الصبي الحرف بعد الحرف وقوله: (الأسماء كلها) أراد بها الألفاظ والمعاني ومفرداتها، ومركباتها وحقائقها وذوات الأشياء في أنفسها، وبيان ذلك أن الاسم يستعمل على ضربين: أحدهما بحسب الوضع الاصطلاحي، وذلك هو للمخبر عنه، نحو: " رجل وفرس " والثاني: بحسب الوضع الأول، وذلك يقال للأنواع الثلاثة التي هي المخبر عنه، والخبر والرابط بينهما، وهي المعبر عنها بالاسم والفعل والحرف، وهذا هو المراد ههنا، فإنه - تعالى - لم يرد بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} تعليمه رجلاً وفرساً دون ذهب وخرج ومن وعن ولا يعرف الإنسان الاسم فيكون عارفاً بمسماه إذا عرض عليه إلا أن يعرف المسمى، ألا ترى أنا لو علمناه أسامي [بالهندية] أو بلغة مجهولة، ولم يعرف صورة ما له تلك الأسماء لم يكن عارفاً بها إذا شاهدناها وكنا عارفين بأصوات مجردة، فثبت أن معرفة الاسم لا تحصل إلا بمعرفة المسمى في نفسه وحصول صورته في الضمير، ثم المعلومات قد تكون جواهر وأعراضاً من

كميات وكيفيات، وإضافات وسائر ذلك من الأعراض، ويجعل للشيء الواحد أسامي بحسب هذه النظرات، فلابد أن يكون الإنسان عارفاً بهذه المعاني مجتمعة ومفترقة حتى يكون عارفاً بالأسماء التي يجعل [ذلك] لها بحسبها، مثال ذلك: أنه يقال للشخص الواحد " فلان " - اعتباراً بلقبه، و " رجل " اعتباراً بالآلة المولدة، [و " ابن " اعتباراً بوالده، و " أب " اعتباراً بولده] و " أخ " اعتباراً بمن ضمه وإياه نسب، وقرشي وأصبهاني اعتباراً بقبيلته وبلده إلى غير ذلك من الأسماء [التي يكثر تعدادها، فإذا حقيقة قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} متضمنة لما ذكرناه، فإن قيل: فأي شيء في تعليم آدم الأسماء من تنبيه الملائكة على ما سئلوا عنه؟ قيل: إن الله تعالى لما خلق الإنسان من أمشاج مختلفة وقوى متفاوته وجعله جسمانياً روحانياً، وحصل له بحسب القوى المختلفة معارف مختلفة وأفعال متفاوته، فإن له بحسب الحواس الخمس معارفاً خمساً، وبحسب العقل معارف معقولة وبحسب الوهم والخيال معارف موهومة متخيلة وحصل له بحسب التراكيب البدنية وبسائطها أفعال متباينة ومهن متفاوتة كالتجارة، والصياغة، وسائر الصناعات. وجل ذلك معدوم في الملك لعدم كثافة الجسم المركب من الأمشاج، ولاستغنائها عن ذلك، فبين الله تعالى بتعليمه آدم - عليه السلام - هذه الأسماء كلها والمعاني وعرضها على الملائكة، وأنبأ آدم - عليه السلام - بها وبحقائقها. ومعرفة تعاطي الصناعات المختصة بالإنسان عجز الملائكة، وأن الإنسان مستصلح لعلوم وأعمال ليس للملك سبيل إليها [بوجه] فإن المحسوس لا يدركه محسوساً إلا ذو الحاسة، والمهن لا يتعاطاها إلا من ركب تركيب الإنسان من القوى المتفاوته التي منها القوتان اللتان كانوا يرونهما مفسدتين. أعني القوة

الشهوية والقوة والغضبية، ونبههم أن ذلك وإن كان فيه مفسدة ما، ففيها مصالح كثيرة، وأن الخلافة التي رشح لها الإنسان في الأرض لا يصلح لها إلا هذا التركيب، فحينئذ قال لهم: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون). إن قيل: ما وجه قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهل كان لهم في ذلك التشكك حتى احتاجوا إلى أن يقال لهم ذلك؟ قيل له: ليس مخرج هذا الكلام على الوجه الذي توهمته، بل هو تنبيه لهم بما عملوه مجملاً على ما اشتبه عليهم مفصلاً، وتقدير ذلك: كأنه قيل: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومن علم غيب السماوات والأرض علم ما تبدون وما تكتمون. ومن علم ذلك علم ما لا تعلمون. إن قيل: فما [تلك] الفضائل التي اختص الإنسان بها واستصلح لها مما لم يكن للملائكة؟ قيل له: إن ذلك هو تعاطي العفة التي هي مختصة بالقوة الشهوية، والنجدة المختصة بالقوة الغضبية، والإنصاف في المعاملات، وسياسة الإنسان نفسه، ومجاهدة هواه وسياسة ذويه وأبناء جنسه، فإن كل ذلك فضائل ليست إلا للإنسان المختص بقوته الشهوية والغضبية، فأما الملك المعرى عن مقاسات عارية " بطنه وفرجه " فليس بمحتاج إلى سياسة البدن وسياسة أبناء جنسه في مراعاة ذلك منهم، [وهذا ظاهر] إن قيل: في وجه قوله: (أنبئوني بأسماء هؤلاء) وذلك تكليف لهم ما لا تعلمون وتكليف إيراد ما لا يعلم تكليف ما لا يطاق، وما وجه قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والصدق إنما يتعلق بالخبر، وهم إنما استخبروا ولم يخبروا فكيف يصح أن يصدقوا أو يكذبوا قيل: أما قوله: {أَنْبِئُونِي} فليس بتكليف وإنما هو تنبيه على عجزهم عن الخلافة التي رشح الإنسان لها، وقد علم أن لفظة " افعل " تجيء على أوجه، منها: التبكيف والتعجيز، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فالصدق وإن كان لا يدخل الاستخبار والأمر والنهي بالقصد

الأول، ومن حيث مقتضى اللفظ، فإنه قد يدخلها بالقصد الثاني، ومن حيث المعاني فإن السائل إذا قال مستفهما: أزيد في الدار؟ أو قال: أعطني شيئاً، فكأنه بالأول ينبه على جهله يكون زيد في الدار، وبالثاني على حاجة وافتقار، فمن هذا الوجه صح أن يقال: " هو صادق أو كاذب " على أن هذا حكم على قولهم: (من يفسد فيها ويسفك الدماء) فإنهم استفهموا بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} ويصح أن يكون ذلك راجعاً إلى قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} تنبيهاً لهم على أنه ليس كل تسبيح وتقديس بما يقولونه، بل من التسبيحات والتقديسات ما يصلح له غيركم، وهو ما تقدم ذكره. إن قيل: ما وجه قوله: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} وهو عالم بما علمهم وعالم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم؟ قيل: القصد بذلك إظهار أن ليس سؤالهم على وجه الاعتراض، بل على سبيل الاستفادة وإظهار العجز، وأنه قد بدا لهم ما كان خفي عليهم من فضيلة الإنسان وإظهار الشكر لنعمته وتعظيم منته بما عرفهم وفيه تنبيه على استعمال [حسن] الأدب عند سؤال المعلم بتفويض العلم إليه وتنبيه على أعظم التواضع، فقد قيل لبعض الحكماء: ما أعظم التواضح؟ فقال: الاعتراف بالجهل للعالم، وفيه تنبيه على العلم بما جهلوه، وذلك إحدى فضيلتي الإنسان، وقال بعض المحققين: الافتخار مدرجة للسقوط، انظر كيف اضطر الله الملائكة لما قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} إلى أن اعترفوا بعدم العلم، فمن استكثر لله طاعة واستكبر له خدمة فالجهل موطنه واستدل بعضهم بهذه الآية على أن العلم أفضل من العبادة، فإن الملائكة أذعنوا لآدم [عليه السلام] لما أفيد من العلم، والحكيم أصله لمن له الفعل المحكم، لكن لما يصح حصول الففعل المحكم إلا بالعلم [المتقن] صارت الحكمة متناولة للعلم والعمل معاً. فالحكمة منتهى العلم. والعلم مبدأ الحكمة، ولا يتم أحدهما إلا بالآخر. فلهذا جمع بينهما. وقدم " العليم " [هاهنا] على " الحكيم " فقال: (إنك أنت العليم الحكيم).

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} الآبة: (34) سورو البقرة. الخضوع والخشوع والخنوع والسجود والركوع تتقارب، وبينهما فروق، فالخضوع ضراعة بالقلب، والخشوع بالجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح، وقال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، وقال: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}، والخشوع ضراعة لمن دونه رغبة في عرض في يده، وكذلك أكثر ما يجئ في الدم، والركوع تذلل مع التطأطؤ. والسجود مع خفض الرأس. وسجود الملائكة إن أريد به المتعارف في الشرع. فليس بعبادة لآدم -[عليه السلام]، فعبادة غير الله تعالى لا تجوز بوجة، وإن كان على حسب المتعارف للخدمة، فقد قيل: إن ذلك كان مباحاً قبل شرعنا، وعلى ذلك ما روي في قصة يوسف - عليه السلام - {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}، وقد قيل: أريد به التذلل كقوله تعالى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}. وقول الشاعر: ترى الأكم فيه سجداً للحوافر وإبليس: لفظة أعجمية، فلا يصح أن تكون مشتقة من العربية.

وقول ابن عباس - رضي الله عنهما - " إبليس أبلس من رحمة الله، إلى ذكر الحكم لا إلى معنى اللفظ، ويصح أن يجعل " إبليس " مشتقاً منه بعد الانتقال إلى العربية، وعلى ذلك كثير من الأعلام أعجمياً كان أو عربياً يتصورون منه معنى ما، ويشتقون منه نحو قولهم: " تفرعن فلان " إذا فعل فعل فرعون في العتو وتشيطن إذا فَعَلَ فِعْلَ الشيطان، وتمرد: فعل فعل المردة، فعلى هذا تصوروا من إبليس يأسه من رحمة الله، فاشتقوا منه، فقالوا " أبلس فلان " أي: " أجرى مجرى إبليس " في يأسه من الرحمة وإبعاده من الخير، وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} أي: يائسون من الخير يأس إبليس منه، وأيضاً قد تتطابق لغة العرب والعجم في لفظة نحو: " أيوب وإسحف "، فإنهمت قد يكونان فيعولاً، وإفعالاً من أب وسحق، ويكونان أعجمين، وآدم - عليه السلام - قيل: سمي بذلك لكونه مخلوقاً من أديم الأرض على ما روي أن الله تعالى قبض قبضة من جميع الأرض - سهلها وجبلها، فخلق منها آدم - عليه السلام - فلذلك يأتي بنوه أخيافاً، قال قطرب: لا يكون من ـديم الأرض، لأنه لو كان كذلك، لانصرف نحو: " طابع، وخاتم " وطابق وليس كما قال، فإن " آدم " أفعل منه، وأصله: أأدم، فقلبت الهمزة ألفاًَ، وقيل: هو أفعل من الأدمة: أي اختلاط البياض بالسواد، " وأدمت بين الشيئين "، أي خلطت ومنه: الأدم، وطعام مأدوم أي مخلوط، وقال: وسمي بذلك، لأنه خلق من الأركان الأربعة، ومن الأمزجة المتفاوتة والقوى المتباينة، والإباء: الامتناع من الشيء مع

الإرادة، فكل إباء امتناع، وليس كل امتناع إباء، قال الله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} وقيل: " أبيت اللعن "، وهي أبوأ، إذا تسلط عليها داء، فصار مانعاً لها من الشراب والتكبر: أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره فضلاً، والاستكبار: طلب ذلك بالشبع والكبر، والتيه، والبغي، والزهو، والاستطالة، والخيلاء، والصلف تتقارب، وبينها فرق، فالتيه: التحير في معرفة قدر النفس، والبغي: طلب منزلة فوق ما يستحقه، والزهو: سرعة الحكم لنفسه بالفضل، من: " زهاه كذى " إذا استحقه، والاستطالة: إظهار طول، أي فضل على الغير. والخيلاء: ظن بالنفس كاذب، من قولهم: خلت، والصلف: قلة التلفت إلى الغير من قولهم: صلف: إذا اشتكى صليفه، واعتباراً بهذا المعنى قال الشاعر: إن الكريم من تلفت حوله ... فإن اللئيم الطرف أقود * واختلف في إبليس هل كان من الملائكة؟ فقال قوم: كان منهم، بدلالة استثنائه من الملائكة المأمورين للسجود لآدم، وقال قوم: لم يكن منهم اعتباراً بقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}، وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الملائكةعلى ثلاثة أضرب على ما تقدم آنفاً، وضرب منهم يقال لهم الجن، ومنهم إبليس، ولهم توالد، ولهذا قال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}، وقيل: إن الجن كانوا مأمورين مع الملائكة بالسجود له، لكن لم يحتج إلى ذكرهم، فالسلطان إذا أمر أماثل رعيته بالخضوع لإنسان، فمعلوم أن أصاغرهم مأمورين بذلك، ألا ترى أن

قوله تعالى لموسى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} معلوم أنه لم يبعث، إليه وحده، وبعض الناس اعتبر لفظ " كان "، وروي أن إبليس كان من الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم، وحاربهم الملائكة، وسبوا إبليس، فصار بالحكم من الملائكة، فمولى القوم منهم، وبالنسبة من الجن، فصار بصدق عليه القولان، ويجوز أن يكون عنى أنه كان من الجن فعلاً، ومن الملائكة نوعاً، وباعتبار الفعل قال تعالى: {كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} إن قيل: كيف يصح أن يكون من الملائكة نوعاً والله قد وصفهم بأنهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}؟ قيل: إن ذلك في وصف خزنة جهنم، وليس كون بعضهم على هذه الصفة مقتضيا أن يكون كلهم كذلك، و (كان من الجن): قيل معناه: صار ههنا، وليس ذلك بشيء، فإن (كان) استعمل (ههنا) على أحد وجهين: إما لاعتبار وقت العصيان بوقت الاختبار، ويكون بالإضافة إليه ماضياً فيجب أن يقال: كان، وإما أنه قال: {كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} - تبيهاً أن ما تقدم من طاعته غير معتد به، وأن حكمه من قبل حكم الكافرين، فمن شرط الطاعة أن لا تحبط ومن حكم الإيمان أن يمتد ويتصل، إن قيل: كيف أمر الملائكة بالسجود لآدم ومنزلتهم فوق منزلته بدلالة أن إبليس مناه أن يكون إياهم بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} وبعيد أن يؤمر الفاضل بالتخضع للمفضل؟ قيل: الخضوع لآدم كان خضوعاً لله تعالى من أجل الائتمار له فيما أمرهم به، وظاهر في العادات أن التذلل لخادم كبير خضوع لذلك الكبير، وأيضاً: فإن الإنسان في باب الفضائل التي ذكرناها آنفاً أفضل من الملك وإن كان الملك أفضل منه من وجوه أخر، والشيئان قد يكون كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه ووجه، وإنما المنكران بفضل كل واحد منها الآخر من وجه واحد، وفي الآية تنبيه على وجوب الائتمار لمن له الخلق والأمر، ومجانبة عصيانه، وارتكاب التكبر والحسد، وإنها قد يفضيان براكبهما إلى الكفر، كما روى في الخبر: " أن أول ما عصي به الله في السماء والأرض الكبر والحسد " وحث على ترك الدخول في سره والاعتراض على حكمه.

(35)

قوله - عز وجل -: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} الآية: (35) - سورة البقرة. قيل: ما الفرق بين أن يقال: افعل أنت وقومك كذا وبين أن يقال: افعلوا كذا، قيل: الأول تنبيه أن المقصود هو المخاطب، وغيره تبع له، وأنه لولاه لما كانوا مأمورين بذلك، وعلى نحوه: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} وليس كذلك إذا قال: افعلوا، وقال بعضهم: إنما قال: اسكن فاستعمل السكن تنبيهاً أنه يعرض النقل، عنها وأنه لا يجب أن يركن إليها. إن قيل: ما الفرق بين الإرادة والمشيئة؟ قيل: الإرادة قد تكون بحسب القوة التسخيرية، والفكرية والحسية ولذلك تستعمل في الجماد، نحو: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} وفي الحيوان وفي العقلاء والمشيئة لا تكون إلا مع اختيار ولذلك لا يقال إلا للعالم والمتفكر، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فالقصد بالنهي عن قرب الشيء تأكيد للحظر والمبالغة في النهي، وذاك أن القرب من الشيء مقتض الألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء كما قيل: " حبك الشيء يعمي ويصم، والعمى عن القبيح والصم عن النهي عنهما الموقعان فيه، والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الداعي إلى الخير مأمور به، وعلى ذلك قال - عليه السلام -: (العينان تزنيان) لما كان النظر داعياً إلى الألفة، والألفة إلى المحبة، وذلك

مقتض لارتكابه، فصار النظر مبدأ للزنا، وعلى هذا قال: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}، و {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وعلى هذا قال في الخمر: {فَاجْتَنِبُوهُ} وبهذا النظر قال عليه الصلاة والسلام: " الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، وسأضرب مثلاً، إن لله حماً، وإن حمى الله محارمه، ومن رتع حول الحما أوشك أن يقع فيه ". والشجرة: قيل: كانت الحنطة، وقيل: الكرم، وقيل: التين، وقوله: (فتكونا): الأظهر: أنه جواب النهي، وقد قيل: يصح أن يكون عطفاً، لأنك تقول: " لا تجب والدك فتعص ربك كما تقول: فتعصي ربك، والظلم في الحقيقة: الإخلال بما يقتضيه داعياً الله: " العقل والشرع " وهو الخروج عن الحظر ولهذا قيل: هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد تقدم أن الظلم ضربان: ظلم النفس، وظلم الغير، وظلم الغير لا ينفك من ظلم النفس، وظلم النفس قد ينفك من ظلم الغير، ولأجل أن الظلم خروج عن الحق، وأن الحق يجري مجرى النقطة من الدائرة، ومجرى القرطاس من الهدف، صار من تعداه يصح أن يقال: " هو ظالم " وإن كان بين الظالم والظالم بون ولذلك قد يطلق " الظالم " على من ارتكب صغيرة وعلى من ارتكب كبيرة، إن قيل كيف جاز أن ينهي عن الشجرة ثم يتناولها وقد أنكرتم أن يرتكب الأنبياء الكبائر؟ قيل: قد أجيب عن ذلك بأن آدم [عليه السلام] أشير له إلى شجرة، فقيل له: " لا تقربا هذه الشجرة " وأريد به الجنس لا العين نحو ما روي أن النبي - عليه

السلام - خرج وفي إحدى يديه ذهب، وفي الأخرى حرير، فقال: " هذا حرام على ذكور أمتي حل لإناثها. ولم يرد به العين، وإنما أراد به الجنس، فحمل آدم متأولاً الإشارة إلى العين دون الجنس، فوقع عليه السهو من هذا الوجه، وقيل: أنه حمل النهي على الندب دون الحتم، ونسي الوعيد المقرون به، ولذلك قال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} أي: " نسي الوعيد ". واختلف في الجنة التي أسكنها آدم - عليه السلام - فقال بعض المتكلمين: كان بستاناً جعله الله تعالى له امتحاناً ولم يكن جنة المأوى فإن تلك لم تخلق بعد، إذ هي للخلود، وقد ثبت أن الله تعالى يفني الأشياء كلها حتى لا يبقى إلا وجهه ولو كانت مخلوقة الآن لم يصح أن يخص بهذه الصفة، وقال أكثر الناس: كانت جنة المأوى، وتسميتها بجنة الخلد اعتباراً بدوامها بعد أن يدخلها المثابون. والشيء الواحد قد يسمى بأسماء كثيرة - اعتباراً بمعان متفاوته، ألا ترى إلى ما حكي عن الحسن أنه قال: " خلقنا للأبد، ولكنا ننقل من دار إلى دار " وذلك اعتباراً بحال الإعادة، ومن قال: لم تكن تلك جنة الخلد، لأنه لا تكليف في الجنة، وآدم [عليه السلام] كان مكلفاً، [فقد قيل في جوابه: إنما لا يكون دار التكليف في الآخرة، ولا يمتنع أن يكون في وقت دار تكليف، ولا يكون في وقت كذلك، كما أن الإنسان يكون] مكلفاً في وقت دون وقت، وقال بعض الناس: " إن الله تعالى لما خلق الإنسان لاستخلافه في أرضه واستعماره فيها كما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} وقال {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وأراد أن يوصله بذلك إلى جنة المأوى وعلم بسابق علمه أنه لسوء تدبيره

قد يختار العاجل الخسيس على الأجل النفيس لعجلته كما وصفه بقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} وأنه قد تتبع هواه كما قال: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وعلم ما يكون منه أدخله الجنة ليعرف النعيم الذي أعد له عياناً، فيكون إليه أشوق، ويتذوق طعم المخالفة فيكون منها أخوف، فمعلوم من حال الإنسان أن المحنة تهذبه، والاشتياق إلى ما عاينه من الخيرات يرغبه، فصار ما جرى [على آدم] من الأحوال من تمام النعمة عليه، والله أعلم بوجوه المصالح، وفي الآية حث على قبول قول من هو أعلم منك وتحري نصحك والمصلحة، وإن الإنسان إذا حفظ في دنياه قرناءه المتصلة به من قواه الشهوية والغضبية، وقرناءه المتصلة به من قواه الشهوية والغضبية وقرناءه المنفصلة عنه من أهله وولده وساس نفسه وأهله، ورعى من الله أوامره، وتجنب زواجره كان في الجنة عاجلاً وأجلاً، وإلا صار معاونة عليه ومنافعه راجعة بالمضرة إليه، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.

(36)

قوله - عز وجل - {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} الآية: (36) - سورة البقرة. زل، وزال يتقاربان، إلا أن زل يقتضي عثرة مع الزوال، يقال: زلت رجله في المشي ولسانه بالقول، وسمي الأسد إذلالاً اعتباراً من الفاعل استقلاله حتى يعده عثرة، وقول النبي - عليه الصلاة والسلام: " من أزلت إليه نعمة فليشكرها " أي من أسدى إليه نعمه، وإن كانت طفيفة، وإزلال إبليس لآدم عليه السلام قوله له {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} وقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ومقاسمته إياها بقوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فمن الناس من حمل هذه الأحوال على مفاوضة ومجاراة بالمشاهدة وقيل: إن ذلك كان بوسوسته كما قال: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ} وما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن إبليس عرض نفسه على دواب الأرض أن تحمله فتدخله الجنة ليكلم آدم وزوجته، فأبت عليه الدواب كلها حتى كلم الحية وقال: أمنعك من بني آدم إن أنت أدخلتني الجنة، فجعلته بين نابين من أنيابها، فأدخلته الجنة وكلمها من فيها، قال: فلذلك أمر الإنسان بقتلها أينما وجدها فإن بعض الناس حمل ذلك على سبيل المثل، وقال: هذا إشارة، فقوله: عرض نفسه على

دواب الأرض، أي استعان بقوى الإنسان، ونظر من أي جهة يمكنه أن يأتيه، فلم يجد قوة مستصلحة يستعين بها حتى أتى الحية، أي الشهوة، وكنى بالحية عنها، فإنها حية لا يبرا سليمها [يقال لمن لسعته الحية والعقرب سليم تفاؤلاً كما تقال المفازة لمحل الخطر والهلاك] وذاك أن الشيطان لا يأتي الإنسان إلا من قبل هواه، فجعلته بين نابيها كناية عن الأكل، إذ هو أعظم شهوة يتمكن الشيطان به من الإنسان، ولهذا قيل في الخبر: (من حفظ بطنه فقد سد على الشيطان بابه ومن شبع ونام قسا قلبه وتمكن منه الشيطان) ويكون الهوى أعظم سلاح للشيطان، صار لا فرق بين قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} في أن المقصد واحد في كونهما نهياً عن ارتكاب الذنوب وقوله، فلذلك أمر الإنسان بقتلها، أي أمر أن يقهر الشهوة [ويذللها] حيثما تراءت له، وطالبته بما بنافي الإيمان، وهذا الذي ذكره هذا القائل وإن كان صحيحاً من حيث المعنى، ففي صرف الخبر إليه ترك للظاهر وفتح باب من التأويلات عظيم الضرر. والله أعلم بحقائق ما يخبرنا به من الغيوب .. وقوله: (اهبطوا): الهبوط ضد الصعود، وليس يراد به الانحدار عن رفعة مكانية

فقط، بل يراد به مع ذلك سقوط المنزلة، فقد كثر في كلامهم استعمال الرفعة والضعة في المراتب حتى قيل: شريف ووضيع على طريق الاستعارة، وعلى ذلك قول الشاعر: بلغنا السماء بأحسابنا وقال: وصاعد في هضاب المجد يطلعها وأما المعاداة: ففقدان الملاءمة والموافقة، ومنه قيل: " هو مكان ذو عدوى "، والتعدي والعدوان والاعتداء، والعدوى منها، وقوم عدى للأعداء أو الغرباء، لما بينهم من فقدان الملاءمة، وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ليس يريد المهارشة فقط، وإنما يعني فقدان الالتئام، أما بين الشيطان والإنسان فظاهر، وبين الرجل والمرأة كثير في الخلق والخلق، حتى إن عامة ما يحمد من أخلاق الرجل يذم من المرأة، ثم بين قوى الإنسان في نفسه تفاوت، فحذرنا الله تعالى الذي خلقنا منها ليتنبه للاحتراز مما ينافينا في بلوغ السعادة، ونسوس منها ما يمكن سياسته، وندفع منها ما يجب مدافعته، والمستقر: المكان الذي يحصل فيه القرار، والقرار هو السكون عن برودة ولما كان من شأن البرودة السكون كما أن من شأن الحرارة الحركة قيل في الساكن برد، وفي المتحرك: اشتعل، والتهب، وحتى شبه السريع بنار متقدة، والساكن بماء جامد، وقوله {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} كقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} قيل معنى المستقر القبور، والآية محمولة عليها، فقد قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} والمتاع: انتفاع

ممتد الوقت، ومنه قيل: متعه الله بكذا، ومنه: متعة الحج، ومتعة المطلقة، ومتاع البيت، ومن قال: عنى به الحياة، فلأنه عمد إلى أشرف نوع من المتاع، ففسره به، ولحين وقت بلوغ الشيء ويتخصص بالمضاف إليه، ولما كان أحيان الأشياء يختلف، نظر بعض المفسرين إلى المضاف إليه لفظ الحين ففسره به، وقال: إنه يجئ على أوجه، فالحين: الأجل، لقوله: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} والسنة، لقوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} والساعة لقوله: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} والزمان لقوله. {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} واختلاف ذلك لاختلاف المضاف إليه، وفي الآية تحذير من الشيطان كما قال: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} الآية والتحذير من كل غرور ومن الركون إلى الدنيا، والتنبيه على أنها دار ممر، وأن الآخرة دار مقر. [وبالله التوفيق]

(37)

قوله - عز وجل -: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية: (37) سورة البقرة. التلقي كالتلقن، إلا أن التلقي يقتضي استقبال الكلام وتصوره، والتلقن يقتضي الحذق في تناوله، والتلقف يقاربه، لكن يقتضي الاحتيال في التناول، الكلم: التأثير المدرك بإحدى الحاستين السمع والبصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع فكلمته: جرحته جراحة بأن أثرها ولاجتماعهما في ذلك قال الشاعر: والكلم الأصيل كأرغب الكلم وقال: وجرح اللسان كجرح اليد. والكلمات التي تلقاها آدم من ربه قيل: هي قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال الحسن: هو قوله: " ألم تخلقني بيدك؟ ألم تسكنني جنتك؟ ألم تسجد لي ملائكتك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ فقال تعالى له: بلى، قال: أرايت إن تبت تبت علي وأعدتني

إلى الجنة؟ قال: نعم، فهذا يعني قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وقيل: إنه قال تعالى له: من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت منه، وهذا يقارب الأول، وقيل: (إنها قبول الأمانة المعروضة على السماوات والأرض المذكور في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} الآية، وقيل: هو حروف التهجي وما تركب منها من الأسماء التي كانت قد علمها وما انتتج منها من العلوم الحقيقة والأعمال الفاضلة، فإن أصل الإيمان العلوم الصادقة والأعمال الصالحة، فمن الحروف تتركب مفردات الألفاظ، نحو: زيد، عمرو، وذهب، خرج، من، عن ومن المفردات تركب المقدمات المفردة، نحوك زيد خارج وعمرو ذاهب ومن المقدمات تتركب الأدلة والأخبار المؤلفة، ومن الأدلة المفردة الصادقة يتوصل إلى حقائق العلوم وبحقائق العلوم يتوصل إلى الأعمال الصالحة، وبمجموعها يحصل الإيمان الذي يتحققه، ويصير الإنسان تام التوبة متطهراً من النقيصة، محبوباً لرب العزة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} والمتحقق بذلك لا محالة يتوب الله عليه، وقيل: إن هذه الكلمات هي التي ذكرها الله تعالى في قصة إبراهيم - عليه السلام - قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وهي خصال مذكورة في ثلاثة مواضع من القرآن .. أحدها في سورة التوبة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} والثاني في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} والآيات إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

والثالث: في سورة " سأل سائل " وهو قوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} الآيات إلى قوله {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} فهذه الخصال الثلاث فرق من الناس العلماء والحكماء والكبراء المعنيين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء ولكل فرقة مقامات معدودة يترتب بعضها على بعض، وهذه مسألة كثيرة قد أحكمتها في كتاب (شرف التصرف) وبينت تخصيص كل مقام وهذا القول والذي تقدمه يتقاربان عند الحقيقة، غير أن الأول نظر إلى المبدأ والثاني إلى الغاية، وذلك مذكور هناك، ثم التوبة: ترك الذنب على أحد الوجوه، وهو ضرب من الاعتذار فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه إما أن يقول المعتذر: لم أفعل كذا، ويقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك وهذا الأخير هو التوبة، فإذا: التوبة ضرب من الاعتذار. والتوبة والأوبة والاستغفار متقاربة وبحسب ما اختلفت فيها الاعتبارات اختلفت عليها العبارات، (الإنابة) الرجوع عن طريق الضلال إلى الهدى، والأوبة: رجوع القلب إلى الحق والوقوف عليه، والاستغفار: طلب الغفران قولانً وفعلاً، أي: تعاطي ما يغفر ما تقدم من الذنب، والتوبة التامة المعتد بها: ترك الذنب، والندم عليه، وهو العزم على أن لا يعود إليه، وتدارك ما تقدم وهو رد المظالم " مظلمة الخلق، ومظلمة الخالق " ومظلمة الخالق: هي إعادة ما ترك من العبادات وإذابة ما استفاد جسمه من الحرمات، ألا ترى إلى قوله [عليه السلام] " كل لحم نبت من سحت النار أولى به " والتواب: يقال في العبد، وفي الرب، لكن العبد تائب إلى الله - عز وجل - والله تائب على عبده، وقوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} جمع بين الوصفين - تنبيهاً على أنه مع ترك ذنبه، عليه لا يخليه من

(38)

الإحسان إليه، ولم يقل: تاب عليهما لما تقدم أنه جعلها تابعة له، لا مقصوده في نفسها. وفي الآية تنبيه يعني هو أنه متى تلقينا منه ما أنعم به علينا من العلوم، واستعملناه واعترفنا بذنبنا وطلبنا منه التجاوز عنه ونحن في مهلة من الحياة تاب علينا وأحسن إلينا. قوله - عز وجل -: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية (38) - سورة البقرة. والمجيء والإقبال والإتيان متقاربة غير أن المجيء عام والإقبال مجيء من ناحية القبل والإتيان مجيء عن بعد ومنه قيل: الآتي " للغريب وللسبيل " الجائي " من بعيد، و " أتيته " أي: " أعطيته " منقول عن أتيته و " اتوته " وهما لغتان، والاتباع والإتلاء والاحتذاء والاقتداء تتقارب فالإتلاء: مجيء بعد أخر فاصل بينهما من جنسهما، والاحتذاء منقول من حذو الفعل بالفعل والاقتداء: اتباع على مدى، أي على قدر المتبع بلا تجاوز ولا تأخر، والاتباع عام في كل ذلك، ومنه قيل في الرعية " أتباع " و " سمي العجل التابع لامه تبيع، والخوف والفزع والحذر والرهبة والهيبة والخشية والوجل والشفقة تتقارب فالخوف توقع مكروه عن أمارة وذلك للمذنب ولهذا قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: " لا يخافن امرؤ إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه " والفزع: اضطراب عن وهم، كمن يسمع هدة فاضطرب، والحذر: خوف مع احتراز، والرهبة خوف مع اضطراب واحتراز والهيبة: رهبة مع استشعار تعظيم، والشفقة: خوف مع محبة، ولذلك قيل: الخوف والحذر للمذنب والرهبة للعابد والخشية للعالم، والهيبة للعارف والحزن خشونة تعتري النفس، مشتق من حزونة الأرض

ولذلك يقال: خشنت بصدره، وقيل: الحزن والغضب من جنس واحد، وقد تقدم الكلام فيه. والفائدة على تكرير قوله: (اهبطوا) لتكرير الشرط المقرون به، فإن الأول فرن بحال العداوة الثانية بينهم وسكونهم في الأرض إلى مدة متناهية، والثاني: بين به أنهم وإن اشتركوا في الهبوط، فهم متبانيون في الحكم فإن من اتبع هدايته فهو على سبيل الخلاص، إن قيل: لم لم يقل: فمن تبعه فيستغنى بالضمير عن التكرير، فقد استقبح في باب البلاغة تكرير اللفظة الواحدة في الجملة الواحدة حتى استرذل قول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء .... تغص الموت ذا الغنا والفقيرا وقول آخر مع جودة معناه بجهل كجهل السيف والسيف منتضي ... وحلم كحلم السيف والسيف مغمد قيل: إن ذلك يستقبح إذا لم يحصل في الثاني معنى غير المعنى الأول كالبيت. والآية بخلاف ذلك، فإن الهدى من الله ضربان، ضرب بالعقل، وضرب بقول الرسل، وأراد تعالى بقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} ما يأتي على ألسنة الرسل - عليهم السلام -، ويقوله: هداي ما على لسانهم، وما كان من جهة العقل فنبه أن من أتاه رسول ورعاه مع رعايته لمقتضى العقل فهم الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون إن قيل: كيف نفى الخوف عن الأولياء في مواضع نحو قوله:

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ومدحهم بذلك في مواضع نحو قوله: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} قيل أما نفي الخوف والحزن عنهم فقد قيل: لفظه الخبر، ومعناه: النهي كقوله: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} وقيل هو خبر لكن مدحهم بها في الدنيا وحثهم عليها وأمنهم منها في الآخرة كما روى: " من خاف الله في الدنيا أمنه الله في الآخرة " وعلى ذلك حكى عنهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أيضا: فإن الخوف الذي مدح به المؤمنين، وحثوا عليه ليس يراد به استشعار الرعب المترقب مضرته، وإنما يراد به فعل الخيرات المأمور بها المذكور في قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، والكف عن المعاضي، منهي النفس عن الهوى المذكور في قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} والخوف والحزن المنفيان عنهم استشعار الغم الذي يكون من ذوي العدوان، وكذلك روي: (لا يرجون امرؤ إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه) وأيضاً فالحزن إنما يكون لفوت محبوب، الخوف يكون لفقد مطلوب، والمتبع لهدي الله هو المؤمن الحكيم، الذي لا يقتنيي لنفسه فضولاً من الأعراض، وما اقتناه لضروراته علم إنه يعرض الأعراض وأنه عارية مستردة، فلا يحزن على استرداها، ولا يطلب المستغني عنه، وما طلبه بعد وجوبه عليه طلبه عالماً أن الله لا يبسط لأحد دنيا إلا اغتراراً واختباراً، فإذا منح قام يحقوقه شاكراً، وإذا منع استغنى عنه صابراً، فهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في دنياهم.

(39)

قوله- عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} " الأية (39) - سورة البقرة " الاصطحاب، والاجتماع، والاقتران تتقارب، فالاجتماع أعم معنى، الاصطحاب: اجتماع مع طول لبث، والاقتران يقتضي شداً ما، إما صنعة، كاقتران بعير ببعير وإما حكمة، كاقتران الصديقين واصحب الرجل إدا صار ذا صاحب، ولما كان الأصحاب مقتضياً للانقياد، فسره أهل اللغة به، والتكذيب بالآيات بعض الكفر وتمامه، فإن فيه مع تعاطي الكفر بالفعل جحودآ باللسان وتخصيصه بعده نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في أن عمل الصالحات بعض الإيمان وتمامه، وليس يعني بالآيات القران فقط، بل يراد بها مع دلك الآيات التي في السماوات والأرض الدالة على الوحدانية المستحث على اعتبارها، بنحو قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}، إن قيل: لم قال ههنا: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال في الحج: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} قيل: الاسم الموصول، والنكرة الموصوفة حتى ضمنتا معنى الشرط قد تدخل " الفاء " في خبرها تنبيها على معنى الشرط، ويجوز ترك ذلك منه بقول: والذي يأتيني له درهم، والذي يأتيني فله درهم "،

(40)

قوله - عز وجل -: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} الآية: (40) - سورة البقرة. الابن: من البناء، وسمي بذلك لكونه كالمبنى لأبيه، وكل مصنوع ينسب إلى صانعه وآلته، فيقال هو ابنه، وللصانع يقال: هو أبوه، وعلى هذا يقال: فلان ابن الحرب، وأبو الحرب، وبتسمية الصانع أباً للمصنوع، والمصنوع ابناً للصانع أطلق على ما جكى في شريعة من تقدمنا " أبناء الله "، ثم تصور ذلك الجهلة والأغبياء معنى الولادة، فحظر إطلاق ذلك حتى صار التفوه به يعد كفراً، والوفاء مراعة العهد، والغدر تضييعه، كما أن الإنجاز مراعاة الوعد، والإخلاف تضييعه، الوفاء والإنجاز في الفعل كالصدق في المقال. والعذر والاخلاف كالكذب فيه، وقيل: وفي وأوفى بمعنى، والصحيح أن أوفى أبلغ من وفي، كما أن: أسقى " أبلغ من " سقى "، والخطاب وإن كان لبني إسرائيل لقولهم مقصودين بالتبكيت لنسيانهم نعم الله تعالى وكون نعمته عليهم أظهر، فالناس طراً يشاركونهم في وجوب ذكر نعمة عليهم، وقد تقدم ذكر تفاصيل النعم، وإن قيل: ما فائدة تقييد النعمة بقوله: أنعمت عليكم؟ قيل: نظر الإنسان إلى نعم الله ضربان، أحدهما: نظره إلى نهمة الله تعالى التي [تختص به من نفسه دون ما اختص به غيره] وذلك يفيده رضاً عن النعم وشكراً له ومعرفة ما على غيره من النعم، والثاني: نظره إلى نعمة الله على غيره ونسيان ما قد خص به في نفسه، وذلك يجلب إليه سخطاً على ربه، وكفراناً لآلائه، وحسداً على عباده، ولهذا قيل: " انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فذلك أجدر أن لا تزرى بنعمة ربك ".

وعهود الله كثيرة، بعضها مرتب على البعض، والوفاء بكل واحد مقابلة، فأول منزلته إظهار الشهادتين ويقابله من الله تعالى حقن الدماء والأموال كما قال - عليه السلام " من قال: لا إلله إلا الله فقد عصم مني ماله ودمه ". وآخره ما كان من أولياء الله في حفظ النظرات والخطرات، ويقابله من الله تعالى: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وبينهما وسائط كثيرة لها من الله تعالى مقابلات، ولما كان من مبدئه إلى منتهاه عرضاً كثيراً نظر كل واحد من المفسرين للآية نظراً ما صارت به أقوالهم مختلفة في الظاهر بحسب اختلاف نظراتهم، فروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الإشارة بذلك إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} وروي عنه " أوفوا بعهدي " في اتباع محمد أوفِ بعهدكم في رفع الإصر والأغلال التي في أعناقكم " وقيل: أوفوا بعهدي في ترك الكبائر أوفِ بعهدكم في غفران الصغائر، وقيل: أوفوا بعهدي في أداء الفرائض أوفِ بعهدكم في الإثابة عليها)، وقيل: (أوفوا بعهدي في الاهتداء إلى طريق الاستقامة أوفِ بعهدكم في الزيادة في الاهتداء وإيتاء الاتقاء - إشارة إلى ما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، وهذه الأوقايل اختلفت إما بحسب اختلاف النظرات، أو بحسب اختلاف العبارات، وفيما بين من الأصل معرفة نظر الكل، وإن عامة أقوالهم لا

(41)

تخرج عن الصواب - إن شاء الله -. وقال تعالى لهذه الأمة: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، فقال بعض المحققين في اعتبار الآيتين دلالة على تشريف هذه الأمة في أنه لما خصهم بفضل فهم وعقل، أمرهم بذكره بلا واسطة، وأمر بني إسرائيل أن يجعلوا ذكر الآية وصلة إلى ذكره، وذلك فصل قد أحكم في كتاب: (شرف التصوف)، وقوله: " فارهبون "، تقديره: ارهبوني، فحذف الياء لدلالة الكثرة عليه، وكون الفواصل كالقوافي، وفائدة تكرير الضمير توكيد للحث على رهبته، وأنها لا يجوز أن تكون إلا منه تعالى دون غيره، ومثله في تذكيرهم نعمة الله تعالى ما حكاه تعالى عن موسى قال لهم: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} قوله - عز وجل - {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} " الآية: (41) - سورة البقرة ". قد تقدم أن الإيمان مقتض للعلم اليقيني، ففي ضمن قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} حث على استفادة العلم، إذ لا يحصل الإيمان الحقيقي من دونه، ونبه بقوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أن لا منافاة بين ما أتى به الأنبياء من أصول العبادات، وأنهم كنفس واحدة من حيث يتساوى دعاؤهم إلى التوحيد والأركان الثلاث من الشرائع التي هي العبادات الخمس وأحكام الحلال والحرام والمزاجر، وإنما الاختلاف بينهم في جزئيات الأحكام وفروعها كيفما تقتضيه مصلحة قوم وزمان، فكل مصدق للآخر فيما أتى به من أن كليات شرائعهم متساوية، وأن فروعها حق بحسب الإضافة إلى زمان كل واحد منهم، وأمته حتى لو كان أحدهم في زمن الآخر لم ير المصلحة إلا فيما أتى به الآخر، ولذلك قال عليه السلام: " لو نشر موسى بن عمران لما وسعه إلا اتباعي "، وقوله: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي لا تكونوا أئمة في الكفر، فيقتدي بكم تباعكم، فتكونوا لأوزاركم وأوزارهم، كما قال تعالى

{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وذلك إشارة إلى ما قاله عليه السلام " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها " وقيل: معنى " أول " المتقدم بالشرف كقولهم: " حاتم أول الأسخياء، وما رد أول اللئام، والمعنى: لا تكونوا أرفع كافر منزلة في الكفر، وذاك أن محمداً: عليه السلام - لما كان أخر الأنبياء، وكان متمماً لشرائع من تقدمه، كما روي عنه - عليه السلام أنه قال: " إنما مثلي ومثل الأنبياء كرجل بني بنياياً وأكملها، وترك موضع لبنة، فأنا كنت موضع اللبنة "، فصار الكافر به كالكافر بجميعهم، فإن من شرط من الإيمان بهم أن يضامه الإيمان به، وإلا لم يعتد بإيمانه بهم، والهاء في قوله تعالى: " به " ضمير " ما أونزلت "، وقيل: هو ضمير " ما معكم "، إن قيل: لم قال: " ولا تكونوا أول كافر به " وأنت لا تقول " كونوا أول رجل " وإنما تقول " رجال "؟ قيل: إن ذلك معناه: " أول كافر أو خرب مما لفظه المفرد، ومعناه الجمع على ذلك قول الشاعر: فإذا هم طمعوا فالأم طاعم .... وإذا هم جاعوا فشر جياع وقد أجاز بعضهم إخوتك أول رجل، أي أول الرجال إذا كانوا رجلاً رجلاً، والقليل والكثير من الأسماء المتضايقة، ويعتبران بالغير، وليس استعمال القلة في قوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} لأجل اعتبار ثمنين من أعراض الدنيا، كما تصوره بعض الناس فاعترض على الآية: وقال: ذلك

(42)

يقتضي جواز اشتراء الثمن الكثير بآيات الله، بل جعل الاعتبار ههنا بمنافع الدنيا والآخرة، وقد علمنا أن منفعة الدنيا طفيفة، إذا اعتبرت بمنفعة الآخرة، وإذا كان كذلك، فمن اشترى بآيات الله منافع الدنيا، وترك منافع الآخرة، فقد خسر خسراناً مبيناً، كما حكي عن " المنصور " لما حضرته الوفاة: قال: أف لنا، بعنا نعيم الآخرة بنومة، وقال الشاعر: وإن امرءاً يبتاع دنيا بدينه ... لمنقلب منها بصفقة خاسر وعلى هذا قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية: (79) - سورة البقرة. وإنما ذكر في الآية الأولى. (فارهبون) وفي الآية الآخرى (فاتقون)، لأن الرهبة دون التقوى، فحينما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم، وحثهم على ذكر نعمة التي يشركون فيها، أمرهم بالرهبة التي هي مبادئ التقوى، وحينما خاطب العلماء منهم، وحثهم على مراعاة آياته والتنبه لما يأتي به أولوا العزم من الرسل، أمرهم بالتوقى التي هي منتهى الطاعة ... قوله - عز وجل - {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (42) - سورة البقرة. اللبس والستر، والتغطية، والتعمية، والتموية، والكتمان، والإخفاء يتقارب، فالستر أعم الألفاظ، لأنه يقال في المحسوس والمعقول " سترت كذا بثوبي "، وسترته في نفسي، والتغطية في الأعيان فقط، واللبس أصله في الثوب، ثم يقال في المعنى أيضاً، وذلك أن يخلط حق بباطل، وصدق بكذب، والتعمية: ما جعل الإنسان عن إدراكه كالأعمى، والتموية: ما جعل على وجهه مواهة، والكتمان: يقال في الحديث ونحوه، وقوله: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} أخص من قوله: {تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، لأن اللبس هو الخلط بغيره، والكتمان إخفاؤه جملة، والأجود أن يكون قوله: {وَتَكْتُمُوا} جواباً بالواو منصوباً. وإن صح أن يكون عطفاً مجزماً، فيكون أمراً بخصوص بعد عموم، وقراءة أُبيَّ:

(ولا تكونوا أول كافر به وتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وتكتموت الحق)، ونحو ذلك في احتمال الجواب والعطف .. قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تعظيم لارتكاب الذنب، فإنه مع العلم بقبحة لأعظم عقوبة، ولهذا قال بعض الحكماء: (لأن أدع الحق جهلاً به، أحب إلى من أن أدعه زهداً فيه، ولأن أترك جميع الخير جهلاً به أحب إلى من أفعل أقل الشر، بعد المعرفة بقبحه). وقد تقدم الكلام في الحق، فأما الباطل: فالإثبات له عند الفحص عنه، والحق يناقضه، وذلك عام في الاعتقاد والمقال والفعال. ولذلك قال الشاعر: لقد نظقت بطلاً على الأقارع. فاستعمله في القول، وفي الآية حث على تجنب الشر والنهي عن كل تلبيس وتمويه وإن كانت الآية واردة فيمن آمنوا ببعض الكتاب، وكفروا بالبعض، وجحدوا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول ابن عباس - رضي الله عنهما: [لا تخطلوا الصدق بالكذب وقول بن زيد] لا تخلطوا الحق الذي هو التوارة بالباطل الذي كتبتموه بأيديكم، فإشارة إلى بعض ما يقتضيه عموم الآية.

(43)

قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} " الآية (43) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في إقامة الصلاة، فأما الزكاة، فأصلها من: " زكا الزرع، فهي بالنظر، العامي: تثمير المال باستجلاب تركه الله - عز وجل -، وبالنظر الخاصي: تتميز النفس، وهو تطهيرها بإخراج الحقوق من المال. والتزكية قد تقال في المقال، نحو: " زكيت فلاناً، وعلى ذلك قوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، وذلك نهي عن الثناء على النفس، فإنه من المستقبح بالعقل والششرع، ولذلك قيل لحكيم: ما الذي لا يجسن وإن كان حقاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه. وقد تقال التزكية في الفعال، وهي ما يقتضي تظهير النفس المدعو إليه بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وقلما حث الله تعالى على إقامة الصلاة، أو مدح بها، إلا قرن بها إيتاء الزكاة، فبهما يتم الإيمان، وعليها دل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، وقوله: {ارْكَعُوا} حث على الخضوع وتذرع الخشوع، ويصح أن يكون مع ذلك - حثاً على مراعاة الجماعات في الصوات والاجتماع مع المؤمنين في كل مأمور به نحو قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، ولذلك قال: {مَعَ الرَّاكِعِينَ}

(44)

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الآية (44) - سورة البقرة. البر: التوسع في أفعال الخير، بدلالة ما قاله - عليه السلام - وقد سأله أبو ذر عن البر، فتلا عليه قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ} الآية إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. فذكر جملة أفعال الخير، فرائضها، ونوافلها، ومكارم الأخلاق كلها. فالبر في ثلاث: بر في معاملة الله تعالى وعبادته، وبر في معاملة الأقارب ومراعاة حقوقهم، وبر في معاملة الأجانب وإنصافهم. واشتقاقه من البر هو الفضاء والسعة، ولهذا وصف المؤمن بسعة الصدر، والكافر بضده، نحو قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} .. الآية، فسمي براً ... وقد وصف الله تعالى بالبر كما وصف به العبد، يقال " بر العبد ربه "، أي أطاعه، على ذلك قول الشاعر: يبرك الناس ويفخرونكا والله - عز وجل - بر عبده، أي وسع عليه إحساناً، ويقال: أبر فلان على فلان أي تقدمه ببر،

أي سعة من المكان، وعلى هذا قالوا: بينهما بون، وقال الشاعر: فثم الفتى كل الفتى كان بينه ... وبين المراجي نفنف متباعد والنسيان: زوال الشيء عن الحفظ، فهو ضربان: انفعال بغير فعل من صاحبه، وهو المعفو عنه بقوله - عليه السلام - " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ". وأنه قال بفعل من صاحبه، وهو أ، يترك مراعاة المحفوظ حتى يذهب عنه، وهو المذموم بقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}، وقال عليه السلام: " من حفظ القرآن، ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم "، ولما ورد هذا الخبر عن النبي - عليه السلام - كره ابن مسعود - رضي الله عنه أن يقول القائل: " نسيت آية كيت وكيت "، والق: لتقل: " أنسيت، ومن جعل الإنسان من ذلك، فأصله عنده: " أنسيان "، بدلالة: " أنيسيان " في تصغيره، ومعنى تلاه: تبعه، والتلاوة في القرآن إتباع اللفظ اللفظ، أة: إتباع اللفظ بتدبر المعنى، وهو المراد بقوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، والعقل: أصله المنع الشديد، ومنه: عقل البعير "، " والعاقول ": الدواء، يمسك البطن، والعقلية للنفس الممنوع عن الإخراج، والمعقلة، والعقال، واعتقل لسانه. وقد ذكر الله تعالى " العقل " بأربعو أسماء: " العقل، والنهي، والحجر، واللب " وذلك بأنظار مختلفة -، فأكثرها ذكر العقل، وذلك لعقله عما يقبح وعلى ما يحسن، والنهي: لكونه ناهياً عن القبائح، والحجر: لجعل صاحبه في حجر عما لا يحسن، واللب: لكون ذلك الجزء من الإنسان، بالإضافة إلى

سائر أجزائه، كَلُبَّ الشيء إلى أجزائه، وهو أشرف أسمائه، وقد ذمهم الله تعالى في هذه الآية بغاية ما يذم به المتصدي للوعظ بغير الحق، وذاك أن الواعظ من الموعوظ يجري مجرى المظلة من الظل، والطابع والمطبوع، ومحال أن تعوج المظلة، ويستوي ظلها، أو يمكن للطابع أن يوجد في مطبوعة أحسن ما في طبعه. ولهذا قيل: " كفى بالمرء تهزياً أن يعظ غيره وينسى نفسه، ولأن المدعي لمصلحة هو يتجنبها إما كاذب في دعواه، و‘ما خبيث النفس، وكلاهما لا يقبل قوله، فإذا " حق الإنسان أن يبدأ بنفسه فيما يعظ به غيره، حتى يكون واعظاً بفعله كوعظة بقوله. وروي أن رجلاً أتى ابن عباس [رضي الله تعالى عنهما] فقال: " إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى فافْعل. قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}، وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}، وقول شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، وقد اتبع الله ذمهم بحكمين حقق غيهم أحدهما، قوله: {وانتم تتلون) أي: تتدبرون التوراة، والثاني: قوله: (أفلا تعلقون) - تنبيهاً - أن الجامع للعقل ومتبع الكتاب ليس من حقه أن يأمر الغير بما لا يفعله، فذلك منبئ عن الجهل، فصارت الآية بما عقبت أبلغ من معنى قول الشاعر: لاتنه عن خُلُق وتأتي بمثلُه .... عار عليك إذا فعلت عظيم وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} مثل هذه الآية في حث الإنسان على (العناية بالنفس) قبل العناية بغيره، لا نهياً عن الوعظ كما تصوره بعض الناس، حتى قال هذه الآية منسوخة ..

(45)

قوله - عز وجل -: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}: الآية (45) - سورة البقرة. أصل الصبر: الإمساك في ضيق، ومنه: دابة مصبورة، والصبرة من الطعام للجمعة منه، وفي التعارف: إمساك النفس على ما يقتضيه العقل وعما يقتضيه، وذلك ضربان: صبر عن المشتهى، وهو العفة، وصبر على المكروه وهو الشجاعة، وقيل الصبر: الصوم، لقوله عليه السلام: (صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهب كثيراً من وحر الصدر)، وتسميته بالصبر، لكونه بعضه، إذ هو إمساك الشهوة، ولهذا قال عليه السلام: " الصوم نصف الصبر "، والصلاة أرفع منزلة من الصبر، لأنها تجمع ضروباً من الصبر، إذ هي حبس الحواس على العبادة، وحبس الخواطر والإفكار على الطاعة، ولهذا قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وخصها برد الضمير إليها دون الصبر، وأما الصلاة التي تخفف على غير الخاشع، فإنها مسماة باسمها، وليس هي في حكمها، بدلالة قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، ومثلها، وقل ما ترى صلاة غير الخاشع تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ومثلها في رد الضمير على أحد المذكورين لاختصاص العناية به، قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}، فأعيد الضمير إلى التجارة - لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت الآية فيهم، ولأنه قد تشغل التجارة عن العبادة من لا تشغله اللهو، وعلى ذلك قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لما كان حبس الفضة عن الناس أعظم ضرراً، إذ كانت

(46)

الحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة أجلب، [خُصا بالضمير]، وقوله: (كَبِيرَةٌ) اي: كبيرة القدر، أو ثقيلة على النفس، بالإضافة إلى غيرها من العبادات وزائدة عليها، فإنها لا تصح إلا ببذل مال ما جار مجرى الزكاة فيما يستر به العورة، ويطهر به البدن، وإمتساك في مكان مخصوص يجري مجرى الاعتكاف، وتوجه إلى الكعبة يجري مجرى الحج، وذكر لله ولرسوله يجري مجرى إظهار الشاهدتين للإيمان، ومجاهدة في مدافعة الشيطان سارية مجرى الجهاد، ومساندة عن الأطيبين جار مجرى العموم، وفيها ما ليس في العبادات الآخر من وجوب القراءة، وإظهار الخشوع، والركوع والسجود، وغير ذلك، ولهذا عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها، فكان آخر ما أوصى به عند وفاته: " الصلاة، وما ملكت إيمانكم "، وجعل بقولها وما يفيض بها لسانه. قوله - عز وجل -: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ... الآية (46) سورة البقرة. قد تقدم الكلام في الظن، وأنه أعم ألفاظ الشك واليقين، وأنه اسم لما تحصل عن أمارة متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت حداً لم يتجاوز حد الوهم، [وأنه متى قوي استعمل معه أن المشدةة، و " أنْ " المخففة منها]، ومتى ضعفت استعمل معه " أن " المختصة بالمعدومين من الفعل نجو " ظننت أن خرج، وأن يخرج " فالظن إذا كان بالمعنى الأول فمحمود، وإذا كانت بالمعنى الثاني: فمذموم، والآية من المعنى الأول والمعنى الثاني كقوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، وقوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وعنى بلقاء الله " الموت " وبالرجوع إليه " الثواب والعقاب "، وتخصيص ذكر الظن ها هنا إعلام بأنهم في كل حال لا يأمنون الموت، ولو كان بدله العلم، [لم يصح على الوجه] الذي يصح فيه الظن، لأنك تقول: " أظن أني أموت في كل حال، وأما قوله {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}، فهو نهاية في الذم، ومعناه: ألا تحصل لهم أمارة تنبههم على التفكر في ذلك - تنبيهاً

(47)

أن هذا لا محالة مما تبين أمارته للإنسان إذا تأمل، أدني تأمل، وخاطب بالآيات عماء بني إسرائيل الآميرن غيرهم بالبر، الناسين أنفسهم بأن استعينوا في مدافعه هذه الحال بالصبر والتوصل به إلى الصلاة، فبها يصير الإنسان خاشغاً ملتزماً للحق ممن ظهر منه. وقوله - عز وجل -: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} الآية (47) سورة البقرة. الفضل: كالزيادة، إلا أنه أخص منها، وهو من الأسماء المتضايقة، كالكثير، والقليل، والكبير، والصغير، ويستعمل على اعتبارين: أحدهما: اعتباراً بالطرف الذي هو النقص، وذلك يستعمل على سبيل المدح، والثاني: اعتباراً بالوسط الذي هو العدل والسواء، ويستعمل ذلك على وجهين: أحدهما: الزائد على العدالة على سبيل الاستظهار، وهو السماحة والإسماح ببعض ما لا يجب عليه، أو بترك بعض ما لا يجب له، وذلك هو المعنى بالإحسان: في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، وبالزيادة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وإياه عنى بقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، والثاني: الإفراط الجاري في الذم مجرى التفريط، كالإسراف والتبذير المنهي عنه بقوله: {وَلَا تُسْرِفُوا}، وقوله: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}، والمعبر عنه بقول العامة: " الزيادى على الكفاية نقصان "، وأكثر ما يعبر عنه بالفضلة والفضالة فالزيادة على الاعتبار الأول فضيلة، وهو استظهار في العدالة، وعلى الاعتبار الثاني رذيلة، وهو ترك العدالة، والتفضيل: يستعمل على وجهين: إما بمنحة خص المفضل بها نحو قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، فإن ذلك أمور خص بها بنو آدم ابتداء، وأما الحكم للمفضل بالفضل الحاصل منه، نحو قوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}، فالأول: يجب على العبد به الشكر، إذا هو مدح له، نوليس له به حمد، والثاني: يجب له به حمد، ويستحق به الثواب، وأما العالمون: فقد تقدم الكلام فيه، وأنه تارة يقال لجميع ما أوجده الله تعالى من الفلك، وما يحويه عالم بلفظ الإفراد، وتارة

يقال لكل جنس نوع من الموجودات عالم وتارة يقال لأهل كل زمان عالم وتارة يقال لكل إنسان في نفسه عالم، وذلك يقال على وجهين: أحدهما: إن الإنسان الواحد هم كالعالم في تخصيصه بمثال كل ما هو موجود في العلم والثاني: يقال ذلك للفاضل الكامل من الرجال، وبهذا النظر قال الشاعر: فواحدهم في الورى عالم. إن قيل كيف قال: فضلتكم على العالمين وقد قال تعالى لهذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الجواب: أن التفضيل الذي يكره الله تعالى هو الفضيلة التي خص بها نبو آدم، المعنية بقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} الآية، وبنو إسرائيل وإن كان قد شاركهم غيرهم في هذه النعمة، فإنهم لما نسوا نعم الله تعالى خصوا بالنداء لتذكيرهم، كقولك: " يا فلان نسيت نعمة الله عليك "، وقد تقدم أنه ربما يخص بالمخاطبة لتذكيرهم بعض المعنيين بالحكم، لأنه أرفعهم منزلة، أو لأن العناية ما أعطوا من المن والسلوى وإظلالهم بالغمام، والحجر الذي تفجر منه الأنهار، وغير ذلك: وقيل: إنه جعل كل فرقة أو كل نفس في زمانهم عالماً، وذكر أنه فضلهم على غيرهم ممن في زمانهم، وقيل: إن ذلك بمارشحهم له من الإيمان بالله ورسوله والأعمال الصالحة، فإن من فعل ذلك كان هو المفضل على العالمين، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} إن قيل: كيف قال ذلك وهذه النعم كانت على أسلافهم؟ قيل: قد قال بعضهم: لما ذكر الله تعالى ذلك في التوراة على سبيل الخطاب، أعاد اللفظ على الحكاية، وقيل: " النعمة على الإنسان ضربان ": نعمة تصل إليه من المنعم بلا واسطة، ونعمة تصل إليه من المنعم بواسطة، أو بوسائط وذلك كتسخير الله من يزرع لنفسه زرعاً يصل إلينا نفعه على بعض الوجوه، فهذا الزارع منعم علينا، وعلى هذا قيل: إن الله تعالى منعم على كل واحد منا بأكثر ما يتعاطاه الناس من أعمالهم من المهن والصنائع المرفقة لأنفسهم، ونحو هذه الآية قول الله - عز وجل - {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} وأعاده قوله:

(48)

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، فلأن الأول: حث على استيقاء نعمته بالوفاء بعهده، والثاني: لتبينها بتفضيلهم على العالمين. قوله - عز وجل - {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ... الآية (48) سورة البقرة. الجزاء والمكافأة، والمقابلة متقاربة، لكن الجزاء أعمها، لأن المكافأة: يعتبر فيها المماثلة والمقابلة: يراعى فيها المجازاة، والجزاء لا يراعى فيه شيء من ذلك، ويقال: جزاه " بلا همزة "، يجزيه، أو " أجزاه " بالهمزة، ففي الجزاء معنى العناء، والقبول تناول المقبل، ومنه القابل: المتناول الدلو، وأصل ذلك من قَبل وقُبل. فقبل يستعمل في المتقدم المنفصل، ويضاده بعد، وقبل: في المتصل، ويضاده: دبر، وقد جعل كناية عن السوءتين، ويقابل القبول الرد. والشفاعة: جعل الفرد شفعاً يقال: شفعت له، أي صرت شفعاً له بانضمامي إليه، وعبر عمن انصم إلى غيره في طلب ما " شافع "، وعلى ذلك قول الشاعر: له من عدو مثل ذلك شافع. ومنه الشفعةُ، وأصلها ضم ملك إلى ملكه، وشفعه به، والعدل: التسوية، يقال: عدلته، وانعدل، وعدلته، فاعتدل، وعدل الشيء مساويه بلا إفراط ولا تفريط، وأكثر ما يقال في المساوي من حيث الحكم نحو قوله - عز وجل -: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}، والعدل: يقال في المساوي، في الكمية في الوزن والكيل، وقيل الفداء: العدل إذا اعتبر فيه معنى المساواة، وقولهم: " لا يقبل منه صرف ولا عدل ".

وتفسيرهم بأن العدل: الفريضة، والصرف: النافلة، فمن حيث أن العدل هو المساواة، وتعاطيه واجب، والصرف: الزيادة الحاصلة عن التصرف، وتعاطيه تبرع وهما كالعدل والإحسان. والنصرة أخص من المعونة، فإنها تختص بدفع الشر والظلم، وقيل أرض منصورة: إذا أتاها المطر بعد طول مدة، والقصد بالآية التقوى من يوم لا يكفي أحد أحداً. وقد أعاد تعالى هذا المعنى في غير موضع، كقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} وقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}، وقوله: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، تنبيهاً أن لكل واحد ما يستصحبه من الإيمان والأعمال الصالحة: كما قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، إن قيل: كيف قال ذلك، وقد أثبتت الشفاعة في غير آية، قيل: هذا رد على اليهود فيما ادعوه حيث قالوا: " نحن أبناء الأنبياء وهم يشفعون لنا وإن ارتكبنا (ما ارتكبنا)، فنبه على أنه ليس لهم شفاعة كما قال: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}، وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، والضمير من قوله - عز وجل - {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا} راجع إلى النفس الأولى وقيل أنه راجع إلى الثانية، وفي قوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا} راجع إلى الثانية لا محالة، وقوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}، أي ليس لهم من ينتصر من الله تعالى بأن يمنعهم من عذابه إشارة إلى قوله تبارك وتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}، وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي}، قيل: معناه: {لَا تَجْزِي} فيه، فحذف، وهو قول الكسائي، وقال البصريون، وصل الفعل إليه. فنصبه نحو قول الشاعر: ويوم شهدناه سليماً وعامراً ثم حذف الهاء كحذفه من " الذي ضربت ". وحقيقة الخلاف أن ما يقدر الكسائي حذفه بدفعه يقدره البصريون بدفعتين، ولا خلاف أن الأصل كان في ذلك فيه وأنه لا يطرد في كل مكان حذف الجار مع المجرور.

(49)

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} الآية (49) سورة البقرة. أصل النجاء: طلب الخلاص، ويقال لمن عدا نجا، لكون العدو أحد أسباب التخلص، فإن الله تعالى جعل للحيوانات قوتين تزيل بهما الأذى، قوة بها تهرب مما يؤذيها، وقوة بها تدفع ما يؤذيها، فمن الحيوانات ما يختص بأحديهما، ومنها ما جعلتا جميعاً به، فإذاًَ: العدو أحد أسباب الخلاص، فصح أن يعبر عنه به، وقيل: " نجا فلان)، إذا ألقة ثوبه وذلك استعارة له، كما استعير إلقاء الثوب للعدو في نحو قولهم: " القى بزه " وخلع ثوبه، وعلى ذلك قوله: ألقيت ليلة خُبث الرهط أرواقي وسميت الربوة " نجوا " اعتباراً بأنه منجي من السيل وكثير من الآفات التي تكون في الوهاد، وكنى عن العذرة الملقاة بالنجو إما اعتباراً بأنه خلاص من الأذى، أو كناية عنه بالنجو، كما كنى عنه بالغائط ولما اعتقد في السر أنه خلاص من الوشاة والعداة سمي بنجوى، وبهذا النظر قال الشاعر: ونجعل نجوانا نجاة من العدا ... والآل: قيل هو مقلوب عن الأهل، كالماء عن الموه، ويصغرُ على أهيَلْ، كما أن الماء مصغر على مُويْه، إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة، يقال: " آلُ فلان "، ولا يقال: آلُ مكة، وزمان كذا: هو اسم للشخص، ويصغر على " أوائل "، وهو قول الكسائي، ويستعمل فيمن اختص بالإنسان اختصاص ذاته به إما بقرابته قربته، أو بموالاة دينه، أو كالدينية، فقد أجرى الموالاة الدينية مجرى القرابة واللحمة حتى قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}،

وقال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، وقال في نوح وابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، والاختصاص المذكور قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، ولاختصاص الآل بما قلنا، قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وقال هذا القائل: أهل الدين من النبي - عليه السلام - ضربان: ضرب يتخصص منه بالعلم المتقن والعمل المحكم، فيقال لهم: آل النبي، وضرب يتخصص منه بالعمل على سبيل التقليد دون العلم المتقن، ويقال لهم أمة، فكلُّ آل النبي أمته، وليس كل أمته آلهُ، وقيل لجعفر بن محمد: إن ناساً يقولون: المسلمون كلهم آل النبي، فقال: كذبوا وصدقوا، قيل: فما معنى كذبوا وصدقوا؟ قال: كذبوا: أن الناي على ما هو عليه من التقصير في دينهم هم آل محمد، وصدقوا: أنهم آله إذا قاموا بشريطه شريعته، فمن ضيع الشريطة، فليس منه وإن قرب نسبه، ومن حافظ على شريطته فهو منه وإن بعد نسبه، والسومُ: أصله الذهاب في إبتغاء الشيء، فهو لفظ لمعنى مركب الذهاب والابتغاء فإنه جرى مجرى الذهاب، فقيل: " سام الإبل "، فهي سائمة إذا ذهبت في المرعى، و " سمته كذا "، كقولك نعيته كذا، ومنه السوم في البيع، فعدى تعديته والسوء: يتناول كل ما يسوء الإنسان من آفة وداء، ويقال: السوء والسوى، أي: نحو الحسن والحسنى، وعلى سبيل كراعية ذكر الفرج والنظر إليه، كنى عنه بالسوءة، وكذا كنى عن البرص بها، وسوء العذاب: أي شدة العذاب، والذبح أصله شق الأوداج، وقيل: ذبحت الفارة النافجة على الاستعارة، لما شبه ذلك الوعاء بفارة فسمي بها، والذباحة: كأنه يذبح بشدته وكونه في المذبح، وخصت سنا يكثر في الأدواء، نحو: خراجة تخصيص التذبيح دون الذبح تنبيهاً على كثرة ذلك منهم، والاستحياء: كالاستبقاء، وهو تحري طلب الحياة فيهن، وقيل: معناه: يبتغون ما في أرحام النساء مشتقاًَ من

الحي، أي الفرج، والبلاء أصله من قولهم: بلى الثوب بلى، وبلاءً، وقيل " بلوت فلان " أي أخبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له، ولهذا قيل: " لبست فلاناً "، أي: خبرته، وسمي الغم بلاء من حيث أنه يبلى الجسم، وسمي التكليف بلاء من أوجه، الأول: أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان، فصارت من هذا الوجة بلاء، والثاني: أن التكاليف اختبارات، وكذلك قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، قال {لِيَبْلُوَكُمْ}، ونحو ذلك، والثالث: أنه لما كان اختبار الله تعالى لعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، صارت المنحة والمحنة جيمعاً بلاء، فالمحنة: مقتضية للصبر والمنحة: مقتضية للشكر، وكأن القيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر لما بيناه في كتاب: (شرف التصوف)، فصارت المنحة أعظم البلاء، وبهذا النظر قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه وكره الله وجهه: " من وسع عليه في دنياه، ولم يعلم أنه مكر به، فهو مخذوغٌ عن عقله " والرابع: أنه رب منحة تعقب محنة، ومحنة تقضي إلى منحة، ولهذا قيل: " رب مغبوظ بنعمة هي داؤه، ومرحوم لشدة هي شفاؤه "، فإذا: من النعمة ما هو نقمة " ولكون البلاء متناولاً للأمرين، قال تعالى، {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، وقالوا " في الخير والشر معاً: بلاه " فإّذا أفردا قالوا [في الخير: ابلاؤه، وفي الشر بلاه] وقال تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، وأما قول الشاعر: جزى الله بالإحسان ما فعلابكم ... وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فمعناه: أعطاهما الله خيراً فيما يمنحهما به، وجعل لهما بدل المكروه محبوباً، فقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ} راجع إلى الأمرين إلى المنحة التي هي الإنجاء من آل فرعون المقتضية للشكر، وإلى المحنة التي هي ذبحهم واستحياؤهم للنساء المقتضية للصبر، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فإذا صح ذلك، فقول مجاهد وابن جريح: أنه أراد في إنجائكم منهم نعمة، نظر منها إلى مبدأ الآية، وهو قوله: {أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}، وقول مقاتل: " أراد في قتل الأولاد واستحياء النساء شدة نحو قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}، نظر منه إلى منتهى الأية، وهو قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}، وكلا القولين صحيح، وقول السدي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أراد بقوله: " بلاء " أي نعمة أو نقمة تصريح أن الأمرين مرادان وليس قوله (أو) ههنا شكاً منه كما ظنه بعض المفسرين، وقال إن ذلك شك من السدي، بل ذلك رواية عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - تنبيهاً منه أن النعمة والنقمة في هذه الجملة حاصلتان، وكل واحد منهما موجود فيها، وفي الآية تذكير لهم بما أولاهم من النعم في إنقاذهم من آل فرعون [وما كانوا يسومونهم من العذاب، وكان الأصل فيما روي لآن فرعون] رأى في المنام، أو قال له الكهنة: سيولد في هذا العام مولود يذهب بملكك، فجعل على كل عشر من النساء رجلاً، فقال: انظروا إلى كل امرأة ولدت، فإن كان ذكراً، فاقتلوه، وإن كان أنثى فأبقوه، وكان ذلك أعظم للرزية كما قال الشعر: ومن أعظم الرزء فيما أرى ... بقاء البنات وموت البنينا وقيل كان ذبحهم للأبناء استخدامهم في الأعمال القذرة الجارية مجرى أعظم الذبحين القتل، والإهانة، قال: وعلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}، وفيها حث لنا على تذكر نعمه ومراعاتها واحدة واحدة، وتجديد الشكر لكل منها ...

(50)

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} الآية: (50) سورة البقرة. الفرقُ، والفلقُ، لكن الفلق لا يكون إلا بين جسمين، والفرق: قد يكون في الأجسام والمعاني، وفي هذه القصة قد جاء اللفظان، قال تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي كل قطعة من الماء، والفرقان: كل كتاب يفرق بين الأحكام، وسمي عمر - رضي الله تعالى عنه - فاروقاً لأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضي ليهودي على منافق، فأتى عمر وقال " إن محمداً قضى بيني وبين هذا، ولست أرضي قضاءه فاقض بيننا "، فقال: أو رضيت قضائي؟ قال: نعم، فدخل داره، وأخرج السيف وحز رأسه، فنزل جبرائيل - عليه السلام - وقال: (إن عمر قد سمي في السماء فاروقاً). والبحر: استعير للسعة، فقيل: بحرت مذا أي: " وسعته كسعته "، وقيل بحرت الناقة: أي: شققت أذنها شقاً واسعاً، والباحر: الأحمق الموسع عليه من جهة رفع العقل عنه، وكأنه اعتبر في تسميته بلذك مقابلة العاقل، فقد جعل أسماء العقل كلها معتبراً فيه الضيق، والشدة، والفرق، والرسوب في المآثم شبه به غيره حتى قيل: غرق فلان في النعمة، وغرقه من اللبن أي مليء قدح، وأغرق في الشيء إذا تناهي والنظر نظران، نظر بصر، وبه يدرك المحسوسات ونظر بصيرة، وبه يدرك المعقولات، ونظر البصر كالخادم لنظر البصيرة فإن كان كلاهما سبيلاً إلى المعرفة، والنظير أصله للمناظر، كأنه ينظر كل واحد من الناظرين إلى صاحبه في المشاكله، وناظرته: باريته في النظر، وأنظرته: تركته ينظر فيطلب، ومعنى الآية ما ذكره في قوله {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى} الآية، وفي قوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}، وفي قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} لما كان النظر متردداً بين المحسوس الذي منه

الإبصار، والنظر المعقول الذي منه البصيرة، نظر كل واحد من المفسرين نظراً ما، فقال: من نظر نظر محسوس معناه (وأنتم تشاهدونه)، فقد روي أنه أفرد لكل سبط طريق من الماء وجعل الحاجز الذي بينه وبين الآخذ مشفاً كالزجاج ينظرون منها إلى الآخرين، وقال بعضهم: قذف الماء بجثث آل فرعون بعد إغراقهم إلى الشط، فكان الناس ينظرون إليهم، وعلى ذلك حمل قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}، وقال: " من نظر نظر معقول " معناه: وأنتم تعتبرون بذلك، [وقيل معناه: " وأنتم متمكنون من النظر، أي الاعتبار بذلك]، وقال بعضهم: في الآية مع إرادة هذا المعنى، أو النعمة المحسوسة التي أولاهم، إشارة إلى معنى آخر، وإلى نعمة معقولة أعطاهم، فإنه أشار بالبحر إلى الشبه التي تعتري وتفرقه إلى إزالتها، وبإغراق آل فرعون إلى إبطال الكفر، وبالنظر إلى المعرفة والتمكن منها بما أولاهم من البصرية والتمييز، وهذا الذي ذكره هذا [القائل] صحيح أنه تعالى فعله بهم اقتضاه لفظ الآية، أو لم يقتضه ...

(51)

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} الآية (51) سورة البقرة. فرئ: " واعدنا " اعتباراً بالموعود وقبوله من الواعد وعده، فكان من كل واحد منهما وعداً، هذا بالإعطاء، وذلك بالقبول " ووعدنا " هو للاعتبار بالواحد دون الموعد، وعلى الثاني أكثر ما في القرآن نحو: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} وتقدير أربعين ليلة انقضاؤها كقولك: اليوم أربعون يوماً منذ خرج زيد، أي تمامها، وقيل: إنما وعدهم ذلك في الأربعين، وأن لا يتجاوز هذا القدر، وهو الأصح، وقوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} على ذلك، فإنه قيل له: يكون ذلك انقضاء ثلاثين، ثم كان عند الأربعين، فلم يكن في الوعد إخلاف، وإنما كان فيه بعض الإبهام، فلهذا التبس عليهم، وذكر تعالى عظم جهلهم، وأنهم بعدما أعطوا من البينات ورشحوا لما وعدوا، تهافتوا على عبادة عجل اتخذوه وقوله: وأنتم ظالمون: عنى به الظلم المطلق وهو الكفر، وقد تقدم الكلام في أنواع الظلم وأنها بالقول المحمل ثلاث أعظمها الكفر، وفي الآية حث على معرفة ما وعدنا الله تعالى به ومراعاته والمنع من الاشتغال عنه تعالى بشيء بغيره، وعلى هذا الوجه قال بعض الناس: كل ما شغلك عن الله فهو عجل متخذ وطاغوت متع وشيطان مطاع ومبدأ كل ذلك اتباع الهوى، ولذلك قال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقال وهذا وإن لم يكن كفراً فهو شرك وبهذا الوجع قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}

(52)

وقوله - عزل وجل: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة البقرة الآية (52) ... العفو: القصد لتناول الشيء يقال: عفاه، واعتفاه وعفت الريح الدراري قصدته متناولة منها أثارها ولهذا المعنى قال الشاعر: أخذ البلى آياتها وإذ قيل: " عفا فلان عن فلان " كأنه قصد تناول شيء ما منصرفاً عنه والمفعول به مترك لكونه غير مقصود وذلك كقولهم ذهبت عما ارتكبته وتجاوزت عنك: أي تجاوزت إلى شيء ما وعفا النبت والشعر أي قصد تناول الزيادة كقولهم: أخذ النبت في الزيادة وقولهم أعطى عفوا فعفوا مصدر في موضع الحال، أي أعطى وحاله حال العافي في الاهتزاز - إشارة إلى المعنى الذي عد بديعاً للشعراء في نحو قول الشاعر: كأنك تعطيه الذي أنت سائله والشكر: مقابلة الصنيعة بإظهار، ومنه: دابة شكور، إذا كانت مظهرة احسان صاحبها إليها، وضره شكري من ذلك والشكر: كناية عن الفرج المزوج، لكونه مقابلاً للمهر مقابلة الشكر للمشكور عليه، والشكر ضرب من العدالة، إذ هو في مقابلة النعمة، وأعم من المكافآت فإن المكافأة يعتبر فيها تارة مماثلة في الكمية وتارة في حال المكافئ والمكافأ والشكر: لا يعتبر فيه ذلك. وأيضاً فالشكر قد يكون باللسان تارة، وبالمقابلة تارةً وقد تقدم الكلام في (لعل) وأنه وإن كان مقتضياً

(53)

للرجاء فليس على الاعتبار به تعالى، فإن الرجاء لمن يخفى عليه العواقب، ولا يتمكن من كل ما يريده، والقصد بالآية " بتبين عفوه عنهم بعد ارتكابهم الجرائم ليتحروا شكره المقتضي لرحمته " تنبيهاً لنا أن نراعي عفوه وإحسانه - راجين بلوغ شكره بالأفعال الحميدة، وقوله: (من بعد ذلك): أي من بعد اتخاذكم العجل، وإنما لم يقل: (ذلكم) لأ، كاف الخطاب إذا اتصل بالمبهمات يصير كوصله لها وجزاءا منها، فتارة يعتبر فيه الأصل فيجمع، وتارة يعتبر فيه كونه وصلة لا خطاباً فيترك على حالته لا يثنى ولا يجمع. قوله - عز وجل -: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الآية (53) - سورة البقرة. الكتاب والفرقان: اسمان لشيء واحدٍ لكن يقالان باعتبارين مختلفين أما الكتاب، فلجمع الأحكام المتفرقة فيه، وأما الفرقان: فلكونه مفرقاً بين الحق والشبهة وبين الأحكام المختلفة، وأتى باللفظين تنبيهاً على تضمين التوراة للمعنيين وهذا أصح من قول من قال: تقديره: " وإذ آتينا موسى الكتاب ومحمداً الفرقان " فغن التوراة والقرآن كل واحدٍ كتاب من وجهٍ، وفرقان من وجه، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وما قالوه من أن الفرقان أريد به فرق البحر فلا يمتنع إرادته مع ما تقدم، والإيتاء منقول عن: أتيت لكن تعورف في الإعطاء لما كان الإعطاء ضربان من الإيتاء وقد تقدم الكلام في " لعل " وفي الابتداء.

(54)

قوله - عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية: (54) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في الظلم، فأما ظلم النفس، فقد يقال لكل فعل يباعدها عن توفيق الله تعالى في الدنيا وعن قوابه في الآخرة صغيراً كان أو كبيراً وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} فالأظهر أن فعل الفاحشة وعمل السوء للكبيرة، وظلم النفس في الآيتين للصغيرة. وفي الجملة: فإن ظلم النفس هو الخروج عن الاعتدال صغيراً كان أو كبيراً وقوله: " تبارئكم " فأصل البرء خلوص الشيء عن غيره إما على سبيل التقصي منه، أو على سبيل الإنشاء عنه فعلى التقصي قولهم: برئ فلان من مرضه، والبايع من عيوب مبيعه، وصاحب الدين من دينه، ومنه: استبراء الجارية، فإنه أراد تقصيها من " ما " ومن " عسى " أن قد غشيها من قبل، وعلى سبيل الإنشاء: قولهم: أبرأ الله الخلق وقوله تعالى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} فإشارة إلى أحوال ثلاث، فالخلق: إلى إيجاد البدن، والبرء: إلى إيجاد الروح، وهي النسمة التي عناها أمير المؤمنين بقوله: " والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة "، والتصوير إلى الجمع بينهما وإلى ثلاثتها أشار بقوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} الآية وإلى ذلك أشار بقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} وأما البرية فكثير من الناس ذهبوا إلى أنها منه، فترك همزة، كالذرية والنبي الخابية ومنهم من قال: البرى. أي التراب، أو من البرى، وإليه ذهب الكسائي قبرا هي اعتباراً بالأرواح، ويرى اعتبراً بالأشباح والقتل معروف وقد يستعمل في معنى

التذليل وإزالة السورة، يقال: قتلت الدابة، أي: ذللتها، وقتلت الخمر: أزلت سورتها بالمزج، قال الشاعر: إن التي ناولتني فرددتها .... قتلت قتلت فهاتها لم يقتل وفلان قتل فلاناً، أي: مثله، فأصله مقاتلة، فتصور منه معنى المماثلة، لكون المقاتلين متماثلين في فعليهما المختص بهما، وإذ قيل: فلان قتل نفسه، فقد يقال: إذا فعل بنفسه فعلاً أزال به الروح، وقد يقال إذ سلم نفسه للقتل، وإن كان أكثر ما يقال في ذلك المستقتل وقد يقال: إذ قيل من يختص به اختصاص نفسه نحو: فلم أقطع بهم إلا بنائي، وقوله: وإذا رميت يصيبني سهمي وقد يقال: قتل فلان نفسه، إذا ضيع حظها في طلب الآخرة، فأدى به ذلك إلى زوال حياته الأبدية، وذلك مذموم، وقد يقال في ضد ذلك وهو إذا أفنى شهوته وذلك هواه في الدنيا طلباً للآخرة، وذلك محمود، وعلى الاول قال جعفر بن محمد في قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: اطلبوا لها الحياة الأبدية، وعلى هذا قيل: " قتل النفس إحياءها، وإحياءها قتلها، يعني في حالة وحالة، وروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى (أن من أحبني قتلته، فقال يارب: إذا انتهيت في الخلة لم أبال بقتل الدنيا) وقال بعض الحكماء: " من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحبها (فاقتلوا أنفسكم) حملوه على أكثر هذه الوجوه، قال بعضهن: أمروا أن يجبا كل واحد نفسه بالسكين، وقيل: أمروا أن يسلم كل أحد للقتل، وقال أكثرهم: " أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً فكان الرجل يقتل أباه وأخاه غير متحاش من ذلك قال بعضهم: أمروا أن يزيلوا شهواتهم ويفنوا نفوسهم الشهوية في الوصول إلى رضاء الرب ويبلغوا إلى الحياة الأبدية وقد طعن في هذه الآية بعض الملحدة، وزعم أن قتل

النفس مستقبح في العقل، وهذا الجاهل إنما استقبحه لكونه جاهلاً أن لنفوسنا خالقاً بأمره نستبقيها وبأمره يقيها وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو معادا إلى دار فيها حياة سرمدية كما قال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} وإن قتلها بأمره يوصله إلى حياة خير منها ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه ووال على بلد يسوسه، وأنه مهما استرده [يعاد] فلا فرق بين أن يأمره بخروجه بنفسه أو يأمر غيره بإخراجه ومن تصور هذه الجملة علم أن الإنسان إنما أنكر له قتل نفسه في الدنيا لأنه كالراجع عن الثغر إلى حضرة صاحبه قبل استرداده، وإذا أمره أن يقتل نفسه - فقد رجع عنه بأمره وذلك ظاهر لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} الإشارة به إلى التوبة وقتل النفس ولما كان الشيء قد يكون خيراً عند الاعتبار بالدنيا شراً عند الاعتبار بالآخرة، وقد يكون على عكس ذلك. بين تعالى بقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أن ذلك خير بالاعتبار بالأمور الإلاهية إن قيل: لم أعاد ذكر " بارئكم "؟ والإتيان بالضمير في مثله أحسن؟ قيل: إنما يحسن الضمير إذا لم يشتبه ولم يقصد بالتكرير تعظيم الأمر، وكان ذلك في جملة واحدة أو ما حكمه حكم الجملة الواحدة، فأما إذا لم يكن كذلك فتكريره أحسن وقد حصل ههنا الأحوال الثلاث فإنه جرى ذكر موسى والعجل فلو قيل عنده: يصح توهم إرادة أحدهما ثم قد علم أن المقصود في مثل هذا الموضع تفخيم الامر ثم قوله: (ذلك خير لكم) جملة أخرى غير الأولى ..

(55)

وقول الشاعر: لا أرى الموت يسبق الموت شيء وإنما استقبح لأنه قوله: يسبق الموت " مفعول ثان " لقوله: لا أرى الموت فصار المصراع كله جملة واحدة، والكلام في التوبة والثواب قد مضى، وعند قوله: (بارئكم) أي في حكمه وفيما يرتضيه نحو قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} والشيء الذي يرتضيه تعالى تارة ينسب إليه، فيقال: [هو] له وتارة يقال: " هو من عنده " و " هو عنده " وقد بين في قوله: (وإذ واعدنا موسى) ما ارتكبوه من الذنب، وبين في هذه الآية ما قال لهم موسى - عليه السلام - عند ارتكابهم ذلك الذنب، وأن موسى - عليه السلام - مع تعظيم ما ارتكبوه لم يخلهم عن النصح لهم وتصريفهم بين بلاء النعمة والنقمة حسب ما أمره الله تعالى. قوله - عز وجل -: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} الآية (55) - سورة البقرة. [الرؤية] إدراك المرئي، وذلك على أوجه بحسب اختلاف قوى الإنسان فالأول [الرؤيا]

بالحاسة، وهو إدراك البصر، والثاني بالوهم والتخيل، نحو أرى أن زيداً منطلق، أي أتوهم، وقد يكون ذلك في اليقظة طوراً، وفي المنام طوراً، لكن يجعل اسم ما في المنام رؤيا، والثالث بالتفكير، والرابع بالعقل المشار إليه في قوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فأما الرؤية الحسية على ما هي [عليه] في الدنيا من المقابلة، وكونها في جهة دون جهة فمنفية عن الباري سبحانه، إذ كان ذلك لا يصح إلا على جسم ذي لون وكيفية ولعدم اللون لا يبصر الهواء مع كونه جسماً ولا يصح أيضاً على الله الرؤية الوهمية إذ كان ذلك تصور هيئة محسوس كما تقدم أو مثل محسوس باطلاً كتوهم إنسان طائر، وأما الفكرية فهي للعلماء في الدنيا وذلك إدراك المعرفة بالفكر [والرؤية] وإياه عنى أمير المؤمنين بقوله: " لم تره العيون بشواهد الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان "، وأما العقلية فإنها تحصل في الآخرة لكل أحد من حيث أنهم يضطرون إلى معرفته تعالى، لكن للمؤمنين حالة زائدة تقصر العبادة عنها، وهي المبشر بها في قوله عليه السلام: (ترون ربكم - عز وجل - كما ترون القمر ليلة البدر) والمشار إليها بقوله - عز وجل - {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}. ولا يحصل في الدنيا إلا لبعض الأنبياء في بعض الأحوال، وذلك بتصور أفعاله تعالى مجردة عن أفعال المخلوقين بلا شبهة تعتريه ولتعري نفسه من الشهوات والهوى، ولكون ذلك لبعض الأنبياء في حال دون حال، قال عليه السلام: " رأيت ربي في بعض طرقات المدينة "، بمعنى وأنا فيها وقال تعالى:

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وقوله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [أي وكان النبي عندها] وقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وروى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - " أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه مرتين " وهذه الجملة إذا تصورت أسقطت الشبهة التي تعتري من لم يتصور الحقائق فاحتاج إلى رفع الأخبار الصحيحة والآثار الواضحة التي هي كأن عليها من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً وليس قوله تعالى إخباراً عن موسى - عليه السلام - في قوله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} كما ظنه بعض الناس أن ذلك سأله لأن قومه كلفوه سؤاله أن يدركه محسوساً في الدنيا وكان يعلم أن ذلك محال، فإنه عليه السلام منزه عن أن يسئ لإساءة قومه، ويتجاهل اتباعاً لجهلة تباعه، وإنما سأله هو الحالة التي كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين، وهذه إشارة يمكن مع الاستعانة بما تقدم آنفاً أن يعرف معناه إلى أن ينتهي إليه، فنشرحه شرحاً شافياً - إن شاء الله -، وأما الجهر: فالظهور لحاسة البصر أو حاسة السمع، فمن حاسة البصر، قيل: رأيته جهاراً وتجاهرواً بالأمر، وأجهرت فلاناً وفلان يجهر بالمعاصي، وجهرت البئر أظهرت ماءها ومنه اشتق الجوهر، لكون أكثره ظاهراً للحواس فيمن لم يجعله منقولاً عن الفارسية، ومن حاسة السمع، قيل: جهر فلان بقراءته، وكلام جهير، وهو جهوري الصوت والصاعقة والصاعقة يتقاربان إلا أن الصقع يقال في أصوات الأجسام الأرضية، والصعق فيما يكون من الجو والسماء وقال بعض أهل اللغة: الصاعقة

على ثلاثة أوجه، الموت: لقوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} والثاني: العذاب لقوله: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} والثالث نار تسقط من السماء لقوله {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} وهذا سوء تصور، لأن الصاعقة هي الصوت الشديد على ما تقدم، ثم قد يكون منه الموت تارة والعذاب تارة وتصحبه النار تارة، فإذا الموت، والنار والعذاب من يستفد من لفظ الصاعقة ويجب أن لا يلتبس علينا المعنى الذي وضع له اللفظ بالمعنى الذي يتبعه ويقتضيه، وليس بموضوع له بالقصد الأول، وهذا باب قد [يقع فيه السهو كثيراً على بعض ناقلي اللغة] وقد أحكم في غير هذا الكتاب، وقد بين الله تعالى في هذه الآية جهلهم بالباري وسؤالهم منه ما لا يصح سؤاله - تنبيهاً أن الجهل يرد بالإنسان أن يعتقد في الباري ما لا يصح عليه، ويرغب إليه بما لا يجوز أن يرغب به إليه وقد نبه على ذلك بأية أخرى تسكينا للنبي - عليه السلام - فيما سألوه جهلاً منهم بقوله - عز وجل - {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} الآية ..

(56)

قوله - عز وجل - {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الآية (56) - سورة البقرة. البعث إرسال المبعوث عن المكان الذي فيه، لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به، فقيل: بعثت البعير [من] مبركه، أي: أثرته، وبعثته في السير، أي: هيجته، وبعث الله الميت: أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال، وكل ذلك واحد في الحقيقة، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات، والموت حمل على المعروف وحمل أيضا على الأحوال الشاقة الجارية مجرى الموت، وليس يقتضي قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} انهم ماتوا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} لكن الآية تحتمل الأمرين، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المتعري عن الاحتمالات والكلام في {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قد تقدم، ونبه بالآية على أنه تعالى ينقذ من الشدائد عبده حالاً فحالاً تنبيهاً له من غفلته وإليه أشار بقوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} .. وقوله - عز وجل -: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآية (57) - سورة البقرة: الظل في الحقيقة عدم الصبح وسمي سواد الليل ظلاً لعدم الصبح فيه والظلة كالصفة، والمظلة آلة يطلب بها الظل، و " أظل فلان علينا حقيقته " ألقى ظله علينا لدنوه منها واستعير الظل للمكان الذي فيه النعمة تصوراً له في اليوم الصائف حتى قيل: فلان في ظل فلان، وقد أشار ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن [الغمام] ههنا فيض الباري - عز وجل - وتوفيقه وإحسانه، فقال: هذا الغمام

الذي يأتي الله فيه المذكور في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وهو الذي جاءت فيه الملائكة فيه يوم بدر وهذه إشارة منه عجيبة وأما المن: فمصدر من، أي أنعم وأصله من: مننت أي قطعت والمنة تتصور على وجهين، أحدهما: النعمة المقطوعة عن المنية، وعلى ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " وارغب لك رغبة من المال " أي اقطع، والثاني: السبب الذي يقطع الشكر ويحرمه، وهو المعنى بقوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} وبقولهم: المنة تهدم الصنيعة والسلوى أصله ما يسلى الإنسان، ومنه السلوان والتسلي، وقال مجاهد: المن صمغة، وقال قتادة، وهو مثل الثلج، وقال الربيع: شراب كالعسل، وقال السدي: هو الزنجبيل، وقالوا: السلوى: طائر كالسماني، وأما قول ابن عباس - رضي الله عنهما - المن الذي يسقط من السماء على الشجر فيأكله الناس، والسلوى طائر، فقد قال بعضهم: إن ابن عباس - رضي الله عنهما - أشار بذلك إلى ما يرزق الله بني آدم من النبات واللحوم وسائر الخيرات، ودل على ذلك بهذين المثالين، قال وعلى هذا قول غيره إنما هو مثالات .. وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} قد تقدم الكلام في الرزق، وأنه بالنظر الخاصي ليس يتناول الأعراض الدنيوية فقط، بل جميع ما خولنا ومكننا منه من النعم الثلاث النفسية والبدنية والخارجية ولم يرد بالطيب المستطاب بحاستي الذوق والشم، بل المستطاب من كل وجه محسوساً ومعقولاً وعاجلاً وآجلاً، والطيبات من الطعام هي المتناولة بحكم العقل والشرع من حيثما يسوغ تناوله في وقت ما يحتاج إليه [إلى تناوله وبقدر ما يحتاج] غير مسرف فيه ولا مشتغل به عما خلقنا لأجله ومتى تؤول على هذا الوجه يكون طيباً على الإطلاق وإلا فإن طاب من وجه خبث من وجه وعلى ذلك

قوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} وقوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وإذا عرف هذه الجملة علم أن من قال الطيبات اللذيذات نظر نظر حس، ومن قال الحلال والحرام نظر نظر معقول، وقوله: (وما ظلمونا) لما كان الله ذكر أفعالاً تجري مجرى معاملات بينه وبين العباد كمعاملة العباد بعضهم مع بعض، من نحو الاستقراض في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} والابتياع في نحو: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} ووصف نفسه بشكره لهم كشكرهم له ومحبته لهم كمحبتهم له ونصرته لهم كنصرتهم له، وموالاته لهم كموالاتهم له، وذكر مخادعته لهم كمخادعتهم له تعالى الله عن القبائح وسائر ذلك من الأفعال التي تجري بين المتكافئين بين تعالى أنه لا يعتقدن [به] معتقد أني إذا فعلت به فعلاً حسناً مما إذا فعله إنسان بآخر ولم يقابله بمثله كان ظلماً منه له أن يكون قد ظلمني في ذلك، ولكن قد ظلم نفسه وضيع حظه، إذ هو منزه أن يلحق نقيصة، إذ قيل: كيف يعلق قوله: (وما ظلمونا) بما تقدم قيل: معناه: قلنا لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} فخالفوا، وما ظلمونا بمخالفتهم، وفي الآية تحذير لنا من كفران النهم وتلقيها بالبطر، وأن ما تعامله به من إساءة وإحسان فعائد علينا منافعه ومضاره ..

(58)

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} الآية (58) - سورة البقرة. الدخول والولوج والتفحم والتوغل متقاربة، لكن الدخول عام، والولوج الدخول في مضيق والتفحم دخول في شدة، والتوغل في مشتبك شجر، وأوردت الإبل دخالاً إذا تداخلت في الورود وفلان دخيل في القوم، وفيه دخل كناية عن الفساد، ودخول في مغمرة بالكلام، والدخل طائر صغير سمي بذلك لدخوله. خلال الشجر الملتفة، والحجر الضيقة، والقرية من قريت الشيء جمعت، وقيل أصله قرية، والقرى مجمع الماء، فكل بقعة يجتمع فيها الماء والأبنية قيل قرية، والمقرى للحوض، والقرى للحوضن والمكيلة، و (حطة) فعلة من حططت وقرى نصباً ورفعاً، وبالنصب قيل هو مفعول بها نحو: قلت كلمة طيبة، وقيل هي في موضع سؤال أي: حط عنا ذنوبنا، نحو غفراً لنا، وبالرفع قيل هي حكاية، كأنه قيل: ما نسأله حطة، وقيل معناه هو مغلم تحطون فيه رحالكم، والغفر ستر بحائل ومنه المغفر للبيضة والغفارة لخرقة يغطي بها الرأس ولما تلف على سنة القوس، وغفر المريض " نكس كأنه غطى المرض على عقله أو على صحته، وغفر ذنبه استعارة في الأصل، كقولهم: " ليست عليه ذيلي، والخطايا على ضروب أحدها أن يريد غير ما يحسن إرادته ويفعله فهذا هو الخطأ التام [من كل وجه] المأخوذ به الإنسان والثاني أن يريد ما يجوز فعله، لكن وقع منه خلاف ما أراد فيقال:

أصاب في الإرادة، وأخطأ في الفعل، وهو المعنى بقوله: عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، وقوله: (من اجتهد فأخطأ فله أجر)، والثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه، فهذا مذموم لقصده وغير محمود على فعله، وجملة الأمر أنه يقال لمن أراد شيئاً فأنفق منه خلافه أنه أخطأ، وإذا وقع منه، كما أراده أنه اصاب الخطأ ويقال لمن - فعل فعلاً لا - حسن أو أراد إرادة لا - حسن أنه أخطأ ولهذا يقال - أصاب فأخطأ الصواب، وأصاب الصواب وأخطأ الخطأ، فإذا هذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معاني يجب لمن يتحرى الحقائق تأمله، فهي مشكلة جداً، وقال بعض أهل اللغة: يقال خطئ إذا أصاب ما أراده من الخطأ، وأخطأ إذا أراده ولم يصبه، والحسن سقال لما يألفه البصر أو تألفه البصيرة، وأحسن إذا فعل ما استحسنه أحد هذين، وقد تقدم أن الإحسان زائد على العدالة، لأن العادل هو الذ يفعل ما إذا أخل به تلحقه المذمة، والمحسن من زاد على ذلك، ولذلك قيل: " عدل الله كله إحسان " وورد في التفسير أنهم أمروا بدخول بيت المقدس من باب القبة منحنين، وقيل ساجدين، وأن يستغفروا، وذكر بعض المحققين أن الإشارة مع إرادة الظاهر بدخول القرية إلى الدخول تحت حجر الشريعة، وبالأكل إلى تحري ما يبلغهم إلى العيش الرغد. وبدخول الباب سجداً سلوك الاستقامة على التذلل والتخضع، وبقوله: (حطة) إلى الاستغفار قولاً وفعلاً طلباً الذنوب، وقال بعضهم: الإشارة به إلى التحقق بالعلم الذي أتاهم به موسى - عليه السلام - وتناولهم منه والتمسك به فهو الحلال الحلو الذي يتناول بلا خطر، إذ إن جميع المتناولات في

(59)

تناوله مزاحمة البعض بعض ومنع الغير على وجه آلاء العلم، فإنه يمكن لكل واحد أن يتناول كل جزء منه بلا منع منه للآخر، وأمر بسلوك طرقه على ما يجب، وذلك بأن لا يقدم ما يجب أن يؤخر أو يؤخر ما شأنه أن يقدم، وعلى ذلك قوله - عز وجل -: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، والإشارة بالقرية إلى العلم كإشارة النبي - عليه السلام بالمدينة إليه حيث قال: " أنا مدينةُ العلم وعليَّ بابها "، وهذان القولان يتقاربان، فإن العلم والعمل يتلازمان، وبهما يتم الإيمان، لكن الأول نظر إلى المنتهى الذي هو العمل، والثاني نظر إلى المبدأ الذي هو العلم، وبحسب هذه الآية قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} .. قوله - عز وجل -: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الآية (59) - سورة البقرة: التبديل والتغيير يتقاربان، لكن أكثر ما يقال التبديل في شيء يجعل مكان آخر، والتغيير في حالة للشيء تغير كالماء الحار إذا جعل بارداً، وقيل: الأبدال من الناس هم قوم يجعلهم الله مكان آخرين ممن هم [المعنيون من العالم] الذين بدلوا أحوالهم البهيمية بالأحوال الملكية حسب الطاقة، والرجز: الرجس والنجس يتقاربان معانيها بتقارب ألفاظها نحو: السراط والزراط، والبراق والبساق، وأصل ذلك لما يعافُ ذوقاً أو شماً أو عقلاً أو شرعاً، فالكريهُ بالعقل والشرع يعبر عنه بالخبيث والقذر ونحو ذلك، كما يعبر عن ضده بالطيب والنظيف، وعلى ذلك قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، وقوله

تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، فإن بعض ذلك كريه بالطبع، وبعض كريه بالشرع، وسمي العذاب رجزاً في قوله: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ}، ورجساً في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}، ومن قال: ليس الرجس النتن، فقد زصف الله الخمر بذلك، وهي طيبة الرائحة، وقد وصف الله تعالى [خمراً] في الجنة باللذة، [فإن هذا القائل] بعيد التصور للوهمات فضلاً عن المعقولات، وهذه الجملة إذا تصورت علم أن الكسائي لما قال: الرجس النتن، والرجز العذاب، والزجاج لما قال الرجس قد يجئ للعذاب كله قريب، وإنما اختلافهم لنظرهم إلى مواقع الكلمات لا إلى موضوعها في أنفسها، وكونها مستعارة من المحسوس للمعقول، وأما تبديلهم، فقد قيل إنه قيل لهم: قولوا حطة، فقالوا استهزاء حنطة، وقيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} فدخلوا مقعين على أستاهم، والإشارة بلذك في الجملة أنهم غيروا ما شرع لهم ولم يراعوا أمر الله تعالى، فأنزل الله بهم عليهم العذاب، وتخصيص قوله: {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} هو أن العذاب ضربان، ضرب قد يمكن على بعض دفاعه أو يظن أنه يمكن فيه ذلك، وهو كل عذاب على يد آدمي أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق، وضرب لا يمكن ولا يظن دفاعه بقوة آدمي كالطاعون والصاعقة والموت، والوحي وهو المعني بقوله {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} إن قيل: لم قال: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: (فأنزلنا عليهم) مع أنه كان أوجز؟ قيل: قصداً إلى

(60)

أن يبين أن إنزال الرجز كان لظلمهم لا للإبدال فقط، فإن الإبدال بعد الظلم، ثم بين بقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أن ذلك الظلم الذي تعاطوه كان فسقاً منهم، " والله الموفق " ... قوله - عز وجل -: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} الآية (60) - سورة البقرة. الاستسقاء طلب السقي أو الإسقاء، فالسقي أن يجعل له ماء يشربه، والإسقاء التعريض للماء، وجعله له ليتناوله منتى أراد، فهو أخص معنى من السقي، والسقي اسم مفعول نحو النقض والنكث، فيقال للماء سقي، وللأرض التي يجعل فيها الماء سقياً، والعصا اصله من الواو، بدلالة قولهم عصوته نحو هروته إذا ضربته بهما، وقيل عصيته بالسيف، وعصى فلان أصله أن يتناول العصا فيضرب بها، ثم كثر فعبر به عن الخارج من الطاعة، فصار العصا اسماً للطاعة حتى قيل: شق فلان العصا، ولما كانت عادة المسافر ملازمة العصا قيل: ألقى فلان عصاه إذا ترك السفر ... والانفجار والانبجاس، والانصداع والانشقاق يتقارب، لكن الانشقاق عام، والانصداع أكثر ما يقال في الأشياء الصلبة. والانفجار في الأشياء اللينة، ومنه " فجرة الوادي " للمكان الذي ينبعث منه الماء، واستعير للخروج عن خطر الشريعة لتصور الفاجر بصورة الماء المنفجر من الحوض، واستعير الانفجار والانصداع والانشقاق لظهور الفجر، وقولهم: فَجَرَ أي كَذَبَ، هو استعمال لفظ عام في موضع خاص، فإن الكذب بعض الفجور، إذ قد يكون الفجور قولاً وفعلاً، والانبجاس يقارب الانفجار، إلا أن الانبجاس لا يكون إلا واسعاً، والانفجار يستعمل في الضيق والواسع، فكلُّ انبجاسٍ: انفجار، وليس

كل انفجار انبجاساً، فإذا صح أن قيل ههنا: " انفجرت "، وفي غيرها: " انبجست " لأن العالم يستعمل أبداً مكان الخاص، والمشرب مكان الشرب، وسمي الشعر على الشفة العليا والعروق التي في باطن الخلق شارب لتصورهما بصورة الشاربين، واستعير الشرب والشبع لما يولج في المصبوغ، فقيل: ثوب مشرب ومشبع صبغاً، و " أشربت فلاناً كذا " مكنته في نفسه، وعلى ذلك {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} والعبث والعثي يتقاربان نحو " جذب " و " جبذ "، يقال: عثى عثا، وعثى يعثوا عثوا، وعاث يعيث عيثاً، إلا أن العيث أكثر ما يقال فيما يدرك حساًَ، والعثو فيما يدرك حكماً، فإن قيل: فما فائدة قوله {مُفْسِدِينَ}، والعثو ضرب من الإفساد، وقيل: قد قال بعض النحويين إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظاً مما يشبهه، وقال بعض المحققين، " إن العثو وإن اقتضى الفساد فليس بموضوع له، بل هو كالاعتداء، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد وهو مقابلة المعتدي بفعله، نحو: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وهذا الاعتداء ليس بإفساد، بل هو بالإضافة إلى ما قوبل به عدل، فلولا كونه جزاءًَ لكان إفساداً، فبين تعالى أن العثو المنهي عنه هو المقصود به الإفساد مكروه على الإطلاق، ولهذا قال: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، وقد يكون في صورة العثو، والتعدي ما هو صلاح وعدل على ما تقدم، وهذا ظاهر، والمروي في الخبر أنه كان مع موسى - عليه السلام حجرٌ إذا نزلوا منزلاً وضعه فضربه بالعصاة فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً لكل سبط عين، وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله في

تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات، فقد ترك النظر على طريقتهم، إذ قد تقرر عندهم أن حجر المعناطيس يجر الحديد، وأن الحجر المنقر للخل ينفره، والحجر الطلاق يحلق الشعر، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة، وإذا لم يكن مثل ذلك منكراً عندهم، ممتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض، وقال بعض الناس: " إن في الآية مع هذا المعنى الظاهر إشارة إلى معنى آخر دقيق، وهو أنه أريد بالعصا السياسة، وذلك يكثر في استعمالهم نحو قوله - عليه السلام: " لا ترفع عصاك عن أهلك " و " شق فلان العصا " إذا خرج عن السياسة المشروعة، وأريد بالحجر إسرائيل الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، وكان موسى - عليه السلام طلب لهم مداواة تعم جميعهم العالم والجاهل منهم " وعموم المطر للبقاع العامرة والغامرة، فأمره الله تعالى أن يسوسهم سياسة ظاهرة بالعلوم والأعمال التي هي حمل الإسلام والإيمان وهو اثنتا عشرة خصلة التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبرائيل [عليه السلام] ستة منها الإسلام، وهي: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة والزكاة، والصيام والحج، وستة منها وهي: " الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره "، وذلك أن هذه الأركان الاثنى عشر يتشارك في أصولها المكلفون وإن

اختلفت فروضهم في أحكامها وفروعها، وقيل أن " استسقاء موسى - عليه السلام - لقومه هو طلب علوم لهم تعمهم وتقلهم من حيث لا يحتاج فيه أحد إلى الاستعانة بالآخر، بل يجري مجرى المطر " العام للغني والفقير، فبين الله تعالى أن ذلك ليس من الحكمة، إذ قد جعل الدنيا على تفاوت بين بينها، ولذلك قال: {قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}، وأمره أن شرع لهم بالسنة الأسباط الأثنى عشر أنهاراً من العلوم يتناول كل فرقة على قدر منزلته واستحقاقه من مشربه، وقيل: إن موسى - عليه السلام - طلب لهم العلوم الموهبية وهي الحكمة الحقيقية التي نبه عليها الخضر حيث قال له موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، فبين الله تعالى له أن منزلة (بني إسرائيل) تقصر عن إدراك ذلك، وأمره أن يأخذهم بالعلوم والأعمال الظاهرة، وذلك هو الاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر التي قد بنيت عليها الشرائع كلها ولكل واحد من ذلك ثلاثة منازل منزلة الظالم والمقتصد والسابق، وهو العامة والجامة والخاصة، فالعامة تؤخذ منها بالقهر السلطاني، والجامة بالقهر العلمي والخاصة بالقهر اليقيني، فهذه اثنتا عشر خصلة من استكملها بلغ منزلة من وصفهم الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} ووصف به أصحاب الكهف في قوله تعال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}، الآية، وهذه الأقوال محققة في أنفسها وإن لم تكن مقصودة في الآية والله أعلم.

(61)

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} الآية: (61) - سورة البقرة. الصبر الحبس على المكروه، وذلك ضربان: أحدهما: حبس الغير، فيتعدى نحو: صبرت الدابة، وصبرت يمينه أي: حلفته بالله حلفة لا خروج لها منها، والثاني: حبس النفس، ولا يتعدى في اللفظ، وهو حبس النفس عما يقتضيه الهوى أو على ما يقتضيه " الهوى " والعقل، ويختلف مواقع الصبر، وربما خولف بين أسمائها بحسب اختلاف مواقعها فإن كان في مصيبة يقال له: صبر لا غير وضده الجزع وإن كان في محاربة سمي شجاعة، وضدها الجبن وإن كان في نائبة مضجرة، سمي " رحب الصدر " وضده " ضيق الصدر " والضجر والتبرم وإن كان في إمساك [النفس فضولات العكس، سمي قناعة وعفة وضدها الحرص والشره وإن كان في امساك] كلام في الضمير سمي كتماناً وضده الذل والإفشاء ثم الصبر ضربان: نفسي وبدني فالبدني: أكثر لأخساء الناس والنفسي: للأشراف ولذلك قال الشاعر: والصبر بالأرواح يعرف فضله ... صبر الملوك، وليس بالأجساد والطعام ما يغتذي به مأكولا كان أو مشروباً، وفي المشروب قالك {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} ورجل طاعم لمن يطعم، ويتجوز به لمن حسن حالة في المطعم، ويقال: قوس مطعمة ويعير مطعم ومطعمنا الباري لبرئته كل ذلك تصور أنها تطعم صاحبها، والواحد يقال على أوجه من حيث الجنس

فيقال: الإنسان والفرس واحد، أي من حيث الحيوانية، وواحد من حيث النوع، يقال زيد وعمرو واحد، أي من حيث الإنسانية واحد من حيث الشخص، وإن كان ذا أجزاء كثيرة، يقال: رجل واحد، وواحد من حيث الشرف، نحو قولهم: واحد دهره، وواحد من حيث العدد، وهو مبدأ العدد بمعنى أنه لو ارتفع ارتفعت الأعداد، [ولو ارتفعت الأعداد] لم يرتفع الواحد بها، فالواحد كيف ما أدرته وأجريته لم يزد فيه شيء ولم ينقص، فإنه يحفظ ذاته، ولذلك قيل: إن الواحدة في العدد أقرب الأشياء إلى معرفة وحدانية الله تعالى فإن قيل: كيف قال: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}، وكان لهم المن والسلوى؟ قيل: إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة، كقولك فلان يفعل فعلاً واحداً في كل يوم وإن كثرت أفعاله إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها، والدعاء أعم من النداء، فإن النداء يقال فيمن يكون بعيداً أو في حكم البعيد والدعاء فيه وفي القريب، وقوله: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} ذكر جواب الدعاء، ولم يذكر المطلوب في الأول لكونه معلوما كقولك: قل لفلان يعطني كذا، وتقديره: قل له أعطني يعطني، والنبت والنبات يقال لما ينبت الله ولمصدر نبت، وقد يقال ذلك لذوي الساق من الشجرة، وأنبت الغلام إذا راهق على طريق الاستعارة ولنبات عانته، والبقل مالا ينبت أصله ولا فرعه في الشتاء، وأبقل المكان: صار ذا بقل وتبقلت تناولته وبقل وجهه استعارة، والفوم: الزرع، وقيل: الحنطة خاصة، وقيل: الثوم، والثاء والفاء يبدل أحدهما من الأخرى نحوه جدث، وجدف، ومغافير، ومغاثير، وأدنى أي أوضع، ويعبر عن الوضيع بالدني، والخير يقال على ضربين: أحدهما الخير المطلق وهو الشيء النافع الحسن الملذ وضده الشر المطلق وهو الضار القبيح المؤلم، والثاني: الخير المفيد، وهو ما يحصل فيه أحد الأوصاف الثلاثة، فيصح أن يوصف بالخير مرة والشر مرة على نظرين مختلفين، نحو أن يقال المال خير والمال شر، ولأجل أن الخير المطلق هو ما جمع الأوصاف الثلاثة،

وهي غاية ما يتحرى ويطلب، قيل الخير: هو الذي يطلبه الكل، والشر هو الذي يهرب منه الكل، فإن ما جمع الحسن واللذة والنفع يرغب فيه الكل، وما جمع منه أضداده الثلاثة يهرب منه الكل، والمصر: اسم لكل بلد عظيم مجموع الأقطار والحدود، وهو في الأصل اسم للمصور أي المضموم بالحدود نحو النقص والنكث للمنقوص والمنكوث، وعبر عن الحد بالمصر في قول الشاعر: وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به .... بين النهار وبين الليل قد فصلا من حيث إن الحد معتبر فيه، ومصرت الناقة جمعت ضرعها بإصبعين للحلب، ولما كان خروج اللبن على ذلك قيل غير مصور لقليلة اللبن، و " فلان مصور " أي بخيل يعسر إخراج الشيء منه تشبيها بذلك، فمصر ههنا قيل هو البلد المعروف، ولذلك قيل هو في قراءة أبي - رضي الله تعالى عنه - بغير تنوين، وقيل: عنى به مصرا من الأمصار، والذلة تقال على وجهين، على الهون وقريء: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} والمسكنة: الفقر الذي يسكن الإنسان عن التصرف، ومعنى {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} أي ألزمت وأوجبت - تشبيها بضرب الخيمة على من فيها والإحاطة به، و " باؤا " أي احتملوا، وأصل ذلك من البوأ أي المساوية، فباء فلان بكذا تنبيه أنه تحمل مقدار ما يساوي وقوته، والمباءة: المنزل في المستوى، وذلك إذا لم يكن ذا عد، وبين الله تعالى في هذه الآية أنه لما اختار الله لهم ما يتبلغون به، أبوا إلا الميل إلي القاذورات وما فيه مراعاة القوة

(62)

البهيمية، والعناية بتربيتها فقال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أي أخس بما هو خير مطلق، ثم قال: {اهْبِطُوا مِصْرًا} وذلك على نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} فكأنه قيل: إن لم ترغبوا فيما اخترته لكم، وفيه خلاصكم، فشأنكم في قصد المكان الذي لا يعدم فيه ما ترمونه، وذكر ثلاثة أحوال كل واحدة كالمعلول للأخرى، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي حصلت لهم هذه العقوبة التي هي الذلة والمسكنة والغضب من أجل كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين، وحصل لهم الكفر، وقتل النبيين بالعصيان والاعتداء، وذلك أنه كما أن الخيرات صغارها سبب لتحري كبارها، كذلك الشرور صغارها سبب لارتكاب كبارها، فبين أنهم لما عصوا وتعدوا، أدى ذلك بهم إلى الكفر وقتل الأنبياء، وأدى ذلك بهم إلى أن ألزموا الذلة والمسكنة، وغضب الله عليهم، وفيها تنبيه لنا أن من طلب لنفسه غيره ما أثره الله له، فقد خرج من التوكل بل قد تعدى فقد قيل: (ومن لم يهتد بما يختاره الله له، لم يهتد بما يختاره لنفسه)، ولهذا قيل في الدعاء: " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأكلني كلاية الوليد في المهد ". قوله- عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية: (62) - سورة البقرة الهود: قبل التوبة، لقوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا، ومنه أخذ اليهود وقيل: أصل اليهود ويهدوا منقول عن السريانية، وهو أقرب وهاد فلان إذا تحرى طريقتهم في الدين، والاسم العلم قد يتصور منه [معنى] ما يتعاطاه المسمى به والمنسوب إليه ثم يشتق منه، نحو قولهم تفرعن فلان، إذا تحرى في فعله الجور الذي كان يتعاطاه فرعون، و " تطفل فلان " إذا فعل فعلا

طفيل في كونه وارثاً أو فاعلا في الدعوات، وقالوا: " لاط فلان وتلوط " إذا فعل فعل آل (قوم) لوط، وهذا أبعد من الأول، ولما كان دين اليهود قبل أن ينسخ دين حق قيل لمن تاب " هاد " حتى كثر ذلك، ولما تصور منه الحركة عند القراءة شبه بهم المتحرك طورا والماشي مشيا مخصوصا طورا، فقيل: تهود فلان في مشية " و " هود الرابض الدابة " إذا سيرها برفق وأما النصارى، فقد قيل: هو مما حكي عن المسيح {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} والأقرب ما قال بعضهم إن المسيح كان من قربة يقال لها نصران، فإما أن سموا باسمها، ثم جمعته العرب على نصارى نحو: " سكران " و " سكآرى " أو جعلوا منسوبين إليها ثم جمعت نحو: " مهرى " و " مهارى " و " الصائبون "، قيل: قوم كانوا على دين نوح، وذلك كان من أديان الحق قبل النسخ، وقولهم: " صبأ فلان " إذا اخرج من دينه إلى دين آخر يجوز أن يكون أصله فيمن كان يخرج إلى دينهم ثم صار يستعمل في كل دين كقولهم ألها لكي في أن أصله لحداد مخصوص، ثم صار يستعمل في كل حداد، ويكون أن يكون " صباعربيا " طابق ذلك، و " صباناب البعير " طلع، ومن قرأ: " صابئين " فقد قيل هو من: صبا يصبو، وقيل: أصله " صبا "، فترك همزه، والأجر والجزاء والثواب يتقارب، لكن الأكثر في الجزاء أن يستعمل في المعاملة بين الأكفاء أو فيما يجري مجراه بضرب من التلطف والأجر فيما يعطى الرفيع من دونه والثواب فيما يرجع إلى الإنسان من نفع عن فعله، وقد تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين: أحدهما: الإقرار بالشهادتين الذي يؤمن نفس " الإنسان " وماله عن الإباحة إلا بحق، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به، كالإسلام، والثاني: تحري اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} عنى به المتدين بدين محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} عنى به المتحري

للاعتقاد اليقيني، فهو غير الأول ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع، بين الله تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه، وقبل أن ينسخ عنه، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقيني، واتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وبين صحة ذلك ما روي أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لما ذكر له خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قصده وآمن به، وذكر حسن أحوال رهبان صحبهم، قال النبي - عليه السلام: " ما تواوهم في النار "، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم قال عليه السلام: " من مات على دين عيسى قبل أن يسمع بي، فهو على خير ومن سمع بي ولم يؤمن بي فقد هلك " وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسعيد - رضي الله عنه - " إن هذا منسوخ بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام، وأن الله - عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي - عليه السلام -، فأما في وقته، فالأديان كلها منسوخة بدينه ....

(63)

قوله - عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآمة: (63) - سورة البقرة ". الميثاق: عقد مؤكد بمين أو عهد، يقال: أوثقت كذا ووثقته ووثق به ثقة، ثم قيل: رجل ثقة، وقوم ثقة، فاستعير لفظها للموثوق به، والميثاق الذي أخذ منهم ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، وفي قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الآية، والطور: قيل هو اسم لجبل مخصوص وقيل: هو اسم لكل جبل ينبت شيئا، وطابق لفظه الطور أي الفناء و " طار يطور " لسرعة المشي، كما أن طار يطير للسباحة في الهواء، والقوة يستعمل تارة بمعنى القدرة، وتارة للتهيؤ الموجود في الشيء، نحو أن يقال: النوى بالقوة " نخلة "، أي متهيأ ومترشحآ أن يكون منه ذلك، ويستعمل القوة في البدن تارة، وهو الأظهر، وتارة في النفس، ولما كانت القوة للشدة الموجودة في الشيء سميت المفازة قوى - تصورا منها ذلك، ثم قيل: أقوى فلان، إذا صار في قوى، أي قفر، وتصور من حال الفقر الفقر، فاستعير الأقوى للافتقار استعارة قولهم أترب وأرمل، لذلك، فقوله: (خذوا ما آتيناكم بقوة) أي: تعاطوا ما فيه بعلم ودراية فالعلم هو الذي يقوي الإنسان ويبلغه المقصود في أمور الدين، وقال الضحاك: (بقوة): أي بطاعة الله، وذلك لما روى " أقوى الناس من أطاع الله واتقاه "، وقيل: " بقوة، أي بعمل ما فيه، وذلك صحيح بنظر فإن تعاطي كل جزء من العمل الصالح يقوي الإنسان على ما فوقه، وقد تقدم أن الذكر ذكران ذكر باللسان، وذكر بالقلب وأنه يتجوز به في الحفظ والمراعاة، فيقال: اذكر كذا، كما يقال في الترك: النسيان، وذاك أن الذكر سبب

(64)

لحفظ صورة الشيء في النفس، كما أن النسيان والترك سبب لانحداقها عنها، فمن قال: الذكر والنسيان ليسا من فعل الإنسان، فإنما نظر إلى الغاية التي هي السبب دون المبدأ الذي هو السبب ومن قال " قد يكون من فعل الإنسان، فإنما اعتبر السبب الذي عنده يحصل ويثبت صورة الشيء في النفس، وعنده ينحذف، ومعنى الآية: قلت إن موسى - عليه السلام - لما أتى بني إسرائيل بالتوراة متضمنة لأحكام شريعتهم، أبوا أن يلزموها، فأمر الله الملائكة أن ترفع الطور، فقيل لهم: خذوها وإلا طرح عليكم، وذلك قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} الآية إن قيل: إن هذا يكون إلجاء، ولا يستحق به الثواب، قيل: لم يستحقوا الثواب بالالتزام، وإنما استحقوا بالعمل بها من بعد، فأما في التزامها فمضطرون، وقال بعض الناس: " عني برفع الطور تشديد الأمر عليهم وجعل ذلك مثلا "، وذلك بعيد، وقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}، الواو فيه للحال لا للعطف، لأن أخذ الوثاق كان بعد رفع الطور، وذلك نحو قول الشاعر: قالت ولم تقصد لقيل الخنا .... مهلا فقد أبلغت إسماعي قوله- عز وجل: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الآية: (64) سورة البقرة. التولي: التفعل من الولاية في الأصل، ويقتضي تولى الأمر حصوله في أقرب المواضع منه، وإذا قيل: تولى عنه، فمعناه ترك التولي معرضا، فالتولي عن الشيء أخص من الإعراض، والافضال والإحسان والإنعام لا يكاد يفرق بينهما في التعارف سيما إذا وصف به الباري سبحانه وإن كان قد

يخلف في أصل الموضوع، ومن حيث الاشتقاق فالإفضال بذل مالا يجب عليه، أو ترك ما يجب له وذلك من الفضل وهو الزائد على العدل، والإحسان. الفعل الحسن سواء كان واجبا وعدلاً أو نافلة وزائدا على العدل وأن كان في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية ما يقتضي ما يزيد على العدل والإنعام يقتضي ما يتنعم به المنعم عليه، ولا يكاد يقال في التعارف يقال فيما يقتنيه الإنسان في نفسه هذه، وفيما يعطي غيره تارة، فيقال فيهما: فلان ذو فضل، والثاني هو المراد ههنا، وقول أبي العالية والربيع: " إن فضل الله الإسلام "، ورحمته " القرآن "، فذلك بعض ما يقتضيه عموم اللفظ، ولكن في قولهما تنميه، إن هذا خطاب لمن كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - دون المتقدمين، والخاسر المطلق في القرآن هو الذي خسر أعظم ما يقتني، وذلك [نعيم] الأبد، وهو المذكور في قوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، إن قيد: إن ذلك يقتضي أن لا فضل له تعالى على الذين خسروا [أنفسهم]، قيل: تخصيص من انتفع بذلك من حيث إنه قبله لا يقتضي إن لم يعرض فضله لغيره فإن فضله تعالى الديني معرض لكل أحد، لكن حق الإنسان أن يترشح بقبوله والانتفاع به، فمثله كمثل نعمته بالشمس والصوب اللذين وإن كانا عامين لا ينتفع بهما من زرعه من لم يرشحها للانتفاع بهما، كذلك فضله الديني والعقلي لا ينتفع به من لم يرشح نفسه بقبوله ..

(65)

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} الآية: (65) سورة البقرة العلم ههنا بمعنى المعرفة ويتعدى ذلك إلي مفعول واحدة وحقيقة ذلك أن معارفنا ضربان. أحدهما: حصول صور الموجودات في النفس وذلك كالمعرفة بذات الشيء، والثاني: الحكم بوجود شيء لشيء هو موجد له، أو الحكم بنفي شيء عن شيء هو منتف عنه، فالأول: يقال له معرفة وعلم، ويتعدى إلى مفعول واحد، وعلى ذلك قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}، وقوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} والثاني: يقال له علم، ولا يقال له معرفة، ويتعدى إلى مفعولين لا يصح الاقتصار فيه على أحدهما من حيث إن ذلك يقتضي إثبات حكم أو نفي حكم لمعلوم، والاعتداء مجاوزة الحق على وجه محظور قال الحسن: كان اعتداؤهم في السبت أخذهم الحيتان على جهة الاستحلال وقيل: حبسهم إياها في الشباك يوم السبت ليأخذوها يوم الأحد، والسبت في الأصل راحة بعد تعب، واستعمل في الشعر إذا حلق لهذا المعنى، وفي الجلد إذا أزيل عنه الشعر تشبيها به، وقيل للنعل " سبت "، أي مسبوت نحو نقض، ونكث، والسبات للنوم من ذلك، والسبت قيل جعل اسما للنوم من ذلك، وخسأت الكلب فخسأ، زجرته فانزجر وخسأ البصر من ذلك أي انقبض، وقوله {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي جعلناهم، فذكر القول ههنا تنبيها على سرعة جعله كذلك نحو قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ}، أي جعلنا له وبيان جعله الإنسان قردة وخنازير يحتاج فيه إلى مقدمة وهي أن الإنسان أتم ما أوجده الله تعالى في هذا العالم وأشرف، فإن الأعيان المبصرات بالقول المجمل أربعة، الجماد [وهو الجسم غير النامي]، ثم النبات وهو الجسم النامي، ثم الحيوان، وهو النامي

الحساس، ثم الإنسان وهو الحساس المروي، فللإنسان صورتان، مهما باين ما سواه إحداهما مدركة بالحاسة، وهو الشكل المخصوص، والثانية مدركة بالعقل، وهو ما خص به من قوة الفكر والتمييز والعقل، فالإنسان بهذه القوة يشابه الملائكة وبقوته الشهوية والعضبية يشابه البهائم، فصار واسطة بين القبيلين، وفيه تكمن من التشبيه بالقلبيلين، أما تشبيهه بالملائكة، فبإماتامة قوته الشهوية بقدر الطاقة وتربية قوته الفكرية وتعاطيه ما وصف الله به الملائكة في قوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وأما تبيهه بالبهائم، فبإماماتق قوته الفكرية وتربية قوته الغضبية والشهوية وتعاطيه ما وصف الله به الكفار، فقال: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} وقال: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، فإذا ثبت ذلك، فمن اعتبر الصورة المعقولة قال: هذا مثل ضربه الله لهم كقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، وقوى ذلك بقوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وإليه ذهب مجاهد ومن اعتبر الصورة الشكلية قال: جعلهم على شكل القردة والخنازير كذا روى عن ابن عباس - - رضي الله تعالى عنهما - والحكمة تقتضي الأمرين إدا تحرى بذلك ردع الكافة، فإن تغيير الصور المعقوبلة لا يعرفه إلا الخاصة هن أولي البصائر والعقول الراجحة وتغيير الصور الحساسة يشاركهم فيها العامة وأصحاب الحواس والدين لايرتدعون إلاً بما تدركه حواسهم فتبهرهم وغيرهم.

(61)

قوله - عز وجل: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} الآية: (61) سورة البقرة. النكال: العقوبة الرادعة على سبيل القهر والفضيحة المشهورة، وهو منقول عن نكل فلان عن كذا أي ارتدع، ومنه النكل للقيد ولحديدة اللجام ولكل ما ينكل به، والوعظ ردع بالعبارة والإحالة على الاعتبار، وقوله: (لما بين يديها) أي لما في زمانها، (وما خلفها) أي لن بعدها، ولما كانت عامة السياسات ضربين، قهرية وهي للعامة وذلك بالنكال ووعظية، وهي للخاصة وذلك بالقال ذكر الله تعالى أنه جمع في دلك الأمرين نكالاً لعامتهم وموعظة لخاصتهم وهم المتقون، فإن قيلت لم قال (لما بين يديها) ولم يقل لمن بين يديها؟ قيل في ذلك تنبيه على لطيفة وهي أن لفظة (ما) يعبر بها عن الأجناس من الحيوان وغيره ومن لا يعبر به مفرداً إلاً عن العقلاء، ولما قال في الجهلة {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} استعير لهم لفظ ما تنبيها على ما ذكرنا، وعلى دلك كثير مما وضع ما وضع من في كلامهم، وبكشف ذلك قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، فجعلهم شر الدواب كما جعلهم في الأولى أضل من الأنعام، وبهذا المعنى ألمَّ بعض المحدثين في قوله: حولي بكل مكان منهم خلق .... تخطي إذا جئت في استفهامهم بمن وقال بعض الأدباء قوله: (وما خلفها) نصب وملفوف على الهاء في قوله: فجعلناها أي جعلنا هذه العقوبة وهو المسح وما خلفها من عذاب النار عقوبة (لما بين يديها) أي لذنوبهم المتقدمة [والله أعلم].

(67)

قوله - عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الآية: (67) سورة البقرة. قد فرق العرب بين كثير من ذكور مشاهير الحيوان وإناثها في الأسماء فقالوا: رجل وامرأة وجمل وناقة وثور وبقره وعير وأتان، وجعلوا في عامة ذلك اسما يجمعها كالإنسان والبعير والحمار وربما جمعوها تحت أحد اسمي الذكر والأنثى كقولهم البقر والضبع وقيل: سمي البقر لأنه يبقر الأرض، أي يشقها، والأقرب أن يكون البقر أصلاً في الباب، ثم اشتق منه هذه الأفعال بحسب تصورها منه، فلما عرف من البقر هذا الفعل اشتق من لفظه بقر، وشبه به بقر فلان بطن فلان، وتصور انفعال من البقر ما فيه من البلادة، فاشتق منه بقر فلان إذا تبلد في الأمر تبلد البقر وتصور منه أسرار مضطرب، فقيل بقر إذا أسرع إسراعه، وقيل لجماعة البقر بقرنحو الحمير والكلاب، وقيل الباقر للبقر وأصحابها وعلى ذلك الخامل، وذلك كقولهم لابن وتامر في أنه اسم للبن وصاحبه لكن الباقر يستعمل لجماعة البقر منفردا، نحو قول الشاعر: وما ذنبه أن عافت الماء باقره والعوذ: الالتجاء إلى الغير والتعلق به، وعوذه إذا أرقاه منه، والعوذة اسم لما يعاذبه من الشر، وقيل: أطيب اللحم عوذه أي ما عاذ بالعظم وتمسك به، والجهل عدم العلم، وربما جعله أهل اللغة وبعض المتكلمين معنى مقتضيا للأفعال الخارجة على النظام، وعلى ذلك قالت العرب المجهلة للأمر

أو للأرض أو الخصلة التي تحمل الإنسان على الاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو به، أو على إيقاع الفعل على غير ما يجب، وقالوا: استجهلت الريح الغصن إذا حركته حركة شديدة، ويجب أن يعلم أن الجهل ضربان: أحدهما افتقاد العلم، والثاني تصور الشيء بخلاف ما هو عليه، وهو أعظم الجهلين، ولما لم يسم كثير من المتكلمين الضرب الأول جهلاً حدوا الجهل بأنه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به، لكن لا كان افتقاد العقل يقال له جهل حتى يقال عاقل وجاهل، كما يقال عالم وجاهل صار عدم العلم مسمى بالجهل، والهزؤ مرح مع عيب وأما السخرية، فمعه تسخير بالفعل، ولهذا قال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} وهو أن يجعله منقادا لك بضرب من الهزو، ولما قال موسى لهم: اذبحوا بقرة، واستطرقوا هذا الحديث، فقالوا لغباوتهم وقلة تثبتهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}، فأجابهم بجواب مختصر متضمن لمقدمتين ونتيجة، فقال، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فكأنه قال: الهازئ جاهل، والجهل منتف عنى فإذا لست بهازئ، وأخرج ذلك بقوله: أعوذ بالله مخرج منكر منقطع لما رمى به، فإن قيل كيف جعل الهازئ جاهلاً وقد يهزأ الإنسان وليس بجاهل؟ قيل: لما كان يقال لمن اعتقد قي الشيء خلاف ما هو به جاهل، ولمن فعل مالا يقتضيه العلم وإن لم يعتقد فيه خلاف ما هو به جاهل، والهازئ إما أن يهزأ، لاعتقاده أن ذلك يجوز أو لا يعتقد ذلك، ولكن يفعل مالا يقتضيه العلم، فيصح من هذا الوجه أن يقال هو جاهل، فإذا كل هازئ جاهل على أحد هذيان الوجهين.

(68)

قوله - عز وجل: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} الآية (68) من سورة البقرة. التبيين كالتعريف، إلا أن التبيين يقتضي إظهار الفضل بين الشيء وغيره، والتعريف قد يكون إظهار الشيء في نفسه من دون اعتبار بغيره واشتقاق ذلك من البين وهو المسافة بين الشيئين، وأصل الفرض قطع الحديد وهو أبلغ من الفرض، والمفراض والمقراض ما يقطع به الحديد، ونحوه وفرض الزند والقوس مستعار من ذلك وكذا فرضه الماء [للمقسم المحكوم به] وقيل لما أوجب وقطاع به الحكم فرض كفرض العبادة وما ألزم إعطاؤه من المال، وسمي ما يؤخذ في الصدقة من [الإبل والبقر والغنم] فريضته، والفارض من البقر يجوز أن يكون من هذا، لأن السائغ في الصدقة من سن البقر اثنان، التبيع والمسنة فالتبيع يجوز في حال دون حال والمسنة يصح بدلها في كل حال، فيجوز أن يكون سمى فارضا لهذا، وقيل فرضت البقر، وفرضت والبكر المتقدم على أمثاله في السن وبه سمي البكر، وأول نكاح وأول مولود وأول والد ووالدة، وقيل في البعير بكر، وفي الفواكه باكورة وبكل فلان في الحاجة إذا تعجل، وعلى ذلك قوله: بكرت تلومك بعد وهن في الندى والعوان: الوسط بين السنين وهو المحمود لأنه بين الحالين وقد تجعل كناية عن المسنة بين

(69)

النساء، فتذم به المرأة كما قال: وإن آتوك فقالوا إنها نصف ..... فإن أمثل نصفيها الذي ذهبا وقيل: حرب عوان تشبيهاً بالمرأة، واستعارة منها كاستعارة القناة والشمطاء وغير ذلك من الأسماء، وقوله: {لَا فَارِضٌ} أي غير فارض، وهو وصف أو خبر ابتداء مضمر، كذلك عوان، لكن الأجود في عوان أن يجعل خبر ابتداء مضمر، فقد كثر عن الفراء الابتداء به وذلك قصد منهم أن يكون خارجاً عن النفي في اللفظ كما هو خارج عنه في المعنى، وجاز أن يقال " بين ذلك "، وإن كان بين ذلك تضاف إلى شيئين لما كان ذلك عبارة عن الفارض والبكر في قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} زجر لهم عن المراجعة وتطلب العناد وتنبيه أن مراجعتهم تشدد الأمر عليهم وذلك كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له في الحج: العامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد ثم قال: (إئما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم على أنبيائهم) .. قوله- عز وجل: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} الآية (69) سورة البقرة. الصفرة لون مخصوص وعبر عن ذلك السواد بالصفرة، كما عبر عن الخضرة بالسواد، وذلك لكون الصفرة والخضرة سالكين إلي السواد، وقال الحسن. الصفراء هنا سوداء، لكن استبعد ذلك لقوله: فاقع، والسواد يقال فيه حالك لا فاقع، ولفظة الصفر يتصرف على وجهين، ومنه قيل للنحاس صفر وليبيس البهمى صفار، والثاني: حكاية صوت وهو الصفر، وعنه قيل: صفر الإناء إذا خلا حتى

يسمع منه صفير لخلوه، ثم صار متعارفاً في الخالي، وقيل لخلو الجوف صفر وسعت العرب الصفر الذي هو الخلو حية الجوف من حيث انه يتألم به الجوف، وذلك أن العرق الممتد من الكبد إلى المعدة إذا لم يجد غذاء امتص أجزاء المعدة، فاعتقدت جهلة العرب أن ذلك حية في البطن تعض الشراسف، حتى نفى النبي- عليه السلام- ذلك بقوله: (لا صَفر)، والسرور مستبطن في الصدر، وأصله من السرو، والسرور والحبور والفرح والجذل والمرح يتقارب، لكن السرور هو الخالص المتكتم، وسمي بذلك اعتبارا بالأسرار، والحبور ما يرى خبره أي أثره في ظاهر البشرة، وهما يستعملان في المحمود، وأما الفرح، فما يورث أشرا وبطراً، ولذلك كثيراً ما يذم فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، وقال: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، والجذل بطر معه تزعزع، ولذللت قيل: " فرس جذل وجذلان "، أي نشيط، والمرح هو النشاط المفرط، فكأن السرور والحبور أكثر ما يكونان عن القوة الفكرية والفرح والجذل والمرح عن القوة الشهرية، ومن قال: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي تعجب، فعلى التوسع من حيث إن الإعجاب بالشر والسرور به كثيرا ما يجتمعان.

(70)

قوله عز وجل: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} الآية (70) سورة البقرة. إن قيل: لم قال: ما هي؟ ولم يقل أي بقرة هي؟ أو كيف هي؟ وما يسأل به عن الأجناس، والأنواع، وإنما يسأل عن الأعراض بكيف وبأي؟ قيلت إنما قد يسأل به عن كل ذلك، فيقال: ما هذا الإنسان؟، أي ما حاله وما صفته، كما يقال كيف هذا الإنسان وأي إنسان هو؟ وكيف وأي لا يسأل بهما عن الأجناس والأنواع، والفصل بين ذلك أن لفظ ما من لفظة أي وكيف يجري مجرى الجنس من الأنواع، فكما يصح أن نعبر عن النوع بالجنس، فيقال للإنسان هو حيوان، ولا يصح أبو يعبر عن الجنس بالنوع، فيقال لكل حيوان إنسان، كذلك يصح أن يعبر عن أي وكيف بما، ولا يصح أن يعبر لكن كل ما فيه ما بأي وكيف، وقرئ " تشابة " على لفظ الماضي، فجعل لفظ البقر مذكراً، وتشابه بالتخفيف على تقدير تتشابه، فحذف إحدى ألتاءين وقرى " تشَّابة " بتشديد الشين على إدغام التاء في الشين، وقرئ " يشابه " بالتشديد على الإدغام والتذكير والاشتباه أن يشبه البعض البعض، فيصعب التمييز بينهما، وروى أنهم لما قرنوا بالمراجعة الأخيرة قولهما: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} وفقهم الله لمعرفة ما سالوا عنه ولترك التعنت، وقال النبي- عليه السلام- " والذي نفس محمد بيده لو لم يستثنوا ما بينتْ لهم أخر الأبد "، وفي ذلك حث، حيث قال الله تعالى لعباده على استجلأب توفيقه وضم لفظ المثنوية أي: مشيئة الله إلى كل ما يذكر من مستقبل الأمر كما قال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}

(71)

قوله - عز وجل -: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} الآية (71) سورة البقرة. الإثارة. البحث والكشف الشديدة ومنه ثار الدخان والغبار والقطاعن محثمها، والدم في وجه الإنسان والحصبة في البدن، وتورث الأمر، وقوله: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} صفة لقوله: ذلول، لأنه يراد نفي الإثارة عنها لا إثباتها لها، والحرث تذليل الأرض وتسهيلها للزراعة، ثم يتجوز به في الزراعة، ويكنى به عن النكاح وعن جميع المال، ويقال: دابة محروثة أي مذللة، والمحراث لما يحرث الزرع والنار، والمسلمة المتروكة سليمة من العاهات، وأصل ذلك من السلامة، والتسليم أصله بذل السلامة، وجعل في التعارف لبذل المقاله المخصوصة لما كان ذلك في الأصل موضوعاً لبذل السلامة، ولما كان قوله السلام مقتضية لذلك، قال عليه السلام: " أفشوا السلام بينكم تدخلوا جنة ربكم " ولم يرد بذلك المقال دون الفعال وإن كان ظاهره المقال، ولهذا ضمن به الجنة، وقوله: {لَا شِيَةَ فِيهَا} أي، لا أثر بها يخالف معظم لونها، وهي فعلة من الوشى، واستعمل الوشى في الكلام بالمنسوج وحض التقول على سبيل النميمة بالوشاية والمجئ والإتيان يتقاربان، لكن المجئ كأنه يقال باعتبار الحصول والإتيان باعتبار القصد، ولذلك قيل للماء المجتمع حية، وللسيل القاصد أتى، وقوله: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} لا يتضمن أن ما جئت به من قبل كان باطلاً، وإنما أرادوا الآن جئت بما تحققنا المال مناً، وليس كما قال بعض الناس إن القوم كفروا بذلك، لأن كلامهم تضمن أن موسى لم يكن يأتي بالحق قبله، والنفي في قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وإن دخل في لفظ " كاد "، فهو متناول لقوله يفعلون نحو: ما كان زيد

(72)

يخرج، وتقدير ذلك كادوا يفعلون لتعذر ذلك عليهم وكثرة مراجعتهم، وقيل: (كادوا لا يفعلون) خشية الفضيحة. وأما أنهم بكم اشتروا البقرة، وممن اشتروها فليس مما يفتقر إليه تفسير الآية وقال بعض الناس: في هذه الآية دلالة على فسخ الشيء قبل فعله، فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة، وكان لهم أن يذبحوا أي بقرة شاؤوا، وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة، فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل وليس الأمر كذلك، فإن الأول أمر مطلق، والثاني والثالث كالبيان له لما راجعوه ولم يسقط عنهم ذبح البقرة، بل ريد في أوصافها، وكشف عن المراد بالأمر الأول، وفي الآية دلالة على جواز تأخير بيان المجمل إلى وقت الحاجة .. قوله- عز وجل: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.الآية (72، 73) سورة البقرة. ادارأتم أي تدافعتم، وأصل الدرء الاعوجاج، فالتدارؤ أن يعوج كل على الآخر بمخالفته له، وقال الخليل: كوكب دري، فقيل من الدرء أي تدافع الضوء، ودرأت عنه الحد منه، ووزن " ادارأتم " من الفعل تفاعلتم، أصله تدارأتم، فأريد الإدغام تخفيفاً، فأبدل من التاء دالا فسكن للإدغام، واجتلب لها ألف الوصل، فحصل على اتفاعلتم، وقال بعض الأدباء: ادارأتم افتعلتم، وكلما فيه من أوجه ... أولاً: أن ادارأتم. على ثمانية أحرفا وافتعلتم على سبعة أحرف، وثانياً: أن الذي يلي ألف الوصل تا، فجعلها دالاً، وثالثاً: أن ألذي يلي الثاني دال، فجعلها تاء، ورابعاً: أن الفعل الصحيح العين لا يكون ما بعد تاء الافتعال منه إلا متحركاً، وقد جعله ههنا ساكناً وخامسأ: أن ههنا قل دخل بين التاء والدال زائد، وفي افتعلتم لا يدخل دلك، وسادساً: أنه أنزل الألف منزل العين وليست بعين، وسابعا: أن تاء افتعل قبله حرفان وبعده حرفان، وادارأ بعد التاء ثلاثة أحرفا وثامناً أن عين أفتعل في المستقبل مكسور، وبين " ادرأتم " في المستقبل مفتوح، وفي قوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}

اعتراض متضمن لتمرد، وتنبيه أنه تعالى لا يخفى عليه خافية، وأن كل من عمل خيراً أو شراً، فإن الله تعالى لا يظهره على بعض الوجوه، وعلى ذلك روى " ما عمل عبد حسنة في تسع آبيات إلا أظهره الله تعالى، لقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ونظم هذه الآيات مشكل، فقد كان في الظاهر يقتضي أن يكون قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} متقدماً على قوله: (! از قال موسى لقومه ... )، لأن أمر موسى- عليه السلام- بذبح البقرة بعد التدارؤ، وفي قتل النفس والظاهر أن ذبح البقرة قد كان من قبل، وبيان ذلك أنه قد قيل قولان: أحدهما: أن موسي- عليه السلام- قد أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة قبل الحادثة، فلذلك تعجبوا وقالوا: أتتخذنا هزواً، فلما ذبحوا البقرة اتفق حصول القتال، فقال موسى لا راجعوه: " اضربوه ببعضها "، وقيل: بل كان الأمر بذبح البقرة بعد وقوع التشاجر، وعلى هذا قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} ليس بمعطوف على قوله: (وإذ قال موسى لقومه)، بل هو في موضع الحال له، كأنه قيل: (واذكروا إذ قال موسى لقومه .. ) الآية .. وذلك إذ قتلتم نفسا [فادارأتم فيها] أو إذ قتلتم نفسه كان ذلك، لكن اختصر، وفي قوله {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} اختصار، كأنه قيل " ليحى محي، وأنا بأي عضو ضرب، فقد قال مجاهد: بفخذها، وقال السدى: بمضغة من لحمها، وقال الفراء: بذنبها، وقال وهب: بأصغريها قلبها ولسانها، فظاهر الآية لا يقتضي تخصيص عضو، (من عضو) وقوله: {يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}، قيل: هو حكاية عن قول موسى-[عليه السلام]- لقومه، وقيل: بل هو خطاب من الله تلالي لهذه الأمة تنبيهاً على الاعتبار بإحيائه الموتى، وقد استبعد بعض الناس ذلك وماحكاه الله منه، وأنكر حصول ذلك الفعل على الحقيقة، وقال ذلك ممتنع من فعل الطبيعة، [وأيضا فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة الشهية فأما

استبعاده ذلك من حيث الطبيعة]، فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير، ومن كان ذلك طريقته، فلا خوض معه في تفسير القرآن، وأما الحكمة فيه فظاهرة، إذ هو من المعجزات المحسوسات الباهرة للعقول، وتخصيص البقرة، فإن كثيرا من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه، ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلا توفر المأمور بذلك على طلبها واستيجاب الثواب في بذل ثمنها وجلب نفع إلى صاحبها لكان في ذلك حكمة عظيمة، وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد، يجوز أن ينسب الفعل إليهم وإن كان واقعاً من بعضهم، ولا يكون ذلك كذباً، كما أن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها، وذكر بعض الصوفية أن الله تعالى قصد بما ذكره لبني إسرائيل وإشارة إلى معنى لطيف، فإن في الأمر بذبح البقرة أمرا بتذليل. القوة الشهرية، ولما لم ينتبهوا لمراد هـ، قالوا أتتخذنا هزواً. وبين قوله {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} أن حق الإنسان أن يتحرى في إماتة شهوته وقت ما يزول عنه شره صباه، فلا يكون كبكر، ولم يلحقه حسوا لكبر، فيكون كفارض، ثم نبه بما ذكره من اللون أنه لا يحب أن يمنع النفس من إماتة شهوته كونها رائقة المنظر، بل يجب أن يميتها أعجب ما تكون إليه، ثم نبه بقوله: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} أن النفس التي تحمل على تذليلها في العبادة هي النفس التي لم تستعبدها الدنيا ولم تتأثر بدنسها، ولم تتوسم بمقابحها، وطاهر الآية لا يقتضي ذلك، لكن مثله إذا حكى، فتصحيحه مفوض إلى فكرة قارئه ومتأملة، والله أعلم ..

(74)

قوله - عز وجل -: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية: (74) سورة البقرة. قساً وحساً وعساًَ تتقارب معانيها- تقارب ألفاظها، فالقساوة تقال في الصلب الذي لا تخلخل فيه كالحجر ونحوه، وقيل: قلب قاس تشبيهاً به، وعسا إذا كان هدى معه عصيان فهو يقارب عصى، وحساً يقال فيما يتصلب، والصلابة تقال فيما في جوهره شدة، وأما الشدة فتقال فيما تعتبر فيه انضمام الأجزاء بعضها إلى بعض، ومنه قيل: شددته، وشد الشر الشيء واشتد، وقيل للعد والشد، كما يقال فيه القابض والتقريب والشدة تارة تقال في القوة الجسمية، وتارة في القوة النفسية، وقولهم: " بلغ فلأن أشده "، أي حاله استمر مرير نفسه وجسمه، والنهر يقال لمسيل الماء الواسع، وللماء جميعا ولتصور السعة. فيه يقال منه أنهرت فتقه، أي أوسعته، والنهار خص به السعة فيما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وألشق أن يجعل الشك شقين، وقيل للأخوين شقيقان، وللخلاف الشقاق، إذ هو ضد الائتلاف، والشقيقة في الداء تشبيهاً بذلك، ولهذا قيل له الصداع والخشية خوف عن تعظيم المخشى، وقد تقدم الفرق بينه وبين إخوانه والغفلة والسهو والنسيان يتقارب، لكن النسيان بانحذاف ذكر الشيء عن القلب والغفلة استتارة في بعض الأحوال اشتغالاً بغيره، والسهو يقاربه، إلا أن الغفلة أكثر ما يقال فيما تركته وحقه أن لا يترك، والسهو يقال فيه وفيما فعلته ولم يكن حقه أن يفعل، فإذا السهو أعم من الغفلة واستعمل لأحد الشيئين، وقول من قال هو للشك فنظر منه إلى بعض تفاصيله، فإن الشك لا يقيده او بالقصد الأول، فقد يقال: لقيت زيدا أو عمرو قصداً إلى الإجمال والإبهام، أو لعله عنابه التفصيل، وقود بين الله تعالى بالآية أنهم ارتكبوا ذنوباً قست بها قلوبهم بعد آيات مقتضية للين قلوبهم من إحياء الفتى ومسخ الناس قردة وخنازير ورفع الطور فوقهم وأنها صارت في القساوة

بحيث إن قلت إنها كالحجارة قساوة صح بنظر، وإن قلت هي أشد من الحجارة صح بنظر، ثم ذكر حكماًَ كليا، فقال " وإن من الحجارة أي من القلوب القاسية التي هي كالحجارة، فذكر المشبه بلفظ المشبه به تحقيقا للتشبيه، كقولك: هم كالبقر ومن البقر ما يفعل كذا، أي من القوم الذين كالبقر، فكأنه قيل: وإن من القاسية قلوبهم من يراجع، فبعض يتفجر منه الأنهار، ومعناه حكمة بالغة كأنهار متفجرة، وبعض يتحصل منه نوع من العلوم يجري مجري الماء، وقد تقدم أن الماء يضرب به المثل في العلم، وبعض يحصل منه الخشية، ونبه بفحوى في الكلام أن هؤلاء المذمومين لم يحصل منهم شيء من ذلك فهم أحجار صلدة، وإنما قال: {لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ}، ولم يقل من اعتبار بلفظ الحجارة، وهذا الذي قلناه على قول من اعتبر هذه الأحكام في المشبه دون المشبه به، فأما من اعتبر ذلك في المشبه به دون الشبه، ففيهم من تعسف جدا في قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي من الحجارة، ومنهم من قارب، قال أبو علي الجبائي: عنى لهذه الحجارة البرد الهابط من السماء، وبقوله: {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي بخشيته، وعنى بالخشية التخويف، لأن الخوف والخشية واحد، قال: " ولما كان نزول البرد تخوفا ألفه لعباده قال ذلك، ثم قال، وإنما قلت هذا، لأن الحجارة جماد فلا يصح منه الخشية، كما ترى [قال الشيخ أبو القاسم- أيده الله]- فهذا كما ترى، وقال البلخي: هذا على جهة التمثيل لا في الحجارة من الانقياد لأمر الله الذي لو كان من حي قادر دل على أنه حاش لله ... ، وقال بعضهم: وإن منها أي من الحجارة لما يهبط من أجل أن يخش الله العباد، وقال أبو مسلم {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، الهاء فيه راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة، أي من القلوب ما يخضع،

فيكون ذلك مستثنى من القاسية قلوبهم، {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ}.وقال مجاهد وابن جريح كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به، وقال الزجاج: الهابط منها قد جعل له معرفة، قال: ويدل على ذلك قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وقال: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض إلى قوله: {وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ}، وقد روي مثل هذا عن السلف ولابد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول، وحقيقته، فإن قوما استسلموا لا حكى لهم من هذا النحو، فانطووا على شبهة، وقومي استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه، فيقال وبالله التوفيق إن قوماً من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب، الأول: المغرفة التامة التي هي العلم التام وذلك لعلام الغيوب الذي أحاط بكل شيءعلماً، والثاني: معرفة متزايدة، وهي للإنسان، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية، وجعل له بذلك سبيلاً إلى تعرف كثير مما لم يعرفه، وليس ذلك إلا للإنسان، والثالث: معرفة دون ذلك وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي أوليها واسترسال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ودفع مضار عن أنفسها، والرابع: معرفة الناميات من الأشجار والنبات، وهي دون ما للحيوانات وليس ذلك إلا في استجلال النافع وما ينميها، والخامس: معرفة العناصر، فإن كل واحد منها مسخر، لأن يشعر المكان المختص به كالحجر في طلب السفر، والنار في طلب العلو ودلك له بتسخير الله تعالى لا باختيار منه، قالوا: والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل عن مركزه قهرا أبى إلا العود إليه طوعأ، قالوا: ويوضح ذلك أن السراج تجتذب الأدهان التي تبقيه ويأبى الماء الذي يطفيه، وأن المغناطيس

(75)

يجر الحديد ولا يجر غيره، هذا ما حكوه، فعلى هذا إذا قيل إن لهذه الأشياء معرفة، فليس ببعيد متى سلم لهم أن هده القوى تسمى معرفة، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد، فهذا مما تعافه العقول، ونبه الله تعالى تخويفه لنا أن ارتكاب الذنوب يقضى براكبها إلى قساوة قلب حتى إنه ربما يعدم فيه رجاء الخيرات كلها، ونبه أنه تعالى لا يغفل عن أفعال البشر، إذ هو علام الغيوب .. قوله - عز وجل: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الآية (75) سورة البقرة. الطمع يقارب الرجاء، والأمل، لكن الطمع أكثر ما يقال فيما يقتضيه الهوى والأمل والرجاء قد يكونان فيما يقتضيه الفكر والروية، ولهذا أكثر ذم الحكماء للطمع، حتى قيل الطمع طبع، والطمع يدنس الثياب، ويفرق الإهاب، والأصل في تحريف الشر الانتهاء به إلى ناحية يمكن جره إلى غيره، ثم يقال في كل كلام غير سكن وجهه محرف، والسماع يقال على ما يحس وعلى ما يتصور، ولذلك وصف الله تعالى الكفار بالصمم، فقوله: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} حمل بعضهم على المسموع منه تعالى، فجعل الفريق بعض السبعين الذين كانوا مع موسى [عليه السلام] في المناجاة، لاستماع كلامه، فلما عادوا حرفوا ما سمعوه وإليه ذهب ابن عباس والربيع، وبعضهم حمله على ما كان في الأصل منه تعالي، وإن سمع من غيره فجعله التوراة وتجعل الفريق العلماء الذين غيروا التأويل، وإليه ذهب السدي والحسن وابن زيد، وفي الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وتوهين للطمع في أئمتهم: وإن هؤلاء إذا كان علمائهم وأحبارهم الذين سمعوا لكلام الله وعقلوه وحرفوه ولم يؤمنوا، فكيف يرجى أن تؤمن جماعتهم مع جهل أكثرهم إن قيل: كيف يقتضى امتناع بعض من الإيمان

(76)

قطع الطمع في إيمان سائرهم؟ قيل: لما كان الإيمان هو العلم الحقيقي مع العمل بحاسب مقتضاه فمتى لم يتحر دلك من حصل له بعض العلوم، فحقيق أن لا يحصل لمن غنى عن كل العلوم، فذكر تعالى ذلك تبعيدأ لإيمانهم لابثأ للحكم بذلك، إذ ليس كل مالا يطمع فيه كان ميؤوسأ منه، وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي يعلمون أنهم محرفون ومعاندون، وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان عن تحري الإيمان الجهل به فقط، بل قد يكون عناده وغلبة شهوة .. قوله- عز وجل: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الآية (76) سورة البقرة. الحديث ما يوجد بعد ان لم يكن نطقاً كان أو عيناً، والفتح أصله فتح الغلق، ولما استعمل في الأمر المبهم والكلام الصعب الغلق استعمل في إزالته الفتح، ومنه قيل في الحرب وفي آيات الحجة، وفي الحكم الفتح حتى قيل للحكم المفصول فتاحة، وللحاكم فتاح، وقوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي بما أطلعكم عليه من العلم، وهذا أولى من قول [من قال]: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} من النصر في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الآيات التي كانت في بدر من المواضع التي انتهى إليها فبدل وقوع الحرب، فقال: [هذا مصرع فلان غداً، وهذا مصرع فلأن]، ثم كان على ما قال، فإن هذا لم

يخصهم النبي- عليه السلام- بالاطلاع عليه دون المؤمنين، حتى كانوا يكتمونه ويتواصوا به، والحجة هي ما يقتضي صحة أحد النقيضين، وأصله من الحج أي القصد للزيادة، وسمى سبر الجراحة حجاً، وخلا فلأن أي صار في خلاء، فالآية إخبار عن المنافقين منهم، وأنهم يظهرون الإيمان ويتواصون فيما بينهم أن لا يظهروا ما انكشف لهم من حقائق النبوة لئلا يصير ذلك حجة عليهم في حكم الله، وهدا معنى قوله: (عند ربكم)، كقوله {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي في حكمه، وهدا التأويل أولى من قول من قال: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي يوم القيامة، وقيل: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي: عند سيدكم يوم الخصام، وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} يصح أن يكون من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض، ويصح أن يكون استئناف إنكار من الله - عز وجل-[عليهم] على سبيل ما يسمى في البلاغة بـ " الالتفات "، ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون.

(77)

قوله - عز وجل -: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} الآية: (77) سورة البقرة. هذا تبكيت لهم وإنكار لما يتعاطونه مع تكلمهم أن الله لا يخفى عليه خافية. قوله - عز وجل -: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} الآية: (78) سورة البقرة. الأمي: قيل هو الذي لا يكتب، وأصل هذا اللفظ في المنسوب إلى الأم، ولما كانت الأم هي المنشئة المربية للولد، تصور ذلك في أشياء، فقيل له أم نحو أم الأضياف، وأم الجيش للرئيس، وأم القرى لمكة وذلك لنحو ما روى أنه لا خلق الأرض دحاها من تحت الكعبة، وأم الكتاب للوح المحفوظ ولفاتحة الكتاب تصوراً أن منهما منشأ الكتاب، وقيل أمه إذا قصده قصد الإنسان للأم المشفقة عليه، ومنه اشتق الإمام والأمة، فالأمي في التعارف هو المنسوب إلى ما يجري منه مجرى أمه في العناية وتربيته في الفضيلة وحفظها عليه أما ما كان ذلك أو غيره، واستعمل فيمن لا يقرأ فيحتاج إلى من يحفظ عليه معارف، وهذه الحالة فضيلة للنبي- عليه السلام- ونقيصة لغيره، من أجل أنه- عليه السلام- حفظ عليه علومه فيض إلا هي ونور سماوي، فصار افتقاره غني، كما روى [عنه - صلى الله عليه وسلم -] أنه كان يقول في دعائه: " اللهم اغنني بالافتقار إليك "، وغيره لما احتاج إلى أن يحفظ معلومه عليه آدمي مثله صار في الحقيقة ناقصة، وفقيراً وقوله: (إلا أماني)، الأصل في هده اللفظة الدائر في جميع متصرفاته التقدير، ومنه المنا الذي يوزن به، والذي الذي منه الحيوان، ومنى الله كذا، أي قدر، وعن ذلك

وضع الأمنية، فإنه تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن، ويكون عمن روية وبناء على أصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب به أملك، فأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له، ولا كان الكذب تصور ذلك ويراد باللفظ صار التمني كالمبدأ للكذب، فيصح أن يعبر عن الكذب بالتمني في نحو ما روي عن عثمان- " رضي الله تعالى عنها " - أنه قال: " ما تغنيت ولا تمنيت "، ولما قلناه قال مجاهد: " إلا أماني " معناه " إلا كذباً "، وقال غيره: ألا تلاوة مجردة عن المعرفة من حيث أن التلاوة بلا معرفة العنف تجري عند صاحبها مجري أمنية مبنية على التخمين، فإن قيل: فما معنى قوله تعالى على هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} قيل: قد قلنا إن التمني كما يكون عن تخمين وظن، فقد يكون عن روية وبناء على أصل، ولما كان النبي- عليه السلام- كثيرا ما كان يبادر إلى ما نزل به الروح الأمين على قلبه حتى قيل له: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} سمي تلاوته على ذلك تمنيت .. ، وقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} كناية عن الكذب لما كان الظن واقعاً بين الصدق والكذب، كما كنى عنه بالحرص الذي هو تقدير الأثمار لما كان ذلك متردداً بين الوفاق والخلاف، وقد أنبأ الله تعالى بالآية عن جهل الأميين وذمهم والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم، فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم، وهم قد ضلوا وأضلوا، ونبهنا الله تعالى بذم الأميين على اكتساب العارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه وبذم زعمائهم على تحري الصدق وتجنب الإضلال، إذ هو أعظم من الضلال ..

(79)

قوله - عز وجل -: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} الآية (79) سورة البقرة. ويل: تقبيح، وقد يستعمل على سبيل التحسر، وما روى أبو سعيد الخدري- " رضي الله عنه " - أنه واد في جهنم، فليس يعني أن الويل هو اسم لذلك الوادي، وإنما يعني أن الذين يجعل لهم الويل هم المتبوئون في ذلك الوادي، والكسب استجلاب نفع، وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً}، فعلى نحو قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} إن قيل ما وجه توكيد الكتابة باليد، وهي لا تكون إلا بها، قيل: لما كانت اليد العاملة يختص بها الإنسان من بين الحيوان وهي أعظم جارحة، بل عامة المنافع راجعة إليها حتى لو توهمناها مرتفعة ارتفع بها الصناعات التي بها قوام العالم كالبناء، والحوك، والصوغ صارت مستعارة في القوى جميعا، والمنافع كلها حتى قيل: فلان يد فلان إذا قواه، وقيل للنعمة يد لما صارت معينة للمعطى إعانة يده وحتى صار مستعاراً في اللفظ لله تعالى بدلاً عن القدرة أو عن النعمة أو صفة أخرى غيرهما، فذكرت مثناة مرة ومجموعة مرة تصويراً للمبالغة في ذلك، فقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}، وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، ووجه آخر، وهو أن الفعل ضربان: ابتداء، واقتداء، فيقال فيما كان ابتداء: " هذا مما عملته يدي فلان "، فقوله: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي مما اخترعوه من تلقائهم، وعلى هذا قد يحمل قوله تعالى:

{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، إن قيل " لم ذكر يكسبون بلفظ المستقبل، وكتبت أيديهم بلفظ الماضي؟ قيل: تنبيها على أن ما قال النبي- عليه السلام- " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سن سنا سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فنبه بالآية أن ما أضلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة التي يعتمدها الجهلة هو اكتساب وزر يكتسبونه حالاً فحالاً إن قيل: لم ذكر الكتابة دون القول؟ قيل: لما كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه إذ هو كذب باللسان واليد صار أبلغ، لأن كلام اليد يبقى رسمه، والقول يضمحل أثره ... إن قيل ما الذي كانوا يكتبون؟ قيل: قد روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقولون هذا من عند الله، وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح، وهو أنة يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بوصف لنبي بعده فإنه أتى بلفظة معوضة به وإشارة مدرجة لا يعرفها إلاً الراسخون في العلم وذلك لحكمة ألاهية، فإن من شأن المسوسين سيما الذين لم يتمهروا في الحقائق أنهم متى أحسوا بحال سايس يتعقبه " سايسهم " وإمامهم تواكلوا عن الأئتمار لأوامره، والأرتسام لزواجره، وهذا معروف من عادات الناس، وقد قال العلماء ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي عليه السلام، ولكن بإشارات ولو كان دلك متجلياً لعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضأ بنقله من لسان إلى لسان من العبراني إلى السرياني " ومن السرياني " إلى العربي، وقد ذكر المحصلة ألفاظاً من التوراة والإنجيل إدا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بتعريض هو عند الراسخين في العلم جلي، وعند العامة خفي، فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كان تأويلات محرفة، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه وتبديل آياته وكتمان الحق عن أهله وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طمعاً في عرض من أعراض الدنيا، وقد تقدم أنه قد عنى بالثمن القليل أعراض الدنيا وإن كثرت لقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}.

(80)

قوله - عز وجل -: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية: (80) سورة البقرة. المس واللمس والحس والجس تتقارب، إلا أن الحس عام في المحسوسات والجس فيما يخفى ويدق كنبض العرق والخبر الخفي، واللمس بظاهر البشرة، وكل ذلك يقال عند تأثير المحسوس في المس وبغيره لأجله، واللمس كالطلب للمس، وقد ينفك منه، ولذلك قال: " وألمسه فلم أجده "، وجعل المس كناية عن النكاح تارة، وعن الجنون تارة، فقيل: بفلان مس، وهو ممسوس، والمسوس من الماء ما مسته الأيدي، ولا كانوا كل وعد عقداً ما وكل عقد عهداً ما كان كل وعد عهداً، فصح أن يعبر عن الوعد بالعهد، ولكونه وعدأ استعمل منه الإخلاف، ومعدودة قليلة ووجه ذلك أنه لما كان المعدود ضربين، ضرباً قليلاً يسهل عده (وإحصاؤه) وكثيرة لا يسهل عده، وكانت الأعراب يقل فيهم الحساب وقوانين الحساب، تصوروا الكثير متعذر العد، والقليل متيسر العد، وقالوا: " شي معدود ومحصور أي قليل وغير معدود، ومحصور أي كثير. ووجه الآية أن اليهود اختلفت، فبعض قال نعذب بعدد الأيام التي عبد أصحابنا فيها العجل، وبعض قال: مدة الدنيا سبعة ألاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة من الدنيا يوما من الآخرة، وبعضه قال: إنما بين طرفي جهنم أربعون سنة، وإذا خلاً العدد انقضى الأجل ولا عذاب، فبين الله تعالى أن زعمكم أنا نعذب أياما معدودة ولا طريق للعقل إلى معرفة ذلك، وإنما سبيل معرفته الإخبار عنه تعالى. جده-، وإخباره بذلك وعد، ووعده عهد، وما كان به من الله- عز وجل من عهد فلا خلف فيه، وقد تبت أنه لا عهد له بذلك، فإذا ليس هو إلا تقولاً منكم على الله بما لا تعلمون، فبين بلفظ الاستفهام كذبهم فيما زعموا، وقوله: " عند الله "، أي في حكمه على ما تقدم ...

(81)

قوله - عز وجل -: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية: (81) سورة البقرة. بلى: رد للنفي، ونعم عدة وتصديق، ويقعان في الاستفهام والخبر، فبلى لا يكون إلا في النفي، أما في الاستفهام فنحو قوله (ألست بربكم قالوا بلى)، وأما في الخبر فنحو: هذا، وأما نعم ففي الاستفهام نحو: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}، ويقال: أنا أحبك، بل نعم ولا يقال: بلى بوجه، وفي النفي إدا قيل ما عندي شي، فقلت بلى، فهو رد لكلامه، وإذا قلت: نعم فإقرار منك به، والسيئة الفعل القبيح القيود إليه في نفسه ولكونها قبيحة قوبلت بالحسنة في عاهة ما جاء في القرآن، نحو: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الآية وقوله {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، وقوله {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} وقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} والفرق بينها وبين الخطيئة أن السيئة قد يقال فيما يقصد إليه في نفسه، والخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصوداً إليه في. نفسه، بل يكون مقصودا إلى سببه كمن يرمي صيداً، فأصاب سهمه إنساناً أو شرب مسكراً، فجني على رجل جناية في سكره، ثم السبب في دلك سببان، سبب محظور فعله، كشرب المسكر، وسبب غير محظور،

فقيل في الأول الخطأ، وقد أخطأوا في الثاني خطأ، وقد خطى فهو خاطئ، وعلى هذا {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وقال: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}، وفي استعارة الاحاطة أبلغ تشبيه، وذاك أن الإنسان إدا ارتكب ذنباً فلم يقلع عنه استجرت إلى معاودة مثله، ومعاودة مثله تجعل على قلبه غشاوة، فتجر به إلى ارتكاب أكبر منه، ثم ارتكابه لا هو أكبر منه يطبع على قلبه، فيشجعه على المداومة عليه، فيصير ذلك عليه حائطا يمنعه عن رؤية ما وراء، فيرى في مقابح الذنوب محاسن، فيتخبط في بلايا من دنياه ربما يراها نعماً، فيحسب أن لا وراء اللذات الدنيوية لذة ولا بعد التخصيص بقاء وورائها نعما فهذا معنى: (أحاطت به خطيئته)، وعلى ذلك دل قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه}، وقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}، ووجه أخر روى عن السلف وهو إن كان عائداً إلي ما تقدم، فالنظر إليهما مختلف، وهو أن السيئة الكفر، وذلك عن مجاهد وأبي وائل والربيع، فبين تعالى أن من تحرى طريق الكفر، ثم استمر مريرة في ترك الإقلاع إما الترك النظر، وإماما الشرارة، وإماما لشهوة مستولية عليه حتى يصير ذلك كحائط عليه لا خروج له منه، فأولئك أصحاب النار، ومن قرأ (خطيئته)، فاعتبارا بالجنس، ومن قرأ (خطيئاته)، فاعتبارا بآحاد الذنوب وجعلهم أصحاب النار لملازمتهم في الدنيا ما يوجب لهم النار، وهي الآخرة لملازمتهم إياهما إذ كان الصاحب إنما يقال فيمن كثر ملازمته لغيره ...

(82)

قوله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية: (82) سورة البقرة. عادة القرآن في كل موضع يذكر عقاب قوم أن يذكر بإزائه ثواب مضادتهم ليُرجى رحمته ويخاف عذابه، وقد تقدم أن عامة ذكر الإيمان في القرآن مقرونة بالأعمال الصالحة تنبيهاً أن جملة الاعتقاد والمقال لا اعتداد بها ما لم يضامها الأعمال الصالحة، إذ الاعتقاد كالأس، والعمل كالبناء، ولا غناء في أسء بلا بناء، كما لا ثبات لبناء بلا أس، وفيه دلالة أن قوله تعالى من قبل: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} هو الكفر، وإحاطة الخطيئة به الأعمال السيئة، وذلك لا قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة .. قوله - عز وجل -: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} الآية (83) سورة البقرة. الولد: المولود، والوليد للصبي اعتبارا بقرب ولادته، كما يقال: لما قرب اجتناؤه جني، والوليدة في الأمة كناية عن طريق التلطف بأنها تجري مجرى الولد، و " فلان لدة فلأن "، أي ولد معه، واليتيم قد يقال لمن فقد كافله قبل البلوغ من أبويه، أما في الناس فأباه، وأما في البهائم فأمه، لأن كفالة الولد في الناس على غالب الأمر، وفي الحكم إلى الأب، وفي البهائم إلى الأم، وقد يقال لن يتصور بصورة الفرد الذي إذا اعتبرت فضيلته قدر أن لا أباله من جنسه لكونه خارجية بالفضل عن طبيعة أبائه،

وجدك فاصطفاك، كقوله تعالى في موسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}، وأخذ هذا الميثاق المذكور في الآية ليس شيئاً اختص به بنو إسرائيل فقط، بل في كل أمة، ولكل نبي، وقد تقدم أن هذه العبادات مما لا يجوز خلو شرع منها وإن اختلفت هيئاتها وأعدادها وأن كلياتها مأخوذة على الناس بقضية عقولهم وألسنة أنبيائهم وجزئياتها وكيفياتها مأخوذة عليهم بألسنة أنبيائهم- عليهم السلام - إذ لا طريق للعقل إلى صرفة جزئيات العبادات والصالح المعلقة بها، وليس أخذ الميثاق كله معتبراً بان يلتزمه المأخوذ عليه ويرضى به، بل بأن توجه الحجة، وتقدير قوله: (لا تعبدون إلا الله) فيه أوجه، قال الكسائي: (أن لا تعبدوا)، فلما حذف " أن " نرفع، نحو: ألاَ أيُّهذا الزَّاجري أحْضُر الوَغى وقال الأخفش: لما أفاد قوله {أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} معنى القسم أجابه بجوابه نحو: خلفت لا يخرج زيد، وقال قطرب: (لا تعبدون) في موضع الحال، تقديره غير عابدين، وقال الفراء: لفظه خبر، ومعناه النهي نحو: (لا تضار والدة بولدها) بالرفع، واستدل على كونه نهيأ بقراءة أبي: (لا تعبدوا إلا الله)، وبعطف قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} عليه.

ولما تضمن أخذ الوثاق معنى الوصية حمل عليه قوله: (وبالوالدين إحسانا) واختلف في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، فذهب بعضهم إلى أنه منسوخ بأية السيف، لأن المسلمين أمروا في الارتداء أدت يتلقوا الكافر أو المسلم بالحسنى، ثم أمروا بالتغليظ والقتال، وقيل: لا نسخ فيه وهو الأصح، لأن ذلك كقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} لآية، ولأن قتالهم لا يمنع من أن يقاد لهم أولاً قول حسن، كما قاد موسى- عليه السلام- {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}، ثم قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، يصح أن يكون نهياً عن المقادح والكذب، ثم هذه الاية ليست خطابا للمسلمين من هذه الأمة، وإنما هي حكاية ما أمر به بنو إسرائيل، وهما خطاب للأسلاف من بني إسرائيل، وقيل: هو خطاب لن كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، وقيل قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} خطاب للسلف، وقوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} خطاب لمن كان في زمنه، إن قيل: ما فائدة قوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} بعد قوله:. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} قيل فيه ثلاثة أقوال، الأول: أن قوله {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} حال مؤكدة، لأن تقديره: (ثم توليتم معرضين)، ذلك على قول من جعلها خطاباً لفريق واحد، والثاني أن التولي قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب، والثالث: أن التولي والإعراض في دلك مثل مأخوذ من سلوك الطريق، وإدا اعتبرنا حال سالك المنهج في ترك سلوكه، فله حالتان، إحداهما: أن يرجع عوده على بدئه، وذاك هو التولي، والثانية: أن يترك النهج ويأخذ في

(84)

عرض الطريق متخطياً، وذلك هو الإعراض والمتولي أقرب أمرا من المعرض، ولأنه متى ندم على رجوعه سهل عليه العودة إلى سلوك المنهج، وأخذ في عرض المفازة إلى طلب منهجه، فيعسر عليه العود إليه، فمتى جعل الخطبان لفريق واحد، فذلك غاية الذم، فإنهم جمعوا بين العود عن السلوك والإعراض عن المسلك، ومتى جعل " توليتم " للسلف، وأنتم معرضون للخلف، فتنبيه أنكم شر من أسلافكم، فقد كان منهم التولي، ومنكم الإعراض، والآية منطوية على عامة الأحكام الاعتقادية والعلمية والآداب الشرعية ومكارم الأخلاق، وفيها ذم لبني إسرائيل أن مع أخذ الميثاق منهم بذلك لم يكن من أكثرهم الوفاء به .. قوله - عز وجل -: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} الآية (84) سورة البقرة. الدار سميت اعتبارا بدورها، وقيل داره، كقولهم: محلة ومنزلة اعتباراً بوحدة ما، فإن الدار يقال لها وإن انطوت على حجر وبيوت، والدواري الدهر، لكر الجديدين، والدوار في الرأس وضم على بناء الأدواء، نحو الصداع، يقال للصنم التي يدار حوله دوُار ودَوار ودوار، وقوله تعالى: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} متعلق بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} ما تقدم في الآية الأولي .. ، إن قيل: كيف أخذ ميثاقهم أن لا يفعلوا ذلك بأنفسهم مع كون الإنسان مضطرا لأن يفعل بها ذلك؟، قيل في ذلك أجوبة ... الأول: لا يفعل ذلك بغضكم ببعض، وإليه ذهب قتادة وأبو العالية، الثاني: لا يفعلن أحدكم [ذلك] بالآخر، فيفعل به، فيكون في حكم فاعله بنفسه، الثالث: [لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى صرفكم عن الحياة الأبدية الجاري مجرى القتل، وهو العذاب الأليم]، ولا تفعلوا ما تحرمون به على أنفسكم

(85)

الجنة التي هي داركم فتكونوا في حكم من أخرج نفسه من داره، وعلى ذلك قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وعلى هذا حمل قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} أي: شغلوهم بما يعود بوبالهم وحرموا العلم، والإقرار قد، يكون باللفظ ويكون بالفعل وهو الرضى، نحو أن يقال: فلان مقر بالخسف .. قال الشاعر: .. أقر كما قر الخليلة للبعل .. فقوله {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} يصح أن يكونا [جميعا خطابين] للسلف، وأن يكونا للخلف [وأن يكون الأول للسلف والآخر للخلف] فإن قيل: ما الفرق بين الإقرار والشهادة؟ قيل: الشهادة إقرار مع العلم وثبات اليقين، والإقرار قد ينفك من ذلك، ولهذا كذب الله تعالى الكفار في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ولو قالوا: نقر إنك لرسول الله لم يكذبوا .. قوله - عز وجل: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية: (85) سورة البقرة. قيل: تقدير هؤلاء يا هؤلاء، وذلك مستبعد لحذف حرف النداء، [فحرف النداء] لا يحذف إلا من الأعلام وما هو كالأعلام ومن المضاف دون غيرهما من المناديات، وقيل معناه كمعنى الذين، فقد أجرى

المبهمات مجرى الموصولات، وعلى ذلك حمل الكوفيون قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} وقول الشاعر: نجوت وهذا تحملين طليق وقيل معناه: أنتم كهؤلاء، وتظاهرون تتعاونون، وأصل اللفظة من الظهر التي هي الجارحة، ولما كان الظهر من حيث الخلقة خالياً عن الحروق والعكن بخلاف البطن، سمي ما كان بارزا ظهراً، وما كان خافياً بطناً، فجعل الظهر والظهور لجميع متصرفات هذه اللفظة أصلين وقرئ تظاهرون بالتشديد، وأصله: يتظاهرون ويظاهرون بالياء والتشديد على ذلك، وتظاهرون بحذف أحد ألتاءين وبالتخفيف، والإثم اسم الأفعال المبطئة للثواب، ولتضمن البطؤ قال الشاعر في صفة ناقة: جمالية تعتلي بالردف .... إذا كذب الآثمات الهجير وقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي في تعاطيهما أبطأ عن الخيرات، فإنهما شاغلان، فصار الإثم في التعارف نقيض البر

وقوله عليه السلام: " البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك "، فهذا حكمهما لا تفسيرهما والوزر والذنب والجرم تتقارب، لكن الوزر اسم لا يوجب العقوبة بمعاونة الغير، ولهذا روى: " من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها "، فإن السان والمسنن بها متآزران متعاضدان، والسان أعظم إثما، إذ ليس المتبع كالمبتدع، وأما الذنب فما يقتضي عاقبة مذمومة اعتبارا بأذناب الأمور، والجرم اعتبارا بما يحصل من ثمرة سوء العمل تشبيها لجرام النخل، والعدوان هو تجاوز لحد المرسوم في الاعتداء المرخص فيه على سبيل المجازاة في قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فالتجاوز للمرسوم هو العدوان، والأسر شد يضم به بعض المشدود إلى بعض يقال: أسرت الرجل، والسرح والرحل، وما يشدبه إسار، والفدا العوض الذي يخص به فكاك الإنسان وقيل الفدا والفداء واحد، والأقرب أن الفداء بالمد اسم لما يفدي به والفدى اسم للمفدى، كما يقال الحمى للمحمي وإن كان كل واحد منهما يوضع موضع الأخر، والحرام المنع الشديد من جهة الحكم، ورجل حرام يجوز أن يكون على وضع المصدر موضع الفاعل كأنه محرم على نفسه بالتزامه ما ألزم ما كان محللاً له إما بدخوله الحرم أو بالإحرام، ويجور أن يكون في موضع المفعول، كأنه صار محروماً أي ممنوعة من بعض ما كان مباحا له والشهر سمي محرما لذلك، واستحرمت الماء غيره، كأنها طلبت شيئا محرما في غيرها، وذلك كناية، والخزي ذل يستحي منه، ولتضمن المعنيين استعمل تارة في الذل نحو: عليه الخزي، وفي الاستحياء، نحو خزي،

والرد والرجوع متقاربان، إلا أن الرد يقتضي قهراً، أما للمردود إذا استعمل في الحيوان والرجوع لا يقتضي ذلك، فإن قبل الردة عن الإسلام يتعاطاها صاحبها طوعاً، قيل إذا اعتبرت الردة بصريح العقل والفطرة التي فطر الناس عليها، فهي قهر للعقل على ما ليس من مقتضاه، لأن الكفر هو الاعتقاد الظني، كما أن الإيمان هو الاعتقاد اليقيني، والعقل لا يسكن إلى الكفر، [ولا يطمئن إليه] إذهو مناف لمقتضاه، ولهذا قال تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} لأنهم إذا راجعوا عقولهم [أنكروه وتمنوا سواه]، وعلى ذلك قوله تعالى. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ومعنى الآية أن اليهود كان أوجب عليهم أن لا يسفكوا الدماء ولا يخرجوا أحداً من ديارهم ولم يوجب عليهم مفادات الأسرى، فأخلوا بالواجب والتزموا ما لم يكن يلزمهم، فأنكر الله تعالى عليهم ترك الفريضة ومراعاة النافلة وقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} متعلق بما قبله وقد فصل بينهما بقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} وقال بعضهم: إن الله تعالى نبه بهذه الآية مع المعنى الظاهر على لطيفة، وهي أن في قوله تعالى تقتلون أنفسكم تنبيه أنه تسعون في اكتساب العقاب الذي يجري مجرى قتل النفس، وبقوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} أي تضيعون بعض قواكم ولا

(86)

تراعونها حق المرعاة، فإن من هذب قوته العالمة، ثم ضيع قوته العاملة. بالتقصير، [فقد ضيع نفسه] وكأنه أخرجها من محلها الذي جعله الله تعالي لها، وعلى ذلك ما إذا ضبط قوته الشهوية ولم يضبط قوته الغضبية، ونبه بقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} إنكم تتصدون لهدى غيركم مع تضييعكم أنفسكم كقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}، وعلى ذلك قيل: (كفى بالمرء تهزياً أن يعظ غيره وينسى نفسه)، وقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} فقد قيل: هو ضمير الحديث، وقيل: هو ضمير المصدر الذي هو الإخراج، وقد أعيد ذكره تأكيده، فكأنه تكرير الخبر مراتين، ثم بين أن متعاطي ذلك له في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وعظم إبعادهم بتنبيههم أنه سبحانه بالمرصاد لا يغفل عن شي تعالى الله وتقدس ... قوله - عز وجل -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} الآية (86) سورة البقرة. الخفة والثقل يقالان على أضرب، الأول: خفيف في المخسر لطلب العلو كالنار، وثقيل في المسخر لطلب السفل كالحجر، الثاني: يقال على سبيل التصادف كشيئين يترجح أحدهما على الآخر فيصح أن يوصف شي واحد بأنه خفيف وثقيل على اعتباره بشيئين، الثالث على اعتبار الزمان نحو أن يقال: هذا الفرس خفيف، وذاك ثقيل بمعنى أنه إذا اعتبر عددهما بزمان واحد كان أحدهما أكثر عددا من الآخر، والرابع: يقال فيما تستجليه النفس خفيف، وفيما تعافه ثقيل، فالخفيف على هذا مدح، والثقيل ذم الخامس على العكس من ذلك، وهو أن يقصد بالثقيل معنى الرزين، وبالخفيف

معنى الطائش، والقصد باشتراء الحياة الدنيا في هذه الآية [وبالرضى في هذه الآية] وبايثارها في نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} في نحو قوله: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وبالإخلاد إليها في قوله تعالى {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} وباتباع الهوى في نحو قوله، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وبعبادة الشيطان في نحو قوله: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وبإتباع الخطوات في نحو قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وبنصرة الشيطان في قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} كل ذلك قصد واحد في أنه حث على تجنب المعاصي وأن اختلفت العبارات وتفاوتت الأنظار، وبين الله تعالى بالآية أن من فعل ذلك فهو معاقب لا يخفف عذابه، أما في الدنيا، فمعذب لشرهه على تتبع فضولات المال وجمعه، كما قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فلا يكون لطلبها غاية إذا انتهى إليها خفف عذابه، وأما في الآخرة فبدوام العذاب الأليم، وبين تعالى أنه لا يجد نصرة من جهة ماله في الدنيا، كما قال حكاية عن المحتضر: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} ولا في الآخرة، كما قال: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا} الآية، وقوله {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} قيل: هو داخل في صلة الدين والصحيح أنه جواب لتضمن لفظه الذين معنى الشرط كما هو جواب في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}.

(87)

قوله- عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} الآية: (87) سورة البقرة. الاقتفاء إتباع القفا، كما أن الارتداف إتباع الردف، وقفوته: أصبت قفاه نحو: قادته وبطنته إذا رميت ذلك منه، ثم يكني به عن الاغتياب، وقافية الشعر لاعتبار الاقتفاء فيها، والقفاوة ما يتفقد به الغير على سبيل الإيثار، والهوى اسم للقوة الشهوية، وأصله من الهوى، لأنه يهوى بصاحبه فلا يستقر به، والروح من الحيوان اسم للجزء الذي معه تحصل الحياة، ولما كانت الحياة تختلف، فمنها ما تشترك فيه الحيوانات ويحصل به التحرك والسعي واستجلاب النافع واستدفاع المضار، ومنها الحياة التي يختص بها الإنسان، وبها يكون الفكر والروية ولأجله قيل، فلان ليس بحي أو هو ميت إذا ضعف ذلك فيه، ومنها الحياة التي يستفيدها الإنسان بالعلم وهو أس ما يتوصل به إلى الحياة الأبدية، وإياها قصد بقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} صار الروح يقال لكل ذلك، فيقال " ذوروح " لكل حيوان، وقيل للقرآن روح لما كان سببا للحياة الأبدية قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}، وقيل: سمي عيسى عليه السلام روحا، لأنه كان يحيى الموتى فصار كالروح، وقيل: سمي بذلك لأنه كان يفيد الناس ويعلمهم ما يتوصلون به إلى الحياة الأبدية، وقيل: سمي بذلك لقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}، وذلك أنه لم يخلق من ماء ذكر وأنثى، وإنما قال له: (كن) وسمي جبرائيل (عليه السلام) روح القدس، والروح الأمين، وهذه الآية توكيد لذمهم والإنباء عن بعدهم عن الإيمان وأنهم قد أتاهم موسى بالكتاب، ثم اتخذوا العجل وأتاهم رسل فلم يعرجوا عليهم، وجاءهم

(88)

عيسى - عليه السلام بالمعجزات الباهرة فكذبوه، وقوله: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} يصح أن يكون معطوفا على قوله {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ويكون قوله {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} فصلا بينهما على سبيل الإمكان عليهم، ويصح أن يكون معطوفا على قوله:] " استكبرتم "، وقوله: {أَفَكُلَّمَا} استئناف وبين باتباعهم الهوى غاية معانيهم، فإن متبعه مخطئ وإن أصاب، فالإصابة منه على غيره اعتماد، إذ هو كالبهيمة المتناولة لما تدعو إليه شهوتها صواباً كان أم خطأ، ثم زاد في ذمهم بوصفهم بالاستكبار إذ هو مقر النقائص، فإنه نتيجة الإعجاب، والإعجاب نتيجة الجهل بالنفس والجهل بالنفس مقارن للجهل بخالقها، ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} إن قيل: لم قال: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} وهلا جعلا ماضيين أو مستقبلين؟ قيل: أما من حيث اللفظ، فلأنه لما لم يكن يفسد المعنى روعي فيه المجانسة بين الفواصل ليكون اللفظ أحسن، وأما من حيث المعنى: فللتنبيه أنهم لم يتوقفوا في تكذيب من جاءهم من الأنبياء، فذكره بلفظ الماضي، إذ لا مزاولة فيه، وذكر القتل بلفظ الاستقبال تنبيهاً أنهم يزاولون قتله قدروا عليه أم لم يقدروا. قوله - عز وجل: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} الآية (88) سورة البقرة. أصل الغلف ستر الشيء بالشيء الذي يجعل فيه، ومنه غلفت السيف والسرج والرحل واللحية بالغالبة، والأغلف الأقلف لكون ذلك منه في غلاف من غلفته أي قلفته وعزلته، فقوله: (غلف): قيل هو جمع غلاف وأصله غلف، فخفف، وقرئ غرف ككتب وقيل: هو جمع أغلف، فعلى الأول قيل معناه: قلوبنا أوعية للعلم لا تسمع علماً إلا وعته إلا ما تقول، بمعنى أن ما يقوله ليس بعلم، وعلى الثاني

(89)

معناه: قلوبنا مغطاة عما تدعونا إليه فلا نفهمه كما قال: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} الآية .. ورد الله تعالى ذلك عليهم بأن ذلك لكونهم مبعدين عن العلم لسوء فعلهم، وقد تقدم أن سبب المانع من الفضيلة سببان: أحدهما: ابتداؤه ليس من جهة الإنسان نفسه، وهو متجاف عنه كمرتكب قبيح لزوال عقله بجنون أو مرض، والثاني: ابتداؤه من جهته، وهو مأخوذ به كمرتكب ذنب لسكره، فبين الله تعالى أن قلوبهم ممنوعة عن العلم بكفرهم وذلك من جهتهم، وقوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} أي لم يؤمنوا إلا إيمانا قليلاً أو زمانا قليلا، وذلك غير معتد به، لأن الإيمان هو التصديق المخصوص، ومتى لم يحصل كمالاً لم يعتد به، ولذلك عظم عقوبة ذلك بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، ونحو هذه الآية قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} قوله - عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية: (89) سورة البقرة. الاستفتاح: طلب الفتح، والفتح ضربان، فتح إلاهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، وفتح دنيوي، وهو النصرة في الوصول إلى اللذات البدنية وعلى الأول قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، وقوله {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ} وعلى الثاني قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}، وقوله: {يَسْتَفْتِحُونَ} قيل معناه:

(90)

يستعملون خبره من الناس مرة، وقيل يطلبون من الله في بذكره الظفر، وقيل: كانوا يقولون: إنا ننصر لمحمد عليه السلام على عبدة الأوثان، وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاء، فبين الله تعالي من جهلهم أنهم كانوا ينتظرونه، وكانوا يعرفون وصفه كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وكما قال: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}، فلما جاءهم كتاب لا منافاة بينه وبين التوراة في الأصول، وعرفوا عيانا ما كانوا عرفوه من قبل إخباراً كفروا به، ثم قال: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} تنبيها أن اللعن ثابت للكفار، وهم كفار، فاللعن عليهم، وأما معنى اللعن هو إفضاء على وجه الإهانة، ومن قال: هو العذاب، فمن حيث أنه لا تنفك لعنة الله عن العذاب، وأما تكرير لما، فقد قيل جواب الأول محذوف، وقوله: {كَفَرُوا بِهِ} إنما هو جواب للثاني، وقيل: لما بين فصله لما وجوابه بقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} أعتاد ذكره بلفظ يقتضي زيادة فائدة، ثم أجاب، وقيل جواب الأول " الفاء "، و (كفروا به) جواب الثاني نحو قولك: لا جاء زيد فلما قعد أوسعت له ... قوله - عز وجل -: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}. الآية: (90) من سورة البقرة. بئس؟ كلمة تستكمل في جميع المذام، كما أن " نعم " تستعمل في جميع المادح، وأصله من البؤس، وهو المكروم وتصور منه الفقر تارة، فقيل بئيس، والنكاية في الغيرة فقيل بؤس، وسمى البسالة بأساً به وأصل البغي الطلب، واختلفت مكانيه لأختلاف المسند إليه، وربما خولف بين

(91)

مصادرها، فمتى أسند إلى الرأي فلابتغائها لمن يحرم عليها، وإذا أسند إلى المتكبر فلطلبه إكراماً لا يستحقه، وإذا أسند إلى الرأي فلطلبه متطلعاً، والهوان يتصور على وجهين أحدهما: التذلل للإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة، فيمدح به نحو المؤمن هين لين، والثاني: أن يكون مرجعه خلط ستليه على طريق الاستخفاف فيذم به، وعلى الوجهين استعمل " ذلك فبين الله تعالى أنه بئس شيئاً باعوا أنفسهم به كفرهم بكتب الله المنزلة، ثم بين أن أعظم هذا الجنس أن يفعل دلك حسدا على من خصه الله تعالى بفضل من عنده، وفضله ههنا أجل الفضائل، وهو النبوة، ثم بين أنهم بذلك استحقوا بذلك أنواعا من الغضب نوعاً بعد نوع نحو قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} .. نعوذ بالله منه. قوله- عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية (91) سورة البقرة. وراء يقال للخلف والقدام، وهو في الأصل مصدر وارى، فلما كان المصدر يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول، فمتى قيل وراء زيد بمعنى قدامه، فمعناه الذي يواري زيد، وإذا قيل بمعنى " خلف "، فهو الذي يواريه زيد، ثم جعل ظرفاً مثل كثير من المصادر، وإن قيل: كيف قيل للخلف " فلم تقلتون "، وكان القتل من السلف لا منهم، قيل: لما كان من عادة العرب أن ينسبوا إلى أنفسهم على طريق الفخر مأثراً بأيهم، فيقول فعلنا كذا متصورين بصورتهم خوطبوا أيضا في نسبة مثالبهم إليهم على ذلك

الوجه، وقال ابن عباس [رضي الله تعالى] عنهما: (إذا عمل معصية، فمن أنكرها فقد برئ منها، ومن رضيها كان كمن فعلها)، فلما رضوا فدل آبائهم فكأنهم هم فعلوه، فلذلك خاطبهم بذلك، إن قيل: كيف قال: (تقتلون من قبل) ولا يجور في الكلام تخرج أمس، قيل: في ذلك وجهان. أحدهما: أن عادة العرب إذا أرادوا أن يخبروا عن تعاطي فعلى مداوم عليه قرنوا لفظ الماضي بالمستقبل تنبيها على المداومة عليه نحو قول الشاعر: ولقد أمر على الَّلئيم يسبنُّي ... فمضيتُ ثمة قُلتُ لا يعنينِي وعلى ذلك يقال: فعلت كذا قبل وبعد، وافعل كذا قبل وبعد، فيجئ تارة بلفظ الماضي وتارة بلفظ المستقبل، والثاني إن قوله (من قبل) يتعلق بمقتضى قوله " فلم " الذي هو بحث عن علة الشيء، فكأنه قليل: أخبرني قبل عن سبب قتلكم، ومعنى لم تقتلون لم ترومون قتلهم، وهذا أوضح، وقوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} قيل معناه بما أنزل الله بعده من الإنجيل والقرآن، وقيل: معناه بما تنطوي عليه التوراة، وذاك أن انتساب المعنى إلى اللفظ انتساب المتأخر إلى المتقدم والباطن إلى الظاهر، ولهذا يقال: وراء هذا الكلام معنى لطيف، وفي ضمنه شيء حسن، وقد بين الله تعالي أنهم يدعون

(92)

الإيمان بالتوراة وهم كاذبون في دعواهم، فإنهم لا يكونون مؤمنين بها إذا كفروا بما يتضمنه من أخبار النبي عليه السلام وكفروا بما يتلوه من كتاب الله - عز وجل- فإن النبوة والكتاب لا يختلف من حيث ما هو نبوة وكتاب، ومن لم يؤمن ببعضه، فهو في حكم من لم يؤمن بشيء منه، ولهذا قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، فأثبت لهم أشد العذاب الذي يستحقه الكافر المطلق، ثم بين أنه هو الحق أي ذلك المعنى الذي هو القرآن حتى لا يزاحمه في ذاته ضد وهو مصدق لما تقدمه لا منافاة بينهما في ألاصول، ثم بين [تعالى] ثانياً إبطال ما ادعوه بقتلهم الأنبياء إن كانت التوراة لم تقتض ذلك، ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تنبيها أنكم لستم بمؤمنين، إذ المؤمن لا يقتل الأنبياء، وفي كل ذلك حجة على بطلان ما ادعوه من الإيمان بالتوراة. قوله- عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} الآية (92) سورة البقرة. جعل ذلك أيضا دلالة على دلالة قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) فكأنه قيل: كيف آمنتم به وقد أتاكم موسى بالآيات البينات فما لبثتم أن عبدتم العجل ظلما، وظلمهم الإخلال بآيات الله وبيناته وتلقيها بالكفران والكفر، وفي تخصيص ثم زيادة فائدة، وهي أن ذلك منكم بعد تدبر الآيات والتمكن من معرفتها، والآيات. ههنا هي الآيات التسع المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، وقوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}

(93)

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية: (93) سورة البقرة. قوله: (اسمعوا)، قيل معناه: افهموا، وقيل معناه: اعملوا به، ووجه ذلك أن الشيء يُسمع به، ثم يتخيل، ثم يفهم، ثم يعقد، ثم يعمل به إن كان ذلك المسموع مما يقتضي عملاً، ولا كان السماع مبدأ والعمل غاية وما بينهما وسائط صح أن يذكر، ويراد به بعض الوسائط وأن يعني به الغاية وهي العمل، فمن قال معنى (واسمعوا) أي اعملوا به، فنظر منه إلى الغاية، ومن قال: افهموا واعقلوا فنظر منه إلى البدء أو إلى الوسائط، وقال بعضهم: قد قالوا قولاً سمعنا وعصينا، وقيل: إنما سمعوه وتلقوه بالعصيان، فكأنهم قالوا بدلك قولاً، كقول الشاعر: امتلأ الحوض وقالَ قطْنىِ وقال الآخر: قالَ جناحاهًُ لرجليه الحقَاَ {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} ... من عادة العرب أنهم إذا أرادوا العبارة عن مخامرة حب أو بغض في القلب أن يستعيروا لها اسم الشراب، إذ هو أبلغ منجاع في البدن، ولذلك قالت الأطباء:

الماء مطية الأغذية، والأدوية، لركوبها يبلغ أقاصي الأمكنة، وعلى هذه الراعية قال الشاعر: تغلغل حيث لم يبلُغْ شرابٌ .... ولا حزنُُ ولمْ يبلغْ سرُورُ وقال أهل النحو: أريد حب العجل، فحذف المضاف تحقيقاً، ويجب أن يعلم أنه لو قيل حب العجل، لم يكن له من المبالغة ماله بحذفه، لأن فيه تنبيها أن لفرط شغفهم به ثبت صورة العجل في قلوبهم راسخة، وإن زالت ذاته الجسمية، ثم بين أن ذلك [كذلك] بسب كفرهم، لا أنه تعالى ظلمهم به، وما قال السدي وابن جرير أن موسى- عليه السلام- لما رجع إلى [قومه] برد العجل الذي عبدوه، فذراه في اليم، فلم يشربه أحد أحبه إلاً خرج على شاربيه الذهب، وليس ينافي ما تقدم تصورت ذلك حقيقة أم تصورته كناية وإشارة، وقال بعضهم: معنى أشربوا من قولهم: " أشربت البعير " إذا شددت حبلاً في عنقه، قال: وأشربْتُها الأقران حتى وقصتُاً ... بقرْحِ وقدْ ألقينَ كلَّ جنين فكأنما شد في قلوبهم العجل لفرط شغفهم به، فهو راجع إلى الأول تحقيقه وإن خالفه تشبيها وتمثيلاً، ثم بكتهم تعالى بقياس شرطي يدل على إبطال دعواهم الإيمان بالتوراة وهو قوله: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وتقديره: إن كنتم مؤمنين، فإيمانكم أمركم بذلك، وكل إيمان أمر بذلك فإيمان مذموم، وقد ثبت أن الإيمان بالتوراة ليس بمذموم ولا يظهر بالمذموم، فإذا

(94)

لستم بمؤمنين، فكيف تدعون الإيمان بما أنزل إليكم، وقال الزجاج في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. [ما كنتم مؤمنين]. فإن عنى أن إن ههنا لفظة للنفي فدلك بعيد، وإن عنى أنه شرط مقتضاه النفي كما تقدم فصحيح والكلام في أنه كيف جعل الإيمان أمراً في قوله: {يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} فقد تقدم في صدر الكتاب فصل كلي يكفي الاشتغال بهذه التفاصيل. قوله - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية (94) سورة البقرة. الخالص كالصافي، لكن الصافي يقال فيما لم يكن قبل فيه شوب، ولا يقال: خالص إلا ما كان فيه شوب من [قبل]، فزال عنه، ولذلك قال الشاعر: خلاصُ الخمْرِ منْ نسجِ الفَدَامِ فاعتبر فيه معنى التخلص والتمني تقدير تأتي مشيته والتحدث به إما ضميراً، وإما مقالاً، ودون لما كان في الأصل القاصر عن الشر اعتبر ذلك في المكان تارة وفي الشرف تارة، وفي الاختصاص تارة، فإذا قيل: هذا لي دونك، فهو مفيد للاختصاص، ومعناه: أنت تقصر عنه، وإن قيل كيف قال: (من دون الناس) والمخاطبون أيضاً من الناس؟ قيل: قد قال بعضهم لفظه عام، ومعناه خاص، أي دون سائر الناس، وقال بعضهم في ذلك لطيفة، وهو أنه يقال: " فلأن ليس من الناس، وذلك متردد بين المدح والذم، فالمدح نحو قول بعضهم: فلان ليس إنساناً، بل هو ملك كريم ...

وقال الشاعر فلست بإنسيَّ وَلكنْ لملاك والذم نحو: فإنَّ جُلهُمُ أوُ كلهُمْ بَقر ولما كانت الدار الآخرة لا تحصل للناس خالصة، بل لأبد في نيلها من تحمل شوائب وتجرع نوائب، وكانوا قد ادعوا أنها لهم خالصة قيل لهم ذلك بمعنى إن كنتم جنساً غير الناس في أن تحصل لكم الدار الآخرة خالصة [على حسب ما تحصل للناس] فتمنوا الموت، وإنما قيل لهم " تمنوا الموت "، لأنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا}، وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، فبين الله تعالي كذبهم في دعواهم ذلك فقال: إن كنتم أحباء الله، فالمحبة داعية إلى الشوق، والشوق داع إلى محبة لقاء المحبوب، ومحبة لقائه داعية إلي تمنى سهول السبيل إليه، ولا سبيل إلى الطريق إليه إلا بالموت، فيجب أن يكون الموت متمنى، فترككم تمني ذلك دلالة أن لا [محبة منكم له] .. إن قيل: فهل يجوز للمسلم أن يتمنى الموت؟ قيل: أنا تمنيه على أن سخط ما أراد الله من حياته فلا يجوز فإن ذلك مضادة الله في أرادته، وتسخط لقضائه، وإما على أن يكرهه إذا أتاه، فجائز، وهو غاية الحكمة وشعار المؤمن المحق، ولذلك قيل: " لا يكون الحكيم حكيماً حتى يعلم أن الموت يعتقه والحياة تسترقه، وقيل: " سرور المؤمن بموته

(95)

سرور القادم على أهله "، وقال عليه السلام: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاء، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ". وقال علي- رضي الله عنه: " لا أبالي سقطت على الموت أو سقط الموت علي " إنما قيل: كيف أعاد الشرط، فقال: إن كنتم صادقين "، وذلك يقتضي جوابا أخر، قيل: إن ذلك كالبدل من الشرط الأول، فإن مقتضاهما واحد، لكن الصدق يتناول اللفظ، وقوله: {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} يتناول ذات الشيء، فصار كقول القائل لمن يدعي فعلاً: " إن فعلته فلك كدا إن صدقت " ... قوله - عز وجل -: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الآية: (95) - سورة البقرة. التقدم إما أن يقال باعتبار زمانين، فيقال حديث وقديم، وإما باعتبار تقدم على الزمان، فيقال: قديم أي متقدم وجوده على وجود الزمان وإما بالشرف فيقال: " فلان متقدم على فلأن " أي أشرف منه منزلة وإما لما لا يصح وجوده إلا بوجود الأخر، فيقال لذلك الآخر قديم كقولك: الواحد متقدم على العدد، بمعنى أنه لو توهم ارتفاعه لارتفع الأعداد، وكما استعملوا القديم والحديث باعتبار زمانين استعملوا التقدم والتأخير، وقدام وخلف باعتبار مكانين، وباعتبار التقدم المكاني سمي القدم قدماً، وقد بت الله تعالى القول بأن لا تمنى للموت منهم قط، لما احتقبوه من الآثام، وفي ذلك أعظم حجة، فإنهم ما فعلوا ذلك ولا جسروا حتى قال - عليه السلام. " لو تمنوا الموت ما قام رجل ممن مجلسه "، فلم يجسروا أن يقولوا كاذبين: نحن نتمناه، ثم بين تعالى بقوله؟ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} قدرته على معاقبتهم تهدداً لهم ...

(96)

قوله - عز وجل -: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الآية (96) سورة البقرة. الوجود يقال باعتباره بالحاسة، وباعتباره بالتخيل، وباعتباره بالفهم والعقل، ومتى قيل باعتباره بالعقل فعلى ضربين: متعب إلى مفعول واحد، ومعناه كمعنى عرفت، ومؤكد إلى مفعولين، ومعناه قريب من معنى علمت، والحرص أصله أن لا يرضى بالكفاية ويضاده القناعة، وأصله هن حرص القصار الثوب، والحارصة وهي شجة تشق الجلد، فالحرص كأنه مزيل للحياء والكرم عن النفس، وأصل الشرك مساواة اثنين فصاعداً في شيء كتجارة وزراعة وميرات [وشراك للفعل وشراك الخيط] معتبر فيه معنى الشركة، وكذا الشرك للطريق والحبالة للصائد، وصار الشرك متعارفاً فيمن يثبت مع الله إلاها آخر أو يصفه بصفة على حد ما يوصف به شي من المكونات فيطلق تارة على من لم يكن من أهل الكتاب، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، وهم الذين لا يقارون على بذل الجزية، ومرة يقال لأهل الكتاب لقولهم عزيز ابن الله والمسيح ابن الله [وقولهم اتخذ الله ولداً] ومرة يطلق على الربا ونحوه فروى أن أبا حنيفة- رحمه الله تعالي- قال لجعفر بن محمد- رحمهما الله تعالى- من أين قال أبوك: الرياء شرك؟ فقال: من قول الله- عز وجل- {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. ولما لم ينفك عامة الناس من تشبيه ما في أوصاف الله تعالى ومن رياء ما في عبادته، قصارى تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ...

والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، والعمارة قبيلة تحصل باجتماعهم العمارة، والمعمر المسكن مادام عامرة بسكانه، [والعومرة] صحْب تدل على اجتماع عمارة، والعمري في العطية منة، والألف مشتق من الألفة، وهو ضم البعض إلى البعض، فالأعداد أحاد وعشرات ومئون وألوف، فالألف يألف أنواعها، وألسنة للعرب في أصلها طريقان من جعلها من الواو، كقولهم سنوات، وكأنها اسم لدوران الفلك، ولاعتبار الدوران فيها سمي المستقى عليها والمستقى بها [اسم لدوران الفلك] ساقية، ومنهم من يجعلها أمرا لها، فيقول: سانهته مسانهة فكأنها اسم لتغير الفصول الأربعة، ومنه قيل لسنة الطعام أي تغير، والزحزحة الإزالة عن المقر وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} فمن المفسرين من يقول: تقدير الآية: " ولتجدنهم وطائفة وكثيرا من المشركين أحرص الناس علي حياة، واستبعد ذلك بعض النحويين لحذف الموصول ترك الصلة، وقيل: تقديره " وهم {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، فكأن قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} خبر ابتداء مضمر، أي هم في محبتهم للحياة من المشركين، وأكثر المفسرين على أنه عطف على معنى قوله {أَحْرَصَ النَّاسِ}، فإن قيل: كيف قال ذلك والذين أشركوا من الناس؟ قيل: لما كان للمشركين فضل اختصاص في محبة الحياة الدنيا خصهم بالذكر بعد العموم تخصيص جبرائيل وميكائيل بعد ذكر الملائكة، وتخصيص النخل والرمان بعد الفاكهة، فإن قيل: فهلاَّ قال: أحرص الناس والمشركين، أو من أحرص من الناس ومن المشركين ليكون الكلام على نمط واحد، قيل: إنما قال كذلك لمعنى اقتضاه، وهو أن أفعل يستعمل على وجهين، أحدهما مضافة إلى جملة هو بعضها نحو: هو أفضل الناس، ومعناه أن فضله زائد على جل المضاف إليه.

(97)

والثاني: أن يذكر بـ من، نحو: الإنسان أفضل من الأسد، ويرد أنه زائد على جميع الذكور، ويدلك على صحة هذا أنه إدا قيل: " زيد أفضل الناس "، وعني بالناس العموم لم يكن ذلك محالاً، لأن يقتضي أن يكون أفضل من نفسه أيضاً، إذ هو من الناس أو لا يكون منهم، فحيث ذكر تعالى الناس وأراد أنه زائد على جلهم أصناف، وحيث ذكر المشركين، عنى أنه زائد عليهم كلهم ذكر " من "، وإنما قال " على حياة " فنكرها، لأن الحياة التي يحرصون عليها هي حياة ما، وهي أحسن حياة "، فكأنها لخستها وقلة وزنها ذكرها منكرة، وإنما الحياة المطلقة هي الحياة. الحقيقية التي وصف بها وللآخرة في قوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}، فأبان الله تعالي فرط حرصهم على الحياة الدنيا، وأن تمنيهم لها فوق تمني المشركين، إذ غاية تمنيهم للحياة ألف سنة، وبذلك يتداعون، ثم بين تعالى أن بقاءهم ألف سنة لا ينقذهم من عذاب الله إن ماله مدة فقصير، وإن طال، فكما قال الشاعر: أرى العمرْ كنْزاً ناقصاً كُلَّ ليلةٍ .... ومَاَ تنقصُ الأيامُ والدهْرُ يُنْقلُ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية (97) سورة البقرة. العدو التجاوز ومنافاة الالتزام، فتارة يعتبر بالقلوب، فيقال له العداوة، وتارة في المشيء، فيقال له العدو، وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة، فيقال له العدوان، وتارة إما في المكان وإما في النسب، فيقال قوم عدي أي غرباً، وجبريل فيه لغات، وإنما كثرت فيه اللغات لكونه معرباً، وتقرأه كل [قبيلة] على حسب استحقاقه، فمنهم من لم يتحر فيه أبنية كلامهم ولا تخفيف اللفظ، ومنهم من خفف ولم

(98)

يراع البناء نحو جبريل، لأن " فعليلاً " ليس في أبنيتهم، ومنهم من راعى رده إلي بناء كلامهم، فقال جبريل نحو قنديل، وعلى ذلك اختلفت اللغات في ميكائيل، ومنهم من قال جبر هو العبد وإيل هو الله، وإن ذلك كقولهم عبد الله، فإن ذلك لا يصح على حد كلام العرب، إذ لو كان كذلك لكان مضافاً، والإذن: الإعلام بالرخصة، وقد يعبر عن الإعلام بالختم، ومعنى الآية أن اليهود زعمت أن جبريل عدوهم، فإنه لم يكن يأتي الأرض إلا بالصواعق، فقال تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} أي أن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله ومصدقاً لا تقدمه من كتب الله - عز وجل-، وهادياً ومبشرا للمؤمنين تنبيهاً على أنه لم يعاده ولا أحدا من أنبياء الله تعالى والصالحين من عباده، فليس من شأن الملك مخالفة الرب- عز وجل-، فإن هو عاداهما فلكونهم غير مؤمنين، إن قيل: كان الوجه أن يقال: " فإنه نزله على قلبي "، قيل: يجوز الأمران، فالحكاية تارة تعاد على اللفظ، نحو أن يقال: قل لهم الخبر عندي كذا وكذا، وتارة على المعنى، فيقال: " قل لهم: الخبر عندك كذا "، وعلى ذلك: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} وسيغلبون ويحشرون "، ويجوز أن يكون قوله: قل خطاباً لجبريل، كأنه قال: قل للنبي. قوله - عز وجل -: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} الآية (98) - سورة البقرة. قد يدل على تفسير هده الآية ما روي سأل عن جماعة من اليهود عن سبب امتناعهم من الإسلام، فقالوا: إن الملك الذي يأتي محمدا ... جبريل، وجبريل عدونا ولو أتاه ميكائيل لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة، فقال عمر- رضي الله عنه- أنشدكم: أين جبرائيل وميكائيل من الله- عز وجل-؟

(99)

قالوا: جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، قال، فاشهدوا أن الذي هو عدو لمن عن يمينه عدو لمن على يساره، ومن هو عدو لهما فعدو لله - عز وجل-، فرجع عمر- رضي الله تعالى عنه، وقد أنزل الله هذه الآية تصديقا لقوله، ومنبهاً بذكر من ذكرهم والجمع بينهم أنما من عادى واحداً فقد عاداهم، فإنهم أولياء من والاه، وأعداء من عاداه، وبين بدلك أن اليهود إذا عادوا أحدهم فالله عدوهم، وحقيقة معاداة الإنسان لله والبعد عنه مخالفته في تحري الصدق في المقال والحق في الفعال وأن لا يستحق أن يوصف بشيء من أوصافه، نحو العادل والجواد والكريم والقريب منه والمحب له، هو أن لا يخالفه في ذلك، وإن يصح أن يوصف بتلك الصفات وتلك المعاني هي المقتضية لمعاداة أولياء الله والداعية لارتكاب المعاصي، فإذا: قول من قال معنى قوله: {عَدُوًّا لِلَّهِ} عدواً لأولياء الله، أو قال: معناه: عاص لأمره، فإنه غير مخالف لما قلنا ... قوله - عز وجل -: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} الآية (99) سورة البقرة. عنى بالآيات القرآن وسائر المعجزات والدلالات التي أوضح الله- عز وجل - بها أمر النبي- عليه السلام-، وذكر أنه لا يجحد ذلك ولا ينكره إلا كل متناه في الكفر، والفاسق الخارج عن الطاعة، إما عن أصل الدين، وإما عن بعض الطاعات بارتكاب كبيرة، ولذلك قال- عز وجل- في إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، وقال فيمن يرمي المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فبين الفاسق والفاسق بون ..

(100)

قوله - عز وجل -: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية (100) سورة البقرة. [النبذ] والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما ينسى، وعلى ذلك قول الشاعر: كنبذكَ نَعلاً أخُلَقَتْ منْ نعالِكاَ وقيل: صبي منبوذ إذا ألقته أمه فنسيته، واستعير للشراب الملقى المنسي إلى وقت إدراكه، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء يعبتر فيه ملاقاة بين الشيئين أو بين الشيء ومكانه، ومعنى الآية: أنه لما بين تعالى أنه قد أنزل مالاً يكفر به إلاً كل فاسق بين لفظ الإنكار أن عادة بعض اليهود المذمومين تضيع العهد اللازم واطراحه، ثم بين أن عادتهم لا يؤمنون تنبيهاً أن أكثرهم وإن لم ينبذوا العهد جهاراً لم يحص منهم الإيمان الذي هو معرفة ما يجب معرفته وفعل ما يجب فعله، بل اقتصروا على ظاهر القبول الذي لا يعتد به على الحقيقة ... قوله - عز وجل -: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الآية (101) سورة البقرة. الرسول ههنا إن جعلته الرسالة أو جعلته النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - جعلته المسيح عليه السلام فالكل صحيح ومراد، وكذلك إن جعلت الكتابة ههنا التوراة أو جعلته القرآن فصحيح. لأن المنكر لأحدهما

(102)

في حكم النكر للآخر، وقد بين الله تعالى أنه لما جاءهم بعد موسى رسول مطابق له، صار فريق مما اختصوا بعلم الكتاب نبذوا أحكام كتاب الله وراء ظهورهم، فصاروا كالجهلة، وهذا الفريق غير الفريق الأول، ولهذا لم يدخل فيه الألف واللام، وقد دل تعالى بالأيتين أن جل اليهود ثلاث فرق، فريق جاهر وأنبذ العهد، وفريق لم يجاهروا بذلك، لكنهم لم يؤمنوا به، وهم أكثرهم، وفريق أخر طرحوا حكم الكتاب عناداً، فصاروا في حكم الجهلة، وهذه القسمة عجيبة الشأن، فإن دافعي الحق ثلاثة أقسام، جاهل غير عالم بجهله، وهو الشرير الذي لا مداواة له، وإياه عنى بقوله. {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}، وجاهل عالم بجهله، وهو الشاك وإياه عنى بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ومعاند غير جاهل، وإياه عنى بقوله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ووصف هذا الفريق بأن حكمهم حكم الجاهلين الذين هم فوق الموصوفين بأنهم لا يؤمنون، [وكل من دافع الحق لا ينفك من الأقسام الثالثة التي ذكرناهما والله أعلم] ... قوله - عز وجل -: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الآية (102) سورة البقرة. تلا: يقال تارة في اتباع الغير إما بالجسم وإما بالحكم، ومصدره تلو، وتلو وتارة في اتباع الكلام، وإما بالقراءة وان ابالتدبر لمعناه، ومصدره تلاوة وعلى الأول قوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}

وعلى الثاني قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}، وتلا عليه كذب نحو روي عليه، وقال عليه، (ويقولون علي الله الكذب) وأما السحر فقد اختلف في مائيته على ثلاثة أوجه، ولابد من تبيينه لينبني كلام الله عليه في هذه الآية وفي غيرها من الآيات في ذكر السحر، فالأول: ما ذهب إليه أكثر الجدليين، وهو أنه اسم خداع وتخييلات لا حقيقة له، وإنما اعتماد الساحرين على شغل القلوب بشعبذة صارفة للأبصار وتمتمة عميقة للأسماع ولصرف الأبصار، قال تعالى {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}، ولشغل الأسماع بالنميمة، قال: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، قالوا: ولهذا سمي البيانالرائق سحراً، والثاني ما ذهب إليه الأغشام من العوام وجماعة من الأشرار، وهو أنه اسم لفعل من قوته تغيير الطبائع ونقل الصور، كجعل الإنسان حيواناً أخر وذكروا من ذلك خرافات توصلت بها الملحدة والبراهمة إلى إبطال النبوات والمعجزات، والثالث ما ذهب إليه محصلة أهل الأثر وعامة المتوسمين بالحكمة، وهو أنه عمل يقرب إلى الشيطان بمعونة منه، وذلك أن توقع الساحر وهمه على أمر يريد فعله بالغير لافظاً بكلمات من الشرك ومادحاً للشيطان مستعيناَ به والدي يحتاج إليه في معرفة ذلك مقدمة، وهي أن الجواهر المكلفة ضربان جسماني محسوس، وروحاني معقول، فكما أن الجسماني بالقول الجمل ثلاثة أقسام: خيَّر، وشرير، ومتوسط، كذلك الروحاني، فالخير من الروحاني الأرواح المقدسة، وهي الملائكة، والشرير شياطين الجن والمتوسط مؤمنو الجن كمن نزل فيهم سورة الجن، ولا كانت الملائكة لا تواصل ولا تعاون إلا خيار الناس كل متأله نقي، وكل ناسك تقي متشبه بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى الله - عز وجل- بالفعل والقول، كذلك الشياطين لا تواصل ولا تعاون إلا الأشرار من الناس كل مشرك خبيث عابد للشيطان معاند للرحمن، ولهذا قال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، وقال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، وقال: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} إن قيل: لو أمكن الإنسان من جهة الشيطان الوقوف على الأخبار الغائبة والأفعال

الخارجة عن عادة البشر لكان يشبه طريق النبوة بطريق السحر، ولكن يجوز استغواء الساحر بسحره متصوراً بصورة نبي، وذلك يؤدي إلى ما ادعاه ما في الزنديق على كثير من الأنبياء في أنهم كانوا سحرة معاونين من قبل الشيطان، لا من قبل الرحمن - عز وجل -، قيل: الفرق بين ما يكون من فعل السحرة وبين ما يكون من الأنبياء لا يخفى على متنبه في المعرفة ومتدرج في أدنى منزلة من الحكمة، فإن تأثير السحر لا يكون إلا في فساد جزئي من كل مشرك خبيث في نفسه شرير في طبعه متدنس في بدنه، ولذلك أكثر ما يقع في حيض النساء وعبدة الأصنام وضعاف العقول وفي الأمكنة القذرة، وأكثر تأثيرهم في مجالسهم، ثم لا يكون في الندرة، ومتى قوبل بالاستعاذة بالله تعالى وبذكره بطل سلطانه، فأما ما كان من الأنبياء عليهم السلام، فلا يحصل إلا من كل مؤمن محصن الإيمان مقدس في نفسه خير في طبعه طاهر في بدنه [ويكون تأثيره] في أولي العقول الراجحة والأفهام البارعة، ويزداد بازدياد التقرب إلى الله تعالى، وذلك ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد، ولو لم يكن للسحر حقيقة لا أعظم الله أمره في قوله: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، ولما أمروا بالتعوذ من شر النفاثات في العقد، ولو كان كما قال الجدليون لما ورد والشرائع بقتل السحرة ونفيهم عن بلاد الإسلام، ولما أجرى مجرى الشرك حتى قال بعض الفقهاء: لا تقبل توبتهم كالمستسر بالكفر، والنميمة والخديعة لا تستحق بها هذه العقوبة، فإن قالوا فالذي هو كفر هو ما تقول العامة إن الساحر يطير بلا جناح، ويكفي البيضة والمكنة، فيبلغ في أقصر مدة إلى بلد بعيد، قيل: مدعى دلك ومصدقه سخيفان يضحك منهما، ولا خلاف أن بذلك لا يستحقان الارتداد والقتل، وإنما يستحق القتل إذا ادعى قتل الإنسان بسحره على شرائط مخصوصة على قول بعض الفقهاء أو ادعى ما ينبئ عن صريح كفر، وقد أنكر الجدليون ما روي في ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الواضحة كنحو ما روي أن اليهود سحرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه السلام: " أتاني ملكان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما: ما بالرجل فقال الأخر: مطبوب، قال: ومن طببه؟ قال: بنات لبيد بن

أعصم اليهودي "، فبماذا قال في مشط ومشاطه، وجف طلعه ذكر في بئر ذوى أروان، فبعث من أخرجه وحل عقده، فكلما حل حل عقده، وجد لذلك خفة كأنما أنشط من عقال " قالوا: إن ذلك إن قلنا بصحته لكان يقدح في نبوته، وليس الأمر على ما ظنوه لما تقدم، ولأن تأثير السحر لم يكن في النبي - عليه السلام - من حيث ما هو نبي، وإنما كان في بدنه من حيث هو إنسان وبشر، وكما كان يأكل ويتغوط ويشرب ويمشي ويقعد ويغضب ويشتهي ويمرض ويصح من حيث هو بشر لا من حيث هو نبي، وإنما كان ذلك قادحا في النبوة لو وجد للسحر تأثير في أمر يرجع إلى النبوة، ثم كون النبي - عليه السلام - معصوما من الشيطان لا يقتضي أن لا يؤثر في بدنه ذلك تأثيراً صغيرا لا يقدح فيه من حيث ما هو نبي، فقد كأن تأثير ذلك في جزء من بدنه تأثيرا محسوسا لم يتعده إلى زوال عقله ولا إلي إفساد نفسه، كما أن جرحه وكسر ثناياه يوم أحد لم يقدح فيما ضمن الله له من عصمته، حيث قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وكما لا اعتداد بما يقع في الإسلام من ارتداد أهل بلد أو غلبة المشركين على بعض النواحي فيما ذكر من كمال الإسلام بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ومن أثبت كليات الحقائق بإثبات جزئياتها لم يسعفه في قياسه لدى التحصيل مقدمته ولا يثبت به في المقامات قدمه، وأما متصرفات لفظ السحر، فقد كثرت، وذاك إنه من حيث يتصور تارة دقته وتارة، حسنه وتارة فتنته، وتارة خبثه وشرارته استعمل في كل ذلك لفظه بحسب تصور كل واحد من ذلك، فسمي الشعبذة سحرا ومنه قوله: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}، والكلام الرائق سحرا، ومنه قيل: (إن من البيان لسحرا)، والعين الفاتنة ساحرة، والعالم ساحرا، [وعلى ذلك حمل قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}، والفعل الدقيق سحرا] حتى قالت الأطباء: الطبيعة ساحرة، وسمي الغذاء

سحرا من حيث يدق تأثيره، قال: وتسحر بالطعام وبالشراب والسحر الرئة، فيجوز أنه سمي بذلك اعتبارا بدقة تأثيره في ترويحه القلب بإيصال النفس (البارد إليه) إخراج الحارمنه، فكأنه ساحر في فعله ذلك، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} قبل من المخلوقين وحقيقته من المجعول له سحر، أي من الحيوان، وقيل فيه، وفي قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، أي معه رأي من الجن والفتنة: اختيار بتعذيب، ولما انطوى معناها على الأمرين استعملت في كل واحد منهما مفردة نحو قوله: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي عذابكم وفتنت الذهب إذا اختبرته بالنار، وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} يحتمل الوجهين، والآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود، وهي منطوية على أمرين: ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره وتبرئة لسليمان - عليه السلام - مما نسبوه إليه، وذلك أنه روى أن الشياطين من الإنس والجن دفنوا تحت كرسي سليمان عليه السلام شيئا من السحر، فلما مات عليه السلام أخرجوا ذلك، وادعوا أنه كان يتحرى ما يتحراه سحراً منها فذكر الله تعالى أن بعض اليهود اتبعوا ما تخرصه الشياطين على ملك سليمان، ونزه سليمان عن الكفر وما نسب إليه من السحر، وذكر أن الشياطين هم المستحقون لذلك، واختلف في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} فقيل فيه ثلاثة أقوال: الأول: أن ما جرى معطوف على قوله {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ومعناه: كذبوا على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين والثاني: أن ما نفى وعلى القولين: قيل لم يعلم الملكان السحر، بل كانا ينهيان عنه {حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي حتى بلغ من نهيهما عن ذلك أنهما كانا يقولان إنما نحن فتنة، أي مفتونون بأن نعلم السحر وذلك مستبعد من حيث اللفظ، فإنه إنما يقال: فلان لا يفعل كذا حتى إنه يقول كذا على سبيل الاستئناف، ولا يقول حتى يقول، وقال هذان القائلان معنى (ويتعلمون منهما) أي

من السحر والكفر، وقد جرى ذكر السحر صريحاً، وذكر الكفر ضمناً في قوله، كفروا، والثالث قول أكثر المفسرين إن (ما أنزل) نصب معطوف على قول السحر، ومعناه علم السحر وكيفية تعاطيه وقوله " منهما " راجع إلى الملكين، وكان تعليمهما ذلك ليحترز به، لا ليتعاطى فعلها ولهذا كانا يقولان (إنما نحن فتنة فلا تكفر)، والذي أنكره من يذهب إلى التقديرين الأولين هو لظنه أن علم السحر محظور كفعله، وليس الأمر على ما ظن، وذاك لما قد ثبت أن الحكمة معرفة الصدق من الكذب في الأقوال والخير من الشر في الأمور ليتحرى الصدق والخير ويتجنب الكذب والشر، فمعرفة الكذب. والشر إذا واجبة كوجوب معرفة الصدق والخير، بل لا يتم معرفة أحدهما إلا بالآخر كما قد تبين أن المعرفة بالمتضادين واحد، وإن كان معرفتهما لازمة، فتعريفهما واجب، وإنما المستقبح تعاطي الكذب والقبيح، فإذا كان كذلك فلا ضير أن يبعث الله تعالى من قبله في وقت يكثر فيه الاستغواء بالسحر هن ينبه على وجه احتياله، فتزول عن الناس الشبهة، ثم إن استعان شرير به على تعاطي شر، فهو كالاستعانة بتعلم الفقه وتعاطي العبادات لاستغواء الناس، فما من شي من المعادن أو من المعارف والعلوم نسخ في هذه الدار مصلح لخير إلا ويمكن استعماله في شر، ومن لم يتمسك فيما يتحراه بالطاعة وقع في المعصية أو الكفر، وأما هاروت وماروت فالظاهر أنهما. كانا الملكين، وقيل: كانا رجلين سُميَا ملكين اعتباراً بصلاحهما ولهذا قرأ بعض القراء {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} اعتباراً بملكهما، وقال بعض المفسرين إن الملكين ليسا بهاروت وماروت، وإنما هما شيطانان من الجن والإنس وجعلهما نصباً في اللفظ بدلاً من الشياطين بدل البعض من الكل كقولك: القوم قالوا كذا زيد وعمرو، قال: ويكون قولهما: (وإنما نحن فتنة) كقول الخليع لغيره: لا تعيرني فإني خليع فاسق، ويكون قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} نفقاً اعتراضاً بين البدل والمبدل منه، وروى بعض من جعلهما ملكين أنهما كانا صيُراً على صورة الآدميين وركب منهما الشهوة، وأنهما تعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على شرب الخمر وارتكاب المحظور ثم صعدت إلى السماء، فقد استسخف جماعة الجدليين قائل هذا الحديث وعدوه خرافة ينره العاقل سمعه عن سماعه، وذكر بعض الناس أن ذلك رمز منقول عن

كلام القدماء، وكان عادتهم أن يرمزوا بكثير من العلوم قال: وهذا من رموزهم، وهو أنه كان عادتهم إذا أرادوا تبيين اختصاص كل نجم بفعل يختص به جعلوه بصورة متعاطي الفعل الخاص به ويقول: إنه فعل كذا وقال كذا، ولما كان من شأن الزهرة على ما يدعون حمل الإنسان على تعاطي الغزل واللهو واللعب والشرب كنوا عنه بذلك، وعلى ذلك قالوا: الأفعال الزهرية كناية عن الغزل واللعب، وعلى ذلك فعلوا في سائر النجوم حتى جعلوا لها صوراً مصورة في الكتب على هيأت المتعاطين الصناعات المختصة بطبعها والله أعلم بذلك، وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} قيل: عني به الرجل وامرأته، وقيل: عني به الإنسان وقرناءه وأصدقاءه امرأة كانت أو غيرها، نحو قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، وقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} معطوف على ضمن ما تقدم، كأنه قال: يعلمون فيتعلمون، وقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة، وقد يقال للعلم، ومنه أذنته بكذا، ويقال في الأمر الجسيم، وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان، أحدهما: الإذن لقاصد الفعل في مباشرته نحو قولك: أذن الله لك أن تصل الرحم، والثاني: الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله والترياق في تخليصه من أذيته، فإذن الله تعالى في وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني، وذلك هو المشار إليه بالقضاء، وعلى هذا يقال: الأشياء كلها بإذن الله وقضائه، ولا يقال: الأشياء كلها بأمره ورضاه، والضر ما يعوق الإنسان عن فعل الخير سواء كان ذلك مما يعرض في بدنه، أو كان شيئا خارجاً منه، والنفع ما يسهل سبيل الإنسان إلى الخير، ومن قال: النفع هو اللذة، فإنما اللذة بعض النفع، فقد يكون الشر نافعة، ولا يكون لذيذاً، إن قيل: كيف قال: {مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} وما يضر يعلم أنه لا ينفع؟ قيل: إن ذلك من وجه ووجه، فقد يكون الشيء نافعة من وجه وضاراً من وجه، وتعلم السحر كان

نفعاً لو احترزوا بمعرفته عمن يغوى، فلم ينتفعوا به من هذا الوجه واستضروا به لاستعمالهم إياه في غير الحق ولقد علموا أن من استبدل ما جاءت به الشياطين من السحر بالحق أن لاحظ له في الآخرة. قوله - عز وجل -: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الآية (102) سورة البقرة. ويصح أن يكون معطوفاً على المعلوم، وهو قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ويصح أن يكون استئنافا حكماًَ به، وجواب قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} محذوف. إن قيل: كيف أثبت لهم العلم في أول الكلام ونفى عنهم في أخره؟ فالجواب في ذلك من أوجه .. الأول: أن العلم المثبت لهم هو العقل الغريزي، وما جعله لهم بصيغته، والمنفي عنهم هو المكتسب الذي هو من جملة التكليف، والثاني: أن المثبت لهم هو العلم بالجملة، والمنفي عنهم هو العلم بالتفصيل، فقد يعلم الإنسان مثلاً قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح، فكأنهم علموا أن شرى النفس بالسحر مذموم، لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من حملة ذلك القبيح، والثالث: أنهم علموا عقاب الله، لكن لم يعلموا حقيقة عقابه وشدته، والرابع: أن معنى قول {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يعملون به، لأن من لا يعمل بما يعلم فهو في حكم من لا يعلم.

(103)

قوله - عز وجل -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الآية (103) - سورة البقرة. الثؤوب: رجوع الشيء إلى حالة شبيهة بالحالة الأولى، يقال: ثاب الحوض إذا امتلاء بعد فراغه عقيب امتلائه، والثوب لتصوره بصورة القطن لاجتماع أجزائه بعد تفرقها بالغزل، والثيب من النساء لعودها إلى الأيمة، والتثويب في الصوت ترديده، والثواب والمثوبة في الخير تحصيل نفع يثوب إليه بإحسانه، ومعنى الآية: لو أمن الذين يتعلمون السحر واتقوا لأثيبوا وكان ذلك خيرا لهم، ولو علموا لظهر لهم ذلك، وجواب لو [الأولى] ما دل عليه لمثوبة وتقديره: لأثيبوا، تقول: لو أتاني زيد لإكرامي خير له، ولا تقول له أتاني زيد لعمرو منطلق، إذ لم يدل لفظ عمرو على فعل، وجواب لولا يكون إلا فعلاً، أو ما دل عليه، ومن النحويين من أجاز ذلك إذا دل الخبر على فعل ... قوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية (104): سورة البقرة: الراعي: حفظ الغير في أمر يعود بمصلحته، ومنه: رعي الغنم، ورعي الوالي الرعية، وعنه نقل: أرعيته سمعي، وتشبيهاً برعي الغنم قيل: رعيت النجوم إذا راقبتها، وكان يقال للنبي- عليه السلام-[راعنا] أي استمع إلينا واحفظنا، فقالت اليهود: راعنا تعريضاً به من الرعونة، فلما عوتبوا قالوا: إنما نقول مثل ما يقول المسلمون، فنهوا عن ذلك، وقيل لهم: قولوا بدل ذلك انظرنا، وذلك معناه معنى راعنا، وقد نبه على ذلك بقوله- عز وعلا-: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} الآية، وقوله: {وَاسْمَعُوا}: يجوز أن يكون من جملة ما أمروا لن يقولوا مع قولهم " انظرنا " ويجوز أن يكون ذلك استئناف أمر من الله تعالى بامتثال ما أمرهم به، وقيل: إنما نهوا عن قولهم: " راعنا " لكونه

(105)

مفاعلة متضمنة لمعنى المساواة بين المخاطب والمخاطب، فأمروا بتوقيره، كما قال {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}، وكقوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}، وذلك عن ابن عباس- رضي الله عنه-، وروي عن مجاهد أن معناه: لا تقولوا خلافاً ويكون من الرعن، وأسترذل هذا الوجه، لأنه لو كان كما قال لكان في القراءة رعناً بالتنوين. قوله - عز وجل -: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الآية (105) - سورة البقرة. الود: محبة الشر مع تمنيه، ولما كان لهما استعمل في كل واحد منهما، فقيل: وددت فلانا إذا أحببته، وددت الشيء إذا تمنيته، وأصل الاختصاص الخصاص وهو فرجة بين الشيئين، ومنه الخُص لبيب من قصب لما فيه من الفرج، وسمي انثلام الحال خصاصاً وخصاصة على التشبيه، كما سمي انثلاماً واختلالا وشعباً، وخصصت فلاناً وخصني أوليته خصاصي نحو خللته، وقولهم: وقفتهم على عجزي ونحري، وخُصان الرجل خلانه، ثم جعل الخاص مقابلاً للعام في التعارف، وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من اليهود كانوا يظهرون مودة المسلمين، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير، فأكذبهم الله تعالى في ذلك، ونفي ما أدعوه وكان المسلمون يوالونهم ويركنون إليهم، فأكذبهم الله تعالي في ذلك [ونفى ما ادعوه] ونهاهم تعريضاً عن موادتهم، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} إن قيل: فلم قال: " ولا المشركين " وذلك يقتضي أن المشركين ضربان، كافر، وغير كافر كما أن أهل الكتاب ضربان؟ قيل: إن " من " في قوله (ومن أهل الكتاب) للتبيين {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}، فإذا كان كذلك، فالذين كفروا هم أهل الكتاب، فجاز أن يقال: (ولا المشركين) عطفاً على لفظ أهل الكتاب، وجاز أن يقال (ولا

(106)

المشركين) عطفاً على الذين، ولو قرئ به لجاز، كما جاز، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} والكفار النصب والجر جميعها ومن في قوله: {مِنْ خَيْرٍ} لاستغراق الجنس، وبين بأخر الآية أنه وإن اختص برحمته بعض الناس، فليس ذلك لضيق فضله، بل فضله عظيم، ورحمته [تسع كل شيء وإنما يسع رحمته] ضربان، أحدهما يصل إليه كل من شاء الوصول إليه من العباد بتمكين الله إياه وضرب يخص تعالى به بعض عباده لا يعرفه في ذلك .. قوله - عز وجل -: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية (106) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في مناهية النسخ والفرق بينه وبين التخصيص في صدر الكتاب، والنسخ في اللغة إزالة الصورة عن الشر وإثباتها في غيره كنسخ الظل للشمس، ثم يقال في إزالة الصورة من غير إثباتها في غيره نحو قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}، ويقال أيضاً في إثبات مثل تلك الصورة في الغير من غير إزالتها سكن الأول كنسخ الكتاب وأصحاب التناسخ زعموا. أن النفوس تنتقل من هيكل إلى هيكل، فإن كانت محسنة انتقلت إلى هيكل متنعمة فيه، وإن كانت مسيئة فإلى هيكل معذبة فيه، وليس الإنسان الأمر بالترك المؤدي إلى النسيان، وليس كل متروك يقال له منسئ، وقرئ ننسأها من النسئ، وهو تأخير الشيء عن وقته أو عن هيئته، فمما هو بالوقت قولهم: نسأت في ظمي الإبل، ونسأ الله في أجلك، و " نسأت المرأة " تأخر وقت حيضها، وأنسأت فلاناً البيع، وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} ومما هو بالهيئة نسأت الإبل عن الحوض،

ونسأتها في السير، ومنها المنسأة للعصا التي يطرد بها، وحمل المفسرون النسخ والإنساء على وجهين: أحدهما أن النسخ هو إزالة الحكم من غير اللفظ، أو الحكم مع اللفظ، والإنسان مقابله، وهو أن لا ينسخ بل يُقر، والثاني: أن النسخ إزالة الحكم فقط ثبات اللفظ أو لم يثبت، ولهذا قال الفقهاء: إن النسخ لا يكون إلا في معنى الأمر والنهي معني الخبر والإنشاء يكون في الإخبار وفي الأمر والنهي، لكن في الخبر معناه لا يزول وإن زال اللفظ، وقد يستعمل أحد اللفظين مكان الأخر، فمن هذا ما روت عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنه نزل في قصة أهل بئر معونة قرآن منه: (بلغوا قومنا) أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا)، ثم نسخت، ففيه دلالتان: إحداهما أن قوله: (لقينا ربنا) إخبار، وقت سمته نسخاً، والثانية: أنها استعملت النسخ في رفع التلاوة دون المعنى، وعلى ذلك ما روي أنه كان فيما أنزل الله: (لو أن لابن أدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملا جوف ابن أدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)، ثم نسخ وذلك خبر، وقيل: الكلام في تأويل الآية أن يذكر ما يكشف خطأ اليهود وشرذمة من المسلمين أنكروا النسخ زاعمين أن ذلك هو المبدأ، ولا يفعلن إلا من يجهل العواقب ويتجدد له رأي بعد رأي، فيقال وبالله التوفيق ... " إن لله تعالى خلفاء في الأرض مستخلفين فيها ومستعمرين فيها لنتوصل بذلك إلى مجاورته والقرب منه بحياة لا موت بعدها، وغنى لا حاجة معه، وقدرة لا يعتورها عجز، ولا سبيل إلى ذلك إلا باكتساب الصحة في النفس، وصحتها أمران: العلم والعمل، أما العلم: فمعرفة الصدق من الكذب، والجميل من القبيح، والخير من الشر، وأما العمل: فتحري الصدق في المقال والجميل في الفعال وتجنب ضديهما، وكما لا سبيل إلى استفادة صحة البدن إلا بطبيبين، أحدهما من داخل وهي القوة

التي سخرها الله تعالى لاستدعاء الطعام وهضمه ودفعه، والثاني من خارج، وهو الذي يتلف من هذه القوة إذا اختلت، كذلك لا سبيل إلى استفادة صحة النفس إلا بطبيبين أحدهما من داخل وهو العقل، والثاني من خارج وهو النبي وكما أن أدوية البدن وأغذيته العقاقير والأطعمة، فأدوية النفس الأعمال الشرعية والآداب الخلقية، وكما أن طبيب البدن قد يغير الأغذية والأدوية التي يتوصل بها إلي استفادة الصحة واستبقائها لاختلاف الأزمنة، كذلك الأنبياء من قبل الله قد يغير الأعمال الشرعية التي هي مصلحة للأنفس حسب ما يعرف الله من مصالحها، فكما يكون الشيء دواءً للبدن في وقت، ثم يكون داءً في وقت غيره، ذلك الأعمال قد تكون مصلحة في وقت، مفسدة في وقت، ولكون الشريعة طلباً للنفوس قال المسيح: " إنما أنا طبيب المرضى "، وروى: أن العالم طبيب الدين، والدنيا داؤه فإذا جر الطبيب الداء إلى نفسه، فكيف يداوي غيره، ومما يبين جوار النقل من حكم إلى حكم نقل الله تعالى الأشياء حال إلى حال حتى ينتهي إلى أقصى الكمال كمال الإنسان من مبدأ إلى منتهى عمره وذلك من حين النطفة، ثم العلق، ثم المضغة، ثم كونه جنيناً، ثمة طفلاً، ثم ناشئاً وكهلا وشيخاً وهرماً، ثم ما نبه النبي عليه السلام بقوله: " إن لكم معالم، فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلي نهايتكم "، ولو كان نقل الشرع من حال إلى حال قبيحاً لكان بعثة موسى ونقله اليهود عن بعض ما كانوا عليه قبيحاً، وأماما حكوه عن موسى عليه السلام- أنه قال لبني إسرائيل هذه الشريعة لازمة لكم أبدآ مادامت السموات والأرض، فلفظ محتمل وفي إتيانه على وجه محتمل حكمة عظيمة قد ذكرها الحكماء، وهي أن من عادة العامة وغريزتها أن لا ينقاد كل الانقياد لراع أو رئيس إذا علموا كونه مصروفاً من بعد، بل يستوهنون أمره ويضعفون حاله، فإذا واجب أنما لا يعلموا بأن أمره غير ممتد، وأن لا يبين ذلك إلا للأعيان الذين لا يكون منهم مفسدة، فلهذا كانوا الألفاظ الواردة من الأنبياء عليهم السلام محتملة أن شريعتهم على التأييد، فإن قيلت إن ذلك يؤدي إلى أن يقال في

نبينا- عليه السلام- إنا لم نعلم كونه دينه- عليه السلام- على التأييد من قوله فقط، بل علمنا ذلك قول من قوله ببرهان، وهو أن دينه بالاعتبار العقلي وسحل كما وصفه تعالى بقوله: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وأنه مصون عن الإفراط والتفريط والوسط الذي هذا صفته هو الحق الذي قال تعالى فيه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}، ولشرح دلك موضع غير هذا وبالله التوفيق، وأما معنى الآية، فعلى قول من يجعل الإنشاء مقابلاً للنسخ قال: لما أنكرت اليهود تحليل الله الشيء في وقت [وتحريمه في وقت] بين الله تعالى أن جميع ما في التوراة، والكتب المتقدمة ضربان إما حكم قد نسخ فأتى بما هو خير أي أنفع لكم، أو يترك فلم ينسخ وأتى في القرآن بمثله، أي جمعناه في لفظ آخر، فيكون بقوله: (بخير منها) راجعاً إلى النسخ وبمثلها إلى الإنسان، فإن قيل: إن الذي ترك ولم ينسخ ليس هو مثله بل هو هو، فكيف قال بمثلها؟ قيل: الحكم الذي أنزل في القرآن وكان ثابتا في الشرع الذي قلنا يصح أن يقال هو هو إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته التي هي اللفظ، ويصح أن يقال: هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط، بل اعتبر باللفظ، ونحو ذلك أن يقال ماء البئر هو ماء النهر إذا اعتبر جنس الماء، وتارة يقال: مثل ماء النهر إذا اعتبر قرار الماء، وعلى قول من جعل الإنسان ترك اللفظ حتى تنسى قال: معناه: إدا أزيل حكم آية أو أنسى لفظها نأت بما هو أوفق لكم وأقرب إلى أن يبلغوا به إلى ما أريد منكم، ثم قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا تحسبن أن تغييري الحكم حالاً فحالاً وإن لم آت بالثاني في الابتداء هو العجز، فإن من علم قدرته على كل شي لا يظن ذلك، وإنما يعتبر ذلك لا يرجع إلى مصلحة العباد، وبدأ الأليق بهم في الوقت المتقدم الحكم المتقدم وفى الوقت المتأخر الحكم المتأخر، وقال بعض المحققة أن الآية مع هذا الظاهر تنبئ عن معنى لطيف، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان خلقة تدرجه من حال إلى حال إلى أنما يصير كاملاً موصوفاً بعام

صفاته ومتخصصاً بالبقاء الأبدي والغنى السرمدي ومنفكاً من الحاجات والنقصانات كلها، فنبه الله تعالى أن هذه الأحوال آيات له ينسخها إلى مثل ما هو كالأول من وجه وخير منه من وجه، ثم بين أنه تعالى قادر على ذلك إذ هو قادر على كل شيء، وقد تعلق الشافعي وأصحابه في قولهم: إن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن بهذه الآية، ووجه ذلك أن قولنا هدا خير من كذا، وأفضل منه يرجع إلى شرفه من ثلاثة أوجه إما إلى فضل موجده، أو إلى جنسه، أو إلى تأثيره، مثال الأول: قولك: أفعال الله أفضل من أفعالنا، ومثال الثاني الملائكة أفضل من الحيوان ومثال الثالث: السيف أفضل من العصا ومثل يقال على ثلاثة معاني لها ثلاثة ألفاظ مماثلة في الجنس، ويقال لها الند مماثلة في الكيفية، ويقال لها الشبه ومماثلة في الكمية، ويقال لها المساواة، وثلاثتها يقال لها مثل، وقد ضمن الله تعالى أنه لا ينسخ آية إلا بخير منها أو مثلها، فالسنة ليست بخير من الآية ولا مثلها في الجنس، إذ جنس القرآن تتعلق به المعجزة وإن أمكن أن يقال: هي مثلها في الوصفين الآخرين، وأما وجه قول مخالفيه، فهو أن الله تعالى وإن ذكر الآية، فإنما أراد حكمها، لأن النسخ لا يكون إلا في الأحكام، فإذا قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ليس إلا في الأحكام، فكأنه قيل: " ما ننسخ من حكم الآية إلاً نأت بخير منه أو مثله، فعلى هذا مدار الكلام وتعلق أهل الظاهر بالآية، حيث ذكروا أن الناسخ لابد أنما يكون أخف من المنسوخ، وذهبوا في الخفة إلى ما يستخفه النفس بالطبع، وذلك بعيدا فإن الشريعة مبنية على مخالفة النفس وعلى مجانبة مقتضى الطبع، ولهذا قيل هذا إذا عن أمران، فاشتبه وجه الصواب فتخير أثقلهما على النفس، وعلى هذا قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. إن قيل: إذا لم يحمل خبر علي التخفيف فليست الثانية خيراً من الأولي في شي من الأحوال، لأن الأولى في الوقت أصلح وأفضل، والثانية في الوقت أصلح وأفضل، فقد تساويا في عظم المصلحة، وبطل أن يكون الثانية خبرا بأن يكون أثقل وأكثر أعمالاً ليكون أجزل في الأجر وأكثر ثواباً، ومع هذا

(107)

فإن الثانية خير من الأولى في الوقت الثاني، لأن الأولى قد بطل العلم بها، وقوله بخير منها يعني في الوقت وتعلقهم بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فبعيد، فإن التخفيف واليسر في الأمور الإلهية في الدنيا والآخرة هما مما تستثقله النفس، أما في الآخرة، فأنه لا وصول إلى ذلك إلا بتحمل المشاق في الدنيا والعمل بالطاعات ومخالفة الهوى، وأما في الدنيا فإن التخفيف واليسر مع حصول العلم والصبر والعفة الواضحة عن الإنسان ثقل الجهل والجزع والخوف والفقر. قوله - عز وجل - {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} الآية (107) - سورة البقرة. الولي يقال تارة لمن له موالاة نسبية أو خلف، وتارة لمن له ولاية سلطانية، وإنما ذكر الولي والنصير، وهما متقاربان بالعنف، لأنه قد ينفك الولي من النصرة بأن يكون ضعيفاً، والنصير من الولاية بأن يكون عن المنصور أجنبياً، وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّه} ِإذا تصور خطاباً للكفار اقتضى وعيدا أي لأولي وناصر يحميكم عنه نحو قوله تعالي. {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} إدا تصور خطابة للمؤمنين اقتضى تسكيناً لهم أي لا تعتدوا بمن يواليكم وينصركم سواه، كقوله: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، وإذا اعتبر بهما فالمعنيان فيهما موجودان أي لا تعتقدوا أن لكم ولياً وناصراً إذا لم يكن الله وليكم تنبيها أنه تعالي هو الذي لا يمكن تصور ولي وناصر مع تصور

(108)

ارتفاعه عز وجل، وإنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (ألم تعلم) وإن كان الخطاب له ولغيره، لذكره العلم ولا أحد من البشر أعلم بذلك منه- عليه السلام-، أو قد وقف من أسرار ملكوت السموات والأرض على ما لم يوقف عليه غيره والقصد بالآية، أنهم لما أنكروا النسخ معرفتهم أنه تعالى ينقل عباده من حكم إلى حكم على ما يرى من مصالحهم، وبين أن ذلك ليس لعجزه، إذ هو قادر على كل شيء ومالك له، إنما قيل: لم كرر: " ألم تعلم "، ولم يعطف الثاني على الأول، قيل إنه لا جعل حكم الثاني كالعلة للأول أخرجه مخرج الأول، فكأنه قيل: " هو على كل شي قدير "، لأن له ملك السماوات والأرض، وإخراج الكلام على لفظ التقرير لكونه أبلغ في حكم الخطابة، وموضع قوله: (ومالكم) معطوف على موضع {أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ... قوله - عز وجل - {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} الآية (108) - سورة البقرة. السبيل والطريق يتقاربان لكن السبيل يقال على اعتبار السبل، كقولهم: طريق مسنون، ومنه أسبلت الإزار، والستر والسبلة المسترسل من الشعر على الشفة العليا والسبيل المطر مادام بين السماء والأرض، والطريق يقال على اعتبار طرقه بالأرجل، االسواء أصله يستعمل في المكان الذي يستوي فيه إليه مسافة الطرفين وفي ذلك معنى القصد والعدل، فصح أن يفسر بالوسط وبالقصد وبالعدل وليست هذه الألفاظ في تفسيره أقوالاً مختلفة كما ظنه بعض المفسرين، وأما " أم "، فقيل هو معطوف على قوله: (ألم تعلم)، وتقديره: ألم تعلموا ذلك أم لم تعلموا فتسئلوا رسولكم، وقيل هو لاستئناف الاستفهام المفسر بها، كقول الشاعر: كذبتْكَ عيْنُكَ أمْ رأيْتَ بِواسطٍ؟

وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن أهل الكتاب سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذلك هما ذكره في قوله- عز وجل {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية-، وقيل: هو ما سأله مشركو العرب وهو قولهم له {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} وقيل: سألوه أن يجعل الصفا ذهباً، فقال: هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا، وقيل، سألوه أن يجعل لهم ذات أنواط وهي شجرة تعلق فيها الأسلحة ليقتدوا بالمشركين في اتخاذها فقال عليه السلام: (الله أكبر، سألتم كما سال بنو إسرائيل موسى، فقالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، إن قيل: ما فائدة قوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} ومعلوم أنه بدون الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل؟ قيل سواء السبيل وفي ذلك تنبيه أن ضلالة سواء السبيل قائدة إلى الكفر بعد الإيمان، ومعناه: " لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتفضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان "، فمبدأ ذلك الضلال عن سواء السبيل، ووجه آخر وهو أنه سمي معاندة الأنبياء عليهم السلام بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفراً، إذ هي مؤدية إليه، كتسمية العصير خمراً، فقال: " ومن يتبدل " أي يطلب تبديل الكفر والإيمان أي بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس فقد ضل سواء السبيل، ووجه ثالث، وهو أن ذلك نهاية التبكيت لن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه، ووجه رابع: وهو أن سواء السبيل إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس ما عليها، والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع، فقال: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} أي بالإيمان الكتاب فقد أبطله وضيع الفطرة التي فطر الناس عليها، فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك ...

(109)

قوله - عز وجل -: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية (109) - سورة البقرة. الحسد: كراهية نعمة على مستحق لها، وعدت من عظائم الذنوب، إذ هو معاندة الله في إرادته، وهو شر من البخل، فإن الحسد بخل على الغير بنعمة من لا تنفد العطايا نعمه، والعفو ترك العقوبة على المذنب، والصفح ترك ترئته، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، وصفحت عنه: أي أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عن ذنبه، أو لقيت صفحته متجافياً عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه إلى غيرها من قولك: تصفحت الكتاب، وفي الآية تنبيه أن كثيراً من أهل الكتاب يتمنون ارتدادكم بعد إيمانكم حسداً، وقوله: (من عند أنفسهم) أي من عند هواهم كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، وعبر عن الهوى بالنفس وهي الأمارة بالسوء، وبين أنهم فعلوا ذلك بعد وضوح الحق لهم، ولكنهم بحسدهم وهوائهم لا يتحرونه، ولا يحبون أن يتحراه غيرهم، ثم أمر بالتجافى عنهم إلى أن يأتي الله بأمره تسكيناً لهم ووعداً بتغييره لقدرته على كل شك، وروي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن هذه الآية منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وقال غيره: هي غير منسوخه، وهذا الخلاف يرجع إلى اختلاف نظيرين، وذاك أن كل أمر ورد مقيداً بانتهاء ما معين أو غير معين فورود الأمر بخلافه يصح أن يقال: هو نسخ له من حيث إنه يرفع الأول، ويصح أن يقال: إنه ليس بنسخ، فإن النسخ في الأمر المطلق.

(110)

قوله - عز وجل -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآية (110) - سورة البقرة. هذا معطوف على قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}، ومعناه: اشتغلوا بالعبادات التي يعود عليكم فعلها نحو: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، وجعل ثواب الفعل نفس الفعل لكونه إياه في التقدير، وبهذا النظر سمي ثوابه وهو الثائب إليه، فلذلك قال: تجدوه، وبين أن كل خيري حصله الإنسان فمدخر له بخلاف عمل الكفار الذي قال فيه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، وبخلاف عمل الدنيا الذي قال فيه: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، وعلى ذلك قال: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ}، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، وأمنهم من ضياع ما يقدمونه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تنبيها على نحو قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}. إن قيل: كيف قال تجدوه، ومن أحبط عمله لا يجده! قيل الخبر المقدم في الحقيقة هو الذي لم يحبط، فأما ما أحبط فقد أخرج من كونه خيرا [وإن كان] قد يسمى في بعض الأحوال خبراً بنظر من يضعف نظره ...

(111)

قوله - عز وجل -: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية (111) - سورة البقرة. البرهان: كل حجة لا يعتريها شبهة بوجه. وهود، قال الفراء: أصله يهود، فحذف ياؤه لكونها زائدة، وقال غيره: هو جمع هايد أي تائب نحو: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، وكأنه كان في الأصل اسم مدح لمن تاب منه، ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لجماعتهم كالعلم لهم وجعل مقالهم ذلك، أماني من حيث أن الأمنية مقال منيعة عن تقدير، فيستعمل تارة في التقدير حقاً كان أو باطلا على ذلك، حتى بين ما تمنى لك الماني، وتارة في المقال، وقوله: (لن يدخل) كلام " ملفوف " وتقديره: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى: لن يدخلها إلا النصارى فأجمل اكتفاء بعلم السامع أن يرد كلأ إلي ما يقتضيه ونحوه في الإجمال قوله- عز وجل- {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}. ثم [كذبهم] بعجزهم عن إقامة البرهان على ما ادعوه. قوله- عز وجل- {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} بل: رد لدعواهم وإثبات لضد حكمهم، والإسلام: الدخول في السلم، وقيل للانقياد إسلام، نحو: كَمَاَ أسْلمَ السَّلْكَ منْ نِظْمه ... لألئ منُحْدراتٍ صغَاراً لأن الانقياد للمسالم من مقتضى السلم، وجعل الإسلام في الشرع ضربين، ضرباً قبل الإيمان دونه، وهو الاعتراف باللسان الذي يحقن الدماء حصل معه الاعتقاد الصحيح أو لم يحصل، وإياه

عنى بقوله - عز وجل -: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وضرباً بعد الإيمان وفوقه، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل، وإياه عنى يوسف بقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} أي الطاعة هي تسليم لأمر الله- عز وجل، وهذا الإسلام بين مبدأه ومنتهاه بون بعيد، وكان منتهاه على حسب طاقة البشر حال إبراهيم- عليه السلام- حيث ابتلى، فقيل له أسلم، فقال أسلمت لرب العالمين، ثم وفي بما كان منه، وهذا هو الإخلاص المراد من الأولياء، وأصل الوجه العضو المقابل من الإنسان فاستعير للمقابل من كل شيء حتى قيل: واجهته ووجهته، وقيل للقصد وجه، وللمقصد وجهة، وعلى ذلك {أَسْلَمَ وَجْهَهُ}، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ}، {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} وعلى ذلك قوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا}. ولما جعل دلك للقصد أضيف تارة إلى القاصد كما تقدم، وتارة إلى المقصور، كقولك: " أردت بكذا وجه الله "، وقد حمل على ذلك {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، وقيل: الوجه في هذه المواضع اسم العضو مستعاراً للذات، فقوله: أسلم وجهه أي نفسه والإحسان قيل هو الإتيان بلد فرض العبادة بالنفل، وبعد إقامة العدل بالفضل ولما كذبهم الله عز وجل فيما ادعوه

من دخول الجنة بيد أن من أسلم نفسه له على حد ما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، وكان قصده إياه فيما يتحراه وهو ملتزم مع فرائضه نوافل حصل له ما ادعوه وزيادة فإن له أجره وهو الجنة، ومع ذلك فلا خوف عليه في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فبأن يجعل له يقيناً وصبراً قناعاً تكفيه الخوف على شيء يفوته والجزع لشيء قد فاته، وأما في الآخرة فبأن يكفيه شدائده " يوم لا يغني مولى عن مولى شيئأ " إن قيل: كيف قال (لا خوف عليهم) وقد مدح المؤمنين على خوفهم بقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} قيل: إن الذي نفي عنهم هو ما تقدم آنفاً، والذي مدحهم به هو توفية حق العبادة، فإن مخافة الله إقامة عباداته وارتسام مرسوماته، ولذلك قيل: من لم تخف نفسه الدنيا فلا يعذبه [خائفاً] وقيل: معنى {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: من آمن وعمل صالحاً، وما تقدم منطوٍ على هذا ...

(113)

قوله - عز وجل -: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} الآية (113) - سورة البقرة. الكتاب يتناول كل كتاب منزل، والفرقان يقال في التوراة وفي القرآن، والقرآن يختص بالمنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وروي أنه لما قدم نصارى نجران علي رسول - صلى الله عليه وسلم - أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عنده، وقال كلا الفريقين للآخر: لستم عدي شيء، فأنزل الله-عز وجل - هذه الآية، إن قيل: كيف عرض تعالى بتكذيبهم فيما ادعوه وقد صدق الفريقان على قول المسلمين؟ قيل: ليس قول أحد الفريقين بسديد من وجه، إذ قد بتوا الحكم وليس ذلك على البت والقطع، فلكا الفريقين في وقت وعلى وجه على حق، على أن القصد بالآية الدلالة على جهلهم وتخبطهم مع تشاركهم في قراءة التوراة دالة على ما اختلفوا فيه، فبين أن كلا الفريقين حائد عن الطريق، وأنهم في الجهل أو التجاهل كالمشركين الذين لا كتاب لهم في دعواهم على أهل الكتابي والمسلمين أنهم ليسوا على شي، ثم توعد الفريقين بحكمه بينهم [يوم القيامة] وقد أبهم حكمه فيدخل فيه كل قول قالوه من قول من قال: عني إنصاف المظلوم من الظالم، وقول من قال: عني تعريف المكذب من المكذَّب، وقول من قال: مثل قوله {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}.

(114)

قوله - عز وجل -: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الآية (114) - سورة البقرة. المنع، أن يحال بين من المراد ومريده، ولما كان الشيء قد يمنع ضناَ به صار المنع متعارفاً في المتنافس فيه، والسعي مشئ بسرعة، وهو دون العدو، وخص بأنواع من السعي منها: السعاية، أي الوشاية وسعي العبد في اكتساب ما يعتق به والتصرف، للتكسب، ولجباية الصدقة حتى صار الساعي معروفة في جابي الصدقة، وجعل المساعدة كناية عن الفجور بالأمة والخراب ضد العمارة، وجعل الخربة لسعة خرق الأذن تشبيها بالخراب، وشبه عروة المزادة بها، فقيل خربة، والخارب: السارق لتخريبه، أو لكونه سكاناً في خراب متوحشاً عن الناس، فيكون بنائه كباد وحاضر، وقيل: هو مخصوص بسارق الإبل خاصة، والأولى بالمساجد أن تكون عامة في كل مكان مرشح للصلاة، فقد قال عليه السلام. " جعلت لي الأرض مسجداً وطهواًَ "، وعظم تعالى ظلم من سعي في المنع من ذكر الله وتخريب الأمكنة المختصة بأهل الشرائع المحقة مسجدا كان أو غير مسجد، وليس التخريب الهدم فقط، بل تعطيله عن عباده الله- عز وجل-. وقول ابن عباس ومجاهد: إنه عني به الروم إذ خربوا بيت المقدس، وقول غيره إنه عني " بخت نصر " لما خربه، وقول من قال: إنما عني به المشركين إذ صدوا النبي عليه السلام عن المسجد الحرام،

(115)

وكل ذلك أمثلة منهم لحكمه وسبب النزول هذه الآية لا أنه لم يرد بها غير ذلك، يبين دلك أنه قال: مساجد بلفظ الجمع، وقوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} لفظه خبر، ومعناه منطوٍ عليه وعلى الأمر، فإن بيوت الله- عز وجل ممنوعة عن الكفار في دار الإسلام إلا بإذن، ويكونون خائفين، والحكم أن لا يمكنوا إلا بشرط حاجة تقتضي ذلك، ثم ثبت لهم الخزي في الدنيا، وذلك تارة بالهوان الذي يجري عليهم، وتارة بأخذ الجزية منهم، وقتلهم، والسبي، منهم، ومنعهم عن كثير مما يباح للمسلم، وإليه نظر قتادة وجماعة وفسروا به، وتارة بالهوان الذي يلحقهم في أنفسهم من جنبهم وجزعهم وخوفهم وسائر الآفات النفسية وتارة من حيائهم من عقلهم لاضطراب نفوسهم وقلوبهم وقلة سكونهم لما اختاروه، وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}. قوله - عز وجل -: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآية (115) - سورة البقرة. المشرق والمغرب تارة يقالان بلفظ الواحد إما إشارة إلى ناحية الأرض، وإما إلى المطلع والمغيب، وتارة بلفظ التثنية إشارة إلى مشرقي ومغربي الشتاء والصيف، وتارة بلفظ الجمع اعتباراً باختلاف المغارب والمطالع كل يوم، وشرقت الشمس طلعت، وأشرقت: أضاءت وذلك إذا كثير شروقها، وشرقت اللحم: ألقيته على الشمس المشرق، والشرف الصلب لأنه يقام فيه صلاة [العيد] عند شروقها، وشرق الثوب بالصبغ تشبيها بلون الشرقة، والغروب للشمس تصور منه بعد ذهابها عن العمارة، فيقال لدى تباعد غروب، ومنه الغروب لكونه مبعدا في الذهاب، وغارب السنام لبعده عن المنال، وغرب السيف أبعد جزء من صحيفته، ثم تصور منه حدته، فقيل لسان غرب وسمي الدلو غرباً

لتصور بعدها في البئر، ثم سمي الماء به كتسميتهم إياها بالذنوب لكونه فيها، والغرب للذهب لكونه غريباً فيما بين الجواهر، والغرب لبعده عن المثمرات من الأشجار، والآية توكيد لا تقدم أنه عني بالمساجد حيث ما صلى فكأنه قيل: لاعتبروا الأمكنة، فلله- عز وجل- ملك الدنيا، وحيث ما توجهتم فهو موجود يمكنكم الوصول إليه، إذ ليس هو جوهراً ولا عرضاً، فيكون بكونه في جانب مفرغاً جانباً ونبه بقوله: " بواسع " على إحاطته بالأشياء، " وبالعليم " أنه لا يخفى عليه خافية، وقد حمل أكثر المفسرين الآية على أنها واردة في القبلة، فمنهم من قال ذلك توطئة لجواز نقلها وتقرير في نفوسهم أن ليس المعبود [سبحانه] في حيز دون حيز، وقيل إن دلك في زمان كان يجوز الصلاة فيه إلى كل جهة حتى أمروا بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وهو قول قيادة وابن زيد، وذلك بعيدة لأن القبلة كانت مخصوصة وعلى ذلك قوله {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} وقيل إن دلك في النافلة وجوازها حيث ما توجهت بنا الراحلة، وإليه ذهب ابن عمر، وقيل إن قوماً صلوا في ظلمة خفيت عليهم جهة القبلة، فلما أصبحوا كانوا قد صلوا إلى غير القبلة، فأنزل الله - عز وجل- ذلك وإليه ذهب ابن عباس وجماعة، وقد تقدم معنى وجه الله.

(116)

قوله - عز وجل -: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} الآية (116) - سورة البقرة. القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، ولما كان لهما فسر بكل واحد منهما، فقيل في قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي خاضعين، وقيل طائعين، ولما كان من تمام القنوت القيام والسكون ما لم يكن أمر بخلافه واستعمل فيهما، فقيل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت " أي القيام، ولما ادعى النصارى في المسيح واليهود في عزير أنهما أبناء الله، ومشركوا العرب في الملائكة أنهم بنات الله تقدس ألفه تعالى عن ذلك، نبه على أقوى حجة على نفي ذلك وبيانها هو أن لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً عرضاَ وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر وإن كان اليد قد يصلح للمشي في حال، والرجل للتناول، لكن ليس على التمام، والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه لا لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه، فجعل له بذراً لحفظ نوعه، ويقوي دلك أنه لم يجعل الشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً، واستخلافاً لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان، ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى، ولهذا قال سبحانه أن يكون له ولد، أي هو منزه عن السبب المقتضي للولد، ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما، ودلك لما تقدم أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل في نفسه، بين تعالى بقوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنه لا يتوهم له فقر فيه فيحتاج إلى اتخاذ

ماهو سد لفقره، فصار في قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} دلالة ثانية، ثم زار حجة بقوله: (قانتون) وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}، بين أن كل ما في السماوات والأرض مع كونه ملكا له فأنت له أيضاً إما طائعاً، وإما كارهاً، وإما مسحراً، كقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}، وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة ... إن قيل: من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلي الله تعالى؟ قيل: قد ذكر أن في الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم " الأب "، وعلى الكبير منهم اسم الإله- حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر، وإن الله هو الأب الأكبر "، وكانوا يريدون بدلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وأن الأب هو معبود الابن من وجه، أي مخدومه، وكانوا يقولون للملائكة آلهة كما قالت العرب للشمس إلهة، وكانوا يقصدون معنى صحيحا كما يقصد علمائنا بقولهم:. الله محب ومحبوب، ومريد ومراد، ونحو ذلك من الألفاظ، وكما يقال للسلطان الملك وقول الناس " رب الأرباب. ، إله الألهة "، " ملك الملوك "، ومما يكشف عن تقدم ذلك التعارف ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له " مكر الله "، وأن عيسى كان يقول، " أنا ذاهب إلي أبي، ونحو دلك من الألفاظ، ثم تصور الجهلة منهم باخرة معنى الولادة الطبيعية، فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا تنزهاً عن هذا الاعتقاد، حتى صار إطلاقه وإن قصد به ما قصده هؤلاء قرين الكفر، وقد استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن الملك لا يقارن الولادة، وأن من ملك والده أو مولوده عتق عليه، لأنه تعالى نفي عن نفسه الولد بإثبات الملك له وهذا بعيد عما قصد في الآية بالمقال وإن كان فيه مجال للجدال ...

(117)

قوله - عز وجل -: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الآية (117) - سورة البقرة. البديع: يقال للمُبدع والمبدع جميعاً، والإبداع إيجاد فعل ابتداء لا احتذاء، ولهذا قيل: فلان بدع في كذا، وجدل البدعة اسماً لكل مخترع لم يؤثر عن أرباب الشرع. والقضاء: إتمام الشر قولاً أو فعلاً، فمن القول قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}، ومن الفعل قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وقضى فلان دينه، وقضى نحبه، وانقضى الأمر، وتقضى بلغ أخره، ذكره تعالى هذه الآية حجة رابعة شرحها أن الأب هو عنصر للابن، منه تكون، والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصرا للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً، وخص لفظ الإبداع لكونه أبلغ لفظاً وأبعده عن الاحتمال، وذلك أن أفعال الله تعالى على ثلاثة أوجه: إبداع وهو " اختراع " الشيء لا عن شيء ولا في زمان، ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى المبادئ، و " صنع " وهو تركيب صورة مع العنصر، وتستعمل في إيجاده الأجسام، و " تسخير " وهو سوق الشيء إلى غرضه المقصود منه طوعاً أو قهراً، ويستعمل في القوى التي أوجدها في السحاب والأمطار والأغذية والأدوية، وكل هذه الثلاثة يقال له الخلق، وأقدمها الإبداع، ونبه بقوله: {قَضَى أَمْرًا} على حجة خامسة، وهو أن الولد يكون بنشر وتركيب حالاً بعد حال، وهو إذا أراد شيئاً فقد فعل بلا مهلة ولم يرد " بإذاً " حقيقة الزمان، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان، ولم يرد أيضاً " بكن " حقيقة اللفظ ولا بالفاء التعقيب الزماني، بل استعير كل ذلك ولأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفصل وتمامه، وذكر لفظ " القضاء "، إذ هو لإتمام الفعل. والآخر لكونه منطوياً على اللفظ والفعل

(118)

والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجاداً، ولفظ: " كن " لعموم معناه، واختصار [لفظه]، ثم قال: " فيكون "، تنبيها أنه لا يمتنع عليه شي يريد إيجاده، وكن فيكون، وإن كان مخرجها مخرج شيئين أحدهما مبني على والآخر، فهو في الحقيقة شيء واحد ونحوه قولنا: فلان إذا أراد شيئاً فقد كان ما أراد، واختلق في تفسير هذه الآية من حيث إن " كن " لفظ أمرا والأمر لا يكون إلاً لموجود، فبعض قال: " لفظ الشر مخصوص " ههنا للموجودين الذين قال لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وبعض قال: (هو خطاب لمن يجيبهم من الوتى)، وبعض قال: هو أمر للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده، وبعض قال: هو أمر لمعلوم له، وذلك في حكم الموجود وإن كان معدوم الذات وبعض قال: " هو أمر للمعدوم "، قال: ويصح أمرا لمعدوم، كما يصح أمراً لموجود، وبعض قال: " إنه جعل " كن " دلالة للملائكة على ما يتقضيه من الأفعال "، وأكثر هذه الأقوال يتبين وهنه بتصور ما تقدم ... قوله - عز وجل -: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} الآية (118) - سورة البقرة اليقين أبلغ علم وأوكده، وهو أن يكون عالم بالشئ، وعالماً بأنك تعلمه غير شاك ولا متهيئ للشك، ولذلك قيل: هو المعلوم الذي زالت عنه المعارضة على مرور الأوقات، وإنما لم يوصف الباري تعالى به من حيث أنه لا يستعمل إلا في العلم المكتسب، ولهذا قال تعالى في صفة إبراهيم- عليه السلام {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، ويعني بالذين لا يعلمون الكافرين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول ابن عباس: " هم اليهود "، وقول مجاهد: " النصارى "، وقول الحسن وقيادة: " هم مشركو العرب كله محتمل ويصح أن يكونوا جميعاً مرادين، فقد قال الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} ومشركو

العرب قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا}، وعني بالذين قبلهم من سبق من كافري الأمم، فقد قال أصحاب موسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} وأصحاب عيسى قالوا: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} ثم بين أنهم متشابهون في العمي والجهالة، لاقتراحهم على رسلهم كقوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}. إن قيل: إنهم وإن أخطأوا في قولهم: (لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) فإنهم لم يخطئوا في سؤال الآية، إذ لا يلزم الإنسان أن يؤمن إلا لمن يأتي بآية تدل على صدقه، قيل: إنما أنكر عليهم جحودهم الأيات التي آتاهم، ولذلك قال (قد بينا الآيات) كما قالت: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ} كما قال، {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}، وقوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فيه معنيان: أحدهما أنهم يطلبون اليقين وليس بهم المعاندة، والثاني: أن من حصل له اليقين بالحق المحض وليس يعتريه شبهة فله في القرآن لا آية بل آيات، كما قال: (هو للذين أمنوا هدى وشفاء)، وقرأ بعضهم: (تشابهت) بتشديد الشين، كأنه نظر إلى قوله: (تشابه)، فحمل عليه، وذلك خطأ، لأن تشابه أصله تتشابه، فأدعم، وليس في تشابهت ذلك، ومن قال: هلا أجابهم إلى سؤالهم في أثناء الآية؟: فسؤال جاهل بحكمة الله تعالى، فباقتراح جاهل، وتشويه لا يجوز للحكيم أن يفعل ما ينافي مقتضى الحكمة، وقد أزاح العلة بغير سؤالهم وإلى ذلك أشار بقوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}

(119)

قوله - عز وجل -: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} الآية (119) - سورة البقرة. الجحيم المناحج من النار يقال نجحت النار، وشبه حمرة عين الأسد به، فقيل لها جحمة. وجاحم الحرب تشبيهاً، فبين تعالى أن عليك البشارة والإنذار، ولا يلزمك عقابهم تسلية له، كقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وقوله {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}. وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، وقوله: (لا تُسْئَلُ) قال معطوف على قوله (بشيرا ونذيراً)، وقرأ نافع (ولا تُسئلْ)، بالجزم، فقيل ذلك تفخيما لشأنهم، وقيلت: نهى عن تتبع ما أغناه الله عنه من أخبار من مضى، وقد روي أنه عليه السلام كان يستغفر لأبيه، فنهاه الله تعالى عن ذلك، لقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}. قوله - عز وجل -: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} الآية (120) - سورة البقرة. الملة: من أمللتُ الكتاب، وهي اسم لما شرعه الله تعالي لعباده على لسان أنبيائه ليتوصلوا به إلي آجل ثوابه، والدين ملة، لكن الملةَ تُقال باعتبار دعا الله وإنزال كتبه والدين باعتبار طاعة العباد له بإجابة دعائه والانقياد لأمره، والشيء الواحد قد يسمى باسمين على اعتبارين، ثم تقال الملهُ والدين لما

لم يكن من قبل الله على التقييد، كقولك: " ملَةُ مزدْكَ وغيرهِ "، والهوى: رأي عن شهوة داع إلى الضلال وسمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وهي الآخرة إلى الهاوية، ولهذا سميت النارُ هاوية، ولشدة سلطانه وصفة الله بأنة إلهُ الكفار، فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، ومعنى الآية أن من خالفوك لا يرضون عنك إلاً بمتابعة ملتهم تنبيهاً أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منك، ثم بين أن إتباعهم ليس بهدى، وأن الهدى هو هدي الله، أي إرشاده، كقوله {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي}، ثم حذره فقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}، وذلك تحذير له ولأمته، ولكن خص بالذكر لأن أنبياء الله، بل أولياءه بأدنى ميل إلى ضال يكونون في حكم تابعي هواهم. وربما بعد ذلك في جرائمهم الكبيرة ويؤاخذون بما لا يؤخذ غيرهم به، وذلك معلوم في التعارف، فإن من حصل له زلفة متناهية من السلطان لا يتجافى عما يقع منه من أدنى مخالفة كالتجافي عن الأجانب، ولهذا قيل: (كبائر الأولياء صغائر العوام)، وقيل: (فاحشة الأولياء التواني في تعهد الأنفاس، وفاحشة العوام فيما فيه المحدود) وإنما قال: أهواءهم بلفظ الجمع تنبيهاً على أن لكل هوى غير هوى الأخر، ثم هوى كل واحد منهم لا يتناهى، ونحو ذلك قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وقوله: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، وقوله للمؤمنين: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ}، وقال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وذلك تحذير من الهوى جملة، وقد تعلق بهده الآية من يجعل الكفر كله ملة واحدة، لأنه جمع بين اليهود والنصارى، وسمي طريقتهما ملة واحدة ....

(121)

قوله - عز وجل -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الآية (121) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في التلاوة، منها تكون بالقراءة تارة، وبتتبع العنف تارة، وباستعمال مقتضاه تارة، وهو المعنى بقوله: (حق تلاوته)، وعليه دل قول ابن عباس وابن مسعود يتبعونه حق اتباعه، وقول مجاهدة " يعملون به حق عمله "، وقول عمر: " حق تلاوته ": إذا ذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا ذكر النار تعود منها "، وذلك عام في كتاب الله تعالى وفي أربابها، فقول قتاده: هم أصحالب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول ابن زيد: إنهم اليهود والنصارى، وقول غيرهما: هم الذين أسلموا من مشركي العرب كلها داخل فيه، وعموم اللفظ يقتضيه وقوله " الذين " مبتدأ، " يتلونه " حال لهم، و " أولئك " خبره، والمعنى: هم الذين يحصل لهم الإيمان به دون الذين ينكرونه، وليس لهم إلاً الخسران البين، ونحو ذلك قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}، وهذه الأية كالتحقيق لما تقدم من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}.

(122)

قوله - عز وجل -: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} الآيتان (122، 123) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في مضمون الآيتين، ويسأل عن فائدة تكريرها، وأنه قال في هذه الآية: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌوفي الآية المتقدمة قال: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}، والجواب: أما التكرير فعلى سبيل الإنذار، فالواعظ إذا وعظ لأمر ما قد يكرر الذي يعظ لأجله تعظيماً لأمره، وأما تغيير النظم، فلما كان قبول العدل وأخذه وقبول الشفاعة ونفعها متلازمة، لم يكن بين اتفاق هذه العبارات واختلافها فرق في المعنى .. قوله- عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} الآية (124) - سورة البقرة. الابتلاء كالاختبار، لكن الابتلاء طلب إظهار الفعل، والاختبار طلب الخبر، وهما متلازمان، والتام والكامل والوافي والوافر متقاربة، لكن التام يقال للمعدود الممسوح جميعاً، نحو عدد تام، وليل تام، ورجل تام الخلقة، والكمال أكثر ما يقال في الممسوح والمشبه به، وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، فالمراد كمال الحكم لإكمال العدد، كما قدره بعض الملاحدة، فاعترض عليه بالإزراء.

والوافي ما أشرف على الشيء، ومنه وفاء العهد، وأوفى على كدا، أي أشرف عليه، والوافر: ما لم ينقص منه شيء، ومنه الوفر، وسقاء أوفر لم ينقص من أديمه شيء والذرية: الأولاد الصغار والكبار، وقيل هي للصغار، وقيل أصله من الذر، وقالت الفراء: أصله من ذريت وذروت، وقال أبو عبيدة: أصله الهمز من ذرأ الله الخلق، فترك همزة على غير قياس، والإمام في الأصل: الختم به محقاً كان أو مبطلاً، منه قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}، وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}، وفي إطلاق الشرع اسم للمقتدي به، المقتدي بالشرع، وهو أعم من النبي والخليفة إذ كل نبي وخليفة: إمام، وليس كل إمام ونبي خليفة، والكلمات قد تقع على الألفاظ المنظومة وعلى المعاني التي تحتلها، فقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: قضيته وحكمه وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} أي؟ للمعاني التي تبرز بالكلمات ولم يرد اللفظ، فإن ما يحصره اللفظ يحصره الخط، والكلمات التي ابتلى بها مبهمة محتملة، وذكر المفسرون لها وجوهاً يصح أن تكون كلها مراده، فقيل: هي عشر سنن، همس في الرأس المضمضة، والاستنشاق، والفرق، وقص الشارب، والسواك، وخمس في الجسد تقليم الأظافر، ونتف الأبط، والختان، وحلق العانة، والاستنجاء، وقيل: هي خصال محمودة ذكر بعضهما في سورة/ التوبة، وبعضها في سورة/ المؤمنون، وبعضهما في سورة/ سأل سائل، وقد تقدم ذكرها في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} وقيل: هي مناسك الحج المذكورة في قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية، وكل ذلك عن ابن عباس، وقيل: في ابتلاؤه بالكوكب وبالقمر والشمس، وقيل: امتحانه بإنفاق ماله، وهجر أوطانه، وذبح ولده، وإلقائه في النار فلما لم يؤثر على اختبار الله في شيء من ذلك قال فيه: (فأتمهن)

وإتمامه: هو الوفاء بها المذكور في قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، وسماه حنيفاً مسلماً، وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، وجعل إمامته للناس كافة على التأييد، فإنه لم يُبعث بعده نبي إلا من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، وقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} حتى قال للنبي (محمد) عليه السلام: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}. وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}، وأمر- عليه السلام- بذكر إبراهيم في الصلاة، فقال: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم "، ولم يرد بالإمامة ههنا النبوة كما ظنه بعض المفسرين، فإنه- عليه السلام- إمام للناس على العموم في كل زمان على الإطلاق وليس بنبي لهم على [العموم] بالإطلاق، ولا قيل له ذلك قال: (ومن ذريتي)، فأجيب إلى ملتمسه بقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لكنه تعالى بين أنه قد يكون من ذريته ظالم، وبين أن الإمام يتحمل للعهد، والظالم لا عهد له، فإذاً لا إمامة له، ولهذا ما روي في الخبر أن الله تعالى يقول يوم القيامة لوالي السوء: (ياداعي السوء، أكلت اللحم، وشربت اللبن، ولبست الصوف، ولم تؤد الكسير ولم ترعها في مرعاها)، واستدل بالآية بعض الناس، فزعم أن الظالم إدا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، وقال الحسن: " إنما لم يجعل الله لهم عهداً " ....

(125)

قوله - عز وجل -: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الآية (125) - سورة البقرة. البيت: يسمى اعتبارا بالمبيت فيه، ومنه قيل: بيتهم وبات يموت بات ليلته في إنائه، ثم ترك اعتبار المبيت، وللوعي صورته، وبه شبه بين الشعر اعتباراً بأنه مبني من أوتاد وأسباب بناء بيت الشعر والوبر من نحوها، وبيت الله: سمي لوجود صورة البيت فيه، والمثابة إما لثؤوب الناس إليه، وإما لاستحقاقهم الثواب بقصده. إن قيل: كيف جعل مثاباً عامة قصاده لا يثوبون إليه قبل ذلك باعتبار جنس الناس لا بآحادهم، واعتبر بعض الناس ما سآلته، واستدل بالآية في وجوب العمرة، فقال: لا يكون مثابة لأحاد قصاده إلا على هذا الوجه، ومقام إبراهيم الحرم عن ابن عباس، والمزدلفة عن عطاء، والحجر عن السدى، والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أي مدعى، أو بوضع صلاة، والطوف المشي حول الشيء، ومنه: الطائف يدور حول البيت حافظاً، وطائف من الجن والخيال، وجعل الطوافون عباده عز الحرم، والعكوف: الإقامة مع اللزوم بين تعالى أنه جعل البيت من حيث الحكم مثابة للناس وأمناً ومصلى، ولم يعن أنهم ملجؤون إلى أن لا يخيفوا أحداً، كما لم يعن أنهم ملجؤون إلى أن يجعلوه مصلى ومثابة. إن قيل: فقد قال: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، قيل: هو أيضاً على معنى الأول، ولو عنى ما قلت لقال: (وإن من دخله كان آمنا) قيل: هو أيضاً علي معنى الأول، ولو عنى ما قلت لقال: وإن من دخله حتى كان يتعلق بالأول، وعلى ذلك حكم قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} على أن حكم الله في ذلك مما فيه أية منه لأنه حض الناس على

(126)

استعظام البيت حتى لا يجسر عامتهم على تعظيم حرمته، ومن ضيقها كان ممقوتاً غير منفك من عقوبة أما متجلية للمناظر أو ظاهرة لأولي البصائر، وقرئ: " واتخذوا " على الأمر، وروي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر لما انتهى إلى المقام: " هذا مقام أبينا إبراهيم، [فقال: ألاً نتخذه مصلى؟] " فأنزل الله- عز وجل- (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، فعلى هذا أمر فصل به بين الجملتين من الخبر المعطوفة، والمعطوف عليها، (وعهدنا إلى) أي، أمرناهما أمراً موثقاً عليهما بأن يطهرا البيت من الأنجاس والشرك وكل ما ينافي موضع الطهارة، للطائفين: أي القصاد، وقيل لأولي الطواف، وكلاهما مراد، والركع السجود: المصلين، وقيل: قد دخل في الأمر بتطهيره أن ببنيانه على تقوى كما قال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} الآية. قوله- عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الآية (126) - سورة البقرة. البلد: الأثر الباقي، وسمي المدينة، وكركرة البعير. والمفازة: بلداً للآثار الظاهر بها، وقيل للآثار في الجلد أبلاد، والبليد: المقيم على بلده أي مكانه، ثم جعل عبارة عمن لا نفاذ له في الأمر حتى صار أملك له، والمصير: المنتهي إليه في الأمر، ومنه المصير: لمنتهى الطعام، وصير البقرة مأواها، كالزريبة للغنم، وصير الباب: حيث مصيره، وإنما قيل: شق الباب اعتباراً بصورته لا بحقيقة مقتضي اللفظ، والاضطرار: حمل الإنسان على [ما يضره وهو في التعارف] حمل على الأمر بكره وذلك على وجهين: أحدهما بسبب خارج، وهو إما أن يضرب أو يهدد بالضرب حتى يفعله منقاداً، وإما أن يؤخذ بيده فيفعل ذلك به، والثاني بسبب من داخل، وذلك إما بقهر قوة له لا يناله بدفعها الهلاك، كمن غلب

عليه شهوة خمر أو قمار، وأما بقهر قوة يناله بدفعها الهلاك كمن اشتد به الجوع، فاضطر إلى أكل الميتة أو تناول مال الغير، ولما بنى إبراهيم عليه السلام البيت في فقر، ومن شرط المدن أن يتحرى في بنائها موضع يمكن أن يجري فيه نهر أو يشق فيه قناة، ويتخذ فيه مزرعة تفي بمطاعم قطانها، وعلم أن لا قوام لهم إلا بأن تجنى إليهم الثمرات، ولا يمكن جني الثمرات إليهم إلا بأمنه، سأل الله عز وجل - أن يجعله بلداً أمناً بسياسة ألاهية وأن يرزق أهله بتسخير الناس لجبي الثمرات إليه ولما سأله لهم الرزق، وكان قد سمع في جواب سؤاله الإمامة لذريته ما سمع تدارك سؤاله فقيده وقال: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} تنبيهاً أن رحمته في الدنيا وسعت كل شيء، وأن نعمه فيها متاحة للكل ليجعلوها ذريعة إلى إدراك ثوابه، ثم من كفر وضيع النعم فمسوق إلى عذابه. إن قيل: إن قوله (فأمتعه) يقتضي كثرة ثبات الفعل وقوله (قليلا) ينافيه، فكيف جمع بينهما؟ قيل: ذلك على وجهين، فإن نعمته في الدنيا وإن كانت كثيرة بإضافة بعضها إلى بعض، فقليلة بإضافتها إلى نعمة الآخرة، وعلى هذا قال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}، كيف لا يقل ما يتناهى بالإضافة إلى مالا يتناهى؟ وانتصاب " قليل " إما لكونه وصفا لمصدر محذوف أو لكونه ظرفاً، وتكون في العبارة به عن الزمان، كقوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}.

(127)

قوله - عز وجل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الآية (127) سورة البقرة. الرفع والوضع يتقابلان، ويقال في الأجسام وفي الشرف والذلة على التشبيه وكذلك يقال في الإعراب على التشبيه والقعود المقابل للقيام، ثم جعل للثبات، فقيل لأساس البيت قواعد عن طلب الشرف، والقعيدة كناية عن الزوجة اعتبارا بقعودها في المنزل، والقعدة للفرس المقتعد في أكثر الأحوال، والقعود من البعير المدرك اقتعاده، وقيل إن إبراهيم عليه السلام - كان يبني وإسماعيل يرفع إليه الأحجار ويناوله، وذلك لا يمنع من أن يكون الفعل منسوباً إليهما وقول من قال: يجب إن يكون إبراهيم يتولى بناءه مرة، وإسماعيل مرة حتى يصح نسبة الفعل إليهما فبعيد التصور لسعة مجال الألفاظ وما اختلف فيه أنه هل كان للبيت بناء قبل إبراهيم - عليه السلام -، فأعاده أو هو الذي أنشأه وأحدثه، فليس مما يفتقر معنى الآية إليه وقيل ليس يعنى برفعهما قواعد البناء فقط، بل تحريمها تشريفه بدعاء الناس إليه ودعاء الله بحفظه، وصح نسبة ذلك إليهما وإن كان الله تعالى في الحقيقة شرفه من حيث أنهما من الأسباب المتأخرة لتشريفه.

(128)

قوله - عز وجل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية (128) - سورة البقرة. النسك: غاية العبادة، والناسك الأخذ نفسه ببلوغ قاصيتها حسب طاقته، وسمي أعمال الحج المناسك ثم خص الذبيحة بالنسك وتعورف فيه حتى قيل نسك فلان أي ذبح وقيل للذبيحة نسيكة ولم يعن بالمسلم ههنا من حقن دمه بالشهادتين، كما ظن بعضهم وقال هذا دعاء بما علم كونه لهما لا محالة، وإنما عنى من ليس في فلبه تعظيم الله معه، وهو المعنى بالمضروب له المثل في قوله: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} وبقوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} وهذه قاصية الإيمان، ونبه تعالى بالآية أن من حق الإنسان أن يكون مع تحري الحق لا ينفك من التضرع إلى الله - عز وجل - بإرشاده وتوفيقه، ومن طلب أن يتوب عليه من ذنب عسى إن كان منه وهو غافل عنه فإن قيل: ولم قيد؟ فقال: (ومن ذريتنا، أمة مسلمة لك) ولم يعمم؟ قيل إن هذه منزلة شريفة لا يكاد يتخصص بها إلا الواحد فالواحد في برهة بعد برهة، وعلم أن الحكمة الإلاهية لا تقتضي ذلك، فإنه لو جعل الناس كلهم كذلك لما تمشى أمر العالم إذ كان العالم يفتقر إلى كون أفاضل فيها وأوساط وأراذل لتولي عمارته والقيام بتمشية أموره فقد قيل: عمارة الدنيا بثلاثة أشياء، أحدها الزراعة والغرس، والثاني: في الحماية والحرب، والثالث جلب الأشياء من مصر إلى مصر، وأنبياء الله لا يصلحون لذلك إذ كانوا بغرض أخر أشرف من ذلك ولهذا قيل: " لولا الحمقى لخربت الدنيا " وإنما عني بالحمقى المعنيون بأمر الدنيا بإضافته إلى المعنيين بأمر الآخرة، ولذلك قال {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}

(129)

قوله - عز وجل -: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الآية (129) - سورة البقرة. العزيز: الذي يقهر ولا ويُقهر، وتعزر فلأن بفلان، والعزاز من الأرض ما فيه صلابة بازاء الذلول، وعز الشيء إذا قل اعتباراً بأن كل موجود مملوك، وكل مفقود مطلوب، والحكمة حدت بحدود على اعتبارات مختلفة، إما اعتبارا بمبدأها، فقد قيل: هي معرفة حقائق الأشياء، وقيل: معرفة الأشياء الإنسية والأشياء الإلهية، وهذا هو كالأول، إلا إنه أبين، وإما اعتبارا بمنتهاها، فقد قيل: هي إماتة الشهود وقلا الاكتراث بالموت المحمود، وقيل: الترشح بالعلم والعمل لإدراك ثواب الله- عز وجل-، فأما الرسول- الذي طلبه إبراهيم- عليه السلام، فقد روي عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بن مريم " يعني بالأول: قوله: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، وبالآخر: قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. إن قيل: كيف قال: يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة وليس الكتاب إلا الآيات، وما وجه هذا الترتيب؟ قيل: أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقاً بالقرآن، وأما الترتيب فلأن أول منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ادعاء النبوة الإتيان بالآيات الدالة على نبوته، ثم بعده تعليمهم الكتاب، أي تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلي

(130)

إفادة المحكمة وهي أشرف منزلة العلم، ولهذا قال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، ثم بالتدرج في الحكمة يصير الإنسان مزكى. ، أي مطهراً مستصلحاً لمجاورة الله- عز وجل-. قوله - عز وجل -: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} الآية (130) سورة البقرة. الرغبة: سعة الإرادة، ومنه بطل رغيب أي نهم، والرغيب الشيء المرغوب فيه، ومش عدى بعن اقتضى صرف الإرادة عن ذلك الشيء، وذلك بالزهد فيه، والاصطفاء تناول صفوة الشيء، كما أن الاختيار تناول خيره، والاجتباء تناول جانبه أي وسطه، وهو المختار، و (سفه نفسه) قيل: تقديره سفه، نفسه، وقيل: أصله سفه نفسه، فصرف الفعل عنه، نحو: بطر معيشته، وسفه نفسه أبلغ من جهلها، وذاك أن الجهل ضربان جهل بسيط، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء وجهل مركب، وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل، وفي الباطل أنه حق، والسفه أن يعتمد ذلك، ويتحرى بالفعل مقتضاها ما اعتقده، فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لسفهه نفسه، وذلك أعظم مذمة، فهو مبدأ لكل نقيصة، وذاك أن من جهل نفسه جهل أنه مصنوع، وإذا جهل كونه مصنوعاً جهل صانعه، وإذا لم يعلم أن له صانعاً، فكيف يعرف أمره ونهيه، وما حسنه وقبحه، ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق- جد ثناؤه- قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} فإن قيل: كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا وبالصلاح في الآخرة، والنظر يتقضي عكس ذلك، فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل، وذلك يكون في الدنيا، والاصطفاء حال يستحقه العبد بكونه صالحاً، فحقه أن يكون في الآخرة؟ قيل الاصطفاء ضربان، أحدهما كما قلت والأخر في الدنيا، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته لخصوصيته فيه وهو المعنى بقوله

(131)

{شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ}، والصلاح وإن اعتبر بأحوال الدنيا، فمجارى به في الآخرة، فبين تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما عرف الله من حكمته فيه، ومحكوم له في الآخرة بصلاحه في الدنيا تنبيهاً أن الثواب في الآخرة يستحقه باصطفائه في الدنيا، وإنما استحق لصلاحه فيها، وجوز أن يكون قوله " في الآخرة " أي في أفعال الآخرة لمن الصالحين، ويجوز إن عنى بقوله " في الدنيا " حال بقائه، و " في الآخرة " حال وفاته، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}، ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب: مظالم، ومقتصد، وسابق غبر عن السابق بالصالح، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح، وفي الجملة، فإن الصالح هو الخارج عن حد الرذيلة، وليس في الدنيا على الإطلاق بكل نظر صالح، بل عامة ما فيه يمكن أن يوصف بفاسد بها إما حالة ما أو بنظر ما، فإذن الصلاة المطلق في الآخرة، فلهذا خص بها .. قوله - عز وجل -: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية (131) سورة البقرة. لما سأل الله تعالى بقوله: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، أجابه بقوله تعالى: " أسلم " أي أخلص سرك فإنه موضع الاطلاع، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أخلص يكفك القليل من العمل "، وبقوله: " الأعمال بالنيات " وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وقيل معنى " أسلم " استأسر لهم كقولك للأسير: استسلم، وقيل: معناه: اجعل نفسك مسلمة عن أسر الشيطان، حيث قال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، وهذان القولان واحد في

(132)

الحقيقة فإن من أسره الرحمن فاستأسر له فهو الحر المطلق عن عبادة غيره، وقد قيل: " لن تكون عبدا لله حقاً حتى لا تكون لما دونه مسترقا "، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وروي أن [إبراهيم عليه السلام] لما طلب الخلة من الله أوحى إليه فقال: (من طلبني أبليته)، فقال: إذا نلتُ الخلة لم أبال بالبلية، فلما أتى عليه حول قال: (من أحبني قتلته)، فقال: " إذا انتهيت في الخلة لم أبال بقتل الدنيا "، وقوله " أسلمت " مبني في المعنى على الأول وكأنه موعد منه أنه متأهب لما يراد منه، وقد حثنا الله تعالى علي الاقتداء به في الاستسلام له والاستفادة منه الشرف الكبير جزاء بذلك ... قوله- عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآية (132) - سورة البقرة. الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ واشتقاقه من وصاه أي وصله، ومضاده قصاه أي فصله، وقوله: [بها] أي بالملة، وقيل بالكلمة التي دل عليها قوله: " أسلمت "، وكلاهما غير منفك من الآخر، إذ كانت هذه الكلمة من جملة الملة، والملة مقتضية لهذه الكلمة، فبين تعالى أن إبراهيم وصى بنيه، ووضع يعقوب بنيه أيضا بها كما أوصى إبراهيم، وقال: (إن الله اصطفى لكم الدين) أي دين إبراهيم، فحذف القول لتضمن الوصية لذلك، وحث على الإسلام، أي أسلموا قبل أن تموتوا، وليس ذلك نهيا عن الموت، وإنما هو حث على الإسلام المتقدم ذكره فهو الذي يفيد الحياة الأبدية المذكورة في قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}

(133)

قوله - عز وجل -: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية (133) - سورة البقرة. الشهود: حضور بالذات أو بالعناية أو بالمقال، وأحضر الفرس [أصله] صار ذا حضور. والفرق بين الإحضار والعدو أن الإحضار يقال اعتبارا بالمنتهى والعدو اعتبارا بالمبدأ المتجاوز لأنه من عداه إذا تجاوزه، وجعل الحضارة بإزاء البداوة في التعارف، والمحتضر لمن حضره الأجل، ولما ذكر إبراهيم وأن دينه الإسلام، وأن يعقوب اقتدى به، ودعا نبيه إليه، وقادهم على ذلك وأخذ اعترافهم بين أن مع وصيته لأولاده كان على جملة اعترافه معهم لم يعن بقوله: (ما تعبدون من بعدي) العبادة المشروعة فقط، وإنما عنى جميع الأعمال، وكأنه دعاهم أن لايتحروا في أعمالهم غير وجه الله - عز وجل- ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف أن تشغلهم دنياهم، ولهذا قيل: " ما قطعك عن الله فهو طاغوت "، ولهذا قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، أي نخدم ما دون الله، وهدا المعنى تحراه الشاعر بالعبادة: فتى مَلكَ اللذاتِ أنْ تعتبدنّهُ .... ومَاَ كُلَّ ذي ملُك لهُنِ بمالِكِِ فإن قيل: لما قال: (نعبد إلاهك وإله آبائك)، وتكرير اللفظ يقتضي دارين، فالجواب عن ذلك من وجهين، أحدهما من حيث اللفظ، وهو أن المضاف إلى المضمر متى عطف على المضاف إليه لابد من إعادة المضمر إذ كان المضمر المحرور لا يصح العطف عليه، والثاني من حيث المعنى، وهو أن المعبود لما لم يمكن سبيل إلى الوصول إليه إلا بالنظر، فكان لدى واحد نظر، بينوا أن معبودنا هو الواحد الذي أثبته، وأثبته أباؤك، ثم بين بقوله، (ونحن له) أنه واحد، وقد استدل بالآية من منع من مقاسمة الجد

(134)

بالأخوة، وأسقط الأخوة مع الجد كما يسقطون مع الأب، واستدل بها أيضاً في أن العم يجري مجرى الأب في الولاية على مال الصغيرة وتزويجها، وفهم الجملة أن تسميتها بالأب ليس بمنكر، بل قد يسمى [كل] كبير من الأجانب أباً على أن الأعمام والأجداد إذا كانوا مع الأب فتسميتهم بالآباء أقرب، كتسمية الشمس مع القمر قمرين، وتسمية آل المهلب معه مهالبة ... قوله - عز وجل -: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآية (134) سورة البقرة. الأمة في الأصل المقصود كالعمدة والعدة في كونهما معمودأ ومعذب، وسمي الجماعة أمة من حيث تأمها الفرق، وقيل للجبن أمة لكونه متضمنا لأمة ما وسمى الدين أمة لكون الجماعة عليه، وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي جمع في نفسه في الفضيلة ما لا يجتمع إلا في أمة، وبهذا المعنى ألم الشاعرفي قوله: وليس على الله بُمستُنكرٍ .... أنُ يُجمعَ العالمُ في وَاحدٍ والكسب: اجتلاب النفع بالعمل، وإذا قيل في المضرة، فعلى طريق التشبيه، ولما بين الحجة عليهم وإنهم لم يخالفوا في الاقتداء بإبراهيم بين من بعد أن أعمالهم وأعمالكم متباينة لاُيثاب ولا يعاقب أحد بما كان من الآخر كقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وليس معنى بقوله: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السؤال المجرد، فقل أخبر أنه يقول لعيسى بن مريم {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إنما يعني المؤاخذة بها.

(135)

قوله - عز وجل -: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآية (135) - سورة البقرة. يعني أن اليهود قالوا: كونوا يهوداً تهتدوا، وقال النصارى مثل ذلك، فأنزل الله تعالى على نبيه: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي تتبع ملته المجمع على كونها هدى، وبين بقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أن كلتى الطائفتين قد أشركت، وأن إبراهيم كان حنيفاً، وكان يقال في الجاهلية ولمن كان على دين إبراهيم حنيفاً عليهم عن طريقتهم إلى طريقة غيرها، ثم سمى من اختتن أو حج البيت [حنيفآ] لمن كان ذلك من سنته. قوله - عز وجل -: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية (136) - سورة البقرة. السبط ولد الولد، وأصله من سبط أي امتد، كأنه امتداد للفروع، ومنه سبط الكفين، والساباط البناء الممتد بين الدارين، والسباطة ما مد من الكناسة، وما امتدمن الشعر، وسباط الحمى اعتبارا بتمدد المحموم وتمطيه، إن قيل: كيف ابتدأ بما أنزل إلينا مع كونه متأخراً عن كل ما أنزل الله، وقال: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحق كتاب، ولم قال: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} فخصهما بالإيتاء دون الإنزال، وزكر النبيين، وقد تقدم ذكر بعضهم. قيل: أما الابتداء بما أنزل إلينا، فلأنه أول بالإضافة إلينا، فالناس بعد مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم -، مدعوون إلى الإيمان بما أنزل عليه أولاً جملة وتفصيلاً، ولا يجب الإيمان بما أنزل من قبل إلا على سبيل الجملة دون التفصيل، وأما المنزل إلى إسماعيل ومن ذكر معه، فهو المنزل على إبراهيم، إذ هم داخلون تحت

(137)

شريعته، وذلك كقولك: ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وأما قوله {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} فهو على الاستئناف، وقوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} معطوف عليها وقوله: {مِنْ رَبِّهِمْ} خبره، فكأنه لما اختلف فيما أنزل عليهما، وادعى بعض أتباعهما عليهما ما لم ينزل إليهما بين تعالى أن ما أوتيا أي ما خصابه لا ما ادعى عليهما، وما أوتي النبيون جملة المذكورين وغير المذكورين من ربهم، أي منزل من ربهم، ثم قال: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ}، أي لا يكون بمنزلة اليهود الدين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. إن قيل: لم قال: بين أحد منهم، ولفظ أحد وإن كان قد يعمم به في النفي فهو متناول للواحد، ولو قال بينهم لكان أوجز؟ قيل: لما كان القصد إلى أن نبين أن لا نفرق بين واحد واحد ذكر لفظ أحد فكأنه قال: لا نفرق بين أحد وجماعتهما أي لا يخرج واحد من حكمهم، فكان لفظا أحد أدل على المعنى المقصود، ثم بين بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} إنا مسلمون له إسلام إبراهيم عليه السلام .. قوله - عز وجل -: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الآية (137) - سورة البقرة. الشقاق المنازعة، يقال: شق العصا، أي فارق الجمع، وشاق القوم صار كل نفر في شق، وشاقوا الله أي صاروا في شق غير شق أوليائه، وعلى ذلك: {يُحَادُّونَ اللَّهَ} أي صاروا في حد غير حده .. إن قيل: ة كيف قال: (فإن أمنوا بمثل ما أمنتم به) ولم يقل أبما أمنتم أو (مثل ما آمنتم)، وذلك يقتضي إثبات مثل الله- عز وجل-، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا تقولوا: (فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به) [ويكن قولوا فإن أمنوا بالذي أمنتم به] وإن لم يكن هذا السؤال لازماً فما كان [وجه] الإنكار منه؟ قيل إن الباء ههنا ليس للتعدية كما هو في قولك (مررت بزيد)، و (آمنت بالله) وإنما هو للإله، ومعناه أن تحروا الإيمان بالسبيل الذي تحريتم به، والإشارة بقوله: {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} إلى السبيل المذكور في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} وسبيل الله المتوصل به إليه ثلاث منازل

(138)

على القول المجمل مرتب بعضها على بعض الأول: معرفة الأحكام الظاهرة والعمل بها، والثاني: معرفة علم الزهاد من عيوب النفس وقمع الشهوات وأخذ النفس به، والثالث: علم المعاملات، وهي معرفة الخواطر ومراعاتها، وذلك السبيل إليه، ولا سبيل إلى تحصيل الإيمان الحقيقي الذي وصف به المؤمنين في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلاً بها، وهذه المنازل الثلاث هي المعنية بقوله- عليه السلام- " سائل العلماء، وخالط الحكماء، وجالس الكبراء "، فبين تعالى أن من أمن سالكا هذا السبيل، فقد اهتدى، ومن جمع فقد شاق، ثم قال {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تسكيناً للمؤمنين وأمناً من معرفتهم ... قوله - عز وجل -: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} الآية (138) - سورة البقرة. الصبغة إشارة من الله- عز وجل- إلى ما أوجده فينا من بداية العقول التي ميزنا بها من البهائم، رشحنا به لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} الآية ... والمعنى بقوله- عليه السلام- " كل مولود يولد على الفطرة " الخير، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث أن قوى الإنسان التي ركب عليها إذا اعتبرت بداية يجري مجرى الصبغة التي هي زينة للمصبوغ، ولما كانت اليهود والنصارى إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية يقولون قد صبغناه بين تعالى أن الإيمان بمثل ما أمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق، ولا أحد أحسن

(139)

صبغة منه، وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} تعريض بهم أي لا نشرك [به] كشرككم، وقول الحسن وقتادة ومجاهد أن الصبغة هي الدين، وقول غيرهم إنها الشريعة، وقول من قال هو الختان إشارة إلى مغزى واحد، وقد قيل: صبغة الله على مراتب أولها ما ركب فينا من الهداية وهي الفطرة والثانية: الهداية بالتوفيق، والثالثة: الهداية ببعثة الرسل، والرابعة: الهداية في الترقي توليه إلى الدرجة العليا والسعادة القصوى ... قوله - عز وجل -: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} الآية (139) - سورة البقرة. المحاجة: المقاومة في إظهار الحجة البينة للحجة أي المقصد وقد ألزمهم بهذه الآية الحجة المذكورة في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}، ولما كانت الشرائع مبنية بالقول المجمل على ثلاثة أشياء ... الإقرار بالباري- عز وجل-، والعمل له والإخلاص في ذلك قال .. قل لهم إنا قد تشاركنا في الإقرار بالله- عز وجل- وفى العمل له ونحن قد حصل لنا الإخلاص [في ذلك] من دونكم، فإن قيل: ومن أين؟ إن الإخلاص حصل للمسلمين دونهم، وهل هذا إلا مجرد ل الدعوى قيل قد أحالهم على التأمل، وذلك ظاهر بالاستقراء والتدبر، فإن الأصول الاعتقادية هي ما ذكر الله- عز وجل-، [في قوله] {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وإذا تأمل حالة الإقرار بالله تعالي فقد أخلص المسلمون فيها يدعيه اليهود من التشبيه والنصارى من التثليث، وما ادعوه على جبريل أنه عدو لهم وما ادعاه اليهود على إبراهيم، حيث زعموا أنه لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً صالحاً، ونسبوا إليه لوطآ من الفجور ببنيه في حال سكره وادعى النصارى في نبوة عيس- عليه السلام- وإنكارهم بعض ما في التورط والإنجيل، وما ذكروه من البعث حيث قالوا {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} وادعت النصارى أنه لا بعث، وإنما ينال الثواب والعقاب الأرواح، فإذن قول المسلمين (ونحن له مخلصون) ظاهر ...

(140)

قوله - عز وجل -: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية (140) سورة البقرة. قوله: {أَمْ تَقُولُونَ} معطوف على قوله (أتحاجوننا) - أم تدعون أن الأنبياء كانوا على دينكم تنبيها أنه من المحال أن يكون المتقدم مقتدياً بالمتآخر ومستند بسنته، ومن قرأ بالياء فوجه العدول فيه من الخطاب إلى الإخبار استجهالاً لهم بما كان منهم من هذه الدعوة كما يفعل العالم من الإعراض عمن يخاطبه بعد ارتكابه جهالة شنيعة إلى غيره، واحتج عليهم بمقدمتين فقال: أنتم أعلم أم الله أي قد بينت أن الله أعلم منكم، وبينت أنه ليس بغافل عما تعملون وقد كتمتم الشهادة عنها، ومن كتم من الله شهادة عنده مع كون الله بهذا الوصف فهو أظلم الخلائق، فهدا تبكيت لهم في كتمانهم أحوال النبي- عليه السلام- وسائر الأنبياء واحتج عليهم بما لا انفصال لهم عنه، وقوله: {مِنَ اللَّهِ} على هذا متعلق بقوله:، {كَتَمَ} وقيل؟ إنه متعلق بقوله شهادة، أي من كتم عن الناس شهادة مصدرها من الله - عز وجل، وقيل: في الآية قول أخر، وهو أن قوله: {مِنَ اللَّهِ} يتعلق بقوله " أظلم " وقوله {مِمَّنْ كَتَمَ} من جمله الذين كتموا وتقدير هذا التأويل قد ثبت أن الله - عز وجل- أعلم منكم، وقد حكم أن الشهادة كتمانها عصيان بقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} فكأنه قيل: من أظلم من الله من الذين كتموا الشهادة إن كان الأمر على ما ذكرتم ولم يخبركم،. وهذا كقولك: من أظلم ممن يجور على الفقير من السلطان أي لا أحد أظلم منه إدا ظلمه، وعلى هذا يكون قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} على سبيل التهديد لهم.

(141)

قوله - عز وجل -: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآية (141) - سورة البقرة. أعادت هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمه في الناس صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم سيما في أمور دينهم، ولهذا حكى عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة، وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب ببنيه بذلك تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه، وفي الثاني لا ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيهاً على نحو ما قال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ولما جرت به عادتهم، تقررت به معرفتهم كل شاة تناط برجليها. قوله - عز وجل -: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الآية (142) سورة البقرة. السفيه كل معتقد باطلاً يسرع إلى إظهار معتقده، ولا يكون له ثبات، والقبلة وإن كانت في الأصل اسماً للحال التي عليها الإنسان من الاستقبال كالجلسة والقعدة، فقد صار في التعارف للمكان المتوجه نحوه للصلاة، وهؤلاء السفهاء المنكرون لتغيير القبلة اليهود على ما رد عن ابن

(143)

عباس، ومشركو العرب عن الحسن، والمنافقون عن السدي، ولا تنافي بين أقوالهم، فكل قد عابوا وكل سفهاء، وقد روي أن بعضهم قال: لا يثبت محمد على دين، وبعضه قال: " رجع إلى قبلة قومه، وسيراجع إلى دينهم، وروي أن قوماً من اليهود أتوه وقالوا: ما ولاك عن قبلتنا؟ ارجع إليها نتبعك فأنزل الله تعالى ذلك تبيينا أن الأمكنة متساوية عند الله، فله المشرق والمغرب، وهو الهادي إلي الطريق المستقيم فأي وجه يتوجه إليه، فهو تعالى موجود كما قال {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، وكقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} في اعتبار به والارتسام لأوامره لا بالأمكنة والجهات المختلفة ... قوله- عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} الآية (143) - سورة البقرة. الوسط في الأصل اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب في المدورة، ومن الطرفين في المطول كالنقطة من الدائرة ولسان الميزان من العمود، ويجعل عبارة عن العدل، وكذلك السواء والنصف. ، وشبه به كل ما وقع بين طرفين إفراط وتفريط كالجود بين السرف والبخل والشجاعة

بين التهور والجبن، ثم جعل عبارة عن المختار من كل شيء حتى قيل: فلان من أوسطهم نسبياً، وكما جعلهم وسطاً جعلهم خيرا في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} والعقب مؤخر القدم، فتصور مكانه من الحيوان تارة، فاعتبرت في قولهم: يعقبه واعتقبه نحو: استدبره، وقفاه، وعاقب الليل النهار، وقيل المعقبات للملائكة التي تتعاقب في الليل والنهار والعقوبة منه، والعقبة الجبل اعتبارا بالصاعد الذي يميل [نحو عقبة] في ممره، ولما كان يؤخذ العقب من بعض الحيوانات فيشد به، قالوا: عقبته: أي شددته بالعقب نحو دسته وانقلب على عقبيه إذا رجع عائداً نحو: ارتدا على آثارهما، ورجع عوده على بدئه. إن قيل: كيف جعلهم وسطا؟ الخُلق أم لخلْقِ خصهم به؟ أم لعلم ركزه فيهم؟ أم لشرع شرعه لهم؟. قيل: قد خصهم بكل ذلك، والظاهر من ذلك هي الشريعة التي إدا اعتبرت بسائر الشرائع وجد لها حد الاعتدال، وهو أن بني إسرائيل لما عتوا كما حكى الله عنهم في غير موضع شدد عليهم أشياء صارت عليهم إصرا وأغلالاً، نحو: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}، ولذلك أمرنا تعالى فيما يدعونه أن نقول {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، ثم خفف عنهم على لسان عيسى بعض التخفيف، ولهذا حكى عنهم: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، وتمم ذلك بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} إلى قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}، وقال عليه السلام " بعثت بالحنيفية السهلة "، فصارت شريعته متوسطة بين الإفراط الذي هو الإصر والأغلال وبين التفريط الذي هو

الإضاعة والإهمال، وعلى ذلك قال {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، ولكون هذه الشريعة وسطاً سمى مقتضاهما كلمة (سواء) أي عدلاً باتفاق العقول فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} الآية .. إن قيل: هل ذلك للأمة كلهم أم للبعض دون البعض؟ قيل: الخطاب لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة على وجه، وهو خطاب للكافة عامة على وجه، وذلك أن أصحابه في الحقيقة صاروا موجودين خير الناس، وسائر أمته ممكنون أن يصيروا أخيارا وذلك بقبولهم الفيض الذي أباحه الله لهم بعقولهم ولسان نبيهم وتدرجهم إلى بلوغ أقاصيه .. ، إن قيل: على أي وجه شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - علي الأمة وشهادة الأمة على الناس؟ قيل: الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مبينا، حكمه، وأعظم شاهد من ثبتت شهادته بحجة، ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر وكمله ببعثة الأنبياء، وخص هذه الأمة بأتم كتاب، كما وصفه بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، فأفادناه- عليه السلام- وبينه لنا صار حجة وشاهداً أن نقول ما جاءنا من بشير ولا نذير، وجعل أمته المتخصصة بمعرفته شهودا على سائر الناس ... إن قيل: هل أمته شهود كلهم؟ أم بعضهم؟ قيل: كلهم ممكنون من أن يكونوا شهداء وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح، فمن لم يزك نفسه لم ليكن شاهداً مقبولاً، ولذلك قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وعلى هذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، فالقيام بالقسط

مراعاة العدالة، وهي بالقول المجمل ثلاث: عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله- عز وجل-، فمن رعى ذلك فقد صار عدلاً شاهداً لله- عز وجل-. إن قيل: فهل هم شهود على بعض الأمم أم على الناس كافة؟ قيل بل كل شاهد على نفسه وعلى أمته وعلى الناس كافة فإن من عرف حكمة الله تعالي وجوده وعدله ورأفته، علم أن لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس، ولا يبخل عليهم ولا يظلمهم، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على أن من زمانه وعلى من قبله ومن بعده، وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر " أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم "، إن قيل: ما المشبهْ وما المشبه به في قوله كذلك قيل: ولما قال: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بين أن نعمته بهذا التشريف كنعمته بالهداية إلى صراط مستقيم. قوله - عز وجل -: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} الآية (143) - سورة البقرة. يعني ما أمرناك بالتوجه إلى بيت المقدس إلا لنعلم، أي لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وقيل معناه: إلا لنعلم حينئذ من ينقاد لك من العرب في اتباعك إلى الصلاة إلى بيت المقدس، وقيل معناه: ما غيرنا حكم القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، والقبلة على هذا كله بيت القدس، وقيل معناه: ما جعلنا هذه القبلة التي أنت عليها أي أمرناك بها يعني الكعبة، وإنما استعمل فيه " كان " إشارة إلى أن حكم الله تعالى بدلك قد تقدم في سابق علمه، وقيل: عنى الكعبة حتى توجه إليها قبل

وروده المدينة، وهذا أظهر، فالآية التي بعدها هي الناسخة لا استفتح بقوله: (قد نرى) .. إن قيل: ما وجه قوله: (إلا لنعلم)، وذلك يقتضي استفادة علم وقد علم أن الله تعالى لم يزل عالماً بما كان، وبما يكون؟ قيل إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى، ومجاز ذلك على أوجه .. الأول: أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين: حدوث الفعل في نفسه، وحدوث العلم به، ولما كان علم الله لم يزل ولا يزال صار اللام فيه مقتضياً حدوث الفعل لا حدوث العلم. والثاني: أن العلم يتعلق بالشيء على هو به، والله تعالى علمهم قبل أن يتبعوه غير تابعين، وبعد أن تبعوه علمهم تابعين، وهذا الجواب كالأول في الحقيقة، لأن التغيير داخل في المعلوم لا في العلم. والثالث ة معناه لنعلم حزبنا، فنسب ذلك إلى نفسه على علاته في نسبه، أفعال أوليائه إلى نفسه، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وقال في موضع أخر: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وإنما علمه بملائكته. والرابع: معناه لنجازي، وذلك متعارف نحو: قولك: سأعلم. حسن بلائك، أي سأجازيك على حسب مقتضى علمي- قيل: فعبر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه. والخامس: أن عادة الحكيم إذا أفاد غيره علما أن يقول وتعالى " حتى يعلم كذا "، وإنما يريد إعلام المخاطب لكن يحل نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف ... إن قيل: كيف يتصور حقيقة انقلاب الإنسان على عقبيه؟

قيل: يتصور ذلك على وجهين: أحدهما: اعتبار لحال الإنسان ومعارفه، وهو أن الإنسان شرع في الفضيلة واكتساب المعرفة درجة درجة إلى حين الكمال، فإن حكمه في بطن أمه حكم النبات، ثم يصير في حكم الحيوان، ثم يصير بعد الولادة في حيز الإنسان باكتساب المعارف أولاً فأول، ثم لا يزال يترقى بالعلم والعمل حتى ربما يصير قريباً من الملائكة علما وفضلاً وعملاً، ومتى أخل بمرتبته، وصل إليها، فرجع عنها فقد انقلب على عقبيه، والوجه الثاني: أن يعتبر الأديان وفضائلها، وذلك أن الله تعالى أنشأ الأديان، فمازال يتممها شيئاً فشيئا إلى أن كملها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وكما قال النبي عليه السلام في الخبر الذي قال فيه: ( .. فكنت في موضع اللبنة)، فمن أنعم عليه بأن أوجده بعد بعثته (عليه السلام) فرغب عن شريعته مائلاً إلى غيرها من الشرائع المنسوخة قد انقلب على عقبيه، وبين بقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أن الانتقال عن المألوف من القبلة مستصعب على الطبع، والإنسان ألوف لما يتعوده سيما الشريعة، فإن ذلك إنما لا ينقل عليه من أنعم الله عليه وهداه وعرف حكمته، وعلم أنه تعالى يأمر عباده بما هو أصلح لهم كأهل " منا " الذين لما أتاهم الخبر بنسب القبلة، وكانوا في الصلاة حولوا وجوههم نحو الكعبة من غير أن يستبينوا، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} هو تسكين لمن صلى إلي بيت المقدس، من المسلمين ومن أهل الكتاب قبل النسخ، وبين أنهم يثابون على ذلك، فقد روي أن قوماً قالوا: كيف بمن مات من إخواننا وقد وصلوا إلى بيت القدس؟ فأنزل الله تعالى، ذلك، فإن قيل ولم قال؟ {لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ولم يقل صلواتكم؟

(144)

قيل: عدل إلى لفظ الإيمان ألذي هو عام في الصلاة وغيرها ليفيدهم أنه لم يضع لهم شي مما عملوا به ثم نسخ عنهم، فإن قيل: ولم لم يقل إيمانهم؟ قيل: ذكر بلفظ الخطاب ليتناول الماضين والباقين تغليباً لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ، ثم بين بقوله تعالى: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) أنه لا يضيع إحسانهم وهو رؤوف بهم، فإن رأفته بالناس وإضاعة إحسانهم متنافيان لا يجتمعان. قوله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} الآية: (144) سورة البقرة، قطر وشطر وشطن ألفاظ متقاربة المعاني تقارب ألفاظها، فقطر معناه انفصل عن قطره أي بجانبه ومنه القطرة القليل المنفصل من المانع، وشطر: انفصل وتباعد، ودار شطور منفصلة عن الدور، وشطون بعيدة، وقد يستعمل الشطور موضع الشطون لكن الشطون لما هو أبعد، ورجل شاطر أي منفصل عن الجماعة بالخلاعة، وشاطرته: أي أخذت شطرا وتركت له شطرا، وشاة شطور لها ضرع واحد وأحد ضرعيها أكبر كأنه لا يعتد بالآخر، وتوجهت شطره أي نحوه اعتبارا بالشطر المقابل من شطريه، وتقلب الوجه أبلغ من تقلب العين، على أن الوجه يراد به التوجه كقولك: " وجهتي إلى فلان " إن قيل: هل كان يستخط - عليه السلام - توجهه إلى بيت المقدس حتى قيل {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}؟ قيل لم يقصد بذلك أنك كنت ساخطة، وإنما كان - عليه السلام - يحركه السر، ويعلم بما يلقى في روعه أن الله تعالى يريد تغييراً في القبلة، وكان يتشوفه ويحثه، وقيل معنى (ترضاها) أي يرضاها، لكن يبين بهذا القول أن مرادك لم يخالف مرادي. وقول مجاهد وابن زيد، أحب النبي عليه السلام التوجه إلى الكعبة مخالفة لليهود وقول ابن عباس فإنه أحبها اقتداء بإبراهيم عليه السلام وقول الزجاج إنه أحبها لاستدعاء العرب بها إلى الإسلام فكلها صحيحة إذ لا منافاة بين هذه الإرادات، وهذه منزلة يشير إليها أولو الحقائق ويذكرون

أنها فوق التوكل، لأن قاضية المتوكل الاستسلام لما يجري عليه من القضاء كأعمى يقوده بصير فهو به، وهذه المنزلة هي أن يحرك الحق سره بما يريده فعله، وربما يكون ذلك بوحي من خارج لقوله، تعالى لإبراهيم أسلم، وربما كان ذلك بإلهام من باطن كما أوحى إلى أم موسى، ومعنى (تقلب وجهك في السماء) أي تطلعك الوحي المنزل، وقيل: إن في ذلك تنبيهاً على حسن أدبه حينما انتظر ولده يسأل، فالولي الذي حصلت له القربة قد ينقص عن المسألة اتكالاً على ما تيسر له، كما روي عنه عليه السلام أنه قال أن الله تعالى يقول: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل من ما أعطى السائلين) .... وعلى ذلك أول أمية بن أبي الصلت: إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاهُ من تعرضك الثناء وبين تعالى بهذه الآية رغبة النبي عليه السلام في التوجه إلى الكعبة وإلحائه، وقرن به علم أهل الكتاب بأن ذلك حق من الله- عز وجل- ونبه بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} على وعيد لهم. ووعد المؤمنين في إلحائهم وإمتناعهم ... إن قيل: من أين علم أهل الكتاب أن ذلك حق؟ قيل: لما تضمن كتبهم من ذكر النبي- عليه السلام-، وعلمهم أن عبادة الله أن يخص كل رسول من أولى العزم بقبلة غير قبلة من تقدمه أنفاً ... إن قيل: كيف خاطبه أولاً بقولها {فَوَلِّ وَجْهَكَ} ثم عم بقولها: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}، قيل: أما خطابه الخاص أولاً، فتشريفاً له، وإيجاباً لرغبته وإنجازاً لوعده، وأما خطابه العام بعده، فلأنه، كان

يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص عليه السلام به كما خص بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}، ولأنه لما كان تحويل القبلة أمراً له خطر خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ، فمعلوم من السلطان إذا خاطب والياً من قبله بأمر ذي بال يعمه، ورغبته أن يخصه بخطاب مفرد ليكون ذلك أوقع عندهم [وأدعى لهم إلى قبولهم]، وليكون لهم في ذلك تشريف، ولأن في الخطاب العام تعليق حكم أخر به، وهو أنه لا فرق بين القريب والبعيد في وجوب التوجه (إلى الكعبة)، والضمير في قوله {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} قيل هو التحويل قيل: هو التوجه، والقولان في التحقيق واحد. قوله عز وجل: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} الآية: (145) - سورو البقرة. إن قيل؟ كيف حكم، بأنهم لا يتبعون قبلتك وقد أمن منهم فريق- قيل: قال بعضهم: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض، وهذا صحيح بدلالة أنك لو قلت: ما أمنوا، ولكن آمن بعضهم لم يكن منافياً، وقيل عنى به وأقوام مخصوصون وقيل: عنى ما تبعوا قبلتك بقلوبهم، وقوله: (يوما أنت بتابع قبلتهم)، أي لا يكون ذلك منك، فمحال أن من عرف الله حق معرفته يرتد، وقد قيل: (ما رجع من يرجع إلا من الطريق)، أي: " ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول " ... إن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة ثم يرتد؟ قيل: إن الذي يقدر أنه معرفة، وهو ظن متصور بصورة العلم، فأما أن يتحصل العلم الحقيقي ثم يعقبه الارتداد فمحال ولم يعن بهذه المعرفة

(146)

ما جعله الله تعالي للإنسان بالفطرة، فإن ذلك كشررة تخمد إذا لم تتوقد، وبين أن بعضهم لا يتبع قبله البعض، وذلك لارتكابهم الهوى وتأنيهم عن تأمل الهدى، وحذر نبأ عن اتباع أهوائهم، ونبه أن اتباع الهوى بعد التحقق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة تواضع، وقول من قال الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمعني به الأمة، فلا معني لتخصصه، فإن الله تعالى يحذر نبيه من اتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره المنزلة الرفيعة إلى تحديد الإنذار عليه أحوج حفظاً لمتركته وصيانة لمكانته، وقد قيل: حق المرأة المجلوة أن يكون بعدها أكثر إذا كان القليل من الصدأ عليها أظهر .. إن قيل: كيف أجاب فقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}، ولايقال إن جئتني ما فعلت، وإنما يقال: لم أفعل؟ قيل: قد قال سيبويه: إن ذلك لما تضمن معنى القسم، فأدخل على أن اللام صار جوابه كجواب القسم، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} وقال الأخفش: لما كان إن،) وهو متضمنان الشرط حمل " إن "، عدى " لو " فعلى هذا يصح أن يقال " إن أتيتني ما أكرمتك "، وعلى قول " سيبوية " لا يصح ما لم يكن مع " إن " اللام نحو للئن. قوله - عز وجل -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الآية (146) - سورة البقرة. أتيناهم أبلغ من قوله: (أوتوا)، فإن (أوتوا) قد يستعمل فيمن لم يكن له قبول، وأتيناهم أكثر ما جاء فيمن له قبول نحو: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، وعلى ذلك كل مما جاء من نحو هذا فيما يختص بإكرام نحو: {هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا}، وقوله (يعرفونه) أي العلم الذي هو النبوة

(147)

المتقدم ذكرها في قوله {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وقيل، عنى النبي عليه السلام بقوله: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} وقيل: يعرفون أن التوجه إلى الكعبة حق واختلاف أقاويلهم باختلاف نظراتهم إلى الألفاظ من حيث المعنى بأن معرفة الرسول عليه السلام ومعرفة صدق قوله وصحة ما يأمر به من أمر القبلة متلازمة، وإنما قال: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ولم يقل أنفسهم، لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد انقضاء برهة من دهره، ويعرف ولده من حين وجوده، ثم في ذكر الابن، ما ليس في ذكر النفس، فإن الإنسان عصارة ذاته ونسخة صورته، وإنما قال: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} ولم يقل يكتمونه، لأن في كتمان أمره كتمانه الحق جملة، وزاد في ذمهم بقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. فقد قيل: ليس المرتكب ذنباً عن جهل كمن يرتكبه عن علم ... قوله عز وجل: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الآية (147) - سورة البقرة. الامتراء من) مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها، وبه شبه مري الريح السحاب الممطر، ومرى الفارس فرسه للعدو، واستعير الممتري للمتردد، وفي الحكم، ولهذا استعمل فيه المتحير، وهو من حار إذا رجع، وبين أن كل حق هو من الله تعالى، إما بإبداعه وإيجاده وصنعه، وإما بأمره وإما توفيقه، وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ليس بنهي عن الشك، وإذ كان ذلك ليس بقصد من الشاك، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها، وعلى ذلك قوله تعالي: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}

(148)

قوله - عز وجل -: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية: (148) - سورة البقرة. أي: لكل أمة، وقيل لكل نبي وجهته، وقيل قبلة، وقيل: شريعة، وذلك في المعنى واحد، وهو ضمير لله- عز وجل- أي الله موليها إياه، وقيل: ضمير للكل: أي كل موالي جهته، وقرئ: (هو مولاها) فيكون هو ضمير ضمير الكل ولا يحتاج إلى تقدير ضمير أخر، وقيل: معنى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي للناس كلهم الآن وجهة، وهي الإسلام تنبيهاً أن الأديان به نسخت، نحو: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وفي الآية قول آخر، وهو أن الله تعالى قيض الناس في أمور دنياهم وأخراهم لأحوال متفاوتة، وجعل بعضهم أعوان بعض فيها، فواحد يزرع، وآخر يطحن، وأخر يخبز وكذلك في أمر الدين، واحد يجمع الحديث، وواحد يطلب الفقه، والثالث يطلب الأصول وهم في الظاهر مختارون وفي الباطن مسخرون وإليه أشار النبي بقوله: " كل ميسر لما خلق له " وجعل للكل سبيلاً للوصول إليه تلالي، وإذا راعى ما هو بصلاة وأدى الأمانة فيه، ولهذا سئل بعض الصالحين عن تفاوت الناس في أفعالهم، فقال: في ذلك طريق إلى الله تعالي وصل إليه، أراد أن يعمرها بعباده فبين أن لكل طريقاً إذا تجرى فيه وجه الله تعالي وعلى ذلك قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، كقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يعني أي شغل تحريتم، وحيثما صرفتم، وأي معبود اتخذتم فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها ...

(149)

قوله - عز وجل -: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية: (149) - سورة البقرة. إن قيل: ما وجه تكرير (فول وجهكم) قيل: إعادة ذلك لحكمة لطيفة، وهو أنه ذكر لتغيير القبلة ثلاث علل من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) - الأولى: إكرامه تعالى نبيه - عليه السلام- إن ولاه قبلة أبيه إبراهيم ابتغاء مرضاته، وهو قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) والثانية: إخباره أن لكل صاحب دعوة قبلة وهو قوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ)، والثالثة: قطع حجة معانديه وهو قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، فقرن بذكر في علة معلولها الذي هو الفرض، وذلك قوله: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) لقولك: إن هذا فرض لسبب كذا، وفرض لسبب كذا، فيعتد المعلوم مع العلة، وهذا أبلغ من قول من قال: لما طال القصة، واعترض فيما بينها ما فيه زيادة بيان أعاد الحكم نحو: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا}، وأنه أعاد " لما جاءهم " وأشار بقوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} إلي تحقيق ما قدمه، فبين أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن لكل صاحب شرع قبلة تختص بها وأنت صاحب شرع، فتغيير القبلة لك حق، إن قيل: لم خص الأول بلفظ الرب، والثاني بلفظ الله؟ قيل: لأن الأول لما نبهنا على الاستدلال على حكمته بالنظر إلى أفعاله ذكر لفظ الرب المقتضى [للنعم المسطر فيها إلى المنعم] ويستدل بها عليه، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ذكر لفظ الله تعالى المقتضي للعبادة التي من أحل بها عليه استحق أليم عقاب.

(150)

قوله - عز وجل -: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الآية (150) - سورة البقرة. فإن قيل: لم كرر قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، قيل: حث بأحدهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي مكان حصل الإنسان نائياً كان عنها أو دانياً منها، وذلك حال الاختيار والتمكن، وحث بالآخر على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة، وفي حال المسامعة، وفي صلاة النافلة في حال المسير في السفر وعلى الراحلة ... إن قيل: كيف استثنى الذين ظلموا وذلك يقتضي أن يكون لهم حجة،؟ قيل: الحجة ههنا موضوعة موضع الاحتجاج نحو: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} ومعناه: لئلا يحتج عليكم أحد إلا وهو وظالم، وقوله: (لئلا) إبانة عن الغرض، والعاقل لا يقصد إلا عارضاً يصح أن يصيبه، فالمؤمن لا يقصد بذكر الحجة أن يكف الناس بها عن الاحتجاج لعلمه أن منهم معانداً لا يبالي بارتكابه الباطل، والله تعالى لا يأمر بدلك لكونه غير مستطاع، فكأنه قال: أقصدوا بالحجة دفع الناس إلا الظالمين، وقيل الظالمون إشارة إلى مشركي العرب حيث قالوا: " إن محمد عاد إلى فبلتنا "، وقد استدل بعضهم على أن الناس ههنا لمشركي قريش بما روي في الخبر أن كل ما في القرآن من قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فمخاطبة لأهل مكة، وما فيه من (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فمخاطبة لأهل المدينة، وقول من قال تقديره: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}.

إلا حجة الذين ظلموا، قال: والظالم لا حجة له في الحقيقة فصار كقول الشاعر: ولا عيبَ فيهِمْ غيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ .... بِهِنَّ فُلُولُ البيت راجع إلى الأول وأما قول أبي عبيدة إن تقديره " والذين ظلموا " فإن أراد أن معناه هذا على تقدير ما تقدم فصحيح، وإبل أراد أن معناه بمعنى " الواو " هبعيد، وقول الشاعر الذي احتج به وهو قوله: ماَ بالمدينة دارٌ وَأحِدةٍ دارُ الخَليَفة إلا دارُ مَرَوانِِ فتقديرها: ما بالمدينة دار إلا دار مروان غير واحده، وهي دار الخليفة، فقد أثبت دارين فصار من حيث المعنى، كما قال: ليس معنى إلا معنى الواو، وإن قيل: أي حجة لهم على ألكفار إذا فعلوا ذلك، وأي حجة تسقط عنهم، قيل لما ذكر الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، ومن أن التوجه إلي الجوانب سواء في المعقول أبان أق إنما قصرهم على جانب واحد لئلا يختلف توجيههم فيحتج عليهم الكفار بالاختلاف، ويقولون: ما بالكم تصلون إليها تارة وإلى غيرها أخرى، وقوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} أي لا تراقبوهم ولا تستحيوا منهم، وذلك لما علم أن كلامهم عناد للعقيدة عند ظهور الحجة عن التزامها، فقال لهم ذلك والخشية قد تجري مجرى المراقبة والاستحياء في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} وقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} معطوف على قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} وإتمام نعمته هو أن نعم الله تعالى ضربان: أحدهما موهوب، والآخر مكتسب،

(151)

فالموهوب: كجودة الحفظ والفهم وصحة البدن والجاه، وكل ذلك لا يستحق بحصوله الحمد، ولا بفواته الذم، والمكتسب كالعلم والعمل الصالح المتوصل بهما إلى الثواب وهو الإيمان، وبه يستحق المدح والذم، فبين تعالى أنه إذا ائتمرتم في أمر القبلة، وصلتم إلى الحالة التي يحصل لكم الخشية المشار إليها بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فقد أتممت نعمتي عليكم) واستتممتموها) قوله عز وجل: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} الآية (151) - سورة البقرة. ما مع ما بعده مصدر، أي: كإرسالنا، والكاف فيه متعلق بقوله ولأتم نعمتي عليكم، أي إذا أنتم ائتمرتم في أمر القبلة وخشيتم الله دون الناس أتم عليكم كلمته كنعمته بإرسال رسول هكذا تنبيها أن النعمة في بعثته ودعائه العالم إلى دين مخالف لدينهم، ووعدكم أته سيظهر دينه على الأديان كان أعظم من تغيير القبلة، وقد وفى بذلك، وقيل: تتعلق الكاف بقولها " اذكروني " وهو بعيد ... إن قيل: كيف أخر فيما حكى عن إبراهيم عليه السلام قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا) ذكر التزكية عن تعليم الكتاب والحكمة وقدمها هاهنا؟ قيل: التزكية من الله عز وجل ضربان، أحدهما الشهادة بطهارة الإنسان، وذلك يكون بتزكية الإنسان نفسه، وذلك مؤخر عن تحصيل الإنسان الكتاب والحكمة والعمل بهما، وإياهما عنى إبراهيم- عليه السلام- في دعائه، فلذلك أخر، والثانية من الله - عز وجل- تبين أحكامه الشرعية، ومن العبد العمل بها، وذلك متقدم علي معرفة حقائق الكتاب والحكمة وهي المعنية ههنا، فلهذا قدم

(152)

أن قيل: وما معنى {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}؟ وهل ذلك إلا الكتاب والحكمة؟ قيل: عنى بقوله: {مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} اللعوم التي لا طريق إلى تحصيلها إلا بالوحي على ألسنة الأنبياء، ولا سبيل إلى إدراك جزئياتها ولا كلياتها إلا به، وعنى بالحكمة والكتاب ما للعقل مدخل في معرفته شيء منه، وأعاد ذكره يعلمكم مع قوله: {مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} تنبيهاً أنه علم مفرد عن المتقدم ذكره. . . قوله - عز وجل -: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} الآية (152) - سورة البقرة. الذكر حضور الشر بالقلب والقول، فلهذا قيل: الذكر ذكران ذكر باللسان، وذكر بالقلب، وقد يكون ذلك لحضور لا عن نسيان، وقل يكون عن نسيان، ولهذا فيل: الذكر ذكران، ذكر لكن نسيان، وذكر لا عن نسيان. وإلى الثاني ذهب الشاعر في قوله: وكيف أذكره إذ لست أنساه؟ وقال بعض العلماء: لما خص الله هذه الأمة بفضل قوة زائدة على ما لبني إسرائيل، قال لبني إسرائيل: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، فأمرهم بتذكر نعمته المنبهة عن الغفلة لينظروا منها إليه وقال لهذه الأمة:) فاذكروني)، فأمرهم أن في يذكروه بلا واسطة إن قيل: ما الفرق بين شكرت لزيد، وشكرت زيداً؟ قيل: شكرت له هو أن يعتبر إحسانه الصادر عنه فيثنى عليه بذلك وشكرته: إذا لم تلتف إلى فعله، بل تجاوزت إلى ذكر ذاته دون اعتبار أفعاره، فهو أبلغ من شكرت له، إذ قد يكون

للإنسان فعل في الظاهر محمود، ثم لا يكون ذلك الإنسان على الإطلاق محموداً، وإنما قال:) واشكروا لي)، ولم يقل: (واشكروني) علماً بقصورهم عن إدراكه بل عن إدراك الآية كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فأمرهم أن يعدوا بعض أفعاله في الشكر له، وشكر الله عز وجل- أصعب عبادة أشرفها، ولهذا قيل: غاية شكر الله الاعتراف بالعجز عنه، فكل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله، فإن شكرها نعمه منه، فذلك بتوفيقه، فإن العبد محتاج أن يشكر نعمته الثانية كشكره للأولى، وهدا يؤدي إلى مالا يتناهى، فلهذا قيل: لا يقدر عليه، ولصعوبة الشكر قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، ولم يثن على أنبيائه وأوليائه بالشكر إلا على أثنين، على نوح حيث قال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، وعلى إبراهيم حيث قال: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}، فذكر ذلك بلفظ أدى العدد تنبيهاً على شرف هذه المنزلة وصعوبتها ... إن قيل: علم عطف قول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}؟ قيل: على قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}، وذلك أنه لما أمرنا باستقبال القبلة، وبين العلة وأنه يريد أن يتم نعمته عليكم كما أنعم ببعثته رسوله أعاد النظم الذي هو الأمر، فأمر بالذكر الواجب بعضه في الصلاة، وبعضه في غيرها، وإن قيل: ولم قال بعده: {وَلَا تَكْفُرُونِ} ولم يقتصر على أحد اللفظين؟ قيل: لما كان الإنسان قد يكون شاكراً في شي ما، وكافرا في غيره، فيصح أن يوصف بهما على حسب النظر إلى فعليه، فلو اقتصر على قوله: {وَاشْكُرُوا لِي} لكان يجوز أن يتوهم إن من شكره مرة أو على نعمة ما فقد امتثل، ولو اقتصر على قوله: {وَلَا تَكْفُرُونِ} لكان يجوز أن يتوهم أن ذلك نهى عن تعاطي قبيح دون حث على الفعل الجميلة فجمع بينهما لإزالة هده الشبهة، ولأن في قوله:

(153)

{وَلَا تَكْفُرُونِ} نهيأ عن الكفر المطلق، وذلك معنى [زائد على قوله (واشكروا لي) وقدم قوله] {وَاشْكُرُوا لِي} وأخر قوله: {وَلَا تَكْفُرُونِ} تنبيها على أن ترك الشكر كفران ... إن قيل: فلم قال: (ولا تكفرون) ولم يقل (ولا تكفروا لي)؟ قيل: لأنه يقتصر من العبد على شكر نعمه، ولا يقتصر منه على أن لا يكفر نعمه، بل نهى عن الكفر به أكثر مما نهى عن كفر نعمه، إذ قد يعفو عن كفر بعض النعم ولا يعفو عن الكافر المطلق. . . قوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الآية (153) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في الصبر والصلاة وأنواعهما، فحث الله تعالى على الصبر، إذ هو ذريعة إلي فعل كل خير ويبدأ كل فضل، فإن أول التوبة الصبر عن العاصي، وأول الزهد الصبر عن مناجاة الدنيا، وأول الإرادة الصبر على طلب ما سوى الله، ولهذا قال عليه السلام: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)، وقال: (والصبر خير كله) والصلاة هي المقتضية للخشوع والداعية إلي ترك الفحشاء قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ولا أمر بالذكر والشكر حث على الاستعانة بالصبر والصلاة - تنبيهاً أنه بهما يتوصل إليه، فإن الصبر مبدأ الإيمان، والشكر منتهاه ولهذا قال عليه السلام: " الصبر نصف الإيمان " ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فضمن صحبته إياهم تنبيهاً على قرب فيضه وتوفيقه، كما قال:

(154)

{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} تنبيهاً أنه يراعيهم بالعناية، إن قيل: لم قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ولم يقل: " مع المصلين " وقال في أخرى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فاعتبر الصلاة دون الصبر؟ قيل: لما كان فعل الصابرين أشرف وأعلى من الصبر، إذ قد ينفك الصبر من الصلاة ولا تنفك الصلاة من الصبر ذكر ههنا الصابرين، فمعلوم أنه تعالى إذا كان مع الصابر، كان لا محالة مع المصلي أكثر ثم قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فذكر الصلاة دون الصبر تنبيها أنها أشرف منزلة من الصبر فقد ترك توفية حق الصلاة من تصبر في كثير من الأحوال. قوله - عز وجل -: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} الآية (154) - سورة البقرة. قد تقدم أن الحياة تقال على أوجه، وكل واحدة يقابلها موت، الأول: في القوة النامية التي بها الغذاء والشهوة إليها، وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان، ولذلك يقال: نبات حي، والثاني في القوة الحساسة التي بها الحركة المكانية وهي موجودة في الحيوان والإنسان دون النبات، والثالث القوة العاملة العاقلة [وبها يكون العقل والعلم] وهي في الإنسان دون

الحيوانات والنبات وبها يتعلق التكليف، وقد يقال للعلم المستفاد الحقيقي، والعمل الصالح حياة، وعلى ذلك قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وقيل: " المحسن حي وإن كان في دار الأموات، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء "، ونرجع إلى معنى الآية فنقول: إن بعض المعتزلة لم يعتبر في ذلك تفصيلاً، وقال عني: بإثبات الحياة ونفى الموت عن الشهداء يوم الحساب، لا في الحال قالا ولا اختصاص لهم، بل إنما علق الحكم بهم، لأنه في ذكرهم، ولو ذكر معهم غيرهم لذكرهم بحكمهم واستجهل من قال إذ! م أحياء وقال: قد علم أن رسول الله {- صلى الله عليه وسلم -} والشهداء في قبورهم، وهم لا يأكلون ولا يشربون، واستجهاله لن خالفه هو لأنه فرغ إلى الحس الذي قد نفى الله تبارك وتعالى بقوله: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} أي: لا تحسون ولا تدركون ذلك بالمشاعر أي الحواس تنبيهاً أن ذلك مما السبيل إلى معرفته الفرق إلى العقول وإلى الاعتبارات الصحيحة [دون الحواس] وإما علي طريقة غيرهم فمعلوم، وقد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النمو والغذاء ولا الحياة التي بها الحس، فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول، فبعض المفسرين اعتبر المعنى الآخر الذي هو العلم المستفاد والعمل الصالح، فقال: إن الله تعالى نهى أن يسمى الشهداء أمواتا في حكم الدين، فقال: لا تقولوا لهم ما قال المشركون، ولكن قولوا هم أحياء في الدين، وهذا صحيح ... وبعضهم اعتبر الحياة المختصة بالإنسان، وقال: إن هذه الحياة مختصة بالقوة المروية المسماة تارة الروح، وتارة النفس، وتارة النسمة قال: والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة أي الروح البدن، فمتى كان الإنسان محسناً كان منعماً بروحه، [مسروراً بمكانه] إلى يوم القيامة، وإن كان مسيئا كان به معذباً، وإن الحسن يعلم في بذلك بعد موته، وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين

والأدلة وهو مذهب أصحاب الحديث، ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل إليه ذهب عادة أصحاب الملل كلها ولم يخالفهم إلا جماعة من المعتزلة، حيث جعلوا الأنواع أعراضاً لا قوام لها إلا بالأجسام، وأنها مهما فارقت الأجسام بطلت، ومما دل على صحة ذلك قوله عليه السلام: " الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " وما روى أمير المؤمنين علي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " فإن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفى عاماً، إن الروح في قناديل معلقة تحت العرش "، وقال في أرواح الشهداء ما عرفت وما روي عنه- عليه السلام- " إن الميت ليرد على جماعة من الأموات، فلا يزالون يسألونه عن معارفهم وجيرانهم، وهو يخبرهم ويصف لهم حتى يجري ذكر الرجل " فيقول ة قد مات قبلي بمدة، فيقولون: إنا لله، سفُل به، وإن كان من الصالحين قالوا: على به ومعلوم أنه لم يرد عليهم بالأشباح، وإنما ذلك الإلقاء بالأرواح وروي أنه لما قتل [من قتل] من صناديد قريش يوم بدر، فجمعت جثثهم في قليب، ثم أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخاطبهم بقوله: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً "، قيل: يا رسول الله: أتخاطب جيفاً؟ فقال: [ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب] وما روي أنه قال: " رأيت نسمة

(155)

أدم " إلى غير ذلك من الأخبار، وعلى ذلك قوله عز وجل {اوَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، وقال في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}، وهذا يعني به قبل القيامة بدلالة أخر الآية وهو قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وإلى هذا المعنى ذهب جماعة الصحابة والتابعين، قال مجاهد: " يرزقون من ثمر الجنة فيجدون ريحها وليسلوا فيها " .. وقال ابن عباس والربيع وغيرهما: " أرواح الشهداء في أحواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها " قوله - عز وجل -: {ولنبونكم بشي وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الآية (155) - سورة البقرة. البلاء: المبالغة في الاختبار، كأنك [أبليته] وأخلقته من كثرة ما اختبرته به، ولذلك يقال: بليت فلاناً أي خبرته، والكلام في نسبة الابتلاء إلى- عز وجل- كما تقدم في. قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} وإنما يراد به ظهور الفعل دون حصول العلم، والخوف توقع مكروه، والجوع استدعاء البدن عوض ما تحلل عنه، ونقص الأموال: ذهاب بعض ما حوته اليد، ونقص الأنفس: افتقاد الإنسان بعض قواه في ذاته، أو بعض جوارحه [أو سمعه أو بصره] أو بعض أقاربه وأخلائه، ونفس الثمرات: فقد المتوقع من الدخل والربح، وهذه الجملة مشتملة على محن الدنيا كلها. إن قيل: هل ابتلاء الله الناس بهذه النوائب عام لهم أم خاص لبعضهم؟ وهل ذلك في زمان دون زمان؟ أو فبم كل زمان؟

قيل: أما بالنظر الخاصي فعام لهم وفي كل زمان، وذاك أن الناس لا ينفكون في الدنيا في شيء من الحالات عن شي ما من المحن، بل في حال اليسار يساق بهم إلى محنة فإذا ما هم في محنة وإن كانوا في صحة ولهذا روي:: كفى بالسلامة داء " .. وقال الشاعر: إذا كان الشبابُ يعوُدُ شيباً ... وهمَّا فالحياةُ هيَ الحمامُ فالعاقل بتفكره يعلم أن ماله وبدنه وذويه ونعمه عارية مستردة، فإذا عرضت له نائبة كان له من الصبر مطية لا تكبو، ومن الرضا بقضاء الله سيف لا ينبو، وإما بنظر أعم من ذلك، فإن الله تعالي لا أجرى عادة الدنيا أن لا تنفك من هذه الآفات المذكورة، وأنها قد تنال الأخيار كما تنال الأشرار، جعلها ابتلاء لأوليائه لكي إذا تلقوها بالصبر حط بها وزرهم، وإلا عظم به أجرهم. وخص بعض المفسرين هذه الأشياء فقال: أراد بالخوف: ما ينال في مجاهدة العدو وبالجوع: صوم شهر رمضان وبنقص من الأموال، ما أوجب من الزكوات، وبنقص الأنفس: الأمراض وبنقص الثمرات: الصدقات وجعل بعضهم هذه الأشياء المحن الظاهرة العامة، لكن خص المخاطبين بأنهم أصحاب النبي- عليه وعليهم السلام خاصة، فقال: " إن الله- عز وجل أبلاهم بهذه الأشياء الظاهرة للحواس " المتبينة للكل ليعلم من بعدهم أنهم لم يتحروا في أتباع النبي- عليه السلام- طلب عرض، بل تبعدوه لتحققهم بمعرفة الحق وظهور الحجج، وجعل بعض المعتزلة المخاطبين والمحن

المذكورة جميعا مخصوصين، وقال ذلك كل في أصحاب النبي- عليه السلام-، وعني بالخوف: خوفهم من الأعداء وبالجوع فقرهم بتشاغلهم بالجهاد، ونفس الأموال: للانقطاع عنه إلى الجهاد عن عمارة بساتينهم، والأنفس: للقتل في سبيل الله، قال: وكل دلك من فعل الله- عز وجل- لا من الكفار، وجعل دلك مخصوصاً تفادياً كما أن يكون بعمومه ناسباً إلى الله تعالي فعلاً قبيحاً ولو اتسع نظره، لأمن مما يحذره، وعلى هذا القبيح والسخط للقضاء ليس يعني شيئاً، وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله، والقصد له والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها، وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه. وعلى هذا النحو قوله: عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} إن قيل: لم فصل بقوله: (لا تقولوا) الآية بين هذه الآية والتي قبلها من قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} وهي بمعزل منهما؟ قيل: بل هي متصلة بهما، لأنه لما حث على الصبر وأكثر الصبر إنما لطلب الحياة ولما يعين علي الحياة، بين تلك الآية أن ذلك الصبر يوصل إلى حياة باقية كما قال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} وكما قال- عليه السلام: " اللهمَّ لا عيشّ إلا عَيشُ الأُخرةِ "

(156)

ليرغبنا في الصبر، ثم لما قرر ذلك أنبأ عما يحملنا من هذه المحن كي يخف علينا تحملها، ثم ختمه بقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} قوله - عز وجل -: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} الآية (156) - سورة البقرة. المصيبة من: أصاب السهم، إذا بلغ على صواب، وهي في الأصل صفة، وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح والسخط للقضاء ليس يعني شيئاً وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله، والقصد له والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها، وتصور بها المقصد ووطن نفسه عليه. فإن قيل: ولم قلت إن الأمر بالصبر يقتضي العلم، وما الصبر من العلم؟ قيل: الصبر على الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبة، ولهذا قال الخضر لموسى لما علم أن ليس يرف مقصده في فعله قال: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} فدل أن حقيقة تحمل الصبر لأبد له من معرفة المقصود به، وقال عليه السلام " أعطيت أمتي ما لم يعط أحد، قال يعقوب [عند المصيبة] يا أسفي، وأعطيت أمتي أن يقولوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وقال عليه السلام: " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل

(157)

له خلقاً يرضاه "، وقال عمر في ذلك: " نعم العدلان، ونعم القلادة "، وحقيقة الرجوع إليه تتبين في قوله- عز وجل- {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} فهو أدق معنى مما قدره من قال: (إنا راجعون) إلى أن لا يملك أمورنا غيره كما كنا في الابتداء، فجعل ذلك رجوعأ لهم. قوله - عز وجل -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الآية (157) - سورة البقرة. الصلاة وإن كانت في الأصل الدعاء، فهي من الله البركة على وجه، والمغفرة على وجه، وهي الرحمة وإن كانتا متلازمتين فهما مفترقتان في الحقيقة، وإنما قال:) صلوات) على الجمع تنبيها على كثرتها منه وإنها حاصلة في الدنيا توفيقاً وإرشادا، وفي الآخرة ثواباً ومغفرة، ثم بين أن من كان كذلك فهو المهتدي تنبيهاً علي ملازمة هذه المعاني الصبر.

(158)

قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} الآية (158) - سورة البقرة. الصفا: الحجارة الصافية عن الطين، والمروة: ما كان صلباً شديداً، والشعائر جمح الشعيرة، أي علامة محسوسة، ومعالم الحج مشاعر وشعائر، وسمي الهدى المعلم بذلك، والحج: القصد بمعرفة، ومنه الحجة، والعمرة في الأصل الزيارة المقتضية لعمارة المودة في الأصل، فكان الحج هو الزيادة والعمرة عمارتها، ولهذا يتأخر ذكرها في القرآن، ويجب الدم على من قدمها في أشهر الحج أوقرنها به لتقديم ما من حقه أن يؤخر، وهذا ينبه أن الإفراد أفضل من التمتع والقرآن فإن قيل: فكيف ندب النبي- عليه السلام أصحابه إلى فسخ الحج والانتقال إلى العمرة، على هذا قيل: إنه أراد أن ينزلهم عن اعتقادهم أنما الاعتبار في أشهر الحج من أكبر الكبائر، والجناح الميل إلى الإثم، أصله من الجناح و " جنح الطائر " حرك جناحه، وبه شبه سير الإبل، فقيل جنحت الإبل في السير، كقوله طارت، وجنوح السفينة لتشبه السابح بالطائرة ولهذا قيل: السابح طائر في الماء، والطائر سابح في الهواء، وجنح الظلام ألقى جناحه، ألا ترى أنه يقال: ألقى الظليم أرواقه كما يقال: ألقى الظالم أرواقه؟ والتطوع: تكلف طوع أي انقياد، وهو في التعارف التبرع بما لا يلزم، وإنما قال: لا جناح وذلك واجب، لأن العرب كانت تكره السعي في الجاهلية وقيل: أنها كرهت لصنمين كانا قيل عليهما يعتقدون أنما لهما السعي، فتأثموا لذلك فأنزل الله تعالى الآية، وأما الوجوب: فمستفاد من الخبر، وهو قوله:) أسعوا) فإن الله كتب عليكم السعي، وروي أن عروة قال لعائشة- رضي لله عنها: " ما أرى جناحي أن لا يطوف بين الصفا والمروة فقالت: " بئسما قلت، لو كان كذا لقال: " أن لا يطوف بهما ".

(159)

وقد قيل: إن قوله: " لا جناح " كلام تام، وإن قوله: (عليه أن يطوف) استئناف يقتضي الوجوب، وقرئ (يطوع) على تقدير " يتطوع "، وبين بقولها: (فمن تطوع) أي من زاد على ذلك، فإن الله عز وجل- يبينه فشكر الله- عز وجل- للعبد الإحسان إليها وقد تقدم أن الشكر كما بالقول يكون بالفعل، وعلى ذلك قوله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، وليس شكر الأرفع للأوضع إلاً بقبوله حمده والإفضال عليه بذلك. . . قوله - عز وجل -: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} الآية (159) - سورة البقرة. اللعن الإبعاد على وجه الطرد، وصار في التعارف دعاء إذا قيل: لعنه الله والبينة والهدى وإن كانا متلازمين فإنهما مختلفان، فإن البينات يشار بها إلى الآيات المنزلة والهدى إلى ما يستدل به من الأمارات، وقيل: الأمة في أهل الكتاب العالمين أمر النبي عليه السلام، وقيل: هي عامة، وسواء خصت الآية أم لم تخص، فحكم الله عام في أن من كتم علماً عن مستحق له استحق العقوبة، وعلى هذا قال عليه السلام: " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار " وليس ذلك بمناف يقول من منع حقائق الحكمة عمن لا يستحقها، فإن ذلك دعاء له أن يترشح لقبولها وحسن سماعها وحفظها لئلا يستعين بها في طريق السر، فليس العلم بأهون على الله- عز وجل- من المال الذي هو عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وقد منع أن يمكن منه السفيه الذي لا يحسن مراعاته، فقال:

(160)

{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}. واللاعنون: قيل هو عام في الملائكة والناس ودواب الأرض، وما روي أنه تلعنهم الهوام فتقول: (منعنا القطر بمعاصي بني آدم)، فذلك تنبي أحوالها أنهم مستحقون من الله اللعن، فكأنه ناطقة بذلك كقولك لمن رأيت له أثرا قبيحاً على فرسه: " إن فرسك تشكوك وتلعنك "، وعلى ذلك قول الشاعرفي ناقته: يقولُ إذا ادَرَأتُ لها وضيني ... أهذا دينُهُ أبداً وديني وأما ما يتصوره بعض الناس في أن يكون للهوام تمييز ولعن بالقول، فذلك ممتنع بوجه مخصوص ليس هذا موضع شرحه. قوله - عز وجل -: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية (160) - سورة البقرة. لما كانت التوبة استدراك ما ارتكب من المآثم بما يغمره هن أفعال الخير على ما تقدم ذكره، فمن يكتم البينات والهدى عن الناس فإنه مع جنايته في نفسه أفسد الناس ومنع حقهم، فإذن لا يكفيه من التوبة أن يغير نيته بالندم والعزم على أن لا يعاود مثله حتى يصلح ما أفسده بقدر طاقته ويظهر ما كتمه، كما أن من غصبه مالاً يكون موفياً حق التوبة حتى يرد ما غصبه، وضمن تعالى أنه يتوب عليهم إذا فعلوا ذلك وبين بقوله: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أنه ليس يفعل ذلك بهم فقط، بل يتوب على كل تائب، ولمي حق توبته ويرحمه.

(161)

قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} الآيتان (161، 162) - سورة البقرة. لما بين في الأول من تاب من ذنبه تاب عليه ورحمه بين في هذا أن من مات على كفره فالعقوبة لازمة له، إن قيل: أليس قد قال في الأول: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} فلم أعاد ههنا فيل لأمرين، أحدهما أنه عم ههنا، وخص في الأولى الذين يكتمون الحق والثاني أنه في الأولى ذكر أن اللعنة تتوجه إليهم وهم يستحقونها، وفي الثانية ذكر أن اللعنة تقر عليهم، ولهذا قال عليهم: ن قيل. هل الناس عام حتى أكده بأجمعين؟ قيل: نعم، وذلك أن المؤمنين وصالحي العباد يلعنونهم، وهم يلعن بعضهم بعضاً: كما قال: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وكل يلعن نفسه ويلعن بعض جوارحه وقواه بعضة، كما تشهد عليه، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} قيل: في اللعنة، وقيل: في النار، وهما في الحقيقة واحد، فكل من عليه اللعنة فهو في النار، وقرئ {وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، ويكون ذلك عطفآ على المعنى دون اللفظ. قوله - عز وجل -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الآية (163) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في الواحد إذا وصف به البارئ عز وجل وقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يجوز أن يكون خطاباً عاماً أي المستحق منكم العبادة وهو إله واحد لا أكثر، ويجوز أن يكون خطاباً للمؤمنين،

(164)

والمعنى: الذي يقصدونه إله واحد تنبيهاً أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون آلهة من الأصنام والشيطان والهوى وغير ذلك. إن قيل: ما فائدة الجمع بين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وبين {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وأحدهما يبنى على الآخر؟ قيل: لما بين بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها، وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره ولكن لا يعبد أولا يستحق العبادة أكده بقوله: (لأ إله إلاً هو)، وحق لهذا المعنى أن يكون مؤكدا ويكرر عليه الألفاظ [الملخصة]، إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه. قوله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الآية (164) - سورة البقرة. اختلاف الليل والنهار: أن يخلف كل واحد منهما الأخر، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}، وقوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} وقوله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، والفلك: السفينة المدورة، وبه شبه فلك السماء، ولذلك استعمل فيه السباحة وفلكة المغزل، وفلكت الجارية صار ثديها كفلكة، وفلكت الجدي: وضعت فلكه على لسانه يمنعه عن الرضاع، والفلك يقال للواحد والجمع، وذلك أنه يقال للواحد فلك، وفلك نحو: نُخل ونَخْلٍ وعُربٍ وعَرّب، وعُجْمِ وعَجَم، ومن قال: فلك يجمعه على فلك نحو أسَدٍ وأُسْدٍ فتداخل الواحد والجمع من لغتين، والبث إظهار

ما كان خفياً عن الحاسة هما كان أو غيره، والدبيب أصله حكاية صوب المشي، ثم قيل: دب إذا مشى، ويقال لكل ما يمشي دابة، وتم خص بالفرس، والدب خص بضرب من السباع، وأن الدبة والدبدبة فاعتبارا بصوتهما، والتصريف: صرف الشيء من وجه إلى وجه، وصريف الباب منه، لكن اعتبر فيه الصوت، فبني بناء الأصوات كالنهيق والشهيق وغير صارف تصرف الفحل إلى نفسها بإظهار شبقها، والصرف والصريف المصروف عن الكدورة، لكن خص الصريف باللبن والصرْف بسائر الأشربة، وقوله: (وتصريف الرياح) يجوز أن يكون تقديره: تصريف الله الرياح، وأضيف إلى المفعول، وتصريف الرياح والسحاب، فيكون مضافاً إلى الفاعل والسحب جر الثوب، والسحابة هو لما تجره الريح، والتسخير القهر علي الفعل وهو أبلغ من الإكراه، فإنه حمل الغير علي الفعل بلا إرادة منه على وجه كامل الرحى على الطحن، إن قيل: لم جمع السماء وأفرد الأرض في كل القرآن؟ قيل: لأن السماوات لما كانت في الحقيقة سبعاً وطبائعها مختلفة على ما ذكر أصحاب هذه الصناعة، وكل واحدة مستمدة القوة مما فوقها ومعطية ما دونها، والأرض وإن كانت سبعاً، فليس على ذلك الوجه، لأنها بالأقاليم لا بالطبقات المتراكمة تراكب السماء وطبيعتها واحدها، ولهذا قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فترك اللفظ مفرداَ، ونبه بمثلهن على العدل الذي يعد به الأقاليم، وإنما ذكر هاهنا لفظ الخلق، لأنه مشتمل علي الإبداع والصنع والتسخير، وخص فعل الله تعالى بذلك لكونه موضوعا للتقدير المقتضي للأحكام، وهو تعالى أحد الحاكمين، ونبه تعالي على وحدانيته بالتفكر في الموجودات وذكر من آياته مالا يخفى أمر صنعته على ذوي الحواس والعقول ليستدل به كل على قدر فهمه ويقف منه على معارف بمبلغ علمه. إن قيل: كان الوجه أن يعقد ذكر السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بتصريف الرياح والسحاب التي هي من آثار الجو ومختصة بفعل الله- عز وجل-، ثم يعرج على ذلك الفلك التي هي

(165)

في الأرض وفيها أثر أيدي البشر، حتى يكون على النسق، قيل إن إيجاد البحر مقدم على إيجاد الأمطار والرياح والسحاب، فكل ذلك إنما ينشأ عن البحار الساطع من رطوبة البحار ويبوسة الأرض، وذلك مبين في كتب المعنيين بمعرفة هذه الصنعة، ولما لم يكن فرق بين أن يقال: (والفلك التي تجري في البحر) وبين أن يقال: (والبحر الذي تجري فيه الفلك) في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر وإن أخر في اللفظ، وقدم ذكر الفلك التي هي من صنعتنا، ونحن بصنعتنا أعرف منا بصنعته. قدم ذكر الفلك لننظر منها إلى أثار الله تعالى، وقال بعض الناس: لم يعن بالفلك والبحر المحسوسين فقط، بل عنى بالبحر كل شبها وحيرة ومشقة، وبالفلك ما فيه إيقاد البشر من فائض النور والعقل أمدهم به، وغير ذلك من المعادن المعقولات والمحسوسات، وقد تقدم أن من الناس من قال: الإشارة بالماء في نحو هذه المواضع إلى العلوم التي بها الحياة الأبدية وما في الأرض إلى النفوس التي بها تحيا الحياة الأبدية، ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى: ) وإلهكم إله واحد) جعل هذه الآية دلالة عليه تنبيها أن كل موجود لا ينفك من أن يكون مكوناً غير مكون، أو مكوناً من وجه مكوناً من وجه أو مكوناً وغير مكون، ومحال أن يكون كل مكون مكوناً لأن ذلك يؤدي إلى ما لا يتناهى، فإذن لابد أن تنتهي الموجودات إلى مكون غير مكون، وذلك هو الباري- عز وجل-، فنبه أن أثر الصنعة موجود في هذه الأشياء، فلابد أن تكون مكونة، وهذا هو الدلالة على وحدانيته علي طريق الجملة .. قوله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} الآية (165) - سورة البقرة. الند: المثل في الجوهر، وقد تقدم، والحب أصله من الحب، وبه شبه حبة القلب وحبيبه يقال على وجهين، أحدهما: أصبت حبة قلبه، نحو كبدته وفادته، والثانية أصبته بحبة القلب، نحو: رمحته وعنيته، أصبته بالعين، فقولك: حببته وأحببته هو في اللفظ فعل، وفي الحقيقة قد يكون انفعالاًَ، لأن المحب يكون منفعلاً للمحبوب، وإذا أستعمل في الله تعالى فقيل: " أحب الله فلاناً "، فليس إلا على

سبيل الفكر والمعنى: أصاب الله تعالى حبة قلبه، فجعلها لنفسه مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله، والمحبة إرادة ما تراه أو تظنه خيراً، وهي أربعة أضرب بحسب أعراض الناس في أمورهم، اللذة، والنفع، والخير المحض، والمركب من اللذة، والنفع [لمحبة المغني له والمغني بعضهما لبعض]، وكل محبة ينقطع سببها انقطعت بانقطاعها، ولما كانت الشهوات البدنية والمنافع الدنيوية منقطعه، فالحب الذي يجلبانه منقطع لا محالة بانقطاعهما، ولما كان الخير المحض باقياً، كان الحب الذي يجلبه باقية ببقائه، ولما بين تعالى توحيده والدلالة عليه ذكر بعد أن مع ظهور الآيات المنبئة عنها من الناس من يتخذ نداً لنفسه بحبه، ويراعيه مراعاة الله تعالى ثم نبه بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أن محبتهم لأندادهم منقطعة، فإن أسبابها المقتضية لها منقطعة، ومحبة المؤمنين له دائمة، إذ هو دائم والند المشار سواء كان صنماً معبوداً أو رئيساً مخدوماً، أو مالاً منعقداً، أو إنساناً معشوقاً، فإن كل ذلك محبوب لن يراعيه من وجه ومعبود من وجه ثم بين بقوله: (ولو ترى) ما أعد هم من العذاب الأليم، فإذا قرئ بالياء، فإن ما بعده هو مفعول يرى وجواب " لو " محذوف، وقيل: إن القوة مفعول الفعل المحذوف الذي هو جواب، كأنه قيل: لرأوا أن القوة لله جميعاً، وإذا قرئ بالتاء، فخطاب النبي على طريق التعظيم، ومعناه: أنك مع علمك بأحوال القيامة لو رأيت لتعجبت، وقوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، قيل: هو بدل من الذين، وهو ضعيف وقيل: هو مفعول الفعل المقدر للجواب، وقيل: تقديره: لأن، وقد قرئ إن مكسورة ولا يكون إلا علة والمفعول محذوف.

(166)

قوله - عز وجل -: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} الآية (166) - سورة البقرة. السبب: أصله الحبل الذي تشد به (الخيم) ويرتقي به الشجر، ثم جعل عبارة عن كل ذريعة من مواصلة وذمة، والسبب والسبيبة للشقة من الثياب تشبيهاً به في الهيئة، وبعض الصنعة، وسببته في الأصل كناية معناه: أصبت سببه، ولكنه سمى الإصبع سبابه، لكونها مشيرة بالسب، كما قيل لهامسبحة لإشاراتها بالتسبيح، وتقدير الآية: (أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ). إذ تبرأ المتبعون من تابعهم، كقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، وقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وقوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، وكما حكى عن الشيطان: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}، وقوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}

(167)

قوله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الآية (167) - سورة البقرة. الكر: هو العطف على الشيء بالذات، أو بالفعل، وعبر به عن الجبل المعقول، والكرير: تكرر الحشرجة في الصدر، والحسرة أصلها من حسرات القناع، وكأنها كشف ما غطى القصيرة من الهوى، وعلى ذلك: تحَّلى غطاءِ الرأْسِ عني ولَمْ يَكَدْ غطَاءُ فؤادي ينْجليِ يًستْرٍيحُ ولما كان عند ذلك لغرض الندم والغم بما كان من الإنسان عبر به عنهما، فقيل أصابته حسرة، وقوله: كذلك أي كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وبين الله تعالى ما يظهرونه من الندم باتباع مالا يغنى عنهم من الله شيئاً وينسيهم مالا يجري نفعاً، وقوله: أعمالهم دخل فيها [الأعمال التي فعلوها] ولم يريدوا وجه الله بها، فضلت عنهم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}، وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، ودخل فيها الأعمال التي فرضت عليهم، فأحلوا بها، وعلى ذلك روي أن الجنة ترفع لهم، فينظرون إليها فيقال: تلك مساكنكم لو أطعتم الله عز وجل، وترفع النار لأهل الجنة فيقال لهم: تلك مساكنكم لو عصيتم الله - عز وجل - ....

(168)

قوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} الآية (168) - سورة البقرة. الحلال: من حللت العقدة، وهو الذي حل لكنه عقدة الخطر، وجل بالمكان، أي حل عقد أحماله، كقولهم: حط رحله، وألقى أرواقه وحل الدين، أي حل عقد المطالبة، وحل من إحرامه، حل ما عقده على نفسه بالإحرام، وتحلة اليمين: ما تنحل به عقدة اليمين، والإحليل: لمخرج اللبن والبول لانحلال عقدته، والطيب: ما تستطيبه الشهوة المستقيمة والعقول الصحيحة أما بالإضافة إلي الشهوة المستقيمة فهو ما يشتهي لا لاضطرار كالجرذ والفأر والحرية والدم، أو لعادة سيئة كأكل الضب، ولهذا قال الشاعر: إنكً لوْ ذُقتَ الكسِيَّ بالأُكبادِ ... لمَاَ تركْتَ الضَّب يعدوُ بالوادِ وكعادة المخبث والمئل إلى الذكور عن النساء، وأما بالإضافة إلى العقول الصحيحة، فما يكون متناولاً من حيث ما يجوز متبلغأ به إلى ما خلق لأجله وأن لا يقصد به شرك كما يذبح على النصب والخبيث على العكس، والحلال أعم من الطيب، والحرام أعم من الخبيثة فقد يكون حراما مالا يكون خبيثاً في نفسه بالعقل كتحريم ما يقسم بالأزلام، واستعمال الذهب والفضة، ولبس الحرير على الذكور، وجمع بين الحلال والطيب في الآية ليفيد ما استطابه الطبع وأباحه الشرع، ولا ذكر إباحة الطيب، وكان كثيرا ما يزين الشيطان لبعض الناس ما ليس بالطبع الصحيح طيباً، كعادة المخنث اتبعه بقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} كقوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ}، وقد تقدم أن لا فرق بين أن يقال " اتبع فلان الهوى " وبين " اتبع الشهوة أو الشيطان أو الحياة الدنيا في أن

(169)

المقصد [بجميع ذلك] متابعة ما يصد عن سبيل الله- عز وجل-، ونبه بقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أن عداوته لا تخفى على ذي بصيرة، وهذا المعنى الذي أراده الشاعر وإن نقل اللفظ إلى الدنيا، حيث قال: إذا امتْحَنَ الدُّنْيا لبيبٌ تَكَشَّفتْ .... لهُ عنْ عدًو في ثيابِ صّدِيِق. وقول آخر: عمْرِب لقدْ نَصَحَ الزمَانّ وإنهٌ ... لمنَ العجاَئبَ ناصحٌ لاَ يُشْفِقُ. قوله- عز وجل: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية (169) - سورة البقرة. السوء والفحشاء كل قبيح من نحو الزنا، والسرقة، والسكر، والقتل، والخيانة، والكذب والحسد والجهل [وكل ما يقال له سوء] يقال له فحشُ، لكن بنظرين مختلفين، فإنه سمي سوءاً لاغتمام العاقل به، والفحشاء بأن يستفحشه، ونبه تعالى بأن الشيطان داع إلى إتيان الشر والسوء والفحش والتقول على الله عز وجل، إن قيل: إن كان التقول على الله عز وجل بما لا يعلم من عمل الشيطان، فكيف يصح الحكم بغالب الظن في كثير من الأحكام، فإن عامة فروع الفقه مبنية علي غلبة الظن، قيل: أما أولاً: فليس ذلك تقولاً على الله تعالى، وإنما ذاك تقول على أحكام، وقد فرق المتكلمون

(170)

بين الحكمة العلمية وبين الحكمة العملية وقالوا: كل ما كان من الحكمة العلمية، وهي التي لا عمل لها كالإيمان بالله وملائكة وكتبه ورسله، فإنه لا يجوز إن يحكم فيه ألا بالعلم المصون عن الشوائب، وما كان من الحكمة العملية فأصولها كذلك وأما فروعها: فيجور الحكم فيها لغلبة الظن لتفسيح صاحب الشرع لنا في ذلك، فصار حكمنا فليه من هذا الوجه حكماً بالعلم، لأنه إذا قال لنا: إذا غلب في ظنك أن القبلة في هذا الجانب، فصل إليه، وإذا شهد عندك شاهدان مزكيان فاحكم بشهادتهما صرنا عالمين بأن هذا الحكم واجب علينا في الظاهر، وهذه مسلمة قد أحكمت في أصول الفقه، وأما سؤال من سأل من المتكلمين في هذه الآية بأنه كيف يأمرنا الشيطان ونحن لا نسمع قوله ولا نرى شخصه، وما الحكمة في إيصال الله- عز وجل- أمر الشيطان إلى نفوسنا، فهل وما يجري مجراه من الأسئلة سؤال من لم يتخط المحسومات والموهومات إلى باب المعقولات، ومحال الاشتغال معه [بهذه الحرمات]. قوله - عز وجل -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} الآية (170) - سورة البقرة. ذمهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية وركزه فيه من المعارف، وذلك أن الله تعالى ميز الإنسان بالفكر ليعرف به الخير من الشر في الاعتقاد والصدق من الكذب في المقال والجميل من القبيح في الفعال لم يتحر الحق والصدق الجميل، ويتجنب أضدادها،

وجعل له من نور العقل ما يستغنى به فيدله على معرفة مطلوبه، فلما حث الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم من متابعة الشيطان بين حال الكفار في تركهم الرشاد واتباعهم الآباء والأجداد، ليحذر من الاقتداء بهم تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان [وحقيقته] ثم قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} أي يتبعونهم وإن كان آباؤهم جهلة- تنبيهاً أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء .. إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: (يعقلون، ويهتدون) وأحدهما يغنى عن الآخر؟ قيل: قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين، أحدهما: لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني: لمن يحصل له العلوم المكتسبة وهو المقصور ههنا، والمهتدي قد يقال لمن افتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم، فبين أنهم لا يعقلون ولا يهتدون، بعالم ووجه أخر، وهو أن يلقي ويهتدي وإن كان كثيرات ما يتلازمان، فإن العقل يزال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا عمل مستقيم.

(171)

قوله - عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الآية (171) - سورة البقرة. النداء من قولهم: ندىُّ الصوت، أي: غضُّ الصوت، وأصله من الندى، فناداه، أي دعاه بندى صوته، ولما حكى لله عنهم ما زعموا أنهم يتبعون أباءهم دل على جهلهم بأنهم كأغنام ينُعق بهم، فلا يعرفون مغزى الصوت ولا قصد المنادي، وقد تقدم الكلام في قوله، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، إن قيل: كيف يكون مثلهم مثل الناعق والذين كفروا بالمنعوق به أشبه، والذي ينعق بالمنادي، والداعي أشبه قيل: التشبيه ضربان، تشبيه مفرد بمفرد وحقه أن يحمل أحدهما على الأخر [نحو زيد كأسد، وتشبيه جملة بجملة] ولا يراعي فيه مقابلة الألفاظ المفردة، فلما شبه قصة الذين كفروا في إعراضهم عن الداعي لهم إلا الحق بقصة الناعق، [قدم ذكر الناعق ليبنى] عليه ما يكون منه، ومن المنعوق به، وعلى هذا قوله {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وقوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} وقيل: عنى بالذين كفروا المتبوعين لا التابعين، ومعناه: مثل الدين كفروا في دعائهم أتباعهم كمثل الناعق بالغنم [الذي لا يسمع لها الصوت] ....

(172)

قوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} الآية (172) - سورة البقرة. إن قيل: ما فائدة إعادة هذا المعنى وقد تقدم آنفا؟ وما الفرق بين هذا الخطاب والخطاب الأول؟ قيل في ذلك لطيفة وإشارة عجيبة، وذلك أنه حيث خاطب الناس كافة قال: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}، فأباح لهم ذلك، ونبه أنه لم يحظر عليهم إلا تناول المحرم، وعقبه بالنهي عن اتباع الشيطان، وجعل الخطاب في هذه الأيام مخصوصاً بالمؤمنين وأمرهم أن لا يتوسعوا في تناول ما رزقوا، بل يتحروا من الطيب تحري الناس مما في الأرض، وأنه في الأول بالتحرر عن خطوات الشيطان، وهو الارتسام له فيما يتخطى به عن المباح، وأمر ههنا بالشكر لله تعالى الذي هو أرفع منزلة في العبادة على ما تقدم ذكره، ونبه بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إن عبادته لا تتم إلا بشكره. . . قوله- عز وجل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية (173) - سورة البقرة. الإهلال: أصله وجود الهلال، ولما جرت العادة أن يكبروا عند رؤيته سمي التكبير إهلالاً، بل قيل لرفع الصوت أيضاً إهلال تشبيها بذلك حتى قيل: أهل الصبي، وأنا التهلل فظهور الهلال، فتارة يتصور لمعانه، فيقال: تهلل السحاب، وتهلل وجهه، وتارة يتصور شكله، فيقال: تهلل البعير إذا تقوس

إن قيل: لم ذكر تعالي بعض المحرمات وترك بعضها؟ قيل: في ذلك جوابان، أحدهما: أن المسكوت عنه هو تفصيل الميتة، وقد ذكر ههنا الميتة المستوعبة لكل ما مات روحه عن غير ذكاة، والثاني: أنه لما كان القصد في هذه الآية حكم تناول المضطر دون استيعاب المحرمات،) ذكر الكل منها وترك البعض، والباغي في الأصل الطالب لما ليس له طلب والعادي: المتجاوز لا رسم له بالشرع، وقال الحسن وقتادة والربيع وابن زيد: عنى بقوله: (غير باغ غير متناول للذة، ولا عاد في المعصية طريق المحقين، وإلى نحوه ذهب الشافعي- رحيمة الله عليه، والظاهر يشهد له، لأن قوله: (غير باغ ولا عاد) متعلق بحال الاضطرار، فكأنه قال: " من حصل له اضطرار " لا على أحد هذين الوجهين، وعلى الأول تقديره: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فيكون غير متعلق بمقدر محذوف، ومن أنكر ذلك وقال: إنكم تأمرونه بقتل نفسه إذا خطرتم ذلك عليه، وقتل نفسه محرم عليه عاصياً كانوا أو مطيعاً، فجوابه إنا لم نأمره بذلك، بل أمرناه بأن ييخرج عن الحالة التي تكون الميتة محرمة عليه، وذلك بأن يتوب [وينزع عما هو عليه] وإلا كان متناولاً لمحظور كما أن سفره محظور، فإن قيل: أليس من سفره طاعة؟ إنما أجل له للإضطرار. لا للطاعة، فإذن العلة لمدير الضرورة، فيجب أن تكون مطردة، قيل: بل العلة هي الضرورة مع حصول الطاعة، فقد قال الحكماء وهو الصحيح: إن الله تعالى جعل للإنسان طيبات الرزق وبشرط الإيمان، ولهذا قال: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، خالصة يوم أخذه فما أخذه الكفار من نعيم الدنيا، فإنما يأخذه اغتصاباً في الحقيقة، ولذلك قد تستقيم أحوالهم، والآية تقتضي أن المضطر مخير في تناول أيها يريد وهو

(174)

الصحيح، لأن عليه إنقاذ روحه بجهده، فما رأه أقرب إلى إبقائه، فهو أولى بتناوله، واختلف إذا أضطر إلى شي من ذلك في دواء لا يسد غيره مسده، هل يجوز تناوله؟ والصحيح أنه يجوز للعلة التي لها أجيز تناوله للجوع، وكذا الخمر إذا اضطر إليها في دواء بحكم الأطباء أنه لا يسد غيره مسده، وأنه يفوت روحه إن لم يتناولها، قوله عليه الإسلام-، (إن الله- عز وجل لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)، فمعناه: إن قد رما فيه الشفاء غير محرم عليه، وعلى هذا نبه بالرخصة في شرب أبوال الإبل. قوله- عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية (174) - سورة البقرة. البطن به شبُه بطن الأمر وبطن الوادي، والبطن من العرب اعتباراً بأنهم كشخص واحد، وأن كل قبيلة منهم كعضو بطن وفخذ وكاهل، وعلى هذا الاعتبار قال الشاعر: الناسُ جسمٌ وإمام الهُدىَ ... رأسُ وأنت العينُ في الرأسِ وقيل: بطن إذا عظم بطنه نحو جسم وكبر، وبطنته عظمت بطنه، وسمي ما يشدَّ عليه بطاناً على بناء حرام وزمام والإبطن عرق تكشف البطن على بناء الأكحل، وأعاد الله تعالى وعيد كاتمي

أحكامه أثر ما. ذكر من الأحكام، وما لم يقل ذلك من أهل الكتاب وتحذيراً لهذه الأمة أن يسلكوا سبيلهم وأكل النار تناول ما يؤدي إليها، وذكر الأكل لكونه المقصود الأول بتحصيل المال، وسماه بالمال الذي هو النار، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرههم، وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعم الذي هو أحسن متناول من الدنيا، وعلى ذلك قال الشاعر: ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمُ .... وهل بطنُ عمروٍ غيرُ سبرٍ لمطْعمِ؟ وقال آخر: كُلُوا في بعض بطنكم تَعِِفًّو وعلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}. وبقوله: " ولا يكلمهم " لم يعن نفي الكلام رأسا، فقد قال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} وقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ}، وإنما أراد كلاماً يقتضي جدوى، ولهذا قال الحسن: معناه يغضب عليهم تنبيها أنهم بخلاف من قال فيهم: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}، وقيل: حقيقة كلمته حملته على الكلام نحو: حركته وخرجته، لأن من كلمته فقد استدعيت كلامه، فكأنه قيل: لا

(175)

يستدعي كلامهم نحو قولهم: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. وقد تقدم الكلام في الاشتراك والقليل والتزكية. قوله - عز وجل -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} الآية (175) - سورة البقرة. الضلالة والعذاب يتلازمان، وكذلك الهدى والمغفرة، لكن الضلال والهدى يقالان على الاعتبار بالدنيا، والعذاب والمغفرة على الاعتبار بالآخرة، وجلل تعاطيهم لما يؤديها إلى النار بمنزلة الصبر على النار، وهذا معنى قول الحسن: ليس صبرهم على النار، ولكن أراد ما أجرأهم على النار، وقول أبي عبيد: إن ذلك لغة " يمانية " بمعنى الجرأة، واحتجاجه بقول الأعرابي الذي قال لخصمه: " ما أصبرك على الله؟، فتصور المجاز بصورة الحقيقة، لأن ذلك معناه: ما أصبرك على عذاب الله، وإلى هذا يعود قول من قال: ما أعملهم بعمل أهل النار! وما ألقاهم على النار!، وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتباراً بالناظر إليه وتصوراً أنه صابر، واستعماله لفظ التعجب في ذلك اعتباراً بالخلق لا بالخالق ...

(176)

قوله - عز وجل -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الآية (176) سورة البقرة. ذلك إشارة إلى. كل ما تقدم من العذاب والحكم والضلال، أي ذلك بسبب إنزاله الكتاب واختلافهم فيه، ويصح أن يكون نصباً، أي فعلنا ذلك " بأن الله ". وأصل الاختلاف التخلف عن المنهج، وقيل: اختلفوا: أتوا بخلاف ما أنزل الله، وقيل: اختلفوا بمعنى خلفوا، نحو كسبوا واكتسبوا، وعملوا واعتملوا، أي صاروا خلفاً فيه نحو: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} ورثوا الكتاب، والشقاق وقد تقدم ذكره، ووصفه ببعيد تنبيهاَ على بعدهم من الحق ... قوله - عز وجل -: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} الآية (177) - سورة البقرة. الرقبة: أصل العتق، ويعبر بها عن الجملة كما يعبر عنها بالرأس والظهر والرجل واليد، ويعبر بها عن المملوك، وقيل رقبتُة: إذا أصبت رقبته بها بالسلاح، وإما بالعين ناظراً إليه، ثم سمي المراعي للغير رقيباً، والخطاب في هذه الآية للكفار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة، وقيل: بل لهم وللمؤمنين، حيث قدروا أنهم نالوا البر كله بالتوجه إليها، ولما كانت القبلة أحد أركان الصلاة، والصلاة إحدى فعلات البر، بين تعالى أن ليس البر بمقصور على هذا الذي تعتبرونه، بل هو حملها. والقبلة

ركن من أركان واحدة منها، ثم عدها وذكر جملتها وفرائضها ونوافلها وبيان [ذلك أن جميع البر ضربان: اعتقاد، وأعمال فالاعتقاد] أصوله الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والأعمال ضربان: أحدهما ما يأخذ الإنسان به نفسه في معاشرة الناس من الأقارب والأباعد من ذلك المعروف والمواساة والتحبب إليهم بالسر والقول الحسن. والثاني: ما يتخصص به في نفسه من إقامة العبادات واستعمال الصدق والوفاء والتواضع والصبر، وقد نبه الله عز وجل- على جميع ذلك بهذه الآية، إما على الاعتقاد فبقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله تعالى: {وَالنَّبِيِّينَ}، وإما على ما يأخذ به الإنسان نفسه في معاشرة الناس فبقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ}، فإنه ذكر الجود الذي هو من وجه أفضل هذه الأفعال، ومن وجه هو كل هذه الأفعال فإن الجواد كما يتبرع بماله يتورع عن مال غيره، وكما يجود بماله، يجود بجاهه وبطلاقة وجهه، وعند الحقيقة- بنفسه، ودل على ما تخصص به في نفسه بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} إلى أخر الآية، وكل ما سكت عنه فداخل تحت ما ذكره، أو منبة عليه، ونبه أن الآيتين بذلك بر، وهو المؤدي إلى النعيم المدلول عليه بقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}، وبين تعالى بقوله: {أُولَئِكَ} بأن الذين تحروا ذلك إدا اعتبرتهم بأفعالهم وأقوالهم فهم الذين صدقوا، وإذا اعتبرتهم بأفعالهم وأحوالهم فهم المتقون، والصدق والتقوى وإن اختلفت حقيقتاهما فهما متلازمان، إن قيل: ما وجه قوله- عليه السلام- لما سأله أبو ذر عن البر، وتلا عليه الآية، ولما سأله وابصة عنه: قال " ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس " الخبر قيل إن أباذر سأله عن ذات البر، فبينه بالآية، ووابصة سأله عن كيفية تحريه والاشتياق من نفسه في تعاطيه، فبين بصفته.

إن قيل: لِمَ لَمْ يقل: (ولكن البر بر من أمن)، أو: (البار من آمن) ليتطابقا؟ قيل: قد ذكر النحويون في هذا وأمثاله أنه على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ولكن وجه فائدته أنه إذا قل " زيد بار "، فإنه يعتبر في قولك: بار سيان الذات، والصورة والمختص بهامن معنى البر، وإذا قيل: " زيد هو البر "، ففيه مبالغة، وأنه صار لاختصاصه بهذا المعنى بحيث لا يرى منه إلا هذه الصورة مجردة عن العنصر الذي يجوز أن يتصور بغيره من الصور، وعلى هذا كل ما في معناه، نحو زيد أقبل وأدبر، وأكل وشربا وقوله: {عَلَى حُبِّهِ} أي على حب المؤمن، فيكون مضافاً إلى الفاعل، وقيل: " على حب المال " ويكون مضافا إلى المفعول، ونبه بذلك أنه يبذله مع فرط الحاجة إليه نحو قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وسئل- عليه السلام- أي الصدقة أفضل؟ فقال: " أنْ تتصدقَ وأنت صحيح شحيحٌ تأمل العيش وتخشى الفقر "، وقيل تقديره: على حب الإيثار، وذلك أن المحمدة التامة لم تهتز لإعطاء المال وتحب ذلك كما قال الشاعر: ليسَ يُعطيكَ للرجاءِ والخَوْ .... فِ وِلكنِ يلدُّ طَعْمَ الْعَطَاءِ وقيل: على حب الله أي يقصد به القربة لا طلب رياء ولا ثواب كما قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}

إن قيل: لم قال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} ولم يقل: ووفى كما قال: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ليكون الكلام على نسق واحد؟ قيل: ذلك لأمرين: أحدهما اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول فيقبح، والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلا منهما، فالحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجود، ولما ذكر الوفاء بالعهد وهو مما يقتضي العقول المجردة، صار عطفه على الأول أحسن. إن قيل: ولم نصب الصابرين؟ قيل: قل ذكر النحويون أن الصفات للمدح والذم إذا توالت قد يخالف بين إعرابها، وأنشدوا في ذلك: النَّازِلين بكُلَّ معتْركٍ ... والطَّيبوُنَ مَعَاقِد الأزَر إلي أبيات أخر. وفائدة ذلك أنهم إذا أرادوا أن كل واحد من تلك الأوصاف يستقبل بمدح أو ذم عظيم لو تجرد عما معه خالفوا بين إعرابها تنبيهاً على هذا المعنى، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل [ومن وجه جامعاً للفضائل] إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ ولم يتم حسنها إلا به حتى روي: " الصبْرُ خيرٌ كُلَّهُ "، قوله: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) عن إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد، واستوعب بقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} أنواع الصبر، لأنه إما

أن يحتاج إليه في مقتنى يموت الإنسان، أو يريده فلا يناله، وهو البأساء أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم وهو الضراء، أو في مدافعة مؤذيه له وهو اليأس. إن قيل: كيف قدم ههنا ذكر الآخرة وأخره في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ}؟ قيل: يجوز أن يكون ذاك مع الواو لا يقتضي الترتيب من أجل أن الكافر لا يعرف الأخرة ولا يعني بها وهو أبعد الأشياء عن الحقائق عنده أخر ذكره، في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ}. ولما ذكر حال المؤمنين، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة وكل ما يفعله ويتحراه يقصد به وجه الله ثم أمر وللآخرة قدم ذكرها تنبيها أن مراعاة الله- عز وجل- ومراعاة الآخرة، ثم مراعاة غيرهما إن قيل: كيف اختير الترتيب المذكور في قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قيل: لما كان أولى من يتفقده الإنسان بمعروفه أقاربه، ولهذا قال عليه السلام: " لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج "، كأن تقديمها أولى، ثم أعقبه باليتامى، فالناس في المكاسب ثلاثة: معيل وغير معول، ومعول معيل ومعول غير معيل، واليتيم معول غير معيل، فمواساته بعد الأقارب أولى، ثم ذكر المساكين، وهم الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا، ثم ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الدين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم عليه.

(178)

قوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية (178) - سورة البقرة. القص: قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ، ومنه قص شعره وقص أثره، وقص الحديث اقتطع كلاماً حادثاً حذف غيره، والقصة اسم منه، وحقيقة القصاص أن يفعل بالقاتل، والجارح مثل ما فعلاً واعتبر الشافعي ومالك صورة الفعل حتى إن من رضخ رأس غيره بالحجر كان القصاص مثله، لكن مالكاً يقول إنه يفعل به ذلك الفعل حتى يموت والشافعي يقوله: " إن لم يمت من مثل فعله قتل بالسيف "، ومن الفقهاء يعتبر المماثلة في القاتل والمقتول، فلا يقتل القاتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والاختلاف أنه يعتبر في بعضهم كالمستأمن والكتابة يعتبر بها عن الإيجاب، وأصل ذلك أن الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب فيعبر عن المراد الذي هو المبدوء بالكتابة التي هي المنتهى إن قيل على من يتوجه هذا الوجوب؟. قيل: على الناس كافة، فمنهم من يلزمه استيفاؤه وهو الإمام إدا طلبه الولي، ومنهم من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل، ومنهم من يلزمه المعاونة أو الرضا به، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى، بل يقتص أو يأخذ الدية، والقصد بالآية منع التعدي، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدون في القتل، وربما يرضى أحدهم إذا قتل عبد غيره لا يقتل حر ..

(179)

وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ... من القاتل، وأخوة ولي المقتول، ومعناه: من ترك له أخوه الذي هو ولى الدم شيئا من القصاص فليتبع في المطالبة بالدية المعروف، وليؤد إليه القاتل بإحسان .. إن قيل. لم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولم يقل: " فمن عفا له أخوه شيئا "؟. قيل: العدول إلى هذا البناء للطيفة، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم واحداً، فعفا أو جماعة فعفا واحد منهم أنه يبطل حق القصاص ويعدل حينئذ إلى الدية، فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} ليدل على هذا المعنى، وقيل: فاتباع: هو أمر للعافي بحسن المطالبة والهاء في قوله: أخيه، يجوز أن يكون للمقتول، ويكون لولي المقتول وجعله أخاً لولي الدم لا للنسبة ولا للموالاة الدينية، ولكن للإحسان الذي أسداه إليه وأجرى العهد مجرى الخطأ في الرضا منه بالدية، وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ} أي خفف عنكم إذ جعل لكم الخيار في الحكمين، وقال بعضهم لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى} أي من تجاوز المشروع قاتلاً كان أو ولي المقتول فإنه معاقب .. قوله - عز وجل -: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية (179) - سورة البقرة. قوله: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} كقول العرب: القتل أنقى للقتل، وذلك أنه يصير سبباً للارتداع، وقال الجاحظ: تأويله أن العرب كانت تمتنع من تسليم القاتل إلى ولي المقتول خشية أن يقل عددهم، فقال الله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي إذا دفعتموه كثر عددكم، كما لأن الله تعالى ينمي كل قوم كثز فيهم القتل، ولهذا كثرت العلوية وقل العباسية، ولهذا قيل: السيف منماه فما تسلط على قبيلة إلا كثر عددهم، وقيل إن في ذلك حياة القاتل في الآخرة فإنه يرجى له الغفران، قال: وعلى هذا ما روي أن

(180)

الحدود كفارات لأهلها، وذلك بشرط أن يكون توبة، فالتوبة حق الله، والقصاص حق الآدمي، فإذا تاب واقتص منه فقد خرج من الذنوب ويرجى له الغفران، فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} على التفسير الأول أي لعلكم ترتدعون عن القتل، وعلى الثاني: لعلكم لا تتحاشون من ترك القاتل والانقياد للقصاص. قوله- عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} الآية (180) - سورة البقرة. الخير ههنا المال قليلاً كان أو كثيراً، وقال بعض الناس: الخير لا يتناول إلا الكثير مستدلاً بأن علياَ- رضي الله عنه دخل على مولى له في موضعه، فقال: ألا أوصي وله سبع مائة أو ستمائة، فقال: لا، إنما قال- عز وجل (إن ترك خيرأ (، وليس لك مال كثيرٌ ... إن قيل: كيف سمي المال خيراً مطلقاً وقد قليل إن المال ليس خيراً مطلقاً حتى يراعي حال صاحبه فربما كان شراً له، وعلى هذا ذم الله تعالى في عام القرآن، وسماه تارة فتنة وتارة عدواً .. فيل: إن المال كما يكون خيرا قد يكون شراً، لكن جعل الله تعالى ههنا خيراً تنبيهاً على أن الوصية يستحب في المال الطيب دون الخبيث والمغصوب، فإن ذلك يجب رده إلي أربابه ومما تم بالوصية فقط، وقيل: هذه الآية منسوخة، فالإيجاب نسخ مما حمله، والوصية للوارث إيجاباً وندباً، والناسخ لها عند الشافعية أية الميراث.

(181)

وعند بعضهم قول النبي عليه الصلاة والسلام: " لا وصية لوارث "، وقال بعض الناس: لا نسخ فيها، لأن معنى كتب ;كقوله: أريد وشرع، وما يراد ويشرع قد يكون ندباً وإيجاباً، وقوله: الوصية للوالدين والأمر بين وإنما اقتضى عموماً فإنه مخصوص بقوله- عليه السلام- " لا وصية لوارث " فصار ذلك للوالدين الكافرين أو المملوكين والأقارب الذين ليسوا بورثة، وتخصيص الآية في " هو " لا كتخصيصها فيما فوق الثلث والثلث كثير، وقال طاوس: " إن أوصي لغير ذي قرابة لا يجوز احتجاجا، وظاهر الآية لا يقتضي ذلك ... قوله - عز وجل -: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية (181) - سورة البقرة. أريد من بدل ذلك ولم يقل بدلها، وإن ما تقدم ذكر الوصية لكن يتناولها وغيرها من متعلقاتها، والهاء في " إثمه " للتبديل ومن: عام في الوصي والموصي له، والشاهد والحاكم وكل من له مدخل في ذلك إذا غير شيئاً بعدما سمعه أي علمه، فإن إثم ما يجري في ذلك راجع إليه تنبيهاً على ما قاله - عليه السلام: (من سنَّ سُنةَ سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها) وأعظم ذلك مالا يعرف المستن جود السان لها، كمن ادعي على صاحب الشرع خبرا يتعلق به

(182)

حكم، فيعتمد عليه الناس بعده، وإنما قال: {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} ولم يقل عليه، ليبين أن إثمه للتبديل لا لغيره، ونبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أن ذلك وإن خفي على الناس، فلن يخفى عليه تعالى، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. قوله - عز وجل -: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية (182) سورة البقرة. جنف وخيف يتقاربان، لكن جنف استعمل للميل إلى الخير، وخيف في اليد إلى الجور، وخاف يقاربه، إلا أن أكثر ما يقال في الحاكم وخيفه أن يوصي لإنسان والمراد لغيره، كما قال طاوس: الخيف: التولج نحو أن يوصي الرجل لابن الابن ليوصل المال إلى أبيه أو لزوج ابنته ليوصله إليها، أو يخص في حيث يجب العموم، أو يعم حيث يجب الخصوص، وقوله: {بَيْنَهُمْ} أي بين القوم الذين لهم مدخل في ذلك من الورثة والموصى لهم، وجاز إضمارهم لدلالة الكلام على ذكرهم. إن قيل: كيف قال: {جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} والجنف هو الإثم؟ قيل: قد قال الربيع: الجنف في الخطأ، وإلا ثم في العمد، وقيل: الإثم: ما يكبر معصيته، والجنف ما دون ذلك، وخوفه هو أن يبدو له أمارة تقتضي حصول ذلك، ولا فرق بين أن يخاف منه ذلك، قبل موت الموصى فيرشده، أو بعد موته فيصلحه، وليس الإصلاح بمقصور على إيقاع الصلح دون استعمال الصلاح، بل يتناولهما، وإنما قال: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لأنه لما خوف في الآية الأولى من تغيير الوصية بين أن النهي عن تغييره فيما لا

(183)

جنف فيه ولا إثم [على صاحبه]، فأما إذا كان فيه شي من ذلك فلا إثم [في تغييره]، وبين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أنه يتجاوز عما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجده. قوله- عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الآية (183) - سورة البقرة. الصوم في اللغة إمساك عما تنازع إليه النفس، ويقال ذلك في الطعام والشراب والنكاح نحو: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}، في نحو: [خيل صيام، وأخرى غير صائمة] وصامت الريح إدا ركدت، والشمس إذا استوت في منتصف النهار كان لها وقفة، وفى الشرع إمساك المكلف بنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن المأكل والمشرب والمنكح والأستقاء والاستمناء والسعوط، وأما الأكل على سبيل السهو لا يخرجه عن أن يكون ممسكاً حكماً، ثم النية هل يجب أن يتقدم أو يجوز الاقتران به راجع إلى اختلاف المذاهب؟ واعلم أن الإمساك عن الأطيبين هو المقصود بالصوم وما عداه فلأنه يشبهه أو يؤدي إليه ... وللصوم فائدتان: إحداهما: قريبة، وهي أن يروض الإنسان به نفسه عما تدعوه إليه من الشهوات القبيحة، فإنه يعودها الصبر لكنها كما وصفها بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، ومتى جعلت في حجر الشرع

فعودت الانقلاع فالنفس راغبة إذا رغبتها .... وإذا ترد إلى قليل تقنع ولكونه مفيدا للصبر، قال عليه السلام:: " هذا شهر الصبر " وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} أي بالصوم. والفائدة الثانية: وهي أن فيه الاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع والتنزه عن مشاكلة البهائم التي غاية شبع البطن والفرج، ووجه ذلك أن الإنسان مركب من بدن يسوسه سوسن الحيوان وغذاؤه المطاعم، ومن روح ذي عقل غذاؤه العلم والفضائل، ومتى أكثر غداء أحدهما قوي على ما نقص غذاؤه، ولهذا قال عليه السلام: " رأس الدين الورع، وأفضل الورع قلة الطعام، ومن شبع ونام جثم على قلبه الشيطان " وقيل: " الجوع سحاب تمطر الحكمة "، فإن قيل: فهلا أديمَ فرضُ الصوم إذا كان سبباً

لهذه الفضيلة العظيمة (قيل: إن الله- عز وجل- ما خلق في الأرض وشهاه إلينا ليحرمناه، ولكن لينتفع به بقدر ما يحسن، وفي وقت ما يحسن، وألزمنا في بعض الأوقات التحرج عنه ليكون مدعاة إلى التعفف عن تناول مالا يجوز تناوله، وجعل الله تعالى فرضه على الأهلة ليتأدب الإنسان به في كل وقت من أوقات السنة صيفا وشتاء وربيعين ... إن قيل: على ماذا وقع التشبيه في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قيل: قال بعضهم: إن ذلك على الصوم وكيفيته، لأن صوم من قبلنا لم يكن يحل لهم ألاكل بعد الرقاد، وكان على هذا في بدء الإسلام إلى أن نسخ بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وإلى هذا ذهب معاذ، وهو المروي عن ابن عباس- رضي الله عنه- وقيل: كصوم من فبلنا في كونه أياما معدودات، وذلك في كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وهو قول عطاء وقتادة، وردي عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- أن للصيام ثلاثة أحوال، وذلك أن النبي- عليه السلام- لما قدم المدينة، فكان يصوم في كل شهر ثلاثة أيام، ويصوم عاشوراء، ثم فرض بعد تسعة عشر شهراَ شهر رمضان على التخيير، ثم فرضه على تضييق لمن كان مقيما صحيحاً، وقيل: قد كان أوجب شهر رمضان على من كان قبلنا [من الأمم] فغيروا، ونقصوا، وزادوا، وهذا قول عهدته علي قائله، وقيل. الشبه وقع لوجوب الصوم فقط، وقد تقدم أن أصول هذه العبادات لم تزل واجبة على العباد وأن النسخ على ألسنة الأنبياء في فروعها وكيفياتها وقدرها [وأزمانها]، ونبه بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} على العلة التي لأجلها أوجب، وهي قمع الشهوة، وما لأجلها لا يجوز أن يكون الصوم مرفوعاً على أمة من الأمم، فإنه ذكر أنه سبب للتقوى، وتقوى الله عز وجل- واجبة

(184)

على كل مكلف عدى كل حال وفي كل زمان، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} قوله - عز وجل -: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (184) - سورة البقرة. السفر: كشف الغطاء، يقال: سفر القناع عن وجهه، والريح السحاب أو الورق، ويقال له السفير، ومنه المسفرة، وسافر، والسفر الكتاب الكاشف عن الأغراض، والسفار للبعير كالحكمة للفرس، وهو ما يسفر عنه جماحه، تطوع يفعل من الطاعة، يقال، طاع وطوع، ومنه: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} والقدرة والاستطاعة والجهد والطاعة تتقارب، وبينها فروق، فالقدرة ما يظهر من القوة بقدر العمل لا زائداً عليه ولا ناقصاً، والاستطاعة منهما ما يصير به الفعل طائعاَ له بسهولة، والوسع منها ما يسع له فعله بلا مشقة، والجهد ما يتعاطى به الفعل بمشقة، والطاقة منها بلوغ غاية المشقة. وقول الشاعر: كلُّ امرئٍ عنْ طوقِهِ أي عن غاية قدرته، لأن المقاتل لا يدع غاية من القدرة لا يبذلها قبل استسلامه للموت، وقوله: {أَيَّامًا} يتعلق بـ كتب عليكم " أو بـ " كما كتب "، أو بالصيام، وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ظاهره يقتضي أن المريض والمسافر عليهما عدة من أيام أفطر أو لم يفطر، وإليه ذهب أهل الظاهر.

وعند عامة الفقهاء على إضمار الإفطار بدلالة إضماره في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه}، وبدلالة الأخبار المروية في ذلك، ويقتضي أيضاً أن السفر القليل والكثير سواء، وعند عامتهم يعتبر فيه قدر ما، فبعضهم حدده بمسيرة ثلاثة أيام، وبعض بمسيرة يومين، وبعض بمسيرة يوم، ولا خلاف في أن ن خرج إلى نزهة ببستانه في ظاهر بلده لا يفطر، ويقتضي ظاهره أيضاً أن لا فرق بين أن يكون سفره لطاعة أو معصية، ولم يجوز الشافعي إلا في طاعة ويقتضي قوله {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} أن لا فرق ين أن يقضيها متتابعة أو غير متتابعة، وقد حكى وجوب التتابع عن علي وابن مسعود- رضي الله عنهما- وقوله: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} عاد إلاً في عيد الفطر والأضحى والثلاثة أيام التي بعدها وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ظاهره يقتضي أن المطيق له يلزمه فدية أفطر أو لم يفطر، لكن أجمعوا أنه لا يلزمه إلا مع شرط آخر فذهب الأصم إلا أن ذلك للمريض والمسافر وأن الذي يطيق الفدية منهما فأفطر، فعليه الفدية لمكان ما خفف عنه، كما جعل على المتمتع بما خفف عنه أن يهدي، وهذا ضعيف لأمرين، أحدهما: أنه لم يجر الفدية قبل ذكر ولا ما دل عليه، والثاني: أن المريض والمسافر قد أوجب عليهما عدة من أيام أخر، وذهب الشعبي وهو المروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- إلى أن الناس كانوا مخيرين في الابتداء بين أن يصوموا من غير فدية [وأن يفطروا ويقيدوا، ثم نسخ بالآية التي بعد، وتقديره: وعلى الذين يطيقونه فأفطروا إلى] وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في أصح الروايتين أن ذلك في الشيخ والشيخة الهمين والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فلفظ (الطاقة) ههنا ينبيء عن ذلك، فإن الطاقة هدي التي تبلغ غاية المشقة ولا يخرج عن القدرة والعجز، ورأه، فذكر أن هؤلاء الذين يبلغ بهم الصوم غاية المشقة يجوز لهم الإفطار والفدية وقرئ

(يُطَوقونه) أي يتكلفونه بجهد، وقرئ) يطؤقونه) أي يحملون على أن يتطوقوا، وقرئ (مسكين) اعتباراً بكل واحد كقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، وإنما يلزم كل واحد هذا القدر، (ومساكين) اعتباراً بجماعتهم، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فقد قيل: مبني على ما تقدم، أي الصوم خير من الإفطار والكفارة، ون قال: (الذين يطيقون) للمسافرين والمرضى وقال هذا خطاب لهم، وكذا من قال: الشيخ الهم، ويجوز أن لا يكون خيرا فعل، وإنما المعنى: الخير في الصوم تنبيهاً على عظيم ثوابه، وذاك أن المراد من العبادة والإخلاص والنية، ولهذا قال عليه السلام: " أخلص تكفك القليل من الغقل "، ولما كانت الأفعال البدنية كثيراً ما يدخلها الرياء إلا الصوم فإنه لا يوقف عليه ما لم يخبر الإنسان عنه بلسانه، ولا عبادة يدخل فيها الإنسان بالنية المجردة إلاً الصوم ... قال عليه السلام: " يقول الله- عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به "، ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن عرفتم ما فيه من المنفعة، وتحققتم ما يثمره لكم لم تتهاونوا في تحمله.

(185)

قوله - عز وجل -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الآية (185) - سورة البقرة. شهرة الشيء: ظهوره للكافة، وقل شهر أمره وسيفه إذا جرده والشهر مدة مشهورة والمشاهرة المعاملة به كالمعاومة والمياومة [والمسانهة] والرمض شدة وقع الشمس، وسمي رمضان لمطابقته في ابتداء موضوع الاسم له شدة الحر، لأن الشهور سميت [في الأصل] بمطابقة بعض ما عرض فيها من الأحوال في ابتداء موضوعها والإرادة أصلها من: رادَ يرُودُ إذا سعَى في مهل للطلب، ومنه الرايد، والمرود للميل، ولمعنى المهل قيل رويداً، وقد تقدم حقيقة الإرادة، والقرآن أصله من القرى، وهو ضم ما كان متفرقاً، ومنه: " ما قرأت الناقة سلاقط "، أي ما لم تضمه إلى نفسها ولم تجمعه في رحمها، ولا يتناول إلا على المنزل على محمد- عليه السلام- والكتاب عام، والفرقان قيل إنه يتناول القرآن والتوراة- إن قيل: فلم سمي بذلك؟

قيل: إما بالنظر الحلال، فلأنه جامع للسور والأيام، وإما على نظر أدق من ذلك، فلأنه جمع فيه كل شيء محتاج إليه الناس من أمر معاشهم ومعادهم مما يتبلغون به إلى الأخره، ولهذا قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، وقال: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}، والعسر صعوبة الشيء وعسره وعسيرآ، وعسر عمل شماله وذلك إما تصور الصعوبة ما تتعاطى بها وإما لاعتقاد العسر فيها بسواها، واليسر ضده، واليسير للضار بين على الحرور بالقداح لليسارهم، وقوله: (شهر رمضان) مبتدأ، وخبره الذي، ومن لم يجعل الأول منسوخاً قال: تقديره: " هو شهر رمضان " أو يكون بدلاً من الصيام، وقوله: هدىً، أي هادياً، وقال عطية بن الأسود ولابن عباس: " في نفسي شي، وهو أنه قال: (شهر رمضان) وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وقد أنزل الله- عز وجل- القرآن في جميع الشهور، فقال: الليلة المباركة ليلة القدر، وليلة القدر في شهر رمضان، وقد أنزل الله القرآن جملة إلى البيت المعمور، ثم أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - الله رسلاً، وعلي هذا قوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}. وقيل فيه: أي في سببه وتخصيصه بذلك وإن شاركه فيه غيره فعلى سبيل التعظيم، وعلى هذا " في ليلة القدر "، أي في سببه وتفصيله، وإليه ذهب الضحاك ... إن قيل: إذا كان الهدى مقتضياً للبينات، فما فائدة (وبيناتٍ من الهُدَى)؟ قيل: القرآن يهدي على

ضربين، أحدهما أن يدل على سبيل المجمل، والثاني: على سبيل التفصيل، فبين أن فيه هدى على الجملة، وبينات أي ما يوضح ويكشف على سبيل التفصيل، ففرق بين الحق والباطل، فصار ذكر البينات والفرقان بعد الهدى ذكر الخاص بعد العام، وجواب أخر، وهو أنه قد تقدم أن الهدى على ضربين هداية إلى سبيل الله المعنية بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وهداية إلى الله المعنية بقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}، فالإشارة بقوله: (هدى) إلى الأولى، وبقوله: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} إلى الثانية والفرقان مصدر في الأصل [كالغفران والكفران] وسمي به القرآن لكونه فارقاً بين الحق والباطل في الاعتقاد والصدق والكذب في المقال، والجميل والقبيح في الأفعال، وقوله: (فمن شهد) عام في كل مكلف حاضراً كان أو مسافرا، لكن أخرج منه المسافر والمريض، ولم يدخل فيه الحائض لدلالة الإجماع عليه فمنهم من اعتبر الشهود في ابتدائه، فقال: " من شهدهُ وهو مقيمٌ فعليه صومهُ سافر أو لم يسافر " وإليه ذهب أمير المؤمنين علي- رضي الله عنه-، ومنهم من اعتبر ذلك في أجزائه، وإليه ذهب عامة الفقهاء، وقال أبو حنيفة: - رحمه الله: " من كان صحيح العقل في بعض رمضان، فعليه صوم كله، لأنه شهد الشهر "، وعند الشافعي أن كل يوم لم يكن فيه صحيح العقل لا يلزمه صومه، ولا خلاف أن الصبي إذا بلغ في أثناء الشهر لم يلزمه قضاء ما تقدم من الشهر. إن قيل: لم أعاد ذكر الشهر، ولم يقل: " فمن شهده "؟ قيل: لأمرين: أحدهما: تعظيماً لذكره، لأن ما يعظم فد يعاد ذكره مع كل حكم يحدد له. والثاني: ليس يحل الصوم على من كان شهد الشهر الذي أنزل فيه القرآن فقط، فلذلك أعاد ذكره ...

إن قيل: فلم قال: (فليصمه) ولم يقل فيصم فيه؟ قيل: قد ذكر بعض النحويين أن القائل إدا قال اليوم ضربته زيداً، إنما يقال إذا استوعب اليوم لضربه، وإذا قيل: ضربت فيه، فهو أن يضرب فيه في بعض أوقاته، فنبه بقوله: (فليصمه) على الاستيعاب. إن قيل: لم أعيد ذكر المريض والمسافر؟ قيل: إما على قول من يجعل اللحية منسوخة فليس أن حكمها مراعى في الناسخ كما هو مراعى في المنسوخ، وإن ذلك لم يرتفع بارتفاع التخيير، وأما على قول غيره فللتأكيد أولاً ولتعليق ما علق به من الحكم ثانياً، وهو قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وذكر الفقهاء أن إرادة اليسر هي مما رخص للمسافر والمريض، وذهب غيرهم إلى أن إرادة الله عز وجل اليسر لمن أوجب عليه الصوم عليهم كما هي للمفطر والصائم جميعاً، ففي الصوم أعظم اليسرين، وعلى هذا قال الأعرابي: " أقصد البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك "، فقيل له: أفي هذا الحر؟ فقال: " من الحرَّ أفرُّ " وقيل لآخر: أتكدُّ نفسك في العبادة، فقال: " راحتها أريد، فإذن في إيجاب " الله تعالى الصوم أعظم اليسرين. . . إن قيل: عدى أي وجه تعليله بما علل به من قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ}؟ قيل: بين تعالى. أن ما أوجبه من الصوم عيناً وقضاء إرادة لتكميل العدة المقتضية للتقوى المذكورة في قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ولم يرد به التفوه بلفظ التكبير فقط،

(186)

بل أراد معرفة كبريائه وعظمته وإن كان فيه دلالة أن التكبير مستحب .. إن قيل: لم قال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فأخدل الواو فيه؟ قيل:. يجوز أن تتعلق اللام بفعل مضمر، كأنه قيل: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أمر بما أمر، ويجوز أن يكون معطوفأ على قوله: {الْيُسْرَ}، كأنه قيل: (يريد بكم اليسر وتكميل العدة)، فادخل فيه اللام كما أدخل في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ}. قوله - عز وجل -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} الآية (186) - سورة البقرة. إن قيل. كيف فصل بين الآية الأولى وبين التي بعد هذه وهما في حكم رمضان بهذه الآي وهي قد اختلفت عنهما؟، قيل بل هي من تمام الآية الأولى، لأنه لما حث على تكبيره وشكره على ما قيضه لهم من إتمام الصوم، بين أن الذين تذكرونه وتشكرونه قريب منكم ومجيب لكم إذا دعوتموه، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم، ولم يرد بالقرب ههنا القرب المكاني، وإنما ذلك قربة تقتضيه إفضاله ووجود آثاره المشار إليها بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، وروي أن موسى قال: " أقريب " أنت فأنا جيك؟ أم بعيد فأناديك؟ فقال: " لو حددت لك البعد لما انتهيت إليه، ولو حددت لك القرب لما اقتدرت عليه، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك، فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية فبين، تعالى أفضاله على عباده، وضمن أنهم

إذا دعوه أجابهم، وعليه نبه بقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إن قيل: قد ضمن في الآيتين أن من يدعوه يجيبه، وكم رأينا من داع له لا يجاب؟، قيل: إنه ضمن الإجابة لعباده، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}، وإنما عني بهم الموصوفين ... في قوله- عز وجل- {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية، وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} لآية، ولدعائهم شرائط، وهي أن تدعو بأحسن الأسماء كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، ويخلص له النية الافتقار ولا يرغب إليه فيما تنزه الأكابر عن مسئلة مثله ولا ما يستعين به على معاداته، وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما أعطاه، ومعلوم أن من هذا حاله مجاب الدعوة، وأنه من جملة من وصفه النبي عليه السلام بقوله: " رب ذي طِمْرينِ لا يؤْبهُ به لوْ أقسَمَ علَى الله لأبَّرهُ " ثم قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} أي إذا كنت لهم بهذه المنزلة فحري أن يستجيبوا لي إدا دعوتهما وأن يؤمنوا بي - راجين رشدهم، وإنما قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} ولم يقل ليجيبوا للطيفة، وهي أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة، فبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم ... إن قيل: كيف جمع بين الاستجابة والإيمان وأحدهما يغني عن الأخر؟

(187)

فإنه لا يكون مستجباً لله -عز وجل- من لا يكون مؤمناً، ولا مؤمنا من لا يكون مستجيباً، قيل أحدهما وإن يضمن الآخر من حيث الاعتبار، فذكرها ليطمئن، فإن إجابته ارتسام أوامره ونواهيه التي يتولاه الجوارح، والإيمان هو الاعتقاد الذي تقتضيه القلوب، وأيضاً فإن الإيمان المعني هاهنا هو الإيمان الذكور في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وذلك بعد الإجابة، وقد تقدمت منازلُ الإيمان. قوله- عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الآية (187) - سورة البقرة. الرفث كل كلام يتضمن ذكر الجماع، وجعل كناية عنه، وعُدَّي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء والخيانة بنقض العهد، ولهذا قوبل بالوفاء الدال على التمام، والحد ما يمنع أحد الشيئين من الآخر، فتارة يتصور منه المنع، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ}، وقيل للثواب حداد، وتارة تصور منه الفصل فقيل: حد الدار، وجه شبه الحد في الكلام، وقيل: حد الرأي لكونه مانعاً له ولغيره عن بواقعة مثله، وحد السيف ما يفصل بينه وبين الجانب الأخر، ثم تصور منه الدقة، فقيل: أحددت السيف، وسمي الحديد لكثرة وجود هذه الصورة فيه، والعكوف: الإقامة على الشيء والحبس عليه، فتارة يراعي منه الإقامة فلا يعدي نحو: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، وتارة يراعى منه الحبس

والوقف، فيعدي نحو قوله: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا}، وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} جعل اللباس كناية عن الزوج، لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء، كما أن اللباس يمنع أن تبدو السوءة، وعلى ذلك جعلت المرأة إزاراً، وسمي النكاح حصنا، لكونه حصيناً لذويه عن تعاطي القبيح. وقال الأصم: معنى قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} أي كأن يعطي كل واحد على الآخر ما يتعاطاه من الاختيارمن قولهم: لبست عليه ذيلي، وقيل: سبب نزول هذه الآية أن المباحات كانت تحظر على الصائم بعد الرقاد، فقيل: إن عمر قالت له امرأته لما راودها: قد أعفيت، فظن أنها اعتلت عليه، فواقعها، فذكر ذلك للنبي- عليه السلام- وقيل: كان شيخ من الأنصار يقال له " صرمة " قعد ينتظر امرأته لتصنع له طعاماً، فنام وترك الطعام، فرآه النبي- علية السلام- في اليوم الثاني شاحباً، فسأله، فأخبره، فأنزل الله تعالى هذه الآية والاختيان مراودة الخيانة وتخصيصه من دون قوله: (تخونون) لفائدة، وهي أن

المخاطبين لم يكونوا كلهم خانوا وكلهم أوجلُّهم قد اختانوا، لأن الاختيان هو أن تتحرك الشهوة وتدعوه، ولذلك خص لفظ النفس المعنية بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، وكفى للتنبيه على اختيان النفس شهادة من حلفها بذلك علماً بقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، فاختيان النفس مخادعتها ومدافعتها إما بمساعدة أو بمخالفة وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ} إشارة في تحري النكاح إلى لطيفة، وهي أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، فحق الإنسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله لنا سعلى حسب ما يقتضيه العقل والديانة، فمتى تحرى به حفظ النسل وحصن النفس على الوجه المشروع، فقد ابتغى ما كتب الله له، وإلى هذا أشار من قال: عنى الولد به الخيط الأبيض بياض النهار، وبالخيط الأسود سواد الليل، وروي أن عدي بن حاتم عمد إلى عقالين أبيض وأسود، ثم جعل ينظر إليهما ويأكل إلا أن يتبين أحديهما ن الأخر، فأخبر النبي- عليه السلام- بالذي صنع، فقال: إنك لعريض الوساد، إنما ذاك سواد الليل بياض النهار وقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} تنبيه على ابتداء التحريم إلى انتهائه، وكما نهى عن المباشرة في حال الصوم نهي عنها في حال الاعتكاف وظاهر ذكر المساجد يقتضي جوار الاعتكاف في كل مسجد ...

(188)

قوله - عز وجل -: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (188) - سورة البقرة. الإدلاء: إرسال الدلو في البئر، واستعير للتوصل إلى الشيء، وعلى هذا قول الشاعر: فليس الرزق عن طلب حثيث .... ولكن ألق دلوك في الدلاء وعلى هذا النحو سمي الوسيلة المانحة في قول الشاعر: وَلي مانحٌ لمْ يُورِدِ الماءَ قَبْله ... معلَّ وأشطانُ الطَّوِيَّ كَثيرٌُ والأكل عبارة عن الإنفاق، إذ هو أهم ما يصرف إليه المال، وأكل المال بالباطل صرفه إلى ما ينافيه الحق، وهو التبذير والإسراف قليلاً كان الإنفاق أو كثيراً، ولهذا قيل: (رب إنفاق قليل هو إسراف، وكثير هو اقتصاد) ... ، وقوله: (وتدلوا) أي لا تدلوا، وكما نهي عن تبذير الأموال نهى أن يدلي بها إلى الحكام على سبيل الرشوة، وتوصلاً إلى اقتطاع أموال الناس، وقيل: معناه: لا يأكل بعضكم مال بعض غصباً أو خيانة فيلجؤوهم إلى المرافعة إلى الحكام، فلا يحكم عليكم لعدم البينة فتستبينوا إلى أن تأكلوا فريقاً ن أموال الناس بالإثم، وقيل: من يتولى أموال

(189)

الأيتام، فيأكل بعضا ويدفع إلى الحكام بعضا، والوجه الأول أجود، لأنه قال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ثم قال: لتأكلوا ففصل بين الأمرين، والوجهان الآخران داخلون في عمومه وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن أخفى علمكم على الناس، فإنه لا يخفى عليكم تنبيها أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه وما علمتم منه لا بما يظهر، ونبه - عليه السلام - على ذلك بقوله: (إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن حكمت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذن منه قليلاً ولا كثيراً، فإنما أقطع له قطعة من النار) وقال: (البر ما اطمأنت إليه النفس). قوله - عز جل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآية (189) - سورة البقرة. المواقيت: جمع ميقات وهو مفعال من الوقت، والوقت والمدة والزمان تتقارب لكن المدة المطلقة أوسع هذه الألفاظ، فإنها امتداد حركة الفلك أي اتصالها من مبدئها إلى غايتها، والزمان مدة مقسومة من المدة المطلقة والوقت الزمان المفروض للعمل ومعنى مواقيت للناس أي لا يتعلق به من أمور معاملاتهم ومصالحهم، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ونبه بذكر الحج على ما يتعلق به من العبادات، ولكن ذكرنا

أعظمها أثرا فإن الحج مراعى في قضائه وأدائه الوقت المعلوم وبخلاف سائر العبادات التي لا تعتبر في قضائها وقت معين والباب معروف وعنه أستعير لمداخل الأسباب المتوصل بها إليه، وقيل: في العلم باب كذا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنا مدينة العلم وعلي بابها "، أي به يتواصل إلى حقائق العلوم وعلي وإن شاركه فيه غيره، فتخصيصه لكونه أرفع منزلة في باب العلم وقد كان سئل - عليه السلام - عن فائدة زيادة الهلال ونقصانه، فأنزل الله تعالى هذه الآية منبها على أظهر فائدته للحس وأبينها له، ثم قال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، أي بأن يطلبوا من غير وجه، وذلك أنه يقال: " أتى فلان البيت من بابه " إذا طلب الشيء من وجهه. وقال الشاعر: أتيت المروءة من بابها ..

و " أتى البيت من ظهره " إذا طلب الأمر من غير وجهه وجعل ذلك مثلا لسؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة، وأن ذلك عدول عن المنهج وذلك أن العلوم ضربان: دنيوي: يتعلق بأمر المعاش كمعرفة الصنايع ومعرفة الأجرام السماوية ومعرفة المعادن والنبات وطبائع الحيوانات، وقد جعل الله تعالى لنا سبيلاً إلى معرفته على غير لسان نبيه محمد - عليه السلام -، وشرعي: وهو البر، ولا سبيل إلى أخذه إلا من جهته وهو أحكام التقوى، فلما جاءوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم ثم بين لهم أن ليس البر ترك المنهج في سؤال النبي - عليه السلام - ما ليس هو مختصا بعلم نبوته ولكن البر هو تحري التقوى، وذلك يكون بالعلم والعمل المختصين بالدين وقال بعض المفسرين إتيان البيوت من ظهورها هو أن العرب من لم يكن من الخمس إذا أحرم لم يدخل البيت من بابه بل كان يأتيه من ظهوره، فأتى رجل من باب بيته، فأنكر عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية .. وهذا عن ابن عباس وغيره وقيل: إتيان البيوت من ظهورها مخالفة الواجب في الحج وشهوره واستحلال أشهر الحرام وتحريم الحلال، المعنى بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وكل ذلك لا يمتنع أن تتناوله الآية لكن الأليق بأول الآية ما تقدم ذكره، وقوله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} أي تحروا في كل عمل إتيان الشيء من وجهه تنبيها أن ما يطلب من غير وجهه صعب مناله، ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} حثا لنا أن نجعل تقوى الله عز وجل- شعارنا في كل ما نتحراه، فبين أن ذلك هو الذريعة إلى تحصيل الفلاح ..

(190)

قوله - عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الآية (190) - سورة البقرة. اختلف في حكم هذه الآية، فقيل: هي ناسخة لحكم العفو ومنسوخة بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} وقيل: ليست بمنسوخة ولا ناسخة، وبيان ذلك أن من شرط الداعي إلى الحق أن يبينه ويدل عليه ويرفق، فإن اهتدى المدعو، وإلا أوعد، فإن أنجع ذلك وإلا عدل بعد إلى المحاسبة والمحاربة على ما تقتضيه السياسة، وعلى هذا قال بعضهم: " لا أستعمل سوطي ما كفاني لساني ولا سيفي ما كفاني سوطي ". وقال الشاعر: أناة فإن لم يغن أعقب بعدها .... وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر في أول الأمر بالرفق والأناة، وأن يقتصر على الوعظ والمجادلة الحسنة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وكان يستمر على ذلك حتى عاتبه بعض أصحابها فقال يا نبي الله:

(191)

" كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة "، فقال عليه السلام: " أمرت بالعفو فلا تقاتلوهم اليوم "، فلما ظهرت آياته، وانتشرت بنياته، ورأى من أبى الإصغاء إلى الحق، واستمر على الضلال والإضلال أمر حينئذ بالمقاتلة أي المحاربة، ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} ثم أمر بالقتال لمن تأبى الرجوع إلى الحق بالمحاربة، وكان هذا أمرا بعد أمر حسب مقتضى السياسة الإلهية، وقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} منهم من تصور منه تولي القتال وتعاطيه في الحال، فقال: هو منسوخ بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، (ولا تعتدوا): نهي عام في مجاوزة كل حد حده الله تعالى، كالنهي عن قتل الصبيان والنساء وقيل: " من أعطي الأمان وتحرى القتال ابتغى عرض الدنيا وطلب الرئاسة "، ونبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أن اعتداء مرسوم الله وتجاوز حكمه في كل أمر مذموم .. قوله- عز وجل: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} الآية (191) - سورة البقرة. الثقف: الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملاً، ومنه قيل: رجل ثقف لقف إذا كان له حذق في إدراك الشيء علماً كان أو عملا، ومنه قيل: رجل ثقف لقف إذا كان له خدمة في إدراك الشيء ومنه قيل: ثقفت الرمح، وأصل الفتنة إدخال الذهب النار للتصفية، يقال: فتنت الذهب أي اختبرته بالنار، ثم استعير لكل اختبار بأمر محض، على ذلك قوله تعالى:

{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} وجعل الفتنة لكل أمر مكروه المحتمل، فتارة استعير للشرك، وتارة للعذاب، وتارة للاختبار، ولما كان لفظ الفتنة والقتل ههنا مبهمين، قال بعضهم: معناه أن يفتن الإنسان في دينه، فيشرك أشد أي أوخم عاقبة من أن يقتل، فإن الأذية التي تنال المقتول محدودة، والأذية التي تنال الشرك بشركه غير محدودة، وقال بعضهم: إن معناه: أن يوقع الإنسان الفتنة أشد على الناس أي أعظم ضرراً من أن يقتل في الحرم من يستحق القتل، وقال: وذلك رد على من استعظم قتل بعض المسلمين كافراً في الحرم، ولهذا قال بعده: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وقوله {وَأَخْرِجُوهُمْ} أمر بإخراج الكفار من مكة بدلالة قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}، وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} وقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} استثناء من قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، وهذا حكم عند أكثر الفقهاء فإنه لا يقاتل في الحرم إلا من قاتل، ويؤيد ذلك قوله - عليه السلام - يوم فتح مكة: " إن مكة حرام حرمها الله - عز وجل - يوم خلق السماوات والأرض وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراما إلي يوم القيامة "، فهذا يدل على أن ذلك غير منسوخ كما ظنه بعض الناس، وقال الأصم: إن ثبت جوازا القتل هذا في

(192)

الحرم، فليس في ذلك نسخ، بل هو زيادة في فرض القتال، فإن هذا أمر بأن يقاتلوا في الحرم إذا قوتلوا، وذاك أمر بالقتل قوتلوا أو لم يقاتلوا، فإذن الثاني زيادة في الأمر بالقتال، ثم قال: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ}، أي حاربوكم فاقتلوهم، وبين أن هذا حكم كل كافر يحارب المؤمنين. قوله - عز وجل: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية (192) - سورة البقرة. الانتهاء: الانزجار، والنهي الزجر، ونهاية الشيء غايته التي ينتهي إليها، لأن لكل شيء في هذا العالم غاية إذا انتهى إليها انصرف راجعاً عنها في الكون والفساد والنهي العقل لكونه ناهيا عن القبيح، ككون العقل عاقلاً عنه، والحجر حاجرا عنه، والنهي في موضوع أهل النحو من صيغة " لا تفعل " حثاً على الشيء كان أو زجرا عنه، وفي موضوع أهل البرهان ما يقتضي الزجر عن الشيء سواء كان بلفظ " أفعل " أو " لا تفعل "، وهذا الخلاف من أجل أن النحوي يعتبر اللفظ قبل المعنى، وصاحب البرهان يعتبر المعنى قبل اللفظ، ونبه بالآية أن المنتهي عن الذنب يغفر له ما تقدم من ذنبه، وذلك عام في أمور الدنيا والآخرة إلا ما دلت الدلالة على الأخذ به من حقوق الآدميين، وعلى هذا قوله - عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، وقوله عليه السلام: " الإسلام يجب ما قبله " ..

(193)

قوله - عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية (193) - سورة البقرة. أمر تعالى بالقتال لدفع الفتنة بعد أن يبين أنها أعظم ضررا من القتل، نحو قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، فقوله: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} كقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، وذلك إما بقتلهم أو بإسلامهم أو بانقيادهم وإعطاء الجزية حسب ما بينه الشرع، (ويكون الدين لله) قال ابن عباس: حتى يخلص التوحيد له " وحمل ذلك على مشركي العرب، لأنهم لا يقارون على جزية كما يقال غيرهم، وحمل بعضهم على الانقياد بحكم الدين في كل مكان، وقال: يجب أن يكون الحكم للإسلام في كل مكان، وعلى هذا ما روي: " الإسلام يعلو ولا يعلى "، ثم أعاد ذكر الانتهاء، فقال: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي لا يتجاوزون الخطر إلا مع من يتجاوزه بحسب فعله .. قوله - عز وجل: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} الآية (194) - سورة البقرة. بين أن مراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته، وأن من هتكها اقتص منه، وسبب نزول ذلك أن العرب فخرت بصرف النبي - عليه السلام - عام الحديبية عن البلد الحرام، وكان ذلك في ذي القعدة، فمكنه الله تعالى من دخوله في العام القابل في القعدة، وشرح معنى قوله: (لا عدوان إلا علي الظالمين) بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا}. إن قيل: كيف رخص في الاعتداء وهو ظلم وقد منع منه آنفا بقوله: (ولا تعتدوا)، قيل: الاعتداء مجاورة الحد، ومنه قيل: " عدا فلان طوره "، و " لا تعد طورك "، ثم استعير الاعتداء في الظلم من حيث

أنه تجاوز الحد الذي حده العقل أو الشرع، والذي منع تجاوز ذلك ابتداء، فقد أباح لمن اعتدى عليه جزاء، فإذن: الاعتداء ضربان: اعتداء على سبيل الابتداء، وهو ظلم، وإياه عنى بقوله ولا (تعتدوا) واعتداء على سبيل الاعتداء ضربان اعتداء على سبيل القصاص وهو عدل وإياه عني ههنا، ثم للمجازاة أيضا حد لا يحوز أن يتجاوزه، وإياه عنى بقوله: (فمن اعتدى بعد ذلك). إن قيل: هل كان يجوز لو قيل: (من ظلمكم فاظلموهم)؟ قيل: لا يجوز ذلك، لأن الظلم إنما هو وضع الشيء في غير موضعه الذي يحق أن يوضع فيه، وهذا في كل حال مذموم، والاعتداء مجاوزة الحد المحدود، وذلك لا يكون مذموما، ومن قال من العرب: " من ظلمك فاظلمه "، فذلك منه انحراف وترخص في الظلم على عادتهم، وكذا قول من قال: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا فإن الجهل مذموم على كل حال، ولا يكاد يرد لفظ الأمر به من حكيم، فإن قيل: فقد قال الله: {ومكروا ومكر الله} قيل: حقيقة المكر إظهار أمر يعتقد فيه الناظر إليه الجاهل بحقيقته اعتقادا ما يضل ما هو، وكذلك الاحتيال والخديعة والسخرية ومن قصد بشيء من ذلك أمرا قبيحا، فهو مذموم وأن قصد به فعلاً جميلاً فهو محمود، فإذن يصح أن يمدح بذلك من يتحرى مقصدا حسنا، ولهذا قال بعض العلماء: إن الله - عز وجل - يخدعنا عن النار كما يخدع الصبي أبوه عن المضار، وفي هذه الآية دلالة أن من استهلك شيئا لغيره استهلك عليه مثله، لكن مثله المستهلك قد يكون تارة حسية مكيلا كان أو موزونا أو معدودا، وتارة قيمته، وقوله: {واعلموا أن الله مع المتقين}، تنبيه أن توفيق الله يصحب المتقي، وقد تقدم حقيقة (مع) والصحبة إذا استعملا في الباري تعالى ...

(195)

قوله - عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الآية (195) - سورة البقرة. الهلاك انتهاء الشيء في الفساد، وله سمي الموت هلاكا، وقيل للعذاب والخوف في الفقر والبخل وما يجري مجراها مما يؤدي إلى الهلاك هلاكا، والمفازة مهلكة والتهلكة ما يؤدي إلى الهلاك، وامرأة هلوك كأنها تتهالك في مشيها إشارة إلى نحو قول الشاعر: مريضات أدبات التهادي كأنما .... تخاف على أحشائها أن تقطعا [وكني بالهلوك عن الفاجرة لتماثلها] والهالكي كان رجلاً حدادا من قبيلة هالك فسعت العرب كل حداد باسمه كما سمي كل بناء هاجريا، وقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ}، قيل: معناه نحو تعلقت زيدا أو بزيد، وقيل معناه: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، نحو قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وذلك بالتعرض لما يستوخم عاقبته جهلا به، مثل الفراشة تأتي إذا رأت لهبا من السراج، فتلقي نفسها فيه، وتأولت الآية على وجهين بنظرين مختلفين .. أحدهما: أنه نهي عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهور في الإقدام، والثاني: أنه نهي عن البخل بالمال، والقعود عن الجهاد، وكلا المعنيين يراد بها، فالإنسان كما أنه منهي عن الإسراف في

[الإنفاق] والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل وعن الإحجام في الجهاد، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}، وقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} الآية، وقال بعض الناس: " إن هذه الآية ينظر إليها علي وجهين " أحديهما: نظر المجاهد في سبيل الله بالمال، والثاني: نظر الفقيه عن المجاهد، وكلاهما صحيح بوجه، ووجه ذلك أن الفقيه من حيث أنه يحكم بالظاهر على الكافة يراعي أحوالهم، والمجاهد من حيث أنه يوفر على مراعاة الحق عن مراعاة نفسه لا يرى الإلقاء بيده إلى التهلكة إلى التهلكة إلا الإحلال بترك وظائف الحق، وإلى هذه الحالة أشار الله تعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، الآية، وبقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، أي تحروا فعل الإحسان وقد تقدم أن الإحسان هو تحري العدالة والزيادة عليها، ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، ثم نبه بإظهار محبته للمحسنين على شرف منزلتهم.

(196)

قوله - عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} " الآية (196) سورة البقرة ". قيل: قوله: {وَأَتِمُّوا} قيل إنه خطاب لمن خرج حاجا أو معتمرا، فأمر بأن لا يصرف وجهه حتى يقضيها، وإليه ذهب أبو حنيفة - رحمه الله - فاحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل فيها [لإنسان] متنفلا، وأنه متى أفسدها وجب قضاؤها وقيل إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة وذكر لفظ الأيام تنبيه على توفية حقهما وإكمال شرائطها، ولذلك قال أمير المؤمنين: " من إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك " وعلى هذا قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وإلى هذا ذهب الشافعي - رحمه الله واحتج به في وجوب العمرة، وإنما قال في الحج والعمرة " لله " ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى الأصنام، فخصهما بالذكر لله تعالى حثا على الإخلاص فيهما ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور، وظاهر قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أن لا فرق بين أن يحصر بمكة أو بغيرها، وبعد عرفة أو قبلها بخلاف ما قال أبو حنيفة إن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف لا يكون محصرا في الحكم، وكذلك لا فرق في [الظاهرة] بين أن يحصره عدو مسلم أو كافر كما قال الشافعي خلافا لبعضهم، وظاهره يقتضي أن

لا فصل بين إحصار العدد وإحصار المرض كما قال أبو حنيفة دون الشافعي - رحمة الله عليهما - " لولا أن الآية نزلت في سبب العدو فلا يجوز أن نتعدى إلاً بدلالة "، ولأن قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} يدل على أن المراد بالإحصار هو بالعدو وذلك قول ابن عباس - رضي الله عنه - ويقتضي الظاهر أن لا قضاء عليه خلافا لأبي حنيفة - رضي الله عنه - لأنه قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} واقتصر عليه والهدي بقرة أو بدنة أو شاة أو أكثر، لأنه قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ}، ونهى عن حلق الرأس إلا بعد بلوغ الهدي محله، ومحله عند أبي حنيفة الحرم، واستدل بأن ناجية بن جندب قال: " دعني أخذ بعض هذه الأودية، وأسوق هذه البدن إلى الحرم، فأنحر بها "، فقال - عليه السلام -: " افعل " فساقها إلى الحرم، فنحر بها، وعند الشافعي أن محل الهدي في الإحصار زمان تحلله، ومنحر الهدي حيث يتحلل، وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} ليس مقصورا على المحصر، بل حكم كل حاج ومعتمر، والمرض الذي يبيح اللبس والحلق ويقتضي الفدية هو الذي يحتاج إلى تغطية البدن وحلق الشعر، وألزم فدية على التخيير ولم يبين وصفها، فنبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله لكعب بن عجرة وقد مر به يوم الحديبية وهو محرم، فقال له: " أيؤذيك هو أم رأسك؟ فقال: نعم، فقال: نعم فقال: احلق رأسك واذبح نسيكة، أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين بين كل مسكين صاع "، وظاهر الآية يقتضي أن لا فرق بين قليل الشعر وكثيرة بخلاف ما قال أبو حنيفة حين لم يلزم إلا بحلق الثلث، وغيره حين لم يلزم إلا بالربع، وأما التمتع بالعمرة إلى الحج، فقد قيل هو المحصر إذا دخل مكة بكد فوت الحج، وقيل: " هو الناسخ الحج بالعمرة "، وقيل: هو التمتع المعروف في الحج، وهو الأصح ولا يجب الدم فيه إلا أن يكون بأربع شرائط، الأول: الإحرام بالعمرة في أشهر الحج والتحلل منها فيه، والثاني: أن ينسئ الحج من سنته، والثالث: أن لا يعود إلى الميقات لإنساء الحج، والرابع: أن لا يكون من حاضري الحرم، وإن أحرم في رمضان وأخر الطواف إلى شوال ثم أحرم بالحج فهل يلزمه الدم؟ فيه قولان للشافعي، وظاهر إيجاب ما استيسر من الهدى يقتضي أن ذلك بعد الفراغ من

العمرة والدخول في الحج، وكذا الصوم الذي هو بدله وعند أبي حنيفة يجوز الصوم إذا دخل في العمرة ناويا للتمتع .. إن قيل: كيف قال في الحج ومهما أحرم يوم عرفة لا يمكنه صيام ثلاثة أيام في الحج، لأنة منهي عن الصوم في يوم النحر وأيام التشريق؟ قيل: الواجب على المتمتع أن يحرم بالحج على الوجه عليه صيام ثلاثة أيام، وذلك بتقديم الإحرام قبل يوم عرفة، وقد قال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام التشريق، ويحملان النهي عن الصوم فيها على غير المتمتع وقوله: {إذا رجعتم إلى بلدكم} [قيل: معناه إذا أخذتم في الرجوع] بعد الفراغ وقيل: {إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى بلدكم [وأهليكم] وإطلاق اللفظ يحتمل الأمرين جميعا، فيصح حمله عليهما، وحاضروا المسجد الحرام، قال عطاء: هم أهل الحرم والقربات التي حوله ما لم تبلغ مسافة تقصر فيها الصلاة وبه قال الشافعي وقال طاوس: أهل الحرم لا غير وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت وما دونها، وقوله تعالى: (ذلك) أي الكفارة لمن لم يكن حاضري المسجد، فأما حاضروا المسجد، فلا يلزمهم، وقيل: عني بذلك التمتع أي أن الحاضرين ليس لهم أن يتمتعوا وإنما ذلك لأهل الآفاق البعيدة. إن قيل: ما الحاجة إلى ذكر: " تلك عشرة كاملة " عقب قوله (سبعة، وثلاثة، ولا يشك على ذي أدنى بصيرة أن الثلاثة والسبعة عشرة) ولا أن ذلك يتنوع، فيكون مرة كاملة ومرة غير كاملة، لأنها إذا لم تكن كاملة لم تكن عشرة؟ قيل: قد أجيب عن ذلك بأجوبة .. الأول: أنه لما قال: (ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) كان يحتمل التخيير، وأن كل واحد منهما على الانفراد يقوم مقام الهدي فبين أن مجموعهما يدل على الهدي يقوم مقامه، والثاني: أنه

لما قصد بيان كمال الحكم، وأن ذلك يحصل في صوم العشرة، ذكر لفظ العشرة تأكيداً، فإن كان لو قال: (تلك كاملة) كانت مفهومة، وذاك أن الخطاب العامي، أعني ما يفهم به الخاص والعام الذين هم أهل الطبع لا أهل الارتياض بالتعلم لا يكون إلا تكريرات الكلام وزيادات البيان ليحسن إفهام الكافة، ولهذا جاء على القرآن عاما ما يتعلق حكمه بالكافة في غاية الظهور، وما هو مختص علمه بالراسخين في العلم جاء على ضرب من الإيجاز والغموض، إذ كانوا بمعرفتهم يمكنهم أن يتوصلوا إلى حقائقه، وما هو متردد بين العامة والخاصة كذكر التوحيد والنبوة ذكر تارة بلفظ مبسوط، ليظهر منه للعامة ما يفتعهم، وتارة بالفظ وجيز ليستخرج منة الخاصة ما يتضمنه، ولهذا قال فيما يغمض، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ}، والثالث: أن قوله: (تلك عشرة كاملة) استطراد كلام، وتنبيه على فضيلة علم العدد، وذاك أنه قد قيل: العددُ أول العلوم وأشرفها، أما كونه أولاً، فلأن ما عداه به تميز وتفضل، وأما كونه أشرف، فلأنه لا اختلاف فيه ولا تغيير، بل هو لازم طريقة واحدة، فذكر العشرة، وصفها بالكاملة، إذ هي عدد كمل فيه خواص الأعداد فإن الواحد مبدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد زوج محدود، أي مجتمع من ضرب عدد في نفسه، والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد تام، أي إذا أخذت أجزاؤه لم يزد عليه ولم ينقص منه، والسبعة أول عدد أول أي لا يتقدمه عدد بعده، والثمانية أول عدد زوج الزوج والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة أول عقد ينتهي إليه العدد، فإن كل عدد بعده مكرر منه بما قبله، فإذن العشرة هي العدد الكامل ..

(197)

قوله - عز وجل -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} الآية: (197) سورة البقرة. جدلُ الحبلِ فتلهُ، وبه سمي الزمامُ جديلاً، وعنه استعبر " جالت فلاناً "، ولذلك قيل: ناقضه تشبيها بنقض الحبل، وقتل فلان، يفتُلُ حبلاً "، في ذورة فلان، إذا أحتال عليه، والجدولُ: النهر الممتدُّ كالحبل المفتول، والمجدلُ: القصرُ المحكم، والجذالةُ: كل أرض صلبة، والزاد: فضل الطعام الزائد عما يكتفي به في الوقت، وقد بين الله تعالي فيما تقدم أحكام الحج وما يقع فيه من الإحصار [واستباحة] الحلق والتمتع، وبين في هذه الآية وقته الذي يصح فيه ذلك، ومن قال: أشهُرُ الحج: شوالُ، وذو القعدة، وتسع من ذي الحج عنى أن فعله يقع في هذه المدة، لأن لفظ الأشهر يقع على الاثنين، وبعض الثالث، فالفعل قد ينسب إلى مدة ممتدة ويكون واقعاً في بعضها، ولما كان فعل الحج في هذه الأشهر نسب إليها ثلاثتهن، ودلت الآية على أن الإحرام بالحج في غيرهن لا يصح لتخصيص الأشهر وهي أدنى العدد، ولقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، والضمير على هدا الوجه لا يقال في التواريخ إلا لأدنى العدد، كقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}، ثم قال: {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، ثم قال: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} [يعني: في الأربعة الحرم،] ويقال: لثلاث خلون، وثلاث عشر خلت، وقول مالك: إن الإحرام بالحج يصح بعد يوم العاشر بالحج مستدلاً بظاهر الآية قويَّ، ويعاضده ما روي عنه- عليه

السلام- " أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة "، وقوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجّ) أي التزم حكمه، وذلك عند الشافعي بالنية فقط وبها يصير محرماً عنده وعند أبي حنيفة- رحمه ألفة بالنية، ومع سوق الهدى أو التلبية، [واستعمل الفرض في] والتزام الحكم وأصله من قطع الحكم مأخوذاً من " قرض القوس " أي: حزهُ، وقيل لثعلب النحوي: لم جعل الغرض لما في أوكدُ والنية لمآ هو أخفُّ؟ قال: لأن الفرض لما يؤثر، كفرض الزند والقوس والسن للضب، فلما كان تأثير الفرض في نفس الشك أبلغ من تأثير السن، فجعل لما هو أوكد والرفث ههنا: قيل هو الجماع، وقيل: هو حديث الجماع، وروي عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه كان ينشد في الطواف: إن تصدقُ الطير ننكْ لميسا ... فقيل له: أترفُثُ؟ فقال: " ليس هذا الرفث، إنما الرفث مراجعة النساء الحديث بذكر الجماع "، إن قيل: الفسوق محظور في كل حال، فكيف خص به الحج؟ قيل: الفسوق هاهنا يعني الأشياء المحظور تعاطيها في حال، [الحج] كالصيد والطيب، واللباس، وإن لم ليكون فسقاً في غير الحج؟ قيل: تخصيص الحج به تنبيه على شرفه وعظم موقعه، كقوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وإن كان ظلم النفس في كل حال

مكروهاً، وكما قال: " إذا صام أحدكم فلا يجهل، فلا يرفث، فإن جهل عليه فليقلْ: إني صائم "، وقوله {وَلَا جِدَالَ} أي: لا يجوز المماراة، وقيل معناه: لا شك أن فرضه مقرر في ذي الحجة بخلاف ما فكله النساءة، قيل: هو حث على التحاب وقيل: " هو حث على التحاب والنظافة وترك ما يؤدي إلى التباغض "، وكل ذلك يصح إرادته، وقيل قوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} إشارة إلى أن من التزم هذا الفرض وتحراه يمنعه عن الرفث والفسوق، وكأنه نبه على علة ما أوجه لأجله الحج، فهو تهذيب اللسان عن الخنا، وإصلاح البدن [بالمنع] من تعاطي الفسق، كما جعل الصلاة علة لترك الفحشاء والمنكر، والصوم علة للتقوى في قوله: (لعلكم تتقون)، والزكاة علة لتزكية النفس في قوله: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقوله: {وَلَا جِدَالَ} نهي على ما تقدم، ولهذا فضل بين إعرابيهما بعض القراء، ونبه بقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} على مجاراته إياهم، كما نبه في عامة القراء على ذلك، نحو: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}، و {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وما يجري مجراه من الأقوال: وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} حث على تقوى الله واقتناء الأعمال الصالحة، والإعراض عن الدنيا سوى ما يتوصل به إلي الآخرة ... ، وقال أبو المطيع البلخي لحاتم الأصم: " بلغني أنك تجوب ألبادية بلا زاد فقال: إنهم أجوبها بأربعة أشياء، أرى الدنيا بحذافيرها ملكاً لله، وأرى الخلق كلهم عبيداً لله، وأرى الأشياء كلها بيده، وأرى قضاءه نافذاً في كل أرض "،، فقال: " نعم الزاد زادك يا حاتم نحوت فيما مفاوز ألآخرة "، وقول من قال: " أنزلت الآية في قوم يحجون بلا

(198)

زاد، ويتكففون، فنهوه عن ذلك، فلا يمتنع أن يكون مراد بالآية مما تقدم، فالتكففُ قل يكون منافياً للتقوى "، وقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} لما أمر بالتقوى، أمر أن يكون هو تعالى المقصود بها، وقيل: تقواه حفظ النفس إن نالها عقابه أو يتخطاها ثوابه، وذلك منعها متابعة الهوى، وحملها على طريق الهدى، وذلك على ثلاثة منازل ... الأول: ترك الكفر والكبائر، والثاني: ترك المحارم وأداء الفرائض اللذين يقتضيهما إلتزام الشرائع، والثالث: حفظ القلوب عن التلفت إلى الذنوب، وهو المغنى، بقول من قال: " التقوى هي التبرؤ من كل شك سوى الله تعالي، ولا يحصل الثالث إلا بحصول الثاني، ولا الثاني إلا بحصول الأول "، وعنى هاهنا الغاية، ولهذا خص أولوا الألباب بالخطاب، فاللب أشرف أوصاف العقل، وهو اسم الجزء الذي بإضافته إلى سائر أجزاء الإنسان، كلب الشيء إلى القشور، وباعتبار اللب، قيل لضعيف العقلي " يراعة "، " وقصبة "، و " منخوب " و " خاوي الصدر "، وقال- عز وجل- {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}، وقال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}. قوله - عز وجل -: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} الآية (198) - سورة البقرة. فاض الإناء، انصب عن امتلاء ومنه: فاض صدره بسره، ورجل فياض سخي- تشبيها بنهر فياض، ودرع مفوضة: افتضت على لابسها كقولهم: مسنونة، وعنه استعير: " أفاض من عرفة "، و " أفاض بالقداح " و " أفاض البعير بحريه "، و " حديث مستفيض "، كقولهم: شائع وسائر، وكانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر الأواخر، وحتى سموا

من يوالي متجراً في الحج: الداج دون الحاج، فأباح الله ذلك، وعلى إباحة ذلك دل قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} إلى قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، وقوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، وأمر الله بذكر الله تعالى عند المشعر الحرام أي المزدلفة، وقيل: عنى بذكره عند الجمع بين المغرب والعشاء، وهذا يدخل في عموم الذكر، فقد سمي الصلاة ذكرا في قوله {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقيل لبعض العلماء: " لم أمر الناس بالمقام عند المشعر الحرام، وبالذكر؟، فقال: لأن الكعبة بيت الله الحرام حجابه، والشعر بابه، والوافد إذا قصد الباب أقام وتضرع، فإذا وصل إلى الحجاب، قدم قربانات، وقضى التفث، وتطهر، ثم يؤذن له في الدخول، وأعاد الأمر بالذكر ثانياً، وأوجب أن يكون ذكره كهدايته أي مولداً لهدايته لنا ثم قال: (وإن كنتم)، أي وإنكم كنتم قبل لضالين، وإن محققة من الثقيلة بدلالة- دخول اللام معها، والضلال هاهنا الجهل بالمعارف الحقيقية نحو: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}.

(199)

قوله - عز وجل -: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية: (199) - سورة البقرة. روي أن قريشاً لم يكونا يقفون مع الناس بعرفة ولا يبيتون بالمزدلفة ويقولون: " نحن أهل حرم الله "، وكانوا يقفون دون عرفة فأمرهم الله تعالى أن يفيضوا مع سائر الناس، قاله ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، والحسن، وقيل: إنه أمر جميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، أي إبراهيم، وسماه " الناس " والناس تستعمل على ضربين، أحدهما: للنوع من غير اعتبار مدح أو ذم، والثاني: للمدح اعتبارا بموجود تمام الصورة المختصة بالإنسانية، وليس ذلك في هذه اللفظة فقط، بل في اسم كل جنس ونوع، نحو: هذا فرس، وفلان رجل، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل، أي ليس فيه معناه الخاص بنوعه، وبهذا النظر نفى السمع والبصر عن الكفار، فعلى هذا سمى إبراهيم الناس على سبيل المدح [على وجه أخر] وهو أن الواحد يسمى باسم الجماعة تنبيهاً أنه يقوم مقامهم في الحكم، وعلى هذا قول الشاعر: ويرى فيحْسبُهُ القتيلُ قتيلاً ... وقال: تستجمعي الخلقَ في تمثالٍ إنسانٍ

وقال: وليسَ من الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد وعلى هذا قال تعالي: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}، وقوله: {مِنْ حَيْثُ} أي من عرفَةَ، وقيل: من المزدلفة، وهو أقرب، لأن بعده: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}، والاستغفار، والتوبة، والإنابة، والأوبة تتقارب، لكن الاستغفار [طلب] غفر الذنب، والتوبة تركه، والإنابة: الرجوع عن الضلال إلى الهدى، والأوبة رجوع القلب إلي الله تعالى، وهذه المعاني وإن كانت متلازمة، فألفاظها اختلفت لاختلاف النظرات، فأمر تعالى بالاستغفار له عن الاشتغال بغيره من أمور الدنيا، وبين أن الله تعالى غفور للمطيعين، رحيم بالعاصين، يدعوهم برحمته إلي بابه، ويرغبهم في جزيل ثوابه ...

(200)

قوله - عز وجل -: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} الآية (200) - سورة البقرة. القضاء: فصل الأمر، والنسك أخذ النفس ببلوغ غاية العبادة، واختص في تعارف أهل الفقه بعمل الحج وبالذبيحة حتى سميت نسيكة، كما سميت قرباناً، وقولهم: إذا فعلت كذا فافعل كذا، يقال على ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون " افعل " أمراً بما تقدم فعله نحو، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} الثاني: أن يكون الأمر بشيء هو من أبعاض ذلك الفعل وفي أثنائه، نحو: " إذا صليت فاركع واسجد "، والثالث: أن يكون بعده، نحو: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} والآية، محمولة على ذلك تنبيها ففي ابتداء النسك ذكر، وهو التلبية وفي أثنائه ذكر، وهو عند المشعر والطواف، وفي انتهائه ذكر، وهو شكر الله- عز وجل- وذكره عند طواف الوداع، ولما كان الذكر ذكرين، ذكر بالقلب، وذكر باللسان تتناولهما الآية، ولما كان الإنسان لا يتشكك في أن أباه أحد أسباب وجوده، وأنه منه أوجد ولا ينسى ذكره في شيء من أحواله، وكانوا يتبجحون بمكانه، ويفتخرون بكونهم عنه، أمروا أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم وأن يتحققوا أنه تعالى سبب وجودهما، بل سبب وجود آبائهم، وأن يفتخروا به كافتخارهم بآبائهم، وقد روي أنهم كانوا يفتخرون بأبائهم بعد فراغهم من حجهم، فأبطل الله ذلك، وعليه نبه النبي ... بقوله: " إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، فالناس من آدم، وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى "، ثم تلا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ...

وقوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} تنبيه أنه إذا كان الأب يذكر لأنه سبب ما لوجودكم، فالباري- عز وجل- أولى بأن يذكر .. إن قيل: كيف خير بين أن يذكر كل كر الآباء وبين أن يذكر أشده ذكراً؟ قيل: لفظ أو وإن كان للتخيير، فمقتضى الكلام على إيجاب أن يكون ذكره أشد، لأنه لما نبه علي موضع نعمتهما أعنى نعمة الأب ونعمة الله- عز وجل- وشكر المنعم بقدر عظمة نعمته، وقد علم فضل نعمته تعالى على فضل نعمة الأب، فصار ذلك منبها أن ذكر الله أوجب وقوله: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا} إشارة إلى ما روي أنهم كانوا يقولون: " اللهم أكثر مالنا، وأولادنا وأنزل الغيث علينا، وأنبت مرعانا "، ولا يسألون شيئاً من أمور أخرجهم، وإنما سألوه الدنيا دون الآخرة، لأنهم عرفوها ولم يعرفوا اللآخرة، وكيف يسال الآخرة من لا يعرفها؟، وكيف يعرفها من لم يتحقق كونها؟، وكيف يتحقق كونها من لم يبصرها؟ أي لم تدركها بصيرته؟ وليس يعني بقوله: (يقول) التفوه بذلك فقط، بل صرف العناية إليها والاهتمام بها، والخلاقُ نصيب الإنسان من أفعاله المحمودة التي تكون خلقاً له، وذلك أن الفعل قد يحصل من الإنسان تخلفاً، وقد يحصل منه خلقاً وهو المحمود، وفي قوله: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} تنبية أن الأريحية لهم صادقة صادرة عن أخلاقهم ..

(201)

قوله - عز وجل -: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الآية (201) - سورة البقرة. لما أجرى الله تعالى العادة أن لابد للإنسان من أخيارهم وأشرارهم من بلغه في الدنيا، صار المؤمن يطلبها كما يطلبها الكافر، لكان طلب المؤمن لها علي سبيل الغرض قدر ما يحس، وفي وقت ما يحسن، ولأجل الحاجة إليها .. قال بعض الصالحين: " اللهم وسع الدنيا عليّ، وزهذني فيها، ولا تضيقها عليَّ فترغبني فيها ". فقوله تعالى: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي مالا يستقبح عاجلاً وأجلىً ويكون ذريعة إلى المقصد، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} أي ثواباً ورحمة وعلى هذا قال الحسن الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار. قوله- عز وجل -: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} الآية: (202) - سورة البقرة. النصيب في الأصل: المنصوب، وجعل السهم المقرر نصيباً، والنصب: رفع الشح، وبه سمي النصب، وإنصاب الحرم، ونصاب السكين، وفلان في نصاب صدق تشبيهاً بنصاب السكين، ونسب الحروف في الإعراب، ونصب الستر على التشبيه، والحساب: عنه استعير الحسبان المقارب لمعنى الظن، وحسب الذي هو معنى الكفاية بين تعالى أن من جمع بين طلب دنياه وأخراه، ولم يقتصر على طلب الدنيا الموصوفة. بقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية، فقد تناول نصيبه المأمور به في قوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، ولم يكن كمن قال فيهم:

(203)

{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، ولما كان الحساب يكشف عن مجمل الشيء وتفصيله، نبه بذلك على إحاطته بأفعال عباده ووقوفه على حقائقها، وذكر " السريع " تنبيهاً أن ذلك منه، لا في زمان ولا بفكره، وذلك أبلغ ما يمكن أن يتصور به الكافة سرعة فعل الله عز وجل. قوله- عز وجل -: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الآية (203) - سورة البقرة. الأيام المعدودات عند الشافعي- رحمه الله- ثلاثة أيام بعد النخر، والمعلومات عشر ذي الحجة، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله- في إحدى الروايتين: المعدودات يوم النحر، ويومان بعده، فيوم النحر عندهما من المعلومات ومن المعدودات جميعاً، وقائمة الخلاف أن عند مالك لا يجوز النحر ثالث أيام التشريق والحشر: ضم المتفرق وسوقه، يقال: حشرتهم السنة: أي ضمتهم من النواحي إلى الحضر، واختص حشرات الأرض بصغار الدواب وسهم حشر مضموم العدد، وكذلك أذن حشر ورفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة وقيل: معنى رفع الإثم إنه خط ذنوبهما بإقامتهما الحج تعجل أو تأخر بشرط أن يكون متقياً- تنبيها أن الاعتبار بالتقوى فقط، وعلى ذلك دل قوله- عليه السلام- " من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمة " ثم قال: (واتقُو الله) متحققين أنكم إليه راجعون، وعلى أعمالكم محاسبون ...

(204)

قوله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} الآية (204) - سورة البقرة .. التعجب حيرة تعرض للإنسان عن جهل سبب الشيء وليس هو شي ماله في ذاته حالة، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب وإلى من لا يعرفه، ولهذا قال قوم كل شيء عجب، وقال قوم: لا شيء عجب، وحقيقة أعجبني كذا، أي ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه، والألد المايل اللديد، أي صفحة العنق، ثم يعبر به عن المتكبر كالمتصلف أي المشتكي صليفه والأصيد للبعير الذي به الصد، ولهذا قال الشاعر: ويقًيِمُ سالفَة العْدُوَّ الأُصْيدِ وقال: إن الكريمٍِ منْ يلفتُ حَوْلهُ ... وإن اللئيم دائمُ الطرفٍ أقوَدُهَّ واستعير الألد للجدل الذي لا يمكنه صرف رأسه عما عض عليه، ولما كانت الدنيا والآخرة كالمتضادين حتى قال أمير المؤمنين: [أزنها بكفتي ميزان] لا ترجع إحداهما إلا بنقصان الأخرى، وقال: قرة كالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فمن حذق في إحديهما خرق في أخرى، ولهذا قال عليه السلام في اعتباره بأهل الدنيا: " أكثر أهل الجنة البله "، وقال في اعتباره

(205)

بأهل الآخرة: " ألكيسُ من دان نفسه .. " نبه أن من الناس من إذا صادفته وجدته معجباً لك في أمور دنياه، وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} الآية ... ويحلف بأن قلبه [مطمئن بالإيمان] ومطابق للسانه وهو يجادل في ذلك ويخاصم، وقوله تعالي {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} إشارة إلى نحو ما وصف به المنافقين، حيث قال قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}. قوله- عز وجل -: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} الآية (205) - سورة البقرة. السعي: مشي سريع، ومنه قيل السعي بين الصفا والمروة، فجعل مستعاراً للتصرف، ولأجله قيل لجابي الصدقة ساع، وقيل للوقيعة في الغير سعاية، وذلك كاستعارة المشي لهما في قوله {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} والنسل: مصدر نسل إذا خرج منفصلاً ومنه: نسل الوبر والريش. والنسالة للساقط منه، ونسل إذا أسرع، قال تعالى: {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}، وسمي الولد نسلاً لكونه ناسلاً عن أبويه بين تعالي حال هذا المعجب في الدنيا المرائي المجادل بأنه إذا تولى عمن يرائي سلي في الإفسال وإهلاك الحرث والنسل وذلك معاندة لله فيما حث عليه في قوله:

(206)

{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، وما دل عليه قول النبي- عليه السلام- لما خلق الله المعيشة جعل البركة في الحرث والنسل، ولجأ أن من فعل ذلك فإن الله لا يحبه، أي لا يرضى فعله .. إن قيل: كيف حكم تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو مفسد للأشياء؟ قيل: الإفساد في الحقيقة إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، ولا هو أمر به ولا محب له، وما يراه من فعله، [ويظهر بظاهره] فسادا فهو بالإضافة إلينا ولاعتبار ما، فأما بالنظر الإلهي فكله صلاح، ولهذا قال بعض الحكماء: " يا من إفساده إصلاح "، أي ما نظنه إفسادا لقصور نظرنا ومعرفتنا فهو في الحقيقة إصلاح وجملة الأمر أن الإنسان هو زبدة هذا العالم، وما عداه مخلوق لأجله، ولهذا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، والمقصد من الإنسان سوقه إلى كماله الذي رشح له، فإذن إهلاك ما أمر بإهلاكه فلإصلاح الإنسان، وأما أمانته، فأحد أسباب حياته الأبدية، ولشرح هذه الجملة موضع أخر من التفسير .. قوله - عز وجل -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الآية (206) - سورة البقرة. المهد معروف، وتصور منه التوطئة، فقيل لكل وطيء مهد، والمهاد جعل تارة جميعاً للمهد، وتارة اسمه للآلة، نحو فراش، وجعل جهنم مهادا لهم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقوله: بالإثم أي سبب الإثم وقيل: دعته العزة إلى أن يأثم، كقوله: أخدني بفعل

(207)

كذا، أي بأن أفعله وبين أن جهنم نصيبه الكافي جزاؤه الوافي، ثم دل على حال جهنم بقوله: {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} ... قوله - عز وجل -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} الآية (207) - سورة البقرة. يشري يبيع ويشتري، وقد تقدم حقيقته، وحقيقة البيع والناس علي أضرب ضرب باع نفسه من الشيطان بالشهوات، فصار علقاً كل يده لا سبيل إلي الانفكاك منه، وهم المعنيون بقوله: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، وضرب وقع أسر الشريطان عليه، فاجتهد في تخليص نفسه منه وهو المعنى بقوله- عليه السلام: " الناس عاديان، فبانع نفسه فموبقها، ومبتاع نفسه فمعتقها "، وضرب لم يقع عليه أسر الشيطان، وقد باع نفسه من الله- عز وجل، وهو المعنى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، وبين تعالى كيف اشترى أنفسهم بقوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فقول: {يَشْرِي نَفْسَهُ} يتناول ضربين: المخلص نفسه

من أسر الشيطان، ومن باع نفسه من الله فإذن يشري نفسه للأمرين، والشراء والبيع في مثل هذا الوضع كالرمز والإشارة، وحقيقتهما وقف الإنسان نفسه على مرضاة الله - عز وجل-، والتحري في مصالح عباده، وقيل. إنها نزلت في صهيب بن سيار، وكان قد أخذه المشركون، وقتلوا بعض من كان مده، فقال صهيب: أنا شيخ لا أنفعكم إن كنت معكم، ولا أضركم إن كنت عليكما فخذوا مالي وخلوا سبيلي، ففعلوا فلما ورد المدينة قال له أبو بكر: ربح بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونبه بقوله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، أن الإنسان في بيع نفسه منه تعالى يدخل في ملك من هو أرأف به من نفسه أولى به من ذاته ..

(208)

قوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} الآية (208) - سورة البقرة. عنى بالسلم سلم العبد الله - عز وجل، وذلك أن الإنسان في كفره، وكفران نعمة الله كالمحارب له، ولهذا يسمى الكافر المحارب في نحو قوله: {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وسلم العباد لله على ثلاثة أضرب، ضرب يتقدمه إلى الإيمان وهو الإسلام الذي سلم به من الله أن يراق دمه ويسلب ماله وهو المغني بقوله- عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ". واثنان بعد الإيمان، أحدهما أن يسلم من سخطه بارتسام أوامره وزواجره طوعاً أو كرهاً، والثاني: أن يكون سليماً من الشيطان وأوليائه، وسليماً فيما يجري من قضائه، وبه يحصل [دار السلام المذكورة في قوله تعالى]: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} وهذا غاية ما ينتهي إليه للعبد من المنازل الثلاث وإن كان لكل منزلة منها درجات، وهذا السلم هو المغني بقوله تعالى: {}، وبقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ

(209)

الْإِسْلَامُ}، وهو الذي تمناه يوسف عليه السلام- بقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وقوله: {كَافَّةً} حال للمخاطبين، أو للسلم وقد تقدم الكلام في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}. ونبه أن اتباع الشيطان خروج عن السلم، ونبه على معاداة الشيطان وأن عدواته لا تخفى، وهذا المعنى قصده الشاعر في وصف الدنيا. إن الليالي والأيامَ لوْ بَحثَتْ عنْ عيبِ نفسهِمِا لمْ تكَتُم الخبَرا. قوله- عز وجل -: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآية (209) - سورة البقرة. زل وزال يتقاربان، ولكن زال أبلغ، ولفظ البينات عام فيما حولنا من المعارف العقلية والسمعية، والنهي عن الزلة والقصد إلى الفعل الذي يحصل عنده الزلة، إذ الإنسان لا يقصد أن يزل، وعلى هذا إذا قيل: " لا تصلوا "، ونبه بقوله {بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أن أعظم الذنبين ما كان بعد المعرفة والبينة، وفي هذا تحذير لمن يبصر عن ركوب ذنب فكأنه قيل: إذا أردتم ذنباً فاذكروا عز الله وحكمته، [ففي العلم بعزه علم بقدرته على عقاب المذنب]، وفي العلم بحكمته علم بأنه غير ظالم في عقابه وفي العلم بهذين انزجار سكن ارتكاب الذنب.

(210)

قوله - عز وجل -: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} الآية (210) - سورة البقرة. قد تصور بعض. الناس مالا يليق بصفات الله تعالى في لفظ المجيء والإتيان الذي وصف الله - عز وجل به بنفسه في هذه الآية وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} وقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}، وقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، وذلك لأمرين، أحدهما لقصورهم عن معرفة البارئ عز وجل، والثاني: لضيق مجالهم في مجاري الألفاظ ومجازها، وليس يقال الإتيان والمجئ لانتقال الحي المتحرك من مكان إلى مكان فقط، بل قد يقال لقصد القاصد بعنايته أمراً يستصلحه كقوله: أتيت المروة من بابها، [ويقال أيضاً] لاستيفاء فعل يتولاه، كقولك: أتيت على ما في الكتاب، [وقد يقال أيضا] لفعل يفعله على يد من يستكفيه [كقولك إن الأمير ناحية كذا بجيش عظيم، ومنه {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} ولما جرت العادة أن الرئيس يتولى الأمير بمن يستكفيه] تارة وبنفسه تارة، وأن لا يتولى بنفسه إلا ما كان أكبر وأعظم، فلما أراد الله تعالى أن يبين العذاب الذي لا غاية وراءه جعله منسوباً إلى نفسه وإتياناً له، وعلى هذا النحو جعل كل يستعظمه فعلاً له نحو خلق أدم بيده، وعلى هذا قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، ووجه آخر، قد أشير إليه في صدر الكتاب، وهو أن الفعل كما ينسب إلى المباشر له ينسب إلى ما هو سببه ومسهلة، نحو أن يقال: {الرحمن علم}، وإنما علمنا من علمه النبي، وعلم النبي جبريل، وجبريل علمه الله عز

وجل- فصح أن ينسب إليه، ولهذا قد ينسب فعل واحد تارة إلى الله عز وجل-، وتارة إلى غيره، نحو: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}،، فإن قيل: هل يجوز على هذا القياس أن يقال شيء إذا عنى به عبداً؟ قيل؟ نحن إنما أجزنا إستعمال ما استعمل فيه تعالى لورود السماع به، ولولا ذلك لنزهناه عن كل وصف يطلق على البشر تفادياً من وهم بشبيه، وقوله: (وقضي الأمر) تنبيهاً أنه حينئذ لا يمكن تلافيه، وأكد ذلك بقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. أي ما قد ملكه عباده في الدنيا من الملك، والملك والتصرف مسترد منهم يوم القيامة، وراجع إليه، ويقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي استرد ما كان فوضه إليه، وقيل: عنى بالأمور الأرواح، وسماها أموراً من حيث إنها من الإبدعات المشار إليها بقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وقال: ولهذا لما سئل سكان الروح قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، أي هو من الإبداع الذي لا يمكن للبشر تصوره، فنبه أن الأرواح كلها مرجوعة إليه وراجعة، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وعلى ذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، ويكون رجوعها إنما بربح وغبطة، وإما بندامة وحسرة إلى أن ينشئها النشأة الأخرى على ما قضاه تعالى، وقوله: {ظُلَلٍ} جمع ظلة، يقال ظله وظلل وظلال، نحو خُلة وخلل وخلال، والإشارة بهدف إما إلى أمطار عذاب، كعارض عاد المذكور في قوله: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، أو إلى أهوال القيامة، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} على طريق التهديد والوعيد ...

(211)

قوله - عز وجل -: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآية (211) - سورة البقرة. نبه بلفظ {كَمْ} على كثرة ما آتاهم من الآيات، ودل بقوله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} على إضمار بدلوا، وعلى هذا إن الحكم ليس مقصوراً عليهم، بل هو عام فيهم وفي غيرهم، ودل بقوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ} أن الآية من جملة نعمته، بل هي من أعظم النعم، وبقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} على نحو ما دل عليه قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} وتقدير الكلام: آتيناهم آيات هي بنعم، فبدلوها ومن يبدل نعمت الله بعد اختصاصه بها عاقبه الله عقاباً شديداً فإنه شديد العقاب، فإذن بعقاب بني إسرائيل ومن فعل فعلهم، فإنه يعاقبهم كما عاقبهم. قوله- عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الآية (212) - سورة البقرة. التزيين التحسين المدرك بالحس دون المدرك بالعقل، ولهذا جاء في أوصاف الدنيا دون أوصاف الآخرة، نحو: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}، واختلف في هذا التزين، فمنهم من قال الله زينه لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}، ومنهم من قال: الشيطان زين لهم لقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وروي عن الحسن: الشيطان زينها ولا يعلم أحد أذم لها ممن خلقها أو وصفها بأنها متاع قليل وأنها متاع الغرور وجمع بعض الملاحدة بين هذه الآية

وأخواتها وزعم أن ذلك من الآيات المتناقضة في القرآن، لأنه قال مرة: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ}، فقال: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ}، وقال في آية أخرى: {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}، فنسبه إلي نفسه، وتارة ذكر أنه قيض لهم من زينها لهم، وذلك قوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}، ووهي ما ادعاه لا يخفى على ذي بصيرة، لكن بيانه يحتاج إلى مقدمة، فنقول وبالله التوفيق: إن الله- عز وجل خلق الإنسان وجعل له سبيلاً إلى بقائه بشخصه زماناً ما، وتنوعه مدة ما، وركب فيه شهوة تشوقه إلى الغذاء والجماع اللذين هما سببا البقاءين، فهذا هو تزين الله عز وجل- وأمره باستعمالها حسب ما تأمره الشريعة فيها يؤدي به إلى سعادته في الآخرة على ما ينبغي، وبقدر ما ينبغي، ومن عشقها بإفراط، استحوذ الشطيان عليه وأعماه عن قبح المستقبح منه، وذلك قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} وأما قوله تعالى {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [وقوله تعالى] {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}، فالتزيين في الآيتين يحتمل وجهين أحدهما أن الذي زينه هو المشروع لهم، والثاني: أن الذي زينه هو الشهوة لكن على أن يأخذ بقدر ما يجب، وفي وقت ما يجب، لا أن يجعلها مقصده ووجه أخر في الآية، وهو: الحياة حياتان، حياة ذاتية دنيه وهي الحياة الدنيا ودناءتها لما وصفها الله تعالى بقوله {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}

الآية .. ، وحياة متأخر سنية وهي الموصوفة بقوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} والثانية: لا يعرفها إلا الذين اتقوا، فأما الذين كفروا فلا يعرفون إلا الحياة الدنيا ويجحدون الآخرة ويسخرون من الذين يؤمنون بها، فبين الله تعالى أنهم وإن سخروا من الذين آمنوا، فالذين آمنوا فوقهم، ومعنى {فَوْقَهُمْ} قيل هو كقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} وذلك يحتمل وجهين، أحدهما أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا، والثاني: أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، وأن الكفار في الدرك الأسفل من النار وقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي كفى ما يستحق بلا إفراط ولا تفريط، " وأعطاه بغير حساب " إذا أعطاه أكثر مما يستحق وأقل مما يستحق والأول هو المقصود هاهنا، وهو المشار إليه بالإحسان، وقد فسر ذلك على أوجه لاحتمال اللفظ، وإيهامه الأول يعطيه [عطاء] أكثر مما يستحقه، الثاني: يعطيه ولا يأخذ منه، الثالث: يعطيه عطاءً لا يحويه حصر العباد، لقول الشاعر: عطاياهُ تحْصَى قبل إحصائها القطرُ الرابع: يعطيه بلا مضايقة، من قولهم: حاسبته أي ضايقته، الخامس: يعطيه أكثر مما يحسبه أي يكفيه، وكل هذه الوجوه تحتمل أن يكون ذلك في الدنيا وفي الآخرة، السادس: إن ذلك إشارة إلى توسيعه على الكفار والفساق الذين قال فيهم: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} تنبيهاً أن لا فضيلة في المال، ولا إكرام لمن يوسع عليه ما لم

يستعن به في الوصول إلى المطلوب منه، ولهذا قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} الآية ... ولهذا قال أمير المؤمنين: " من وسع عليه في دنياه فلم يعلم أنه مكر به فقد خدع عن عقله ". السابع: يعطي أولياءه بلا تبعه ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذاك أن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا من حيث يجب، وفي وقت ما يجب وعلى الوجه الذي يجب، ولا ينفقه إلا على ذلك، فهو يحاسب نفسه فلا يحاسب، ولهذا ما روي: " من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في القيامة "، وعلى هذا قال لسليمان: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: تحر فيما أعطيناك الوجه الذي لا تبعة فيه عليك ولا حساب، الثامن: أن الله عز وجل- يقابل المؤمني في القيامة لا بقدر استحقاقهم، بل بأكثر منه كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}. التاسع: وهو يقارب ذلك إن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا خطر عليهم، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، وقوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وأما تعلقه بما تقدم، فعلى بعض هذه التفاسير يتعلق بالذين كفروا، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا ..

(213)

قوله - عز وجل -: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الآية (213) - سورة البقرة. قال ابن عباس وأبي والسدى: " كانوا أمة واحدة في الإيمان " وقال غيرهم: " في الكفر "، وهدا الخلاف لاختلاف نظرين لابد فيهما من مقدمة تنكشف بها أوجه الخلاف، وتحقيق التأويل، وهي أن الله - عز وجل - فطر الناس فطرة ركز فيها رؤية يعرف بها بعض الأشياء اضطرارا، ومكنه أن يعرف بها البعض اكتسابا، وحبب إليه ما لم يفسد الحق من الاعتقاد دون الباطل والجميل من الفعال دون القبيح والصدق من المقال دون الكذب وإلى ذلك أشار بقوله - عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وبقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} وبقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، وبقول النبي - عليه السلام -: " كل مولود يولد على الفطرة "، ولم يخلهم في وقت من نبي يشحذ عقولهم ويعرفهم ما لا سبيل لهم إلى معرفته من دونه، وكان كلما

تختل أحوالهم بعد خروج نبيهم من بينهم، إما أن يقيض لهم من يجدد عليهم شريعتهم السالفة، أو يبعث إليهم نبيا يأتيهم بشريعة مستأنفة، وهذا كان فعله إلى أن ينتهي الأمر إلى نبينا - عليه السلام -، فختم به الأنبياء، فمن قالوا: كانوا أمة في الإيمان، فنظر منه إلى المبدأ وحال الفطرة وما كانوا عليه قبل أن فسدوا، ومن قالوا: كانوا أمة واحدة في الكفر، فنظر منه إلى حين فسادهم، كما بين زمن بعثة نوح وبعثة إبراهيم - عليهما السلام، وكل واحد من القولين صحيح بنظر ونظر، فقد كانوا أمة واحدة في الإيمان طوراً، وأمة واحدة في الكفر طوراً .. إن قيل: كيف كانوا أمة واحدة في الكفر وقد قيل: لا تخلو الأرض من حجة الله؟. قيل إن من كان حجة الله - عز وجل - في مثل ذلك الوقت في حكم من لا اعتداد به في كونهم أمة لعلة الإصغاء إليه، وبين تعالى أنه بعث أنبياءه مبشرين للمحسنين ومنذرين للمسيئين، ولم يخل أحدا من أنبيائه من كتاب يرشده ويرشدهم، إن قيل: أليس قد قلتم: لم ينزل الكتاب من النبيين إلا على جماعة منهم؟ قيل: إن الله - عز وجل - لم يخل أحدا من الأنبياء من كتاب، إما كتاب خص هو به، وإما كتاب من كان فبله أمر بالاعتماد عليه، كالأسباط الذين كانوا أنبياء، وكتابهم كان التوراة، وعطف قوله {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} على قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ}، وفصل بينهما بذكر اختلافهم، وأنهم لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات ذما للمختلفين، فإن من شأن البينات أن ترفع الخلاف، وعلى هذا قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} الآمة .. وبين سبب اختلافهم بقوله الله عز وجل - بغياً بينهم تنبيها أن ذلك كان لطلبهم زخرف الدنيا ومنازلها، فمن المفسرين من جعل قوله: (الذين أوتوا الكتاب) مخصوصا في بني إسرائيل والذين آمنوا في هذه الأمة، لقوله: {وَلَا تَكُونُوا

(214)

كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُا}، وقول النبي - عليه السلام: " هدانا الله لما اختلفوا فيه "، ومنهم من جعله عاما في جميع الأمم، وقوله بالحق، أي بما يسمى من الثواب والعقاب، وقيل بالأمر والنهي وكلاهما مرادان، فالكتاب مشتمل على كل ذلك، وقوله: (بإذنه) أي بعلمه، وقيل: بأمره، وقيل: بلطفه، والأذن لما يسمع، ويعبر به عن العلم إذ هو مبدأ العلم فينا ... إن قيل: كيف قال: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وذلك يقتضي أنه هدى بعضاً دون بعض، وحق جوده وكرمه أن يعمهم بالهدى؟ قيل: إنه قد عمهم من حيت قد أباحه لهم وقيضه، لكن لم يهتد به الكل، فإن هدايته لا يدركها إلا من جلى بصيرته، وشحذ فهمه ليعرفه، فيهتدي به، وقد قال بعض الصالحين: ما أكثر الهدى وأقل من يرى، ألا ترى أن نجوم المساء ما أكثرها، ولا يهتدي بها إلا العلماء؟ قوله - عز وجل -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} الآية (214) - سورة البقرة. الزلزلة: شدة الحركة، وأصلها زل، ولزيادة المعنى زيد لفظه، وعلى هذا دل ودلدل، وما أشبهه به من المضعف مع الحرف المكرر بين تعالى أنه لا سبيل للناس كافة إلي الجنة إلا بتحمل المشاق، ولهذا

ولهذا قال عليه السلام: " حفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات "، فخاطب هذه الأمة بأنه محال أن ترجو تحصيل الجنة إلا بما جرى به حكم الله في الذين سلفوا، وهو أن تنالكم البأساء أي الفقر، والضراء أي المصائب، والزلزلة أي المخاوف، وبذلك أثنى على المؤمنين فقال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وليس ذلك في الأمور الإلهية فقط، بل في عامة الملاذ لا سبيل إلى منحة إلا بمنحة، ولا إلى لذة إلا بشدة. ولهذا قيل: ولابْد دُون الشهدِ من أثرِ النحلِ. وقوله: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}، قيل معناه: " حتى يقول الرسول والمؤمنون متى نصر الله " على سبيل الإبطاء، ثم تل تداركوا، وعادوا إلى معرفتهم، فقالوا: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [قيل ليس ذلك على سبيل التضجر، بل على سبيل الدعاء والتضرع إخباراً منه تعالى على سبيل الآية لهم على سبيل الحكم، وقيل تقديره وزلزلوا حتى يقول الأتباع متى نصر الله، ويقول الرسول " ألا إن نصر الله قريب "] فجمع بين قولهم، كقولك: قال زيد وعمر وكذا وكذا الشيئين أحدهما قاله زيد والآخر قاله عمرو، وقرئ: (حتى يقول) بالرفع والنصب، ولكل واحد وجهان فأحد وجهي النصب معناه: إلى أن، والثاني معناه: كي يقول، وأحد وجهي الرفع أن يكون الفعلين ماضيين نحو: " مشيت حتى أدخل البصرة "، أي مشيت فدخلت والثاني: أن يكون ما بعد حتى لم يمض نحو: " مرض حتى لا يرجونه ".

(215)

قوله - عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} الآية (215) - سورة البقرة لما أثنى الله في غير موضع على المنفقين وحث على الإنفاق، نحو قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} سألوا عنه ههنا -، إن قيل: ليس جوابهم طبقة لسؤالهم فإن سؤالهم عما ينفق، والجواب عمن ينفق عليه قيل: في ذلك جوابان، أحدهما أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ينفق؟ وعلى من ينفق؟ ولكن حذف في حكاية السؤال أحدهما إيجازا، ودل عليه الجواب بقوله: {مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}، كأنه قيل: المنفق هو الخير، والمنفق عليهم هؤلاء، فلفف أحد الجوابين في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة، والجواب الثاني أن السؤال ضربان سؤال جدل وحقه أن يطابقه جوابه لا زائدا عليه ولا ناقصاً عنه، وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يصير فيه كطبيب دقيق يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه طلبه المريض، أو لم يطلبه فلما كان حاجتهم إلي من ينفق عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق بين لهم الأمرين، إن قيل: كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم؟ قيل: إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم لا على سبيل الحصر والاستيعاب، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكرهم في غير هذا الموضع، ولما كان المندوب إلى الإنفاق عليهم صنفين صنف لهم فرض معين في مال الأغنياء، وصنف لا فرض لهم معيناً ذكر الأبوين والأقارب تنبيها أن حقهم واجب، وقوله: {مِنْ خَيْرٍ} أي من مال، فسمي المال خيرا تنبيها أن الذي يجوز إنفاقه هو الحلال الذي يتناوله اسم الخير، كما قال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} ثم بين تعالي أن كل ما يفعلونه لا يخفى عليه على الوجه الذي يفعلونه، [تنبيها أنه يجازى به] نحو قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

(216)

قوله - عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الآبة (216) - سورة البقرة الكره في الإنسان يستعمل على ضربين، أحدهما ما يعاف من حيث الطبع، والثاني ما يعاف من حيث الفعل وإن مال إليه الطبع، ولهذا يصح أن يوصف الشيء بأنه مراد مكروه، والكره والكره قيل هما واحد في معنى نحو الضعف والضعف وقيل بل الكره المشقة التي يحمل عليها الإنسان بإكراه، والكره ما يتحمله بلا إكراه، من غيره، وقيل للحرب كريهة ... وعسى طمع وإشفاق، وقد يجري مجرى لعل، ويقال: هو عس بكذا، أي جدير، وأعس به، وسمي الإبل التي لا ألبان بها، وفيها طمع المعسيات من حيث أن يقال عسى أن يكون بها لبن والقتال المكتوب من حيث الظاهر مجاهدة الكفار، وقيل: عني مع ذلك مجاهدة النفس إلى الشهوة، وهي التي سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - الله " الجهاد الأكبر "، ونبه بقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا} بألطف وجه على أن ما كتب عليهم من القتال خير لهم بأوضح الأدلة وهي أنه إذا جاز أن يكون منكم كراهية لأمر وفيه الخير، فيجوز أن يكون كراهتكم لما كتب عليكم من القتال كذلك، وإذا جاز أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، فيجوز أن تكون محبتكم لما أحببتموه شراً، ثم نبه أن هذا الجائز كونه عندكم هو واجب كونه في نفسه بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أي إذا كان الله - عز وجل - يعلم وأنتم لا تعلمون، وقد قضي بأن ذلك خيرا، فإنما قضي به لأنه خير، وإذا كان خيرا فيحبب أن تحبوه، ولا تكرهوه، فالخير يجب إرادته، والشر يجب كراهته، وعلى نحوه دل قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}

(217)

وإياه قصد الشاعر: قضى الله في بعِض المكارهِ للفْتَىَ ... برُشدٍ وقي يعضِ الهَوَى مَأ يُحَاذِرُ .. قوله - عز وجل -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية (217) - سورة البقرة. الصد ناحية الشعب، والوادي المانع للسالك وصده عن كذا، كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدأ يمنعه، والصديد ما حال بين الجلد واللحم من القيح والدم، وقد تقدم أن زل وزال يتقارب لما كان الزوال معناه للنفي ضم إليه (ما) النافية، فصارا معا للإثبات، ولهذا لا يصح أن يقال: (مازال زيد إلا خارجأ)، كما يقال: (ما كان إلا خارجاً)، والحبط فساد يلحق الماشية في بطونها من أكل الكلأ، واستعير لفساد العمل، والسائل على ذلك قيل أهل الشرك قصدا إلى تعبير المسلمين مما استجازوه من القتل في الشهر الحرام وقيل: هم أهل الإسلام. إن قيل: ما فائدة ذكر الشهر ثم إبدال القتال منه ولم يقل: يسألونك عن قتال في الشهر؟ قيل: في ذكر الشهر أولاً، ثم إبدال القتال منه ولم يقل: (يسألونك عن قتال في الشهر) قيل: في ذكر الشهر أولاً بنية أن السؤال عن القتال لأجل الشهر لا لغيره، ولو قيل: (يسألونك عن قتال الشهر) لكان يصح أن يفيد أن الغرض في السؤال عن القتال لا لتعظيم الشهر، بل لشيء آخر، وعلى هذا إذا قيل: " سُرق

زيد ثوبه " تنبيها أن المقصد أن يذكر حال زيد، لا أن يخبر بسرقة ثوب ما ... إن قيل: لم لم يقل: القتال فيه كبير، وشروط النكرة المذكورة إدا أعيد ذكرها أن يُعاد معرفاً نحو سألتني عن رجل، والرجل كذا وكذا؟ قيل: في ذكره منكرا تنبيه أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه، فإن قتال النبي- عليه السلام- لأهل مكة لم يكن هذا حكمه، وقد قال: " أحلت لي ساعة من نهار). وقوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} معطوف على قوله: {عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} فأعلم تعالى أن بعض القتال فيه كبير {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تنبيه أنه على الوجه الذي يفعله الكفار صد عن سبيل الله، أي عن دينه وعن نبيه، وأكثر منه عند الله وأعظم إخراج أهل المسجد [يعني]. والمؤمنين الذين هم أولياؤه، وعلى ذلك دل بقوله لهم: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ}، ثم بين أن النبي- عليه السلام- وأمته هم أولياؤه بقوله: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}، وفي ذلك تنبيه أن قتال المسلمين وقتلهم فيه ليس بكبير ولا صد سكن سبيل الله عز وجل، وبين أن الفتنة أكبر من القتل، وقد تقدم الكلام فيه، وأنه لا يرضيهم إلا ارتداء كم، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، ونبه بقوله: {إِنِ اسْتَطَاعُوا} أنهم لا يردونكم، لأنهم لا يستطيعون، وذلك نحو قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وعقب دلك بوعيد من يرتد، فمات على حالته، وإن أعماله المتقدمة المعمولة في سبب الدنيا والآخرة تبطل وتضمحل كما قال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}.

(218)

قوله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية (218) - سورة البقرة. الهجر. مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن أو بالنسيان والقلب، والهاجرة الساعة التي تمنع عن السير كأنها هجرت الناس بحرها، والهجار حبل يشد به الفحل، فيصير سبباً لهجرانه الإبل، وجعل بناؤه على بناء الآلات، كالعقال والزمام، والهجر: الكلام المهجور لقبحه، وقيل: هجر فلان إذا هدى عن قصد واهجر المريض إذا هذي عن غير قصد والجهد: تحمل المشقة ومجاهدة العدو ومقاومته ببذل الجهد، وجهدت رأيي واجتهدته أتعبته بالفكر والنظر، والرجاء الوقوف على رجاء الأمل، أي ناحيتها حيث ما يتردد بين الأمل واليأس لما بين الله تعالي وجوب المقابلة ونهى عن تضييع الشهر الحرام والمسجد الحرام. وعن تهييج الفتنة نبه على فضل من هاجر وجاهد في سبيل الله محافظة على ذلك، فمن المفسرين من حمل المهاجرة على مهاجرة الأهل والولد، كهجرة النبي- عليه السلام- وأصحابه والمجاهدة على الغزو، ومنهم من قال: عنى ذلك هجران الشهوات، ومجاهدة الهوى كما روى: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) وقوله: (رجعتم من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر)، وقال في حجة الوداع: (المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، المهاجر من هجر الخطايا) وهذه المنازل الثلاث التي هي الإيمان والمهاجرة والجهاد هي المعنية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

(219)

آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} ولا سبيل إلي المهاجرة إلا بعد الإيمان، ولا إلى الجهاد في سبيله إلا بعد هجران الشهوات، ومن وصل إلي ذلك فحق له أن يرجو رحمته، إن قيل: الإنسان راج لرحمة الله وإن لم يبلغ هذه المنازل، قيل: إن الذي نسميه رجاء لن لم يبلغ مثل هذه المنازل، فهو تمن على الله المعني بقوله عليه السلام: " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى علي الله الأماني " أو رجاء لتفصيل غير مستحق، وما ذكره الله- عز وجل- هاهنا هو الرجاء المستحق الذي وصف به المؤمنين في غير موضع نحو قوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} ... إن قيل: لم ذكر المؤمنين برجاء الرحمة وهي لهم لا محالة؟ قيل: المؤمن وإن بذل الجهد في طاعته، فواجب أن يكون بين نظرين، نظر إلى سعة رحمة الله عز وجل، ونظر إلى ما عسى أن يقع أو وقع منه من ذنب فينتج له خوفاً ... قوله- عز وجل -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} الآية (219) - سورة البقرة. الخمر: ستر الشيء وقال لما يستتر به خمار، لكن للخمار صار الخمار في التعارف لما تغطي به المرأة رأسها، واختمرت المرأة، وتخمرتُ، وخمرتُ الإناء غطيته، وكذلك خمرت العجين، وسميت الخميرة لكونها مخمورة، ودخل في خمار الناس أي في جماعتهم يسترونه، والخمار الموروث من الخمر جعل ماؤه ماء الأدواء، نحو الكباد، والصداع، وخامره الحزن إذا استولى عليه حتى سترفهمه وفكره، وبنحوه سوي غماً، وأصله من الستر، ومن الناس من جعل الخمر اسماً لدى مسكر، ومنهم من جعله

اسماً للمتحد من التمر والعنب، لقوله- عليه السلام-: " الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة "، ومنهم من جعلها اسماً لما لم يكن مطبوخاً، ثم كمية الطبخ الذي يخرجها عن كونه خمراً مختلف فيها، والميسر آلة اليسر، أي الضرب بالقداح ويقال للضارب به ياسر، وسمي الجاذر، وذلك الجذور ياسراً تشبيهاً به، وأصله من اليسر، وهو ضد العسر، وسمي الغنى يسراً، وسمي ذلك يسراً لاعتقادهم أنه غني للفقراء وأشار الله- عز وجل- بقوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} إلى تحريمه إشارة لطيفة تحتاج في كشفها إلى مقدمة، وهي أن النفع ضربان، ديني ودنيوي، والدنيوي ضربان، نفع ضروري، ونفع غير ضروري، فالضروري كالأكل والجماع اللذين لو تصورناهما مرتفعين لارتفع بارتفاع الجماع نوع الحيوان، وبارتفاع اجل أشخاص الحيوان، ونفع غير ضروري، كالتنقل بعد الأكل وترك التحلل بعده، والخمر نفعها دنيوي غير ضروري، فإن نفعها تقوية الأبدان المسنة، وهضم طعام والمعاونة على الباءة والزيادة في الرطوبة والحرارة الغريزيتين، وليس ذلك بضروري ولا متحقق النفع فيه، وفيهما إثم متحقق أو مظنون، والعقل يقتضي أن يتحاشى من الترام الإثم المظنون للنفع المتحقق الذي ليس بضروري، فكيف من النفع المظنون؟، ومن هذا الوجه صار الخمر فيما بين الأمم المتقدمة مترددة بين خمر، ودم، وإباحة، وحظر، وتركها عامة في العقول الراجحة لما أراد الله تبارك وتعالى تحريم الخمر على الناس لما رأى في ذلك من المصلحة، وعلم من غريزتهم التي غرزها عليها إن كثيراً منهم إذا ردع عما ألفه واستحسنه لا يكاد يرتدع ابتداء بتقبيح السكر في نفوسهم، ولكونه منافياً لذكر الله وعبادته،

فقال: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فلما رسخ ذلك في نفوسهم أنزل قوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، وكأن في هذا إشارة لا يعرفها إلا ذوو العقول الراجحة، فلما قوي ذلك في نفوسهم فال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وعلى قريب من هذا الكلام في الميسر، لكن كان أمره أخف، ومن الناس من جعل كل ما فيه خطر ومقامرة ميسراً، ومنهم من قاسه عليه، وقد روي عن النبي- عليه السلام- " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله "، وقرئ: إثم كبير وكثير، فكبير لقوله تعالي: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية، وبقوله الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وعظيم وكبير متلازمان، ولأن جلهم قرأ: {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، ومن قرأ الكثير فنظر منه إلي ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة الخمر ومشتريها وبائعها: " لعن الله عشرة: مشتريها، وبائعها وعاصرها، والمعتصرة له، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها وشاربها، وآكل ثمنها .. ".

وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} إن قيل؟ كيف أعيد السؤال عما ينفقون وجواب بين الجوابين؟ قيل: أما الأول: فسؤال عن الجنس الذي ينفق، وعمن ينفق عليه، فبين لهم الأمران، وأما السؤال هاهنا فعن القدر المنفق، فأجيبوا بحسبه، فبين أن الذي ينفق هو العفو، وقال ابن عباس: هو الفضل عن الغني، وهو الذي قال الشاعر: أذا أنت أعطيت الغني ثم لم تجد ... بفضل الغني ألفيت مالك حامد وقال الحسن وعطاء: هو القصد الذي لا إسراف فيه ولا إقتار، وقال مجاهد: هو الصدقة المفروضة، وكل ذلك مراد، فإن أفل ما تطيب به نفس المسلم هو الصدقة الواجبة، ومن لم تطب نفسه فليس بتام الإيمان، ثم منهم من تطيب نفسه ببذل جل ماله، ومنهم من تطيب لكل ماله، كأبي بكر- رضي الله عنه- فإذن العفو متناول لما هو واجب ولما هو تبرع، وقرئ (العفو) بالرفع والنصب، وذلك لتقديرين مختلفين في ماذا، فإن ماذا تارة تقدر تقدير اسم واحد، فيكون مفعول ينفقون يحق أنه المطابق له بالنصب، وتارة يقدر تقدير اسمين مبتدأ وخبر، فيكون جوابه المطابق له رفعاً أي: " هو العفو "، وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} فيه حث على تجنب الخمر والميسر، وتنبيه على تحريمهما، فإن في التفكر في الدنيا والآخرة معرفتهما ومعرفة منافعهما، وأن النفع القليل في الدنيا لا يجب أن يشترى بكثير الإثم في الآخرة ..

(220)

قوله - عز وجل -: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآية (220) - سورة البقرة. الخلط: الجمع بين أجزاء شينين، سواء " كانا مانعين، أو غير مانعين فهو أخص من المزج، يقال للصديق: الخلط، وهو دون الخليل، والخلاط وداء يخلط الجوف، وآفة تعتري العقل، والتخليط أن يخلط بالأمر ما يفسده، والإعنات من: عنت العظم عنتاً، أصابه وهي أوكسر، وقد أعنته، وكل ما يؤثم أو يشق عنت، ولما أكثر الله تعالى التحذير من مال اليتيم في نحو قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى}، وقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآية، تحرجوا عن تناول ماله ومخالطته، فبين تعالي أن حق الإنسان أن يتحرى الصلاح له، وأن لا ضير في مخالطته أي مصاهرته. وسائر أنواع المخالطة، وبين أنه أخوهم، وذلك إشارة إلى نحو قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وقوله: {بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}، ونبه بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أن الله تعالى لا تخفى عليه مقاصد الإنسان فيما يفعله معهم، وبين بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} أنه لم يقصد إعناتاً فيما أوصاهم به في هذه الآيات المختلفة ...

(221)

قوله - عز وجل -: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} الآية (221) - سورة البقرة. النكاح اسم للعقد، واستعير للجماع بدلالة أن عامة أسماء الجماع كنايات، وأنهم يتحاشون النكاح من التصريح بذكر الجماع، وآلاته، كما يتحاشون من إظهاره حتى سموا ذلك العضو " السوءة "، ولم يستعيروا اسم الجماع وآلاته إلا فيما يقصدون به سبعة، نحو: شَوَّرَبِهِ إذا خجله وجعله بحيث كأنه أبدى شواره، والشوار مع ذلك كناية للفرح، وبهذا يعلم أن النكاح وفي اللغة مستعار للجماع، والنهي عن نكاح المشركات عام فيمن ليس من أهل الكتابة ولم يدخل في ذلك أهل الكتاب لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، فإن قيل: فقد قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، الآية، والنكاح يجب المودة لقوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، وقد نهانا عن مودتهم، فيجب أن لا نواصلهم! قيل: المودة النهي عنها هي الدينية لا المودة النفعية أو الشهوية، فإنا إذا أوددناهم لنفع ما، فإنما نود النفع كمودتنا لذمي يعيننا على مدافعة المشركين، فقوله: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} عنى بها المودة الدينية، فإن قيل: ما قلت يقتضي أن يجوز نكاح المشركات؟ قيل المشرك مادام مشركاً، فنفسه مباحة، والمشركة غير مالكة لنفسها، وفي قوله: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} إشارة مجملة إلى فضل العبد المؤمن على العبد المشرك وبيان فضيلته يحتاج إلى مقدمة، وهي أن الشيئين

إذا تشكك أيهما أفضل، أحدث كل واحد منهما مع ضد الآخر أنهما هو المؤثر، فحكمت له مثاله أن من شك في العلم والغنى أيهما أفضل؟ نقول: انظر هل الغنى مع الجهل أفضل؟ أم الفقر مع العلم؟ فإذا علمت أن الفقر مع العلم أفضل من الجهل مع الغنى علمت أن العلم أفضل من الغنى، فإذا ثبت ذلك، فالعبد هو الذي ملك منافعه مدة، والحر هو الذي لم يملك منافعه، والمؤمن هو المستحق للثواب الدائم، والمشرك هو المستحق للعقاب الدائم، فينظر هل من ملك منافعه مدة ثم أثبت دائما أفضل؟ أم من لم يستحق منافعه مدة وتعاقب دائماً؟ فإذا علمنا أن الأول خير، علمنا أن العبد المؤمن خير من الحر المشرك، ونبه بقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أن الاعتبار بإعجابكم، فليس الإعجاب إلا من ثمرة الجهل بحقيقة الشيء والجهل لا يوجب حكماً، فإذن لا اعتبار بإعجابكم، ونبه - عز وجل - على تحريم مواصلة المشركين بقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى الأفعال الوجبة للنار، وواجب اجتناب الداعي إلى النار الحامل عليها فواجب مجانبتهم إذن، وعلى هذا قال - عليه السلام - " لا تترائى ناراهما "، ثم قال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ}، والداعي إلى الجنة واجب إتباعه، وعلى هذا دل قوله - عز وجل - حكاية عمن أخبر عنه: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}، تدعونني وبإذنه، أي بعلمه وأمره وآياته وحججه ودلائله العقلية والشرعية من أنكم إذا فعلتم ذلك، فأنتم أهل لرجاء التذكر وحقيقة التذكر الاستدراك عن نسيان أو غفلة لما استثبته القلب .. إن قيل: إلى أي شيء أشار بهذا التذكر؟ قيل: إن الله عز وجل - ركز فينا بالفطرة معرفته ومعرفة ألائه، والإنسان باستفادة العلم يتذكر ما ركز فيه، فهذا معنى التذكر وقال قوم: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الآية تذكر، ومن دفع عن قلبه الأغشية بذكر ما قال الله عز وجل له ودل عليه بقوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قالوا: وقد عرفنا الطريق الذي به يتوصل إلى هذا التذكر بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

(222)

وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فبين أنكم إذا فعلتم ذلك رجوتم تذكر هذه الحالة، وقد قيل: " الرجا من الله واجب "، بمعنى أنه إذا رجانا حقق رجاءنا، وهذه مسألة لا يمكن تصورها لمن يبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطه الله عز وجل - فلذلك لعلها صعب إدراكها لنا. قوله - عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} الآية (222) - سورة البقرة. المحيض: وقت الحيض وموضعه، وقد قيل: يقال للحيض محيض، على أن المصدر في هذا الباب يجئ على (مفعل)، نحو: معاش ومعاد، وقول الشاعر: لا يستطيع بها الفراد مقيلا فالأظهر أنه مكان وإن كان قد قيل هو مصدر، وقيل ما في ترك مكال ومكيل، أي كيل وهو أيضا محتمل، والحيض هو الدم الخارج من الرحم على وصف مخصوص في وقت مخصوص ويتعلق به منع الصلاة، والصوم، وحظر الجماع، وانقضاء العدة، واجتناب دخول المسجد ومس المصحف، وقراءة القرآن، وأن تصير المرأة به في الابتداء مكلفة، والاعتزال: العدول عن الشيء، وأصله من العزل، وهو صرف العامل عن عمله، ومنه قيل الأعزل للعازل عن الحرب لعدم السلاح، وللدابة المائل ذنبها والعزلاء تأنيث الأعزل، وشبه مخرج الماء إذا فتح عن فقد سلاحه، والسماك الأعزل سمي بذلك لافتقاده الكوكب الذي يصور بصورة الرمح للسماك الأخر .. ، والأذى: اسم لما ينال النفس منه

مكروه، ولهذا سمي الله تعالى الكلام المكروه أذى، فقال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} وما ينال الإنسان من مكروه المطر أذى في قوله تعالى: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} ولما كان الناس في مجامعة المرأة في حال الحيض بين إفراط وتفريط فإن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجتمعوا معها في البيوت وبعض النصارى لم يتحاش من مجامعتها، فسئل - عليه السلام -، فقال تعالى: {هُوَ أَذًى} تنبيهاً أن العقل يقتضي تجنبه كأنه قيل: الحيض أذى وكل أذى يتحاشى منه والحيض يتحاشى منه، ولما كان الإنسان قد يتحمل الأذى ولا يراه محرما صرح بتحريمه بقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إن قيل: فأي أذى هو؟ قيل: إما باعتبار مجرد الشرع، فإثم وإما بالاعتبار الطبي، فإن الدم الذي يخرجه الرحم يفسد البدن الذي منه الحيوان، ويكون له بخارات ممرضة لأبدان متشمميها يعرض للمرض ولما كان الاعتزال قولاً مشتركا ويكنى به عن العدول عنها عند الفراغ وعن مجانبة ذلك الموضع وعن مجانبتها رأسا، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} ليدل باللفظتين الكنايتين على مجانبة مباضعتها، وعلى جواز التمتع بها منها دون الفرج المدلول عليه بقول النبي - عليه السلام: " اصنعوا كل شيء إلا الجماع " ولما كان لفظ {يُطَهِّرَ} يقال فيما كان طاهرا بنفسه وفيما كان يتطهر، نبه بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أنه لم يرد إلا الطهارة عن تطهر وتؤكد ذلك قراءة من قرأ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} فدل ذلك أن لا يصح

(223)

وطؤها ما لم تغتسل، وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} دل أن ذلك شرط في إباحتها وأن لا يصح وطؤها إلا بانقطاع دمها، وقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى مراعاة كل ما أمر به من أحكام النكاح ومجانبة المحاشي، يعني الموضع المكروه وغير ذلك من الأمور التي أمر بها، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} تنبيها أن من كان منه شيء من ذلك، فحق عليه أن يتوب ويتطهر من بعد، والتطهر عام في استعمال الماء، وتطهر القلوب من الذنوب والتوبة اجتناب الذنب والتطهر عمل الصالحات، وجعل التوبة مقدمة على التطهير تنبيهاً أن اجتناب القاذورات مدرجة إلى فعل الخيرات، وعظم أمر المتطهرين حيث جعلهم محبوبيه، وروي خريم بن ساعدة قال: يا رسول الله: من الذين قال الله - عز وجل - فيهم {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}؟ فقال عليه السلام: " نعم الرجل منهم خريم " ويدل على إرادة هذا المعنى بالتطهر قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} قوله - عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} سورة البقرة الآية (223) .. الفرق بين الحرث والزرع أن الحرث إلقاء البذور وتهيئة الأرض، والزرع مراعاته وإنباته، ولهذا قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} فأثبت لهم الحرث، ونفى عنهم الزرع، وقد جعل الله تعالى النساء محترثا للرجل، وجعل له قوة النكاح حفظا للنسل، ولولا طلب

النسل لما رخص العقل في الجماع لما يجلب من ذبول البدن وإضعاف البصر، مع أنه ليس بضروري للإنسان كالجوع والعطش، لكن استحسن ما استحسن منه لطلب النسل المدعو إليه بقوله - عليه السلام: (تناكحوا تكثروا)، ولذلك قيل في الحكمة: " خير النساء الولود الولود، وشرها العقيم "، وحرم إتيان الرجال على كل حال والنساء في محاشهن إذا لم يكن محرما ما سماه - عليه السلام - " اللواطة الصغرى " وقيل لأمير الآمؤنين: كيف ترى النساء يؤتين في أدبارهن؟ فقال: " سفلت سفل الله بك " ثم تلا قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيف وأين بعد أن لا يتجاوز به الحرث وأعاد لفظ الحرث، ولم يقل: فأتوه، ليراعى المعنى المقصود بذلك، لئلا يتوهم ما يتصوره قدم لم يتعمقوا النظر وإنما قال: " أنى " تنبيها على كذب اليهود حيث زعموا أن المرأة إذا لم تؤت مستقبلة يأتي الولد ذا خيل أي أحول وقوله عقيب ذلك: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ}، هو أن الله إذا أطلق أمرا من الشهوات الدنيوية لا يخلى ذكره من الحث على مراعاة العقبى والتقوى، لئلا يلحق الإنسان غفلة عما خلق لأجله وقول عطاء: هو التسمية عند الجماع، وقول ابن عباس: هو الطلب للولد على سبيل المثال لا أنه لم يرد سوى ذلك {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} أي صائرون إليه. واللقاء يقال في المحسوس والمعقول يقال: لقى إثماً وجهداً، قال الله - عز وجل: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}.

(224)

قوله - عز وجل: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية (224) - سورة البقرة. اليمين أصله العضو، واستعير للحلف لما جرت به العادة في تصافح المتعاقدين، وعلى هذا قال الشاعرة: قلت كفى لك رهن بالرضى .... فوضع الكف موضع اليمين والعرضة ما يجعل معترضاً بين شيئين، فيتصور تارة بالحائل فقيل معناه: لا تجعلوا لفظ الله مانعاً من أن تبروا وتتقوا، نحو: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} وذلك أنه كان أحدهم لا يبر، فإذا عوتب قال: حلفت، وعلى هذا قال الشاعر: تسلف الجار شربا وهي حاتمة .... ولا يبيت على أعناقهم قسم ولأجل ذلك قال - عليه السلام: " إذا حلف أحدكم على شيء، فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه "، وقد تصور العرضة بصورة المبتذل، نحو: (لا تجعليني عرضة للوائم)، ومعناه: لا تجعلوا لفظ الله مبتذلا لليمين، لأن تبروا، فيكون ذلك نهيا عن كثرة الحلف المذموم بقوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} فإن قيل: وما تقدير " أن تبروا " على هذا؟ قيل: يجوز أن يكون متعلقاً باليمين، وتقديره: أن لا تبروا

(225)

لأنك تقول، حلفت أن تخرج، فيحذف " لا " أمناً من الاشتباه في الإثبات، إذ في الإثبات، فقال: حلفت لأخرجن أو لأخرجن، وقال بعضهم: معناه: " نهاكم أن تكثروا الأيمان لأن تبروا "، أي إنما نهاكم عن ذلك لتكونوا بررة أتقياء مصلحين، كما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، وقيل معناه: لا تجعلوا لفظ الله مبتذلاً لليمين لأن تبروا بالحلف به، وتتقوا المأثم وتصلحوا، والمعنى لا تبتذلوه لفعل الخيرات، فكيف للشر تنبيهاً أن الحلف بالله مكروه ما استغنى عنه، ونبه بقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أنه عارف بالمقاصد ... قوله - عز وجل -: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} الآية (225) - سورة البقرة. اللغو: المطروح الذي لا يفيد من الكلام، يقال: ألغى في كلامه، ولغاً، وقد يقال في غيره تشبيهاً، كقول الشاعر: كما ألغيتُ في الديةِ ألحواراَ ويكني باللغو عن القبيح من الكلام، وأصله من لغي العصافير، واختلف في اللغو من اليمين، فقال ابن عباس: هو الحلف بالشيء يظن أنه صادق فيه وهو بخلافه، وقال ابن جبير: هو اليمين علي الحرام لا يؤاخذ الله بتركه، وقال: هو بغضهم اليمين التي يحنثو فيها صاحبها سهوا، ً وقالت عائشه:

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قول الرجل: (لا والله) و (بلى والله) على سبيل العجلة لا على القصد، وإليه ذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: لغو اليمين كالغموس في أنه لا تجب فيهما الكفارة، ولكن الغموس أن يحلف ويعلم أن الأمر خلافه، فيعظم معصيته واللغو أن لا يعلم، بل يظن فلا تقع المؤاخذة به، وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو أعلم من قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وذاك أنه لما كان القلب يعبر به عن الجزء الذي به المعرفة والفكر ويجري من سائر أجزائه مجرى الراعي من المراعي، ونبه بقوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أن الاعتدال به دون غيره من الجوارح، حتى إن كل فعل لا يكون عنه وبه سهواً أو خطأ متجافى عنه، ولهذا قال- عليه السلام- " إن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد "، وقال: " إذا طاب قلب المرء طاب جسده "، وقال: " إن الله تعالى لا ينظر إلي صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم ". والحلم وإن كان مناً هو إمساك القوة العصبية المقتضي للعفو، وهو إذا استعمل في الله لا يراد به إلا العفو عن المذنب دون حدوت حالة وتجدد أمر عليه- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

(226)

قوله - عز وجل -: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة البقرة الآية (226) .. التربص: انتظار مجئ وقت، يقال: تربصت به، وربصت به، قال الله- عز وجل: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}، وقيل في هذا الأمر ربصه، والفئ: الرجوع من مكان إلى مكان، ولم يسم من الظل فيأ إلا الراجع منه، وسمى العتمة فيألفيئه من قوم إلى قوم، وقول الشاعر: أرى المالَ أفياءَ الظلالِ عشيةً أي المال هو الفئ الذي هو بعض الظلال تنبيهاً علي ما قال الآخر: إنما الدنيا كظل زائل. واللإيلاء: الحلف المقتضي للتقصير في الأمر الذي يحلف عليه من قوله عز وجل: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}، {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} وصار الإيلاء في الشرع الحلف المانع من جماع المرأة، وهو أن الرجل كان إذا لم يرد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره، يحلف أن لا يجامعها، ويتركها كذلك، لا إيماً، ولا ذات بعل، فأراد الله أن يجعل لها مخرجهاً فحكم بهذه الآية، إلا أنه اختلف في أي لفظ من الأيمان يكون الإيلاء، وعلى أي وجه يعتبر ترك جماعها، وأي يمين من الإيلاء تلزم فيه الكفارة؟ وكم مدة الإيلاء؟ وما عزم الطلاق؟ وما ألفئ؟ ومن الذي لإيلأئه حكم؟ أي امرأة لها حكم

الإيلاء؟ أما أي يمين هو؟ فعند أبي حنيفة جميع الأيمان حلفاً بالله عز وجل، كان، أو طلاقاً أو عتاقاً أو نذراً، وبه قال الشافعي في الحدود، وقال مالك: " لا يكون مولياً إلا بالحلف بالله -عز وجل- "، وبه قال الشافعي في القديم، وروي عن ابن عباس أن كل يمين منعت من الجماع في فإيلاء، وأما على أي وجه يعتبر ترك جماعها، فعند علي وابن عباس والحسن وعطاء إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار والغضب، فأما إن لم يكن على ذلك نحو أن يحلف أن لا يجامعها في وقت إرضاعها الولد لئلا يضر بالولد، فلا يكون مولياً، وقال الحسن: " إذا حلف أن لا يجامعها في هذا البيت، ثم ترك جماعها أربعة أشهر فإيلاء "، وم ال ابن المسيب: " إذا حلف أن لا يكلمها فإيلاء أيضاً "، وقال ابن عمر: " إذا هجرها من غير يمين يكون مولياً "،، وأما أي يمين من الإيلاء يلزم فيه الكفارة، فهي كل يمين بالله- عز وجل- وأما المدة: فمنهم من قال: أكثر من أربعة أشهر أي قدر كان، لأنه جعل لها المطالبة بعد ذلك، ولأنه قال: {فَإِنْ فَاءُوا} ولم يحصل بعد المدة، وفي المدة، ومنهم من قال: أربعة أشهر فصاعداً، هو بعض الظلال تنبيهاً على ما قاله الأخر: وإن حلف على أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً وإن تركها أربعة أشهر على قول عامة الفقهاء، وقال ابن مسعود وقتادة: يكون وولياً، ولا خلاف أنه إذا لم يتركها أربعة أشهر لا يكون مولياً وأما عزم الطلاق، فعند عمر، وعثمان، وابن عباس، وابن مسعود أنه انقضاء الأربعة أشهر، وأنها تبين بتطليقه، وعند الشافعي أن للمرأة مطالبتها بعد الأربعة الأشهر، ويجب عليه أن حق أو يراجع ولا يستمهل أكثر من يوم، فإن طلقها تطليقة تكون رجعية، ولو عفت عن ذلك في الوقت، فلها أن تطلب بعد ذلك متى أرادت، وأما ألفئ فظاهره يقتضي الفئ بالقول، كالمراجعة إلا أنهم أجمعوا أنه إذا أمكنه لم يكن إلاً بالجماع، فأما إذا كان محجوباً أن محبوساً عنها، فقد قيل فيه بالقول، وأما من الذي لإيلائه حكم؟، فكل من صح طلاقه حراً كان أو عبداً مسلماًَ كان أو ذمياً حرة كانت تحبه أو أمة، وأبو حنيفة اعتبر بالمرأة كالطلاق، ومالك اعتبر بالرجل دونها، وقال بعض الفقهاء: الإيلاء لذمي، والآية تقتضي خلاف قوله: وأما أي امرأة لها حكم الإيلاء، فكل امرأة يصح طلاقها يصح الإيلاء منها، مسلمة كانت أو ذمية، حرة كانت أو أمة، صغيرة كانت أو كبيرة، لكن ليس للصغيرة المطالبة حتى يمكن مجامعتها وتأتي عليها المدة المضروبة و " من " في قوله:

(227)

{مِنْ نِسَائِهِمْ} تعتبره الفقهاء أنه متعلق بقوله: {يُؤْلُونَ} حتى كثر في كلامهم " ألي فلان من امرأته "، كقولهم: " ظاهر منها "، وذلك غير ممتنع وإن كان قد ذكر بعض أهل اللغة أن تقدير الكلام: (لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر) ودل بقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أن المولى في إيلائه مخطئ وإثم، وأنه يستحق العفو عما ارتكبه بفيئه .. قوله- عز جل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية: (227) - سورة البقرة. دواعي الإنسان إلى الفعل على مراتب أولها السابح، ثم الخاطر، تم التخيل والتفكر فيه، ثم الإرادة، ثم الهمة، ثم العزم، فالهمة إجماع من النفس على الأمر وإزماع عليه، والعزم هو العقد على إمضائه، ولهذا قال- عز وجل- {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، ويقال: (مالفلان عزمه) أي عقد على إمضائه ... ويقال: المعود عزائم تصوراً أنك قد عقدت على الشيطان أو الداء أن يمضي إراداتك فيما سميته، والطلاق: تخلية عن وثاق أو داء أو انقباض وإمساك، ومنه: " طلقت المرأة عند الولادة وبالتخليه عن الوثاق شبه الطلق في العدو، ورجل طلق الوجه وطلق اليدين، وأما عزيمة الطلاق، فقد تقدمت، ونبه تعالى بقوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أنه عارف بضميره ومقاله في إيلائه وتطليقه ... قوله- عز وجل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة البقرة الآية (228) ... قال الخليل: قرأت المرأة: رأت الدم، وأقرأت: حاضت، وصارت ذات قرء، والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما كان اسماً للأمرين الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل

واحد منهما، لأن عادة العرب أن كل اسم موضوع لمعنيين معاً يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة هي للخوان والطعام، وقد سمي كل واحد منهما بانفراده مائدة، وعلى ذلك الظعينة والكأس والراوية، فكذلك القرؤ، وليس هما اسماً للطهر مجرداً بدلالة أن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم، والنفساء لا يقال لهما ذلك، فقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، أي ثلاثة دخول من الطهر في الحيض وليس حقيقة هذا إلا ما قاله الشافعي دون ما قاله غيره في أنها إذا رأت الدم ثلاث مرات، فقد انقضى عدتها، وجعل غيره حصول ثلاثة أطهار تتعقبها ثلاث حيض، فإن قيل: قوله- عليه السلام: (دعي الصلاة أيام إقرائك) لم يرد أيام تجدد الحيض، وإنما أراد أيام الحيض كلها، قيل: ما قلته صحيح، وإنما ذلك كقولك: " فعل كذا أيام ورود فلان، ووروده إنما كان في ساعة، فكذلك قوله: " أيام إقرائك "، والحدث القليل ينسب إلى الزمن الطويل، وإن وقع ذلك في بعضه، وقول أهل اللغة أن القرء من قرءا إذا جمع، وقارئ هم اعتبروا الجمع ومن زمن الطهر وزمن الحيض لاجتماع الدم في الرحم فقط، ومنه القراءة، وهو ضم الحروف والكلمات بالخروج من بعضها إلى بعض، يدلك على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد يتفوه به قراءة، و " أقرأ النجم " إذا طلع واحد وغاب آخر، وصار القرؤ مستعاراً للوقت المنتظر، ومنه قال الشاعر: إذا هبتْ لقارئها الرياحُ أي لوقتها المنتظر المتعين. وقال أخر: يا رُبَّ ذي ضغنٍ على فارضٍ .... لهُ قرؤٌ كقُرؤِ الحائضِ

أي انتظار للفرصة كانتظار ذات الحيض للحيض. . . وعير ابن داود الشافعي لما جمع بين القرؤ وقريت الماء في الحوض، وقال: ألم ير أن قريت من نبات التاء، وقرأت من الهمزة، وهذا سوء ظن منه وسوء تصور، فإن أهل اللغة طريقتان في هذين اللفظين أحدهما: أنه " قريت " مقلوب عن قرأت، واليا ما بدل من الهمزة، كسألت، وسلت، والثاني: أنهما لغتان تقارب معنياهما تقارب ألفاظهما، وأنهما تقتضيان معنى الجمع، والبعل: النخل السارب بعزوقه، وعبر به عن الزوج، لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وحيث هي بعلةُ، وقيل: باعلها كقولك: جامعها، وبعل الرجل إذا دهس، فأقام مكانه كالنخل ألدي لا يبرح، وبهذا النظر، قيل لمن لا يحول لكن مكانه ما هو إلا شجر أو حجر، والبعولة جمع بعل، كالذكورة، والفحولة، والعمومة، والخؤولة، والرجل بنى عن رجل تصوراً لسعيه بها، كما سميت المرأة قعيدة وعحوزاً لتمكن مقعدها وعجزها من الأرض ولذلك قال الشاعر: أصبحت لا رجلاُ يغدُولمطلبهِ .... ولا قعيدةَ بيتٍ تُحسنُ العْمَلاَ وبهذا النظر سمي القوم قوماً لقيامهم بالأمور، والراجل الماشي لكونه ضارباً برجله الأرض كالسائف والرامح لمن يضرب بهما، وارتحل فلان كذا لما تناوله بسعيه مما لم يسبق إليه، وترحل النهار، كقولهم: " قام قائم الظهيرة "، والمرجل، القدر المنتصب على رجلها، وجعل بناؤه بناء الآلات والدرجة والمرقاة والمنزلة تستعار للمحال الشرفية، وذاك أن الشرف المعقول يمثل بالمحسوس على وجهين، أحدهما يعتبر على طريق العلو والسفل، فتستعمل فيه الدرجة، والمرقاه، والصعود، والانحدار، والثاني على طريق التقدم والتأخر، فيستعمل فيه السبق والتخلف والمطلقات ضربان: مدخول بها، وغير مدخول بها ولا عدة عليها لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، والمدخول بها عليها العدة،

وهي على ثلاثة أضرب: الحوامل: وعدتهن أن يضعن حملهن، واليائسات، واللائي لم يحضن، وعدتهن ثلاثة أشهر، وذوات الحيض: وعدتهن ثلاثة أقرؤ، وهذا الحكم إذا كانت امرأة حرة فأما إذا كانت أمة فقرآن، وفي الشهور على النصف من الحرة ... إن قيل: كيف استعير لفمظ الخبر للأمر في قوله: {يَتَرَبَّصْنَ}؟ قيل: لما كانت العدة تحصل من الرأي بانقضاء الأيام، نوتها أو لم تنوها، أجدت أو لم تجد صار لفظ الخبر أملك له من لفظ الأمر، ويدلك على صحة هذا الاعتبار إتيان جميع العدد بلفظ الخبر وقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ} عنى كتمان ما في أرحامهن من الحيض والحبل، وأنه لا يجوز أن تكون حاملاً، فتقول: ليست بحامل، أو لم تكن حاملاً، فتقول: أنا حامل، ولا أن تدعي الحيض أو تنفيه على ذلك، وذلك عام في كل ذلك، وإن مثل كل واحد من متقدمي المفسرين لشيء من ذلك، ومن قال: لا يجور أن يكون الحيض، لأن الحيض لم يخلق في الرحم، وإنما هو دم يرد إليه من جميع البدن، فعلى هذا قوله: {فِي أَرْحَامِهِنَّ} لا يكون من صلة خلق، بل يكون من صلة قوله (ولا يكتمن)، أي: لا يكتمن في أرحامهن ما خلق الله فإنه لا شك أن يحصل في الرحم خلق فيه أو لم يخلق، ونهيها عن كتمان ذلك دال على أن قولها مقبول فيما تدعي من حيضها وحملها فيما يتعلق بحقها، فإن تعلق بذلك شي، ليس من حقها، فيجور أن لا يقبل إذا اتهمت، كمن يقول: " عبدي حر " أو " امرأته طالق إن حاضت "، فقالت: " قد حضت، فمتى لم يصدقها لم يعتق عبده ولم يطلق امرأته، وقوله: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، فليس ذلك شرطاً في أنهن إذا لم يكن مؤمنات، يجوز أن يكتمن، وإنما ذلك تنبيه أنه مناف للإيمان، وأنه ليس من فعل المؤمن، كقوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} دال عي بينة مراجعتها ما دامت معتدة، ولم يعن بالرد تجديد نكاح يشارك فيه غيره في الحال، وإنما عنى الرجعة الموجبة لبقاء النكاح بلد انقضاء الحيض التي إذا لم تكن لكان يزول النكاح، وظاهر الآية أن إباحة هذه الرجعة شريطة الإصلاح، لكن لا خلاف أنه

إذا راجعهما مضاراً بها، فرجعته صحيحة، فدل هدا الإجماع أن ذلك تهديد للمراجع أن لا يقصد الإضرار بها، كقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}، ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} تنبيها أن فاعل ذلك ظالم، وأن الرجعة في الحكم صحيحة، وقيل: تسمية (بعلاً) دلالة أن ما دون الثالثة من الطلاق لا يرفع الزوجية، وأن الرجعة مادامت معتدة وقوله: (والمطلقات) عامة في الرجعية وغير الرجعية، (وبعولتهن) خاص في الرجعية، بدلالة التي تتلوها، وليس قول من قال هذه الآية نسخ منها حكم الحامل، ومن ليست بذات حيض بشيء فإن ذلك تخصيص لا نسخ، وإن كان قد سماه بعض القدماء نسخاً وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} يتبين أن لكل واحد على الآخر حقاً كحق الآخر، فمما تشاركا فيه مراعاتهما للمعنى الذي شرع لأجله النكاح وهو طلب النسل، وتربية الولد، ومعاشرة كل واحد منهما للآخر بالمعروف وحفظ المنزل، وتدبير ما فيه وسياسة ما تحت أيديهما، حماية كل واحد على الآخر بقدر جهده وحده، وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ} هو من وجه تنبيه لفضل الرجل على المرأة بالجملة، ومن وجه كالاستثناء بأن له عليها حقا، ليس لها عليه، أما فضله عليها، فقد نبه علبه بقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ودل عليه النبي- عليه السلام بقوله: " إنكن ناقصات الدين والعقول " فقيل: وما نقصان دينهن، فقال: إن إحداهن تقعد

نصف دهرها لا تصلي، ونقصان عقلهن أن شهادتها على النصف من شهادة الرجل، وقيل: من نقصها أن شر ما في الرجال الجبن والبخل، وهما خير ما في النساء، ولكونهن ناقصات عظم الله نسبة البنات إليه أكثر كما تعظيمه نسبة الابن، وإلا كانا منكرين، فقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}، وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}، وقال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، وقال: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}، وعظم تعالي نسبة الملائكة إلى الأنوثة، فقال: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}. ولكن الأنوثية نقص جعل القوه الانفعالية أنثى، والقوة الفاعلة ذكر حتى شبهوا السماء بالفحل والأرض باللقوحة، وقالوا حديد ذكر، وحديد أنثى، وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا}، أي أصناماً مفعولة غير فاعله، وأما فضل حقوقه عليها، فقيل: عشرة أشياء جعل الطلاق إليه من دونها، وإباحة ضربها عند النشوز، أو هجران فراشها، ووجوب إجابتها إياه دعاها إلى الفراش، والائتمار له إذا نهاها عن الخروج، وأن ميراثه منها أكثر من ميراثها منه، وأنه إذا قذفها فله إسقاط الحد باللعان، وليس لها ذلك وأن له أن يجمع بينها وبين غيرها، وليس لها أن تجمع بينه وبين غيرة، وليس لها أن تصوم تطوعاً ولا أن تحج فرضاً إلا بإذنه، وله ذلك من دون إذنها. وإلى وهذه الجملة أشار بقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ونبه بقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أنه يحكم بكل ما يشاء، فلا يغالب لعزة، ويتقن كل ما يفعله فيصيب بحكمته، وفيه وعد وإبعاد على مجازاتهما فيما يتحريانه من صلاح وفساد ..

(229)

قوله - عز وجل -: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الآية (229) - سورة البقرة. المرة: فعلة من مر يمر مراً، ومروراً، فعبر بها لكن الفعلة، وإمرار الحبل إرساله في الفتل حتى يمر مراً، ومر الشيء صار مرا أصله من الأول، وهو فيما لا يطيب أكله، كساع فيما يطيب، وهما للذهاب، والمر الذي يعمل به استعارة، والإمساك أصله من المسك وتصور منه إمساكاً للبدن، ولما يجعل فيه بعد السلخ فقيل: (أمسكت كذا) أي ضبطته ضبط ما المسك لما فيه، وكنى بالمسك عن البخيل، والتسريج كالتطليق في أنه من: برحت الماشية، كما أن الطلاق من: " أطلقت البعير، والمعروف مالا تنكره العقول الصحيحة، وسمي الجود معروفاً لمعرفة العقول كلها حسنه. وعلى هذا قال الشاعر: ولمْ أر كالمعْروُفِ أما مذاقُةُ ... فحلوٌ وأما وجهُهُ فجميلُ وقيل: الخوف هاهنا: الظن، وقيل: اليقينُ، واحتج بقول الشاعر: ولا تدُفنني بالفلاة فإننٍي ... أخافُ إذا مامتُّ ألاً أذوقهاً

وذلك نظر من المفسر إلى مقتضى الخوف، فقد يكون الخوف عن أمارة ضعيفة تقتضي الظن، وعن أمارة قوية تقتضي اليقين، فقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ليس ذلك للجنس متناولاً لكل طلاق، بل هو إشارة إلى الطلاق المتقدم ذكره الذي قال فيه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، فبين أن ذلك الطلاق الذي فيه المراجعة مرتان، وأصله الطلاق مرتين، نحو الخروج مرتين، ثم رفع كقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وبقول: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} منهم من حمله على الطلقة الثالثة، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعضهم سمع الآية، فقال: فأين الثالثة؟ فقال- عليه السلام: " التسريح بإحسان. ومنهم من حمل ذلك على ترك الرجعة " والصحيح أنه محمول عليها، لأنه يكون بالرجعة ممسكاً لها، ويتركها حتى تنقضي عدتها، أو بتطليقها الطلقة الثالثة يكون سرحاً لها، لكن لما كان اللفظ متردداً بين الأمرين بين من بعد حكمها إذا طلقها ثالثة بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}. إن قيل: كيف جعل الإمساك هاهنا الرجعة؟ قيل: لأنه ضد الطلاق، وقد كان الطلاق موجباً للفرقة بعد مضي ثلاث حيض، فسمي الرجعة إمساكاً لبقاء النكاح به. إن قيل: كيف علق التسريح بالإحسان؟ وهل بينه وبين المعروف فرق؟ قيل: الإحسان أعم معنى من المعروف، لأن الشيء قد يكون معروفاً، أي غير منكر، ولا يكون

مستحسنا، فكل إحسان معروف، وليس كل معروف إحسانا، فبين أن من حق المسرح أن يبذل ما يزيد على الإنصاف تنزهاً، وذلك على حسب ما كانوا يراعون في بذل مصارف المعروف لمن يرتحل عنهم، وكما بين أن له الرجعة في تطليقتين، بين بقوله: (فإن طلقها) أن لا رجعة بعد الثالثة، فإن ما زاد علي الثالثة من الطلاق لا حكم له بوجه، فقد كانت العرب تطلق مرة بعد أخرى ما شاءت، وتراجع قبل انقضاء العدة، فأبطل تعالى ذلك، وفي الآية دلالة أن له أن يطلق مرتين في طهر واحد من حيث أنه لم يفصل، ودلالة أن الطلاق في الحيض يقع، وذلك قال عليه السلام- لأبن عمر لما قال: أرأيت لو طلقها ثلاثاً؟ قال: " أذن بانت منك امرأتك، عصيت ربك "، وأجمع فقهاء الأمصار أن قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إذا لم يكن الزوجان مملوكين، واتفقوا أن الرق يوجب نقصان الطلاق، لكن اعتبر أبو حنيفة الطلاق بالنساء، وهو قول علي والشافعي، واعتبر بالرجال، وهو قول عثمان وزيد، وإليه ذهب مالك، وقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} فلا خلاف أنها إذا سمحت بشيء من مهرها للزوج فسائغ، لقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ}، فأما إذا كان على وجه الخلع، فلا يجوز إلا على وجه دون وجه، واختلفوا متى يجوز مخالعتها؟ وكم قدر المال الذي به يجوز؟، وعند من يجوز؟ فذهب بعضهم إلى أنه يكره الخلع مع سلامة الحال، لأن الطلاق مكروه إذا توفرت المرأة على ما يلزم من حكم الزوجية لقوله- عليه السلام: " أبغض الحلال إلي الله الطلاق " هذا مع إمكان المراجعة والخلع الذي ترتفع المراجعة معه أولى بأن يكره، وإن خافا ألاً يقيما حدود الله جاز بلا خلاف لظاهر الآية، وإن خافت ولم يخف الزوج، فيجوز إلاً عند أهل الظاهر، وعلى ذلك دل شأن امرأة

ثابت بن قيس لما كرهت الزوج، فأمرها- عليه السلام- أن ترد إلي حذيقة ما كان قد مهرها، وقال الحسن: لا يجوز حتى تقول المرأة: لا أغتسل عنك، ولا أقربك، ونحو ذلك ... وقال إبراهيم: " لا يجوز حتى تعصيه ولا تبر يمينه وإن خاف هو ولم يخف ولم يرها على فاحشه "، لا يحل له أخذ شيء منها بالمخالعة لقوله- عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} الآية. وذلك في الحكم سائغ وإن كان منهياً عنه، وعند مالك يرد إليها مالها، وقال الأوزاعي؟: " إذا خالع امرأته وهي مريضة، فإن ما تبدله في ثلثها إن كانت ناشزة، وإن لم يكن ناشزة رد عليها، وكان له عليها الرجعة، فأما القدر الذي يخالع عليه " فمنهم من قال: لا يجوز إلاً بأقل من الهر المسمي لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا}، وذلك يقتضي التبعيض، وقال علي والحسن وابن المسيب وطاوس وابن جبير: لا يجوز بأكثر مما أعطاها لما روي أن رجلاً خاصم امرأته إلى النبي- عليه السلام، فقال: تردي إليه ما أخذت منه؟ قالت: نعم وزيادة، فقال عليه السلام: أما الزيادة فلا .. ، ومنهم من أجاز بأكثر من ذلك، وهو الأظهر، وأما عند من يجور، فإن الحسن وابن سيرين قالا: لا يجوز إلا عند السلطان، وقال فقهاء الأمصار: يجوز، لأن ظاهر الآية لم يعرف، ومن قرأ (تخافا)، فخطاب لهما، لأنهما أعرف بأحوالهما من غيرهما هل يقيمان أو لا يقيمان؟ فإذا قرئ (تخافا) (3) على ما لم يسم فاعله، فالخطاب للحاكم، والمفتي بأن لا يحل أن يحكم للزوج

(230)

بالأخذ إلا إذا عرفوا ذلك منهما، والقراءة الأولى أجود، لأن هذا المعنى استفيد من قوله: (فإن خفتم) .. إن قيل: لم رفع الجناح عنهما وذلك يجب أن يرفع عن الزوج الذي يأخده؟ قيل: لأن من الدفع ما يؤثم الأخذ والدافع كالربا، ومنه ما يؤثم أحدهما، فبين أن الجناح مرفوع عنهما، وليس ما قال الفراء أنه لا جناح على أحدهما، فنسب إليهما، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ} بشيء، وذكر أن كل ما بينه حدود الله، ولا يجوز تعديها، فإن من تعداها ظالم يستحق ما يستحقه .. قوله- عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الآية (230) - سورة البقرة. هذا الحكم متعلق بقوله: (الطلاق مرتان)، وقدم فصل بينهما بحكم الخلع وكيفية جوازه، فلما فرغ منه رجع إلى حكم الطلاق، فقال: (فإن طلقها) أي بعد الثنتين فلا تحل له أو لا يجوز أن يتزوج بها حتى تنكح زوجاً غيره، وبين أن ليس للإنسان أكثر من ثلاث تطليقات، والنكاح الذي يحلها للزوج الأول ظاهره يقتضي العقد، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وأهل الظاهر، لكن قد ورد عن النبي -عليه السلام- ما اقتضي معه الوطء حيث قال: " حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك "، وقيل: حكمة الله - عز وجل- في تحريمها عليه إلاً بعد أن يتزوج زوجة أخر الردع إلى التسرع في الطلاق، ولهذا دعا أن يتأنى في تطبيقها، فيطلقها للعدة طلقة بعد طلقة، ونبه على ذلك بقوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}.

ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني الزوج الثاني، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}، أي لا جناح أن يتزوج بها على شرط أن يظن أن يقيم حدود الله، وعلق بالظن، لأن ما يكون من الإنسان في المستقبل من الممكنات لا سبيل إلى معرفته إلا بالظن، وليس شرطاً في صحة النكاح، بل في إباحته ورفع المآثم، لأن العقد صحيح، فإن ظنا أن لا يقيما حدود الله، وبين أن تلك الحدود بينها لقوم يعلمون- تنبيهاً أنهم هم الذين يتبينونها، لقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}. قوله - عز وجل -: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية (213) - سورة البقرة. هذه الآية ظاهرها إعادة حكم ما تقدم، وأنه يجوز مراجعتها بعد انقضاء العدة، وقد فسرت تفسيرين، أحدهما أن الأولى حكم بجواز الرجعة بعد التطليقة والتطليقتين، وتحريم الرجعة بعد الثالثة، وهذه تقتضي جواز رجعتها ما دامت في العده لا عن الطلاق الثالث، وفيه زيادة حكم وإن كانت تقتضي بعض ما أفادت الأولى، وهي ذكر معها من الأحكام، وقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، مشكل، لأن المراجعة ثابتة قبل انقضاء العدة، وظاهر هدا يقتضي أن المراجعة بعد انقضاء العدة، ووجه ذلك أن الأجل هاهنا زمان العدة لإتمام العدة، وأيضاً، فإنه يقال إدا فعلت كذا ويعني إذا خصت لا إذا فرغت منه، نحو: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، فقوله: فبلغن أي: حضن في زمان بلوغ الأجل، وأيضاً فقولهم: (بلغ) يقال لما شارف وإن لم ينته، فيقول: إذا طلبتم وشارفن الأجل، فأمسكوهن، إن قيل: ولم خص المشارفة، وقيل المشارفة هذا حكمه، قيل: لما كانوا يطلقون المرأة فيتركونها حتى تشارف، انقضاء

العدة، ثم يراجعونها إضرارا بها، خص ذلك بالذكر، والثاني من التفسيرين أن الآية فيمن طلق امرأته تطليقة، وتركها حتى تنقضي عدتها، ثم يريد التزوج بها، وزاد أنه ذكر فيما قبل حكم الخلع، وحكم ما تصح مراجعته، وما لا تصح، وما يحتاج أن يتعاطاه المراجع، وذكر في هذه الآية حكم المطلقة تطليقة وقد انقضت عدتها، فقال: إذا طلقتم تطليقه، {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، أي انقضت عدتها، فأمسكوهن أي تزوجوا بهن على حكم الله أو اتركوهن على حكمه .. إن قيل: كيف يصح أن يعبر لكن التزويج بالإمساك؟ قيل: إنما استعمل الإمساك في هذا للتزوج، لأنه كان بعد أن كانت تحته، وقبل أن يملكها غيره، فقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} تنبيهاً على هذا المعنى، أو {سَرِّحُوهُنَّ}، أي أفرجوا عنها، ولا تخطبوها، قال: والذي يدل على هذه الآية التي بعدهما، فإنها نزلت فيمن خطب امرأة كان قد طلقها تطليقها، فانقضت عدتها، فمنعت إياه، فأوصى تعالى الخاطب في هذه أنه إن أراد أن يمسمكها بإعادة نكاحها، فليستعمل المعروف، وإلا فليحلها، وجل المفيرين على المعنى الأول، إن قيل: لم علق التسريح هاهنا بمعروف وفي الأول بإحسان؟ قيل: إنه لا أعيد ذكر الرجعة علق التسريح بالمعروف تنبيها أنه إن لم تراعوا في تسريحها الإحسان، فراعوا فيه المعروف، كما قال بعض الناس لسلطان: " إن لم تحسن فعلاً "، وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ} قيل: معناه: لا تهزوا بها، ولا تحسبوها عبثاً، نحو: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}، وقيل: معناه: لا تعملوا بخلافها، فتكونوا كالهازئين بها، وقال أبو الدرداء: " كان في أول الإسلام يطلقون ويعتقون، ثم يقولون: كنا نلعب "، والإشارة بالآية إليه، وقال عليه السلام- " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد النكاح، والطلاق، والعتاق " وحث على معرفة نعمه وما أنعم عليهم بالكتاب والحكمة .. إن قيل: كيف أفرد الكتاب والحكمة عن النعمة وهي أفضل النعم وأجلها؟ قيل: لأمرين، أحدهما: أن النعمة في تعارف الخاصة والعامة هي كثرة في المال، وصحة في البدن وسائر الزين الدنيوية، ولا يعرف الكتاب والحكمة نعمه إلا أولوا الألباب، والثاني: أفردهما التخصيص والتفصيل كإفراد جبريل وميكائيل عن الملائكة.

(232)

قوله - عز وجل -: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الآية (232) - سورة البقرة. العضل المنع مع. تضييق، يقال: عضلت الدجاجة بيضها، والمرأة بولدها، وعلى طريق الاستعارة قال: ترى الأرض منِا بالفضاءِ مريضةَ ... معُضلةً منا بجمعٍ عرمْرمِ ومنه: داء عضالٌ، والعضلة الدامية، والعضلة لحم مكتنز في عصب، وبلوغ الأجل هاهنا لاستيفاء العدة ولما بين تعالى بالآيات المتقدمة ما يجب على كل واحد من الزوجين لصاحبه في النكاح، وعند المراجعة والفدية والفراق والطلاق عدل إلى بيان ما يلزم الولي، وما يحرم عليه في تزويجها وإنكاحها، وقيل: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} خطاب للأختين، وعضلها أن يراجعها إضراراً بها، والصحيح أنه خطاب للأولياء، بدلالة ما روي: أن الآية نزلت في معقل بن يسار وكانت أخته تحب ابن عم له، فطلقها طلقة فلما انقضت عدتها خطبها، وهي تريد أن ترجع إليه، فقال معقل: والله لا أزوجها أبدا، فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعاه النبي- عليه السلام، فتلاها عليها فقال: " سمعاً لربي وطاعة " والحكم الوارد في سبب

لا يصح أن يكون السب خارجاً عنه وإن أريد معه غيره، واختلف في هدا العضل، فعند الشافعي لما كان نكاح امرأة بكراً كانت أو ثيباً لا يصح إلا بالولي، صار في منعها عن أكفائها، وعند أبي حنيفة لما كان يصح للثيب أن تتزوج بنفسها، صار في الاعتراض علتها في سبب المهر والكفاءة، قال: والآية تدل أن لها التزوج بنفسها، لأنه قال: {أَنْ يَنْكِحْنَ} فنسب النكاح إليهن، وقال أصحاب الشافعي: إنما نسب إليها، لأنه لا يصح إلا برضاها، وكل من لا يتم الفعل من دونه، يصح أن ينسب ذلك الفعل إليه، وأما المعروف المتراضي به في قوله تعالي: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} فعام في كل ما يرجع إلى العقد، لقدر الهر وما يظهر من الرعية وخلافها، وما يعاون الزوجية مما صححها، وفي كل ما يرجع إلي حقوق الزوجية، فألزم الولي أن لا يعضلها إذا تراضوا بما هو معروف، وقوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} فخص المؤمنين بالوعظ، وهو أنه يريد حصول الاتعاظ، وليس ذلك إلا للمؤمنين، وقوله: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} زكاة الإنسان وطهارته في حقيقة كونه بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة عظيم المثوبة، وأن يصلح في الآخرة لمجاورة الله الأعلى بل مجاورة الله- عز وجل - ولهذا قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وجعل تعالى الدلالة على أن ذلك أزكى وأطهر أنه قد حكم بذلك وهو عالم بالأشياء كلها وأنتم غير عالمين بها، فإذا علم وحكم فحق عليكم أن تقبلوا منه حكمه، إن قيل: لم قال: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} ثم قال: {ذَلِكُمْ أَزْكَى}؟ قيل: في ذلك أجوبة .. أحدها: أن كاف الخطاب مع (ذا) تارة تفيد الخطاب، فيراعى فيه المخاطبون فيثني، ويجمع، ويؤنث بحسبهم، وتارة يعتبر به الفرق بين القريب والبعيد، فليقال: (ذا) لما يتصور قريبا، و (ذاك) لما يتصور بعيدا، فلا يثنى ولا يجمع، فعلى هذا؟ (ذلك)، و (ذلكم).

(233)

والثاني أن الكاف الأولى خطاب للنبي- عليه السلام، والثانية للكافة، وعلى هذا قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وفائدة ذلك أن قوله: (ذلك) إشارة إلى حقائق ما تقدم، ولا يكاد يتصوره إلا هو- عليه السلام-، ومن يدانيه من أولياء الله عز وجل-، وذلك إشارة إلى العمل، والعمل به يتشارك فيه كافة المسلمين، والثالث: أن خطاب الجمع تارة يعتبر بلفظ مفرد، فيفرد خطابهم نحو بهذا القبيل: " فعلتُ كذا "، وتارة يعتبر معنى الجمع، فيقال: فعلتم فعلى هذا، لو قيل في الأول: (ذلكم)، وفي الثاني (ذلك) لصح، أو قيلا بلفظ واحد لصح. قوله - عز وجل -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآية (233) - سورة البقرة. الرضاع أصل، وعنه استعير " لئيم راضع " لمن تنامي لؤمه وإن كان ذلك في الأصل ممن كان يرضع غنمه، لئلا يسمع صوت شخبة، لكن تعورف في اللؤم، حتى قيل: " رضع فلان أي لؤم "، وسمي الثنيتان الراضعتين، لاستعانة الصبي بهما في الرضع، (وكسوتهن) عن الكسوة استعير: اكتست الأرض بالنبات، وكسوته ثناء أو هجاء، وصار الكساء لضرب مخصوص من الثبات. والتكليف أصله فيما جعلت به الإنسان كلفاً، وصار في التعارف لما ألزمته وأكلفته بكذا جعلته كلفاً به، والكلف بالوجه لتصوره كلفه به، والميراث أصله فيما أصبته من غيره حيا كان الموروث منه أو ميتا، لكن صار في التعارف اسماً لا يخلفه الميت من المال، والفصل ضد الوصل كالفضل، واستعماله في قطع الرطب من النبات، ومنه الفضيل، يقال: فصلت بين الكلام والعقد، وفي القضاء، وسمي الفطام فصالاً للفصل

بين غذائي الصبي، وتعورف الفصل في السقب والتشاور لاستخراج الرأي من الغير، من شرت العسل، (وشورت الفرس) استخرجت جربه وأشرت إليه بكذا، أي أخرجته بالإيماء من بين ما يشاكله، وسمي الإصبع مشيرة، لكونها ذات إشارة كما سميت مسبحة وسبابه، وسميت السنة حولأ، لانقلابها في فصولها وشهورها، ودوران الشمس في مطالعها ومغاديها، وذكر جماعة من الفقهاء أن قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} أمر وإن كان لفظه خبراً، لأنه لو كان خبراً لم يقع مخبره بخلافه، وهذه قضية إنما تصح في كل خبر لفظه لا يحتمل التخصيص، فأما إذا كان عاما يمكن أن يخصص على وجه يخرج من كونه كذباً، فادعاء ذلك فيه ليس بواجب، وهذه الآية مما يمكن ذلك فيه، ثم ذلك لو كان أمرا لكان أمراً للوالدات، وقد علم أن الأم وإن لم تكن مكلفة فهي أحق برضاعها، فإن قيل: فإذا لم يكن أمرا فما وجهه؟ قيل أخبر الله تعالى أن حكم الله في ذلك أن الوالدات أحق بإرضاع أولادهن سواء كانت في حبالة الزوج أو لم تكن، فإن الإرضاع من خصائص الولادة، لا من خصائص الزوجية، ولهذا قال عليه السلام: في الأمر إنها أحق بالولد ما لم تتزوج، وإنما ذكر (كاملين) لأنه قد يقال: " فلان فعل كذا سنتين " وإن كان ذلك في سنة وبعض الأخرى، وكذا يقال: شهرين ويومين، فأريد إزالة هذه الشبهة، وقال الفقهاء: لما جعل الرضاع حولين وقال في موضع: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}، نبه على أن الولد قد يولد لستة أشهر، وفيه تنبيه على لطيفة، وهو أن الولد متى كان زمان حمله وفاصله أقل ثلاثين شهرا أضر ذلك به، فإذا ولد لسبعة أشهر لم يضره أن ينقص رضاعه عن الحولين، وجعل ابن عباس ذلك حكما شرعياً، وقال: يجب أن يكون الحمل والرضاع هذا القدر، وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أي هذا التوقيت ليس بفرض، لكن لمن أراد إتمام الرضاعة، وفيه تنبيه أنه لا يجوز تجاوز ذلك وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ويقويه ما روي جابر أنه قال عليه السلام:

" لا رضاع بعد المولين " وعلى هذا يحمل قوله: " الرضاعة من المجاعة " ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر، كخيار الثلث وعدد حجارة الاستنجاء، والمسح على الخفين يوماً وليلة أو ثلاثة أيام، فلما كان الرضاع يجوز الإخلال به في أحد الطرفين، وهو النقصان لم تجز مجاوزته، وقوله: (وعلى المولود له .. )، أي الأب، وفائدة تخصيصه بهذا الوصف دون لفظ الأب تنبيه أن الابن في الحكم للأب، وأن حظ الأم فيه يقل وعلى ذلك دل الشاعر: وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأحساب أباء وبين تعالى أن رزق المرأة المرضعة، أي طعامها وكسوتها على الأب إذا أرضعته زوجة كانت أو مطلقة، وفيه تنبيه أن سائر نفقة الولد، على الأب لكن أجمعو أن الولد إذا كان له كفاية، فللأب أن لا ينفق عليه، وقوله: بالمعروف تنبيه، على أن النفقة بقدر اليسار والإعسار، وجعل ذلك مؤولا إليهم وإلى الحكام، ولم نجد فيه حدا لاختلاف الناس بقدر الأزمنة والأمكنة والسن وأكد ذلك بقوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} فلم يسم الفاعل، وقال في أخرى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} قيل: هذا التكليف فيه مدخل للحكام، ولغيرهم فجعل لفظه منهما في موضع، ومعناه لا يجوز تكليفه إلا وسعه، وقوله: {لَا تُضَارَّ} حمل على الجبر، وعلى الأمر، فأما إذا حمل على الجبر فهو تنبيه على ما بني

تعالى عليه الغرائز في محبة الأبوين للولد وميلهما إليه وإيثارهما له على أنفسهما، وليس ذلك في الإنسان فقط، بل في عامة الحيوانات، وذلك متقرر في النفوس حتى زعم الناس أن الهرة تأكل ولدها محبة لهم، فأخبر تعالى عما بني الطباع عليه تنبيهاً لكل واحد من الأبوين أن لا يتهم الأخر في ولده إذ قد يبلغ من شغف كل واحد منهما أن لا يأمن الأخر عليه وعدم نفقة الأم لفرط شفقتها على شفقة الأب، وذلك بالعلات ظاهر ثم باعتبار حال الحيوان يظهر ذلك ظهورا بينا وذلك أن الحيوانات المتوالدات على ضربين، ضرب يجتمع الأبوان على تفقد الولد وضرب تنفرد الأم به دون الأب، فالأم لا تنفك من تفقد الولد في جميع ذلك، فدل ذلك أن الله ركز في نفوس الأمهات من الإشفاق أكثر مما ركز في الآباء، وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} على هذا التقدير معناه عليهم أن يجروا مجراهم، وذاك أنه لا عرف من غرائز الأقارب التحاسد بخلاف ما بين الأبوين والأولاد، حتى قيل: إن الأقارب كالعقارب، بل أضر من العقارب، نبه أن حق الأقارب أن يجروا مجراهم في شفقة البعض على البعض، إذ بينهم من النسائك، والنماذج قريب مما بين الوالدين والولد، وأما إذا حمل على الأمر، فنهى أن يفعل كل واحد من الأبوين ما يؤدي إلى مضرة الولد يكايد صاحبه، أو يضرب من النظر الفاسد، فمن المفسرين من حمل ذلك على ما تقدم ذكره، وأن الوالدة منهية عن المضارة المتعلقة بالرضاع، والمولود له منهي عن المضارة فيما يلزمه من النفقة والكسوة، ومنهم من جعل ذلك عاما في كل ما يعود بضرر على الولد من تربيته وتأديبه وتهذيبه وغير ذلك مما يكثر حصره، وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} منهم من حمل ذلك على وجوب إزالة المضارة ومنهم من حمل عليه وعلى وجوب النفقة، واللفظ محتمل لها. وقوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} أي فطاما قبل الحولين وقيل: عنى بالفصال المفاصلة عن الوالدة أو الوالد إذا تراضيا بذلك وسلمه أحدهما إلى صاحبه، وعلق ذلك بالتراضي منهما والتشاور لئلا يقدم أحدهما عن غيرة إلى ما يضر بالولد، ونبه بذلك أن كل أمر مبهم العاقبة، فالوجه فيه الإقدام عليه بعد إجماع الآراء والاستشارة، وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ}، أي إذا امتنعت الأم أو

(234)

تزوجت، فلا جناح عليكم في استرضاع غيرها، (إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف)، أي سلمتم إلى المطلقة حقها، وقيل: إذا أتيتم المسترضعة أجرتها، وإذا قريء (ما أتيتم) بالقصر، فمعناه: إذا سلمتم ما تعاقدتم عليه، وفيه دلالة على جواز الاستئجار على الرضاع، وعلى جواز عقد الإجازة جملة وختم الآية بالحث على تقواه، وتصور علم الله لله عز وجل بكل ما آتاه الإنسان وتحراه، ومن قرأ (لا تضار) بضم الراء، فلفظ مشتبه الآية يصلح الأمر على تقدير: (لا يضارر) ولكن أدغم، فضم الراء لالتقاء الساكنين، ويصلح أن يكون على تقدير (لا يضارر) على الإخبار، وأن يكون على تقديره " لا يضارر " على ما لم يسم فاعله، ماذا قرئ بفتح الراء، فليس إلا النهي على تقدير (لا يضارر) وإن كان لفظه محتملاً أن يكون نهيا عن مضارة الأم، كقولك: " لا يضرر زيد " .. قوله - عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الآية (234) - سورة البقرة. هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} وإن كانت

مقدمة عليه في التلاوة وظاهر الآية يقتضي تسوية الحكم في الحرة والأمة، كما قال الأصم، لكن السلف فرقوا بينهما ويقتضي أن لا فرق بين المسلمة والذمية كما قال الشافعي دون أبي حنيفة، وهذا الحكم فيمن لا تكون ذات حمل متفق عليه، فأما في ذات الحمل، فقد قال عمار وابنه عبد الله وزيد: إن عدتها أن تضع حملها وقال الحسن، هي أن تضع حملها، وتطهر من نفاسها، وقال علي: عدتها أقصى الأجلين من وضع الحمل، ومضى الشهور. وقد روت أم سلمة أن سبيعة بنت الحارث ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله بأن تتزوج، واختلف في الوقت الذي يعتد به من العدة، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر " تعتد به من يوم يموت "، وعلي والحسن: " من يوم يأتيها الخبر "، وقال الشعبي: إذا قامت البينة على موته فالعدة من يوم يموت، وإلا فمن يوم يأتيها الخبر والصحيح أنه يعتبر من يوم الوفاة فيه وقع الفرقة، كعدة المطلقة وكاستحقاقها الميراث من يوم الوفاة إن قيل: ما وجه تخصيص عدة المتوفاة بهذه المدة؟ قيل: قد ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر إذا كان ذكرا يتحرك بعد ثلاثة أشهر وإذا كان أنثى فبعد أربعة أشهر، فجعل ذلك عدتها، وزيد عشرة استظهارا وتخصيص العشرة بالزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في قوله تعالى:

(تلك عشرة كاملة)، وقوله: (والذين) هو مبتدأ، وفي خبره إشكال، فإن قوله: (يتربصن) إخبار عن الأزواج لا عن الذين وليس فيه ضمير يرجع إلى المبتدأ وقد ذكر في ذلك أربعة أجوبة .. الأول: تقديره: يتربصن بعدهما، وذلك عن المبرد والثاني أن الضمير في: (يذرون أزواجا) أي أزواجهم، ويتربصن عاد إلى الأزواج، والضمير إذا عاد إلى المضاف إليه كان في حكم ما عاد إلى المضاف، وذلك مثل قولهم: (من مات وحلف يتبين الثلثين)، وذلك عن الزجاج وعلى هذا يجب أن يجوز: (صاحب الدار انهدمت)، والثالث: عدل عن الإخبار عن الأزواج، لأن المعنى عليه، والفائدة فيه والقصد إليه، وذلك عن الكسائي والفراء وأنشد في ذلك: لعلي إن مالت بي الريح ملية .... على ابن أبي دبان أن يتندما فسكت عن ذكر خبر لعل، والرابع: تقديره: (ويذرون أزواجا يتربصن) فيكون أزواجهم مبتدأ -، ثانيا: (ويتربصن) خبره، لكن حذف المبتدأ الثاني إيجازا لا لم يشتبه المعنى، وإنما قال عشرا ولم يقل عشرة لتغليب التأنيث التذكير في باب التاريخ، وقال بعض النحويين: إن باب التأنيث غلب في باب العدد على عكس ما عليه حكم الباب، وعلى ذلك " فطافت ثلاثا بين يوم وليلة

(235)

قوله - عز وجل: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} الآية (235) - سورة البقرة. الخطبة والخطبة كلاهما من المخاطبة، إلا أن بالضم خص لموعظة، وبالكسر لطلب المرأة، وإن كان في الأصل اسما للحالة التي عليها الخاطب، والخطب: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، والكن جعل الشيء في الكن، والأكنان مثله ولكن خص الأكنان بما تكنه الصدور، والكن ما يكنه البيت والثوب ونحوهما، وسميت المتزوجة كالمحصنة كنة، والكنانة جعبة غير مشقوقة تكن سهامها، والسر مما لم تشيعه مما في نفسك واعتبر تارة مما يستنكف من إظهاره، فسمي غشيان المرأة به، والاعتبار بذلك. قال الشاعر: والستردون الفاحشات ولا .... تلقاك دون الخير من ستر وتارة اعتبر بصيانته، فسمى المصون سراً حتى قيل: فلان في سر قومه، والعقد يقال في الحبل وفي العهد واليمين والسميط والرمل المتداخل، و " ناقة عاقد " عقدت على رحمها بمنع الفحل عن نفسها والتعريض كالكناية إلا أن التعريض أن تذكر ما يستفهم المقصود من عرضه وليس بموضوع للمفهوم عنه لا أصلا ولا نقلاً، والكناية: العدول عن لفظ إلى لفظ هو بخلف الأول ويقوم مقامه، ولهذا سمي الأسماء المضمرة في النحو الكنايات، والخوالف، والتعريض المفسح فيه هاهنا كل لفظ وإشارة تدل على النكاح لا بصريحه نحو أن يقول: أريد التزوج،

و " ما شاء الله كان "، و " إنك لنافقة "، ونحو ذلك، وقوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} قال ابن عباس: وابن جبير والشعبي ومجاهد هو تصريح الوعد بالنكاح، وقال الحسن وجابر، الزني وقال زيد بن مسلم لا تنكحوها في عدتها، واللفظ محتمل، ولكن الأظهر ما قال ابن عباس، لأن ذلك لم يستفد إلا بهذه الآية، فأما خطر الزنى ففي كل حال، والمنع عن التزوج بالمعتدة معقول من غير هذه الآية، ويصح حملها على كل ذلك، فقد نهينا عن جميعه، وقوله {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي لما علم رغبتكم فيهن وخوفكم أن يسبقكم إليهن غيركم، أباح لكم التواصل إلى مرادكم بالتعريض وليس النهي عن العزم نهيا عن حكم الضمير، فقد أباح لنا التعريض فضلاً عنه، وإنما عنى بت القول، وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أي تنقضي العدة والكتاب عبارة عن المدة المفروضة أو أريد حكم الكتاب، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} دل على معنيين، أحدهما: ما في قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، والثاني: ما في قوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، تنبيها أنه علم شرور أنفسكم، ثم حذرنا منه كقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، ثم رجانا غفرانه، وسكن منا بما أنبأنا من حلمه بقوله: {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، واللفظان: أعني {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}، وقوله، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} وصف به أولياءه في قوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}

(236)

قوله - عز وجل -: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} الآية (236) - سورة البقرة. المقتر: الفقير، وأصله من ينال القتر، كما أن المترب والمرمل أصلهما من نال التراب والرمل، والقتار ما يحمله الريح من رائحة القدر على العثان والغبار، فدخل قاتر خفيف، كأنه قتر في الخفة، وذلك لقولهم: هو في الخفة هباء، والقترة ناموس الصائد اعتباراً بأنه حافظ لقتار الإنسان أي ريحه، وذلك أن الصائد يجتهد أن يخفي عن الوحش ريحه فصلاً عن شخصه لئلا يند عنه،، وأبي قرة لحيته صغيرة الجرم خبيثة الأثر، وتسميتها بذلك على حسب اعتقادهم أن الحية كلما ازدادت سنا وخبثا صغرت جرماً وجسماً ولهذا قال الشاعر: ذاهيةٌ تصغزُّ منها الأنامَلُ وقال: دُوَيهيةٌ تصفَرُّ منها الأناملُ فأتى بلفظ التصغيير لما أراد تعظيم الوصف، وكثرة الماس والمماسة في الكناية عن الجماع حتى صار كالصريح، والمتعة اسم لكل ما فيه تمتع أو انتفاع قدراً من الزمان، وعلى ذلك قوله: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، وقول الشاعر: 'نما نعْمَةُ المرءِ مُتعةٌ ... وحَيَاةُ المرءِ ثوبٌ مُستعارُ

لكن صارت المتعة في تعارف الشرع، لما تخص به المطلقة، واختلف الناس في المتعة، أواجبة هي أم غير واجبة، فإن وحبت، فلأي مطلقة تجب؟، وكم قدرها؟ وبأي الزوجين تعتبر؟ وأما وجوبها فعند ابن أبي ليلى ليست بواجبه على مطلق، بل إن شاء فعل، وإن شاء ترك، وقالت علي: واجبة لكل مطلقة، وقال مالك وليث: " لا يجيز عليها علي كل حال، وعند الشافعي المطلقات على ثلاثة أضرب، مطلقة قبل الفرض والمسيس، ولها المتعة قولاً واحداً، ومطلقة بعد الفرض والمسيس مفوضة كاتبا، وتسمى لها، وفي وجوب المتعة لها قولان، وأما قدرها، فالصحيح أن لأحد له، وإن كان قد قال بعضهم للموسر خادم، وللمعسر خمار وجلباب ونحوهما من الثياب، وقال الشافعي: واستحسن بقدر ثلاثين درهماً، وأما اعتبار ذلك بأيهما، فقد قال أبو حنيفة بهما، والأظهر أنها تعتبر بالزوج لتخصيصه في الآية، وقوله (أو تفرضوا) تقديره، أو لم تفرضوا فهو معطوف على قوله: تماسوهن، وأوفى نحو هذا الموضع يفيد ما يفيد الواو على وجه، وذاك أنه إذا قيل: " افعل كذا إن جاءك زيد أو عمرو يقتضي أن يفعله إن جاء أحدهما، ولا شك أنه يحتاج أن يفعله إذا جاءا جميعاً، لأنه قد جاء أحدهما وزيادة، وعلى هذا قال النحويون: " جالس الحسين وابن سيرين " يقتضي أنه إذا جالسهما، فقد امتثل، وعلى هذا قوله- عز وجل: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، فظاهر الآية يقتضي أنه لم يكن مسيس أو لم يكن لها فرض أو لم يكن الأمران، فلها المتعة كالأمثلة المتقدمة، لكن لما حكم لمن فرض لها ولم يمس في الآية التي بعدها صار ذلك كالمستثنى عنه، وكأنه قيل: إذا طلقتموهن ولم يحصل الإمران الفرض والمسيس أو حصل المسيس، ولم يحصل الفرض، فمتعوهن إن قيل: ما في قوله {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} يقتضي الشرط، وذلك يوجب أن رفع الجناح عن المطلق بشرط عدم المماسة وعدم الفرض، ومعلوم أن الجناح مرفوع عن المطلق، مسها، أولم يمسها، فرض أولم يفرض، فما وجه ذلك؟ قيل: القصد بالآية أن الجناح مرفوع بإعطاء المتعة، فكأنه قيل: لا جناح في طلاقها إذا متعها، ودل على ذلك بقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ}، وقد علم أن الجناح غير مرفوع عمن لم تمتع إذا طلقها قبل الفرض والمسيس، وقوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} أي قدر ما يحتمل حالاهما ... إن قيل: ما وجه تخصيص المحسنين في هذه الآية، والمقتر في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}، وهلا دل ذلك على أنه غير واجب إن كانت الواجبات من المشروعات لا يختلف فيها المتقي والمحسن وغيرهما، قيل: قد نظر بعض الناس هذا النظر، وقال: لما كان الإحسان قد يكون لما يريد على الواجب، وقد خص بذلك المحسنين دل على أن ذلك حق على المعروف لا إيجاب، وقال أكثرهم: إن ذلك للمحسنين والمتقين لا لتخصيص الإيجاب، بل للتأكيد، وأنه من تمام الإحسان والتقوى، كما أن قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ليس بتخصيص أنه لا يهدي به إلا المتقين، لكن يبينه على أن الاهتداء به من تمام التقوى.

(237)

قوله - عز وجل -: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآية: (237) - سورة البقرة. النصف كل واحد من الجزئين المتساويين من مقدار واحد، وتصور هذه القسمة المستوية، فسمي العدالة نصفاً والنصف بين المسنة، والصغيرة كأنها هي التي استوفت نصف العمر والناصف الخادم المبالغ في الخدمة كأنه ينصف صاحبه أي في الخدمة بقدر ما يستوفي عنه من المنفعة، والنصيف للخمار بين الصغيرة والكبيرة، والمنصف ما أعيد إلى النصف بالصبح، والنصيف ضرب من المكيال، لكونه عادمها، أو كونه بين بين ... (والذي بيده عقدة النكاح)، قيل: هو الولي الذي كان ما لكان للعقد في الأصل وقيل الزوج الذي هو مالك للعقد في الحال، وهو أولى، لأن الولي يملك العقد، والزوج هو الذي يملك العقدة لأن العقدة اسم للمفعول كضحكه وهزأه، وعفو المرأة أن تترك الهر أو تسامح، وعفو الزوج أن يوفيها كله أو فضلاً عما تستحقه من النصف فإن قيل جعل الذي بيده عقدة النكاح للولي، فكيف يصح منه العفو عما تستحقه المرأة، قيل: قد قال الشافعي: إن ذلك مخصوص في الصغيرة إذا كان وليها أباها أو جدها ... إن قيل: العفو في الترك لا في الإعطاء، والزوج هو المعطي، فكيف يصح منه العفو؟ قيل: إن ذلك في العفو عن الشيء لا في العقوبة، وقد يقال: عفي فلان بكذا إذا بذل، والصداق المفروض تستحق المرأة أخذه بالعقد، فإن أخذبه، وإلا ففيي حكم المأخوذ، فإذا عفي به كملا، فكأنه قد عفي عنه، ودل قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أن المرأة متى فرض لها بمثل العقد، ثم طلقت قبل الدخول، فلها نصف المفروض بخلاف ما قال أبو حنيفة أن المفروض يسقط وتجب المتعة، وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا} وأن كان بالقصد الأول حثاً للزوجين على التسامح خطاب عام لهما ولكافة الناس وحث

(238)

لهما على استعمال العفو وترك التشرد، وإن بعض ما وجب لك أقرب إلى الهوى، ثم قال: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} أعم من العفو، لأنه يتناول ترك ما وجب لك، وإعطاء ما لا يلزمك، ولهذا قيل: " الفضل فوق العدل "، وقيل: " الكرم في الفضل لا في العدل "، ولما حث فيما تقدم على استعمال العدالة، نبه بقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} أي: لا تتركوا الفضل مقتصرين على تحري العدالة. قوله - عز وجل -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} الآية: (238) - سورة البقرة. الحفظ والتعقد والتعهد والرعاية والحماية والصيانة متقاربة، لكن الحفظ أعلم ذلك، والتفقد حفظه، أي تفقد وكأنه مطلب في كل حال، بل فقد إشفاقاً عليه، والتعهد تجديد العهد به حالاً فحالاً، والرعاية حفظ ما به قوامه، كرعي الغنم للحماية حفظه عما يريده بسوئه .. ، والصيانة: صيونة بما تقيه، والوسط معروف يقال بوسط فلان القوم سبطهم، وقد تصور الوسط على وجهين، محمود ومذموم، فاستعمل فيهما، أما المحمود فالمصون من الإفراط والتفريط، كالعدل، ولهذا قيل للعدل الوسط والسواء والنصف، وأما المذموم، فيتصور شيء له طريقان: محمود، ومذموم، فالسالك من الطرف المحمود إلى الطرف المذموم إذا انتهى إلى النصف، فقد فارق المذموم، فكنى به عن الذم، وأما أصل " القنوت " القيام على سبيل الخضوع، ولما كان الخضوع في يكون بالدعاء والتضرع، وبالإمساك عن الكلام، ويخفض الصوت، وغض البصر، وبذل المال فنبه بكل واحد من ذلك وسمي الدعاء بعد الركوع قنوتاً، والصلاة الوسطى الظهر عن زيد بن ثابت، وابن عمر كأنها اعتبرت بالنهار، وكونها في وسطه، والمغرب عن قبيصة بن دويت، لكونها وسطا بين الركعتين والأربع اللتين بنى عليهما عدد الركعات، والصبح عن جابر، لكونها بين صلاة الليل والنهار، قيل: ولهذا قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاته، فخصها بالذكر، لكثرة الكسل عنها، إذ قد تحتاج إلى القيام إليها من لذيذ النوم، ولهذا زيد في أذانه: (الصلاة خير من النوم)، وقيل: هو العصر فيما

يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي وابن عباس، وهو الأصح، لما روي أن ابن حبيش قال: قلت ليسرة: سلي علياً عن الصلاة الوسطى، فقال: كنا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق يقول: " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم أو قبورهم ناراً "، وروي البراء أنه كان يقرأ: " حافظوا على الصلوات وصلاة العصر "، ثم نسخ بقوله: الوسطى، وفائدة تخصيصها بالذكر، لأن وقتها في أثناء الأشغال العامة الناس بخلاف سائر الصلوات التي يكون فراغ ما إما قبلها، أو بعدها، ولذلك توعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركها، فقال: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله "، واستدل بهذه الآية بعض الشافعية أن الوتر ليس بواجب، لأنه لو كان واجباً لكان أعداد الواجبات ستة، فلم يكن لها وسطى، وقال بعض المتأخرين: الصلاة الوسطى إشارة إلى النوافل المشروعة بين المكتوبات إما قبلها، وإما بعدها وإما قبلها وبعدها، وقال بعضهم: عنى بالصلوات أنواعها كلها، فرائضها ونوافلها المؤقتة، والمشروعات عند أسبابها كالخسوفين، والاستسقاء، والنذر، فأمر تعالى بالمحافظة على جميعهما، ثم قال: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} أن الفرائض، ومعنى الوسطى: الشريفة، فخصها بالذكر مع دخولها في العموم، ثم أعقبه بقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وبقوله: (فإن خفتم) - تنبيها أن فعلها واجب بحسب الإمكان في جميع الأحوال، والمحافظة عليها مراعاة وقتها وتوفية شرائطها في أدائها كما ذكر في إقامتها في قوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}.

(239)

إن قيل: ما وجه فائدة ذكر المحافظة على الصلاة فيما بين حكمي الطلاق والعدة؟ وهلا أفرد عن ذلك؟ فإن إفراد كل باب من الحكم أحسن في الترتيب من خلط بعضه ببعض، قيل: أما أولانا: فآيات القرآن منزلة حسب الحاجات، ولهذا قال الكفار: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أعلمهم أنه فعل ذلك ليقوى عليه الصلاة والسلام- على تلقينه وتلقنه فقال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}، ثم إن الله تعالى لا يخلي شيئاً يذكره مما تعلق بالأحكام الدنيوية إلا ويقرنه بحكم أخروي لينبههم إلى مراعاة الآخرة في جميع أحوالهم وأعمالهم، وأنها هي المقصودة بالقصد الأول وسائر ما يتحرى، فلأجلها، على أن ما يرونه موجود هاهنا ومحفوظ، وأبلغ وأحسن مما راعاه أصحاب القوانين، لأنه لما حثهم على العفو ورغبهم في المحافظة عي الفضل، عرفهم أن السلوك إلى التخصيص بذلك هو المحافظة على الصلوات في كل حال، فإن الصلاة هي الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر، كما قال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، ثم صرف الكلام إلى ذكر ما كان بصدده، فتممه، وهذا النحو من جنس ما يسمى بـ التفات المعدود في بديع الكلام .. قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} " الآية (239) - سورة البقرة .. الركوب: كون الشيء فوق أخر، يقال لكل مركوب ركوب، وخص الراكب في تعارف العرف يمتطي البعير، وسمى المطية ركاباً، وما يجعل الراكب رجله فيه ركاب، وأركب المهر، بحيث يركب، وتعورف المركب، والمركب فيمن ركب فرس غيره، وفيمن يعجز عن الركوب من قوله: ثم الطيور المركبا والركبة: بهذا الاعتبار سميت، وقيل: " فرس أركب، أي " عظيم الركبة، وركبته: أصبت ركبته،

(240)

نحو: فأدته ورأسته، وقال: إذا أصبته بركبتك، نحو: بدنته وعنته، أصبته بهما، والمركب كناية عن فرج المرأة، وهو العانة من المرأة، كما كني عن المرأة بمظنة، وقعيدة، لكونها مقتعدة، ورجال: جمع راجل: نحو صحاب وقيام، ويقال. نساء رجال، كما يقال: رجالُ رجالٍ، أمر تعالى بفعل الصلاة على الوجه الممكن. وعلى هذا دل قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وعلى هذا قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} وجعل بعضهم الذكر هاهنا مخصصاً بالصلاة، وجعله بعضهم عاماً فيه وفي غيره من الأذكار، وحث على ذكره والصلاة كيفما يقتضيه ما علم من الأحكام وسائر العلوم. قوله- عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآية: (240) سورة البقرة. عامة المفسرين على أن قوله تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} أمر من الله عز وجل- بأن يوصي الرجال للزوجات أن تعمر بعد وفاتهم حولاً، وقالوا: اقتضت الآية ثلاثة أحكام: عدة سنة ونفقتها، وسكناها في تركة زوجها مادامت معتدة، وكونها ممنوعة من الخروج، فنسخ منها ما زاد على أربعة أشهر وعشر بالآية المتقدمة، ونسخ وجوب الوصية لها ما به الميراث، ولم يثبت نسخ للخروج، فصار دلك ثابتاً في العدة الثانية، وقال بعض المتأخرين:

ليست هذه الآية منسوخة ولا تأويلها على ما تصوره، وإنما قوله: (وصية) مصدر في مواضع الحال، أو خبر ابتداء مضمر في موضع الحال في قول من رفع، والآية إخبار عن الجاهلية فيما كانوا يفعلونه، وإبطال لحكمهم في تقديرها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} موصين لها بمتاع، أي بعطيه على أن لا يخرجن إلى الحول، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}، أي لا إثم في إبطال ذلك على ما أمر الله به، وبينه، ودعاكم إليها فهذا توكيد للآية المتقدمة وتنمية أن ما كانوا يفعلونه لا يلزمكم، بل الذي يلزمكم ما بين في الآية المتقدمة، فقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} مبتدأ، وما بعده إلي قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في صلته وفي قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ} في موضع الخبر، ودخول الفاء فيه لكون المبتدأ موصولا، نحو: " الذي يأتيني فله درهم "، وهذا الوجه صحيح من وجه، حيث اللفظ وعلى ما عليه الحكم، لكن عامة السلف في تفسيرها على ما تقدم، ويوضح ذلك أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت أن بنياً لها توفي عنها زوجها اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحلها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله: " فقد كانت إحداكن تلبث سنة، ثم ترمي ببعرة عند رأس الحول، فهلا أربعة أشهر وعشراً " وذكر رواية بنت أبي سلمة أن المرأة كانت إذا توفى بها زوجها دخلت خيشاً، ولبست شرشابها، ولا تمس طيبا حتى تمر سنة، ثم تؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طير، فتقتص له، فعل ما يقتض شيئاً إلامات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها، ثم تراجع ما شاءت من طيب أو غيره .. إن قيل: لم قال في هذه الآية، وفيما قبلها: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}؟، فرفع الجناح عن الرجال فيما فعلن، وذلك يقتضي أن يزر أحدنا وزر الآخرة، وقد قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.

(241)

قيل: قد يرون في قراءة ابن مسعود: (لا جناح عليهن)، والصحيح ما عليه المصاحف، ووجه ذلك أمران: أحدهما: أن النساء لما كن تابعات للرجال، وتحرر أمرهم، صار الجناح في كثير مما يفعلن راجعاً إليهم إذا لم ينهوهن، ولهذا قال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} والتاني: أن ما يشير إليه، فإنهن يفعلن في أنفسهن هو أمر يتعلق بالرجال، فلا يمكنهن أو يساعدوهن وكل موضع اجتمع مذكر ومؤنث أو مخاطب أو غائب، فالحكم في اللفظ للمذكر والمخاطب دون المؤنث والغائب، فلهذا قال: عليكم إن قليل: لم قال هاهنا {مِنْ مَعْرُوفٍ}، وقال فيما قبله (بالمعروف)، وقال هاهنا: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وفي الأول: (والله بما تعملون خبير)؟ قيل: إن " من " والباقي مثل هدا الموضع يتقاربان حكماً، وإن كانا يختلفان من حيث العربية تقديرا، فقوله: {مِنْ مَعْرُوفٍ} إباحة لجنس الأفعال المعروفة، أي المباحة لجنسه، وقوله: (بالمعروف) في موضوع الحال، وهو إباحة لما فعلته على شريطة تحري المعروف وقال ههنا: لما ذكر ما هو تعريض التغيير أو غيره على التفسير المتأخر، قال: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تنبيها أنه تعالى قادر على تغيير ما يغير غير لاحق به مضرة من مخالفتكم له، ولا منفعة في موافقتكم إياه أمره وحكمته في تغييره، وقال في الحكم المقرر عليهم على التأييد، (والله بما تعلمون خبير) - تنبيهاً أن من قصر فيما رسمه، فمجازى به .. قوله- عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} - الآية: (241) - سورة البقرة إن قيل: ما وجه تكرير. " ذلك " وتخصيص " المتقين "؟ قيل: من المفسرين من جعل هذا المتاع للمطلقات عامة على سبيل الاستحباب، لا على الإيجاب،

(242)

وقال: أراد الله أن يكون تشريحاً على وجه تطيب به نفسها، ويزول عنها ما خامرها مش وحشة الفراق، ومنهم من قال: هو على الإيجاب، وإليه ذهب ابن جبير، وأبو العالية ويكون تخصيص من تقدم ذكرها لتأكيد أمرها، ومنهم من قال: يعني بالمتاع المتعة، وإنما عنى مالها من المهر والسكنى، وأما تخصيص " المتقين " فقد تقدم .. قوله- عز وجل: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الآية: (242) سورة البقرة. نبه أنه كما بين لكم هذه الأحكام يبين لكم سائر الآيات العقلية والسمعية لتكونوا أقرب إلى استعادة العمل المكتسب وقد تقدم أن أمير المؤمنين قال: العقل عقلان: مطبوع ومسموع ولا يصلح أحدهما إلا بالآخر، فالأول هو الذي يتعلق به صحة التكليف المتناهية بقوله عليه الصلاة والسلام: " إن الله لما خلق العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك بك أخذ، وبك أعطي ".

(243)

والثاني: هو الذي قال عليه الصلاة والسلام لعلي: " يا عليُّ: إذا تقرب الناس إلى خالقهم بالصلاة والصوم، فتقرب إليه بانواع العقل تسيقهم بالدرجات والزلفَى عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة " فهذا الثاني هو العقل المشار إليه بقوله تعالى: {لعلكم تعقلون}، وهو في الحقيقة الإيمان والتقوى والإخلاص. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} الآية: (243) - سورة البقرة. رأيت: تتعدى نفسه دون الجار، لكن لما استعير قولهم {أَلَمْ تَرَ} لمعنى: (ألم تنظر) عدى تعديته وفائدة استعارته أن النظر قد يتعرى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقل ما استعمل دلك في غير التقرير، ولا يقال: رأيت إلى كذا، وكما أن الرؤية ضربان، رؤية بصر، ورقية بصيرة، كذا أيضا النظر والإبصار، وألوف جمع ألف كشخوص، وعيون وقيل جمع ألف كحمول، وحلوم، وروي في الخبر أن قوماً من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم- تفاديا من الطاعون فأماتهم الله، ثم أحياهم ليعرفهم عيانا تحقيق مادل عليه قوله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} وقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} وقوله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ

فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، وقوله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، وقوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} تنبيه أن الكثرة والتعاضد وإن كانا نافعين في دفع الأزمات الدنيوية، فليس بمعنية في الأمور الإلاهية، فمن جعل ذلك جمع ألف، فنظر منه إلى نحو ما قال الشاعر: ألم تر أن جمع القوم يخشى .. . وأن حريم واحدهم مباح ومن جعله جمع ألف، فنظر إلى نحو قولهم: " لن يعجز القوم إذا تعاونوا " ومن جعله جمع ألف، فقد قيل: كان عددهم أربعة آلاف عن السدي، وقيل، كانوا أكثر من عشرة آلاف عن ابن عباس والحسين والضحاك، وهو الأصح، لأن ذلك جميع للكثير ولو كانوا أقل من عشرة لقتل آلاف، وقيل: معنى أماتهم: ذللهم تذليلاً يجري مجرى الموت فلم تغن عنهم كثرتهم وتظاهرهم من شيئاً، ثم أحياهم، أي أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة تعالى في أنه يذل من يشاء، ويعز من يشاء، وتسمية الشدائد موتاً، لكونها أعظم الموتين، كما قال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت .. . إنما الميت ميت الأحياء وقيل: أشد من الموت ما يتمنى له الموت، وقيل: عنى بالموت الجهل، والحياة العلم، وقال ابن عباس في قوله: {أو من كان ميتا فأحييناه} أي: جاهلاً فعلمناه كما يحيا الجسد بالروح، ووصل ما أراهم من الآية العظيمة من إحيائهم بذكر ماله عليهم من النعمة وقلة شكرهم له .. ، وقوله:

(244)

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} كقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، لكنه أبلغ في الذم، لأنه نفى وقوع شكر منهم وشكور هنا مبالغة، وقد لا يكون شكوراً من كان شاكراً .. إن قيل: لم أعيد ذكرا الناس ولم يقل: (ولكن أكثرهم)؟ قيل: لأن الناس في الأول عام لكون نعمته على جميعهم، وفي الثاني خاص للمكلفين، لأنه لا يلزم شكرهم غيرهم، فكأنه قيل: ذو فضل على جميع الناس، ولكن أكثر المكلفين لا يشكرون .. إن قيل: لم خص النبي - ص - الله بهذا الخطاب، فقال: {أَلَمْ تَرَ} وقال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا}؟ قيل: لأن ذلك لما كان من الاعتبارات التي تخفي إلا على ذوي البصائر من الأنبياء ومن يدانيهم في العلم ولم تكن من المحسوسات المشاهدة، وخصه بالخطاب، وفي الآية الأخرى ونظائرها لما كانت من الأمور المحسوسة عمهم بالخطاب. قوله - عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة الآية (244) .. قل: تقديره (وقيل لهم بعد ذلك: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ولفظ الحكاية مقدر، وقيل: إن ذلك خطاب منه تعالى لهذه الأمة، وأنه لما قرر بالآية المتقدمة في أنفسهم أن الفرار لا يزيد في الأجل، حثهم بهذه على المجاهدة في سبيله، ولم يعن الأعداء المجاهدين فقط بل عناهم وأقرب الأعداء إلى الإنسان وأصعبها دفاعاً وأكثرهم أذى الهوى المدلول عليه بقوله عليه الصلاة والسلام: " جهادك هواك "،

(245)

وقوله: {أعدي عدوك نفسك التي بين جنبيك} وقوله لما رجعوا من تبوك: " جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وقال: " جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم " وصعوبة مجاهدته أنه عدو يخفي وتخفى مكائده، ونحو هذا نظر الشاعر حيث قال: رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى .. . فكيف بمن يرمي وليس برامي وعلى هذا قولخ - عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}، وقوله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. قوله - عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الآية (245) - سورة البقرة. القرض: القطع بالناب، والمقراض، واستعير لصنعة الشعر استعارة اللوك والمضغ في نحو قول بعضهم:

" قد لاكه ومضغه من هو أشد لوكاً ومضغاً منك " هذا إذا اعتبرته بقرض الأسنان، فأما إذا اعتبرته بقرض المقراض، فاستعارته كاستعارة الحوك والخياطة والإلباس، وسمي ما بذل بعوضٍ قرضاً، وما بذلك بغير عوض قرضاً، وسمي عروض الدنيا قروضاً، كما سميت عواري، والضعف تركب قدر من متساويين، أو يقال مثلاً الشيء في المقدار، وكل واحد ضعف الآخر إذا أخذ، وقول الشاعر: " جزيتك ضعف الود " أي مثلي ودك في القدر، وضعفا الشيء مثله ثلاث مرات، إلا أنه إذا قيل: ضعفان، فقد يطلق على الاثنين المثلين في القدر من حيث أن كل واحد يضعف الآخر كما يقال الزوجان، ويكون كل واحد زوجاً للآخر .. إن قيل: الضعف والضعف يشتركان في الاشتقاق، قيل: كلاهما اعتبر فيه معنى المماثلة في القدر، إلا أنه جعل الضعف لما يزاد عليه، والضعف لما ينقص منه، واستعمل فيهما أضعفت، وضعفت، وإن كان التشديد في الضعف أكثر، وضاعفت في الضعف لا غير، وفرق بينهم تضاعف وتضعف، فقال التضعيف لما جل مثلين، والمضاعفة لما زيد عليه أكثر من ذلك، ولهذا قال أكثرهم (فيضاعفه) بالألف، ولما حث الله على المجاهدة في سبيله وذلك ببذل المال والبدن والنفس سمى ذلك قرضاً كما سماه بيعاً واشتراء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية وسماه إحساناً في قوله: (واحسنوا) كل ذلك استعطافاً لعبده واستلطافاً، وسمع أعرابي قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} فقال " أعطانا فضلاً، وسألنا منه قرضاً ليرد إلينا أكثر وأوفر منه، إنه لكريم " وسمع ذلك أبو الدحداح، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم إن تصدقت بحديقتي أفلي مثله في الجنة؟ قال: نعم. قال: ومعي أم الدحداح ودحداح؟ قال: نعم، وكان له حديقتان، فتصدق بأفضلهما ..

(246)

إن قيل: بذل النفس كيف يصح أن يقال له قرض؟ قيل: استعمال ذلك فيه كاستعمال الجود، وقد قال أبو الدرداء " أقرض من عرضك ليوم فقرك " وفي قوله: {حُسْنًا} إشارة إلى كل ما يصون الإفضال عما يشينه من منة ومراءاة وغير ذلك وقوله {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قيل: " يسلب تارة، ويعطي تارة "، ونحوه نظر من قال: فكيف يوفيه وثانية هاديه، وقيل: يسلب قوماً ويعطي قوماً، ونحوه نظر الشاعر في قوله: ويسلب قوما ويثري آخرين .. . به الله من ذا يستعمر وباري وقيل: يقتر ويوسع، وقيل: يقبض الصدقات ويخلف البدل مبسوطاً أن كثيراً، وقيل: يضيق صدور قوم ويشرح صدور آخرين، كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقد تقدم الكلام فيه، وذكره ها هنا توعد .. قوله - عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الآية: (246) - سورة البقرة. قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى الملأ جماعة شريفة، وذلك اعتبار بالامتلاء كأنهم يملون العين رواء ومنه قيل: شاب مالئ العين، ومالأته: عافيته: أي صرت من ملائه أي جمعه، كقولك: شايعته أي: صرت من شيعته، وفلان ملئ بكذا من الامتلاء، وعلى الوفاء، وهو تمام العهد، واشتقاق

ضده وهو العذر، يدل على ذلك لأنه الترك، ويعني: " أحسنوا أملاءكم "، أي أخلاقكم، وقال الشاعر: " فقلنا أحسني ملأ جهينا "، فكأنه سمي الخلق بذلك لكونه مليا باراً، في ذاته وعلى ذلك قال الشاعر: كل امرئ يبدي الذي في خلقه وقال: كل امرئ راجع يوماً بشهية والملك لمن جمع أربعة معان: " العلم، والقدرة، والسياسة، وعدداً يسويهم "، وبيان ذلك أن الأمر بالعلم مدبر، وبالقدرة ينفذ، وبالسياسة ينظم، وبالجمع بحفظ، ولهذا كان الله الملك الحق، ومن عدله فكالظل له، ولهذا قال: " السلطان ظل الله في الأرض " أي خليفته، ومحفوظة كالظل الذي يظل، ولا يصح استحقاقه إلا لمن قام بحقه على مقتضى الشرع ولأجل تعذر القيام بذكره التسمية به، لأن المتسمي بالملك ما لم يوف حقه لابس ثوبي زور، وتكلف للناس التقول به وسألهم إياه الملك ليقابلوا معه لعلمهم أن منزلة الملك من الرعية منزلة الرأس من الجسد الذي لا قوام له إلا به.

وعلى ذلك قال الشاعر: كأن الخلق ركب في مثال .. . له جسد وأنت عليه رأس وقوله: (يقاتل) متى جزم، فجواب، وإذا رفع فاستئناف، وقرئ (يقاتل) على وصف الملك، وقوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أي: هل طمعتم في أنفسكم أن تقوم بذلك وأن لا تجن؟ قالوا: وما لنا ألا نقاتل؟ أنكروا أن يكون منهم تضجيع في قتال أعدائهم، فجعل حجتهم شيئين هما غاية ما يحنق، وهو انزعاجهم عن مقارهم الذي هو شريك القتل، وقيل الولد الذي هو أصعب على الإنسان من قتل نفسه، وفي حكاية ذلك إشارة إلى ذمهم من وجهين أحدهما أنهم قالوا: أن تكلفوا، وقد قيل: فلما قام الإنسان بواجب التزامه، ابتدأ ولهذا لما روجع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج، فقيل: ألعامنا هذا؟ أم للأبد؟ قال: بل للأبد

(247)

وذم الله (بني إسرائيل) في التزامهم الرهبانية، ثم قصروا فيها، والثاني: أنهم لم يلزموا القتال كما يجب أن يلزم، فإن المقاتلة في سبيل الله يجب أن لا يكون لها سمعة واجتلاب ثناء أو شفاء مغيطة وكذا يجب أن تكون سائر الأفعال المحمودة وهم لما قالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} قصدوا شفاء الغيظ لا ائتمار الرب، فعلم أنهم لا يصبرون في مواطن الحق على ما يجب. إن قيل: لم أدخل (أن) في قوله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} ولم يدخله في قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ}؟ قيل: إن قولك (مالك، ومالنا) تجئ مرة للإنكار وعليه قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ} في موضع الحال نحو قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} والثاني بمعنى: (ما منع) وعليه هذه الآية، فلابد إذن من " أت لا " تقديره: (ما منعنا من ترك القتال قال أبو العباس: " ما: نفي ها هنا، كأنه قيل: ليس لنا أن لا نقاتل " وقال الأخفش: أن زائدة، ويجوز أنه أدخل (أن) في قوله: ألا نقاتل لكون القتال مستقبلاً، ولم يدخل في قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ} لكونه حالاً، لأن " أن " لأحد المعدومين .. قوله - عز وجل: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآية (247) - سورة البقرة. كان بنو إسرائيل اعتقدوا أن الملك يستحق بالوراثة وكثرة المال، وكان فيهم أسباط ملوك، فلما أنبأهم نبيهم أن الله بعث لهم طالوت ملكاً، ولم يكن من بيت الملك، ولا كان ذا مال، استعظموا، فراجعوه وقالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} وكان ذلك منهم خطأ من وجهين:

الأول: لما قال الشعر: وما الحسبُ المورُوُث لا در درهُ .. . بمحتسِب إلا بِآخِر مُكْتَسبِ إذَا الُغضْنُ لم يُثمْر وإن كَان شُعبةًَ .. . منَ الثمراتِ اعتدهْ الناسُ في الْحَطَبِ وقال بعض الملوك: إن ولد مني جاهل فعدوه حماراً، وإياكم أن تراعوا نسبه، فتفوضوا الأمر إليه، وتعتمدوا في المملكة عليه، والثاني: أن المال ليس بضروري في الملك وأعيان الخلفاء الراشدين والأمراء العادلين كأن عناهم القناعة دون الثروة، فبين تعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} أن فيه الخصال التي هي قانون في استحقاق الملك وبيانه أن الملك يستحق في أن يكون الإنسان من عنصر صالح سواء كان من بيت الملك قيل أو لم يكن. ، وأن يكون ذا علم بسياسة نفسه وأهله من رعيته، وأن يكون في جسمه كامل الخلقة، شديد القوة، ذا سلامة من العاهات الشائنة، وذكر أنه قد آتاه كل ذلك، ثم قال: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} تنبيهاً أنه هو المختص بإيتاء الملك لعلمه يمن يستحقه، ولذلك أمرنا بالاستسلام له في ذلك، فقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} فقرن ذلك بالأمور التي يختص هو بها، وهي: إخراج الحي من الميت والميت من الحي، وإيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وإعطاء الرزق، ثم قال: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي الذي أعطاه الملك هو ذو سعة في المال، وعالم بالأشياء - تنبيهاً أنه إن احتاج إلى المال في ملكه حوله، وقوله: {عَلِيمٌ} أي عالم بمن يؤتيه الملك، كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.

(248)

قوله - عز وجل: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية (248) - سورة البقرة. البقية من البقاء، والبقاء ثبات الشيء على حالته الأولى، لكن البقية صارت لبعض حمله لم يتعين حكمه بتعين المحمولات، فاستعمل فيما يحمل على الظهر، وفي الماء إلي في السحاب، والولد الذي تحمله المرأة في البطن، وتعورف في البرق، وتسميته بذلك استصحاباً لحمل الأم أياً، أو لأنه يحمل باليد لصغره، وخص الحمالة بما يحمل به السيف على بناء العلاقة، والمحمل لما تركته الناس، وخص الحمالة بالفتح لما يتحمله قوم من الدية والحميل تارة استعمل في الكفيل، وهو بمعنى فاعل، وتارة في المحمول من بلد إلى بلد، فسمى الغريب، وعثاء السيل به والحملوة من الإبل لما يحمل عليه وعلى ما ساقويه وركوبه وذكر منهم ما خص الله به " طالوب " من كرامته وما هو آية من الله - عز وجل - كالمعجزة لملكه، واختلف في التابوت فمنهم من قال: كان منحوتاً من الخشب فيه شيء مسمى بالسكينة تسكن بها قلوب القوم الذي كان معهم وبقايا رضاض اللوح الذي كان فيه التوراة، وقنا كان علي [عجلة بين ثورين] يسوقهما الملائكة، وقيل: بل الملائكة تحمله في الهواء وهم يرونه، وقيل كان هذا التابوت مع يوشع، ففقد في التيه، ثم رده الله عز وجل: إلى طالوت، وقيل: بل كان قد سلبته العمالقة، فدفنوه في منزله، وإلى هذا ذهب عامة الصحابة والتابعين فيما دل عليه ظاهر قولهم حتى قال مجاهد: السكينة شيء كان له رأس كرأس هره، وله جناحان، وقال بعض المفسرين: التابوت

إشارة إلى القلب، والسكينة إلى ما فيه من العلم والإخلاص والإيمان وذكر الله الذي تطمئن به القلوب، قال: وسمي القلب سفط العلم وبيت الحكمة وتابوته، ورعاه وصندوقه، وعلى هذا يقال: (اجعل سرك في وعاء غير سرب، وفي بيت معلق الرتاج، ووعاء موثق الأشراج)، قال: وجعل آيته أن صير قلبه مقر العلم، ومجمع السكنية بعد أن لم يكن له ذلك، وعلى ذلك تسميته بالتابوت سمي عمر ابن مسعود - رضي الله عنهما كنيفاً ملئ علماً، وقال هذا القائل ما روي عن علي - عليه السلام، ورضي الله عنه: أن السكينة ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، فإشارة إلى الروح أو إلى الملائكة، ولهذا روي " كان روحا " من الله عز وجل - يكلمهم عند وقوع الاختلاف، ويسكنهم عند القتال والله أعلم بالحقائق.

(249)

قوله - عز وجل: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} الآية: (249) - سورة البقرة. الجند يقال للعسكر اعتباراً بالغلظة من الجند، أي الأرض الغليظة ثم يقال: لكل مجتمع جند، نحو: (الأرواح جنود مجندة .. )، والغرف تناول الماء، ويقال للمعترف غرفة، وللمرة غرفة، والغريف الماء المعرض للاغتراف، وتصور منه الرفع، فسمي العلية غرفة تشبيهاً بالمغترف، وبهذا النظر سمي مشربة، وسمي الغمام مادام عرفه كأنه لرطوبته معترف، وجوز الطريق وسطه، و (جاز منه) كأنه عبر الجوز، فكثر حتى صار الجايز لما لا يكره، وعلى نحوه قيل سائغ، وهو من ساغ الطعام في الحلق، وجاوز، وتجاوز استعير له هذا البناء، لتصور المكان متباعداً عن الإنسان تباعد لإنسان عنه، ولهذا قيل: سافر وتباعد والفئة فرقة من قولهم: فاءت رأسه، وقد تقدم أن أسماء الفرق كثيراً ما تشتق من الألفاظ المقتضية للقطع كالصرمة، والقطيع والطامة، وما القوة بالمحمول، ويستعمل في قوة الحيوان، وأكثر ما يقال في الأثقال الجسيمة، وإذا قيل في غيرها، فعلى التشبيه، وروي في الخبر أن طالوت لم يكن يثق بقومه، فأراد أن يمتحنهم، وكان قد سار بهم مفازة لم يجدوا فيها ماء، فانتهوا إلى نهر من الأردن وفلسطين، فامتحنهم به ..

إن قيل: فكيف قال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} فنسب ذلك إلى الله عز وجل .. ؟ قيل: يجوز أن يكون الله تعالى ألقى ذلك في روعه كإلقاء الوحي في روع أم موسى، ويجوز أن يكون قد أخبره نبي زمانه عن الله، ويجوز أنه نسبه إلى الله لما قصد به وجهه وإن لم يكن الله قد أخبره به، كقوله: ابتلانا الله بكذا، وبين تعالى أن أكثرهم لم يأتمروا له، وقال بعضهم: " إن ذلك جعله الله مثالاً لهم "، ومثلاً مضروباً للدنيا وأتباعها وأن من يتناول منها قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا، ومن تناول منها فوق ذلك ازداد عطشاً، وعلى هذا قيل: " الدنيا كالماء المالح "، من ازداد منها شرباً ازداد عطشاً، وإلى هذا أشير في الخبر المروي " أن الله - عز وجل - إذا سأله عبد شيئاً من عروض الدنيا أعطاه، وقال له: خذه وضعفه حرصاً " وإياه عني النبي - عليه الصلاة والسلام بقوله: (لو أن لابن آدم واديين ذهب، ابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} يجوز أن يكون معطوفاً على (هو ومعه) من صلة (آمنوا)، ويجوز أن يكون: (الذين آمنوا، ومعه) خبره، وهو الأجود، لأن الأظهر في قوله: {لَا طَاقَةَ لَنَا} إن ذلك حكاية عمن شربوا، وإليه ذهب ابن عباس والسدي وقالا: " هم أهل الكفر لا الذين آمنوا "، وقال الحسن وقتادة وابن زيد: " الذين قالوا: " لا طاقة لنا " هم المؤمنون " وقوله: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} ظن ها هنا هو المفسر باليقين عند أهل اللغة، وهو المعرفة الحاصلة عن امارة قومه، ويدل على ذلك استعمال أن المشددة أو المخففة منها، نحو: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} وإذا أريد الشك، استعمل معه (إن) التي تصحب المعدومين من الفعل، وقوله: (من) يجوز أن يكون استفهاماً، وأن يكون خبراً وإن كان معنى الاستفهام يعود إلى معنى الخبر، ولكن متى قدر استفهاماً نصب فيه إذا حذف عنه من، وإذا قدرته خبراً وجرت، وسكن منهم بأن عرفهم أن لا اعتبار بكثرة العدد وقلته وأحالهم على معرفتهم بالأعداد القليلة الغالية الكثيرة، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ..

(250)

قوله - عز وجل: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} الآية (250) - سورة البقرة. البرز: المكان المرتفع، وبرز " حصل فيه "، وصار عبارة عن الظهور، وقيل للمشهور بالفضل: برز، و " امرأة برزة " قيل عفيفة، لأن رفعة المرأة بالعفة، لأن لفظ البرزة اقتضى ذلك، والأكثر أن البرزة هي التي لا تستقر، والفرغ: خلو المكان لما فيه، وخلو ذي الشغل من شغله، وسمي فرغ الدلو فرغاً باعتبار انصباب الماء عنه، وضربه ضربة مفرغة لدم البدن، والثبات: اللزوم في المكان، وعنه استعير قول ثابت، أي صحيح لا يبطل، وفلان ثبت المقام لمن لا يبرح موقفه في الحرب منهزماً، ونصر الله عنده قد يكون بزيادة قوته وجرأته، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائه، وغير ذلك، ولم يعن أنهم رغبوا إلى الله عز وجل - في ذلك بالقول فقط، فالقول ليس بمغن ما لم يعاضده فعل، ولا الفعل بمغن ما لم تعاضده النية، فالمعنى لما برزوا رغبوا إلى الله بمقالهم واجتهادهم ونياتهم أن يمدهم بالصبر، وتثبيت القدم والنصرة على الكفرة .. قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} الآية (251) سورة البقرة. الهزم: دفع الشيء لليابس حتى يتحطم، كهزم الشن، وهزم الرعد مشبه به لصوت تكسره، وقيل أصابته هازمة دمر أي داهية كاسرة كقولهم فاقرة، والمهزام ما يحرك به للجمز والهمز يقاربه في الأمرين الكسر، والصوت والدفع صرف الشيء من مكان إلى مكان، أو عن حالة إلى حالة، ودافعت فلاناً ودفعته أزعجته، وفلان مدفع مزعج عن مكانه أو بستانه، ووصف السيل الكبير بالدفاع، لدفع بعضه بعضاً، بين تعالى أنه جمع لداود - عليه السلام - الملك والحكمة والنبوة، وهي أعظم فضيلة، إذ

لم تخص بمجموعها إلا بعض الأنبياء، وجعل لبعضهم النبوة دون الملك، وإن لم يخل أحد منهم من نصرته - لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} وقال لموسى عليه الصلاة والسلام: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} وقال: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} لقوله {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} فالكتاب: الأحكام، والميزان: العدالة، ومعنى الحكمة قد تقدم أنها معرفة حقائق الأشياء وحقيقتها إنما هي لله عز وجل، وإذا استعمل في غيره، فمبلغ ذلك تقدم طاقة البشر، وهي أعم من النبوة، فكل نبي حكيم، وليس كل حكيم نبياً، وقوله: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} إشارة إلى العلوم النبوية التي لا وصول إليها إلى بالوحي، وفي قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} تنبيه على فضيلة الملك، وأنه لولاه لما استتب أمر العالم، ولهذا قال الدين والملك مقترنان، وتوأمان لا يفترقان، ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر، لأن الدين أس، والملك حارس، ومالا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، وعلى ذلك قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} الآية إن قيل: على أي وجه دفع الله الناس ببعضهم؟ قيل: على وجهين أحدهما: دفع ظاهر، والثاني دفع خفي، قال: فالظاهر، ما كان بالسواس الأربعة الذين هم الأنبياء، والملوك، والحكماء والوعاظ، فسلطان الأنبياء على الكافة خاصهم، وعامهم، وظاهرهم، وباطنهم، وسلطان الملوك على ظواهر الكافة دون الباطن وسلطان الحكماء على الخاصة دون العامة، وسلطان الوعاظ على بواطن العوام وأما الدفع الخفي فسلطان العقل، فالعقل يدفع عن كثير من المقابح، وهو السبب في التزام حكم السلطان الظاهر، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} إن قيل: ما فائدة ذلك بعد قوله: آنفاً {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}؟

(252)

قيل: بين في الأول فضله على الناس بما خصهم به من الفضائل الإنسانية، وبين ها هنا نعمته على جميع العالمين، والحيوانات، والروحانيات، والجمادات، فإن العالمين يتناول كل ذلك، وإلى نحوه أشار بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. قوله - عز وجل: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية: (252) - سورة البقرة. إن قيل: ما فائدة قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} في هذا الموضع؟ وهل خفي ذلك عليه حتى يذكره به؟ وما تعلق ذلك بما قبله؟ قيل: يجوز أن يكون تقديره (وإنك لمن المرسلين بها)، لكن لفظة بها إيجاز، أو يجوز أن تكون الآية متقدمتين محذوفتي النتيجة على تقدير: إذا كان حال المرسلين وأممهم ما نتلوه عليك، وأنت مرسل إلى قومك كما أرسل المرسلون إلى قومهم، فلا عجب أن تجري مع قومك مجرى أمرهم مع قومهم، والإشارة بذلك إلى معنى قوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}. إن قيل ما فائدة اقتران التلاوة بالحق؟ قيل: قوله: بالحق في موضع الحال، كأنه قال: وهو الحق، وعلى تحمل عندي قوله: رب أحق بالحق.

(253)

قوله - عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} الآية: (253) - سورة البقرة. إن قيل: على أي وجه تفضيل بعضهم على بعض؟ أبتخصيص بعضهم بمنحة؟ كقولك: " فضلت فلاناً في العطاء؟ أو بالحكم والقول "، كقولك: " فضلت زيداً على عمرو في العلم "؟ قيل: بالأمرين جميعاً، فإن الله تعالى جعل لمن رشحه للنبوة فضائل خصه بها، ابتداء وفضائل هداه إليها ليصيبها، فما خصهم به أن جعل كل واحد في نفسه وأخلاقه معرى من عاهة تشينه، وأيده بأنواع كرامات وزيادة معاون تشرح صدره، وحدد عليه في كل وصايا تسدده، وعاتبه في أذى زلة ظهر منه، فهذا التفضيل الذي جعله ابتداء، وأما تفضيله لهم بالحكم، فعلى حسب ما يظهر من أفعالهم، فمعلوم أنه ليس حظ يونس - عليه الصلاة والسلام - حيث حذر نبينا - عليه الصلاة والسلام أن يكون مثله في الصبر بقوله: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} كحظ الذين حثه على الاقتداء بهم في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، فالتفضيل يحصل بالأمرين، وللتفاضل بينهم قال عليه الصلاة والسلام: " فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وختم بي النبيون، وأرسلت إلى الناس كافة " ..

ولما كانت هذه الأشياء موهبية لا مكتسبة، قال عليه الصلاة والسلام: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " تنبيهاً أن الفخر لا يستحق إلا بالمكسوب دون الموهوب، ونحو هذه الآية في تفضيل بعض الأنبياء على بعض قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}. وهذا حكم في الملائكة بقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}، وقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} قيل إشارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الله، فإن قيل: ولمَ لَمْ يصرح بذكره أو بوصفه، كما فعل بموسى وعيسى؟ قيل: تقدم أن مورد كلام الله تعالى مورد خطاب الناس فيما بينهم، ولما كان المستحسن في بعض المواضع أن يذكر الممدوح المخاطب تعريضاً، فيكون أبلغ من التصريح لما جرى من عادتهم أن مدح المواجهة هجاء، والثناء في الوجه قبيح، وتارة لأن الإطراء قد يدعو إلى الغفلة، وتارة لكون الممدوح بذلك المدح مستغني به عن ذكره كما قال الشاعر: وإني في بنى ثنائِكَ جاهداً .. . وقدْ علمتْ أضعافَ ذاَكَ الْخلائِقُ كمنْ قَالَ إن الثلجَ أبْيضُ باردُ .. . وأنًَّ شهاب النارِ أحمُر حارقُ وَهَذَا وهَذَاَ بينانِ كلاهُمَا .. . لمِنْ هُو رائِي ولمنْ هُو ذَائقُ وروح القدس إشارة إلى ما خص به عيسى مما كان يحي به الموتى ملكاً، أو قوة، أو اسماً من أسمائه أو علماً، وقد فسر بكل ذلك، وسمي جبريل - عليه السلام - روح القدس، والروح الأمين في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} وفي قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ}.

إن قيل: على أي وجه قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وكيف قال: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} ولفظة {لَكِنِ} هي للتدارك، فما المتدارك ها هنا؟ قيل: ذكر تعالى أنه لو شاء أن لا يقتتلوا الفعل، ولكن أراد ذلك لأنهم اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكانت الحكمة تقتضي أن يؤمر المؤمنون بقتال الكافرين، ففي قوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} حذف على سبيل الاختصار تقديره " لكن شاء فإنهم اختلفوا، أو الاختلاف كالسبب لتلك المشيئة، فإن قيل: وما معنى تكرير: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}؟ قيل: أما الأول: فلأنه أمرهم بالاقتتال، لأنهم اختلفوا، وفي الثاني: ذكر أنه لو شاء لم يكن منهم اقتتال على وجه لا بعده ولا قبله، أما لأنه لم يكن يعطيهم القوة أو يميتهم قبل القتال، أو كان يمنعهم بمرض أو بسبب من الأسباب، ويجوز أن يريد بالاقتتال الأول: الاختلاف المؤدي إلى الاقتتال على طريقة ما يقال بين القوم، اقتتال: أي اختلاف يؤدي إلى ذلك، والمعنى لو شاء الله ما اختلفوا وكانوا أمة واحدة، كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية .. وبالاقتتال الثاني حصول المحاربة بينهم .. إن قيل: ما الفرق بين المشيئة والإرادة؟ قيل: أكثر المتكلمين لم يفرقوا بينهما وإن كانتا في أصل اللغة، وفي الحقيقة مختلفتين وذلك أن المشيئة أصلها من شيء، والشيء اسم للموجود، والمشيئة قصد إلى اتخاذ الشيء، ثم يقال: شاء الله كذا أي أوجده بعد أن لم يكن موجوداً، وقال بعضهم: الشيء والشاء من أصل واحد، وقلب الفعل، واستدل

على ذلك بقولهم: أشياء، وتأخير الهمزة فيه وإن كان أكثر أهل التصريف ينكرون ذلك، لكونها غير مصروفة، ويقولون كان فعلاً كطرفاء، فقلب، فصار على أمعاء، ومن اعتبر هذا الاعتبار بقول الواو والياء، لاعتبار ما عناهما، فكل واحدة منهما يعرض الانقلاب إلى الأخرى على حسب ما يقتضي خفة اللفظ وثقله أو التفريق بين معنيين، وأما الإرادة، فمصدر أراد، أي طلب، وأصله أن يتعدى إلى مفعولين، لكن اقتصر على أحدهما في التعارف، وفي الأصل لا يقال إلا لأن تطلب ممن يصح منه الطلب كالإطلاب، فإن بدل منه هذا الاعتبار في التعارف، وصار لطلب الشيء والحكم بأنه ينبغي أن يفعل أولا يفعل، وإذا استعمل في الله، فهو للحكم دون الطلب، إذ هو تعالى منزه عن الوصف بذلك.

(254)

قوله - عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الآية: (254) - سورة البقرة. قد تقدم الكلام في معنى البيع والشراء، وإن كل واحد منهما يوضع موضع الآخر، ومبايعة الولاية من ذلك، والبيعة يجوز أنها سميت بذلك نظراً إلى نحو معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، كأنه الحالة التي يتبع الإنسان نفسه فيها من الله فسمي المكان الذي يحصل ذلك فيه بها، والخلل انفراج الشيئين، يقال: خللته: أي أصبت خلله، فاستعير منه الخليل، إما لتخلل كل واحد منهما قلب الآخر كما قيل: الحبيب لوصول كل واحد منهما إلى حبة قلب الآخر .. قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني ..... وبذا سمي الخليل خليلاً أو لأنه تخلل أحوال الآخر، وعرف سرائره، ولهذا قيل أطلعته على عجزي، وتحرى فيهما عرقين في البطن، وبهذا النظر قال الشاعر: لا تكتمن ذاك الطبيبا .... ولا الصديق سرك المكتوما أو لاعتبار افتقار كل واحد منهما إلى الآخر، وبهذا النظر قيل: الصديق للإنسان ضروري، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} على الاعتبار الأخير، وهو افتقاره إلى الله - عز وجل - في كل حال، كما أخبر عن موسى بقوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وبهذا الفقر أشرف غنى،

بل أشرف فضيلة يكتسبها الإنسان، ولهذا قيل عليه الصلاة والسلام: " اللهم اغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك ". حث الله تعالى المؤمنين على ما رزقهم من النعمى النفسية والبدنية والخارجة، وإن كان الأظهر في التعارف وإنفاق المال، لكن قد يراد به بذلك النفس والبدن في مجاهدة العدو والهوى وسائر العبادات كما تقدم في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا} ولما كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء، والآخرة دار ثواب وجزاء، بين أن لا سبيل للإنسان إلى تحصيل ما ينتفع به في الآخرة ابتداء، وذكر هذه الثلاثة لأنها أسباب اجتلاب المنافع المقصود إليها أحدها المعاوضة، وأعظمها المبايعة، والثاني: ما يناله بالمودة، وهو المسمى الصلات والهدايا، والثالث: ما يصل إليه بمعاونة الغير، وذلك هو الشفاعة فبين تعالى أن من لم يكتسب في الدنيا ما ينتفع به في الآخرة لم يحصل له ذلك في الآخرة، وعلى هذا قال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} وقوله {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} {وَلَا خِلَالٌ} وفي الآية قول آخر وهو أن الناس في عبادة الله تعالى على ثلاثة أضرب، سابق حصل له منزلة الخلة، والمحبة المقصود إليها بنحو قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وغيره من الآيات التي تجري مجراها، وهو الذي يعبد الله لا لرغبته، ولا رهبة، ولا لطلب مثوبة، ومقتصد حصل له منزلة المبايعة المذكورة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:

" الناس غاديان: مبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها " وهو الذي يعبد الله خوف عقاب ورجاء ثواب، وظالم لنفسه، وهو المؤمن المقصر في استفادة المنزلتين المتقدمتين المتواكل في علمه وعمله المذكور في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وهو المستحق للشفاعة المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " فبين تعالى أن من لم يحصل له إحدى هذه المنازل الثلاث فلا سبيل له إلى اكتسابها في الآخرة، وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لما كانت العدالة بالقول المجمل ثلاث: عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله تعالى، كذلك للظلم ثلاثة في مقابلتها وأعظم العدالة ما بين الإنسان وبين الله وهو الإيمان، وأعظم الظلم ما في مقابلته وهو الكفر، فلذلك قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي هم المستحقون إطلاق هذا الوصف عليهم بلا مثوبة .. إن قيل: كيف تعلق قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} بما قبله؟ قيل: لما نفى أن يكون للكفار شيء مما ذكره في الآخرة، بين أن ذلك ليس بظلم منه لهم، لكن هم الظالمون إذ هم الذين خسروا أنفسهم .. إن قيل: كيف نظم هذه الآية مع التي قبلها؟ قيل: لما بين في الأولى أن منهم من آمن ومنهم من كفر، خوف المؤمنين أن يتحروا ما يخشى منه

(255)

اجتلاب الكفر، وهو ترك الإنفاق على ما تقدم قوله .. قوله - عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} الآية: (255) - سورة البقرة. قد تقدم أنواع الحياة، وأن أشرفها الحياة الأبدية في الآخرة، وإذا وصف الباري - عز وجل - بها، فمعناه الدائم الذي لم يزل ولا يزال، ولا يصح عليه الموت بوجه، والتحية بذل الحياة فإذا قيل. " حياك الله "، فمعناه: خولك الحياة، وكذا إذا قيل: " حياك فلان " غير أن الأول إعطاء بالفعل، والثاني بالقول وكذلك التسليم إعطاء السلامة على أحد الوجهين، والقيوم فيعول، وقال: فيعال، وكذلك واوه لأن الواو والياء إذا اجتمعا والأولى ساكنة، قبلت الواو ياء، وعلى ذلك " ديار " ولو كان فعلها لقيل قوام، ودوار " يقال قام كذا " أي دام، وقام بكذا، أي حفظه، والقيوم في وصفه تعالى هو الدائم الحافظ للعالم وجواهره وأعراضه، والقصد بمعناه إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} ومن قال: القيوم بالشيء: العالم به، فصحيح أيضا، لأن حفظ الشيء يقتضي المعرفة به، ولهذا قيل للمعرفة الحفظ، ولضدها النسيان، وأصل النسيان الترك، والأخذ يعبر به عن الاستيلاء على الشيء والقهر يقال: أخذته الحمى، وفلان مأخوذ ومقهور، والسنة: عبارة عن الفتور والغفلة، والنوم يفسر على أوجه كلها صحيح، الأول: أنه استرخاء أعصاب الدماغ برطوبة البخار الصاعد إليه، وذلك بالنظر الطبي، والثاني: أن يتوفى الله النفس من غير موت، وهو الذي قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وقيل: ترك الروح: استعمال الحواس من خارج إجماماً لها، وسئل بعض

الحكماء عن الفرق بين النوم والموت، فقال: الموت نوم ثقيل، والنوم موت خفيف، ولما كان النوم يقتضي السكون، قيل لمن يسكن إلى إنسان أو شيء استنام إليه، وإلى مقتضاه أشار بشار بقوله: إذا أيقظتك حروب العدا .... فنبه لها عمراً ثم نم {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قيل: الماضي، {وَمَا خَلْفَهُمْ} المستقبل، وقيل على العكس من ذلك، وهذا الاختلاف لاختلاف تصور ما اعتبر به الخلف والقدام، ولهذا يقال: خلفت كذا لما قضيته، وخلفي كذا لما لم تفعله بعد، وعلى ذلك قيل: وراءهما: الخلف والقدام، وقيل: {ما بين أيديهم}: الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الآخرة، وقيل بالعكس من ذلك، وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: المحسوس، {وَمَا خَلْفَهُمْ} المعقول، وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} المحسوس والمعقول، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الغيوب التي لا سبيل للإنسان إلى معرفتها، والكرسي في تعارف العامة اسم لما يقعد عليه، وهو في الأصل منسوب إلى الكرسي أي الملبد، والكراسة للمتكرسة من الأوراق، والكروس، للمتراكب بعض أجزاء رأسه على بعض لكبره، والكرياس: الكنيف المكرس بالفناء إلى السطح، وروي ابن عباس: أن الكرسي: العلم، وليس ذلك بتعبد من حيث الاشتقاق نسبة إلى الأوراق التي تثبت فيها العلوم، كقولك: كراسي، وقيل: كرسيه: أصل ملكه، وكراسي القوم معتمدهم، وأنشد: تخفُّ بهمْ بيضُ الوُجُوهِ وَعصْبةُ .... كراسيُّ بالأحْداثِ حينَ تثوُبُ

وقيل: كرسيه: مملكته، وقيل: اسم الفلك المحيط بالأفلاك، ويشهد لذلك ما روي أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما السماوات السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الكرسي لؤلؤة طولها لا يعلمها العالمون، وأعظم من سبع سماوات وسبع أرضين، وهو من خير الجوهر) وعن ابن عباس أن رجلاً أتاه، فسأله ثلاث مرات عن هذه الآية، وعن قول الله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ سموات} فلم يرد عليه شيئاً فلما خف عنه الناس، قال له الرجل: ما منعك أن تجيبني؟ فقال: " وما يؤمنك إن أخبرتك أن تكفر؟ سماء تحت أرض، وأرض فوق سماء، مطويات بعضها فوق بعض، يدور الأمر بينهن "، والخبر الأول يدل أن جوهر الكرسي والسماء أشرف مما عرفناه، والخبر الأخير يدل على أن الفلك كروي، وما روى أن الكرسي موضع القدمين، وأن له أطيطا كأطيط الرحل الحديد فصحيح، ومعناه لا يخفي على من عرف الله عز وجل - وعرف الأجرام السماوية

ومجازات اللغة، ونظر من المعنى إلى اللفظ لا من اللفظ إلى المعنى، ومن لم يعرف ذلك فحقه أن يسلم اللفظ للرواية دون تكذيب الآية، ويترك الخوض فيما لا يعلم إتباعاً لقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وليس في إثبات الكرسي له إثبات كونه جسماً محدوداً، كما أنه ليس في إثبات البيت له إثبات كونه ساكنة وليس في نسبة القدم إليه إثبات جارحة، كما أنه ليس في قوله - عليه الصلاة والسلام في وصف أولياء الله عز وجر - " أكون سمعه الذي يسمع به، وعينه التي يبصر بها، ويده التي يبطش بها " إثبات جارحة، و " لا يؤوده " - لا يثقله أصله من الأول العوج، ولما جرت العادة أن متحمل الثقل يعوج في الممر استعير (أده) كذا للثقل، وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} معناه: الله هو الذي يحق له العبادة لا غير، وقيل: الله الذي ولهت الأشياء كلها له، وذاك أنه ما من إنسان مؤمن وكافر، بل ما من حيوان إلا إذا نابته نابية شديدة اعتمد عليه، ووله إليه، ولهذا قيل: " الله محبوب الأشياء كلها إما بطبعها، وإما بقصدها، وقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} تأكيد لما اقتضاه الحي القيوم - تنبيهاً أنه وإن شارك الأحياء في الاسم، فقد فارقها في الحقيقة، إذ كان سائر الأحياء لا ينفك من غفلة ونوم .. إن قيل: كيف خص بملكه ما في السماوات والأرض، وذلك يوهم أن ليس له السماوات والأرض؟ قيل: لم يرد بقوله (في السماوات والأرض) معنى الشيء في الوعاء وفي المكان، وإنما يريد ما تركب منه السماوات والأرض من الجواهر والصور والأعراض والصنع، فصار ذلك من وجه أبلغ من قولك (له السماوات والأرض)، إذ قد يحصل للمالك ما ليس بمصنوعه، على أنا لو نظرنا من حيث

نظرت، لم يكن يقتضي ذلك ما ذكر، لأنه لما قصد تعالى تعريفنا قدرته، ذكر لنا ما يمكننا إدراكه لنستدل به على ما لا نعرفه والإحاطة بالسماوات والأرض لا سبيل لنا إليها، وقد تقدم آنفاً حقيقة الشفاعة، وذكر مستحقيها، وأن ذلك لمن كان منه تقصير في العلم والعمل، غير أنه لم يخرج عن خطر الشريعة وعن الائتمار لرسل الله وخلفائهم من أهل العلم في الاعتماد الوصول وكون ما جاءوا به حقاً، وهم الذين أذن تعالى في الشفاعة فيهم، وعناهم بقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} نفى تعالى عنا الإحاطة بشيء من علمه، وكيف يمكن لنا ذلك، وقد علم أن المحيط بنا علماً، كما قال - عز وجل: {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ومن المحال أن يكون المحيط بكل شيء يحيط به شيء، وقوله: {مِنْ عِلْمِهِ} على وجهين: أحدهما مما يعلمه، وهو ويكون العلم مضافاً إلى الفاعل، والثاني: أن يعلمه الخلق ليكون مضافاً إلى المفعول به، أي لا يحيطون أي يعلموه تنبيهاً أن معرفته على الحقيقة متعذرة، بل لا سبيل إليها، وإنما غايتها أن يعرف الموجودات، فيتحقق أن ليس إياها، ولا شيئاً منها، ولا شبيهاً بها،

بل هو سبب وجود جميعها، وأنه يصح ارتفاع كل ما عداه مع بقائه تعالى، وبهذا النظر قال أبو بكر - رضي الله عنه - " سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته "، وقال بعض الأولياء: " غاية معرفة الله أن تعلم أنه يعرفك لا أنك تعرفه "، ولهذا قيل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وقال أمير المؤمنين: " تجلى لعباده في القرآن من غير أن يروه، وأراهم نفسه من غير أن يتجلى لهم "، وقوله: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} أي: إلا بما شاء أن يقفهم عليه من القليل الذي قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ثم أكد بما فيه عليه بقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} بقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي إذا كان علمه ومملكته وقدرته محيطة بهذه الأشياء والإنسان بعض هذه الأشياء، فكيف تصح إحاطته بمن هو محيط بهذه الأشياء وهو يعجز عن الإحاطة بها، والعلي هو القاهر فوق عباده، وقيل: العلي عن النظير، وقيل: القادر على حفظه، وقيل: القائم به، وكل ذلك راجع إلى التنبيه على قدرته وسلطانه وأن ما عداه مستحقر بالإضافة إليه.

(256)

قوله - عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية: (256) - سورة البقرة. الغي كالجهل، إلا أن الجهل يقال اعتباراً بالاعتقاد والغي اعتباراً بالأفعال، ولهذا يقال: الجهل بالعلم، والغي بالرشد، ويقال لمن أصاب رشد، ولمن أخطأ غوى، وعلى هذا قال الشاعر: ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً والطاغوت وزنه (فعلوت)، نحو جبروت وأصله طغووت، لكن قلب لام الفعل نحو: صاعقة وصاعقة، ثم قلب الواو ألفاً لتحركه وانفتاح ما قبله، ويسمى كل ما يصرف عن الله عز وجل - طاغوتاً وشيطاناً كان أو إنساناً، ولهذا روي عن عمر ومجاهد وقتادة أنه الشيطان، وعن ابن جبير أنه الكاهن، وعن أبي العالية أنه الساحر، وعن غيرهم أنه صنم، وقيل: هو المارد من الناس والجن، وكلهم صارفون للإنسان عن طريق الحق، وقد تقدم أن النهي عن أتباع الطاغوت والشيطان، وإبليس والهوى

والدنيا يجري مجرى واحداً في أن المقصد به النهي عما لا يرضاه الله، وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}، كقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وعلى ذلك حث بقوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ} وقوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} والكره يقال على ضربين: أحدهما أن يكون مفسراً من خارج، وذلك على أحد الأوجه الثلاثة، إما بأن يهدد بالضرب أو يضرب حتى يفعل، وإما أن تؤخذ يده فيفعل بها، فيكون في هذا كلالة، وإما أن يدعوه من يزينه في عينه، والثاني: ما يكون مفسراً من داخل، وذلك إما بخوف يستشعره، وإما بهوى يغلبه، وقد روعي كل ذلك في تفسير الآية، فقيل فيه أوجه: الأول: إن ذلك حث على أن لا يحمل الإنسان على الدين بالقسر، بل يعرض عليه الإسلام عرضاً ويعرف فضله، فإن قبل: وإلا ترك؟ قيل: وهذا حكم كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بسورة براءة، وذلك عن السدي، وابن زيد، والثاني: نحو ذلك، غير أنه خص بمن قبل منهم الجزية دون مشركي العرب، وذلك عن الحسن، وقتادة، والضحاك، وعلى هذين معناه: أمن، والثالث: أن قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ} لا اعتبار بالإكراه في الأحكام الدنيوية، فالمكره على الإسلام، وغير المكره سيان بعد أن يلتزما ..

والرابع: لا حكم للكفر لمن أكره على الكفر، والدين يكون لغير الحق على هذا نحو {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. الخامس: لا اعتداد في الآخرة بما يفعل الإنسان في الدنيا من الطاعة كرهاً، وكرهاً، فإن الله يعتبر السرائر ولا يرضى إلا الإخلاص، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " الأعمال بالنيات " وقال: " أخلص يكفك القليل من العمل ". السادس: ليس يحمل الإنسان على أمر مكروه في الحقيقة بما يكلفهم الله، بل يحملون على نعيم الأبد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " عجب ربكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ". السابع: أن الله تعالى ليس بمكره على الجزاء، بل يفعل ما يشاء بمن يشاء على ما يشاء، والاستمساك طلبك إلى الغير ليمسك كالاستحفاظ والاستنصار، و {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} مستعارة للعبد المركون إليه كالحبل في نحو: أخذت بحبل من حبال محمدٍ .... أمنتُ به من طارق الحدثان

(257)

ونحو: قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم .... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا فقول من قال: العروة الوثقى الإسلام، وقول من قال: " لا إله إلا الله، وقول من قال: الثواب: الجنة، فنظرات منهم إلى مبتدى الدين ومنتهاه، وكله صحيح. قوله - عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية - (257) - سورة البقرة الولي: كون الشيء بجنب الآخر، ويعتبر ذلك تارة بالمكان، فيقال له الولاية وتارة بالنصر فيقال له الولاء والموالاة، لكن الولاء على ضربين باعتبار نسبة الأعلى إلى الأسفل، وضرب باعتبار نسبة الأسفل إلى الأعلى، ولهذا يقال للخادم والمخدوم مولى، وولي، لأن كل واحد منهما يوالي الآخر الخادم بالطاعة والنصيحة، والمخدوم بالإشفاق، والكناية، وقال: أهل اللغة: المولى المالك، والمملوك والمعتق والمعتق والناصر والمنصور وابن العم والحليف والجار والقيم، وأخذوا في كل ذلك المتطابقين، لكون كل واحد مهما موالياً للآخر بوجه ..

والنور: عبارة عن العلم والإيمان والظلمة عن ضدهما، ووجه ذلك أنه لما كان للإنسان نظرات بنظر وتبصر، ويرى بهما البصر الحاس في الرأس والبصيرة في القلب، فكما أن البصر لا يستغنى في إدراك ما يدركه من المعقولات عن نور يمده وهو نور التوفيق والإيمان، ويقال لفقد البصرين عمى، ولفقد النورين ظلمة، وأعظمهما ضرراً فقد البصيرة ونور العقل، ولهذا قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فلم يعد فقد البصر عمى. بالإضافة إلى فقد البصيرة، وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وقوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} وقوله: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يعني بذلك كلا النورين والظلمتين، إن قيل: وهل هذا النور موهبة أو مكتسب؟ قيل: لا شك في كونه موهبة، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} لكن فيه للاكتساب حظ، فإن ابتداء ما يحصل ذلك للإنسان كشررة، متى لم ترع همدت، وإذا روعيت زادت، كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} بين تعالى إن الله عز وجل - يوالي المؤمنين بأن يوفقهم ويهديهم، وهم يوالونه بأن يشكروه ويعبدوه، كما قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فهو يخرجهم من الجهل والكفر إلى العلم والإيمان والثواب والكافرون، يواليهم الشيطان في إخراجهم إلى أضداد ذلك إن قيل: لم قال: أولياؤهم وما يفعل بهم الطاغوت هو بالمعاداة أشبه منه بالموالاة؟ قيل: لعمري إن ذلك نهاية المعاداة وتسميته بالموالاة أولى لمقابلة اللفظ، وثانياً: لتحريهم ما يقع بوفاقه، وميلهم إلى حزبه، فجعله موالاهم في اللفظ لا في الحقيقة، ألا ترى أنه قال: {أَلَمْ

أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} فسماه عدواً، وعلى حد جعله أوليائهم جعلهم حزبه في قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} وقال للمؤمنين: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}. إن قيل: فكيف قال ها هنا: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} وقال في آخر {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}. قيل: إن من وليه الشيطان، فلا ولي له، ولا فرق بين أن يقال: وليه من نصره، وبين أن يقال: لا ولي له، وقول من قال: الله ولي المؤمنين بتوفيقه وعصمته، ومن قال بإقامة البرهان لهم، ومن قال بنصرته على عدوهم، وإظهار دينهم على دين مخالفيهم، من قال بثوابهم، فكله صحيح ومراد، لأن ذلك متلازم، وإنما اختلفت العبارات عليهم بحسب النظرات ونحو ذلك في استعمال النور والظلمة في العلم والجهل والإيمان والكفر .. قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الآية. إن قيل: كيف؟ قال (يخرجونهم من النور إلى الظلمات) وقد قلت: النور: العلم والإيمان، والكفار لم يكونوا في هذا النور، والإخراج عن الشيء يعد لكون فيه، قيل: إن الله تعالى خلق الإنسان على فطرة، ركز فيه العلم والإيمان بالقوة، وهو المعنى بقوله: (فطرة الله)، و (صبغة الله)، وقول النبي- عليه الصلاة والسلام: " كل مولود يولد على الفطرة "، والإنسان متى أهلك نفسه وأفسدها بالهوى والتدليس بالجهالات، فقد أخرج من النور إلا الظلمة، وقال الحسن إخراجه إياهم منعهم من الدخول فيه كقوله:

{لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ} فجعل صيانتهم من العذاب كشفنا عنهم، وروي عن مجاهد أن ذلك في قوم ارتدوا عن الإسلام، وقيل إن ذلك نزل في قوم كفروا بعيسى ثم آمنوا بمحمد- عليهما الصلاة والسلام- فأخرجهم الله من الظلمات إلى النور، وقوم آمنوا بعيسى- عليه الصلاة والسلام-، ثم كفروا بمحمد- عليه الصلاة والسلام-، فأخرجهم الطاغوت من النور إلى الظلمة ... إن قيل: لم قال: يخرجونهم بلفظ الجمع؟ قيل: قد قال بعضهم: الطاغوت يقع على الواحد والجمع كالفلك، ووجه ذلك من حيث المعنى أن الطاغوت إشارة إلى المضلات من الشيطان والهوى وسائر ما يضل، وقد قال بعض الحكماء ما هو كالتفسير، لذلك إنه متى يخالف العقل والهوى شيئا ما، أعنى: مؤلماً- جميلاً وملذاً فضيحاً، يبادر الملك إلى نصرة العقل، فيصير من حزبه، والشيطان إلى نصرة الهوى، فيصير من جنده وإن استشار صالحاً من عباد الله، أشار عليه بمقتضى العقل، وإن استشار شريراً أشار عليه بمقتضى الهوى، ولذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}

(258)

إن قيل: كيف نظم هذه الآية مع ما قبلها؟ قيل: لما قرر عظمته بالآية المتقدمة، بين في هذه أن الذي له العظمة هو مولى المؤمنين تشريفاً لهم، وتعظيمه لمكانتهم، وأن الشيطان مولى الكافرين تدليلاً لهم، فقد قالت العرب: " أشرف الموالي لي أشرفهم سيداً، أكرم السائلين أكرمهم مسؤولاً ". وعلى هذا قال الشاعر: يضع الزيارة حيث لا يزري بنا ... شرف المزور ولا بحسب الزور قوله- عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الآية: (258) - سورة البقرة. المحاجة: المقاومة في إظهار الحجة، أي محجة الرشد، والشمس اشتق عنها شمس فلان إذا نفر تشبيها بالشمس التي لا يمكن أن يقبض عليها، وعلى ذلك قوله: كالشمس ضوؤها قريب ولكن في تناولها بُعْدُ وقيل: شمس إذا عادى .. وذاك أن حقيقة المعاداة تنافر طبع المتعاديين بعضلها من بعض من عداه إذا تجاوزه، والشمسة في القلادة تشبيها في الحسن والهيئة، والبهت أن تفعل بالإنسان ما يحيره، وسمي الكذب المستقبل به الإنسان بهتانا، لتحير صاحبه فيه .. والذي حاج إبراهيم في ربه، قيل كان نمرود بن كنعان، وكان قد ملك الدنيا، ويقال: إنه ما

ملكها إلا أربعة مؤمنان: وهما سليمان، وذو القرنين، وكافران: نمرود وشداد .. إن قيل: ما الذي ادعى هذا الكافر؟ ادعى نفي الخالق؟ أم ادعى لنفسه الربوبية؟ أم الأمرين؟ فإن ادعى الربوبية، فعلى أي وجه ادعى، فبعيد أن يزعم من وجد بعد أن لم يكن أنه موجد الخلائق ... قيل: قد ذكر المخلصون في ذلك وجهين، أحدهما: أن هذا الكافر نمرود، وكان الناس حينئذ يعظمون ملكهم حتى كانوا يسمونه الرب والإله، ولهذا قيل: (الله رب الأرباب وإله الآلهة)، وكانوا يدعون له أفعالاً ألاهية تقصر قدر البشر عنها، وقد حكى الفرس عن ملوكهم شيئاً كبيراً من ذلك كما ادعوا لكن خسرو أنه ألجأة عدو له إلى سفح جبل، فحملته الملائكة، وأن شابور لما حارب التنين، فأظلم عليه الدنيا، أنزل عليه نارا، فصارت على عرف فرسه، فاستضاء بها حتى قتل التقين، وكان نمرود لما طغى سام الناس أن يعبدوه عبادتهم لله، إذ هو بزعمهم سايسهم، وملكهم، وربهم، وإلأههم، فهذاك أحد الوجهين، والثاني: أنه كان يذهب مذهب من يقول بالحلول، أن الباري- تعالي عن ذلك- يحل في أشخاص الأئمة حسب ما ادعى بعض المتنصرة وبعض المتشيعه الملحدة، وكان نمرو يدعي الربوبية على أحد هذين الوجهين، لا أنه ينكر رب العزة ...

إن قيل: ما الذي حاج إبراهيم؟ فإن المحكي عنه ليس بأكثر من ادعى إبراهيم دعوى، فعارضه بمثلها فانتقل إلى دعوى أخرى، وإن كان ما ذكره إبراهيم ثانية حجة، فهلا كان يعكس عليها ويقول: فليأت ربك بشمس من المغرب، فإن الآتي بها من المشرق حتى كان لا يبهت، قيل: قد تقدم أن ما يمكنه الله عن الأمم لا يكاد يستوفي القصة من أولها إلى آخرها، بل يورد نكتة، ويشير إليها إشارة وهو لم يستوف ذكر ما حاجه به كله، وقد تقدم أن نمرود لم يدع أني شخص وحشي موجد السماوات والأرض، وإنما كان ذلك على أحد الوجهين المتقدم ذكرهما، وكان قد ادعى أن كل ما هو داخل تحت قدرته، فهو أو مثله أو قريب منه داخل تحت قدرتي، فقال إبراهيم: ربي الذي يحي ويميت فقال أنا أحي وأميت، فأخرج رجلين من الحبس، فخلى أحدهما، وقتل الآخر، فقال: هذا أحياه وهذا أماته، وقد كان إبراهيم يمكنه أن يزيد أن الذي ادعاه لربه ليس هو الجنس الذي ادعيته لكن عدل إلى فعل ليس في طرق البشر هو ولا قريب منه ولا ما يشاركه اسما، مقال، قد ثبت باتفاق أن الله يحرك الشمس من المشرق، فحرك أنت تحريكاً من المغرب، فلم يجد شيئا يدعيه كما ادعي في الأحياء والإماتة، فبهت حينئذ، وظهر عجزه إذ لم يكن من جنس إطلاع الشمس وإغرابها شي ممكن للملوك كما ادعي الإحياء والإماتة، ولم يمكنه أن يعكس ذلك، فقد كان أقر بالباري، وإنما كان يدعي أنه يفعل فعله، إن قيل: أليس العدول من حجة إلى حجة يعده أهل الجدل انقطاعاً؟ فما وجه ما فعل إبراهيم؟ قيل: أما أولاً، فما ذكره إبراهيم كان معارضة، وذاك أن الكافر ادعي أن في وسعه أن يفعل كل جنس من الفعل يفعله الباري- عز وجل، وذلك ادعاء حكم موجب كلي، والكلي ينقض بالجزئي، نحو أن يقال: كل إنسان كاتب، فمتى وجد إنسان شرير كاتب فقد ظهر كدبه، وللمعارض إذا أراد المناقضة أن ينتقل عن مثال خفي إلى مثال جلي، ولا يكون ذلك منه انتقالاً، وهذا باب قد أحكمه أهل الجدل، على أن ذلك لو كان ابتداء حجة، لم يكن على شرط أهل النظر بمذموم، فالحجج الجدول عليما ضربان.

حجة يذكرها، ثم يتركها لظهور فسادها، وذلك مما لا يرتضيه أهل النظر وحجة يذكرها، فيقصر فهم سامعها عن إدراكها، أو يكثر مشاغبته فيها، فيعدل عنها إلي ما هو أوضح، إذ كان كل يتبين الحق وإزالة الشبهة، وهذا ليس بمذموم، وقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} قال بعضهم: أراد إبراهيم لأن الله تعالى لا يؤتي الملك الكفرة، لأن ذلك مفسدة ينزه الله تعالى عنها، وأكثر المفسرين على أنه النمروذ وذاك أن السلطان من الأغراض الدنيوية، كالمال، والجاه، والأولاد، وذلك مما يؤتي المؤمن والكافر امتحانا واختباراً ... إن قيل: أليس قلت: إن الملك اسم لما فيه العدالة، فكيف يصح أن يقال ذلك لما يتوارد للكافر؟ قيل: إن الملك الحقيقي الذي يجوز للإنسان المتسمي به هو ذاك لكن الناس يستعملونه فيمن يتسلط على الناس على أي وجه كان فتسمية الله تعالي إياه بذلك إنما هو على زعمه، وزعم أتباعه، كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} فسماه عزيزاً لا بالحقيقة لكن على ما كان يتسمى به ... إن قيل: كيف قال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، والظالم أولى بأن يُهدى؟ قيل: قد تقدم أنواع الهداية وأحوالها، وأنه قد يراعى في إطلاقها مبدؤها تارة، فتستعمل في الجميع الذي يمكنهم الاهتداء، وعلى ذلك قال {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}، ومرة يعتبر منتهاها الذي هو الاهتداء، فيقال: " هدي الله المؤمنين "، وعلى هذا قوله تعالي: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فقوله: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أي: لا يقبلون منه هدايته لهم، وإذا لم يقبلوا منه لم يعطهم، وإذا لم يعطهم فهو لم يهدهم، وأيضا فالظلم هاهنا مناف للهداية، فإنه جحود ألاء الله، والامتناع من قبولها والهداية تقتضي تحري العدالة، فإذا الهداية والظلم

(259)

كالمتضادين لا يجتمعان ... إن قيل: لم أفرد النور وجمع الظلمة، قيل: لما كان النور عبارة عن الحق، والحق من حيث ما هو حق شي واحد لا يتنافى ولا يتناقض، والباطل من حيث ما هو باطل يتضاد ويتعاند صار فيه كثرة، ولهذا شبه الحق بالمقرطس من المريء في أنه واحد واحد، والخطأ ما عداها وهو كثير بلا نهاية، فلذلك أفرد النور وجمع الظلمة ... قوله تعالي: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية (259) - سورة البقرة. الخو: خلو الوعاء، يقال: خلت الدار، تخوي خواء، وخوي النجم وأخوى إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهاً بذلك، وأخوي أبلغ من خوي، كما أن أسقي أبلغ من سقى، وخوي جوف فلان خوي، والتخوية: ترك ما بين الشيئين خالياً ... والعرش: ما ارتفع من البناء، ويقال ذلك للسقف والسطح، وسمي السرير به تشبيهاًَ، أو عبر به عن أمر الإنسان، وقيل: استوى عرشه، وتل عرشه، والتعريش بناء ذلك وبه شبهه تعريش الكرم، وسمي المعررش منه عريشاً، وقيل: عرش الحمار إذا رفع رأسه وجعله كعرش، وعرشان الفرس شعر عرفه تشبيها بعريش الكريم ... والعام: مدة تعوم الشمس في أفلاكها المختصة بها، وذلك اعتبارا بنحو ما قال- عز وجل- {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والاعتيام اختيار الشيء، وأصله أن يسير الإنسان كسابح فيه يتناول ما يريد.

ولهذا قال الشاعر وكنت في نعمائه سابحاً .. والحمار سوي للونه اعتباراً بعامة جنسه، لأن الوحشيات منها، وكثيرا من الإنسيات حمر، فسمي بذلك كما سمي العجم حمراً، والعرب سوداً، لكون أكثرهم كذلك، وحمار السرج، والحمارة لحجر عظيم تشبيها بالحمار في المهيئة، والحمرة: طائر أحمر اللون، وحمارة القيظ، أشد ما يكون حراً تشبيهاً بالجمر المتوقد لوناً، والنشز من نشزك الثوب، ونشز الريح العرف، وقاره تعدي نشر، ومصدره الناشر كقوله تعالي {يين بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، وتارة لا يعدي، ومصدره النشور، كقوله- عز وجل- {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، ويقال: أنشره، كأنه جعل له نشراً، كقولك: (أسقاه: حبال له سقياًَ، ونشر الخشب، تشبيهاً بذلك، لجعل أجزاء الخشب منشورة، وإذا قرئ " ننشزها " فمعناه: نرفعها من النشز، أي المرتفع من الأرض، ومنه نشوز المرأة أن تطيح ببصرها إلى بشر صارفة له عن زوجها. كقول الفرزدق: إدا جلست عند الإمام كأنها بها رفقة من ساعة يستحيلها

وكقول الأخر: إذا الليل عن نشز تخلى رميته بأمثال أبصار النساء القواري قوله: " لم يتسنه ": أي لم يتغير بمرور السنين عليه، وذلك من لغة من يجعل المحذوف من السنة الهاء (سينهه وسانهه)، وقيل هو من " سانيت "، والهاء للاستراحة، وعلى هذا يجب أن يحذف إذا وصل الكلام كذا، على قول من قال: المسنون: المتغير، ويقال: يتسنى، وأصله يتسنن فعلت تخفيفاً، كقوله: " تطنيت، وتعضيت، وتسريت " إن قيل: ها الذي شبه بالذي مر على قرية؟ وعلى ماذا عطف؟ قيل: قد قال بعضهم: إن ذلك متعلق بما بعده، وهو قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}، ودلك بعيد لفضل " وإذ " بينهما، وقيل: الكاف زائدة، وليس بشيء والوجه أن الكاف ههنا ليس للتشبيه المجرد بل هو للتحديد والتحقيق كما هو في قولك الاسم كزيد وعمر وعلي أنه وإن جعل للتشبيه، فعلى سبيل المثل والمشبه غير مذكور، كما أنه غير مذكور في قولهم كالمهورة إحدى خدمتيها، ويحتمل أن تكون الآية من كلام إبراهيم معطوف على ما تقدم، وهو أنه لما قال للكافر: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، قال له بعد: {أوَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}، أي إن كنت تحي فأحي كما أحيا الله وصفه في هذه الآية .. ويحتمل أن تكون آية مستأنفة، وضرب الله مثلين لشيئين أحدهما في ادعاء الربوبية، وهو ما تقدم، والثاني في إنكار البعث، وهو هذه، ويكون في قوله: {كَالَّذِي} في موضع الجر على ما تقدم،

كأنه قال: (وألم تر إلى الذي حاج .. ) إلى مثل الذي مر على قرية، فإن قيل: فهل في تخصيص القصة الثانية بحرف التشبيه، وإخلاء الأولى منه فائدة؟ قيل: بلى، فإن ادعاء الربوبية إنما قل في الناس، حتى إنه لم يعهد ذلك إلا في نفس أو نفسين وقال: (ألم ترى إلى الذي) والتشكل في الإحياء، من الجم الغفير، فنبه بقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} تنبيهاً أنه نظر إليه وإلى مثاله، وجعل نالك مثلاً لمن نحى نحوه كقولك للكافر: كفلان، فتأتي بواحد على سبيل المثال، ولما ذكر تعالي إخراجه المؤمنين من الظلمات إلى النور، جعل اعتبار ذلك هذين، كأنه قال اعتبران تثبيت إبراهيم وإخراجه له من ظلمه الكفر إلى الإيمان مما جعلت له من الحجج، وإن شئت فيمن أخرجته من شبهة البعث بما جعلت، له من العيان، والذي مر على القرية، قيل كان عزيزاً عن قتادة والربيع، وقيل: " كان أرمنينا عن وهب، وروي أنه مات ضحى وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، وقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما، فلما نظر إلى الشمس قال: أو بعض يوم، وقيل: بدأ تعالي بعينيه، فنفخ فيهما، ثم بعظامه، فأنشزها، ثم وصل بعضها ببعض، فنظر إلى حماره، وأجزاؤه تجئ من سهل وجبل، حتى اجتمعت فاتصل بعملها بعضها، وكسى لحمه، وجرى فيه الروح، فقام ينهق، فقال: أعلم: أي اعترفت بقدرة الله تعظيماً لف، ومن قال: أعلم، فقد قليل: هو من قول الله عز وجل- له، وقيل: هو من قوله وقد خاطب به نفسه على طريق التبكيت، وقال بعض الناس بعزوه إلي بعض الأئمة أن الإشارة بالإحياء والإماتة إلى العلم والجهل، ومعنى القرية الرجال، بدلالة قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا}، وقوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} وقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، وجعل الخوى حلواً ينم

(260)

عن العلم والإيمان، وكذلك الإماتة والاحياء، إفادته العلم والإيمان، نحو قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وقوله تعالي: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} الآية، قال: وكان قد رأي قوماً متناهين في ألبعد عن العلم والإيمان، فاستبعد رجوعهم إلى الحق، فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ} أي: أني يفيدهم الإيمان، فأماته الله مائة عام، ثم أحياه، وأعلمه أن الذي يقدر على إحياء الرمم عن الموت الحيواني لقادر على إحياء النفس الميتة بالجهل ... قوله- عز وجل: - {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآية (260) - سورة البقرة. الاطمئنان: السكوت، واطمأن، وتطامن يتقاربان لفظاً ومعنى من مكان مطمئن ... قيل: ويدل على ذلك أنه قال في مكان أخر (مخبتين)، والمخبت: المطمئن من الخبت، أي المطمئن من الأرض، وطار، وطير، نحو راكب وركب، و " تطايروا " أي تفرقوا، استعارة وفجر مستطير، وغبار مستطار، خولف بين بيانهما لاختلاف التصورين في كون الفجر فاعلاً والغبار مفعولاً وفرس مطار يقالك للسريع، ويقال لجديد، الفؤاد كأنه أطير فلبه، كقولهم شهم ومروع وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} أي ما يدمن أفعاله وصرته أصوره، أي أملته وصرته: قطعته صورة صورة، وقيل: صرت، وصرت: لغتان، والصوار سمي اعتباراً بالقطع كالقطيع والصرمة والصور النخل الصغار، إما لانقطاعها عن لحوق الكبار، أو كأنها مقطوعة في نفسها، والصور قيل: سمي لأن فيه صور الناس

كلها وقيل: بل لإعادة الصورية، وذكر أبو بكر النقاش المقرئ أنه قرئ (فصرهن) بضم الصاد وتشديد الراء وفتحها من الصر، أي الشد، ومنه الصرة، وقال: قد قرئ (فصرهن) بكسر الصاد وفتح الراء وتشديدها من الصرير من الصوت أي، صح بهن وروي أن إبراهيم مر على ساحل البحر بميتة، والسباع والطيور والحيتان يتوزع لحمها، فتفكر، فسأل الله تعالى إحياء مثله فأمره تعالى أن يأخذ أربعة طيور فيقطعها فيخلطها لحومها وريشها، ويبددها على جبال (خزاجرا) ثم يدعوها، ففعل ذلك، فاجتمعت كلها، فتبين إبراهيم ما اعتراه فيه الشبهة وقال بعضهم: أمره أن يأخذ أربعة طيور، فيضعهن على أربعة جبال ومعنى لجزء واحد منها، ثم يدعوها فتجتمع لديه، فأشار إلى أنه كاجتماع هذه الطيور لديك كذلك يجتمع من الجوانب الأربع الأموات قال، ولو كان (فصرهن) قطعهن، لما قال: إليك لأن ذلك لا تعدي بالباء .. إن قيل: لم لما سأله إبراهيم، أراد ذلك على أقرب الوجوه لما سأله عزير، أماته مائة عام حتى تفرقت أوصاله ونخرت عظامه. ؟ قيل قد ذكر بعض الصوفية أن إبراهيم كان خليلا فمجاز له أن ينبسط لما سلف له من قدم صدق، فلما سأله ذلك، أعطاه سؤله، في الوقت على أقرب الوجوه ولم يكن العزير من الخلة ما يجوز هذا الانبساط قلما أقدم أبلاه الله تعالى في نفسه، وأراه ذلك في ذاته، ولأن إبراهيم تضرع وسأل وقال أرني، وغيره أخرج الكلام مخرج المنكر المتعجب من قدرة الله عز وجل وقال: (أني يحي) ولا يخفى ما بين اللفظين من الضراعة والغلظة، ولهذا ختم آية عزير بقوله: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وآية إبراهيم بقوله {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال الأصم: تفهموا عن الله حجج

الرسل، إن عيسى كان يحي الموتى بإذن الله ويريه العباد ليثبت بذلك رسالته ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله) وإبراهيم كان يطلب أن يرى ما كان عيسى يريه قومه قال وفي هذا دليل أن الله لله عز وجل منع بعض الرسل من الآيات ما أعطاه بعضا. إن قيل إن كان إبراهيم في هذه الحال شاكا في البعث فلم لما قيل له {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى}، والشاك في الشيء لا يجوز أن يكون مؤمنا به وإن كان موقنا فلا معنى لقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فلا اضطراب للقلب مع اليقين، فإذا هذا قول متناقض قيل: إن إبراهيم كان موقنا بالبعث أنه كائن للاستدلال أولاً، وللوحي ثانيها وإنما التمس غاية التفسير وهو العيان الذي تنقطع عنده الخواطر كلها، فالخاطر ضربان، خاطر في ثبوت الشيء ونفيه، وخاطر في كيفية ثبوته، والأول يزول بالخبر والثاني لا يزول إلا بالعيان، وهذا هو حال إبراهيم وقيل: اليقين ثلاثة أضرب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين فعلم اليقين: ما وصول إلينا على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعين اليقين: ما وصل إلينا بأنوار هدايته، وحق اليقين: ما اجتمع فيه الأمران، وبه تزول عوارض الخواطر عن جملته وتفاصيله وقيل: إن إبراهيم كان طلب كذلك لأن قومه سألوه وذلك كما قيل في سؤال موسى، حيث قال: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} وقيل، إن نمرود كان ممن يعتمد المحسوس، ولما قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} قال له: أرأيت ذلك بحاستك؟ فعدل إلى غيره من الحجج إذ لم يكن يمكنه أن يدعي عيان ذلك ثم سأل الله بعد ليريه ليمكنه أن يخبر به، وقيل: إن إبراهيم أحب أن يريه الله إحياء نفسه معراة من الأصل والزنا والفحش والحرص فبين الله أن ذلك لا سبيل إليه بأدلة الإنسان في هذا العالم، ومخلوق خلقه للتكليف، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير، نسرا: إشارة إلى طول الأمل، وطاوسا: إشارة إلى زينة الدنيا، وغرابا: إشارة إلى الفحش النفسي، وديكا: إشارة إلي الحرص، وقال: قطعهن ووزعهن على جبال، ثم صرهن، فقد عادت إليك إشارة إلى أن هذه القوى وإن اجتهدت في إفنائها، فلا سبيل إلى إزالتها مادامت في دار الدنيا، وقيل: إن إبراهيم لما رشد

للرسالة وإرشاد البرية ورأي قوماً في نهاية الجهالة والكفر، استعظم رجوعهم إلى الحق، فقال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} أي ترشد الضلال الذين هم كالموتى، وأراد كيف أحيي، ولكن نسب الفعل إلى الله - عز وجل - على طريقة ما تقدم أن أولياء الله - عز وجل - يتحرون في أفعالهم - رضى الله لله ويرون أفعالهم فعله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه - عز وجل - (حتى أكون عينه التي يبصر بها)، ولأن الأفعال المحمودة للعباد كلها منسوبة إلى الله من حيث أنه سبب إيجادها، ولهذا قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، فعلى هذا معنى " أرني كيف تحيي الموتى " أي: كيف حال ما أمرتني به، وبعثتني فيها فقال له أولم تؤمن، أي أو لم تتحقق أنك ستهدى لذلك؟، فقال: بلى، ولكن أريد ما أسكن إليه في أن تجاب دعوتي، فقال: خذ أربعة من الطير، إشارة إلى قلع هذه القوى من نفسك وسمى بذلك كل موتان الفؤاد كالجبل فليس يعسر عليك ذلك .. " والله أعلم بالصواب " .. إن قيل: ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية: " نحن أحق بالشك من إبراهيم ". ؟

(261)

قوله - عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآية (261) - سورة البقرة. يقال النبت لما له نمو في أصل الحلقة يقال تنبت الصبي والشعر والسن وفلان حسن النية ويستعمل النبات فيما له ساق، وما ليس له ساق وإن كان في التعارف قد يختص بما لا ساق له، وأنبت الغلام إذا راهق، كأنه صار ذا نبتة وفلان في منبت خير كناية عن الأصل، والسنبلة فيعلة من السبل يقال: أسبل الزرع، وسنبل، من أصله السبيل وقد تقدم أن سبيل الله ليس بمقصور على الجهاد، بل هو لكل ما يتوصل به إلى الله عز جل، والمائة عدد معروف يقال: أماءت الدراهم وألفت وإمايتها وألفتها .. إن قيل: كيف تعلق هذه الآية بما قبلها؟ قيل: إن ذلك متعلق بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} وما بينه وبين هذه الآية، اعتراضات مرغبة للإنسان في فرضه من حث على قناعة هي أس الجود، وذكر عظمة المستقرض وإرشاد لمن يستقرض منهم، وبين في يده أن فرضه هو الإنفاق في سبيله وأن مضاعفته هو بأن يجعل للواحد سبع مائة وأنه يضاعف مع ذلك لمن يشاء مضاعفة لا يضبط عدها، ولا يعرف حدها .. إن قيل: كيف قال في موضع: " يضاعف "، وفي موضع: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وقال هاهنا ما يدل على أنه يحادي بواحد سبع مائة، قيل: في ذلك طريقتان: إحداهما أن الخيرات تختلف باختلاف العالمين واختلاف نياتهما والثاني: أن تختلف باختلاف الأعمال فالأول: هو أن الناس فيما يتحرونه من أفعال الخير بالقول المجمل ثلاثة أضرب على ما قصد تعالى من ظالم ومقتصد وسابق أما الظالم: فالمتحري للخير مخافة سلطان ومذمة إنسان وتخويف عالم إياه من النار ونحو

ذلك .. ، وأما المقتصد: فالمتحري للخير مخافة عقاب الله ورجاء ثوابه من حيث ما قد تحقق وعده ووعيده، وأما السابق: فالمتحري للخير قصدا لوجه الله خالصا وثوابهم يختلف باختلاف مقاصدهم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في السابقين حاكيا عن الله عز وجل - (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) الخبر. والثاني. وهو أن يختلف باختلاف الأعمال وبيان ذلك أن السخاء أفضل أفعال العباد بدلالة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " السخاء شجره من أشجار الجنة، أغصانها متدليات في الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار، فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار " وقيل لبعض الحكماء: " أي شيء من أفعال العباد أشبه بفعل الله "؟ فقال: " السخاء، وأفضل الجود ما كان عن ضيق " ..

ولهذا قال الشاعر: ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل وقد علم أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مضيفين سيما في ابتداء الإسلام وأفضل الإنفاق ما يقصد به وجه الله لعز وجل -، وأفضل ما يقصد به وجهه ما يجعل في سبيل الله، وأفضل سبيل ينفق فيه ما كان أكثره غنى، وقد علم أنه لا جهاد أكبر من جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قوم أكفر ممن كان يحاد بهم ولا زمان أحوج إلى محاربتهم من زمانه وكل وأحد من هذه الخصال يجري مجرى فعل يستحق مثوبة محددة، فعظم الله تعالى أمر الإنفاق في سبيله في زمانه، وجعل له من الثواب ما لم يجعل لغيره من الأعمال، ووجه ثالث وهو أن الإنسان متى تحرى فعل الخير على ما يجب وكما يجب يدعوه ذلك إلى أن يزيد في فعل الخير فلا يزداد، حتى إنما يصير مثل ملك فيه الفضيلة وبازدياده في الإيمان وفعل الخيرات يزداد ثوابه، فحيث ما ذكر التضعيف، فأشار إلى الحالة الأولى وحيث ما ذكر عشرة أمثالها وسبعمائة فإلى الأحوال المتوسطات وحيث ما ذكر، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، فإلى المنتهيات والغايات وأنها لا يحصرها عدد كما قال: عليه الصلاة والسلام: " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ".

(262)

قوله - عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية (262) - سورة البقرة. المن على ضربين: أحدهما ما يوزن به والأكثر منا بالتخفيف، والثاني قدر الشيء ووزنه، ومنه المنة، فإنها تستعمل على ضربين، أحدهما: اسما للعطية - لكونها ذات قدر بالإضافة إلى سائر الأفعال، وذلك لما تقدم أنفاً في صفة الجود وأنه أشرف فضيلة، والثاني: اسما لقدر العطية عند معطيها واعتداده بها، وهو المنهي عنه بقوله {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}، وقوله - عليه الصلاة والسلام: " والامتنان بالمعروف فإن ذلك مما يبطل الشكر ويمحق الأجر "، وقيل: " تعداد المنة من ضعف المنة "، والمنة تهديه للصنيعة، وللعطيه متى استعظمها المعطى فشكر منه، ومتى استعظمها المعطى، فهدم منه، فقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} يجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي الذين مثل إنفاقهم كمثل حبة منهم الذين ينفقون أموالهم، ويكون قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} في موضع الحال ويجوز أن يكون " الذين " هذا يفسر " الذين " المتقدم ويكون الذين ابتداء وما بعده خبرا، وقوله: {وَلَا أَذًى} الأظهر الأكثر أنه معطوف على قوله: " منا "، وهو أعم منه لأن كل من أذى، وليس كل أذي منا، وقيل: هو أن يظهر المسئول تبرما بالسائل، نحو أن يقول: " أراحني الله منك "، أو: " من أبلاني بك " فعلى هذا قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} استئناف، وقوله: {لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا} تام، وقوله: " ولا أذى لهم " كلام مستأنف من صفة المعطى كأنه قيل: " الذين ينفقون ولا يمنون، ولا ينادون بالإنفاق، فإن تمام فضيلة المنفق في سبيل الله أن يصير سلس الطبع بالعطاء، مستلذاً، يصرف المال إلي الوجوه المحمودة "، كما روى أن من الرجل محموداً حتى يكون ما ينفق في سبيل الله أحب إليه مما تركه، وروي هشام بن عروة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعطى عطية وهو طيب النفس بها بورك فيها للمعطي والمعطى ".

(263)

قال بشار: ليْس يعُطيك للرَّجاءٍِ وَالخوْ ... فِ ولكنْ يلذُّ طعْم العطاءِ والبخيل يتألم بما يعطي غيره، فضلاً عما يعطيه هو، ولهذا قيل أن " الحر يعطي واللئيم يألم إسته ". وقوله: {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ضمن ضمان يلي، وفي يؤمن إخلافه وإفلاسه، وقوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ليس يراد به الخوف في الآخرة فقط، بل يريد مع ذلك الخوف الذي ابتلى به أبناء الدنيا الذين ينفقون بما في أيديهم دون ما في يد الله - عز وجل -، ويجوز أن يكون قوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من: " خفت على فلان " أي أشفقت عليه أي: لا إشفاق عليهم لما هم فيه من النعيم {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، فعلى هذا قوله {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} إلى أخر الآية، ذكر مالهم من الثواب ويجوز أن تكون الآية كلها وصفاً للإنفاق في سبيل الله وبيان ذلك أن حق المنفق في سبيل الله أن تطيب به نفسه، وأن لا تتعقبه بالمن وأن لا تشفق من فقر تناله من بعد، بل تثق بكفاية الله - عز وجل -، ولا يحزنون إن يناله فقر، وبين تعالى أن ما تقدم ذكره من مجازاة واحد بسبع مائة هو لن هذا وصفه .. قوله - عز وجل: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} الآية: (263) - سورة البقرة ... الغنى: فقد الحاجة، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس واختلاف نظرهم فمنهم من يرى الغنى كثرة عرض الدنيا، حصلت معه الحاجة أو لم تحصل ومنهم من عده القناعة وإليه يوجه قوله عليه الصلاة والسلام: " الغنى غنى النفس " ومنهم من لا يعده إلا ارتفاع الحاجة وقال: " لا غنى

في الحقيقة في الدنيا يوجه ولأجله " قيل: الغنى غنى الآخرة ومنهم من قال: " لا غنى في الحقيقة لغير الله -عز وجل - لا في الدنيا ولا في الآخرة وعلى هذا " قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} والمعنى المنزل كأنه موضع غنى الناس، ولكون الغنى مقيما فيه على مراده وعلى هذا قال الشاعر: يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... ويرمي النوى بالمقترين المراميا .. وأما الغناء فللتشبيه على نحو نظر من قال " الغناء غذاء الأرواح، كما أن الطعام غذاء الأشباح، وقال ببعضهم: " من مدح الغناء إنما مد الغناء وقصر الغنى تفضيلاً للمدود "، فقد حصل له منفعة ليست في شيء من اللذات، وذاك أن اللذات الحسنة أربع، أكل، وشرب، ونكاح، وغناء .. ، وكل يوصل إليه بتعب إلا الغناء، واختلف في قوله: {مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ}. فمنهم من قال: خطاب للمسئول ومعناه: لأن تبذل للسائل قولاً حسناً، وتغفر له أن ذاك بمراجعة وإلحاف خير من أن تعطيه وتمتن عليها، كقول الشاعر: ومنعك للندى بجميل قول أحبُّ إلي من بذل ومنة وقيل: معنى المغفرة الترك، أي الاقتصار على القول الحسن، وترك الصدقة خير من صدقة هكذا، وقيل معناه: وإن تسأل الله الغفران لتقصيرك في إعطائه، وقيل: معناه ستر الخلة عليه، وقيل: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} وسلامة من المعصية خير من المعصية خير من صدفة هكذا، فإن هذه الصدقة فيها

عصيان النص، ونحو قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}، وقوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}، وقيل: القول المعروف أن تحث غيرك على إعطائه، وقيل: ذلك خطاب للسائل وحث له على إجمال الطلب، كما قال عمر بن عبد العزيز: " لن تدعوا لمرء ما قسم له، وفأجملوا في الطلب "، فأراد تعالي لأن يقول قولاً حسناً من تعريض بالسؤال أو إظهار للغنى، حيث لا ضرورة، ويكتسب خليط من مثال صدقة يتبعها أذى، كما قال الشاعر: لأن أرجي عند العرى بالخلق .... وأجتزى من كثير الزاد بالعلق خير وأكرم لي من أن ترى نعم .... معقودة للئام الناس في عنقي .. وقيل: معناه: لأن تنال أيها السائل قولاً معروفا من المسئول ومغفرة من الله خير من صدقة هكذا .. ومنهم من قال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} خطاب للمسئول، أي: " لتقل قولا حسنا في رده، ومغفرة خطاب للسائل " أي: اغتفر رده لك ولا تثقلن قلبك عليه، ونبه بقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} أن استقراضه ليس بحاجة به، بل لحاجة المقرض إلى الثواب، وبقوله " حليم "، أنه ليس يجب أن يغتر المذنب بتأخير العقوبة عمن قصر في الإنفاق أو في المنة على السؤال أو في سؤاله وليس بأهله ..

(264)

قوله - عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} الآية: (264) - سورة البقرة. التراب أصل في بابه، وترب يخصص بالتراب، وعبر به عن الفقر، وأترب صار ذا تراب، وعبر به عن المختص بالمال الكثير، فكأنه عبر عن المال بالتراب كما عبر بالثرى، وقول الشاعر في مخاطبة الدلو: " واغترفي من تربها الأدق " تصور منه معنى ترب وأترب، ففسر مرة بأنه دعاء عليها، كأنه قال: تربت فلا تخرجين إلا ترابا، ومرة بأنه دعاء لها، والمعنى أتربت، فأخرجت ماء كثيرا، والترب للذة على بناء القبل والقرن أي المقابل والمقارن، وكأنه الواقع مع غيره في التراب عند الولادة، وقيل معنى الترب الملاعب مع غيره بالتراب في الصغر، كقوله: كما قسم الترب الصبي المقابل والتريبة لعظم الصدر، حيث التفت عظام كأنها أتراب أي لدات، ولهذا قيل لها أتراب بلفظ الجمع، والوابل الذي يبل الأرض، أي يأتيها بالوبل، ويقال للمطر وابل ويرعى وبيل للنبات اليابس الذي يأتيه المطر، فيصير أذى للغنم وهو الذي يقال له النشر، ومنه اشتق الوبال وعنه استعير " أخذه أخذا وبيلا "، ويقال للعصا الثقيلة، وبيله الصلد، والصلت، والصلب تتقارب، لكن الصلد

خاص في الأرض والصخر وشبه به ما لا يجدي، فقيل: زند صلد، ورجل مصلد، وصلد: بخيل، وقدر صلود ذات صلدة يتباطأ غليانها، وفرس صلود: لا يعرق .. ، وصفوان: أبلغ من الصفات، وهو كل حجر صاف من التراب، وواحده قيل: صفوانه: نحو سعدان وسعدانة، ومرجان ومرجانة، وقيل واحد، وجمعه صفوان، نحو كروان وليعظم الله تعالى فتح المنة، أعاد ذلك في معارض من الكلام، فأثنى على تاركها أولاً، وفضل المنع على عطية يتبعها المن .. ثانيا: وصرح بالنهي عنها بالياء، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المنة فيها أعظم وأشبع ولكون ذلك فظيعا مستبشعا قال عليه الصلاة والسلام: " ثلاثة لا يجدون ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة خمس مائة عام: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان "، وقوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} في موضع الحال للمؤمنين، لا تبطلوها مثل منفق ماله مرائيا - تنبيها أن إنفاق الممتن كإنفاق المرائي الكافر بالله لأنه قال: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ}، وذلك كله من صلة " الذي " وقد عظم مزاياه حتى جعل المرائي بفعل الخير شرا من تاركه - سيما في العبادات، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - " المتشبع بما لم ينل كلابس ثوبي زور " تنبيها أنه كاذب بمقاله وفعاله، وشبه المرائي بصفوان وماله بتراب، وإنفاقه بالوابل وبين أن إنفاق هذا المرائي مع كون الإنفاق في نفسه شيئا نافعاً لم يفده إلا زوال ترابه، كما أن المطر الذي أتى على الصفوان مع كون المطر نافعا في نفسه لم يفده إلا زوال ثراه وقال تعالى في ضياع أعمال الكافر: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}، وفي الآيتين دلالة أن

العبادات والأعمال الصالحة وغير معنية ما لم يبن على الإيمان، ولا حجة في الآيتين ما لم احتج بهما على المرجئة، حيث قالت: إن المعاصي لا تحبط الطاعات لأنهم قالوا ذلك بشرط الإيمان، والله تعالى شرط في الآيتين الكفر، لأنه قال: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} وقال في الأخرى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. وهذا ظاهر، وقوله: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} راجع - إلى قوله: كالذي، أي المرائي بإنفاق ماله، لا يقدر يوم القيامة على اجتناء ثمرة ما اكتسبوا فإن قيل: وكيف يجوز أن يكون {لَا يَقْدِرُونَ} فعلا للذي والذي هو فعلاً للواحد؟ قيل: قد يقدر أن الذي قد يقع على الجمع، وأنه إذا أريد به الجمع، فقيد يخبر عنه كما يخبر عن الواحد وقوله: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. قد تقدم أن الهداية على أربعة أضرب هداية بالفطرة وهداية ببعث الرسل وهما عامان لكل مكلف، وهداية بالتوفيق لمن يستحق الاهتداء وهداية هي ثواب الآخرة، وهاتان لا تكونان للكافر قوله - عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآية (265) - البقرة يقال: ربوة، وربوة، وربوة وربا حصل في ربوة، وسميت الربوة رابية كأنها ربت بنفسها في مكان بسيط ويقال لكل ما زاد وعلا ربا، ومنه الربوا والطل أثر الندى، والطلل: الأثر الباقي مما بلي، وطلت الأرض، أصابها طل، نحو وبلت، ومطرت وطل دمه: ترك أثره، وعلى ذلك ما قيل: إن سألتك بمرشكرها وشبرك أفشأت تطلها وتضهلها، وقيل: للشجر طل وندى لأنه من النبت والنبت منهما وبالعكس من ذلك قيل للندى والمطر شحم لأنهما يؤديان إليه بين تعالى أن المنفق ما له في سبيل الله ينبغي أن يكون قاصدا به الوجهين اللذين لأجلهما أوجب على الناس الزكاة، أحدهما ابتغاء

مرضاة الله وطلب التوجه للوصول إليه المشار إليه بقوله، مخبرا: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} والثاني: بتثبيت النفس أي رياضتها، لأداء الأمانات وبذل المعونات، والتمسح لأبواب المصالح فإن النفوس ما لم ترض لم تسمح، إذ هي مجبولة على الشح والكسل كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وببذل الصدقة وفعل الخير يتطهر ويتزكى ولهذا قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهذان الوجهان أعنى ابتغاء وجه الله وتثبيت النفس وإن اختلفا اختلاف الاعتبارين فهما واحد، وحق الإنسان أن يقصد ذلك في جميع ما يفعله من العبادات، فاما أن يطلب شكر مخلوق ومباهاة نظير وطلب نفع دنيوي وقضاء شهوة وإبقاء معزة فليس ذلك بمرتضى وبين أن مثل نفوس المنفقين أموالهم على هذا الوجه كمثل روضة بربوة فشبه نفوسهم بالروضة وما يأتيهم من التوفيق والهداية من جهة الله بسبب الأنفاق بما يأتي الروضة من الوابل والطل وشبه تزكية النفوس بزكاة الأكل وقال جابر: الطل مثل للفرائض والوابل مثل للنوافل معهما، ومعناه: إن حق النفق ماله أن يتحرى النوافل والفرائض، فإن من لم يتحرهما معا، لم ينفك من الفرائض، تنبيها أن الفريضة هي ما لابد منه وتخصيص الربوة لأن تأثير الشمس فيها أكثر، ولما كان قد ينقطع عن الربوة فيحترق نباتها بين أنها لا تنفك من وابل وطل وعلى هذا قول الأعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة. . . خضراء جاد عليها مسبل هطل

(266)

فوصفها بأنها في حزنة ومجودة .. إن قيل: ما وجه قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} والضعف يقال في عدد ما يصح أن يوجد نصفه ولم يجرها هنا ذكر عدد ولا ما يقتضي عدداً، قيل: إنه لما كان لكل قطعة أرض قدر من الريع لا يكاد يزيد عليه بين تعالى أن دخل هذه الجنة ضعفا ما يقتضي مثلها من الأرضين .. إن قيل: لم قال: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؟ فجمع جمع القلة؟ قيل: تنبيها أن ذلك الفعل لا يكاد يوجد إلا في قليل من الناس، فصار في تخصيص الأنفس إشارة إلي نحو قوله - عز وجل - {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ولهذه النكتة - قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: عليه الصلاة والسلام لأصحابه: " الشرك أخفى فيكم من دبيب النملة على الصفاة في الليلة الظلماء "، تنبيهاً أنه قل ما ينفك عمل من رياء وإن قل. وبين تعالى بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أنه لا يخفي عليه شيء من أسرار العباد .. قوله - عز وجل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} الآية (266) - سورة البقرة. النخيل: سمي بذلك لأنه منخول الأشجار وصفوها وذاك أنه أكرم ما ينبت، لكونه مشبها بالحيوانات في الاحتياج، الأنثى منها إلى الفحل في التلقيح وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر بعده.

ولأجله قال، عليه الصلاة والسلام: " أكرموا عمتكم النخلة " وقيل: نخل السماء الثلج عند وقوعه على الأرض قطن أو دقيق يغربل، والعنب والعناب نظر إليهما نظرا واحدا، وشورك بينهما في الحروف الأصيلة مشاركتهما في الهيئة والصيغة وزيد في لفظ العناب لزيادة جرمه على جرم العنب، وهذا طريق اعتبروه في الاشتقاق وتحت نقيض فوق وفي الحديث: " لا تقوم الساعة حتى تظهر التحوت "، أي ما تحت الأرض، وذلك إشارة إلى قال الله - عز وجل - {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} والعصر مصدر " عصرت العنب "، وسمى أخر النهار ومدة من الزمان عصرا كأنه مدة عصرت، فجمعت، وقيل للعطية عصر تشبيها بعصر الريح السحاب، وسمى الإلجاء عصرا والاعتصار الالتجاء، والمعصر سحاب ذات عصر للمطر، وامرأة فوق الكاعب معصر لكونها ذات عصر أي زمان

للتمتع إشارة إلى قول الشاعر: مطيات السرور فوق عشر ... إلى عشرين ثم في المطايا والإعصار: أصله مصدر أعصر، فسمى به الريح والاحتراق مطاوعة حرق، وجرح الثوب أن تحرقه الدق، وحرق البعير حك إحدى نابيه بالأخرى، وريش حرق كالمنقطع بالإحراق، والحرقة احتراق البدن بحرارة فيه والحراق معروف، والحرقات سفن يرمى عنها بالنيران، ضرب الله مثلا لأعمال المنافق والمرائي، وأن لها في الدنيا شارة ونضارة، فإذا احتاج إليها وجدها باطلة، كمن له جنة هكذا يعتمدها، فلما اختل حاله، وكثر عياله، وانقضى شبابه، بقى خاليا عنها وعلى هذا دل ما روى أن عمر - رضي الله عنه قال: " إني لأجد في نفسي من هذه الأشياء "، وكان في القوم ابن عباس فقال: هذا مثل ضربه لمن يعمل عمره كله بعمل أهل الخير حتى إذا كان في آخر أيامه، وفي أحوج ما يكون إلى الخير، ختم عمله بعمل أهل الشقاء، فبطل ما عمل، وقيل: إن ذلك مثل ليس للمال فقط

(267)

بل للصحة والجمال وسائر الأمور البدنية والجارحة والسلطان، فإنه يفجع به الإنسان أحوج ما يكون إليه، فيكون بمنزلة من إذا كثر عياله فسد بالصاعقة بستانه، فبقى ضعيفاً لأفضل فيه لعمل وسعى في تصرف، وإنما ذكر أنه فجع بها، ولم يقل: مات عنها، فالنفوس مطبوعا على استعظام ذهاب المال عن الإنسان أكثر من استعظام ذهاب الإنسان عن ماله، قالوا: حلف للأعداء، ولا يجنح إلى الأصدقاء إن قيل: كيف قال: " أيود " وهو مستقبل، ثم قال: " وأصابه الكبر "، فأتى بلفظ ماضي؟ قيل: قد قال الفراء: لما كان يود يتلقى مرة بأن يكون، ومرة بلو كان، جاز أن يقدر أحدهما مكان الآخر، لإنفاق المعنى، فكأنه قيل " أيود أحدكم لو كان له جنة، وأصابه الكبر "، إن قيل: ولم قال: " وأصابه الكبر " ولم يقل: " وكبر "؟ في قوله: " وأصابه الكبر تنبيه على معنى التأثير والنكاية فيه، كقول الشاعر: رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى .. قوله - عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} الآية: (267) - سورة البقرة. الطيب يقال تارة باعتبار الحاسة، وباعتبار العقل تارة، والخبيث في نقيضه، والأظهر أن المعني به هاهنا المعقول الذي هو الحلال، فقد روي: " ثلاث إذا كن في التاجر طاب كسبه، لا يعيب إذا اشترى، ولا يمدح إذا باع، ولا يكذب " وروي: لا يحلف.

وقال - عليه الصلاة والسلام: " إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه "، وأصل التيمم قصد اليم أي لجة البحر، ثم صار في التعارف القصد نحو، {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، ويممته وأممته، قيل هما واحد وقال الخليل: أممته: قصدته من أمامه ويممته: قصدته من أي جهة كان والإغماض والتغميض غض البصر ويستعمل في الترخص كالإغضاء ذكر تعالى فيما تقدم فضل النفقة في سبيله، وحث عليها وقبح المنة، ونهى عنها وحث في هذا أن يكون الإنفاق من طيبات الكسب قيل: من أجوده، بدلالة ما روي أنه لما أمر بالصدقة، جاء قوم من أهل المدينة من صدقة التمر بالحشف ومن الطعام بالزوان فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل الطيبات تتناول مع ذلك الحلال وحقيقة الطيب من الكسب ما ليس فيه ارتكاب محظور واكتساب محجور، بل منح العقل والشرع تناوله ودخل في قوله: " ما كسبتم " كل ما يناله الإنسان بريح أو أجرة عمل، وفي قوله {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا} أنواع الحبوب والثمار والمعادن، وتخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان مما يكتسبه أضن منه مما يرثه، فإذا الموروث معقول من فحواه إن قيل؟ ما فائدة: لكم؟ قيل: تنبيه أن المقصود بإتخاذ هذه الأشياء نفعنا ليبلغنا بها إلى سعادة الدارين، كقوله

(268)

{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، ويجوز أن يتضمن مع ذلك أن الذي تجب فيه الزكاة، وهو ما قصد به قوام الإنسان دون ما قصد به البهائم كالحشيش ونحوه، وقوله: {أَنْفِقُوا} عام في الواجب والتطوع .. إن قيل: لم قال: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} ولم يقل: (ولا تنفقوا الخبيث) مع أن اللفظ كان أوجز؟ قيل: لأن القبيح من الإنسان أن يقصد الخبيث أي الرديء من جملة ما في يده فيخصه بالإنفاق في سبيل الله، فأما إنفاق الرديء لمن ليس له غير ذلك، أو لمن لا يقصده خصوصا فغير مذموما. قوله - عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآية: (268) - سورة البقرة. الفقر أربعة: فقر الحسنات في الآخرة، وفقر القناعة في الدنيا، وفقر المقتني، وفقرها جميعا والغني بحسبه، فمن حصل له في الدنيا فقد القناعة والمقتني فهو الفقير المطلق على سبيل الذم، ولا يقال له غني بوجه وهو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام " كاد الفقر أن يكون كفراً "، ومن فقد

لقناعة دون القنية، فهو الغني بالمجاز فقير بالحقيقة، ولهذا قال: قد يكثر المال والإنسان مفتقر، وقيل لبعضهم: أفلان غني؟ فقال: لا أدري غناه، ولكنه كثير المال، ومن فقد القنية دون القناعة، إنه يقال له فقير وغني، وكلاهما يقالان على طريق المدح، فقد قيل: ليس الغني بكثرة العرض وإنما الغني غني القلب "، والمشهور من الفقر عند العامة الحاجة وأصله كثير الفقار ومن قولهم: فقرته نحو كبدته، وبطنته، وبهذا النظر سمى الحاجة والداهية فاقرة، نحو: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}، الفحش والفحشاء كل منكر من المقال والفعال وإن كان قد خصها بعضهم هاهنا بالبخل، كقول شاعر: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي. . . عقيلة مال الفاحش المتشدد فقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}، قيل: عنى فقر الآخرة وهو أن يخيل إليه أن لا جزاء ولا شُكوراً وقيل هو بأن يخوفه، الفقر في آخر عمره. إن قيل: على أي وجه يتصور وعد الشيطان؟ قيل: إن ذلك تسليط النفس ووساوسه ولهذا قال هاهنا في الشيطان: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} قال في غيرها: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} لما جريا مجرى واحدا،

قال: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}، وقال في أخرى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الآية. إن قيل: من حق مقابلة اللفظ في قوله {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أن يقول (والله يعدكم الغنى)، ويأمركم بالمعروف أو بالبر فليست المغفرة مقابلة للفقر ولا الفضل للفحشاء وإن كان مقابلاً به، فلم لم يذكر في: (الله يأمركم)، والله يأمركم والله في الحقيقة يأمر فأما الشيطان فهو المسؤول الموسوس؟ قيل: قابل الفقر بالمغفرة والفضل، والفضل أعم من الغنى، لأنه يتناوله وغيره، فبين أنه يعد بالغنى وزيادات فضل فأتى في مقابلة وعد الشيطان بالمغفرة، أنه يغفر مع ذلك انقيادكم للشيطان، وسائر الذنوب ولما كان أمر الشيطان بالفحشاء إنما هو لأجل وعده بالفقر لأن من خاف بخل بماله، والبخل سبب ارتكاب سائر الفواحش ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام: " وأي داء أدوى من البخل؟ "، صار مستغنى أن يذكر في مقابله: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} بما ذكر من قوله: {مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} لأن أمر الله تعالى بالخيرات والحسنات معلوم وإنما المجهول أمر الشيطان، إذ كان أمره يخفى على الجهال وإنما يعرفه أولوا الألباب ..

(269)

قوله - عز وجل: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} الآية (269) - سورة البقرة. قد تقدم أن الحكمة معرفة الموجودات، وفعل الخيرات بقدر طاقة البشر، وذاك عام فيما يدرك بالعقل وبالوحي، وإن كان قد خص في بعض المواضع بما يدرك بالعقل في نحو قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فقول ابن عباس: " الحكمة هاهنا: علم القرآن ناسخه، ومحكمه، ومتشابهه " وقول ابن زيد: " إنها علم آياته وحكمه ومتشابه " وقول السدى أنها النبوة، وقول إبراهيم: إنها الفهم، وقول غيرهم إنها الخشية كلها صحيح وإشارة إلى أبعاضها، ومن قال: عنى بالخير الجنة ومن قال: هو العلم الظاهر والباطن فصحيح، والحكيم يقال بمعنى الفاعل والمفعول نحو: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي محكم ثم بين أن حقيقة ذلك لا يتذكرها إلا أولوا الألباب وقد تقدم حقيقة اللب وماله من المزية على مقتضى لفظ العقل، وإليه أشير بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وأما من قال: " كل مكلف ذو لب " حاصل له فبعيد عن معرفة حقيقته وما تقدم يغني عن بسط القول فيه هاهنا.

(270)

قوله - عز وجل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} الآية (270) - سورة البقرة. إن قيل: كيف قال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}، ثم قال {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}، ثم رجع إلى ذكر النفقة، وذلك كلمات متباينة في النظم متفاوتة في السرد؟ قيل: بل ذلك في نهاية حسن النظم، فإنه تعالى لما بين فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه حذرنا من الجنوح إلي الشيطان وإلى شرور النفس، وحثنا على الاعتماد على الحق بقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} الآية، ثم بين بقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} أن ذلك أمر يعرفه المتخصص بالحكمة التي يؤثر الله بها من يشاء، ثم رجع إلي ذكر النفقة وبين أن ذلك موضوع عند من لا يسهو أولا ينسى، وصار ذلك الحكمة مع كونه متعلقا بما تقدم كالاستطراد والتنويه بذكرها والحث على معرفتها والتخصيص بها .. إن قيل: ما وجه تعقيب الإنفاق بالنذر ووجه الآيتين بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} بعدهما؟ قيل: النذر عقد الإنسان على نفسه فعل البر بشرط أو بغير شرط، ولما كان فعل الخيرات ضربين مفروغا منه ومعزوما عليه بين أن كلا الأمرين لا يخفى عليه وذلك كلام متضمن للوعد والوعيد، وقال بعضهم: ليس النذر هاهنا ما يلتزمه الإنسان بالتطوع فقط، بل كل ما التزمه بالعقل أو بالشرع فنذر، وقيل الإشارة بالنذر إلى التطوع وبالإنفاق إلى الواجب، ثم بين أن من ظلم نفسه بتقصيره فيما يلزمه من ذلك أو ظلم غيرة، فماله أنصار وهو جمع نصير نحو: شريف، وأشراف،. وفي ذلك تنبيه على ما قال: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}

(271)

قوله - عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الآية (271) - سورة البقرة. خفي الشيء صار في خفية، والخفاء ما يستر به كالغطاء، وخفيته: أزلت خفاءه وذلك إذا أظهرته، وأخفيته أوليته ما دون القوادم من الريش .. ، قال الخليل: لأنها تخفى إذا وقع الطائر قد أثني الله تعالى على إبداء الصدقات بقوله: {فَنِعِمَّا هِيَ}، وقال ابن عباس: هذا في صدقة التطوع فأما الفرض، فإظهاره أفضل، لئلايتهم، وقال الحسن وقتادة: إخفاء جميعه أفضل ومن الناس من يحتج بذلك في جواز إعطاء الصدقات في الصامت والناطق الفقراء دون الإمام، لقوله: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ}، وقال بعضهم: ليس القصد بذلك إعطاء الفقراء يدا بيد، بل القصد إخفاؤه، فإنك إن آتيت الساعي فقد أتيتهم لأن يده يدهما في الحكم، وبين أن إخفاء الصدقة أحمد، لأن قوله: " خير " إن جعلته في تقدير " افعل " فتفصيله ظاهر، وإن جعلته في تقدير: " فعل "، فالخير أبلغ معنى من مقتضى نعم، ولا قال في الإخفاء " فهو خير لكم "، فأكده بلكم، ثم قال: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ}، ولم يصف الإبداء بذلك، ثم قال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تنبيها أنه إن أخفى لا يخفى عليه ولا يضل عنه ويؤكد فضل إخفائه قوله عليه الصلاة والسلام " سبعة يظلهم الله في ظل عرشه. ،، وذكر رجلا تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم شماله ما تصدقت به يمينه .. "، وقوله: {فَنِعِمَّا هِيَ} قرئ مكسور النون والعين وكسر النون

إتباع لكسر العين، وقرئ بفتح النون وكسر العين وقرئ بسكون العين وكسر النون وتشديد الميم وبتخفيف الميم أيضا، والسكون بعيد لالتقاء الساكنين، وليس أحدهما حرف مدولين، والتخفيف كذلك لحذف لام الفعل أو الميم من ما، وكلاهما لا ينقاس وقوله: {وَيُكَفِّرُ} إذا جزم فعطف على موضع الفاء، وإذا رفع فعطف على موضع الفاء، وإذا رفع فعطف على ما بعد الفاء نحو: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} .. إن قيل: ولم قال: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}؟ فأدخل فيه من قبل (قد): قال بعضهم: من زائدة وقيل تنبيها أنه لا يكفر جميع المعاصي لأنه يكفر الصغائر بشرط اجتناب الكبائر عند قوم ويكفر الكل عن المسلمين بشروط اجتناب الكفر إن شاء عند قوم ..

(272)

قوله - عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} الآية: (272) - سورة البقرة. إن قيل: ما وجه أتباع هذه الآية لما تقدم؟ قيل: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه والمؤمنين تحرجوا من مواساة الكافرين ومواصلة أقاربهم منهم، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله يهودي فقال: لاحق لك وإن " أسماء بنت أبي بكر " امتنعت من مواساة جدها وامرأته، وإن الأنصار امتنعوا من الإنفاق على أصهارهم من الكفار فأنزل الله تعالى ذلك تنبيها أن ليس عليك هداهم وأن يهتدي الكافر وإنما عليك أن تهديهم أي تدعوهم إلي الهدى على الوجه المأمور به - تنبيهاً أنه لا يجب أن تمتنع من مواساتهم لذلك، ومن الناس من قال: هذا كان عاما في جميع الصدقات، فرضها ونفلها ثم نسخت الفريضة بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية ومنهم من قال: هو مخصوص في النافلة دون الواجبة، وإليه ذهب ابن عمر والحسن، وروي أبو حنيفة أنه لما أنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} تصدق الناس على الكفار من غير الفريضة، وقيل عنى بالهداية الغنى، أي ليس عليك أن تهديهم، وإنما عليك مواساتهم، فإن الله يغني من يشاء وتسمية الغنى، هداية على طريقة العرب في نحو قولهم:

" رشدت واهتديت " لمن ظفر، و " غويت " لمن خاب وخسر، وعلى هذا قال الشاعر: " ومن يغو لا يعدم على الغي لائما " وقيل: ليس لقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} تعلق بالإنفاق، وإنما هو تسلية للنبي -ص-، وتنبيه أنك وإن أمرت أن تكثر حثهم على الإنفاق فليس يرجع عليك ملامة في تقصيرهم، كقوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}، وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} أي: أهل دينكم. قال سفيان بن عيينة: بين أن ما تنفقوا من صدقة فلأنفسكم وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} يعني: أهل دينكم تنبيها أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوع، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكافرين، وقال غير معناه: ما تنفقونه فإنه يحصل لكم ثوابه سواء أوصلتم إلى مؤمن أو كافر، وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} قيل: هي جملة في موضع الحال، كأنه قال:

(273)

{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} إذ لم تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، أي إذا قصدتم به وجهه، وقيل: ذلك جملة معطوفة على جملة، ومعناه: " ما تنفقوا من خير فلأنفسكم وأنتم تقصدون به قصدكم به وجهه فقط دون عوض " .. إن قيل ة ما معنى قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} وهذا معناه كمعنى قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: " اللهم اجعل لمنفق خلفاً، ولممسك تلفاً "، ويعني به المنفق حيت ما يجب، وكما يجب، لا المنفق في عبارة وخسارة، وقوله: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، وهو تعالى يجعل لكم بالواحد سبع مائة، كما ذكره في الآية المتقدمة، والوجه هاهنا قيل معناه القصد والجهة، وقيل معناه القصد به الذات نحو النفس، ومعناه: يقصد به ذات الله، لا طلب جزاء، ولا خوف عقاب، ولا غير ذلك من الوجوه التي يقصدها أبناء الدنيا بالإنفاق ... قوله - عز وجل -: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} الآية: (273) - سورة البقرة. العفة: حبس النفس لكن فضول الشهوات الرديئة من المأكل، والمنكح، والاقتصار علي البلغة التي لابد من المشار إليها بقوله تعال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}.

ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه سفيان: " أريع من جاوزهن، ففيه الحساب: ما سد الجوعة، وكف العطشة، وستر العورة "، أكن البدن " ... ويدخل في العفة الجود، لأنه قد قيل: الجود ضربان: أن يكون بما في يدك متبرعاً، وأن يكون عما في يد غيرك متورعاً، والزهد يقاربه إلا الزهد، يقال اعتبارا بترك عرض الدنيا، والعفة تقال اعتباراً بحبس النفس عن الشهوات، وتتلازمان، والعفافة بقية ما في الضرع كأنه قدر يمكن التعفف به، والإلحاف استشعار المسألة والاستقصاء فيها وتذرعها، يقال: لحفته: أي ألبسته إلحافا ككسوته، أي ألبسته كساءً، والوسم والسيما تتقاربان لكن الوسم علامة محسوسة كسمة البعير، والسيما علامة متفرسة، وأصلها من السوم أي طلب الكلا، وطلب المبيع، وسوم الماشية أن تطلب لها المرعى وإن كان قل يستعمل في إرسالها. إن قيل: بم يتعلق قوله: {لِلْفُقَرَاءِ}؟ قيل: هو على ما ذكر سنين بدل من قوله: {لِأَنْفُسِكُمْ}، فقد ذكر أنه يعني بأنفسكم أهل دينكم، فصار الفقراء بعضهم، فصح أن يبدل منه بدل البعض من الكل، وقيل: يتعلق بقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}، أي ما تنفقون لهم إلا تقرباً إلي الله عز وجل-، فمعلوم أن من خص بنفقته هؤلاء، فإنه لم يقصد إلا وجه الله، وقيل: ذلك يتعلق بفعل مضمر يدل علي: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ}، أو بقوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}، أي يوف إليكم، ويوسع لأجل الفقراء إشارة إلى ما قال - عليه الصلاة والسلام: " إنما تنصرون بضعفائكم وتمطرون وترزقون ".

وقال بعض الناس: اللام تتعلق بقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} المذكور من بعد، وهذا لا يصح لأن ما يتعلق بمعمول حرف الشرط لا يقدم عليه، وكذلك ما يتعلق بما بعد حروف العطف، وقد تقدم الكلام في الحصر والإحصار، وأن الإحصار أعم من الحصر، فإن الحصر يقال في منع العدو، والإحصار يقال فيه وفي منع الذي يكون من ذات الإنسان من العقل، أو الهوى، أو المرض، أو الخوف، فكل حصر إحصار، وليس كل إحصار حصراً، ولأجل عموم الإحصار قال قتاده وابن زيد: " منعوا أنفسهم من التجارة خوفاً من الكفار "، وقال السدي: " منعهم الكفار بالخوف وقيل: منعهم المرض، وقيل، حملوا على الحصر. ، وقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} أي: ذهابا لمنع العدو إياهم، وقيل، لمنع الله لهم وإلزامهم أنفسهم المرابطة في سبيله، ولم ينف عنهم القدرة، ولكن بين أن إيمانهم وأحوالهم تمنعهم عن الإخلال وكما هم بصدده، كقولك: " أمرني الأمير بكذا، فلا أستطيع أن أخل به "، وقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ}، أي الجاهل بحالهم، وقيل: إن ذلك فيمن له استغناء في الظاهر وبه فقر في الباطن أو فقر إلى الله لمعرفته بحقائق الأمور، وقوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، أي تتفرس فيهم أحوالهم، وذلك مما يدل على أن للفراسة حكما صادقاً، وعليه دل قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}، وقوله عليه الصلاة والسلام: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " إن قيل: ما وجه ذكر {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} في ثلاثة مواضع متقاربة وتعليق كل واحد بحكم غير حكم الآخر. قيل: إنه بين أولاً ما ابتغى به الإنسان وجه الله، فنفعه راجع إلى نفسه، وبيم في الثاني أنه وإن لم يقصد به وجه الله خالصاً، بل قصد به طلب ثواب، أو اتقاء من نار، أو غير ذلك من وجوه المصالح، فله ما قصده، وآتاهم الثواب في الثالث، حيث ذكر الانفاق للفقراء الذين أحصروا،

(274)

فقال: (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)، إشارة إلى ما قال: (أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت). قوله- عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية (274) - سورة البقرة. قد تقدم أن إنفاق الأموال عند بعضهم ليس إنفاق المقتنيات فقط، بل كل ما خص الله به الإنسان من النفس والبدن في العبادة والعلم والجاه وغير ذلك، لكن الأظهر أنه إنفاق المقتنيات وروي أنه لما نزل ذلك، كان مع أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - أرنعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا وبدرهم علانية، فقيل له في ذلك، فقال: " أردت أن أستوجب من الله ما وعد به الذين يفعلون ذلك "، والإنفاق في سبيل الله ضربان ضرب ظاهر وهو الصدقة على الفقراء، وضرب غير ظاهر، وهو الإنفاق في المباحات إذا كان متناولا حيث يجب ومنفقا على ما يجب وكما يجب، وقد نقدم ما قال بعضهم أن مباحات الأولياء كلها فرائض، فعنى بقوله: علانية ما عرفه الناس أنه صدقة، وبالسر مالا يعرفه صدقة إلا أولوا البصائر، وإلى هذا أشار من قال إنها نزلت، في النفقة على الخيل فإن الإنفاق على الخيل في الظاهر ليس بقربة وقوله: {بِاللَّيْلِ} إشارة إلى نحو ما روي أن بعض الأنصار نزل به ضيف، وكان عنده طعام طفيف فقدمه إليه في الظلمة بالليل يري أنه يؤاكله وهو يؤثر به حتى أثنى الله عليه، والقصد بالآية في الجملة نفقة من لا يرائي أن لا يداحي وإنما يقصد به مرضاة الله فقط ..

(275)

قوله - عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية (275) - سورة البقرة. الخيط: الضرب على غير استقامة كخبط البعير بيده، والرجل الشجر بعصاه، وقيل لمس الشيطان الإنسان الخبط والتخبط لكون أفعال المتخبط على غير استقامة، والخباط سمة على غير استواء والسلف من الأفعال المضايقة) ويراعى سببه معنى التقدم، يقال: أصم سالفه، والسالفة من الإنسان لتقدمها علي ما دونها من الأعضاء إدا اعتبر من الأعلى، وأسلفته في المال، وسلافة الخمر صفوها الذي يتقدم خروجه من العصير، والعود الرجوع، وأصله من العود، فعاد رجع إلي عوده، أي أصله، وسمي البعير المسن عوداً، لأنه لما كان غاية سنها ذلك كأنه عاد إليه، وبيان ذلك أن الغرض والغاية بالذات شيء واحدا لأن الغاية هي بلوغ الغرض، وكان عرض الإنسان بناء دراما، فبناها علي ما بوأها عال بفعله إلى غرضه، فبناها على ما نواها الذي كان منه، وعلى هذا سمي الثوب لكونه ثابياً إلى ما كان الغرض من الغزل، وبهذا النظر قال: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} فسمي انتهاء الإنسان الذي هو الهرم " أرذل العمر "، وعلى هذا قال: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} فسمي ذلك رجوعاً لما كان الغرض من الإنسان تلك الغاية، وفي العادة عادة، لكونها معاداً للإنسان فيما يتعاطاه أو لكونها عائدا إلى الإنسان، ولهذا قال: إن التخلق يأتي دونه الخلق وهو يقال ... للبربط عود للمتحرية عود.

كما يقال للنبيد شراب، واستعارة اسم الجنس والنوع لبعض منهما من أجل الكناية أحد ما يجب أن يراعى في الاشتقاق، والربا الزيادة على رأس المال من الربوة على ما تقدم، لكن في تعارف العرب هو لدفع دين بزيادة أو لزيادة ثمن لزيادة في الأجل، وصار في شريعتنا اسماً لذلك، ولبيع الأجناس الستة بعضها ببعض متفاضلاً ولما يجري مجراه على مقتضى العلة على حسب اختلاف، الآية الثالثة، وقال بعض الفقهاء: البيع والربا لفظان عامان نظرا منهم إلى مقتضى، وقال بعضهم: هما مجملان، نظرا منهم إلى اعتبار شرائط فيهما لم تكن العرب تعتبرها، فصارت الأعراب لا تعرفها من دون المراجعة إلى صاحب الشرع، وكلا القولين صحيح بنظر ونظر، فإنهما عامان من وجه، ومجملان من وجه، ولذلك وصفهما الشافعي بالصفتين، فظن كثير من أصحابه أن قوله اختلف في ذلك، وردي في تفسير الآية أن المربى يقوم من قبره يوم القيامة مجنوناً، وأنه في المحشر يصرع ويوطأ بالأرجل إلى أن يحاسب الله الخلائق، ثم يدخل النار، وفي قراءة ابن مسعود: " لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم "، وقيل: معناه: من سوى بينهما يخرج في الآخرة من حد الأبرار إلى حال الدين اتبعهم الشيطان وكانوا من الغاوين، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}، وقيل: هو تشبيه من لم يفرق بين البيع والربا مع شدة تضادهما وتباين ما بينهما في أن البيع سبب العدل والعمارة للعالم، والربا سبب الجور وخراب العالم فنبه أن قبح الربا مركوز في العقول، بحيث أنما من سوى بينه وبين البيع فقد بلغ به الجهل إلى حد الجنون، وقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى}، أي من انتهى بعد الوعظ، فما أخذه من قبل ملكه، لا اعتراض عليه، ولكن أمره في الآخرة إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، وقيل: بل معناه: لا يؤخذ به في الدنيا ولا في الآخرة، ومعنى: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} على طريق الوعد له والسكون منه وأنه قد خرج من حزب الشيطان إلى حزب الله، كقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.

وكقوله: (الصوم لي وأنا أجزي به)، وقوله: (ومن عاد)، قيل: من عاد إلى تحليله وقيل: إلي تحليله أو إلى فعله من وغير استحلال، وقوله {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} مما يدل أن الشيطان تأثيراً في الإنسان بخلاف ما زعمت المعتزلة، حيث قالوا أن لا تأثير في الإنسان للشيطان إلا بالوسوسة، قالوا: وهو أن يغلب عليه من المرء السوداء الضعف والقرع ما يحدث في المجنون، فمن قبل الله أومن قبل ذاته، وقال الجبائي: " لو كان الشيطان يتخبطه بمسه لوجب أن يخبط كل واحد، فقد ثبتت عداوته للصالحين، ولوجب أن يسلب الإنسان ما في داره من أثاثه ومتاعه، فكان يحمل متاعهم إلى المسئ الكاذب "، وقال أبو هاشم: " لو قدر على ذلك لقدر على الصوت الرفيع، فكان يفشي سر المؤمنين ويضرب بينهم "، فنقول وبالله التوفيق، إن أول ما في قولهم هذا إبطالهم لنحو ما حكي عن أيوب: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}، وعن موسى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، ولا يكذبهما تعالى فيما، وقال: {للانسان عدو}، وقال مخبرا عن الشيطان: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} واستثنى الله تعالي أولياءه بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، هذا مع غيره من الآيات الباهرة الظاهرة، فإن قيل: على أي وجه يكون سلطانه؟.

قيل: على الوجهين اللذين ذكرهما الله أحدهما بالوسوسة، وهو أن يلقي في روع الإنسان أن أمراً ما يصير داعيا له إلى فعل يريده ويختاره، وإياه قصد بقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}. والثاني: بدخوله في خلال جسده، وإياه عنى بقوله: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وقال عليه الصلاة والسلام: " الشيطان يجري من أبن أدم مجرى دمه "، وما قالوه من أن، الشيطان لو قدر على خبط الإنسان لسرق ثيابه فلجهلهم بأمر الشيطان وجهة عداوته للإنسان وخصائص فاعله إلا أننا نرى أنما الحيات والعقارب تعادينا ولا تسرق أمتعتنا، وقد تقدم في ذكر السحر أن السحرة والشيطان لا يمكنها أن تفعل كل فعل كما ظنته المعتزلة، ولا أن تؤثر في كل واحد، وإنما تقدر على أفعال مخصوصة في أقوام ضعاف القلوب ومختلي العقول قليلي العبادة، وإذا أثرت تأثيراً ضعيفاً، ويقوى ذلك مما روي في قصة خالد بن الوليد أنه لما وجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهدم العزى تصور أنه خيال كان يفزع منه غيره إذا أبصره ويدبر عنه، فأقدم خالد لقوة قلبه وشدة شكيمته في الدليل، فهدمه، وإلى تخويف الشيطان الإنسان يرجع قوله مخبراً عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} ولولا تلبيس الشيطان عليهم لما أقاموا على عبادة أجسام أموات وأشباح جماد، وقد وصف الله سبحانه ضعف سلطان الشيطان علي المؤمن فقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية ... ، واستبعاد المعتزلة تأثير الشيطان، إنما هو لخروجهم بتحديقهم عن حد العامة في التزام ما تلزمهم الشريعة الإقرار به، وقصورهم بسوء تصورهم وفساد طريقتهم عن إدراك حقائق ما ورددت ما به الشريعة حسب ما أدركه الحكماء الذين وصفهم الله بقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} فصاروا في كثير من ذلك كما قالوا: " لا مال أبقيت، ولا حرك أبقيت ".

(276)

قوله - عز وجل -: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} الآية (276) - سورة البقرة. الحق نقصان الشيء حالاً فحالاً بحيث تخفى تفاصيله، يقال: محقه، فالمحق ومنه قيل: المحاق لآخر الشهر، وتربية الصدقات في الدنيا أن يثمر مال صاحبها، وذلك أدنى عنى النفس، ويدخر له لواحد سبع مائه ثم قد يزيد زيادة بلا حساب كما وعد، وعلى هذا ما روي لكن النبي - صلى الله عليه وسلم -. " إن الله يقبل الصدقات، ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصليه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ". قيل: ما الفرق بين الربا والبيع وكل واحد منهما أخذ ربحا على رأس المال؟ قيل: الفرق بينهما ظاهر، وذاك أنه قد تقدم أن الناس متفتقر بعضهم إلي بعض وإن كل واحد، قائم بأمر آخرين، فلو أمروا أن لا يأخذ بعضهم ربحاً على رأس ماله، لرغبوا عن التجارة لضياع سعيهم، فكان يتعذر لأحدنا أن يتحصل له في حالة واحدة أشياء محمولة من آفاق متباينة، والبائع يأخذ ما يأخذه من غير عوض ولا سعي، بل بتضييق فضلات ماله على المحتاجين من حيث لا يلحقه ضرر، فصار ذلك منه أكل مال الناس بالباطل المنهي عنه بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ولأنها المواساة واجبة بالشرع والعقل، فلو أبيح للناس الربا هو الشح الذي جبلوا عليه لأدى إلى سد باب المعروف وإلى أن لا يوقي الإنسان شع نفسه المذكور في قوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

فإنه كان يدعو إلى أن يبخل وبخله يدعوه إلى منع الزكاة وترك المواساة، وذلك يؤدي به إلى حرص على تناول المال من كل وجه كالسرقة، والخيانة والغصب وعلى هذا قال جعفر بن محمد: " إنما حرم الله الربا ليتقارض الناس " وروي عن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مكتوب على باب الجنة: القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشر أمثالها ". قال جعفر: " لأن المستقرض لا يأتيك إلا وهو محتاج، والصدقة ربما وقعت في يد الغني " إن قيل: لما قال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} ولم يقل: كل كافر وهو تعالى لا يحبهما جميعا؟ قيل هو تنبيها على معنى لطيف، وهو أن الربا يدعو الإنسان إلى ترك الصدقة والزكاة وترك مواساة الناس والى أن يأخذ مال الغير بالباطل، كما أن فعل الصدقة يدعو إلي الاستكثار من الخير، ولهذا قيل: عودا مرا ما اعتاد، ومتى تعود الإنسان فعل الشرور يصير ذلك مانعا له عن الخيرات ومن الصدقة التي تطهر النفس فنبه الله بقوله: {لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أن المرابي يؤدي به رباه إلى أن يصير كفارا أثيما وهما بناءان للمبالغة فإذا صار كذلك، فإنه لا يكاد يتوب، وإذا لم يتب لم يحبه الله المحبة التي وعد بها التوابين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فلهذا وجه تخصيص بناء المبالغة في ذلك.

(277)

قوله - عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية: (277) - سورة البقرة. قد تقدم أن الإيمان في الأصل هو التصديق، ولا يكون التصديق إلا عن تحقيق، والتحقيق يقتضي العلم، فإذاً: الإيمان مقتض للعلم، وهو وإن كان في التعارف للعلم والعمل بحسبه، ففي الأصل، للاعتقاد النفسي، ولهذا قيل ما جاء الإيمان في القرآن إلا مقرونا بالعمل الصالح، ومما يؤكد ذلك خبر جبريل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الله في تفصيله شيئا من الأعمال، فإذا قول من قال: ليست الأعمال البدنية من الإيمان فصحيح على وجه، وقول من قال: هي من الإيمان فصحيح على وجه، ولكن لا يعتد بعلم لا يضامه العمل، وما أصدق في ذلك قول الشاعر: لا يطمع المرء أن تجتاب غمرته. . . بالقول إلا له جسرا له العمل وأتبع قوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإن كانا غير خارجين عن عمل الصالحات تخصيصا لهما لكون إحداهما أشرف العبادة البدنية، والأخرى العبادة المالية، وفائدة تعقيب أية الربا بهذه الآية تنبيه على منافاة ما يستحق بهذه الأعمال وما يستحق بتعاطي الربا .. قوله - عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية (278) سورة البقرة. أمر تعالى بالاقتصار من الربا على رأس المال بقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، وقيل معناه:

(279)

معلوما وقوعه، فبين أن " إن " هاهنا لم يكن لوقوع شبهه في إيمانهم قوله - عز وجل: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} الآية (279) - سورة البقرة. الحرب معلوم، والحرب السلب لكون ذلك واقعا فيها، وسمي بعض آلاتها الحربة والأصل في الحربة اسم الفعلة. والتحريب إثارتها والمحراب: قيل سمي لكونه موضع محاربة النفس والشيطان، وتسمية أشرف البقاع بالمحراب تشبيه لمحراب الصلاة بالإضافة إلى غيره من الأمكنة، والحرباء: دويبة تتلقى الشمس كأنها تحاربها والحرباء: مسمار تشبيها بالدويبة في الهيئة كقولهم: ضبة وكلب تشبيها بالضب والكلب. ومعنى الآية: إن لم تفعلوا أمر الله ولم تنقادوا له بعد، يزول الأمر بتركه فأنتم في حكم المحاربين. قال ابن عباس: يقتضي ذلك أن المربي يستتاب فإن تاب وإلا قوتل، ولا يقتضي كفرهم، فإن المحاربة قد تطرق على ما دون الكفر كقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، اتفق الفقهاء أن ذلك حكم المسلمين، ونبه بقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ} أن من ترك ذلك، فلابد أن يرد إليه رأس المال لا يظلمهم الناس بأن يفوزوا بأصول مالهم، ولا يظلمونهم بأن يأخذوا زيادة على أصل مالهم، وقرئ (فأذنوا) أي: أعلموا ذلك غيركم وذلك يقتضدي معنى (فأذنوا) لأنه لا يكون الإنسان مؤذنا حتى يكون آذنا. وفي قوله: (ولا تظلمون) ما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام - " مطل الغنى ظلم " وقوله إلى الواحد يحل عرضه وعقوبته فإحلال عرضه التغليظ عليه بالمطالبة وعقوبته حبسه.

ذروا العمل به، وكالاهما يصح له اللفظ، فيحمل عليهما وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بمكة: " ألا إن كل ربا كان في الجاهلية، فهو موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب " وروي أن أهل الطائف صالحوا على أن لهم رباهم في الناس، فلما أسلموا امتنع بنو المغيرة من دفع الربا، وترافعوا في ذلك إلى عتاب بن أسيد عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة، فكتب في ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الله، فكتب عليه الصلاة والسلام بالآية، ونبه تعالى بالآية أن المربي غير متق لله، فإن تقواه اتقاء معاصيه من المحظورات العقلية والشرعية، وقد تقدم أن تعاطي الفعل يدعو إلى جنسه خيرا كان أو شرا، فمن اتقاه في شيء ما فهو أقرب إلى أن يتقيه في غيره .. إن قيل: كيف قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؟ قيل: سماهم مؤمنين لإقرارهم بالإيمان ثم بين بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أن من شرط الإيمان التزام أحكامه، فإن (فإن كنتم مؤمنين) فلابد من التزام ذلك، وقيل: معناه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قولا التزموا ذلك إن كنتم مؤمنين فعلا وهذا يرجع إلى الأول، وقال مقاتل: معنى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إذ كنتم مؤمنين ووجه قوله: إن (إن) مترددة فيما يتحقق وقوعه، وفيما لا يتحقق، و (إذ): تقال فيها كان

(280)

قوله - عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (280) - سورة البقرة. كان هاهنا بمعنى وقع، أي وإن وقع معسر، وقيل: هي ناقصة وتقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم، فحذف الخير لكون المعنى مفهوما، وهذا أجود، فإن التامة أكثر ما يعلق بها الأحداث دون الأشخاص، نحو: كان الخروج كقولك: اتفق للخروج، ولا تقول كان زيد، وأنفق زيد، وقيل: قراءة أبي: (وإن كان ذا عسرة). وقوله: فنظرة إلى ميسرة) أي: فعليكم انتظار، فقرأ الحسن: (فنظرة) بسكون الظاء. وقرئ مناظرة نحو: فاقرة، وكاذبة. واختلف هل يجب الانتظار في رأس مال الربا أو في كل دين؟ فمنهم من قال: النص يقتضي ذلك في كل، فإنه تمم حكم الربا، ثم ذكر اعتبار من عليه دين ربا كان أو غيره، وهو قول ابن عباس، والضحاك، والحسين. ويؤكد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " من أنظر معسرا كان في ظل الله، أو في كنف الله يوم القيامة. "، وقال عليه الصلاة والسلام: " من شدد على امرئ في التقاضي إذا كان معسرا، شدد الله عليه في قبره. " وقال شريح وإبراهيم، وروى عن ابن عباس أن ذلك في الربا خاصته والتصدق على المعسر ترك رأس المال عليه، نحو قوله في القصاص. {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}، وقوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي تتصدقوا، فأدغم، وقرئ: (تصدقوا) بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاء ين بدلالة الأخرى عليه، وقرئ: (ميسرة) بضم السين، وذلك لغتان نحو: مشربة، ومشربة وقرئ مجاهد (ميسرة)، ولم يجوزه البصريون لعدم مفعل في كلامهم، وذكر الكوفيون ألفاظا يسيرة من ذلك ليوم ردع أو فعال مكرم.

(281)

وقوله - عز وجل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الآية (281) - سورة البقرة. قال ابن عباس. هي أخر آية نزلت من القرآن، فقال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " ضعها في رأس الثمانين والمائتين من سورة البقرة، وقد تقدم الكلام في الفرق بين ": (اتقوا الله)، (واتقوا ربكم)، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ} وما يجري مجراه؟ ومعنى الرجوع فليس على تصور رجوع إلي مكان بعد المقارنة كيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}، وإنما ذلك رجوع، إما على ما ذكرنا في العود آنفا وإما على تصور خلقه أبانا المشار إليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وعلى هذا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}، وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، وقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} وتوفية كل نفس ما كسبت جزاءها، إن خيرا فخيرا، وإن شراً فشرا، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، أي: لا ينقص ثوابهم، ولا يزاد عقابهم ..

(282)

قوله - عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية (282) سورة البقرة .. دنت الرجل: أخذت منه ديناً، وأدنته: جعلته دينا، وذلك بأن تعطيه دينا، والتداين والمداينة تدافع ذلك والبخس والنخس يتقاربان، لكن النخس أن يصيب بدنه، أي مكان كان والبخس أن يصيب عينه، وعنه استعير بخس حقه، كقولهم عور حقه، وتباخسوا في البيع تغابنوا كأن كل واحد يبخس صاحبه عما يريده منه باحتياله، والسفه خفة في العقل ومقتضياته، ولهذا يقال: " سفيه الرأي " وسفيه اللسان " و " زمام سفيه " على التشبيه .. والسآمة ملك يورث الضجر، والصغر خلاف الكبر، وأصله أن يستعمل في المقدار، ثم يستعمل في الأحوال، ومنه صغر صغرا أو صغارا إذا تحاقر لاحتمال ضيم والقسط النصيب على سبيل العدالة، فإن قيل: فإذا كان القسط ما يقول، فكيف قيل: قسط إذا جار؟ قيل: معنى قسط أخذ قسط غيره وذلك عدل، فصار قسط وأقسط في التناول والمناولة، كقولهم عطاء، وأعطى .. إن قيل: لم قال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}، وتداينتم ينبئ عن الدين والمدين والتداين يقال في

المجازاة فبين بلفظ الدين المراد والمقصود في هذا المكان أنه لما عقب بقوله: فاكتبوه ذكر لفظ الدين، ليبين أنه هو الذي حث على كتبه وكتب ذلك واجب عند الربيع، وإليه ذهب عامة الفقهاء، ومنهم من قال: هو في السلم خاصة، وحقيقة: (اكتبوه) حث على الاعتراف به وحفظه، فإن الكتاب خليفة اللسان واللسان خليفة القلب، فلما قال: فاكتبوه فقد حث على غاية ما يكون في ذلك من الاحتياط، وقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}، قيل: واجب على كل حال على كل كاتب، وقيل: واجب على الكفاية كالجهاد، وهو الصحيح والكتابة بين المتتابعين وإن كانت غير واجبة، فقد تجب على الكاتب إذاً أتوه، كما أن الصلاة النافلة وإن لم تكن واجبة على فاعلها، فقد تجب علي العالم - تنبيها إذا أتاه مستفتي وقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} حث على بذل جهده في مراعاة شروطه مما قد لا يعرفه المستكتب، وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، أي: ليقر، ولولا وجوب الحكم بإملائه، لم يكن إملاؤه أولى من إملاء غيره، ولهذا قال: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} وذلك نظير قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}، لما كان قولهن مقبولا وعلى هذا قوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}، إن قيل: جمع بين لفظ (الله) ولفظ (الرب) في قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}؟ قيل: إن لفظ الله يقال اعتبارا بالوله إليه أو العبادة له، ولفظ " الرب " يقال اعتبارا بكونه تعالى مربيا لعباده ومنعما عليهم، وقد تقدم أن الإنسان يعرف الله ربا قبل أن يعرفه معبودا وذلك بمعرفة نعمه يتوصل إلي معرفة فجمع هاهنا بين اللفظين، كأنه قال: " اتقوه معتبرين بذاته ومعتبرين بنعمه "، وأما تقديم لفظ (الله) على (الرب) فقد تقدم في بيان قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولأن مراقبة ذاته تعالى أبلغ وأشرف من اعتبار نعمه فكأنه قيل: " إن لم تلاحظوه، فلاحظوا نعمه اللازمة لكم "، وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} أي مبذرا لقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} وقيل: عنى بالسفيه النساء، وبالضعيف الصغير وبالذي لا يستطيع أن يمل هو المغلوب على عقله، ومنهم من حمل السفيه والضعيف على شيء واحد، وقال أو زائدة، وذلك ظاهر الفساد في اللغة وقوله: {وَلِيُّهُ} أي: ولي أحد هؤلاء الثلاثة، ولا يجوز أن

يكون ولي الحق كما قال بعضهم، لأن قوله لا يؤثرا إذ هو مدع. وقوله: {بِالْعَدْلِ} حث على تحريه لصاحب الحق وللمولى عليه، وقوله: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قال بعضهم: تقتضي هذه الإضافة الإيمان والحرية والبلوغ لتخصيص الرجال ويقتضي " من ترضون من الشهداء " العدالة، لأن المقصد من الاستشهاد إقامة الشهادة، أما شهادة العبيد والصبيان، وشهادة النساء في غير، وشهادة الأعمى والفاسق وغير ذلك من أحكام الشهادة، فكتب الفقه به أولى، وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي وليشهد رجل وامرأتان وقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي تذكر الأخرى إذا نسيت وقال سفيان بن عينية: يجعلها كذكر في الحكم .. إن قيل: ما وجه قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} وذلك يقتضي أن يكون القصد بالاستشهاد الضلال قيل: قد قال سيبويه في ذلك: لما كان الضلال سبب الأذكار وهو متقدم عليه صار لتعلق كل واحد منهما بالآخر في حكم واحد، قال: ومثل ذلك من قال أعددت هذا الخشب ليميل الحائط فأدغمه قال الفراء: تقديره: فتذكرها إن ضلت لكن لما قدم أن - فتح فصار متعلقا بما قبله: وهذا طريق في مسائل، وقرأ حمزة (أن تضل)، وقرئ (أن تضل) من أضللت، لتقارب ضل وأضل تقارب نسيت وأنسيت وقيل: (أن تضل) أي تضيع شهادتها ما لم تضامها الأخرى إشارة إلى ما فاله عليه الصلاة والسلام: " أما نقصان عقلهن فشهادتهن على النصف من شهادة الرجال " وقوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال قتادة والربيع: " إذا ما دعوا لتحمل الشهادة "، وقال مجاهد: لإقامتها، وقيل: لهما، وهو الصحيح، وقال بعضهم: لا يجوز أن تكون للتحمل، لأنه حينئذ لا يكون شاهدا، وهذا سوء تصور منه ألا ترى أنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}؟

فسماهما شهيدين، قيل: إن استشهد وبين قوله: {وَلَا تَسْأَمُوا} إن قليل الدين وكثيره يستحب كتابته وبين علة ذلك بقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أعدل، وأقوم للشهادة أي أثبت، {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أي أبعد من أن تقع شبهة ثم استثنى ما كان حاضرة، وخفف الأمر فيما لا أجل فيه وما لا يكون له ثبات في مكان كما الدور والعقار، نحو الطعام والشراب، وقوله: {وأشهدوا إذا تبايعتم} قيل: " هو يرجع إلى الأول دون ما يكون تجارة حاضرة، وقيل: يرجع إلى الكل حتى قال بعضهم. يشهد على سامع حتى على ناقة. قيل وقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} قرئ بفتح الراء " لا يضارر " بأن يدعي وهو مشغول، عن ابن مسعود ومجاهد، وقيل: ة هو يضار، أن: لا يمتنع الكاتب من الكتابة، والشهيد من، إقامة الشهادة عن الحسين وقتادة وابن زيد، لئلأ يؤدي إلي أبطال الحقوق، وقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} خطاب للجميع على سبيل الوعيد، وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} إعادة للوصية، إن قيل: كيف قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وكرر لفظ (الله) ثلاث متواليات ولم يعدل إلى الكناية، وهل ذلك في استقباح خط الإعادة لولا شرف لفظ (الله). كقول الشاعر: " فما للنوى جد النوى قطع النوى " حتى قيل: " سلط الله على هذا البيت شاة ترعى منه النوى "، وكقول الأخر: بجهل كجهل السيف والسيف منتضي ... وحلم كحلم السيف والسيف مغمد فاسترذل البيت لإعادة لفظ " السيف " مراراً ... ، قيل: إن ذلك بعيد عن الآية، فإن البيت الأولى استقبح لا لإعادة النوى فقط، بل له، ولأن قول " جذ النوى قطع النوى " بمنزلة واحدة، ولهذا الباب

قانون يعرف به المستقبح من المستحسن، وهو أن كل تكرير على طريق تعظيم الأمر وتحقيره في جمل مواليات كل جملة، ومنها مستقلة بنفسها، فدلك غير مستقبح، وإذا كان ذلك في جمله واحدة أو في جمل في معنى واحد، أو لم يكن فيه التعظيم أو التحقير، فذلك مستقبح، وهذا ظاهر في الآية والأبيات المذكورة، فإنما قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} حمل في معان مفترقة، فإن الأول: حث على تقوى الله، والثاني: تذكير بنعمه، والثالث: تعظيم له متضمن لوعد ووعيد شديد وفصد عظيم كل واحد من هذه الأحكام، فأعيد لفظ (الله) فيها .. فأما البيت الثاني: فهو جملة واحدة، لأن قوله: كجهل السيف في موضع لقوله: يجهل، وكذلك قوله: " والسيد مغمد " جاء لقوله: الحلم للسيف، وعلى قول الآخر: " لا أري الموت يسبق والموت شيء " فإن قوله: (يسبق الموت) " مفعول ثان " لقوله: (لا أرى)، والكلام كله جملة واحدة، وهذا ظاهر ...

(283)

قوله - عز وجل -: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} الآية (283) - سورة البقرة. الرهن: حبس السلعة بحق، ثم يستعمل في غيره على طريق التشبيه واؤتمن: أخذه واستوفاة كقولهم اكتحل واغتسل إذا استوفى ذلك وقيل: رهن، ورهن، ورهن فرهن، نحو ثمر، ورهن على التخفيف قيل: رهان، كقولهم: ثمار، وكلاب، وقال بعضهم: ليس الرهان إلا في المخاطرة، وحكم الرهن ثابت في الحضر والسفر عند عامة الفقهاء، وبعضهم خص حكمه بالسفر عند عدم الكاتب، وقرأ ابن عباس: (فلم تجدوا كتابا .. ) أي صحيفة ودواتا، وقوله: " فرهان " أي فليدفع رهانا، أو فليوجد رهانا، واشتراط كونها مقبوضة تنبيه أن الرهن لا يثبت حكمه ما لم يكن مقبوضا لأمرين .. أحدهما: أن ذلك معطوف على الشهادة فكما أن الشرط في الشهادة معتبر كذلك هاهنا والثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من هذه الآية وقد أجازه بهذه الصفة، فيجب أن تعتبر الصفة فيه وأما حكم ما يجوز رهنه وما لا يجوز، وما يصححه ويفسده، فكتب الفقه أولى به وقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يحث من يؤتمن على حفظ الأمانة كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، وحذر غاية التحذير بقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}، وقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} خطاب لمن عليه الحق، وللشاهد جميعا، لأن الشهادة إعلام، ويقال للإقرار شهادة، ولهذا قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، وكما أن كتمان الشهادة محرم فما هو منه بسبب

(284)

محرم كالتأخر عن إقامتها عن تحملها في بعض الأحوال وقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي يأثم بذلك قلبه، ويجوز أن يكون معناه: " إنما يكتم الشهادة ومن يكتم لأنه قد أثم قلبه " قيل فحمله ذلك على ارتكاب المحارم واحتقاب المآثم، وإضافة الإثم إلى القلب مبالغة في الذم، فالقلب مقر البر والإثم، ولهذا قال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، وقال بعضهم: " في أية الدين صلاح للدين والدنيا "، فالإنسان بمراعاة ما أرشده الله إليه فيهما يبعد عن جحود الحق الذي هو سبب التنازع، والتنازع سبب كل شر ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، ومن هذه الوجه منع من البيعات المجهولة وجهل المدة وسائر الأشياء المؤدية إلى المنازعة، أوجب الإشهاد من أوجبه، لأن كل ما يؤدي إلى فساد فحسم مادته واجب .. قوله - عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية (284) - سورة البقرة. قد تقدم ما هو جواب عن سؤال من قال: لم قال الله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ودلالة خطابه تقتضي أن ليس له السماوات والأرض، وقال بعض الصوفية في قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تنبيه أنه لا يجب الاشتغال بهما، بل يجب الاشتغال بمن أوجدهما وملكهما - تنبيها أن من تركها وأقبل عليه ملكه إياهما وما هو أفضل منهما، وإياه قصد بقوله: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}، إن قيل: ما وجه نظم هذه الآية مع ما قبلها؟ قيل: إنه لما فرغ من حكم الإيمان والعبادة والأحكام المذكورة في هذه السورة، ختمها بالموعظة ونبه على وجوب تفويض الأمر إليه، ولما كانت حقيقة العبادة متعلقة بالقلب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أخلص يكفك القليل من العمل "، وهو أحد ما أفاد قوله - عليه الصلاة والسلام: " البر ما اطمأن إليه

القلب " وقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، كقوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} .. إن قيل: هذه الآيات تقتضي أن يكون الإنسان مؤاخذا بما تتحرك به الخواطر، وقول النبي - عليه الصلاة والسلام ينافيه في الظاهر " إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به أنفسها " وكذلك قوله: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه .. قيل: قد تقدم إن أول ما يعرض من حديث النفس السابح ثم الخاطر، ثم الإرادة والهم، ثم العزم وأن السابح والخاطر متجافي عنهما بكل وجه وأنه متى صار نية، فذلك عمل مأخوذ به وعلى هذا قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، وألهمه متى كانت من وسوسة الشيطان وتصدي الإنسان لدفعها وقمعها فهو المتجافي عنها بل هو الموعود بالإثابة على دفاعها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: " جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم "، ومتى كانت نفس وإجماع من النفس، فذلك فعل منه، ولذلك قال بعض الصالحين: " عليكم

بحفظ الهمة، فإنها أول ما تظهر من الإنسان وهي تقدمة الأشياء " وقال عليه الصلاة والسلام: " لينظر أحدكم ما يتمنى، فإنه لا يدري ما كتب له " ومن تصور هذه الجملة علم أن قول من قال هذه الآية منسوخة بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وجعل علة النسخ أن حديث النفس وما يهجس فيها غير مقدور على صرفه، فإنما استعمل لفظ النسخ في معنى التخصيص، فأما أنه أمر بما لا يقدر عليه ثم نسخ، فمجال وعلى هذا ما روي أنه قيل لابن عباس إن ابن عمر يبكي لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فقال ابن عباس: " رحم الله ابن عمر، لقد وجد المسلمون منها ما وجدوا " حتى نزل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، فإنه عنى أن هذه الآية مخصصة ومبينة للأولى ونبه بقوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ} على سعة قدرته وعدله وفضله ثم من الذي يغفر له والذي لا يغفر له لا يعقل من ظاهر الآية.

(285)

قوله - عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} الآية (285) - سورة البقرة. إن قيل: لم لم يذكر هاهنا اليوم الآخر، وقد ذكره في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} الآية؟ قيل: لأمور: أحدها أنه نبه عليه بذكرها في غيرها، والثاني: أن الإيمان بكتبه ورسله مقتض للإيمان باليوم الآخر أظهر عند المؤمنين من أن يحتاج إلى ذكره مفصلاً، ألاً ترى أنه قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} فاقتصر على ذلك ولم يصفه بما وصف به المؤمنين بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} تنبيها على أن ذلك بحيث يستغنى عن ذكرها وهذا الجواب علي قراءة من وقف على فوله: {مِنْ رَبِّهِ} ... والرابع: إن في قوله: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} دلالة على إيمانهم باليوم الآخر، وقال بعضهم: إنما أفرد إيمان اللنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ} ثم قال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ}، تنبيهاً على شرف إيمانه - عليه الصلاة والسلام-، وأنه سابق لإيمانهم، وأن لا واسطة بمنه- عليه الصلاة والسلام-، وبين الإيمان كما بين إيمان المؤمنين وبين الإيمان به واسطة، وقرأً " ابن عباس " وكتابه "، قال: وهو أبلغ، لقوله: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، ولأن الكتاب للجنس، ولأنه ليس مع

كل نبي كتاب مفرد، بل في الأنبياء من استعبد بكتاب الله من يقدمه وقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}، أي: يقولون ذلك ولم يعن أنهم يتفوهون به فقط، بل يعتقدون ويتحرون مقتضاه بخلاف اليهود والنصارى، حيث آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ولأن تابع الحق والحقيقة هو الذي يعرفه، ومن عرفه تبعه حيث وجده، فامحق من حيثما هو حق لا يخالف بعضه بعضاً، وإنما الباطل هو الذي يتناقض ولا يتطابق، ومن هذا الوجه قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}. وإذا كانت الأنبياء على الحق، فلا يعاند بعضهم بعضاً، إذ لا معاندة في الحق ... إن قيل: لم قال: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وبين تستعمل في شيئين فصاعداً، فكيف قال: {بَيْنَ أَحَدٍ}؟ أيتناول الجنس على طريق الجملة والتفصيل ولذلك لا يستعمل إلاً في الاستفهام والنفي فنبه بذكره هاهنا أنه لا يفرق بينهم لأعلى طريق الجملة وعلى طريق التفصيل. وقال في الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} وقاله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعنا قولك، وأطعنا أمرك بخلاف من قال: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وقوله: {غُفْرَانَكَ}، أي " أنزل غفرانك "، أو نسألك غفرانك، واغفر لنا غفرانك، وكل ذلك متقارب، " واليك المصير " اعتراف بما وعدهم بقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}

(286)

قوله - عز وجل -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} الآية: (286) - سورة البقرة. القدرة والجهد والاستطاعة قد تقدم الكلام فيها، وكسبت واكتسبت قل يجريان مجرى واحداً، ويقال لما أخذته لنفسك ولغيرك كسبت، ولهذا قد يُعدى إلى مفعولين، فيقال: " كسبت فلاناً كذا "، واستقبح " اكتسبته كذا "، والاكتساب لا يقال وإلا لما استفدته لنفسك، فكل إكتساب كسب، وليس كل كسب اكتساباً، ولهذا انظائر فيه اللغة نحو: " خبر، وطبخ، وشوي " إذا فكل ذلك لنفسه أو فعله لغيره، ويقال: " اختبز، واطبخ، واشتوى " إدا فعل ذلك لنفسه .. والإصر: الثقل وأصله من أصره إذا وعطفه، وقيل للعهد والرحم وكل ما يوجب عليك حماية ما إصر وكل آصر عاطف لمن مر به "، والإصار كساء يجعل فيه حشيش، فيثنى على السنام بين الله تعالى أنه كلف عبده دون ما تنوء به قدرته، فإن الوسع هو القدرة على أكثر قدر المكلف، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} قيل: عنى بالكسب ما عمله من الخير، وبالاكتساب ما عمله من الشر، وقيل: عنى بالكسب ما يفعله الإنسان من فعل خير وجلب نفر من حيثما يجوز إلى غيره، والاكتساب ما يحصله، لنفسه من نفع يجوز تناوله، فنبه أن ما يفعله الإنسان من نفع غيره فله الثواب، وليس عليه فيه الحساب، وأن ما يحصله لنفسه وإن كان متناولً من حيثما يجوز على الوجه الذي بجوز. فعليه فيه الحساب يؤيده ما ذكرنا من الفرق بين كسب واكتسب، وقوله: {الَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فإنه عنى النسيان الذي هو الترك أو ذهاب الذكر الذي الإنسان سببه لقلة مراعاته، وكذا الخطأ إنما أدار به ما يكون سبب حصوله، وقد تقدم الكلام في حقيقيهما. وقوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يعني: ما يثقل

حمله من الأمور الشاقة التي كلف كثيراً منها بني إسرائيل، كقتل الأنفس، وقال بعضهم: يجوز أن يستعبدنا الله تعالى سؤاله أن لا يفعل ما يعلم أنه لا يفعله .. إن قيل: ما الفرق بين العفو والغفران والرحمة؟ وما وجه هذه الترتيب؟ قيل: العفو: إزالة الذنب بترك عقوبته، والغفران ستر الذنوب، وكشف الإحسان الذي غطى به، والرحمة إفاضة الإحسان عليه، وقد علم أن الثاني أبلغ من الأول، والثالث أبلغ من الثاني ... وقوله: {أَنْتَ مَوْلَانَا} كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فنصرة الله للمؤمنين على وجهين أحدهما: من حث الحجة، وقد فعل. والثاني: من المداولة التي قال: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وهذا هو المسؤول أن يجعل لنا عليهم دولة، ولا يجعل لهم علينا دولة، ووجه ثالث وهو أن الله قد نصر المؤمنين كافة حجة وملجأ، ومعونة وظهوراً على الدين كله لكن قد يلحق المسلم غلبة من جهة كافر، وهو المشار إليه بقول أمير المؤمنين - رضي الله عنه: " إن للباطل جولة ثم يضمحل "، فكأن الاستعاذة بالله أن يقينا من هذه الجولة من الكفار .. " تم بحمد الله تفسير سورة البقرة "

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: تفسير الراغب الأصفهاني (من أول سورة آل عمران - وحتى الآية 113 من سورة النساء) تحقيق ودراسة: د. عادل بن علي الشِّدِي دار النشر: دار الوطن - الرياض الطبعة الأولى: 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

سورة آل عمران

سورة آل عمران قوله عز وجل: (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ). ْالأصل في حروف التهجي السكون، وكان حكم الميم حكم غيره لكن حُرِّك لالتقاء الساكنين، وفُتح استثقالاً للكسرة فيه من أجل الياء قبله، ومن قال: إنما فُتِحَ لأنه أُلقِيَ عليه حركة الهمزة فخطأ؟ لأن هذه الهمزة تسقط في الدَّرْج إلا في قولهم: يا ألله، والهمزة التي تُلقى حركتها على ما قبلها هي

الثابتة في الوصل والوقف، نحو: مَنَ ابوك؟ إذا قلت: منْ أَبوك؟. وَرُوِيَ عن عاصم وغيره سكونُ الميم وقطعُ الألف. وليس ذلك بصحيح عند النحويين، لكون الألف فيه للوصل. وأما موضع إعراب (الم) فمبتدأ وخبره مضمر، أو خبر مبتدؤه

مضمر، ودلَّ على المحذوف منه قوله: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) فصار كقوله: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ) وقال بعضهم: (الم) مبتدأ وخبره (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ)، ونسب تعالى التنزيل إلى الحروف، تنبيهاً أنه منها، وأن عجزَكُمْ عن الإِتيان بمثله دلالة لكم أنه كلام الله دون كلام الخلق. وقد تقدَّم أن أهل اللغة قالوا: الكتاب سُمِّيَ لكتب الحروف بعضها إلى بعض، أي ضمُّها. وقيل: سُمِّيَ المعنى الثابت كتابً تشبيهاً بالمكتوب، وعلى هذا قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ).

ويقال: لكل مُوجَب كتاب. ورُوي أنه نزل ذلك في وفد نجران الذين أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخاصموا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت، وأن عيسى يموت، وأن الله لا يخفى عليه شيء، وقد كان عيسى يخفى عليه أشياء، وأن عيسى صُوِّر في الرحم كيف شاء الله؟ " - نبههم بذلك أنه لا يصحّ أن يكون عيسى مع كونه بهذه الصفات إلهاً - فأنزل الله تعالى الآية.

فقوله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ليس بدعوى يحتاج فيها إلى دلالة من خارج، بل هو في نفسه دلالة لازمة وحجة واضحة. فإن معنى قوله: (اللَّهُ) أي هو الذي يحق له العبادة، أي الذي تَأْلَهُ الأشياء إليه، وكان الكفار يقولون: الأشياء ثلاثة: عابد غير معبود، ومعبود عابد، ومعبود غير عابد؟ وهو الله تعالى. فبيّن تعالى بهذا أن المستحق للعبادة على الإِطلاق هو الذي لا إله إلا هو، وأكَّد ذلك بقوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، والحي في صفات الله معناه الذي لا يجوز عليه الموتُ، وبه حياة كل حي، وإذا استُعْمِل في غيره فعلى معنى قبول الحياة منه تعالى. والقيوم: هو القائم بحفظ كل شيء، والمعطي له ما به قوامه، وهو المعنى المذكور

في قوله تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). وقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ). والحقُ أبلغُ من الصدق،. لأن كل صدق حق، وليس كل حق صدقًا، ويتناول الأحكام والواجبات من حقوق الله وحقوق الناس. والصدق من أخبار الأمم السالفة والآنفة، والحق الذي هو الجدُّ. والتوراة عند الكوفيين تَفْعَلَة وليس في كلام العرب تَفْعَلَة بوجه، وإنما هو تَفْعُلَة نحو تَتْفُلَة وتفعِلة نحو تكرِمة.

وقيل: أَصله تَفْعِلَة، فعدل عن الكسرة إلى الفتحة. وعند البصريين هي فَوْعَلَة نحو: حَوْقَلَة، وصَوْمَعَة. فأبدل من الواو تاء، كما أبدل في تَوْصِيَةٍ وتَيْقُورٍ من الوقار. والإِنجيل: إِفْعِيل من النجل، والنجل مستعمل في الأصل وفي الولد.

إن قيل: لِمَ قال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ)؟ قيل: قد يقال: (نزّل) و (أنزل) بمعنى. لكن خصَّ الكتاب بالتنزيل لأمرين: أحدهما: أن هذا الكتاب لما كان حكمُهُ مؤبدًا، والتنزيل بناء المبالغة خُص به تنبيهًا على هذا المعنى، وليس ذلك حكم الكتابين قبل. والثاني: أن هذا الكتاب أُنزل شيئًا فشيئًا، والكتابين أُنزل كل واحد منهما جملة. وقوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني الكتب المتقدمة، وخُصَّ التوراة والإِنجيل بالذكر، وإن كانا قد دخلا في عموم ما بين يديه تشريفًا لهما. و (مُصَدِّقًا) حال للمُنَزِّل أو للمنزَّل.

ْوقوله: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) أي أنزل في كتبه ما يُفرِّق به بين الحق والباطل في الاعتقادات، والخيرِ والشر في الأفعال، نحو قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ): وكل كتاب لئه فرقان. وقيل: الفرقان مخصوص به القرآن خاصة، وتَخصيصه بالذكر بعدما تقدَّم تنبية على إثبات المعنيين له، كقوله تعالى: (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ). إن قيل: كيف يكون القرآنُ مُصدِّقَا لما بين يديه، وهو ناسخ

(5)

لعامة أحكامه؟ قيل: تصديقهُ إياه تحقيقهُ أنه من جهة الله، ومطابقته إياه في كونه داعيًا إلى التوحيد وفعل الخير ونحو ذلك، وإلى أنواع العبادات دون قدرها وهيكلها وكيف إيقاعها. قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5). لم يعنِ بآيات الله كتابه فقط، بل كل آية دالة عليه: عقلية كانت أم سمعية، ففي كل شيء له عبرة، ونبَّه أنه لا يتهيأ لأحد منعه من عذاب من أراد. قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

الصورة من صَيرته أي أحلته، وهي هيئة معقولة أو محسوسة. والصبغة نحوها، إلا أن أكثر ما يستعمل في المحسوسة. إن قيل: كيف قال في موضع: (وَصَوَّرَكُمْ) على لفظ الماضي. وقال هاهنا بلفظ الاستقبال؟ قيل: أما أولاً فلا اعتبار بالأزمنة في أفعاله تعالى، وإنما استعمال الألفاظ فيه الدالة على الأزمنة بحسب اللغات، وأيضاً فقوله: صوَّركم إنما هو على سبيل التقدير، وأن فعله تعالى في حكم ما قد فرغ منه، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، وقوله: يصور على حسب ما يظهر لنا حالاً، فحالا،

(7)

إن قيل: لِمَ قال: (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) ولم يقل: ْ هو عالم بكل شيء؟ قيل: لأن الوصف بأنه "لا يخفى عليه شيء" أبلغ من قوله "يعلم " في الأصل، وإن كان استعمال اللفظتين فيه يفيدان معنىً واحدًا. وتخصيص الأرض والسماء لكون ذكرهما أهول بالإِضافة إلينا، وفيه دلالة على كل شيء، وإنما كرر قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) لأنه لما ذكر ما تقدم دليلًا على كون عيسى مخلوقًا، وكونه تعالى خالقًا نبّه بقوله: (لَاَ إلَهَ إلَأ هُوَ) أن لا معبود سواه، وأنه العزيز في نقمته. الحكيم في أمره، لا حاجة به إلى ولد، ولا حكمة تقتضي ذلك. قوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7).

الزيغ: الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، ومنه زاغ البصرُ. وزاغت الشمسُ عن كبد السماء، وزاغ قلبُه، وزاغ وزال ومال. تتقاربُ، لكن زاغ لا تُقال إلا فيما كان عن حقٍّ إلى باطلٍ. والتأويل: آخر الشيء ومآله، وقد تقدم الفرق بينه وبين التفسير. والمحكم قد وُصف به القرآن على وجهين: ْأحدهما: عام في جميعه، نحو (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) ويعني بذلك المتقن. نحو: بناء محكم، وعقد محكم. والثاني: ما وُصِفَ به بعض الكتاب المذكور في قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) وهو ما لا يصعب على العالم معرفته لفظًا أو معنىً،

وقيل: ما لا يحتاج العالم في معرفته إلى تكلُف نظر، وعكسُهُ المتشابه، والكلامُ في أحوال المحكم والمتشابه - مشكلٌ. ولابُد من إيراد جملةٍ ينكشف بها ذلك، فيُقال وبالله التوفيق: الكلام من جهة الإِحكام والتشابه على ضربين: أحدهما: ما يرجع إلى ذات المحكم والمتشابه في نفسه. والثاني: ما يرجع إلى أمر ما يعرض لهما. فالأول على أربعة أضرب: أحدها: محُكم من جهة اللفظ والمعنى، نحو قوله تعالى: (تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)

الثاني: مشابه من جهتيهما، نحو قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) والثالث: متشابه في اللفظ مُحكم في المعنى، نحو قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ)

والرابع متشابه في المعنى مُحكم في اللفظ، نحو: الساعة، والملائكة. وقد تجعل هذه الأقسام ثلاثة: أحدها: محكم على الإِطلاق. ومتشابه على الإِطلاق، ومحكم من وجه. والمتشابه ضربان: أحدهما: من جهة اللفظ، والآخر: من جهة المعنى. والمتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما: يرجع إلى مفردات الألفاظ. وذلك إما من جهة غرابة اللفظ، نحو (الأبّ) ونحو (يَزِفُّون)،

وإما من تَشَارُكِ في اللفظ: كاليد والعين والوجه. الثاني: يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب: أحدها: اختصار الكلام نحو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ). والثاني: تطويله نحو (كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). والثالث: إغلاق نظمه، نحو: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا). والمتشابه من جهة المعنى ضربان: أحدها: د قة المعنى، كأوصاف الباري تعالى، وأوصاف

القيامة. والثاني: ترك الترتيب، نحو قوله: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) إلى قوله: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا).

وما يرجع إلى اللفظ والمعنى معا، فأقسامه بحسب تركيب بعض وجوه اللفظ مع بعض وجوه المعنى، نحو: غرابة اللفظ مع دقة المعنى، وذلك ستة أقسام، وأما المتشابه من جهة ما يعرض للفظ فخمسة أقسام: أحدها: من جهة الكمية: كالعموم والخصوص. والثاني: من طريق الكيفية: كالوجوب والندب، والثالث: من جهة الزمان: كالناسخ والمنسوخ، والرابع: من جهة المكان: كالمواضع، والأمور التي نزلت فيها، نحو قوله: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا). وقوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)، فإنه يحتاج في معرفة ذلك

إلى معرفة عادتهم في الجاهلية. والخامس: من جهة الإِضافة. وهي الشروط التي بها يصح الفعلُ أو يفسدُ: كشروط العبادات والأنكحة، وهذه الجملة من المحكم والمتشابه إذ تُصُوِّرَتْ عُلم أن جميع ما يذكره المفسرون لا يخرج منها، نحو قول من قال: المتشابه نحو (الم) وما أشبهه، وقول مجاهد: المحكم ما فيه الحلال والحرام، والمتشابه ما سواه. وقول

قتادة: المحكمُ الناسخُ الذي يُعملُ به، والمتشابه: المنسوخُ. وقول الأصم: المحكمِات ما حججهُ ظاهر، والمتشابه ما حججهُ غامضه. وقول غيرهم: المحكم ما أُجْمع على تأويله،

والمتشابه ما اختلف فيه، فكلُّ هذه الأقوال مثالاتٌ لبعض ما انطوت عليه هذه الجملة. ثم جميع ما ذكرنا من المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا مرية فيه أنْ لا سبيل إلى المراد بتأويله. وهو بعض ما تَعْرضُ فيه الشبهة من جهة المعنى كمجيء الساعة. وحقيقة ذاته. وضرب لا خلاف أن للإِنسان سبيلًا إلى معرفته، وذلك ما كان اشتباهه من جهة ما يعرض له من عموم وخصوص ووجوب وندب وغير ذلك مما تقدم ذكره، وكذا ما تعرض فيه الشبهة من جهة غرابة اللفظ، وما هو مترددٌ بين الأمرين، يجوز أن يُختَص بمعرفته بعض الراسخين في العلم نحو علي

وابن عباس وغيرهما مما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل". وهذه الجملة إذا تُصُوِّرت

عُلِم أن من رأى الوقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ) واستأنف ما بعده فلنظره إلى الضرب الأول من المتشابه، ومن وصل ذلك وجعل قوله: (الرَّاسِخُونَ) عالين به، فلنظره إلى الضرب الثاني، والأظهر من الآية القول الأول، وما قال بعضهم: إنه لو جاز أن يخاطبنا ثم لا يُعرفنا مراده، لجاز أن يخاطبنا بكلام الزنج والروم، فالجواب عنه: أن كلام الروم والزنج لا يُعْلَمُ

منه المراد مجملَا، ولا مفصلَا، والمتشابه يُعلم منه مراده مجملَا وإن لم نعلمه مفصلًا، لأن كل آية قد فسرها المفسرون على أوجه. فمعلوم أن المراد لا يخرج منه، ثم تعيين مراد الله تعالى منها غير فمعلوم، وهذا ظاهر. على أنه لم يكن يمتنع أن يكلفنا تعالى

تلاوة أحرف لا نعرف معناها، فيثيبنا على تلاوتها، كما يُكلِّفنا أفعالاً لا نعرف وجه الحكمة فيها، ليثيبنا عليها، فالتلاوة فعل يختصُّ باللسان، ومن جعل قوله: (وَالرَّاسِخُونَ) معطوفًا جعل قوله: (يَقُولُونَ) في موضع الحال للمعطوف دون المعطوف عليه، كما في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) حال للمعطوف دون المعطوف عليه. إن قيل: لِمَ خص الراسخين بأنهم يقولون آمنا به؟ قيل: لأن معرفة ما للإِنسان سبيل إلى معرفته مما لا سبيل له إلى معرفته هو من علوم الراسخين، لأن الحكماء هم الذين يُميّزون بين ما يمكن علمه وما لا يمكن أن يُعلم، وما الذي يُدرك إن طُلب

والذي لا يُدرك، وعلى أي غاية يجب أن يقف طالب العلم، وأي مكان يتجاوزه، وهذا أشرف منزلة للحكماء، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: "من رسوخ علمهم الإِيمان بمحكمه ومتشابهه وإن لم يعلموا تأويله " إن قيل: ما فائدة الإِتيان بالمتشابه فِى القرآن؟ قيل: فوائد جمة، منها: أن يبين تشريف العلماء بتميُّزهم عن غيرهم، ومنها: رياضة العقول في تعرفها. ومنها: استحقاق الثواب بتعبِ الفكر فيه، ومنها: إظهارُ شرف

الفكر، ليعلم أنه لم يجعل الإِنسان عبثًا، ومنها: حث من أخبر الله عنهم أنهم قالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) على أن يتدبره، لأنهم إذا سمعوا ما في ظاهره التنافي تأملوه طلبًا لردّه. فيصير ذلك سببًا أن يعرفوه لمعرفتهم بإعجازهم ولزوم الحجة به. ومنها: أن يصير سببًا لاعتراف الإِنسان بعجزه ومعرفة نقصه. ومنها: أن يصير الناسُ تبعًا للأنبياء وأُولي الأمر الذين حثّ على اتباعهم لقو له: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) فذمٌ لهم بأنهم لزيغهم "يتحرّون طلب الفتنة، وقدّم

ذكر الفتنة تنبيها أن قصدهم إلى إيقاع الفتنة قبل طلب تأويله. وهذا القصد باتفاق أهل العقول كلها مذموم. فإن قيل: هب أن اتباع طلب الفتنة مذموم. فكيف ذُمّوا بابتغاء تأويله؟ قيل: طلب التأويل من نفس المتشابه مذموم. إذ لا سبيل إلى تبينه منه، وإنما طلب الحق يجب أن يكون بردة إلى المحكم إلى الرسولِ وإلى أولي الأمر. حسب ما نبه عليه تعالى بقوله: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) الآية. وكل له حالتان: أحدهما: أن يكون تابعًا على طريق التأكيد، فلا يحذف منه ضمير ما أُكِّد به، نحو: مررت بالقوم كلهم. والثاني: أن تجعلَه مُخبرًا عنه، فيصح الحذف منه إيجازًا، نحو: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا)، وفي

(8)

قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) على هذا. والتذكُر هاهنا: هو الاتعاظ، ولم يجعل ذلك إلا لصفو الخلائق، لما تقدم أن معرفة ما يصح أن يُطلب ويُعلم مما لا يصحُّ فيه ذْلك أشرف منزلة في العلم. قوله عز وجل: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) الوهاب: قيل معناه: لا تزغ قلوبنا عن الثواب في الآخرة. وقيل: لا تنسبها إلى الزيغ، ولا تحكم عليها بذلك. وقيل: لا تفعل بنا من الإِكرام ما يؤدي إلى الزيغ. فكأن الإِزاغة إعطاء الخيرات الدنيوية المثبطة عن الخيرات الأخروية المشار إليه بقوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) ولهذا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: "من وسع

عليه دنياه ولم يعلم أنه مُكر به، فهو مخدوع عن عقله ". وقيل معناه: لا تكلفنا أمرًا شاقا: كقتل النفس، والخروج من الديار المذكورين في قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ). وقيل: معناه لا تمنعنا التوفيق، فجعل منع التوفيق إزاغة للقلوب من حيث إنه يؤدي إليها، إشارة إلى ما قيل: أقطع ما يكون المجتهد إذا

خذله التوفيق، وإياه قصد الشاعر بقوله: إذا لم يكن عون من الله للفتى. . . فأكثر ما يجني عليه اجتهاده ونحو قوله: (لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "يا مقلب القلوب ثبَّت قلبي على دينك" فقالت له عائشة: وهل تُقلّب القلوب؟ فقال: "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ". والهبة: تمليك الشيء غيره من غير ثمن.

ولدُنْ: فيه لغات، قيل: لَدُنْ، ولُدُن بضمتين، ولَدَن بفتحتين، ولَدْن بالسكون مع فتح اللام وضمه، وقيل: بكسر النون، وقيل: لدُ بحذف النون، ولدى، ونبه تعالى بقوله: (هَبْ لَنَا) أن من حق العبد أن لا يلفت له إلى شيء من العمل وطلب العوض به. بل يرجو رجاء المفاليس الطالبين للتفضل والهبة لا العوض،

(9)

وإنما قال: (مِنْ لَدُنْكَ) لأنه لما كانت الهبة ضربين: هبة عن عوض، وهبة لا عن عوض. نبَّه بقوله: (لَدُنْكَ) أن هذه الهبة اعترافٌ أن بتفضله يُدرك ما يُدرك في الدنيا والآخرة، نحو قوله: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ). قوله عز وجل: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إن قيل: كيف قال: (لَا رَيْبَ فِيهِ) وقد وقع فيه ريب الملحدة والمغلطة حتى حكى الله تعالى في إبطالهم إياه ما حكى؟ قيل: قد تقدّم في مبتدأ سورة

البقرة الفرق بين الريب والإِرابة (1)، وأن الذي وقع منهم الإِرابة لا الريب، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) يصح أن يكون استئنافًا، من الله، وأن يكون من جملة قولهم، والحكاية عنهم، والفائدة في العدول عن الخطاب إلى الخبر، وتخصيص لفظ "الله " بذلك تنبيا أن الذي اختُصِصْنا بعبادته هذا فعله. ولم يُرد بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) في جمعنا فقط، بل في كل وعْدٍ، فإن ذلك كالعلة لما قدمه، كأنه قيل: الله لا يُخلفُ

_ (1) ذكر الرإغب خمسة أجوبة لذلك التساؤل عند تفسيره لقوله تعالى: (لَا رَيْبَ فِيهِ) في سورة البقرة: الأول: أن ذلك نفي على معنى النهي، نحو قوله: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) والثاني: أنه يقال: رابني كذا إذا تحققت منه الريبة. وأرابني: أوهمني الريبة. والثالث: أن يقال: هذا لا ريب فيه، والقصد إلى أنه حق، تنبيها إلى أن الريب يرتفع عنه عند التدبر والتأمل. والرابع: أنه لا ريب فيه في كونه مؤلفا من حروف التهجي، وقد عجزتم عن معارضته. والخامس: لا ريب فيه للمتقين.

(10)

الميعاد، وقد وعدنا أن يجمعنا ليوم لا ريب فيه، فإذًا هو جامعنا لا محالة. إن قيل: لِمَ قال: (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ)، ولم يقل (في)؟ قيل: لأنه أراد بقوله جامع الناس: حافظُهم ومحصيهم لذلك اليوم. كما قال: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا)، وكقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ). قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) بيّن أن أعراض الدنيا وإن كانت نافعة بعض الأمور الدنيا. فليست مغنية عن الكافرين يوم القيامة، كقوله: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) فإن قيل: فهل يغني عن المسلم حتى خصَّ الكافرينْ في هذا المكان؟ قيل: بلى، لأنه إذا تحرى في ذلك أحكامه كان أحد معاونه في وصوله، ولذلك قال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) وقوله: (عَنهُم) لاقتضاء

(11)

الكلام معنى الدفع، كأنَّه قال: لن يُغني ذلك دافعًا عنهم. وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) كقوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ). قوله عز وجل: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) الدأب: العادة التي عليها يدوم صاحبها، وهو أخص من العادة، ومنه أدأب في سيره، ولذلك قال الفراء: الدأب لزوم الحال التي فيها.

وقال ابن عباس: هو الصنع، لأن الدأب يقتضي الصنع. وقال أبو علي الجبَّائي: الدأب طول الكون في الشيء كافة. ككون آل فرعون في النار. والذنب والجرم واحد، لكن الجرم يقال اعتباراً بالاكتساب، تشبيها باجترام الثمرة، والذنب يقال اعتبارًا بما يستحق به في آخره، مأخوذ من الذنَب، وعلى هذا قيل له: التبعة، وبنحوه سُميت العقوبة عقوبة. وقيل: سُمي الذنب اعتبارًا بذَنَوب الإِنسان منه، أي نصيبه.

(12)

إن قيل: بِمَ يتعلق قوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ)؟ قيل في ذلك: الوجه الأول: أن يتعلق بقو له: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ): كحال متقدمي آل فرعون. الثاني: بقولهْ: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ) الثالث: بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وتقديره: إن دأب الذين كفروا كدأب آل فرعون، وتكون (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) حالاً للذين. والرابع: أن يجعل قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) غير داخل في صلة (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فتتعلق به كأنَّه كذّب آل فرعون والذين من قبلهم. الخامس: أن يتصل بمحذوف تقديره: دأبهم في كفرهم، واستحقاق عذابهم كدأب آل فرعون. قوله عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قال ابن عباس وقتادة وابن إسحاق:

لما قتل من قتل يوم بدر جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود، فدعاهم إلى الإِسلام، وحذرهم مثل ما نزل بقريش، فأبوا، وقالوا: لسنا كقريش الأغمار إن حاربتنا لتعرفن حالنا، فأنزل الله عز وجل الآية. فقوله: (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يصح أن يكون يعني

الفريقين: اليهود والمشركين، كقوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ففسر الذين كفروا في الآيتين بهما جميعًا. وقُرئ (ستُغلبون) و (سيغلبون)، أما بالياء فنحو (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) وقوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) وأما بالتاء، فنحو (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ)، وقيل: عنى بالذين كفروا

(13)

اليهود. وقوله: ستُغلبون، للمشركين، فعلى هذا لا يكون إلا بالياء. ْإن قيل: كيف أطلق هذا الحكم وقد كان منهم من آمن؟ قيل: إن الحشر إلى النار متعلّق بوجود الكفر منهم، وإذا ارتفع الكفر ارتفع به الحكم. وقوله: (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) يجوز أن يكون من جملة ما أُمِرَ به أن يقال لهم، ويجوز أن يكون استئنافَ كلام منه تعالى. قوله عز وجل: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

العبرة: ما يُعبر به من الجهل إلى العلم، ومن الحسِّ إلى العقل. وأصله من عبور النهر، ومنه: العِبارة؛ لأنها جُعلت كالمعبر. لتأدية المعنى من نفس القائل إلى نفس السامع، وخُص التعبير بتفسير الرؤيا، وباعتبار المَرْأونَ بالشبح، وجعل العَبرْة للدمعة السائلة، وأصله فَعْله مِن عبر. وقوله: (فِئَةٌ) يجوز رفعه على الاستئناف على تقدير: منهم فئة. والجر على البدلِ، والنصب على الحال، ونحوه مما يجوز فيه الأوجه الثلاثة قول الشاعر: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة. . . ورجل رمى فيها الزمان فشلت

وإنما يجوز البدل فيما إذا كان بدل بقدر المبدَل منه، فأما إذا نقص فليس إلا الاستئناف، نحو مررت بثلاثة: صريع وجريحٌ. والآية معطوفة على ما تقدم تقديره: وقل لهم قد كان لهم آية. وقُرئ (ترونهم) بالتاء على أن يكون خطابًا لليهود، أي ترون المشركين مثلي المسلمين في العدد، ويرون بالياء أي يرون المسلمون الكافرين مثليهم. إن قيل: ما وجه ذلك وقد كانوا

ثلاثة أمثالهم، فقد رُوي أن المشركين كانوا تسعمائة وخمسين إلى ألف، والمسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشرة؟ قيل في ذلك أقوال: أحدها: ما قاله الفرّاء: وهو أن يقول الرجل لغيره: احتاج إلى مثلك، أي احتاج إليك وإلى آخر، وعلى هذا احتاج إلى مثليك يكون محتاجاً إلى ثلاثة، فكأنه قيل: يرونهم ثلاثة أمثالهم، وهذا لا يساعده اللفظ، لأنه لو كان كما يقول لقال: يرونهم ومثليهم. والثاني: ما قاله ابن عباس: إن الله عز وجل أرى المسلمين أن المشركين هم ستمائة وكسر.

وكان قد أخبر أن المائة من المسلمين - تغلب المائتين، فأراهم المشركين على قدر ما أعلمهم، ليقوي قلوبهم، وأرى المشركين أن المسلمين أقل من ذلك. ومع ذلك ألقى في قلوبهم الرعب،

فكانوا يرون عددًا قليلًا ورعبًا كثيرًا، وعلى هذا قال، تعالى: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ). والثالث: أنهم يرونهم مثليهم في الجلادة، أي يرى كل واحد منهم أنه أجلد من الآخر بمثلين، وذلك كقولك: رأيت فلانًا مثلي فلان، فتكون المماثلة راجعة إلى الجلادة، لا إلى العدد، وعلى هذا قد حمل قوله عز وجل: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) أي في القوة والعُدد، لا في الكثرة والعَدد. (ويُري) هاهنا مُتَعَدٍّ إلى مفعول واحد بدلالة تعليقه بالعين. وقوله: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ) أي يُكثر تأييده، يقال: إدتُه، أَئِيده، أيْدًا، نحو: بعتهُ. أبيعه، بيعًا، وآيدتُه علىْ التكثير، لكن أيّدت أكثر استعمالاً. ونصر الله على وجهين: أحدهما بالحجة. والثاني بالغلبة،

(14)

وقوله (لِأُولِي الْأَبْصَارِ) فإنه يعني به البصائر لا الجارحة المذكورة في قوله عز وجل: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) ويعني أن في ذلك اعتبارًا للذين هم بخلاف من وصفهم بقوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). . . قوله عز وجل: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14). القنطرة من المال مقدار تُعبر به الحياةُ تشبيهًا بالقنطرة. وذلك غير محدود القدر في نفسِه، وإنما هو بحسب الإِضافةِ كالغِنَى، فربَّ إنسان يستغنى بالقليل وآخر لِا يستغنى بالكثير،

ولما قلنا اختلفوا في حده فقيل: هي أربعون أوقية، وقال الحسن: ألف ومائتا دينار، وقيل: مِلْءُ مَسْكِ ثورٍ ذهبا،

وعلى ذلك عن ابن عباس، وبعضهم: حدّه يتغير كاختلافهم في حدِّ الغِنَى. كقولهم: درا هم مدرهمة، ودنانير مُدَنرة، (وَالْخَيْلِ) في

الأصل للأفراس والفرسان، وإن كان يستعمل في كل واحد مفردا، نحو: "يا خيل الله اركبي "، وذلك للفرسان، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق "، فكأنه سُمي بذلك لما فيه من الخيلاء، فقد قيل: لا يركب أحدٌ فرسًا إلا

رأى في نفسه خُيَلاءَ، وأصل ذلك من خلتُ، وهو ظن يَقْرب من الكذبِ، ومنه الخيال. والأخيل: الشَقِراقُ، لكونه متلونًا يخال في كل وقت أن له لونًا آخر، ولذلك قيل: كأبي براقِش كل لَوْ. . . نٍ لونه يتخيلُ و (الْمُسَوَّمَةِ) المرسلة في الرعي، وقيل: المُعلَّمة في

الحرب، يقال: سمي بالقصر وسيمياء بالمدّ، قال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ)، قال الشاعر: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . له سيمياء لا تَشُقُّ على البصرِ وقال مجاهد: المسومة: المطهمة.

كأنه جعل التضمير لها تسويمًا، كما جُعل (سنّاً) و (صنعًا) في قولهم: (مسنونة) و (مصنوعة). والنعم أصل الإِبل. فإذا قيل: الأنعام. فقد يتناول الأزواج الثمانية. والشهوة تُقال تارة للقوة المشتهية، نحو فلان خامد الشهوة. وتارة لانبعاث تلك القوة، وتارة للطعام المشتهى. فيقال هذا شهوتي، واختُلف في هذا الحب مَنِ الذي زيّنه؟ مع أنه لا خلاف أنّ الله عز وجل خالقُ القوةِ المشتهية. وخالقُ المشتهى. فقال بعضهم: الله عزّ وجل زينه. وذلك لنظره إلى القوة المشتهية أو المشتهى. ولقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) وإليه ذهب عمر

فإنه روي أنه لما سمع هذه الآية قال: ربنا إنك زينت هذه وبيّنت أن ما بعدها خير منها، فاجعل لعمر وآل عمر الذي هو خير منها، وقال بعضهم: زيّنها الشيطان، وإلى هذا ذهب الحسن، فيقول: كيف زينها الله وهو يذمها؟ ومنهم من قال: زيّن الله منها ما يحسن تناوله، وزين الشيطان ما يقبح، فإن الله عز وجل خلق الإِنسان وقوته المشتهية ومشتهياته وأُمر أن

(15)

يتناول منها على الوجه الذي يجب قدر ما يجب في الوقت الذي يجب، ويجعل ذلك ذريعة إلى التوصل به إلى الآخرة، وقيّض له شيطانًا يغرُّه فحذّره منه، فمن راعى أمره وتناول ما أُبيح له فإنه قد لا يتعدى إلى ما زينه الشيطان، وقد تقدّم الكلام في بعض ذلك في قوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). قوله عز وجل: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) منتهى المنبأ قيل هو قوله: (مِنْ ذَلِكُمْ) وقيل هو (عِنْدَ رَبِّهِمْ). وقيل: هو آخر الآية، وهذه الأقوال على قراءة من رفع (جنّات). فأما من جرّها، فلاشك أن ذلك داخل في جملة الاستفهام، لأنه

بدل من قوله (بِخَيْرٍ). وقال بعضهم: يجوز أن تكون جنات نصبًا بدلاً من موضع بخير، كقولك: مررت برجلٍ زيدًا. وقوله: (وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) قد تقدم، وقد نبَّه بهذه الآية على نعمه الثلاثة، الأول: وهي الأدون، وذلك عروض الدنيا. والثاني: الأوسط: وهو الجنة ونعيمها، والثالث: الأعلى، وهو رضوان الله المشار إليه بقوله: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى). وقوله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ)، وقوله: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)

(16)

أي بهممهم وإرادتهم، فهو يجازيهم بحسب ما يستحقونه. قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16). (الَّذِينَ) جرّ صفة للعباد، أو رفع على تقدير: هم الذين. أو نصب على المدح، وقوله: (يَقُولُونَ) ليس يعني أن ذلك منهم بالقول فقط، بل باعتقادهم وفعلهم.

إن قيل: ما فائدة: (اغفر لنا ذنوبنا)؟ قيل: أما على مذهب الوعيديين فسؤال ما هو من حكمه أن يفعل ما هو بالمؤمنين سئل أو لم يسأل، وقيل: هو فعل ما يقتضي الغفران والوقاية

(17)

من النار، وهو الإِقلاع، وإن كان متعلقًا بالقول. وقيل: هو مسألةُ لطفٍ، لا يفعله الله بالعبد إلا إذا سأله. قوله عز وجل: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) قد تقدَم وصفُ الصَّبر ومنازله، وأن كل منزل هو أعلى فثوابه أعلى. وأن أرفعه صَبرُ العارف الذي هو الرضى والتسليم. والصادقون: هم الذين صدقوا في الاعتقاد والقول والعمل، وذلك غاية الإِيمان، والقانت:

الدائم العبادة في السرِّ والجهر، والمنفقون: عُني به: في الفرائض والنوافل، ومن المال والبدن، والمستغفرون: طالبو الغفران بإتيانهم بالطاعات، وتخصيصُ الأسحار لكون العبادة فيها أشق والقلوب أحضر وأرق. وروى جعفر بن محمد: أنّ من صلى من الليل، ثم استغفر في آخره سبعين مرة، كُتب من المستغفرين

بالأسحار، وروي أن ابن عمر كان يصئي فإذا أسحر قعد يستغفر، وقال زيد بن أسلم: المستغفرين بالأسحار هم الذين يشهدون الصبح في جماعة، وذلك داخل في عموم الآية،

(18)

فإن شاهد الصبح في جماعة يستحق الصبح. قال عز وجل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) الشاهد بالشيء يقتضي حضوره بعلمه، والإِنباء عنه، والحكم بما عليه. ولهذا تُفسَّر الشهادة تارة بالحضور، وتارة بالعلم. وتارة بالإِعلام، وتارة بالحكم. إن قيل: ما وجه قوله: (شَهِدَ اللَّهُ) وقوله: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ)، وشهادة المدعي بما يدعيه لا تقتضي زيادة على دعواه. مع أن هذه الشهادة

إن كانت للجاحدين فغير مقبولة، وإن كانت للمؤمنين به ففضلة؟ وهل يكفي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طولب بالدلالة أن يقول: الله شاهد لي بذلك؟ قيل: الشاهد العالم بالشيء، المبين لغيره، وأصدق شاهد من يعلم المشهود عند الدلالة المنبئة عن صدقه، وعن كون الأمر على ما شهد به، والبارئ عز وجل لما جعل في كل شيء تنبُّؤاً عن وحدانيته صار له في كل شيء لسان يشهد أنه واحد، وهذا ظاهر،

وبين بقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) أنهم قد عرفوا ذلك وينبئون عنه، فإن الأدلة التي يذكرها العلماء، وتأتي بها الملائكة والأنبياء شهادة منهم، فحثهم الله تعالى بهذا القول على التأمل. ليعرفوا صحة ما شهدوه، وكذا الآية كأنه أقال، لنبيِّه: لا تستوحش من تكذيب الكافرين لك، فقد أْبدى الله عز وجل من الآيات ما ينبئ أنه تعالى شاهد لك بصدق دعواك. وقوله: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) أي هو تعالى مراعٍ للعدالة بكل حال، وذلك حال مؤكدة.

فإن قيل: ما وجه تكرير (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) في الآية؟ قيل: لما كان منتهى إدراك الإِنسان للبارئ تعالى أن يعرف الموجودات. فيعلم أنه ليس إياها ولا مشبَّهًا بشيء منها، صار صفات التنزيه له أشرف من صفات التمجيد له، إذ كان عامة صفات التمجيد في ألفاظها مشاركة، يصح وصف العباد بها، ولأجل ذلك عظم ما ورد من صفاته على لفظ النفي، نحو: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)

قيل في سورة الإِخلاص: "إنها تعدل ثلث القرآن "، لكونها تنزيهًا محضًا، فإن لفظي: الأحد والصمد وإن كانا على صورة الإِثبات - فنفي للتثنية والتشبيه)، ثم أبلغ ما يوصف به من التنزيه: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) فتكريره هاهنا لأمرين: أحدهما: لكون الثاني قطعًا للحكم، كقولك: أشهد أن زيدا خارج وهو خارج. والثاني: لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه، إذ قد يوصف بهما المخلوق.

(19)

قوله عز وجل: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) قد تقدَّم وجوه الدين، وأن للإِسلام ثلاث منازل: الأول: الاعتراف الذي يحقنُ الدمَ. والثاني: أن يكون مع الاعتراف اعتقادٌ صحيح ووفاء بالفعل. والثالث: أن يكون مع ذلك استسلام فيما يجري عليه من

قضاءِ ألله، وهو المسؤول بقوله عز وجل: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا) وغاية الإِنسان في ذلك أن يكون كإبراهيم حين قيل له: أسلم. (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) بيَّن تعالى أن حقيقة طاعة الإِنسان بحسب ما يكون منه من الاستسلام في المنازل الثلاث، وقد قُرِئ (أَنَّ الدِّينَ) بالفتح، فيصح أن يكون بدلاً من الأول. واستغني عن الضمير الراجع إلى الله لإِعادة ذكره، ويجوز أن يتعلَّق بفعل مضمر دلّ عليه الأول، ومن قرأ (شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ)

(20)

فشهد يعمل في قوله (إِنَّ الدِّينَ) وإنه كالعلة. وقوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) والكلام فيه قد تقدم. قوله عز وجل: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20).

الوجه: العضو المعروف، وعبّر به عن الجملة. وقيل: هو القصد، نحو وجهي إلى فلان. والذين أوتوا الكتاب: قيل هو عام فيمن نزل إليهم الكتاب. والأمِّيُّون مَنْ سواهم من اليهود ومن النصارى ومن العرب. إن قيل: كيف يصحُّ

الاقتصار في المحاجّة على أن يقول: تقبل ما أقوله أم تردّه، فإن رددتَه أعرضت عنك؟ قيل: المحاجّة ضربان: ضرب للاستهداء وضربٌ للعناد. ولما كان الله قد بيَّن لهم الأدلة، وبين أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. قال حينئذٍ: إن عاندوك فعرفهم مخالفتك لهم. وهذا كما يقال لمن أوضحت له الحجة: إن قبلتَ وإلا أعرضنا عنك. وقال بعضعهم: إنما نبَّه بهذه الآية على الحجةِ اللازمة لهم. ووجه ذلك أنه قال: قل لهم: إني توجهت إلى الله بعبادة. فهل تُنكرون كونه معبودًا، فإنه لا يمكنهم إنكار ذلك إذ كان وجوب عبادته والتوحّد له محمودًا عند الكلِّ، وإنما اختلاَفهم في غيره، فبَيِّنْ أنهم إن أسلموا للحجة فقد اهتدوا، فإن

حجتَك لازمة - وليس لهم ما يدعونه حجة، وفي ذلك اهتداؤهم. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أبوا أن ينقادوا للحجة فليس عليك إلا البلاغ. كقولك: ليس عليك هداهم ونحوه، وقدَّم الذين أوتوا الكتاب، لأن الحجة تلزمهم من وجهين: من الوجه الذي يلزم الأميين، ومن وجه أنهم يدَّعون الإِيمانَ بإبراهيم وغيره. وعلى هذا قال إبراهيم: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)

وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): أي عارف بمقاصدهم. وقوله: (وَمنِ اَتبَعَنِ) معطوف على التاء أي، (أَسْلَمْتُ). ولم يحتج إلى تأكيد الضمير، كما أُكد في قولهم: خرجت أنا وزيد. للفصل القائم مقام التأكيد، وحذف الياء من قوله. (اَتبَعَنِ) لدلالة الكسْرِ عليه.

(21)

قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) هذا تعريض ببني إسرائيل، وذاك لأن أبا عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله، من أشد الناس عذابًا يوم القيامة؟ قال: "من قتل نبيٍّا أو رجلًا أمر بمعروف ونهى عن منكر"، ثم قرأ الآية، وقال: "يا أبا عبيدة قتل بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا في ساعة من صدر النهار، فقام مائة واثنا عشر رجلًا من عُبَّادهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقُتِلُوا جميعهم آخر النهار".

إن قيل: لِمَ أعيد يقتلون ولم يقل: ويقتلون النبيين ويقتلون الذين يأمرون؟ فقل: لأمرين: أحدهما تفظيعًا لشانهم. والثاني: أنه يجوز أن يكون أحد القتلين تفويت الروح والآخر الإِهانة وإماتة الذكرِ، وذلك كثير في كلامهم. إن قيل: لِمَ قال: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)، وقتلهم لا يكون بحق على وجه حتى يحتاج إلى تقييده بذلك؟ قيل: قوله (بِغَيْرِ حَقٍّ) ليس يتعلق بقوله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ)، بل هو من صفة الذين يكفرون، كأنه قال: هم يقتلون، وهم غير محقين، ووصفهم بذلك من أنهم

غير محقين في جميع أحوالهم، وتخصيص أنها للاستقبال في قوله: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) كتخصيصه في قوله: (تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ)، قد تقدَّم الكلام فيه. وكذلك قد تقدم تخصيصُ لفظ البشارة في العذاب. مع كونه موضوعَا لما يسر.

فإن قيل: ما فائدة قوله (مِنَ النَّاسِ)؟ قيل: عنى بذلك وجود الفضيلة المختصة بالإنسان في النبيين، والآمرين بالقسط، وذلك نحو قولهم: فلان هو إنسان، وعلى ذلك قول الشاعر: إذ الناسُ ناس والزمان يَعِزُّ به.

(22)

قوله عز وجل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) الحبوط: فساد العمل، وأصله من الحَبطِ، أي فساد بطون الماشية من مأكل الربيع، ولذلك قال عليَه الصلاة والسلام: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطاً أو يُلمُّ". يعني بقوله (أُولَئِكَ): هم الذين يكفرون ويقتلون.

بطلت في الدنيا والآخرة أعمالهم، أما في الدنيا فلأنهم لم يحصِّلوا منها محمدةَ، وأما في الآخرة فلم يحصِّلوا منها مثوبة، وذلك، نحو قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا). إن قيل: لم قال: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) ولو قال: ما لهم من ناصر كان ذلك عامًّا لكونه نكرة منفية؟ قيل: لما كان القصد بهذه الآيات تثبيت الوحدانية ونفي الكثرات، نبّه بلفظ الجمع على أن ناصر الناس واحد، فكأنه قال: ما للناس ناصرون، بل لهم ناصر واحدٌ، فيجب أن يُطلب مرضاته ويُتحرى مرسوماته. وذلك نحو قوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ) و (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ)، وما أشبه ذلك من الآيات.

(23)

قوله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) الحكم: القضية التي تردع المبطل، ومنه حَكَمَةُ اللجام. والآية تتناول أليهود والنصارى وإن كانت واردةً في اليهود. قال ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى جماعةً من اليهود فدعاهم، فقالوا: على أي ملةِ أنت يا محمد؟ قال: "على ملّة إبراهيم" فقالوا: إن إبراهيم كان يهوديا. فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: كان ذلك في سبب اليهوديين اللذين رجمهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت اليهود: إن ذلك ليس في التوراة، فأكذبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعا بالتوراة، فقرأ منها آيةَ الرجم، وقيل: كان في سبب نبوته وتكذيبهم

إياه، وقوله: (الَّذِينَ أُوتُوا) وإن كان لفظه عافًا فمعناه خاص، لأنه ليس كلهم فعلوا ذلك، ألا ترى إلى قوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ). إن قيل: لِمَ قال: (مِنَ الْكِتَابِ)، ثم قال: (كِتَابِ اللَّهِ). وهل الأول هو الثاني أم غيره؟ قيل: قد قال بعضهم: الأول والثاني

واحد، وهما التوراة، لقوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا) الآية، وذكرها باللفظين تعظيمًا لها، وقيل: عنى بالأول التوراة، وبالثاني القرآن وغيره من كتبه، تنبيهًا أن كل كتاب يقضي بصحة ما هو فيه. وقيل: عنى بالذين أوتوا الكتاب: الذين أعطوا حظا من المعرفة بكتاب الله، أي كتاب كان من كتبه. إن قيل: هل بين التولي

والإِعراض فرق؟ وهل المعرضون هم المتولون أم غيرهم؟ قيل: تولّي الشيء أن تليه، فإذا عُدي بعن صار لترك ذلك. والإِعراض في الأصل أن تجعل عِرضك إليه، أي جانبك. ومنه قيل: أعرض لك الصيد فارمه فيجوز أن يعني بالتوليّ تولّي فريق من الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، وبالإِعراض جماعتهم، ويجوز أن يكون التولّي والإِعراض جميعًا للفريق، فيكون معنى التولي عنه ترك موالاته. والإِعراض يكون بالبدن، وذلك لئلا يحتج عليهم إذا حضروا فيلزمهم حجة. وعلى ذلك قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).

(24)

قوله عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) قد تقدَّم الكلام فيما حُكِيَ عن أهل الكتاب بقولهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) والذي غزهم ما حُكى عنهم من قوله عز وجل: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) والغرُّ: الأثر الظاهر من

الشيء، ومنه الغُرَّة، والغرار حد السيف اعتبارًا بالأثر، ولهذا سُمى أثره السيف، وغرُّ الثوبِ أثرُ كسره، يقال: اطوِ على غَرة، واستعير للخديعة، فقيل: غزه واغتره كقولهم: طواه إذا خدعه، وسُمِّيَ الدنيا والشيطان غرورًا، لكونهما غارين للإنسان. والغِرُّ المغرور، والغُرَر الخطر المتقدم، كأنه الذي به يُغتر، وأِما غرَّ الطائرُ الفرخَ فاستعارة من الصوت الذي يكون منه عند زقِّه. والغرغرة: ترديد الصوت من الحلق، فجعل لفظه مرددًا على

سبيل الحكاية، كحكاية كثير من الأصوات. والفُري: قطع الأديم، واستعير للكذب، استعارة الخلق والاختلاق له. إن قيل: هل علموا أنهم كاذبون فيما يقولون؟ قيل: إما أنهم علموا واغتروا برئاستهم وأعراضهم الدنيوية، أو تمكنوا من علمه فلم يتحروه اغترارَا بما هم بصدده، وعلى كلا الوجهين يستحقون الذم. قوله عؤ وجل: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) ما سُئل عنه بكيف محذوف، كأنَّه قيل: كيف حالهم أو قولهم وافتراؤهم. فحُذف لدلالة الكلام عليه، كحذفه في قوله

(26)

(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) ومعناه: كيف حالهم إذا جوزوا بفعلهم، ولم يُظلموا في بخس ما استوجبوا من ثواب، أو زيادة ما استحقوا من عقاب. ودلّ بالآية أن الكفار لا تغفر ذنوبهم، وعلي ذلك (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا) الآية. وقد تقدم معنى قوله: (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) في سورة البقرة. وقوله عز وجل: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) اللهم: تقديره عند سيبويه يا الله،

والميمان بدل من ياء، ولا يستعمل ذلك إلا في هذه اللفظة فقط. وعند الفرَّاء تقديره: يا الله امنا بخير، فجعلا بمنزلة لفظ واحد، وحذف الهمزة منه، كقولهم: هلّم، وأصله: هل أم،

وقال البصريون: لو كان كما ذكر الفرّاء لاستغنى به عن جواب الشرط. إذا قيل: يا الله امنا بخير. لكون ذلك مكررًا. والنزع: جذب الشيء من الشيء، وفصله عنه، ومنه المنازعة. وسُمى الشوق نَزَّاعَا ونزوعًا لما تُصور في ذلك أن المحبوب ينزع قلب المحب منه، والنزع ضربان: نزع إلى الشيء وهو الاشتياق. ونزع عنه، وهو الكفُّ، وقيل للغريب: نزيع، لكونه منزوعًا عن مسقط رأسه، أو لكونه نازعًا إليه، أي مشتاقًا، وقيل لمن يشبه أعمامه وأخواله: نزيع لنزع الشبه منهم، أو لكونه منزوعًا بالشبه عنهم، وسمي السهم مِنْزَعًا. والنَّزْعَةُ: الموضع من رأس الأقرع، لكون شعره نزيعًا عنه. وقد تقدَّم الكلام في المُلك،

والمِلك وأن المُلكَ كالنوع للملِكِ، فإن كل مِلْك مُلْك ما. وليس كل مُلْك مِلْكا، وقد عظَّم الله أمره، وقرن بالكتاب والنبوة ذكره، ففال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا). وقال: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) وقيل: الدين أسٌّ والمُلك حارس، لكون أحدهما غير مستغن عن الآخر من وجه، وقد يسمى المتسلط ملِكًا وإن كان على ضرب من المجاز، وعلى هذا قوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)، فسماه ملكًاً مع كونه غاصبًا.

واختُلفَ: هل يؤتى الملك الفاسق والكافر؟ فمنهم من قال: لا يُؤتاهما. وإليه ذهب البلخي والجبائي، وذلك لنظرهم إلى الملُك الأول، ولاعتبار قوله (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). ومنهم من قال: يُؤتاهما ذلك، وذلك لنظرهم إلى الثاني الذي هو التسلُط، وكون ذلك أحد الأغراض الدنيوية، ولهذا قال

ربُّنا: (إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا)، والأظهر في الآية أنه يعني الملكَ، الحقيقى لقوله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) فأضافه إلى نفسه تعظيمًا له والملك المطلق هو الملك الإِلهي، الذي لا جور فيه بوجه، ولذلك قرنه بالعزِّ والذُلِّ، وإخراج الحي من الميت، والميت من الحي، وإيلاج الليل في النهار، والنهار في الليل، وإعطاء الرزق، ونبه بقوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ) أن الملك في الحقيقة له وما لغيره عارية مستردة. ولم يعن بالملك هاهنا سياسةْ العامة فقط، بل ملك الإِنسان على قواه وهواه، فقد قيل: لا يصلح لسياسة الناس من لا يصلح

لسياسة نفسه. وقيل لبعضهم: من الملك؟ فقال: من ملك هواه فقهره، وقوله: (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ) أي تُعزه بإعطائه الملك. (وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) باسترجاعه منه أو حرمانه إياه. وقيل: تُعزُ من تشاء بأن تصونه عن تمكينه من الملك في الدنيا. وتذل من تشاء بإعطائه ذلك، وهذا التفسير على النظر إلى ما قال عليه الصلاة والسلام: "ستحرصون على الإِمارة، ثم تكون حسرة وندامة إلى يوم القيامة" وما قال أبو بكر رضي الله عنه:

"إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك، إن الرجل إذا ملك زهَّده الله فيما في يده، ورغَبه فيما في يد غيره، ونقصه شطر أجله وأُشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويتسخَط الكثير، فإذا وجبت نفسه حاسبه الله فأشدَّ حسابه وأقلّ غفره " وقال بعض المفسرين: أمر نبيه في هذه الآية أن يدعوه، بأن يُحول عِزَّ فارس إلى العرب، وخضص الملك بالنبوة، فقال معناه: تؤتي النبوة من تشاء وتصرفها عمن تشاء. وقيل قوله: (تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)

ليس براجع إلى المُلك، وإنما معناه: من يشاء بطاعته، ويُذِلّ من يشاء بمعصيته، والأظهر أن يكون ذلك عامًّا في كل عز وذل دنيويا كان أو أخرويا. إن قيل: كيف قال: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) والخير والشر بيده؟ فقيل في ذلك أجوبة: الأول: أراد الخير والشر، لكن الآية لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ذكر الخير، إذ هو المشكور عليه، وعلى ذلك -

قوله (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، وفيه تعليمنا كيف نمدح أبناء جنسنا بأن نذكرأشرف خصالهم. والثاني: أنه نصّ على المعظّم ليُفهم منه الضد الآخر. كقوله: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)، وكقول الشاعر: فما أدري إذا يممتُ وجهاً. . . أريدُ الخير أيُّهما يليني والثالث: أنه أراد بالخير: الخير والشر، وسمَّاهما خيراً، لأنه ليس في العالم شرٌّ خالص، كما أن فيه خيرا خالصاً، وذاك أن ما هو شر بكذا هو خير لكذا، فالخير والشر يصدق عليهما الوصف بالخير من هذه الجهة، ولا يصدق عليهما الوصف بالشر، فلو قال بيده الشُر، لم يدخل فيه الخير. ووصْفه بالقدرة على كل

(27)

شيء في آخر الآية تنبيه على أنه أراد الأمرين، فإن سعة القدرة تقتضيهما. قوله عز وجل: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27). الولوج: الدخول في مضيقِ، فهو أخص من الدخول. يقال: تَوْلَجُ الظبي، والوَلَجَة: بناء بين يدي فناء القوم، كالمدخل إليه. واستعير الوليجة لبطانة الرجل كالدَّخيل وإيلاج

الليل في النهار والنهار في الليل، يتناول تعاقبَ أحدهما الآخر. والزيادةَ من كل واحد منهما في الآخر، وقد فُسِّر بهما. وقوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) يتناول خروج الإنسان من النطفة، نحو: (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ)، وقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا)، وهذا هو

الذي قال الضَحاك والسدي وابن زيد: الدّجاجة من

البيض، والبيض من الدجاج .. وقال الحسن: عنى إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وقال بعضهم: يتناول ذلك كل شيء من الأركان. إذا استحال إلى غيره. ولهذا قال السدي: يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة. والأظهر في قوله: الحي منَ الميت. تصور اثنين. وقد قيل: عنى بذلك شيئاً واحداً تتغير به الحال. فيكون ميتا ثم يحيا، وحيّاً فيموتْ، كقولك: جاء من فلان أسد. وليس الأسد إلا هو، وقد تقدم الكلام في قوله (بِغَيْرِ حِسَابٍ).

(28)

قوله عز وجل: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28). قد عظم الله موالاة الكافرين وموادتهم والركون إليهم في آيات كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) وقال: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وقال: (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ). وقال: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وأمرنا بالإِعراض عنهم. فقال: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا) وقال عليه الصلاة والسلام:

"لاتراءى ناراهما " وقال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك " إن قيل: ما وجه جواز مواصلتهم والاستعانة بهم واتخاذهم عبيداً، وذلك ضرب من الموالاة، فالجواب منْ أوجهٍ: الأول: أن هذه الآيات تقتضي المنع أمن، موالاتهم، إلا ما خُصّ، وفُسِحَ لنا فيه.

والثاني: أن الموالاة المطلقة هي أن تواليهم في جميع الأمور. فأما في شيء دون شيء فليس ذلك بموالاة. الثالث: أن يكون ذلك مخصوصا في الموالاة الدينية. الرابع: أن الموالاة على ضربين: موالاة الأرفع للأوضع، وذلك

باستخدامه إياه ورعايته والحماية عليه، وموالاة الأوضع للأرفع وذلك بالخدمة. والذي نهُي عنه المسلم جزماً هو أن يوالي الكافر موالاة الأوضع للأرفع بالخدمة له والاستعانة به استعانة الذليل بالعزيز، لا أن يستعين به استعانة العزيز بالذليل والمخدوم بالخادم، فذلك مرخَص فيه، وذاك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإِسلام يعلو ولا يُعلى" ومن هذا رُخص أن ننكح منهم دون أن ينكحوا

فينا، وأن نملك أرقاءهم ولا يملكوا أرقاءنا، وأن نرثهم في قول من يرى ذلك، ولا يرثونا بوجه، ثم قد يكره لمن لم

يَقِرّ في الإِسلام المصاهرة إليهم، والاستعانة في المهن بهم تفادياً أن يُغروه، وذلك ما قال عليه الصلاة "والسلام لحذيفة لما تزوج بمشركة: "دعها فإنها لا تحصنك"، بل

لذلك قال: "مثل الجليس الصالح كمثل الداريِّ إن لا يحذك من عطره تَعَلَّقَك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل القَيْن إن لا يحرقك بشرره يؤذك بدخانه "، وقال بعض الحكماء:

"إياك ومجالسة الشرير، فإن طبعك يسرق من طبعه، وأنت لا تدري ". وقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) إياس من الموالاة التي أثبتها بقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) ونحوه، وقوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) فرخصه في إظهار الموالاة باللسان دون القلب، حيث يحصل تقية، كقوله: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) ولاحرج في مداراة الكافر حيث يُخاف شّره، أو يُرجى صلاحه، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

أنه استأذن عليه بعض الناس، فقال: "بئس أخو العشيرة هو"، فلما دخل أكرمه، وسألته عائشة بعد خروجه، فقال: "إن شر الناس من يُكرم اتقاء لسانه". واختلف هل يجوز الإفصاح بالحق في حال التَقية؟ فأجاز ذلك بعضهم استدلالاً بما روى الحسن: أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فقال لأحدهما: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. فخلَّاه، ثم دعا الآخر، فقال له ذلك، فأبى أن يقوله فقتله، فقيل ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أما المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة، فهنيئاً له. وأما الآخر فأخذ برخصة الله، فلا تبعة عليه " وجملة الأمر أن الإِفصاح عند التَقية إيفاءً بالحق، مستحسن حيث كان فيه نفع ديني، فأما إذا لم يكن في ذلك نفع ديني بوجه، فالعدول إلى كلمة الكفر على وجه التعريض أولى،

إن قيل: ما تعلق هذه الآية بما قبلها؟ قيل: لما عرفنا أنه مالك الكل والقادر عليه نهانا عن موالاة من يعاديه. وقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) فالحذر: الاحتراز من السطوة. وذلك على ضربين: أحدهما: حذر الإنسان إياه برؤية ذنوبه. وإليه قصد بقو له: (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ)، والثاني: حذره برؤية تقصيره في طاعته، وإياه قصد بهذه الآية، وعلى هذا ذكر التقوى. فقال في موضع: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ). وفي موضع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ). قال الحسن: من رحمته أن

حذرهم نفسه، ولتحذيره إياهم قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) فإنه حذّرنا، بخلاف ما بفعل الماكر، وإلى مقتضى معناه أشار العرب بقول: أعذر من أنذر، وفائدة قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ) في هذا المكان أنه لما ذكر قوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) بيَّن أنكم وإن اتقيتموهم فاحذروا الله، فإنه يحذركم أن توالوهم بقلوبكم. قوله عز وجل: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) الأصل في الصّدر: الجارحة، فاستعير لصدر المجلس والكتاب والكلام، وصدره إذا أصاب صدره، أو قصد نحو ظهره، وكتفه. وإذا عُدِّي بعن اقتضى الانصراف عنه، والصدر يقال للمصدر اللفظي ولموضع الصّدر، ولزمانه، والصِّدار الصُّدْرَة يُغطى

بها الصّدر على بناء الدِّثار واللباس، ويقال له الصّدْرَة، ولا نهى تعالى عن موالاة الكفار - وذلك يكون بالقلب قبل أن يكون بالجوارح - حذرهم أن يوالوهم بقلوبهم، فيكونوا كمن وصفهم بقوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)، وكمن وصفهم بقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ) الآية، بين أنه لا يخفى عليه ذلك، بل لا يخفى عليه ما في السموات والأرض، وهو قادر عليهم، وإذا كان قادراً وعالماً بالسرائر فحق أن يُحْذَرَ. إن قيل: لِمَ قدَّم الإِخفاء على الإِبداء، ومن البادي يُتَوَصَّل إلى الخافي، وقضيّة المتمدح أن يقول فلان لا يفوتني: مشى أو عدى ولا يكاد يُقال: عدى أو مشى؟ قيل: لما كان العلم يظهر في النفس، ثم يبرز بالقول أو بالكتاب صار الخافي سبباً للبادي،

(30)

فنبه بذلك أنه يعلم الشيء منا قبل أن نُظهره، وأنه يستوي عنده السر والجهرُ، وعلى هذا قال: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ)، وقال: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، فقدم الشر في هذا الموضع. وقال في موضع: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) فقدم الإبداء تنبيها أنهما عنده سواء. قوله عز وجل: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30). تقديره: يحذركم نفسَه يومَ تجد، أو اذكر يومَ تجد،

أو الله على كل شيء قدير يوم تجد. وقوله: (مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ) مفعول تجد، (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) معطوف عليه، كأنه قيل: وما عملت من سوء محضراً، وتوفىّ: في موضع الحال، وقيل: و (مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) استئناف، إما جزاء و (تَوَدُّ) جوابه، وعلى هذا لو قرى (تَوَدُّ) بالفتح أو بالكسر لجاز، وإما أن يكون بمعنى الذي متضمنا لمعنى الشرط،

وإن لم يكن في تقدير الجزم، نحو: الذي يأتينى له درهم. والأولى أن يكون معطوفا كما تقدَّم، ووجودُ الأنفس ما عملت: تصوره لها من حيث لا يخفى عليها، ونحوه مما دل على ذلك قوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) فاستنساخه وإحصاؤه: إذكارهم به حتى يعلموه، فإن من صفة

علم الإِنسان أن تحصل صورة المعلوم في قلبه وثبوت الصورة في ، القلب أوكد كتابة، ويجوز أن يكون معنى (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ). أي جزاء ما عملت من خير وشر. إن قيل: ما فائدة حذف الجزاء في هذا المكان ونحوه من قوله: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ)، وقوله: (ذُوقُوا مَا كنُتُم تَكْسبُونَ). وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)؟ قيل: لما أراد أن ينبِّه أن الإِنسان لا يُبخس حظه فيما يفعل من خير، ولا يُزاد عليه في جزاء ما يفعل من شر، ذكر نفس الفعل دون الجزاء؛ تنبيهاً له أن فعله مستوفى بالجزاء، حتى كأنه هو، كقولك: زيد هو أبوه بعينه. إذا أريد المبالغة في التشبيه به، وإعادة قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)، توكيد واستظهار عليهم. فإن قيل: وكيف علَّقه بالرأفةِ؟

قيل: تنبيها لأمن المحبوب من حبيبه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام مخبراً عن الله: "لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به. وبصره الذي يبصر به " الخبر.

(32)

قوله عز وجل: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) هذا إلزام "كالأول، لكنه أعم، لأن طاعته أعمّ من اتباعه، إذ قد يكون الإنسان مطيعا لغيره، ثم لا يكون متبعا له في أفعاله، وذكر ها هنا الرسول تنبيها أن كل من كان رسولاً من جهة فطاعته واجبة، \ثم قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، أي من تولى فقد خرج عن التحبب إليه، ومن لم يتحبب إليه بطاعته فهو لا يحبه بإثابته، والكافر غير متحبب إليه بتولِّيه عنه، فمحال أن يحبه، فصار تقديره: إنكم إذا كفرتم بالإعراض عنه وعن

(33)

رسوله، فإنه لا يحبكم. وفي ذلك إبطال دعواهم، حيث قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، وقوله: (لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) تنبيه أنه ينقطع عنهم توفيقه، وبانقطاع توفيقه عنهم يضلون ويعمهون. قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33). قد تقدَّم الكلام في معنى الاصطفاء، وأن ذلك منه تعالى

على وجهين: أحدهما: على سبيل الثواب بحسب الاستحقاق. والثاني: على سبيل التفضيل والابتداء بالترشيح، الذي يؤدي إلى العمل المرضي، وذلك على ضربين: أحدهما: أن يكون ذلك على سبيل الاجتباء، وهو أن تفيض العناية الإِلهية عليه، فيجعله على نهاية الكمال بلا اجتهاد منه، ويجعله سببا لتخريج غيره. وذلك للأنبياء ومن داناهم من الأولياء. الثاني: على سبيل الاهتداء، وهو أن يوفّقه برسله ليتبلَّغ درجة. فدرجة على سبيل

الاكتساب، حتى يقرب من هؤلاء لتحمل المشاق، وذلك للحكماء ومن داناهم من المؤمنين، ويقال فيهما الاصطفاء، ولوجود هذين الطريقين، قال تعالى: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) وقول الفرَّاء: اصطفاؤهم اختيار دينهم. وقول الزَّجَّاج والجبائي: اختيارهم للنبوة. وقول البلخي: هو تفضيلهم على غيرهم بما أولاهم من الأمور الجليلة. كل ذلك

داخل في الاصطفاء، وقد تقدم الكلام في الآلِ وأنه أخصُّ من الأهل، فإن الآل يتناول الأخِصَّاء الذين يَجْرُون من الإنسان مجرى ذاته، ولهذا يقال لذات الإِنسان ولخصائص عشيرته: الآل. ولم يتناول آل محمد الكافرين من ذويه، وعنى بالمذكورين

(34)

في هذه الآية جُملة مَنْ فضلهم في قوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية، فذكر اثني عشر نبيًّا، وسنذكر إذا انتهينا إليه تخصيصهم بالذكر، وكيف رُتبوا هذا الترتيب، ومخالفة ذكرهم في الترتيب لأزمنتهم. إن قيل: كيف تعلُق هذه الآية بما قبلها؟ قيل: تعلُقها بها من وجهين. أحدهما: أنه لما أمرهم تعالى باتباع نبينا وهم يُقرُّون بوجوب اتباع الذين ذكرهم، بيّن أن جماعتهم في كونهم متساوين في النبوة سواء، وأن الذي دلَّ على وجوب اتباع أهؤلاء يدلُّ على وجوب اتباع، سائرهم. والثاني: أنه نبَّه أن اصطفاءه تعالى لهؤلاء لَكونهم مطيعين له، مستحقين لمحبته بذلك. قوله عز وجل: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) الذرية: قيل: من ذرأ الله الخلق فترك همزه نحو روية وبرية ونبى

وخابية وملك من روأ وأنبأْ وخبأ ومَلأك، وقيل: بل هو من ذَرْو الريح، وأصله ذُرُّويَة، وقيل: هي فُعْلِيَّة من الذر نحو قمرية. ويُقال: ذرية للواحد والجمع، ويقال للأصل والنسل، قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ) أي إياهم، ويُقال للنساء: الذراري، قال عليه الصلاة والسلام: "حجوا بالذراري، ولا تأكلوا مالها وتذروا أرباقها في أعناقها " أي بالنساء،

فأما الصبيان فلا أرباق في أعناقها؛ إذ لا حج عليهم. قوله: (بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) يعني في الموالاة الدينية، لقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وقوله لنوح: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ردًّا عليه لما قال في الكناية عن هذا العدو. والضعة: الخساسة، في مقابلة الرفعة، ولذلك استعير صعود الجبل وبلوغ السماء ونحو ذلك للرفعة، والوقوع في الثرى ونحوه للضعة.

(36)

والرجيم: المرجوم، وأصل الرجم: الرمي بالرجام أي الحجارة، وقيل ذلك للنجم المنقض، لقوله: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) وقيل للظن والكلام المقرِّع: رجم، ومنه (رَجْمًا بِالْغَيْبِ). فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) وقوله: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) أي وضعت حملها، وأنثها على المعنى، وقولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) لكون الأنثى ناقصة العقل والدين، ولهذا قالت: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) ولأنه

روي أنه لم يكن يستصلح للتحرير من قبل إلا الذكور. وبين بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أن إخبارها بذلك لم يكن على سبيل الإِعلام، بل على معنى أن الله أعلم بمآلها، وحقيقة أحوالها، وذلك يحتمل أن يكون من قولها، وأن يكون من قوله

تعالى، وإذا قرئ (بما وَضَعتُ) فإخبار عن قولها على سبيل التوجُّع، إذ لم يكن ما في بطنها على ما أحبّت، وفائدة قوله: (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) قيل: هو أن هذا الاسم في لغتهم اقتضى معنى التحرير، وتضرَّعت امرأة عمران إلى الله تعالى أن يحفظها وذريتها من الشيطان، الذي قال: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) لكون الأنثى أطوع له، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان ينال منه طَعْنةً، ولها يستهلُّ الصبي إلا ما كان من مريم وابنها، فإنها لما وضعتها قالت: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

(37)

فضُرب دونها حجاب". ونبه بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إنك تسمع نذري، وتعلم حالي ونيتي، فتقبل مني ما قلت. قوله في وجل: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) القبالة: الكفالة، فقوله: (تَقَبَّلَهَا) قيل: تكفَّل تربيتها،

وقيل: رضيها، ولفظ التقبّل يقتضيهما. قال الحسن: قبوله إياها أنه صانها عن كل أذى وقبول مصدر قبل، نحو: وضوء وطهور، ولما كان تقبّل وقبل يتقاربان جمع بين التقبّل والقبول، تنبيها أنه جمع من الأمرين التقبُّل الذي يقتضي الرضا والإِثابة، وقيل: القبول من قولهم: فلان عليه قبول. إذا أحبّه من رآه. وقوله: (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا) أي ربّاها تربية حسنة. وتقدير الكلام: أنبتها فنبتت نباتاً، وروي أن أمّها لما وضعتها

لفّتها في خرقة وبعثت بها إلى مسجد بيت المقدس فقال: زكريَّا: أنا أحق بها، لأن خالتها تحتي، وقالت الأحبار: لو تركت لأحقّ الناس بها لتُرِكت لأمها التي وضعتها، فاختصموا فيها فتقارعوا، فقرعهم زكريا. واختلف الرزق، فقيل: إنه كان يوجد عندها طعام الشتاء في الصيف، وطعام الصيف في الشتاء، من غير أن كان يدخل إليها آدمي. وقال الجبّائي: يجوز أن كان

رزقاً يأتيها به غير زكريا من حيث لا يعلمه، ولو كان الأمر على ما ذكر لما أعاد الله ذكره تعجباً من أمرها. وقوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يدل على أنه ليس كما ذكر. وقال بعضهم: كان ذلك فيضاً من الله يأتيها من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه رزقاً، وهذا أعجب من إتيانها الطعام في غير أنه، لمن عرف فضيلة العلم، واللفظ محتمل، ثم بين تعالى أن ذلك ليس

(38)

بعجيب، فرزق الله للعباد على وجوه تقصر عنها معرفة الناس. قوله عز وجل: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) هنالك: يقع على الزمان والمكان، وإن كان المكان أملك له، يقال: هنا، وهناك، وهنالك، كقولك: ذا، وذاك، وذلك، ولما رأى زكريا من أحوال مريم تلك العجائب، وكان به حاجة إلى الولد مع كبر سنه ووهن من عظامه، سأله أن يهب له ذرية طيبة، أي صالحة، واستعمال الطيب في الصالح: كاستعمال الخبيث في ضده، في نحو قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح وقوله:

(مِنْ لَدُنْكَ) أي من نعمك وفضلك الإِلهي، وذاك أن إيجاد الأشياء وإن كانت كلها بقدرته وفضله فعلى ضربين: إبداع، وهو الذي لم يجعل لغوه إليه سبيلا، لا للملائكة ولا للناس، وفِعْل جَعَلَ للروحانيّ أو الجسمانيّ إليه سبيلًا، فبين بقوله: (مِنْ لَدُنْكَ) أنه يسأل ما يتفرَّد بإيجاده. وقوله: (مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي مجيب لمن دعاك على الشرائط التي بها تُدعى، وقد تقدَّم الكلام في شرائط الدعاء في قوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).

(39)

قوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) المحراب: قيل: سُمّي بذلك لأنه موقع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: لكون الإِنسان حريباً من أشغال الدنيا. وقيل: الأصل فيه أنه موضع حريبة الرجل أي ماله، وذلك أنه كان اسماً لصدر المجلس، ثم لمَّا اتُّخذت المساجد سمي به منها ذلك الموضع، وقوله: (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) قيل: هي كلمةُ الإِيمان، وهو قول قتادة، وقال أبو عبيدة: كتاب الله

وقال غيرهما: عنى به عيسى، وتسمية عيسِى بالكلمة قيل: لكونه موجدًا بكن، المذكور في قوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وقيل: سُمّي بذلك لكلامه في صغره، والسيد

السايس لسواد الناس، أي معظمهم، ولهذا يقال: سيد العبد. ولا يقال: سيد الثوب، وقيل: سيداً أي عالما وتقيًّا وحليمًا. وذلك من شروط السيادة، فمن لم يوجد فيه ذلك فسيادته زور. وقال بعض الصوفية: قوله: (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)

تنبيه أنه قل ما يأتي الإِنسان توفيق وفيض إلهي إلا بالالتجاء إليه. والحَصُور: يُقال تارة في معنى الفعول. وتارة في معنى الفاعل، فيجوز أن يكون هو الذي حصر نفسه. ويجوز أن يقال حصره علمه وعقله. وقد روي أنه كان ممنوعا من قبل الله تعالى عن النساء. وأنه كان معه مثل هدب الملاءة،

والأول أشبه باستحقاق المدح. وقرئ: (نادته)، و (ناداه)، نحو (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ) و (يَعْرُجُ). وروي أن عبد الله

ذكَّر الملائكة في كل القرآن. وقال أبو عبيدة: وذلك خلاف الكفار، حيث أنثوا الملائكة، وقالوا: بنات الله. وليس تأنيث العرب الملائكة، وتعيير الله إياهم لتأنيث اللفظ، إنما ذلك لجعلهم إياها له بنات، إن قيل: ما معنى (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)،

(40)

وذلك يقتضي جواز نبي ليس بصالح؟! قيل: قوله: (مِنَ الصَّالِحِينَ) متعلق بمضمر، أي وهو من الصالحين. وذلك مما أكد به قوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ). ومعناه من أولاد الصالحين. قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) الغلام يجوز أن يكون أصلا في بابه، وعنه أخذ الاغتلام، لكون المغتلم شبيها به في المعنى المخصوص، ويجوز أن يجعل الغيلم - وهو منبع الماء - من ذلك، وسُمّي الغلام لكونه ذا رونق، ولذلك يُقال: فلان عليه ماء الشباب، والعقر: أصل البنية للدار والإِنسان، وعقرته

أي أصبت عُقره، أي أصل بنيته، وذلك يقتضي معنى القتل، ثم سمي الجرح - أي جرح كان - عقراً، وسُمي الخمر عُقاراً لكونها كالعاقر للإِنسان. وجُعل بناؤه بناء الإِرواء كالخُمار والكُباد والمعاقرة: المشاربة، كأنَّه يطلب كل واحد منهما عَقْر صاحبه بإسكاره. وامرأة عاقر كأنها تعقر النسل، لإِفسادها ماء الفحل. وجعل العُقْر اسما للدية، وكنى به عن بذل البضع. وقال ها هنا: (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وفي موضع آخر: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)، وذاك أنك إذا بلغتَ الكبر فقد بلغك الكبرُ،

نحو أدركني الجهدُ وأدركتُ الجهدَ، ولا يقال: أدركني المكان. لأن حقيقة إدراك المكان من الإِنسان دون المكان، وإدراك الجهد والكبر مجاز في الطرفين، فصار انتساب كل واحد منهما إلى

الآخر سواء، وقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) ليس بإنكار لقدرة الله، بل لما كانت عادته تعالى في إيجاد الأولاد أن لا يكونوا من الهَرِم والعاقِر، أراد التعرف أن ذلك هل يحصل وهما باقيان على حالتيهما، أو يكون بإعادة الشباب إليهما، أو يكون ذلك من امرأة أخرى أو يحصل ذلك على سبيل لم تجر به العادة؟ وقال بعضهم: إنما قال أنى يكونُ لي ذلك؟ استعظاماً لنعمة الله. كقولك: من لي بكذا؟ ومن أين لي كذا؟ وقال بعضهم: قال ذلك لأنه لما سمع نداء المَلك قدّر أن ذلك وسوسة من الشيطان، واستبعد بعضهم ذلك. وقال: إن الأنبياء لا يشتبه عليهم ما يكون من قِبَل الملائكة بما يكون من قِبَل الشيطان)،

(41)

وقوله: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ) على الجواب الأول: أي أنه يهب لك الولد وأنت بحالتك، وعلى الثاني: أن نعمته في خلق ذلك كنعمته في غيره، وعلى الثالث: إن تعجّبت من ذلك فتعجب من سائر أفعاله المبدعة، فإن خلقه لذلك كخلقه لما يشاء. قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) العشي: من لدن غروب الشمس إلى انقضاء صَدْر الليل. وخصّ العشاء بالطعام المتناول فيه، وتعشى تناول العشاء وعَشى صار في عشاً لظلمةِ عينه، وآية في وزنها

ثلاثة أقوال: الأول: أنها فَعلة، وحق مثله أن يُجعل لامه معتلًّا نحو: حياة ونواة، ونظيرها راية، والثاني: فِعلة إلا أنها قلبت كراهية التضعيف، نحو طائي في طَيْئي، والثالث: فاعلة، وأصلها آيية فخَففت وذلك ضعيف لقولهم في تصغيرها أيية، ولو كانت فاعلة لقيل: أويّة، والرمز: الإِشارة بالشفة. والغمز بالعين والحاجب. والإِبكار: مصدر أبكر، يُقال: أبكر وبكَر وبكَر وابتكر، والبُكرة من وقت طلوع الفجر إلى ضحوة النهار. وقوله: (اجْعَلْ لِي آيَةً) قيل: طلب علامة لوقت الحمل. فجعل تعالى أن لا يمكنه مكالمة الناس إلا إيماءً مع تمكنه من ذكر الله، وقيل: بل سأله أن يبين له قربة يجعلها شكراً لما خوَّله،

فأمره أن يجعل شكره الاشتغال بالعبادة، وترك مكالمة الناس إلا رمزًا ثلاثة أيام، وهو المذكور في قوله: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا). وفي هذا دليل أن في ذكر اليوم أو الليلة غنىً عن ذكر الآخر عند الإِطلاق، وإذا أُريد الخلاف بمن حينئذ نحو (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ)، وعلى هذا الآية عبارة عن الفريضة، فإن زكريا سأل

أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً له، وتسبيحه: قيل هو الصلاة، وسميت الصلاة سُبحة. وقوله: (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) قيل: عنى في هذه الأيام الثلاث. ولم يعنِ التسبيح في طرفي النهار فقط، بل إنما أراد إدامة العبادة في هذه الأيام. وقرئ (أَلَّا تُكَلِّمَ) بالرفع والنصب، نحو:

(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بالرفع والنصب. قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) تكرير الاصطفاء قيل لمعنيين: الأول فرَّغها لعبادته وأغناها عن الكسب، والثاني أن جعلها أمًّا لعيسى وآية له، وقيل الأول الاصطفاء الذي هو

الاجتباء. والثاني الاصطفاء الذي هو على سبيل الهداية، وقد تقدم ذكرهما آنفاً. وتطهيرها قيل: من الحيض. وقيل: من نجاسة الكفر، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ). وقول الملائكة لها قيل: كان بالإِلهام، فإنه ما أوحى الله إلى

امرأة وحي النبوة، فلذلك قال:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) وقيل: بل قد أوحي إليهن ولكن لم يبعثن رسلا. وقال الجئائي: إنما يجوز أن يكون أوحي إليها معجزة لزكريا أو توطئة لنبوة المسيح، وقوله هذا إيماءً لمذهبهم أن

المعجزات والوحي لا تصح إلا في أزمنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك دفع منه لكرامة الأولياء، وقوله: (عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، قيل: هو على العموم، وقيل: عنى اللاتي في زمانها.

(43)

قوله عز وجل: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) القنوت: إدامة الطاعة صلاة كانت أو غيرها من العبادات، ولهذا قال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) فجعل من جملة القنوت، وتقديم السجود على الركوع. قيل: لكونه كذلك في شريعتهم، وقيل: تنبيهًا أن الواو لا تقتضي الترتيب، وقيل: عنى بالسجود الصلاة، لقوله: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) وعنى بالركوع الشكر، لقوله تعالى في قصة داود: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) أي شاكرًا، وهذا تخصيص للركوع بحال مقترنة به، وقيل: نبّه بقوله: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي كوني

(44)

مع العابدين والمصلين، وخصها بفضل إيجابٍ اقتضاه قوله.: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي) إن قيل: كيف أخر هذا الذكر لمريم عن ذكر قصتها؟ قيل: لما ذكر آيتها قرن بها آية زكريا وعبادته، ثم أتبعها بعبادة مريم متمما لقصتها؛ لئلا يحتاج إلى قطع قصة زكريا، فيكون قد قرن ذكر الآية بالآية والعبادة بالعبادة. قوله عز وجل: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

قد تقدَّم أنواع الوحي، وأن أصله الإِشارة، ويقال للكتابةْ: وحي، إذ هي إشارة ما، وقد يكون الوحي بالإِلهام كما يكون بضرب من الكلام، وعلى ذلك قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) وقد يقال ذلك للوساوس نحو قوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) وكثيراً ما يشبه الوساوس بالإِلهام، فلا يُميز بينهما إلا أولو العقول الراجحة. والقلم: القص من الصلب كالظفر وكعب الرمح والقصب، ويقال للمقلوم: قِلْم، كقولهم للمنقوضِ: نِقْض،

وخُص ذلك بما يكتب به وبالقَدَح، وأكد بقوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أن هذا مما أبلغت من الغيب، لقوله عز وجل في قصة موسى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) وقوله: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) ومقارعتهم عليها: قال قتادة: كانوا من حرصهم على كفالتها يتقارعون عليها لفضلها. وقيل: لتدافعهم إشفاقا من أزمة كانوا فيها.

(45)

قوله عز وجل: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) تسمية عيسى بالكلمة لقوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ولفظة كن وإن كانت للأمر فموضوعة للابداع، وذاك أن فعل الله ضربان: عادي وإبداعي فالعادي ويسميه قوم الطبعي: هو الذي أجرى الله تعالى به العادة أن يكون في زمان ومكان، ومن أصل، وعلى وجه مخصوص وشيئا بعد شيء. كخلقة الولد من النطفة والزرع من البذر. والإبداعي: ما يوجده

دفعة من غير حاجة إلى زمان ولا من أصل كخلق آدم بل كخلق العالم. وعبّر عن ذلك بكن إذ كان أسرع مفعول فيما بيننا ما كان قولاً وأعم الألفاظ معنى الكونِ مع وجازة لفظ، وعلى ذلك قال: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال الأصمّ: سُمّي عيسى كلمة، لأنه تعالى خلق كلمة، فجعل منها عيسى، كما خلق آدم من تراب، وسائر الناس من نطفة، وهذا كما ترى، وقال الجاحظ: وصفه بذلك من حيث إنه تقدم الإِخبار به وبشارته في الكتب المتقدمة، وهذا كما سَمَّى وعده

كلمة بقوله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وقوله: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) وقيل سُمي كلمة؛ لكونه متكلماً في المهد، وخُص بذلك لفظ الكلمة للمبالغة: كوصف الفاعل بالمصدر. وقال النظَّام: جعل ذلك لقباً له لا لمعنى أشار إليه. وسُمي مسيحًا، لأنه مُسِحَ بالبركة.

وقيل: لأنه ماسحاً للأرض لسياحته فيها، وقيل: لأنه مُسِحَ بالجمال، وعنى بذلك الجمال النفسي والبدني جميعاً، من الأخلاق الجميلة والفضائل الكثيرة، نحو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في جرير "عليه مِسحة مَلَك ". وقيل: لأنه كان ممسوحاً بالدّهن

لمّا وُلد" وقيل: سُمي به لأنه كان ممسوح القدمين لا أخمص لهما، وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، كأنه سُمّي به لأنه كان يمسح الأكمه والأبرص فيبرأ. والجاه مقلوب عن الوجه،

(46)

لكن الوجه يقال في الحظوة وفي العضو، والجاه لا يقال إلا في الحظوة، ووجاهته: ما خُصّ به من أوصافه المعلومة. والقرب من الله تعالى في الدنيا: التخصيص بالصفات التي هي من صفاته تعالى كالكرم والعفو والمغفرة، وفي الآخرة أن يصير في جواره، وقد تقدم ذلك. قوله عز وجل: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) تكليمه النّاس في المهد: ما أنبا عنه تعالى بقوله: ْ

(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) الآية، وذلك من الأفعال الإلهية، حيث جعل لطفلٍ عقلًا وعلما وكلاماً. وقوله: (وَكَهْلًا) قيل: معناه كلامه في حال طفولته وكهولته سواء. وقيل: يكلمهم طفلاً، وبعد نزوله من السماء كهلًا، لأنه رفع قبل أن اكتهل. وقيل: يكلم الناس في المهد بكلام الكهول عقلًا. وقوله: (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي هومن جملة المذكورين في قوله: (وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ). وموضع: (وَيُكَلِّمُ)، نصب، كقول الشا عر:

(47)

يقصر يمشي ويطول باركا أي ماشياً. قوله عز وجل: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) القضاء: الفصل، وذلك إما بالتدبير، وإما بالقول، وإما بالفعل. فالأول لا يصح على الله عز وجل إلا بمعنى الحكم إذ كان التدبير: التفكر في الشيء وارتياد الصلاح فيه، وذلك لمن كان ناقص العلم، فقوله: قضى، ها هنا إما للقول، وإما للفعل. أولهما جميعا، ومعنى قوله: (كُنْ) أي يبدعه على ما تقدم،

وقال الأصم: عادة الله جارية فيما أخبر عن كونه، أن يقول في وقت ما يحدثه كن كخلقه لآدم كما قال للملائكة (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا) قال له: كن. لما أراد إحداثه تنبيهاً لهم، وكذلك لمّا أخبر أنه سيبعث نبياً خلقه من غير ذكر، قال له: كن لما أراد إحداثه، وذلك ليعرف الملائكة انتهاء الأجل ونزوله. وقال أبو الهذيل إن ذلك قوله يقوله عند كل مكوّن. وحكي عنه أنه يجري مجرى الإِرادة،

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) فقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) تعجب منها لما ذكره لها من أمره بها، وكيف لا تتعجب وأمرها أبدع من أمر زكريا، فأجابها بقوله: (كَذَلِكِ)، فمن وقف عليه جعل ما بعده كالتفسير له، ومن وصل: فمعناه أن الله كذا قضى أو كذا يفعل. إن قيل: لم قال ها هنا: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) وفي قصة زكريا: (يَفعَلُ مَا يَشَاءُ)؟ قيل: لما كان الخلق أخص من الفعل خصه، بما هو إبداع. وذكر الفعل فيما هو أقرب إلى المعتاد في إيجاده.

(48)

قوله عز وجل: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) الهيئة: الحالة المحسوسة التي تحدث للشيء، والهيء: الحسن الهيئة، ومنها أخذ المهايأة فيما يتراضى به على وجه التخمين. والنفخ: جعل الريح في الشيء ومنه النفخة، وعنه استعير نفخة الصور، والنفخة للورم تشبيهاً بما ينفخ فيه، والنُّفَّاخَة للحجاةِ. والادخار: افتعال من الذَّخر وهو إعداد الشيء لنائبةٍ قال

الفرّاء: قُرئ (تَدْخرون) خفيفة، وقال بعض العرب: (تذخرون) فعوقب بين الذال والدال نحو تدَّكر وتذَّكر. والأكمه: الذي وُلد أعمى. وقول الحسن: الأكمه الأعمى صحيح، وكل كَمَه عمى، وإن لم يكن كل عمى كمهاً. وقول مجاهد: الأكمه الذي لا يبصر بالليل دون النهار، فليس بشيء،

وقوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) يجوز أن يعني بحال طفوليته إن قيلَ: كيف ذكر الكتاب، ثم عطف عليه التوراة والإِنجيل، وهما من جملة الكتاب؟ قيل: قالوا: عنى بالكتاب القراءة والكتابة، وعُلِّم تعليماً إلاهيًّا في حال الطفولية، وقيل: عنى بالكتاب كتب الله المنزلة وخصص التوراة والإِنجيل كتخصيص ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تفضيلًا لهم، وقد تقدّم الفرق

بين الكتاب والحكمة، وقرئ و (يُعَلّمه) عطفا على قوله: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ)، وبالنون عطفا على قوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ)، وقوله: (وَرَسُولًا) عطف على قوله: (وَجِيهًا) وقيل تقديره: ويجعله رسولا

إن قيل: كيف تعلق هذه الآية بما قبلها، وما قبلها حكاية حكى الله عن نفسه، وهو: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ)، وهذه حكاية حكاها عن عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) قيل: تقديره: وبعث رسولاً يقول: إني قد جئتكم، ودل على إضمار القول ذكر الر سول وترك ذكر مريم، وابتدأ بإرسال عيسى، وما قال له، وذكر معجزاته. إن قيل: لِمَ ذكر في الخلق وفي إحياء الموتى (بِإِذْنِ اللَّهِ). ولم يذكر في غيرهما؟ قيل: لكون هذين الفعلين إلاهيين، لم يجعل للمخلوقين إليهما سبيلًا. بخلاف النفخ والمداواة والإِخبار ببعض الغيب، فقد جعل للإِنسان كثيرا من المداواة، وجعل لهم شيئاً من الإِخبار بالغيب كالفِراسة

والإِلهام ولم يجعل لهم الخلق ولا إحياء الموتى، فنبَّه بقوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ) أن ذلك فعل في الحقيقة صادر منه تعالى، وإن كان يظهر من غيره كالفِراسة والمداواة، وإن كانا قد يحصلان من سائر البشر، فذلك قد يكون باعتماد على تجربة واعتبار أمر. ولا يكون في كل وقت وعلى كل حال، ولا في دفعة واحدة. وما كان يفعله عيسى كان بخلاف فعل البشر، فلهذا كان معجزة،

ْوقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أنّ المؤمن هو الذي يتفكر في ذلك، فتحصل له الآية. وقُرىء (إني) على الاستئناف، ويكون تفسيراً للآية. كما أن قوله: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) تفسير للوعد. وإذا قرىء (أني) بالفتح، فعلى تقدير الجرّ بدلاً من آية أو على قَدرِ الرفع خبر ابتداء مضمر، كأنَّه قال: الآية

(50)

أني قد جئتكم. قوله عز وجل: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) فقوله: ومضدقاً معطوف على ما دلّ عليه قوله: (بآية من ربكم أني قد جئتكم) مستصحباً آية، ومصدقاً. كقولك: جئتك بما تحُب ومكرماً لك، وليس بمعطوف على (وجيهاً) ولا (رسولاً)، لقوله: (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ) أني أحقق ما أتيت به من التوراة، فيكون ذلك معدوداً من جملة معجزاته. وقال قتادة والربيع

وابن جريج؟ كان المحرَّم عليهم في شريعة موسى لحوم الإِبل والأشياء من الطير والحيتان، فاحلَّها عيسى لهم. وقال أبو عبيدة: عنى ببعض الذي حُرِّم الكل، واحتج بقوله:

. أو يرتبط بعض النفوس حمامها وقال الزجّاج: هذا فاسد، لأن البعض لا يكون، بمعنى الكل. وعنى لبيد ببعض النفوس نفسه خاصة فعرّض. ولأن عيسى حلّل بعض المحرمات، وهو الذي كانوا حرّموا على أنفسهم،

وقوله: (وَلِأُحِلَّ) معطوف على موضع (وَمُصَدِّقًا) لأن تقديره: لأصدِّق وَلِأُحِلَّ، كقولك: جئتك معتذرا ولأطيِّب قلبك. وعلى ذلك تقدير قوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ). وقوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ف ي قراءة عبد الثه (آيات) في الموضعين، وإنما لم يقل: من ربي أو ربنا. لأن ذلك أخص من المخاطبين. وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ) قيل: وحِّدوا الله. وتقواه أخص من توحيده، إذ هي مبنيّة عليه. ودعاؤه إلى طاعته دعاء

(51)

فيما دعاهم إليه من تقوى الله. قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) لما وصف عيسى نفسه بأفعال إلهية، وأتى على ما ذكر. وكان قد قال: (وَأَطِيعُونِ) خطر له ما فعلته جماعة من النصارى، وهو اتخاذهم إياه معبودهم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ولم يقل: ربنا، ليكون أبعد من التأويل فيما ادعوه. وأمر بأن يُعبَد الله وحده، وقال: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) تنبيها أن العدول عن ذلك ليس بالمستقيم. قوله عز وجل: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) الإحساس: الوجود بالحاسة، وحسّه: قتله، كأنَّه أصاب حسه نحو قلبه وبطنه، وقال الفرَّاء: يقال حسَسْت، وحسِسْت، وحسِيت وأحسْتُ، فأما حَسَسْته

فأصبتُه بحاستي نحو: عِنتهْ ويديتُه أي أصبتُه بهما. فأما حسِسْت، فنحو علمت وفهمت، وأمّا حسيت فبقلب إحدى السينين ياء، وأما أَحَسْتُ فبحذف، إحداهما نحو: ظَلْتُ في ظَلِلْتُ، وكلا اللغتين تحريا للتخفيف، وإنما قال: (فَلَمَّا أَحَسَّ) دون عَلِمَ تنبيهًا أنه ظهر منهم الكفر ظهوراً بادياً لذي الحاسة فضلًا لذي العقل. وقوله: (إِلَى اللَّهِ) أي

متوجها إلى الله، وقيلِ: مع الله نحو الذود إلى الذود إبل. وقيل: لئه، نحو (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) والوجه هو الأول. والأنصار جمع نصير - نحو: أشهاد في جمع شهيد، والحواريون قيل: سُموا لبياض ثيابهم، عن ابن جبير، وقال بعضهم:

عنى ببياض ثيابهم نقاء نفوسهم، نحو (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ). وقولهم: فلان طاهر الثوب، وفي ضده: دنس الثوب. وقيل: كانوا قصّارين يبيعون الثياب. وقال بعضهم: عنى أنهم كانوا يُطهرون نفوس الناس. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الزبير ابن عمتي وحواري " تشبيها بهم، وقول أبي عبيدة: الحواريون صفوة

(53)

الأنبياء فنظر منه إلى حواري عيسى عليه السلام، وإلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدَّم القول في الإيمان والإسلام، وعنى بالإِسلام ها هنا الاستسلام لله عز وجل، كقول إبراهيم: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). قوله تعالى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53).

الاتّباع: الاقتداء بالمتبَع، وهو أخصُّ من الإِجابة، إذ قد يكون مجيباً من لا يكون تابعاً، وإنما قال: (ربنا) ولم يقل: رب العباد؛ لأن الموضع موضع اعتراف وشكر، لا الإِخبار عما عليه الشيء في نفسه، فلذلك خص (ربنا)، وقد تقدم أن الشاهد هو المخبر عن الشيء مشاهدة: إما حسًّا أو عقلًا، وأنه استعير للشهادة في الأحكام، والشاهدون ها هنا هم الذين على طريقة من قال فيهم: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). ونبه بقوله: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أنهم منهم،

(54)

وقوله: (ربنا) متصل بالحكاية عنهم. وأخبرنا تعالى بذلك لنقتدي بهم في متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتضرُّع إلى الله في طلب الثواب كما طلبوه. قوله عز وجل. (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) المكر في الأصل: حيلة يُجلب بها الإنسان إلى مفسدة. وحيلة قد تقال فيما يُجلب به إلى مصلحة، وقد يُقال في ذلك المكر والخديعة اعتباراً بظاهر الفعل دون المقصد، والحكيم قد يفعل ما صورته صورة المكر، ولكن قصده المصلحة لا المفسدة، وعلى هذا سئل بعض المحققين عن مكر الله فأنشد:

ويقبح من سواك الشيء عندي. . . وتَفْعَلُه فيحسن منك ذاكا فإذن مكر الله قد يكون تارة فعلًا يُقصد به مصلحة، ويكون تارة جزاء المكر، ويكون تارة بأن لا يقبِّح مكرهم في عينهم، وذاك بانقطاع التوفيق عنهم وتزيين ذلك في أعينهم، حتى كأنه زيَّنه في أعينهم ومكر بهم، ويكون تارة بإعطائهم ما يريدون من دنياهم. فإذا أعطاهم واستعملوه على غير ما يحب، فكأنه مكر بهم،

واستدرجهم من حيث لا يعلمون. ولأجله قال: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) وهذا من المعنى الذي اقتضى الذي قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) وقال اِلكلبي: مكرهم كان تدبيرهم في قتل عيسى (وَمَكَرَ اللَّهُ) أنه ألقى شبه عيسى

(55)

على رجل كان يقال له يهوذا عهد لقتل عيسى، فدخل بيتا فظن أن عيسى عليه الصلاة السلام فيه فتبعه القوم فصلبوه. وقال الأصمّ: مكره بهم أن سلَّط عليهم فارس، فقتلوهم، وسبوا ذراريهم، لقوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا). قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) إن قيل: كيف قال: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) وقد قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)؟ قيل: جملة الأمر أن ليس في

ذلك منافاة، إذ ليس كل متوفى يكون مقتولا. وقد قال الفرَّاء: معناه: ورافعك إليَّ ومتوفيك، فقدَّم وأخرَّ. وقال الربيع: توفَّاه، ووفاته النوم. وقال غيرهما: آخذك وافياً لم ينقص منك شيء. وقال الحسن: وفاة الرفع، لا وفاة الموت.

وقال ابن عباس ووهب: وفاة موت، فإنه أماته ثم أحياه فرفعه. وقال بعضهم: معنى متوفيك آخذك عن هواك، ورافعك إليَّ عن شهوتك، ولم يكن ذلك رفعا مكانيا، وإنما هو رفعة المحل "،

وإن كان قد رُفع إلى السماء، وعلى هذا قوله تعالى: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم. وقيل: تخليصه من قتلهم، لأن ذلك طهرة منه. وقوله: (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فوقهم بالبرهان والحجة. وقال ابن زيد: عنى أنه جعل النصارى فوق اليهود في العِزة. فقد جعل لهم مملكة ولم يجعلها لليهود. وقيل: عنى بقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ):

من اتبع نبينا عليه الصلاة والسلام منهم، فإن من لم يتبعه بعد بعثته فهو في الحقيقة غير تابع لعيسى، وقيل: معنى قوله:

(56)

فوقهم: أي يوم القيامة في الجنة، إذ هم في الغرفات آمنون. والذين كفروا في أسفل السافلين! وحينئذ تتعلق (إلى) بما تقدم، وقد تقدّم الكلام في الرجوع إلى الله. قوله عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) تعذيب الله الكفار

(57)

والأشرار في الدنيا ضربان: ضرب عرفوه عذابا كالأمراض والخسف والمسخ وتسليط المؤمنين عليهم. وضرب حسبوه نعمة وهو في الحقيقة نقمة. وذلك كتمكينهم من مال وجاه وسائر أعراض الدنيا، التي حظهم منها الهموم والغموم، وإياه عنى بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا). قوله عز وجل: (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) الإيمان: فعل ما يقتضي الأمن من عذاب الله. والصَّلاح: فعل ما يقتضي الصلح بينه وبين الله عز وجل. والتوفية: إعطاؤه ما لا ينقص عما يقابلبه،

والإِيفاء الزيادة عليه، إن قيل: كان من حق المقابلة أنه لما عاقب ذكر الكافرين بقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أن يذكر ها هنا ما ينافيه فيقول: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). ونحو ذلك من الكلام لا قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). قيل: إن قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) من صفة الذين كفروا. ونبّه بالصفتين جميعا، أعنى هذه وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) على كون المؤمنين منصورين ومحبوبين. وقد دل على ذلك من فحوى الكلام في هذه الآية وغيرها من الآيات، وفي قوله: (لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تنبيه أنه لا يظلم خلقه. فمن لا يحب شيئاً لا يتعاطاه مع استغنائه عنه. إن قيل: ما وجه إعادة ذكر عذاب الكافرين وثواب المؤمن العاقل الصالح في هذا المكان؟ قيل: إن ذلك مقترن بمخاطبته عيسى، وهو قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) وتقديره: الذين كفروا بك، آمنوا بك. لكن حُذِف ذلك اختصار.

(58)

قوله عز وجل: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) التلاوة والتنزيل والقص متقارب، لكن يقال: التلاوة اعتباراً بمساوقة بعض الكلام بعضاً بالولاء، والإِنزال اعتباراً بإخبار الأعلى الأدون، والأرفع للأوضع. والقَصُّ اعتباراً باقتطاع الخبر على ما هو به، وقصَّ أثره. والحكيم: المحكم، إشارة إلى قوله: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ). ويجوز أن يكون بمعنى فاعل، كأنه ناطق بالحكمة وفاعل لها، لا لاقتضائه إياها. وقوله: (ذلك): مبتدأ، و (نتلوه): خبره، وقيل: ذلك تقديره: الذي، و (نتلوه): صلته، والخبر قوله (من الآيات)

(59)

وتلاوته: إنزاله، ويجوز أن تُجعل تلاوة جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأوليائه تلاوة لمّا كان بأمره، فأفعال أوليائه قد تنسب إليه، كقوله عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا). وقوله في موضع آخر: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ). قوله عزِ وجل: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) لما ذكر تعالى مكان عيسى من الفضيلة، وما آتاه من المنزلة. كَذَّبَ النصارى فيما ادعوه من بنوته،

وبيّن كيفية خلقه من غير ذكر. إن قيل: كيف يكون عيسى مثل آدم وآدم لم يضمّه رحِم؟ قيل: إن ذلك تكذيب للنصارى فيما ادعوه. وذلك أن أهل نجران قالوا: ما رأينا ابناً بلا أب؟ فأنزل الله ذلك تبيينا: أن ليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم. إذ هو لم يُخْلق من ذكر ولا أنثى وعلى نحوه دلّ قوله: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ). إن قيل: لِمَ قال: (عِنْدَ اللَّهِ). أهو يشبهه عند الله دون غيره؟ قيل: عنى بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ). في حكمه، وأن ذلك لا يشق عليه كما لم يشق عليه أن خلق آدم من غير أبوين. إن قيل: ما معنى قوله:

(كُنْ) بعد أن خلقه من تراب؟ قيل: معناه كن إنسانا حيّا ناطقا، وهو لم يكن كذلك، بل كان دهرًا جسدًا ملقى لا روح فيه. على ما رُوي في الخبر، ثم جُعل فيه الروح، وجعل كن عبارة

عن إيجاد الصورة التي بها صار الإِنسان إنسانا، وعلى هذا قال: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فالمقول له الجسد، وقد تقدم الكلام في كن. إن قيل: لِمَ قال: (فيكون) ولم يقل فكان؟ قيل: يكون عبارة عن حال كونه، وحكاية الحال هكذا يُخرجُ نحو قولهم: فلان قال أمس كذا فيُفعل به كذا. إن قيل: لِمَ رُفِعَ يكون ولم يُنصب على جواب الأمر؟ قيل: جواب الأمر يجب أن يكون غيره، نحو: ائتني

(60)

فأكرمك، وتقديره: ائتني فإنك إن تأتني أكرمك، ولو جُعل فيكون جواباً لكان، تقديره كن، فإنك إن تكن تكن، وهذا لا يصح؛ لأن معنى الجواب معنى الشرط، وإذا رُفِعَ فتقديره: فهو يكون. قوله عز وجل: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) الامتراء: استخراج الرأي للشك العارض، ويُجعل عبارة عن الشك، وإنما قال: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ولم يقل ممترياً. ليكون فيه ذم من شك في عيسى. وقوله (الْحَقُّ) خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره (مِنْ رَبِّكَ). ونبّه أن الحق في

(61)

ذلك، بل في الأمور كلها ما يكون مصدره من الله تعالى. وقوله: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وإن كان خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالمقصد به عام. قوله عز وجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) أصل البهل: ترك الشيء غير مراعى، من قولهم بهلْتُ الناقة: تركتها بلا صرار. واللعن: الطرد، وقد يستعمل البهل بمعنى

اللعن، وقد تقدّم أن لعن الله قد يكون بمنع التوفيق عن الكافر وتركه وشؤمه، وهذا نهاية الخذلان. وتَعَالَ: قال أهل اللغة أصله أن يدعو إلى - مكان رفيع. ثم جُعِلَ عامًّا في الدعاء إلى كل مكان. والأولى أنه دعاء الإِنسان إلا ما فيه علو منزلة: إما على الحقيقة، وإما على سبيل الفضول، كقولهم: هلّم إلى السعادة. وقوله: (حاجّك فيه) أي في كون عيسى عند الله كآدم. وقيل في قوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

وكلا القولين واحد في التحقيق، لأن كليهما في أمر عيسى، والآية نزلت في نصارى نجران، إذ عارضوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام. ويقال: لما نزلت أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين

وعلي وفاطمة. ثم دعا النصارى إلى المباهلة فأحجموا. وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارًا. فلم يبق نصراني ولا نصرانية. وقال بعضهم: وفي هذا إشارة إلى

(62)

ظهور بطلان الدعاوى الكاذبة عند أهل الحقائق. قوله عز وجل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) أي أن ما قصّ الله عليكم من أمر عيسى هو الحق، وأن المستحق لعبادته هو الله، لا إله غيره، وأن لا عزّة ولا عزّ ولا حُكم ولا حِكمة إلا له تعالى في الحقيقة، فهو الذي لا تلحقه ذِلّة ولا تعتريه جهالة، وكل من حصل له شيء من العزّ والحكم فمنه مستفاد. والقصص: كل خبر مقتطع

على وجهته من قولهم: قصصت أثره، وقصصتُ الظفر. وهو اسم للمقصوص: كالقبض والنقص، للمقبوض والمنقوص. وظاهر قوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) أبلغ من قولنا: وما إله، لاستغراقه، ولا يصح جرّ لفظ الله على البدل من إله، لأن من هذه لا تدخل إلا على كل نكرة غير موجبة، فإذن لا يكون إلا رفعاَ رداً على موضع (مِنْ إِلَهٍ)، وأعاد ذكر الله ظاهراً على

(63)

طريق التعظيم، وخص (الْعَزِيزُ) تنبيهاً أنه تعالى مستغن عن التكثر بالولد على ما تقدم، وفيه تنبيه أنه أظهر عزته عما ينسب إليه من الولد بما قدمه من الحجة، وأنه حكيم لا يفعل ما ينافي حكمته، واتخاذ الولد مما ينافي حكمته. قوله عز وجل: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) أي إن أعرضوا عن الإِصغاء إلى الحق والتزامه، وعن الإِجابة إلى المباهلة، فإن حالهم في كونهم مفسدين ظاهرة، وعقوبتهم واجبة، فهو تعالى معاقبهم. قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) قال محمد بن جعفر والحسن والسدّي: عنى بأهل الكتاب هاهنا

نصارى نجران، وقال قتادة والربيع: عنىِ يهود المدينة. وقيل: عنى الفريقين، لقوله في ذمهما: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)

و (سَوَاءٍ) وسوى: وسط، ويعني به العدل. وقول الربيع وأبي العالية (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) هي لا إله إلا الله، فصحيح، لأن أبلغ العدالة التوحيد، وهي

الكلمة التي يجب أن يتساوى الناس فيها، وفي أن يكونوا عابدين غير معبودين، بخلاف ما ادعته النصارى، ونبه بقوله: لا نشرك أن قولهم يقتضى الشرك، وإن كانوا منكرين أنهم مشركون، وموضع (أَلَّا نَعْبُدَ) خفض بدل من كلمةِ، أو رفع على أنه خبر ابتداء مضمر، كأنه قيل: وهي ألا نعبد، ولو رُفع سواء، نحو قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) جاز

وكذلك يجوز رفع (أَلَّا نَعْبُدَ) على معنى: أنه لا نعبد. وقال بعض الصوفية: نبهّنا الله تعالى بهذه الآية على طريق التعبد، وأن لا نقصد بسرنا سواه عند عبادته، ولا نفزع في شيء من الحاجات إلى غيره، فنكون كمن وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ". إن قيل: فأي حجة في قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا) قيل: إنه تعالى أدبنا بأن المعاند متى لزمته الحجة وبانت له المحجة فليس إلا التقضي منه وترك

محجته وملاحاته. إن قيل: كيف قال: (وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) وكلاهما أفاد ما أفاد قوله (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ)؟ قيل: ليس كذلك، فإن الشرك بالله قد يكون في غير العبادة. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

"الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء". من ذلك قول القائل: لولا الديك لأتانا اللص. وقال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ). وقوله: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ). فقد شرط من دون الله

(65)

وهنا هو الكفر، فأما المملوك إذا اتخذ صاحبه ربًّا لا أنه معبود فليس بمنهي عنه. قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) قال ابن عباس والحسن والسدي: اجتمع أحبار اليهود ونصارى نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا في إبراهيم. فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديَّا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيَّا، - فأبطل الله دعواهما، وبيّن أن ذلك محال، لأن المتقدم لا يكون

منسوباً إلى المتأخّر ومقتدياً به. إن قيل: فإن اليهود والنصارى لم يدّعوا أكثر من أن شريعتنا مساوية لشريعة إبراهيم، وهذا قد ادعاه المسلمون، فإن أمكننا أن نلزمهم. ذلك أمكنهم أن يعارضوا بمثله؟ قيل: إنّا لم ندّع أن إبراهيم منسوب في الشريعة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - كما ادعوه، وإنما قلنا كان حنيفا مسلما، والحنيف المستقيم والمائل إلى الحق، والمسلم المطيع والمستسلم للحق، وهذا من الأسماء التي يتخصص بها كل ذي حق، ولهذا قال:

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، واليهود منسوب إلى يهودا. والنصارى إلى ناصرة، وهما نسبتان حصلتا بعد إبراهيم. فكذبوا في نسبته إليهما، ثم المسلمون موافقون لإِبراهيم في كثير من الأحكام: كحج البيت، والختان، والمضمضة وغير ذلك. وهم يخالفونه في أكثر ذلك، وأيضا فقد ورد في القرآن أن شريعتنا

(66)

موافقة لشريعته فيما حكى، وهذا ظاهر، ونبّه بقوله (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أن ما يقولونه ويفعلونه بخلاف مقتضى العقل. وأن العقل يزجر عن اتباع دعوى بلا حجة. قوله عز وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) ها للتنبيه عمّا يضلّ عنه الإِنسان أو يغفل، تقول ها أنا ذا. تنبيهاً لمن غفل عنك. فإن قيل: فهب أن الإِنسان يغفل عن غيره، فكيف يغفل عن نفسمه، حتى يقال: ها أنتم؟ قيل: فليس حقيقة (هَا أَنْتُمْ) تنبيه المخاطب على وجود ذاته، وإنما هو تنبيه على أحواله التي غفل عنها، فالإِنسان قد يغفل عن كثير من معايبه لشغفه بنفسه، فيحتاج أن ينبّه عليه، ولهذا لا يقتصر علي قوله:

(67)

(هَا أَنْتُمْ) حتى يُضم إليه حالة ما، مما غفلواْ عنه، وفي الآية تنبيه على حالة غفلوا عنها، وهي أنهم حاجوا فيما لا علم لهم به. ولم ترد به التوراة والإنجيل، فيقول: هب أنكم تحتجون فيما ورد به كتب الله المتقدمة فلِمَ تحتجون فيما ليس كذلك؟ ونبَّه أن المحاجة إعلام الحجة، ومن لا يعرفها فكيف يُعَرّفُها؟ وفي قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) استدعاء لأن يسمعوا، كقولك لمن أخبرته بشيء لا يعلمه: اسمع فإني أعلم ما لا تعلم، و (هَؤُلَاءِ) هاهنا جار مجرى الذين و (حَاجَجْتُمْ) صلته. وقيل: بل هو تابع لأنتم جار مجرى عطف البيان، و (حَاجَجْتُمْ) هو الخبر، والمعنى لا يتغير باختلاف التقديرين. قوله عز وجل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) أنكر الله عليهم محاجتهم في

(68)

إبراهيم، واستجهلهم فيما ادعوه، وأنه كان على إحدى الملتين اليهودية والنصرانية، وبتّ الحكم على كونه حنيفاً مسلماً على ما تقدم، ثم بيّن أنه لم يكن من المشركين؛ تنبيها أن اليهود والنصارى فيما ابتدعوه وادعوه مشركون .. قوله عز وجل (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) قد تقدم معنى الولاية والاتباع، وأنه تارة يكون بالسنن وتارة يكون بالاعتقاد. وهذا الثاني هو المراد، ومعنى الآية أن أصدق الناس موالاة لإِبراهيم من تبعه في اعتقاده وأفعاله، وهذا النبي والذين آمنوا هم المتبعون له، فإذن هم أحق به، فعلى قوله: (وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)

مبتدأ محذوف الخبر، وقيل: عنى بقوله الذين اتبعوه: المتبعون له في زمانه، وقوله: (وَهَذَا النَّبِيُّ) معطوف عليه. إن قيل: لِمَ أفرد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المؤمنين؟ قيل: لأنه هو المقصود بالولاية، والمؤمنون غير الذين آمنوا وهم تابعوه، ويجوز أن يُجعل المؤمنون عاماً، ويكون إفراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيما له كإفراد جبريل وميكائيل عن الملائكة، وقدم ذكره تشريفا له، كقوله:

(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ) فقدم ذكرهما، وإن كانا من جملة النبيين، وإنما قال: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل: وليهم. تنبيها أن موالاة الله تعالى تُستحق بالإِيمان، وأنها ليست بمقصورة على من تقدم ذكرهم، بل ذلك لكل مؤمن في كل وقت. والولي هاهنا يُحتَمَلُ على وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى الفاعل. ولما ذكر حال إبراهيم ومشاحّة الناس في الانتساب إليه نبّه بقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أنّ إبراهيم استحق منزلته. والثاني: أن يكون بمعنى الموالىَ، أي المؤمنون هم الذين يوالون الله. فأما الكفار فيوالون الشيطان، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

(69)

قوله عز وجل: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) الطائفة: جمع طائف وهو الذي يطوف، وذلك اعتبارا بطوافهم بالبيت وغيره من متعبدْاتهم، ولطوافهم في أسفارهم، ثم سُمي كل جمع طائفة. طافوا أو لم يطوفوا، كتسميتهم بالرفقة، ترافقوا أو لم يترافقوا. والإِضلال: فعل ما يحصل عنده الضلال، ويقال ذلك له لقَصْدِ الفاعل ذلك أولاً، لأنه يقال مفازة مضلة، كما يقال: أضلني فضللت، ويقال: أضله، سواء فعل ذلك بِدعًا أو بغيره، كما يقال: أضله الشيطان، قال تعالى حكاية عنه:

(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) لكن الإضلال متى كان معه الضلال لا يصح أن يُنفى، فيقال: ما أضل المؤمن، ويقال تارة الشيطان، وإذا لم يكن معه الضلال صح النفي فيه والإثبات جميعا، ويقال تارة: الشيطان أضلّ المؤمن ولم يضل. والود ضرب من المحبة، ويستعمل في معنى التمني، فمتى قُصدَ به التمني استُعمل معه: أن، وتارة: لو، يقول: وددت

لو خرجت، ولا يجوز إدخال لو فيه إذا أُريد معه المحبة. وإذا كان بمعنى المحبة يتعلق بالأزمنة الثلاثة، وإذا كان للتمني فليس إلا للاستقبال. بيَّن تعالى أن طائفة من اليهود والنصارى يتمنون أن يفعلوا ما يؤدي المسلمين إلى ضلالهم وهلاكهم، وكل ما يفعلونه يؤديهم إلى هلاك أنفسهم، ثم بيَّن أنهم لا يشعرون

أنهم يضلون أنفسهم، وإنما قال: (لَا يَشْعُرُونَ) مبالغة في ذمهم، وأنهم افتقدوا المنفعة بحواسهم، كقوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وقول من قال: الآية تدل على أن المعارف مكتسبة بقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ)، فبعيد عن تصور الفرق بين قولهم: يشعر ويعلم، ورُوي في سبب نزول هذه الآية: أن قوما من اليهود دعوا عمار بن ياسر

(70)

وحذيفة بن اليمان إلى اليهودية. قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) الشهادة: الإخبار بالشيء عن مشاهدة: إما ببصر. أو ببصيرة، ثم يُعبر بها عن المعرفة القتضية لصحة ما يدعي، وإن كان المدعى عليه منكرا بلسانه كقولك لخصمك: أنت تشهد أن الأمر بخلاف ما تذكره. فقوله: (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) منهم من خص، فقال: عنى بذلك الآيات المنزلة على محمد - صلى الله عليه وسلم -

ومنهم من قال: عنى الآيات التي تدل من الكتابين على صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) يعني شهادة بالقلب دون اللسان، أو عنى ما يكون من شهادتهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ). وقيل: معناه: وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب: لم تلبسون الحق بالباطل، تنبيها أنهم يفعلون ذلك حماية على رياستهم وعصبية لملّتهم، لا جهلًا بالحق، بل هم يعلمون.

(71)

قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71). لبس الحق بالبطل على ثلاثة أوجه: الأول: أن يُحرِّف الحق، فيُجعل في صورة الباطل. والثاني: أن يُزين الباطل، فيُجعل في صورة الحق. الثالث: أن لا يُميّز أحدهما عن الآخر مع الإمكان. وقد فُسّرت الآية على الأوجه الثلاثة. قال الحسن وابن زيد: هو تحريف التوراة والإنجيل،

وقال بعضهم: هو الكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مع المعرفة بصدقه، وقيل: هو ما ذكره تعالى من بعدُ في قول بعضهم لبعض (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ). وأما كتمانهم الحق فما كتموه من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي دَلّ عليها إشارات التوراة والإِنجيل، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتمان العلم بقوله:

"من سُئل عن علم فكتمه. . . " الخبر، وعنى بالآية كتمانه مع وجوب إظهاره: فأما صيانة الحكمة عمن لا يستحقها؛ إما لقصوره عن الوقوف عليها، أو خوفاً أن يجعلها ذريعة إلى فساد، فذلك واجب. وقوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعرفون الحق

الذي تكتمونه، والتلبيس الذي تاتونه. إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقال فيما قبله: (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)؟ قيل: الذي نفى عنهم ما ادعوه من كون إبراهيم يهوديّا أو نصرانيا. وليس ذلك في كتابهم. وما أثبت لهم هاهنا وقفوا عليه من كتابهم من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجحدوه، وهذا غاية الذم، إذ جحدوا ما علموا، وادعوا ما جهلوا.

(72)

قوله عز وجل: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) الوجه: أصله الجارحة، ولما كان هو أول ما يستقبلك، وأشرف ما في البدن، تارة يُستعملُ في أشرف الشيء، فيقال: هذا وجه كذا، وتارة في مبدئه، نحو: وجه النهار. وقوله: (آمِنُوا) أي أظهروا الإِيمان، وقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) أي آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. والطائفة التي قالت ذلك قال قتادة والربيع: هم اليهود بعضهم لبعض،

وقال الحسن: يهود خيبر، قالوا: ليهود المدينة فخصص. ومعنى الآية قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الفجر إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله ذلك في آخر النهار، فقال: آمنوا بصلاتهم وجه النهار إلى بيت المقدس، واكفروا بصلاتهم في آخر النهار إلى الكعبة، لعلهم يتركون إذا رأوا التواءكم عليهم، وعبَّر عما فعله المسلمون بالإِنزال إليهم. لا أنهم أقروا بأن ذلك منزل، ولكن على حسب ما قاله المسلمون واعتقدوه. وقيل: ليس القصد في الحقيقة إلى صدر النهار وآخره. بل لما عجزوا عن صرف المؤمنين عن موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - مكاشفة، قالوا: إذاً مروهم بأن يساعدوهم مرة ويخالفوهم مرّة؛ ليحتالوا على صرفهم عن اتباعه بذلك، فحذّر الله المؤمنين منهم

ليحترزوا. ومنهم من حمل وجه النهار وآخره على مجاز آخر، فقال: معناه آمنوا في الظاهر، واكفروا به في الحقيقة. وذلك هو المُعبر عنه بقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. وقيل: فيه وجه رابع، وهو أن علماء اليهود وكانوا قد حدّثوا قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخبار له وُجِدَت على ما أَخبروا به، ثم لما رأوا رياستهم تبطل به ندموا، فقال بعضهم لبعض: قد أخبرنا اليهود بما أخبرنا، فإن كذبّناه دفعة اتهمونا، ولكن نؤمن ببعض، ونكفر

(73)

ببعض، أي نوهمهم أولا أنا نظنّه صادقا ثم يكذبونه، فهذا معنى (آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ). ولإِظهارهم الإيمان طورًا والكفر طورًا، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) الآية. قوله تعالى: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) في قوله (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ) قولان: أحدهما: أن يتصل بقو له: (وَلَا تُؤمنُو).

والثاني: أن يتصل بقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى) فإذا جعلته متصلًا بقوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا) فتقديره: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد، لكن حُذف الجار لكثرة حذفه مع أن. إن قيل: كيف يصح أن يكون (تُؤْمِنُوا) مفعوله (أَنْ يُؤْتَى) وقد عُدي إلى قوله: (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) و (ءَامَنَ) لا يصح أن يُعدى إلى مفعولين بغير حرف العطف؟

قيل: إنّ اللّام تتعلق به، لا على حدّ المفعول به، وتقدير الكلام: لا تُقرُّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع. وقول من قال: اللام زائدة نحو (رَدِفَ لَكُم) فبعيد، لأن آمن هنا لا يتعدى إلا بالجار. وفي قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) على هذا

قولان: أحدهما: لا تُقِرُّوا أن أحداً عرف محمّدًا كما قد عرفتموه. والثاني: أن خُصّ أحدٌ من العلوم والكراما) بمثل ما خُصصتم. وقوله (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) أي أو أن يجعل الله للمسلمين حُجةً يحاجونكم بها عند الله، فأكذبهم الله تعالى في الأمرين جميعاً وردّ عليهم. أما في الأول فبقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) تنبيهاً أن ذلك يعطيه من يشاء، نحو (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). أمّا في الثاني، وهو قوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) فبقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ). فقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى) اعتراضٌ بين بعض الجملة وبعضها. تسديدا لها وجواباً لهم، وكذلك قوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ)

جواب لهم. والاعتراضُ بين المتصلين من الجملة بما فيه تحقيق لمقتضاها، أو رد لها من بلاغاتِ كلامهم، وعلى ذلك قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ) فقوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) فصل بين اسم إن وخبره، لتحقيق مقتضى الكلام. والثاني: وهو أن يجعل أن متصلًا بقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ)، ويكون كلام اليهود قد انقطع عند قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ).

وفيه أوجه، الأول: ما قاله الكسائي والفرّاء وهو: أنَّ أنْ هاهنا تقتضي معنى لا، كما تقتضيه في قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ومعناه: البيان بيان الله، وقد بين أن لا يُخَصُّ أحدٌ من الأمم بمثل ماخُصِصْتم به أيها المؤمنون،

إذ دين الإِسلام أكمل الأديان، ومصون عن الإِفراط والتفريط. وقد تقدم أن شريعة الله قبل نبينا عليه الصلاة والسلام كانت في حكم النشوء والتكميل، وبه عليه الصلاة والسلام كَمُلت. ولهذا قال. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ويقوي أن معنى (أَنْ يُؤْتَى) لا يؤتى قول الحسن: إن معناه: فلن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المؤمنون. قال المبرد: لا يكون أن في كلامهم مقتضيا لـ "لا"، وإنما تقدير

ذلك: كراهة أن يؤتى أحد، وجعل المعنى بهما تقدم، وهذا التقدير بعيد، لأجل أن أحداً هذا يختص بالنفي وما في معناه. وعلى تقديره، ويكون مستعملًا في الإِيجاب. على أن بعض النحويين ذكروا أن أحداً هاهنا هو المستعمل في الإثبات في نحو قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ). وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) تقديره عند الفرّاء: حتى يحاجّوكم أو إلي أن يحاجّوكم، وذلك على سبيل التبعيد. وعلى قول الكسائي: معطوف على قوله (أن يؤتى) على تقدير أو أن يحاجوكم. وحُكي أنه في قراءة عبد الله: (أن)،

وذكر بعضهم أن قوله: (أَنْ يُؤْتَى) متعلق بفعل مضمر، وتقدير الكلام: قل إن الهدى هدى الله، فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو أن يحاجّوكم، فإن الله عنده الفضل يؤتيه من يشاء. فهذه ثلاثة أوجه في قوله: (أَنْ يُؤْتَى) إذا لم يُجعل متعلقا بما تقدم، وذكر بعض المفسرين أن قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا) كله خطاب الله المؤمنين، لا حكاية عن الكفار، وذَكَر في تفسيره

أوجهًا: الأول: أن يكون تقديره: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى. ويكون ذلك تبيينا أن هذه الشريعة أكمل الشرائع على ما تقدم. والثاتي: أن يكون ذلك حثًّا على موالاة المؤمنين، ونهيا عن مخالطة الكافرين، نحو: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أو نحوها من الآيات. والثالث: أن يكون فيه مع المعنى المتقدم حثَّ على أن لا يصاحب المؤمن من لا تكون طريقتُه طريقتَه. فيُشغل عما هو بصدده، وقال بعض الصوفية: لا تفشو أسرار

(74)

الحق إلى غير أهله، ولا تُصدقوا بظهور كرامة على غير المحافظين على ظاهر الشريعة، إبطالا لمن يدعي الوصول إليه بلا مشقة يتحملها وعبادة يتكلفها، وفي قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تنبيه على سعة غناه وجوده وعلمه بما يأتيه ويدعه، فلا يتهم فيما يفعله ويذره. قوله عز وجل: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) الاختصاص: انفراد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة. والفضل في الإِعطاء: الزيادة على المستحق الذي هو العدل،

وهو المعبر عنه با لإحسان في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) ولأنه من تمام قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تنبيها أنه إذا كان واسعا وعالما، فسعته تقتضي أن يوسع على عباده. وعلمه يقتضي أن لا يحرم رحمته مستحقها، وفضله يقتضي أن يتجاوز تحري العدالة إلى تحري الإفضال، وهو أن يفضل على غير مستحقيه، وإلا لم يكن فضل عظيم. وقول الحسن ومجاهد والربيع: إن الرحمة هاهنا النبوة. وقول ابن جريج: هي

القرآن صحيحان. لأن كليهما داخلان في الرحمة، ولا شك أن من أعطيهما فقد خُصَّ برحمة منه، وكذلك قول من قال: عنى بالرحمة الحسنى المذكورة في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وقول من قال: عنى به الوقوف على حقائق كلامه، الذي خص به خواص عباده الموصوفين بقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)، فكل ذلك داخل في عموم رحمته.

إن قيل: ما فائدة ترك التبيين في نحو قوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وإبهام القول فيه؟ قيل: الفائدة في ذلك أن يبقى رجاء الراجي وخوف الخائف الممدح بهما في قوله: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)، وليقطع بذلك ملاحظات المجاهدات، وليبين أن الإِنسان وإن بذل غاية الجهد في العبادة. فرحمته هي التي تنقذه، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة أحد بعمله "، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته".

(75)

قوله عز وجل: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) يقال: دُمْتَ تدوم ودِمت تَدَامُ. وقال بعضهم: مِت ودِمت، وكل يقول: تدوم وتموت،

وقوله (قائماً) قال قتادة: (قائماً) بالتقاضي والمطالبة. وقال السدي: بالاجتماع معه، وقال غيرهما: القائم بالشيء: المواظب على الشيء، المجتهد في حفظه، نحو قوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) وذلك يدخل فيه ما تقدم من الأقوال، وقد تقدم الكلام في القنطار، ولما ذكر الله تَبَجحَ اليهود بأنهم أوتوا ما لم

يُؤت أحد، أكذبهم الله فذكر خيانتهم، لكن فضَلهم لِمَا كان من جملتهم من له أمانة، وقال قائل: عنى بالذين يؤدون الأمانة المسلمين منهم، مثل عبد الله بن سلام وأشكاله، ورد عليه بعض الناس، وقال: إن الآية نزلت بعد إسلام عبد الله، وهذا الرادّ يتصور أن أهل لا يُطلق على من أسلموا، وليس الأمر كذلك. بل حقيقة أهل الكتاب يتناول من لا يُنكر صدقاً ولا يجحد حقًّا. ولا يتناول من بقي بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه ولم يتبعه إلا مجازا، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)

أي يخونون، ويقولون: لنا إصابة أموال العرب لشركهم، وإلى هذا ذهب ابن عباس فقد قال له رجل:، إنا نمر بأهل الكتاب فنأكل من طعامهم، ونذبح لهم الدجاج، فقال: وتقولون كما قال أهل الكتاب: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)، لا يجوز إلا بطيب النفس). قال الحسن وابن جريج: كانت اليهود عاملوا العرب. فلمّا أسلموا امتنعوا من ردِّ أموالهم، وقالوا: لا يحق لكم بعد أن دخلتم في الإِسلام، وقيل معناه: ليس علينا سبيل لكوننا أبناء الله وأحباءه، ومن عدانا عبيدٌ لنا، ومالهم مالنا فلا حرج

(76)

علينا في تناوله، وهذه أقوال متقاربة، وكانوا قد زعموا أن ذلك دين شرعه الله لهم، فأكذبهم بقوله: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، وذكر أنهم يعلمون أن الأمر بخلاف ما يقولون تعظيما لكذبهم. قوله عز وجل: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) عهده: يصِحُّ أن يُقدَّر مضافًا إلى الفاعل، وأن يكون مضافًا إلى المفعول، فالإِنسان مدعو إلى الوفاء بهما، وقيل: وفي لغة

نجد، وأوفى لغة الحجاز، وقيل: هما كمحمد وأحمد. و (بَكَ) قيل: هو إضراب عن الأول، أي بلى عليهم سبيل، فيكون وقفا، وقيل: فيه مع الإِضراب عن الأول اعتماد على الثاني. نحو أن يُقال: قدم فلان. فتقول بلى طلب كذا فلا يوقف عليه.

(77)

إن قيل: ما وجه قوله: (وَاتَّقَى) بعد قوله: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ)؟ قيل: فيه وجهان: أحدهما: أي يجُعلُ التقوى عامًّا، وإذا جعلت التقوى خاصَّا فلأنها هي المقصودة. إن قيل لِمَ: (يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، ولم يقل: يحبهم؟ قيل: تنبيهًا أن محبته إياهم لأجل التقوى، فإنك إذا قلت: جاءني يزيد الظريف فأكرمته، لم يقتضِ صريح اللفظ أن إكرامك إياه لظرفه، وفي الآية تنبيه على قياسٍ نتيجتُه أن الله تعالى لا يحبُّ اليهود بوجهٍ، وبيانه أن الله يحب المتقين، ومن لا يوف بعهده أفليس بِمُتَّقٍ، واليهود غير موفين، فإذن لا يحبُّهم الله. قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) عهد الله متضمن لكلِّ عهد عَهِد إليهم بما ركبَّه تعالى في عقولهم، وما عهد إليهم على لسان أنبيائهم، ولما أخذه الإِنسان على نفسه من أمرٍ التزمه بنذرٍ، أو يمين، أو حلف، أو عقد مما لا يلزمه من جهة الشرع بغير التزام،

وقد تقدمُ في قوله: (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أنه لم يعن به القلة المعتبرة بإضافة بعض الأثمانِ إلى بعض، بل ذلك باعتبار منافع الدنيا بمنافع الآخرة، فذم الله تعالى من توصَّل إلى نفع عاجل بإضاعة عهد الله، ولكون الوفاء سبباً لعامة الصلاح. والغدر سبباً لعامة الفساد، عظم الله أمرهما، وأعاد في عدة مواضع ذكرهما، فقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا). وقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) وقال:

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) وقال: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ). وكدْلك عظم أمر الإيمان لذلك، فقال: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، وقال عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين فاجرة؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان "، وبيَّن تعالى أن من تحرَّى غدراً آثر به الحياة

الدنيا فذلك بانه لا خلاق له في الآخرة، أي لا معرفة له بها، ولا نصيب له فيها، تنبيها على ما قال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ). وقوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) فمكالمة الله للعبد قسمان: مكالمته إياه في الآخرة، وذلك على أضرب: الأول: مكالمته إياه من غير واسطة، وذلك كحال موسى عليه الصلاة والسلام، حيث وصفه بقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). والثاني: مكالمته إياه بواسطة بشرية، وذلك لمن وصفهم بقوله: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ). والناس في سماع كلام الله تعالى على أضرب: الأول: من يسمع كلامه ويعقل معناه ويعمل بمقتضاه. وهم الذين ذكرهم بقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ). والثاني: من يسمعه أو يعقله ولا يعمل به، وهم

الذين ذكرهم بقوله: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ). والثالث: من يسمعه ولا يعقله ولا يعمل به، الذين ذكرهم بقوله: (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا). وأكثر المفسرين حملوا قوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) على الآخرة، فقال بعضهم: عنى أنه لا يكلمهم كلاما يسرهم. وأما ما يسوؤهم فبلى، فقد قال: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال بعضهم: لا يكلم الكفار بوجه. وإنما يسائلهم بلسان الملائكة،

وقال بعض المفسرين: يتناول ذلك في الدنيا والآخرة، فإنه تعالى يُكلم أولياءه في الدنيا لانتفاعهم بما يسمعونه من كتابه وسائر آياته وآثار صنائعه، ومن لم ينتفعوا بعظاته لم يحصل منه لهم مكالمة، ولهذا قال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً) وقوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) فنظر الله إلى العبد يكون في الدنيا بإفاضة النعمة، وفي الآخرة بالإِثابة،

(78)

ولما كانت نعمة الله الدنيوية عامة للمسلم والكافر، أو نعمته الأخروية محرمة على الكافر، قال: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فخص، وأما التزكيةُ فقد تكون في الدنيا بتوفيقه وإرشاده إلى ما يزداد به العبد بصيرة وفي الآخررة بالإِثابة، وكل ذلك ممنوع من الكافر، ثم قال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، تنبيها أن ثمرة منع هذه الأشياء إيجاب العذاب لهم، أو تنبيها أنهم مع منعه إيّاهم هذه النعم، يجعل لهم زيادة في العذاب الأليم. قوله عز وجل: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

الليّ: من لويت يده، وعنهم لويت الغريم ليًّا ولياناً، فَتَلْتُه عن حقه بمطلة، ولي الألسنة: قيل تحريف اللسان عمّا في القلب. وهو الكذب، وقيل: هو التنطُع والتجمُّل بالكلام لتشبيهه بغيره. وقيل: ليهم بألسنتهم: تحريفهم بالتأويل الباطل، وكما ذم تعالى بعضهم بقلة الوفاء بعهد الله ذم بعضهم بالكذب على الله تعالى، الذي هو أفظع كذب وأشنعه، وعنى بالكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المعني بقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وبالكتاب الثاني التوراة، ونفى أن يكون ذلك من الكتاب الذي هو المنزل (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي من حكمه وإنزاله، إن قيل: ما فائدة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) بعد قوله: (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) أفاد أنهم يشبهون ويروون ذلك. وهذا تعريض منهم، وقوله: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تصريح منهم بالكذب، فوصفهم بأنهم يكذبون

تعريضا وتصريحا، أو تلاوة وتأويلًا، وفي هذا دلالة أن إيهام الكذب قبيح، كما أن التصريح به قبيح، وأيضاً فإن الشيء قد يقال هو من عند الله ولا يكون من الكتاب، فإن كل صواب وحكمة فمن عند الله، وإن لم يكن منزلاً في كتاب، وعلى ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتاكم عني حديث يدل على هدى ويكف عن ردى فاقبلوه، قلته أو لم أقله، فإني قلته". وفائدة (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)

(79)

بعد الذي تقدم ذكره تنبيا أن كلا الأمرين منهم كذب؛ لي الألسنة، وقولهم: هو من عند الله، وإعلام أن ليس كذبهم مخصوصًا بهذين فقط، بل هم كَذَبة كقولك: فلان تقول على كذا وهو كاذب، ثم قال: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تشنيعا عليهم، وأنهم غير معذورين بوجه إذ قد يعذر الإِنسان في بعض ما يظنه، ومن كذب عامدَا إليه وعالما به وهو يقصد به استجلاب نفع دنيوي فهو مستحقّ للذمّ. قوله عز وجل: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

البشر يستوي فيه الواحد والجمع لكونه كالخلق. والرباني: قيل: هو منسوب إلى الربَّان، وهو المتخصصُ بالعلم الذي يربُّه باستفادته وإفادته، وفعلان أكثر ما يجيء عن فَعِل للمبالغة نحو نعسان. وقال الزجاج: الرباني منسوب إلى الربِّ، لكن زِيد فيه ألف ونون للمبالغة في النسبة، كما زيد في: لحياني وجماني قال مؤرج: هو لفظة في الأصل سريانية وأخلِق بذلك فقل ما يوجد في

كلامهم القديم، وإلى ما قدمنا من معناه قال الحسن: معناه: كونوا علماء فقهاء. وقال ابن جبير: حكماء فقهاء. وقال ابن زيد: مدبِّري أمر الناس في الولاية بالإِصلاح. وقال الزجاج: معلمي الناس وهذا كله ألفاظ مختلفة عن

معنى واحد، بيَّن تعالى أنه لن يصطفي علام الغيوب لرسالته من يعلم من حاله أنه يكذب، وأن يأمر الناس أن يعبدوه. وإلى هذا أشار بقوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). وإنما قال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) فذكر باللام لأن قولك: فلان ليس له أن يفعل كذلك. أبلغ من قولك: هو لا يفعل؛ لأن في قولك ليس له أنه ممنوع منه، إما منعا من خارج كالقهر، وإما من داخل من جهة العقل والتزام الشرع، وقد نبّه تعالى بذلك أن الأنبياء ممنوعون عن ذلك من جهة العقل المسدّد، والحظر الوارد عليهم من قبله تعالى، لا منعا من جهة عدم التمكن. وعلى ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) وأما قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) فإنه لما أراد تعالى المبالغة في

النفي أخرج الكلام هذا المخرج، تنبيهًا أن الحكمة تمنع من ذلك، وإن كان منزها عن أن يوصف بمنعِ على وجه. وقال الجبّائي: ليس قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) على سبيل التحريم. لأن هذا محرّم على جميع الخلق، قال: ولو كان ذلك تحريماَ لم يكن تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح، لأن من ادعى على إنسان قولا، فقال: فلان لا يحلُّ له كذا. لا يكون مكذّبا لدعواه، قال: وإنما أراد الله بهذا القول تكذيبهم، وما قاله فيه قصور نظر، فإن النصارى أقرُّوا بأن المسيح لم يكن يدعي ما لم يكن له أن يدعي، فإذا أقروا بذلك، وبيّن تعالى أن ليس له ولا لأحد من البشر أن يقول ذلك، كان فيه إلزام واضح، وكأنه قيل: قد ثبت أن المسيح لم يكن يدعي ما ليس له دعواه، وثبت أنه كان بشرا بما تقدم في هذه السورة وغيرها، ولم يكن لأحد يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله. وإن المسيح قد أوتي الكتاب والنبوة، فإذن محال أن يدعو أحدا إلى

عبادته، وقوله: (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ) بالرفع على الاستئناف وبالنصب على العطف، أي لا يجتمع الأمران: إثبات النبوة. وقوله: (كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقوله: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)، يعني: ولكن يقولوا: كونوا ربانيين، حكماء أولياء لله. فقد قيل: إن لم يكن العلماء أولياء لله فليس لله في الأرض ولي. وقيل: كونوا متخصصين بالله تخصصا تُنسبون إليه، وتوصفون بعامة أوصافه نحو الجواد والودود والرحيم. وقيل: كونوا من المتخصصين بالله الذين وُصِفوا بقوله: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به " الخبر.

وقيل: كوثوا متخصصين بالله غر ملتفتين إلى الوسائط كأبي بكر لما قال حين موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، واضطربت أسرار عامة الناس: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ". وقد قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ .. ) الآية، وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ) أي بكونكم عالمين أو معلّمين على حسب القراءتين في تعلمون وتُعلِّمون، ولا تحتاج لفظة ما هاهنا إلى ضمير، كما هو في قوله: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا)، لكونه في

تقدير أن، ومعنى (تَعْلَمُون الكتابَ) أي تعرفونه كقوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ). وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ). وإذا قرئ (تُعَلِّمُونَ) فمعناه تعلمون الناس الكتاب، وقوله: (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) مما يصح أن يوصف به العلم والمعلم، ومعنى (بِمَا كُنْتُمْ) أي كونوا معلمي

(80)

الخير بما علمتم، أوكونوا حكماء علماء عاملين بما علمتم. فإن الحكيم في الحقيقة من عمل بما علم، وكان محكماً لعمله إحكامه لعلمه. وإذا قرئ (بِمَا كُنْتُمْ تَعَلَمُونَ) فمعناه كونوا عاملين بما تعلِّمون غيركم إشارة إلى فحوى قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ). قوله عز وجل: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) (وَلَا يَأْمُرَكُمْ) قرئ مرفوعاً على الاستئناف، ومنصوبا على رده إلى قوله: (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ). وفي قراءة عبد الله: "ولن يأمركم". وقوله: (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

أي بعد أن كنتم على دين إبراهيم، أو بعد أن تبعتم النبي فيما دعاكم إليه، وهذا كلام يقتضي قياسا بيانه: النبي لا يأمر المسلمين بالكفر، وهذه مقدمة دل عليها قوله: (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ). لأن هذا الإنكار يقتضي أبلغ نفي والأمر باتخاذ النبيين والملائكة أربابا أمرٌ با لكفر، فإذن لا يكون ذلك من الأنبياء.

(81)

قوله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ) إذا قرئ بالفتح فلفظة ما تحتمل وجهين. أحدهما: أن تكون موصولاً وتقديره: ما أتيتكموه، كقوله: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أي بعثه الله، والراجع إليه من قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ) أحد شيئين: إما محذوف، أي جاءكم رسول به، وإما لأن قوله: (لِمَا مَعَكُمْ) هو في المعنى: الكتاب

فاستغنى به عن الضمير، كقولك: الذي أتاني لا أضرب عمرا. إذا كان عمرو هو الذي أتاه، وهذا أجازه الأخفش، وعليه حمل قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي لا يضيع أجرهم، وجاز ذلك لما كان من يتقي ويصبر هم المحسنون. والوجه الثاني: أن تكون ما للجزاء وتكون مفعولا من (آتَيْتُكُمْ)، و (جَاءَكُمْ) في موضع الجزم معطوف عليه، واللام الداخلة على (ما) هي الموطئة للقسم،

والتي في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) للقسم كاللامين في قوله تعالى: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي)، وعلى هذا حمل سيبويه الآية، وقال: وسألته - يعني الخليل - عن قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ) فقال ما هاهنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على إنْ حين قلت: لئن فعلت لأفعلن. وعنى بقوله: إن ما بمنزلة الذي، أنه اسم لا حرف، كما هو حرف في قوله: (لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ولم يرد أنها موصولة كالذي، وإنما لم يجعله كالذي لعدم الضمير الراجع إليه في قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ)

فإن قيل: فمن جعل ما موصولاً في قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) وجب أن يكون ابتداء، فما خبره؟ قيل: خبره (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ)، والضمير في (بِهِ) هو راجع إلى ما، وفي قو له. (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إلى الر سول، ولا يجوز أن يرجع في قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) إلى الرسول أيضاً، لأنه يبقى المبتدأ بلا عائد إليه، فأما من جعل (ما) جرًّا فلا يحتاج إلا ضمير، لأنه حينئذٍ مفعول، والمفعول لا يحتاج إلى ضمير يرجع إليه، وأما من قرأ "لمِا أتيتكم" بالكسر فمعناه: أخذ الله الميثاق منهم لأجل الذي آتيتكم، وما لا تكون هاهنا إلا موصولة، والكلام في رجوع الضمير إليه قد تقدم وقُرى "لمّا آتيتكم" أي أخذ الله ميثاق

النبيين حين آتيتكم الكتاب، ثم جاءكم رسول، ولما ذُكر حكى لفظ الميثاق المأخوذ عليهم أي، قوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إلى قوله: (مِنَ الشَّاهِدِينَ). واختلف فيمن أخذ عليه الميثاق، فقال بعضهم: أخذ من الذين منهم الأنبياء، وتقدير الكلام أخذ الله ميثاق أمم النبيين. ورُوي أن الربيع قرأ "وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب. وقال: هكذا أنزل وأخطأ الكاتب، ألا ترى أنه قال: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ)،

وحُكي أنه هكذا في قراءة ابن مسعود، وقال بعضهم: أخذ ميثاق النبيين أن يُبشر المتقدم بالمتأخر، ويُصدق المتأخرُ

المتقدم، وأن يخبروا كلهم بكون محمد خاتم النبيين. قال السدي: ما بُعث نبي من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه لتؤمنن بمحمد إن خرج وهو حي، وفي هذا تنبيه أن كل زمان بالشريعة التي خصه الله بها أولى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان موسى حيًّا لما وسعه إلا اتباعي ". والصحيح أن العهد مأخوذ من الفريقين من الرسل والمرسل إليهم، لكن خص الأنبياء بالذكر لكونهم الرؤوس وكون الأمة تبعًا لهم، وكذلك خص النبي في كثير من المخاطبة التي تشاركه فيها أمته نحو (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ)،

ولأنه إذا أخذ الميثاق على الأنبياء فقد أخذ على أممهم لمشاركتهم أنبياءهم في عامة ما شرع لهم، وأما كيفية أخذ هذا العهد، فقد قيل: كان ذلك بقول وأمرٍ من الله للأنبياء بأن يخبروا قومهم بذلك، وقد قيل: إن ذلك بما ضمنه عقولهم أن الحق حيث ما وجد يجب أن يتبع، ولما أخبر الله تعالى في الآية المتقدمة أن ليس لأحد ما ادعاه من قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ) ذكر هاهنا أنه تعالى لم يخلِ الأنبياء مع كونهم مأمونين على الغيب من أخذ ميثاقهم بمظاهرة البعض البعض. وقوله: (فَاشْهَدُوا) قيل معناه اعلموا، فإن الشهادة وقت التحمل هو العلم، ووقت الإِقامة هو الإِخبار، وقوله: (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) على حد ما تقدم في قوله: (شَهِدَ اللَّهُ).

(82)

قوله عز وجل: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) لما كان الفسق هو الخروج عن أمر الله وطاعته، وكان بين أدنى منزلة وبين أقصاها بون بعيد صار له منازل كثيرة، فيطلق تارة على الذنب الصغير، نحو قوله: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)، وتارة على الكفر والشرك، نحو (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا)، وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)، وعلى هذا استعمال الفاسقين هاهنا). ودخول الفاء في قوله فاولئك لتضمن (مَن) معنى الشرط. قوله عز وجل: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) حمل (أَسْلَمَ) على الاستسلام وعلى الاعتقاد والإِقرار باللسان،

والتزام الأحكام، وقيل في ذلك أقوال: الأول: له أسلم من في السموات طوعاً، وهو أن علمهم بوحدانية الله وصفاته ضرورة لا استدلال، وعامّة أهل الأرض كرهاً بمعنى أن الحجة أكرهتهم وألجأتهم كقولك: الدلالة أكرهتني على القول بهذه المسائل، وليس هذا من الكره المذموم. الثاني: أسلم المؤمنون له طوعاً، والكافرون كرها، إذ لم يقدروا على أن يمتنعوا عليه مما يريده بهم، ويقضيه عليهم. الثالث: عن قتادة: أسلم المؤمنون له طوعاً في حال الصحة والأمن، والكافرون كرهاً عند الموت،

حيث قال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا). الرابع: عنى بالكره من قوتل، وأُلجى إلى أن يؤمن. الخامس: عن أبي العالية ومجاهد أن كلَّا أقرَّ بخلقه إياهم، وإن أشركوا معه، لقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). السادس: عن ابن عباس: أسلموا باحوالهم الناطقة جميهم. وذلك في الذرْء الأول)، حين قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)

وقيل: معنى ذلك دلائلهم التي فطروا عليها، التي هي العقل والتمييز المقتضيان لإِسلامهم طوعا أو كرها، وإلى هذا أشار بقوله: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ). السابع: عن بعض الصوفية أن من أسلم طوعا هو من طالع المثيب والمعاقب دون الثواب والعقاب، فأسلم رغبة ورهبة، ونحو هذه الآية قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) وفي هذه الآية حجة بينة أن طاعة الله هي التي يجب أن تكون المبتغى والمطلوب،

(84)

لأن كل ما سواه مما يتقرب إليه، فقد أسلم لله طوعاً أو كرهاً. قوله عز وجل: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) قد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة إلا أنه يقال: كيف قال هاهنا: (قُل) وهناك: (قُولُوَا)، وذكر هاهنا (عَلَيْنَا) وثَمَّ (إِلينَا)، وذكر هناك (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ). وترك ما أوتى هاهنا؟ والجواب: أن (قل) هاهنا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يعتقد ذلك ويبلّغ قومه، وهناك خطاب للأمة أن يعتقدوا وليس يأمرهم أن يبلغوا، وإنما قال هاهنا (عَلى) لأن ذلك لما كان خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان واصلًا إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية، كان لفظ على المختص بالعلوّ أولى به، وهناك لما كان خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بوساطة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لفظ إلى المختص بالإِيصال أولى، ويجوز أن يقال: أُنزل عليه إنما يحُمل

على ما أُمر المنزَّلُ عليه أن يبلّغ غيره، وأُنزل إليه على ما خُصّ به في نفسه، وإليه نهاية الإِنزال وعلى ذلك قال: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)، وقال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فخُصّ بإلى هاهنا لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيانُ المنزل، وهذا كلام أي الأولى، لا في الوجوب، وأما إعادة لفظ (ما أوتي) هناك فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاماً، ومن حُكْم خطاب العامة البسط دون الإِيجاز بسط اللفظ، ولما كان الخطاب هاهنا خاضًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ما قدمنا اكتفى فيه بالإِيجاز. وإن قيل: إذا كان ذلك أمراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله، فكيف قال: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)؟ قيل: إنما ذكر ذلك تنبيهاً أن أمته غير منفردين عنه في هذا الاعتقاد، وغير مكروه لهم أن يبلّغوا ذلك تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف فسح لهم التبجح بذلك مع كون التبجح مذموماً؟ قيل: التبجح هو إظهار الإِنسان

(85)

ما يتطلب به رفعةَ عند الناس، وليس هذا من ذلك، بل هو إظهار التحمد المندوب إليه بقوله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). وإظهار مباينة الكفار بالاعترافِ بالإِسلام، وقصد أن الاستسلام في الإِيمان بهم هو في الحقيقة لله تعالى لا لغيره. قوله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) في الآية قولان: أحدهما: أن الأسلام هاهنا الاستسلام إلى الله. وتفويض الأمر إليه، وذلك أمر مراد من الناس في كل زمان ومن كل أمة وفي كل شريعة، وقدْ

(86)

تقدم أن الدين في اللغة الطاعة وفي التعارف: وضع إلهي ينساق به الناس إلى النعيم الدائم، فبيّن تعالى أن من تحرى طاعة وانسياقاً إلى النعيم من غير الاستسلام له على ما يأمره به. ويصرفه فيه فلن يقبل منه دنيء من أعماله، وهو في الآخرة من الذين خسروا أنفسهم. والثاني: أن المراد بالإِسلام شريعة محمد عليه الصلاة والمسلام، فبيّن أن من تحرى بعد بعثته شريعة أو طاعة لله من غير متابعته في شريعته فغير مقبول منه، وهذا الوجه داخل في الأول، فمعلوم أن من الاستسلام الانقياد لأوامر من صحّت نبوته وظهر صدقه. قوله عز وجل: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)

هذه الآية واللتان بعدها، قيل: نزلت في رجل ارتد. ثم أرسل إلى قومه: اسالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لي من توبة؟ فأنزل الله تعالى ذلك، فعاد إلى الإِسلام وحسن إسلامه. وقيل: نزلت في اليهود، الذين اعترفوا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، ثم أنكروه بعدها، فعلى هذا قوله: (كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) أي

جحدوا بعد معرفتهم، لا أنهم ارتدوا بعد دخولهم في الإِسلام. وقد تقدّم أن الهداية من الله على أضرب: الهداية التي عمَّ بها كل مكلّف، وهو إعطاؤه العقل المميّز بين الخير والشر وبين الصدق والكذب، وهي المعني بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى). والثاني: "زيادة الهدى التي تأتي بقدر استعمال الأول العنيّ بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)

والثالث: التزكية لأعمالهم أو توفيقه في أحوالهم. وهو المعني بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)، والرابع: إدخال الجنّة المعني بقوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) والله تعالى لا يؤتي هؤلاء شيئا من ذلك). أما الثاني والثالث والرابع فلأنهم لا يستحقونه إذ لم يهتدوا بالأول. وأما الأول فلأنهم قد أتاهم ما أمكنهم الاهتداء به. ومن أُوتي من الهداية ما فيه من الكفاية فلم يهتد به،

2271 ب فالزيادة لا تغني ما لم تكن على سبيل القهر المنافي للتكليف. ولذلك قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ) الآية. ثم قال: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تنبيهاً أن الهداية من الله. والظلم من العبد، يتنافيان ولا يجتمعان. فإن الظلم ترك الاهتداء، ومن يهُدى ويترك الاهتداء عناداً لا سبيل إلى هدايته إلا قهراً. وعلى هذا قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168). إن قيل: كيف نفى عن الكافر الهداية في هذه المواضع. وأثبت له في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ)؟ قيل: المتْبت لهم هاهنا هو العقل والتمييز دون الأخرى، التي لا تحصل إلا بعد الاهتداء بهذا، وهذه تارة تُثبت للكافر إذا

أريد أنه مطبوع عليها ومعرض لاستعماله إياها، وتارة تُنفى عنه، بمعنى أنه لم يستعملها، ولم يحصل قبوله على ما يحب. فكأنه في حكم ما لم يعط. وقوله: (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فهو على لفظ الاستقبال. ومعناه لا يفعل به ذلك ثانياً، إذ قد أتاه ما فيه الكفاية. ولفظ (كيف) وإن كان استفهام، فالقصد به

النفي هاهنا، وعلى هذا قول الشاعر: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. ألا هل أخو عيشٍ لذيذٍ بدائم فأدخل الباء في خبر هل لما أراد معنى ليس، إن قيل: على ماذا عطف قوله: (وَشَهِدُوا) فإن ظاهره من حيث المعنى أنه معطوف على قوله (بَعْدَ إِيمَانِهِمْ)، لا يصح عطف الفعل على الاسم. ولا يصح أن يكون معطوفا على قوله: (يَهْدِي اللَّهُ)، لأنه لم يرد كيف يهدي الله قوماً هكذا وكيف شهدوا أن الرسول حق؟ قيل: في ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون تقديره بعد إيمانهم وإن شهدوا، فيكون أن مقدرا، كما هو في قول الشاعر:

للبس عباءة وتقرّ عيني. . . إلا أن إضمار أن في البيت أظهر لانتصاب تقر. والثاني: أن يكون (وَشَهِدُوا) في موضع الحال. أي وقد شهدوا، نحو قوله: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) وقول الشا عر: تقول وصكَّت نحرها بيمينها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. وقوله: (أَنَ ألرَسُولَ حق) أي أنه سيبعث، وأنه منتظر.

(87)

قوله عز وجل: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) قد تقدّم الكلام في ذلك في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) إلا أنه بتَّ الحكم، ثَمَّ قال: (عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ) لِمَا كان ذلك حكماً على قوم ماتوا على الكفر، وقال هاهنا: (جَزَاؤُهُمْ) لما كان حكماً على قوم باقين يرجى صلاحهم تنبيهاً على تضمُّن معنى الشرط، لأن ذلك لهم إن ماتوا على الكفر. قوله عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إن قيل: " لِمَ اقتصر هاهنا على التوبة والإِصلاح. وقال في البقرة: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) أن

يُعَفِّي المذنب ما تقدّم من ذنبه بما يُوفَّى عليه من أفعاله الخير، وكان من ذنب الأحبار الذين ذكرهم في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ)، أن قالوا للناس: ليس في التوراة ما يدل على نبوة محمد. فصار من تمام توبتهم أن يبينوا للناس ما كتموه، ولما لم يكن في الموضعين ها هنا ذلك اقتصر في توبتهم على الإِصلاح. وإنما أتبع التوبة في

عامة المو اضع الإِصلاح، فإن التوبة راجعة في الأصل إلى الاعتقاد والإِصلاح إلى الأعمال. وكلاهما مرادان، وعلى ذلك اتباع عمل الصالحات بعد الإِيمان في كل موضع ذُكِرَا معا. إن قيل: لِمَ قال ها هنا: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال ثمَّ: (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) و؟ قيل: كل واحدة من الصفتين؛ أعني اَلتَوَّاب

والغفور يتضمَّن الأخرى، لكن التوّاب أخصّ والغفور أعم، فذكر حيث ما ذكر أعظم الذنبينْ الضلال والإِضلال التوّاب، وحيث ما ذكر أصغرهما - وهو الضلال دون الإِضلال - ذكر الغفور. إن قيل: لِمَ قال ههنا: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) ولم يقل ثّمَّ؟ قيل: لما وصف ههنا قوما كان منهم إيمان متقدّم. ثم حصل منهم كفر بعد إيمانهم، قال: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) ليبيّن أن الإِيمان المتقدم لا ينفعهم إذ قد أحبطوه وأبطلوه، وأن الذي يُعتدُّ به هو ما يفعلونه من بعد،

ولما لم يكن ثم كفر بعد إيمان متقدم استغنى عن ذكر (بَعْدِ ذَلِكَ).

(90)

ودخول الفاء في قوله: (إِنَّ اللَّهَ) لتضمُّن الكلام معنى الجزاء، كأنه قيل: إن تابوا وأصلحوا يُغْفرْ لهم. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)

قيل: معناه لن تُقبَل توبتهم بعد الموت. وقيل: عند الموت والمعاينة، نحو (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) وقيل: توبتهبم المتقدمة فإن تلك أحبطها الكفر المتعقب. وقيل: نزل في قوم ارتدوا. سورة آل عمر ان، الآية: 90. وهذا مووي عن مجاهد انظر: زاد المسير (1 419)، والبحر المحيط (2 542). وقد رذَ الطبري ذلك قاثلَا: "أنكرنا ذلك، لأن التوبة من العبد غير كاثنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة). جامع البيان (6 583). وهذا قول الحسن وقتادة والسدي، وهو مووى عن مجاهد أيضا، انظر: جامع البيان (6 578، 579)، والوسيط (1 1 46)، ومعالم التنزيل (2 65)، ز زاد المسير (1 419)، والبحر المحيط (2 542)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1 359)، وقد ردَّ ابن جرير الطبري هذا القول أيضا مبئنا أنه لا خلاف في أن ك) افراَ لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين، أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة وساثر الأحكام مما يدل على صحة إسلامه. جامع البيان (6 583). سورة النساء، الآية: 18. وهذا مروي عن عكرمة وابن جريج انظر: جامع البيان (6 580. 581) والبحر المحيط (2 542). قال الطبري:. "وأما قول من زعم أن معنى ذلك: التوبة التي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لأن الله عز وجل= 706

وقالوا: إنا إذا رجعنا قبل توبتنا. وظنوا أن ذلك منهم توبة. فبيّن تعالى أن هذه النية غير مقبولة، وأنها ضلالة. وقيل: معناه: لا تكون منهم توبة مقبولة، كقول الشاعر: على لاحبٍ لا يُهْتَدَى بمناره. . . أي لا يكون فيه منار فيهتدى به، وهذا إخبار عن علمه

(91)

تعالى بحالهم، وقيل: إن توبتهم غير مقبولة في حالِ ما هم ضالون، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان، فالواو في قوله: (وَأُؤلَئكَ) على هذا واو الحال. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91). الفدية: بذل شيء احتراساً من أذى، ومنه فداء الأسير. وقولهم: فديتك. وإدخال الواو في قوله: (وَلَوِ افْتَدَى بِهِ)

لعموم المعنى، ومعناه لا يقبل منهم ذلك وإن أخرجه على وجه القُرْبة في الدنيا، إذ كان لا يتقبّل الله إلا من المتقين. ويجوز أن يعني ذلك في الآخرة، ومعناه: لو ملك ذلك فأخرجه لم يكن ينفعه، وليست الواو بزائدة كما ظن بعضهم، لأنه

(92)

حينئذ يسقط معنى عموم الحالين، وملء الأرض - قيل: هو مقدار ما يملأ الأرض، وقيل: معناه كل ما يتعامل به في الأرض من الذهب، وذلك حسم لطمع من مات على كفره في رحمته. وقيل: وهذه الآية والتي قبلها كالآيتين في سورة النساء (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ .. + إلى آخر الآيتين. قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

البر: التوسع في فعل الخير، وقد تقدم في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) إن البر ينسب إلى العبد تارة، وذلك إذا أطاع الله. وإلى الله تارة إذا أنعم على العبد. وقد حُمِلَ ههنا على الأمرين، فقيل: البر من الله الثواب. وقيل: الجنة، وقيل: الطاعة، ومن الناس من اعتبر ذلك في المال فقط، فالإنسان محبٌّ للمال بالطبع، ولهذا قال تعالى:

(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)، ثم منهم من قال: هذا خطاب للأغنياء، ولذلك قال الحسن: عنى الزكاة الواجبة وما فرض في الأموال خاصة، ومنهم من قال: خطاب للكل، وحثٌّ لهم على ما قدروا عليه من الإِنفاق، وكمن مَدَحَ يقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس، فقال: هذا مما أحبَّه الله، وقد جعلته في سبيل الله، فحمل

عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة، ومنهم من اعتبر ذلك في متاع الحياة الدنيا كله، فقال: لن تنالوا البرَّ إلا بالإنفاق، وبذل الجاه والبدن والنفس، قال: وذلك حثٌّ على جميع المحامد، فإن من تشجَّع وبذل المهجة في طاعة الله فقد أنفق ما أحب،

ولذلك قيل: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجود بالنفس أقصى غاية الجود وقال بعضهم: أحب الأشياء إليك روحك، فأنفقها في الوصول إلى البّر. وقيل: برُّ الله لعبده اطلاعه على دقائق حكمته وحقائق المعقولات، ولا يكون ذلك إلا بترك ما تميل إليه النفوس من المحسوسات من المطعم والمنكح والملبس. وقيل: أعظم البر مجاورة البارّ وقربه، وذلك بإنفاق ما لنا في الدنيا. وقوله:

(93)

(فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي مجازيكم، ولدلالة ذلك على المجازاة جُعِلَ جواباً للشرط. قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) كان اليهود أنكروا تحليل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوم الإِبل، وقالوا: إنها كانت محرّمة على إبراهيم على ما نطقت به التوراة، فكذبهم تعالى، وذكر أنها كانت محلّلة عليه وعلى أولاده إلى أن حرَّمها إسرائيل على نفسه، وهو يعقوب، - وأمرهم بإحضار التوراة، فامتنعوا، ولم يجسروا على ذلك،

لصدق ما أخبر تعالى به، وسبب تحريمه ذلك - قيل: إنما كان مرضا أورثه لحم الإِبل فتركه، وحرّمه على نفسه تحريم المريض طعاما لا يوافقه، لا تحريم شرع. وقال ابن عباس والحسن: أصابه عرق النَّسا، فنذر أن يترك إن عافاه الله أشهى طعام إليه تقربًا إلى الله تعالى، وتحريم اليهود ذلك كان اقتداء منهم به،

وقيل: إنه لما حرَّم على نفسه حرّم الله عليهم، ولذلك قال: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) في الآية حجة عليهم على هذا في جواز النسخ، لأنه حرَّم عليهم ما كان مباحا في شريعة إبراهيم. إن قيل: كيف حرَّم هو على نفسه ما كان

مباحا فأقره الله عليه، وحرّم النبي - صلى الله عليه وسلم - جاريته فعاتبه ومنعه؟ قيل: إن إسرائيل إما أنه حرَّم على نفسه لحم الإِبل، لأنه لم يكن يوافقه. وكان واجباً عليه تركه. فإن الله تعالى جعل الطعام ليتوصل به إلى صلاح البدن. وما يؤدي إلى فساده فواجب علينا تركه؟ وإما أنه حرَّم ذلك تقربا إلى الله كما يُحرم الصائم الطعام، وكما يُحرم المعتكف على نفسه بعض التصرفات، ولم يكن تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - علي أحد هذين الوجهين، بل لما ذكره تعالى: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، ولأن في تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - تضييع حق متعلق به للغير، وهو حق الجارية. وليس ذلك في فعل إسرائيل، وأيضاً فإن

إسرائيل لما حرَّم أشهى الطعام إليه قصد بذلك قمع الشهوة، وبنحو ذلك يهذب الحكيم نفسه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم جاريته تبع هوى غيره، وهو مرضاة أزواجه، وذلك مكروه، فلم يقرَّ عليه،

ذكر بعض الصوفية أن في ذلك تفضيلًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين.

أحدهما: أنه لما حرَّم إسرائيل على نفسه ما أحبه أمضاه، وحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه فعافاه. والثاني: أن بني إسرائيل ما كانوا يلتزمونه مما لم يكن قربة في الشريعة يلزمهم الوفاء به تشديدا عليهم، وعلى ذلك دل قوله: (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم "، ورُفِعَ عن هذه الأمة ذلك فضيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. إن قيل: ما وجه اتصال هذه الآيات بعضها ببعض، لأنه ذكر أولا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) الآيتين ثم ذكر: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ثم عقبها بتحريم إسرائيل الطعام، وذم اليهود؟

(94)

قيل: لما ذكر في الآيتين المتقدمتين ذم اليهود وغيرهم من الكفار. وبين أن انفافهم مع كفرهم غير مقبول منهم، وصل ذلك بقوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ)، لئلا يقرر أن الانفاق غير مغنٍ على جميع الوجوه، فقال: وأنتم أيها المؤمنون إذا أنفقتم فإنما نقبل منكم على هذا الشرط، ثم رجع إلى ذم اليهود وتعديد ما ارتكبوه. فصار قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ) بين الآيتين من الاعتراض المسمى في كتب البلاغة الالتفات. قوله تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

(95)

الافتراء والاختلاق: افتعال للكذب الذي لا أصل له، من افتراء الأديم واختلاقه. والكذب ضربان: اختراع قصة لا أصل لها وزيادة، أو تغيير فيما له أصل. والأول أعظمهما، والمُفترى عليه ضربان: رفيع ووضيع. فالمفتري على الرفيع أعظم ذنبا، ثم المفتري له ضربان: عارف بالفرية. وجاهل بها، فالمفتري العارف بالفرية أوقحهما وجهاً، فبين الله تعالى بالآية أنهم اختلقوا الكذب على الله تعالى، الذي يعلم السر وأخفى، وفعلوا ذلك بعد أن أطلع الله الناس على كذبهم، وبين أن متخذي ذلك في نهاية الظلم، وعلى ذلك في غير موضع: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا). قوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

(96)

معنى قوله: قل اعتقد وأخبر أن ذلك من قول الله تعالى، وهو صادق. وحقيقة قوله: (صَدَقَ اللَّهُ) إقرار بأن الله قد أخبر، فإنه إذا ثبت كونه من خبره ثبت. كونه صدقا، ونبّه أن ما أخبر من قوله: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا) وسائر ما تقدّم صدق، وأنه ملة إبراهيم، وأوجب عليهم اتباعه في تحنّفه أي في استقامته، وفي قوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بهم. كأنه قيل: أنتم مشركون في اتخاذ بعضكم بعضاً أرباباً، وإبراهيم لم يكن مشركاً، فإذن ليس دينكم دين إبراهيم، وكما نفى في قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) أنه منهم نفى في هذه الآية كونه مشركا. قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

قيل: بكة هي المسجد، ومكة الحرم، وقيل: بكة هي البيت. وقيل: هي بطن الحرم وقال مجاهد: هما واحد

كقوله سَبَّد رأسه وسَمَّدَه، أي حلقه، وضرب لازم ولازب. وأصل بكة من التَّباك أي التزاحم، وذلك اعتبارا بازدحامهم لقصده، والطواف به، وقيل: لبَكهِ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا

فيه، ومكة من أمتَك الفصيل ما في الضرع، كأنَّه يجمع أهل الآفاق ويؤلفهم، ولذلك سميت أم الزحم. والبركة: ثبوت. الخير في الشيء ثبوت الماء في البِرْكة. وسميت البركة لثبوت الماء، وأصل الكلمة البرك، وبرك البعير ألقى بركه وبُركاءُ

القتال ملازمته، وتبارك الله تخصُّص بلزوم فعل الخيرات. واختُلِف في بناء البيت، فقال مجاهد وقتادة: هو أول بيت بُني في الأرض،

وقال عليّ: أول بيت وُضِع للعبادة، وهذا الاختلاف لاختلاف التقديرين في الآية، لأنه على الثاني: إن أول بيت وضع للناس مباركاً وهدى للعالمين للذي ببكة، ثم اختلفوا في معنى (أَوَّلَ). فمنهم من اعتبر ذلك بالشرف والمنزلة، فكأنه قيل: أشرف بيت، وعلى ذلك قال مجاهد: هو كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). ومنهم من اعتبر أوليته بالزمان. قال: أول

بيت بعد الطوفان، وهو الذي قال: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ). ومنهم من قال: أول موضع اتخذته الملائكة قبلة

في الأرض، وروى في ذلك أخبارا، وهذا لا يقتضيه الظاهر. لأنه قال: (وُضِعَ للِنَّاسِ)، فخُص بالناس، وعلى هذا اعتبروا (الْعَتِيقِ) في قوله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ونبّه بقوله: مباركاً، أن فيه ثبوت الخير والهداية، وأبهم هاهنا، ثم فسره بما بعده، واختلفوا في المقام، والأمن، فمنهم من حمل المقام على المحسوس)، وقال: إنه أثر قدم إبراهيم على الحجر الصلد.

ومنهم من حمله على الأحكام، وقال: هو موضع الطواف والسعي وسائر أركان الحج، ولهذا قال: (آيَاتٌ)، ثم فسره بمقام وإن كان لفظه مفردا، ومفهم من قال: الآيات هي المعاني المضَمنة فيه التي يستدل بها العارف، والمقام ما تخصَّص به إبراهيم من الخُلَّة التي اكتسبها ببذل النفس والمال والولد. فعلى هذا قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) من العقوبة، وقال

بعض الصالحين: كنت أطوف فخطر لي قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) ترى من أي شيء يأمن؟ فسمعت هاتفاً يقول: من النار. وقيل (كَانَ آمِنًا) من بلايا الدنيا وأعراضها التي تصيب من قال فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). ومنهم من حمل: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) على الحكم. ثم اختلفوا. فمنهم من جعله خبراً، وقال: معناه أن من دخله كان آمناً، وذلك كان في الجاهلية، لأنه لم يكن يُتعرض

لجانٍ يلتجئ إلى الحرم بوجه حتى يخرج، وقال الحسن والأصمّ: من دخله يأمن الاصطلام، ومنهم من حمل ذلك على التعبد، أي في حكم الله، وإن كان في نفسه وجلًا، كقولك: هذا مباح، وهذا محظور، فعلى هذا من جعل الضمير في قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ) للبيت قال: لا يتعرض له بوجه إلى أن يخرج، ومن جعله للحرم فمنهم من قال: من قَتَل في غير الحرم ثم دخله لم يقتصّ منه إلى أن يخرج، لكن لا يبايع ولا يواكل حتى يضطر إلى الخروج. وقال الحسن: يقتص من الكل، وهذا كان حكماً في الجاهلية. ولم يختلفوا أنه إذا جنى في الحرم كان مأخوذاً بجنايته، وعلى

قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) يحمل قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا)، وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)،

وقوله: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)، وقُرئ (آيَةٍ بَيِّنَةٍ). وكأن قارئه نظر إلى لفظ ما أُبدل منه، وهو مقام إبراهيم، فلما كان مفرداً جعل الآية مفردة، والصحيح ما عليه الكافة، فالمقام

(97)

مصدر، ويتناول الواحد والجمع، فإذا اعتبر بالمحسوس فهي المناسك، وإذا اعتبر بالمعقول فأفعال إبراهيم المتقدم ذكرها. قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) السبيل: إمكان الوصول إليه، كقوله تعالى: (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) والاستطاعة: استدعاء الطاعة، كان النفس بالقدرة تستدير طاعة الشيء لها، والقدرة والطاقة، والاستطاعة والجهد والوسع متقاربة، وقد

تقدم ذلك، وقولهم: لا يستطيع كذا. تارة يقال لنفي القدرة. وتارة لنفي الخفة، فإن قوله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) أي يستثقلونه، لا لأنهم لا يقدرون عليه، وتمام استطاعة العبادة

ثلاث: الأول: استطاعة نفسية، وهي المعرفة بها، أو التمكن من معرفتها. والثاني: استطاعة بدنية، وهي أن يكون صحيح البدن قادراً على إقامتها. والثالث: استطاعة من خارج، وهي وجود الآلة التي بها يتمكن من فعلها، ومتى اجتمعت الثلاثة فقد حصل تمام الاستطاعة. وإلا فالاستطاعة معدومة أو قاصرة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الاستطاْعة: الزاد والراحلة"

متناولة للخارجة دون البدنية والنفسيّة، وخصّها - صلى الله عليه وسلم - بالذكر لما كان معلوماً عندهم أن بافتقاد الأوليين لا يُكلَّف. وكأن القوم قد شكوا أن الفقير الذي تبعد مسافته، ولا يتمكن من زاد وراحلة هل يلزمه الحج؟ فراجعوه، فبيّن - صلى الله عليه وسلم - لهم ذلك، ولم تتناول الآية العبد، لأنه لا ملك له في قول جُل الفقهاء، وفي قول بعضهم سيده أولى بما في يده، وله أن يمنعه باتفاق، وكذا المرأة إذا لم يكن لها محرم، هذا قول الفقهاء، فأما الصوفية فقد قالوا: الزاد

التقوى، لقوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) والراحلة صحةُ البدن، وقد عبر عن البدن بذلك في قوله: "إن المنبّت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى". وقال بعضهم: فيه مع إرادة هذا المعنى تنبيه على معنى أبلغ من ذلك البيت جنة المأوى،

لقوله: (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) ولما لم يكن للإِنسان سبيل إلى ذلك إلا بحسن، عبادته صار ذلك حقّا على الناس. ولذلك أكَّد لفظه، وخصّه بما لم يخص به شيئاً من العبادات. فقال (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ). وقال بعض الصوفية: في الحج إشارات اقتضت تأكيد لفظ الأمر به. وذاك أن في العقد به إشارة إلى معاقدة الولاء المعني بقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)، وبالتلبية إلى الإِجابة له فيما دعا إليه، وبالتجرد إلى التجرد من الدنيا، وأنه عاد كما خرج من بطن أمه، وبالوقوف إلى الوقوف ببابه، وبالسعي إلى السعي إليه، وبالطواف إلى محلِّ القربة منه، قال: ولذلك حقّ على المسلم أن يتغير حاله بعد حجه عما كان عليه قبل، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من حج فلم يفسق ولم يرفث كان كيوم ولدته أمه "، يعني لم يفسق ولم يرفث بعد رجوعه من

الحج، ولم يعن في الحج، فإن ذلك مدلول عليه بقوله: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ). وقوله: (وَمَن كفَرَ) قال ابن عباس: من كفر بوجوب الحج عليه، وعلى هذا ما ورد أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "مَنْ إن حج لم يَرجُ ثوابه، وإن جلس لم يخف عقابه " وأما من تركه ممن يري وجوبه لم يكن كافرا

وإن كان عاصيا، وقيل: الكفر كفران: كفر تام، وهو إنكار الوحدانية، أو ما يجري مجراه، وكفر ناقص، وهو الإِخلال ببعض العبادات، التي هي أركان الدين: كالصلاة والزكاة والحج. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك الصلاة فقد كفر"،

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وعليه حج الإِسلام فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديًّا وإن شاء نصرانيًّا". وإنما قال: (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) تنبيهاً أن قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) ليس لحاجة به، وإنما ذلك

(98)

لحاجتهم ونفعهم، إذ هو تعالى الغني المطلق، وغيره وإن استغنى عن شيء ما فغير غني عنه تعالى في شيء من الأحوال، وهو القائم على كل شيء. قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) الذي اقتضى مخاطبتهم بهذا إنكارهم نبوة محمد، ووجوب الحج، والآيات المقتضية لذلك من الكتب المتقدمة ومن القرآن، وبين بقوله: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) أنكم تسترون ما لا يستتر، إذ هو لا يخفى عليه خافية. إن قيل: لم قال في موضع: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) وهاهنا قال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ)؟ قيل: الأول استدعاء إلى الحق فجعل خطابهم منه استلانة للقول، ليكونوا أقرب إلى انقيادهم، وهاهنا لمّا قصد إلى الغض منهم ذكر (قُلْ) تنبيهاً أنهم غير مستأهلين أن يخاطبهم بنفسه تعالى، وإن كان كلا

الخطابين موصلًا على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -. إن قيل: لِمَ صار أهل الكتاب يطلق في القرآن تارة على سبيل الذم، وتارة على سبيل المدح، ولا نجري قولنا: أهل القرآن وأهل السنة هذا المجرى؟ قيل: الكتاب لما كان قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو: (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)، وقد يُراد به ما أنزل الله تعالى، فيكون على سبيل الذّم لأهل الكتاب، وقد يُراد به ما أنزله الله، ويكون على سبيل التهكم، نحو قوله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) فعلى هذا لو قيل: أهل القرآن وأهل السنة على سبيل الذم والتهكم لجاز، وقوله: (لِمَ) وإن كان أصله استفهاماً فالقصد به هاهنا الإِنكار والتنبيه؛ أن لا جواب لهم ولا عذر.

(99)

قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99). يقال: بغيته كذا أي طلبته له، وأبغيته أعنته على بُغَائه، نحو لمسته كذا وألمسته، وحملته كذا وأحملته، والعِوج ما يدرك بالفكر من الاعوجاج. والعَوج ما يدرك بالطَّرف، وقوله: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا). يعني الظلم وما يجري مجراه مما يكون في الدنيا،

ومعناه لا تصُدّوا المؤمنين طالبين لطريقهم الإِعوجاج. وقوله: (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) الشهادة تارة بالعقل نحو (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي عارف بعقله، وتارة بالعقد، نحو قوله: (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وتارة بإقامة ذلك، وقد فُسّر الآية

(100)

بثلاثتها؛ فقد قيل: وأنتم عقلاء تعرفون ذلك بعقولكم. قيل: وأنتم قد أخذ عليكم العهد بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ) قيل: وأنتم شهدتم نبوته قبل بعثته، وكل ذلك مراد فلا تنافي بينها. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) قال السديّ: نزلت في قوم من اليهود، سعوا بين أوس وخزرج بالفساد، وذكّروهم من الأحقاد والأوتار)، فأنزل الله تعالى ذلك، وتلاه عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحجموا عما هَمّوا

به، والطاعة: بذل الانقياد والإِجابة نحوها، غير أن الإِجابة قد تكون بالقول مرة وبالفعل مرة، ومتى كانت بالفعل فهي موافقة الداعي دون الانقياد، ولهذا يقال: أجاب الله عبده، ولا يقال أطاعه، وإنما خص فريقاً منهم لئلا يدخل فيه من قال فيهم:. (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ)، وعنى بالإِيمان هاهنا الخوض فيه دون استكماله المعني بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، فإن من بلغ هذه المنزلة فمحال أن يُردّ على عقبه، ولهذا قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق.

(101)

قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) العصم والعصب يتقاربان، لكن العصم أبلغ، فإن معه الشدّ إمساكا، والأعصم: الوعل المعتصم بالجبل، والعِصَام على بناء الزمام والسِّخَاب، وجمعه عُصُم، واعتصمت به واعتصمته نحو تعلقت به وتعلقته،

والعصمة من الله على ثلاثة أضرب: عامة لكل مكلف، وهي ما يفيض له من العقل، وهدايته بالأمر والنهي والوعد والوعيد. والثانية: لمن اهتدى بالأولى، وهي التي يرغب كل مؤمن أن يجعل الله له منها حظًّا. وإياها قصد بقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا). والثالثة: للأنبياء وكيفيتها مختلف فيها. والاعتصام، والتفويض، والتوكل، والإِسلام - أي الاستسلام - مترتب بعضها على بعض، فالاعتصام قبل التفويض. والتفويض قبل التوكل، لأن معنى فوضت أمري إلى فلان، أي جعلت له الفوض فيه، ومعنى توكلت عليه: اعتزلت، وجعلته المعتمد، وأما الإِسلام فغايته ما كان من إبراهيم عليه السلام. حيث قال: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ولكون الاعتصام أول منزلة من هذه المنازل. قال بعض الصوفية: الاعتصام

للمحجوبين (1)، فأما أهل الحقائق فهم في القبضة (2)، واستبعد

_ (1) المحجوبون: عند الصوفية هم من احتجبوا عن قرب الله بسبب من الأسباب. وعند غلاتهم: المحجوبون هم العامة. انظر: مدارج السالكين (1 282)، والمعجم الصوفي ص (74). (2) لم يبين الراغب رحمه الله قائل ذلك، ويبدو أنه أحد غلاة الصوفية، لأن كلامه مخالف لقوله تعالى في هذه الآية: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فالله تعالى أثبت له الهداية، وذاك جعله مع المحجوبين. غير أن مصادر التصوف التي بين يدي ليس فيها شيء من تنقص تلك المنزلة، فهذا ابن عربي يفول: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) بالانقطاع عما سواه والتمسك بالتوحيد الحقيقي (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذ الصراط المستقيم، هو طريق الحق تعالى، كما قال: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ثفسير ابن عربي (1/ 122). وقال القشيري: إنما يعتصم بالله من وجد العصمة من الله، فأما من لم يهده الله فمتى يعتصم بالله؟ فالهداية منه في البداية توجب اعتصامك في النهاية، لا الاعتصام منك يوجب الهداية. لطائف الإِشارات (1/ 277، 278). أما الهروي فقد قسم منزلة الاعتصام إلى ثلاث مراتب: قال: "وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر، استسلاما وإذعانا بتصديق الوعد والوعيد، وتعظيم الأمر والنهي، وتأسيس المعاملة على اليقين والأنصاف. واعتصام الخاصة: بالانقطاع، وهو صون الإِرادة قبضا، وإسبال الخلُق بسطا، ورفض العلائق عزما، وهو التمسك بالعروة الوثقى. واعتصام خاصة الخاصة بالاتصال، وهو شهود الحق تفريدا، بعد الاستحذاء له تعظيما والاشتغال به قربا، مدارج السالكين (1 498 - 551). فكلام الهروي هنا يدل على تعظيم جميع مراتب الاعتصام لمان كان بعضها أفضل من بعض بخلاف كلام من ذكره الراغب، فإنه غض من شأن تلك المنزلة وجعلها للعوام المحجوبين الذين لم يصلوا إلى مرتبة أهل الحقائق.

(102)

الله تحولهم مع ظهوو الآيات التي هي المعجزات العقلية، وكون الرسول الشاهد فيما بينهم الذي يظهر من العجزات المحسوسة. وقيل: معنى قوله: (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أي دلائله لا ذاته، فعلى هذا خطاب لمن في زمانه، ولمن بعده. وقوله: (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي الطريق المسئول أن يهدينا إليه في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). والمدعو إليه بقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ). والمأمور به في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)

التقوى: أن تجعل بينك وبين المعاصي ما يصير واقياً لك عن تعاطيها، فتصير واقيا لك في الآخرة عن العذاب. وقال بعض الناس: التقوى من ثلاثة أوجه: تقوى من غرور الدنيا، والتقوى من النفس، والتقوى من الله. وكل واحد منها على ثلاث منازل: أما التقوى من الدنيا فأن تتقي محرماتها، ثم شبهاتها. ثم الزهد في مباحاتها. وأما التقوى من النفس فأن تتقي أولاً عقوبته. ثم استدراجه نحو: أن يملي للعبد ويوسع عليه فيغتر به. ثم حجابَه، نحو: أن يسأله العبد

فتتباطأ إجابته فيعيرّ ذلك قلبه، فمن استكمل هذه المنازل فقد اتقى الله حق. تقاته، وحرر ذلك بعض الصوفية على وجه آخر. وقال: التقوى على ثلاث منازل: تقوى العقوبة بالصبر عن المعاصي. وإياه قصد بقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). وتقواه بشكر آلائه، وإياه قصد بقوله: (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خص لفظ الرب المنبئ عن تربيته إياه ونعمته عليه، وتقواه برؤية وحدانيته من غير تلفّت ثواب أو عقاب، وإياه قصد بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قال: ولهذا حيث ما ذكر (اتَّقُوا اللَّهَ) خص المؤمنين بالمخاطبة، وحيثما ذكر (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خص الناس الذي هو أعم اللفظتين. وتقسيم التقوى على ئلاث منازل هو على حسب الظالم

والمقتصد والسابق، وقوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) حثٌّ أن يبلغ الإِنسان في ذلك مبلغ السابقين، قال عبد الله والحسن وقتادة: هو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.

وقال قتادة والربيع: الآية منسوخة بقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وقال غيرهما: بل معناهما واحد، فإن حق التقوى هو التقوى على حسب الاستطاعة، واستدل بما روى

معاذ قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "هل تدري حق الله على العباد؟ " قلت: الله أعلم ورسوله، فقال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً". ثم قرأ: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)،

ومن قال: هذا منسوخ تصور من قوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) غاية الجهد من العبد، وإن (مَا اسْتَطَعْتُمْ) هو قدر العفو، فصار مقتضى ما استطعتم أخف من مقتضى حق تقاته، واستقبح أبو علي الجبّائي قول من قال: الآية منسوخة، وقال: هذا جهل، لأنه لا يجوز أن يبيح الله للناس أن يفعلوا بعض المعاصي وهذا تصور له وقع من قلة التثبت. فقد عُلِمَ أن فعل ما حظر الله في الشرع معصية ما دام الحظر قائماً. كتحريم الأكل والجماع بعد النوم في الصوم، ثم لما زال الحظر زال كونه معصية. فكذا تقوى الله بغاية ما بلغه الجهد لا يُمنَع أن

تُوجَبَ في وقت، فيكون تركها معصية، ثم يقتصر من الناس علي مقدار الوسع، فلا يكون ترك الجهد معصية. وقوله: (وَلَا تَمُوتُنَّ) حث على الاستسلام قبل الموت. وإن كان لفظه نهياً عن الموت كقولهم: لا أرينك هاهنا. إن قيل: هل بين قولك: لا تموتن إلا مسلما، وقولك: إلا وأنت مسلم فرق؟ قيل: قولك مسلماً يقتضي ظاهره أن يكون الإِسلام مقترنا به الموت، لا متقدمًا

(103)

عليه ولا متأخراً عنه، وقولك: وأنت مسلم الأظهر منه أن يكون ذلك حاصلًا من قبل، ومستصحباً في تلك الحال. قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103). حبل الله: هو الذريعة المتوصل بها إليه من القرآن والنبي والعقل والعلم، والاعتصام ضربان: اعتصام بالله بلا واسطة بشرية، وذلك للأنبياء، واعتصام بواسطة بشرية، وهو بمنزلة غيرهم من الناس، ثم منهم من يتوصل إليه بواسطة واحدة من

الوسائط، كالصحابة والأولياء والحكماء، الذين لم يأخذوا الدين بالتقليد، ومنهم من يحتاج مع ذلك إلى من يعتمده في كثير من دينه، وإلى هذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". إن قيل: لِمَ قال أولاً: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ)، ثم قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) وجعل بين الكلمتين و (اتَّقُوا اللَّهَ)؟ قيل: لما كان القصد في

عبادة الله إلى الاعتصام به ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقوى عقبه بقوله: و (اتَّقُوا اللَّهَ)، ولما كان حقيقة التقوى فعل الطاعات. ولا سبيل للإِنسان إلى معرفة ذلك إلا بحبل الله: أي كتابه ورسله أمر أن يعتصموا بحبله ليتوصلوا إلى تقواه، ومن تقواه إلى الاعتصام به، ومن توصل إلى الاعتصام، ثم إلى التوكل، ثم إلى الإِسلام استغنى حينئذ عن الوسائط، الذين هم حبل الله، ويصير

ممن قال - صلى الله عليه وسلم - فيه حكاية عن الله: "فإذا أحببته كنت سمعه "، الخبر.

وقوله: (وَلَا تَفَرَّقُوا) حث على الألفة والاجتماع، الذي هو نظام الايمان واستقامة أمور العالم، وقد فضل المحبة والألفة على الإِنصاف والعدالة، لأنه يحُتاج إلى الإِنصاف حيث تفقد المحبة. ولصدق محبة الأب للابن صار مؤتمنا على ماله، والألفة أحد ما شرف الله به الشريعة سيما شريعة الإِسلام، ولهذا قال: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ). وقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً"،

وقال: "من شذَّ شذَّ في النار". ولطلب الألفة شُرع الاجتماعات في المساجد والجمع والجماعات والأعياد. وقوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي على ما يؤدِّيكم إلى النار، وهو خطاب عام للمسلمين كافة، وإن كان قد جعله بعضهم خاصًّا للأوس والخزرج على ما تقدم ذكره، وبعضهم

(104)

جعله للعرب، وأنهم كانوا في شدة وعُري وجوع وتقاتُل بينهم، فأزال الله تعالى عنهم ذلك بالإِسلام، وقد تقدم الكلام في قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) المعروف: ما يستحسنه العقل ويرد به الشرع. والمنكر: ما يستقبحه العقل

ويحظره الشرع، وعلى ذلك يقال للسخاء المعروف في نحو قول الشاعر: ولم أرَ كالمعروف أمّا مذاقه. . . فحلو وأمّا وجهه فجميل ويقال لهما: الحق والباطل، والحسنى والسوءى، والصلاح والفساد، والجميل والقبيح، وإنما اختلفت العبارات في ذلك بحسب اختلاف العبارات. واختُلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل ذلك واجب على كل إنسان أو على بعضهم دون بعض، فمنهم من جعله واجباً على العموم، وقال: إن مِنْ في

قوله (مِنْكُمْ) للتبيين، كما في قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) وقال: لأن حق الناس كلهم أن يكونوا خلفاء الله في أرضه، وسُوَّاساً لبعض خلائقه، لكن السياسات ثلاث: سياسة الإِنسان نفسَه، وسياسته أهلَه وما يخصه، وسياسته بلده وصُقْعه، فسياسة البلد والصُّقع من وجهٍ إلى الأئمة، وهو أخذهم الناس بالقهر، ومن وجه إلى الحكماء والعلماء. - فقهائهم ووعظتهم - وهو أخذهم بالوعظ، وكل ذلك فرض على الكفاية. وأما سياسةُ الإِنسان نفسه فواجب على كل مكلف على التضييق. وكذا سياسة الأهل واجبة على من يملكه، ومنهم من جعل ذلك فرضاً على

الكفاية، واستدل عليه من الآية بقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)، وذلك يقتضي التبعيض، واعتبر ذلك في سياسة

الإِنسان لغيره دون سياسته نفسه، وأجرى ذلك مجرى الجهاد وطلب العلم، وهذا أقرب على اعتبار الفقهاء، والأول أعم على اعتبار الحكماء، والذي تستحق به العقوبة هو ترك ما يلزم من حق غيرهم، وإياه قصد بقوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) إلى قوله (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)، وخصّ تركهم النهي عن المنكر دون الأمر بالمعروف، فإنه أعظم الأمرين إثماً، وأوكدهما وجوباً، ففعل المعروف ليس بواجب على كل أحد، وترك المنكر واجب على كل حال. ثم إنكار المنكر ثلاثة أضرب: إنكار باليد، وإنكار باللسان، وإنكار بالقلب. على حسب ما رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان "،

فقيل: إن الأول للسلاطين، والثاني للعلماء، والثالث للعوام. فإن قيل: كيف حثَّ هاهنا على الأمر بالمعروف،

وقال في غيره: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)؟ قيل في قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قولان: أحدهما: إن ذلك حثٌّ على أن يغيّر الإِنسان على نفسه قبل أن ينكره على غيره، وهو خطاب للعامة. والثاني: ما قال أبو ثعلبة الخشني، وقد سئل عن هذه الآية فقال: سألت عنها خبيراً، لقد سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر،

فإذا رأيت شحًّا مطاعاً، وهوى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك، ودع عنك العوام ". وجعل تعالى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم المفلحون، لأن من تولى إصلاح نفسه، ثم صلاح غيره بغاية وسعه، فقد زكى نفسه، وزكى غيره، وقد قال تعالى فيمن يهذب نفسه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)، وقد تقدم أن الفلاح الحقيقي هو البقاء الأبدي والنعيم السرمدي.

(105)

قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) التفرّق على ثلاثة أضرب: تفرّق بالأبدان، وتفرّق بالأقو ال والأفعال، وتفرّق بالاعتقادات. وكذلك الاختلاف؛ إلا أن الأظهر في الاختلاف أن يكون بالأقوال والأفعال والاعتقادات، وفي التفرق أن يكون بالأبدان، وذكر تعالى اللفظين، ليبين أن أهل الكتاب تجادلوا بكل ذلك، وعلى هذا قال ابن عباس والربيع: تفرّقوا واختلفوا في أحكام مبتدعة وأهواء متبعة بعد أن كانوا إخواناً، وإن من كان قبلهم هلكوا بالمراء والخصومات، ثم ذكر ما لهم من عظيم

العذاب في الآخرة بالنار الدائمة، وفي الدنيا بمحنها ونُوبها. ونبه بقوله: (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أن سبب استحقاقهم العذاب افتراقهم واختلافهم، تنبيهاً أنكم إن فعلتم فعلهمْ استحققتم العذاب استحقاقهم. إن قيل: كيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الاختلاف في أمتي رحمة" مع ما ذكر من ذم الاختلاف؟

قيل: الاختلاف ضربان: اختلاف في الأصول الجارية من الطرق مجرى طريق الشرق من طريق الغرب، وذلك هو المذموم، فإن ما عدا الجهة المأمور بسلوكها مؤد إلى الباطل. وإلى هذا يوجه قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). والثاني: اختلاف في الفروع الجارية من الطرق مجرى بنيات طريق إلى مقصد واحد يسلكها، كل على حسب اجتهاده، ومقصد جميعهم واحد، فإن إباحة الله سلوك كل واحد من تلك الطرق فسحة لهم ورحمة، وإياه قصد بقوله:

(106)

(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) ابيضاض الوجه عبارة عن المسرة، واسودادها عن الغم. وعلى ذلك (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)، ثم قال: (مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ).

وعلى ذلك قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ). وهذا الابيضاض والاسوداد أبلغ من المحسوسين. وقال بعض المتكلمين: يحمل ذلك على المحسوس. لكونه حقيقة فيه، وهذا خطأ، وذلك لأنه لم يعلم أن ذلك حقيقة فيهما جميعاً، فليس الاسوداد والابيضاض أكثر من كيفية عارضة في الوجه، قلّ ذلك أم كثر،

ومعلوم أن من ناله غمّ شديد يعرض لوجهه - لتبرّمه وتكدره - اسوداد في وجهه، وليس قلّة السواد والبياض مما يخرج اللفظ عن الحقيقة، ثم حمل الآية على هذا أولى، لأن ذلك حاصل لأهل القيامة باتفاق، سواء كانوا في الدنيا سودانا أو بيضانا، وعلى ذلك (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ). وأما كفرهم بعد إيمانهم فقد قال الحسن: بعد إظهارهم الإِيمان بالنفاق)، وقال قتادة: كفروا بالارتداد بعد

الإسلام، وقيل: بعد الإِقرار الذي اقتضاه قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). وقيل: كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أقرّوا به قبل بعثته، وعموم اللفظ يقتضي كل ذلك، ولا تنافي بينها. وقوله: (أَكَفَرْتُمْ) تقديره: فيقال لهم: أكفرتم؟، وحذف القول من نحو ذلك كثير نحو: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ). وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)

أي يقولون، ولما حذف الفعل حذف معه الفاء الذي يكون جواب أما، ويوم ظرف لقوله عظيم، ولا يكون عند البصريين ظرفاً لقوله عذاب، لأن الاسم إذا وُصِف لا يعمل عندهم. إن قيل: لِمَ كرر لفظة (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)؟ قيل: قال بعض النحويين: إن ذلك للتأكيد. وتمكين المعنى في النفس، وقيل: (قوله: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ) تمام الكلام، و (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تنبيهاً أن ذلك لهم مؤبدا،

وقيل: قوله: (هُمْ فِيهَا) راجع إلى مقتضى قوله: (ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) وهو المسرة، تنبيها أن تلك المسرة دائمة لا كمسرّات الدنيا التي تنقطع. وإن بقيت أسبابها. فأحوال الدنيا وإن كانت سارة متبرم منها بدوامها. ولهذا قيل: لَلعافية تمُل أكثر مما يُملُّ البلاء. إن قيل: المقابلة في الاثنين غير صحيحة، فإن التقابل الصحيح أن يكون المذكور في الثانية عكس المذكور في الأولى، وليس قوله: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) عكسا لقوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)؟ قيل: مراعاة التقابُل على ضربين: تقابل اللفظ، وتقابل المعنى. وهو أفضلهما عند أصحاب المعاني. فالتقابل حاصل من حيث المعنى، وعدل عن لفظ الخبر في قوله: (أَكَفَرْتُمْ) وقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) إشارة إلى ما يقال لهم،

ونبّه أنهم يُقابلون مع العقوبة بالتبكيت، وقد قيل: التبكيت أعظم العقوبتين، وأن يقال لهم: (ذوقوا)، وذلك دلالة على مبالغة الغضب عليهم. إن قيل: كان الوجه أن يقال: ألستم قد كفرتم؟ فلفظ الاستفهام في القرآن محمول على الإِنكار، والإِنكار متى تجرد عن حرف النفي يكون للنفي نحو قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) وإذا كان للإِثبات قرن به حرف النفي؟ قيل: الألف في الأصل للاستخبار، والاستخبار أعمّ من الاستفهام. وكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً. والمستخبر قد يقصد إلى أخذ إقرار المستخبر أو إلى إلجائه إلى الإِقرار بما ينكره، وقوله: (أَكَفَرْتُمْ) استخبار على هذا الوجه، وتقريع لهم، وعلى ذلك

(108)

قوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ). قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) قال الفراء: معناه هذه آيات الله، وقد تقدم الكلام في قوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)، وآيات الله يصح أن تكون الكتاب، وأن تكون جميع الآيات المسموعة والمعقولة مما يظهره الله. ويكون معنى (نَتْلُوهَا) نُبينُها بوجوه التبينات،

(109)

قوله: (بِالْحَقِّ) أي الحق يقارنه، أو هو الحق، وفي قوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا) تنبيه على اعتبار ما تقدم ذكره لما اقتضى عدله في معاقبة الكفار. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) قد تقدم تفسير ذلك، ونبه بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) على شيئين: أحدهما: إبطال قول من زعم أن الأشياء تبقى عناصرها فلا تفنى. والثاني: على أنه يصحُّ أن يتوهم ارتفاع الأمور كلها مع بقائه تعالى. وأنه لا ينكر عدمها انتهاءً، كما لا يُنكر ذلك ابتداءً. إن قيل: وما وجه إيراد هذا القول

(110)

في هذا الموضع؟ قيل: إنه لما بيّن تعالى ما اقتضى عدالته وعقبه بذكر التبرؤ من ظلمهم بيّن بهذا القول استغناءه عن الظلم، وأن الظلم يتحرّاه من يروم ما لغيره، ومحال أن يُعتقدَ في مالكِ الكلِّ ومن منه البدءُ وإليه العودُ الظلمُ. قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) إن قيل: لمَ قالْ: (كُنْتُمْ) ولم يقل: أنتم؟ قيل: في ذلك أجوبة: الأول: كنتم فيما قضيت وقدرت وبنيت عليه الشرائع خير أمة بشريطة أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله)،

فقد تقدم إن هذه الشريعة أكمل الشرائع، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى". والثاني: أن الإِشارة بذلك إلى من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الإِسلام، وإلى هذا ذهب عمر، وقال: هذا لأولنا، ولو شاء الله لجعله لآخرنا أيضاً. فقال: أنتم، فكنا كلنا أخيارا. ويؤكّد ذلك ما روي

عن عبد الله قال: جمعنا رسول الله، ونحن أربعون رجلا، فقال: "إنكم منصورون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذلك منكم فليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر". الثالث: أن ما تشارك فيه الأحوال الثلاث: الماضي والحال والمستقبل. لا فرق بين أن تقول: كنت كذا أو أنت كذا، لأن القصد ليس إلى تخصيص الزمان، بل إلى ذكر ثبوت ذلك الشيء، وأيًّا من ذلك ذكرت، فإنه لا يقتضي من حيث اللفظ نفي الآخر، وإذا كان كذلك كان أولى الألفاظ بمثله: كان، لأنه يقتضي الحصول، ولا يقتضي تغيير ذلك الشيء من حيث اللفظ، وإذا أورد تعالى جل أوصافه على ذلك، نحو (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وقيل: (كُنْتُمْ) في اللوح

المحفوظ، وهذا كالأول. إن قيل: لأي شيء وصفهم بأنهم خير أمة. وقد علم أن أشرار الناس في هذه الأمة أكثر من الأخيار، وأن كثيراً من الأمم المتقدمة كانوا حْيراً من كثير هذه الأمة؟ قيل: ليس الاعتبار بأشخاص الناس، وإنما الاعتبار بما صارت الأمة به أمة، والشريعة به شريعة، وقد تقدم أن هذه الشريعة أفضل الشرائع إذا اعتبرت بها، على أنه قد قيد فقال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، أي أنتم خير أمة على هذه الشريطة لأن قوله: (تَأْمُرُونَ) في موضع الحال.

قال ابن عباس ومجاهد وأبو هريرة: كونهم خيرا هو أنه لم يؤمر نبي قبله بالقتال، وقهر الناس على الدخول فيما فيه صلاحهم إلا هذه الأمة، فإن الله يقودهم بالسلاسل من الكفر إلى الإِيمان، وقال غيرهم: لم يكن في أمة من الآمرين

بالمعروف، والناهين عن المنكر أكثر مما في هذه الأمة. إن قيل: لم أخَّر الإِيمان بالله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

(111)

قيل: الإِيمان هاهنا ليس هو الإِقرار بالله فقط، بل هو الوفاء بشروطه والقيام بشرائعه، الذي هو تمام الإِيمان وكماله على ما ذكرناه فيما تقدم، وقال: (وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) فقابل به المؤمنين، لأن الفسق أعم من الكفر، فبيّن أن المؤمنين المخلصين قليل جدًّا، وأن أكثرهم فاسق: إما كافر. وإما منافق. قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) قال ابن عباس والحسن: عنى بالأذى الكلام المؤذي. وجعل بعضهم الآية مخصوصة

في بني قريظة، قال: ووحد المخبر على ما أخبر به تعالى، وجعلها بعضهم عامة، وقال: إن كان ما ينال المؤمنين من الكفار كلاما كان أو قتالاً فهو أذى عارض (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، كما قال في غير موضع. وقوله: (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) لم يجزمه، لأنه إذا جُعِلَ جواباً اقتضى أن النصرة عنهم ممنوعة في حال المقابلة فقط،

(112)

وإذا رُفِعَ اقتضى أنهم ممنوعون عنها في كل حال. وقال بعض النحويين: رفع ذلك ليكون كماخر سائر الآيات المتقدمة. وهذا القول هو بحسب مراعاة اللفظ دون المعنى. قوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) قيل: هي مخصوصة في بني قريظة على ما تقدم. وقيل: هو أمر وإن كان لفظه خبراً، فأمر بتذليل أهل الكتاب، وأخذ الجزية منهم على ما ذكره الفقهاء وبينوه. وقيل: هو خبر عام عن جميعهم. فإن قيل: كيف يصحُّ ذلك

مع أنه قد يُرى من أهل الكتاب من لا يكون في مذلة ولا فقر. قيل: المذلّة هي التي تلزمهم ليس يجب أن تُعتبر في الأشخاص. ولا في الأعراض الدنيوية من الجاه والمال، بل يجب أن يُعتبر ذلك بالأحوال الشرعية، والعز والذل الحقيقيين، اللذين يقتضيهما الدين. وإياه قصد بقوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وقد قيل: كل عز مصيره إلى ذل فهو ذل، وما يتصوره بعض الناس عزًّا من غرور الدنيا فهو المذلة عند التحقيق. وكذلك المسكنة ليست قلة المال، وإنما هي الحرص، وفقر النفس. ولهذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الغنى غنى النفس "

وقيل لحكيم: هل لفلان غنى؟ فقال: أما الغنى فلا أدري، إلا أن له مالا كثيراَ. وقال الشاعر: . . . قد يكثر المال والإِنسانُ مفتقر. وقيل: إن ذلك على سبيل الدعاء عليهم، كقوله تعالى: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، وقوله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)، وهذا في الحقيقة يرجع إلى الأول، فالدعاء من الله واجب. إن قيل: لم قال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) فأعاد ذكر الحبل، وفصل؟ قيل: لأن الكافر يحتاج إلى حبلين أي عهدين، عهد من الله. وهو أن يكون من أهل كتاب أنزله الله، وإلا لم يكن مقرًّا على دينه بالذمة، ثم يحتاج إلى حبل من الناس،

أي أمان وعهد يبذلونه على ما بيّنه الفقهاء. والناس هاهنا خاص للمسلمين، وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي استحقوا عقابا منه، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي نالهم ذلك بكفرهم. وقوله من بعد: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) قيل: هو بدل من الأول. فإن كفرهم ليس هو إلا عصيانهم، واعتداؤهم. وقيل: بل جعل الكفر علّةً لما نالهم من الذِّلة والمسكنة. وجعل عصيانهم علة لكفرهم، وذلك أن الذنوب الصغائر إذا استمر عليها الإنسان أفضت إلى الكبائر. والكبائر تفضي إلى الكفر، ولهذا قال

تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب ". وفي قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) تحذير لنا وتنبيه، كأنه قال: اجتنبوا المعصية، وهي التي أدّت بهم إلى الكفر المقتضي لعظم العقوبة إن قيل: كيف قال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ)، ولا يصح في الإِثبات أن يقال: اعتصمت إلا بحبل فلان، والاستثناء في الإِثبات لا يكون إلا من لفظ عام؟ قيل: إن قوله: (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) مقتض لمعنى

(113)

العموم، كأنَّه قيل: بكل حال، فيصح أن يقال: إلا بحبلٍ. قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) الأمّة: الجماعة، وقد تقدم. وجعلها الزجاج هاهنا الاستقامة. وقال: تقديره: ذوو طريقة مستقيمة، والأول أولى. لأنه لا يحتاج فيها إلى إضمار. والقائمة: العادلة،

وقال مقاتل: مطيعة، وقال بعضهم: مسلمة، وهذا كلة واحد، فإن العادل لا يكون عادلا حتى يكون مسلما مطيعا. والمطيع لا يكون مطيعا حتى يكون مسلما عادلا. والآناء: جمع إنْي كانحاء في جمع نِحْي، وقيل: هو جمع إِنى نحو مِعًا وأمعاء. وقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً) كلام تام أي لا يستوون. ثم قال: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) أي منهم أمة قائمة. وقال بعضهم: تقديره:

أي ليسوا سواء هم وأمة قائمة، يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإليه ذهب ابن مسعود، وقال: لا يستوي أهل الكتاب، وأمة محمد. وقال الفراء: ذكر أمة قائمة، وحذف الأخرى كقول الشاعر: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فما أدري أرشد طلابها وتقديره: أم غي، وما قاله إنما يصح إذا جعل (أُمَّةٌ) بدلاً

من الضمير في (لَيْسُوا)، أو جعل الواو فيه كالواو في أكلوني البراغيث، ويجعل (أُمَّةٌ) اسم ليس، وتكون المفاضلة بين أمة قائمة وأمة غير قائمة. وقوله: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) قيل: عنى به صلاة العتمة، لأنها لم تكن إلا لهذه الأمة. واستدل بما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخْر صلاة العشاء ليلة، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرونه. فقال: "إنه ليس أحد من أهل الأديان يذكر الله في هذه الساعة غيركم ". فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: عنى الصلاة بين

(114)

العشائين، وقيل: تلاوة القرآن بينهما، والسجود. قيل: عبارة عن الصلاة. وقوله: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) كلاهما في موضع الصفة لـ (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ). قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)

ذكر تعالى حال الأمّة التي تقدم ذكرها، وابتدأ بذكر الإِيمان بالله. وعنى الإِيمان الذي لا تصحُّ عبادة من دونه. والمسارعة والمبادرة والعجلة تتقارب، لكن السرعة أعمها والمبادرة لا تكاد تستعمل إلا في البدن، والعجلة أكثر ما تستعمل فيما يتحرى عن غير فكر ورويَّة، أو في إمضاء العزيمة قبل استكمال الروية، ولهذا يقال: "العجلة من الشيطان "،

وقال تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) فإن قيل: لو كانت مذمومة لما قال موسى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى). قيل: موسى عليه السلام أورد ذلك على سبيل الاعتذار إبانة أنه قصد فعلا محمودا، وإن تحرى العجلة فيه، ومن قصد فعلا محمودا فقد يعذر في وقوع ما يكره منه، والمسارعة في الخير هي أن يتدرج الإِنسان في ازدياد العرفة بفضله، واختياره والسرور بتعاطيه، وتقديمه على الأمور الدنيوية، وأن لا تؤخره عن أول وقت إمكان فعله وعلى ذلك قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، ومدح تعالى قوماً فقال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ). أي يسابقون بهممهم وأبدانهم، فلذلك كرره، ولمراعاة المسارعة وكون بعض المسارعين أعلى منزلة من بعض،

(115)

قال تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ)، وبين تعالى في آخر الآية أن فاعل ذلك من الصالحين، والأقرب في مِن أن تكون للتبيين. وأنهم هم الصالحون، ولذلك قال في الأول (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). قوله تعالى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) قُرئ بالياء ردَّا إلى قوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ). وقُرئ بالتاء لإِدخال المخاطبين فيهم وتغليبا للخطاب،

وقوله: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) كقوله: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) وقوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)، كل ذلك تنبيه على أن عمل المحسنين لا يضيع المدلول بقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)، وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). وقوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا). وأنهم بخلاف الكفار الذين قال فيهم: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) الآية. وقوله: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) الآية. وقال الجبّائي: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) مجاز في هذا الموضع، لأن

وصف الله بانه يشكر مجاز، وقوله ذلك لتصوره الشكر على وجه واحد، والشكر باعتبار الشاكر والمشكور على ثلاثة أوجه: شكر الإِنسان لمن فوقه، وذلك بالخدمة والحمد، وشكره لنظيره. وذلك بالمقابلة، وشكره لمن دونه، وذلك بالإِثابة، ولذلك يمدح تعالى بأنه شكور، وقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) تنبيهاً أنه يقابله بالشكر الذي هو الثواب، ولعله تصور أن الشكر لا يكون إلا بالقول، ومن الأدون للأعلى، وذلك فاسد

(116)

لقوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) فجعل الشكر معمولا، ووصَفَه بأنه شكور وشاكر. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) أغناه: إذا جعل له غنى، وأغنى عنه: جعل له غَنَاءً في الدفع، ولما ذكر في الآية الأولى أن ما يفعله الإِنسان من الخير لن يُكفَر، بيّن أن ما يعدونه خيراً إنما ينفع بعد الإِيمان، فأما مع

(117)

افتقاده فلا نفع، وذكر أجلّ ما هو عندهم خير، وهو الأموال والأولاد، وأنها لا تغني عنهم، وعلى ذلك ما حكى عن الكفار: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) وجعلهم أصحاب النار لملازمتهم إياها. قوله تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117). الصّر: برد يحرق النبات. وقال مجاهد: هو النار.

وأصله صوت النار، وكأنه حكى به الصرير والصرصرة. ونحوهما، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان وأهل مكة

لإِنفاقهم المال في معاداة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لما بيّن في الآية الأولى أن مالهم لا يغني عنهم، بين أن إنفاق هؤلاء مع كونه غير نافع ضار لهم، وراجع بالوبال عليهم، فمن المفسرين من قال القصد إلى تشبيه ما لهم المنفق بالحرث. المحرق، وكفرهم المهلك بريح ذات صِرٍّ، لكن أخرج التشبيه ملفوفاً لا مكشوفاً، على تحقيق مطابقة لفظ المشبّه والمشبّه به، وذلك نحو ما تقدم. ومنهم من قال: القصد في ذلك تشبيه أموالهم في إهلاكها إياهم بريح ذات صِرٍّ في كونها مهلكة لحرث قوم، ثم اختلفوا في هذه النفقة، فمنهم من جعلها لما أنفقه هؤلاء وأمثالهم في معاداة

المسلمين، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ). ومنهم من جعلها لكل ما ينفقه الكافر، أي شيء أنفقه فإن الكافر معاقب في ذلك كله، كما أن المؤمن مثاب على ما أنفقه على أي وجه أنفقه، وعلى هذا قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد:. "إنك لتؤجر في نفقتك كلها، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك ". ووجه ذلك أن المؤمن

لا يأخذ إلا من حيث على ما يجب وكما يجب، ولا يضع إلا كذلك، والكافر بخلاف ذلك، ومنهم من قال: (مَا يُنْفِقُونَ) عبارة عن أعمالهم كلها، لكن خصّ الإِنفاق لكونه أظهر وأكثر، وإنما خصّ حرث قوم ظلموا أنفسهم من أجل أن الناس فيما يصيبهم أمن، الجائحة ضربان: صالح لا يستحق عقوبة، فإذا نالته صار ذلك له أجراً مُدَّخرا. فكأنه لم يضع ماله، وسيِّئ يستحق عقوبة، فإذا نالته فقد ضاع ماله في الحال وفي المآل، ومنهم من قال: معنى (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي زرعوا الحرث في غير وقته، تنبيها أن الكفار أساءوا فيما كان ينبغي لهم أن يفعلوه إساءة هؤلاء الحرّاث في حرثهم من تقديم أو تأخير. إن قيل: كيف قال: (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ)، وقد قيل: متى هبت الريح لم يؤثر الصِرُّ؟ قيل في ذلك أجوبة:

(118)

الأول: أن كل صر لا ينفك من ريح معه، لكن التي معها الصرُّ ضعيفة بحيث لا يحُسُّ بحركتها، وإنما تمنع الصرّ إذا تحركت حركة شديدة. والثاني: أنه تعالى خصَّ ذلك تنبيهاً أن أموالهم بطلت من حيث لم يحتسبوا: كبطلان حرث هؤلاء من حيث لم يحتسبوا، فإنهم كانوا آمنين من الصرِّ لوجود الريح. والثالث: أنه عنى بالصرِّ صوت الريح وشدة عصوفها، وعنى أنها أصابته الريح ففرقته، كقوله: (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)، ونحو هذه الآية في بطلان عمل الكفار قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ). وقوله: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) فإنما عقب به لأنه لما كان أخذ مال الغير وإبطاله قد يتصوره من لا يعرف حقيقة الأمر بصورة الظلم بين أنه لم يظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم، حيث لم يضعوا مال الله حيث أمرهم. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)

البطانة في الثوب بإزاء الظهارة، ويستعمل لمن اختصصته كالشعار والدثار، ويقال: لبست فلاناً إذا اختصصته، وعلى ذلك قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) وألوتُ في الحاجة: قصَّرت، وألوت، فلانا ألواً أي أوليته تقصيراً بحسب الجهد، فقولك جهداً تمييز -

(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ) أي لا يقصروا، آلى أي حلف، هو أفعل من ذلك، كأنه أزال التقصير ببذل ذلك القول. فقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي لا يقصرون في إيصال الخبال إليكم. والخبال: الفساد، الذي يلحق ذات الحيوان. يقال: في قوائم الفرس خبل وخبال، أي فساد من جهة الاضطراب، وفلان مختبل الرأي، وقول زهير: هنالك إدْ يستخبلوا المالَ يخبلوا. . .

أي إن طلب المال منهم إفساد شيء من إبلهم فعلوا، والعنت تحرّي المشقة، يقال: عَنِتَ فلان عنتاً، وأعنتة غيره، وعنّته. قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ). وأكمةُ عنوت: صعبة المسلك، وعنود والمعاندة والمعانتة يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة: أن يتحرى مع الممانعة مشقة. قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن قوماً صافوا جماعة من اليهود، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، والآية تقتضي النهي عن الركون إلى من وما

يتحرى بك طريقة فساد: إنساناً كان أو شيطاناً أو قوة من قوى نفسك تحيد بك عن الحق، كالهوى ونحوه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان. بطانة تأمره بالخير، وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه ". ونهى عمر عن الاستعانة بالكفار، واحتج بهذه الآية،

(119)

وقد تقدم الكلام في أنه على أي وجه لا يصح الاستعانة بهم. ونبه بالاستدلال بكلامهم على فساد اعتقادهم، وأن ذلك لا يخفى منهم، كقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، وعلى نحوه قال الشاعر: ولا حن بالبغضاء والنظرِ الشزر ثم بيّن أن مالا يبدو منهم أكثر، وأخبر بقوله: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ) أنه أظهر ما يمكنهم الاستدلال به على معاداتهم. قوله تعالى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119).

العضُّ معروف، ومنه رجل عف: شديد الخصومة، كقولهم:. أزوم، وفلان يازم المأزم ونيّب على كذا، والعضُّ: علف الأمهار مما له مضغ شديد كالنوى والقت اليابس. والأنامل واحدتها أُنملة، ولم يأت أفعل مفرداً إلا قولهم: بلغ

أشده، وقد كثر ذلك في الجمع، نحو: أكلُب وأفلُس. ويعبر عن التأسف بقرع السن وعض الأنامل، وذلك لا نشاهد من حال المتأسف، قال الشاعر: عضضت أناملي وقرعت سني أكلت يدي لما جنته تندما

والغيظ هو الغضب والغم، فإن الغضب يقال فيما معه القدرة. على الانتقام، والغمّ فيما ليس معه قدرة الانتقام، والغيظ فيما ليس معه تمام القدرة على الانتقام، ولذلك يُستعمل في صفات الله الغضب دون الغيظ، والكتاب كله يعنى الكتب المنزلة. فوضع موضع الجمع، إما لكونه للجنس كقولك: كَثُرَ الدرهم في أيدي الناس، أو لكونه في الأصل مصدرا. ولفظ الإِفراد أولى في هذا الموضع، لأنه يتضمن أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ويتضمن أنهم يؤمنون بتفاصيل كل كتاب. بخلاف من قال فيهم: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ). وقوله: (أُولَاءِ) قيل: معناه الذين، وتحبونهم صلته،

وقيل: معناه هؤلاء، وفيه وجهان: الأول: أن يكون كقولك ها أنا ذا، وها أنتم هؤلاء، فيكون هؤلاء خبر الابتداء. و (تحبونهم) في موضع الحال، وهم راجع إلى ما تقدم ذكره. والثاني: أن يكون هؤلاء مبتدأ ثانيا، و (تحبونهم) خبره. والجملة خبر للأول، كقولك: أنت زيد تحبه، ويكون هم راجعاً إلى هؤلاء. ومحبتهم لهم: إرادة الإِسلام لهم، لأن ثمرة المحبة النصيحة وإرادة الخير، وبين أنهم لا يحبون ذلك لكم، لأنهم لا يريدون لكم الإِسلام الذي هو الخير المحض، ثم بيّن أنكم تؤمنون بكتب الله، وهم لا يؤمنون ببعض الكتاب. وقوله: (وَإِذَا لَقُوكُمْ) كقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا)،

(120)

وقوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). وقوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) وقوله: (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم وإيجاب ذلك لهم، وإن لم يكن إيجاباً عليهم، وقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) كقوله (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى). وقوله: (يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) ونحو ذلك. قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

الحسنة: عبارة عن كل ما يستحسنه الإِنسان مما يسّره من نعمة ينالها في بدنه وماله، وجاهه، والسيئة تضادها. والمسّ والإصابة يُستعملان في الخير والشر، إلا أن المصيبة اختُصَّت، بما يسوء، ويقال: ضرّه يضره وضارّه

يَضيره، وقُرئ: لا يَضُرُّكُم، والضمة فيه إتباع للضاد. نحو مدُّ، ويجوز الفتح والكسر كما يجوز في مدّ. وقال بعض النحويين لا يضركم مرفوع رفعاً صحيحاً، وتقديره: فلا يضركم، وحذف الفاء كقول الشاعر:

من يفعل الحسنات الله يشكرها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وهذا إنما يجوز في ضرورة الشعر، والكيد: الاحتيال للغير بمكر ومقاساة، وعلى سبيل تصور هذا المعنى قيل: فلان يكيد بنفسه، والمكر مثله إلا أنه أعم، لأنه قد يقال في اجتلاب المنفعة. إن قيل: على أي وجه يمنعْ صَبرهم وتقواهم من أن

يضيرهم كيدهم، قيل: من أوجه: الأول: من الفيض الإِلهي والنصرة الموعود بها في نحو قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله: (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). والثاني: أن من عُرف منه الجد أحجم عنه العدو. كما قال رجل ضئيل أسر رجلًا قويًّا، فسأله أمير المؤمنين: كيف تمكنت منه؟ فقال: وقع في قلبي أني آخذه ولا أبالي بالقتل، ووقع في قلبه أنه مأخوذ وخاف القتل، فنصرني عليه خوفه وجرأتي. والثالث: أن المتذرّي بالصبر والتقوى تتحمل نفسه الشدائد. فلا يبالى بمكايدة عدوه. والرابع: أن الثقة بنصر الله أعظم ناصر. والإِحاطة بالشيء يقال على وجهين: أحدهما: في الأجسام. والثاني: في العلم بالشيء والقدرة عليه. فأما العلم فبأن يعلم حقيقة المحاط به ووجوده وجنسه وأوصافه، والغرض

(121)

المقصود منه، وعلى ذلك: (أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) فصار قوله: (بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) كقوله: (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ). وقو له: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ونحوه. قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) التبوء: التمكن، يقال بوَّأته مكان كذا، أو لمكان كذا، وقيل: في حرف ابن مسعود:

تُبوئ للمؤمنين، وإذ قيل معطوف على قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) آية في غلبتكم - مع قلتكم - الكفار مع كثرتهم. وآية إذ غدوت ترتاد للمؤمنين مكانا للقتال، فانكشف الحال عما كان لهم فيه آية، ولما أمرهم بالصبر والتقوى ذكّرهم ما خوّلهم ببدر حيث صبروا واتقوا، وبأحد حيث كان منهم ما كان. وذاك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور أصحابه حيث قصده المشركون: هل يخرج إليهم أو يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، وذلك هو معنى تبَوُّئه للقتال أي موضع المشاورة، ولهذا خص المقاعد دون المقاوم، فقال له

(122)

عبد الله بن أُبيّ: نقيم بالمدينة، فإن قاتلونا قاتلنا في الأزقة وإلا رجعوا عنا بالمذلة، وقال أكثرهم: نخرج إليهم، فدخل - صلى الله عليه وسلم - ولبس لأمته، وأعاد عبد الله قوله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان لنبي أن يلبس لأمته ثم ينزعها حتى يقاتل " فخرج النبي، وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع بما يقول مؤمنهم ومنافقهم، عالم بما ينوي كل منهم. قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)

الهمّة قد تكون عزماً، وقد تكون حديث النفس من غير أن يصير عزيمة، والفشل: الضعف الذي يكون من تحير الإِنسان ظهر أو لم يظهر، وقد يقال لا يظهر من الإِنسان من الإِحجام فشل أيضا. والطائفتان، قال المفسرون: هم بنو سلمة وبنو حارثة، لما رجع عبد الله همّا بالرجوع،. ثم لم يفعلا،

(123)

وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) أي وليهما في أن عصمهما عن الانصراف، ووليهما في أن جازاهما إذ لم يفعلا ما هما به، ورُوي أنه لما نزل ذلك قالت الطائفتان: ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا، وقد أخبر الله أنه ولينا. ونبّه بقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أن التوكل على الله هو العاصم، وهو الفرض الأقصى من العباد في الدنيا. قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) بدر: اسم ماء

كان لرجل يقال له: بدر، فسُمي به، فصار ذلك الحرب مسمى به، وجعلهم أذلة لا على الحقيقة والمصدوقة، - فمن نصره الله فغير ذليل، ولكن على اعتبار العامة لقلتهم وقلّة عِدّتهم، وهذه أيام تابع الله ذكرها وذكّر المسلمين بعظم ما أولاهم فيها تثبيتاً لقلوبهم، وتذكيراً بنعمه عليهم، وأمرهم بالتقوى المؤدية إلى شكرهم لها.

(124)

قوله تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) الكفاية: مقدار ما فيه سد خُلة، والفرق بين الاكتفاء والاستغناء: أن الاكتفاء ما فيه سد الخُلة وسع أو ضاق، والاستغناء ما فيه ** السعة فهو أعم. والإِمداد: اتصال الشيء بالشيء، وأصله من مد الحبل والمد يقال تارة في الماء، ومده ماء آخر، وتارة في السير. والمدة امتداد الوقت، والمادة زيادة ممتدة، والمداد المُدّ الذي هو المكيال منه، والفَوْر أصله من فارت القدر والتنور، والفور

منهم من تصور منه الوجهة والعجلة، وإليه ذهب ابن عباس والحسن وجماعة، ومنهم من تصور منه فوران الغضب. وإليه ذهب مجاهد والضحاك، والتسويم ترك الشيء وسومه،

ومنه قيل: أسمت الإِبل وسومته، والتسويم أيضأ إظهار سيماء في الشيء، وقد فُسر المسومة على الأمرين. وقُرئ: مسوِّمَة أي معلمة لأنفسها. وقد روي أنه نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، وعليهم عمائم. . . . . . . . . .

صفر، قال ابن عباس وغيره: عنى بذلك يوم بدر. قال: ولم تقاتل الملائكة إلا في ذلك اليوم، وقال الحسن: أمدّهم بخمسة آلاف، لأنه عنى مع الأولين، وقال غيره: بل خمسة آلاف غير الثلاثة آلاف، وكانوا ثمانية آلاف، وقال بعضهم:

إنما أمدهم بألف، لقوله: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) ولم يمدهم بخمسة آلاف، بل المسلمون قالوا: إن كرز بن جابر يمدّ المشركين. فأنزل الله ذلك تسكيناً للمسلمين، ثم لم يُمِدّ المشركين. فلم يمدّ الله المسلمين بهم،

(126)

ولهذا قال: (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ). قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) الضمير في قوله: (جَعَلَهُ) للإِمداد والوعد، ونبَّه أنه إنما أراد بوعدهم وإمدادهم الملائكة نعمة عليهم، وهي مسرتهم وسكون جأشهم، فأما النصر في الحقيقة فليس إلا منه بلا حاجة إلى استعانة، وفيه حثٌّ أن لا يبالوا بمن تأخّر عن نصرتهم. وتنبيه أنه يعين تارة بالمدد وتارة بغير المدد، وأنه ناصر كل منصور أينما كان، وممن كان، إذ هو المسبب لجميعه، والفاعل

(127)

الذي لا يستغني فاعل عنه، ثم وصف نفسه بالعزة والحكمة. تنبيها أن كل عِز منه، وكل حكمة عنه. قوله تعالى: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) الكبت: الصرع على الوجه والرد. والخيبة: حرمان البغية. وتخصيص قطع الطرف من حيث إنّ نقص الأطراف من الشيء موصّل إلى توهينه وإزالته، وعلى ذلك قال: (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا). وقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ). وقيل: عنى بالأطراف

(128)

أعيانهم وصناديدهم. وقوله: (ليقطع) أي نصركم ليقطع، أو وما النصر إلا من عند الله، ليقطع. قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) هو راجع إلى قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، أي ليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء، وهو نجو

قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) وقال بعضهم: ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر وإنما إليه. ونبّه أنك مأمور لا آمر، ومرتسم لا مُرسِم، قيل: بل أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر للمشركين. وقيل: بل أراد أن يدعو عليهم بالاستئصال لما كسروا رباعيته، فقال الله ذلك. وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معطوف على قوله: (لِيَقْطَعَ). وقيل: بل معناه: إلا أن يتوب

(129)

أو يعذب، تنبيهاً أن أمرك تابع لأمر الله. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) بيّن بهذه الآية تحقيق ما قدّمه بأنه هو المالك للكل، وله المشيئة في غفران من شاء وتعذيب من شاء. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) إن قيل: ما اتصال هذه الآية بما قبلها؟ قيل: إنه لما نهى عن الكفر فيما تقدَّم، وقبَّح صورته. وحذَّر منه، وبيّن قدرته عليهم حث قال: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) نهى هاهنا عن تعاطي أفعال الكفرة، وقد

تقدم الكلام في قُبح الربا، وأما أكله أضعافا فقد قال عطاء ومجاهد هو أنهم كانوا في الجاهلية إذا باعوا أو أقرضوا إلى مدة ثم تأخر القضاء زادوا على أصل المال لزيابة الأجل المضروب. إن قيل: لِمَ قال: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فجمع بين اللفظتين؟

قيل: قال بعضهم ذلك للتأكيد. وقيل مضاعفة من الضَّعْف لا من الضِّعف، ومعناه ما تعدونه ضِعْفا هو ضَعْف، أي نقص، كقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو) وقوله: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا). ومن هذا أخذ بعض المحدثين: زيادة شيبٍ وهي نقصُ زيادتي. . . وقوة جسمٍ وهي من قوتي ضعفُ.

ثُمَّ حثَّ على تقوى الله، وذكر أن ببلوغها ترجون الفلاح. واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على فساد بعض ما يدعيه الشافعية من دلالة الخطاب، فقال: لو كان ذلك صحيحا لكان يجوز أكل الربا إذا لم يكن أضعافا، وهذا لأن يكون دلالة عليهم أولى. لأنه لما زهَّدنا في الكثير منه فلأن نزهد في القليل أولى، على أن القضية بذلك على مقتضى العموم، فمجيء ما ترك دلالة خطابه في بعض المواضع لا يفسد هذا الأصل، كمجيء لفظ عام ترك عمومه، وتكرير النهي عن الربا تفظيع لأمره، وتقبيح لشأنه.

(131)

قوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) إعداد الشيء تهيئته قبل الحاجة إليه. وإنما أراد تقديره وإيجاده، فلا حاجة به تعالى إلى الإِعداد. وأصله من العدّ، وقولك: أعددت كذا لكذا، أي اعتبرت قدره بقدره. إن قيل: ما وجه ذكر اتقوا النار بعد قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ)؟ قيل: قد تقدّم أن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) يقال باعتبار ذاته، واتقوا النار باعتبار عقابه، فالأول للأولياء الأصفياء. ولذلك وصله بالفلاح الذي هو أعلى درجة الثواب. والثاني للمذنبين، فلذلك وصله بالرحمة، ولما كانت المنزلة الأولى لا تحصل إلا لمن حصلت له المنزلة الثانية، حثَّ كافة

(133)

الناس على الاستعانة بتقوى عقوبته، والطاعة له ولرسوله في ترك الربا وغيره من المعاصي؛ ليصلوا إلى الرحمة ذريعةً إلى الفلاح. إن قيل: الفلاح لا يخرج من أن يكون رحمة؟ قيل: صحيح، ولكن الرحمة أعم من الفلاح، فكُلُّ فلاح رحمة، وليس كُلُّ رحمة فلاحاً، ومن قال في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) دلالة أن لا فاسق فيها، فليس باستدلال يوجب الركون إليه، لأن ما يصحُّ أن يشترك فيه أقوامْ إذا قيل: أُعِدَّ لفلان. فليس فيه أنه لم يُعدّ لغيره. ثم قد ثبت أن النار دركات، فأكثر ما في ذلك أن النار المعدَّة للكافر ليست للفاسق. قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) إن قيل: ما الفرق بين

الطول والعرض؟ وهل هما على تقديرك ووضعك كالصعود والحدور، أم هما شيئان مختلفان بالذات؟ وذاك أن الطول والعرض من خواص الجسم، فالطول معتبر بالجانب الذي منه ينشأ وإليه ينشأ. والعرض بالجانبين الآخرين، وذلكْ متصور في الحائط والثوب والبيت، وقد يقال ذلك باعتبار الوضع في أشياء كثيرة، وقد وقع شبهة على من لم يتمهر في المعقولات، ولم يتجاوز منزل المحسوسات، وقال: إذا كانت الجنة في السماء الرابعة على ما رُويَ في الخبر فكيف يكون عرضها عرض السموات؛ فجاء قوم من اليهود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل "؟،

وهذه معارضة تقنع العامة بما فيه المقنع، وتطلع الخاصة على ما نبه عليه بقوله: "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت " وقد رُويَ عن ابن عباس: أن لله عوالم، هذا أحدها.

وقال أبو مسلم بن بحر: العرض هاهنا من قولهم: عرضت الشيء بالشيء في البيع، وذلك قائم مقام المساواة. والمعنى: لو عرضت الجنة بالسموات والأرض لكانتا ثمناً لها، وذلك

يفسده قوله في غير هذه الآية: (كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). وقال بعضهم: هو من قولهم: فلان في جاه عريض، وفي سعة ورحب، وقد يقال للكبير عريض، نحو: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ). والمغفرة أصلها إزالة العقوبة، وإن كان قد يقال لها وللإِعطاء. ولمّا أمَر تعالى بالاتقاء من النار، والاتقاء منها مقتضٍ للمغفرة، وذلك منزلة التاركين للذنب، أمره في هذه الآية أن لا يقتصر على التقوى من النار، التي هي مقتضية للمغفرة، بل يتجاوز إلى طلب الجنة، فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ).

(134)

قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) السّرّاء والضرّاء إشارة إلى حالي السعة والضيق، كاليسر والعسر، وإلى حالي السرور والاغتمام، وقد فُسر بهما. واللفظ يتناولهما، فإن السراء يقابلها الغم، والضراء يقابلها النفع، فأخذ اللفظان المختلفا التقابل ليدل كل واحد على مقابله، وهذا من دقائق إيجازات البلاغة، فمن نظر إلى معنى السراء قال السرور والغم، ومن نظر إلى معنى الضراء قال النفع والضر، ولما كان الناس في الإِنفاق أربعة أضرب: ضرب لا ينفق في حالي السّعة والضيق، وهو اللئيم على الإطلاق. وضرب ينفق في حالي الضيق دون السعة، كما قال الشاعر: وكان غنيَّ النفس في حال فقره. . . فصار فقيراً في الغنى خيفة الفقر

وضرب ينفق في السعة دون الضيق، وهو من وجه جبان يخاف الفقر، ومن وَجه حازم يأخد بالوثيقة في أمور الدنيا، وضرب ينفق في الحالين، وذلك أحد رجلين: إما متهورَ لا يتفكر في العواقب، ولا يُبالي من أين يأخذ وأين يضع، وذلك هو الموصوفِ بأنه من إخوان الشياطين، وإما واثق بكفاية الله ينفق ما يحصل في يده اعتماداً على خزائن ربه، لكن لا يتناول إلا من حيث ما يجب وكما يجب، ولا يضع إلا كذلك، وهو الذي يتناول كل آية مُدحَ فيها المنفقون. وكظم الغيظ: هو الحلم، فقد قيل: الحلم: كظم الغيظ، وهو والعفو منزلتان شريفتان، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كظم الغيظ وهو يقدر أن ينفذه خيَّره الله في أي الحور شاء".

وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)، وقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ينادي يوم القيامة مناد: من كان له أجر على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس "، ثم تلا هذه الآية. والفرق بين الحلم والعفو، أن الحلم راجع إلى حال الإِنسان في نفسه، والعفو إلى ما بينه وبين غيره، وإن كان قلما ينفك أحدهما عن الآخر، ووجه الآية أن الله حث في الآية الأولى

على طلب الجنة المعدة للمتقين، ثم بيَّن حالهم وأفعالهم، فذكر ما دلّ على جماع مكارم الأخلاق، وهو السخاء في حالي السرّاء والضراء والحلم والعفو، وذلك أشرف ضربي الشرع، وذاك أن الشرع ضربان: أحكام ومكارم، ولن يستكمل الإِنسان مكارمه إلا بعد أن يستكمل أحكامه، فإن تحرِّي أحكام الشرع من باب العدل، وتحرّي العدالة فرض، ومكارمه من باب الإِحسان، أي التفضل، وتحرِّي التفضل نفل، ولا تقبل نافلة من أهمل الفرض، ولا يفضل من ترك العدل، بل لا يصح تعاطي التفضل إلا بعد العدل، فإن العدل فعل ما يجب، والفضل الزيادة على ما يجب، وكيف تصح الزيادة على الشيء الذي هو غير حاصل في ذاته، وبيَّن تعالى أن من تخصص بمكارم الشرع فهو محسن، والله يحب المحسنين، وإحسان العبد ومحبته الله إياه هو أن يُرى متخصصاً بعامة أوصاف الله على غاية وسع

(135)

البشر، فيصدق عليه أن يقال: هو جواد وكريم وحليم، وودود إلى سائر ما يصح أن يوصف به أولياء الله. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) الفاحشة: ما تناه قبحه مما يدرك بالبصر أو بالبصيرة، ولكونها مستعملة فيهما قيل: فلان فاحش الطول. اعتبارا باستقباح البصر إياه، وقيل للزنى والبخل المتناهي: فاحشة. اعتباراً باستقباح البصيرة إياهما، ويقال: فلان ظلم نفسه. على ثلاثة أوجه:

أحدها: إذا جنى على نفسه جناية لا يتخطاها. والثاني: إذا ظلم ذويه الذين هم بمنزلة نفسه. وعلى نحو ذلك قال الشاعر فيمن ظلم ذويه: وما كنت إلا مثل قاطع كفِّه. . . بكفٍّ له أخري فأصبح أجذما وعلى هذا الوجه قد يُقال ذلك فيمن ظلم واحدا من كافة الناس. إذا كان الناس كنفس واحدة وآحادهم كأعضائها. والثالث: أن ظلم الإِنسان غيره لما كان وباله راجعاً إليه. يقال فيمن ظلم غيره: قد ظلم نفسه، وعامة ما ذكر تعالى: ظلموا أنفسهم. ذكره مقرونا بنفي ظلمه تعالى إياهم، نحو: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، وقد ذكر حيث نهى عن ظلم الغير تنبيهاً على المعنى المتقدم، نحو قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)

والإِصرار: الإِقامة على القبيح. مأخوذ - من الصّرار والصُّرَّة، كأن المصر على الذنب جعل ذنبه مصروراً على نفسه. أي معقودا لا يجد سبيلًا إلى حله. وقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في موضع الحال، أي لم يكن منهم إصراراً مع العلم، واشتراط العلم أنه قد يُعذر الإِنسان مع الجهل في ارتكابه بعض المآثم. كمن تزوج أخته من الرضاعة وهو لا يعلم ذلك، وهذه الآية مع الأولى مشكلة، يقال: هل قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا) صفة للمتقين كقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أم استئناف حكم؟ ولم أُعيدَ ذكر الجنة منكّراً مقروناً بوصف آخر؟ ووجه ذلك أن الله تعالى

لما أمر الناس بتقواه وتقوى ناره أولاً، وأمرهم بالمسارعة إلى المنزلتين أولا: إلى طلب المغفرة التي يستحقها المتقي من النار، ثمِ إلى الجنة العريضة التي يستحقها المتقي من الله، ذكر بقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) حال المتقين لله، المستحقين لتلك الجنة. وقال: هم الذين تجاوزوا تعاطي أحكام الشرع إلى تعاطي مكارمه، والذين اقتدوا بالله على غاية جهدهم في اكتساب صفاته، ثم ذكر حال المستغفرين لوقوع فاحشة منهم أو ظلم، وبين أن لهم جنات أدون من تلك الجنة، فقال: الذين إذا أخلوا بشيء من الواجبات ذكروا الله فأقلعوا، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)

ولم يستمروا على فعل الشر، ثم قال: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) على سبيل الاعتراض بينه وبين تمام الكلام؟ تنبيها أن الإِنسان لا يجب أن يلتجئ إلا إلى الله، وبين أنه من فعل ذلك لم يقتصر تعالى معه على ترك الذنب عليه، بل يجعل له جنات، وجعل هذه الجنات على أوصاف يتصورها الوهم، ويدرك مثلها الحس، وجعل للفرقة الأولى جنة لا يتصورها الوهم، ولا يحيط بها الحسّ، فإن جنّة عرضها السموات والأرض مع كونها في السماء إشارة إلى ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لا عين رأت "، وذلك مما لا يتصوّره الوهم، ولا كانت الفرقة الأولى عاملت أنفسهم وعباد الله بضرب عامل الله به عباد الله وهو الجود والحلم والعفو، سماهم هو تعالى بما استحقه، وهو المحسن، وقابلهم بمقابلةٍ يطلبها هو من العباد أن يقابلوه بها. وهي المحبة، فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) والفرقة الثانية: عاملت أنفسها وعباد الله بما لا يصح أن يوصف الله به. بل يوصف به العبد المتدارك لتقصيره، جعلهم من العَمَلة

المستحقة للأجر، وسمى نفسه حيث ذكر مقابلة الفرقة الأولى فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وهو أعم الأسماء وأخصها به، تنبيها أنهم يراعونه بالإِلهية، وسمى نفسه حيث ذكر مقابلة الفرقة الثانية ربهم، تنبيهاً أنهم يراعونه بالنعمة الواصلة إليهم، التي هي سبب تربيتهم، وعلم أن منزلة الفرقة الأولى منزلة الشاكرين الموصوفين بقوله: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)، ومنزلة الفرقة الثانية منزلة الصابرين الموصوفين بقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فذكر في الشاكرين المجازاة الجارية بين الأحباء، وذكر في الصابرين الأجرة كفاءَ ما يجعل للأجراء، وإن كان قد جعلها بلا حساب، وشتّان ما بين الأجير والحبيب، وهذه من المواضع التي لم أر من تحرى مذهب التحقيق، واشتغل به مع صعوبته، غير أن ابن بحر لما انتهى إلى قوله: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ)، قال: إن المغفرة المذكورة

(137)

هي المذكورة في قوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وكذلك الجنات هي الجنة التي عرضها السموات، وإن ذلك أجرتهم بتلك الأفعال، وهو مع أنه لم يتدبر التفصيل واختلاف المجازين والجزائين وأوصافها لم يتفكر في أن الفكرة إذا أُعيد ذكرها تُعاد معرفة،، وإلا كان الثاني غير الأول، فلو كانت المغفرة والجنات هي التي تقدم ذكرها لقال المغفرة والجنات. قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) الخلاء: المكان الذي لا ساتر فيه، من بنية وغيرها، وقد يقال للمكان الذي لا ساكن فيه، وخليته تركته في خلاء، ثم يقال لكل تَرْكٍ: تخلية حتى قيل: ناقة خلية: مخلاة عن الحلب، وامرأة خلية مخلاة عن الزوج، وسميت السفينة المتروكة تمر بذاتها خلية، وزمان خالٍ أي ماض، كأنه خلا عما كان فيه، وأصل السُّنّة من السنيّ أي

صب الماء على وجه الأرض، وعلى التشبيه به قيل: سننت الدرع، ووجه مسنون، والسنّة: الطريقة المجعولة للاقتداء بها محسوسة كانت أو معقولة، وعُنِي بالسنة هاهنا ما كان من القرون الأولى، أخيارهم وأشرارهم، وما كان في مقابلتهم

منه تعالى ومجازاته إياهم إن خيراً فخيراً، وإن شرًّا فشرًّا في الدنيا تارة وفي الآخرة تارة، على ما بينه تعالى بكلامه، وشُوهد من أحكامه، فنبهنا على اعتبار ما جرى به سننه، وأمرنا بالسير في الأرض والنظر إليه، ولم يعن بالسير السعي بالأرجل، ولا بالنظر نظر العين، فذلك غير مغنٍ بانفراده في معرفة سنة الله في الذين خلوا، وإنما عنى إجالة الخاطر فيها، والنظر بالبصيرة للمتحرين للحكم، والمنبهين على العبر، وعلى هذا قوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، وقوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)، وقد

(138)

حمل بعض الصوفية قوله - صلى الله عليه وسلم - "سافروا تغنموا" على هذا. قوله تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) جعل تعالى القرآن بياناً للعامة والخاصة، فلهذا قال للناس لأنه ما من ذي فكرة استمع إليه إلا حصل منه بيان ما، وجعله هدى وموعظة للمتقين خاصة، وقد تقدم الكلام في تخصيصه هدى لهم في قوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، فالفرق بين الهدى والموعظة: أن الهدى يقال باعتبار معرفة الشريعة وسلوك طرقها إلى ثواب الله تعالى، والوعظ يقال باعتبار معرفة الثواب والعقاب، إن

(139)

قيل: أيراد بذلك أنهم يهتدون ويتعظون، أم انهم يهدون ويعظون؟ قيل: يحتمل الوجهين، ويضحّ حمله عليهما، فهم في الحقيقة يهتدون به ويتعظون، ويهدون به غيرهم ويعظون. قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) الوَهن والوهْي يتقاربان، لكن الوهْن ضعف، والوهْي يقال فيه وفي التخرق، فهو أعم. والحزن: ألم موجع للنفس من فوت مطلوب أو فقد محبوب. إن قيل: كيف أُمِرَ

الإِنسان بأن لا يهن ولا يحزن، وليس ذلك باختياره، بل هو شيء يعرض له بالاضطرار؟ قيل: النهي في الحقيقة متوجه إلى تعاطي فعل ما يورث ذلك، وإن كان في اللفظ متناولا للحزن والوهن، وذلك أن الحزن يعرض بأن لا يستشعر الإِنسان ما عليه جُبلت الدنيا. ولا يعرف أن أموالنا وأبداننا عارية مستردَّة، ولا يحتمل صغار المكاره، فيتوصل بها إلى احتمال ما هو أعظم منها، وعلى هذا قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ). وقوله: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ): قيل: عنى في الاستقبال إشارة إلى نحو قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، فيكون هذا وعداً لهم،

وقيل: أراد في الحال فإنهم الأعلون بالحجة ورجاء المعفرة. إشارة إلى نحو قوله: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) ومثله: (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى). وسبب نزول ذلك، قيل: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطلب القوم بعد يوم أحد، وقال: "لا يخرج معنا إلا من شهدنا بالأمس "، فاشتد على المسلمين، وقالوا: فينا جرحى، فأنزل الله تعالى ذلك، ونبَّه بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أن من شرط

(140)

الإِيمان رفض الوهن والحزن وأنتم مؤمنون، فواجب أن لا تهنوا ولا تحزنوا سيما والعلو لكم. قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) الفرق بين المسّ واللمس: أن اللمس أخص، فإنه بالحاسة، والمس به وبغيره، وهو ههنا

عبارة عن الإِصابة والقرح أعم من الجرح، فإن الجرح إصابة الجارحة في الأصل، والقرح يقال له ولما يحدث من ذاته، نحو قَرِحَ البعير إذا خرجِ به قَرْحَة، وهي شِبه جرب. والقرح مصدر ثم يسمى المقروح قرِحا. والقُرْح الاسم، وقال بعض أهل اللغة: القَرْح: الجراحة. والقُرْح: ألمها. والدول والدور يتقاربان، لكن الدور أعم، فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي،

وكذلك الجد، ولهذا قيل: "لا ينفع ذا الجدَ منك الجد" أي الحظوظ الدنيوية غير نافعة في القيامة،، نحو: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ)، وقوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) قيل ليعرف، ولهذا تعدى إلى مفعول واحد. وقيل: إن مفعوله الثاني محذوف ومتى قيل في الله: إنه علم كذا أو لم يعلمه، فليس القصد إلى إثبات علمه أو نفيه. وإنما القصد إلى إثبات ذلك الشيء أو نفيه، وإذا استعمل في غيره

فإنه يقال على الوجهين، وأما الشهداء فقد قيل: هم المذكورون في قوله (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). وقال الحسن وقتادة: عنى بها المقتولين في الحرب، وسُمُّوا بذلك لقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) الآية،

لما جعلهم أحياء عند ربهم سُموا شهداء، وأصل ذلك أن غاية ما يستحقه الإِنسان في الآخرة القرب من الله، وكونه عنده، ولما وعد الله القتيل في سبيله بذلك سُمي شهيداً، ونبَّه تعالى بالآية أنه غير إنصاف لمن ساوى العدو في المغالبة الدنيوية أن يحزن، فكيف بمن كان غالباً، وبين بقوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا) أن من حق العاقل أن لا يبالي بما يفوته مالاً كان أو جاهاً أو قهراً. فإن الله جعل بِنْيَةَ الدنيا على أن تكون أعراضها دولاً بين أخيارهم وأشرارهم، وليصبر الأخيار فيما يصيبهم من المحن، ويشكروا ما ينيلهم من المنح، فيصلوا بذلك إلى ثوابه، وعلى ذلك (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) إن قيل: هل يصح أن تكون الدولة للكافرين على المؤمنين؟ قيل: يجوز ذلك إذا كانت الدولة من الحظوظ الدنيوية، التي قد يُعطى الكافر منها أكثر مما يُعطى المؤمنون، قال قتادة: ولولا الدولة ما أوذي المؤمنون،

(141)

لكن قد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليتميز المطيع من العاصي، وقد حكم تعالى في كل ذلك أن الغلبة للمؤمنين في الحقيقة بقوله: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ). وفي قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، تنبيه أنه لا ينصر الكافرين في الحقيقة، وإن تصور بعض الناس ما يعطيهم في بعض الأحوال نصرة منه، تنبيه أنه لا يظلم، فمحال أنه مع حكمه بأنه لا يحب الظالمين يفعل فعلهم. قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) المحص كالفحص، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء من

خلال أشياء منفصلة عنه، والمحص في إبرازه عن أشياء متصلة به. قال الخليل: التمحيص: التخليص، عن العبث، يقال: محِّص عنا ذنوبنا، والمحق هو إبطال الشيء حالا فحالا.

والقصد بتمحيص المؤمن ما ذكره في قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). وقوله: (وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) وعلى معنى المحص ما ورد من لفظ الفتنة والابتلاء، والقصد بمعني الآية أن المؤمن والفاسق كسبيكتي ذهب: إبريز كَلف، وبهرج من خزف إذا فتِنَا خلص الإِبريز، وانمحق البهرج، فكما أن السبك سبب لاختيار الإِبريز وإعداده في خاصّ الخزانة، وسبب لاجتواء البهرج وطرحه بالمبعد، كذا التكليف سبب لاصطفاء المؤمن لكريم جوارِه، وطرد الكافر إلى حرق ناره، كما قال في المؤمنين. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)، وقال في الكافرين: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).

(142)

قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) معنى أم حسبتم: لا تحسبوا، واستعارة الاستفهام للنهي، مبالغة في المعنى،

و (أَمْ): على وجهين: معادلة للألف، ولاستئناف استفهام، ويُفسر ببل، ومن النحويين من قال: لا تنفك من أن تكون تابعاً للألف. إما ملفوظاً به أو مقدراً، وقال: وتقدير الكلام ههنا لما ذكر قوله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أعلمتم ذلك (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ). وقد تقدم أن كل موضع نُفي فيه علم الله فإنما هو نفي لما يتعلق به، ويدل على صحة ذلك قولهم: ما علمت أحداً

يخرج إلا زيدٌ، فجاز الرفع في زيد لما كان معناه ما يخرج أحد فيما علمت إلا زيد، وأما قوله: (وَيعْلَمَ) فمنصوب على الصرف،

وقد قُرئ (وَيَعْلَمْ الصَّابِرِينَ) بالجزم، والفرق بين العطف والنصب على الصرف هو أنه إذا كان عطفا يراد حصول الفعلين مجتمعين كانا أو مفترقين، وإذا نصب فالمراد حصول الفعلين معاً، ونفيهما معا، على ذلك قول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله. . . معناه لا تجمع بين الأمرين معاً، ويحتمل أن يكون (وَيَعلَمَ)

(143)

معطوفاً على قوله: (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، وذاك أنه لما ضمن للصابرين دخول الجنة في غير موضع، بين ههنا أن لا يدخلوها محكوماً لهم بالصبر، ولما يجاهدوا، إذ كان الصبر لا يثبت إلا بمجاهدة النفس، ولم يعن بالمجاهدة الجهاد في حرب الكفار فقط، بل أراد ذلك ومجاهدة الشيطان والنفس المدلول عليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم "، ونحو هذه الآية قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ). قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) سبب نزولها أن قوماً لم يحضروا بدراً كانوا يقولون: ليت لنا يوماً مثله، حتى نجاهد.

وقيل: سببه أن قوماً سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن لهم أن يأتوا المشركين في رحالهم ويقاتلوهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لم أؤمر بذلك ". والموت عبارة عن الحرب، كقول الشاعر: إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا. . . إلى الموت إرقال الجمال المصاعب وأراد أنكم تمنيتم الحرب فلِمَ تحيّرتم؟ والنظر يكنى به عن التحيرّ، نحو:

والموت خزْيان ينظر وقيل: وأنتم تنظرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه بين أظهركم، وذلك تبكيت لهم، وقول النحويين: أراد بالموت سببه، فحذف المضاف، فقريب، وقول أبي علي الجبائي: إنه لا يجوز أن

(144)

يتمنّوا قتل المشركين لهم، "فإن قتل المشركين لهم كفر بالله، ولا يجوز للمؤمن أن يتمنّى الكفر بالله، وإنما تمنّوا الموت الذي هو فعل الله في الحال، التي يكون فيها أبعد من العاصي، فهذا تحَيُّل لمراد القوم إنما تمنوا حرباً ليبلوا فيها بلاءً حسناً. قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) رُوي أنه لما كان يوم أحد نادى منادٍ: قُتِلَ محُمّد، فقال قوم: علام نقاتل وقد قُتِلَ رسول الله؟! فأنزل الله ذلك. والإِشارة بالمعنى إلى ما قال أبو بكر لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان يعبد محمداً فإنه قد مات، ومن كان

(145)

يعبد الله فإن الله حي لا يموت، أيها القوم إن الله قد نعى إليكم نبيكم " ثم تلا الآية، ولفظ الاستخبار يتناول: (انْقَلَبْتُمْ). وقوله: (فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) تعريض بهم بأنهم يضرون أنفسهم. إن قيل: كيفْ تعلق قوله: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) بما قبله؟ قيل: إن ذلك قضية حُذِفَ بعضُها، تقديرها: ومن أحسن يجزه الله. فإنه سيجزي الشاكرين. قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145).

اللام في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ) على سبيل نسبة الانفعال إلى المنفعل، كقولك: الموت للنفس والنسج للثوب، ولما توهَّم المنافقون أن القتل غير الموت، وأن الإِنسان سيجد سبيلًا إلى الخلاص منه، ولم يتصوروا تقدير الله وأن ذلك مقضي لا انفكاك منه، حتى قالوا: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)، بين تعالى أن الموت شيء مقضي محكوم به، وهذا معنى (كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، فلا تأخير له، ودل على ذلك بآيات الله. نحو قوله تعالى: (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ). وقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ)

وقوله في هذه السورة: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) وعلى ذلك قول الشاعر: . . . أن الفرار لا يزيد في الأجل ولما كان أكثر الأعمال مشتبه الصور، وإنما يتميز الخبيث من الطيب بالنيات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمال بالنيَّات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " الخبر. والمجاهد في سبيل الله ثلاثة: إما قاصد به الآخرة غير ملتفت إلى الدنيا،

وإما قاصد عرضا دنيويًّا مراعيا فيه حكم النّه على ما ورد الأمر في قوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). وإما قاصد عرضاً دنيويَّا غير مراع فيه حكم الله على ما دل عليه قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) فُسِّر على الوجهين: أحدهما: أن لفظ الثواب ههنا على التوسع، وإنما هو على نحو الحرث في قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) ويكون المعنى على نحو ما بينه في قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ). والثاني: أن الثواب هو الذي يحصُل للإِنسان ولا يلحقه فيه تبعة. فالمراد به ما ذكره في قوله:

(146)

(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من طلب الدنيا استعفافاً عن المسألة، وسعياً على أهله، بعثه الله ووجهه كالقمر ". وقو له: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) قد تقدم الكلام فيه. قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146). كأين: بمعنى كم، وأصله أي دخله الكاف، والنون في

آخره هو التنوين، قيل: وإذا وقف يقال كأيْ على قول من قال مررت بزيدْ، وكأيى على قول من قال بزيدي، وقال بعض النحويين: يجوز أن يُقال كأيِّن في الوقف، لأنه لمّا تركبا صار التنوين. كحرفٍ من الكلمة، كقولهم: رعملي ولعمري. والرِّبيّ: قيل: التقيِّ العالم المنسوب إلى الربّ، وكذلك الرّباني وغُيِّرَ في النسبة كقولهم في أمس إمْسِيٌّ، وفي الجُمَّةِ جُمّانيّ، وقيل الرِّبيّون الجماعات الكثيرة، ومنه قيل للجماعة رِبَّة، ولما يجمع فيه القِداح رِباية، والفرق بين الوهن والضعف: أن الوهن إخلال يغير

الإِنسان، ويضادّه الشّدة، والضعف أختلال بنقصه ويُضادّه القوى، والاستكانة: الخشوعُ والتضرعُ للمخافة. وقيل: قُتِل هو فعل مسند إلى قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ)، " و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ)، استئناف في موضع الحال، كأنه قُتل ومعه. وقال الحسن: ما قُتل نبي قط في حرب. وقال بعضهم ما قال الحسن؛

وإن صح فإنّه لا ينفي أنه قُتل في غير حرب. وقيل: إن قوله: (قُتل) فعل لقوله (ربيون) أي قُتِل جماعة منهم، فلم يهن الباقون منهم، ومن قرأ: (قَاتَلَ) فيحتمل الوجهين. وقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ). فقد جعلهم محبوبيه تعظيماً لقدرهم، وإلى معنى المحبة أشار بقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الصبر خير كله ". وقال: " الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد".

(147)

قوله تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) الفرق بين الدْنب والإسراف من وجهين: أحدهما: أن الإسراف نجاوز الحد فى فعل ما يجب، والذنبُ عام فيه وفي التقصير، فإذاً كل إسراف ذنب، وليس كل ذنب إسرافاً. والثاني: أن حقيقة الذنب: التقصير وترك الأمر حتى يفوت، ثم يؤخذ بالذنب. والذنب إذن في الأصل مقابل الإِسراف، وكلاهما مذمومان، أحدهما: من جهة التفريط. والآخر: من جهة الإِفراط.

والمحمود هو العدالة، والقصد المنفك منهما، وثباتَ القدم في الأمر اللزوم، وعلى هذا قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، وكيفيّة تثبيت الأقدام، قيل بإلطاف من جهته، وقيل بإنزال الملائكة عليهم، وذلك عام في كل نصرةٍ ينصر الله بها عبده من قوة نفسه. ومما يعينه من خارج. وقيل: أشار بذلك إلى سؤال الصيانة عما يحبط ما تقدم من الأعمال. وهذا السؤال نحو ما رُوي

(148)

عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ". والآية هى من جملة الحكاية عن الرِّبيين، وتحقيقٌ لما قال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآية، وحثٌّ على الاقتداء بمن تقدّم في أحوالهم التي وصفوا بها، وهذه الجملة من التضرّع إلى الله وهو جِماع سؤال الخيرات، فقد سألوا الله العفو عنهم فيما كان منهم من إفراطٍ وتفريط، والحراسة في أنفسهم ونصرهم على أعدائهم. قوله تعالى: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148). ذكر في ثواب الآخرة الحُسن تنبيها أن ثواب الدنيا بالإِضافة إليها غير مُستحسنٍ لانقطاعه، ونبّه بالآية أنّ من أراد ثوابَ الدنيا

لم يحصل له ثواب الآخرة، وأنّ من أراد الآخرة حصلت له الدنيا والآخرة معا، وعلى هذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت همّته للدنيا شتت الله عليه أمره، وجعل فقره بين عَينيه، ولم يؤته من الدنيا إلا ما كتِبَ له، ومن كانت همّته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" وهذا المعنى الذي اقتضاه الخبر ذكره

ابن الرومي في قوله: وتاجر الأجر لا يزال له. . . أمران كل متجرٍ تجره أجر وحمد وإنما قصد الـ. . . أجر ولكن كلاهما اعتوره وسئل سفيان بن عيينة: هل يُعطى المسلم ثواب عمله في الدنيا؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية، وقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). وقوله في قصة يوسف: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، تْم

(149)

قال: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149). هذا هو المعنى المذكور في قوله: (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ)، لكنه لما ذكر هناك باللفظ العام وهو أهل الكتاب الواقع على مؤمنهم وكافرهم خصَّ فريقاً منهم. فإن قيل: لم غيّر العبارتين؟ ولم كرر ذلك؟ قيل: إنه عرّض في الأول بالنهي، فلما بيّن أحوال المنهيّ عن طاعتهم، ونبّه على فساد طريقتهم وإرادتهم الشر بالمسلمين أعاد النهي عن طاعتهم مصرِّحًا، وهذه الطريقة يسلكها الوعظة المهرة، فنهي الإِنسان عما يهواه إذا لم يعرف قبحه إغراء بفعله،

(150)

فحقٌّ للواعظ أن يتوصل أولاً إلى كشف قبحه، وما يعرض فيه من الفساد، ثم يصرحُ بتحريمه، والنفي عنه. وقول الحسن: إنه عنى بالذين كفروا: اليهود والنصارى. وقول السدّي: إنه أراد المشركين أبا سفيان وأصحابه، فكلاهما صحيح. فاللفظ عام، ومطاوعتهما ترد على الأعقاب وتورث الخسران. قوله تعالى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) لما تقرر في العقول: أن المولى يَعُزُّ بحسب عِزَّة مواليه. وتقرر عند المسلمين أن الله هو العزيز في الحقيقة، وأن كل عزيز فمنه وبه يَعزُّ، وقد كان نهاهم في الآية المتقدمة عن موالاة الكفار، والدخول تحت طاعتهم بيّن، أن من

(151)

كان، الله مولاه فهو غني عنهم فهو خير مولى وناصر. وهذا المعنى قد نبه تعالى عليه في مواضع بألفاظ كثيرة، نحو (نِعْمَ الْمَوْلَى)، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا). وفي لفظة بل تلطف وتنبيه أن من المحال أن يكون من تخصص بموالاة الله، وعرف أن العزَّ منه أن يعتمد غيره أو يقصد سواه. قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) الرعب: استرخاء القوى وتقطُعُها من الخوف، ومنه:

جارية رعبوبة، ورعبت السنام قطعته، وبهذا النظر قالوا: تقطَّع نياط قلبه، وانخلع قلبه، وتوزَع خاطره. والسلطان: الحجة، وقد تقدم. والمثوى: إطالة الملازمة. وقوله: (بِمَا أَشْرَكُوا) أي إشراكهم،

وقوله: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) بدل من ما الأولى، لكن بمعنى المصدر، إذ لا ضمير يرجع إليه، والثاني بمعنى الذي، إذ فيما بعده ضمير، ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر. أو على تقدير: أعني شيئا لم ينزل به سلطانا. والمعنى لا يختلف، ونبّه أنه لم يجعل لهم حجة فيما قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ولقوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، ولظهور حكمه، وما شوهد

من صدقه. قال - عز وجل -: "نُصرتُ بالرُّعبِ ". وتصديق ذلك قد شوهد، فقد كان الصناديد يقصدونه عليه السلام لمكاوحته أو الاغتيال عليه، فما كانوا إلا أن يُمكِّنوا أبصارهم منه فيذلوا. ولمشاهدة الحالة قال فيه الشاعر: لو لم تكن فيه آيات مبينة. . . كانت بداهته تُغنيك عن خبر وهذا أحد دلائل للنبوات التي يعتمدها من عرف الحقائق. وليس هذا الرعب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، بل لأحزابه والمقتدين به، حتى نرى من رجح عقله وحسن في قمع الشهوة حاله مهيب. وجعل جهنم مثوى مذموما بالإِضافة إلى الطباع، واعتبارها بكراهتها لها،

(152)

وعلى ذلك قوله: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا). قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152). الحسُّ: يُقال للإِصابة بالحاسّة نحو عِنْتُه ويَدَيْتُه، أي أصبته بهما. ويُقال تارة لإِصابة الحاسّ نحو بطنته وظهرته، أي أصبتهما. ولمّا كان إصابة الحاسّة قد يتولد منه فقد الروح استُعير للقتل،

وإذنه هاهنا يصح أن يكون أمره، وأن يكون تسهيله وتوفيقه. والفشل: ضعف النجيزة، وذلك يكون عن الحرب، وعن السخاء، بل عن تحمل المضض، وجعل تعالى ميلهم إلى الغنيمة فشلًا، فإن الحرص والبخل من فشل النجيزة، وسبب نزول هذه الآية فيما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد وعد المؤمنين بقهر الكفار يوم أحد، ولما صفّ الصفوف جعل أُحُداً خلف ظهره. واستقبل المدينة، وجعل عَيْنَينَ وهو جبل عن يساره، ورتب

عليه رماة خمسين، واستعمل غليهم عبد الله بن جبير، وأوعز إليهم أن قوموا في مصافكم، فإن رأيتمونا وقد غنمنا فلا تشاركونا. وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، فلما رأوا الكفار يهزمون. اختلفوا فبادر بعضٌ إلى المعركة، ونظر خالد بن الوليد إلى الجبل وكان كمينًا للمشركين، فكَرَّ بالخيل، فقتل من بقي من الرماة، وانتقضت صفوف المسلمين حتى كان ما كان، فقال

قوم: إن الله قد وعدنا نصرنا، فتغيّرت قلوبهم، فبيّن تعالى أنه قد صدقكم وعده، وأخذتم تقتلونهم إلى أن اعتراكم الفشل. ووقع بينكم تنازع، فصرفكم عنهم. وقوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا) قيل: الغنيمة. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي نصرة النبي في ترك المكان والمبادرة إلى القتال.

وقيل: بل عنى بمن يريد الآخرة من أقام حافظاً لما استُحفظ. وقوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) قيل: صرفهم إنما كان. بمنع النُّصُرة وترك إنزال الملائكة عليهم والسكينة، وبإخراج ما في قلوب الذين كفروا من الرعب، فبيّن أن لم يكن صَرفكم عنهم خذلاناً لكم، بل كان مؤاخذة لميلكم إلى الدنيا وابتلاءً لكم، كما بينه بقوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)

وذكر أنه عفا عما كان منهم من مخالفتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإخلالهم بالمركز، قال الحسن: عفا عنهم، إذ لم يستأصلهم. فقد قتل منهم من قتل، وكسر رباعيّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: (عَفَا عَنْكُمْ) حيث عاقبكم في عاجل الدنيا، وأفضل عليكم بذلك لكونه موعظة لكم في معاودة مثله)، ثم بيّن أن

الله ذو فضل في عفوه عنكم في انهزأمكم وفي صرفكم عنهم، الذي صار سببا لتهذيبكم وتمحيصكم، وسبباً لأن تصيروا مجاهدين في المستقبل، فيعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، فكل ما هو سبب خير وإن كُره ففضل. واختُلفَ في جواب (إِذَا) فقال الفرّاء: تقديره تنازعتم. والواو مقحمة، قال: وذلك يكثر مع إذا نحو (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ) أي: فتحت. وقوله: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ) أي ناديناه. وقال ابن بحر: ثم صرفكم جواب، وتقديره صرفك، وقال: ودخل (ثُمَّ)

(153)

في الكلام، لأنه في المعنى مثل: إذا، وكأنه رد لفظ إذا لما طال الكلام، كقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، ثم قال: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فأعاد لمَّا لمَّا طال. فكذلك القول في (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) وهذا القول أستطرفه. فإني أراه تصور ثُمَّ بمعنى ثَمَّ على التقدير الذي ذكره. وقال البصريون: جوابه في هذه الأمكنة كلها محذوف. قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) إذ: متعلق بقوله: (عَفَا) وبقوله: (ذُو فَضْلٍ). والإصعاد: الإِبعاد في الأرض، سواء كان

في صعودٍ أو حدورٍ، وإن كان أصله من الصعود كقولهم: تعال في أنْ صار في التعارف، قد يقال لغير معنى العلو. والصعود: الذهاب في صعود. ولما روى قتادة والربيع: أن

من هرب من المؤمنين ذهبوا في الوادي. وروى الحسن أنهم صعدوا في الجبل. وقرئ (تُصْعِدُونَ) اعتباراً بالرواية الأولى و (تَصعَدون) اعتباراً بالرواية الثانية، وإنمّا ذلك باعتبار علوِّ الإِنسان في أمرٍ تحرَّاه، كقولك: أبعدت في كذا، وارتقيت في كذا كل مرتقى، فكأنه قيل: إذ تبعدون في استشعار الخوف،

الاستمرار على الهزيمة. وقوله: (وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) تعريض بهم في الهزيمة. ونحوه تحرّاه حسان، بقوله. ترك الأحبةَ أن يُقاتل دونهم. . . ونجا برأس طِمِرَّة وثّاب

وقرأ الحسن: (وَلَا تَلْوُونَ) من ولي. وقال بعضهم: هو خطأ. ووجهه أن ذلك تبكيت لهم، وأنهم لم يلو ما وُلُو بل أخلّوا. وقوله: (يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)، أي هو بين جماعة المتأخرين منكم. وروي أن رسول الله) مم كان يناديهم: "يا عباد الله ارجعوا". إن قيل: كيف قال (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ)،

والإِثابة تُقال في المحبوب دون المكروه؟! قيل: قد قال بعضهم: إن ذلك يستعمل في المكروه على أحد وجهين: إمّا لأن الثواب في الأصل ما يرجع إلى الإِنسان من ثمرة فعله خيراً كان أو شرّاً، ولكن تعورف في الخير، فإذا استعمل في المكروه فعلى اعتبار الأصل. والثاني: أن ذلك على الاستعارة، وضرب من التهكُّم في كلامهم، كقوله: . . . تحيه بينهم ضرب وجيع

وقال بعض المحققين. إنما ذكر لفظ الإثابة هاهنا في الغمّ، لأن غمّهم وإن كان مكروهاً بالطبع فهو ثواب من الله من وجه، لأنه كان سبب تهذيب نفوسهم، الذي بيّنه تعالى بقوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)، وكل أمر يؤدي بالإنسان إلى أن يجعله بحيث لا يقلقه فوت مطلوب وفقد محبوب فيا له من ثواب، ولهذا قال حكيم: جماع الزهْادة في قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) فقوله: (غَمَّا) من المفسرين

من اعتبر الغمّين بالمسلمين وقال: أحدهما: ما وصل إلى قلوبهم من الفشل. والثاني: الخوف. وقيل: أحدهما: مخالفتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: فوت الغنيمة. وقيل: ما سمعوا من قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: إشراف أبي سفيان عليهم. والوجه: أن كل

ذلك مراد، لأنه ليس يعني بذلك غمّين، بل غموماً كثيرة متتابعة متوالية كقولهم: لبّيك وقوله: (بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ) أي نعمه متوالية، ومنهم من اعتبر أحد الغمين بالمسلمين

(154)

والآخر بالكافرين. فقال: أنالوكم مثل ما أنلتموهم، تنبيهاً على معنى قوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) وقوله: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أي عالم به يخبركم به، تنبيهاً على ما قال: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

قرئ (تغشى) ردًّا على لفظ (أمنة)، و (يَغشى) إلى لفظ (نُعاسًا). وقُرئ (كُلَّهُ) على الابتداء، و (كُلُّهُ) على التأكيد، وقيل: السبب في نزولها أن يوم أحد تواعد المشركون بالرجوع، وكان المسلمون

متهيئين للقتال، فأنزل الله تعالى على المؤمنين أَمَنَةً فنام بعضهم. ونفى عن المنافقين الأمنة، فسهروا منزعجين، فمن حمل النوم على الحقيقة قال: جعل ذلك رأفةً بهم،

وتخصيص النعاس تنبيه على صيانتهم من الحالة المذمومة من الامتلاء من النوم، ومنهم من جعله استعاوة لطمأنينة جأشهم. وزوال خوفهم، وذلك لما ترى من حال المطمئن، ويوصف المغموم بالسهر، ومنهم من تجاوز ذلك، وقال: إنّه لمّا ذكر في الأول قوله: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) بيّن هاهنا أنه تعالى هذَّب طائفة من المؤمنين، حتى صارت نفوسهم آمنة مطمئنة تحت قضاء الله، وهذه حالة الرضى، فقد قيل: الرضى أن يكون العبد ساكنا تحت قضاء الله، مطمئناً عند كل وارد سَرَّ أم ساء، وهذه الحال ادعاها الشاعر صادقاً أو كاذباً في قوله:

فسرَّ ولم ابتهج. . . وساء ولم أشتكي وقوله تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) تنبيه على خبث أنفسهم، وأنها أمارة بالسوء، وذاك أن المنافق شرير. والشرير لم تتهذب نفسه وأحواله من الغضب والشهوة والحرص وسائر الرذائل، وكأن ما معه عدو يؤذيه، ولهذا لا يمكنه أن يخلو بنفسه، لأنه لا يجد شاغلًا له، وكأنه خُلِّيَ مع أُسود وأساود. وقوله: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) تنبيه على جهلهم وعدم معرفتهم بحكمة الله ونعمته في قهر الكفار للمسلمين في بعض الأحوال. وأنها نعمة. وظنهم غير الحق: ظنُّهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدقهم، ويأسهم من نصرة الله تعالى. وقوله: (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) أي ظن

الكفار، أن هؤلاء المنافقين بعدُ في حيّز الكفار، وفي قِلَّةِ معرفتهم الله بحكمة الله تعالى، وأنهم لا يعرفون الخير والنعمة إلا المال والجاه والغلبة الدنيوية، فإذا فاتهم ذلك ساء ظنهم. وقوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ): هل لنا طمع الغلبة، تنبيها أنهم استشعروا اليأس الذي يستشعره القوم الكافرون، فأكذبهم الله تعالى، فقال: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي الغلبة الحقيقة له ولأوليائه، فإن حزب الله هم الغالبون. وقيل: عنى بالأمر الاستئمار، أي لو شُووِرنا لأشرنا بترك هذا المورد، فقال الله تعالى: (الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي هو أعرف بالتدبير.

وقوله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) معناه لولا أنا أكرهنا لما خرجنا، وفصل بين الحكايتين عنهم، أعني (هَل لنا) وقوله: (يَقُوُلون) بجملتين: إحداهما: جواب لهم، وهي قوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ). والثانية: تنبيه على ما في ضمائرهم، وهي قوله: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ). ولمّا فصل بينهما أُعيد في الحكاية عنهم لفظ (يَقُولُونَ) لئلا تشتبه الحكاية عنهم بما هو إخبار منه تعالى،

وقال بعض المعتزلة: عنى بقوله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أنه كقوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) وهذا إن كان كما قاله هذا القائل، فقوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) تصديق لهم. وقوله: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) تكذيب لهم، وأنه محالٌ - أن لا يُقتلوأ مع أن قتلهم بذلك المكان جارٍ في قضائه وتقديره، وقد حُمِلَ ذلك على وجهين: إما أنّ من فدر له القتل لو لم يخرج لأتاه القتل، وهو في مضجعه في داره،

والثاني: أنه لو كنتم أيها المؤمنون قعدتم في بيوتكم، ولم تخرجوا للمحاربة لخرج من قُدِّر له القتل بسبب خفي إلى مضاجعهم في الحرب أي مصارعهم فيُقتلون، تنبيهًا أن قضاء الله وتقديره وعلمه لا يتغير، وأنه لا ينفع حذر من قدر، وإلى هذا أشار الشاعر بقوله: إذا ما حمام المرء كان ببلدة. . . دعته إليها حاجةٌ فيطيرُ وقال الأصمّ معناه: لو كنتم أيها المنافقون في بيوتكم، ولم تخرجوا لبرز المسلمون الذين كتب عليهم أي أوجب أن يقاتلوا محتسبين، ويكون هذا ثناء من الله تعالى على من استُشهد. إن قيل: ما حقيقة الابتلاء والفصل بينه وبين المحص؟

قيل: الابتلاء في الأصل هو الاختبار، الذي يفصل به بين الخير والشر فهو اسم الفعل مبدأ ونهاية، فمبدؤه الاختبار، ونهايته الفصل بين الخير والشر إذا استُعمل في الله تعالى، فإنّه يُراد به النهاية دون المبدأ، الذي هو التوصل إلى الفصل. وأما التمحيص فإزالة ما قد انفصل من الخير عن الشرّ. وكان المقصود به ما ذكره الله تعالى في قوله: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

إن قيل: على ماذا عطف قوله: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ)؟ ولمَ كرّر الابتلاء بعد أن ذكره في قوله: (لِيَبْتَلِيَكُمْ؟ ولمَ علّق الأول بالذات كلها، والثاني بما في الصدور؟ وما الفرق بين قوله: ما في الصدور، وبين قوله: ما في القلوب، وخصّ ما في القلوب بالتمحيص؟ قيل: أما ما عطف الابتلاء فعلى قوله: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا)، وفصل بينهما بما هو تسديد الكلام وإشباع للمعنى، وهذا جائز، وقد تقدم الكلام في نحوه، ويجوز أن يتعلق بمضمرٍ دلَّ عليه ما تقدم من قوله: (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)، وأما تكريره وتعليق الأول بالذات والثاني بما في الصدور، فإن لله تعالى تكليفين: الأحكام والمكارم كما تقدم، والأحكام قبل المكارم. وجُلُها متعلِّق بالضمائر، وعملُ الجوارح فيها قليل، فحيث

ما أراد منهم الحكم وهو الثبات في الحرب والجد بالجوارح، علّق الابتلاء بالجملة، وحيث ما قصد المكارم من إصلاح الضمير. من نقض الحزن ورفض الذعر ذكر الصدر، وحينما ذكر الإِيمان المحض ذكر القلب، وكل موضعٍ يذكر الله في القرآن العقل. والإيمان، فإنه يخصُّ ذكر القلب، وإذا أراد ذلك وسائر الفضائل والرذائل ذكر الصدور، وهذا إذا اعتُبر بالاستقراء انكشف، نحو قوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). وقوله: (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وقوله: (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم). وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). وقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ). وقوله: (فِي صُدُورِ النَّاسِ)، ولما كان التمحيص أخصَّ من الابتلاء كما تقدم خصَّه بالقلب، وهذه الأحوال الثلاث يترتب بعضها على بعض، فبإصلاح العمل يُتوصل إلى إصلاح ما في الصدور

(155)

من الشهوة والغضب، وبهما وبإصلاح ذلك يَتوصل إلى إصلاح ما في القلوب من الاعتبارات التي لا يعتريها شك وريب، وذلك ما يبلغه العبد، وبه يستحق اسم الخلافة لله المذكور في قوله: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، ثم قال: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، أي عالم بجميع ما ينطوي عليه من الضمائر الطيبة والخبيثة. وخصَّ الصدور دون القلب إذ هي أعم. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

قال السدّي: هو خاصّ في الذين انهزموا إلى المدينة. وقال عمر وبه قال الربيع وقتادة: بل في الذين ولوا المشركين أدبارهم. فيكون عامًّا فيمن أبعد ومن لم يبعد، وبيَّن أن الشيطان استزلهم بخطيئة كانت منهم. قال الزجاج: إنما أذكرهم خطايا سلفت لهم. فكرهوا أن يُقتلوا قبل أن يتوبوا. وقيل: بل كان منهم خطيئة صارت مسهلة لسبيل الشيطان إليهم. فإن الإِنسان إذا حصّن ثغره بالعمل الصالح والعلم فقد سدَّ طريق الشيطان على

(156)

نفسه، ومتى أهمل ثغره سَهَل سبيل عدوه إليه، وجعل له ثلمة يدخل منها عليه، وذلك بأن يُفسد إرادته، وبيّن أنه تعالى عفا عنهم، وقيل: ذلك بحلمه عن تعجيل عقوبتهم. وقيل: بل بالغفران عنهم عاجلاً وآجلاً، وهو الصحيح، لأنه جعل علة عفوه الأمرين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156). 41) 51) ثُلمة: الملْمة با لضم ": فرجة المكسور والمهدوم. القاموس ص (1452). لْصحفت في الأصل إلى (بحمله) والصواب ما أثبته. ذكره ابن عطية عن ابن جريج. انظر: المحرر الوجيز (3 274). واختاره السمرقندي في بحر العلوم (1 310). قال أبو حيان: "ألجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في الدنيا والاخرة 00. (إ تً أفَهَ غَفور زَصِير) أي غفور الذنوب. حليم لا يعاجل بالعقوبة، وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد. . . " البحر المحيط (3 99) وانظر: جامع البيان (7 327)، والمحرر الوجيز (3 274)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1 395). سورة آل عمران، الإية: 156. ونصُّها: (يايخا اَلًذِينَءَامَنُوا لَا تَ) ولؤُا ؟ لَذِينَ كَفَرُوأ وَفَالُوأ لِإخوَنِهِتم اذَاضرًبُرا فِى اَ لازضِى أَؤ كاَلُؤا غُزً ى) ؤكاَلؤُأغَدَنَا مَا مَالؤُاوَمَاقُتِلُوأ لِ) خحَلَ اَلمَهُ ذَلِكَ حَمتحر لى قُلوُبِهِتم وَاَلئَهُ قُيِءلَيمُميث وَأللَهُ سا لغمَلُونَ بَصِيُرُ). 941

الذين كفروا عام، وإن كان قد قال السدّي: عُني به عبد الله بن أُبيّ وأصحابه. والضرب في الأرض: الإِبعاد في السفر. وغُزًّى: جمع غازٍ، نحو شُهّد وقُوّل في شاهد وقائل. وإخوانهم: من سلك طريقهم في الكفر والنفاق،

والحسرة: الغمّ على ما فات، وأصلها الإِعياء عن إدراك المطلوب. وسُمّي الغمُّ بذلك: إذ لا يفيد الإعياء، وعلى هذا قيل: . . . إن ليتاً وإن لوًّا عناء إن قيل: إذا كان الإِخوان هم المقول لهم، فالوجه أن يُقال: لو كنتم، لأنه يقال: قلت لزيد: لو فعلت كذا، ولا تقول فَعَلَ وأنت تعنيه، قيل معناه: قال بعضهم لبعض لأجل إخوانهم، أو يعني قالوا لبعض إخوانهم إذا ضرب بعضهم في الأرض لو كان الضاربون في الأرض عندنا. وتقدير الكلام: إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غُزًّى فقتلوا: لو ظَلُّوا عندنا لما حدث

ذلك بهم، وبيّن الله تعالى أن ذلك لا يثمر لهم إلا حسرة في قلوبهم مع العلم بأن الله هو المحيي والمميت، وعلى نحوه قال أبو ذؤيب: يقولون لي لوكان بالرمل لم يمت. . . نُشيبة والطرّ أو يكذب قيلُها ولو أنني استودعته الشمس لارتقت. . . إليه المنايا عينُها أو رسولها إن قيل: لِمَ قال: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ولو علّق ذلك بالسماع لكان أليق، لأن ما كان منهم قول مسموع لا فعل مرئي؟ قيل: لما كان قول الكافرين ذلك قصداً منهم إلى عمل يجادلونهم خص البصر، كقولك لن يقول شيئاً وهو يقصد به فعلا يحاوله: أنا أرى ما يفعله، إن قيل: إذا للمستقبل، وقد جُعِل ظرفا لقوله قالوا، ولا يجوز أن يقول: جئتك إذا زرتني، فما وجه ذلك؟ قيل: إذا متى لم يُقصد به وقت معين، كان متضمّناً للشرط. فيكون الفعل الذي هو في تقدير جوابه بمعنى

(157)

الاستقبال، وكأنه قيل: إن ضربتم في الأرض، أو كلما ضربتم قالوا، واللام: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ) لام العاقبة. قوله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157). يقال: مِت ومُت، والضم أقيس، والكسر كثير، والآيتان

تضمنتا إلزاما هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص

(159)

على القتل في سبيل الله، وبيانه ما أقول: إن قُتلتم في سبيل الله أو متم فيه حصلت لكم المغفرة والرحمة تنبيها أنه أوجبهما للثواب. ولمّا عنى في الثانية الموت المطلق والقتل العارض قدم أبينهما عندهم إذ لابد منه، فكأنه قيل: إن حصل ما لابد منه بوجه وهو الموت حتف الأنف، أو ما هو عارض، وعندكم أنه قد يكون منه خلاص، وهو القتل، فالحشر لا محالة حاصل. قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159).

قال النحولِون (ما) زائدة، وعلى هذا (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ). وقوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ)، وأفاد التأكيد. ووجه تأكيده أنه نكرة تدل على إبهام ما عُلِّق به، وإبهامه يقتضي التعجب. فكأنه بعظيم من رحمته (لِنْتَ لَهُمْ) واللّين عبارة عن حسن الخلق. وحسن الكلام بالصفو والزلال، حتى قال الشاعر:

فتى مثل صفو الماء ليس بباخل. استعمل في ضده الفظاظة. وغلظ القلب: عبارة عن قلة الرحمة. وبإزائه رقّة القلب. والانفضاض: التفرق، وانفضَّ وارفضَّ يتقاربان إلا أن انفضَّ اعتباراً بانكسار بعضهم عن بعض، وارفضَّ اعتبارا برفض بعضهم بعضاً. والمشاورة: استخراج صائب الرأي عن الغير. واششقاقه من شور العسل، وشرت الدابة وشورتها،

والعزم: ثبات الرأي على الأمر، نحو إجماع الرأي، والتوكل على الله الثقة به والوقوف حيثما وقف، وبين أدنى منزلة له نحو ما قاله للأعرابي "اعقله وتوكل" وبين غايته التي هي كحال إبراهيم عليه السلام بون بعيد. ونبّه بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) على فعمته على النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا وعلى أمّته ثانيا. كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية. وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وأمره بالعفو عن تقصيرهم فيما يلزمهم له، وأن يستغفر لهم من ذلك، كقوله:

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ثم أمره بإجراء نفسه مجرى أحدهم في الرأي الذي هو خاصّ بالإِنسان. ثم قال: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وإن قاربتم هذه المقاربة فليكن اعتمادك على الله، وتقويتك به، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله". واختُلِفَ في مشاورة النبي لأصحابه على أي وجه، فقال سفيان بن عيينة: ليقتدي به غيره، وقال قتادة: تطييباً لقلوبهم، ويجب أَن نقدّم مقدمة تبيّن في أي أمر أولا تدخل الاستشارة؟ ثم من استشار غيره فلأي

قصدٍ يستشير؟ فيقال: أمّا ما يُستشار فيه فهو الأمور الممكنات المتعلقة باختيار الفاعل، وأما القصد بالاستشارة فتارة لاستضاءة المُستشِير برأي المُستشَار، أو لئلا يُلام إذا استبدَّ بالأمر، فيتفق وقوعه بخلاف المراد، ولهذا قيل: الاستشارة حصنٌ من الندامة. وأمن من الملامة، وتارةً طلبا لهداية المستشار، إما لأن يتبين له خطأ رأيه إن كان له رأي خطأ في ذلك الأمر، وإمّا أن لا يعتقد هو أو غيره أن الاستبداد فضيلة فيستبد برأيه فيما ربما يؤذي إلى فساد: إما لإِكرامه أو تعظيمه، فإذا تقرر هذا فأمور النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تنفكّ: إما أن تكون شيئاً دينيَّا أو دنيويًّا. فإن كان دينيا فمعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير محتاج إلى الاستضاءة برأي غيره من البشر، لما أمدّه الله تعالى به من النور الإِلهي، وما كان يستشيرهم في أصول الشريعة، لكن ربما كان يستشيرهم في شيء من فروعها، التي هي من مسائل الاجتهاد لنا، نحو ما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار

إصحابه في شعارٍ يرفع للصلاة، ومثل ذلك تشريف لهم أولا. وتنبيه أن ما سبيله الاجتهاد فحقُّه الاستعانة فيه بالآراء الكثيرة الصحيحة، لينقدح منها الصواب، وأمّا ما كان من الأمور الدنيوية كالمساحة والكتابة والحساب، فمعلوم أنه كان مستغنياً بغيره في كثير منها، بل قد صرّح في ذلك بقصوره (1) فيما رُوي أنه

_ (1) الأولى مراعاة الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثَمَّ كان الأولى عدم استخدام هذه العبارة. والله أعلم.

عليه السلام لما ورد المدينة ووجد أهلها يؤبِّرون (1) نخلهم، فقال: "ما أرى أن ذلك ينفع " فتركوه، فتبين ذلك في نقصِ أثمارهم فشاوروه فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم بأمور آخرتكم" (2). وعلى هذا. ما كان يتعلّق بأمور الحرب المتعلقة بتهييجها تارة وتسكينها تارة، وبالمنِّ فيها تارة وبالافتداء تارة. ولذلك لما همَّ بمصالحة عُيينة بن حصن على ثلث ثمار المدينة. قال بعضهم: أبوحي هذا أم برأي رأيته؟ قال: "برأي رأيته" فراجعوه وبينوا له موضع الصواب، وترك رأيه لرأيهم.

_ (1) يؤبرون: يلقّحون: المصباح المنير. (2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب - الفضائل - باب "وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره عنيم في معايش الدنيا" رقم (2363) دون قوله: "وأنا أعلم بأمر آخرتكم " من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما.

(160)

وكذا مراجعة عمر له بما همَ به من كتاب القضية عام الحديبية. فثبت أن ما يتعلق بالأمور الدنيوية حال الرسول عليه السلام وغيره فيه سواء، والمشاورة مستحبة له كما هي مستحبة لغيره. قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) أكثر المفسرين جعلوا نصرة الله للعبد في الحقيقة تقويته بأعظم السلطانين الذي هو الحجّة القاهرة وأعظم التمكينين الذي هو العاقبة المذكورة في قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وفي أشرف الدارين

حيث لا ينفع مال ولا بنون. فقالوا: معناه: إن حصل لكم النصرة فلا تعتدُّوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غَلَبة، وإن خذلكم في ذلك فلا تعتدّوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل. ومنهم من اعتبر ذلك في أمر الدنيا، فقال: معناه: إن نصركم الله في الدنيا بموافقتكم - صلى الله عليه وسلم - فلا غالب لكم، وإن لم ينصركم فلا ناصر لكم. وحَمله على الأول يدخل فيه الثاني، فإن من نُصِر في آخرته فهو في الدنيا منصور، وإن لم يدرك نصرته إلا بالبصيرة دون البصر، وحمله على الثاني قد ينفك من نصرة الآخرة. وقوله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمرهم بالتوكل عليه، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآية الأولى، وأن يستجلبوا النصرة منه بذلك.

(161)

قو له تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) الغلول: تناول مال الغير بضرب من المكيدة، وكثر استعماله في الغنيمة، وسبب نزول ذلك، قال ابن عباس: هو أن فُقِد قطيفة حمراء يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها، وقال الضحاك: هو عتاب لمن استُحفظوا الثنيّة

يوم أحد، حيث قال بعضهم: ربما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من تناول شيئاً فهو له " فَنَبقى بلا غنيمة، فعلى هذا يكون هذا القول ثناء عليه - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: بل ذلك حثٌّ، للنبي على التعفف، وإن كان معلوماً أنه لا يغُل، كقوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). ومن قرأ (يُغَلَّ) فقد قيل: نهي للناس أن ينسبوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

من قولهم: أغللت فلانا. كقولهم: أكذبته. وقرأ رجل بحضرة ابن عباس "يُغَل" فقال: بلى ويُقَتل. فكأنه حمله على الخبر، ولم يرتض قراءته. وقال الحسن: نَهْي أن يَخُونوه. فإن قيل: فلم خصّه والخيانة معه ومع غيره مذمومة؟ قيل: قد قال بعض الناس: إن تخصيصه تعظيم له. فإن الخيانة وإن كانت مستقبحة مع كل أحد. فمع من يُرشح لهداية الناس أقبح،

وقال بعض الناس: إن ذلك في الحقيقة نهي عن الخيانة رأسا في كل ما أتى به النبيِ - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام، كقوله: (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ). وقال بعض الناس: قراءة من قرأ؟ (يَغُلَّ) أولى، لأن كل ما جاء في التنزيل من هذا النحو فمسندٌ إلى الفاعل دون المفعول. نحو (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ). وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ). وقوله: (وَمَن يَغلُل) تعظيم للغلول، وأنه لا انفكاك له من جزائه، فكأنّ ما قد غلّه يَصحبُه، وعلى هذا ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا أعرفنُّ رجلًا يأتي بفرسٍ له حَمْحَمة"). وعلى هذا ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أعرفن رجلًا يأتي ببعير قد غلّه له رغاء".

(162)

، وعلى هذا ما حُكِي عن لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) وقد تقدم الكلام في باقي الآية. قوله تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

قَرِئ: رُضوان، وهما مصدران نحو: كفران وحسبان. وهو غاية الرضا، و (باء) بكذا رجع به، ومنه البَوَاء في القصاص. إذا كان فيه مرجوع فيمن قتل. والسخط: حصول غضب يقتضي عقوبة. وإذا استعمل في الله فبمعنى إيجابه العقوبة.

(163)

والغيظ يقاربه، إلا أنه يُقال إذا كان معه تغيّر منكر، ولا يُوصف به الله، والفرق بين المصير والمرجع: أن الرجوع هو انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، أو ما هو مُقدّر تقديرها. والمصير: التنفل من حال إلى حال أخرى، فهو أعمُّ من الرجوع. والقصد بالآية تبعيد ما بين الفريقين كقوله: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ). قوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

قيل: هي صفة لـ (من اتبع رضوان)، وبيّن أنه كما أن من باء بسخطٍ من الله مأواه جهنم، فمن اتبع رضوانه هم ذوو درجات عند الله أي ثواب كبير، والصحيح أنه قسّم الناس في الأولى قسمين: فائزاً برضوانه وبائياً بسخطه، وبيّن في هذه أن القسمين كل واحد بين البعض والبعض تفاوتا، وذاك أن الناس إذا اعتبروا فمن بين ملكٍ مقرب، كما قال: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). وبين أخسّ بهيمة، كما قال: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ). وما بينهما بحيث لا يمكننا حصره، ولذلك قيل في المثل:

الناس أخيافٌ وشتّى في الشيم وكلُهم يجمعهم بيتُ الأدم ولتفاوت درجاتهم وتفاوت ثوابهم وعقابهم ما روي أن الجنة درجات والنار دركات، ونبَّه بقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)، أنه لا يخفى عليه ما يتحرّاه كل واحد، فإذن

(164)

يقف كل موقفَه الذي يستحقه. قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) المِنَّة: استكبار النعمة بالفعل أو بالقول، فأما بالفعل فحسن، وأما بالقول فما لم يكن فيه وعظٌ ممن له الوعظ فمستقبح، ولذلك قيل: المنّة تهدم الصنيعة، وقوله:

(رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، وقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قيل: عنى من أهل بيتهم ومن العرب. وقال بعضهم: ليس هذا بسائغ، إذ لم يُخصّ أهل بيته به ولا العرب خاصة، بل هو مبعوث إلى العالمين، فالوجه في قوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من البشر، وذاك أن كل ما أوجده الله في هذا العالم لا يأخذ نفعه إلا مما بينه وبين المأخوذ منه ملاءمة ما، وذلك حكم مستمر في كل شيء، فلما كان كذلك جعل الله تعالى الأنبياء المبعوثين إلى كافة البشر بشراً مثلهم في الخلقة والصورة، وخصّهم بفضل قوة التمييز والمعرفة، يأخذون من ملائكته وحْيَهُ. ويولونهم، ولولا كونهم من جنسهم لما قدروا على أخذهم

(165)

منهم، ولهذا قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)، فبيّن تعالى نعمته عليهم أن رشح لهم من سَهُل تناولهم منه. وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) لم يعن تلاوة آيات القرآن فقط. بل عنى بذلك تنبيههم على آيات الله في السموات والأرض. وفي أنفسهم، ولهذا حَسُنَ عطف قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) عليه، وقد تقدم الفصل بين الكتاب والحكمة، ومعنى التزكية. قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

دخل ألف الاستفهام على واو العطف ليفيد مع الاستفهام تعلق ما بعده بما قبله، وكذلك إذا قلت: أوَ كانَ كما تقول؟ إذا أردت بناء كلامك على كلام المخاطب، وكان المسلمون قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، فلمّا كان يوم أحد، وقُتل جماعة من المسلمين تغيّر قلوب قوم، فخاطبهم الله بذلك، وعنى أنكم أنكرتم أن نالكم منهم شطر ما نالهم منكم. وأخذتم تقولون: آَنى نالنا ذلك؟! فأجابهم الله بأن ذلك من عند أنفسكم، فإن الله وعدكم أن ينصركم بشريطة أن تصبروا وتتقوا،

فخالفتم، وقد قيل: مخالفتهم أنهم دُعُوا إلى التحصُّن بالمدينة فأبوا إلا الخروج، وقيل لاختيارهم الفداء يوم بدر. وقيل لمخالفة الرماة، والأولى أن يكون عامّاً في جميعها، وهو

(166)

إشارة إلى ما فضله قبل بقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) الآية. إن قيل: ما وجه قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عقب هذه الآية؟ قيل: نبّه بذلك أن لم يصبكم ما أصابكم لوهن في دينكم أو ضعف في قدرة الله، فكأنه قيل: هو من عند أنفسكم، لا من خلل دخل في أمره، فإن الله على كل شيء قدير، ومن كان هذه حاله فهو قادرعلى دفاعهم. قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) دخول الفاء في قوله: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) لتضمن الذي معنى الشرط، كأنَّه قيل: إن أصابتكم مصيبة فإصابتها بإذن الله،

وقد أصابتكم، فإذا كان بإذن الله، وأصل الإِذن العلم بالشيء من أذنت له، أي استمعت إليه فعلمته، ثم يُقال في التعارف لمن لا يمنع من فعل شيء مع العلم به، والقدرة عليه على منعه. سواء أمر به أو لم يأمر: فعل كذا بإذنه، فإذا حُمل على العلم فنحو قوله: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) وإذا حُمِلَ على الأمر فليس يعني أنه أمر الكفار بذلك، وإنما عنى أنه أمر الملائكة المذكورين في قوله: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا).

إن قيل: وإذا حُمِلَ على الأمر فليس يعني العلم. فكيف يصح وقد قال بعده: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ)؟ قيل: ليعلم المؤمنين أي ليحصل إيمان المؤمنين، وقد تقدم حقيقة ذلك. ثم بيّن تعالى ما كان من ذنوبهم، فقال: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي استعملوا النفاق في أعمالهم. ولمّا قيل لهم إمّا أن تحاربوا أو تحضروا مكثّرين للسواد دافعين عن الحوزة، قالوا مجيبين بما حكي عنهم، وقول السدّي: ادفعوا بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا، وقول غيره: رابطوا

بالقيام على الجبل إن لم تقاتلوا، وقول غيرهما: احضروا موضع الحرب. ليست بأقوال مختلفة في المعنى، كما قدره بعض النَقَلَة، وإلا ذلك اختلاف عبارات وتعيين أمثلة لمقصد واحد. وحمل بعض الصوفية ذلك على الجهاد فيَقول: معناه إما أن تبلغوا منازل الصديقين في مجاهدة وإماتة الشهوات أو ادفعوها عن

ارتكاب المحارم، وزُفُوها عن احتقاب الماَثم إلط لم تقدروا على الأول، ثم عيّرهم بقولهم: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ)، أي لو صادفنا من أنفسنا منكرا لارتسمنا ما رسمتم، تنبيهًا أنه خفي عليهم عيوب أنفسهم، وقوله: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) تنبيه على نفاقهم؛ وذاك أن المنافق كأنه بين الكافر والمؤمن، فإنه من حيث ما يُظهر الشهادتين، ويلتزم ظواهر الشريعة بالقول، وظواهر الأعمال محكوم له بالإِيمان، ومن حيث يتحرى في اعتقاده تحري الكفار كافر، وبين أحوال المنافقين تفاوت، بيّن تعالى بهذا القول أنهم في هذا القول بالكفار أشبه منهم بالمسلمين،

وأقرب: قيل: هو من القُرب وقيل: من القَرَب من الماءِ. ثم بيّن تعالى علة قربهم من الكفر، فقال: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، تنبيهاً أن الاعتبار في الإِيمان المستحق به الثواب بالنيات والضمائر، لا بالأقوال المجردة عن الاعتقاد، ولهذا شهد للمنافقين في قولهم: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) بالكذب، فقال: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وحكم لمن تلفظ بالكفر من غير مطابقة الاعتقاد له بالإِيمان، فقال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)، ثم حذّرهم عن اعتقاد غير الحق بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)،

(168)

كقوله: (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ). وقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ). وهذه الآية كالشرح لما أجمله في الأولى، حيث قال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ). قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) هذه الآية من تمام صفة المنافقين عبد الله بن أُبّي وأصحابه. قالوا: إن قتلى أُحُد لو أطاعونا في التأخُّر عن القتال ولزموا بيوتهم ما قُتلوا، وإعراب (الَّذِينَ): إما نصب على البدل من (الذين نافقوا)، أو رفع على خبر الابتداء المضمر، أو بدل من الضمير في (يَكتمُونَ). إن قيل: لم أخّر ذكر القعود عن القول

(169)

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) مع كونه مُقدّما في المعنى؟ قيل: إن قوله: (وَقَعَدُوا) في تقدير الحال، أي قالوا وهم قاعدون، كقولك:، خرج زيد وقد ركب. ويكون ركوبه قبل الخروج، وقد أكذبهم الله في ذلك بقو له: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) وكأنه قال: القتل ضرب من الموت، فإن كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري فادفعوا عنها الموت، وإذ لم يمكنكم ذلك دلّ أنكم مبطلون قي دعواكم. قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

روي عن ابن عباس والحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما أُصيب إخوانكم بأحُدٍ جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ ترِدُ أنهار الجنّة، وتأكل من أثمارها، وتأوي إلى قناديل معلّقة في ظلّ العرش. فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يُبلِّغُ إخواننا عنّا: أنّا أحياء في الجنّة، نُرزق، كي لا ينكلوا عن الحرب؟ فقال تعالى: أنا أبلّغهم عنكم، فأنزل هذه الآية". فدل ذلك أن الأرواح أحياء تُثاب وتُعاقب قبل أن تُعاد إلى الأجسام يوم القيامة، وعلى هذا قال في صفة آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، ودل عطف قوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)

أن عرضهم على النار قبل يوم القيامة. وروي: "إنّ أحدَكم إذا مات عُرضَ عليه مقعده بكرة وعشية. فيقال: هذا مقعدُك حتى تُبعثَ إليه ". وهذا قول السلف وأصحاب الحقائق، الذين عرفوا حقيقة الروح المعنيّة هاهنا، وكونه جوهرا.

له بذاته قوام، وأما متأخرو المعتزلة الذين لم يتجاوزوا منزلي الِحسّ والوهم، ولم يروا الروح إلا ريحا أو عرضا، فبعضهم

قال: يعني أحياء يوم القيامة، ووصفهم بذلك في الحال لقرب القيامة عند الله، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في علم الله، وبعضهم قال: أحياء بالذكر، وبعضهم قال: أحياء بالإِيمان، وإرادة هذه المعاني بالآية غير ممتنعة، فإن المؤمنين أحياء بكل ذلك، كما قالوا، ولكنهم مع ذلك أحياء بالأرواح على ما ورد به الخبر، وزعمهم أن ما ورد من الأخبار في أرواح الشهداء ليس بصحيح، فإن العقل لا يقتضي ذلك. فهم إن عنوا العقول الصدئة التي عناها من قال:

فلان لم يؤت من العقل إلا مقدار ما يلزم به حجة الله فقد صدقوا، وإن عنوا العقولَ المجلوة السليمة من درن الهوى المعنيّة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). وبقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) فليس كما ظنوا. ومن زعم أن القول بحياة الأرواح يؤدِّي إلى القول بالرجعة فوهم فاسد، ولئن كان ذلك يؤدي إلى ما قالوه فإحياء الله مَن وصفهم بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) الآية.

وإحياء عيسى الأموات أكثر تأدية إليه، وأما على طريقة المتصوفة المذكورة في قوله: (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا) فإنهم قالوا: لما كان الإِنسان مركباً من بدن وروح، والعقل تابع للروح. والهوى تابع للبدن، وبتوهين أحدهما تقوية الآخر، نبّه تعالى أن من جاهد نفسه، وقتل هواه في سبيل الله فلا تحسبنّه ميتاً، وعلى هذا قيل: قتل النفس في الدنيا حياة الآخرة. إن قيل: لم وصفهم بالفرح، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)؟ قيل: الفرح تجاوز الحد في السرور بالملاذّ، ولما كانت

الملاذّ الدنيوية غير متنافس فيها ذمّ الفرحين بها، ولما كانت الملاذّ الأخروية متنافساً فيها، كما قال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) أباح لهم الفرح بها، حتى قال: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا). وأما استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم، فتنبيه أنهم يعرفون نعمة الله بالموت والقتل في سبيله، ويسرون إذا أخبروا بقتل أو موت إخوانهم بخلاف أبناء الدنيا، وقوله: (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) متضمنٌ لذكر كل شيء يكدر الحياة، فإن ما يعرض في الدنيا: إما خوف لوقوع محذور، أو حزن لفوت محبوب. والضمير في: (عَلَيْهِمْ) يجوز أن يكون ضميراً للذين لم يلحقوا بهم، وأن يكون للمستبشرين، وأن يكون لهما. إن قيل: لم رفع (أَحْيَاءٌ) ونصب (فَرِحِينَ)؟ قيل: لأن (فَرِحِينَ) حال للذين قتلوا، والنصب به أولى، و (أَحْيَاءٌ) استئناف، ولو نصب لكان معناه: بل احسبهم أحياء، ولم يُرد ذلك، وإنما أراد بتّ الحكم بكونهم أحياء.

(171)

قوله تعالى: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) إن قيل: ما الفرق بين النعمة والفضل هاهنا؟ قيل: الإشارة بهما إلى المذكورين في قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، فالنعمة هي الحسنى والفضل هاهنا الزيادة. إن قيل: لِمَ نكرهما؟ قيل: التنكير في مثله على وجهين: أحدهما: ليدل على بعض غير معين. والثاني: قصد إلى إبهام المراد تعظيما لأمره، وتنبيهًا أنه

يصعب إدراك شرحه، وكأن التنكير في هذا إشارة إلى نحو ما قال: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت " إن قيل: ما حقيقة (لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)؟ قيل: لما كان من الأعمال التي صورتها في الدنيا صورة العبادات التي يستحق بها الثواب ما هو في الحقيقة غير عبادة يستحق بها الأجر. وإياها قصد بقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) بيّن هاهنا أن عمل المؤمنين لا يجري مجرى أعمال هؤلاء. إن قيل: ما الفرق بين الإِفضال والإِحسان؟ قيل: كلاهما اسم الزيادة على فعل العدالة. وتجاوز ما يجب إلى ما يستحب، لكن الإِحسان يُقال باعتبار جمال الفعل في نفسه وتحرِّي تحسينه، والإِفضال يقال باعتبار فعل بفعل أو فاعل، فيقال للزائد على الإجزاء فاضل.

(173)

فالاستجابة لله وللرسول، وإن جمع بينهما في الإِيجاب فالواجب بالقصد الأول استجابة الله، لكن لمّا لم تتم استجابته إلا باستجابة رسوله صار ذلك واجباً، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والاستجابتان مختلفتان، فإن استجابة الله بتوجيده وعبادته، واستجابة رسوله بتلقي الرسالة عنه وقبول النصح منه. قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

قيل: سبب نزول ذلك أن أبا سِفيان وأصحابه تقدموا إلى نُعيم ابن مسعود ورضخوا له شيئاً، وقالوا: إذا مررت بمحمدٍ وأصحابه، فقل: إنا قد أجمعنا على قصدهم بخيلٍ لا قبل لهم بها. فلما أتاهم، وقال لهم ذلك، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. إن قيل: لِمَ: (قال لهم الناس) وإنما قال ذلك رجل واحد؟ قيل: لمّا كان القائل لنُعيم أبا سفيان وأصحابه المعبرّ عنهم بقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) سُمي الُمنبّئ عنهم بذلك (النَّاسَ)، تنبيهاً أن المخوِّفين في الحقيقة هم المخوَّف منهم، والآية وإن نزلت فيهم

فالمعنيُّ بها هم ومن جرى مجراهم، ونبّه بما حكى من جوابهم وفعلهم على نهاية ما يُطلب من إيمان العبد وتوكله لما أظهروا قولاً وفعلًا، وبيَّن أنهم عادوا بنعمة وفضل في دنياهم وأخراهم في أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لا أنهم لا يَعْرض لهم في الدنيا ما يُحزن ويُخوّف من سوء، ولكن لا يؤثر فيهم، والمقصود بهذه النعمة والفضل أعظم مما قال بعض المفسرين من أن المسلمين لما حضروا بدراً الصغرى، ولم يحضروا للموعد صادفوا بها سوقاً،

فاشتروا ما ربحوا فيه، فكان ذلك هو الفضل والنعمة، فإن أرباح التجارة الدنيوية أدون من أن يكون مقتصراً عليها في مقابلة المتوكلين على الله، الراضين عن الله تعالى، المرضي عنهم. وقوله (رِضْوَانَ اللَّهِ) يجوز من حيث تقدير الكلام: أن يكون على معنى،

(175)

أن رضي الله عنهم، وأن يكون على أن رضوا عن الله، فإن من رضي عن الله فقد رضي الله عنه، ولهذا قال تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وذكر تعالى في الآيات الثلاث ثلاث فرق، بعضهم أخصُّ من بعض، وذاك أن المؤمنين المستجيبين لله عام، والذين أحسنوا واتقوا أخصّ،، فجعل تعالى للمستجيب لله أجرا غير مُعين، وللمحسن المتقي في ذلك أجراً عظيماً، وهذا شبيه بما تقدم في قوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (وَاللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). قوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) إن قيل: إلى ماذا أشار بقوله: (ذَلِكُمُ)؟ قيل: فيه أقوال: الأول: أنه إشارة إلى من قال: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)

فسمّاه شيطاناً لمشابهته في فعله، والثاني: أنه إشارة إلى الشيطان المتعارف بين الناس، أي الشيطان الذي عرفتموه هو الذي يُخوّف. والثالث: إشارة إلى ما دل عليه قوله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا). أي ذلك العارض الذي هو الوهن والحزن شيطان: كقول الشاعر: ما ليلة الفقير إلا شيطان. . .

وأمّا (أَوْلِيَاءَهُ) فقد قال ابن عباس: معناه: يخوفكم أولياءه، فعلى هذا حذف المفعول الأول، كقوله: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) ووقولهم: فلان يعطي الدراهم، فالأولياء على هذا هم المخوف بهم،

وقيل: بل أولياؤه هم المخوَّفون، وذاك أن الناس ضربان: ضرب لا سبيل للشيطان عليه، وهم المعنيون بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وضرب بخلافهم، وهم الذين قال فيهم: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)، وقد صرّح تعالى بذلك في قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إلى قوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ). وحقيقة خوف الله أمتثال أمره، وعلى هذا

(176)

قال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ثم قال: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، تنبيها أن من فرط الإِيمان التحققُ أن ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا، ومن علم ذلك علم أوامر الله، فاتّبعها في ترك ما يأمر به الشيطان. قوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) كما نهى تعالى عن الخوف مما يُتوقع من حزب الشيطان، نهى عن الحزن على ما يفوته منهم، ووصف الكفار بالمسارعة في الكفر. كما وصف المؤمنين بالمسارعة في الإِيمان، فقال: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)، وحقيقة المسارعة في ذلك أن يترقى الإِنسان فيما يتحرّاه منزلة فمنزلة، خيرا كان أو شرا، فيتعوَّده فيتقوَّى به

على المنزلة الثانية، لأن الشر حاصلٌ بعضه عن بعض، وحاملٌ بعضه بعضاً، وكذا الخير، وعلى هذا قال أمير المؤمنين: تبدو نكتة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإِيمان ازداد البياض، فإذا استكمل الإِيمان ابيض القلب كلّه، وإن النفاق يبدو نكتة سوداء. كلما ازداد النفاق ازداد السواد، فإذا استكمل النفاق اسودّ القلب كلّه، وبيّن أن لا يعود إلى الله من مسارعتهم في الكفر

مضرة، كقوله: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). إن قيل: كيف جعل العلَّة في قوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ) أنهم لن يضروا الله شيئاً، ولم يكن المسلمون يحزنون، لأجل أن خطر لهم أن هؤلاء يضرُّون الله، إنما كان حزنهم أن يضروهم؟ قيل: معنى ذلك لن يضروا أولياءه، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى يقول: من آذي لي وليّا قد آذاني ". وعلى التتبيه على هذا المعنى قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). وقوله: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)

(177)

يريد إحباط عملهم بما استحقوه من الذنوب. وقيل: يريد الحكم بحرمان ثوابهم، وأن لا يجعل لهم ما يستحقه المطيعون، والفرق بين السرعة والعجلة إذا اعتبرنا بنفس الفعل، هو أن السرعة أن لا يترك الأمر يتأخر عن وقته، والعجلة فيه أن يقدمه على وقته، وإذا اعتبرنا بقوى النفس فالعجلة ما يفعل على مقتضى الشهوة، والسرعة تقال فيها وفيما يُفعل على مقتضى الرأي والفكرة، ولذلك ذم العجلة على الإِطلاق، وقد حَمِدَ السرعة في مواضع. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

قد تقدَّم حقيقة الشرى والبيع إذا استُعملا في الكفر والإِيمان. وقال كثير من المفسرين: هذه الآية في معنى الأولى، وقد أعيدت تأكيدا، والصحيح أن الأول ذمٌّ للذين تحرّوا الكفر وتزايدوا فيه متسارعين، وهذا ذمٌّ لمن حصّل الإِيمان فأفرج عنه، واستبدل به كفراً، وهم الذين وصفهم بالارتداد على أعقابهم، وذمّ لمن مُكَن من الإِيمان فرغِب عنه، وآثر الكفر عليه، فصار كالبائع إيمانه بكفر. وقوله: (شَيْئًا) في موضع المصدر، أو تقديره

(178)

بشيء، فحذف الجارّ ونصبه، وجعل لمن بدّل الكفر بالإيمان عذابا أليماً، وهو أبلغ مما جعله للفرقة الأولى، حيث وصفه بالعِظَم، إذ يقال العظيم اعتباراً بغيره مما هو من جنسه، وقد لا يكون شديد الألم، وأليم يقال لما تناهى في الألم، إذ هو بناء المبالغة، ويقال: هو أليم، سواء اعتُبر بغيره أو لم يُعتبر. قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

الإملاء إطالة المدة، ومنه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا). وتملّيت حبيبا، وإملاء الكتاب على أحد القولين، والملوان. وإذا قرئ بالياء فسهل، واذا قرئ بالتاء فصعب، فالذين كفروا هو المفعول الأول، ولا يصح أن يجُعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) المفعول الثاني، لأن هذه الأفعال تدخل على مبتدأ وخبر. ويجبُ أن يكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى. و (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) ليس في المعنى (الَّذِينَ كَفَرُوا)، ولا يصح أن يجعل بدلاً كما جُعِل في

قوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ). وفي قوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) فإنه حينئذ يلزم أن ننصب (خيراً) حتى يصير المفعول الثاني، فيجب أن يكون بالياء أجود، وقد اختلف في تأويل الآية من حيث إن ظاهرها يقتضي

أن الله تعالى يريد بإملائهم أن يكفروا. قالوا: والله يتعالى عن هذا القصد، مع كون هذه الآية منافية لمقتضى قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

فمنهم من قال: الآية على التقديم والتأخير. وتقديرها: لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً. بل إملاؤنا خير لهم، ويكون مفعول (وَلَا يَحْسَبَنَّ) هو (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وعلق أن، وجعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) كالعِلّة لتأخيرهم، تنبيهاً أن ذلك أولاهم ليصير معونة لاكتسابهم الخير لأنفسهم، وهذا فاسد، لأن إنما يصح أن يعلق حيث ما يدخل لام الابتداء في خبره، ومنهم من قال:

الكلام على الترتيب، والمفعول هو (أَنَّمَا) وجعل اللام لام العاقبة، وتحقيق لام العاقبة هو أن اللام تارة تجيء تبييناً لقصد الفاعل بفعله نحو (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). وتارة تبييناً لما أدى إليه الفعل، لا لقصد الفاعل، نحو (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (عَذَابٌ مهِين)؟ قيل: لما ذكر هاهنا إملاء الإِنسان في الأعراض الدنيوية. وذلك قد يكون في الدنيا هواناً وعذاباً

(179)

لصاحبه، وهو لفقدان بصيرته يقدر أن الهوان في فقدانه فلا يُفرج عنه؛ ذكر الهوان الذي هو أعمُّ الألفاظ الثلاثة من (العَظِيم) و (اَلأَليم) و (ألمُهِينِ) ليعم الدارين، وعلى هذا قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) الخبيث: مستعار للعمل السيئ، والطيّب: للعمل الصالح

تشبيهاً للذِكر المسموع بالنشر المشموم، وعلى هذا قال الشاعر: تبحثت عن أخباره فكأنما. . . نبشت صدأه بعد ثالثة الدفن وقال اَخر: . . . ثناء مثل ريح الجورب وعلى هذا حمُل (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)، (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ) أي الأعمال في الخبث والطيب جارية مجرى فاعليها، وقيل: المؤمن أطيب من عمله، والكافر أخبث، والاجتباء: كالاصطفاء،

وأصله الجمع، فكأن من اجتباه الله ضمَّه إلى نَفْسِه حتى يكون له بأجمعه، بخلاف من قال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) وإلى ذلك الإِشارة بقوله: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وتحقيق التمييز من الله لا على سبيل التعرف، بل ليحصِّل الخبيث خبيثاً والطيب طيبا، وذلك حقيقة التكليف، وقد كرر الله تعالى هذا المعنى مع كل فصل، فقال:

(وَلِيَعلَمَ)، (وَليَبتَليَ) و، (وَليمحصَ) و (لِيَمِيزَ). وقال من بعد: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ)، كل ذلك تنبيهاً على أن التكليف في الحقيقة هذه الأشياء، وأما الغيب فكل ما لا تدركه الحواس وبداهة العقول، وهذا على القول المجمل ثلاثة أضرب: ضربٌ استبد تعالى به ولم يُطلع عليه أحداً لا الملائكة المقربين، ولا من دونهم، لاستغنائهم عنه. وضرب قد يُطلِع عليه أصفياء عباده، وهو حقائق العلوم، وذلك بحسب ما عُرف من حاجتهم إليه ومصلحتهم فيه، وإياه عنى بقوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). وبيّن في الآية أن اطلاع العامة على غيبه وأقضيته

(180)

منافٍ للحكمة، وذلك أن جماعة من الكفار سألوا النبى - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: هل نحن ممن يؤمن؟ ثم قال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) تنبيهاً على التوكل على الله وحُسن الظن بنبيه، والتحقق أنه يفعل بعباده ما هو أصلح لهم، وأنّ بالإِيمان والتقوى يُستحق الأجر العظيم. قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) قُرئ بالياء على تقدير: لا يحسبن الباخلون البخل هو خير

لهم، فحذف البخل الذي هو المقعول الأول، لدلالة (يبخَلونَ) عليه، كقولك: من كذب كان شرًّا له، وإذا قُرئ بالتاء فتقديره لا تحسبّن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، فحذف المضاف لظهور المعنى، وبيّن بالآيتين أنهم جعلوا أعمارهم وأموالهم مصروفة إلى ما أورثهم إثما أو عقوبة يوم القيامة، وتطويقهم ما بخلوا به على طريق التشبيه والتقريب، نحو ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - "يأتي كنز أحدهم يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيطوق في حلقه،

فيقول: أنا الزكاة التى منعتني ". وعلى هذا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) إلى قوله: (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)، ونبّه بقوله: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على انتقال ما في أيديهم إليه، كما قال: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، ونبّه أن ما خوَّلهم لو أنفقوا على ما يجب وكما يجب لاستحقوا ثواباً، فلمّا لم يفعلوا ذلك انتقل عنهم، وصار عقوبة لهم، وكأنه إلى مقتضى معناه أشار من أوصى، فقال: اكتبوا هذا ما خلّف فلان يسوءه وبنوه

(181)

انتقل عنه نفعه، وخفي عليه وزره، وبيّن أنه عالم ببخلهم، وما يؤول إليه حالهم، وما يخبرهم به. قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) لمّا أنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قال قوم من اليهود تهكماً على النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله فقير ونحن أغنياء، يستقرض منّا، فأنزل الله تعالى ذلك، ولم يُعَيرِّهم أنهم اعتقدوا فقر الله. وإنما عيّرهم تجاهلهم وتكذيبهم وصرفهم الكلام إلى غير الوجه المقصود به، وعلى هذا قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا).

ونبّه بقوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ) أنهم ارتكبوا من المعاصي ما هو مثل هذا القول، أو أكثر منه، ولم يقل (بغير حق): أن في قتل بعض الأنبياء حقًّا، ولكن جعل ذلك حالهم على العموم، أي هو في كل حال على غير حق، وكَتْبُ ذلك قيل: هو على الحقيقة، وقيل: هو على طريق المثل، عبارة عن حفظه، وأنه لا ينسى، واعلم أن الكتابة جعلها الله لنا عوناً

لحفظنا، وذاك أن اللفظ لا يُفهم إلا القريب دون البعيد، وإلا الشيء بعد الشيء، ويسرع إليه مع ذلك الاضمحلال، فربما لا يعيه السمع، وإذا وعاه فربما لم يتصوره، وإذا تصوَّره فربما أخلّ به الحفظ فأعانه الله بالكتابة، لتكون تكملة لقوة النطق، وواعية لما يضيع من الفهم، ومدركة جملةً في حالة واحدة، فعُلِم من ذلك أن الكتابة وإن كانت شريفة فإنما احتجنا إليها لنقصنا وتكميل أفهامنا، فمن حمل الكتابة على الحقيقة قال: كتب الملأ الأعلى أعمالنا، لا لجبران نقصهم وضعف فهمهم وخوف نسيانهم؛ ولكن لجبران نقيصة البشر، وليتذكَّر به ما لعله نسي، وليرى صورة أعماله المتفرِّقة دفعة، ومن حمله على التشبيه فإنه ذكر أن نقص القريحة والسهو والنسيان الموجودة فينا في الدنيا معدومة عنّا في الآخرة؛ فلا حاجة بنا إلى الكتابة، وحينئذ قال: وعلى ذلك وصف الكتابة بالنطق في قوله: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ). وقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وعلى هذا سمّى

الوحي كتابا، فقال: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ)، ومعلوم أن المنزل لم يكن وقت الإِنزال مكتوبا، قال: وعلى هذا معنى قوله: تعالى (كِرَامًا كَاتِبِينَ) أي حافظين، وقال: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ). قال: وعلى هذا قول الشاعر: صحائف عندي للعتاب طويتها. . . ستُنشر يوماً والعتاب يطول وهذا القول وإن كان له مساغ في مجاز اللغة، فأهل الأثر على الوجه الأول، والله أعلم بحقائق أحوال القيامة، ومعنى

(182)

(وَنَقُولُ ذُوقُوا) أي نُذَوِّقهم ذلك، ونوجب لهم. قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) أي نكتب ما قالوا ونعاقبهم عليه جزاء لما ارتكبوه. إن قيل: لِمَ خصّ اليد، وفيما ذكره عنهم أفعال بغيرها من الجوارح؟

قيل: لما كانت اليد هي الآلة الصانعة المختصة بالإِنسان، فإنه لما كفى كل واحد من الحيوانات بما احتاج إليه من الأسلحة والملابس، وسخّره لاستعمالها في الدفع عن نفسه، وخلق الإِنسان عارياً من كل ذلك، جعل له الرؤية واليد الصانعة. ليعلم برؤيته، وليعمل بيده فوق ما أعطى الحيوانات، فلما كان لليد هذه الخصوصية صارت تُخص بإضافة عمل الجملة إليها. إن قيل: لِمَ خص لفظ ظلَّام الذي هو للتكثير في نفي الظلم في هذا المكان، ولم يقل على ما قال في قوله: (لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، الذي هو يقتضي نفي الظلم قليله وكثيره؟ قيل: إنما خص ذلك لأنه لما كان في الدنيا قد يُظن بمن يعذب غيره عذابا

(183)

شديداً أنه ظلَّام قبل أن يُفحص عن حال جُرمه، بيّن تعالى ذنبهم، وأنه إذا عاقبهم عقوبة شديدة فليس بظلَّام لهم، وإن كان قد يظن في الدنيا بمن يفعل ذلك أنه ظلَّام. تعالى الله عن الظلم. قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) القربان: أصلُه مصدرٌ كالشُكران والكُفران، وفي التعارف

اسم لما يُتقرَّبُ به إلى الله تعالى، وكَثُر استعمالُه في النسيكة، والعهدُ كالعقد، ولمّا تعورف في الوصية والأمر. كثُر استعماله مع: إلى، فقيل: عَهِدَ إليه، ولمّا ادعى اليهود على ما أوقع شبهةً للجهلة، وكان حلُّها يصعب عليهم على التحقيق، وربّما كان اليهود مع ذلك يشغبون فيه، سلّم دعواهم كتسليم جدل وناقضهم فيها، وكأنه قيل:

(184)

هَبِ الأمر كما قلتم أليس من الحق أن لا تقتلوا من الأنبياء من جاءكم بالبيّنات وبالذي قلتم، وإذا قتلتموهم ولم تقبلوا قولهم، دلَّ ذلك أنكم كاذبون في دعواكم؟ أنه عَهِدَ إلينا بذلك، فهذا معنى قوله: (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وهذا أوضح دلالة وأقربها مأخذاً وأخزاها لهم. قوله تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) إن قيل: لم قال: (وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ) والزبور هو الكتاب. لقول الشاعر: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كخطِّ زبور عسيب يمان

قيل: قد قال بعضهم: الزبور هو الكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعيّة، والكتاب في تعارف القرآن ما يتضمن الأحكام، ولهذا جاء في عامة القرآن كتاب وحكمة. ففصل يينهما لهذا، واستعمل الكتابة في معنى الإيجاب، فعلى هذا اشتقاقه من زبرت الشيء أي حكمتُه. وقيل: الزبور اسم لما أجمل ولم يفصَّل، والكتاب يُقال لما قد فُصِّل. قيل: واشتقاقه من الزُّبرة أي القطعة من الحديد التي تُرِكت بحالها. وعلى هذا قال الشاعر:

وما السيفُ إلا زبرة لو تركتها. . . على الحالة الأولى لما كان يقطع وقيل: الزبور ها هنا اسم للزاجر من قولهم: زبرته أي زجرته. قال: وبيّن أنه تعالى أتاهم بالآيات الدالة على الوحدانيّة والنبوة. وبالمزاجر المعنيّة بقوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعتاب له. فقد رُوِيَ أنه قال: "ما لقي أحد في الله ما لقيت". فنبّه أن حال الأنبياء قبله كحاله، وحال أقومهم كحال قومه، وليس الشرط في نحو هذا الموضع للشك، كما تصوره بعض المفسرين، فأخذ يتخبط في جوابه، وإنما ذلك

(185)

للتحقيق، ومورده كقياس شرطي موجب للحكم، وبيانه إن كذَّبوك فقد كذبوا من صدَّقك، وقد صدَّقك الرسلُ قبلك. فإذا كذَّبوك فقد كذَّبوا رسُلًا من قبلك. قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) الفوز،: إدراك الأمنيّة. والمفازة في قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ) مصدر، ويُقال للمهلكة: مفازة تفاؤلاً، والصحيح أنهم لمّا رأوها تارة سببا للفوز، وتارة سبباً للهلاك سمّوها بالاسمين، وذلك بنظرين مختلفين، وكذا قولهم: هلك، وفاز، إذا مات،

كأنه رُئيَ الموت في بعض الناس هلاكا له، وفي بعضهم فوزا له، إما لكونه متبلغا بذلك إلى فوز الآخرة ونعيم الأبد. وإما لخلاصهم من شدَّةِ يَرَى الموتَ في جنبها فوزا. وكذا النيّة أراها والأمنيّة من أصلِ واحد بنحو هذين النظرين. وتخصيص الذوق هاهنا من حيث إنه ذكر الباخلين بالمال. وهو قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ. . .) الآية. وأعظم البخل بالمال يكون خشيةً من فقدان الطعام الذي به قوام الأبدان، ولهذا ذكر

ألأكل في عامة المواضع التي ذكر فيها احتجاز المال، نحو (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى) فبيّن بالذوق أن الذي يخافونه طعام لابد منه، والغرور: مصدر أو جمع غارّ، كرقود، وقعود، في جمع راقد وقاعد، والمتاع: التمتع،

(186)

فنبّه أن السكون إلى الدنيا والتمتُّع بها غُرور، وأن الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واقتصر على زاد يتبلَّغ به. قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) قيل: سبب نزولها أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم -

ويحرِّضُ المشركين عليه حتى قتله محمد بن مسلمة. وقيل: بل هو أن سمع أبو بكر يهوديًّا يقول: ترى إله محمدٍ فقيراً حتى يستقرض منّا، فلطمه أبو بكر، وجُملة الأمر أنّ جميع ما يُبتلى به الإِنسان ويُتعبَّد به ثلاثة أشياء: إما متعلّق بالمال. وإمّا بالنفس، وإمّا بمجاهدة العدو، وأعظم المجاهدة الصبر

على الأذى المسموع من الأعداء، إذ هو سبب الشرور، ولهذا قال الشاعر: . . . وإن الحرب أولها كلام فبيّن تعالى أنكم إن صبرتم - واتقيتم في هذه الأمور التي تُبلون بها، فإن ذلك من عزم الأمور. إن قيل: ما معنى: من عزم الأمور، وما الأمور التي جعل تعالى هذه الأشياء من عزمها؟ قيل: العزم: ثبات الشيء على الشيء، وإمضاؤه، والحزم يقاربه، إلا أن العزم بالإِمضاء أشبه، إذ هو من العزم،

أي القطع، والحزم بجمع الرأي أشبه، إذ هو من حزمت الحطب والقصب، أي جمعتُ، ولذلك قيل،: أحزم لو أعزم. وأما الأمور التي عناها فيجوز أنها الثواب الذي جعل للصابرين والصالحين والمتقين، وما أشبه ذلك، ويجوز أن تكون الأمور إشارة إلى ما تقدم، ونبَّه أن بالصبر والتقوى يُتوصَّل إليه.

(187)

قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) النبذ: طرح الشيء لقلّة الاعتداد به، وقولهم: جعلت كذا خلف ظهري أي أهملته. وقيل: تقدير الآية على ما يقرب من فهم العامة. وإذ نَبَذَ أهل الكتاب وراء ظهورهم ما أخذ الله عليهم من الميثاق من تبيين ما أوتوه من الكتاب للناس، واشتروا به ثمناً قليلًا، وقد تقدّم الكلام في أخذ الميثاق عليهم، وكيفية ذلك

(188)

وفي معاني الثمن القليل. قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) المفازة من العذاب: هي المنجاة في قول الشاعر: تحل بمنجاة من اللوم بيتها. . . والكلام في تكرير (لَا تَحْسَبَنَّ)، ودخول "الفاء في الأخير

منه صعب، وقد قال الزجاج: لا تحسبن، مكرر لطول القصة. قال: والعرب تعيده إذا طالت القصة حسبت وما أشبهها. إعلاما أنّ الذي جرى متصل بالأول، تقول: لا تظنن زيداً إذا جاءك وكلمك بكذا فلا تظننّه صادقا. وقيل: الفاء زائدة. والوجه في ذلك عندي أن قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ) على الخبر وتقدير الكلام فيه، وذلك إشارة إلى يوم القيامة بعد أن يدخل الكفار النار، ويقال لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) والمعنى: والله إنك لا تحسبهم حينئذٍ أنهّم بمفازةٍ من العذاب. أي لهم سبيل إلى الخلاص فلا تحسبنهم الآن، وهذا نهي والأوّل خبر،

وحذف مفعول أحد الفاعلين، وإذا قُرئ بالياء، فكذلك، ويكون بتقديره: لا تحسبنّ أنفسهم كذلك. والآية قيل: نزلت في قوم دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فنافقوه، فلمّا خرجوا، أثنى عليهم بعض الناس ففرحوا بذلك. وقيل: نزلت في الذين كتموا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وادعّوا علماً وعبادة أثنى عليهم بها قومهم،

وقيل: نزلت في المنافقين المتخلفين عن الجهاد، المدعين دعاوى يُحبون أن يُحمدوا عليها، وكيف ما كان. فالآية عامة في النهي عن الرياء والتشبُّع، والذمّ لمن فعل خيراً ففرح به، وإلحاق الوعيد بمن أحب أن يُحمد بما لم يفعل. وقد رُوي أنّ إبليس قال: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها: إذا أُعجب بنفسه،

(189)

واستكثر عمله، وسُرَّ بمدحه بما لم يفعله. إن قيل: - فكيف قال عليه السلام: "من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن "؟ قيل: السرور بذلك محمود، والفرح به مذموم. وقد تقدَّم الفرق بينهما، وبين بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) مع أنهم لا ينجون، فإنهم يعُذَبون عذاباً أليما. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

(190)

أتبع تكذيبهم فيما قالوا: إن الله فقير. وتبكيتهم فيما فعلوه، وما وعدهم به من العذاب بما أنبأ عن قدرته عز وجل وسعة ملكه. وأن لا سبيل لهم إلى النجاة وإلى الخروج عن ملكه وسلطانه، وهذا هو المعنى الذي تحرّاه النابغة بقوله: فإنك كالليل الذي هو مدركي. . . لكن على الآية رونق الإِلهية وتعميم الملك والقدرة بلا مثنويّة. وإضافة الفعل إلى موجد الليل والنهار. قول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)

نبه تعالى أن التفكر في ذلك يدل على وحدانية الله تعالى، وأن جميع هذه الأشياء لا تنفك من ثلاثة أضرب: إمّا موجود العين، قائم الجوهر، قابل للانتقال وتبذل الأمكنة بأجزائه: كالسماء والنجوم. وإمّا قابلٌ للاستحالة والتغير بجملته وأجزائه. وذلك كالأرض وما عليها، وإما أن يكون مما لا بقاء له بحاله. بل ينصرم، ويقابله نظيره كالليل والنهار، وقد ذكر ثلاثتها. ونبه على حدوثها، لأن المتنقل لا ثبات له، والمستحيل لا بقاء له. وما كان هذا حاله فغير منفك من دلالة الحدث، وما لم يخل من محدِثٍ فمسخّر له، ومحال أن يكون المسخَّر المُحدَث أزليًّا واجب الوجود، فإذن لابد له من موجد يوجده، وموجده واجب الوجود، وذلك هو الباري تعالى، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

ونبّه بقوله: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أن من لم يكن ذا لُبٍّ قلَّ عناؤه في التفكُّر فيها، واللب هو اسم للعقل أزيل عنه الدرن، وذاك أن العقل وإن كان أشرف مُدرك من الأشياء فهو في الأصل كسيف حديد لم يُطبع ولم يُصقل. فإذا تُفُقِّد وتُعُهِّد بالحكمة صار كسيف طبع، فأُزيل خبثه، وشُحذ حَدُّه، وكل موضع يذكر الله تعالى فيه أجلَّ مُدرَكٍ لا يمكن إدراكه إلا بأجلِّ مُدرِك. قال بعض الصوفية: هذه المنزلة وإن خُصَّ بها أولوا الألباب فمنزلة الأنبياء والأولياء أشرف منها، لأنهم ينظرون من خالق السموات والأرض إليها، ولهذا قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -

(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وهذا الذي قاله صحيح. فإن الإِنسان يمكنه أن يعرف حكمة الصانع أولاً بتدبر مصنوعه، ومتى عرف حكمة الصانع حينئذ عرف مصنوعاته به، فيصير ما كان دالا مدلولاً، وما كان مدلولاً دالا، وبهذا النظر قال من سُئل: بِمَ عرفت الله؟ فقال: به عرفت كل ما سواه.

(191)

قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) الذكر: ذكر باللسان، وذكر بالقلب. وذكر القلب ذكران: ذكر عن نسيان، وهو إعادة ما انحذف عن الحفظ، وذلك هو التذكر في الحقيقة، وذكر هو إدامة مراعاة ما ثبت في الحفظ. وقوله: (وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) عبارة عن حال الاضطجاع، وعلى ذلك قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) فمن حمل الآية على الصلاة، وقال: معناه لا يخلون بها في شيء من أحوالهم قائمين إذا قدروا، قاعدين إذا عجزوا،

وعلى جنوبهم إذا مرضوا. وقد رُوي في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسهل بن حنيف: "صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ". ثم تلا الآية، ومنهم من جعله أعم من

ذلك، وقال: لا ينفكون من ذكر الله في جميع أحوالهم. كقولك: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ). ومنهم من جعله أعمّ من ذلك أيضا، وقال: معناه لا يتحرُّون بجميع أفعالهم إلا وجهه، وبيان ذلك أن مباحات أولياء الله كلها قُرَبٌ يُستحق بها الثواب، وذاك أنهم لا يأكلون ولا ينامون إلا وقت الضرورة، ومقدار ما يستعينون به على العبادة، وما لا تتم عبادتهم إلا به فذاك واجب كوجوبها. وذلك قوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -:

"تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله ". وقوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) أي يقولون وليس يعني بذلك القول من دون العلم. فإن ذلك إقامة شهادة، ومن شهد بشيء وهو على ما شهد به، لكن لا يعلم كونه كذلك فشهادته مردودة بدلالة قوله: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). ومن عرف حقيقة ذلك وأقام هذه الشهادة فكأنهم شهدوا الله وهو يخلق

السموات، ولهذا قال تعالى في ذم الكفار حيث ثكلوا هذه الفضيلة، فقال: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) وفي قوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) تنبيه أنه قصد تعالى بخلق هذه الأشياء قصداً صحيحا. وذلك ما قاله الحكماء أن القصد بخلق السموات والأرض إنّما هو الإِنسان، وإنّما خلق النبات والحيوانات قواماً له. قال: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا). والقصد بخلق الإِنسان أن يستخلفه في الأرض، فيقوم بحق الخلافة. ويبلغُ بها إلى أعظم السعادة في جواره. وعلى ذلك قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فلما تحقق المتفكرون ما لأجله خُلقت السموات والأرض، وعرفوا مآلهم سبَّحوه، واستعاذوا به من النار.

(192)

قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) يقال: خَزِي الرجل: إذا لحقه انكسار. إمّا من نفسه بإفراط، يقال في مصدره الخزاية. وإمّا من غيره، ويقال في مصدره الخزي. وعلى هذا هان وذل، متى كان ذلك من نفسه. يقال له الهُون والذُل، ومتى كان من غيره يُقال له الهوان والذل،

(193)

والآية من تمام الحكاية عن المتفكرين في خلق السموات والأرض. قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) الأبرار جمع بر وبارٍّ، نحو جَدّ وأجدادٍ، وصاحبٍ وأصحاب. وأصله من البرّ أي المكان الواسع، فبرّه خوله برًّا، أي سعْة. ويُقال للإِنسان إذا أكرم من دونه وأكرمه من فوقه برّه،

كما يقال فيهما: أحبَّ ووالى، والأبرار: هم الموصوفون بقوله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). والمنادي للإِيمان والداعي إليه: قد يكون العقل. وكتابه المنزَّل، ورسوله المرسل، وآياته الدالة. وإن كان الأظهر في هذا الموضع أن يكون الرسول. لقوله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)،

وقوله: (أَنْ آمِنُوا) يعني أي آمنوا، أو بأن آمنوا. إن قيل: فعلى أي وجه قال: (فَآمَنَّا)؟ أعلى طريق الامتنان، أو الإِعلام. فإن كُلًّا مستشنع إيراده على الله تعالى؟ قيل: بل على طريق الامتثال، وليس هذا إشارة إلى أنهم قالوه نطقاً فقط، بل إلى أنهم حققوه فعلًا. إن قيل: كيف جعل غُفران الذنوب وتكفير السيئات قبل التوقِّي؟ قيل: لأن تمام غُفران الذنوب وتكفير السيئات أن يوفّق العبد في الدنيا لمرضاته، ويحرسه عن تعاطي السيئات، ليكتسب ما يترشح به لاستحقاق الثواب. وقوله: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) نحو ما حكى عن غيره في قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

(194)

وفيه تنبيه أنهم لا يكرهون لقاء الله. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ". قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) إن قيل: ما فائدةُ استنجازِ وعده مع العلم بأنه لا يُخلف؟

قيل: إن وعده تعالى عِبادَه على طريق الجملة، نحو قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا). وليس هذا السؤال خوفاً من إخلاف وعده، ولكن سؤالا أن يرشحه لأن يكون من جملة من دخل في الوعد. ولهذا قال: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) تنبيهاً أني لست أخشى خُلْفَ وعدك، لكني أخشى أن لا أكون من جملة الموعودين. وقد قيل ذلك هو على جهة العبادة، وقد تقدم أن ليس القصد التفوُّه بذلك، بل فعل ما يقتضيه. وقوله: (عَلَى رُسُلِكَ) أي على ألسنتهم، وعلى ما وعدت بإجابتهم.

(195)

قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) استجاب: أراد إجابتهم، والاستجابة في الحقيقة غير الإِجابة. وإن كان يفهم منه ذلك، وقول الشاعر: وداعٍ دعا بعد الهدوءِ من السرى. . . فلم يستجبه عند ذاك مجيبُ

فهو أبلغ من قولك: لم يجبه، إذ فيه تنبيه أنه تعالى لا يضيع عمل من لم يخرج عن الإِيمان بشرك، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). وذَكَر الذكر والأنثى، فقد رُوي أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول الله، ما بال الرجال يُذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله ذلك،

و (مِن) للتبيين، أو لاستغراق الجنس لتقدُّم النفي. إن قيل: ما معنى قوله: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في هذا الموضع؟ قيل: تنبيهاً أن الأنوثية والذكورية لا تقتضي اختلاف الحكم في هذا الباب، وإنما الاعتبار بالأعمال والنيات، فمن قصد فيما يتحراه وجه الله فله بقدره ثواب، ثم بيّن أنّ للذين هاجروا فضل رتبة، كما قال: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً). ولم يعن بالمهاجرة والإِخراج من الديار ما كان من الكفّار فقط. بل عناه ومن هاجر الأفعال القبيحة

والأخلاق الكريهة، وقاتل نفسه حتى قهرها. والظاهر من قوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) أن ذلك حكم الآخرة، وعليه أهل الأثر. وقال بعض الصوفية: عنى بتكفير سيئاتهم إزالة درنهم عنهم في الدنيا. قال: وهذا المعنى هو المراد بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وإدخالهم الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار التمكين من زهرات العلوم والاطلاع على كثير من الغيوب، التي وصفها حارثة في حقيقة الإِيمان. حيث قال: وكأني بعرش ربي بارزا. وقال: والأنهار هي أنهار الماء

المذكور في قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً). قال ابن عباس: قرآنا، ثم قال: (ثَوَابًا فِن عِندِ اَللَّه) تنبيهاً أن هذا ثوابه عاجلًا في الدنيا. ثم قال: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) إشارة إلى ما له في الآخرة من الثواب، والله أعلم بما ادعاه هذا القائل). إن قيل: ما وجه قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)

بعد قوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) على القول الأول؟ قيل: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أنه بيّن بقوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أن ما ذكره ثواب لهم. ثم أخبر أن هذا الثواب لا يوجد إلا عنده. فيكون قوله (أحسن، الثواب) إشارة إلى المذكور قبله. والثاني: أن يكؤن حسن الثواب غير المذكور أولاً، فنبه أنّ ما ذكرت أولاً هو الذي عرفتكم، وعند الله حسن الثواب، الذي لم يُعَرِّفْكُموه لعجزكم عن الوقوف عليه إشارة إلى المذكور في قوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) وفي قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).

(196)

قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) أصل الغًرِّ: الطيُّ الذي ينكسر عليه المطوي، فجُعِلَ عبارة عمن انطوى على اعتقاد يمنع عن رفع بصيرته، ولذلك سُمي الاعتمّاد طَوِية، ونحو الغرِّ الاستدراج تشبيها بالمدرج، ومن هذا قال: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)؛ والتقلب في البلاد ليس يعني المشي فيها، وإنما يعني التوسع في أعراض الدنيا،

والمتاع: ما فيه تمتع ما، والآية تحتمل وجهين: أحدهما: أن جعل ما يتمتع به في الدنيا وإن كَثُرَ. قليلًا في جنب ثواب الله تعالى. فلا يجب أن يُغتر به، إذا اعتُبر بما يحصل لأربابها في المآل من العذاب. والثاني: أنه أراد بالقليل قلة الفناء. وأراد بجهنم: جهنّم الدنيا وجهنّم الآخرة، تنبيهاً أن من حصل له مال لا ينفك من شُغلٍ لا ينقضى عناؤه، وفقر لا يُدرك غناؤه، وحزنٍ على فوت محبوب، وخوفٍ على فقد مطلوب. كأنهم في جهنم من سَلْب ما لهم، وفي جهنم عند مآلهم، كما قال: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). وذكر (الْمِهَادُ) على سبيل المثل،

(198)

كقوله: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ). قوله تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) ذكره تعالى لـ (لَكِنِ) لكون حكم ما بعده منافياً لما قبله. وقد ذكر في قوله: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) الوجهان اللذان ذكرا في قوله: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). وقيل: عنى به أنهم من طيب عيشهم في القناعة. ورفضهم فضولات الدنيا في جنّاتٍ صفتها كذلك. وذلك على التشبيه، وإياه قصد بقوله: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).

قال: والذي يدلّ على هذا قوله: (نُزُلًا). والنزُلُ ما يجُعل للإِنسان في طريقه، ليستعين به على سفره. وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أو تفسير، كقولك: هذا لك هبة، وفي قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)،

الوجهان المذكوران في قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ). وقيل: عنى بذلك ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن ". تنبيهًا أن المؤمن يتبرم بها شوقا إلى ما أُعِدَّ له. والكافر يطمئن إليها، ويشتاق إليها عند فراقها مع ما فيها من الشوائب لما أُعِدَّ له من العذاب. وقال عبد الله: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها. ثم تلا هذه الآية في الأبرار. وتلا قوله: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) في الفجار.

(199)

قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) الخشوع: كالخضوع، لكن أكثر ما يقال في الخشوع ما اعتُبر فيه حال القلب، والخضوع فيما اعتُبر فيه حال الجوارح. وإن كان يُستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر. فقول الحسن: الخشوع ثبات الخوف في القلب. وقول غيره: هو ما يظهر من الخضوع الدال على الخوف من عقاب الله، واحد في الحقيقة،

ولما ذم فيما تقدم كفار أهل الكتاب بيَّن هاهنا: أن من خالفهم في سوء اعتقادهم وأفعالهم فحكمهم بخلاف حكمهم. وذكر ما فيه تنبيه على الإِيمان والأعمال الصالحة، وترك تتبُّع دِقَاق المطامع، وذلك أحكام الشرع. إن قيل: ما فائدة قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ها هنا؟ قيل: الحساب إشارة إلى الثواب المجعول لهم في مقابلة فعلهم. وسقاه حساباً لقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وبيّن بقوله: سريع الحساب أن ذلك لا يتأخر عنهم. لما كانت النفس مولعة بحب العاجل. ونبّه على أمرين: أحدهما: ما يجعل لهم في الدنيا المدلول عليه بقوله: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ).

(200)

الثاني: أن المدعُوَّ به في الآخرة سريعٌ وقوعه وإن كان في ظنِّ الكافرين بطيئاً حصوله. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) الصبر أعمُّ من المصابرة، إذ كان يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعل واحد، والمصابرة، يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعلان متقابلان. والصبر: حبس النفس على ما يحمد،

وعما يُذمُّ، ولهذا قيل: هو اسم لأعم الفضائل. وله ثلاث منازل: إمساك الجوارح الظاهرة عن الإِقدام على ما يُكره. وإمساك اللسان عن إظهار التألُم منه. وإمساك القوى عن تحرُّكها بالتألُم منه. وهذه منزلة الصدّيقين. والمصابرة ضربان: مصابرة العِدى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد في الآية. ومصابرة قوى النفس في مدافعة الحرص والبخل والجبن وسائر الرذائل. وهي عظماهما، والمرابطة كذلك على ضربين:

مرابطة في ثغور المسلمين، ومرابطة النفس البدن، فإنها كمن أُقيم في ثغر، وفُوِّض إليه مراعاته، فيحتاج أن يراعيه غير مُخل به إلى أن يُعزَل عنه أو يُستردّ منه، وقد دخل في عموم ما قلناه قول من قال: اصبروا في أنفسكم، وصابروا عدوكم، ورابطوا الثغور. وقول من قال: اصبروا بجوارحكم على الطاعة، وصابروا بقلوبكم مع الله، ورابطوا بأسراركم في سبيل المحبة، وقد نبّه

على - عموم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة". إن قيل: كيف أخّر ذكر التقوى؟ قيل: يحتمل وجهين: أن يكون ذلك إشارة إلى غاية التقوى. وهي التبرؤ من كل شيء سوى الله، وذلك لا يكون إلا بعد هذه الأشياء، وكأنه قال: إذا فعلتم ذلك فاتقوا الله راجين أن تدركوا الفلاح، إشارة إلى ما ذكر من الصبر والمصابرة والمرابطة. فلمّا أمر تعالى بهذه الثلاثة، قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي اتركوا القبائح له، فبتركها تُدرك هذه الثلاث، ويكون الفلاح عبارة

عن هذه الثلاث، فعلى هذا التقوى في المعنى متقدم، وعلى الأول متأخر. والله أعلم.

سورة النساء

سورة النساء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) قد تقدّم الكلام في الفرق بين (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). وأنه ذكر مع النّاس (الربُّ) ومع الذين آمنوا (اللهُ)، فيا أيها الّناس خطاب عام، ويا أيها الذين آمنوا أخصّ منه، ويا عبادي أخصُّ منهما، وحيث يقصد خاصَّ الخاصِّ قال:

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) و (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) وإن كان الخطاب له ولغيره نحو (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ). وقد تقدّم البهلام في أن أدنى منازل التقوى اجتناب الكفر. وأعلاها أن لا تراعي من الدنيا والآخرة سوى الله. وقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ذكر عامة المفسرين أنه عنى بالنفس آدم، وزوجها: حواء. وذكر بعضهم أنه عنى بالنفس الروح المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق الأوواح قبل الأجسام بكذا سنة". وعنى بزوجها البدن. وقيل: عنى به التركيب، وإلى

نحوه أشار بقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ). وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ)، ولا يصحُّ معنى ذلك في النبات إلاّ على معنى التركيب، ونبّه بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من ترتيب ما، وأن الواحد في الحقيقة ليس إلا هو تعالى، قال: وعلى هذا نبّه بقوله: (وَاَلشَفعِ وَاَلوَترِ)، وقال معنى الشفع: الخلق، والوتر: الخالق. وهذا القول في الآية

وإن كان متجهًا، فأهل الأثر على"ما تقدم. إن قيل: على أي وجه خلق زوجها منها أخذ جزءًا فجعل زوجها؟ قيل: قال بعضهم: الشيئان قد يُقال لأحدهما: هو من الآخر. إذا كان من عنصره وأصله. كقولك: هذا القميص من قميصك. وقد يقال ذلك إذا كانا مشتركَين في صفة، نحو (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). وقال بعضهم: أخذ جزءًا من آدم، وجعل منه حواء. وعلى ذلك رُوِيَ: "خُلِقَتْ حواء من ضلع من أضلاع "،

وقال بعضهم: نبّه بقوله: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أن المرأة بعض من الرجل. تنبيهًا على نقصانها وكماله، وآنجه نبّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله ذلك أنها مخلوقة خلقة مُعْوَجة، لا ينتفع بها إلا كذلك، فلا يهمنّك تنقيتها، وعلى ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المرأة خُلقت من ضلع، وإنك إن أردت أن تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ". وبهذا النظر قيل: أَخسُّ صفات الرجل الشحُّ والجبنُ، وهما أشرف صفات المرأة. إن قيل: ما وجه عطف الأرحام على الله، والتقوى في الحقيقة من الله ومن عذابه، لا من الرحِم، وقد كان الوجه أن يُقال:

اتقوا الله في الأرحام أو للأرحام؟ قيل: أجيب عن ذلك بأوجه: الأول: أنه لما كان يقال: اتق الله، أي اتق عقوبة عصيانه. واتق ذنبك، أي عقوبة ذنبك، قال ههنا: (اتَّقُوا اللَّهَ)، أي اتقوا عقوبته على طريق الجملة. ثم قال: والأرحام. أي عقوبته في قطع الأرحام. وخصّها بالذكر تعظيمًا لأمرها، وكأنه قيل: اتقوا عقوبات الله عامة، وعقوبته في قطع الأرحام خاصة، وذلك لتعظيمه أمر الرحم. والوجه الثاني: أن تقديره: اتقوا الله في الرَّحِم، لكن حُذِف الجارّ، وأُقيم حرف العطف مقامه، كقولهم: يدك والسكين. أي احفظ يدك من السكين.

والوجه الثالث: أن تقديره: اتقوا الله وقوا الأرحام. فأحدهما متقى، والآخر موقى، نحو قولهم: أعور عينك والحجر. أي: قِ عينك، واتق الحجر. إن قيل: ما وجه إعادة التقوى وعطف أحدهما على الآخر؟ قيل: إنه أمر في الأول بالتقوى أمرًا عامًا، ولهذا قال: (رَبَّكُمُ) تنبيهًا على أفضاله، وإحالتهم على ما لا يمكن لأحد إنكاره. ولما قصد الحث على الحافظة على الرَّحِم قذم ذكر الموجد باللفظ الذي فيه التنبيه على القدرة التامة. إن قيل: ما وجه ذكر (تَسَاءَلُونَ بِهِ)؟

قيل: زيادة في الترغيب في تقواه، وتنبيهًا على كون تعظيمه منغرسًا في قلوبنا، حتى إنا إليه نفزع إذا سألنا، ونبّه أنا كما نقول: أسألك بالله. نقول: أسألك بالرحم، وتقدير الكلام: اتقوا الله الذي تسألون به، والأرحام التي تسألون بها، لكن نبّه بوصف الأول على وصف الثاني، وللقصد إلى هذا المعنى قرأ من قرأ: " الأرحامِ " بالخفض. إن قيل: ما فائدة قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)؟ قيل: تنبيهًا على وجوب مواصلة بعضنا بعضًا، لكوننا من ذات واحدة، وأنا

كبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، وأمّا بخفض قوله: (وَالْأَرْحَامَ) فقد قيل: فيه ضعف من حيث الإِعراب، ومن حيث المعنى (1)؛ أمّا من حيث الإِعراب فلأن ضمير المجرور لمّا كان على حرف واحد قائم مقام التنوين، والتنوين لا يصحُّ أن يعطف عليه، كذلك الضمير المجرور، وأيضًا فلأنّ كلَّ ما يُعطف عليه يصحّ أن يُعطف هو. ولمّا كان ضمير المجرور لم يصحَّ أن يعطف عليه، وبيان ذلك أنّ للمرفوع والمنصوب ضميرًا منفصلًا، نحو: هو وهما وإيّا. فيصح أن يُقال: رأيتك وزيدًا، أو رأيت زيدًا وإياك، وأتيتني وزيد. وأتاني زيد وأنت، ولم يكن للمجرور ضمير منفصل يقع موقع المتصل فيُعطف به، فلم يجز لذلك أن يُعطف عليه أيضًا.

_ (1) القراءة بالجر متواترة، ومن ثم فلا يسوغ الاعتراض عليها.

وأمّا من حيث المعنى: فإن إعادة الأمر بالتقوى فلاقتران ذكرها بصفة تحثُّ سامعها على استعمال التقوى، كقولك: اتقِ الله الذي تخافه، واتقِ الله الذي بيده الخير. فهذه الصفات هي التي تُحَسِّنُ التكرير. فإذا نصبت الأرحام ففيه هذا المعنى. وإذا جررته لم يكن في ضمنه من التحذير ما فيه إذا نصبتَه. وإنما قال: (وَخَلَقَ مِنْهَا) ردًّا إلى لفظ النفس، وكلُّ اسم جنس، لفظه

مخالف لمعناه أي، التذكير والتأنيث، فلك اعتبار اللفظ طورًا والمعنى طورًا، نحو: حمامة ونفس، وإذا كان عَلمًا نحو: طلحة. أو صفة نحو: علَّامة ونسَّابة، فليس إلا اعتبار المعنى دون اللفظ. والرَّقيب. قال مجاهد: هو الحفيظ، وقال ابن زيد: عليم). وكلاهما صحيح، فحافظ الشيء يقتضي أن يكون عالمًا به ليمكنه أن يحفظه، وبيَّن بقوله: (كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) أنه قبل أن خلقكم وأوجدكم كان مراعيًا لكم، تنبيهًا أنه لا يخفى عليه أمركم في كل حال.

(2)

قوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) الخبيث والطيِّب: عبارتان عن الحرام والحلال، أي تدفعوا إليهم شيئًا هو طيِّب لكم، وتأخذوا من مالهم ما هو خبيث لكم. طلبًا للربح. هذا قول الضّحّاك والسُّدِّي. وقيل: لا تتبدلوا الهزيل بالسمين. وقيل: الطيِّب مقدار ما أبُيح تناوله من مال

اليتيم، والخبيث ما لم يُبح منه، وهو المشار إليه بقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا). وكل هذه الأقوال إشارات إلى ما يقتضيه عموم الخبيث والطيب. والحَوب: الإِثم لكونه مزجورًا عنه، من قولهم: حاب حَوْبًا وحُوبًا وحِيَابة، والأصل فيه حَوْب لزجر الإِبل، وتحوّب نحو تأثم، وإيتاء اليتامى أموالهم، قيل: دفعها إليهم بعد البلوغ، وسمّاهم حينئذ يتامى استصحابًا للحالة المتقدمة،

ويكون ذلك كقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وقيل: هو إنفاقها عليهم، ودفعها شيئًا بمعد شيء على قدر الحاجة. والضمير في قوله: (إِنَّهُ) قيل: للأكل. وقيل: للتبدُّل. وقيل: للأموال، لكن اعتُبر المعنى

(3)

لمّا كان المال والأموال في هذا الموضع سواء، كقول الشاعر: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .، فإن الحوادث أودى بها لمّا كان معنى الحوادث والحدثان واحدًا. قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) العَولُ: الخروج عن حد الاستقامة، والعول في الفريضة خروج عن حدِّ السهام المسماة، والعويل: الصياح الخارج عن حد الاستقامة في الكلام، وذلك نحو الألفاظ التي يتحرّاها المصاب. وعوَّلت عليه مِلتُ نحوه بالاعتماد، والِمعْول على بناء الآلة، كأنه آلة العول.

والآية تُؤوِلَتْ على وجهين: أحدهما: قيل: إن الرجل قبل الإِسلام إذا مات كان وليُّه يسير في أيتامه سيرة غير قاصدة، ويأكل أمو الهم إسرافًا وبدارًا، وكانوا يسيرون في يتامى النساء خاصة بأقبح سيرة، فإنها متى كانت اليتيمة ذات مال وجمال تزوّجوا بها بأقلّ من مهرها، ثم لم يحُسنوا إليها، وإن كان أحدهم لا يرغب فيها عَضَلها عن النكاح، طمعًا في مالها، فلما جاء الإِسلام نُهوا عن ذلك بهذه الآية. وقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ) أي إن خفتم أن لا تستعملوا العدالة - أي إذا تزوّجتم بهن فتزوجوا من غيرهن. وإلى هذا ذهب ابن عباس وعائشة. والثاني: أنهم يتحرجون في أموال اليتامى، لمّا

عظَّم الله تعالى من أمرهم في نحو قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) الآية. ولم يكونوا يتحرّجون من التزوُّج بعدد من النساء، فقال تعالى إن تحرَّجتم عن تناول مال اليتيم خشية أن لا تُقسطوا. فتحرجوا النساء أن لا تعدلوا بينهن، وانكحوا مقدار ما يمكنكم الوفاء بحقوقهن. وقيل: معناه إن خفتم أن لا تُقسطوا في حفظ أموال اليتامى. وأن تجوروا في الإِنفاق على نسائكم. فانكحوا عددًا مخصوصًا لا يحوجكم إلى أن تقسطوا. إن قيل: فما معنى ذكر هذه الأعداد إن كان الأمر على ما وصفت؟ وهلّا قيل: فانكحوا ماطاب لكم من النساء سواهن؟

قيل: يجوز للحكيم إذا سئل عن حكم أن يجيب عنه، ويقرن إليه ما علم أنّ بالسائل حاجة إليه. فلمّا سُئل عن ذلك، وكان فيهم من لا يُبالي أن يتزوّج بالعدد الكثير من النساء، بيّن العدد الذي لا يجوز أن يتعداه الإِنسان في وقت واحد، ولذلك أحيلوا على هذه الآية لما استفتوا في يتامى النساء، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) الآية. وقد اختُلف في العدد الذي يجوز أن ينتهى إليه في النكاح. فمذهب عامة الفقهاء أنه لا يجوز مجاوزة الأربع، ومذهب بعض الشيعة أنه يجوز بلا عدد كالسراري. وقال: الآية ليست بتوقيفٍ، بل هي إباحة: كقولك: تناول ما أحببت واحدًا واثنين وثلاثة، وأنّ تخصيص بعض مقتضى العموم على طريق التبيين لا يقتضي الاقتصار عليه، وذهب بعضهم ممن لا يعرف شرط الكلام إلى أن المباح منهن تسع، وقال: الواو تقتضي الجمع، فصار كقولك: اثنين وثلاثًا وأربعًا، وذلك تسع. وأكد ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات عن تسغ نسوة. قال: وغير منكر أن

يذكر عدد واحد بلفظين، كما قال: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ). وهذا فاسد، أما أولاً: فإن العدول عن ذكر الشيء بلفظة واحدة إلى لفظين، إما أن يكون لغرض نحو (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ)، لمّا خالف بين حكميهما أورده بلفظين. أو يكون ذلك للعيّ والاستدراك عن نسيان، وكلام الله تعالى منزَّه عن ذلك، ومنهم من ردَّ إلى واحدة، لتأويلٍ انتزعه من الآيتين: إحداهما هذه، والأخرى قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) الآية. قال: فبيَّن أنكم لا تستطيعون تحري العدالة في النساء، وقال ههنا: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً). فكأنه قال: انكحوا واحدة إن لم تستطيعوا أن تعدلوا.

فقد ثبت أن لا تستطيعوا، فإذًا، فانحكوا واحدة، وهذا القائل خفي عليه الفرق بين العدلين، فإن العدل في تلك الآية تركُ ميل القلب، وذلك مرفوع عن الإِنسان، لقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) عنى به العدل الذي هو حق القسم والنفقة، ولهذا قال: (فَإِنْ خِفْتُمْ) فإن الخوف يُقال فيما فيه رجاء ما، ولهذا لا يُقال: خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء أو نسف الجبل. وهذه الأقوال المتقدّمة يُبطلها ما رُوي أنه لمّا نزلت هذه الآية كانت تحت قيس بن الحارث ثمان نسوة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "خل سبيل أربع ".

وكذا قال لابن مسعود الثقفي، وكان قد أسلم وتحته تسع نسوة، واستدلَّ أهل الظاهر بالآية على وجوب النكاح. واستدل بها بعض الفقهاء على أنه غير واجب، وبيان هذا أن

ما في قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) إمّا أن يكون عبارة عن المنكوحة، أو عن الزمان، أو العدد. فلا يصح الأول. لأن (ما) لا يُعبَّر به عن أعيان العقلاء مجردًا، ولا عن العدد، لأنه محال أن يعني نكاح العدد، وإن عنى المعدود فالكلام راجع إلى أن يكون عبارة عن العقلاء، فيجب أن يكون عبارة عن الزمان، فكأنه قال: اعقدوا وقت ما يطيب لكم، والمخالف يوجبه طاب لنا أو لم يطب.

فإن قيل: معناه ما تاقت أنفسكم إليه، قيل: إن عنى ما تاقت نفسه إلى العقد فليس ذلك مذهبًا لأحد، وإن عنى المخالف: ما تاقت نفسه إلى الجماع، فلم يجر للجماع ذكر. وقد تقدَّم الكلام في العول، فقول من قال: ذلك أدنى أن لا تجاوزوا ما فرض الله. وقول من قال: أن لا تميلوا، يرجعان إلى أصل واحد. وقول الشافعي معناه: أن لا يكثر عيالكم. وقد ذهب إلى هذا التأويل

زيد بن أسلم، وأجازه الأصمعي، وابن الأعرابي. ومنه قيل: فلان يعول عشرة، وقال ابن داود: غلط الشافعي، لأن صاحب الإِماء في العيال كصاحب الأزواج.

(4)

وابن داود لم يتصوّر ما قاله الشافعي، وذاك أنه لم يُرِد إلا ما أراد غيره من حقيقة المعنى، وإنما تحرّى اشتقاق اللفظ، ولم يُرِد بالعيال الأولاد، وإنمّا أراد النساء، فقد يُسمَّى كل من تسمونه العيال، وإن لم يكن أولادًا، وأراد تعالى إن خفتم أن يكثر نساؤكم، فتحتاجوا إلى تفقدهن بأمور تقصرون عنها، ولا يكون في مراعاتها إقساط. وهذا راجع إلى ما ذهب إليه الآخرون. قوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) فالنحلة: العطية التي لا يُطلب بها عوض، وأصله عندي من النحل. فكأنَّ نحلتهُ: أعطيته عطية النحل، وذلك ما قصده الحكماء من وصف النحل في أنه لا يضر بشيء، وينفع أعظم نفع، وكأنه إلى ذلك أشار بقوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الآية،

والنِّحلة أخصّ من الهبة، إذ كل هِبة نِحلة، وليس كل نِحلة هِبة. وسُمّي الصداق بها من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتُّع دون عوض مالي. وقول قتادة وابن زيد: النّحلة: الفريضة. فنظر منهم إلى حكم الآية، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق. واقتضت إيجاب إيتائهن الصداق. ثم حكمه وقدره قبل الدخول وبعده، وقبل التسمية وبعدها. فمأخوذ من غير الآية. ودلّ بقوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ) أن لا يتحرّج الإِنسان من قبول هبتها عن طيب نفس منها بها، ودلَّت الآية على أنه يجوز لها أن تهب صداقها إذا كانت بالغة، خلافًا لما قال مالك: إن ذلك إلى وليّها.

وللأوزاعي حيث قال: لا يجوز لها حتى تلد. أو يحول عليها الحول في بيت زوجها. ولليث بن سعد حيث قال: لا يجوز عتق ذات الزوج ولا هبتها. إلا في اليسير من غير إذن زوجها. وذُكِرَ عن شريح أن رجلًا أتى بيّنة أن امرأته

أبرأته من صداقها عن طيب نفس، وأنكرت المرأة ذلك. فقال شريح: هل رأيتم المال وقد دفع إليها؟ فقالوا: لا. فقال: لو طابت نفسها لم ترجع فيه، فلم يجُزه. إن قيل: لِمَ قال: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) فأفرد وقال في الأخرى: (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) فجمع؟ قيل: التمييز على ثلاثة أضرب: الأول: أن يدلَّ ما قبله على عدد فلا يجُمع، نحو: عشرون درهماً. والثاني: أن يشتبه، فلابد من جمع إذا أريد الجمع نحو قولهم: أفره القوم عبيدًا. والثالث: أن يستوي الواحد والجمع لكونه معلومًا منها المعنى على حد، نحو قولهم: فلان أحسن القوم عينًا، لأنه يعلم أن القوم لم يشتركوا

(5)

في عين واحدة، والآية على هذا فلا يحتاج فيها إلى الجمع. والضمير في (مِنْهُ) راجع إلى مصدر (فَأْتُوهُنَّ). قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) السُّفَهَاء قيل: النساء،

وقيل: الصبيان، ومنهم من اعتبر ذلك في كل من لم يكن حصيفا في تدبير المال، ومنهم من اعتبر ذلك مع الحصافة في الدين. وكُلّ واحد أشار إلى بعض من يتناوله الاسم على سبيل المثال. فمعلوم أنه لا يصحُّ صرفها إلى النساء مفردات، لقوله: (وَارْزُقُوهُمْ) والنهي عن إيتائهن المال على سبيل تفويض تدبير الأموال إليهن. وقيل: على سبيل تمليكهن على وجه التمكين، لا على نهي الإِعطاء بقدر ما يحتاجون إليه. وقال ابن جبير: معناه لا تعطوهم أموالهم. وإضافته إلى المخاطبين على اعتبار الجنس، نحو قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، ونظر بعضهم نظرًا آخر، فقال: عنى

بالسفهاء الوارثين، الذين يُعلم من حالهم أن يتسفهوا في استعمال ما تناله أيديهم، فنهى عن جميع المال الذي يرثه السفهاء، ونبّه بقوله: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) على الغرض الذي فصَّله الحكماء من فائدة المال الموصل به إلى السعادة الحقيقة، بل قد أبانه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوجز لفظ، فقال: "من طلب الدنيا استعفافًا عن المسألة، وسعيًا على أهله. وتعطُّفًا على جاره، بعثه الله ووجهه كالقمر ليلة البدر. ومن طلبها حلالًا، مكاثرًا، مفاخرًا، مرائيًا، لقي الله وهو عليه غضبان ". والقيام يكون مصدرًا واسمًا، والقوام لا يكون إلا اسمًا.

إن قيل: لِمَ قال: (فِيهَا) ولم يقل: منها. مع كون ذلك أظهر؟ قيل: قد ذكر بعضهم أن فيه تنبيهًا على ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "ابتغوا في أموال اليتامى، لا تاكلها الزكاة". وأن المستحب أن يكون الإِنفاق عليها من فضلاتها المكتسبة. والقول المعروف متضمن للأمر بتأديبهم وإرشادهم ووعدهم الجميل، الذي ذكره ابن جريج، وقال: هو أن يُقال له: إن رشدت مكنَّاك من مالك،

(6)

وفيه المنع عن قهرهم، وإليه ذهب مجاهد استدلالاً بقوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) الإِيناس فيما رُئي مرّة بعد أخرى فأُنس به. وقد فسّره ابن عباس بالمعرفة. والخليل فسره بالإِحساس. والرشد،

قال الحسن وقتادة: وهو الصلاح في الدين والإِصلاح للمال. وقال مجاهد: هو الإِصلاح للمال فقط، وأمر تعالى بدفع المال إلى اليتامى بعد البلوغ وإيناس الرشد منهم، وبعد الابتلاء، وجعل ذلك كلّه شرطا في تسليم المال إليه، ومعلوم من الآية أن من دُفع إليه المال، ثم فُقد منه الرشد أن يُعاد الحَجْرُ عليه، لأن الغرض بذلك حفظ ماله، فلا فرق بين أن يكون المعنى الموجب للحَجْرِ ابتداء أو انتهاء.

والآية تقتضي أن كلَّ من حصل في يده مال لغيره لزمه حفظه له كمال المفقود، ومال الفقراء في بيت المال، واللُقطة في يد الملتقط. والابتلاء المراد في الآية، قيل: هو حال الصغر بأن يُدفع إليه قليل من المال، فيرُى حفظه له وتصرفه فيه. وقيل: هو بأن يجُرَّب في أمورِ أُخر. وقيل: هو أن يختبر بعد البلوغ، وسفاهم يتامى استصحابًا للحالة المتقدّمة، وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا) أي متجاوزين حد القصد المباح لكم، ومبادرة أن يكبروا، فيمنعوا أموالهم). وقوله: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ). قيل: لا يتناول منه شيئًا.

(وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) من مال نفسه لا من مال اليتيم، لئلا يحتاج إلى مدِّ اليد إلى ماله. وقيل: فليأكل بالمعروف من مال اليتيم. وقيل: ذلك منسوخ بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) الآية، وقال الأصمُّ: فليأكل من مال اليتيم قرضًا. وإليه ذهب عمر، فقال: إني في مال الله كوالي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف،

فإذا أيسرت قضيت. وقيل: يتناول الفقير الأقل من قدر حاجته، أو قدر أُجرةِ مثله. وقيل: ليس لوالي اليتيم أن يتناول ذلك، وإن تولى إصلاحه إلا بأمر من له الأمر، وإليه ينصرف ما رُوي أن رجلَا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن في حجري يتيمًا أفآكل من ماله؟ قال: "نعم، ما لم تقِ مالك بماله، أو تتخذ منه ذخرًا"،

(7)

وإلى نحوه صُرف قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). والأمر بالإِشهاد عليهم عند دفع أموالهم إليهم على سبيل الإِيجاب. وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، تنبيه منه تعالى أنه رقيب عليهم. يعلم أسرارهم، وأنه يحاسبهم على ما يكون منهم، فليس للولي أن يخون، ولا لليتيم أن يدعي ما ليس له. قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

المفروض: المقطوع بإيجابه، والفرض الحزُّ في شِية القوس، والفُرْضَة مقطع الماء، إمّا اعتبارًا بقطع الماء أو قطع الخصومة فيه. وبعض الفقهاء فرّق بين الفرض والواجب، فجعل الفرض أخصّ. وقال: إنه يقتضي فارضا، والواجب لا يقتضيه. قال: ولذلك يُقال: ثواب المطيعين واجب على الله. ولا يقال: فرض عليه، ورُوي أن العرب كانوا يورثون الذكور دون الإِناث، وقيل: كانوا لا يورّثون إلا من طعن من الرُّمَّاح دون المستضعفين من الولدان، قيل: إن أوس بن ثابت مات

وخلَّف بنات وابني عم، فعمدا إلى المال وأخذاه. فجاءت امرأة أوس ببناته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعلمته ذلك، فأخبرها أن لا شيء لها ولا لهن. فأنزل الله تعالى الآية، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابني عم أوس، فأمرهما أن لا يُخرجا من المال شيئًا، ثم نزلت آية الميراث، فقسّم المال عليهم، فاستدل بهذه الآية أصحاب الإِمام أبي حنيفة على توريث ذوي الأرحام. وقالوا: الأخوال والخالات وأولاد البنات من الأقربين. وتعلَّق بذلك أيضًا من ورَّث الإِخوة مع الجد، وكذلك من ورّث العامل والمماليك.

(8)

وقوله: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا) يقتضي خلاف من ورّث ذوي الأرحام. إذ ليس لأحد منهم نصيب مفروض. فإن قيل: لِمَ أُعيد ذكر النصيب؟ قيل: لما أراد أن يبين كون نصيبهم مفروضا أعاد الموصوف معه. ليستبين أن المفروض هو النصيب لا غير. قوله تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) أراد بالقسمة المقسوم، ولذلك: (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ردّ إلى المعنى. واختُلِفَ في الآية على أقوال: الأول: أنه عنى من ليس بوارث من أولي القربى، وذلك على الاستحباب، فإما أن يُعطوا،

أو يُقال لهم قول معروف، وقيل: يجُمع لهم بين الأمرين. والثاني: قال مجاهد: هو واجب، لكن يُعطون على قدر ما تطيب به نفس الورثة، إذ كانوا وارثين. قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يُقسّمون على الأقارب واليتامى والمساكين من الورِق والفِضة، فإذا صاروا إلى الأرضين والرقيق ونحوها، قالوا لهم قولاً معروفاً، أي قالوا لهم: بُورِك فيكم. الثالث: أن أولي القربى ضربان: وارث يُعطى، وغير وارث. فيُقال له قول معروف. الرابع: يُعطى الحاضر البالغ، ويتُحرَّى في أمر

الغائب والصغير قولٌ معروف أي مصلحة. الخامس. قال زيد من أسلم: هذا شيء أمِرَ به الموصي في الوقت الذي يوصي، واستدلّ في ذلك بقوله بهد هذه الآية: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً) الآية. السادس: أنّ ذلك كان في الورثة واجبًا، فنسخته آية الميراث. والصحيح أنه ليس بمنسوخ، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)، ثم قال: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا).

(9)

قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) أصل السداد: إزالة الاختلال، يقال: سددت الخرقَ. إذا ردمته. والسهمَ إذا قومته، والفقرَ إذا أزلته، والسّداد ما يسدُّ به، والسداد يُقال في معنى الفاعل، وفي معنى المفعول، ورجل سديد متردد بين المعنيين، فإنه مسدد من قبل متبوعه، ومسدِّد لتابعه، وفي الآية أقوال: الأول: أنه نهي للحاضرين عند الموصي أن يأمروه بما لا يجوز الوصية به. والثاني: أنه نهي لهم أن يأمروه بترك الوصية.

الثالث: ما قد رُوِي عن ابن عباس أن ذلك وارد في الحث على حفظ مال اليتيم، وأن عليهم أن يعملوا فيه بمثل ما يحبون في ذريّتهم بعد موتهم. الرابع: أنه نهي للموصي أن يوصي بما لا يجوز. وكُلُّ هذه الأقوال يصح أن تكون مرادة بالآية، لأنه واجب أن لا يوصي بأكثر من الثلث، وواجب على من يحضره أن يحثَّه على ذلك، وأن لا يُوصي بأكثر من الثلث، وأن لا يخلّ بالوصية.

إن قيل: لِمَ قال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا)، ثم قال: (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ)؟ وهل بين الخشية والتقوى فرق؟ قيل: الخشية الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم. ولذلك وصف به العلماء في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). والتقوى جعل العبد نفسه في وقاية مما يخشاه، ولذلك قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). فالخشية مبدأ التقوى، والتقوى غاية الخشية. فأمر الله تعالى بمراعاة المبدأ والنهاية، إذ لا ينفع الأول دون الثاني. ولا يحصل الثاني من

(10)

دون الأول، ثم أمر تعالى مع ذلك بتحرِّي القول السديد، وذلك متناول لكل قول مأمور به، وقول من قال: هو تلقين المحتضر الشهادة، وقول من قال: هو ترك الرفث في تولي القسمة. وقول من قال: هو الصدق في الشهادة - داخل في عموم الآية. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) الصّلا: النار، وصلي فلان بها وصليته: أدنيته منها. وصليت اللحم: شويته. فقوله: (وَسَيَصْلَوْنَ) من صِليَ، ويُصْلَون من أَصلَيتُ. نحو (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا)، والسعير: المسعور. واستعرت النار والحرب تشبيهًا بذلك، وهذه الآية مؤكَدة لما قبلها من

الأمو بالخشية والتقوى، ووعيد لمن تعدّى، وذكر الأكل لكونه أكثر ما يرُاد له المال. وقيل: إنه لما نزلت هذه الآية تحرَّج الناس من طعام اليتيم حتى أنزل الله تعْالى: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)، وليس هذا ناسخًا للأول، كما ظنّه قوم، لأنه ليس في قوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ) إباحة لأكل مال اليتيم ظلمًا، فتكون هذه ناسخة لها، في

قوله: (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) وجهان: أحدهما: أن ذلك تشبيه، إذ كان ذلك مؤدياً إليه. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يتهافتون في النار تهافت الجراد". وكقول الشاعر: إذا صُبَّ ما في الوَطْب فاعلم بأنه. . . دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دعا فسمّى اللبن دما لكونه بدلاً منه. والثاني ما رُوي أن النار تجُعل في بطنه يوم القيامة. والقولان صحيحان وسيان، فإنه من

(11)

كان حاله في الآخرة هذه، هو الذي حاله في الدنيا ما قاله الأولون. قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) الوصية: تُقال فيما كان حتمًا، نحو قوله

تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ثم قال: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ). وقال ابن عباس: كان المال للولد في الجاهلية. والوصية للوالدين والأقربين، فنسخه هذه الآية. واستُدِلَّ بما رُوِيَ أنه لمّا نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قد أعطى كُلَّ ذي حق حقَّه، فلا وصية لوارث ". وقال غيره: الآية غير ناسخة، بل هي تفسير لقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ). واختُلِفَ: هل يدخل ولد الابن في

إطلاق الولد؟ فمنهم من قال: يدخل فيه، لقولهم: أولاد آدم. ولأن جميع ما علق بالولد من الأحكام فابن الابن داخل فيه، نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ)، ثم قال: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ). وقوله: (أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) ولا خلاف أن حكم ولد الابن إذا لم يكن ولد صلب حكمه، وقد استثني من ظاهر قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الكافر والمملوك والقاتل وأهل ملَّتين، إلا عند معاذ. فإنه يُورِّث المسلم من الكافر. وقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فإنَّ الله جعل للبنات إذا كُنَّ فوق اثنتين الثلثين، وللواحدة النصف، ولم يذكر فرض

البنتين، قال ابن عباس: حكمهما حكم الواحدة. وقال سائر الفقهاء: حكمهما حكم ما فوقهما. ثم اختُلِفَ من أيِّ وجه صار حكم الاثنتين حكم ما فوقهما؟ فقال بعضهم: إن ذلك أُجْرِيَ مجرى الثلاث بالقياس، لأنه به أشبه. وقال بعضهم: بل اللفظ اقتضى ذلك، وهو الصحيح. وبيان ذلك أنه قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). ولا فرق بين أن يقال ذلك أو يقال: للأثثيين مثل حظ الذكر. وقد ثبت أن حظ الذكر إذا كان مع أنثى الثلثان. فاقتضى ذلك أن فرض الأنثيين الثلثان، فصار ذلك مدلولاً عليه بفحوى الكلام دون الصريح، وفرض الواحدة وما زاد على البنتين فبالصريح، قال: ويقوي ذلك أن القسمة العددية ضربان: مركب ومفرد، وقد ذكر حكم المركب بقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً)، وحكم المفرد بقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)، والاثنان بدءُ المركب من الأعداد، فيجب أن يكون حكمه ملحقًا به. ويدلُّ على ذلك ما قاله في آخر السورة قوله:

(وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)، ثم قال: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ)، فجعل حظ البنتين الثلثين، ولم يبيّن حكم ما زاد عليهما. وبيّن في فرض البنات حكم ما فوق الابنتين، ليعلم من نطق كل واحد من الاثنين حكم المسكوت عنه في الأخرى. فإن قيل: متى جعل حكم الاثنتين حكم الثلاث فصاعدًا سقط فائدة قوله: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)؟ قيل: مثل هذا راجع إلى المخالف، لأنه يقال له: متى جعلت حكم الاثنتين حكم الواحدة سقط فائدة قوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)؟ وجوابه في ذلك جوابنا عما سأل، على أن ذكر ذلك على التنزيل الذي نزلناه ْلابد من ذكره، لأنه بيّن حكم الاثنتين بقوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، ثم بيّن حكم ما فوق الاثنتين، ثم حكم الواحدة. ومن قال: تقدير الكلام: فإن كن نساء اثنتين، وإن قوله (فَوْقَ) زائد كقوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ)، لأنه أراد فاضربوا الأعناق، فغير موافق في ادعاء الزيادة في الموضعين، وغير موافقٍ في تأويل الابنتين، وبهلام الله تعالى منزه عن ذكر لفظ خلوةً عن قصد معنى صحيح، إذكان ذلك لغوًا، تعالى الله عنه.

إن قيل: لِمَ ذكر فرض البنت إذا انفردت، ولم يذكر الابن على الانفراد؟ قيل: لأن العرب كانوا يورّثون البنين دون البنات، فاحتيج إلى تبيين ذلك، دون ما بقوا على ما كانوا عليه. وقوله: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ظاهره يقتضي أن يكون للأب السدس مع الولد: ذكرًا كان أو أنثى، كما أن فرض الأم كذلك، لأنه لا خلاف متى كان الولد بنتا لا يستحق أكثر من النصف، لقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فيُعطى الأبوان السدسين بحكم النص، وبقي سدس يناوله الأب بما نبّه عليه بقوله: (وَوَرِثَهُ ؤأَبَوَاهُ فَلِأُئِهِ اَلثلمشأ)، لمّا جمع نصيبهما. ثم أفرد نصيب الأم على أن الباقي للأب. وقوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فالإِخوة ههنا متناولة للإِخوة والأخوات، لكن غلب التذكير، وبين تعالى ميراث

الأم عند وجود الإِخوة، والظاهر يقتضي أن الأم تستحق السدس إذا كانت للميت ثلاثة إخوة فصاعدًا. وأما إذا كان أخوان فالظاهر لا يقتضي ذلك. وقال ابن عباس: إن الآية لا تتناول ذلك، فلم تحجب الأم عن الثلث بدون الثلاثة، ولا بالأخوات منفردات، وخالفه سائر الصحابة، وحجبوها باثنين من الإِخوة والأخوات، كما حجبوها بأكثر من ذلك. وقالوا: المراد بالأخوة حصول من له الإِخوة دون العدد. ودون الذكورية والأنوثية. ولا خلاف أن الواحد لا يحجب الأم.

وقوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: الوصيّة مقدّمة في اللفظ مؤخّرة في المعنى. فإن مراعاة الذين قبل مراعاة الوصية، وإنما قيل (أَوْ دَيْنٍ)

ولم يقُل أو، دين، ليقتضيهما مجموعين ومفردين. وقوله: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ)، قيل: القصد بذلك أن المنفعة بهما متفاوتة، فإن المنفعة بالآباء في الصغر، وبالأبناء في الكِبَر. وقيل: معناه تحرَّوا ما أُمرتم، ولا تعتبروا نفع الولد والوالد، فإن ذلك يختلف عند اعتبار الآحاد. وقيل: معناه لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة، فينتفع ولده بماله. أم الولد أقرب وفاة فينتفع

الوالدان بماله، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر: ما عِلمُ ذي ولد أيثكله. . . أم الولدُ اليتيم؟ وهذا الذكر في الآية كالاستطراد، والقصد به يجب أن يتحرَّى في ماله الوجه الذي جُعل له المال، فلا يمنع ذا حق من حقّه، شفقة على ورثته، ولا يضعه في غير حقه "تفاديًا من انتقال ماله إلى ورثته. بل يجب أن يتحرى القصد في ذلك، فليس يدري عواقب الأمور. وجملة ذلك أن في الآية حثّا على تفويض الأمر إلى الله، والرضا بحكمه، وقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) اسم موضوع موضع المصدر، نحو قوله: (كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، و (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ). ومعناه قسمة مقدرة، وقيل: معناه حتمًا

(12)

لازمًا، وكلا المعنيين يقتضيه لفظ الفريضة. قوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) الكلالة: اسم لمن عدا الولد والوالد. وقال ابن عباس: اسم لمن عدا الولد وورث الإخوة مع الأب، وإليه كان

يذهب ابن عمر ثم رجع عنه، ويدل أن الأب ليس بكلالة قول الشاعر: وإن أبا المرء أحمى له. . . ومولى الكلالة لا يغضب ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن ذلك، فقال: "من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة". وقال بعضهم: الكلالة من لا ولد له ولا والد. فجعله اسم الميت، وكلا القولين صحيح،

فإن الكلالة مصدر، وهو اسم للمعنى الذي يجمعهما. فسُمّي به الوارث تارة والموروث تارة، وتسميتها بذلك إما لأنَّ النسب قد لحق به من طرفيه، أو لأنه كلَّ عن اللحوق به، وذلك أن الانتساب ضربان: أحدهما: بالعمق كنسبة الأب والابن. والثاني: بالعرض كنسبة الأخ والعم. وقال قطرب: الكلالة لمن عدا الأبوين والأخ

وليس بشيء، وقال بعضهم: هو اسم لكل وارث. لقول الشاعر: . . . وللكلالة ما يُسيم ولم يقصد الشاعر ما ظنّه هذا القائل، فإنه إنما خص الكلالة ليزهد الإِنسان في جمع المال، لأن تخليف المال لهم أشد من تركه الأولاد، وإذا قُرئِ يورِث فكلالة مفعول، وإذا قُرئِ

يورَث فحال للميت. فرض الله تعالى للزوج النصف إذا لم يكن للميتة ولد، دخل بها أو لم يدخل، وجعل له الربُعَ إذا كان لها ولد، سواء كان منه أو من غيره، وفرض الربُعَ للزوجات إذا لم يكن للميت ولد، والثمُنَ إذا كان له ولد، وأجمعوا أن ولد الابن يقوم مقام ولد الصلب في حجب الزوجين، إلاّ حكاية عن بعض المتقدمين، وأجمعوا أن للزوجة الواحدة إذا انفردت ما للزوجات إذا اجتمعن، وذهبت طائفة إلى أن من لا يرث من مملوك وقاتل يحَجب الزوجين والأم، لأن اسم الولد يتناولهم، كما يحجب الإِخوة الأم مع الولد، وإن لم يرثوا،

وقوله: (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ)، جعل لواحدهم السدس. وأشرك بين جماعتهم في الثلت، ولم يُفضِّل ذكرهم على أنثاهم، وعنى بذلك ولد الأم بدليل قوله في إخوة الأب والأم، (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ورُوِيَ أن سعد بن مالك قرأ: وله أخ أو أخت من أم.

قال بعضهم: لعله فسَّر الإِخوة بذلك، فظنَّ السامع أنه قرأه في القرآن، كما روي عن عمر: فامضوا إلى ذكر الله على معنى التفسير للسعي، فظنَّ أنه قرآن. وقوله: (فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) فذلك لتغليب المذكَّر. وقُرىء يوصِي بها، فإذا قُرِئ يوصَى بالفتح فصفة الوصية، وإذا قُرئ بكسر الصاد احتمل أن تكون صفة للوصية وأن تكون حالاً للموصي وقرأ الحسن: غير مضار وصيةٍ بالإِضافة. والباقون بالتنوين، ونصب وصية على المصدر أو على المفعول به. والإِضرار أن يُقرَّ بمالٍ لأجنبي، ردّا

(13)

للميراث، أو يبيع ماله أو شيئا منه محابيا فيه، أو يهب، أو يُعتق. أو يوصي لوارثه قصدًا للإِضرار بغيره. قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) بيّن بذكر الحدّ أن ذلك يؤدي بالإِنسان إلى العصيان. ونبّه بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) على وجوب مراعاة ما بيّنه تعالى في الكتاب من أحكام المواريث، وما بيّنه - صلى الله عليه وسلم - من نحو قوله: " لا وصية لوارث "، وقوله: "لك الثلث والثلث. . . ". قال ابن عباس: الضرار

في الوصية من الكبائر، ثم قرأ (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ). وقد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة، فإذا أوصي حاف في وصيته، فيُختم له بسوء عمله ". ووصف الفوز بالعظيم اعتبارًا بفوز الدنيا

(14)

الموصوف بقوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) والقليل والصغير في وصفها متقاربان. قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) كما وصف في مراعاة الحدود ثواب مراعيها وصف في تضييعها عقاب متعديها، وأطلق القول فيهما ليكون عامًّا في ذلك وفي غيره من الحدود التي بيّنها، وذكر في العذاب الهوان. كما ذكر في غيره الخزي لما عُرِف من عادة كثير من الناس أن تقل مبالاتهم بالشدائد ما لم يضامَّها، الهوان حتى قالوا: المَنيَّة ولا الدنيَّة، والنار ولا العار. فبيّن أنه يجُمع لهم الأمران. قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

فائدة الإِضافة في قوله: (مِنْ نِسَائِكُمْ) تنبيه على الحرائر. وقيل: تنبيه على المحصنات دون الأبكار. وقيل: على المزوجات أبكارًا كن أو ثيِّبات. قال ابن عباس في هذه الآية، وفي قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) إن الزانيين كانا يُؤذيان بالتعيير والتعزير، والمرأة كانت تُحبس في البيت إلى أن أنزل الله قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية. وقيل: المراد بالآيتين البكران. وقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا): "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثّيب بالثّيب جلد مائة

والرجم "، وهذا مما استدلّ به من ادّعى جواز نسخ القرآن بالسنة، ومن أنكر ذلك فله من ذلك أجوبة: أحدها: أن هذا كان حكمًا مقيدًا بوقت، لقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)، وتقديره: أمسكوهن إلى أن يتبين لكم حكمهن، فصار ذلك بالكتاب معلومًا، وإنما حظ السنة فيه بيان قدر الزمان، الذي وقَّته الكتاب مجملًا. والثاني: أن الأذى كان في الأبكار اللاتي لم يتزوجن. والحبس في التزوجات منهن قبل الدخول، بدلالة

قوله: (مِنْ نِسَائِكُمْ)، ثم نُسِخَ حكم الحبس والأذى في الأبكار بآية الجلد، وأما الرجم فقد أُخذ حكمه عن السنة. ولهذا قال عليّ عليه السلام حيث جلد محصنًا ورجمه، فسُئل عن ذلك؟ فقال: "أجلده بكتاب الله، وأرجمه بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فدلَّ أنه لم يفهم من سنة النبي نسخ الآية. والثالث: أن حُكم النسخ وقع بقرآن، قد رُفع تلاوته، وبقي حكمه. وهو ما رُوي عن عمر رضي الله عنه: كان مما يقرأ في القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم. فهذه أقوال عامة المفسرين، وأما ابن بحر فإنه قال: المراد بقوله: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)، وبقوله:

(وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) ما يتعاطى الرجال بعضهم من بعض. والنساء بعضهن مع بعض، وبقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ما يتعاطى الرجل مع المرأة، قال: ولا نسخ في ذلك، قال: ويدل على ذلك أن (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ) متضمنة للإِناث فقط، (وَاللَّذَانِ) يتضمن المذكرين، قال: ولا يصحُّ أن يقال: إن الذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر، لأن ذلك إنما يكون حيث تقدم لهما ذكر، نحو قوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) قال: وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "مباشرة الرجل الرجل زنى، ومباشرة المرأة المرأة زنى". وهذا الذي قاله وإن ساعده اللفظ فعدول عن سنن السلف.

(16)

قوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) قد ذُكر تفسيرها في الآية المتقدمة. وقال مجاهد: هما الرجلان الزانيان، يعني المتعاطيين اللواطة، يُعبَّر عنها بالفاحشة. وقد رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن "اللواطة الزنى الصغير "، وظاهر قوله: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) يقتضي أن التوبة تُسقط الحبس والأذى عن الزانيين، وقد قيل: الإِعراض عنهما هو ترك التثريب المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا زنت أمة أحدكم .. " الخبر إلى قوله: "فليبعها ولو بضفير، ولا يُثرِّب عليها".

(17)

قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) تعني أن قبول التوبة قد أخذ الله على نفسه تفضُّلًا لمن تاب من قريب إذا بدر منه سوء، وقوله: (بِجَهَالَةٍ) فيه أقوال: الأول: يأتيه سهوًا من غير قصد إلى الفاحشة. الثاني: عن جهل بكونه ذنبًا. الثالث: أن يعلمه لكن لا يعلم كونه كبيرة، ولا قدر عقوبته. الرابع: أن يعلمه ويعلم عقوبته، لكن يتبع شهوته،

ومرتكب الذنب وإن كان يعلم كونه ذنبا يقال له جاهل، ومن هذا الوجه قال مجاهد: الجهالة: العمد، وقول من قال: الجهالة: المعصية فعلى هذا، لأن كل معصية جهالة، وإن لم يكن كل جهالة معصية، وقوله: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي قبل الموت، بدلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب ".

قيل: يا رسول الله: وما وقوع الحجاب؟ قال: "موت النفس مشركة". وروي: "من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ". وسُمِّي مرةً قليلًا لقوله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) والقريب والقليل في نحو ذلك يتقاربان. وقال بعضهم: نبّه بقوله: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) على لطيفة، وهي أن الإِنسان إذا ارتكب ذنباً صدأ قلبه، فإن أقلع زال صدأه. وإن استمرَ رِين على قلبه، وإن لم ينزع طُبعَ عليه وأُقفل. ثم يتعذر عليه الرجوع، وعلى ذلك نبَّه بقوله في قصة المنافقين) (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) فإذا كان كذلك فحق لمن بدرت منه بادرة أن يتداركها قبل أن

(18)

تصير الشهوة مستولية عليه، فتأبى الطباع على الناقل. وقوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) أعتدنا. قيل: أصله: أعددنا، فأبدل من إحدى الدالين تاء. وقيل: هو أفعلنا من العتاد أي العدة. وهو ادخار الشيء قبل الحاجة إليه. والله تعالى غني عن الإِعداد. وإنما القصد أنه لا يعجزه عذابهم حيث شاء. والسيئات ههنا عبارة عن الشرك والكبائر. وحضور الموت: معاينة مَلَكِ الموت. بيّن تعالى أن التوبة تفوت إذا أُخِّرت إلى ذلك، ولذلك لم ينفع إيمان من آمن عند رؤية العذاب، حيث قال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)، وقال: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ) الآية، وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) الآية.

(19)

وجعل الناس قسمين: مقصرين في العمل غير تاركين للإِيمان. وهم الذين عناهم الله بقوله: (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) وتاركين للعمل والإِيمان وهم المعنيون بقوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ). قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) العضل: التضييق عليها بالمنع من التزويج، وعضلت الدجاجة بيضها، والمرأة بحملها، والبقعة بأهلها، وداء عضال منه، ومعنى قوله: (أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) ما روي أن الرجل إذا مات في الجاهلية يرث امرأتَه ورثتهُ: أخًا كان أو ابنًا من غيرها، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوّجها وأخذ مهرها،

وقوله: (كَرها)، وقرئ: (كُرها). قال الفرّاء: ما أكره عليه الإِنسان فكَره وما كان من قبيل نفسه فكُره. وقوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) قيل: هو نصب معطوف على قوله: (أَن تَرِثُواْ). وذكر أن في قراءة عبد الله (ولا أن تعضلوهن)،

وقيل: هو جزم على النهي. قال ابن عباس وقتادة: المنهي عن العضل الزوج إذا لم يحتج إلى المرأة، فيمسكها رغبة في مالها. وقيل: بل الوارث المانع لها من التزوُّج على سُنَّة الجاهلية. وقيل: بل الولي، وكل هؤلاء منهيون في الشرع عن العضل. فيصحُّ أن يكون خطاباً لجماعتهم. والفاحشة المذكورة ههنا. قال الحسن: هي الزنا، وللزوج أخذ الفدية إذا اطلع منها على ذلك،

وقال ابن عباس: هي نشوزها، وقد تقدَّم الكلام في الخُلع وجواز أخذ الفدية عن البضع. وقال الزبيري: الاستمناء من العضل، وكان للزوج منعها على ما أمر به تعالى في قوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ)، وذلك قبل نزول الحد. وقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي حسب ما يعرفه العقل

والشرع، وقيل: هو النصفة والنفقة والإِجمال في القول. وفي قوله: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا) الآية. أي ربّ شيء تكرهه، ويكون في ذلك خير، تنبيهًا على أمرين: أحدهما: أن لا يجب للإِنسان أن يتبع الهوى، بل يفعل ما يقتضيه العقل والشرع. والثاني: التنبيه على كراهية الطلاق المدلول عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ". ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -: "تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات ". وقال بعضهم: ذلك تنبيه أنه ربما كانت الكراهية

(20)

تعرُض لمصلحة، قال: وذلك حث على مفارقتها حيث عدم موافقتها، وإن كانت النفس تكره ذلك، وعلى هذا نبّه بقوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ). قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) البهتان: الكذب الذي يبهت سامعه لفظاعته. ويُستعمل في الفعل استعمال الصدق والكذب. ولذلك قال ابن عباس: بهتانا: ظلما كبيرًا. (وَإِثْمًا مُبِينًا): ذنباً ظاهرًا، بيّن أنه لا يجوز لكم

الرجوع فيما أعطيتموهن طلقتموهن أو أمسكتموهن، وخصَّ حال الاستبدال ليدخل فيه الحالة الأخرى، وذلك توكيد لقوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وقد استثنى من ذلك المطلقات قبل الدخول بهن، لقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) واستثنى منه أيضًا حال الافتداء المذكور في قوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية منسوخة بقوله: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا)، والصحيح أنها ليست منسوخة، وقد تقدم ذلك في سورة البقرة،

(21)

وروي أن رجلًا كان عليه لامرأته من صداقها ألف دينار، فوضعتها له. فطلقها وتزوج غيرها، فارتفعا إلى عبد الملك فقال: رد عليها. فقال: أليس الله يقول: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ). فقال: اقرأ الآية الأخرى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) الآية. قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) يقال: أفضى إلى فلان أي وصل إلى فضاء منه أي سعة غير محظورة. فمن الفقهاء من جعل ذلك عبارة عن الخلوة حصل معها المسيس أو بم يحصل، ومنهم من جَعَلَهُ

كناية عن المسيس، وإليه ذهب ابن عباس ومجاهد والسدي. ونبه أن المهر بإزاء ذلك المعنى، وقد نلتموه منهن فلا حق لكم إذًا عليهن، والميثاق الغليظ: قيل هو ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ". وقال مجاهد: الميثاق كلمة النكاح. وقال الحسن: هو قول: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)

(22)

وقيل: قول الذين يزفونها، وكل ذلك يصح إرادته بالميثاق. قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) اختلفوا في النكاح ههنا، فحمله أصحاب أبي حنيفة على الجماع. وقال: هو حقيقة فيه، فَحَرَّموا كل امرأة باضعها الأب حلالا أو حراما على الابن. وحمله الشافعي على العقد، وقال: هو حقيقة فيه. ولم يحرم من النساء على الابن إلا ما تزوج بها أبوه دون

من زنى بها، والصحيح أنه للعقد، لأن أسماء الجماع والفرج والغائط في لسانهم كنايات، وذلك أنهم لما عنوا بإخفاء هذه الأشياء أخفوا أيضاً أسماءها، فعدلوا عن التصريح إلى الكنايات. حتى إنهم متى عُرف فيما بينهم كناية في شيء من ذلك عدلوا إلى كناية أخرى، ومن تتبع كلامهم عرف ما قلته، فكيف يستعيرون لفظ الجماع لما هو أحسن عندهم منه، ثم لا خلاف أن العقدية مراد، ولا خلاف أيضا أن الوطء بملك اليمين يجري مجرى العقد في العقد بها، وقوله: (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) قيل: هو في موضع المفعول، فوضع ما الذي هو للجنس موضع من الذي هو

للنوع، وقيل: معناه لا تنكحوا كنكاح آبائكم، فما في موضع المصدر، وقوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ). قال: بعضهم: معناه بعدما قد سلف كقولك: لا تبع من متاعي إلا ما قد بعت. وقول الشاعر: هجاؤك إلا أنّ ما كان قد مضى. . . عليَّ كأثوابِ الحَرَامِ المُهيْمِ وقيل: هو بمعنى لكن على الاستئناف، كأنه قيل: لكن ما قد

سلف أنه كان فاحشة ومقتا. وقال بعضهم: تقديره ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم، إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا، إلا مَا قَد سَلَفَ أي ما قد سلف ليس بفاحشة، وهذا لا يصح من أجل اللفظ، فإن ما يتصل بما بعد (أن) لا يقدم عليه، لا تقول: عمرًا إن زيدًا يضرب، وتعنى أن زيدا يضرب عمرًا. وتحقيق هذا الاستثناء أن قوله: (وَلَا تنكحُوا) دل على أنه محرم، وتعاطي المحرم يقتضي العقوبة، فكأنه قيل: تستحقون العقوبة بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، فإن، ذلك متجافى عن عقوبته عنكم. ولا يجوز أن يكون معناه متجافى عن الإِقرار عليه، فإنه مجمع أن لا يُقَارّ عليه أحد إلا حكاية عمن لا يعتد به.

وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً)، قيل: معناه نكاحهن بعد النهي فاحشة. وكان زائدة، وقيل: عنى أنه كان فاحشة. من قبل تنبيهًا أن ذلك لم يكن من الأشياء التي ورد بها الشرع. ثم نسخ، كذا كثير من الأحكام، بل كان ذلك من المستشنع الممقوت، ولذلك كان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه المقتي. وقوله: (إِنَّهُ) أي إن ذلك النكاح، ودل عليه بذكر الفعل،

(23)

كما دل على السفه بلفظ السفيه في قول الشاعر: إذا نهي السفيه جرى إليه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) قال ابن عباس: حرم الله أربع عشرة امرأة: سبعًا من جهة النسب، وسبعًا من جهة السبب،

فالمحرمات من جهة النسب: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ومن جهة النسبب: أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة. وأمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم، وحلائل ، أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تجمعوا بين الأختين، وقد قال قبل: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ). فقوله: (أُمَّهَاتُكُمْ) تناولهن والجدات وإن علون، وكذا البنات: تناولهن وبنات الأولاد وإن سفلن، وكذلك الأخوات يتناول التي للأب والتي للأم والتي لهما، وكذلك بنات الأخ وبنات الأخت: يتناول بناتهما على ذلك الحد بناتهما وإن سفلن، وخص تحريم العمات والخالات دون أولادهن، وجاز أن تكون بنات الأخ وبنات الأخت مفردين، لأن الأخ والأخت يتناول كل واحد منهما، وكان لفظ الواحد ههنا أخص لإِضافة الجمع إليهما،

وإنما قال: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) تنبيهاً على تأكيد تحريم الرضاع أنها تجري مجرى النسب، ولأن في ذكر (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي) تنبيهًا أن ليس كل رضاع يحرم، إشارة إلى ما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحرم الإِملاجة والإِملاجتان "

وقوله: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) لا خلاف أنه صفة لربائبكم، وأنه لا يحرم التزوج بهن إلا بالدخول بأمهاتهن. واختلف هل يرجع إلى قوله: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) مع كونه شرطاً في الربائب؟، فروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه يرجع إليهما، وأن من طلق امرأته قبل الدخول بها فله أن يتزوج بأمها، وقال عمر وابنه وابن مسعود: ليس يرجع إلا إلى الربائب، وذكروا أن أم المرأة تحرم بنفس العقد، وأكد ذلك

بما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل بها فلا يحل له نكاح أمها". وحكي عن زيد أنه فصل بين أن يطلقها قبل الدخول أو تموت عنه. ولم يحرم بالطلاق وحرم بالموت. وأجرى الموت مجرى الدخول، كما جعل الفقهاء في استقرار المهر،

وذهب عامة الفقهاء إلى أن لا فرق بين تحريم ربيبتك في حجرك كانت أو لم تكن إلا ما حكى إسماعيل بن إسحاق: أن امرأتي توفيت فلقيت عليّا عليه السلام فقال: ألها بنت؟ فقلت: نعم، وهي بالطائف، فقال: أكانت في حجرك؟ فقلت: لا. فقال: انكحها، فقلت: فأين قوله: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) فقال: إنما ذلك إذا كان في حجرك، وما قاله

فهو ظاهر الآية. واختلف في قوله: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) هل يقتضي الزنا؟ فمنهم من قال: يتناوله وعليه تأول (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) ومن قال: لا يتناوله، وقد تقدم ذلك. وقوله: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) إنما خص ذلك ليخرج منه المتبنى، فذلك في معنى قوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) الآية. والحلائل ههنا كالأزواج، ثّمَّ. وفي قوله: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) تنبيه أنه لا يصح العقد عليهما معًا في الإِسلام. ومتى فعل فعقدهما باطل، ومتى عقد على إحداهما فعقد الثانية باطل،

وعند أبي حنيفة: لا يجوز التزويج بإحدى الأختين إذا كانت الأخرى منه في عدة، ولا يجوز وطؤهما بملك اليمين عند عامة الفقهاء، ومتى وطئت إحداهما لا يجوز وطء الأخرى إلا بإخراج الأولى من ملكه. وقال أمير المؤمنين: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أي عموم

(24)

قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يقتضي تحليلهما، وعموم قوله: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) يقتضي تحريمهما. قال: وأما أنا فأحرم ذلك، وروي عن ابن عباس أنه أجاز ذلك. وقوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَف) يراد به ما يراد بقوله (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ). قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

أصل الإِحصان والحُصن من الحِصن، ومنه درع حصينه لكونه حصنًا للبدن، وكذلك فرس حصان، وبهذا النظم قال الشاعر: . . . أن الحصون الخيل لا مدر القرى والحصان في الجملة المحصنة أي الممنوعة، إما بعفتها أو بزوجها أو بمانع من شرفها أو حريتها، ولما كان الحِصْن في

أكثر المواضع يصح أن يكون من جهة الإِنسان نفسه، وأن يكون من جهة غيره صح أن يقال محصَن ومحصِن، وهذا الموضع لما كان المقصود به التزويج قُرئ (المحصَنات) لا غير، إذ كان سبب إحصانها الزوج، والسفاح الزنا، وسمي بذلك لكون ذلك الماء مضيعًا، إذ وضع في غير الموضع الذي يجب أن يوضع فيه. وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) منهم من أجرى على العموم. وقال: حدوث الملك في الأمة يفرِّق بين الأمة وزوجها. ورُوِي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، ورُوِي في ذلك أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بيع الأمة طلاقها". ومنهم من خص ذلك في المشركات. وجعل قوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) استثناء منها. وقال: كل امرأة سُبِيت فقد حلَّت لسابيها، واستدلَّ في ذلك بما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لها أزواج من المشركين، فتحرّجوا من

غشيانهن، فأنزل الله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) وظاهر ذلك يقتضي أن الزوجين إذا سبيا معاً أو مفترقين أن النكاح يبطل، كما قال مالك. بخلاف ما قال أبو حنيفة حيث قال: إذا سُبِيَا معًا لا يبطل النكاح. وظاهر الآية يقتضي أنه يصح وَطْؤُها على كلِّ حال. وإنما علم وجوب استبرائها بالسنة. وقال طاوس:

وابن المسيب: القصد بالآية نهي عن الزنا. والمحصنات محرّمة على كل واحد منكم إلا امرأته المعقود عليها بالنكاح أو ملك اليمين، فهذا معنى (إلا ما ملكت أيمانكم). ويكون هذا أمرًا إنما مدح به في قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ). وقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) قيل: هو مصدر مؤكد من غير لفظ الأول. وقيل: هو إغراء وحثٌّ والعامل فيه فعل مضمر. وقال الكوفيون: هو إغراء

والعامل فيه عليكم، كأنه قيل: عليكم كتاب الله، وعلى ذلك حملوا قوله: يا أيها الماتح دلوي دونكا. . . إني رأيت الناس يحمدونكا وقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) قال السدي: ما وراء المذكورات،

وقال عطاء: ما وراء ذات المحارم، قيل: والصحيح أن المراد ما وراء كل ما حرّم الله كتاباً وسنة. واختُلف هل في قوله: (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) نسخ؟ فقال بعضهم: نسخ منه بعضه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى". وقال بعضهم: لا نسخ

فيه، وإنما ذلك تخصيص للآية، وقيل: ولأنه لما حرم الجمع بين الأختين للنسب الذي بينهما نبّه على تحريم ذلك، لأن إحداهما لو كانت ذكرًا لم تحل له الأخرى من قبل النسب. ولا ينتقض ذلك بأن يجمع الرجل بين المرأة وبين ابنة زوجها الأول، وإن كانت إحداهما لو كانت ذكرًا لم تحل له الأخرى، لأن ذلك التحريم ليس من جهة النسب. وقوله: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) يقتضي أن لابد من المهر سُمِّي أو لم يسم في العقد. واستدلّ أصحاب أبي حنيفة في أن لا يصح أن يجعل مهرًا إلا ما وقع عليه اسم المال، وعلى ذلك

قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً). وقوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ) كناية عن الدخول، وأصله الانتفاع به. وقوله: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي مهورهن. ورُوي عن ابن عباس أنه حمل ذلك على متعة النساء. ورُوي عنه أنه قال: نزل "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى"،

وقال قتادة: كذلك هو في قراءة أبيّ. وحمل ذلك عامة الصحابة على النكاح. وقد ورد في تحريم المتعة أخبار كثيرة، ذكرها الفقهاء في كتبهم. ونبّه بقوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ)

(25)

أن لا جناح في وضعه بعد التسمية وإعطائه إياها والزيادة فيه. قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) الطول: سعة في العطية، وهو أخصُّ من النيل. فإن النيل يقال في القليل والكثير. والطَول لا يقال إلا فيما يزيد على غيره كالطول في أنه يقال اعتبارًا بغيره. وقال ابن عباس وعامة الصحابة: هو

الغنى، وذلك أن يجد من المال ما يجعله صداق حرة. وإليه ذهب الثوري، والشافعي. وقوّى ذلك بما رواه جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من وجد ما يتزوج به حرّة فلا ينكح أمة". ومال أبو حنيفة: هو أن يكون تحته حرة. وقال بعض الصحابة: هو أن يجد في قلبه غنى عنها بأن لا يهواها. وحُكي عن مالك:

لا بأس أن يتزوج الحُرَّةَ على الأمة، والأمة على الحُرَّةِ. وأصل العنت: الشِّدَّة نحو العَنَد، لكن العِناتَ أبلغُ من العِنَادِ. لأنه هو المؤدي إلى الهلاك. وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ومنه قيل: أَكَمَةُ عَنُوتٌ. وقد فسر بالزنا تفسير عموم بخصوص

إذ هو المقصود منه، وهو المؤدي إلى هلاك الآخرة. ولما بيّن الله تعالى المحرَّمات، وأحل ما وراء ذلك بشروط ذكرها عقب ذلك بمن لا يستطيع مهر الحرائر ونفقتهن. فأباح لهم تزوج الأمة، إذ هي أخف مهرًا ونفقة. وشرط في جواز التزوُّج بها شرطين: عدم الطَوْل، وخوف العنت. وفصل بين بعض هذا الحكم وبعضه بفصلين: أحدهما: قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). والثاني: حكم الأمة كيف ينبغي أن تكون صفتها حتى يجوز التزوج بها؟ ومثل هذا الاعتراض يسمى في البلاغة الالتفات. وقوله: (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فمنهم من جعل الإِيمان شرطًا. وقال: يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة، وإن وجد طول الذمية الحرة. وقوي بقوله: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ). ومنهم من قال: ذكر المؤمنات على طريق الفضل،

ولا يجوز التزوج بالأمة مع طول الذمية، قال: لأن العلة التي لأجلها منع من التزوج بالأمة تعرض الولد للاسترقاق، وذلك معدوم في الكتابيات الحرائر، فيجب أن يكون التزوج بها أولى من الأمة. وقوله: (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال الأصم: أجمعوا أنه أريد به التزوج، وشرط الإِيمان في الأمة. وقال الحسن ومجاهد والثوري وأبو حنيفة: هو على الاستحباب، فأجازوا التزوج بالأمة الكتابية. وقال مالك والشافعي والأوزاعي: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية المؤمنة. لأن ما أبيح بشرط فلا يجوز ذلك على غير ذلك الشرط، سيما إذا كان الشرط بيانا لحكم. وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ) تنبيه على أن الاعتبار بالمواصلات في الأحكام الدنيوية بظاهر الإِيمان لا بحقائقه، فإن الله يتولى السرائر،

وقوله: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) تنبيه على أمور منها: معنى ما قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) ومنها ما دلَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مولى القوم ". ومنها أنهم كانوا يعيرّون بالهجنة، فأراد أن يزيل هذا الاعتقاد عنهم،

وقوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)، أي أربابهن، وذلك يقتضي أن لا يصح تزوج الأمة إلا بإذن أهلها، ويقوي ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تزوج العبد بغير إذن، سيده فهو عاهر". وقال عطاء: إذنه على الاستحباب لا على الوجوب. وقوله تعالى: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) قيل: تقديره بإذن أهلهن، لكن حذف، كقوله (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)

وقال بعضهم: أجورهن: نفقاتهن والأول هو الوجه، لأن النفقة تتعلّق بالتمكين لا بالعقد. وقال مالك: تستحق الأمة المهر. واستدل بهذه الآية على أن الرقيق يملك. وقوله: (بِالْمَعْرُوفِ) هو أي على ما عرف من حكم الشرع. وقيل: على سبيل الهبة، فإن المعروف يعبَّر به عن العطية. وذلك كقوله (نِحْلَةً). وقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) أمر بأن يكون وطؤها لازمًا، ولا على سبيل المخادنة، واشتر اط الأمرين أن قومًا كانوا يبيحون اتخاذ الجارية خدنًا،

وقرأ الحسن: "مُحْصِنَاتٍ"، وقال: معناها عفائف. ولم يُجوِّز نكاح الأمة الزانية التي أُقيم عليها الحد. وقوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) أي زوّجن. وقُرئ: "أَحصَن"، أي تزوَّجن، وقيل: أسلمن. والأول أصح، وعلى التفسير الثاني

يقتضي أن الأمة إذا زنت - وإن لم تكن مزوّجة - تحدُّ بحكم الآية، وأن الكتابية لا تحد وإن كانت مزوّجة. وقوله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) قد تقدّم أنه يتعلق بما قبله. وقوله: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) إبانة أن الاختيار ترك نكاح الأمة رأسًا. لئلا يكون ولده رقيقا لغيره. وبين بقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وأحكام القرآن لابن العربي (1 4 5 4)، والمحرر الوجيؤ (4 86). والجامع لأحكام القرآن (5 143). أي أسلمن وهو قول ابن مسعود والشعبي والزهري والسدي والجمهور كما ذكر ابن عطية. انظر: جامع البيان (8 99 ا - ا 20)، وأحكام القرآن للجصاص (2 68 1)، والنكت والعيون (1 473)، وأحكام القرآن لابن العربي (1 4 0 4)، والمحرر الوجيؤ (4 86)، والجامع لأحكام القرآن (5 143). انظر: أحكام القرآن للجصاص (2 168، 69 1)، وأحكام القرآن لابن العربي (1 405، 505)، والمحرر الوجيؤ (4 86)، والجامع لأحكام القرآن (5 43 1، 44 1)، وتفسير غر ائب القرآن (2 397). انظر: اْقوال العلماء في تفسير العنت في: معاني القرآن للزجاج (2 42). وأحكام القرآن لابن العربي (1 407). انظر: جامع البيان (8 207، 208)، ومعاني القرآن للزجاج (2 42). وأحكام القرآن للجصاص (2 175)، وأحكام القرآن لابن العربي (1 7 5 4)، ومعالم التنزيل (2 98 1)، والمحرر الوجيؤ (4 88!. والجامع لأحكام القرآن (5 147). 1191

(26)

أن هذا وإن كان مكروها فقد غفر لكم، ورحمكم في إباحته. فالأول هو تبين العادة، والثاني وهو قوله: (تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) حث على مكرمة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم وخضراء الدمن ". وكثيرًا ما يجمع تعالى بين الحكم المراد وبين الفضل ليكون قد أدّب عباده بالأمر. قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) السنن: جمع السنة أي الطريقة المستقيمة. وأصلها من سن الماء، وعنه استُعير من سن السيف لما كان يشبه عند صقله بالماء. واستُعير منه سن الفرس، كما يقال: صقل الفرس. واللام في قوله: (لِيُبَيِّنَ)

فيه قولان؟ قال الفرَّاء: أردت أن يكون كذا وأردت ليكون، (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ). وأمرت أن أعدل. قال: ويُعَدَّى هذان الفعلان باللام تارة. لكونهما طالبين للفعل المستقبل. وقال بعضهم: بل الفعل محذوف، واللام للعلة على تقدير: يريد الله ما يريد لأن يبين. وقوله: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) منهم من خص وقال: أراد أن يحرم علينا ما حرم عليهن بالنسب والرضاع والمصاهرة. وقيل: عنى ول ما ذكره في قوله: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)

(27)

ومنهم من أخذه أعم من ذلك، فقال: إن الله تعالى شرع لكل أمة عبادة ومكارم، ولم يختلف حكم أصولها، وإن اختلفت فروعها، وعلى ذلك قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ). فبين أنه يريد أن تكون هذه الأمة جارية مجرى هؤلاء في ذلك. وقيل: عنى أنه يبين لكم طريق من قبلكم إلى الجنة. وهو المسئول في قوله تعالى: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). وبين أنه أراد به ذلك لعلمه وحكمته. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) الميل وإن كان عامًا في الميل إلى الخير والشر. فالمقصود به ههنا الجور عن قصد السبيل. ولما كان جميع عبادة الله بالقول المجمل ضربين،

صقل العقل، وقمع الشهوة، وكلُّ أمر ونهي فذريعة إليهما. صار اتباع الشهوة سبب كل مذمة، فلذلك عبر بمتبع الشهوات عن الفاسق والكافر، وعلى هذا قوله: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ). فإن قيل: فليس اتباع الشهوات مذمومًا في كل حال. بل منها ما هو محمود؟ قيل: قد قال بعض المتكلمين وبعض المفسرين: عنى بذلك بعض الشهوات. وقال بعضهم: عنى من يتبع الشهوات كلها. والصحيح أن اتباع الشهوة في

كل حال مذموم، لأن ذلك هو الائتمار لها من حيث ما دعت. وما سوّغ من تعاطي ذلك، فليس جواز تعاطيه من حيث دعت الشهوة إليه، بل من حيث سوغ العقل أو الشرع، فذلك هو اتباع لهما، ويؤكد ذلك قوله: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وقوله: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) وقيل: عبد الشهوة أذلُّ من عبد الرق. إن قيل: كيف أدخل اللام في قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ولم يدخله في قوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)؟ وكيف أعاد ذكر إرادته التوبة؟ ولمَ قال: (وَاللَّهُ يُرِيدُ) فقدم ذكر المخبر عنه، ثم قال: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) فأخر المخبر عنه؟ قيل: أما إدخال اللام في الأول فلأنه عنى أنه يريد ما يريد لأجل التوبة عليهم، وأراد بقوله (أن يتوب) أنه كما أراد ما هو سبب التوبة عليهم، فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادة سبب الفعل دون الفعل نفسه، ففي هذا ظهور فائدة اللام وحسن

إعادته، واقتضى إعادته أيضا ذكر قوله: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ) ليبين أن إرادة الله لكم مضادة لما يريدونه. وأما تأخير المخبر عنه في قوله: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ) فيجوز أنه جعل الواو للحال لا العطف، تنبيهاً أنه يريد التوبة عليكم في حال ما يريدون أن تميلوا، فخالف بين الإِخبارين ليبين أن الثاني ليس على العطف. وتخصيص الميل العظيم هو أن الإِنسان قد يترك تحري الخيرات من الإِيمان والأعمال الصالحة، إما لعارض شغل وإما لكسل. وإما لضلالة، وهو أن يسبق إلى اعتقاد باطل فينشأ عليه. وإما لفسق وهو أن يكون مع الاعتقاد يستلذ تعاطي الشر. ومن تركه للشغل فهو أسهل معالجة ممن يتركه لكسل. ومن تركه للكسل

(28)

فهو أسهل ممن تركه للضلال، وكذا ما بعده، وكأنه قال: إنهم أرادوا أن يجوروا جورًا عظيمًا، ليكونوا أبعد من الرشاد. والإِشارة بالمعنى إلى نحو قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)، وعلى ذلك قوله: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) فإن قيل: فهلا خصَّ الميل ليزيل الإِشكال، إذ الميل تارة إلى الحق وتارة إلى الباطل؟ قيل: لما كانت العدالة وسطا وكان أطرافها كلها جوزا. ولذلك سميت وسطا، وسواء، وعدلاً، وصراطًا مستقيمًا. نبّه بإطلاق لفظ الميل: أن الكفار يريدون منكم الميل عن العدالة على أي وجه كان، إفراطا كان أو تفريطًا. وكل ذلك ضلال، ولهذا وصَّى الله تعالى بقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ). قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ) في موضع الحال، كأنه قال: والله يريد أن يتوب عليكم، مريدًا أن يخفف عنكم. وفي الآية أقوال: الأول: قول من خصصها وحملها على ما تقدم. وقال: عنى أنه أباح نكاح الأمة تخفيفا عنكم. فالإِنسان ضعيف في تَحَيُّرهِ عن "إمساك نفسه عن مشتهاه. الثاني: أنه خفف عنكم تكلف النظر، وأزال الحيرة فيما بين لكم مما يجوز من النكاح. الثالث: أنه قصد به ما قال - صلى الله عليه وسلم -: "جئتكم بالحنيفية السمحة". وما ذكره في قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ). والرابع: أنه تبين لكم مقصودكم وما دعيتم

إليه من الثواب العظيم لتعرفوه، فيخف عليكم الصبر في تحريه. فالإِنسان لا يمكنه الصبر فيما لا يعرف ثمرة الصبر فيه، ولهذا قال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا). الخامس: يريد الله أن يخفف عنكم بما يحُمّلكم من التعب. فإن كل تعب يفضي إلى راحة عظيمة، فذلك في الحقيقة راحة. ولهذا قيل للرجل يتحمل تعبًا عظيمًا في عبادة: ألا تريح نفسك؟ فقال: راحتها أريد. السادس: إنه لم يعن بالتخفيف ما يستخفه الطبع وتميل إليه النفس، وإنما عنى ما يخف به تحمل ما يبلغنا إلى ثوابه، وعلى نحو هذه الآية قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). ووصف الإِنسان بأنه خلق ضعيفًا إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو:

(29)

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) أو باعتباره بنفسه دون ما يقويه من فيض الله ومعونته، أو اعتبارًا بكثرة حاجاته، وافتقار بعضهم إلى بعض، أو اعتبارًا بمبدئه ومنتهاه، كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) فأما إذا اعتُبر بعقله، وما أعطاه الله من القوة التي يتمكّن بها من خلافة الله في أرضه، ويتبلّغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى - فهو أقوى ما في هذا العالم. ولهذا قال تعالى: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) روي أنه لما نزلت هذه الآية امتنع بعضهم من أن يأكل عند غيره. حتى نزل قوله:

(وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلى آخر الآية. ولم يكن نسخًا لكن تبيينا. وقوله: (بِالْبَاطِلِ) إشارة إلى الوجوه التي حظر تناول المال منها ووضعه فيها، واستثنى التجارة تنبيهًا على إباحة الكسب إذا كان من وجهه. فمن نظر نظرًا فقهيًّا قال: ظاهرها يقتضي أن لا يجوز تناول الغير منها، كالصلاة والزكاة والميراث وغير ذلك. وقال بعضهمْ: لم يعن بالتجارة المبايعة فقط. بل عنى كل معاملة مباحة من قرض وفرض، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل مال امرى مسلم إلا بطيب نفس منه "،

ومنهم من عنى بذلك المنع من وضع المال وإنفاقه في غير الوجه المباح. وقال: عنى بالتجارة الوجهة المباحة التي يحلُّ صرف المال إليها. وأما من نظر نظرًا أدق من ذلك، فإنه جعل أكل المال بالباطل تناوله من حيث لا يسوغه العقل، ولا يجوّزه الشرع، من استنزال الناس عما في أيديهم بالخدع، ومساعدتهم على الباطل طمعًا في نفع. وجعل من ذلك أيضاً وضعه حيث لا يجوز، وإنفاقه رياء كما قال تعالى: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ)، وجعل هذه التجارة هي التجارة المذكورة بقوله تعالى: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الآية. وفي قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) الآية.

وشرط فيها التراضي، تنبيهًا أنه يحمد ذلك متى أنفق الإِنسان في سبيل الله عن طيب نفس على الوجه الذي ينبغي وبمقدار ما ينبغي، حسب ما بيّنه الله تعالى، ودل على رضاه في صرفه إليه. وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) نظر إليه نظرات مختلفة. ففسر بحسبها، الأول: لا يقتل بعضكم بعضًا. قال: والنهي لا يصح إلا على هذا. فإن الإِنسان مضطر إلى أن لا يقتل نفسه ما لم تعرض له شبهة كشبهة أهل الهند في قتلهم أنفسهم. قال: واستعار لفظ الخطاب في قوله (أَنْفُسَكُمْ) تنبيهًا أنه يجب أن تكون نفس كل واحد منكم عند صاحبه كنفسه، قال: وعلى

ذلك نبّه بقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ). قال: وعلى هذا قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ). الثاني: من حمل الخطاب على ذلك لكن خصّص، وقال: لا يأكل بعضكم مال بعض، الذي به قوامه، فيكون فيه قتله. الثالث: لا يقتل بعضكم بعضا فيقتص منه فيكون كمن قتل نفسه. الرابع: لا تقتلوا أنفسكم بضجر وغضب. الخامس: لا تركبوا ما يؤدي بكم إلى القتل. فتكونوا قد قتلتم أنفسكم. وهذا كالرابع إلا أن مأخذه أعم منه. السادس: قول من نظر نظرًا أشرف فقال: لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى هلاك الأبد، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم. وذلك بتصريف النفس في غير ما خُلِقَتْ له، وبيَّن للناس من

(30)

العلم والعمل الصالح المدلول عليه بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ولذلك سمى من صرف نفسه في غير ذلك خاسرًا. حيث قال: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية. قال: وقتل النفس في الحقيقة ترفيهها في الدنيا. وباعتبار الدنيا والآخرة أُمِر الإِنسان تارة بقتل نفسه أي قمعها وتذليلها، ونهي تارة عن قتلها، ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) ويجري مجراها في احتمال النظرين قوله: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) العدوان تجاوز العدالة بإفراط، وذلك أن العدل هو الوسط الذي تجاوزه الإِفراط والقصور عنه جميعا، فمن حاد عنه قيل: جار، ومن بالغ في

الجور قيل: طغى، ومن تخطاه بإفراط قيل: تعدى، وقيل لجميع ذلك: الظلم، فالظلم أعم الأسماء. إن قيل: كيف جمع بين الظلم والعدوان، وقدم العدوان مع كونه أخصَّ من الظلم، وحكم العام والخاص إذا اجتمعا أن يقدم العام على الخاص. نحو قوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)؟ قيل: في ذلك جوابان: الأول: أن يكون العدوان إشارة إلى الظلم الذي يتجاوزه الإِنسان إلى غيره، وعنى بالظلم ظلم النفس المعني في قوله: (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وهو الإِثم المذكور في قوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فبيّن أن من جمع بين الأمرين فقد ظلم نفسه، وظلم غيره، فهو مستوجب للنار، على هذا يكون العني بالظلم غير المعني بالعدوان. الثاني: أنه قدم العدوان الذي هو أخص من الظلم تنبيهًا أن من ارتكب صغيرة ولم يقمع نفسه عنها جرَّته إلى ما هو أعظم منها، فنبه أن حق

(31)

الإِنسان أن يحفظ نفسه عن الصغيرة خشية أن يقع فيما هو أعظم منها، ومعنى الآية أن من يفعل ما نهُي عنه من قتل النفس وأكل المال بالباطل وسائر ما تقدم النهي عنه فسوف يجعله صلا كما قال: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ). ونبّه بقوله (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أنه لا يتعذر عليه عقابهم. قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) من المفسرين - وهو أكثرهم - من حمل السيئات على الصغائر. وقال: معنى الآية: إن تجتنبوا كبائر الذنوب نُكفّر عنكم صغائرها. ثم اختلفوا على أي وجه اعتبار الصغيرة والكبيرة. وذاك أن الصغير والكبير من الأسماء المتضايفة التي لا يعرف أحدهما إلا باعتبار الآخر،

وقال بعضهم: في الذنوب كبيرة لا أكبر منها كالشرك، وصغيرة لا أصغر منها كحديث النفس أو همّه بسيئة ونحو ذلك. وبينهما وسائط كل واحد بالإِضافة إلى ما فوقه صغير، وبالإِضافة إلى ما دونه كبير، وقال: ومعنى الآية أن من عنَّ له أمران فيهما مأثم، واضطر إلى ارتكاب أحدهما فارتكب أصغرهما وترك أكبرهما: كمن أكره على أنْ يقتل مسلمًا، أو يشرب قدح خمر فارتكب أصغرهما كُفِّر عنه ما ارتكبه. وقال بعضهم: الذنوب كلها ضربان: ضرب: كبيرة كالشرك، وقتل النفس بغير حق، والزنا. وضرب: صغيرة، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال: الصغيرة غير معلومة، وهي كل ما عُلِّق به وعيد في

الآخرة، أو جُعِل له عقوبة في الدنيا، وبعضها غير معلوم. قالوا: والصغائر كلها يجب أن تكون غير معلومة، وإلا كان إغراءً بالمعصية، وذلك أن الله تعالى وعد أن يغفر بتجنُّب الكبائرِ الصغائرَ، فلو بيّنا جميعًا لكان المكلَّف لا يبالي بارتكاب الصغائر مع تجنب الكبائر، فكان يؤدي ذلك إلى مفسدة، ومنهم من قال: يجب أن يكونا معلومين، وإلا لم يصح أن تكون الكبيرة معلومة من حيث ما هي كبيرة لما تقدم أن ذلك من الأسماء المتضايفة، التي لا يُعرف أحدهما إلا بالآخر، قال: فالكبائر هي

محارم الله التي علم كونها محجورة، والصغائر ما هو متشكك فيه المعني بقوله: "دع مما يريبك إلى ما لا يريبك ". وعليه) دل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات. وسأضرب لكم مثلًا: إن الله حمى حمىً، وإن حمى الله محارمه. ومن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه ". فمرتكب الكبائر

جار مجرىً داخل الحمى، ومرتكب الصغائر جار مجرىً حوله. والإِنسان منهي عن الدنو منه، ومن لا يعرف ذلك فهو مُعَرَّض الوقوع فيه، ثم كما قد بين تعالى في كتابه أن يغتفر الصغائر بشرط اجتناب الكبائر، فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن الصغيرة إنما تكون صغيرة ما لم يكن عليها إصرار. فقال: "لا صغيرة مع إصرار". وقال: "إن المحرمات تجتمع على الرجل فتهلكه". وإذا كانت الصغيرة منهيّا عنها محذرًا منها فلا ضير بتعريفها. بل يجب تعريفها، فالإِنسان بتجنُّب الكبيرة يصير مطيعا غير فاسق. وبتجنُّب الصغيرة وهي المتشكك فيها يصير ورعًا، ولذلك قيل لبعض الصحابة: ما أشد الورع؟ فقال: ما أيسر الورع، إذا شككت في شيء فدعه،

وقال بعض الصوفية: اعتبار الصغيرة والكبيرة بمرتكب الذنب. فقد يكون الذنب من زيد صغيرًا ومن عمرو كبيرًا، وذلك بحسب مراتبهم في المعارف والأحوال، فالأولياء الذين بلغوا المنازل قد يستعظم منهم ما لا يستعظم ممن لم يترشح لمنزلتهم، وذلك معروف في السياسة الدنيوية، قال: ولهذا عاتب الله تعالى نبيه في كثير من خطراته التي قد تجاوز بها عن غيره. وقال بعض المفسرين: معنى الآية: إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيتم عنها في الآيات المتقدمة كفَّرنا عنكم ما قد أسأتم فيه من

(32)

قبل، والمدخل الكريم: ما وعد به من الثواب العظيم، وأشار به إلى جميع منازله على اختلاف مراتبها، ونبه أن كل مدخل لا يخرج عن كونه كريمًا أي مكرمًا. قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) التمني: تشهي الإِنسان أن يُمنى له شيء، أي يُقدر، وذلك مذموم. فإن تمنيّه إن كان لشيء قَدَرُهُ أن لا يُبلَغ إلا بالطلب فيجب أن يطلبه لا أن يتشهّاه، وإن كان لشيء يأتيه بغير طلب فتشهيه محال، وإن كان الشيء لم يُقدَّر ففي تشهيه معارضة حكمة

الله فيما قدر، ولذلك قيل: من تمنى فقد أساء الظن بالله. ولكون ذلك غير مغن، قال الشاعر: . . . إنَّ لَيْتًا وإنَّ لواً عناء وقال: . . . وما يغني عن الحدثان ليتُ وهو مع ذلك ذريعة إلى التحاسد والبخل والظلم. وقد رُوِيَ في الآية أن أم سلمة قالت: ليتنا كنا رجالاً فنجاهد،

فأنزل الله تعالى ذلك، وقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ) قيل: إنها قالت: ليتنا لم يجعل ثوابنا في الآخرة على نصف ثواب الرجل. كما جعل نصيبنا من الميراث، فأنزل الله تعالى تنبيهًا على أن لا اعتبار في مجازاة الأعمال بالذكورية والأنوثية. وقيل: هو تبيين لفضل الرجال كقوله: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ). وقيل: هو تبيين أن الحسد لا يُغني، وأن الله لا يغير لحسد حاسد. وقيل: هو حث على طلب منزلة الحسود بالعمل الصالح دون الحسد والتمني، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الإِيمان بالتمني ولا بالتحلي " وقال محمد بن بحر: معناه ليس كل ما للميت واجبًا للورثة. بل له نصيب يوصي به. قال: وذلك نحو ما ذكر الله تعالى في قوله:

(33)

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). وبين بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) أنه أعلم بما يستحق كل إنسان، كقوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) المولى من الولاء، وهو تتابع الشيء من غير حائل. وجعل المولى لمن تولى حفظ الشيء، وتُعورف في المعتِق، والمعتَق. وابن العم، والحليف، وولي الأمر، والعصبة،

قال ابن عباس: هم الورثة ههنا، وقال مجاهد وقتادة: العصبة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وترك مالًا فماله للموالي العصبة، ومن ترك كلًّا فأنا وليه ". بيّن أن لكل مال تركه الوالدان والأقربون موالي يرثونه. وقوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) قيل: عنى به

عقد الحلف، وكانت العرب تتوارث به، ثم نُسِخَ بقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) وذلك عن ابن عباس والحسن وسعيد وقتادة. وقال أصحاب أبي حنيفة: الآية تقتضي أن المعاقدة يُستحقُّ بها الإرث. قالوا: ويقوِّي ذلك قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ). فجعلِ ذوي الأرحام أولى من المعاقد، فدل ذلك أن المعاقد فيه حقّا. قالوا: وروى تميم الداري أنه قال: يا رسول الله: ما السنّة في الرجل يسلم على يد مسلم؟ فقال: "هو أولى بمحياه ومماته ".

وقيل: عنى الذين عقدت أيمانهم في الجاهلية، فجعل تعالى لهم نصيبًا كنصيب الأخ من الأم، وسقط حكمهم بموتهم. وقيل: جعل لهم النصيب من النصرة دون الإِرث. وقد روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وعطاء. قالوا: وحكم الأول قديم بقوله: (وَالْأَقْرَبُونَ). واستؤنف قوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) قال ابن الحسن: عنى بالذين عاقدت أيمانكم: الأزواج لقوله تعالى: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) قال: وصار المذكور في هذه الآية جملة ما فصَّله في آيات المواريث. فصار هذه الآية كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أعطى كل ذي حق حقَّه "،

(34)

قال: والأيمان جمع اليمين التي هي الجارحة. وسُمي الحلف بها اعتبارًا بالصفقة في المبالغة. قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) القنوت: القيام على وجه الطاعة، ويُستعمل في كل واحد منهما. والنشوز: بغض المرأة للزوج، وأصله من النشز. فكأنها هي المرتفعة بنفسها أو طرفها عن التزام ما يلزمها للزوج. وبهذا النظر قال الشاعر:

إذا جَلسَت عند الإِمام كأنها. . . ترى رفقةً من ساعة تستحيلها بيّن تعالى أن السياسة للرجل دون المرأة، وأن لكلِّ واحد من الرجل والمرأة فضيلتين: إحداهما: تسخير من الله تعالى. والأخرى من كسبه، فإحدى فضيلتي الرجل: ما خصّه به من علوه على المرأة، والثانية: بإنفاق المال، وإحدى فضيلتي المرأة: قيامها بما يلزمها من طاعة الأزواج، وحفظ غيبهم، وتحصين ما سلّموه إليهن. والثانية: إسبال الله ستر رحمته عليها وحفظها بوصية الزوج بها، وتسخيره للقيام بمراعاتها. وقرأ أبو جعفر المدني: "بما حفظ اللهَ" بالنصب،

أي فعل ذلك بهن بحفظهن الله، وجعل بما بمنزلة المصدر. وقوله: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ) قال بعض أهل اللغة: أي تعلمون. وأنشد: فلا تدفنني في الفلاة فإنني. . . أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وأرى قائل هذا تصور الظَن بصورة العلم، فأطلق عليه اسمه. فأكثر الخوف مضمّن بالظن. وقوله: (فَعِظُوهُنَّ) تنبيه على أنها تُوعظ أولاً، ثم تُهجر، ثم تُضرب. وهذا مقتضى حكمة السياسة، وعليه بني قول الشاعر: أناة فإن لم تغن عَقَّبَ بعدها. . . وعيد فإن أتغن أغنت عزائمه وقوله: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) كالتصريح في الكناية عن الجماع. وقول من قال: هجر الكلام فليس بشيء،

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تهجروا النساء إلا في بيوتهن، ولا تهجروهن إلا في المضاجع. فإن أبين فاضربوهن ضربًا غير مبرح ". وقوله: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) تنبيه على أن الذي يلزم هو بذل الطاعة في الظاهر. فأما المحبة بالقلب فليس من فعلها فتؤخذ به. ونبّه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) على أن الله تعالى مع هذه الحالة يقتصر من عباده في كثير من عبادتهم على الظاهر،

(35)

وقيل: نبه أن لا يظن أحد الزوجين إن كلفه إلا الحق، فإنه يتعالى ويكبر عن الظلم. قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) الشقاق: التعادي، ومنه قيل: شقّ فلان العصى، إذا تباعد في الخروج عن الطاعة، ومنه المشقة، وشقّ على فلان كذا. والتوفيق كالمساواة، ومنه توفيق الله تعالى، فإنه موافقة قضائه فعل العبد فيما يقصده، ويقال الاتفاق في كل متطابقين على بعض الوجوه،

ولما بيّن تعالى من حال نشوزها ما يمكن للزوج إصلاحه، بين ههنا ما يشتبه الحال فيه، واحتيج إلى ناظر فيما بينهما. وأكثر العلماء على أن المأمور ببعث الحكمين الإِمام أو صاحبه. وإليه ذهب مالك، والأصم، وجعلوا للحاكم الطلاق والخلع كالوكيل، وإليه ذهب ابن عباس. ومن الفقهاء من لم يجوِّز لهما الخلع والطلاق. فإن ظاهر الآية لم يقتضهما، ولا فرق

(36)

بين أن يكون الحكمان من أقاربهما، أو من قبلهما. وقال ابن عباس: إرادتهما الإِصلاح أن يخلو كل واحد من الحكمين بأحد الزوجين، فيتعرف حاله في السِّرِّ ليبني الأمر عليه. وفي الآية دلالة على أن كُلّ أمرٍ وقع فيه تنازُع يجوز فيه التحكيم. وبهذه الآية استدل في أمر الحكمين. ونبَّه بقوله: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) أن من أصلح نيته في أمر يتحرّاه أصلح الله مبتغاه، كما رُوِيَ في الخبر أن "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ". وقيل: إذا فسدت النيّة وقعت البلية. قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الجار اعتبارًا بكونه من ناحية دارك، من قولهم: جار عن الطريق، ثم جُعِلَ أصلًا في بابه، فقيل: استجرت فلانًا

وآجرته. إذا رعيته مراعاة الجار. والجنب أصله في الجارحة، ثم قيل في المكان اعتبارًا به. فقيل: جنبته إذا أخذته في ناحية الجنب، واجتنب عنه إذا تركه وتباعد عنه. والأجنبي: الغريب، والجنابة: الاعتزال والتباعُد. ومنه قيل للحالة المقتضية لترك الصلاة: جنابة. والجار ذي القربى والجار الجنب: قيل: عنى به قرب الرحم وبعده. وقيل: عنى به قرب المسافة

وبعدها، والصاحب بالجنب: قيل: جار البيت، دانيا كان نسبه أو نائيا. وقيل: هو الرفيق في السفر، وقيل: هو المنقطع إليك رجاء خيرك، وقيل: المرأة. (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) قيل: وقد أمر بالإِحسان إليهم، وأن لا يكلَّفوا ما لا يطيقون،

إن قيل: لم قدم الأمر بالإِيمان على النهي عن الشرك. ومعلوم أن تجنُّب الشرك مقدَّم على حقيقة الإِتيان با لإِيمان؟ قيل: إن الشرك يقال على ضربين: أحدهما: الشرك الأكبر، وهو إثبات صانع غير الله. والثاني: الرياء، وإياه

عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى شداد بن أوس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمران أتخوَّفهما على أمتي من بعدي: الشرك، والشهوة الخفية. ألا إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا، ولكنهم يراءون ". فقلت: أشرك ذلك؟ قال: " نعم "، وإياه عنى تعالى بقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) الآية. إن قيل: لِمَ ذكر ههنا تسعة أصناف وأمر بالتوفُّر عليهم. وذكر في سورة البقرة: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ)

وقال بعده: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ)؟ قيل: إن المذكور أولاً في سورة البقرة ما أمر به بني إسرائيل. وأما قوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) فهو أمر بإيتاء المال الذي يقتضيه البر، لأنه قال: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، وهذه الآية حتّ على فعل الإِحسان كلّه، نصرة كان أو صلة. وقيل: إن قوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) عنى المال كله على سبيل التبرُّع. وذلك إذا طلب الإِنسان غاية البر، ولهذا قال الشعبي: ما بَقَّى قول الله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) على

أحد شيئا من المال، ولإِرادة إخراج المال كلّه على التبرُّع خصَّ الزكاة بعده بالذكر، فقال: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ). وأراد بهذه الآية ما يحصل للإِنسان به تمام العبادة. وفعل الإِحسان. وذلك لعبادة الله المتعرية عن الرياء، ومراعاة هؤلاء بالإِحسان. فإن قيل: لم قدم الجار على ابن السبيل وله حق واجب في المال؟ قيل: ابن السبيل الذي له حقٌّ في المال هو الفقير، ولم يقصده بهذه الآية، وإنما المقصود تفقُّد المذكورين على سبيل التبرُّع، وحقُّ الجار أوكد من حقِّ الغُرباء. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يورثه "؟ إن قيل: كيف قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)؟

(37)

قيل: المختال هو الذي يظن أن له بماله كرمًا، من قولهم: خِلْتُ، وكأنما إلى معناه أشار تعالى بقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3). والفخور: من يتبجح بالقُنْيَات الزائلة، فبيَّن تعالى أن من أمسك ماله، وصرفه عن الوجوه المذكورة فذلك لظنه أن له بماله خيلاء وفخرًا فيضنّ به، ويُبيِّن أن هذين سبب البخل ما روي: "أهلك الناس شيئان: حبّ الفخر، وخوف الفقر ". ولهذا عقبه بقوله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) الآية. فجعل تفسير الاحتيال والفخر البخل بالمال، والإِنفاق على وجه الرياء. قوله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

البخل: أعظم المعايب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أي داء أدوى من البخل؟ " وأعظم منه حثُّ الغير عليه، وكأن الشاعر بهذه الآية ألمَّ في قوله: وإن امرأً ضَمنَّت يداه على امرئ. . . بنيل يد من غيره لبخيل وقالوا: فلان يمنع دَرَّه ودرَّ غيره، والحرُّ يعطي والعبد يألم قلبه، ولم يرُد تعالى بالبخل البخل بالمال فقط، بل بجميع ما منه نفع الغير، من نصرة وعلم، ودخل في عموم الأمر بالبخل: من ترك شكر من أحسن إليه، أو أخل بقضاء دين فيصير سببًا لمنع الإِسداء إلى الغير، ولهذا قيل: لعن الله قاطعي المعروف. وقال بعضهم: معناه يبخلون ويتأمرون على الناس، ويأمرونهم

بشكرهم مع بخلهم، فيكون قوله (بِالْبُخْلِ) في موضع الحال. وإلى هذا أشار الشاعر بقوله: جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما. . . تيه الملوك وأفعال المماليك وقوله: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. يدخل فيه من يستحقر ما آتاه الله من نعمته مالاً كان أو عافية، ومن خُوِّل علمًا ولم يفده مقتبسه منه، ومن ينسى كثير ما أنعم الله عليه ويتذكر قليل ما يناله من نائبة، كقوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قيل في تفسيره: ينسى النعم وي) كر المحن، ونبه بقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ) أن من

(38)

فعل ذلك فهوكافر للنعمة، ومن كفر نعمة الله فقد أعدَّ له عذابَا. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) ذم في هذه الآية السّرف، كما ذمّ في الأولى البخل. فمن السرف أن يتشبَّع الإِنسان بإنفاقه، فلا ينفقه على ما يجب. وكما يجب فصار الإتيان كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) وليس يعني بقوله: (وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) جحود ذلك باللسان فقط، بل عنى معه ترك ما تقتضيه هذه المعرفة، تنبيهَا أن المنفق رياء لو كان له حقيقة إيمان لتذكر في تناول ما يتناوله، ولأدّاه ذلك إلى أن يتفكّر أين يضعه،

فإن قيل: فأيّ تعلُق لقوله: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا) قيل: هذا الكلام فيه إيجاز، كأته قيل: الذين ينفقون أموالهم رياء الناس زين لهم الشيطان الذين هم قرناؤهم (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا) كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)، وعلى ذلك قوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) ولم يعن بالشيطان إبليس فقط، بل عناه والهوى. وكل ما دعاه إلى باطل، وصرفه عن حق. وقوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ) في قوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ) استدعاء لطيف إلى تحرّي الإِيمان والإِنفاق على ما يجب، لأن لفظه استخبار يستدعي جوابًا، ولا يمكن جواب المستخبر عنه المشتبه إلا بعد التفكُّر فيه، والتفكُّر فيما ذكره تعالى يؤدّي إلى أن ليس على

(40)

متحري ذلك ضير، بل له كل خير. إن قيل: لِمَ قدّم الإِنفاق في الآية الأولى وأخَّره ههنا؟ قيل: لما قصد في الأولى إلى ذمهم بالإِنفاق رياء لكونهم غير مؤمنين، قدّم ذكره، وجعل قوله: (وَلَا يُؤمِنُونَ) في مو ضع الحال تنبيهًا أن ذلك منهم لكونهم غير مؤمنين، ولما حثّهم في هذه الآية على ما يجب أن يتحروه ابتدأ بذكر الإِيمان، تنبيهًا أن إنفاقهم غير معتد به إلا بعد الإِيمان بهما. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) عنى بالظلم

ههنا بخس الحق ومثقال: مفعال: من الثقل، وضرب تعالى الذَّرَّ مثلًا للشيء الصغير، تقريبًا على المخاطب. واستُعمل لفظ المثقال تنبيهًا أن ذلك يعظم جزاؤه وإن صَغُر قدره. وفي قراءة ابن مسعود: مثقال نملة. وإذا قرئ (حَسَنَةً) بالنصب فتقديره: إن تكن الذرة حسنة، وردّ الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف. وإذا رفع فمعناه: إن تقع حسنة، ولا تحتاج كان ههنا إلى

خبر، ويضاعِف ويُضَعِّفُ يتقاربان. وقال القتيبي: يُضاعِف للمرة ويُضِعِّف للتكثير، وقد قال

تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، وقال: (أَضْعَافًا كَثِيرَةً) و (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً). وفائدة قوله: (مِنْ لَدُنْهُ) أن كلَّ ما أريد تعظيمه ينسب إلى الله، فيقال: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، و (مِنْ لَدُنْهُ)، و (له). و (بيت الله)، و (نَاقَةُ اللَّهِ)، وعلى هذا قوله تعالى: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)، ووصْفُ الأجر بالعظيم اعتبار بالأجور الدنيوية.

(41)

تقديره: كيف حالهم في ذلك الوقت استعظامًا لأمرهم؟! وقوله: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) فيه أقوال: أحدها: أنه أشار إلى أُمته، ويكون قوله: (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) عامًّا. وخصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته بالذكر تعظيمًا لهم. والثاني: ما قاله ابن عباس: إن هذه الأمة تشهد للأنبياء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يشهد لأمته تزكيةً لهم. واستدلَّ بقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً). والثالث: إن قوله: (عَلَى هَؤُلَاءِ)

إشارة إلى الأنبياء الذين هم الشهداء على أممهم. إن قيل: كيف يصح أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدًا للأنبياء الذين قبله وهو لم يحضرهم؟ وأي فائدة لشهادته وشهادتهم؟ قيل: إن الأنبياء لم يختلفوا في أصول ما دعوا إليه. بل كلُهم لسان واحد في الدعاء إلى التوحيد. وأصول الاعتقادات والعبادات، وسائر جمل الشريعة. وعلى ذلك نبَّه بقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الآية. وكل واحد منهم معتقد لما اعتقده الآخر، ومبلِّغ ذلك مثل ما بلَّغه الآخر. ثم شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - جامعة لأصول شرائع من تقدّمه، ولذلك قيل له: خاتم الأنبياء، وعليه نبّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتًا، وترك موضع لبنة منه، فكنت موضع اللبنة"،

(42)

وبهذا المعنى ألم بعض المُحدثين فقال: نُسِقوا لنا نَسْقَ الحساب مقدّمًا. . . وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرًا وأما فائدة إقامتها عليهم فتبكيت للعاصين، وتشنيع عليهم. وتزكية للمؤمنين، على ما ذكر في قوله: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ). وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) منهم من جعل الصفتين لفريق واحد، أي الذين جمعوا بين الكفر ومخالفة الأمر، ومنهم من جعلهما وصفين لفريقين، أي الذين كفروا وعصوا الرسول؛ فالأول للكفار، والثاني لأهل الكبائر،

وقوله: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي تمنوا أن لم يُبعثوا من القبور. وقيل: أن جعلوا ترابًا كالبهائم، وقيل: أن لم يخلقوا رأسًا. ونحوه قوله تعالى: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)،

وقوله: (لَوْ تُسَّوَّى) بتشديد السين على إدغام التاء في السين. وتُسَوّى بالتخفيف على حذف إحدى التاءين. وقوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) قيل: فيه أقوال: أحدها: ما رُوِيَ عن ابن عباس وقد سُئِلَ عن هذه الآية. وقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فقال: إن المشركين يوم القيامة لما رأوا أن لا يدخل الجنة إلا من كان مسلمًا. قال بعضهم لبعض: تعالوا نجحد، نقول: ما كنا مشركين. فلما قالوا ذلك ختم الله على ألسنتهم، وتكلّمت جوارحهم، فشهدت عليهم، فودّوا لو ساخت بهم الأرض ولا يكتمون الله.

والثاني: ما قاله الحسن: إن الآخرة مواقف، وفي بعضها يظهرون. ورُوِيَ عنه أن في بعضها لا يتكمون. والثالث: أنهم لا يكتمون الله حديثًا، لنطق جوارحهم بذنوبهم. فعلى هذا لا يكون قوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ) داخلًا في التمنِّي. بل هو استئنافُ كلام. والرابع: أنه لم يقصد بقوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ) أنهم لا يقصدون كتمانه. بل عنى أنه لا يتكتم، وذلك كقولك لمن كتم عنك شيئًا فاطلعت عليه: لِمَ تكتم أسرارك عني. والخامس: أن ذلك داخل في التمني، ولكن إشارة إلى حالهم في الدنيا وجحودهم، فإن كفرهم جحود لما ركَّز الله تعالى في فطرتهم. ونقضٌ لما أخذ عليهم من الميثاق المدلول عليه بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

(43)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) السُّكر: هو من السَّكْر، أي سُدّ مجرى الماء، وذلك لسد البخار الصاعد من المعدة قوة الفهم، وسكرت الريح: أي سكنت، تشبيهًا بسكون الماء إذا سُدّ مجراه، وكذلك سكرت أبصارنا: أي سُدّ مجراها، والسكر قد يقال لما يعرض من الهوى والشباب والغنى. قال الشاعر: سكران سكر هوى وسكر شراب.

ويقال: سُكارى وسكرى. والغائط: المنهبط من الأرض فكنى به عن الحدث؛ كالنجو في كونه للمرتفع من الأرض. والعذرة للفناء، والحشُّ للبستان، والكنيف للحظيرة. والصَّعيد كالصعود، لكن الصعيد يقال لوجه الأرض.

والصعود للعقبة، ولما كان الصعيد يقال لوجه الأرض وللساطع منه. اختلف الفقهاء لاختلاف نظرهم في أنه هل يجب أن يعلق باليد شيء من التراب أم لا؟ فجوز الكوفيون أن لا يعلق باليد شيء من الأرض. لكون الصعيد اسمًا لوجه الأرض. ولم يجوِّز الحجازيون ذلك اعتبارًا بالصعود. ولقوله: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) وكذلك اختلفوا في أنه هل يجوز التيمم بما يخرج من الأرض سوى التراب كالخل والزرنيخ؟ فجوز ذلك بعضهم ومنع منه آخرون. فمن جوّزه قال: لأن الصعيد اسم لما تصاعد من الأرض. والتيمُّم والتأمُّم: " التعمُّد، وفي قراءة عبد الله "فتأمَّموا".

و (عابري سبيل): قال علي وابن عباس: هم المسافرون. قالوا: ويجوز لهم التيمم عند الجنابة. والصلاة عندهما اسم الفعل. وقال الحسن وسعيد: عابر السبيل: المجتاز. والصلاة يريد به موضعها، كقوله: (لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ).

والمريض الذي جُوّز له التيمّم: الجريح والقريح دون المحموم والمصدّع. والملامسة: الجماع، عن علي وعن ابن عباس. وقيل: اللمس

باليد وما دون الجماع؛ عن ابن مسعود، وابن عمر. وقُرِئ: "لمستم"، والأول في الجماع أكثر. وقوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) ليس بنهي للسكران عن قربان الصلاة، كما تصوره بعض الناس فأطال فيه الكلام. وقال: كيف يصح نهي من لا يعقل ما يقول، وإنما ذلك نهي المؤمنين عن السكر المانع

من الصلاة، كقوله تعالى: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). وقيل: إن ذلك نهي عن الشرب، وكان هذا تعريضًا بالتحريم. فلما أنزل الله ذلك تحرَّج قوم فتركوها، وشربه قوم في غير أوقات الصلوات إلى أن ورد تصريح التحريم. وقال بعض أهل الورع: ليس النهي عن تعاطي الخمر. بل ذلك عنه، وعن مقتضى سكر الهوى. وسكر الاشتغال بالدنيا، وأمر بأن يجمع الإِنسان

(44)

نفسه ويفرِّغ للعبادة همّه، قال: وليست الجنابة للحالة المعروفة فقط، بل هي عبارة عن نجاسة النفس بالذنوب، وحثٌّ على تجنُّبها وتطهير النفس منها بقوله: (لِيُطَهِّرَكُمْ). فإن قيل: فما وجه تعلق هذه الآية بما قبلها. والإِتيان بحكم التيمُّم عقب ما تقدم؟ قيل: لما أمر فيما تقدّم بالعبادة بقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وأعظم العبادة الصلاة، ولا تصحّ بغير طهارة بين عقيبها حكم ما يُطَهِّر، وحكم ما ينوب منابه إذا فُقِدَ. قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) رَأَيت: يُعدّى بإلى تنبيهًا على معنى النظر والاعتبار. وذلك في رؤية القلب دون الحاسة. واشتراء الضلالة بالهدى:

(45)

استبدالها به بغد حصوله، والرغبة في الضلالة بعد التمكّن من الهدى، وقد أعاد تعالى هذا المعنى في مواضع تحذيرًا منهم. وتخويفًا من الاغترار بهم، وعلى ذلك قوله من قبل: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا). ونحوه قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) ظاهره كالبعيد من الأول، وكذلك قوله: (كَفَى بِاللَّهِ) وذلك لتحرِّي الاختصار فيه، وتقدير الكلام: يريدون أن تضلوا السبيل. وإذا أرادوا ذلك فهم أعداؤكم، والله أعلم منكم بعداوتهم لكم. وهو تعالى وليكم ونصيركم، فإذن الواجبُ عليكم أن تتركوا

(46)

موالاتهم، واستنصارهم، وتَسْتكْفوا بولاية الله ونصرته، وكفى به وليا ونصيرًا. قوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) الليّ: أصله الفَتْلُ فاستعير لصرف الإِنسان عما يريده، وصرف الكلام من وجه إلى وجه استعارة الجدل في الجدال، ومنه ليّ الغريم، ولواء الجيش لكونه في الأصل خيطًا ملويا. واللِّوى: الملوئ من الرمل؛ لا يصنعه البشر. وقوله: (بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي جارحتهم أوكلامهم، وكلا هما في الحقيقة واحد (وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) أي يطعنون بِأَلْسِنَتِهِمْ في الدين،

وقوله (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يقال على وجهين: أحدهما: دعاء على الإِنسان بالصمم. والثاني: دعاء له، فقد تُعورِف قوله: أسمعته؛ في السب. ورُوِيَ أن أهل الكتاب كانوا يقولون ذلك. يرون أنهم يعظمون النبيَّ، وأنهم يدعون له، لأن قولهم (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) يقتضي ظاهره: أنا قْد عصينا من أمرتنا بعصيانه. واسمع غير مشتوم؛ وحافظنا، وهم يقصدون بقولهم (وَعَصَيْنَا) أنا عصيناك، واسمع لا سمعت، وراعنا أي رَاعنًا، وذلك شتم فيما بينهم، فذكر تعالى أن ذلك ليّ

وطعن في الدين بألسنتهم، أي لُغتهم، ولو عدلوا عن هذه الألفاظ إلى ما أُمِرُوا به لكان أنفع لهم، ولكن لما كفروا لعنهم الله، أي منعهم التوفيق وشرح الصدر، وقد تقدّم معنى اللعنة وتفسير قوله: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا). وقوله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) فيه قولان: الأول: أنه متعلّق بما تقدَّم، كأنه قال: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من الذين هادوا فيكم. فتكون (مِن) للجنس أو للتبيين، وتكون للوقف على قوله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا). والثاني: أن تكون استئنافًا على تقدير: من الذين هادوا فريق، كقوله: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ).

(47)

واستقبح المبرّد هذا الوجه لحذف الموصول وترك الصلة. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) الطمس والطلس والدرس يتقارب، ولكن الطمس زوال الأعلام المماثلة، قال: وبلدة طامسة أعلامها، والطلس زوال الصورة، ومنه قيل: درهم مطلس، إذا لم يكن عليه نقش، والدرس قد يقال في الأثر الخفي. وطمس الوجوه منهم من أخذه

محسوسًا ثم اختلفوا؛ فمنهم من قال: عنى ذلك في الدنيا، وهو أن ينبت الشعر على وجوههم فتصير صورتهم كصورة القردة والخنازير، وتكون وجوههم إلى أقفائهم، ومنهم من قال: عنى ذلك في الآخرة، وعلى ذلك قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)، لأن وجوههم التي فيها العيون إلى ظهورهم. ومنهم من أخذه معقولا، ثم اختلفوا: كيف يكون ذلك؟ فمنهم من قال: عنى أنا نردهم عن الهداية إلى الضلالة لما ارتكبوه من المعاصي،

نحو قوله: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) الآية. والثاني: أن تكون الوجوه الأعيان والرؤساء. والمعنى قيل: أن يجعل الرؤساء منكم أذنابًا. وعلى ذلك قوله تعالى: (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) الآية. وقيل: إن ذلك في الآخرة، وهو أن قومًا من الكفار كانوا يسخرون في الدنيا من المؤمنين، فيعرضون على الجنة ثم يُردّون على أعقابهم فيدخلون النار. وقوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) في سورة البقرة.

(48)

(وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أي نافذًا في حكم المفروغ منه. وقيل: هو إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما خلق الله القلم، فقال له: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة". وقيل: الأمر ههنا إشارة إلى الإِبداع، وهو اختراع الشيء من غير أصل. لا في زمان ولا في مكان، ولا بآلة، وذلك يعبر عنه بالأمر. وعلى ذلك قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ). قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

معنى أن يشرك به: أن يديم الإِنسان الشرك، فلا خلاف أن من لم يُدم ذلك بل أقلع عنه بالتوبة على الوجه الذي يجب يُغفر له. لكن اختُلِف في قوله (لِمَنْ يَشَاءُ) لكونه مجملًا. فقال بعضهم: عنى به غير المشركين، فكأنه قيل: يغفر ما دون ذلك لغير المشركين، ففيه توعُّد أن المشرك مأخوذ بكل ذنب مع الشرك بخلاف المؤمنين، الذين قال لهم: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ). ومنهم من قال: عنى به التائب بدلالة قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). وقول من قال: (لِمَنْ يَشَاءُ) يقتضي ذلك، أن فيما دون الكفر ما يُغفر، وهو الصغائر، وفيه ما لا يغفر وهو الكبائر، وإلا لم يكن لقوله: (لِمَنْ يَشَاءُ) فائدة، فليس بصحيح لأن قوله: (مَا دُونَ ذَلِكَ) عام للذنوب صغائرها وكبائرها، والمغفور له هو

الذي جعله خاصَّا منهما، فيقتضي أن ما دون الشرك كله يُغفر. لكن يُغفر لبعض دون بعض، واشتراط (لِمَنْ يَشَاءُ) لئلا يقرر أن ذلك عامٌّ للمشرك وغير المشرك، فصار قوله: (لِمَنْ يَشَاءُ) عبارة عن غير المشركين. وقولهم: إن الكبائر دون الشرك لو صح غفرانها لم يثبت فيها اللعن ولا الحد على وجه النكال ليس بشيء. فليس في ذكر اللعن ما يقتضي أن لا يُغفر لصاحبه. وأما النكال في الدنيا فتعلُقهم به جهل أو تجاهل، لأن موضوع النكال ليكون قمعًا للمنكَّل به عن معاودته وقمع غيره عن أن يحذو حذوه، وليس ذلك من عقوبة الآخرة في شيء، بل قد قيل هو مُسقطٌ لعقوبة الآخرة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحدود كفّارات لأهلها "،

ألا ترى أنه قد يُحدّ التائب مع أن العقوبة في الآخرة قد سقطت عنه بالتوبة؟! وما رواه جابر أنا كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى نزل قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. دلالة على فساد قولهم، وما قالوه بأن هذا من أخبار الآحاد فلا يقبل فيما هو من باب التدين والعلم، فإن أخبار

الآحاد تُردّ فيما تعافه العقول الصحيحة، وقد علم أن العفو من باب الإِحسان الذي حثنا عليه العقل والشرع، وبتحريه يصير العبد من الصديقين والشهداء والصالحين. والافتراء: يقال في القول والفعل كالصدق والكذب. بل الافتراء وإن تُعوُرِف في القول فهو بالفعل أولى. وكذا الاختلاق، لأنهما من فريت الأديم وخلقته. ومعنى الإِثم العظيم هو الذي إذا اعتبر بالآثام كان

(49)

أكثرها عقوبة. قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) التزكية ضربان: أحدهما: بالفعل، وهو أن يتحرى الإِنسان ما فيه تطهير بدنه، وذلك يصحّ أن ينسب إلى العبد تارة نحو قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) وإلى من يؤمر بفعله، نحو قوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا). والثاني: بالقول، وذلك بالإِخبار عنه بذلك، ومدحه به. ومحظور على الإِنسان أن يفعل ذلك بنفسه، لا بالشرع فقط. بل بمقتضى العقل، من غير داعٍ إلى ذلك، ولمّا قالت اليهود والنصارى (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ذمّهم الله تعالى بذلك، وذمّ من

يفعل فعلهم، وحظر أن يمدح الإِنسان نفسه، بل أن يزكي غيره إلا على وجه مخصوص، فالتزكية في الحقيقة هي الإِخبار عما ينطوي عليه الإِنسان، ولا يعرف ذلك إلا الله تعالى. ولهذا قال: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) ونبّه بقوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أن تزكيته ليست لضرب من الميل. فهو منزه عن كبير الظلم وصغيره. والفتيل: هو الخيط الذي في شق النواة. وقيل: هو ما فتل من الوسخ بين الأصبعين. تشبيهًا بالفتيلة هيئة وصغر قدر،

(50)

قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) ذكر ذلك تعظيمًا لزعمهم (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ونبّه بقوله: (وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) أنه لايخفى كونه مأثمًا. قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) الجبت والطاغوت: في الأصل اسمان لصنمين، ثم صارا يستعملان في كُل باطل، ولذلك قيل: ما عُبِدَ من دون الله فهو طاغوت،

ولذلك فُسِّر مرة بالصنم، ومرة بالشيطان، ومرة بالسحر، ومرة بكل معظّم من دون الله، وإنما ذكرهم بإيتاء نصيب من الكتاب تقبيحًا لفعلهم، فمن جحد الحق مع معرفته به فهو أقبح فعلًا وأعظم مأثمًا. وعنى بالذين كفروا مشركي العرب، حيث زعموا أنهم أهدى سبيلًا من المسلمين، ومعنى قوله: (لِلَّذِينَ) أي لأجلهم وفيهم،

(53)

ولهذا قال: هؤلاء ولم يقل: أنتم، وباقي الآية مفهوم. قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) النقير: النقطة في ظهر النواة، وقيل: حبة فيها، وقيل: ما نُقِرَ بالأصبع من الحصى، وكيفما كان فذلك كالفتيل والقطمير فيما يضرب به المثل في الشيء الحقير، و (إذن) متى تقدّمه حرف عطف فقد يُترك إعماله، نحو قوله:

(54)

(وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا). وعطف بالجملة على ما قبله بأم على تقدير كلام قبله. كأنه قيل: أهم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك. فيلزم الناس طاعتهم؟ وقيل: أم بدل على معنى بل. وكذلك قيل في قوله تعالى: (الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، ونبَّه على بخلهم مع تمكُّنهم من المال. قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) الحسد: غم يلحق الإِنسان بسبب خير ناله مستحقه،

قال ابن عباس: عنى بالناس ههنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وقال قتادة: عنى به العرب، وقيل: عنى به المسلمين. والفضل: ما خصّ به - صلى الله عليه وسلم - من النبوة. وإنما ذكر الناس - وإن قصد به مخصوصًا - لأنهم إذا كرهوا ما آُنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حسدوا الناس بما

أولاهم كمال الإِنسانية، وفيه تنبيه أنهم خارجون عن جملتهم. ونبّه أنه كما آتاهم الفضل فقد آتى آل إبراهيم ما ذكره. وأنه لو كان ما آتى محمدًا يقتضي أن يحسد عليه فما آتى آل إبراهيم أولى بذلك، فيكون الكتاب والحكمة راجعًا إلى ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام وغيرهما. ويجوز أن يكون الكتاب والحكمة إشارة إلى ما أوتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون فيه تنبيه. وما أنعم الله عليه هو إنعام عليهم إذ كان معرضاً لانتفاعهم به. والملك العظيم قيل: ملك سليمان، والأصحّ أنه عامٌّ. وأنه لم يعن به تملُك الغير، بل هو عام في ذلك. وفيما اقتضى تملُك الإِنسان على نفسه وقمعه لحرصه وسائر شهواته، فذلك هو أعظم الملكين. وقوله: (فَمِنهُم) قال مجاهد: أي من أهل الكتاب من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: منهم من آمن بإبراهيم من أمته، كما أنكم في أمر

(56)

محمد كذلك تنبيهًا أنه ليس في صدّ بعضهم عن محمد توهين لأمره، كما لم يكن في صدّ بعضهم عن إبراهيم توهين لأمره. وفي قوله: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) تنبيه أنهم وإن لم تلحقهم العقوبة معجّلة فقدكفاهم ما أُعِدَّ لهم من سعير جهنم. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) إصلاؤهم بالنار: جعلهم صَلىً لها، كقوله:

(وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ). وقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) فيه قولان؟ أحدهما: أنه يُعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى. كقولك: بدّلت الخاتم قرطا، إذا خالفت بين الصورتين. الثاثي: أنه يُخلَق لهم جلود إذا نضجت لهم جلود، فالعذاب والألم يصل إلى ما تحت الجلود من الروح وغيرها بوساطة الجلود كوصول النار إليه بوساطة سرابيل القطران المذكور في قوله: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)، وتبيين ذلك أن الجلد واللحم متى تعريا

عن الروح لم يلحقهما ألم، فعُلِمَ أن المقصود بالألم ما فيه الروح دون الجلود والأغشية، ولكون البدن للروح كالثياب للبدن. يعبّر بالثياب عن البدن كقوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) وقول الشاعر: ثياب بني عوف طهارى نقية. . . . . . . . . . . . . . . وقو له تعالى: (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) استعارة متناهية في وصول الألم إلى الباطن، وعلى ذلك استُعير لهم الطعام في قوله: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا) ذُكِرَ مع الذوق المس في قوله: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) تنبيهًا أن ذلك استعارة، ونبَّه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) أن لا سبيل إلى الامتناع عليه والفرار من عذابه. وبقوله: (حَكِيمًا) أن ذلك تقتضيه الحكمة.

(57)

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) قد تقدّم الكلام في ذكر الإِيمان والأعمال الصالحة، ومعنى الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وذكر الخلود فيها أبدًا، والأزواج المطهّرة، فأما قوله: (ظِلًّا ظَلِيلًا) فإشارة إلى النعمة، والنعمة الدائمة، كما يقال: أنا في ظلك، وكما رُوي في الخبر: "سبعة يظلهم الله في ظلِّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله "، والظليل إشارة

(58)

إلى تمام وجود معنى الظلّية فيه، كقولهم: شمس شمامس. وليل ألْيَل. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) قال ابن جريج: نزل ذلك في عثمان بن طلحة رضي الله عنه لما أخذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة. فأمره الله أن يردَّه

إليه، وقال: زيد ومكحول: نزل في ولاة الأمر. قال ابن عباس: في كل مؤتمن على شيء، وهو أصحّ. فإنه عام،

وقد عظَّم الله أمر الأمانة، وبين أنه من خصائص الإِنسان، حيث قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث يؤدين إلى البَّر والفاجر: الأمانة، والعهد، وصلة الرحم ". وتأدية الأمانة استحفاظ المستودع ووضعه حيث ما أمر بوضعه فيه. وليس ذلك في ردّ الوديعة فقط، بل في جميع ما خصّ الله تعالى به الإِنسان من ماله ونفسه، فكلُّ ذلك أمانة من الله عليه بحفظه حيث ما يجب حفظه، ويضعه حيث ما يجب وضعه، ولذلك قال تعالى:

(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "كلُكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ". وقد دخل في عمومه: النهي عن كتمان العلم عن أهله. وحفظه عن غير أهله، ولهذا قيل: لا تضع الحكمة في غير أهلها فتظلمها، ولا تمنعها أهلها فتظلمهم، وقد حثَّ الله تعالى على حفظ جميع العدالات بهذه، وبيانه أن العدالة في شيئين: أحدهما: في حكم يختص به الإِنسان في نفسه، أو فيما بينه وبين

(59)

غيره، وقد تناول ذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، والثاني: في حكم يتولاّه ألإِنسان بين اثنين، وذلك قد تناوله في قوله: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). ثم قال: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) تنبيهًا أن من سمع وعظه، واستعمله فقد فاز فوزا عظيمًا، ونبّه بذكر السمع على حكم الأول على علمه بما يحدِّث الإِنسان به نفسه، وبالبصر على حكم مشاهدته لما يتعاطاه. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) قيل: أولو الأمر الأمراء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولذلك قال: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ). وقيل: الأمراء في زمانه وبعده، ورده إليهما إنما هو إلى حكمهما. وحمل الشيعة ذلك

على الأئمة من أهل البيت. وقال أبو هريرة: أولو الأمر أمراء السرايا. وقد رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ". وقال ابن عباس: هم أهل الفقه والدين، وأهل طاعة الله الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وكل هذه الأقوال صحيح، ومراد بالآية، ووجه ذلك

أن أولي الأمر الذين يرتدع بهم الناس أربعة: الأول: الأنبياء، وحكمهم على ظواهر الخاصة والعامة وبواطنهم. والثاني: الولاة، وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم. والثالث: الحكماء، وحكمهم على بواطن الخاصة. والرابع: الوعاظ، وحكمهم على بواطن العامة، وعلى ذلك قوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). وقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) قيل: هو خطاب للكافة. وقيل: بل لأولي الأمر منهم إذا وقع تنازع فيما بينهم في حكم،

وقوله: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) أي راجعوه بالسؤال في زمانه، وإلى كتاب الله وسنة نبيه بعده. وقال الأصمُّ: معناه ما لا تعلمونه فقولوا: الله ورسوله أعلم. وهذا إن أراد به فيما لا سبيل لبشر إلى معرفته. أو فيما لا يبلغ إلى مرتبته فصحيح. وإن أراد أنه يقتصر على ذلك مع وجود سبيل إليه. أو احتياجه إليه فرضى بأخسِّ منزلة. وقد تعلّق بذلك مثبتوه أيضًا، وقالوا: جعل الله أحكامه ثلاثة أقسام: مثبتًا بالكتاب، ومثبتًا بالسنة، وعليهما دل قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، ومثبتًا بالاجتهاد والاستنباط، وهو ما يرد إلى الكتاب وسنة نبيه، قال: فالرد إليهما هو البناء علي حكمهما، وهذا هو القياس الشرعي، والرد

على هذا محمول على فائدة غير مستفادة من قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ). قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) أي من شرط الإِيمان أن لا يتخطَى مرسوم الله تعالى ومرسوم نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فمن ترك ذلك فقد ترك الإِيمان. وقوله: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) قال مجاهد: أحسن جزاء وعاقبة. وقال قتادة والسُّدّي: عاقبة. وقال الزجاج: أحسن من تأويلكم من غير رد إلى كتاب الله والسنة.

(60)

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) قد تقدّم أن الزعم مطية الكذب. والطاغوت مبنيّ من طغى، كالجالوت من جال، وقيل: كل ما عُبد من دون الله فهو طاغوت، وقيل: هو اسم لكل ما شغل عن الله من نحو

الهوى ونحوه، وعليه نبه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الهوى إله معبود"، ثم تلا: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ). ورُوِيَ أن. ذلك نزل في رجل من المنافقين دعاه يهودي في خصومة إلى حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال المنافق: بل نتحاكم إلى الكاهن، وقيل: بل قال إلى الصنم، وهو أنهم كانوا يحضرونه ويضربون بالقداح، فمن خرج قدحه حكم له، ونبّه بقوله: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)

(61)

بعد قوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) أن إرادتهم بهذا الفعل مقرونة بإرادة الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا، وأن بفعلهم ذلك يجد الشنيطان إلى ضلالهم سبيلًا، وهذا تنبيه أنه لولا اتباعهم الشهوات وإخلالهم بالعبادات لما وجد الشيطان إليهم سبيلًا، كما قال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) الآية. والضلال البعيد هو الذي يصعب الرجوع عنه. وهو المشار إليه بقوله تعالى: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ). قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) الصد: كالسد: إلا أن السد بحائل محسوس. والصد بحائل في النفس من إرادة أو كراهة، ونحو ذلك من الحوايل.

(62)

والآية من تمام القصة الأولى، ومن الأشياء التي دعوا إليها فصدّوا عنها آيات القتال، كقوله تعالى: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ). والتأكيد بالمصدر كقوله: (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) هو أن الفعل له حقيقة ما وتجوُّزٌ به كاستعماله في بعض ما وُضِعَ له أو في غير ما وُضِعَ له، وإذا أريد أن يبين أنه مستعمل على وجهه وحقيقته ضُمَّ إليه مصدره. هذا فائدته. قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) رُوِي أن ذلك المنافق مع اليهودي لما تحاكما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي قال المنافق: لا أرضى بذلك. ثم "تحاكما إلى أبي بكر فكان كمثل، ثم تحاكما إلى عمر. فقال المنافق: كان من الأمر كذا، فقال له عمر: قفا لأخرج إليك. فدخل وأخذ السيف فخرج وقتله،

فشكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سأله؟ قال عمر: قتلته لأنه ردَّ حكمك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنت الفاروق ". ثم جاء أصحابه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلفون كذبًا إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا. إن قيل: ما المسئول عنه بقوله: كيف؟ وما الذي يتعلق به إذا؟ وعلى ماذا عطف قوله: (ثُمَّ جَاءُوكَ)؟ وأيّ مصيبة أريدت بذلك: التي نالتهم في الدنيا بقتل صاحبهم أم شيء منتظر؟ قيل: أما المسئول عنه فمحذوف كما حُذِفَ في قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)، وبقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ) وتقديره: كيف حالهم ومقالهم؟ وأما إذا فإنه يتعلق بذلك المضمر. وأما قوله: (ثُمَّ جَاءُوكَ) فمعطوف على قوله: (أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ)،

وتقديره: كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدّمت أيديهم بارتكابهم وبمجيئهم من بعد إليك حالفين كذبًا: إننا ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا، وأما المراد بالصيبة المذكورة فما ينالهم في الآخرة من العذاب والحسرة والندامة، فيقول: إن تألَّموا من هذه فكيف تألمُهم إذا أصابتهم مصيبة في الآخرة، وقد تقدَّم أن الإِحسان هو الفضل الموفي على العدالة، والتوفيق: موافقة أمر الله والرضا بقضائه، وهما غاية ما يراد من الإِنسان، فنبه أنهم

(63)

يدّعودن هاتين الحالتين كذبًا. قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) القول البليغ: إذا، اعتُبر بنفسه، فهو ما يجمع أوصافا ثلاثة: أن يكون صوابًا في موضع لغته، وطبقًا للمعنى المقصود به. لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه، وصدقًا في نفسه. وإذا اعتبر بالمقول له والقائل فهو الذي يقصد به قائله الحق. ويجد من المقول له قبولاً، ويكون وروده في الموضع الذي يجدر أن يورد فيه، فكل قول اجتمع فيه هذه الأوصاف فهو البليغ من كل وجه، وقول العرب: أحمقُ بُلْغٌ وبَلْغٌ، إذا بلغ مع حماقته حاجته، وقد يقال ذلك للمتناهى في حماقته، وقول من قال: القول البليغ هو أن يقال لهم:

إن، أظهرتم ما في أنفسكم قتلناكم. وقول من قال: خوِّفهم بمكاره تنزل بهم في الدنيا والآخرة. فإشارة إلى بعض مقتضنى الآية، ونبه بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) على أمرين: أحدهما: نهي الناس أن يُخفوا في أنفسهم غير الحق. والثاني: أن يقتصر من كل واحد في أحكام الدنيا على ما يظهره. وترك الفحص عما يضمره، وفي قوله تعالى:

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية، قولان: أحدهما: أنه أمر أن يقابل جماعتهم بهذه المعاملة الثلاث، من الإِعراض عنهم، والتجافي عن ذمهم، وقول المعروف لهم. والقول الثاني: أن كل واحد من الأحكام الثلاثة إلى فرقة على حدة، فالإِعراض عمن يظهر الإِسلام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاقل الناس. . . " الخبر.

(64)

والوعظ للأوساط. والقول البليغ للخواص. وهؤلاء الفرق الثلاث هم المذكورون بقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91). إلى آخر القصة. قوله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) استغفار الإِنسان وتوبته يمكن أن يقال: هما في الحقيقة واحد، لكن اختلافهما بحسب اعتبارهما بغيرهما؟ فالاستغفار يقال إذا استُعمل في الفزع إلى الله تعالى، وطلب الغفران منه. والتوبة ْتقال إذا اعتُبر بترك العبد ما لا يجوز فعله وفعل ما يجب. ولا يكون الإِنسان طالباً في الحقيقة لغفران الله إلا بإتيان الواجبات، وترك المحظورات، ولا يكون تائبًا إلا إذا حصل على هذه الحالة، ويمكن أن يقال: الاستغفار مبدأ التوبة. والتوبة تمام الاستغفار، ولهذا قال تعالى:

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). وأما استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم فهو الدعاء لهم، وهو ضرب من الشفاعة في الدنيا، وعلى ذلك حثَّ تعالى بقوله: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) والقصد بالآية لما قتل عمر ذلك المنافق، وكان ظاهره الإِسلام ووقع شبهة على من لم يتصوَّر حاله، بيَّن تعالى جواز قتله بألطف حجة، دل عليه بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، وبيانه أن خصوصية الرسول عليه الصلاة والسلام طاعته فيما يحكم به، تنبيهًا أن من لم يطعة لم يؤمن به، وهذا المقتول لم يطعه. فإذًا لم يؤمن به، ومن لم يؤمن برسوله من غير مانع فمستحقّ للقتل. فإذًا هذا المنافق

(65)

مستحق للقتل. إن قيل: لِمَ قال (جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) ولم يقل: فاستغفرت؟ قيل: تنبيهًا على مقتضى فضيلة الرسالة، وأن بفضيلتها يستحق قبول شفاعته وموقع استغفاره. قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) المشاجرة: المنازعة، وأصله من اختلاط الأشجار. وشَجَر بيته رفعه بالشجر، والشِّجار اسم ما يرفع به من الشجر. ومصدر شَاجَره أي نازعه، والتشاجُر يكون بالأبدان بالحرب وباللسان في القول. والحرج: الضيق، وأصله الحرجة الملتفة

من الأشجار، وسأل عمر رضي الله عنه أعرابيًّا عن الحرج. فقال: هو أن يلتف الشجر ويناشب فلا يصل إليه شيء. قال: فكذلك قلب الكافر محظور عليه الإِيمان، ممتنع امتناع هذه الحرجة. وقوله: (لَا) في أول الكلام هو ردّ لزعمهم: أنا آمنا. فقال: لا، أي ما آمنوا، ولفظة: لا، قد ينفى به الفعل الماضي إذا لم يذكر معه الفعل، كقوله: أخرجتَ؟ فتقول: لا. ويجوز أن يكون نفيًا للثاني، لكن حذف معه الفعل اكتفاء بما ذكر من بعده، وعلى الوجهين قول الشاعر: لا وأبيك أبنت العامري. . . لا يدعي القوم أني أفِرُّ

والآية من تمام القصة المتقدّمة، وقول من قال: نزل في حاطب ابن أبي بلتعة حيث اختصم مع الزبير بن العوام في سبب

الماء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فحكم للزبير. فسخط حاطب، فإنه يجوز أن شأن نزوله هذه الحال، ويجوز

أن يكون قد نزل فيهما، وبيَّن تعالى أن التوقُّف في إلزام حكمك فيما وقع بينهم من المشاجرة هو مخرج لهم عن الإِيمان، وإنما يكون حصول الإِيمان الحقيقي بعد أن لا يروا ضيق صدر في جميع ما تحكم به، (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا): أي يسلمون ظواهرهم وبواطنهم، والتسليم منّا هو الإِسلام المأمور به في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)،

(66)

وهو المسئول في قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا). قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) نبّه تعالى على عقيدتهم ووهن إيمانهم. وأن المؤمن في الحقيقة من يسلِّم تسليمًا كما تقدّم ذكره. وبين أن هؤلاء لم يؤمنوا، بعد، بحيث لو أوجب عليهم قتل أنفسهم أو الإِخلال بدورهم لكان أكثرهم ممتنعين، ثم أخبر أنهم لو قبلوا الموعظة لكان ذلك خيرًا لهم وأشدّ تثبيتًا، أي أشد لتحصيل عملهم ونفي جهلهم، وقيل: أثبت لأعمالهم واجتناء ثمرة فعالهم، وأن يكونوا بخلاف من قيل فيهم:

(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) ورُوِيَ أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قالوا: لو أن ربنا تعالى فعل لفعلنا، فالحمد لله الذي عافانا فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك منهم حقٌّ فقال: "والذي نفس محمد بيده للإيمان أثبت في قلوب المؤمنين من الجبال الرواسي "، ورُوِيَ أنه أشار إلى عبد الله بن رواحة، وقال: "إنه من القليل ". ورُوِيَ أنه

(67)

قال: "إن ثابت بن قيس من القليل الذي استثنى الله تعالى". قوله عز وجل: (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) بيّن أنهم لو قبلوا الموعظة لجمع لهم بين خير الدنيا والآخرة، وذلك هو المعني بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) والصراط المستقيم الذي وعدهم هو الذي حرضَ على سؤاله في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). وإنما قال: (مِنْ لَدُنَّا) لأنه تعالى لا يكاد ينسب إلى نفسه من النعم إلا ما كان أجلَّها قدرًا وأعظمها خطرًا، نحو: وروحنا. قوله عز وجل: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)

أصل الرفق: التفكُّر في الأمر والتثبُّت، ويضاده الخرق. وقيل ذلك للمعاونة، ومنه الِمرفق والمَرفق، والرفقة للجماعة المعاونة في السفر، والرفيق كالصديق، ويقالان للواحد والجمع. والفرق بين الرسول والنبيّ أن الرسول أخصّ. فكل رسول نبي وليس كل نبيّ رسولاً. فإنّ الرسول يختص بمن جعله واسطة بينه وبين عباده لتبيين أحكامٍ بوحيٍ مسموع عن مَلَكٍ. والنبيّ قد يقال لمن يجدد علىْ الناس شريعة من تقدمّه وإن كان يوحى إليه بإلهام أو منام. وأخصّ من الرسول أولو العزم من الرسل. وقد تقدّم ذكر ذلك،

وقد قسّم الله تعالى المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام. وجعل لهم أربعة منازل، بعضها دون بعض، وحثّ كافة الناس أن لا يتأخروا عن منزل واحد منهم: الأوّل: هم الأنبياء: الذين تمدهم قوة إلهية. ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من قريب. ولذلك قال تعالى في صفة نبينا عليه الصلاة والسلام: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى). والثاني: الصديقون: وهم الذين يتاخمون الأنبياء في المعرفة. ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من بعيد. وإياه عنى أمير المؤمنين حيث قيل: هل رأيت الله؟ فقال: ما كنت لأعبد شيئًا لم أره، ثم قال: لم تره العيون بشواهد العيان. ولكن رأته القلوب بحقائق الإِيمان. والثالث: الشهداء: وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب، كحال حارثة، حيث قال: كأني

أرى عرش ربي. وإياه قصد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "اعبد الله كأنك تراه ". والرابع: الصالحون: وهم الذين يعلمون الشيء بإقناعات وتقليدات للراسخين في العلم، ومثلهم كمن يرى

الشيء من بعيد في مرآة، وإياه قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". أي كن من الشهداء بما تكتسبه من العلم والعمل الصالح. فإن لم تكن منهم فكن من الصالحين. وتقدير الآية على وجهين: أحدهما: من أطاع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين يقدمهم ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب. النبي بالنبي والصديق بالصديق، والشّهيد بالشّهيد والصّالح بالصالح،. والثاني: أن قوله: (مِنَ النَّبِيِّينَ) يتعلق بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ)، وقوله: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) إشارة إلى الملأ الأعلى، ثم قال: (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) ويبين ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام في حين الموت: "اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى"، وهذا

ظاهر، وهذه الآية كأنها مردودة إلى ما تقدّم من قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فلما تمّم القصة بيّن ما لمطيعهم من الثواب بهذه الآية، ورُوِي أن رجلًا من الأنصار جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كئيبًا، فقال: يا رسول الله نحن نغدو عليك ونروح ننظر في وجهك ونجالسك، وغدًا ترفع إلى النبيين فلا نصل إليك. فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه جبريل عليه السلام بهذه الآية.

قوله عز وجل: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا). لما كانت نعم الله تعالى ضربين: دنيويًّا ولا يصل إلينا من الله إلا بواسطة، أو وسائط كالمال والجاه وغير ذلك. وأخرويًّا يصل إلينا - لا بواسطة، بين الله تعالى أن ذلك الفضل الذي ذكره بقوله: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) هو من الله علِي الإِطلاق، فنُسبَ إلى نفسه تفخيمًا لأمره، كما قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) ونحو ذلك، فخبر الابتداء على هذا هو (مِنَ اللَّهِ)، ويجوز أن يكون مبتدأ، و (الْفَضْلُ) خبره، كقولك: ذاك هو الرجل،، وهذا هو المال، تنبيهًا على كماله، فإن الشيء إذا عظم أمره يوصف باسم جنسه، كقوله: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ). ويكون قوله: (مِنَ اللَّهِ) في موضع الحال، أو خبر ابتداء مضمر، ثم قال:

(71)

(وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) تنبيهًا أنه هو أعرف بمقادير الفضل، وقد حكم بأن الفضل المعتد به هو ذاك. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) حذركم: قيل: معناه أسلحتكم، وقيل: معناه احذروا. والثبة للجماعة المنفردة، قال الشاعر: وقد أعْدو على ثبةٍ كرام.

ومنه ثبت على فلان إذا ذكرت متفرق محاسنه، وتصغر ثُبة على ثُبَيَّة، وتجمع على ثُبات وثُبين، وأما ثُبة الحوض فوسطه الذي يثوب إليه الماء. وأصل النفر: الانزعاج، وذلك على ضربين: انزعاج عن الشيء، وانزعاج إليه، وعلى ذلك الفزع: فزع عن الشيء، وفزع إليه. قال: إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم. والنفر: للجماعة الذين ينفرون إلى حرب، والمنافرة في

الحكم أصله أن يتحاكم اثنان - أيهما أفضل نفرًا. قال ابن عباس: هذه الآية نسخها قوله تعالى ة (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) وإنما عنى بذلك التخصيص والتنبيه أن ليس يلزم النفر جماعتهم، ونحو ذلك قوله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) الآية، أنها في الحرب وفي الحقيقة فيها وفي المبادرة إلى جميع ثواب الله. وقوله: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) نحو (وَاتَّقُوا اللَّهَ). وقوله: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)، (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ). ونحو قوله: (فَانْفِرُوا)، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

(72)

وفي قوله: (ثبُاتٍ) أو (جَمِيعًا) تنبيه أنه لا يجب أن يعتبر طالب الحق كثرة مصاحبيه وقلتهمِ، نحو قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) البطء والريث والأناة والثبات واللبث تتقارب،، ولكن الثبات يقتضي الزوال، ويقالان متعديين عن بطء تقول يبطئن أي يثبط غيره. وقيل: يكثر هو التثبيط في نفسه. بيّن تعالى أن قوما بعد فيكم ومنكم أي يتأخرون عن الحرب أو يؤخرون غيرهم، فإن أصابكم جهد وبلاء من الدنيا يُسرّون بتأخرهم عنكم، ويريدون أن ذلك نعمة نالتهم، تنبيهًا أنهم لا يعدون النعمة إلا من أعراض الدنيا،

(وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ) أي غنيمة وظفر يتحسرون على تأخرهم عنكم ويحسدونكم على الفضل الذي أوتيتم. وفي قوله: (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أقوال: الأول: أن يكون حكاية عنهم، أي ليقولن لمن يثبطكم: كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة، حيث لم يستعينوا بكم، ثم يقولون: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) فيكون القول الأول منهم إثارة للشر. والقول الثاني منهم إظهارًا للحسد. والثاني: أن ذلك اعتراض متعلق بالجملة الأولى، وتقديره يقولون: قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدًا، كأن لم تكن بينكم وبينهم مودة، فأخّر ذلك، وذلك مستقبح في العربية،

فإنه لا يفصل بين بعض الجملة التي دخل في إثباتها، وتقديره: يقول: يا ليتني كنت معهم فأفوزَ فوزَا عظيمَا كأن لم تكن، أي قولهم ذلك قول من ليس بينكم وبينهم مواصلة دينية. وذلك تنبيه على ضعف عقيدتهم، وسوء نيتهم. وقيل في قوله: (قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ) مِنَّة منه على قومه من المنافقين. إذ يثبطهم عن الخروج، وإنه قد ظهر ثمرة نصيحته في قوله: (يَا لَيْتَنِي) إيهام للذين قالوا لهم: إن ذلك كان بإيثار الرسول لمن أخرجهم من دونه، وفي الآيتين تنبيه أن عامة الناس لا يعدّون إلا أعراض الدنيا، فيفرحون بما ينالهم منها، ولا من المحن إلا مصائبها. فيتألمون بما يصيبهم منها، وذلك قوله: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الآية.

(74)

قوله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) الذين يشرون: أي يبيعون وهو المعني بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) وقوله: (الَّذِينَ) هو فاعل (يُقتِل)، والمفعول محدْوف. وقيل قوله: (فَلْيُقَاتِلْ) أمر لمن يُبَطّئ وهم الذين يشرون. ومعناه يشترون، فحثوا على ترك ما حكي عنهم في الآية المتقدمة. وأن يجاهدوا في سبيل الله،

(75)

فإن قيل: لِمَ لَمْ يقتصر على قوله: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بل عقبه بقوله: (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ)؟ قيل: تنبيهًا أن من تحرّى القتال سواء قَتل أو قُتل، غَلب أوغُلب فقد وقع أجره على الله، وتقدير الكلام: يقتل أو يُقتل أو يغِلب، لئلا يتوهم السامع أن التزام الغلبة والبَراح من المعركة في كل حال سائغ. ألا ترى أنه قد عظم التولي عن القتال بقوله: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية، ومنهم من جعل المقاتلة في سبيله مجاهدة للنفس، نحو ما رُوِيَ عنه عليه الصلاة والسلام: "جاهدوا أهواءكم ". وجعل سبيل الله هو المذكور في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ). والأجر العظيم ثواب الآخرة، ووصفه بالعظيم اعتبارا بعرض الدنيا. كما وصف الثمن بالقليل. قوله عز وجل: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)

قال ابن عباس: القرية الظالم أهلها: مكة. وقال: كنت من الولدان، وإني كنت من المستضعفين فيها. فإن قيل: ما الفرق بين المولى والنصير؟ قيل: المولى هو الذي يتولى حفظ الشيء في كل حال. والنصير هو الذي. ينصره إذا حزبه أمر، فكان الولي هو النصير في كل حال، والنصير هو المولى حال دون حال. ومن هذا الوجه قال بعض المفسرين: أريد بالولي النبي وبالنصير الملائكة، وقال بعضهم: جعل الله وليَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم -

(76)

ونصيرهم التابع الذي ولَّاه عليهم، ونبه بعطف المستضعفين على أن الحماية عليهم هو المقاتلة في سبيل الله، وأنّ نصرتهم نصرته تعالى، وعطف قوله: (الْمُسْتَضْعَفِينَ) على الله تعالى تعظيمًا، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)، فعطف (وَالْأَرْحَامَ) على لفظ (اللَّه) تعظيمًا لأمره. قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) المقاتل في سبيل الله يتناول المحارب بالسيف والمدافع عن الدين بالقول، والمنازع لهوى النفس ولوساوس الشيطان،

وقد تقدّم أن الطاغوت عام في كل ما شغل عن الله. والمراد به وبالشيطان واحد، ونبّه أن من قاتل في سبيل الله فهو وليّه. ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو ولي الشيطان. ونبه بقوله (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) على ضعف أوليائه، ووصف كيده بالضعف إذ لا بطش له. وإنما سلطانه بيّن باطل، ولضعفه في الحقيقة قال تعالى حاكيا عنه: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) الآية. قال بعض المفسرين: وصف كيد الشيطان بالضعف عند مقاتلة الإِنسان في سبيل الله، فكأنه قيل: إن كيد الشيطان كان ضعيفًا على

(77)

من يقاتل في سبيل الله، وقال بعضهم: وصف كيد الشيطان بالضعف لضعف نصرة أوليائه بالإضافة إلى نصرة الله المؤمنين. وقال بعضهم: الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت هم الذين ينكرون ما تدعو إليه الحُجَج. قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) رُوِيَ أن قومًا استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتال المشركين قبل أن فرض عليهم القتال، فلم ياذن الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما فرض ذلك عليهم وهم بالمدينة صعُب على قوم منهم ذلك،

فقالوا: (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي: هلَّا؟ وهذا يجوز أن يكون قد تفوَّهوا به، ويجوز أنهم اعتقدوه: وقالوه في أنفسهم، فحكى الله تعالى عنهم تنبيهًا أنهم لما استصعبوا ذلك دلّ على استصعابهم أنهم غير واثقين بأحوالهم ولا مقدمين لما يعتقدونه من حسن أعمالهم، ومن نحو هذا التمنِّي حذّر في قوله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ). قال الحسن: هذا من صفة المؤمنين وما طُبعَ

(78)

عليه البشر من المخافة لا على إظهار العصيان وكراهة الحق. وقال غيره: بل هو من صفة المنافقين، الحُرَّاص على البقاء في الدنيا، وبيّن أنهم يخشون القتل منهم كخشية الموت من الله. وفيه تنبيه على جبنهم، وأنهم يخشون جيشهم الذين هم أمثالهم. وذلك نهاية الخوف، وعلى هذا دلّ الشاعر في ذمّ قومٍ وجبنهم حيث قال: القوم أمثالكم لهم شعرء. . . في الرأس لا يُنشرون إن قتلوا قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)

البروج: بيوت في قصور، وبها شُبِّه بروج السماء، وسُميت بها. والمُشيَّدة المبنيّة بالشِّيد والمزينة بها، ومن قال المشيدة المطولة فنظر منه إلى صفتها لا إلى حقيقة لفظها. وفقهت كذا أي علمته بالتفكُّر، ومنه سمّي الفقه. وقد حمل البروج في الآية على

القصور، فيكون معناه كقول الأسود بن يعفر: ولو كنت في غُمران يحرسُ بَابَه. . . أَرَاجيلُ أُحْبوشٌ وَأسْوَدُ ألِفُ إذًا لأتتني حيث كنت منيتي. . . يَخُبُّ به حَادٍ لإِثري قَائف وحمل على بروج السماء، فيكون كقول زهير: ومن هاب أسباب المنية يلقها. . . ولو نال أسباب السماءبسلَّم فعلى هذا وصف البروج بالمشيّدة على طريق التشبيه، ولاعتبار

ذلك فُسِّرتْ بالمطوّلة، والقصد بذلك إلى نحو ما قيل: والموت ختم في رقاب العباد، وإلى نحو معناه قصد بقوله: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ). وقوله: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا). أي لا يفهمون ما يوعظون به. وقيل: عنى بالحديث الحادثة من صروف الزمان. والمعنى ما لهم لا يتدبرون ما يحدث حالاً فحالاً من صروف الزمن. كقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية. قد طعن في ذلك قوم من الملحدة، وزعموا أن الآيتين متناقضتان. قالوا: ويدل على تناقضهما على وهم مُوردها ونسيانه في الوقت

ما قد سبق من كلامه، وإلا فأي ذي مسكة من العقل يقول: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، ثم يقول منكرًا على ما قال ذلك (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فيثبت ما قد نفاه. وينقض ما قد بناه، هذا من طعن الملحدة، فأما أهل الشرع فقد تعلق بالآية الأولى الفرقة التي لقبها المعتزلة بالجبر. فقالوا: إن قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) عام يدل على أن الأفعال الظاهرة من العباد هي من الله، وتأولوا قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يقتضي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله تعالى بوجهٍ، وجعلوا الحسنة والسيئة في الآية الأولى بمعنى

الخصْب والجدب والفقر والغنى، فأما طعْن الملاحدة فظاهر الوهن، وذلك أن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة:

كالحيوان الذي يقع على الإِنسان والفرس والحمار، أو من الأسماء المختلفة كالعين، ولو أن قائلًا قال: الحيوان متكلم. والحيوان غير متكلم، وأراد بالأول الإِنسان، وبالثاني الفرس والحمار - لم يكن مناقضًا، وكذا إذا قيل: العين في الوجه. والعين ليست في الوجه، وأراد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين الميزان أو السحاب، فكذلك الآية إذا أريد بالحسنة والسيئة في الآية الثانية غير الذي أريد بهما في الآية الأولى، وفي هذا قناعة لإِبطال هزيل هذا المعترض، ثم إذا تُؤمِّل مورد الكلام. وسبب نزول الآية بأن ألا تعلّق لأحد الفريقين بالآية على وجه يثلج صدرًا أو يزيل شكًّا، وسبب نزول ذلك أن قومًا أسلموا ذريعة إلى غنى ينالونه، وخصب يجدونه، وظفر يحصِّلونه، فكان إذا ناب أحدهم نائبة أو فاته محبوب، أو ناله مكروه أضاف سَيئُه إلى النبي عليه الصلاة والسلام متطيرًا به، فقال تعالى: (تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي خصب وسعة (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ)

أي جدب وفقر، لقالوا بك ونسبوها إليك. الحسنةِ والسيئة هاهنا هما المذكورتان في قوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وفي قوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ). ونحو هذه الآية قوله في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ)،

وفي قوله في صالح: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ). إن قيل: ما الفرق بين قولك: هذا من عند الله، وهذا من الله. حتى قال في الأول: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). وقال في الثاني: (فَمِنَ اللَّهِ)؟ قيل: قد قال بعضهم: إن قوله هذا من عند الله أعم. فإنه قد يقال: فيما كان برضاه وبسخطه وفيما يحصل. وقد أمر به ونهى عنه، ولا يقال: هو من الله إلا ما كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر: إن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن الشيطان، ثم ذكر تعالى ما يصيب الإِنسان من ثواب وعقاب ومحابّ ومكاره، مما في سببه صنع بشر، فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ). وعنى بالنفس المذكورة هاهنا المذكورة في قوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ). ومقتضى الآية كقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ).

وكقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وعلى هذا فسَّر ابن عباس فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ): يوم بدر (فَمِنَ اللَّهِ)، (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ): يوم حنين (فَمِنْ نَفْسِكَ). إن قيل: كيف سمَّى العقاب سيئة، ومعلوم أنه في الحقيقة ليس بسيئة؟ قيل: إن ذلك كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) وقد تقدم مثل ذلك. إن قيل: إذا كان معنى الآية الثانية على

ما ذكرت في أنه أريد به الثواب والعقاب فهلّا قال: ما أصابك من حسنة وسيئة فمن نفسك، إذا كان مقتضى ثوابه وعقابه فعل العبد؟ قيل: إنما نسب الله تعالى الحسنة إلى نفسه في الثواب. تنبيهًا أنه سبب الخيرات، ولولاه لما حصل بوجه، فإنه يكسبه للعبد بإرادة من الله وأمر وحثّ وتوفيقٍ، وأما السيئة وإن كانت بإرادة من الله عند قوم فليست بأمر منه ولا حث ولا توفيق، ومع ذلك أدّب بذكر ذلك عباده، ليراعوا فيما ينالهم نعمته عليهم. وينسبوا الحسنات إليه، ويعلموا أنه سبب كل خيرات، وأنه لولاه لما حصل منها شيء، وعلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله ". قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا". وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تخش إلا ذنبك، ولا ترج إلا ربّك "، إن قيل: ما الفرق بين الحسن

والحسنة والحسنى، والسيئ والسيئة والسوءى؟ قيل: الحسن والحسنة يقالان في الأعيان والأحداث. ولكن الحسنة إذا استعملت اسمًا فمتعارف في الأحداث دون الأعيان. والحسنى لا تقال إلا في الأحداث، ومتى قيل: رجل سيِّئ فإنما يعني به المسيء. إن قيل: كيف قوبل الحسنة بالسيئة، وحقُّها أن تقابل بما يقتضي معنى المسرة كما قال: مساءة ومسّرة، وساءه وسّره، ولا يقال في مقابلة ساء شيء من لفظ حسن؟ قيل: الحسن لفظ عام كما تقدم، والحسنة والحسنى المقابل بهما السيئة والسُّوءى مخصوصان في الأفعال ولما كان كل فعل حسن يسّر صاحبه، وكلّ فعل قبيح يسوء صاحبه، صار القبح والسوء في الأفعال متلازمين فيصح أن يُقال: الحسنة بالسيئة. إن قيل: من المخاطب في قوله: (مَا أَصَابَكَ)؟

قيل: قال بعضهم: هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومعناه للقوم الذين يبكتهم. وفي هذا النوع من الخطاب ضرب من التعريض، ولأجل قصد التعريض في نحوه. قيل: إياك أعني واسمعي يا جارة. ويدلّ على كونه خطابًا له قوله من بعده: (وَأَرْسَلْنَاكَ). وقيل: هو خطاب لكل إنسان، وذلك نحو قول القائل: أيها الإِنسان وكلكم ذلك الإنسان. وقال ابن بحر: هو خطاب للفريق المذكور في قوله: (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ) قال: ولما كان لفظ الفريق والحي والجند مفردًا صحَّ أن يخاطب

ويخبر عنه بلفظ الواحدة تارة وبلفظ الجمع تارة، كلفظ كل ونحوه من الألفاظ، وعلى هذا قول الشاعر: تفرق أهلانا بُثَيْن فمنهم. . . فريق أقام واستقلَّ فريق وكل هذا كلام في مقتضى حكم اللفظ، فأما من حيث المعنى فالناس خاصهم وعامهم مراد بقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) إن قيل: ما وجه قوله: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) بعد ذلك الكلام؟ قيل: لما كان قوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) إنذازا لهم، نبه بذلك أنه قد أزاح عللهم به، وأنهم متى عصوا فلا حجة لهم، إشارة إلى قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي يشهد تعالى ما يفعله

(80)

ويفعلونه، ويشهد يوم القيامة، وكفى به مشاهدًا وشاهدًا. قوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) نبّه بذلك على حجة ظاهرة في وجوب طاعة نبيه. وبيانه أنه إذا كان طاعة الله واجبة، وطاعته لا تتم إلا بطاعته. لأن عامة أوامره لا سبيل إلى الوقوف عليها إلا من جهته. وما لا يتم الواجب إلا به فواجب كوجوبه، اقتضى ذلك أن من أطاع رسول الله فقد أطاعه، فنبّه بذلك على مقابله. وهو أن من عصى رسوله فقد عصى الله، وكالأمر بطاعة الله ورسوله الأمر بالإِيمان بهما في نحو قوله:

(81)

(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، فكذلك الأمر باستجابته في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ). ثم قال: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) حثَّا على إبلاع ما ندب إليه من المأمور به في قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وتنبيهًا أن ليس يعود عليك مضرة ما يفعلونه في أنفسهم. المدلول عليه بقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). وقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ). قوله عز وجل: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) المعني بقوله: (وَيَقُولُونَ)

الذين يخشون الناس، وقد تقدّم أِن ذلك قيل من صفة المنافقين. وقيل من صفة الناس كافة. والتبييت: كل فعل أو قول دُبِّر بالليل. ولأجله قيل: دع الرأي تَبِتْ، قال الشاعر: أتوني فلم أرض ما بيّتوا. . . وكانوا أتوني بأمر نُكُرْ وقيل: اشتقاقه من بيت الشعر، أو البيت المبني، وهو الذي سوى من القول أو الفعل تسوية بيت شَعرٍ أو بيت شِعرٍ.

ونحو قوله: (بَيَّتَ طَائِفَةٌ) قوله: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ). قال الكلبي: التبييت في لغة طيّ: التبديلُ. ومعنى الآية أنهم يبذلون من أنفسهم الطاعة قولاً. فإذا خرجوا من عنده عليه الصلاة والسلام دبروا أن يفعلوا خلاف ما قالوا، (والله يكتب ما يُبتتون)، أي يعلمه ويحفظه) فيجازيهم به،

(82)

والكتابة هاهنا كالاستنساخ في قوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، ونسب ذلك إلى نفسه هنا، وإلى ملائكته في قوله: (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)، وفي قوله: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ). وقد تقدَّم أنه تعالى قد ينسب فعل أوليائه إلى نفسه تنبيهًا على ارتضائه، وكونه آمراً نحو قوله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ). وقوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا). وقوله: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، ثم أمره بالتوكل عليه، وقد تقدم أن من التوكل ملازمة أوامره والانتهاء عن نواهيه، وأن لا يرْجى ولا يخاف سواه، ونحو قوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، قوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). قوله عز وجل: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)

التدبير: النظر في دُبُر الأمور وتأملها، وقد يقال ذلك في تأمل الشيء بعد حصوله ومعرفة خيره من شره، وصلاحه من فساده، كقولك: تدبرت ما فعل فلان فوجدته سديدًا، وأصل التدبر من الدَّبر، ومنه الدّبور. والدَّبر: المال الكثير الذي يخلفه الإِنسان ويجعله عدة: إما لنفسه في مستأنف عمره، أو لعقبه. إن قيل: كيف قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وما من كلام لعل فيه من الاختلاف ما في القرآن، فما من آية إلا وقد اختلف فيها الناس؟ قيل: لم يعن بالاختلاف ما يرجع إلى أحوال المختلفين، لاختلاف تصورهم لمعناه، أو اختلاف نظرتهم، ولا الاختلاف الذي يرجع إلى تباين الألفاظ والمعنى والإِيجاز والبسط، وإنما قصد إلى معنى التناقض، وهو إثبات ما نفى أو نفي ما أثبت، نحو أن يقال: زيد خارج، زيد ليس بخارج. والمخبر عنه والخبر والزمان والمكان فيهما واحد.

ادعت الملحدة - لعنهم الله - فيه التناقض، من نحو قوله: (لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ). فذلك خبران قد اختلفا، إما في الزمان أو في المكان أو في المخبر عنه، أو في الخبر، وهذا ظاهر. وقيل: معنى قوله: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) أنّ للإِنسان هاديين: الشرع والعقل. كالأصل للشرع، فبيّن تعالى أن الذي أتاكم به من الشرع لو كان من عند غير الله لكان مقتضى العقل يخالفه، فلمّا لم يوجد بينه وبين العقل منافاة عُلم أنه من عند الله،

فإن قيل: فقد ورد في الشرع أشياء يقتضي العقل خلافها؟ قيل: كلا، فإن جميع ما ورد به الشرع لا ينفك من وجهين. إما شيء يحكم به العقل لكونه حسنًا، مثل استعمال إله في الجملة. وعبادة الرّب، أو يكون غير مهتد إلى معرفته لا أنه يستقبحه، فيُبين - الشرع حسنه، وذلك كأعداد الصلوات وهيئاتها وأركانها، في كونها عبادة على وجه دون وجه، وإما أن يأتي الشرع بشيء قد قضى العقل بكونه قبيحًا فليس ذلك بموجود، وبعض الناس تصور أشياء ينفر الطبع منها لعادات جارية، أو اعتقادات فاسدة. ولم يفرِّقوا بينه وبين حكم العقل، فظنوا أن العقل حكم بضد الشرع، كذبح البهائم. إن قيل: ما وجه تعلُق هذه الآية بما تقدّم؟ قيل،: لمّا ذكر فيما تقدّم أحوال الذين يتحاكمون إلى الطاغوت، ويتركون كتاب الله ورسوله، ويقاتلون في سبيل الطاغوت، وذكر الذين يخشون الناس ومقالهم فيما نالهم من حسنة أو سيئة. ومخالفتهم في الطاعة، وكان كل ذلك منهم - لقلة تأمّلهم كتاب الله، وتقديرهم أن ما أمروا به في ثاني الحال من القتال مناقض لما أمر به قبل، من كفّ اليد وغير ذلك، بما يختلف لاختلاف الأحوال، نبههم تعالى في هذه الآية أن كل ذلك لقلة تدبرهم،

(83)

وأنهم لو تدبّروا لعلموا أن ذلك حق نزل عليهم من الله، كما قال: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ). قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83). الاستنباط: استخراج الشيء من أصله، كاستنباط الماء من البئر، والجوهر من المعدن، وذلك كالإِثارة في إخراج التراب. واستعير للحديث، قال الشاعر: . . . يكفيك أثرى القول واستنباطي قال الفرّاء: يقال نبطه، قال: ومنه النبط لاستنباطهم

الأرض عمارتها، والذين يستنبطونه منهم، قيل: هم أولو الأمر الذين لهم معرفة استنباطه، فيكون ذلك حثا على ترك من لا يعلم لمن يعلم ليستنبط هو بمعرفته، فإذا عرف عرفهم ما يجب تعريفه، وقيل: عنى بالذين يستنبطونه الذين يبينونه. ويكون ذلك نهيًا لهم عن الاستنباط بالتخمين والنظر، وحثًّا على رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، وقد تقدم الكلام آنفًا في أولي الأمر منهم، وقيل: سبب ذلك أن قومًا كانوا إذا

سمعوا من أفعال المؤمنين أو الكافرين ما فيه أمن أو خوف بادروا إلى إشاعته، قبل أن يتحققوا معناه. قال الفرّاء في سرايا النبي عليه الصلاة والسلام: وأنه كان إذا نفذ سرية بحث المنافقون عنها، فأشاعوا حديثها. قال الحسن: قد كان يفعل ذلك ضعفاء المسلمين، ويقولون أقوالاً تخمينًا، فنهوا عن ذلك، والآية تقتضي أن لا يقدم الإِنسان على ما لا يتحقق جواز الإِقدام عليه، ولا يقول إلا عن بصيرة، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الآية، وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)، اختلف في قوله: (إِلَّا قَلِيلًا) عمّا استثنى، وذلك لاختلاف تصوُّرهم لمعنى الفضل، فالأول عن الحسن

وقتادة تقديره:، يستنبطونه منهم إلا قليلًا. الرابع: لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا منكم. الخامس: لاتبعتم الشيطان إلا اتباعًا قليلًا. إن قيل: كيف القول الرابع والخامس، وقد علمنا أنه لولا فضله لاتبع الشيطان، بل ماكانوا يوحدّون، فضلًا عن أن يضلوا، فإنا لو تصوَّرنا فضله مرتفعًا لارتفع وجود الناس. بل وجود العالم؟ قيل: إذا جرى الفضل على العموم فهو كما يقول، ومنِ أجله تحاشى من امتنع من أن يكون ذلك استثناء من قوله (لَاتَّبَعْتُمُ) فأما إذا جعلت فضله خاصا في هذا الموضع

(84)

فمعناه صحيح، وبيان ذلك أن فضل الله وإن كان لا تُحصى تفصيلاته، فالذي به هدانا إلى البلوغ إلى ثوابه فضلان: فضل العقل وفضل الشرع، وعنى هاهنا بالفضل الشرع دون العقل. وبيّن أنه لولا ما أنعم به على الناس من رسوله وكتابه لما اهتدى من خلائقه بالعقل المجرد إلا قليلٌ من الناس، والقليل الذين لم يكونوا يتّبعون الشيطان لولا فضل الله، هم الحكماء والأولياء، الذين تتلو منزلتهم منزلة الأنبياء عليهم السلام. وهذا ظاهر. قوله عز وجل: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)

التنكيل: مصدر نكلت به، والنكال العقوبة التي تنكل المعاقب وغير المعاقب عن إتيان مثله، وأصله من النكل، وهو ضرب من القيد، ومنه نكل عن الشيء. إن قيل: كيف قال: (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكلّف الناس؟ قيل: لم يعنِ التكليف الاستدعاء الذي رشح له، ألا ترى أنه قال (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية تقتضي أن على الإنسان أن لا يني في نصرة الحق وإن تفرد، يعد أن لا يني في فعله. وروي أن أبا بكر رضي الله عنه قال: "لو خالفتني يميني جاهدتها بشمالي" وتلا هذه الآية. وقال بعض الحكماء: من

طلب رفيقًا في سلوك طريق الحق فلقِلة يقينه، وسوء معرفته. فالمحقق للسعادة والعارف بالطريق إليها لا يفرح على رفيق ولا يبالي بطولِ طريق، فمن خطب الحسناء لم يغلها مهر. والفاء في قوله: (فَقَاتِلْ) قال الزجاج: هو جواب لقوله: (وَمَن يُقتل)، ووجه ذلك أنه محمول على المعنى كأنه قال: إن أردت الفوز بذلك فقاتل، وقال بعضهم: هو متصل بقوله: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). وقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كن راجيا في دفع أذاهم،

(85)

وقول المفسرين: عسى من الله واجب، أي الكريم إذا رُجِي حقّق، وقوله: (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا) تنبيه أنك لا تحتاج أن تقصر عن قتالهم، فالله معك، وهو أشد بأسًا من عداك، فلا يجب أن يَنكادك من تاخر عنك. قوله عز وجل: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) الشفاعة: من الشفع أي ضم الشيء إلى غيره. وضد قولهم شفعه: أفرده، ولهذا قال الشاعر: ومن يفرد الإِخوان فيما ينوبهم. . . تصبه الليالي مرة وهو مفرد

والشفعة متعارفة في ضم ملك بِيعَ إلى ملكك، والشفاعة في انضمام إنسان إلى آخر فيما يطلبه، والشفاعة المذكورة. في نحو قوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) هي في الآخرة معروفة وأما في الدنيا فبأن يهدي الإِنسان غيره، فمن هدى غيره إلى طريق خير فقد شفع له. وأصل الكِفل الكَفل، فجعل اسمًا لمركبٍ من خِرَقٍ وكساءٍ يوضع على الكِفْل، وقد يسمَّى ما يُكْسى العضو باسمه، كقولهم: يد القميص وبدنُه، ورجل السراويل، والساقُ والساعدُ لما يُلْبِسُ هذين العضوين، ثم استعير الكفل تارة

إن نبا ركوبه تشبيها بذلك المركب. قال الشاعر: غير مِيلٍ ولاعواوين في الهَيـ. . . جا ولا عُزَّل ولا أكْفَالِ ثم سُمي الفاجر في أي أمر كان كفلا، ولما كان ذلك الكفل يجعل على قدر الكفل تصور فيه المماثلة، فقيل للمثل في العدد كفل. فإن قيل: فلم فرق بينهما فقال في الحسنة: (نَصِيبٌ)، وفي السيئة (كِفلٌ)؟ قيل: يجوز أنه لما كان النصيب يقال فيما

يقل ويكثر، والكفل لا يقال إلا في المثل جاء في السيئة بلفظ الكفل تنبيهًا على معنى المماثلة، وإشارة إلى ما قال: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا). وقد قيل: الكفل المذكور هاهنا أكثر ما يقال في الشيء الرديء، فنبّه بلفظه على ذلك تنبيهًا على قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا). فإن قيل: فقد قال (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، وليس ذلك بمذموم؟ قيل: إنه عنى بالكفلين هاهنا أي له كفيلان من رحمته يتكفلان به من العذاب،

فيضَارع اللفظان، والمعنيان مختلفان، ولما حث الله تعالى في الآية المتقدمة على تكلُّف ما أمر وتحريض المؤمنين، ورجاء الظفر بالكفار، بين هاهنا أن من أعان غيره في فعل حسن فله نصيب في ثوابه، وإن أعانه في فعل سيئ فله كفل منه، وذلك عبارة عمّا بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من سنَّ سُنَّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" الخبر. وقال بعضهم: القصد بذلك أن من يدعو لغيره دعاءً حسنًا فله فيه نصيب، ومن فعل بخلاف ذلك فكذلك. قال: والسبب في هذا أن اليهود والمنافقين كانوا إذا دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: السام عليكم، يوهمون أنهم يقولون:

السلام عليكم، فأنزل الله ذلك، واستدل قائل هذا بقوله تعالى بعد ذلك: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا). وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) قال السدي: المقيت: المقتدر، وأنشد الكسائي فيه:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكنت على مساءته مقيتا وقال ابن عباس: الحفيظ، وقوّاه الرجّاج. وقال مجاهد: الشهيد، ورُوِيَ عنه: الحسيب،

وقال الضحاك: الرازق. وقال غيرهم: المجازي، وحقيقته الذي يجعل للإِنسان قوتًا. وفي الحديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت " - ويقيت - كأن الله تعالى يجعل لكل إنسان قوتا من الجزاء بقدر فعله، ويجعل له في الدنيا والآخرة قدر ما يستوجبه. وما قالوه فصحيح من حيث المقصد، لأن ما قدّره الله تعالى للعبد فقد حفظه وشهده. ورُوِيَ أن رجلًا سأل عبد الله بن رواحة عن المقيت؟ فقال: يقيت كل إنسان بقدر علمه.

(86)

كأنه إشارة إلى ما قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله يحاسب عباده بقدر عقولهم ". قوله عز وجل: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) التحية: من قولهم حيَّا الله فلانًا، أي جعل له حياة، وذلك إخبار، ثم يُجعل دعاء، ثم يقال: وحيَّا فلان فلانًا إذا قال له ذلك، وحكم به، كما يقال: أضللت فلانًا وأرشدته إذا حكمت له بذلك، وأصل التحية من الحياة، ثم يقال لكل دعاء تحية، لكون جميعه غير خارج عن كونه حياة، أو سبب حياة. إما دنيوية وإما أخروية. إن قيل: علي أي وجه

جعل قولهم: السلام تحية الملتقين؟ قيل: السلام والسِّلم واحد، بدلالة قوله: (فَقَالُوْا سَلَامًا قَالَ سِلْم) (1) ولما كان الملتقيان من الأجانب قد حذر أحدهما الآخر استعملوا هذه اللفظة تنبيهًا من المخاطب، أي بذلت لك ذلك وطلبته منك. ونبه المجيب إذا قال: وعليك السلام. على نحو ذلك، ثم صار ذلك مستعملًا في الأجانب والأقارب والأعادي والأحباب، تنبيهًا أني أسأل الله ذلك لك، وأكثر المفسرين حملوا الآية على التحية المجردة، فقالوا معناه: من حيّاكم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردّوها أي قابلوه بمثلها، قالوا: ورد ذلك أنه متى قال قائل: السلام عليكم، فإنه يقول: وعليكم السلام، أو يقول: وعليكم، فهذا هو ردُّه، ويدلّ أنه إذا قال: وعليكم. فقد رد، أن رجلًا دخل على عمر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عمر: وعليكم، فظن الرجل أنه لم يسمع عمر.

_ (1) هي قراءة حمزة والكسائي.

فأعاد عليه، فأعاد عمر مثل ما قال، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ألا ترد عليَّ كما أقول؟ قال: أو لم أفعل؟ وأما أحسن منها فأن يقول له أكثر من ذلك ما لم يستوف المسلِّم ألفاظ التحية، وذلك أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم السلام ورحمة الله ". ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ". فجاء ثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم ". فقيل له في ذلك، فقال: "إن الأول والثاني أتيا من التحية شيئًا فرددت عليهما بأحسن مما سلَّما، والثالث حيّاني بالتحية كلِّها فرددت عليه مثلها". ومن المفسرين من قال له: إن من حيّاكم ببعض التحية

فحيوا بها تامَّة، ومن حياكم بالتحية تامة فردّوا مثلها، ومنهم من قال: بل خُير كلهم بين الأمرين، وقال قتادة: بأحسن منها للمسلمين، وبمثلها أهل الكتاب، وهو أن يقال: وعليكم. وقال ابن عباس: من سلَّم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسيا. ومن المفسرين من حمل ذلك على الهدايا واللطف،

وقال: حقّ من تولى شيئًا أن يولِّي مثله وأحسن منه. ومنهم من قال: السلام هاهنا السِّلْم، وهو أصله، قال: وهذا أمر منه أن من بذل لكم السلم من الكفار بأن يروم الدخول في الشرع. فابذلوا له، كقوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا). قال: وأمر بأن يرد على باذِلها مثلها أو أكثر منها. قال: ومثله أن يبذل له الأمان مما خافه، وأكثر منه أن يبين أن له ما لهم، وعليه ما عليهم من النصرة والموالاة، وذلك مما قد بيّنه في قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). قال: وذلك هو الذي بسطه من بعد في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا).

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) أي يحاسبكم على كل شيء قلَّ أو كثر، فلا تتغافلوا عن صغيرة وكبيرة. وقول عطاء: حفيظًا، وقول ابن جبير: شهيدًا فإشارة إلى هذا المعنى، وقيل: (حَسِيبًا) أي كافيًا، من قولهم: أحسبني هذا الشيء - أي كفاني - حتى قلت حسبي. ومن قال ذلك جعله من باب: الداعي السميع. أي المسمع،

(87)

وفيه (عَطَاءً حِسَابًا) أي كافيًا، والمعنى أن الله يعطي كل شيء من المعرفة والحفظ والرزق ما يكفيه إذ هو حافظه. قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) سمّى يوم القيامة لقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا). إن قيل: ما وجه هذه بعد تلك الآية؟ قيل: لمّا أمر المسلمين أن يقبلوا من بذل لهم السلام. بيّن لهم بهذه الآية أن ذلك حكم للظاهر. فأما السرائر فإن الله يتولاها يوم القيامة. تنبيهًا أن الله لا يحب المنافق أن يغتر بهذا. بل يتحقق أن الله له بالمرصاد. إن قيل: كيف قاله: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)

(88)

وما كان صدقًا من الحديث لا يتضارب، فيكون من بعض قائليه أكثر صدقا من قائل آخر؟ قيل: إن الصدق من صفة القائل لا من القول. والقائلون إذا اعتبروا بأقوالهم فمنهم من يكون صدقه في أحاديثه أكثر، فكأنه قيل إذا اعتبر الصادقون في أقوالهم فليس فيهم أكثر صدقًا من الله، فإنه لا يقع في خبره كذب بوجه. قوله عز وجل: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) الرَّكسُ والنَّكْسُ: الرَّذلُ، والركس أبلغ، لأن النكس ما جعل أسفله أعلاه، والركس أصله ما جعل رجيعا بعد أن كان

طعاما فهو كالرجس، وقد وصف أعمالهم به، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ). ويقال: ركسه وأركسه، وأركس أبلغ، كما أنَّ أسقاه أبلغ من قولهم سقاه. إن قيل: كيف قال: (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) فنفى نفيًا مطلقًا، وقد أثبت للكفار سبيلا؟ فقال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ). وقال: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)؟ قيل: اسم الجنس إذا أطلق فليس يتناول إلا الصحيح. ولهذا يقال: لا صلاة إلا بكذا. وقالوا: فلان ليس برجل. لما كان أخلاق الرجل تتناول للكامل. فلذلك لا يعد قائل ذلك كاذبًا. واختلُف في سبب نزول هذه الآية على

أوجه: الأول: قال زيد: هي في الذين تخلَّفوا يوم أحد. وقالوا: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ). الثاني: قال الحسن ومجاهد: هي في قوم قدموا المدينة وأظهروا الإِسلام. ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك. الثالث: قال ابن عباس وقتادة: في

قوم أسلموا بمكة، ثم أعانوا المشركين على المسلمين. الرابع، قال السدي: في قوم بالمدينة أرادوا الخروج منها. الخامس: قال ابن زيد: في قوم من أهل الإِفك، وما بعده نزل أنه في شأن الهجرة، وجملة الأمر أن الناس كانوا اختلفوا في فئة من المنافقين فئتين، أمَّنهم بعضهم ووالاهم بعضهم، فقال تعالى: ما لكم قد صرتم فئتين مختلفتين فيهم، وقد خذلهم الله، فبيّن أن لا سبيل لهم بعد أن أضلهم الله، كقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ). وقوله: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ)،

قال الحسن: معناه: أتريدون أن تجعلوا لأهل الضلال ما جعله الله لأهل الهدى. وقيل: أتريدودن أن تسموهم مهتدين، وقد سمّاهم الله ضالين. وقيل: أتريدون أن تهدوهم كرهًا وقد جعلهم الله بما اكتسبوه حالاً فحالاً ضالين، وذلك إشارة إلى نحو قوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وقوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)، وقوله: (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فقد تقدّم أن الله تعالى لما أجرى العادة أن من تحرى الخير حالاً فحالاً ازداد هداية بسبب ذلك نفسه، إذ كان فاعل أسباب الشيء قد يقال إنه فاعل للشيء، فإنه هو أولى بأن يُسمّى فاعلًا، وقد تقدّم الكلام في الهداية والضلال بما فيه الكفاية. وانتصاب قوله: (فِئَتَيْنِ) على

(89)

الحال عند البصريين، وعلى تقدير (كانوا) عند الكوفيين. وعلى هذا القولين قولهم: مالك خارجًا؟. قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) الهجرة: ترك الشيء والإعراض عنه مكانًا أو خليطًا، وسُمِّي القبيح من الكلام هُجْرًا لكونه مقتضيًا لهجره، والرفث هَاجِرَةً لكونه حاملًا على أن يهجره، وسُمّي المهاجر لتركه وطنه، وصار اسم مدح في الإِسلام، وسُمّي من رفض فضولات شهواته مهاجرًا، عنى تعالى أن الذين تقدّم ذكرهم ممن بقوا بمكة وادعوا الإِسلام أنهم كفار، ويريدون لكم الكفر الذي هم

عليه، ومن أراد لكم الكفر فمحال موالاتهم، فلا تتخذوهم أولياء حتى يسلموا، ويحققوا إسلامهم بالهجرة، ثم قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن كشفوا الغطاء فقط صاروا مرتدين، (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، ولا تكونن بينكم وبيتهم موالاة ونصر بوجه. إن قيل: فما قائدة قوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) بعد أن قال: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ)؟ قيل: قد قال بعضهم ذلك على التوكيد، والصحيح أن الذين دخلوا في الإِسلام من الأعراب فرقتان، فرقة هاجروا وفرقة أقاموا. وبيّن الله تعالى أن من أقام ولم يهاجر فلا ولاء له، إلا أن يستنصروكم على قومهم فتنصرونهم، وذلك في قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) فمنع تعالى عن موالاتهم بقوله: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) كما منع بتلك الآية، ولم يمنعهم من نصرتهم، ثم بيّن أنهم إن تولوا، أي ارتدوا عما أظهروه من

الإِسلام، وكشفوا الغطاء بالكفر، فلا يجوز أن توالوهم، ولا أن تنصروهم بوجه. قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) الحصر: حبس في ضيق، وعبّر عن البخل والجبن لانحصار النفس. وكذلك عبر عنهما بضيق الصدر وعن ضدهما بسعة الصدر. وبالبر المشتق عن البر أي السعة، والحصور الممنوع عن الجماع بحبس شهوته، وعن الشراب بحبس ماله لبخله. وفي اتصال هذه الآية بما قبلها وحكمتها صعوبة، ووجه ذلك

أنه لما أمر تعالى الناس فيما تقدم بالهجرة، ونهى عن موالاة من تأخر، استثنى بهذه الآية من يحصل له إحدى حالتين؛ إما أن يصلوا إلى قوم بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد لتعذر لحوقهم به، فيقيموا إلى وقت الإِمكان به؛ وإما أن يهاجروا ويأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين فتحصر صدورهم أن يقاتلوا المسلمين لعلمهم بكونهم على الحق. وأن يقاتلوا قومهم لكونهم غير آمنين على مالهم وذويهم، فهذا معنى قوله: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ). وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) إظهار من الله تعالى لنعمته على المسلمين وأنه لو لم يهدهم لكانوا في جملة المتسلطين عليكم. ثم بيّن أنهم إذ قد اعتزلوا وأظهروا الإِسلام فاتركوهم؛ فهذا على ما ذكر هذا القائل هم الذين أسلموا ولم يستحكم إيمانهم،

ولم يبلغوا الحدَّ الذي لا يحرجون في نصرة الدين إلى أهلٍ. وقال قتادة - وقد رُوِيَ عن ابن عباس: - أن قوله: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ) هو في قوم من الكفار اعتزلوا المسلمين يوم فتح مكة فلم يكونوا من الكافرين. ولا مع المسلمين، قال: وهذا معنى (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) قال: ثم نسخ ذلك بآية القتال، والقول الأول أظهر وأحسن. وقوله: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) في موضع الحال عند الفرّاء. قال: وتقديره قد حصرت صدورهم، وتقوَّى ذلك بقراءة الحسن (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ)، وقال بعضهم:

هو خبر بعد خبر، كأنه قيل: أو حصرت صدورهم. وقال الجرجاني في كتاب النظم: تقديره: وإن (جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فحذف إن. قال: والفعل الماضي يقع في الشرط موقع المستقبل. وفيما ادعاه إضمار إن عُهدة، فما أرى أهل اللغة يطابقونه عليه. وقال المبرد: هو دعاء عليهم، وردّ

ذلك أبو علي الفسوي، وقال: قد أُمرنا أن نقول: "اللهم أوقع بين الكفار العداوة والبغضاء". فلا يجوز أن يُحمل على الدعاء، فيكون في قوله: (أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ) نفي ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم. وهذا القول من المبرد، ومن الرادِّ عليه مبني على أن الآية في الكفار على ما تقدّم من القول الثاني فيه. ولقائل أن يقول: كما يجوز أن يُدعى عليهم بإيقاع العداوة. يجوز أن يدعى عليهم بأن يجعلهم الله حيث لا يقاتلون أعداءهم ولا قومهم، ويكون ذلك سؤالاً لموتهم، ويدلك على جواز ذلك أنه لو جمع بين المقاتلين لم يمتنع، فكأن يقال: أوقع بينهم العداوة والبغضاء، وأوهن كيدهم، واجعلهم بحيث لا يقاتلون المسلمين ولا بعضهم بعضا، على أن قوله (قَوْمَهُمْ) قد يُعبّر به عمن ليس منهم، بل هم من معاديهم كقولك: فلان صاحبك وهم قومك، أي المناصبون لك.

(91)

قوله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) الركس والرجسُ يتقاربان، لكن الرجس الحس. وقيل: ركسه وركزه بمعنى؛ إلا أن الركس يقال في مكروه. وقيل: الفتنة هاهنا الكفر، وقيل: الاختبار، والسلطان: الحجة

والبطش، وقد تقدّم حقيقته. والآية قيل: نزلت في نعيم بن مسعود، وكان ينقل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كفار مكة. وقال ابن عباس: نزلت في قبيلتي أسد وغطفان)،

وقال قتادة: في حيٍّ من تهامة، وجملة الأمر أنه لمّا ذكر فيما تقدم من له عذر بأحد الأمرين اللذين ذكرهما، ذكر هاهنا فرقة لا عذر لهم كانوا يظهرون الإِسلام ثم يرجعون إلى عبادة اِلأصنام، كمن ذكرهم في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)، فذكر (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ)، ويطلبوا

(92)

بدخولهم الإِسلام، ويكُفوا أيديهم عنكم، فقد أُبيح لكم قتلهم، وقد جعل الله لكم عليهم حجة بما بينه. وقوله: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أي إذا ردوا إلى الكفر عادوا إليه فتنجّسوا به. وقيل: إذا رُدّوا إلى الاختبار أي الإِسلام وجدوا يركسون فيها، ويكون قوله: (أُرْكِسُوا) وجدوا كقولهم: أُحمدُوا وأُذِمُّوأ، وقيل: الفتنة الاختبار إنما أريد به ما قصد بقوله: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ). ومعناه أنه إذا نالتهم محنة ارتدوا، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) الآية. قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)

إن قيل: هل يجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتى قال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً)؟ قيل: إن قولك يجوز أو لا يجوز. إنما يقال في الأفعال الاختيارية المقصودة، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك. وقولك: ما كان لك أن تفعل كذا، وقولك: ما كنت لتفعل كذا متقاربان، وهما تعليلان بمعنى، وإن كان أكثر ما يقال للأول لما كان الإِحجام عنه من قبل نفسه، ويدلّ على أنه قد يقال: ما كان لك أن تفعل كذا - لمِا ذكرنا - قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ)، لأن معناه: ما كان لله ليتخذ ولدا في أنه لا نهي، وعلى هذا قوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا).

فقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا) أي ما كان المؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ، وهذا ظاهر، وهذا المعنى أراد من قال معناه: ما ينبغي للمؤمن أن يقتل مؤمنًا متعمدًا، ولكن يقع ذلك منه خطأ. وكذا من قال: ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن مؤمنا إلا خطأ. وقال الأصم: معناه ليس القتل لمؤمنٍ بمتروك لا يقتص له إلا أن يكون قتله خطأ، وهذا يرجع إلى الأول. وقول بعض النحويين: إن هذا استثناء خارج فليس على التقدير الذي ذكرناه، كذلك، بل هو واجب، وذكر على بن موسى القمّي

أن معنى ذلك: ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا أن يراه في دار الحرب، فيظنه كافرا فيقتله خطأ، فيكون الخطأ راجعًا إلى القاتل في كونه غير عالٍم بحال المقتول، وأما من قال: معنى (إِلَّا خَطَأً) ولا خطأ، واستدلاله بقول الشاعر: وكلّ أخ مفارقه أخوه. . . لعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدانِ أي: ولا الفرقدان، فذلك تشبيه فيه ما أرى أن محققي

النحويين يوافقونه. وقيل: الخطأ في الأصل على وجوه، منها: أن يقع بلا قصد من القاتل إلى القتل، ولا إلى الإِتيان به بوجه. كمن سقط من يده شيء فأصاب نفسه فقتله، ومنها أن يقصد ْإصابة الشيء غير المقتول، فاتفق إصابته فقتله، كمن يرمي صيدًا فأصاب إنسانًا فقتله، أو يقصده ولكن لا بسلاح يقتل مثله، أو يقصده بسلاح لكن لا يريد قتله، أو يقصده بسلاح ويريد قتله لكن لا يعلمه محظور القتل، كمن يرمي مسلمًا في صف المشركين. أو يقصده بسلاح ويريد قتله لا في دار الحرب، لكن القاصد غير مكلف كالصبي والمجنون، وكل ذلك يقال له: قتل الخطأ، لكن لذلك تعارف في الشرع هو المُراعى، وقد وبيّن ذلك في كتب الفقه. والرقبة المؤمنة: أن يكون مولودًا في دار الإِسلام صغيرًا كان أو

كبيرًا، أو سباه من دار الحرب مسلم قبل البلوغ، أو أسلم بعد البلوغ، وهذا الإِيمان هو الإِسلام، دون كمال الإِيمان المتقدّم ذكره في غير هذا الموضع. قال الحسن: ما في القرآن مؤمنة فلا يجزئ إلا من صام وصلى وحسن إسلامه، وما عدا ذلك فيجزئ فيه الصغير والكبير. وقال إبراهيم: لا يجزئ في ذلك إلا البالغ. وقدر الدية مختلف فيه والمفزع فيه إلى السنة. وظاهر الآية يقتضي شيئًا مقدرًا. والتتابع في صيام الشهرين مشروط، والظاهر

أن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يبطل التتابع كالحيض والمرض الطارئ والإِغماء، وأما مصادفة الأيام التي حُظر فيها الصوم كيوم العيد، وأيام التشريق، والإِفطار في السفر، أو الشهر الذي يستحق صومه بالشرع كشهر رمضان، فإن ذلك يقطع التتابع. ويوجب الاستئناف، وحكي عن مسروق أن (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ) عنى من لم يجد الدية والرقبة، وسائر أهل العلم بخلافه. فالدية حق الآدميين، والكفارة حق

الله، فلا تنوب إحداهما عن الأخرى. وقال الأصمّ: ظاهر الكتاب يدل على أن الدية تلزم القاتل. لأنه قال: (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) فعطفها على الكفارة. ومعناه: عليه ذلك. وإنما بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن دية الخطأ تتحمل العاقلة عن القاتل على سبيل المواساة، لا أنه نسخ الكتاب بالسنة. وقوله: (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي: يعفوا عن الدية، فجعل العفو عنها صدقة منهم، تنبيهًا على فضيلة العفو وحثا عليه، وأنه جار مجرى الصدقة في استحقاق الثواب الآجل به دون طلب العوض

العاجل، وهذا حكم من قُتل في دار الإِسلام خطأ. وقوله: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي من أهل الحرب في الدار والمعركة، وفي فقد التمييز لا في معنى القرابة. ولا فرق بين أن يكون مسلمًا دخل دار الحرب، أو أسلم هناك ولم يهاجر. وقيل: قد دخل في ذلك من أسلم في دار الإِسلام من المشركين ولم يعلم القاتل به. وخبر الحارث يدلّ على ذلك، لأنه قتل بالمدينة وقد كان أسلم. وقيل: إنما أسقط الدية فيه إذا كان أولياؤه كفارًا وهو مؤمن. فإن ديته راجعة إلى المؤمنين

فلا معنى لإِلزامهم. وقوله: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) أي كان المقتول خطأ من قوم كذلك. واختلفوا هل الإِيمان شرط فيه؟ فقال الحسن ومالك: هو شرط، تقديره: إن كان المقتول خطأ مؤمنًا. قال مالك: ولا كفارة في قتل الذمي. ومنهم من قال: الآية واردة فيمن

كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فْاسلم. ثم قتله مسلم من غير حرب، قالوا: وكان هذا في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأما بعد فقد أمروا بقتالهم. ومنهم من قال: عنى بالميثاق الذمة إما بالعهد أو الاستئمان. والظاهر أن كل قَتْل في عهد جائز بين المسلمين ففيه الدية والكفارة. وتعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر فيما قبلها حُكم من أسلم فمنعه عذر من مقابلة أعداء المسلمين، وحُكم من لم يسلم، وإنما يريد أن يَسْلَمَ على

(93)

الفريقين، فأمر في الأولى بالتجافي وفي الثانية بقتلهم، بيّن هاهنا خطر قتل المؤمنين، وجعلهم صنفين: مقتولاً خطأ، ومقتولاً عمدًا. فبيّن حكم الخطأ وجعل المقتولين ثلاثة أصناف على ما فسرناه، ثم بيّن حكم قتل العمد، فقال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) العمد: فعل الشيء عن إرادة واختيار، ويضاده الخطأ. وصفة قتل العمد أن يقصده بحديدة أو حجر يقتل غالبًا، أو توبع عليه بخنق أو بسوط فتوالى عليه حتى يموت. والآية قيل نزلت في رجل فقده الكفار، وذاك أنه خرج في سرية فنزلوا ماء، فخرج من أصحابه عليه السلام رجل فحمل عليه فقتله. وقيل: هي في رجل رآه أخوه مقتولاً في بني النجار،

فشكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر أن تُدفع إليه الدية فدفعت إليه، ثم حَمَل على مسلم فقتله فهرب إلى مكة، ولا خلاف بين عامة المسلمين أن التائب يخرج من هذا الحكم، وقد روي عن

النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا جاء فقال: هل للقاتل توبة؟ فقال: "نعم ". ثم جاءه آخر فسأله عن ذلك، فقال: "لا توبة له "، فراجعه بعض أصحابه في ذلك، فقال: "إن الأول كان قد قتل فكرهت أن أؤيسه من رحمة الله، فيتملّكه الشيطان فيهلكه، وأما الثاني فرأيته عازمًا على قتل رجل اعتمادًا على أن يتوب من بعد، فكرهت أن يمني عزيمته ". وأهل الوعيد يجرون الآية على العموم، ويخصصون به قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). ومخالفوهم يخصصون قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية، ويجرون تلك على العموم. والمفزع لمن يريد تحقيق ذلك إلى غير الآيتين، والله أعلم.

(94)

وقد تقدّم أن القصد بغضبه تعالى إلى إنزال عقابه. دون تغيّر حال يعتري ذاته تعالى الله عن التغيّرات. ولعنته في الدنيا: إبعاده من لَعَنَهُ عن الصفات النفيسة التي يتخصص به أولياؤه، وفي الآخرة عقابه وتبعيده عن ثوابه. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) قرئت: (تثبتوا) و (تبينوا)، وقيل: التبيُّن أبلغ؛ لأنه قل ما يكون إلا بعد التثبُّت، وقد يكون التثبُّت

ولا تبين، وقد قُوبل بالعجلة في قولهم: التبيُّن من الله، والعجلة من الشيطان فتبينوا، وقُرِئ (السَّلَم) و (السلام). والسلام قيل: التحية، وقيل: الاستسلام. والسَّلَم والسِّلْم: الصلح. وقيل: هو بمعنى الإِسلام، ويقال للصلح: السلم، فلا يكون مرادًا هاهنا، لأن المسلم مخيّر إذا طلب الكافر منه السلم بين أن يبذله له، وبين أن يمنعه، ورُوِيَ أنه خرج مقداد في سريته فمر برجل في غُنَيِمات، فقال: إني مسلم.

فلم يلتفت إلى قوله، فقتله وأخذ غنيماته، فلما رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكره، فقال: "هلَّا شققت عن قلبه ". والآية تدل على أن المجتهد في مسائل الاجتهاد معذور، ولولا ذلك لما قارَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(95)

وقرأ أبو جعفر: (لست مَأْمنًا) أي مبذولاً له الأمان. قوله عز وجل: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) الدرجة معروفة، ومنها أدرجت الكتاب: طويته طيًّا يشبه الإِدراج، و (غير) يوصف به النكرة، وما فيه الألف واللام إذا دلّ على الجنس، وقد يُستثنى

به، فإذا قُرِئ منصوبًا فعلى الاستثناء أو على الحال، وإذا جُرّ فصفة للمؤمنين، وإذا رُفع فصفة للقاعدين. والضرر: اسم عام لكل ما يضر بالإِنسان في بدنه ونفسه. وعلى سبيل الكفاية عبّر عن الأعمى بالضرير. فإن قيل: كيف يصحُّ حمله على الأمراض "النفسية. وقد قال في ذم الكفار: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)؟ قيل: إن الذي عذرهم الله تعالى فيه هو ما لم يكن الإِنسان نفسه سببه. وما ذموا به فهو المرض، أي الجهل الذي يكون هو سبب استجلابه من ترك إصغائه إلى

الحق، وإهمال نفسه من العادات الجميلة. ولذلك قال ابن عباس أولي الضرر: هم أهل العذر، فعمَّم. وقد ذكر عامة ما أجمله هاهنا في قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) الآية. إن قيل: لم كرر الفضل وأوجب في الأول درجة، وفي الثاني درجات. وقيدها بقوله: (منهُ)، وجعل معها المغفرة والرحمة؟ قيل: في ذلك أجوبة: الأول: أنه عنى بالدرجة ما يؤتيه في الدنيا من الغنيمة، ومن السرور بالظفر وجميل الذكر، وبالثاني ما يخولهم في الآخرة، ونبه بإفراد الأول، وجمع الثاتي أن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير. والثاني: أن المجاهدين في ثواب الدنيا يتساوون فيما يتناولونه، كمن يأخذ سلب مقتوله، وكتساوي نصيب كل واحد من الفرسان، ونصيب كل واحد من الرجالة، وهم في الآخرة يتفاوتون بحسب إيمانهم، فلهم درجات حسب استحقاقه، ومنهم من يكون له الغفران، ومنهم من تكون له

الرحمة فقط، وكأن الرحمة أدنى المنازل، والمغفرة فوق الرحمة، ثم بعده الدرجات على الطبقات، وعلى هذا نبه بقو له: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ). ومنازل الآخرة تتفاوت، وقد نبّه على ذلك بنحو قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) إلى قوله: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ). والثالث: أن الجهاد جهادان: صغير وكبير. فالصغير مجاهدة الكفار، والكبير مجاهدة النفس، وعلى ذلك دلّ قوله عليه الصلاة والسلام: "رجعنا من جهاد الأصغر إلى جهاد الأكبر ". وبقوله: "جهادك هواك".

وإنما كان مجاهدة النفس أعظم، لأن من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا، ومن غلب الدنيا هان عليه مجاهدة العدى. فخص بمجاهدة النفس بالدرجات تعظيمًا لها. والرابع: أن الأول عنى به الجهاد بالمال، والثاني الجهاد بالنفس. إن قيل: لِمَ ذكر مع الدرجات المغفرة والرحمة معًا؟ وما الفرق بينهما؟ قيل: إن المغفرة تُقال اعتبارًا بإزالة الذنوب، والرحمة تقال اعتبارًا بإيجاب التوبة، وإدخال الجنة،

والدرجات هي: المنازل الرفيعة بعد إدخال الجنة. وقيل: إن الرحمة هي: أن يتوب عليه أمن، الذنب وإن كان بعد تبكيت وعقاب، والمغفرة هي: أن يستر ذنوبه فلا تبكيت به. والدرجات: هو أن يجعل لكل واحد درجة بقدر ما يليق به. وهي المعبرة عنها بالغرفات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. أعدّ الله أعلاها للمجاهدين في سبيله "، فقال رجل: ما الدرجة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "أما إنها ليست بعتبة".

_ (1) تمام الحديث: أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام. (النسائي. 6/ 27) كتاب الجهاد، باب ثواب من رمى بسهم في سبيل الله.

(97)

إن قيل: كيف قال: (وكلًّا وعد الله الحسنى) والكفار من جملة الكل؟ قيل: إن كلًّا هاهنا لم تتناول إلا من تقدّم ذكره من المؤمنين والمجاهدين والقاعدين. قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) (تَوَفَّاهُمُ) قيل: هو ماض، وقيل: تقديره تتوفاهم الملائكة. وذلك في وصف قوم أظهروا الإِسلام ولم يهاجروا. بل كثروا سواد المشركين يوم بدر فقتلوا،

فادعوا لما سألهم الملائكة الذين توفُوهم أنهم كانوا مستضعفين. فكذبهم الله، وقيل: هم الذين نهى عن موالاتهم بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) إن قيل: كيف لم يعذرهم لما اعتذروا بالاستضعاف وقد قال من قبل: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ)؟ قيل: لأنهم كذبوا في دعواهم، والذين عذرهم هم الذين سلبهم الله القوى والقدرة، أو لم يعطهم ذلك كالصبي. وقال بعض المحققين: ظلم النفس في الحقيقة هو التقصير في تهذيبها وسياستها المذكورة في قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وذلك أن كل إنسان سائسُ نفسِه، فمتى لم يوف حق السياسة

فقد ظلمها ظلم الوالي رعيته، قال: وخاطب بذلك من أعطاه القوة ومكّنه أن يبلغ الدرجات الرفيعة، فرضي لنفسه بأخس منزلة، وكذبهم فيما ادعوه من استضعافهم تنبيهًا أن من أمكنه استفادة ما به يقدر فهو في حكم القادر فلا يعذر، ثم استثنى الأصناف الثلاثة فقال: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فذكر لفظ عسى لئلا يركنوا كل الركون، وليكونوا ممن قال فيهم: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ). وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) أَخَّر ذكر الغفران إذ هو أبلغ، وقد تقدّم أن

(100)

الوصفين إذا اجتمعا يقدمّ الأعم ويؤخر الأخص، تنبيه على أن مثل هذه الصفة ليست على وجه المطابقة، واعتبارًا لحصول المعفو عنه والمغفور له، بل ذلك له على وجه أشرف من ذلك، والله أعلم. قوله عز وجل: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) المُرَاغَم: المتحَرَّكُ إما من الرغام أي التراب. وقيل: هو من رغم أنفه إذا غضب. والمراد به قريب من قول الشاعر:

إذا كنت في دار يهينك أهلها. . . ولم تك ممنوعًا بها فتحول وقيل: نزل ذلك في رجل من بني ضمرة كان مريضًا. فقال: أخرجوني، فأشرف في الطريق، وقيل: إنه أخذ يمينه بشماله وقال: قد بايعتك يارسول الله، فبين تعالى أن المهاجر وإن لم يبلغ المقصد فله بذلك ثواب، وكذا من نوى

(101)

خيرًا وعاقه عائق عن إتمامه. قوله عز وجل: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) الضرب في الأرض من قولهم: ضرب العرق ضربًا. إذا أسرع التحرك، والفتنة: المحنة وذلك يشتبه. لذلك استعمل في القتل والإِحراق، ولأجل عمومها قال: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)، لأن الفتنة قد تكون قتلًا، وما هو أعظم من القتل)، وأهل الحجاز يقولون: فتنته، وأهل نجد يقولون: افتنته ففتن فتونًا. قال أبو عبيدة يقال: قصرت الصلاة

وقَصَّرتها وأقيصرتها. والعدو يقال للوا حد وللجمع، كقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) واشترط في القصر السفر والخوف. وقيل: إنه لما سأل عمر رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ قال: "صدقة تصدق الله عليكم بها، فاقبلوا صدقته ".

والقصر: قيل: عنى به الهيئات وأن صلاة المسافر ركعتان تامتان، وذلك عن عمر وعائشة، وقيل: عنى قصر الركعات عمَّا عليه في الحضر، قال ابن عباس وجابر: إن صلاة الحضر أربع، والسفر ركعتان، والخوف ركعة، والضرب في الأرض

بعضهم يجعله على التعارف، ويعتبره بما يسمى سفرًا. ولا خلاف أن الخارج إلى قرية بظاهر البلد لا يجوز له القصر. وبعضهم قيده بمسيرة ثلاثة أيام بناء على تحديد مسح المسافر وتحريم سفر المرأة بغير ذي محرم، وبعضهم حده بثمانية وأربعين ميلًا، اعتبارًا بسفر النبي عليه الصلاة والسلام. وظاهر الآية يقتضي أن لا فرق بين الحج والجهاد وغيره من الأسفار، ولا بين المطيع والعاصي.

(102)

قوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) قد علَّمنا تعالى كيف نصلِّي صلاة الخوف، فظاهر الآية يقتضي ما قال ابن عباس: إن الإِمام يلي بكل فرقة صلاة تامة، وهم يصلُون صلاتهم) في سائر الأوقات. وقيل: كانت الرخصة في

ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط لفضل الجماعة معه. ومذهب عامة الفقهاء على خلاف ذلك، وكيفية صلاة الخوف، والخلاف فيها مبينة في كتب الفقه. وقال من يذهب إلى وجوب الجماعة: إن في شرع صلاة الخوف تنبيهًا على وجوب الجماعة،

(103)

وقيل: في صلاة الخوف تنبيه على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة. وأن تأخير أداء الصلاة عن وقتها لا يجوز، وأن إقامة الصلاة كانت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مادام فيهم. ونبَّه تعالى بقوله: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما لأجله أمر بتناول الأسلحة للتحرُّز، وأن في حال المرض والمطر يجوز وضع الأسلحة. قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)

قيل: إن قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ)، وارد في صلاة المريض. والآية تقتضي غير ذلك، لأنه قال: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ). اللهم إلا أن يقول قائل ذلك: هو مثل قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) أي إذا أردت قراءة القرآن. وقيل: هو حثٌّ على ذكر الله تسبيحًا وتعظيمًا، كقوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وقوله: (مَوْقُوتًا) أي مؤدىً في أوقاته،

(104)

وقيل: منجمًا في أوقاته، قال ابن عباس في هذه الآية وفي قوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) إن الآيتين متضمّنتمان لأوقات الصلاة مجملة، وأن السنة شرحتها. قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) لمّا كان بناء الكلام على فرض الجهاد، وكان ذكر الصلاة كالاعتراض عاد إلى ما كان في ذكره، فقال: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) والوهن: ضعف مع فتور)، وعاتبهم، فكأنه قال:

(105)

إذا تساويتم في الألم وزدتم عليهم في أن حصل لكم من الرجاء ما لم يحصل لهم، وعرفتم كون الله عليمًا بما يفعلونه حكيمًا فيما أمركم به فأمْرُكم إذًا أعلى، فيجب أن تكون قلوبكم أقوى. والآية يقاربها قول الشاعر وإن كان هي أبلغ: قاتلي القوم يا خُزاع ولا يَدْ. . . خُلْكُم من قتالهم فشلُ القوم أمثالكم لهم شعر في الْـ. . . رأس لا ينشرون إن قتلوا قوله تعالي: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)

قيل: نزل ذلك في أنصاري سرق درعًا لعمه، فاتهُم بها فَرُئِي في دار يهودي فأوهم القوم أن اليهودي سرقها، فأعان قوم من المسلمين هذا الأنصاري، فاعتمد النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم، فأطلعه الله على الأمر، وعاتبه، وأمر بالاستغفار مما همّ به. قال ابن بحر: يجوز أن تكون هذه الآية راجعة إلى قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا) فبيّن أنهم مع إظهارهم الإِيمان بما أنزل على الأنبياء يصدّون عمّا يُدعون إليه من حكم الكتاب. قال: ومعنى (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) راجع إلى قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا)، فنهى عن حسن الظن بأمثالهم، ونهى في هذه الآية عن الدفع عنهم.

(107)

قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) أعاد النهي عن الذب عنهم بقوله: (وَلَا تُجَادِلْ) والمجادلة: المقاتلة، من قولهم: جدلت الخيل، وقيل: المنازعة من الإِلقاء على الجدالة والجدال المطلق مذموم، ولهذا لم يطلقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قيّده، قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). والاختيان: افتعال من الخيانة، واختيانهم أنفسهم

جعلهم إياها خائنة بما يفعلونه، كقولك: ظلم نفسه. إن قيل: لم خصَّ لفظ الخوَّان بنفي المحبة عنه، وهو لا يحب الخائن أيضا؟ وقيل: تخصيصه هاهنا تعريض بهم، وتعظيم لفعلهم. وتنبيه أن من يتحرى خيانة ولا يستمر عليها فهو مُعرّض أن يقلع فيحبه، ومتى استمر عليها صار مطبوعًا على قلبه، لا يقلع فتُرجى له المحبة، فإذًا الخائن قد يكون محبوبًا على وجه. والخوان لا يكون محبوباً بوجه. وقوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) أي الخونة أبدًا يسترون على أنفسهم خيانتهم، لكون قبحها مركوزًا في نفوسهم، ونبّه أنهم إن ستروها على الناس فليست تستتر على الله.

وأنهم لنقصهم وجهلهم بالله يراعون الناس أكثر من مراعاتهم لعظمة الله، وإلى نحو هذا أشار النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "استحيوا من الله كما تستحيون من أحدكم ". وهذا قريب من قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) الآية. وقوله: (وَهُوَ مَعَهُمْ) نحو (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ). قال ابن مسعود: من صلى صلاة عند الناس لا يُصلّي مثلها إذا خلى فقد استهان بالله. ثم تلا هذه الآية.

(109)

قوله عز وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) خاطب الذَّابِّين عن هذا الخائن، ونبه أنكم وإن اعتقدتم الذَّبَّ عنه في الدنيا وستر خيانته، فالشأن في يوم القيامة عند من لا تخفى عليه خافية، وحيث لا ينفع إلا من أتى الله بقلب سليم. ومن فسّر الوكيل بالكفيل فتفسير عام بخاص، فإن الكفيل وكيل ما، وليس كل وكيل كفيلًا. قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) عامل السوء وظالم النفس وإن كانا يعودان إلى معنى واحد،

فذكرهما اعتبارًا بحالتين، وقيل: عمل السوء إشارة إلى فعل الصغائر، وظلم النفس إلى الكبائر. وقوله: (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) راجع إليه دون الأول. فكأنه قيل: من فعل صغيرة أو استغفر من كبيرة يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا. وقيل: عمل الإِساءة ما يُفعل بالغير، وظلم النفس ما يختصُ به الإِنسان من ذنب لا يتعداه.

(111)

وقد تقدم الكلام في السوء والسيئات، ومقابلتهما بالحسنات. قوله عز وجل: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) الأصل في الاكتساب ما يجرّ به نفع، فاستعاره لما يجلب ضرًّا. تنبيهاً أن صاحبه يقدر فيما تحراه أنه يكسب خيرًا وهو يكسب شرًّا، ونحوه معنى قوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).

(112)

وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا. ونبَّه بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) على نحو قوله: (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ). قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) عنى بالخطيئة ما لا يكون عن عمد، وبالإثم ما كان عن عمد، ونبّه أن من رمى بأحدهما بريئًا فهو في استحقاق العقاب سواء، وإن كان في ارتكاب أحدهما بخلاف الآخر. وبيَّن أنه يحصل له بذلك معاقبة مرتكب البهتان، ومعاقبة مرتكب الإِثم. وذلك تعظيم لنسبة الإِنسان ما ارتكبه إلى غيره عمدًا كان أو خطأ. قال ابن بحر: إن ذلك يرجع إلى المنافقين الذين حكى

(113)

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)، فقال تعالى في رده (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا). وقال تعالى في آل عمر ان: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)، فبين بالآيتين أن الذي أصابهم عقوبة لما كان منهم، وأنه عفا عنهم، وبين هاهنا أن من أضاف ما أصابه من سوء في متوجهاته إلى النبي فقد أتى ببهتان وإثم. قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) كان همّهم أن يضلوه بشهادتهم للأنصاري أنه برئ مما قرن

به، ومسألتهم إياه أن يقوم بعذره، وقد تقدَّم الكلام في الفرق بين الكلام والحكمة. وذكر ابن بحر وجهين: أحدهما: لولا فضل الله بما أنزله من الكتاب والحكمة لهّم الكافرون بإضلاله وإدخاله معهم في عبادة الأصنام، لكن لما هداه صاروا لا يضلونه، بل يضلون أنفسهم. والثاني: أن الإِضلال عبارة عن الإِهلاك، كقول الشاعر: فآب مضلوه بخمر جلبه. . . وغودر بالحولان حزم وقائل

أي لولا أن الله حرسك لهمَّ طائفة بإهلاكك، وما يهلكون بما يفعلون إلا أنفسهم بما يكسبون لها من العذاب الدائم. إن قيل: قد كانوا همُّوا بذلك فكيف قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ)؟ قيل: في ذلك جوابان: أحدها: أن القوم كانوا مسلمين، ولم يهموا بإضلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان عندهم على الصواب. والثاني: أن القصد إلى نفي تأثير ما همُّوا به كقولك: فلان شتمك، وأهانك، لولا أني تداركت، تنبيهًا أن أثر فعله لم يظهر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الجزء الرابع الكتاب: تفسير الراغب الأصفهاني (من الآية 114 من سورة النساء - وحتى آخر سورة المائدة) تحقيق ودراسة: د. هند بنت محمد بن زاهد سردار الناشر: كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى الطبعة الأولى: 1422 هـ - 2001 م عدد الأجزاء: 2 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

(114)

قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) يقال: لكل ما يستحسنه العقل ويعترف به معروف، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر، ووجه ذلك أنَّ الله ركز في العقول معرفة الخير والشر وإليها أشار بقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ) و (فِطرَتَ اللَّهِ) وعلى ذلك البر: ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، واطمئنانها إليه لمعرفتها به.

والنجوى: تقال للحديث الذي تفرد به اثنان فصاعداً أو للقوم المتنلجين، قوله تعالى: (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) وأصل ذلك من النَّجْوه، والنَّجَاةُ: أي الخلاص منها لكون الملتجي إليها ناجياً عن السبيل ويقال: هو في مضية وتلفة من النوب، ولما كان المتناجيان كثيراً ما ينتبذان في نجوة، قيل انتجيا

والنجا السرعة كقولهم: ارتفع في المسير ونجوت الجلد، لقولهم: رفعت عنه الجلد، وإذا جعل النجوى للقوم فمَنْ مجرور على البدل أومنصوب على الاستثناء، وإن جعلتها للحديث فتقديره: لا نجوى من أمر بصدقة، ولما كان التناجى مكروهاً في الأصل حتى قال: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ) صار ذلك من الأفعال التي تقبح ما لم يقصد به وجه محمود

كالمكر والخديعة، فبيّن تعالى أن النجوى لا تحسنُ ما لم تخص بها هذه الوجوه المستثناه. فإن قيل: فهاهنا أفعال أخر تَحْسن فلم خص هذه الثلاثة؟ قيل هذه الثلاثة متضمنة للأفعال الحسنة كلها وذلك أنه نبه بالصدقة على الأفعال الواجبة وخص الصدقة لكونها أكثر نفعا في إيصال الخير إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هى الإحسان والتفضل وبالإصلاح بين الناس على سياستهم وما يؤدي إلى نظم كلهم وإيقاع الألفة بينهم، ذلك أفضل الأفعال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قيل بلى يا رسول الله، قال: صلاح ذات البين ". فإن قيل: فلم خص مَن أمر بهذه الأشياء دون من تولاها بنفسه وتوليها أبلغ من الأمر بها؟ قيل: في ضمن ذلك توليها، وذاك أنه إذا كان الآمر بالمعروف يستحق الحمد فمتوليه معلوم أنه مستحق لذلك، فكأنه قيل إن من تولي ذلك وآمن به، ونبه بقوله:

(115)

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) أن أفعال الخير يستحق بها الأجر العظيم إذا قصد بها وجه الله، لا أن يفعل رياء وسمعة واستجلاب منفعة أو محمدة من الناس، ووصف الأجر بالعظيم تنببهًا على حقارة ما يفوت في جنبه من أعراض الدنيا. قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) الشق: القطع طولا ومنه استعير الاشتقاق، وشق العصا وشق عليه الأمر كقولهم مشقة الأمر، وشق كرددت عصاه، ومشاقة الرسول أن يصير في شق غير شقة كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي يصيرون في حد غير حده، وذلك أشبه بالاعتقاد والديانة، وأصل الصلا الملازمة، ومنه الصلاة للدعاء ومن أجله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ايصلوا يا ذا الجلال والإكرام) أي الزموا مراعاة ذلك،

والصلا: ملازمة قرب النار للاصطلاء بها فجعل عبارة عن ملازمتها للعذاب ، والصلوان العرقان المكتنفان لجانبي الوركين، يجوز أنه اعتبر فيهما الاصطلاء كتسمية اليد والرجل المصطلى، والآية قيل: نزلت في سارق الدرع حيث أظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - حاله فأنكر وكذب، وقيل: في طعمة بن الأبيرق لما عبد الأوثان، ولما ذكر قيل: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ)

ذكر هنا من عمل ذلك ولم يستغفر، وعظم تعالى من يشاقق الرسول بعد ما تبين الحق له، وعلى هذا قال بعض الحكماء: صغائر الأولياء أعظم من كبائر العامة، وذاك أنه لا يعذر العالم فيما يرتكبه كما يعذر الجاهل. فإن قيل ولم كان العالم أكبر جرماً؟ قيل: لأن من لا يعرف الحق يستحق العقوبة بترك المعرفة، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه أو يعرف من يصدقه، والعالم يستحق بترك معرفته وترك استعماله، فإذن هو أعظم جرما. وقصد تعالى بقوله: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أن من لم يتبين له الهدى فقد جعل الله له نورًا يهديه، ومن صار معاندًا قطع عنه التوفيق وتركه هو وهواه، وانقطاع التوفيق هو المعنيُ باللعن والطرد وإليه أشار الشاعر بقوله: - إذاَ لمْ يَكُنْ عَونٌ مِنَ الله للفتَى ... فَأكْثَرُ ماَ يَجني عَلَيْه اجْتهَادَهُ وبين بقوله: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) عظم حالها في العقاب، واستدل

(116)

بالآية على ثبوت الإجماع، وقيل: إن الله عظّم وعيد من يتبع غيرسبيل المؤمنين " ولا حجة في ذلك لأن المراد بقوله (الْمُؤْمِنِينَ) الإيمان لا ذويه، فكل موصوف بوصف علق به حكم نحو أن يقال: اسلك سبيل الصائمين والمصلين، يعني بذلك الحث على الاقتداء بهم في الصلاة والصيام، لا في فعل آخر، فكما إذا قيل سبيل المؤمنين يعني به سبيلهم في الإيمان لا غير. قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إن قيل: لِم لَمْ يشترط فيه التوبة؟ قيل: إن المشرك إنما يلزمه الاسم ما دام يلزمه الوصف، فإذا زال

وصفه زال اسم الشرك عنه، فإذا كان كذلك، فالمشرك ما دام مشركا لا يغفر له، ومن تاب زال عنه اسم الشرك، فإذا التائب الذي يغفر له ليس هو المشرك، بل هو المؤمن في الحقيقة، ومن أطلق عليه اسم المشرك فعلى اعتبار الماضي، وقوله: (أَن يُشرَكَ بِهِ) موضعه النصب، كأنه قال: لا يغفر الشرك، وقيل: لا يغفر من أجل أن يشرك به، أي لا يغفر من أجل الشرك شيئا من الذنوب تنبيهًا، أن الذنوب قد تغتفر مع انتفاء الشرك، كما قال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، وقوله: (ضَلَالًا بَعِيدًا) فقد تقدم أن الحق والصواب والعدالة وغيرها من وجوه البر تجري مجرى

النقطة من الدائرة ومجرى المقرطس من المريء، وأن ما عداه كله باطل وضلالٌ، لكن منه ما هو قريب ومنه ما هو بعيد، كما أن العدول عن المقرطس قد يكون قريبا، وقد يكون بعيداً، كذلك العدول عن الحق يكون قريباً وبعيداً، ولهذا قيل: سمى الله ذنوب الأنبياء، وفجور الكفار حميعاًالضلال، وإن كان بينهما بونٌ بعيدٌ، ولما كان كذلك وكان أفظع الضلال الشرك بالله، نبه بقوله: (ضَلَالًا بَعِيدًا) أن الشرك إذا اعتبر بسائر الضلالات، فهو أكبرهن وأعظمهن، فإن متحريه قد يضل عن الطريق المستقيم ضلالا يصعب رجوعه إليه، فإن مرتكب الذنب الصغير يجري مجرى الضال عن الطريق القريب يرجى عوده إليه، ومن قال إن هذه الآية مجمله، فإنه يجب أن يبني على قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) وإن بناء هذه على تلك يقتضي أن يغفر ما دونها من الصغائر، فهذا تشبيه منه وترك للظاهر، فإنه تعالى بيَّن أنه

(117)

لا يغفر الشرك، وأنه يغفر ما دون الشرك لكن منهم المغفور له، وعلق بمشيئته فظاهره يقتضي أن الشرك لا يغفر لا محاله، لكن الشبهة في أعيان المغفور لهم الا في الذنب المغفور وهذا ظاهر. قوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120). من المفسرين، من اعتبر التأنيث ها هنا في اللفظ دون المعنى، وقال: لما كان اسم معبوداتهم مؤنثة نحو اللات، والعزى ونحو الملائكة، سماها مؤنثاً تسميتهم الأذنين والخصيتين والأنثيين، حتى قال الشاعر: ............... ضَرَبْناهُ تَحت الأنثيْين على الكَرْدِ

أي وتحت الأذنين. وقال آخر: ومَا ذَكَرٌ فإنْ تَسْمَنُ فأُنثى ... شديدٌ الأذَم لَيْسَ له بذي ضُرُوسُ وعني بذلك القُراد لأنه ما دام صغيراً يقال له القراد، وذلك لفظ مذكر، وإذا كبر يقال له يقاريد، وذلك لفظ مؤنث، فجعله مؤنثاً مذكر، ومنهم من اعتبر التأنيث من حيث المعنى وقال: الموجودات بإضافة بعضها إلى بعض ثلاثة أضرب: فاعل غير منفعل وذلك هو الباري تعالى فقط، ومنفعل غير فاعل وذلك هو للجمادات، ومنفعل من وجه فاعل من وجه هو الإنسان، فإنه بالإضافة إلى الله منفعل وبالإضافة إلى مصنوعاته فاعل، وعلى هذا الوجه

مذاهب العرب في التأنيث والتذكير فقالوا: الواحدي ذكر واحدة أنثى، قال: وقد علم أن أكثر ما عبده العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه، وعلى هذا نبه إبراهيم بقوله: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) وقول السلف: يقتضي الأمرين فقد اتفق: أبو مالك والسدي

وابن زيد (الإناث اللات والعزى) وقال: ابن عباس والحسن وقتادة: هي الأموات، وهذا القول يقتضي أنهم اعتبروا التأنيث في المعنى

وقال الضحاك: هي الملائكة لزعمهم أنها بنات الله، وقرأ ابن عباس (إلا أُنُثَا) أي وثناً، وهى جمع الوثن، والمارد، والمريد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل، و (صَرحٌ ممَرَّدٌ). أي مملس لا يعلق به شيء لملاسته، وشجرة مرداء اعتبارًا بتعريها عن الورق، وغلام أمرد لتعريه عن الشعر، تعرى

الشجر عن الورق. إن قيل: كيف قال: - (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا) ثم قال: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا) فاقتضى نفي ما أثبت؟ قيل: ليس في ذلك نفيٌ فإن دعاء هم للأوثان دعاؤهم للشيطان، وكل باطل قال له تارة الشيطان، وتارة الهوى، وتارة الصنم، لما كانت هذه الأشياء متلازمة ومتشاركة في أنها تدعو إلى باطل، ولما كان عبادة الشيطان في نفوسهم قطعية، تبين لهم أن ما تدعونه وتزعمونه أنكم تقصدون به عبادة الله، وتقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وتقصدون به الشيطان، ثم قال: (لَعَنَهُ اللَّهُ) التفاتاً، وصرف الكلام إلى وصف الشيطان، وقوله: (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ) وذلك إما حكاية عما أورده نطقاً، أو عما أتاه فعلا، ً فيكون نحو: امتلأ الحوض وقال قطني ................

ومعنى قوله: (مَفْرُوضًا) معلوما مقسوما، وقيل: مقطوعا منهم، وهم الذين سباهم الشيطان، ووصفهم بقوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) والبتك: القطع على سبيل التفريق، وبتك الآذان؟ قيل: هو الذي كانوا يفعلونه بالبحيرة، روي ذلك عن السدي، وقتادة، وعكرمة: وقيل: فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملا بفطرته، فجعله

الإنسان ناقصا بسوء تدبره، وذاك أن الإنسان بالقوة مخلوق خلقة كاملة، قد رشحه الله أن يزكي نفسه ومن دساها فقد خسسها، وتغيير خلق الله هو أن كل ما أوجده الله لفضيلة فاستعان الإنسان به في رذيلة فقد غير خلقه، وقد دخل في عمومه جعل الله للإنسان من شهوة للجماع، ليكون سببا للتناسل على وجه غصوص فاستعان به في السفاح واللواط، وذلك تغيير خلق الله تعالى، وكذا المخنث إذا نتف لحيته وتقنع تشبهًا بالنساء، والفتاة إذا ترجلت متشبة بالفتيان، ودخل في عمومه أيضا كل ما حلله الله تعالى فحرموه، أو حرمه فحللوه، وعلى ذلك قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، وقد روى عن الحمن أنه قال: هو تغيير أحكام الله، ومن قال مرة: هو الوشم إشارة إلى

ضرب التغيرات ليتبين به الغرض. وكذا من قال بالخصاء، قول: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) لفظه خبر ومعناه نهي، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ) فموالاة الإنسان غيره تكون على وجهين: أحدهما: أن يقصد موالاته، والثاني: أن لا يقصد موالاته، لكن يقع منه ما يرجع إلى صاحبه نفع فهو مواليه فعلا وإن لم يكن مواليه قصدا، وعلى هذا المعاداة فقد يعادي الإنسان غيره قصدا، وقد يقصد موالاته لكن يقع منه ما يرجع إليه ضرره فهو معاد له فعلا، وإن لم يكن معاد له قصدا، وعلى هذا

(إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) فاتخاذ الإنسان الشيطان مولى هو على الوجه الثاني، فإن الإنسان لا يقصد بفعله موالاة الشيطان. فإن قيل: كيف قال: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) واتخاذ الشيطان وليا مع الله مذموم، كاتخاذه من دون الله؟ قيل: لم يقصد بالآية هذا المقصد، وإنما أريد من ترك تحري موالاة، وفعل ما أدى به إلى موالاة الشيطان، فخسرانه ظاهر لا يتكتم على ذي بصيرة، وقوله: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) تحذير، وهذا الوعد من الشيطان تارة بالإرادات الودية، والخواطر الفاسدة، حسب ما ذُكر في كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وتارة بلسان أولياء الشيطان، وسبب إمكان وصول ذلك إليه كون القوة المفكرة عمياء من تدبر نور الله، وقد تقدم الكلام في حقيقة الأمنية، وأما سبب الحسد، والنميمة، والظلم، وسائر الرذائل، والغرور: إظهار ما تعذر، من ظاهره فيه نفع، وأصله: الأثر الظاهر من الشيء لشيء غره حسنه مخالفة باطنه، ومن هذه سمى الدنيا

(121)

غرورا، فبين أن الشيطان لا يعدهم إلا الدنيا وزخارفها، وقد قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) قوله تعالى: (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) المحيص: المَعْدِلُ عَلى سبيل الهرب، بيّن أن هؤلاء صاروا في أسر الشيطان، وكما لم يتفكروا من مولاته في الدنيا، لم يتفكروا من مصاحبته في مقره في الآخرة، كما قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ). قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) قد تقدم الكلام في نحوه، فبين أنه قد وعد بذلك في غير موضع من كتاب، بل في غير كتاب، وإذا كان هذا وعده، والوعد ضرب من القيل، وقد ثبت أنه أصدق قيلاً، فإذًا هو أصدق وعدا، ونحوه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)

(123)

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ). وقوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) قد تقدم الكلام في حقَيقة الأمنية، ولما كان أكثر ذلك قولا صادرا عن تخمين، لا عن تحقيق، جعل عما تخمن، قال الضحاك: كما أخذ كل فرقة تقول قولاً لا على مقتضى العلم. كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) الآية. (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) وقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) وخاطبهم مستجهلا لهم، كما روى: " ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل). وقوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)

قال الحسن وابن زيد: هو في الكفار لأنهم مؤاخذون بصغائرهم وكبائرهم، وقيل: هي الكبائر، وقيل: هو عام في جميع الناس، فإن من حصل منه سيء جوزي به إما في الدنيا وإما في الآخرة، وقد روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضي الله عنه: (فمن ينجوا مع هذا يا رسول الله؟

فقال عليه الصلاة والسلام: أما تحزن أما تمرض، أما يصيبك اللأواء، قال: بلى يا رسول الله، قال: هو ذاك " وقد روي: " أن الأمراض تمحيص "

وكما أنه نبه أن شيئا من السيئات لا يبقى غير مجازى به أيضا، وذكر الذكر والأنثى على التوكيد، وقيل: نبه بذكرهما، على سبيل المثل للسايس، والمسوس فيسمى المسوس أنثى، كما سماها الله تعالى زوجا، في قوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)، ونبه بقوله: (وَلَا يُظلَمُونَ نَقِيرًا)، أنهم كانوا جوزوا بالشر فإنهم يجازون بالخير، فإنهم إن لم يجازوا بذلك فقد ظلموا ظلما عظيما، والله تعالى متره عن صغير الظلم فكيف عن كبيره. إن قيل: لم أطلق في الأول فقال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، وقيد في الثاني فقال: (مُؤمِنٌ)؟ قيل: تنبيها أن عمل السوء يضر على كل حال، وأن يجزى للصالحات لا اعتداد به إلا مضامة الإيمان.

(125)

قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) الدين، والملة، والإسلام واحد من وجه، لكن يقال باعتبارات مختلفة، فإن الدين: هو الانقياد للحق وذلك معتبر بالعبد، والملة: القود إلى الحق من أمللت عليه الكتاب، وذلك معتبر بالله تعالى، وعلى نحوه قالوا: (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، وقال ابن بحر: هو أن يعدوَ الذئب على شيء ضربا من العدو، فجعله اسما معتبرا أيضا بالعبد كالدين، وكأنه من نحو قوله: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)، وقوله قال:

(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، والأول هو الوجه، والإسلام: يقال للإسلام الحق والدخول في السلم والسلامة من جهة الله تعالى، والحنيفى؟ قيل: هو المستقيم الطريقه، ومنه الأحنف: للمايل الرجل على سبيل التفاؤل، وقيل حنف أي: مال، وسمى إبراهيم حنيفا من حيث مال عما عليه جمهور قومه من المذاهب الباطلة، ولهذا قال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا)، ونبه بقوله (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أن عدوله عنهم لم يكن على وجه مذموم، وإسلام الوجه لله الإخلاص للعبادة، كما قال تعالى: (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) والذي مدح به إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاهنا هو الذي حكى عنه، في قوله عنه: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذا هو الإخلاص الذي هو أعظم مرتبة الإيمان

، كالمذكور في قوله عليه الصلاة والسلام (الإيمان بضع وسبعون درجة)، ومتحروا هذه المترلة هم المستثنون في قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106). بين تعالى في هذه الآية أن تمام حسن الانقياد لله الإخلاص له مع الإحسان، أي تعاطي مكارم الشريعة فضلا عن الأحكام التي هي العدالة، وقيل: معنى (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: حسن أن يسلم وجهه لله ، منبها على فضيلة العلم، ونبه بلفظ الاستحسان في قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا) أن ذلك غاية ما يبلغه قوة البشر، ثم قال: - (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي إذا فعل هذا فقد اتبعه، وتخصيصه أن كلا من الأمم ادعى على ملة إبراهيم، فبين أنه بهذا يصير على ملته، وقيل معنى: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) أي: إذا فعل ذلك فقد قام مقام إبراهيم واستحق ما استحقه، (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) أي: إنما

اصطفاه لما كان فيه لا لحاجة إليه فلله ما في السموات وما في الأرض، تنبيها على أنه غني عن عباده ومالك محيط بكل شيء، والواو في قوله: (وَلِلَّهِ) واو الحال، وإن كان كثيرًا تصوره أنه كلام مستأنف. إن قيل: كيف أعاد ذكر إبراهيم ولم يقل واتخذه؟ قيل: لما كان ذلك كلاما مستأنفا، كان إعادة ذكره أفحم، وأَدَلُ على موضع المدح، قال أبو القاسم البلخي: الخليل من الخُلَّة أي الفقر لا من الخلة، قال ومن قاسه بالحبيب فقد أخطأ، لأن الله

تعالى يجوز أن يحب عبده فالمحبة منه هي الثناء، ولا يجوز أن يخاله ما ليس بجنسه ، وهذا منه تشبيه لحقيقة موضوع المحبة لا يصح عليه كما لا يصح عليه الخلة ، فإن الخلة من تملك الود نفسه وخالطه، كقولهم: تمازح روحنا، ولهذا قال:

(127)

قَدْ تَخَلَلْتُ مَسْلَكَ الروح منّي ... وبذا سُمِّيَ الخَليلُ خليلا والمحبة: البلوغ بالود إلى حبة القلب، من قولهم: حبيته أي أصبت حبة قلبه، نحو فأدته ورأسته، ومنكر أن يقال: حبيتُ الله، أو حبني الله، فإذا جاز في أبلغ اللفظ الاستعارة ففيما دونه أولى على معنى الثناء، كما ذكر أبو على أو علي معنى الاصطفاء، كما ذكر غيره. قوله عز وجل: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)

قوله: (وَمَا يُتْلَى)؟ قيل: هو استئناف، على تقدير: ما يتلى عليكم بين لكم، وقيل: هو معطوف على الله أي: يفتيكم الله، ويفتيكم ما يتلى عليكم، وقد تقدم في صدر الكتاب، أن فعلا واحدا يصح أن ينسب إلى فاعلين باعتبارات مختلفة. فالإشارة بذلك إلى قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى)، وإلى - قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)

وذلك أنه بين بالآيتين حكم المستفئ فيه، بسبب نزول الآية أن عيينة بن حصن أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أخبرنا أنك تعطي الصبي المال وتعطي الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة، فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك)، فأنزل الله تعالى الآية. قوله: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)؟ قيل: تقدير: في أن تنكحوهن، وقيل: عن أن تنكحوهن، قال أبو عبيدة: كلا التقديرين يصح

لأنك تقول: رغبت أن أصحبك، في معنيين، وكانوا يرغبون في الحسان من اليتامى فيتزوجوهن، وعن القباح فيعضلوهن ماكتب الله لهن؟ قيل: المهر، وقيل: الإرث، الذي لها ومن أجله يرغبون فيها أو يعضلونها، استدل من الآية

(128)

على أنه يجوز التزوج اليتيمة الصغيرة، وأنه يجوز أن يزوجها غير الأب والجد. ولا دلالة في الآية، لأنه قال: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) وذلك بلا استقبال، ولم يذكر في الآية من نزوجها، ومن يزوجها، ولا قصد الآية إلى ذلك فبين حكمه فيها. قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) النشوز: أصله من النًّشْزِ، وهو كالطموح، وأكثر ما يستعمل في بغض المرأة الرجل، والأظهر هاهنا أنه بغض الرجل للمرأة، ويحتمل أنها إن خافت أن ينشز عليها البعل، لإعادة غيرها عليها، فأباح تعالى أن يتصالحا على ترك بعض حقها، قال ابن عباس: هي أنها تكون قد طعنت في السن يرى الزوج استبدال غيرها بها، فتقول أرضي منك بغير نفقة، أو بغير قسمة، وقيل: نزلت في سودة، وكانت قد وهبت

يومها لعائشة. فإن قيل: لم قال: (أَوْ إِعْرَاضًا) والنشوز منطًوً عًلًى ذلك؟ قيل: الإعراض أعم، فبين أن لا فرق من أن يكون النشوز، أو ما دون النشوز، ثم قال (وَالصّلحُ خَير)؟ قيل: خير من النشوز، وقيل: خير من الفرقة، والأجود أن يكون ذلك عاما فيهما، وفي غيرهما، فإن الناس مدعوون إلى التآلف، والتحاب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا "، وكل موضع يمكن فيه الصلح أحرى بالصلاح على ما يقتضيه العقل والشرع، فالصلح خير، فصار ذلك اعتراضا عاماً، تنبيهاً أن هذا الموضع منه فهو اذُن خير، وكذا قوله

(129)

(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) اعتراضا، تنبيها على ما في ذات الإنسان، والشح أبلغ من البخل إذ هو غريزة. فإن قيل: فلم ذم إذا الإنسان عليه؟ قيل: ذم الإنسان إنما هو باتباعه بأكثر مما يجب، كما يذم باتباع الشهوة ووجوده في الإنسان محمود لوجود الشهوة، واتباعه هو المكروه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (ثلاث مهلكات شح مطاع) فذم طاعة الشح لا ذاته ثم حرض على الإحسان والتقوى وضمن أنه يجازي بها، بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا). قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)

نبه تعالى على قصور الإنسان عن تحري العدالة بين نسائه، وأن يحرص على تحريها سيما في الحب، ونهى عن كل الميل عن واحدة فتكون معلقة لا زوجا مطلقة ولا ذات بعل، لا بعضه، نبه الله تعالى على صعوبة تحري الحق، وأن الإنسان إذا لم يستطع العدل بينه وبين امرأته مع أن حقها معلوم، فكيف يستطيع أن يعدل بينه وبين رب العزة ونعمه لا تحصى، وحقوقه لا تستقصى، كما قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا)، ثم قال: (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) أي: إن تحريتم الصلاح، واستجملتم التقوى بقدر وسعكم، فهو ما كان منكم. فإن قيل: إذا كان الله لا يكلف إلا الوسع، وقد حكم أنكم لا تستطيعون

أن تعدلوا، فلا ذنب فيما لا يستطاع، فكيف يغفر ذلك والغفران لا يكون إلا لذنب؟ قيل: الإنسان وإن كان لا يستطيع أن يعدل بين نسائه، فإنه يمكنه أن يحترز من ذلك بأن لا يتزوج بعدة منهن، وكل ما دخل فيما لا يستطيعه فهو مأخوذ بدخوله فيه، كمن شرب فسكر، ثم جنى جناية، فإنه مأخوذ بجنايته، لما كان هو سبب سكره، وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول (اللهم إني أعدل فيما أعدل واستغفرك فيما لا أملك)، وكان يطوف بين نسائه ليقسم بينهن، ثم استأذهن أن تمرضه عائشة.

(130)

قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) هوكقوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) وقولهم: إن لم يكن وفاق فطلاق، كما أن لهما أن يصالحا بالوفاق، وبين أنه وإن خلقهم، خلقهم يضطر كل واحد منهما إلى صاحبه، فقد أغنى كل واحد منهما عن الآخر يبدل له آخر، فهذا معنى الغنى، وفيه أيضا إشارة إلى الغنى المالي، وقد روي عن الحسن بن علي أنه كان طلق زوجته، فقيل: له في ذلك، فقال: إني رأيت الله تعالى علق على الأمرين غنى، فقال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) الآية، وقال: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) والواسع: عام في الغنى، والقدرة، والعلم، وعقبه بالحكم، منبها أن السعة ما لم يكن معها الحكمة، والعلم، كان إلى الفساد أقرب منها إلى الصلاح.

(131)

قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) لما قال (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)، نبه على قدرته على ذلك بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وسلاه عما يفوته من أغراض الدنيا، بالاعتماد عليه تعالى، وأكد ما قدمه من الأمر بالإصلاح بقوله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) تنبهًا أنه لم يزل يوصي بفعل الخير، وبين أن ذلك لرحمته لا لحاجته فهو غني وقوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، راجع إلى قوله: (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا) أي: توكلت بكفايتكم، وكفى به وكيلا، وأعاد قوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ثلاث مرات لثلاثة معانٍ: الأول: تسلية للإنسان عما فاته، والثاني: أن وصيته لرحمته لا لحاجته وأنهم إن كفروا به لا يضروه شيئاً، والثالث: دلالة على كونه غنيًا. قوله عز وجل: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) أي: هو غني عن خلقه، ومع غناه قادر على إفناء قوم والإتيان بآخرين، كما قال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)

(134)

وكما قال: (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ) قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)، ويقال لما نزلت الآية ضرب يده عليه الصلاة والسلام على ظهر سلمان وقال: (فمن قوم هذا). وقوله: (يُذْهِبْكُمْ) على هذا ليس يشير إلى الأعيان فقط، بل إلى الأنواع الذين هم العرب والعجم. قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) لما بيَّن أن

له ما في السموات وما في الأرض. بين أنه يعطي منهما ما يشاء من يشاء فثواب الدنيا يرجع إلى ملك الآخرة، وهو الغنيمة وغيرها، من الأغراض الدنيوية وثواب الآخرة يرجع إلى ملك السموات وهو الثواب الأخروي، ونبه أن كليهما منه كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ) الآية، وكقوله: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) الآية، وبين بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) أنه عارف بالأغراض، والمقاصد، فهو يجازي كلا بحسب مقصده فالأعمال بالنيات، ونبه أيضا أنه يؤتي كل واحد من أغراض الدنيا ما يراه أصلح له، كما قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)

(135)

وفي قوله: (فَضْلُ اللَّهِ) ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أدق السؤالين، مع كون المسؤول مالكا له ولا أشرف منه، وحث على أن يطلب منه ما هو أعلى، وأفضل من مطلوبه، وأن من طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا فهو دنيء الهمة. \قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) أمر تعالى كل إنسان مراعاة العدالة، ونبه بلفظ (قوامين) على أن ذلك لا يكفي مرة ومرتين، بل يجب أن يكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار لها ما لم تكن على الدوام، ومن عدل مرة ومرتين لا يكون في الحقيقة عادلاً وبين أن العدالة التامة أن يكون حكم الإنسان على نفسه، وذويه، كحكمه على الأجانب، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (أن تريد لأخيك ما تريد لنفسك)، ونبه على أنه لا يجب أن ينتفع من إيجاب

الحقوق محاباة لفقر من عليه الحق، أو ميلا لغئ غني فالله أرأف بعباده، وقوله: (وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم) حث على إقامة الشهادة على نفسه بالإقرار، وعلى دونه، ونحوه قوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ونص بعض الناس أن ذلك شهادة لهم، وقال: في صدر الإسلام كانت تقبل شهادة الإنسان لأبيه، ثم نسخ، وليست الآية تقضي إلا إقامة الشهادة عليهم لا لهم وذلك مقبول بكل حال، ونهي عن إلزام الحق والتزامه اتباعاً للهو ى، وتقدير: (أَنْ تَعْدِلُوا) كراهية أن تعدلو، وقيل:

لا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي: لتكونوا في اتباعكم عدولا، تنبيها أن اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان، قوله -: (وَإِنْ تَلْوُوا) إشارة إلى التكبر عن قول الحق، نحو قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) الآية، وإنما قال بهما وأنت تقول رأيت زيدا أو عمرا فأكرمته، ولا تقول فأكرمتهما، فإن الإكرام يتعلق بأحدهما، والآية تتعلق بالناس كلهم غنيهم وفقيرهم، وجعلهم شهداء لله تعظيما لمراعاة العدالة وأنه بالحفظ لها يصير من شهداء الله، وانتصابها على الحال لقوله:

(قَوَّامِينَ) أو صفة لها أو يكون قوامين حالا، وشهداء خبر كان، ومن قرأ (تلوه) فمن ولي يلي، كأنه قال: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) ومن قرأ (تلووا) فقد قيل: جعله من الَلي، أي: المطل، وفي ذلك مخاطبة لمن عليه الحق في ترك المطل، وللحاكم إذا تقدم إليه الخصمان أن لا يدفع الطالب عنه حقه، والشاهدان لا يمتنع بالشهادة لهم

(136)

قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) قيل: معناه يا أيها الذين آمنوا بمحمد أديموا الإيمان، وقيل: معناه يا أيها الذين آمنوا بالأنبياء، قبل محمد آمنوا بمحمد، وقال الزجاج: خاطب بذلك المنافقين الذين أظهروا الإيمان، وتقديره: على ما قال أن الإيمان ضربان: ضرب: هو يحكم به في الظاهر، وهو الإتيان بالشهادتين والتزام أحكام الشريعة، وهو الذي يُحصِّن دم الإنسان وماله إلا بحقه، وضرب: هو التخصص بحقائقه التي اقتضاها، قوله:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)، وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، وقد بينت في مكارم الشريعة أن الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام: (اثنان وسجون درجة)، وبينت القانون الذي اقتضى ذلك، وأن تلك المراتب بعضها على بعض، فالإنسان إلى أن يصل في آخر درجة منها مأمور بالترقي إلى ما فوق منزلته، فالآية خطاب يتوجه على كافة المؤمنين أن يترقوا في تلك الدرجات، وقد ذكر تعالى في هذه الآية ما هو الإيمان الاعتقادي، وذلك الخمسة، وذلك هو الإيمان بالله وبالملائكة والكتاب والرسول واليوم الآخر، وهي المذكورات في خبر جبريل عليه الصلاة والسلام (حيث أتى النبي عليه الصلاة والسلام في صورة أعرابي فقال له: ما الإيمان؟) وذكر أن الكفر بهذا هو الضلال البعيد، فنبه أن

(137)

الانسلاخ من الهداية والضلال الذي قلما يرجي عود صاحبه، وقد ذكرت كيفية الضلال عن - الطريق في مكارم الشريعة. قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) قال قتادة: يعني أهل الكتابيين اليهود، آمنوا بموسى ثم كفروا بمن عداه، والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمن عداه، ثم ازدادوا كلهم كفرا بمحمد، وقيل: آمنوا. بموسى ثم كفروا به لأنهم لم يؤمنوا بعده بعده فهم في حكم من لم يؤمن، وقال مجاهد: هو في المنافقين المذكورين في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)

وقيل: هي في الذين قال فيهم: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)، ولم يرد أنهم آمنوا مرتين وكفروا مرتين وإنما ذلك إشارة إلى أحوال كثيرة، كقولك: فلان فعل ثم امتنع إلى هذا كان دأبه، وقيل: كما أن الإنسان يندرج إلى غاية الفضائل ثلاث درجات، وهو أن يحصل في أولها، ثم في أوسطها، ثم في منتهاها، كذلك يتضلع في الرذائل ثلاث درجات، ولذلك جعل الله له ثلاث عقوبات الرَّين والغشاوة والطبع، ومن

(139)

ترك الإيمان مرة بعد مرة، ثم ازداد تماديا في الغي، فقد صار من الذين وصفهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، ثم قال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، فبين تعالى أن من انتهى في الغي إلى هذا المنزل فقد صار بحيث لا يتوب، وإذا لم يتب لم يغفر له ولا ليهديه إذ هو لا يهتدي لكونه مطبوعا على قلبه لما ارتكبه، وقال بعض الفقهاء: إن المرتد تقبل توبته سار بالكفر أولم يُسر، لأنه جعلهم مؤمنين بعد دخولهم في الكفر. قوله تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) العِّزةُ: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، وهو من قولهم أرض عزاز أي صلبة، وتعزز اللحم اشتد

وعزَّ كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، كقولهم: تظلف كأنه حصل في ظلف من الأرض، وعزز المطر الأرض صلبها، وشاة عزوز قل درُّها، والبشارة: الخبر الذي ظهر أثره في بشر الوجه، وأكثر ما يستعمل في السرور، ويجوز أن يكون في مثل هذا الموضع رد إلى أصله، كالطرب الذي هو خفة من الفرح والترح في الأصل ثم كثر في الفرح، فرد الشاعر إلى أصله في قوله: وأراني طَرباً في إثرهم ... طَرَبَ الوَالِهِ أو المُخْتَبَل

ويجوز أنه استعمل للبشارة، في ضده على سبيل التهكم، نحو قول الشاعر: .................. تحية بينهم ضربٌ وجِيعُ ووصف المنافقين بأنهم موالون الكفار كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) الآية، ثم قال: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) تنبيها أن لا عزة لهم وإنما العزة لله ولرسوله والمؤمنين، فقد ذكر من منه العزة ومن جُعل له العزة في الأولى، ذكر من منه العزة فقط دون من جعلت له، ونفى ذلك عن الكفار تنبيها أنه وإن حصل لهم حوله

(140)

تسميتها الجهلة عزا فليس ذلك في الحقيقة بعز إذا اعتبرت الحقايق. قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) منع تعالى المؤمنين من مجالسة من قصده العناد والهزؤ، وليس له قصد إلى حماع الصدق ولا نية رجاء أن يسخر بلى حق، فأما من رجي أن يقلع عن رأيه فجائز مجالسته بل واجب، ولهذا قال الحسن: إنا كنا إذا رأينا باطلا تركناه حتى لا يسرع ذلك في ديننا، وقول ابن عباس: لمن يجوز أن يقعد معهم بوجه حتى نزل قوله تعالى: (وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) نسخ ذلك، فليس يقصد حقيقة النسخ، وإنما يعني أن الآية كانت تحمل على العموم، فعلم بهذه الآية تخصيصها وأنه يجوز مجالستهم إذا رجي منهم رشدا، ولا يجوز فيما يؤدي بهم إلى فساد ولهذا قال تعالى: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

ونبه بقوله: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) على أًن الاستماع إلى الباطل مكروه، كما أن التفوه به مكروه، وبهذا ألم الشاعر فقال: سَمعُكَ صُنْ عَنْ سَمَاع القُبْح ... كَصون اللسان عن اللَّفظِ بهِ والسامع للذم شريك له والمطعم للمأكول كالآكل. ونحو الآية قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وبين أن المنافق الذي يظهر بلسانه الإيمان دون قلبه، والكافر الذي يصرح بالكفر هما سيّان في استحقاق النار، فإن الاعتبار بإخلاص النية كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولكل امرئ ما نوى).

(141)

قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) الاستحواذ: الاستيلاء، وأصله من استحوذ البعير على الأتان، إذا استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها، ويقال: استحاذ، وهو القياس، وقد جعل تعالى ما للمؤمنين فتحا، وما للكافرين نصيبا، تنبيها أن الذي حصل للكافرين هو من الدُّولة من أهل الدنيا، وذمهم لأنهم يراوون الفريقين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (شر الناس ذو الوجهين يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)،

ومن هذا قيل: إن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجها، وقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) فإن أمير المؤمنين جعله معتبرا بقوله تعالى: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وقيل: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) في القيامة وقال غيره: لن يجعل الله له سبيلا في الفتح، الذي جعله للمؤمنين لا في النصيب الذي قد يجعله للكافرين من الأغراض الدنيوية، وقال السدي: السبيل الحجة لم يجعل ذلك للكافرين، وحمل الفقهاء: ذلك على الحكم، فقالت الشافعية: الإسلام يعلوا ولا يعلى، قالو: أمر يقتضى ذلك

(142)

أن لا يملك الكافر عبدا مسلما ولا يصح شراءه، واقتضى أن لا يقتل مؤمن بكافر، واستدلت الحنفية على من ارتد انقطعت العصمة بينه وبين امرأته، قبل انقضاء العدة فلا يكون له إليها سبيل. قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) قد تقدم في مخادعة الله، وبين أنه متشبعون بنقل الخبر، وأن كسلهم يدل على تشبعهم، والذكر ههنا الأولى أن يراد به ما يكون باللسان، دون ما يكون بالقلب، ونفي ذلك عنهم يقتضي أن ذلك ليس عن نية وطوية صحيحة، والرياء كالنفاق لأنه أعم. قوله عز وجل: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) التذبذب: الاضطراب،

(144)

قال النابغة: تَرى كُل مُلْكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ وصفهم بأنه مندفعون من الجانبين لا موجة لهم، ثم بين الإرشاد ولا رشد لهم كما قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40). وقد تقدم الكلام في الإضلال. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)

(145)

نهى عن اتخاذ الكافرين أًولياء من دون المؤمنين، وذلك أن يستعان بهم استعانة المرؤوس بالرئيس، والمنتصر بالناصر لاستعانة المستخدم بالحاكم، وعلى ذلك قوله: (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) وبين أنكم إن فعلتم ذلك جعلتم على أنفسكم سلطانا للعقاب، وجعل الحجة سلطانا نحو: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا)، (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ)، قال بعضهم يصح أن يقال لا سلطان لله على المؤمنين المخلصين،. بمعنى أنه لا يعذبهم. قوله عز وجل: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)

الدركات والطبقات يقال في العقاب كالدرجات في الثواب، ونبه بهذه الآية على نهاية رداءة المنافقين، وأنه منتهى الكافر لأنه يساويه في اعتقاده، ويزيد عليه في كذبه، لأنه يدعي ما ليس له والمنافق مرائي، وبين أنه تعالى لا ينصرهم ولا يجدون من ينصرهم عليه كقوله: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) واستثى ممن يجعلون في النار للتائبين. جعل من تمام التوبة إصلاح العمل، والاعتصام بالله وإخلاص الدين، وهذه الشرائط الثلاث من تمام التوبة، كما أن الأعمال الصالحة من تمام الإيمان، ومن لم يأت بذلك فإنه يقال له تاب على المجاز، وحذف الياء في الخط في قوله (يُؤْتِ اللَّهُ) اتباع اللفظ لالتقاء الساكنين كقوله: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ) وكقوله: (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ).

(147)

وحذفها من قوله: (ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) للتخفيف، وقوله: (يَسْرِ) لكونه رأس الآية. قوله عز وجل: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) أي تعالى الله عن عذابكم فلا يعذبكم إذا عرفتم ووفيتم حقها، إن قيل: لم أخر الإيمان عن الشكر؟ قيل: لأنه عني به معرفة النعمة التي يتوصل به إلى معرفة النعم، ومعرفة المنعم هي الإيمان، فإذا الشكر على هذا الوجه مقدم على الإيمان، لأنه أرفع منه وهو لا ينفك عن الإيمان، والإيمان قد ينفك عنه، ووصفه نفسه بالشكر تنبيها أنه يقابلهم بما يكون منهم، فقد تقدم أن الشكر قد يكون من المولى للعبد بمعنى مقابلته بما يكون من خدمته، ونبه بقوله: (عَلِيمًا) أنه لا يخفى عليه ما يتحراه العبد.

(148)

قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) قوله: (مَنْ ظُلِمَ) رفع على تقدير: لا يرضى أن يجهر بالسوء من القول إلا المظلوم، أو على تقدير: أن يسوء في المقال إلا المظلوم، وسمَّى المجاهرة بالسوء سوءا تنبيها أنه لو لم يكن ذلك على سبيل المقابلة لكان سوءاً لفظه خبر ومعناه للإباحة، كأنه قال: لا يجهر بذلك إلا المظلوم، وذلك كقوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) وقوله - صلى الله عليه وسلم - (اذكروا الفاسق بما فيه) رخصه لمن أذي بغير أن يذكَر فعله لا رخصة في اغتياب الناس من غير حاجة إلى ذكرهم، ومثل قوله: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) تقديره: لكن من ظلم فإنه له أن يذكر ظالمه بأن يدعو عليه، أو يغتابه. بما فعل على سبيل الشكاية، قال مجاهد: قد دخل في ذلك من ضاف

(149)

رجلا فلم يؤد حق الضيافة. قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) جميع ما يفعله الإنسان مع غيره من الإحسان، إما إحسان يبديه أو إحسان يخفيه، أو يخاف عليه لسوء يجنيه قد ذكره تعالى وبيّن أنه يجازي به، ونبه بقوله: (عَفُوًّا قَدِيرًا) على مجازاة المتعافي بالعفو عنه وقدرته عليه. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)

(152)

الإيمان بالله لا يتم إلا بتصديقه، مقاله ومقال رسوله والرسل كلهم يجرون مجرى واحد، فمن كفر ببعضهم كالكافر بكلهم، من حيث أنه لم يتحرَّ الحق، فالحق من حيث ما هو حق لا منافاة بينه، إن قيل لم أعاد ذكر الرسل ولم يقل بين الله وبينهم فيكون أوجز؟ قيل: لما عنى أنهم يفرقون بين الله ورسله وبعض رسله، وعنى بقوله: (يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) كل رسله لأن كل من كفر ببعضهم كفر بكلهم، فلو لم يعد ذكرهم لاقتضي أن يكون معناه يفرقون بين الله وبين جماعة الرسل، فإن المضمر لا يفيد إلا ما يفيد مظهره، فأعاد ذكرهم لما كان الأول عاماً والثاني خاصًّا. وقوله عز وجل: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) أي يتحرون لطلب رئاستهم سبيلا ليس بحق، وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) إن آمنوا ببعض الأنبياء، وهذا الكلام مبنيّ عَلى قياس، كأنه قيل: كل من فرق بين الأنبياء فهو كافر حقا أعتدنا له عذابا مهينا، وهؤلاء قد كفروا ببعض الأنبياء فإذاً أعتدنا لهم عذابا مهينا. قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)

(153)

كما بين في الآية الأولى حكم من فرق بين بعض الأنبياء وبعضهم، بّين حكم من خالفه: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136). وَذكر أجرهم، كما ذكر في الأولى عقاب من فرق بينهم، ونبه بذكر الغفران على غفران ذنوبهم وبالرحمة على مجازاتهم بالإحسان. قوله عز وجل: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)

نبه تعالى على ما كان من تحكيمهم واقتراحهم على ما ينافي السياسة الإلهية، وبيّن أن ذلك ليس بأول جهالاتهم وجناياتهم، فقد اقترحوا على موسى ماهو أبعد وأشنع مما سألوك، ولأنهم سألوا إدراك الباري بالحاسة في الدنيا، فرجها الصاعقة لما ارتكبوه من الظلم في طلب ذلك، وثانيا: أنهم عبدوا العجل بعد إتيانهم الحق وعبادتهم للعجل بعد إتيان الحق أشنع وأفظع، مع أنه في كل حال أشنع، وقوله: (وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) يجوز أن يكون ذكر منه ثالثة ويجوز أن يكون اعتراضا وتوكيدا لما قبله، وأنهم مع ما أوتي نبيهم من المعجزات يرتكبون ما يرتكبون، ورفع الطور؟ قيل: كان على سبيل تخويفهم، وقيل إظهاره المعجزة، وثالثا من كان بمخالفتهم فيما أمروا من دخول باب من أبواب بيت المقدس، وأن يقولوا حُط عنا ذنوبنا،

(155)

وقال بعض الناس: معنى ذلك خذوا الحق من حيث ما يجب أخذه، ولا يطلبوه من غير وجهه، قال: وهذا استعارة، نحو قول الشاعر: أتيت المروة من بابها. ومعنى (سُجَّدًا) أي متواضعين لقبول الحق، ورابعا ما كان من تعديهم في السبت، فأعاد ذكر الميثاق تنبيها أنه أخذ عليهم ذلك مرة بعد أخرى. قوله عز وجل: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) ما في قوله: (فَبِمَا) زائدة مؤكدة

ومعنى توكيدها أنها تقتضي تكثير معنى الفعل الذي يدخل عليه، كما أن التشديد وزيادة الحروف في مفعيل ومفعال وفعال يقتضي ذلك، وقيل: بل (ما) ها هنا اسم نكرة اقتضى حالا مجملة، وقوله (نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ) وما بعدهما بدل منه، كأنه قيل: فبشيء ما لعنوا، ثم فصَّل ذلك الشيء وخص ما كان منهم في هاتين الآيتين سبعة أشياء تقضي الميثاق المذكور في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير الحق، وقولهم قلوبنا غلف، وكفرهم المطلق، وقولهم على مريم البهتان، وادعائهم قتل عيسى وقولهم قلوبنا غلف،

أي ادعوا أن قلوبهم أوعية العلوم، فكذبهم الله، بقوله تعالى: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) وقيل: معناه قلوبهم محجوبة عن العلم، كقوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) وأثبت لهم ها هنا إيمانا قليلا، اعتبارا بظاهر أقوالهم حيث قالوا نؤمن ببعض ونفى عنهم في الأول الإيمان اعتبارا بالحقائق، وأن ذلك المقدار غير معتد به، ووجه ذلك أن من فعل بعض ما أمر به فإنه يصح أن يقال: لم يفعل ما أمر به اعتبارا بالفعل كله، ويصح أن يقال: قد فعل بعض ما أمره اعتبارًا بما ظهر منه، اعتد به أو لم يعتد، وقوله: (وَكُفْرِهِمْ) فإنه أعاد ذلك تنبيها أنهم كفروا بالمسيح وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، وقيل: لارتدادهم مرة بعد أخرى، والبهتان: الكذب الذي يبهت منه سامعه فظاعة وشناعة، والباء في قوله: (فَبِمَا) قيل: هو متعلق بقوله: (حَرَّمنَا) وقوله: (فَبِظُلمٍ) بدل

(157)

منه وأدخل الباء فيه لما تباعدا بينهما، وقيل: هو متعلق بمضمر، كأنه قيل: سبب هذه الأشياء: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ) والمعنى ارتكابهم - لهذه القبائح أفضى بهم إلى هذا الاقتراح. قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)

إن قيل: كيف حكى عنهم أنهم قالوا قتلنا رسول الله ولم يقروا بكونه رسولا؟ قيل: هو أن يكون ذلك من جملة الحكاية وذكروه على سبيل التهكم زعما منهم أنه لو كان رسولا لما قدرنا على قتله، ويجوز أن يكون ذلك من قول الله تشريفا له لا حكاية عنهم، كأنه قال أعني رسول الله ونفى قتله وذكر أن ذلك شُبِّه لهم، واختلفوا في حال عيسى، فقيل: ألقي شبه على رجل فقدر أنه هو فصلب، قالوا: فهذا معنى قوله تعالى: (شُبِّهَ لَهُم) فاعترض على ذلك، وقيل: ثبت أنهم يدعون صحة ذلك ويقولون أن هذا جائز في الأمور الإلهية، وأن منه النبوة، كيف يصح أن يفعل ذلك فيرى الناس بعيونهم صورة رجل وهو يصلب، ثم يذمهم، حيث قالوا إنه صلب، وهل يلعن الإنسان مع ذلك أن يرى امرأة يقدرها أنها امرأته، فيدنوا منها ثم يعاقبه الله بذلك؟ قيل: إن ذلك شيء يفعله الله فتنة بعد فتنة الحكمة تتعلق به فليس يجب للإنسان أن يظن ذلك في كل وقت، وإنما ذمهم تعالى بتبجحهم بقتل الأنبياء إلا أن الأمر شبه لهم، وقال بعضهم: إذا رأى واحداً أو اثنان أو إنسانا من بعيد، وفيه مماثل من عيسى فلما فقدوه من ظنوه إياه، فصار هذا الخبر ماض فيما بينهم فإنه يستند إلى من يصح عليه الخطأ والكذب، وبين

أن المختلفين فيه يقولون عن تخمين واتباع ظن، إن قيل: كيف جعل اتباع الظن مستثى من العلم وليس بداخل فيه؟ قيل: حقيقة في كل اعتقاد ظنا كان أو وهما أو تخيلا أو حسا، ألا ترى أن النابغة في صفة الطير: جَوانِحَ قَدْ أيْقنَّ أنَّ قَبيلهُ ... ما الْتَقى الجَمْعَان أوَّلُ غَالِب فاستعمل في الظنون اليقين وهو أشرف العلم، وقد يقول لمن يدعي العلم وهو لا يعلمه، علمك ظن، فعلى هذين يصح أن يستعمل العلم في الاعتقاد وإن لم يكن معه سكون النفس، فلما ادعى القوم أنهم علموا قالوا مالهم به من علم فأدخل عليه من، تنبيها على استغراق جنس المعارف التي يحصل منها الاعتقادات، ثم قال: (إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) فذكر أضعف وجه يحصل به الاعتقاد، ولهذا قال تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) فجعل اتباع الظن سبب للخرص أي الكذب.

قوله: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا) أي ما قتلوا ذلك لاعتقاد من قولهم قتلت كذا علما أي بحقيقته، كأنه قيل: ما تحققوا معرفة ذلك؟ قيل: أراد به القتل الحقيقي وإنما قال يقينا لأنه يقال فلان فعل كذا ظنا إذا توهم أنه فعله، وفعله يقينا إذا تحقق أنه قد فعله، وقوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِليهِ) قيل: معناه رقى بشخصه كما هو إلى السماء، وإليه ذهب - جماعة من أصحاب الحديث، وقيل معناه: مع ذلك أنه شرف مكانه من بين الأنام كقوله: (وَرَفَعنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) وكقول الشاعر: بلغنا السما حسابنا ... لولا السما لحر بالسملة وقول لآخر: لَنا بَيْتٌ على عُنُق الثريّا ..........

(159)

وذكر قول (إليه) تنبيها على تعظيم المرفوع، لا إلى إشارة إلى حد محدود، تنبيها على أنه حصل له به أعلى الشرف، وإلى نحوه أشار (إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى) (وَإِلَيهِ المَصِيرُ) ومثل هذا يشار إليه ولا يمكن الكشف عن حقائقه باللفظ، وإنما يدركه الإنسان بحسب ما جعله له من نوره. قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) قيل: ما أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى عليه السلام قبل موت عيسى إذا نزل من السماء، يكون أهل الكتاب خاصا لمن كان في زمان نزوله، وقيل: بل ذلك عام. والضمير في قوله: (قَبلَ مَوتِهِ) راجع إلى (أحد) المضمر في قوله:

(قَبْلَ مَوْتِهِ) راجع إلى أحد المضمر في قوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) ويعني به وقت المعاينة حيث تصير العلوم بالآخرة ضرورية ويرتفع التكليف. فإن قيل: فأي تشريف لعيسى إذا قلتم إن الحقائق كلها تظهر في تلك الحلل؟ قيل: تشريفه أنه جعله من جملة الحقايق التي من أُجِلَّ في الدنيا بمعرفتها لم يعتمد لعمله كمعرفة الله، ومعرفة الملائكة، والقيامة، وإلى نحو هذه المعرفة أشار تعالى بقوله: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) وعلى هذا حكى عن فرعون (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ). وقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) أي شاهدا أنه بلغهم رسالة ربهم كقوله: (فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) وهو الذي قال:

(160)

(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ) فهو يشهد على نفسه بالعبودية، وعليهم بسماع الرسالة. فإن قيل: فأي تعلق بقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) بما تقدمه؟ قيل: نبه بما تقدم أنهم اعترفوا بصدقه في الدنيا، قبل خروجهم منها يعقبه هذا، تنبيها أنه يلزمهم شهادته عليهم يوم القيامة. قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) ظلمهم عام في جميع ما ارتكبوه مما لا يجوز، وتخصيص الأشياء الثلاثة المذكورة بعده تعظيما لها. واعلم أن تحريم الله على ثلاثة أضرب: الأول: تحريمه الخبائث وكل ما ليس له هذا بوجه والبدن تعافه كالذباب، والخنافس، والأشياء المخلوقة من فضول البدن وهذا الجنس يحرم عقلا وشرعا. الثاني: ما يعلم ضره أكثر من نفعه وقد يظن بعض الناس فيه نفعا كثيرا، فهو متردٍ من التحريم والتخيل في العقل، وضرب نافع في الأحوال الدنيوية جداً، إلا أن نفعه ليس بضروري، والعقل لا يقتضي

بتحريمه، والشرع قد حرمه في حال دون حال، تهذيبا للنفوس عبادة، ودفعا لسلطان شهوتهم كتحريم الشحم على بني إسرائيل، وهو ما قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا) الآية، فنبه تعالى أنهم لما أسرفوا وصاروا يظلمون، ويصدون عن سبيل الله، حرم عليهم بعض الأطعمة، ليكون في ذلك عقوبة لهم من وجه وتهذيب يقمع شهوتهم من وجه، فقلة الطعم سبب لتوهين الشهوة، ولتوهينها أمر تعالى في كل شرع بصوم، ليكون ذلك سببا لمنعها عما تدعو إليه، فلا تكون كالبهائم التي تأكل ما تشتهي، وإلى نحو هذا أشار قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا تصحوا)، فإن في الصوم صحة

(162)

للبدن، وصحة النفس، وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ) لما نبهً بما تقدم أنهم كفروا، ذكر ما أعد للكافرين ليكون فيه إشارة إلى أنهم يستحقون ذلك العذاب، أنهم من جملتهم. قوله تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) الراسخ في العلم: هو الذي لا يعترضه شبهة لتمكنه في معرفته وتحققه بها، وكونه من الذين قال فيهم: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) فنبه أن الراسخين في العلم يعرفون معنى النبوة ويعتبرونه، فحيث ما وجدوه يتبعوه، فالحق لا ينافي بعضه بعضا.

إن قيل: ما وجه لكن ها هنا؟ وهو لإبطال الشيء وإثبات آخر، فما الذي أبطل ها هنا؟ قيل: لكن وإن كان كما قلت، فتارة تجيء بعد نفي، ما جاءني زيد ولكن عمرو، وتارة تجيء بعد إيجاب، والإبطال فيه مقدر، نحو جاءني زيد لكن أخوه أحسن إلي، والتقدير: أخوه لم يجئني لكن أحسن إلي، فأغنى عن الإبطال بذكر الإيجاب، ولما اقتص عن اليهود ما كان منهم، وألزمهم المذمة، بيّن أن الراسخين لم يذهبوا مذهبهم، لكن يؤمنون بكل ذلك ويستحقون به الثواب، بخلاف هو لا الذين يستحقون العقاب، وقوله: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) قيل: هو عطف على قوله: (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي: وبالمقيمين الذين يقيمون الصلاة. وقيل: الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين وهذا إذا جعله عطفا لم يجوزه سيبويه لعطف الظاهر على المضمر المجرور، وإن جعلته على تقدير من وحذفه لدلالة ما قبله عليه جوزه لتجويز قوله: ما كل بيضاء شحمة، وسوداء تمرة، على تقدير: ولا كل سوداء تمرة. وحكى أن عائشة قالت:

إني لأجد في كتاب الله لحنا من جهة الكاتب وسيقيمه العرب بألسنتها وقرأت (وَالمُقِيمِين) (1). ولسيبويه باب في كتابه يذكر فيه أن كل وصف يجيء على المدح والذم، يصح فيه الاستئناف مرفوعا ومنصوبا، ويجوز منه إتباع الموصوف

_ (1) لا يصح ولا يثبت.

على هذا يحمل قول الشاعر: النَّازلُون بكُلِّ مُعتَرك ... وَالطيِّبون مَعَاقِدَ الأُزُر

(163)

وقد ذكر تعالى عامة الإيمان الاعتقادي، فإن جماعة ذلك هي المذكورة في قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) الآية ولم يذكر الملائكة ها هنا في ضمن الإيمانَ (وَمَا أُنْزِلَ) إيماناً بالملائكة الذين نزلوا به وإنما قدم الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على الإيمان بالله ها هنا لأن القصد من الآية إليه، والمذكور بعده على سبيل التبع، وذكر من الإيمان العملي إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأنهما ركنا العبادة، وعلى هذا يخصهما في عامة الآيات من بين العبادات. قوله عز وجل: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) ذكر تعالى في هذه الآية اثني عشر نبيا بأسمائهم وأجمل ذكر باقيهم، وذكر بعض أولي العزم وبعضا من غيرهم، وذكر بعضهم على الترتيب، وذلك أنه أراد أن

يبين أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم، وخصه بما خص كل واحد منهم به تفضيلا له وتشريفا، وأنه جرى معهم مجرى، فذلك من الحساب المبني بجملته عن تفصيل ما تقدم، فذكر نوحا الذي هو أول أولي العزم من الرسل والنبيين ومن بعده مجملا، ثم فضل النبيين فذكر إبراهيم الذي كان أول النبيين من أولي العزم بعد نوح، وذكر معه من جرى منه مجرى أبعاضه في كونهم تابعين له، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، ثم ذكر الطرف الآخر من أولي العزم وهو عيسى ثم الأواسط أيوب ويونس وهارون، ثم ذكر من أوتي الكتاب مجملا وهو داوود، فإن الزبور وهو اسم الكتاب، إذ كتبه كتابة غير مفصلة، وأفرد ذكر موسى من حيث إنه خص بالتكلم، وكل هذه الفضائل كان للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

(165)

قوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) نبه أن بعثة الأنبياء إلى الناس مما لا يستغنون عنه، لقصوركلهم عن إدراك جزئيات مصالحهم، وفضول أكثرهم عن كلياتهم وجزئياتها، وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين ليكون قد أزاح عللهم، لذا قال تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا). قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15).

(166)

قال: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا). قوله عز وجل: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) اتصل ذلك بما قبله اتصال إثَبات الحق بعد إنكار من أنكره، ومعنى شهادة الله: إقامة البينة الدالة على ثبوته، وعلى هذا قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) الآية، أي: أقام البينة الواضحة على وحدانيته، وأعظم الشهادة ما يقتضي علم المشهود عنده، فالشهادة من الناس قد لا توقع العلم، وشهادة الله إقامة البراهين المثلجة للصدور موقعة للعلم مزيلة للشك، فمن أعظم شهادته إتيانه لمعجزاته كالقرآن الذي هو كما قال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88). وقوله: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) قيل: بعلمه بك، وأنك

(167)

مستحق للنبوة، كما قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). وقيل: أنزله بالعلم الذي يحتاجون إليه، أي هو. متضمن للعلم، وذكر شهادة الملائكة تنبيها أن العقول الصحيحة تعرف صحة نبوتك، وأنكم لو استعملتم العقول لاطلعتم على ذلك، لإطلاعهم ووقوفهم عليه، لمشاركتكم إياهم، ولأنهم أتوكم بما لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الملأ الأعلى، فهذا معنى شهادة الملائكة. ثم قال: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي بما أقام من الأدلة على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره. قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) الضلال أعم من الكفر، فكل كفر ضلال، وليس كل ضلال كفرا، والناس في الضلال ضربان: ضال غير مضل، وضال مضل، وهو أعظمها جرماً وأكبرها عقابا، والمضل بالإضافة إلى غيره قد ضل ضلالا بعيدا، وهو الذي كفر وضل عن سبيل الله.

(168)

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) قيل: عنى الله بالجمع بين الكفر الذي هو أعظم الظالمين وبين ظلم العباد. وقيل: تقديره: إن الذين كفروا وظلموا الذين ظلموا، نحو قول الشاعر: ومنْ يَهْجوا رَسُولَ الله منكم ... ويَمْدَحَه ويَنْصُره سَواءُ أي ومن يمدحه بحذف (من). وقوله: (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي

(170)

لا يوافقهم لغير ذلك إذ لا يستحقون بل لا يقبلون. وقوله: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي لا يصعب عليه تعذيبهم، ولا يستعظمه، فالحكمة تقتضي ذلك. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) (الباءَ) في قوله: (بِالحَقِّ) للتعدية، كقوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43). (خَيْرًا) نحو (انتَهُواْ خَيْرًا لَّكم) وتقديره: آمنوا وائتوا خيرا لكم. فدل بلفظ الإيمان على إتيان الخير. قال الكسائي: تقديره يكن الإيمان

خيرا لكم، وأجاز الكسائي مثله في الخير، وقال: سمعت اتقوا من خيرا لكم. وأنشد: - فَوَاعِديْهِ سَرْحَتيْ مالِكِ ... أَوالرُبَا بَينَهُما أَسْهَلاً وقوله: (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي نفع إيمانكم عائد عليكم وأما هو فغني عنكم، ونبه بقوله: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على غناه، ولم يعن الموضوع منهما فقط، بل يعني مع ذلك ما ركب منه السماء والأرض، كقوله لفلان: ما في هذا الثوب أي غزله ونسجه فمنه، تنبيه أن له السماوات والأرض كما أن له ما فيهما اهـ.

(171)

قوله عزَّ وجلَّ: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) الغلو: الخروج عن القصد، ومفارقة العدل، من قولهم: غلا السعر، وغلت القدر. خاطب بذلك النصارى فيما يدعونه من الافتراء على الله وعيسى، وقد تقدم الكلام في منافاة الربوبية للولد، وسماه كلمة الله كقوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ). قيل: بشارة الله، وقيل: لأنه مدى كلمة الله وسماه روحا لقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) وقيل: لأنه كان يحي الناس إحياء الروح، وقيل: لأنه سبب للحياة الأخروية، كما أن الروح سبب

(172)

للحياة الدنيوية. وقيل: انتهوا خيرا لكم. قيل: فيه الوجهان المقدمان، وقيل: انتهوا انتهاءاً خيرا لكم، بقوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) على غناه عن الأولاد، وبقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) أنه القائم بحفظ الأشياء، والولد يحتاج إليه، ليكون وكيلا لأبيه، وهو تعالى مستغن لأنه هو الحافظ لكل شيء. قوله عز وجل: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) الاستنكاف: الأنفة من قوله نكفت الدم أي نحيته بالإصبع حتى قيل للدم نكف، وقيل: بحر منكوف لا ينزح. قيل: هو من النكف أي نحيته قطيف بالعنق، وقيل: من النكفين، وهما لحمتان متدليتان من العنق، واستعمالها

في التكبر كالصعر ميل العنق والعزم بالأنف، وعلى ذلك قال الشاعر: إن الكَريمَ مَنْ بَلَغَتْ قُواهُ ... وإن اللئيمَ دَائِمَ الطرْف أَقْوَدُ والعبودية وإن كانت متضمنة بالمذلة إذا اعتبرت لغير الله، فإنها مقر الشرف إذا اعتبرت به تعالى، فلهذا الاستنكاف منها. والاستكبار: طلب التكبر لغير استحقاق، التكبر قد يكون باستحقاق، وذلك إذا كان طلبا لعزة النفس والتلطف عن الأغراض الدنيوية. نبه تعالى أن لا استنكاف لأحد في عبادته وأن المستنكف عنها لا ينجو منه، بل يفتقر إليه فيجازي به. والضمير في قوله تعالى: (فَسَيَحشرُهُم) راجع إلى كل من تقدم فلهذا فصل من بعد. واستدل بعض المتكلمين بالآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء، وقال: مثل هذا الكلام إذا ذكر على طريق التحمد مؤخرا الأشرف فالأشرف، فيقال: لا يستنكف الحاجب من خدمة فلان ولا الوزير ولا الأمير، ولا يقال على عكس ذلك، فاعترض على ذلك بأشياء أحدهما: أنه قد يذكر في مثل هذا الموضع في مرتبة واحدة، فيقال: الرشيد لا يستنكف من ذلك ولا المأمون

أيضا، فقد خص الله تعالى عيسى من دون غيره من الأنبياء، فلا دلالة أنه أفضل من كلهم، وأيضا فقد قال: (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ولا دلالة أن غير القربين أفضل من الأنبياء، فأجاب هذا المجيب أن المسلمين اختلفوا على وجهين: فمن قائل قال: الأنبياء أفضل، وقائل قال: الملائكة أفضل ولم يقل أنهما سواء وكذا قالوا: لا فرق بين عيسى وغيره، في كونهم فوق الملائكة، أو دونهم، وكذا لم يفرقوا بين المقربين، وغير المقربين في هذا المعنى. وهذا الجواب كما ترى، وقد اعترض على ذلك أيضا فقيل: إنما ذكرت من قولك لن يستنكف الحاجب من خدمتي، ولا الوزير، إنما يكون في اسمين مفردين كما مثلت به، فأما إذا ذكرت مفردا أو جملة فليس يقتضي ما ذكرت، كقولك: لن يسنكف الحاجب أن يخدمني، ولا الصغير، والكبير من أصحاب

(173)

الأمير، قال: فهنا لا يقتضي أن يكون الصغير، والكبير أفضل من الحاجب، فأجاب عن ذلك بجوابين: أحدهما: أن هذا الموضع قصد به التكثير، لا التكبير والآية قصد بها التكبير، والثاني: أن ما ذكرت إنما يكون في جملة يدخل المعطوف عليه في عمومه كقوله: والصغير، وليس عيسى مما يدخل في جملة الملائكة، واعترض على ذلك تنبيها بقوله: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) واستدل على تفضيل الملائكة هنا بقوله: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) فاثبتوا فلولا أنهم فوقهما لما اغتر بذلك، وكذا أيضا استدل بقوله: (وَلَاَ أَقُولُ لَكم إِنِّى مَلَكُ) فتبين أنه لا يدعي لنفسه مرتبة ولا يليق به فهذا هو دلالته من حيث الظاهر. قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) الفرق بين الاستنكاف والاستكبار، الاستنكاف نكف في قوله

(175)

أنفة وليس في الاستكبار نحو ذلك، والولاية تقتضي إخلاص المودة والنصرة معونة كان معها الولاية أو لم تكن، وقوله: (وَيَزِيدُهُم مِّن فَضلِهِ) إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت). إنما ذكر من دون الله تنبيها أن كل ولاية ونصرة فمنه مبدؤها حتى ولو تصورناه مرتفعا لما صح ذلك بوجهه تعالى الله علوا كبيرا. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) عنى بالبرهان الآيات القاهرة المبنية عن المعجزات، وبالنور القرآن لأنه به يعرف الطريق إلى الله. خاطب بذلك الكافة، وبين أنه أزاح عللهم بالعقل والشرع كما قال: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) من أن من عرف ذلك واعتصم به دخل في

(176)

رحمته التي يستحقها التائبون (فَضْلِهِ) أي إحسانه الزائد على ما استحقه وأنه يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الطاعة في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة. قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) الاستفتاء: طلب الفتيا للحكم. وقد تقدم معنى الكلالة، وقوله: (وَلَهُ أُخْتٌ) أي أخت من أبيه وأمه أو من أبيه وقد ذكر الحكم في أول السورة، وقوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي لترجعوا إلى كتابه إذا جهلتم فتعلموا منه، وتقديره: يبين لكم ضلالكم الذي من جانبكم أن تتحروه إذا تركتم، ومن تبين له الضلال تبين له الحق، فإن معرفة أحدهما متضمن بمعرفة الآخر ولا دونه، وقد قال تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) هو الزجر عن القبائح والإنسان إذا ترك عن المزاجر والنواهي، ولم يأخذ بمقتضى العقل، صار بالطبع

بهيمة، ولذلك قال للكفار: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22). قال: هذا أبلغ من قولكم يبين الله لكم أن لا تضلوا لأن في معرفة الشر معرفة الخير، وليس في معرفة الخير المعرفتان جميعا. وقال الكسائي: تقديره لئلا يضلوا فحذف (لا)، وقال البصريون: تقديره: حذر أن تضلوا.

سورة المائدة

سورة المائدة السورة التي يذكر فيها المائدة بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) أصل العقد في الحبل ونحوه كالربط فاستُعير للعهد المؤكد ولا استعارة. من ذلك قال الشاعر:

قَومٌ إِذَا عَقدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقهُ الَكَرَبَا وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) والعقود باعتبار العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر. وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركزه الله تعالى بمعرفته في الإنسان فيتوصل إليه، إما ببديهة العقل، وإما بأدق نظر، وعليه دل قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية، وضرب أوجبه الشرع: وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء، أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، فأما اللازم بالالتزام، فأربعة أضرب: فالأول: واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقُربِ، نحو أن يقول: عليَّ أن أصوم إن عافاني الله، والثاني: مستحب الوفاء به ويجوز تركه: كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك. والثالث: مستحب ترك الوفاء به وهو ما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).

والرابع: واجب ترك الوفاء به، نحو: أن يقول علىَّ أن أقتل فلاناً المسلم، وذلك ستة في أربعة وعشرين ضرباً من العقود. فظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه واجباً أو قربة، ومن المفسرين من حمل ذلك على حِلْفَ الجاهلية دون

حِلْفَ الإسلام. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ). والصحيح أن ذلك عام، وأن معنى قوله: (لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ) أن الإسلام قد بين ما يجب التزامه، وما لا يجب وإن ما كان يحتاج إليه في الجاهلية من المحالفة للحماية قد كفوا في الاسلام، فقد قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فبيَّن أن حماية بعضهم على بعض لازمة تحالفوا، أو لم يتحالفوا

ونحو هذه الآية قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وذم المُخّل بذلك حيث قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ). وقوله: (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ فالبهيمة: ما لا نطق له من الحيوان كالعجماء، لكن اختص في المتعارف بما عدا السباع، والطير والأنعام، وأصلها في الإبل ثم استعملت في الأزواج الثمانية، إذا كانت معها الإبل، ولا يدخل في ذلك الخيل والبغال والحمير،

فإن قيل: ما وجه إضافة البهيمة إلى الأنعام؟ قيل: كقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ). وقيل: لما كانت الأنعام في أصل اللغة تقع على كل نعمة جرت مجرى الصفات، أضيفت البهيمة إليها إضافة اليوم إلى الجمعة، كأنه قال البهيمة التي هي من جملة ما أنعم الله عليكم به. وقيل: لما كان قد تقدم تحليل الله النعَّم في سورة الأنعام لأن سورة المائدة تأخر نزولها عن الأنعام فيما روي نبه بقوله:

(بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) على تحليل البهيمة الجارية مجرى الأنعام في كونها محللة فيكون لهذه الآية دالة على تحليل البهيمة وتحليل الأنعام، وما في سورة الأنعام دال على تحليل الأنعام فقط، ويدل على ذلك قول من قال من السلف: بهيمة الأنعام هي بقر الوحش والظبي، لأن المخاطبة للمسافرين إذا كانوا حللاً، وتخصيص المؤمنين بالخطاب قيل: هو تنبيه أن المباحات محظورة على من ليس بمؤمن. وقيل: بل ذلك تشريف لهم اعتباراً بالسياسات الدنيوية، لأن الملك يخص بالخطاب الشريف الأمثل فالأمثل. ولا تفرع بلفظ الخطاب على

الأنام وإن كانوا في الحكم تبعاً للأماثل، قال وعلى ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) وحكم الكتابيات حكمهن، وقوله تعالى: (إِلَّا مَا يُتلَى عَلَيكُم) أي ذلك سوى ما حرمته مما يتلى، واعتبر بعضهم لفظ الاستقبال، وقال أراد ما سيحرمه وذلك لمجهول بعد. قال: فالآية مجمله، وليس كما ظن، فإن قوله: (مَا يُتلَى) تنبيه على تلاوة القرآن على التأبيد، وقد يتناول ذلك ما تقدم. ذكر الله إياه، وما ذكره في هذه الآية. وقوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) معناه كلوا ذلك على أن لا يكون صيداً في حال الإحرام،

(2)

وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) الحِكْمَةُ، والحَكْمَةُ من أصل الإبانة إذا كان في القول قيل: له حكم وقد حكم، وإذا كان في الفعل، قيل: له حِكْمَةٌ وحُكْمٌ وله حِكَمٌ فإذا قلت: حكمت بكذا، فمعناه قضيت فيه بما هو حكمه، وإن كان يقال حكم فلان بالباطل، بمعنى أجرى الباطل مجرى الحكمة، فحكم الله تعالى مقتضٍ للحكمة لا محالة فنبه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) أن ما يريده يجعله حكمه حثاً للعباد على الرضا به كما قال عليه الصلاة والسلام: حاكياً عن ربه تعالى: (من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي فليطلب رباً سواي). فالله يحكم ما يريد، وحكمه ماضٍ ومن رضي بحكمه استراح في نفسه، وهُدِي لرشده، ومن سخط نقد حكمه واكتسب بسخطه سخط الله وإمقاته. قوله تعالىْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)

الشعائر: حمع شعيرة أي العلامة، وأصلها إصابة الشعر، كقولك عانه وكبده، يقال للحواس المشاعر، قال الحسن: شعائر الله دينه وفرائضه، وقول عطاء: هي مناسك الحج، فأشار إلى نحو ما قال الحسن. وقوله: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي القتال فيه وقيل: هو تحريم النسىء المذكور في قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ).

والهدي أصله فيما يُهدى من النعَّم، وقد يستعمل في كل ما يتقرب به إلى الله وعلى ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (المبكر للجمعة كالمهدي بدنه، إلى أن قال ثم الذي يليه كالمهدي بيضة)، فجعل البيضة هدياً. والقلائد ما يطوق به الهدي شعاراً له، وقيل: نبه بذلك على تحريم كل ما يحتص بالهدي فنص على أدناه الذي لا قدر له تنبيها على ما فوقه، كقوله تعالى: (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) وقيل: أراد به المقلدات فبين تحريم المقلَّد وغير المقلَّد

وقال بعضهم معنى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ): أي لا تمنعوا الكفار من التمسك بشعائره، فقد كانوا مجتمعين مع المؤمنين في إقامة المناسك فمن قال هذا قال الآية منسوخة لقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). وعلى الأول خطاب للمسلمين لمراعاة أحكام الدين عاماً، أو أحكام الحج، ولا يكون فيه نسح، وقوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا) قيل: عنى الفضل الدنيوي المطلوب بالمكاسب المباحة. وقيل: بل الفضل الأخروي.

(وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) رخصة كقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ليجزم أن التكسب مكروه، ولا يقال ذلك للكسب المحمود في عامة كلامهم. وقول الشاعر: جَرِيمَةُ نَاهضٍ في رَأسِ نَيْقٍ - على طريق التشبيه. والتنبيه أن العقاب يرتكب بالجرائم، لا قبل أدائها

كما ذكر بعض الحكماء ما ذو والد وإن كان بهيمة إلا ويذنب لأجل أًولاده وعلى هذا المعنى قيل: فلان يجرم لأهله، وقوله تعالى: (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي لأجل أن صدوكم. وقولهه: (أَن تَعتَدُوا) أي على أن تعتدوا، ونهى المسلمين عن الاعتداء على من ظلمهم فأبغضوهم لظلمهم إياهم، وقرأ إن صدوكم، ويكون في تقدير المستقبل. إن قيل كيف قال هاهنا هذا، وقد قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) قيل الأمور به في قوله: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) إباحة المُجازاة للظالم بمثل فعله فسماه باسم الأول. وقوله تعالى: (أَن تَعتَدُوا) نهى عما هو أكثر من المجازاة، أو حث على العفو، وقوله: (شَنَئَانُ) إذا قرأ بفتح النون فمصدرٌ، نحو نَزوَان وطَيَران، وإذا قرأ

بسكونها فاسم، نحو عطشان أي لا يحملنكم بغيض قوم، أي من يبغضون منهم. وقيل: شَنْآن وشَنَآن. بمعنى وأكثر ما يقال في المصادر، والأوصاف ، والأفعال التعدية. والتقوى في هذا الموضع اسم لغاية ما يبلغه الإنسان وهي المذكورة في قوله: (لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) فكأنه قال تعاونوا على أدنى المنازل من الخير وأقصاها، وقيل: بل البِرُ أعلى المنزلتين فإنه ما اطمأن إليه القلب من غير أن ينكره بجهة أو سبب، والتقوى: اجتناب المآثم، فكأنه قيل تعاونوا على فعل الخير وترك الشر. وقوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فالإثم يتناول جنايات العبد بينه وبين الله وما بينه وبين العباد.

(3)

والعدوان ما بينه وبين غيره وهو أخص، وعقب ذلك بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). زجراً عما نهى عنه. قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) (الْمَيْتَةُ) هاهنا ما فارقته الروح من غير تذكيه مما له نفس سائله، وقد يقال: ذلك لما ليس له نفس سائله، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أحل لنا@ ميتتان ودمان)، (وَالدَّمُ) هاهنا هو

الدم المسفوح بدلالة قوله (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) فعرَّف في الآية الدم ولحم الخنزير، وإشارة إلى ما ذكره هاهنا. وتخصيص لحم الخنزير لا يقتضي تحليلَ شحمه وسائر ما فيه لأن ذلك نص على أفضل ما فيه ليدل على ما دونه. وقال بعض الفقهاء: لا يجوز الانتفاع

بثمنه، ولا باستعمال شيء منه في غير الأكل والإهلال: التكبير: من قولهم أهل الصبي كأن الصبي يكبر الله فعلاً، وإن لم يكبِّره قولاً؛ لدلالته على الآية، كتسبيح الشجر والمدر فعلاً وإن لم يكن تسبيحه قولاً، فحرم ما سُميَّ عند ذبحه الأصنام، (وَالْمُنْخَنِقَةُ) ما وقع في حلقه ما خنقه حبلاً كان أو غيره، (وَالْمَوْقُوذَةُ): المقتولة بضرب، يقال: وقذته ضرباً، ويدخل فيه كل مقتول بغير ذكوه، فأما المرمي من الصيد بما يخرج بحدة فغير داخل في الموقوذة، بدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب وخرق فكُل، فإن أصابه بعرض فلا يحل فإنه وقيذه).

(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الساقطة من سطح أو جبل أو في بئر يُؤَديِّ سقوطها إلى أذاها. (وَالنَّطِيحَةُ) المقتولة بالنطاح، ناطحة كانت أو منطوحة. (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) مما افترسه سبع فمات. وقوله: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) راجع إلى المنخنقة وما بعدها. وإدراك ذكاته هو أن تؤخذ له عين تَطرف أو ذَنَبٌ يُحَّرك. على ما روي عن أمير المؤمنين، والذكاة:

بقطع الحلقوم، والمريء ومستحب أن تقطع معهما الوَدَجين، و (النُّصُبِ) حجر كانوا ينصبونه ويتقربون بالذبائح له، والاستقسام بالأزلام هو ما كانوا يفعلونه في الميسر، كقوله: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ). فإن قيل ذكر (ما) في قوله (ما أهل) (وما ذبح)، وذكر هاهنا (أن تستقسموا) دون (ما)؟ قيل: لأن المحرَّم في الأول نفس المذبوح، والمحرم هاهنا الاستقسام فأما المذبوح على الشريطة المشترطة في الشرع فإنه وإن قسم بالأزلام لا يحرم عينه. وقيل: الأزلام قداح تكتب على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي فإذا أرادوا أمراً

ضربوا ذلك فاعتبروا ما يخرج منه. والفسق والفجور: هما الخروج عن أمر الله فالفسق من قولهم فسقت الرُطَبة من قشرها. والفجور من فجر الماء، وقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أي أن لا يحققوا أن لا يمكنهم أن ينسخوا ما أمرهم من دين الحق. وقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قيل: لما كان الإسلام شرع شيئاً منشئاً بيَّن تعالى بهذه الآية كماله، وقيل: إن الأديان الحق كلها جارية مجرى دين واحد وكان قبل الإسلام في الشيء بين إفراط وتفريط بالإضافة إلى شرعيتها، وذلك على حسب ما كان يقتضي حكمة الله في كل زمان فكمَّله الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعله وسطاً مصوناً عن الإفراط والتفريط، كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) وكمله وتممه به كما قال عليه الصلاة والسلام: (بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق). وقال: (إن مثل الأنبياء كمثل بيت ترك بينه موضعُ لبنة فكنت اللبنة).

فهذا معنى قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وهذا هو الذي اقتضى أن تكون شريعته مؤبدة لا نسخ ولا تغيير، فالأشياء في التغيير والتنقل ما لم تكمل فإذا كملت فتغيرها فساد لها، ولهذا قال: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) ونبه بقوله: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) على أمرين: أحدهما: أن الإسلام هو الدين المرتضى على الإطلاق لا تبديل له ولا تغيير، وسائر الأديان مثله كان مرتضى في وقت دون وقت، وعلى وجه دون وجه، والقوم دون قوم، وهذا الدين بعد أن شُرعِ مرتضًا في كل وقت، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في موسى: (لو كان حيا ما وسعه إلا اتباعي) ولأجل ذلك قال تعالى:

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الآية. فقوله تعالى: (اليومَ) إشارة إلى زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إشارة إلى اليوم الذي أنزلت هذه السورة. فقد كان في النسىء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً إلى آخر أيامه، فحينئذ كمل وصار بحيث لا تغيير فيه ولا تبديل بنسخ ونسخ. إن قيل: كمَّل الدين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حكم تعالى أن دينه هو دين إبراهيم حيث قال: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا). قيل: ونبه تعالى أن هذا الدين الذي هو دين إبراهيم من حيث أنهما داعيان إلى الحق ومشتركان في أصول الشريعة، لكن ما شُرِع على

لسان إبراهيم كان مبدأ الإسلام، وما شُرِع على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتمة الإسلام. فمن حيث إن هذا مؤيد ناسخ لفروع ما تقدم قال: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ومن حيث إنه شارك دين إبراهيم في الأصول صار هو إياه، وهذا ظاهر لمن عرف قوانين الكلام. إن قيل: إن ذلك يقتضي أن يكون الأديان كلها ناقصة، وأن يكون دينه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك اليوم ناقصاً. قيل: الكامل والناقص من الأسماء المتضايفة التي تقال باعتبار بعضها بعض، فالصبي إذا اعتبر بالرجلِ فهو غير كامل، وإذا اعتبر بمن هو على سنه فهو كامل، إذا لم يكن مذموما فكذلك دين الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتبر بأهل زمانهم كان كاملاً، وإذا اعتبر بدين النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانه لم يكن كاملاً وليس النقصان المستعمل هو النقص المذموم فلفظة ناقص تستعمل على وجهين. إن قيل: ما وجه فائدة قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) بعد قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؟ قيل لما بين تعالى أنه أكمل دينهم بيَّن بعده أن ذلك الدين هو الإسلام وقد رضيته كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ). وقوله: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أضاف النعمة إلى نفسه تشريفاً لها. وقوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) منه أن الخشية في الحقيقة يجب أن تكون ممن منه مبدأ النفع والضُر دون الوسائط فقد قيل: أعجز الناس من خشي من

(4)

لا ينفعه ولا يضره، دون الذي بيده الخير. وقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أي من ناله ضرورة ولم يجنف، أي: لم يمل لما تبين إثماً بل راعى الحقَّ وقصد دفع أذى الجوع. فالله تعالى لا يؤاخذه به فإنه كان غفوراً لذنوب عباده رحيماً بهم. فهو أهل أن لا يؤاخذهم بما فسح لهم فيه وعلى نحو هذه الآية دل قوله تعالى: (فَمَنِ اضطُرَّ غَير بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلا إِثمَ عَلَيه). قوله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الطيب التام الذي يستلذ عاجلاً وآجلا، وذلك هو الحلال الذي لا يُعْقِبُ إثما، وقوله:

(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ) مبتدأ. وقوله: (فَكُلُواْ) في موضع الخبر. قال بعضهم: هو معطوف على الطيبات وتقديره: صيدوا ما علمتم، والأول أجود، والجوارح: الصائدات الكاسبات من الكلاب والفهود ونحوها بالجرح بناب أو مخلب، ومنها قيل جَرَحَ فلان واجترح إذا اكتسب، والمكلَّب: المضرُّي على الصيد سواء أضرى كلباً أو غيره. وبعض المفسرين خص ذلك بالكلب وكره صيد جوارح الطير إذا قتلت، وقال إن ذلك لا يستعمل فيه التكليب. ومن شرط المعلَّم أنه إذا دُعِيَ أجاب وأن لا يأكل من الصيد ومتى

كان ذلك فإنه يؤكل وإن قتله، وقال الكوفيون: صيد جوارح الطير يؤكل منه، وإن أكل. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سميت فَكُلْ وإن أكل منه فلا تأكل) يقتضي خلاف ما قالوه، ومعنى:

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)

إشارة بقوله: (أَمْسَكْنَ) أن لا يأكلن. وظاهر الآية أن لا فرق

بين كلب المجوسي والمسلم إذا أرسله المسلم، بخلاف ما قال الثوري: أنه يكره الاصطياد بكلب المجوسي، وأجمعوا أنه إذا قدر على ذبح ما أمسكه المُكلب فلم يذبح فلا يؤكل، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)

(5)

قال ابن عباس: يعني لأوليائه، وجعل ذلك أمناً لهم، وقال: بل ذلك تخويف لمن خالف أمره. قوله عز وجل: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يعني اليوم ما تقدم ذكره في قوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وفي قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وذلك إشارة إلى عام الوداع. (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) عند الشافعى: - هم

بنو إسرائيل من اليهود والنصارى دون من دخل في دينهم بعد الإسلام، لقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ). وقال ابن عباس: فهم الصابئون. وروي عن علي: أنه لا تحل ذبائح النصارى العرب. وعند أبي حنيفة: أن ذلك يتناول أيضاً من يدخل بعد الإسلام في

دينهم احتجاجاً بقوله تعالى: (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فحَكم أنهم منهم. ويعني بطعامهم ما يذبحونه ويتولون الصنْعةَ، ومما يملكونه، ولم يحتج أن يشترط فيه رضا مالكه إذا لم يكن القصد إلى ذلك وقوله: (وَطَعَامُكُم حِلٌّ لهُم) أي يجوز أن تطعموهم، وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي العفائف، وقال

الشافعي: عنى الحرائر منهم، ومنع الحر من التزوج بإمائهن، ويقوَي قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ). وكان ابن عمر رضي الله عنه: يكره التزوج بالكتابيات وإذا سئل عن ذلك يقرأ هذه الآية قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) ويقول في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من الذين كانوا منهم فأسلموا كقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) وغيره حمل قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) على أهل الأوثان والمجوس

وقال ابن عباس: لا لمجل نكاح الحربيات منهن لقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) وأكد ذلك بقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). والنكاح يقتضي المودة لقوله: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). وقال: من جوز التزوج منهن أن المودة المنهي عنها هى المودة الدينية، وأما المودة الزوجية فهي التبقية، وذلك غير محظور. قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) أي بالدين الحق. والحَبْطُ أصلهْ الحَبَطُ وهو داء يأخذ الإبل في أجوافها من كلأٍ يستوبله. وقيل معناه: من

(6)

لم يشكر الله بالإيمان، أي هو ذو إيمان فقد حبط عمله تنبيهاً أن الاعتقاد لا يكفى ما لم يضامه شكر نعمه بإقامة عباداته. وقيل معناه: من لم يراع حقيقة الإيمان بالاعتقاد لم تنفعه أعماله. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) قال أصحاب أبي حنيفة: ظاهر الآية تقتضي أن لا يجب في الوضوء النية، والقول بوجوبه يقتضي زيادة في النص والزيادة في النص تقتضي النسخ، ونسخ القرآن لا يجوز اتفاقاً بخبر الواحد والقياس فلا يصح إذاً إثبات النية، وقال بعض الشافعية: بل الآية تقتضي إيجاب النية لأن معنى

قوله: (إِذَا قُمتُم) إذا أردتم ولو لم يكن معناه ذلك لم يكن لذكره فائدة. وقال بعضهم: الآية تقتضى الترتيب، لأن الفاء في قوله: (فَاغسلُوا) تقتضي ترتيب غسل الوجه على القيام، فإذا ثبت ترتيب الوجه على القيام ثبت في غيره لأن أحداً لم يفصل، وليس ذلك بشىء فإن الفاء وإن كانت تقتضي الترتيب فإنما اقتضى ذلك في الجملة لا في البعض، ولم يقتضي ترتيب الأعضاء والمأمور بغسلها بعضاً على بعض، والأظهر أن الترتيب اقتضتاه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ابدأوا بما بدأ الله به) وفعله الذي فعله تبياناً للآية، وقد رنب ثم قال: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به)، والمرفقان داخلان في الغسل بدلالة

ما روي من الأخبار، وظاهر الآية تقتضي مسح الرِجل لولا ما روي في ذلك من الأخبار سواء قرئ بالنصب أو بالجر، وذاك أنه إذا نُصِبَ فهو كقوله

مررت بزيد وعمرواً، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكة مسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقيل له: في ذلك. فقال: (عمداً فعلت) وظاهر أول الآية أن كل صلاة تقتضي الطهارة لكن لما شرط في البدل وهو التيمم فقال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) عُلم أن ذلك شرط في المبدل أيضاً، ولأن الإجماع على أنه لا يجب الوضوء لكل صلاة ما لم يحصل حدث وقد استحب تجديد الوضوء لكل صلاة من أجل ظاهر اللفظ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الوضوء على الوضوء نور على نور)، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بالوضوء).

وقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) وهوكقوله: (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) والجنابة بإنزال الماء أو بالتقاء الختانين، وقوله: (فَاطَّهَّرُوا) أي تطهروا فأدغم فسكن تاء الفعل وأدخل عليه ألف الوصل. وقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) أي مَرَضاً يمنع من استعمال الماء (أَو عَلَى سَفَرٍ) أي سفراً يُعدم فيه الماء وظاهر اللفظ يقتضى قليل السفر وكثيره ولكن الأَخبار خصته.

وملامسة النساء كناية عن الجماع عند عامة الصحابة، وذكر عن ابن عمر: آية اللمس بأي موضع كان من البدن، وإليه ذهب الشافعي، وقال قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) يقتضي أن يطلب، لأن عدم الوجود يقتضي الطلب، وظاهر الآية تقتضي أن لا يجوز التيمم إلا بعد عدم قليل الماء وكثيره، ومستعمله وغير

مستعمله لكن استثنى المستعمَل، بدلالة قوله تعالى: (وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) ولا خلاف أن ذلك يقتضى الماء المطلق، إلا عند الأصم، فإنه أجاز التوضؤ بماء الورد وما يجري مجراه في الرقة، وقوله: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي تراباً. وقيل: وجه الأرض، وإن لم يكن عليه التراب، وقوله: (منهُ) يقتضي ما قاله الشافعي أنه يجب أن يعلق باليد منه

شيء، وقوله: (طَيّبًا) أي طاهر والطيب في وصف الأرض ما ليس بسبخ، بدلالة قولَه: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)، وقوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) منهم من اعتبر ذلك في الدنيا، وقال: ظاهره يقتضي أنه لا يريد أن يتطهروا ويغتسل مع الخوف على النفس من الشدة والضنى. وقائل ذلك يقتضي بطلان قول من يوجب الغسل من الجنابة مع المرضى، ومنهم من

قال: معنى ذلك لا يعتبروا الجهل والمشقة في هذه العبادات بالحال الظاهرة، واعتبروا بالمال فإن ذلك ذريعة إلى تطهير نفوسكم، وما يفضى بكم إلى النعيم المعد لكم، لتعلموا أنه لم يرد حرجاً بما أوجبه عليكم، فإنكم إذا اعتبرتم ذلك شكرتم الله على ما طلعكم وعلمتم أن ذلك ليس بحرج ومشقة حملكموها، ونحو ذلك قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). وقوله: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يعني الطهارة من الذنوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت ذنوبه من وجهه وإذا غسل يده خرجت ذنوبه من يده) وذلك قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) وقد حُمل على ذلك قوله: (وَثِيَابكَ فَطَهِّر).

(7)

قوله عز وجل: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) الميثاق: العهد المستوثق منه وميثاق الله تعالى: المأخوذ من عباده على أضرب: الأول: ما أخذه عليهم بالفطرة: وهو ما رَكَزَه فيهم من المعارف. الثاني: ما أخذه عليهم بما أفادهم من العلوم المكتسبة. الثالث: ما أخذه عليهم ببعثة الأنبياء وإلزامهم بالشرائع. الرابع: ما يلزم بعضَهم عن بعض بما يجب عليهم الوفاء به، وقد حمل الآية على كل ذلك. وقوله: (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا) تفسير الميثاق الذي أخذه، ووجهه ذكر النعمة. والميثاق بعد أصحاب الطهارة تذكير

(8)

للنقمة، وتأكيد لوجوب طاعته. وإن قيل: لما قال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) ولم يقل نعم الله؟ قيل: لفظ الواحد في هذا الوضع أبلغ ففيه تنبيه أن في ذكر نعمة واحدة شغل عظيم مع أن لفظ الواحد في نحوه يقتضي الجنس. وذكر نعمته هو شكرها. وقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي يقوي الإنسان من العقل والفكر والتخيل الغضب والشهوة. وذكر الذات للمبالغة وعلى ذلك قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5). وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)

(قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي خلفاءه شهداء بالعدالة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ) وذلك يقتضي الشهادة لحقوق الناس كما قال الحسن: وعلى قومهم فبما يخالفون أمر الله فيه، كما قال غيره: ولأمر الله أنه حق. كما قال الزجاج. وقيل: معنى الشهادة الحضور أي كونوا في جميع ما يتحرونه مشاهدين لله. كما قال - صلى الله عليه وسلم - (إن لم تكن تراه فإنه يراك)، وعدي قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن لم تكن تراه فإنه يراك)

وعدي قوله (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) بـ على - حملاً على معنى لا يحملنكم. وقوله: (عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا) أي على ترك العدالة وذلك قريب من قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا) فالاعتداء قريب من قوله: (أَلَّا تَعدِلُوا) لكن قوله: (أَلَّا تَعدِلُوا) أبلغ. وقوله: (هُوَ) أي العدل فأضمر المصدر لدلالة الفعل عليه كقولهم: - من كذب كان شراً له أي الكذب شراً له، إن قيل كيف قال: (أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وأفعل إنما يقال في شيئين أُشْرِكا في معنى واحد لأحدهما مزية. وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا هو من جملة العدالة. فما معنى قوله: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)؟ قيل: إن أفعل وإن كان كما ذكرت، فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء، لا على ما عليه من حقيقة الشيء في نفسه، قطعاً لكلامه وإظهار التبكية، فيقال لمن اعتقد مثلاً في

(9)

زيد فضلاً وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمروا أفضل منه، فقال أَجزِم عمروا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله تعالى: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وقد عُلِم أن لا خير فيما يشركون بوجه والآية نزلت في يهود احتالوا النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: في قريش لما صدوا المسلمين. فأمر الله تعالى المسلمين ألا يتركوا معهم مع ذلك استعمال العدالة. إن قيل: كيف تصور الظلم وقد أُبيح للمسلمين أن يقتلوهم ويسبوهم ويسلبوهم وقيل: كل ذلك أُبيح لهم على وجه دون وجه، متى أُخِل لمراعاة الحكم المسنون في شيء من ذلك، فهو ظلم بل من فعل الإنسان بالكافر مع ما أمر أن يفعل به قصداً إلى التشفي منه تحرياً لأمر الله، ففى ذلك تعدياً فأوجب الله تعالى تحري العدالة مع كل محق، ومبطل وإقامة الشهادة بالحق في كل أمر، وبين الله أنه تعالى عالم بما يتحرونه، ولا يخفى عليه خافية. قوله عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) في قوله: (مَغْفِرَةٌ) وجهان: أحدهما: أن يكون في موضع مفعول وعد الله

(10)

كقول الشاعر: وَجَدْنا الصَّالِحينَ لَهُمْ جَزاءا ... وَجَناتٍ وَعَيْناً سَلْسَبيَلا فجعل قوله: (لهم) جزاء في موضع المفعول به وعطف على موضعه قوله: (جَناتٍ) بالنصب والثاني أن مفعول وعد محذوف، وقوله: (لَهُم مَّغفِرَةٌ) تفسير له وعلى كلا التقديرين لا يختلف المعنى. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) ذلك استئناف كلامهم متضمن للوعيد بتضمن الآية الأولى للوعد. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

قيل عنى قوماً من اليهود هموا بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي: أن يهودياً انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسل سيفه وقال من يصونك مني، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: الله، فشام سيفه وأذعن لى). وذكر نعمة الله لشكره وقد تقدم ذلك ونبه بقوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أنه

(12)

لا يجوز للمؤمن أن يفزع إلى غير الله في شيء من أموره. قوله عز وجل: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) النَّقْبُ كالثقْبِ لكن الثقب يقال لما قضى من الجانب الآخر والنَّقْب، قد يقال له ولغيره وباعتباره قيل: النقبة لأول ما يبدأ من الحرب وقيل لضرب من السراويل نقبةٌ، وكلب نقيبٌ مثقوب الحنجرة لئلا يرفع صوته. والمناقب ما ينقب عنه من المفاخر والنقيب كالعريف يقال نقب وعرف وهو الذي عنى أحوال الجيش. قال أبو عبيدة: هو الضامن على القوم. قال قتادة: هو الشاهد، وقيل: هو فعيل في معنى مفعول وهو المختار، وذلك إشارة إلى

ما قال: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). والمذكور في قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا) وأصل التعزير النصرة إما بأن لا يَظلم أولا يُظلم. كما قال عليه الصلاة والسلام: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال بعضهم: - أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ فقال: تمنعه من الظلم). وتعزير السلطان عى بذلك كما سمي التأديب، وإقراض الله عبارة عن كل إنفاق محمود أوجبه أو ندب إليه، وسمي ذلك قرضاً تلطفاً بعباده وأن

(13)

ما يطلبه منهم مع كونه في الحقيقة مُلكاً له تعالى، يأخذه ليرد عِوَضًه خيراً منه، وعلى ذلك: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) والقرض: اسم للمقرض كالعطاء في كونه اسم للمُعْطى. وقيل: هو موضوع موضع الإقراض، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي ضمن نصرتكم. وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) يتصل به قوله: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ). وقوله: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ). جملتان فصل بهما بين الكلامين المتصلين على سبيل الاعتراض المؤكد للكلام، وقال: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ) أي إن أديتم الفرائض ونصرتم الرسل وأنفقتم في سبيل المكارم، تجوفي عن ذنوبكم ومكنتم من الجنة، ومن كفر بعد أخذ الميثاق فقد ضل عن الصراط المستقيم. قوله عز وجل: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

قد تقدم ذكر نقض الميثاق وقلوبهم قاسية هي كقوله: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). وقرأ قَسيَّة وقيل هي فعيله منه، وقيل: معناه ليست بخالصة الإيمان من قولهم درهم قسي إذا خالطه غِشية الخائنة. قيل: مصدر كالخيانة، نحو عوفي عافية (والمؤتفكات بالخاطئة)، و (أهلكوا بالطاغية). وقائله: بمعنى قيلولة. وقيل معناه: تطلع على جماعة خائنة، وقيل: على رجل خاص كقوله راوية وداعية ونابغة قال الشاعر:

حَدَثَتْكَ نَفْسُكَ بِالوفَاءِ وَلمْ تَكُنْ ... للغَدرِخَائِنةَ مُغِل الأصبُعً إن قيل لما قال: (وَنَسُوا حَظًّا) فنكَّر؟ قيل للإنسان حظان: حظ دنيوي، وحظ أخروي، فأشار بقوله (حظًّا) إلى الأخروي. ونبه بقوله: (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) على أن الله قد ذكرهم ذلك بما وضع فيهم من العقل وبما أنزل عليهم من الكتب فنسوه أي تركوه، واستعارة لفظ النسيان لتركهم إياه مبالغة في ذمهم وتمام القصة عند قوله: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ثم استأنف على سبيل الذم لهم (وَلَا تَزَالُ تَطَّلعُ) وقوله: (فَاعفُ عَنهُم وَاصفَح) أمر بالعفو عما يضمرونه، وقيل: أمر بالعفو عمن دخل في العهد. وقال قتادة: ذلك منسوخ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ).

(14)

وقال غيره: بل بقوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ). والوجه أن يكون أَمَر بالعفو عن المستبطن وعمن دخل في العهد فلا تكون منسوخة. قوله عز وجل: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) ذم النصارى بنقض الميثاق، كما ذم اليهود وجعل عقوبتهم إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وأصل الغِرَا: من أغرا به أي لصق، وكيفية إيقاع الله الجداوة بينهم على ما تقدم من

(15)

نسبته تعالى نحو ذلك الفعل إلى نفسه. قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) أعاد بما يخفون من الكتاب إلى مثل إخفاء بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكم رجم الزاني، وأخذهم الرشى، وقوله (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي يتجافى من إظهار كثير مما يخفونه، وبَّين في هذه الآية النعم الثلاث التي خص بها العباد وهي: - النبوة والعقل والكتاب. وذكر في الآية التانية ثلاث أحكام، يرجع كل واحد إلى نعمه مما تقدم. فقوله: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) راجع إلى

(17)

قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) أي بهذا البيان إلى طريق السلامة من التبعة ممن تحرى مرضاة الله. قوله تعالى: (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) راجع إلى قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ). وقوله: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) راجع إلى قوله: (وَكِتَابٌ مُبِينٌ). كقوله: (هُدًى لِّلمُتَّقِينَ). والسلام قيل هو: اسم الله تعالى نحو قوله: (السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ). وقيل: هو السلامة نحو الخسار والخسارة والضلال والضلالة. سبل السلام هي المشار إليها بقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ). قوله عز وجل: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وإن قيل: إن أحداً لم يقل الله هو المسيح، وإن قالوا:

المسيح هو الله، وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت، فيقولون يصح أن يقال: المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت، كما يصح أن يقال: الإنسان هو حيوان وهو نبات لما كان مركباً منهما. قالوا ولا يصح أن يقال اللاهوت هو المسيح، كما لا يصح أن يقال الحيوان هو الإنسان. قيل: إنهم قالوا هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن عمد بن كعب القرظي: أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة السلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا ما تقولون في عيسى فقال أحدهم: أتعلمون أحداً يحيي الموتى إلا الله فقالوا لا، فقال: أتعلمون أن أحداً يعلم الغيب إلا الله فقالوا: لا. فقال: أتعلمون أن أحداً يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله، قالوا: لا. قال: فما الله إلا مَنْ هذا وصفه أي حقيقة الإلهية فيه. وهذا كذلك. الكريم زيدٌ أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم. إن قيل: (فا) في قوله: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)

مما يقتضي تكذيبهم فيما ادعوه قيل: ذكر تعالى بذلك شيئين اقتضيا تكذيبهم. وذلك أنهم مقرون أن الله تعالى هو سبب وجود عيسى وأمه. وأنه تعالى غاية الموجودات وسببها ومالكها ولا شيء هو سبب لوجود الله تعالى وأنه أهو مالك قادر على إهلاك كل ذلك، فنبه تعالى بقوله: (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أنه لو ارتفع كل ذلك لصح مع بقائه ولو تُوُهِمَ هو تعالى مرتفعاً لما صح وجودهم، وهذا أوضح دلالة أن لا يصح فادعوه في عيسى ثَمَّ. (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تنبيها أن الإنسان يحتاج إلى الابن ليتقوى به أيام حياته ويخلفه بعد وفاته، والله تعالى غني عن ذلك إذ هو مالك السموات والأرض وما بينهما وموجودها. وقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا) أي اعتقدوا اعتقاداً باطلاً عن ظن كاذب لأن هذا هو حقيقة الكفر وقيل معناه جحدوا نعمة الله وهذا على اعتبار معنى الكفر في الأصل.

(18)

قوله عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) ادعى كل واحد من اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه وقد رُوي أنهم قالوا ذلك قولاً حذرهم النبي عليه الصلاة والسلام نقمة الله، فقالوا: لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه وزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن وَلَدَكَ بكري من الولد، وأمَّا النصارى فقد قيل إنهم قالوا ذلك لِمَا حُكِي عن قول المسيح أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم، ورُوي أنهم قالوا: ما اقتضى معناه هذا القول وإن لم يتفوهوا بذلك تفوهاً كقولك: فيمن يدعي تخصصاً بسلطان فلان يقول أنا يد السلطان ولسانه، قيل: وكانوا يقولون إن غضب الله علينا كما يغضب الإنسان على ابنه وحبيبه. فكذبهم الله فيما ادعوه من محبتهم له ومحبته لهم، فإن المحبة تقتضي ترك المخالفة ومن أحب الله لم يخالفه، ولهذا قال الشاعر:

تَعْصِي الإلَه وَأَنتَ تُظْهِرُ حُبَّه ... هَذا مُحال فِى القِياسِ بَدِيعُ لَوكَانَ حُبُكَ صَادقاً لأطَعْتهُ ... إِن المُحبَ لِمنْ أَحبَّ مُطِيعُ ولو أنه يحبهم لما عذبهم. فقد رُوي أنه إذا أحب الله عبداً تعهده وأحسن إليه. رُوي عنه عليه الصلاة والسلام: (إن الله قال ما زال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببتهُ كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به). إن قيل: كيف احتج عليهم بهذا ولم يقولوا إنا لا نعذب بل قالوا: إنا لا نعذب إلا أياماً بقدر ما عبدنا فيه العجل؟ قيل: إنه إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الله إياهم، فكأنه قيل: فلم عذب من كان قبلكم الذين كانوا أمثالكم ثم قال: (بَل أَنتُم بَشَرٌ ممَّن خَلَق) أي نسبتكم إليه نسبة العبودية كسائر الناس وإنما يَفْضُل من يفضل بالتقوى، كما قال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

(19)

وكرر مع هذه الآية قوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) توكيداً لكونهم مُلكاً له، ونبه بقوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) على معنى قوله: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) ونحوه من الآيات. قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) قوله: (أَن تَقُولُوا) أي كيلا تقولوا بيَّن الله لكم أن تضلوا. والفَترَة السكون والبطوء يقال فَتَرَ الشيء فُتُوراً.

(20)

وقد تقدم أن بعثة الأنبياء من ضرورات العباد الى لا يسًتًغَني عنها فعامة الناس يجهلون جزئيات مصالحهم وكلياتهم، وخاصتهم يعرفون كلياتها دون جزئياتها، ولا يمكنهم أن يفرقوا الكليات. على التحقيق إلا بعد انقضاء كثير من عمرهم، فسَهَّل الله السبيل على جماعتهم من هدايتهم إلى مصالحهم وعلى ذلك قوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) فبين أنه تعالى أزاح علتهم فيمن بعث إليهم من البشير والنذير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) قيل: ملوكاً أي أحرزوا من رزق المطامع الدنيوية، وروي عن ابن عباس أنه قال: من كان له

زوجة وخادم ودار فهو ملك. وقيل: من له ما يستغني به عن تكلف الأعمال فهو ملك. وقيل: جعلهم ملوكاً من حيث ملكوا أنفسهم بالتخلص من القبط بعد أن استعبدوهم. وقيل عنى بقوله: (مُّلُوكًا) أي جعلكم بالقوة التي آتاكم مستصلحين لذلك، فإن من له المعرفة بالسياسات الثلاث سياسة لنفسه وسياسة لداره وسياسة لضعفه فهو ملك وإن لم يتولى سياسة غيره. فجعل النبوة فيهم خاصاً وجعل الملوكية فيهم عاماً للمعنى الذي ذكرنا، وقوله: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) ممن تقدمهم، وإنما قال ذلك بالإضافة إلى الأديان فإن الله خلق الإنسان وجعل لهم ديناً ينشأُ حالاً فحالا، فكل يوم هو في كمال، فدين موسى - عليه السلام - كان أكمل من دين من قبله، ودين عيسى - عليه السلام - أكمل من دين موسى، ودين محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل الأديان إذْ كان به كمل كما

قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وقيل: أراد آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين مما عدا الإنسان، فإن قيل: هذا لا يصح لأمرين أحدهما: أن يسقط تخصيص بني إسرائيل، والثاني: أنه لا يقال: لما عدا جنس العقلاء أحد قيل أما كون هذه النعمة على غير بني إسرائيل فليس يقتضي أن لا يخصصوا بالخطاب، فقد يقال لكل واحد ممن يتنبه على نعمة الله عليه أليس قد منَّ الله عليك بأن أعطاك يداً تبطش به، ولساناً تتكلم به، وليس يقتضي مشاركة غيره في هذه النعمة أن لا يكون للمخاطب فائدة، وأما قولنا: وإن كان يختص به جنس العقلاء فقد يقال ذلك لغيره إذا حمع بينه وبين جنس العقلاء كلفظة مَنْ في قوله

(21)

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) فأطلق مَنْ على البهائم لما كان تفضيلاً لجملة منها العقلاء. قوله عز وجل: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) الأرض المقدسة: بيت المقدس، وقيل: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن. وقال مجاهد: هي أرض الطور. وقال قتادة: هى الشام.

إن قيل كيف قال: (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) ثم قال: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) قيل: قال بعضهم: وهب الله ذلك لهم ثم حرمها عليهم لَمَّا تلقوا نعمته بالرد والكفران. وقيل: كتب لهم أنهم إن دخلوها فهي لهم. وقيل: معنى (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي أوجبها عليكم. إن قيل: فقد كان يجب أن يقول كتب الله عليكم على هذا؟ قيل: إنما ذكر لكم معنى لطيف وهو أنه نبه أنه أوجب عليهم وجوباً يستحقون به ثواباً يحصل لهم. وذلك كقولك لمن يرى تأذياً بشيء أوجب فيقال: هذا لك لا عليك، تنبيهاً على الغاية التي هي الثواب. وإذا قيل كتب عليه فليس اللفظ يقتضي على الغاية التي هي الثواب بل يقتضي مجرد الإيجاب فذكر أنهم امتنعوا من دخولها لكون قوم جبارين فيها، واشترطوا أن لا يدخلوها إلا أن يُخلُّوا لهم. وقولهم (وَإِنَّا لَن نَّدخُلَهَا) فقد قال بعضهم: إن ذلك ليس

(23)

بعصيان منهم بل بإظهار العجز عن دخولها، ورُوي أن هؤلاء الجبارين كانوا قوماً لهم بسطة في الجسم حتى أن رجلين من النقباء ذهبا يتجسسان فرآهما رجل منهم في بستانه فجعلهما في الكم من الفواكه ونثرهما بين يدي ملكهم فقال: أنتم تريدون قتالنا، ارجعا إلى قومكم فأخبراهم بخبرنا. وقال بعض الناس: الأرض المقدسة، عبارة عن الدين الحق الذي رشحه الله لهم فامتنعوا من تحريه تفادياً من قوم كانوا على ذلك الدين، كانوا يُسْتحقَرُون. وهذا بعيد على ما يقتضيه رد الكلام. قوله عز وجل: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)

قال قتادة: يعني رجلين من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم. وقيل: من الذين كانوا يخافون من الجبارين فأنعم الله عليهما بالإسلام فَأَمِنَهُماَ، وقيل: كان يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا وكانا من النقباء. وبيَّنَا أن الله تعالى يُنزل النُّصرة بقدر الجُهد، وأنكم إذا بذلتم من أنفسكم الاجتهاد في الدخول عليهم الباب وجدتم من الله النصرة، ويجعل الغلبة لكم وأمراهم بالتوكل، فكأنه قال: إن كنتم متوكلين على الله يكفكم على ما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

(24)

قوله عز وجل: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) ذكر جهلهم وقلة معرفتهم بالله، وأنهم ما قدروا الله حق قدره حيث أُمروه أن يستصحبه إلى الجواب استصحاب الأشخاص وبكَّتَهم بامتناعهم من الدخول إماً جُبناً وإما قصداً إلى العصيان، وأيهما كان فمذموم. إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: (أَبَدًا) وقوله: (مَّا دَامُوا فِيهَا)؟ قيل: إن امتناعهم من دخولها لكون هؤلاء فيها، وإن اعتبار ذلك ليس في وقت دون وقت بل كل وقت، ما يدخلونها من كونهم فيها وروي أن المقداد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (أما والله ما نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نُقْتل حيث شئت).

(25)

قولًهً عًز وجل: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) أظهر موسى شرَّ ما به وبيَّن عذره في غيره وأن ذلك لقلة انقيادهم له. إن قيل: كيف يصح أن يقول لا أملك إلا نفسي، والإنسان في الحقيقة لا يملك نفسه وأخاه، إذا الملك هو التصرف في الشيء بالبيع والشراء؟ قيل: هذا سؤال من هو بعيد عن متصرفات كلامهم، بل عن معرفة حقائق الأشياء، فإن الإنسان إذا انقاد له قواه فيما يَسُومُها من فعل الخير، يقال: هو مالك لنفسه وإذا امتنعت عليه قواه، يقال: هو غير مالك لها، وليس تصرف المِلِك والمَالك على وجه واحد. وإعراب قوله: (وَأَخِى) محتمل له أربعة أوجه: الأول الرفع عطف على

موضع (إنَّي). الثاني: على الضمير في أملك، الثالث: نصب على المضمر في (إنَّي)، الرابع: نصب على قوله: (نفسِى). وقوله: (فَافْرُقْ بَيْنَنَا) أي بين مسكننا في الدنيا. وقيل: بين منزلينا في الآخرة، ولم يقل بيننا وبينهم بل قال: (وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) ليكون دعاؤه أبلغ وأقرب إلى استعمال الأدب في مخاطبة الله تعالى، ولأنه من يجوز أن يصلح منهم بعضهم، فيجب أن لا يعين، بل يذكر الوصف الذي هوالفسق فيتعلق به الحكم، وذكر الفسق دون الكفر إذ

(26)

هو أعم منه. قوله عز وجل: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) قال الربيع: حرم عليهم أربعين سنة، وقال الحسن وقتادة: بل حُرم عليهم على التأبيد، وإنما كانوا يتيهون أربعين سنة. فقوله: (أَربَعِينَ سَنَةً) يتعلق بقوله: (يَتِيهُونَ) على هذا، وتحريم ذلك عليهم قيل: إنه كان

تحريم تعبد فإنهم أمروا أن لا يدخلوها. وقيل: منعوا منها من جهة إضلالهم عنها فإنهم كانوا إذا أمسوا ردهم الله بقوة إلهية إلى حيث ما ارتحلوا عنه فقوله: (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) كقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ) وأنهم ما خرجوا من التيه حتى مات هؤلاء وانتقل أمرهم إلى أبنائهم. وروي أن قدر الأرض التي تاهوا فيها ستة فراسخ. وقد قيل: لم يكن موسى وهارون معهم في التيه، لأن ذلك

(27)

كان عذاباً عليهم دونهما. ومن لفظ التيه اشتق تَاه فلان وتَوَّهه. (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) قيل: هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة تسلية له بأن المخالفة على الأنبياء عادة الفسقة في كل زمان. وقيل: بل هو من حملة ما خوطب به موسى وإن كان فيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله عز وجل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) القربان اختص في المتعارف، بالذبيحة المتقرب بها. وإن كان في الأصل عاماً في كل ما يتقرب، فهو فعلان كالعدوان

والشكران والكفران. قيل: ابنا آدم كانا هابيل وقابيل، وكانا من قصتهما أن حواء ولدت مع كل واحد منهما بنتاً فالتي ولدت مع قابيل سميت إقليميا والتي مع هابيل لبوخ، ثم إن حواء قالت ليتزوج كل واحد منكما أخته المولودة مع أخيه وكانت إقليميا أحسن من لبوخ فقال هابيل سمعت وأطعت، وقال قابيل لا أرضى بل أريد إقليميا التي ولدت معي، وكان غرضه جمالها، فلما اختلفا قال لهما ليقرب كل واحد منكما قربان فمن قبل الله قربانه يتزوج إقليميا، وكان هابيل صاحب غنم وعَهِدَ إلى كبش أنتج فذبحه، وكان قابيل صاحب زرع وعَهِدَ إلى سيء من الفوم رديء فقربه فنزلت نار من السماء وأخذت الكبش وكان ذلك علامة قبول القربان. ورد في الخبر: أن هذا الكبش حصنه الله في الجنة إلى أن فُدي به ذبيح إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقيل: رعى في الجنة ثمانين خريفاً. وقيل: أربعين، وقيل إن ذلك في

رجلين من بني إسرائيل يقال لهما ابنا آدم فإن إحلال الله للقرابين في زمن إسرائيل، واستدل هذا القائل بقوله: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)، والأول أصح، فقد روى مسروق عن عبد الله، عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها). والذي لم يُقبل منه القربان إما لكونه، على

(28)

غير الوجه الذي كان يجب أن يكون عليه ما لكون صاحبه مقصراً في سائر عباداته ولما قال أخوه حسداً (لَأَقتُلَنَّكَ) قال: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) حثاً له على التقوى، أي لا تقتلني فإنه إنما لم يقبل منك لأنك لست بمتق، والله يتقبل من المتقين. وفي الآية تعظيم أمر الحسد، وأنه يحمل الإنسان على أعظم الكبائر، وقد قيل: أثاني الشرور ثالثه الحرص والكبر والحسد فآدم (أولى) من الحرص وإبليس من الكبر وقابيل من الحسد. قوله عز وجل: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) قال ابن عباس: يعني إن بدأتني بالقتل لم أبدأ بقتلك، ولم يعنِ أني لا أمنعك عني، فمنع الإنسان القائل عن نفسه بقدر وسعه واجب. وقيل: إن من تعرض لقتله فله أن يدفع عن

(29)

نفسه وله أن يستسلم. وعن أيوب قال: أول من أخذ بهذه الآية في هذه الأمة عثمان، وقيل: قد كان حِينئذٍ يجب أن لا يدفع أحد عن نفسه، كما روي أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: (من لطم من ناحية يمينه فليُمكن من ناحية شماله)، وذلك عن الحسن ومجاهد. قوله عز وجل: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) أي بإثم قتلي وإثمك الذي كان منك فلم يتقبل لأجله قربانك. إن قيل كيف جاز أن يريد لغيره أن يفعل الشر، وأن يكون من أصحاب النار؟ قيل: أراد ذلك بشرط القتل أي أريد إن قتلتني أن تبوء بإثمي وإثمك وأن تكون من أصحاب النار، وهذه الإرادة ليست بقبيحه.

(30)

والبًوًاءُ الرجوع، والمباءُ المنزل الذي يَنزلُ فيه الإنسان، وهم في هذا الأمر بوأ أي سواء يرجع إليه كل واحد مثل رجوع الآخر ومنه فلان بوأ فلان في القود. قوله عز وجل: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) قوله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) كقولهم أسمحت قرينته وانقادت نفسه، وسولت، يقال: طاعت نفسه، وطوعت وتطوعت، والنفس توصف تارة بأنها طوعت فيما أمرت من الشر كهذه الآية، وتارة بأنها أمرت بالشر كقوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، ونبه بقوله: (فَقَتَلَهُ) أنه تبع

(31)

شيطانه الداعي إلى ذلك تنبيها أن متابعة الشيطان والهوى سبب كل شَر ولهذا قال: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ)، وقال: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ). وقوله: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) إشارة إلى نحو قوله: (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ). قال ابن عباس: أما في الدنيا فأسخط والديه وبقي بلا أخ، وأما في الآخرة فأسخط ربه تعالى، وأمر به إلى النار. قال قوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). قال يُريهم من الإنس قابيل ومن الجن إبليس، فقد روى: أنه لم يكن يدري قابيل كيف يقتل أخاه فأخذ يطعن رأسه فجاء إبليس فقال خذ هذه الصخرة فأشدخه بها. قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

قال ابن عباس: لما قتل أخاه تحير لم يدرِ كيف يفعل به فقيض الله تعالى غرابين تقاتلا فقتل أحدهما الآخر فدفنه، فتنبه قابيل لدفن أخيه، ووجه ذلك أنه ما من صنعة يتعاطاها الإنسان بالتعلم إلا وقد سخر الله لمثل ذلك الصنعة حيوانا يتعاطاه، وجعل الله تعالى ذلك سبباً لتعلم الناس ذلك منه، فمن الحيوان ما يسبح ومنها ما يمشي ومن عادة الغراب دفن الأشياء فلما رأى قابيل ذلك تنبه لما يجب أن يفعل فاستصغر نفسه لقصوره عن معرفة ما اهتدى إليه الغراب، فأخذ يتحسر، ويتولول وندم ندماً لا يثنيه ولا يحد به كما قال الشاعر: - َ .............. ومَا يُغْنِي مِنْ الْحَدَثَانِ لَيْتَ وليست هذه الندامة بندامة التوبة.

(32)

قوله عز وجل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) الأجل: قطع الماء والآجل وقت مقطوع يقطع من وقته، والآجل نقيض العاجل وهو الذي جُعل له أجل ما، والأَجَلُ قطيع من الغنم، وذلك لقولهم الصُّرمة والقطعية والفرقة ونحوها مما اشتق من الأسماء المتضمنة لمعنى القطع. وأَجَّل فلان على فلان جنى عليهم جناية. أجله حضر. قوله: (مِن أَجلِ ذَلِكَ) أي من جناية ذلك، وقيل: من سبب ذلك كقولهم من أجله وبَّين بقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أنه كان من أول من سنَّ القتل. وعنده شُرع هذا الحكم، وذلك كقولك من أجل ماعز شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الرجم، أي عنده شرع، وإنما خص بني إسرائيل دون غيرهم لأن كتابهم أول كتاب بيَّن فيه فيه الأحكام.

وقيل: لأنه كثر منهم القتل، وبيَّن أن الساعي في قتل نفس لم يلزمها قتل ما يقتضي الاقتصاص أو فساد وذلك إلى نحو ما قال عليه الصلاة والسلام: (كفر بعد إسلام، وزنا بعد إحصان). وقوله: (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)

فإن الناس لما كانوا كجسم واحد ونسبة آحادهم إليه كنسبة أعضاء الجسم الواحد إليه، صار الساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعي في إهلاكهم، كما أن الساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعى في إهلاك كله، صار قتل الواحد كقتل الناس، ولهذا جاء في التفسير أن المؤمنين خصم للقاتل ولهذا قال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ)، وقال مجاهد: فلو قتل الناس جميعاً لم يرد في جزاءه على جزاء قوله: (وَمَن أَحيَاهَا) أي من نجاها من الهلاك إمَّا بالحماية عليها، وإمَّا بالعفو عنها إذا لزمها قِصاص يستحب منه العفو. قال مجاهد: (مَنْ أَحْيَاهَا) أي من ترك قتلها. قال الحسن: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا) أي من أضله عن طريق الهدى، (وَمَنْ أَحْيَاهَا) أي دعا مشركاً إلى الإيمان فهداه وأرشده

فكأنما أحيا آدم عليه الصلاة والسلام وولده إلى القيامة. قوله عز وجل: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). تنبيه أن الله لم يخلهم من بشير ونذير على عبادته في الأمم. والإسراف: الإبعاد في الخروج عن الحق، وعن الاستقامة التي هي العدالة في كل شيء هذا أصله، وإن تُعورف في الخروج عن العدالة في إنفاق المال، وقد وصف قوم لوط بالإسراف لخروجهم عمَّا أبيح لهم إلى ما حُظر عليهم، فبيَّن تعالى أن كثيراً منهم بعد مجيء رسلهم بالبينات يخلون بالعدالة وما شرع

(33)

لهم وأبعدوا في التعدي. (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) محاربة الله ورسوله: هو السعي في الأرض بالفساد، وسمي ذلك محاربة الله ومحاربة رسوله تعظيماً، والسعي في الأرض قيل: هو في الصحراء، وقيل: هو في البلد أيضاً، وهو الأصح. قال الحسن: الآية نزلت في المشركين المحاربين والحكم مختص بهم، وقيل: نزلت في العُرَيْنيِّينَ، وذلك أن قوماً من عُرَيْنَة

أتو المدينة وأسلموا وأقاموا ما شاء الله ثم شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة واستأذنوه في الخروج إلى لقاح الصدقة ليقيموا فيها إلى أن يَصِحُّوا وأذن لهبم، فنالوا من ألبان اللقاح، وثابت قواهم، ثم ارتدوا، وقتلوا الرُّعاة، وساقوا اللقاح، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم في طلبهم فأُخذوا وقطعت أيديهم وأرجلهم، وسُمِلَتْ أعينهم، ولم تسلم دمائهم حتى ماتوا. وقيل: الآية في أهل العهد، وأكثر الفقهاء حملوا على المسلمين أيضاً،

وجعل مالكٌ: الإمام مخيراً فيمن سعى بالفساد من الأحكام الثلاثة، وقد رُوي ذلك عن ابن عباس. وجعل غيره الحكم ترتباً، وقال من قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، وقتل فقط قيل لم يصلب. ومن أخذ المال فقط قطع يده ورجله من خلاف يده اليمنى ورجله اليسرى ولم يُقتل ومن لم يأخذ المال وإنما يُخوَّفُ ينفى من الأرض، وذلك بأن يطلب.

(34)

فإن تاب قبل القُدرة عليه عُفي عنه، وإلا أخذ فحبس. وقيل: نفيه: طرده من بلد إلى بلد. روي ذلك عن ابن الزبير وعن ابن عبد العزيز، وقيل: الطلب، وقيل: القتل بعد القتل، ردعاً لغيره، ونبه على تعظيم ما ارتكبه أنه يجمع عليه حد الدنيا، وعقوبة الآخرة. قال عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) الاستثناء راجع إلى كل من تقدم ذكره، وهو في العذاب

_ (1) الخليفة عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم - رضي الله عنه -.

(35)

وفي إقامة الحدود، وقال بعض الفقهاء: كل حق لله مختص بقَاطع الطريق فالتوبة قبل القدرة يُزيل ما عليه إن كان من حقوق الله، وإن كان من حقوق الآدميين فلا يزول إذا طالب به صاحبه. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) الوسيلة: القربة وهي دون الوصيلة، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لكل من أظهر الإيمان سواء كان في مبدئه، أو في وسطه، أو في منتهاه. وتقوى الله: - هو الامتناع عن المحارم، وتحري الواجبات، وابتغاء الوسيلة، كما قال عليه الصلاة السلام حكاية عن الله عز وجل:

(36)

(ما زال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل) الخبر. والمجاهدة في سبيله: هو بذل الجهد فيما تقدم من إقامة الفرائض، وبيَّن أنكم إذا فعلتم ذلك كنتم راجين للفلاح المذكور في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). والفلاح العام: هو البقاء بلا فناء، والغنى بلا فقر، والقدرة بلا عجز والعزُّ بلا ذل. ونبه باختصاص لفظ الابتغاء على بذل الجهد. قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) أي لو حصًّل كل واحد ما في الأرض ومثله قاصداً بإحرازه أن يجعل ذلك وقاية لنفسه لم ينفعه، وذلك حثٌّ على المبادرة بالامتناع عن الآثام وترك الاهتمام بالمال في المعاد. وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقال ْ

(37)

للكافر يوم القيامة، أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهَبا لكنت مفتدياً به، فيقول: - نعم، فيقال له: كذبت، قد سئلت ما هو أهون من ذلك فأبيت) (1). وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ) الواو عطف، أو يكون بما بعد حال. قوله عز وجل: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) أي يسألون أن يخرجوا منها، وذلك هو المذكور في قوله: (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا)، والمقيم الذي لا يزول ولا يتحول، قال ابن عباس: كل شىء من أمر الدنيا يبلى ويفنى،

_ (1) نص الحديث في البخاري (6057) هكذا: " يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ ".

(38)

وكل شيء من أمر الآخرة يبقى ويتجدد. قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا) نبه بذلك على أنهم يحتالون لذلك ولا ينفعهم. قوله عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) السارق: المتناول مال غيره مستتراً، وقد يقال: للخائن سارق على التشبيه. وقول - صلى الله عليه وسلم -: (أسوأ الناس سرقة، الذي يسرق من صلاته) فعلى التشبيه. واختلف في الآية، فمنهم من قال: هو مجمل كقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وإجماله

من حيث يحتاج إلى شرائط لا يُنبئ الظاهر عنها. ومنهم من قال: هو غير مجمل من حيث إنه يتناول لكل سارق، وما لم يُرِد منه فهو مخصص، وقال بعضهم: الألف واللام في (السارق والسارقة) للعهد. والآية واردة في سارق المِجَن، وامرأة سرقت، لكن الحكم عام من حيث إنه قد ثبت أن حكم الشريعة في الواحد حكمها في الجماعة من شرطهم شرطه. وقال بعضهم: هو للجنس، وبعضهم جعلها بمعنى الذي، وذلك يتضمن معنى الشرط ويكون مفيداً للعموم.

وقراءة عامة القراء (السارقُ) بالرفع، وكان عيسى ينصب نحو قولهم زيداً فاضربه، والوجه الرفع؛ لأن النَّصب مختار حيث لا معنى للشرط، نحو زيداً فاضربه، فأما كل لفظ متضمن لمعنى الشرط فالرفعُ نحو قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)، ونحو: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ). إن قيل: لم قدم المذكر في قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)

وأَخَّر في قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)؟ قيل: لأن السرقة أكثر ما يوجد بالرجال، والزنا أكثر ما يوجد سببه من النساء، بل توهمنا امتناع انقياد المرأة أصل وجود الزنا. وبيَّن أن الله تعالى عزيز في انتقامه، حكيم في حكمه. واختلف في قدر ما يقطع به، فروي عن عمر وعلي أنه يقطع في خمسة، وعن أبي سعيد الخدري في أربعة، وعن أبي بكر في ثلاثة، وعن ابن عباس في عشرة، وعن عائشة في ربع دينار، وإليه ذهب الشافعى، ومالك والحسن في

ثلاثة، وقال أبو حنيفة: لا يقطع من يسرق طعاما يسرع إليه الفساد، أو ثياباً أوحديدا، أو قصباً، أو زرنيجاً، ونَوْرَةَ، وقد روى: (ولا يقطع في ثمر ولا كثر)،

وقال الشافعي: ما لم يُحَّرز فأمّا إذا أحرز وبلغ قيمتُه ما يُقطع فيه قُطِعَ، وأما قدر القطع من اليد فعند الخوارج من المنكب وعند غيرهم من الرسغ. وقد روى أبو هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقاً من الكوع).

ولأن المقصد بقطعه أن لا يبطش، ولا يتناول بها، وبذلك يحصل الغرض، ولا يقطع إلا يمينها بدلالة قراءة ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) فذلك يؤخذ به حكماً، وإن لم يؤخذ به تلاوة. وإنما ذكر الأيدي بلفظ الجمع، وتارة بلفظ الاثنين، وتارة بلفظ الواحد كقول الشاعر: -

(39)

ظَهْرَاهُما مِثلَ ظُهُور التَرْسينِ فذكر في موضع مثنى، وفي موضع مجموعاً، وقال: كلوا في بعض بطنكم تصحوا فأتى بلفظ المفرد، ومتى كان شيئاً لاثنين يصح اشتراكهما في أحدهما لا يصح أن يذكر إلا بلفظ التثنية، لئلا يشتبه نحو رأيت عبداكما، ولا يصح إذا أردت الاثنين أن يقول: عبدكما أو عبيدكما. قوله عز وجل: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) قيل: إن تاب في الدنيا قبل القدرة عليه، وأصلح سقط عنه الحد، ورُجىَ له الغفران، وإن تاب بعد القدرة عليه رُجيَّ له الغفران، ولم يسقط عنه الحد بدلالة ماروي ابن عمر: (أن امرأة سرقت على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بقطعها، فقال قومها: نحن نفديها خمسمائة دينار، فقال: اقطعوها، فقطعوا يمناها، فقالت المرأة: - هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم، أنت اليوم في خطيئتك كيوم ولدتك أمك).

(40)

فأنزل الله (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ)، ولم يقل: بعد سرقته، ليكون عاماً في هذا الحكم، وفي غيره، واشترط إصلاح العمل تنبيها أن التوبة باللفظ غير مُغنية ما لم يضامها ما يحققها من الفعل، وجعل علة قَبُول توبته كونه تعالى غفوراً رحيماً. قوله عز وجل: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) لما أمر بالتقوى، وابتغاء الوسيلة إليه بالجهاد في سبيله، ودعاهم إلى الفلاح وبيَّن قبلُ ما يلزم المحاربين، وبعدُ ما يلزم السُرَّاق، وذكر قبول توبتها، ذكر قدرته على تعذيب من يشاء، وغفران لمن يشاء في الدنيا بما شرعه، وفي الآخرة بما قدره. وقال ابن عباس: فيعذب من يشاء على الذنب الصغير، ويغفر لمن يشاء على الذنب الكبير،

(41)

وفي هذا النحو قال الشاعر: يعفوا الملوك عن الكبير ... من الذنوب بفضلها ولقدتُعاقِب في الصغير ... وليس ذاك بجهلها إلاليُعرف فضلها ... ويخاف شدة ملكها وإنما قال يعذب من يشاء فقدم ذكر العقوبة على الغفران، لأن القصد بما تقدم الردع عن ارتكاب ما يقتضى عقوبة الدارين فكان تقديم ما يقتضي ذلك أولى. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)

قيل: نزلت في أبي لبابة حيث بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السيِّدين، سيد الأوس وسيد الخزرج، سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشار قريظة أبا لبابة أننزل على حكم محمد؟ فأشار إليهم بأنه الذبح، قال أبو لبابة: فما زلت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، والآية عني بها أبو لبابة والمنافقون الذين وصفهم في قوله:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11). وقوله: (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يكتسبونه عاجلاً شيئاً بعد شيء، على خلاف ما قال فيه: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ). وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). وقوله: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي قائلون له، وقيل: سمَّاعون كلامك لأجل أن يكذبوا عليك، ويسمعون ذلك لأجل قوم آخرين. وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) أي كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن، ويكذبون عليه.

وقيل: يحرفون حكم التوراة، وذلك كقوله في البقرة: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) إلى قوله: (وَهُم يَعلَمُونَ) وقوله في آل عمران: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ). وقوله: (هَذَا) أي الحكم الذي قلناه، وقيل: الدِّية. وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) أي من بعد أن وضعه الله موضعه، وبيَّن أحكامه.

وقوله: (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي أمركم محمد بغير ذلك فاحذروه. وقوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) قال الحسن: عذابه كقوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ). وقال السدي: ضلالة. وقال الزجاج: فضحيته وقوله: (لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي من الكفر عقوبة لهم، وقيل: لم يحكم بطهارة قلوبهم. والقولان مرادان على نحو ما تقدم من أمثال هذه الآية. وذلك بخلاف من وصفهم بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33).

(42)

وقوله: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13). وقد قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ). وقوله تعالى: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) أي يستحي منه من السبي والقتل والجلاء. قوله عز وجل: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) السحت والمحق متقاربان معنى، لتقارب لفظيهما. لكن السحت أبلغ إذ هو الاستئصال شيئاً فشيئاً يقال: سحته

فأسحته، وسمي الحرام والمستقبح من الكسب والوخيم العاقبة منه سحتاً، كما سمي الحرام ناراً في قوله: (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا)، وفسر السحت هاهنا بالرَّشوة تفسير العام بالخاص. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هدايا الآمراء من السحت). والمقصود من الآية مثل ما قاله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). وقيل: عنى بالسحت الربا، المذكور في قوله:

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ). واختلف في قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)، فقال: ابن عباس: - نُسِخَ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) فجعل حكم التخيير منسوخاً بإيجاب الحكم بينهم. وقال الشعبي: بل حكمه ثابت. وقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) حث على استعمال العدالة عند تولي

(43)

الحكم لا إيجاب وعلى هذا قال الحسن: خلُّوْا بين أهل الكتاب وحاكمهم وإذا ترافعوا إليكم فاحكموا بينهم بما في كتابكم. وقال بعضهم: التخيير قبل أن (يعقد) لهم الديَّة والجزية، والإيجاب (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) بعد عقد الدية لهم بالجزية. وقد روي ذلك عن ابن عباس قال: ويدل أن الآية نزلت في بني قريظة والنَّضير ولم يكن لهم ذمه. قوله عز وجل: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) أنكر الله تعالى تحكيمهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهم لا يؤمنون به وعندهم الحكم في التوراة، والمعنى هاتين الحالتين

(44)

مستنكر بتحكيمهم إياك، وقوله (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي لا يصدقونك فيما تحكم به، والواو واو حال. وقوله عز وجل: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) الهدى والنور إشارة إلى معنى واحد، لكن الهدى يقال اعتباراً بالأدلة المنصوبة، والنور اعتباراً بما يعين على معرفة الأدلة، تشبيهاً بنور البصر، ونور الشمس. وقيل: الهدى إشارة إلى ما فيه من الحكم الشرعي، والنور إشارة إلى ما فيه من الحكم العقلي، وقد يُسمى كل واحد من المعقول والمشروع تارة نوراً وتارة هدى. إن قيل: ما معنى قوله: (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) والنبي لا يكون غير مسلم؟ قيل: الإسلام هاهنا الإخلاص لله في التوكل عليه وتفويض الأمر إليه، نحو قوله:

(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131). وقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). وقوله حكاية عن إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). وقوله: (اَلَّذِينَ أَسلَمُوا) صفة لهم على سبيل المدح لا على سبيل التخصيص، أو بدل من قوله: (النَّبِيُّونَ)، واللام في قوله: (لِلَّذِينَ هَادُوا) متعلق بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ) ... للذين هادوا. وقيل: متعلق بقوله: (فِيهَا هُدًى) ومعنى هادوا: أي تابوا

من قوله: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ). وقيل تقديره: يحكم بها النبيُّون الذين هادوا، والمعنى يحكم لهم وعليهم، لكن المعنى تذكيرهم عن داعيهم وعلى هذا قال بعضهم: يحكم فيهم، لأن قولك فيهم يتضمن معنى وعليهم، وقوله: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) قيل: متعلق بالأحبار، أي العلماء بما استحفظوا، وقيل: متعلق بقوله: (يحكُمُ بِهَا) لأجل ما استحفظوا أي لما استُودِعوا، وقوله: (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) أي هم من جملة من قال فيهم: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)، وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) يتعلق به الخوارج، وزعموا أن التارك

لحكم الله على كل حال كافر، وقال غيرهم: ومن لم يحكم بما أنزله جاحدا فهو كافر، وقيل معناه: من لم يحكم بأن ذلك عامداً له فهو كافر، وقيل: الكافر هاهنا جاحد للنعمة من الكفران لا من الكفر، وقيل: الكفر يقال على ضربين: كفركبير، وهو المذكور في قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ) الآية. وكفر صغير وهو المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام: (من ترك الصلوات فقد كفر)، وعلى هذا قال ابن جريج: كُفر دون كُفر،

وظُلم دون ظُلم، وفِسق دون فِسق، قال الحسن: إن الله تعالى أوجب على الحكام ثلاثا، أن لا تتبعوا الهوى، وأن تَخْشوْهُ ولا تَخْشوا الناس، وأن لا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، قال وعلى هذا قوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ). وقد استدل بهذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - متعبد بأحكام من قبله.

(45)

قوله عز وجل: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) أخبر تعالى بما أوجب عليه من القِصَاص. واتفق الفقهاء: أن ذلك واجب علينا لوجوبه عليهم، لكن منهم من قال: لم يكن في شريعتهم الدِّية، وقد جعلها في شريعتنا تخفيفاً على هذه الأمة، وقوله: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) يقتضي القَوَدُ فيه فقاءاً كان أو إذهاباً بضوئها. ومن قال لا يُفعل من ذلك إلا الفقاء فليس بشىء، فالعين ليست بالعين في الحقيقة إذا لم تكن مبصرة بل بالأعضاء كلها إذا بطلت منفعتها خرجت عن أن تكون في

الحقيقة إياه إلا اعتبار الصورة التخطيطية، وذلك غير معتدٍ به ما لم يكن فيه النفع. واختلف الصحابة في عين الأعور، وهل يلزم فيه القَودُ ودِّية كاملة. فمنهم من أوجب ذلك فيها لكونها سادَّة مسدَّ العينين. والأنف يلزم فيها القصاص بالقطع. وقال أبو حنيفة: إذا قطع الأنف من أصله فلا قصاص لأنه لا يمكن اسشيفاؤه فيه كما لو قطع يده من نصف الساعد. وقوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) إيجاب للقصاص في سائر الجراحات، وقرئ: (وَالعَينُ بِالعَينِ) بالرفع كقولك: إن زيداً منطلق، وعمروا ذاهب.

وقوله: (وَالْجُرُوحَ) إذا قُرئ بالنصب فعلى العطف، وإذا قُرئ بالرفع فعلى الاستئناف، وقوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) خطاب لولي القتيل وللجروح حثٌّ له على العفو، وذكر لفظ التصدق تنبيهاً على أن عفوه جار مجرى صدقةٍ يستحق بها ثواب، وتصير كفارةً له، وذكر هاهنا أن تارك الحكم بما أنزله ظالم، والظلم أعم من الكفر، لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافرا.

(46)

ولذلك قال: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وقوله عز وجل: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) قفيناه: بعثناه خلفه، يقفوه: أي يتبع قفاه، ومنه قافية الشعر، والقفي: الضيف الذي يبعث خلفه تكرمه له، والأثر: ما يظهر للحاسة، والإثار الاختيار، واستثاره اختاره لنفسه، والهدى: يقال لما يستدل به، والموعظة لما يوعظ به، والفسق أعظم

(48)

من الكفر والظلم، وأصله الخروج إلى حظر الله، من قوله: فسقت الرطبة إذا خرجت عن طلعها. إن قيل: لم كرر قوله: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَين يَدَيه مِنَ التَّورَاةِ)؟ قيل: يجوز أنه أراد بالأول مصدقاً لما بين يدي التوراة، وبالثاني نفس التوراة، فبين أن عيسى عليه الصلاة والسلام أتى بما يُصدق به موسى، وكتابه أتى بما يصدق كتاب موسى. قوله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

المهيمن: قيل الحفيظ، وقيل الرقيب، وقيل: الأمين، وقيل: الشاهد، قال أبو عبيدة: الحاذق في علمه، وقال ابن عيينه: أصله مُؤيمن فقلبت همزة هاء، كما قالوا: - أهرقت في قولهم أرقت، وقد قيل: همين يهمينه. وحقيقة المعنى أنه جعل هذا الكتاب حافظاً ومستولياً لسائر ما تقدم من كتبه يحكم عليها وهي لا حكم عليه، وينسخها وهي لا تنسخه، وصح على هذا: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)، يعني ما ننسخ من

الكتب المتقدمة (نأت بخير منها)، يعني من الكتاب العربي. والشرعة والشريعة: في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعبادة من (1) الدين الذي يوصل إلى الحياة الأبدية، كما سمى كتابه المهيمن على ما تقدم. ومن أصله: أشرعت القِباء وشُرعت في الماء، وهم شرع. والمنهاج: الطريق المستقيم، يقال: طريق نهج ومنهج. إن قيل: ما الفرق بين الشرعة والمنهاج؟ قيل: قال بعضهم: الشرعة إشارة إلى الدين وهو الشرع، والمنهاج: إشارة إلى الدليل الذي يتوصل إلى معرفته والتخصيص به، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قحال: شرعةً ومنهاجاً: ديناً وسبيلا. إن قيل: كيف قال: (لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرْعَةً وَمِنهَاجًا) فاقتضى ذلك أن

_ (1) كأن هنا سقط في الكلام واتضح ذلك بمراجعة فتح القدير حيث ذكر: الشرعة والشريعة في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء، ثم استعملت فيما شرعه الله لعبادة من الدين، انظر (2 لم 48). وذكر الراغب في مفرداته قريبا من هذا المعنى في مادة شرع. وقد نقل الآلوسي عن الراغب في تفسيره (2 لم 153) قال: وقال الراغب سمي الدين شريعة تشبيهاً بشريعة الماء من حيث أن من شرع في ذلك في الحقيقة روى وتطهر، وأعني بالري ما قاله بعض الحكماء كنت أشرب الماء فلا أروى فلما عرفت الله رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال تعالى: (وَيُطَهِّرَكم تَطهيرًا). والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح، والعطف باعتبار جمع الأوصاف.

لكل واحد من الأنبياء شريعة غير شريعة الآخر، وقال في موضع: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ). فذكر أنه شرع لجميعهم شريعة واحدة. قيل: الذي استوى فيه شريعة جُماعِه هو أصول الإيمان والإسلام، أعني التوحيد والصلاة والزكاة والصوم والقرابين، فإن أصول هذه الأشياء لا ينفَّك منها شرع بوجه، وأما الذي ذكر أنه تفرد به كل واحد من الأنبياء فروع العبادات من كيفياتها وكمياتها، فإن ذلك مشروع على حسب مصالح كل أمة، وعلى مقتضى الحكمة من الأزمنة المختلفة، ووجه آخر: أن الشرائع إذا عتبرت بالشارع

(49)

فمقتضى حكمته يصح أن كلها واحدة، وكذا إذا اعتبرت لغرض والقصد الذي هو مصلحة المشروع له وإذا اعتبرت بذوات الأفعال فهي شرائع كثيرة، وعلى هذين النظريتين، قال الله تعالى: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)، وقال في موضع آخر: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)، وقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، كقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26). قوله عز وجل: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) قوله: (وَأَنِ احْكُمْ) فهو معطوف على معنى الكتاب، وقوله: (مُصَدِّقًا) إلى قوله: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

أي أنزلنا بأن احكم. وقيل: من الواجب أن احكم، والأول أوجه، لأنه لا يقع أن افعل إذا كان بعده أمر إلا من موقع المصدر. ويتقارب فتله عن كذا. (فِتْنَةٌ) ولكن فتنه يقال في الصرف عن الخير والشر، وفتله يقال في الصرف عن الخير. إن قيل: لم قال: (أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فخص البعض؟ قيل في ذلك أوجه: الأول: أنه عنى بذلك الكفر والنفاق الذي لا غفران فيه، لكن ذكر البعض منها يكون أردع للعباد. والثاني: لأنه ذكر البعض للمبالغة تنبيها على أنه إذا أصابهم ببعض الذنوب يقال في كلٍ أولى. إن قيل: لما كرر (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)؟ قيل: قال بعضهم: إن ذلك في حكمين: حكم في المحصن، وحكم قتيل كان فيهم، ففرق كل واحد منهما نهي عن

(50)

الهوى، تنيبها أن الهوى لا يسفر عن نجاح ولا في صلاح. وقال بعضهم: - تقدير الكلام أنزلنا إليك الكتاب بالحق، وبأن احكم بما أنزل، وبأن لا تتبع الهوى، فاحكم بما أنزل الله ولا تتبع الهوى فأخبر بإنزال ذلك أولاً، ثم أمر به أمراً مجزماً، وقدم الأمر على الإخبار عن الأمر به تأكيداً، وتقدير الكلام: - قد أوجبت عليك الحكم بذلك، وترك إتباع الهوى فاحكم بذلك. قوله عز وجل: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) أنكر عليهم تحريهم الجاهلية وتركهم لحكم الله، ثم قال: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). تنبيها أن ذلك يعلمه الموقن، وقوله: (لِقَوْمٍ) قيل: عند قوم،

(51)

وقيل: أراد لقوم (يُوقِنُونَ) عليهم، فدل مالهم على ما عليهم. إن قيل: كيف يكون حكم أحسن من حكم إذا كانا حقين؟ قد يحكم أحد الحاكمين بعلم يحكم الآخر بغلبة ظن، وكلاهما حسنان، والأول أحسن، وقد يجتهدان في حكمين وأحدهما أقرب إلى الحكم نحو اجتهاد داوود وسليمان. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) الاتخاذ الاعتماد هاهنا، وأصله افتعال من الأخذ، والأخذ حوز الشيء وذلك تارة بالتناول، وتارة بالاعتماد عليه، وتارة بالإهلاك نحو: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى). الآية، نزلت في عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أُبي

(52)

لما تبرأ عبادة من مولاة اليهود، وتمسك عبد الله بها وقال أخاف الدوائر. وقيل: نزلت في أبي لبابة بن المنذر لما نصح لليهود وأشار بأنه الذبح، وقال ابن عباس والحسن: إنها نزلت في نصارى بني تغلب قال قوم إنهم كبني إسرائيل في جواز أكل ذبائحهم، لأنه قال: (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ). قوله عز وجل: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)

(53)

أي ترى المنافقين يسارعون في الدخول في جملتهم، وقيل: يسارعون في مرضاتهم، والدائرة: دوران الأمر من قولهم والدهر بالإنسان دواري. والدورة والدولة يتقاربان، والفتح قيل فتح مكة، وقيل: بل نفعاً أتى من الله. والأمر هاهنا واحد الأمور يأتي بأمر لا يعرفون سببه ووجه إلزامهم في ذلك أن الأمور ضربان: واجب، وممكن، وما وعد الله تعالى من نصرة المؤمنين فواجب كونه أي صادق الوجود. يقال: هب أن لك ليس من الواجب إما جعلتموه من الممكنات التي عسى أن تكون، فأخبر أن المنافقين يميلون إلى الكفار ويقولون لا نأمن أن تكون لهم دولة على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لقلة إيمانهم بما ضمن الله من نصرة المؤمنين وقال تعالى: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) على ما فعلوه، ونبه أنه يأتيهم بذلك، فإن عسى منه واجب. قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)

أي أقسموا أن يوالوكم على الكفار، ولم يفعلوا، وقوله: (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) أي أبلغ الإيمان وأقصاها من قولهم جهد في الأمر ونصبه على المصدر، وقوله: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) يصح أن يكون معطوفاً على ما حكى عن الذين آمنوا، ويصح أن يكون استئناف كلام من الله على طريق الإخبار، وعلى طريق الدعاء عليهم. وإذا قرأ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) فتقديره: عسى الله أن يأتي بالفتح، وأن يقول الذين آمنوا. وقرأه أهل المدينة، يقول الذين آمنوا بغير الواو.

(54)

وإنما قال: (فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) فخص لفظ الإصباح لأمرين: أحدهما: لما كان أكثر محاربتهم وغاراتهم وقت الصباح كثر عبارتهم عن التغيرات وعلى هذا قول الشاعر: يَا راقداً الليلَ مسروراً بأوله ... إن الحوادثَ قَدْ يَطرقنَ أسحاراً والثاني: أنه لما كان بالإصباح انتهاء الظلمة، وانتشار الأشعة، وظهور ما كان بالليل مستتراً خص (فأصبحوا) تنبيهاً على زوال غمة الجهالة وظهور الخفاء كقولهم فِى المثل لما يظهر: بزغ الخفاء بداء الصبح لذي العينين، ونحو ذلك. وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) قرأ أهل المدينة من يرتدد وذلك لغة. قوله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي ليَني الجانب على المؤمنين،

كما قال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) الآية، وقيل: هى فيمن ارتد في زمن أبي بكر - رضي الله عنه -، وقيل: فيمن كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأظهر أنه فيهم وفي غيرهم، وأنه وعد تعالى أنه يحفظ دينهم بقوم رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويتحرى مرضاتهم ويتحروا مرضاته، وذلك كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39).

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38). وقد تقدم حقيقة محبة الله للعباد ومحبتهم له، وجعل من حقيقة محبتهم لله أن وصفهم أنهم أذلةٍ على المؤمنين، أي متواضعين، فالتواضع الانقياد لما يورث رقة والتعزز على من يورث صعبة، وفي وصفهم بذلك وصف ينفي الجهل عنهم، وحصول العلم لهم، وتهذيب أنفسهم فإن التواضع ثمرة العلم وتهذيب النفس، وقد تقدم أن الجهاد ضربان: مجاهدة الغير، وذلك إما باللسان، وإما بالبنان، ومجاهدة النفس، وذلك بإصلاح القوة العلمية، وإصلاح القوة العملية. المجاهد إمَّا مجاهد للنفس، وإمَّا لشياطين الإنس والجن، قال بعضهم: - جهاد النفس أن لا نتركها تفتر عن الطاعة، وجهاد الشيطان أن لا يجد منك فرصة فيأخذ منك حظاً، وجهادُ العَدُوَّان تدنوا من صفة المسلمين. قوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) أي الجهاد في سبيل الله، وما ذكر به القدم للذين يحبهم ويحبونه: (يُؤتِيهِ) أي المستحقين.

(55)

قوله عز وجل: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) الولي والمولى: متقاربان، لكن الوليَّ من الأسماء المتضايفة، ويقتضي أن من واليته مواليك، وقال: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ). وقال في صرضع: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)، وقال: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا) وقال: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ). لما نهى عن موالاة الكافرين خاطب المؤمنين بأن لا يغتروا بهم، وأن يعلموا أنهم مواليهم الله ورسوله والمؤمنون، ثم وصف المؤمنين الذين يوالونهم، فقال: (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) أي يوفون حقها، لا الذين وصفهم بقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) الآية. (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) تقديره: من يتول

(57)

هؤلاء فهو من حزب الله، وحزب الله غالب، فإن من يتول الله ورسوله غالب. (وَهُم رَاكِعُونَ) قيل: أي خاشعون كقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39). وقيل: عنى ركوع الصلاة، وذلك نزل في علي - رضي الله عنه -، فإنه تصدق بخاتم وهو في الصلاة، فالراكع يريد به الركوع الذي هو أحد أركان الصلاة. واستدل بالخبر والآية على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها، وفيه دلالة على أن الصدقة النافلة تسمى زكاة. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

الذين آمنوا هم المخاطبون في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)، والمذكورون في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) ونهاهم عن موالاة المتهكمين بدين الحق أي عن الاستعانة بالمشركين، وقد روي أن قوماً من اليهود أتوه ليخرجوا معه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لا نستعين بمشرك)، وقد تقدم أن الاستعانة بهم لا تجوز على وجه يكونون هم الغالبون. فأما أن يستخدموا في المهن، وما يورثهم المهانة لا العز فجائز. قُرئ (وَالكُفَّارَ) بالنصب، معطوفاً على قوله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا)،

وبالجر معطوفاً على قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وعنى بالكفار من عدا أهل الكتاب من ملحد وعابد وثن، وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تنبيه: أن من شرط الإيمان مضامة التقوى، ومن شرط التقوى الغضبَ لدين الله، وتركُ موالاة من اتخذ دينكم هزواً ولعباً، ومن لا يغضب لدينه فليس بمؤمن حقيقة. وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) معطوف على قوله: (اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا) وداخل في صلة الدين، ومن تمام وصفهم كأنه قيل: اتخذوا دينكم هزواً ولعباً واتخذوا الصلاة هزواً ولعباً إذا ناديتم إلى الصلاة، وهذا تخصيص بعد العموم، أي يتخذون الدين جملةً هزواً ولعباً، ويتخذون النداء إلى الصلاة كذلك، ونحوه قوله: (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) و (مِن) في قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) للتبيين وإظهار ذلك من يفعل ذلك وليس هو التخصيص.

(59)

قوله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) يقال: نَقِمَ ونَقَمَ عليه نِقْمةً إذا أنكر ما فعله وسَخِطَ عليه ولتضمين النقمة السخط والإنكار استعمل في كل واحد منهما على الانفراد، والسبب في نزول هذه الآية أن قوماً من اليهود أتوْا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: عن من يؤمن بالله، فقال: ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ) الآية، فلما سمعوا ذكر عيسى نقموا فأنزل الله ذلك تنبيها أنكم أنكرتم غير منكر وهو إيماننا مع فسقكم، ومخرج هذا الكلام الإنكار لقول الشاعر:

(60)

وَمَا نَقَمُوا مِنْ بَني اميَّة إلا ... أنهم يَحلُمُونَ إنْ غَضبُوا قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) المثوبةُ في الخير كالعقوبةِ من الشر، واستعارتُها للعقوبة نحو قول الشاعر: - ... تَحيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجيعُ وقول غيره: تعليقها الإسراج والإحكام. ذكر أن إيماننا بالله وما أُنزل إلينا إن كان شراً عندكم، فإني أنبئكم بما هو شرٌ عاقبةً عند الله منه وهو ممن أَبْعدَهم الله من رحمته وسخط عليهم ومسخهم القردة والخنازير وقوله: (شَرٌّ مكَانًا) أي مُتَصرِفاً، وأضل عن الطريق المستقيم. وقوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) معطوف على قوله: (لَعَنَهُ اللَّهُ) أي من لعنه الله

ومن عبد الطاغوت أي الشيطان وعبادته الشيطان طاعته إياه فيما سوَّل له. وقرأ ابن مسعود (وَعَبَدُوا) رداً إلى المعنى وهو أجود. وقُرئ وعبُد الطاغوت وعَبَدَ الطاغوت. فمن قرأ عُبد فليس بوجه عند أهل العربية، لأنه ليس من

(61)

أمثله الجمع، وقد فسرنا به خدم الطاغوت، وأما عَبَد فجمع عَبيد، نحوْ رغيف ورُغف، وسرير وسُرر، وتقدير ذلك وجعل منهم عُبَد الطاغوت، كقولك جعلت زيداً أخاك أي حكمت بذلك وأما عَبُد فإما أنه واحد وقع موقع الجمع، أو جعل جمع عابد نحو خدم، أو أصله عَبُد فسكن نحو عَضُدٌ وعَضْد. قوله عز وجل: (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) أي يظهرون الإيمان ويدخلون كافرين، ويخرجون كافرين، تنبيها أنهم كاذبون فيما يظرون من الإيمان و (وَإِذَا) إشارة إلى قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ). وإلى نحو قوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). قوله عز وجل: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)

(63)

في ذلك مسابقتُهم إليه، وذلك في السوء كقوله في الحسنى: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) وحثٌّ لها، وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). والإثم إشارة إلى نحو الذي قال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). وأكلهم السحت إلى قوله: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). الإثم أعم من العدوان، والعدوان أخص منه وأعم من أكل السحت، وأكل السحت أخص منهما لأن كل أكل السحت عدوان، وليس كل عدوان يكون أكلاً للسحت. قوله عز وجل: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

لولا إذا دخل على فعل ماضي فالتوبيخ: (لَوْلَا جَاءُوا). وإذا دخل على فعل مستقبل فللتخصيص. والرباني منسوب إلى الرب وهو الذي تولى الله تربيته بالعلم، قرأ عبادة: بزيادة الألف والنون فيه كقولهم: شعرانيٌ. وقال بعضهم: الرباني ليس في كلامهم في الأصل. والأحبار الذين يراعون الأعمال، وأصله من حَبْرتُ أي حسنت وكان عبارة عن المحسنين.

(64)

إن قيل: (يَعمَلُونَ) وفي الثانية: (يَصنَعُونَ) وهل بينهما فرق؟ قيل: الصنع أخص من العمل كما أن العمل أخص من الفعل، وذاك أن الفعل يقال فيما كان من الحيوان، وغير الحيوان وبقصد وعن غير قصد، والعمل لا يقال إلا ما كان من الحيوان وبقصد، والصنع لا يقال إلا ما كان من الإنسان بقصد واختيار وبعد فكر وتحري أحاده، ولهذا يقال: دخل رجل صانع أي حاذق، وثوب صنيع أي مجاد. فحيثما ذُكِّر كافتهم قال: (لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ) وحيثما ذكر خاصتهم وحفظة العلم والعمل ذكر: (لَبِئسَ مَا كَاْنُواْ يَصنَعُونَ). قوله عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) قوله: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي هو بخيل ْممسمك، كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)

وقيل قالوا: إنه فقير كقوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، قال الحسن: معناه: - يده مقبوضة عن عذابنا، وقوله: (غُلَّتْ أَيدِيهِم) دعاء عليهم، وقيل: هو خبر، والدعاء والخبرُ إذا كانا من الله واحد، وقول من قال: لو كان هذا إخباراً لوجدوا لذلك، فلعمري إنهم قد وجدوا كذلك، فقد رُوي أن اليهود أبخل خلق الله، وقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) نِعَمه متكاثرة، وتشبيه اليد على طريقة كلام العرب في استعارة هذه اللفظة. وقد ذكر لفظ اليد في آيات. وقيل: تتنيتها لأنه أراد عطية الدنيا والآخرة، وقيل: بل قصداً إلى ثوابه وعقابه، وقيل: بل قصد إلى تكثير نعمه. فالتثنية يعبر بها عن كل كثرة

نحو قولهم: لبيك وسعديك. وقوله: (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أي إنَفاقه على مقتضى الحكمة لا على حسب شهوتكم. وقوله: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) ما يسمعون من

القرآن، ووجه ذلك ما تقدم أن القرآن بمنزلة الغذاء، والمعقولات بمنزلة الدواء الذي يوازي الصحة، والكافر والمنافق مريضان، كما قال: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ). فكما أن المريض لا يوافقه الغذاء بل يزيده مرضاً كذلك المنافق يزداد بسماع القرآن طغياناً وكفراً. وإلقاء العدواة بينهم هو تعريف لليهود قبح اتخاذ النصارى المسيح ربًّا، وتعريف النصارى قُبح نسبة اليهود المسيح إلى أما هو أقبح به. ويدخل في ذلك معاداة النصارى بعضهم لبعض، وقوله: (كُلَّمَا أَوقَدُواْ نَارًا لِّلحَربِ) أي إذا هموا بإثارة شر أوقع الله بينهم منازعة تكف شرهم وتدفع شوكتهم، فمنازعتهم لبعض يورث فشلاً، كما قال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). وقال في الكفار:

(65)

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) وقال: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)، وقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) أي مساعاتهم لطلب الإفساد فلا يعينهم الله، فإن الله لا يحب المفسدين، أي لا يعينهم على تحريهم الفساد. قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) التكفير: ستر الذنوب حتى تصير بمنزلة ما لم يُعْمَلْ، ويصح أَن يكونَ أصلُه إزالة الكفر كقولهم: مرضت فلان وقدْيت عينه. ذكر أنهم لو أصلحوا اعتقادهم وأفعالهم لغُفروا وأُثيبوا، كقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ). قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

كما جعل تعالى لجزاء إيمانهم تكفير السيئات، وجزاء تقواهم إدخال الجنات، جعل جزاء توفية أحكام كتب الله سعة الرزق، وذلك أنهم لما اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وكتموا ما أنزل الله بسحت كانوا يحوزونه، بيَّن تعالى أن ذلك العَرَض بل أكثر منه وأطيب لم يكن ليفوتهم لَوْ وفوا كتب الله حقها. والأكل من فوقهم إشارة إلى الثمار ومن تحت أرجلهم إلى الزروع. وقيل: بل الإشارة بقوله: (مِنْ فَوْقِهِمْ) إلى المطر، وبقوله: (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إلى الثمار والحبوب جميعاً، كقوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10). وقيل: ذلك إشارة إلى أنهم كانوا ينالونها، قال: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) وعلى هذا:

(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11). وقوله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ). وقوله: (مِّنهُم أمَّةٌ مقتَصِدَة) أي عادلة غير عَادِيَة ولا مقصره وهم الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ). وقوله: (سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) نحو: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) وقوله: (سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).

(67)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قيل: السبب في نزول هذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يهاب قريشاً، فأنزل الله ذلك. فروي: (أن أعرابياً همَّ بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسقط السيف من يده فجعل يضرب برأسه حتى انتثر دماغه). إن قيل: كيف قال: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وذلك كقوله: إن لم تبلغ فما بلغت. قيل معناه: وإن لم تبلغ كل ما أُنزل إليك يكون في حكم من لم تبلغ شيئاً، تنبيها أن تقصيرك في بعض ما أمرت به يحبط عملك. وقيل: عنى بقوله: (مَا أُنزِلَ إِلَيكَ) ما ذكره بعد هذه الآية. وهو قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ). وقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من أن ينالوك

بسوء من قتلٍ أو أسرٍ أو قهرٍ. وأصل العَصْمِ: من عصم القِربة أي شَدِّها، وعصمة الله للعبد حفظ سره بما يَردُ عليه من موارد الشر. وقيل: معنى يعصمك من الناس أي من بينهم العصمة المختصة بالنبوة ونحو قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95). وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ). ليس يعني أنه لا يبذل لهم فعصمة الله وتوفيقه وتسديده مبذولة لكل من رغب فيها وترشح لقَبُولها. ولكن الكفر يمنع منه، فإنه يعانده وينافيه كمنافاة المتضاد. واستدل بهذه الآية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكتم شيئاً مما أنزل الله بخلاف ما قالت الرافضة: أنه قد كتم أشياء على سبيل التُّقية.

قال بعض الصوفية: ما يتعلق به مصالح العباد وأُمر بإطلاعهم عليه، فمنزه عن كتمانه، وأما ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه.

(68)

قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)

(69)

إن قيل: قوله: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) داخل فيه التوراة والإنجيل إذ كل ذلك منزل من الله، فلم أُفردا؟ قيل: إنه أفردهما بالذكر على سبيل التفصيل وخص ما أُنزل بالقرآن. فإن قيل كيف أمرهم أن يقيموا الكتب وقد عُلم أن القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل، ولا يصح إقامةُ جميعها؟ قيل: يجوز أنه عنى الإقرار بصحة ثلاثتها، ويجوز أنه أراد أحكام أصولها، فإن ثلاثتها تستوي في ذلك وإنما الاختلاف في الفروع بسحب مصالح الأزمنة. وقيل: أراد إقامة هذه الكتب بإظهار ما فيه من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديق بعضها بعضاً. قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

إن قيل: كيف قال: (مَن آمَنَ مِنهُم بِاللَّهِ) و (مَن) يدل على ما تقدم، وتقديره: من آمن من المؤمنين ومن الذين هادوا، وذلك خُلْفُ من الكلام؟ قيل في ذلك وجهان: أحدهما: أن معنى قولِه: (إِنَّ آلَّذِينَءَامَنُوا): أظهروا الإيمان وأَمِنُوا من القتل والسبي وهم الموصوفون بقوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ). وقوله: (مَنءَامَنَ مِنهُم) أي من يحقق الإيمان فبيَّن أن المُظهِر للإيمان، والذين ما داموا فيهم ممن ذكرهم، لا يسقط عنهم الخوف والحَزَن في الدارين ما لم يتحققوا بتصديق الله، والإيمان بالمعاد، والتحري لمصالح الأعمال والثاني مَنْ في قوله: (مَنءَامَنَ بِاَللَّه) راجع إلى قوله: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) دون قوله: (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا). إن قيل: ما وجه قوله: (وَالصَّابِئُونَ) وقد ذكر النحويون أن المعطوف على اسم (إنَّ) قبل الخبر لا يصح فيه الرفع؟ قيل إن ذلك لا يصح منه الرفع إذا عطف على موضع إنَّ

ويخبر عنهما بخبر واحد نحو أن يقول: إن زيداً وعمرو منطلقان، فأما إذا جعل الثاني مرتفعاً بالابتداء وجعل خبر أحدهما مضمراً يصح. كقول الشاعر: .......... فَإنِّى وَقيَّارٌِ بهَا لَغَرِيبُ وتقدير الكلام: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم، والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله لا خوف عليهم، واستغنى بخبر أحدهما عن مضمر الآخر وعلى هذا قول الشاعر: وإلا فاعْلَمُوا أنا وأنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقينَا فيِ شِقَاقِ وقيل: قوله: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) معطوف

(70)

على المضمر في قوله: (ءَامَنُو) كأنه قيل: إن الذين آمنوا هم والذين هادوا والصابئون. قال الفراء: الرفع يصح بعد إنَّ ويصح في كل معطوف، ولا يتغير فيه الإعراب نحو الذي وإخوانه، وهذا وهذه. قوله عز وجل: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) قد تقدم حقيقة أخذ الميثاق منهم، وأن ذلك بما ضمن عقولهم على ما دل عليه قوله:

(71)

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية. وبعضه بما أَنزل إليهم من الآيات، وبعضه بالأيمان المؤكدة وكل ذلك مما ذكره المفسرون، وإنما قال: (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) فعطف المستقبل على الماضي تنبيها على أن ذلك عادتهم ماضياً ومستقبلاً، ونبه بقوله: (بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ) أنهم يتبعون الهوى فيما يتحرونه، فلا يستحقون جهداً وإنْ طابقو الحق إذ ليس لهم إلا سلوك سبيل الهوى، وأصل الهوى: والهوا واحد وهو لا مِسَاك له، ومنه: (اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ)، وسُمى الدار هاوية لذلك. قوله عز وجل: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) الفتنةُ العذاب والبليَّةُ، وأصلها: إدخال الذهب والفضة النار

(72)

للاختيار، ولذلك قال تعالى: (يَومَ هُم عَلَى النَّارِ يُفتَنُونَ)، وتارة يعتبر ما تحمل من العذاب فيستعمل فيه نحو: (وَفَتَنَّاك فُتُونًا). وقُرأ: (أَلَّا تَكُونُ) بالرفع والنصب. فالرفع على تقدير أنه لا تكونُ فتنة وذلك أبلغ في ذمهم، وقد تقدم أن الظن والحسبان يستعملان تارة فيما قوى في النفس وتارة لما ضعف، ومن ذكر بعدهما إن المشددة والمخففة منهما فقصد إلى تقوية الاعتقاد ومن ذكر بعدهما أن الناصبة للفعل فلضعف الاعتقاد، وارتفاع قوله: (كَثِيرٌ) على البدل من الضمير في : (فَعَمُواْ وَصَمُّواْ) وعلى تقدير التفسير: أي العُميُ والصُم كثير منهم ثم بين أنه تعالى لعلمه كاملاً بما يعملون بالمرصاد يحاربهم. قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)

(74)

قالوا: إن الله هو المسيح، وذلك حكاية عن اليعقوبية الذين قالوا إن المسيح ابن مريم هو الله، وبين أن المسيح نهاهم أن يعتقدوا ذلك حيث قال: اعبدوا الله ربي وربكم وأنه بيَّن أن من يشرك بالله يمنعه الجنة ويخلده النار فلا يجد ناصراً. وأصل التحريم جعل الشيء ممنوعا منه إما بالحكم كتحريم الله الخمر وإما بالمنع القهري كتحريم الله الجنة على الكافر. قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) أخبر عن النسطورية والمَلَكِية، فهم الذين يقولون أب وابن وروح القدس فيجعلون الله أحد الأقانيم الثلاثة، ومن أن الله هو واحد وهو سبب الموجودات، وهددهم إن لم ينتهوا يعذبون.

(75)

إن قيل: لم قال: (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وذلك يقتضي أن يكون بعضٌ منهم كافرين. وقد قال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا) فحكم بكفر جميعهم قيل: إنما قال الذين كفروا منهم تنبيها أن العذاب يتوجه على من دام به الكفر ولم يقلع، ولهذا عقبه بقوله: (أَفَلَا يَتُوبُونَ). إن قيل: لم قال: (لَيَمَسَّنَّ) فذكر المس، وذلك يقتضي بتقليل العذاب. قيل: بل المس يقتضي مبالغة في وصف عذابهم، لأن المس يقتضي اللمس، وذلك أعم الحواس وأكثرها وجوداً إذ لا حيوان إلا وله اللمس، ولأنه أعرف الحواس عند الخاص والعام. قوله عز وجل: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) الصديقة الكثيرة الصدق، فقد قيل: إنها لم تكذب قط، وقيل: لتصديقها جبريل لما قال:

(إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19). الخلو: تعرِّي الزمان أو المكان مما فيه، أو تعرى الشيء من زمان ومكان. وإذا قيل: لا يخلوا الأمر من كذا، فمعناه لا يتعرى ولا ينفك، احتج تعالى على من ادعى الربوبية لعيسى بما يزيل الشبهة في ذلك، وهو أن غاية ما لعيسى صلى الله عليه وسلم كونه رسولا، ذا معجزات قد شاركه في مثلها غيره من الأنبياء كإبراهيم حيث أُلقي في النار فسلم منها، وموسى حيث أَلقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، وفلق البحر له في تسع آيات، وأنه في كونه من غير أب لم يكن بأعجب من آدم الذي كان من غير أب ولا أم، ونبه على قصوره عن آدم بكونه من أم، وأن كونها صديقه لا يقتضي لها ولا لابنها الربوبية بل أكثر ما في ذلك أن يكونا من جملة الصديقين، ثم نبه على بعضهما بافتقارهما إلى الطعام المقتضي لبعض الحاجة فكنى تعالى عن ذلك بأحسن كناية ثم عجب منهم بقوله: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وإذا كان حالُهما لا يخفَى ومع ذلك ينصرفون عن الحق وتفهمه. قيل معنى: (يُؤْفَكُونَ): يصرفون

(76)

كاذبون فيما يدعونه. قوله تعالى: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) إن قيل لم قال: (مَا لَا يَملِكُ) ولم يقل (مَن)، وقد قصد بذلك نفيُ إلاهية عيسى، وكيف قال: (يَملِكُ لَهُم ضَرًّا وَلَا نَفعًا) وقد كان عيسى يملك ذلك وإن كان بتخليق الله إياه، ولمَ قدم الضر على النفع، ولم أتبع ذلك قوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقد كان من حق المقابلة أن يُقال والله هو الضار النافع؟ قيل: أما ذكر (مَا) فلكونه للجنس والنوع المقتضين لمعنى عام يقصد بذكره وأن ذلك يقتضي المشاركةَ والمشابهةَ، وتنزه الإلهية عن ذلك فأنكر تعالى بذكر ما ادعوه كل ما اقتضى مشابهةً ما، وإنما قال: (لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) لأنه لما كانت الإشارة على ثلاثة

أضرب: عن مالك الضر والنفع بوجه، ومالك لبعض ذلك بتمليك كالإنسان، ومالك لهما لا تمليك وهو الله تعالى صار مالكاً، لذلك بالتمليك في الحكم من لا يملك من هذا الوجه. قال المسلمون: لا يملك أحدٌ شيئاً غيرُ الله، وقالوا: الأشياءُ في يد الناس عاريةٌ مستردة. وأما تقديم الضر على النفع؛ فلأن الإنسان يخدم غيره إما لدفع الضرر أو لجر النفع، والناس يراعون دفع الضرر قبل جر النفع، ولذلك كان الاحتراز من المَضَارةِ كلها واجباً وليس طلب المنافع كلها واجباً، فلذلك قدم هاهنا الضرر. فإن قيل: فقد قاله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) فقدم ذكر النفع؟ قيل: تقدم النفع في هذا المكان أولى لأنه لما ذكر تحريهم عن أنفسهم فيما يجرون لها. والإنسان يتحرى لنفسه النفع لا الضر، بيَّن أنهم لا يملكون ما يحبون فلأنفسهم، بل لا يملكون أيضاً في حقيقة الضر فضلاً عن النفع. وأما إتباعه بقوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) فهو أنه لما لم ينكروا أن الله مالك الضر والنفع، ولا أنه قادر على مجازاة من استحق المجازاة، بل أشركوا بينه وبين غيره عَقَّبه بما اقتضى معنى ملكه للضر والنفع، وقدرته على المجازاة وذكر أنه هو المجازي

(77)

فإن قوله: (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) اقتضى أنه يجازي بما يسمعه ويعلمُه، وإدخال هو في قوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) اقتضى أن هذا الحكم خاص له لا يشاركه فيه غيره، صار مقتضى الكلام أنه يملك النفع والضر وأنه يجازي كل أحد باستحقاقه. قوله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) الغلو: تجاوز الحد من قولهم غلا السهم وغلا السعر ويستعمل في الإفراط دون التفريط، والخطاب قيل هو للنصارى حيث تجاوز القصد في عيسى عليه الصلاة والسلام فادعوا له الربوبية. وقيل: هو خطاب لهم ولليهود، فالنصارى غلوا في رفعه، واليهود في وضعة، وقوله: (غَيْرَ الْحَقِّ) انتصب بإضمار: (وَلَا تَقُولُواْ) كقوله: (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، وبيَّن أن الذي عليه قومهم هو من مقتضى الهوى فنهاهم عن اتباعهم فيه.

كما قال تعالى: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) وإنما جمع الهوى تنبيهاً أنهم متفاوتون، والمراد في باطلهم، إن قيل: لم كرر قوله: (ضَلُّوا)؟ قيل في ذلك أوجه: الأول: أنه أراد قد ضلوا عن سواء السبيل، فلما فصل بينه وبين ما يتعلق به أُعيد ذكره، كقوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ). أعاد قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ). الثاني: أنه أريد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، ضلوا كون ذلك تبيناً لما ضلوا عنه، والثالث: أن الاشارة بقوله: (ضَلُّواْ مِن قَبلُ) إلى ضلالهم في شريعتهم قبل إتيان نبينا - صلى الله عليه وسلم -،

(78)

وبقوله: (وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) إلى ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. والرابع: أن الإنسان قد يعتقد أن يُضل غيره وهو ضال بذلك، فبيَّن الله تعالى أن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم غيرهم إشارة إلى نحو قوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ). والخامس: أن الله تعالى أرسل هاديين العقل والرسول، والعقل متقَدِّم على الرسول من حيث أنه بالعقل يهتدي إلى معرفة الرسول، فقوله: (ضَلُّواْ) إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل وضلوا عن سواء السبيل إلى ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله عز وجل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) الاعتداء والتعدي والعدوان خروج عما حَدَّ ورسم، إن قيل: على أي وجه لعنوا على ألسنتهما؟ قيل في ذلك أوجه: الأول: أنهم فعلوا ما استحقوا به اللعن فلعناهم بأسمائهم، وذلك راجع إلى آبائهم، فقد روي أن

(79)

داوود بلغه أن قوماً اجتمعوا على منكر فقصدهم ليعظهم فاستفتحهم الباب فلم يفتحوا وقالوا: نحن قردة، فقال: كونوها فمسخهم قردة، وإن قوماً آذَوْا عيسى عليه الصلاة والسلام فلعنهم، الثاني: أنهما قالا: من لم يفعل كذا فلعنة اللَّهِ عليه، فعصو، فصاروا ملعونين من هذا الوجه. الثالث: أن الله تعالى لما أنزل على كل واحد منهما كتاباً اقتضى أن من خالفه فهو ملعون، فخالف هؤلاء، فصاروا من هذا الوجه ملعونين. قوله عز وجل: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) التناهى: أن ينهى بعضهم بعضاً، والانتهاء الانزجار، وهو أبلغ من الانتهاء

(80)

والمعنى لم يكونوا ينتهون، ولا يتناهون عن القبح الذي أناطوه، ثم ذم فعلهم. قوله عز وجل: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) أى ترى كثيراً من الذين لعنوا موالين للكفار في محاداة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك يجر إليهم سخطَ الله ويدخره لهم وبئس المدخر سخطه تعالى وما يثمر لهم الخلود في العذاب ونحو قوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ). قوله عز وجل: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) النبي يجوز أن يكون إشارة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ويجوز أن يكون إشارة إلى نبيهم، ونبه أنهم لو آمنوا بمن ادعوا الإيمان به لما فعلوا ما فعلوا، فإن دينهم لا يقتضي ما يرتكبونه ويفعلونه، ويجوز أن يكون النبي إشارة إلى الجنس، أي الإيمان بالله وبالنبوة والكتاب، لا يقتضي ما يتحرونه من مولاة الكفار.

(82)

إن قيل: فكيف قال: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) بل كافرون؟ قيل الإشارة: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) أي أحبارهم وعلمائهم وأماثلهم، فيشير إلى أن فسق هؤلاء هو الذي اقتضى أن يرتكب جماعتهم ما يرتكبونه وذلك لما أنبا بقوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ). قوله عز وجل: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) أصل العدواة المباعدة ومنه يعدي والعدا للمكان المتفاوت. والقس والقسيس: العابد الكثير الذكر. والرهبان جمع راهب كالركبان والفرسان جمع راكب وفارس، بيَّن أنه كما بَيْن الأخيار تفاوت كذلك بين الأشرار تفاوت، وكما أن من أتى من

الطاعة ما هو أدنى كان ثوابه أدنى، كذلك من أتى من المعصية أكثر كان عقابه أكثر، ولهذا جعل في الجنة درجات، وفي النار دركات، فالله لا يبخس عاملاً عمله. فلا يساوي بين من جحده وبين من يؤمن به ولا يكفر بأنبيائه، ولا بين من يجحد جميع أنبيائه، وبين من يجحد بعض أنبيائه فالمشركون به أبعد من الله من اليهود، واليهود أبعد من النصارى وإن أبعد الناس عن الإسلام اليهودُ والمشركون، أما اليهود فلأنهم بَعدُوا عن المسلمين بدرجتين إذ قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وأما المشركون فلأنهم بعُدوا بدرجات إذ قد جحدوا التوحيد والنبوات. إن قيل فلم قدم ذكر اليهود والمشركون شرٌ منهم؟ قيل: لأن الآية المتقدمة في ذكرهم، والقصد كان إليهم، فكان تقديمه لذلك أولى. وبين أن أقرب الناس إليهم قوم ادعوا التنصر ليس ذلك إشارة إلى جماعة النصارى بل قوم منهم. ولهذا قال: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى). ويدل على ذلك ما روي في التفسير

(83)

أن ذلك إشارة إلى النجاشى، وأصحابه الذين آمنوا من بعد. ثَمً بيَّن أن منهم القسيسين والرهبان وأنهم يتحرون الحق ولا يستكبرون عن قبوله والضمير في (أنهم) راجع إلى القسيسين والرهبان، وقيل: راجع إلى المعنيين بالدين كلهم. قوله عز وجل: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) الفيض سيلان عن امتلاء وأفضا لسيلانه وفاضته دمعة إذا امتلأت العين ثم سالت، وعنه اسستعير خبر مستفيض، وأفاض القوم من عرفه، فذكر تعالى أنهم يبكون ويؤمنون بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويتضرعون إلى الله أن يجعلهم من جملة من وصفهم بقوله:

(84)

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ومعنى (فَاكْتُبْنَا) أي اجعلنا منهم وثبتنا في جملتهم. قوله عز وجل: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) كأنه قيل لهم: لِمَ آمنتم به؟ فقالوا: ولم لا نؤمن أي نصدق بالله وبالحق الذي جاءنا. وقوله: (وَنَطمَعُ) من جملة قوله: (وَمَا لَنَا)، ويجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون في موضع الحال، أي لما لا نؤمن طامعين في أن يجعلنا ربنا من الصالحين وذلك إشارة إلى قوله: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69).

(85)

قوله عز وجل: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86). قد تقدم ما هو تفسير لهذا ودلَّ قوله: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) أنهم محسنون واستحقوا ذلك تنبيهاً أن ذلك .... (1). فإن قيل: فمن المحسنين من لا يجزى فهو الذي إساءته أكثر؟ قيل: المحسن المطلق هو الذي لا يستحق أن يوصف بضده ويكون وصفه بالحسن مطلقاً، ووصفه بالإساءة مقيداً، فأما من إساءته مُوَفيةٌ على إحسانه فلا يطلق عليه اسم الحسن. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) لما ذكر حال الذين قالوا: - إنا نصارى، وذكر أن منهم قسيسين ورهباناً فمدحهم بذلك، وكانت الرهبانية قد حرموا على أنفسهم طيبات قد أحلَّها الله

_ (1) سقط في الأصل.

لهم، ورأى تعالى قوما سوقوا إلى حالهم وهموا أن يقتدوا بهم حتى رأوا أنَّ قوَماً من أصحابه عليه الصلاة والسملام همُّو بإخصائهم، همُّوا أن يفعلوا فعلهم، وبيَّن ما دل على ما قال: (بعثت بالحنيفية السهلة)، وقوله: (وَلَا تَعْتَدُوا)

(88)

يجوز أن يكون حكماً لما دل عليه قوله: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ) وأن لا تعتدوا إلى تناول المحظورات، وتكون الآية نهياً عن الطرفين في التفريط والإفراط وحملاً على القصر المذكور في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). ونحو ذلك من الآيات، وبيَّن أنه لا يحب المعتدين، أي الاعتداء منافٍ لمرضاة الله، فإن قيل: ولِمَ لمْ يقل والله يبغض المعتدين ليكون أبلغ؟ قيل: بل قوله: (لَا يُحِبُّ) أبلغ من وجه؛ لأن من المعتدين من لا يوصف بأن الله يبغضه ويوصف بأنه لا يحبه، وهو من لم يكن اعتداءه كبيرة، وكل مبغض غير محبوب، وليس كل من لا يكون محبوباً علته مبغضاً. قال بعضهم: معنى (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ) أي لا تخلطوا مالكم من الحلال بمغصوب، ولا تفعلوا فيه فعلاً يصير به حراماً، فتكونوا قد جعلتم الحلال حراماً. قوله تعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) الرزق: يقال لما جعل غِذَا، ويقال

(89)

للعطية جميعاً، وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) أي ما يتغذى به، (وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ) أي مما أعطيناهم، ولتردد هذه اللفظة بين المعنيين اختلفوا أن ما رزق الله العبد هل يصح أن يكون حراماً؟ قال بعضهم هذه الآية يقتضي أن الرزق يقع على الحرام أيضاً لأنه خص فقال: (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) فلولا أنه يتناولهما لما كان لتخصيصه فائدة، وقال مُخالفة قوله: (حَلَالًا طَيِّبًا) انتصابه على أنه حال مؤكدة كأنه قيل: كلوا مما رزقكم الله فهو حلال طيب، وبيَّن أن الله الذي آمنتم به حثكم أن تتقوه فتمام الإيمان التقوى. قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

اللغو واللغي: ما لا يعتد به من المقال والفعال ومن هذا قيل: لصوت العصافير اللغو، وقيل أُلغيت كذا أي طرحته لقلة الاعتداد به. واللغو في اليمين، روت عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (هو قول الرجل لا والله وبلى والله) موقوفاً عليها.

وقال ابن عباس: - هو أن يحلف على أمر يراه كذلك وليس على ما يراه، وروي عنهْ أنه قال: هو أن تحلف البتَّ على شيء وأنت غضبان، وقال بعضهم: - هو أن يحلف الرجل على معصيته بأن يفعلها فينبغي أن لا يفعلها قال وهذا لا كفارة فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين فرأى أن غيرها خيراً منها فليركها، فإن تركها كفارتها) وقيل: بل لا إثم في تركها وعليه الكفارة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف على شيء فرأى غيره خيراً فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) القَسَمُ ضربان: قسم على ماضي، وقسم على مستقبل، فالماضي: إما لغو وإما غموس، ولا كفارة فيها عند أبي حنيفة. وأما عند الشافعي ففي الغموس الكفارة دون اللغو.

قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)، يعني عند الشافعي: مؤاخذة الآخرة أي العقاب، والمؤاخذة بالكفارة عند أبي حنيفة مؤاخذة العقاب دون الكفارة، واختلف في الكفارة على أوجه، أما في الإطعام فقد اختلف فيه: هل الأولى أن يجمعوا على إطعامهم أو يدفع إليهم، فإذا جُمعوا عليه فهل يُطعَمون وجبه أو يطعمون غداءً وعشاء، وإذا أعطوا كم يعطون؟ قال الحسن: يعطي كل مسكين نصف صاع من بر. وقال بعضهم: نصف صاع بر، وصاع من تمر.

وقال ابن عباس وابن عمر رضى الله عنه الله عنهما: بل مدٌّ من بُر وهو قول مالك والشافعي، وقال سعيد بن جبير: مُدان، مدٌّ لطعامه، ومدٌّ لإدامه، ولا خلاف أنْ الذكر والأنثى في ذلك سواء، وذُكِّر اللفظ (عَشَرَةَ) تغليباً للمذكر، وقوله: (مِن أَوسَطِ مَا تُطعِمُونَ أَهلِيكُم) قيل: هو راجع إلى مرات الإطعام، وقيل: هو راجع إلى جنس الطعام، وقيل: راجع إلى قدر ما يطعمون إن أطعم أهله مُداً فمداً، وإن أطعمهم صاعاً فصاعا.

وأمَّا الكسوةُ: فقد قيل: لكل مسكين ثوب إزار ورداء، وقال مالَكْ: - يكسوا الرجل ثوباً والمرأة درعاً وخماراً، فذلك أقل ما يجزي فيه الصلاة. قال الشافعي: يجزي منها قطعة من سراويل وعمامة ومُقْنَعَه. وأما تحرير الرقبة

فإيقاع الحرَّية عليه، وتخصيص لفظ الرقبة، فقد قيل: ذلك لأنهم كانوا إذا أسروا أسيرا شدَّقه إلى عنقه فإذا خُلِّيَ قيل: حرر رقبته، فصار ذلك عبارة عن العتق، وحقُّ المعتَق أن لا يكون به عيب يضر بعمله كالعمى والشلل. فأما العور فإنه لا يضر، وقيل: يكره عتق المختل، ولا يجوز عتق الصبي الصغير، قال سليمان بن موسى: الرقبة لا تقع إلا على الكبير، فأما الصغير فيقال له النَسمَة، وقال إبراهيم: كل موضع في الشرع ذكر فيه رقبة

مؤمنة فإنه لا يجزئ إلا الذي صام وصلى، أي بلغ. وقوله: (فَمَن لَّم يَجِد) أي لم يجد فضلاً عن قوت عياله في يومه وليلته، فإن له أن يكفر بالصيام. وقال قوم: إذا لم يكن عنده مائتا درهم. وأما الصوم فقد قيل: متتابعات، ولذا قرأ أُبيٌّ - رضي الله عنه - (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، واعتبر ذلك أبو حنيفة في الحكم، وإن كانت التلاوة منسوخة. وقال بعض الشافعية: قواه ذلك كفارة الحكم. (إِذَا حَلَفتُم) يدل على

أن له أن يكفر إذا حلف قبل أن يحنث، ولم يقل إذا حنثتم. وقوله: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) أي أقلوا منها ولا تبذلوها لا للغوها، ولا ما يؤخذ بيمين اللغو، وإن لم يؤخذ به فقد يُودي بالإنسان إلى أن يتعود إكثار اليمين، وقيل معناه: إذا حلفتم فلا تنقضوها، كقوله: (وَأَوفُواْ بِعَهدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّم) وقوله: (أَوفُواْ بِالعُقُودِ) والصحيح أن الآية تتناول الأمرين - جميعاً وعلى هذا قول الشاعر: قَلِيلُ الأَلاَيا حافظٌ ليمِينِه ... وإن سَبَقَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّت! وجملة الأمر أن الإنسان مندوب إلى أن لا يحلف، ومن حلف على أن

(90)

لا يفعل فعلاً يجب أو يستحب أن يفعل فحقه عليه أن لا يحنث، ومن حلف على ما يجب أن لا يفعل أو يستحب أن يحنث في يمينه ويكفر، ومن حلف على ما يجب أن لا يفعل أو يستحب أن يفعل، فاستوى فعله وتركه، فإن شاء حنث وكفَّر، وإن شاء حَفِظ اليمين. وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أي أعلام دينه، أحكامه الدنيوي والأخروي، رجاء أن يعرفوه حق المعرفة، فإذا عرفتموه وفعلتم ما أمرتم يكونون أقرب إلى أن توفوا حق شكره. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) النجس والرجس والرجز متقارب، لكن النجس يقال فيما يستقذر بالطبع، والرجس أكثر ما يقال فيما يستقذر بالفعل ولهذا فُسر بالإثم والسخط. والخمر بالاتفاق: عصير العنب المشتد، وقد يسمى نقيع البُسر والتمر خمراً،

قال ابن عباس: نزل تحريم الخمر وهي الفضيح، وروى النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً) وهذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة. وقوله عليه الصلاة والسلام: (الخمر هاتين الثسجرتين من النخل والعنب) فإنه لا يقتضي أن لا يكون من غيرهما، وقوله عليه الصلاة والسلام: (كلُ مسْكرٍ حرام)، يقتضي تحريم ذلك جميعاً، سواء أسكر ومن شأنه أن يسكر؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في الماضى والحال والمستقبل، وقد تقدم الكلام في تحريم الخمر في سورة البقرة. الميسر الضرب

(91)

بالقداح على الجَزور، وسمي بذلك اعتقادهم أنه سبب يسار الفقر لما ينالهم من لحمه، وقال أمير المؤمنين: - الشطرنج من الميسر، وقيل: القمار كله منه أي حكمه حكمُه. والأنصاب ما نصب للعبادة من الأوثان، وقيل كان حجرا بين يدي الصنم يذبح عليه، وعلى هذا قال الشاعر: ...... وَمَا هُرِيقَ عَلى الأَنْصابِ مِنْ جَسَدِ والأزلام: قداح يكتب على بعضها افعل، وعلى بعضها لا تفعل، أو يكتب عليها حسن أو مذموم، فكانوا إذا أرادوا أمراً ضربوه واعتمدوه فيما يفعلونه، وقوله: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) أي من تربيته. قوله عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

لما كان هذان يتولد منهما العدواة خصهما بإعادة ذكرهما، فأمَّا الأنصاب فإنها سبب الكفر المحض، وهذه العلة في الخمر تقتضي مشاركة البُنية إياها. إن قيل: الذي يصد عن ذكر الله هو شرب الكثير دون القليل، فحسبه أن يكون هو المحرم؟ قيل: بل ذلك منهما فإن القليل داعٍ مَن شربه إلى الكثير، وشرب الكثير داعٍ إلى ذلك بلا واسطة. وقوله: (فَهَل أَنتُم مُّنتَهُونَ) نهاية الردع والزجر.

(93)

وقوله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) روى أنه لما نزلت الآية الأولى قال: قد مات منا عدة، يشربون الخمر فما حالهم؟ فأنزل الله هذه الآية، روى أنها نزلت: في قوم كانوا قد حرموا على أنفسهم المباحات، وروى أن قدامة ابن مظعون شرب الخمر فأراد عمر أن

يجلده، فتلا قدامة هذه الآية، فقال عمر: أخطأت التأويل، إذا أيقنت واجتَنبتَ ما حرم الله عليك. إن قيل ما الفرق بين الإيمان والتقوى والحسنى؟ قيل: الإيمان: - هو الإذعان للحق على سببيل التصديق له بالتبيين. هذا وإن كان في المتعارف صار اسماً للتخصيص بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وبالتقوى: - جعل اليقين وقاية من السخط بالانتهاء عما نهى، والإتيان بما أمر. والإحسان: تحري الأفعال الجميلة في الإيمان والتقوى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لما قيل له: ما الإحسان؟ فقال: (أن تحبد الله كأنك تراه) وثالثهما مرتبة وإن كان لكل واحد مراتب. إن قيل ظاهر الآية يقتضى أن المؤمن المتقي المحسن يجوز له أن يتناول ما يريد تناوله والجناح عنه مرفوع، قيل: رفع الجناح عنه، لا لأنه

أبيح له ما حظر على غيره، بل لأنه أَمِنَ أن يأتي بما هو محظور، وهذا كقَولك: لن أمنت أن يتعدى طوره لا بأس عليك فيما صنعته، ولا حجر عليك فيما أردته وارتكبته، يعني أنك مأمون الغاية أن يتعدى طورك، فبين بالآية أن من صار بهذه المنزلة من الإيمان أحجم عن المحظور وعفي عنه، وعلى هذا قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية. إن قيل: ما وجه تكرير ذكر الإيمان والتقوى؟ قيل في ذلك أوجه: الأول: ليس من آمن واتقى فيما كان قد حرم عليه وقت إباحة الخمر وأدام الإيمان واستعمل التقوى، إلا أن في ترك شربه. ثم النهي في غير ذلك واستعمل الحسنى جناح فيما شربه من الخمر، وتعاطاه من الميسر، قبل أن يحرم ذلك. الثاني: لا جناح في تناول المباح من آمن واتقى فيما مضى، وفي الحال وفي المستقبل، فأما من ترك ذلك في أحد الحالين، ولم يقلع بتوبة فله الإثم. الثالث: أنه أراد استعمال الإنسان الإيمان والتقوى فيما بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الناس، وبينه وبين الله.

(94)

الرابع: أن للإيمان والتقوى على القول المجمل ثلاثة منازل: إما أن يكون الإنسان في أوله وأوسطه أو في منتهاه، وكذا الفسق ثلاث منازل، كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) فبيَّن أن الإنسان إذا استوعب المنازل الثلاث فقد كمل وصار بحيث لا يتناول إلا المباح فلا جناح عليه لذلك فيما طعم. الخامس: أن للتقوى ثلاث منازل: الأول: ترك المحرمات، الثاني: ترك الشبهات، الثالث: ترك بعض المحللات تهذيباً لنفسه، لا تحريماً ومن بلغ هذا المبلغ فلا جناح عليه فيما يتناوله بعد ذلك، وبيَّن بقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أن من فعل ذلك فقد صار محسناً، وإذا صار محسناً صار لله محبوباً فإن الله يحب المحسنين. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

الابتلاء: - استخراج ما عند الإنسان من البلاء، أي الفعل كالاختيار في كونه استخراج خبر الإنسان، وقوله: (بِشىَءٍ منَ الصَّيدِ) قيل: - (مِن) للجنس أي بصيد البر دون البحر وصيد الإحلال دون الإحرام، وقيل للتبيين لقوله: (فَاجتَنِبُواْ الرِّجسَ مِنَ الأَوثَانِ)، وقيل: للتبعيض أي من أجر الصيد ما يمكن اصطياده، وقوله: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ) أي ما كان مستأنساً منه، وقيل: فراخ الطيور، وصغار الوحش والبيض، فقد روي: (أنه أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - بيضتان

فامتنع منهما، وقال: (مُحْرِمون)، وقضى عليه الصلاة والسلام في بيض نعام أصابها محرم ثمنه، وما تناله، وما حكمه هي الممتنعات، ولم يعن الرماح فقط بل عناها وسائر الأسلحة، أي جعل تعالى ذلك ليكون ذريعة إلى ظهور أفعالكم وما يستحقون به الجزاء، وقيل: إن قوله: (لَيَبلُوَنَّكمُ) أي يوجب الله تعالى ذلك عليكم لترضوا به أنفسكم، وتتوصلوا إلى الامتناع عن محارمه الخفية، ليعلم بذلك كيف تضبطوا أنفسكم حتى لا يطلع عليكم غيركم وإنما يطلع عليه رب العزة، وذلك إشارة إلى خفيات القلوب والسرائر. وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أي من تعدى في هذه الظواهر بعدما حظر عليه فيما ولا يراعي أمره فأولئك هم الذين يتعدون ويستحقون العذاب الأليم.

(95)

وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) ذكر لفظ القتل دون الذبح والذكوة لأمرين: أحدُهما: - أنه أعم الألفاظ في ذلك، والثاني تنبيه أن ما يصيبه غير مذكي والصيد هاهنا مخصوص في كل متوحش يؤكل لحمه عند أكثر الفقهاء، بدلالة قول النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم، الحيَّةُ والفأرة والعقرب والكلب العقور)، وفي خبر آخر: (الذئب والفأرة والغراب والحدأة)،

وقيل نبه بقوله العقور على ما يؤذي. واختلف في الصيد بتذكية المحرم هل يأكله حلال؟ فأجراه بعضهم: مجرى ذبح المجوسي والوثني، وأجراه بعضهم: مجرى ذبح الشاة المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوب، (وَأَنتُم حُرُمٌ)، أي مُحرمون - بحج أو غيره، أو داخلون في الحرم، وأجمعوا أنه لم يرد أنهم في الشهر الحرام، وإن كان اللفظ يحتمله، وقوله: (وَمَن قَتَلَهُ ومِنكُم مُّتَعَمِّدًا) فيه ثلاثة أقوال: -

الأول: ما روي عن ابن عباس: أن الكفارة لا تلزم المخطئ لتخصيص العمْد. الثاني: ما روي عن مجاهد أنه إذا كان عامداً لقتله ناسياً لإحرامه فعليه الجزاء، وإن كان ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله فلا جزاء عليه. الثالث: وهو الأكثر أن عليه الكفارة، على كل حال وتخصيص العمْد بالذكر لقوله: (وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ) وذلك تخصيص بالعامد دون المخطئ، وأكد ذلك بأن الأصول تقتضي المساواة بين العمْد والخطأ فيما يختص بإتلاف المال.

وقوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ). قد تقدم أن المثل يقع على الند الذي هو مماثلة في الجنس، وعلى الشبه الذي مماثلة في الكيفية، وعلى المساواة التي هي المماثلة في الكمية، وعلى المشاكلة التي هي المماثلة في الهيئة، فلما كانت المماثلة لا تختص، صار اللفظ مشتركاً. فاختلف فيه فاعتبر ابن عباس: المماثلة في الخِلْقَة، وإليه ذهب سعيد بن جبير وقتادة ومالك والشافعي، واعتبر عطاء ومجاهد المماثلة في القيمة، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف. وقالوا: إن شاء اشترى بها طعاماً، فأعطى كل مسكين مُداً، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً.

واللفظ بالأول أليق لقوله: (مِنَ النَّعَمِ) وفي الآية قراءتان: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) بالتنوين، (وجَزَآءُ مثلِ) بالإضافة، فإذا قرأ بالتنوين فلأنه يجعل الجزاء اسماً لا يجازى به مثل أي مماثل لما قتل. وقوله: (مِنَ النَّعَمِ) في موضع الوصف للجزاء. قيل: هو أجود من الإضافة فإن الواجب هو جزاء المقتول من الصيد، لا جزاء مثل المقتول، فإن قيل: المقتول ليس بمقتول فيكون له جزاء، وإذا أضيف جزاء إلى مثل، فذكر المثل هاهنا كما من نحو أنا أكرم مثلك وجعلنا أكرمك، وقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) أي يجب أن يحكم بذلك عدلان، وروى قبيصة بن جابر قال:

ابتدرت أنا وصاحب لي ظبياً فأصبته فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلَك له فأقبل على رجل إلى جنبه فنظرا في ذلك فأتيت صاحبي وقلت إن عمر لم يدر لم يحكم حتى جمع صاحباً له، فسمع ذلك عمر، فأقبل علىَّ ضرباً بالدِّرة، وقال أما سمعت (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) وهذا ابن عوف وأنا ابن الخطاب. وقوله: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) قال الشافعي عنى عدل الهدي، وذاك أنه يقوِّم الهدي، وقال أبو حنيفة: عنى عدل الصيد فإنه يُقوِّم الصيد، وقوله (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) إخبار أنه لا يجوز نحر الهدي إلا في الحرم ، واختلف في الطعام، هل يجوز غير في الحرم؟ وقوله: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ)

أي عن قتل المحرم، وقيل: عن المرة الأولى، وقوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) روي عن جماعة أنهم كانوا لا يحكمون على المحرم إذا أعاد إلى القتل الصيد وكان إذا استفتوا يقولون: هل جنيت شيئاً قبل فإن قال: نعم، لم يحكموا عليه، وإن قال: لا، حكموا عليه، وقول فقهاء الأمصار أنه يحكم عليه بكل حال.

(96)

قوله عز وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) البحر: يتناول كلًّا مالحاً كان أو عذباً، في جدول كان أو في نهر. قال تعالى: (وَمَا يَستَوِي البَحرَانِ هَذَا عَذبٌ فُرَاتٌ)، وقوله: (وَطَعَامُهُ) أي ما قذف به البحر ميتاً، وعلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).

والصيد هاهنا قيل: هو المصيد، وقيل: هو المصدر. فعلى الأول قال بعض العلماء: أكل المصيد على كل حال غير محظور.

واستدل بما روى أبو قتادة (أني أصبت حمار وحش فقَلت: يا رسول الله: أصبت حمار وحش وعندي فضله، فقال كلوا فنحن حرم)، وعلى الثاني قال بعضهم: الاصطياد محرم، فأما أكل ما يصيد غيره فيجوز، واستدل على ذلك ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام: (وقد سئل عن الصيد فقال: (حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوا أو يُصاد لكم).

فقال بعض العلماء: (وَطَعَامُهُ) أي ما يصاد له، قال: وهذا يدل على أن ما اصطاد المحرم أو صيد له من صيد البحر غير محرم عليه، قال الحسن (وَطَعَامُهُ) يعني البُر والشعير ونحوهما مما يتغذى بالماء، وقيل: عنى ما مات فيه. وعليه دل قوله عليه الصلاة والسلام في البحر: (الطهور ماؤه الحل ميتته). وقيل: يتناول ذلك كل ما في البحر إلا ما استثناه السنة.

(97)

وقال بعضهم: - بل ذلك يتناول السمك فقط. وقوله: (مَتَاعًا) مصدر مؤكد، كقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) بعد قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ). قوله عز وجل: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) الكعبة: بيت مَرْبَع شبيهاً مكَعب ومنه قيل: كَعْبُ ثدي المرأة. وقوله: (البَيتَ الحَرَامَ) يصح أن يكون بدلاً من قوله:

(الْكَعْبَةَ)، وقوله: (قِيامًا) في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، ويصح أن يجعل (البَيتَ الحَرَامَ) مفعولاً ثانياً، ويجعل (قِيامًا) حالاً، والقيام، والقوام ما يُقوم به الأمر في معاشهم وصلاح أبدانهم، ونقاء نفوسهم، ونبه تعالى أن الإنسان إذا تفكر فيها بيَّن الله لهم من يعظِّم الكعبة أ. والشهر الحرام والهدي والقلائد. فنبهه بذلك أن الله تعالى لإحاطة علمه بالأشياء قبل كونها ومعرفته لمصالح العباد جعل ذلك سبباً لعبادتهم لله تعالى، قال الأصم: (قِيامًا لِّلنَّاسِ) أي: دائماً لهم لا يُنْسخ حكمه، وقال الحسن: يعني بالشهر الحرام: الأشهر الحرم فأخرج اللفظ مخرج الواحد، فإن قيل ما فائدة قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بعد قوله: (مَا فِى السَّموَات وَمَا فِى الأَرضِ)؟ قيل: إن لفظ قوله: يعلم إخبار عن المستقبل (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أن ليس علمه مقصور على ما تقدم، بل هو عالم الغيب والشهادة، إن قيل: كيف جعل قياماً علة لعلمنا أن الله يعلم ما في السموات والأرض؟

(98)

قيل: ليس هذا متعلق بل هو متعلق به وبما قبله. ونبه أنه تعالى قيض إما باعث من خارج أو باعث من داخل على تحريم القتال في الشهر الحرام، ولتعظيم الكعبة ليكون ذلك سبباً لمصالح الناس التي من تفكر فيها علم أن الله فعلَه لعلمه بالخفيات. قوله عز وجل: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) نبه بذلك أنه تعالى حيث سخر هذه الأمور وبينها دل ذلك أنه فعل ذلك لما أراده من عباده ليثيب المحسن ويعاقب المسىء، وذلك يقتضي أن يعلموا أنه يعاقب قوماً ويرحي قوماً كيفما تقتضيه حكمته. قوله تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) الرسول المبعوث في أمر وأصله السائر على رِسْلٍ، ومنه تَرَسَل في القراءة إذا أمر فيه بلا تكلف، والرِّسْلُ اللبن، وكأنه اسم للمرسل من الضرع كقولهم البعض، والبعث، والبَلاَغُ: وصول المعنى إلى المقصود به، والبَلاَغَةُ رابع يتصل به المعنى إلى النفس وفي هذا بَلاَغٌ كفاية يبلغ بها مقدار الحاجة، أي الرسول قد بلغ ما أمر وليس عليه أكثر من ذلك في أمر الرسالة ثم الله يتولى السرائر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أقضي بينكم بالظاهر ويتولى الله السرائر).

(100)

قوله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) الخَبِيثُ: هو الباطل في الاعتقاد. والكذب هو المقال الطالح في الفعال، وأصله الرَّدِيءُ الدَّخْلَةِ الذي تظهر ردأته في الاختيار ولهذا قال الشاعر: سَبَكْنَاهُ ونَحْسِبُهُ لُجَيْنَاِ ... فَأبْدَى الكِيرُ عن خَبَثِ ومتى اعتبر الطيب بالخبيث فهو كالدائرة من النقطة، بل كالشيء الذي لا قدرة له بالمرأى، فبين الله تعالى الطيب وإن استقللتموه فخير من الخبيث، وإن استكثر قوة حتى يعجبكم كثرة، ونبه أن الاعتبار في الأشياء ليس بالقلة والكثرة وإنما ذلك بالجودة والرداءة، فالمحمود القليل خير من الذميم الكثير، ولهذا قيل: أقلل وأطب.

(101)

إن قيل: كيف جعل الخبيث هاهنا كثيراً، وقد قال: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ) فجعله قليلاً، وقال: (قُل مَتَعُ الدُّنيَا قَلِيلٌ)؟ قيل: استكثاره للخبيث هو على نظر المغترين بالدنيا، واستقلاله هو على ما عليه حقيقة الأمر. وقوله: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) ليس بخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط بل هو خطاب لكل معتبر. كقول الشاعر: تَرَاهُ إذا مَاحَييتَهُ سَهْلاً ... كَأنكَ تُعْطِيهِ الذي أَنت قَائِلُهُ ولأجل أن الخطاب عام من حيث المعنى قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) بلفظ الجمع والمعنى استعملوا التقوى راجين أن تبلغوا الفلاح، تنبيهاً أن التقوى هى التي تُبَلِّغ. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

البُدُوّ في القول: يقال تارة لظهوره، وتارة يقال لظهور تأويله وحقيقته. والعفو: يقال تارة لما يفضل عن الكفاية، كقوله: (مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفوَ) أي ما فضل عن القوت، وتارة يقال لترك الشيء، قبل وجوبه كقوله عليه الصلاة والسلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق). وتارة يقال لترك

ما لزم فتجوفي عنه نحو (فَاعف عَنهُم وَاصفَح)، وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه خرج يوماً غضبان وجلس على المنبر فقال: (لا أُسأل عن شيء إلا أجبت، فقام رجل فقال أين أنا؟ فقال: في النار، وقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: حذافة، فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والله يعلم من آباؤنا)، فنزلت هذه الآية. وقيل: إنه كان في الحج لما قال سراقة بن جعشم له عليه الصلاة والسلام: - أفي كل عام فقال عليه الصلاة والسلام: (لو قلت نعم لوجبت) الخبر.

وقيل: كان سؤالان في مجلس، وعلى هذا قال تعالى: - حكاية: (فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)، وهذا في سؤال دون سؤال، وقوله: (أَشيَاَءَ) عند الكسائي بناها أفعال، قال: ولم يصرف تشبيهاً بحمراء، وهذا يلزمه أن لا يصرف أنباء، وعند الأخفش والفراء أنها أفعلاء، ويلزمهما أن يصغر على شيئان وقد امتنع من ذلك، وعند

الخليل أنها فعلاء قلبوها، كما قلبوا أينق عن أنيق، وقِسِيّ عن قُووس قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنها) أي عن الأشياء المسؤول عنها، وقيل عن المسألة، والقولان في التحقيق واحد. إن قيل ما موضع قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنهَا) وما فائدة الإتيان بذلك؟ قيل هو وصف لقوله: (أَشيَاَءَ) كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها، أي لم يكلفكم السؤال عنها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل) أي لم أوجبها، وذاك لأن الأشياء في البحث عنها وسؤالها ثلاثة أضرب: ضربٌ يجب السؤال عنه:

وهو ما كُلف به الإنسان، وفيه أمر وإياه توجه أن أفتي لجريج بالاغتَسال فقال: (قتلتموه، هلا سألتم عنه، شفاء العيي السؤال)، وضربٌ يكره أو يحظر السؤال عنه، إياه توجه قوله عليه الصلاة والسلام: (اتركوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم الأنبياء)، وضرب يحبون السؤال عنه والسكوت عنه، وهو ما يحب أن يحمدوا لا يؤخذ به

(102)

الإنسان إن بحث عنه واستكشف. ثم قال: (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أًي غفور عنكم ما سبق منكم حليم لا يبطش بكم فيما ارتكبتم. قوله عز وجل: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) والطلب والسؤال والاستخبار والاستفهام والاستعلام متقاربة ومترتب بعضها على بعض، فالطلب أعمها، لأنه قد يقال فيما تسأله من غيرك، وفيما تطلبه بنفسك. والسؤال لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك، فكل سؤال طلب، وليس كل طلب سؤالاً، والسؤال يقال في الاستعطاف، فيقال سألت فلاناً كذا. ويقال في الاستخبار، فيقال سألته عن كذا، وأما الاستخبار فاستدعاء الخبر، وذلك أخص من السؤال، وكل استخبار سؤال، وليس كل سؤال استخباراً. والاستفهام طلب الإفهام وهو أخص من الاستخبار. فإن قول الله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) استخبار، وليس استفهام وكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً. والاستعلام: طلب العلم فهو أخص من الاستفهام، إذ ليس كل ما يفهم يعلم بل قد يظن، ويحتمل أن كل استعلام استفهام وليس كل استفهام استعلاما.

(103)

وقوله: (قَد سَأَلَهَا) نبه على وجهين: أحدهما: أنه استخبار، إشارة إلى نحو قوله لأصحاب البقرة حيث سألوا عن أوصافها، فعلى هذا لا فرق بين قوله: (قَد سَأَلَهَا) وبين قوله: قد سأل عنها. والثاني: أنه استعطاف إشارة إلى نحو المستنزلين للمائدة من عيسى عليه الصلاة والسلام، والسائلين من صالح عليه الصلاة والسلام الناقة، فعلى هذا لا يصح أن يقال سأل عنها، وقوله: (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) أي كفروا ولم يعترفوا، أو يعني كفروا تشبيها. قوله عز وجل: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) الجُعْلُ عام فيما يكون قولاً وحكماً، وفيما يكون عملاً وصنعاً، ويكون تارة بمعنى صار، ولا يتعدى كقولك جعل فلان يقول كذا، وتارة بمعنى صيَّر، ويتعدى إلى مفعولين كقولك: - جعلتُ الطين خزفاً، وجعلت زيداً عدلا، أي حكمت بذلك، وتارة بمعنى فعل، ويتعدى إلى مفعول واحد، وعلى ذلك هذه الآية، وجعل بالجُعْل هو الحكم لإيجاد العين، فإن الله تعالى موجد هذه الأعيان، ولكنه غير حاكم فيها

بأحكامهم. فبين أن الله تعالى ما حكم بهذه الأحكام، ولكن الذين كفروا حكموا بذلك، وحكمهم بذلك لافترائهم على الله، وافترائهم على الله من حيث أن أكثرهم لا يعقلون، فجعل علة حكمهم بذلك افتراءهم على الله، وجعل علة افترائهم على الله كون أكثرهم لا يعقلون. إن قيل لما خص أكثرهم أنهم لا يعقلون؟ قيل: إنه إشارة بذلك إلى ديانتهم المقلدة دون الذين علموا بطلان فعلهم لكن يمنعهم لرئاستهم أن يقلعوا عن ذلك مع معرفتهم ببطلانه. ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أماثلهم الذين يتبعون العقل وإن كانوا يعلمون ببطلان ما يفعلون. البحيرة: - الناقة المشقوقة الأُذن، وهي كل ناقة نتجت خمسة أبطن من كانت الخلقة أنثى شقوا أذفا فلا يُجَزُّ لها وبر، ولا يذكر اسم الله عليها إن ذكيت، وحُرم على النساء لبنها، وإن ماتت اشتركت الرجال والنسل في أكلها. والسائبة: المسيبة وكان أحدهم ينذر، لأنه يخلص بناقته

(104)

شبيهاً، والوصيلة: الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر يقال: وصلت أخاها، فيذبحونه لآلهتهم. والحامي: الفحل الذي ينتج من صلبه عشرة أبطن، وكان يقال حمى ظهره، فيسيب ولا يركب. قوله عز وجل: - (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) قال أهل اللغة: أصل تعالي دعا إلى العلو، ثم استعمل في كل مكان علوا كان أو سفلاً، وقيل: إن ذلك يقال اعتباراً بالعلو الذي هو المرتبة الرفيعة، فإذا قيل تعالي كأنه قيل اطلب بفعلك هذا علواً وشرفاً كقولك لمن دعوته تفضل أي اطلب بذلك الفضل وانعم ونحو ذلك، ثم كثُر وصار كأنه موضوع المجرد. والمعنى إذا دعوا إلى الكتاب والسنة أعرضوا وزعموا أنهم مكتفون بما شاهدوا عليه آبائهم كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).

وقوله: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ) الألف دخل للتعجب من جهلهم أي أو يكفهم ذلك، وإن كان آباوُهم لا يعلمون، فيفعلون ما يقتضيه علمهم ولا يهتدون بمن له علم، وأشير بأنهم من جملة الفرقة الثالثة الذين وصفوا فيما رُوي: (الناس عالم، وتعلم، وحائر نافر لا يطيع مرشداً). وقال على رضي الله عنه: (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نحاه ونهج رعاع وأتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجاؤا إلى ركن وثيق فيمتنعوا).

(105)

وقوله: (لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) إشارة إلى أنهم هم الرعاع أتباع. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) قيل لا يضّركم ولا يَضِيركم من ضَارَه يُضِيَره يَضُورُه وجُعِل جواباً. ولا يضُّركم الأجود أن يكون رفعاً لا جواباً وإن جاز أن يكون في موضع الجزم على الجواب على معنى أنكم إن أصلحتم أنفسكم، ولم يتحروا ما فيه فسادكم وإفساد غيركم، لم يضركم فلا يكونا كمن قبلهم

ليحملوا أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم، وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وليس في الآية حثٌّ على ترك النهي عن المنكر كما نقله قوم، فقد تقدم حث الله على ذلك في آيات كثيرة نحو قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). وقال حاكياً عن لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17). ومدح القائلين بذلك فقال: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ). وقال عليه الصلاة والسلام: ((من رأى منكم منكراً واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه)، ويدلك على

ذلك أنه قال: (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). ومن الاهتداء إنكار المنكر. وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: (إني أراكم تتناولون هذه الآية: (عَلَيكُم أَنفُسَكُم) وقد عهدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا هذا على هذه الأمور وهو يقول: إن الناس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمهم الله بعقابه)، وما بينكم وبين أن يعمهم بعقابه إلا أن تناولوا هذه الآية على غير تأويلها، وإنما المعنى لا تعتدوا بآبائكم واحفظوا أنفسكم أن تزِّل كما زلَّ غيركم، وإذا اهتديتم فليس عليكم من ضلال من خالفكم شيء. كقوله: (لَّيسَ عَلَيكَ هُدَاهُم)،

وقوله: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ). قيل: وفيها حثٌّ على أن نظر الإنسان لنفسه أن يهذب نفسه قبل أن يهذب غيره، وأن يعتبر حال نفسه قبل اعتبار حال غيره. وعلى هذا: (قُوَاْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا). فأمر أن يبدأ بنفسه. وقيل: إن ذاك إشارة إلى ترك النهي باليد واللسان، حيث يعلم أنه لا يغني ولا يجدي كما ورد في الخبر (إذا رأيتم هوى متبعا وإعجاب المرء بنفسه فعليكم أنفسكم).

وقيل: عنى من يضل من أهل الكتاب إذا التزموا الجزية، فيقول دعوهم وشأنهم ولا يضركم منهم شيء، وقيل: إن ذلك إشارة إلى وقت مخصوص. فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ترك النهي إذا قدم كنيسة دمشق فجعل مسجداً، وإذا رأت الكاسيات العارية). قيل: هذا كان في زمن الوليد بن عبد الملك، فهو الذي هدم الكنيسة وضمها إلى المسجد.

(106)

وقال: مكحول وعبد الله بن مسعود: (عَلَيكُتم أَنفُسَكُم) إنما هو إذا غاب الواعظ وأنكر الموعوظ، وقيل: عنى بقوله: (عَلَيكُم أَنفُسَكُم) أي لا تعتد بهؤلاء فيما يفعلونه من الشر وتركن إليهم وتستمرئ لنفسك ما تستمرئ لغيرك. كما يفعله كثير من الناس في أنهم يأخذون برخصهم فيؤدي ذلك بهم إلى الهلاك، وهذا كقولهم: كل شاة تناط برجليها. وقيل: إن ذلك توكيد لقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي عليكم في أسئلتكم بما يعود منافعه عليكم لا يضاركم ولا يضركم كقولهم: - الحزم حفظ ما كلفت وترك ما كفيت. وقيل: معناه عليك نفسك فاشغلها قبل أن تشغلك فإن لم تصلحها أفسدتك. قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

هذه الآية يتعلق بها حكم التقدير والإعراب والفقه، فأما تقديرها: فهو إذا حضر أحدكم الموت فشهادة بينكم اثنان ذوا عدل، أو إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فآخران من غيركم إن لم يكن ذوا عدل منكم، فإن ارتبتم تحسبونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله لا نشتري به ثمناً، واستغنى عن جواب إذا حضر بقوله: (شَهَادَةُ بَينكُم)، وعن جواب إن ضربتم، بقوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)، وعن جواب الفاء بقوله: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ)، وقوله: (بِاللَّهِ) يصح أن يكون استئنافاً فيكون هو الذي يتفوه به المقسم على تقدير فيقسمان، ويقولان: - تالله لا نشتري. ويجوز أن يكون متعلق بيقسمان، فيكون قوله: (لَا نَشترِي) على تقدير: والله لا نشتري فهذا تقدير الآية. فأما إعرابها: فقوله: (شَهَادَةُ بَينكُم) يجوز أن يكون مبتدأ وخبره قوله: (اثنانِ) كأنه قيل: شهادة بينكم شهادة اثنين.

ويجوز أن يكون تقديره: عليكم أن تُشْهِدَ اثنان، فيكون قوله: (شَهَادَةُ) ابتداء محذوف الخبر و (اثنَانِ) مرتفع بقوله (شَهَادَةُ). وقيل: يكون (شهادة بينكم) مبتدأ وقوله: (اثنانِ) فاعل، ويرتفع به، ويستغني عن خبر الابتداء كقولهم: - قائم الزيدان. وقوله: (إِذَا حَضَرَ) خبر، لقوله: (شَهَادَةُ) وقوله: (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من قوله: (إِذَا حَضَرَ) وقيل هو ظرف لقوله: (إِذَا حَضَرَ)، وحضور الموت:

حضور أسبابه من المرض ونحوه. وقوله: (أَوْ آخَرَانِ) ليس على التخيير، بل معناه: إنما يقبل الآخران في السفر خاصة، إذا عدم العدلان وأمَّا فيهما فقد اختلف في قوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقال بعض الفقهاء: إذا كان من غير قبيلتكم، ولم يعن من غير المسلمين، لأن شهادتهم لا تقبل علينا بوجه، ويقوي ذلك بقوله: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) وقال إنما يفعل بمن في قلبه استعظام الصلاة فينزجر عن اليمين مخافة العقوبة، وإلى هذا ذهب الحسن. قوله: إنه أريد من غير قبيلتكم. وقال بعضهم عنى من غير المسلمين، قال والقصة التي نزلت الآية في سببها

يدل على ذلك، فهو أن تميماً الداري وعدياً، وكانا حينئذٍ نصرانيين بنجران فخرج معهما مولى لعمرو بن العاص يقال له بديل، ومعه متاع. فلما قدموا الشام مرض المولى وكان مسلماً فكتب وصيته ولم يعلم بذلك تميم وعدي، وقدما المدينة، ودفعا المتاع إلى عمرو بن العاص، وأخبراه بموت بديل، فقال عمرو: ولقد توجه من عندنا بأكثر من هذا المتاعِ، فهل باع شيئا، فقالا: لا، فمضى بهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما أن بديلاً ما ترك غير هذا، ثم إن عمرو بن العاص ظهر على آنية فضة عند تميم، فقال هذه الآنية لي وهى مما كان مع بديل، فقالا: كنا اشتريناها منه، فقال عمرو: لقد سألتكما

هل باع شيئاً، قلتما: لا، فقالا: نسينا، فذهبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: إنا كنا ابتعنا الآنية ولم يكن لنا عليه بيِّنة فكرهنا أن نقر، فنزلت الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى هذا شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر يجوز إذا لم يوجد العدلان وقد حكم أبو موسى في مثله بذلك، وقال هذا حكم ثابت غير منسوخ. وقال بعضهم: - ذاك في الكافر في أول الإسلام ثم نسخ بآية الشهادة، ولا يجوز الآن شهادة الذميّ على المسلم بوجه، وقد بيَّنت أن لا يمين على الشاهد بوجه، ولا يجوز الارتياب على الشاهد لمكان اليمين، ولا يجوز

أيضاً أن يجعل يمين الورثة معارضة ليمين الشاهد، فيجب أن يكون ذلك منسوخاً بقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ومن قال بالأول فقال بقوله: (فَيُقسِمَانِ) ليس بإيجاب، وإنما هي أن يبتدئ الشاهد فيحلف من غير أن يُحلًف، فذكر أنه لا يعرج على يمينه ولا يعتد به، وإنما كان منسوخاً أن لو كان ذلك واجباً. إن قيل: لما قال: (لَا نَشتَرِى بِهِ ثَمَنًا) والثمن هو الذي يُشْتَري به لا يشتري هو؟ قيل: قد قال بعض أهل اللغة: - أراد ذا ثمن فحذف المضاف، وقيل: إن كل شراء بيع وليس كل بيع شراء، وذلك يختلف بالاعتقاد في الثمن والمثمن، ولهذا قيل: بعتُ واشتريت من الأضداد، فعلى هذا كأنه جعل الثمن مصوراً بصورة البيع، فلهذا قيل ذلك وقد دل في موضع آخر: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). وقوله: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي للميت، ولو كان المشهود قريباً وذلك لما في طبع الإنسان من ميله إلى أقاربه، ومن هذا الوجه رد شهادة الأب للابن، والابن للأب، وأضاف

(107)

الشهادة إلى الله تعظيماً لها كقوله: (وَأَقِيمُواْ الشاهَدَةَ لِلَّهِ). وقرأ الشعبي: (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ) بالتنوين، وجعل الله مجروراً ومنصوبًا على تقدير القسم. قوله عز وجل: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) قوله: (الأولينِ) يحتمل إعرابه أوجهاً: الأول: أن يكون مبتدأ وقوله: (فَآخَرَانِ) خبر. وتقديره: إن عثر أنهما استحقا إثماً أي أن اطلع وقف على أن الشاهدين هما الآخران من غير أن يحيفا في شهادتهما فاستحقا إثماً، فالأوليان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم أي من أهل الميت، ويجوز أن يكون قوله: (فَآخَرَانِ) مبتدأ، و (الأَولَينِ) خبره، ويجوز أن يكون قوله:

(فَآخَرَانِ) مبتدأ و (يَقُومَانِ) خبره، و (الأَولَيَنِ) بدل إمَّا من قوله: (فَآخَرَانِ) أو من الضمير في قوله: (يَقُومَانِ) أو يكون خبر ابتداء مضمر، فهذه ستة أوجه في إعرابه، وقد أجاز أبو الحسن وجهاً سابعاً: وهو أن يكون: (الأَولَينِ) صفة لقوله: (فَآخَرَانِ) قال: ويجوز ذلك، وإن كان قوله: (فَآخَرَانِ) و (الأَولَينِ) معرفة، لأن ذلك تعريفه للجنس، وقوله: (فَآخَرَانِ) قد وصف، والنكرة الموصوفة قريبة من المعرفة بالألف واللام الدالة على الجنس، ولهذا صح أن يوصف ما فيه الألف واللام بغيره مثل في نحو: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وحُكي: مرَرْتُ بالرجل مثلك، وذلك أنهما (الأَولَينِ) أي هما أولى من غيرهما، لأنهما أعرف بأحوال الميت، ولأنهما من المسلمين، فإن الخطاب من أول الآية مصروف إليهم،

وقوله: (عَلَيهِمُ) يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون (على) باقي على ظاهره كقولهم: استحق على فلان مال، أي لزمه ووجب عليه الخروج منه. الثاني: أن يكون قوله: (عَلَى) بمنزلة (مَنْ) كقوله: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي منهم. الثالث: أن يكون بمنزلة في موضع (عَلَى) مقام (في) كما وضع (في) مكان (على) في قوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِى جُذُوعِ النَّخلِ). وقرأ إسحاق (عليهما الأوليان)

(108)

فيكون لهذا مرتفع، قوله: (الأَولَينِ) بقوله: (استَحَقَّ) والمفعول الذي هو المستحق محذوف. وقرأ: (مِنَ الَّذِينَ استَحَقَّ عَلَيهِمُ الأَولَينِ) الجمع، أي من الأولين الذين استحق عليهم، هذا المعنى فيكون قوله: (الأَولَينِ) بدلاً من الذين. وقرأ ابن سيرين: (مِنَ الَّذِين استَحَقَّ عَلَيهِمُ الأَولَينِ) تثنية الأول وليس ذلك بالوجه، فقد قال: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا) فكيف يقول بعده الأولين. قوله عز وجل: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

(109)

أن يتحرى هذا الفعل ومرجاته أقرب إلى الإنسان إمَّا لصلاحه في نفسه، وإمَّا لخوفه أن تُردَّ أيمانه على الأوليان بعد أيمانهم فيحلفوا على جنايتهم فيُفضحوا، فيقيمون الشهادة على وجهها تفادياً من ذلك، ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) إما توحدون به فإنكم إن لم تتقوا ولم تسمعوا لصرتم فاسقين، فإذا فسقتم لم يهديكم الله، فالله لا يهدي القوم الفاسقين. إن قيل لم قال: (يَأتُواْ) فذكر بلفظ الجمع، وما تقدم هو تثنية؟ قيل: لأنه لم يعنهما فقط بل عنى الناس كلهم، أي ذلك أدنى أن يصير الناس هكذا. قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) قيل تقدير الآية: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية، وإنما المعنى لا يهديهم إلى طريق الجنة في ذلكٍ اليوم. وقيل: معناه اذكروا يوم، ويكون اليوم مفعول فعل مضمر لا ظرفاً، لأنه لم يرد اذكروا في ذلك اليوم.

إن قيل: كيف قالوا لا علم لنا، فنفوا العلم كله عن أنفسهم وذلك كذب؟ قيل: في ذلك أوجه: الأول: قال الحسن: من هَوْلِ ذلك اليوم نَسُوْا كل ما عملوه، فإن قيل: وكيف يصح ذلك، وقد قال: (وَلَا خَوفٌ عَلَيهِم)، وقال: (لَا يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ)؟ قيل: إن معنى لا يحزنهم ولا خوف عليهم أنه لا يصيبهم ما يقتضيه الخوف، إلا أنه يعتريهم، وهذا كقولك لمن يرتعد خوفاً لا خوفاً عليك، أي لا يحق خوفك. الثاني: قال ابن عباس: لا علم لنا بالإضافة إلى علمك، وهذا لمن استخبر من هو أعلم بالخبر منه، فيقول: لا علم لي. التالث: أن السؤال يقع على ما اعتقده، لا ما أظهروه، وذلك لا علم للأنبياء به، إنما يعلمه المطلع.

(110)

على السرائر والضمائر جل وعزَّ. الرابع: أن قوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ) سؤال عن كل ما أجيبوا، لا عن بعضه، وهم عرفوا بعض ذلك، ولم يعرفوا أكثره، فقالوا: لا علم بكل ذلك ووجه هذا السؤال توبيخ الكفار كقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)، وعَلَّامُ: لمن كثر علمه، ولم يوالي بعلمه، وهو في هذا الموضع لهما. قوله عز وجل: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

قوله: (إِذ قَالَ اللَّهُ) قيل: مفعول بفعل مضمر كأنه قيل: اذكر وقت ما قال الله يا عيسى اذكر نعمتي عليك، يعني: اذكر يوم القيامة، وقيل تقديره: ماذا أجبتم إذ قال الله. (وإِذ أَيَّدتُّكَ) فعلتُ من الأيدِ أي القوة، وقرأ (أَيَّدتُّكَ) وهو أفعلت منه، وقال الزجاج: يجوز أن يكون فاعلت منه نحو عاونت. ومن نعمة الله على والدتك أن اصطفاها على نساء العالمين، وأن جعل لها النخل حيث قال:

(وَهُزِّى إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ) وغير ذلك. وروح القدس: جبريل. قيل: هو تقديسه وروحه هو نفخة فيها من روحه. والكتاب قيل: عنى بالكتاب، وقيل: بل باسم كل كتاب أنزله تعالى، ثم خص التوراة والإنجيل تعظيماً لهما. وقوله: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي تهدي الناس في حالة الصغر والكبر بخلاف ما كان عامة الأنبياء والحكماء، وذكر الإذن في الأمور الإلهية التي خصه الله تعالى بها تنبيهاً أن ذلك لم يكن للآلهة فيه بل كان ذلك بإذنه ومن فضله عليه، وتخصيصه به، ولم يذكر في قوله: (وَإِذ عَلَّمتُكَ) وفي قوله: (وَإِذْ كَفَفْتُ) فإن في هذين قد شارك المسيح غيره. وكف بني إسرائيل عنه قد كان من بعضهم بالعصمة، ومن بعضهم بالحجة، ومن بعضهم

(111)

بتسخيرهم له وائقيادهمْ إلى غير ذلك من الوجوه، وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فعلك سحر، وقرأ (إن هذا إلا ساحر) أي عيسى عليه الصلاة والسلام. قوله عز وجل: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) الحواريون، روي أنهم كانوا قصارين، وروي أنهم كانوا صيادين. وقد قال بعض المحققين: يعني أنهم سموا حواريين، أي كانوا يغسلون نفوس البشر عن النجاسات النفسية، ويعني أنهم صيادون أنهم يصيدون الناس عن الباطل، ويجعلونهم في شبكة الحق، وقد شرح ذلك في كتاب (مكارم الشريعة)، وسمي حاشية الرجل حوارية تشبيهاً بأصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام. والوحي هنا قيل: هو على سبيل الإلهام، والتوفيق نحو:

(وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ) وقيل: هو على سبيل الابتلاء لهم من آياته الباهرة. وقيل: على لسان نبيهم، فالوحي قد يقال في كل ذلك نحو: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحيًا) أي على لسان نبي. وقوله: (وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ) يعى بالإلهام. وقوله: (فَأَوحَى إِلَيهِم أَن سَبِّحُواْ بُكرَةً وَعَشيًّا) قال بعض الحكماء: كما أن كل ساكت ناطق من جهة الدلالة، فكل دال على معنى من الله فهو وحي منه وعلى هذا قال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46). وهذا معطوف على ما ذكر تعالى. ومن نعمه عليه فهمه، وأشهد خطاب فهم لعيسى على سبيل الاستشهاد منهم، والإسلام هاهنا أبلغ من الكتاب فإنه يقتضي الاستسلام المذكور في قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131).

(112)

قوله عز وجل: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) (إِذ) هاهنا لم يجعله معطوفاً، بل جعله داخلاً في فعله. قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) إليهم في وقت ما قالوا كذا، واستفهامهم عن استطاعة الله، قيل: فيه أقوال: الأول: أنهم قالوا ذلك قبل أن تستحكم معرفتهم بالله. الثاني: قال الحسن: هل ترى أن يفعل، كقولك القادر المتمكن هل يمكنك أن تفعل كذا، وهذه الاستطاعة على ما يقتضيه الرأي والحكمة، لا على ما يقتضيه القدرة، لأنه قد يقال: فلان لا يستطيع كذا وليس

يعني أن القدرة كذلك، وإنما يعني أن رأيه لا يتوجه إليه. الثالث: إن استطاع وأطاع يعني كقولهم استجاب وأجاب، ومعنى: (هَل يستطيعُ) أي هل يستطيع أن يجيب، كقوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي يجاب، وقرأ الكسائي (هَل تستطيعُ رَبَّكَ) ونصب رَبَّكَ، يعني هل تستطيع سؤالِكَ ربِّكَ. والمائدة قيل: أصله من ماد، المنكّر يميد إذا أمتك ذا نحوك. وقيل: من ماد أعطاه، وامتاده، استعطاه، قال: أبو عبيدة فلفظها فاعله، ومعناه مفعول نحو: (عيشةٍ راضِيَةٍ). وقيل: بل هو معنى الفاعل، فوصف بذلك كما يقال: شجر ومطعمة، أيضاً يقال مائدة

عطية وعلى ذلك مطعم سألوه، ومائدة من الطعام. فقال عيسَى (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي لعذروا ومن سؤال ذلك إن كان لكم إيمان، فلم تقلعوا عن السؤال بل ذكروا علة سؤالهم. فقالوا نريد الأكل منها وأن يكون سببا لاطمئنان قلوبنا، كما قال: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فحينئذ سأل الله عيسى ذلك متضمن أن يتخذوا ذلك اليوم يوم عيد. وقوله: (وَارزُقنَا) قيل ارزقناه، وقيل: ارزقنا شكره، فضمن الله ذلك أن ينزلها بشرط أن من يكفر بها عذبه أعظم تعذيب. قيل إنه أراد أن يمسخهم قردة وخنازير. وقيل: بل عني عذاب الآخرة، المعنى بقوله: (وَلَعَذَابُ الأَخِرَةِ أَكبَرُ)، فاختلفوا هل أنزل الله ذلك؟ فقال الحسن: - إن ذلك استفراض من الله تعالى، ووعد بشرط أنهم إن أرادوها بهذه

الشريطة أنزلها فرغبوا عنها فلم ينزلها الله تعالى. وقال غيره بل ذلك وعد من الله تعالى، ووعيد مقرون به لا يشترط في الوعد وقد أنزلها. فمن قال بذلك، قال كانت تلك المائدة طعاماً من الأرز والسمك، وأن عيسى قال لهم: - صوموا كذا يوماً، ثم سألوه فصاموا، فأنزل الله سبعة أحوات، وسبعة أرغفة. وقال ابن جبير: كان على المائدة كل شيء إلا اللحم، وأنزل الله ذلك يوم الأحد فجعلوه عيداً. وقيل: أكل منها أربعة آلاف رجل، وبقيت على حالتها، ثم كفر بها قوم فمسخهم الله قردة وخنازير. وحمل بعض المتصوفة الآية على المثل والإشارة، وقال: المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف، وعلى هذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مأدبه فقال: (القرآن مأدبة الله في أرضه).

وبهذا النظر جعل الأدب والمأدبة من أصل، فإن الطعام غذاء البدن والعلم غذاء الروح، وعلى هذا ما قيل: إن متعلماً قرب من باب عالم، فقال: أطعمني فأعطاه لقمة، فقال: إني أسأل ما يحي النفس، لا ما يتعب الضرس، قال هذا القائل: وإنما القوم رغبوا في حقائق لم يأت وقت إطلالهم عليه، ولم يكتسبوا الحالة التي تمكنهم الوقوف عليه، فقول عيسى: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حثٌّ منه على اكتساب التقوى واستعمالها. فيقول: إن حصلتم الإيمان وهو العلم الحقيقي، فاستعملوا التقوى فبها تنال هذه المنزلة. ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ). فلما ألحُّوا في السؤال سأل عيسى فقال: (أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) الآية، وقال وهذا كما سأل إبراهيم فقال:

(116)

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)، وقال موسى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). وإنما سأل حالة لا تجعل إلا للأنبياء والأولياء في الآخرة، فبين الله تعالى أن ذلك غير سهل ما دمت على هذه الحالة، وبين تعالى أن من تخصص هذه الحالة، وكان منه حال ينافي الإيمان عذب أشد العذاب، فقد قيل: صغائر العامة كبائر الأولياء، والقليل من ذنوبهم يعظم عقابه فإذا يعذب ما كان من كفره عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فمن بلغ مبلغهم، ولم يؤتوا بما أوتوا. الله أعلم بالحقائق. قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إن قيل: (وَإِذ قَالَ) إخبار عما مضى، فمتى كان هذا السؤال؟

قيل في ذلك جوابان: أحدهما: أدن ذلك إخباراً عما يكون يوم القيامة، فذكر لحظة الماضي تقريباً للفعل، وإخبار بأنه في حكم ما قد كان كما قال: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ). وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) ونحو ذلك. والثاني: أن ذلك قاله حين رفعه إلى السماء وجهة سؤاله مع علمه تعالى إن لم يكن من عيسى ذلك. وتبكيت للكَفْرةِ وتكذيب لهم. إن قيل ما وجه قوله: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) وهم لم يتخذوهما من دونه، وإنما اتخذوهما معه وأيضاً فإن هذا متعين أنهما لو اتخذوهما إلهين معه لكان يجوز لأنك إذا قلت اتخذت فلاناً دوني صفياً فإنما أنكر إفراده باتخاذه.

قيل: إن قوله: (مِن دُونِى) يحتمل وجهين: أحدهما: أنكر اتخذتموهما معبودين، ولم يتخذوه معبوداً، وذلك أنهم لما عبدوهما معه كان عبادتهم له غير معتد؛ لأن الله تعالى لا يرضى أن يعبد معه غيره، فلهذا قال: (مِنْ دُونِ اللَّهِ). والثاني: أن: (دُونِ) هاهنا للقاصر عن الشيء وهم عبدوا المسيح وأمه فيما توصلا إلى عبادة الله. كما عبد الكفار الأصنام حيث قالوا: (مَا نَعبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى)، فكأنه قيل: أنت قلت اتخذوني إلهين متوصلين بنا إلى الله، قال سبحانك منزهين عن ذلك، وأنكر أن يقول ما لا يحق أن يعلمه تعالى. وبيَّن أنه علام الغيوب فيما خفى علمه عنا فيه. إن قيل ما وجه قوله: (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فأثبت لله نفساً.؟ قيل: النفس عبارة عن الذات، يقال: جاءني فلان بنفسه، وقيل عنى في معني مقابل النفس بالنفس.

وقيل: نفس العالم، وإضافته إليه على وجه الملك لا على وجه البعضية، تعالى الله عن البعضية. وهذا كما روى (الريح من نفس الرحمن)، ونحو ذلك، وقيل: القصد إلى نفي النفس عنه، فكأنه قال تعلم ما في نفسي ولا نفس لك، قصد إلى نفى التركيب قال وعلى هذا قال الشاعر: لا ترى الضبُّ بها يتحجر قصداً إلى أن لا ضب ولا حجر هاهنا، فيكون من الضب الأحجار. وقيل: عئ تعلم ما أنا عليه، ولا أعلم ما أنت عليه. وقوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) قيل: إن بدل من الهاء، وقيل: إن بدل من (مَا)، وقيل: خبر ابتداء

(118)

مضمر، وقيل: إن هو بمعنى أي وهو تفسير لما أمر به. والرقيب المطلع على الشيء الحافظ له. إن قيل: كيف قال: (فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِى) وقد قلتم إن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقتل؟ معنى التوفي أخذ الشيء وأيضا وليس هو الموت، وإنما الموت بعض الذي يقتضيه لفظ التوفي، ألا ترى إلى قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) فجعل النائم متوفي، فقوله: توفاه ورفعه. بمعنى. وقيل: إن الله تعالى نفى أنه صلب كما زعموا، فإنه تعالى رفعه ثم أماته، وبيّن في الجواب أنه كان يرقبهم ما دام فيهم، فلما توفي لم يخف عليه تعالى حالهم، وذلك مذكور على طريق التعظيم لا على طريق التعريف. قوله عز وجل: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

إن قيل كيف قال: (عِبَادُكَ) والعبد أكثر ما يقال فيمن عبد لا فيمن ملك، وهم لم يعبدوا الله في الحقيقة، أو قد عبدوا عيسى وأمه؟ قيل: بل العباد يستعمل مع الله فيقال الناس عباد الله، ولا يقال عباد الأمير إلا على التشبيه، والعبيد يقال في الله، وفي غيره، ثم الناس كلهم يعبدون الله تسخيراً وقهراً، وإن لم يعبدوه طوعاً، فإنهم إذا عبدوا غيره على أنه المنعم عليهم فهم يعبدون الله لأنه هو المنعم وعلى هذا: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93). وقال تعالى: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ). فإن قيل لو كانوا يعبدون الله بفعلهم لما داموا؟ قيل: إنما يدمون بقصدهم فيما يفعلونه، لأنهم يقصدون عبادة غير الله والإنسان مثاب ومعاقب بنيته، ولهذا قال: (إنما الأعمال بالنيات). ولما قال لا يستحق الجمادات ويستحقها ثواباً استحقاق الإنسان والملائكة والجن. إن قيل: كيف قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) وجواب الشرط إنما يصح فيما يقع بوقوع الشرط، وقد علم أن هؤلاء عباده عذبهم أو لم يعذبهم. قيل: هذا الكلام فيه إيجاز، وتقديره: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك أي من أمرتهم بعبادتك، تنبيها أنهم لم يعبدوك فاستحقوا عقابك،

إن قيل كيف جاز أن نقول وإن تغفر لهم فيُعرّض بسؤاله العفو عنهم مع علمه أنه تعالى قد حكم بأنه: (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)؟ قيل: قال أبو العباس المبرد رحمه الله: " إن تغفر كذبهم عليّ حيث قالوا: عيسى أمرنا بذلك فإنهم عبادك أي شئت لعلمك بهم فالذي سأله العفو عنهم والغفران لهم فيما هو حق له ". وقيل: إن هذا السؤال إنما هو كلام على طريق إظهار قدرته تعالى على كل مايريده وعلى مقتضى حكمه وحكمته. تنبيه أنه تعالى جمع القدرة والحكمة، فهو قادر على أن يفعل أي المقتضين بإرادته لهذا قال: (أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تنبيهاً أنه لا امتناع لأحد من عزه ولا اعتراض في حكمته، ولهذا قال أنت العزيز ولم يقل الغفور، وإلى هذا أشار الحسن رضي الله عنه حيث قال: إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم، وإن تغفر لهم فبعزتك ما كان منهم. فإن قيل: فكيف قال (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالأليق أن يوضع الغفور قبل العزة هاهنا أولى فهي تنبيه أنك تجمع القدرة والحكمة، ولم يقصد إنزال الغفران للكفرة منهم وإلى نحو هذا قصد الشاعر في قوله: أذْنَبْت ذَنْباً عَظيماً وأنت للعَفْوِ ... فإن غَفَرْتَ تَفَضَلاً وإن جَزَيْتَهُ

(119)

قوله عز وجل: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) أي من صدق في الدنيا نفعه صدقه اليوم، ولم يرد أنه ينفعهم ما صدقوا فيه ذاك اليوم، ولم يعن صدق المقال فقط بل عناه والصدق في الأفعال وهو ترك الرياء وإخلاص المسار إليه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يؤتى يوم القيامة بقارئ القرآن فيقال له ما كنت تفعل؟ فيقول: كنت أقرأ القرآن، فيقول له: كنت تقرأ ليقال إنك قارئ، وقد قيل ذلك فيؤمر به إلى النار) وقرأ (يَومُ) بالرفع، وهو الأكثر، فيكون الإشارة إلى اليوم، فإذا نصب فإشارة إلى ما في اليوم، أي هذا الحكم، وهذا القول الذي ذكرت يكون في يوم ينفع الصادقين صدقهم، والخلود يقتضي اللزوم والدوام، يقال: خلوداً في الديوان، وأخلد

(120)

فلان إلى الأرض كقوله: ركن إليها ولزمها على الدوام، والمعنى اللزوم ولم يصح أن يوصف الله تعالى بالخلود كما وصف بالدوام. قوله عز وجل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) تنبيه على تكذيب النصارى فيما ادعوه من ربوبية عيسى وأمه عليهما السلام، وقد تقدم وجه تكذيبهم نحو هذا الكلام.

رأيت فيه بحاراً أمواجها تتلاطم وأفواج فوائدها تتصادم وأذعنت بهم من دقائق معانيه الفائقة ورقائق ألفاظه الرائقة، ما أنساني سماع الأغاني من الطربات الغواني (1) انتهى.

_ (1) لم أقف عليه عند غير الراغب ولعله من قوله والله أعلم.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقات محمد ذي الكمالات، وآله وصحبه ما أشرقت بنور ربها قلوب المؤمنين والمؤمنات وبعد. فهذا ما يسره الله وأعانني عليه، ولعلي أكون وقد اطلعت على ألوان مختلفة ومتباينة في حياة الراغب ومنهجيته في التأليف، وقدرته على السبر والتقسيم ، وتبحره اللغوي والنحوي، الذي يوحي بدراسة لشواهده الشعرية على غرار شواهد القرطبي، وكشفت الستار عن غموض عقيدته، وتأويله بعض صفات الخالق عز وجل بطرق عقلية وفلسفية، وتأثره بعلماء عصره من أئمة المعتزلة والأشاعرة، مما يستلزم قيام دراسة منهجية لكتابه المفردات وخاصة أنه متداول بين مختلف المراحل التعليمية، كما لا يفوتني الإشارة إلى ميله لآراء الشافعية، ْوبراعته في النقد والتوجيه والإتيان بالحجة والبرهان، وحسبي بهذا العمل الذي اعتبره باكورة عملي في إثراء المكتبة الإسلامية، وحسبي أن أكون قد أرضيت رغبتي العلمية، التي لم آل في إرضائها جهداً، فإن سلم البحث فذلك من فضل الله، وإن كانت الأخرى، فذاك جهد المقل، وطاقة الناشئ الذي لا يزال يرقب من وراء الغيب أملاً فسيحاً. هذا .. ولا يفوتني أن اعتذر - إلى من قرأ رسالتي - عما يكون في هذا البحث من أخطاء هينة لا تخفى على فطانة قارئه، ولا تدق عن إدراكه، فإن مرَّ بها فرجائي إليه أن يلتمس لها عذراً، وأن يصححها مشكوراً وتلك شكيمة الكرام أهل الخلق الطاهر، والأدب الحميد، وألا يكون ممن قال فيهم الشاعر: فإن رأوا زلَّةً طاروا بها فرحاً. . . عني وما وجدوا من صالحٍ دفنوا والله سبحانه وتعالى أسال أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه، وأن يحقق لي به ما تصبوا إليه نفسي وتسموا إليه همتي، و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

§1/1